كتاب : أنوار البروق في أنواع الفروق
المؤلف : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَجِبُ تَعَلُّمُهُ مِنْ النُّجُومِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَجِبُ ) وَهُوَ أَنَّ تَعَلُّمَ النُّجُومِ إنْ كَانَ لِمَا تَعْرِفُ بِهِ الْقِبْلَةَ كَالْفَرْقَدَيْنِ وَالْجَدْيِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا فِي مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا أَنَّ تَعَلُّمَ هَذَا الْقِسْمِ فَفَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ قَالَ الْأَصْلُ : لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِمْ مِنْ التَّوَجُّهِ لِلْكَعْبَةِ لَا يَسُوغُ فِيهِ التَّقْلِيدُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى التَّعَلُّمِ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعَلُّمُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ ، وَمُعْظَمُ أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ فِي النُّجُومِ فَيَجِبُ تَعَلُّمُ مَا تُعْلَمُ بِهِ الْقِبْلَةُ ا هـ وَإِنْ كَانَ لِمَا تُعْرَفُ بِهِ أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ فَمُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ أَنْ يَكُونَ مَا يُعْرَفُ بِهِ مِنْهَا فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ قَالَ الْأَصْلُ لِجَوَازِ التَّقْلِيدِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ : يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ إلَّا الزَّوَالَ ، فَإِنَّهُ ضَرُورِيٌّ يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ التَّقْلِيدِ ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْأَوْقَاتِ وَاجِبَةٌ يَكُونُ مَا تُعْرَفُ بِهِ الْأَوْقَاتُ فَرْضَ كِفَايَةٍ ا هـ وَإِنْ كَانَ لِمَا يُعِينُ عَلَى الْأَسْفَارِ ، وَيُخْرِجُ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَهُوَ مَوْطِنُ الِاسْتِحْبَابِ قَالَ الْأَصْلُ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ يَتَعَلَّمُ مِنْ أَحْكَامِ النُّجُومِ مَا يَهْتَدِي بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَتُعْرَفُ مَوَاضِعُهَا مِنْ الْفَلَكِ ، وَأَوْقَاتُ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } ا هـ الْمُرَادُ ، وَإِنْ كَانَ لِمَا يُعْرَفُ بِهِ نُقْصَانُ الشَّهْرِ وَوَقْتُ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَالْكُسُوفَاتِ فَمَكْرُوهٌ قَالَ الْأَصْلُ : قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَأَمَّا مَا يُفْضِي إلَى مَعْرِفَةِ نُقْصَانِ الشَّهْرِ وَوَقْتِ

رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَمَكْرُوهٌ ، وَلَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ فَهُوَ اشْتِغَالٌ بِغَيْرِ مُفِيدٍ قَالَ ، وَكَذَلِكَ مَا يُعْرَفُ بِهِ الْكُسُوفَاتِ مَكْرُوهٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُغْنِي شَيْئًا وَيُوهِمُ الْعَامَّةَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ بِالْحِسَابِ فَيُزْجَرُ عَنْ الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ وَيُؤَدَّبُ عَلَيْهِ ا هـ ، وَإِنْ كَانَ لِمَا يُعْرَفُ بِهِ نُزُولُ الْأَمْطَارِ وَغَيْرُهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ مِنْ الْغَيْبِ فَهُوَ إمَّا زَنْدَقَةٌ أَوْ ارْتِدَادٌ أَوْ بِدْعَةٌ تُسْقِطُ الْعَدَالَةَ قَالَ الْأَصْلُ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَدَّاهُ إلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْكَوَاكِبَ مُسْتَقِلَّةٌ بِالتَّأْثِيرِ قُتِلَ وَلَمْ يُسْتَتَبْ إنْ كَانَ يَسُرُّهُ ؛ لِأَنَّهُ زِنْدِيقٌ ، وَإِنْ أَظْهَرَهُ فَهُوَ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ إلَى ذَلِكَ بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - هُوَ الْفَاعِلُ عِنْدَهَا زُجِرَ عَنْ الِاعْتِقَادِ الْكَاذِبِ ؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ تُسْقِطُ الْعَدَالَةَ ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ تَصْدِيقُهُ قَالَ فَالِاخْتِلَافُ فِي كَلَامِ ابْنُ رُشْدٍ إذْ قَالَ وَأَمَّا مَا يُخْبِرُ بِهِ الْمُنَجِّمُ مِنْ الْغَيْبِ مِنْ نُزُولِ الْأَمْطَارِ وَغَيْرِهِ فَقِيلَ : ذَلِكَ كُفْرٌ يُقْتَلُ بِغَيْرِ اسْتِتَابَةٍ لِقَوْلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ } وَقِيلَ : يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ ، وَإِلَّا قُتِلَ قَالَهُ أَشْهَبُ وَقِيلَ : يُزْجَرُ عَنْ ذَلِكَ وَيُؤَدَّبُ ا هـ لَيْسَ اخْتِلَافًا فِي قَوْلٍ بَلْ اخْتِلَافٌ فِي حَالٍ قَالَ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ فِيمَا يُصِيبُونَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْغَالِبِ نَحْوُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إذَا نَشَأَتْ بَحْرِيَّةٌ ثُمَّ تَشَاءَمْت فَتِلْكَ عَيْنٌ غَدِقَةٌ } ا هـ فَهَذَا تَلْخِيصُ مَا يَجِبُ وَمَا لَا يَجِبُ مِنْ تَعَلُّمِ أَحْكَامِ النُّجُومِ هَذَا تَهْذِيبُ كَلَامِ الْأَصْلِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا هُوَ مِنْ الدُّعَاءِ كُفْرٌ وَقَاعِدَةِ مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ ) اعْلَمْ أَنَّ الدُّعَاءَ الَّذِي هُوَ الطَّلَبُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ حُكْمٌ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ طَلَبٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ النَّدْبُ لِاشْتِمَالِ ذَاتِهِ عَلَى خُضُوعِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَإِظْهَارِ ذِلَّتِهِ وَافْتِقَارِهِ إلَى مَوْلَاهُ فَهَذَا وَنَحْوُهُ مَأْمُورٌ بِهِ ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ مَا يُوجِبُهُ أَوْ يُحَرِّمُهُ وَالتَّحْرِيمُ قَدْ يَنْتَهِي لِلْكُفْرِ ، وَقَدْ لَا يَنْتَهِي فَاَلَّذِي يَنْتَهِي لِلْكُفْرِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي نَفْيَ مَا دَلَّ السَّمْعُ الْقَاطِعُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى ثُبُوتِهِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : ( الْأَوَّلُ ) أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ لَا تُعَذِّبْ مَنْ كَفَرَ بِك أَوْ اغْفِرْ لَهُ ، وَقَدْ دَلَّتْ الْقَوَاطِعُ السَّمْعِيَّةُ عَلَى تَعْذِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ مَاتَ كَافِرًا بِاَللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كُفْرًا ؛ لِأَنَّهُ طَلَبٌ لِتَكْذِيبِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ وَطَلَبُ ذَلِكَ كُفْرٌ فَهَذَا الدُّعَاءُ كُفْرٌ .
( الثَّانِي ) أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ لَا تُخَلِّدْ فُلَانًا الْكَافِرَ فِي النَّارِ ، وَقَدْ دَلَّتْ النُّصُوصُ الْقَاطِعَةُ عَلَى تَخْلِيدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ فَيَكُونُ الدَّاعِي طَالِبًا لِتَكْذِيبِ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ دُعَاؤُهُ كُفْرٌ .
( الثَّالِثُ ) أَنْ يَسْأَلَ الدَّاعِي اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُرِيحَهُ مِنْ الْبَعْثِ حَتَّى يَسْتَرِيحَ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ بَعْثِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ الثَّقَلَيْنِ فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ كُفْرًا ؛ لِأَنَّهُ طَلَبٌ لِتَكْذِيبِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَبَرِهِ .

قَالَ ( شِهَابُ الدِّينِ الْفَرْقُ الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْن قَاعِدَةِ مَا هُوَ مِنْ الدُّعَاءِ كُفْرٌ وَقَاعِدَةِ مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ .
اعْلَمْ أَنَّ الدُّعَاءَ الَّذِي هُوَ الطَّلَبُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَى آخِرِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ) قُلْت مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الدُّعَاءَ طَلَبٌ صَحِيحٌ وَهَاهُنَا قَاعِدَةٌ وَهِيَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ طَلَبَ الْمُسْتَحِيلِ لَيْسَ بِمُسْتَحِيلٍ عَقْلًا وَلَا مُمْتَنِعٍ فَإِنْ مَنَعَهُ الشَّرْعُ امْتَنَعَ وَإِلَّا فَلَا ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الدُّعَاءَ بِتَرْكِ تَعْذِيبِ الْكَافِرِ وَذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ وُقُوعُهُ سَمْعًا طَلَبٌ لِتَكْذِيبِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ وَطَلَبُ ذَلِكَ كُفْرٌ لَيْسَ بِصَحِيحٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّ طَلَبَ التَّكْذِيبِ لَيْسَ بِتَكْذِيبٍ بَلْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِتَجْوِيزِ التَّكْذِيبِ عِنْدَ مَنْ لَا يُجَوِّزُ طَلَبَ الْمُسْتَحِيلِ ، وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ طَلَبَ الْمُسْتَحِيلِ فَلَيْسَ بِمُسْتَلْزِمٍ لِذَلِكَ ، ثُمَّ إنَّ تَجْوِيزَ التَّكْذِيبِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّكْذِيبَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَكْذِيبُ زَيْدٍ لِعَمْرٍو وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُكَذِّبًا لِعَمْرٍو وَلَا مُجَوِّزًا لِكَذِبِهِ .
هَذَا إنْ كَانَ قَصْدُهُ مُقْتَضَى لَفْظِ تَكْذِيبٍ وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ الْكَذِبَ وَوَضَعَ لَفْظَ تَكْذِيبٍ مَوْضِعَ لَفْظِ كَذِبٍ فَلَيْسَ مَا قَالَهُ بِصَحِيحٍ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَنْ طَلَبَ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يُكَذِّبَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُكَذِّبًا لَهُ بَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُجَوِّزًا لِوُقُوعِ الْكَذِبِ مِنْهُ إنْ كَانَ مِمَّنْ يُجَوِّزُ طَلَبَ الْمُسْتَحِيلِ ، ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ عَلَى رَأْيِ مَنْ لَا يُجَوِّزُ طَلَبَ الْمُسْتَحِيلِ إنَّمَا يَكُونُ تَكْفِيرُ مَنْ يَلْزَمُ مِنْ دُعَائِهِ ذَلِكَ تَكْفِيرًا بِالْمَآلِ ، وَقَدْ حَكَى هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ وَاخْتَارَ هُوَ عَدَمَ التَّكْفِيرِ فَجَزْمُهُ بِتَكْفِيرِ الدَّاعِي بِذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُكَفِّرُ بِالْمَآلِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبَهُ .

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَة مَا هُوَ مِنْ الدُّعَاءِ كُفْرٌ وَقَاعِدَةِ مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ ) .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَلَيْسَ هُوَ بِصَحِيحٍ إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُكَفِّرُ بِالْمَآلِ أَيْ وَيَقُولُ بِأَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ مَذْهَبٌ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ الْأَصْلُ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الدُّعَاءِ النَّدْبُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ طَلَبٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ مَا هُوَ طَلَبٌ مِنْهُ تَعَالَى مُشْتَمِلٌ عَلَى خُضُوعِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَإِظْهَارِ ذِلَّتِهِ وَافْتِقَارِهِ إلَى مَوْلَاهُ وَكُلُّ مُشْتَمِلٍ عَلَى ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِهِ أَمْرُ نَدْبٍ ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ مَا يُوجِبُهُ أَوْ يُحَرِّمُهُ وَالتَّحْرِيمُ قَدْ يَنْتَهِي لِلْكُفْرِ ، وَقَدْ لَا يَنْتَهِي لَهُ وَمَا يَنْتَهِي لَهُ لَمْ تَقُمْ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ بِعَيْنِهِ كُفْرٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ التَّفْكِيرِ بِالْمَآلِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ وَالْأَصْلُ لَا يَقُولُ بِهِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ أَقْسَامَ مَا يَنْتَهِي لَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ أَرْبَعَةٌ : ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي نَفْيَ مَا دَلَّ السَّمْعُ الْقَاطِعُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى ثُبُوتِهِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ لَا تُعَذِّبْ مَنْ كَفَرَ بِك أَوْ اغْفِرْ لَهُ ، وَقَدْ دَلَّ قَوْله تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ السَّمْعِيَّةِ الْقَوَاطِعِ عَلَى تَعْذِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ مَاتَ كَافِرًا ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ لَا تُخَلِّدْ فُلَانًا الْكَافِرَ فِي النَّارِ ، وَقَدْ دَلَّتْ النُّصُوصُ الْقَاطِعَةُ عَلَى تَخْلِيدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَسْأَلَ الدَّاعِي اللَّهَ أَنْ يُرِيحَهُ مِنْ الْبَعْثِ حَتَّى يَسْتَرِيحَ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ بَعْثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّقَلَيْنِ .

( الْقِسْمُ الثَّانِي ) أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ثُبُوتَ مَا دَلَّ الْقَاطِعُ السَّمْعِيُّ عَلَى نَفْيِهِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : ( الْأَوَّلُ ) أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ خَلِّدْ فُلَانًا الْمُسْلِمَ عَدُوِّي فِي النَّارِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ سُوءَ الْخَاتِمَةِ ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى إخْبَارًا قَاطِعًا بِأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْجَنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ مُسْتَلْزِمًا لِتَكْذِيبِ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ كُفْرًا .
( الثَّانِي ) أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي أَبَدًا حَتَّى أَسْلَمَ مِنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَكَرْبِهِ ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَوْتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ مُسْتَلْزِمًا لِتَكْذِيبِ هَذَا الْخَبَرِ فَيَكُونُ كُفْرًا .
( الثَّالِثُ ) أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ إبْلِيسَ مُحِبًّا نَاصِحًا لِي وَلِبَنِي آدَمَ أَبَدَ الدَّهْرِ حَتَّى يَقِلَّ الْفَسَادُ وَتَسْتَرِيحَ الْعِبَادُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ { إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاِتَّخَذُوهُ عَدُوًّا } فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ مُسْتَلْزِمًا لِتَكْذِيبِ هَذَا الْخَبَرِ فَيَكُونُ كُفْرًا وَأُلْحِقَ بِهَذِهِ الْمُثُلِ نَظَائِرُهَا
قَالَ ( الْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ثُبُوتَ مَا دَلَّ السَّمْعُ الْقَاطِعُ عَلَى نَفْيِهِ ) قُلْت الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْقِسْمِ كَالْكَلَامِ عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ .

( وَالْقِسْمُ الثَّانِي ) أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ثُبُوتَ مَا دَلَّ الْقَاطِعُ عَلَى نَفْيِهِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ خَلِّدْ فُلَانًا الْمُسْلِمَ عَدُوِّي فِي النَّارِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ سُوءَ الْخَاتِمَةِ ، وَقَدْ دَلَّ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } وَنَحْوُهُ مِنْ الْقَوَاطِعِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْجَنَّةِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ أَحْيِنِي أَبَدًا حَتَّى أَسْلَمَ مِنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَكَرْبِهِ ، وَقَدْ دَلَّ قَوْله تَعَالَى { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } وَنَحْوُهُ مِنْ الْقَوَاطِعِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْمَوْتِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ إبْلِيسَ مُحِبًّا نَاصِحًا لِي وَلِبَنِي آدَمَ أَبَدَ الدَّهْرِ حَتَّى يَقِلَّ الْفَسَادُ وَتَسْتَرِيحَ الْعِبَادُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ { إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاِتَّخَذُوهُ عَدُوًّا } ( وَلَا يَخْفَاك ) أَنَّ غَايَةَ مَا فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ طَلَبُ التَّكْذِيبِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ طَلَبَ مُسْتَحِيلٍ إلَّا أَنَّ الْقَاعِدَةَ فِي طَلَبِ الْمُسْتَحِيلِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحِيلٍ عَقْلًا وَلَا مُمْتَنِعٍ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِتَجْوِيزِ التَّكْذِيبِ عِنْدَ مَنْ لَا يُجَوِّزُ طَلَبَ الْمُسْتَحِيلِ لَا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ طَلَبَهُ إلَّا أَنَّ تَجْوِيزَ التَّكْذِيبِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّكْذِيبَ ، وَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ مُقْتَضَى لَفْظِ التَّكْذِيبِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَكْذِيبُ زَيْدٍ لِعَمْرٍو وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُكَذِّبًا لِعَمْرٍو وَلَا مُجَوِّزًا لِكَذِبِهِ فَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ بِلَفْظِ التَّكْذِيبِ الْكَذِبَ لَمْ يَلْزَمْ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مُكَذِّبًا لَهُ بَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُجَوِّزًا لِوُقُوعِ الْكَذِبِ مِنْهُ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ طَلَبَ الْمُسْتَحِيلِ لَا عِنْدَ مَنْ لَا يُجَوِّزُهُ وَعَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ لَا يُجَوِّزُهُ إنَّمَا يَكُونُ تَكْفِيرُ مَنْ يَلْزَمُ مِنْ دُعَائِهِ ذَلِكَ تَكْفِيرًا

بِالْمَآلِ ، وَقَدْ حَكَى الْأَصْلُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ وَاخْتَارَ الْأَصْلُ عَدَمَ التَّكْفِيرِ ، فَجَزْمُهُ هُنَا بِتَكْفِيرِ الدَّاعِي بِمَا فِي مِثْلِ الْقِسْمَيْنِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُكَفِّرُ بِالْمَآلِ وَيَقُولُ إنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ مَذْهَبٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبَ الْأَصْلِ .

.
( الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى نَفْيَ مَا دَلَّ الْقَاطِعُ الْعَقْلِيُّ عَلَى ثُبُوتِهِ مِمَّا يُخِلُّ بِجَلَالِ الرُّبُوبِيَّةِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : ( الْأَوَّلُ ) أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى سَلْبَ عِلْمِهِ أَوْ عَالَمِيَّتِهِ الْقَدِيمَةِ حَتَّى يَسْتَتِرَ الْعَبْدُ فِي قَبَائِحِهِ وَيَسْتَرِيحَ مِنْ اطِّلَاعِ رَبِّهِ عَلَى فَضَائِحِهِ ، وَقَدْ دَلَّ الْقَاطِعُ الْعَقْلِيُّ عَلَى وُجُوبِ ثُبُوتِ الْعِلْمِ لِلَّهِ تَعَالَى أَزَلًا وَأَبَدًا فَيَكُونُ هَذَا الدَّاعِي طَالِبًا لِقِيَامِ الْجَهْلِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ كُفْرٌ .
( الثَّانِي ) أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى سَلْبَ قُدْرَتِهِ الْقَدِيمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَأْمَنَ مِنْ الْمُؤَاخَذَةِ ، وَقَدْ دَلَّ الْقَاطِعُ الْعَقْلِيُّ عَلَى وُجُوبِ الْقُدْرَةِ لِلَّهِ تَعَالَى أَزَلًا أَبَدًا لَا تَقْبَلُ التَّغْيِيرَ وَلَا الْفَنَاءَ فَطَلَبُ عَدَمِهَا طَلَبٌ لِعَجْزِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ كُفْرٌ .
( الثَّالِثُ ) أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى سَلْبَ اسْتِيلَائِهِ عَلَيْهِ وَارْتِفَاعَ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الدَّاعِي بِالتَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ وَيَأْمَنَ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ مِنْ جِهَةِ الْقَضَاءِ ، وَقَدْ دَلَّ الْقَاطِعُ الْعَقْلِيُّ عَلَى شُمُولِ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ فَيَكُونُ الدَّاعِي طَالِبًا لِسَلْبِ ذَلِكَ فَيَكُونُ دُعَاؤُهُ كُفْرًا وَأُلْحِقَ بِهَذِهِ الْمُثُلِ نَظَائِرُهَا

قَالَ ( الْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى نَفْيَ مَا دَلَّ الْقَاطِعُ الْعَقْلِيُّ عَلَى ثُبُوتِهِ مِمَّا يُخِلُّ بِجَلَالِ الرُّبُوبِيَّةِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : الْأَوَّلُ أَنْ يَسْأَلَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى سَلْبَ عِلْمِهِ أَوْ عَالَمِيَّتِهِ الْقَدِيمَةِ حَتَّى يَسْتَتِرَ الْعَبْدُ فِي قَبَائِحِهِ وَيَسْتَرِيحَ مِنْ اطِّلَاعِ رَبِّهِ عَلَيْهِ إلَخْ .
الثَّانِي أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى سَلْبَ قُدْرَتِهِ الْقَدِيمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَأْمَنَ الْمُؤَاخَذَةَ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ طَلَبَ نَفْيَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ لَيْسَ طَلَبًا لِضِدِّهِمَا وَهُمَا الْجَهْلُ وَالْعَجْزُ كَمَا قَالَ لِجَوَازِ غَفْلَةِ الدَّاعِي وَإِضْرَابِهِ عَنْهُمَا وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْغَفْلَةِ وَالْإِضْرَابِ إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِالتَّكْفِيرِ بِالْمَآلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ قَالَ ( الثَّالِثُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى سَلْبَ اسْتِيلَائِهِ عَلَيْهِ وَارْتِفَاعَ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الدَّاعِي بِالتَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ وَيَأْمَنَ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ مِنْ جِهَةِ الْقَضَاءِ ، وَقَدْ دَلَّ الْقَاطِعُ الْعَقْلِيُّ عَلَى شُمُولِ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ فَيَكُونُ الدَّاعِي طَالِبًا لِسَلْبِ ذَلِكَ فَيَكُونُ دُعَاؤُهُ كُفْرًا وَأَلْحَقَ بِهَذِهِ الْمُثُلَ نَظَائِرَهَا ) قُلْت قَدْ سَبَقَ أَنَّ كَوْنَ أَمْرٍ مَا كُفْرًا إنَّمَا هُوَ وَضْعٌ شَرْعِيٌّ ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ طَلَبَ ذَلِكَ كُفْرٌ فَهُوَ كَذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا .
هَذَا إذَا أَرَادَ أَنَّ عَيْنَ الطَّلَبِ هُوَ الْكُفْرُ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْكُفْرَ وَهُوَ الْجَهْلُ يَكُونُ سَلْبُ الِاسْتِيلَاءِ مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ أَوْ لَا تَتَعَلَّقُ فَهُوَ مِنْ التَّكْفِيرِ بِالْمَآلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ ) أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى نَفْيَ مَا دَلَّ الْقَاطِعُ الْعَقْلِيُّ عَلَى ثُبُوتِهِ مِمَّا يُخِلُّ بِإِجْلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَنْ يَسْأَلَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى سَلْبَ عِلْمِهِ أَوْ عَالَمِيَّتِهِ الْقَدِيمَةِ حَتَّى يَسْتَتِرَ الْعَبْدُ فِي قَبَائِحِهِ وَيَسْتَرِيحَ مِنْ اطِّلَاعِ رَبِّهِ عَلَى فَضَائِحِهِ ، وَقَدْ دَلَّ الْقَاطِعُ الْعَقْلِيُّ عَلَى وُجُوبِ ثُبُوتِ الْعِلْمِ لِلَّهِ تَعَالَى أَزَلًا وَأَبَدًا ، وَمِنْهَا أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى سَلْبَ اسْتِيلَائِهِ عَلَيْهِ وَارْتِفَاعَ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الدَّاعِي بِالتَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ وَيَأْمَنَ سُوءَ الْخَاتِمَةِ مِنْ جِهَةِ الْقَضَاءِ ، وَقَدْ دَلَّ الْقَاطِعُ الْعَقْلِيُّ عَلَى شُمُولِ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ .

.
( الْقِسْمُ الرَّابِعُ ) أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ثُبُوتَ مَا دَلَّ الْقَاطِعُ الْعَقْلِيُّ عَلَى نَفْيِهِ مِمَّا يُخِلُّ ثُبُوتُهُ بِجَلَالِ الرُّبُوبِيَّةِ وَلَهُ مُثُلٌ : أَنْ يَعْظُمَ شَوْقُ الدَّاعِي إلَى رَبِّهِ حَتَّى يَسْأَلَهُ أَنْ يَحِلَّ فِي بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ حَتَّى يَجْتَمِعَ بِهِ أَوْ يَعْظُمَ خَوْفُهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَيَسْأَلَ اللَّهَ ذَلِكَ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهُ الْأَمَانَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَسْتَبْدِلَ مِنْ وَحْشَتِهِ أُنْسًا ، وَقَدْ دَلَّ الْقَاطِعُ الْعَقْلِيُّ عَلَى اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ فَطَلَبُ ذَلِكَ كُفْرٌ .
( الثَّانِي ) أَنْ تَعْظُمَ حَمَاقَةُ الدَّاعِي وَتَجَرُّؤُهُ فَيَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُفَوِّضَ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الْعَالَمِ مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ الرَّبَّانِيَّةِ مِنْ الْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ وَالْقَضَاءِ النَّافِذِ الْمُحَتَّمِ ، وَقَدْ دَلَّ الْقَاطِعُ الْعَقْلِيُّ عَلَى اسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ ذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ طَلَبُ ذَلِكَ طَلَبًا لِلشَّرِكَةِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمُلْكِ وَهُوَ كُفْرٌ وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ جُهَّالِ الصُّوفِيَّةِ فَيَقُولُونَ فُلَانٌ أُعْطِيَ كَلِمَةَ كُنْ وَيَسْأَلُونَ أَنْ يُعْطَوْا كَلِمَةَ كُنْ الَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا أَمْرُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَمَا يَعْلَمُونَ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَعْلَمُونَ مَا مَعْنَى إعْطَائِهَا إنْ صَحَّ أَنَّهَا أُعْطِيت ، وَهَذِهِ أَغْوَارٌ بَعِيدَةُ الرَّوْمِ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْمُحَصِّلِينَ فَضْلًا عَنْ الصُّوفِيَّةِ الْمُتَخَرِّصِينَ فَيَهْلَكُونَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مُتَقَرِّبُونَ وَهُمْ عَنْهُ مُتَبَاعِدُونَ عَصَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْفِتَنِ وَأَسْبَابِهَا وَالْجَهَالَاتِ وَشَبَهِهَا .
( الثَّالِثُ ) أَنْ يَسْأَلَ الدَّاعِي رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ نَسَبًا فَيَحْصُلَ لَهُ الشَّرَفُ عَلَى الْخَلَائِقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَقَدْ دَلَّ الْقَاطِعُ الْعَقْلِيُّ

عَلَى اسْتِحَالَةِ النَّسَبِ وَأَسْبَابِ الِاسْتِيلَادِ الْمُوجِبَةِ لِلْأَنْسَابِ فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ طَلَبًا لِصُدُورِ الِاسْتِيلَادِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ كُفْرًا وَأُلْحِقَ بِهَذِهِ الْمُثُلِ نَظَائِرُهَا فَهَذِهِ كُلُّهَا وُجُوهٌ مُخِلَّةٌ بِجَلَالِ الرُّبُوبِيَّةِ تَقَعُ لِلْعِبَادِ الْجُهَّالِ وَمَنْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ بِنَاءَ الْكَنَائِسِ كُفْرٌ إذَا بَنَاهَا مُسْلِمٌ وَيَكُونُ رِدَّةً فِي حَقِّهِ لِاسْتِلْزَامِهِ إرَادَةَ الْكُفْرِ وَكَذَلِكَ أَفْتَى بِأَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا قَتَلَ نَبِيًّا يَعْتَقِدُ صِحَّةَ رِسَالَتِهِ كَانَ كَافِرًا لِإِرَادَتِهِ إمَاتَةَ شَرِيعَتِهِ وَإِرَادَةُ إمَاتَةِ الشَّرَائِعِ كُفْرٌ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَهْلَ بِمَا تُؤَدِّي إلَيْهِ هَذِهِ الْأَدْعِيَةُ لَيْسَ عُذْرًا لِلدَّاعِي عِنْدَ اللَّه تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الشَّرْعِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ جَهْلٍ يُمْكِنُ الْمُكَلَّفَ دَفْعُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِلْجَاهِلِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ رُسُلَهُ إلَى خَلْقِهِ بِرَسَائِلِهِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ كَافَّةً أَنْ يُعَلِّمُوهَا ثُمَّ يَعْمَلُوا بِهَا فَالْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِهَا وَاجِبَانِ فَمَنْ تَرَكَ التَّعَلُّمَ وَالْعَمَلَ وَبَقِيَ جَاهِلًا فَقَدْ عَصَى مَعْصِيَتَيْنِ لِتَرْكِهِ وَاجِبَيْنِ وَإِنْ عَلِمَ وَلَمْ يَعْمَلْ فَقَدْ عَصَى مَعْصِيَةً وَاحِدَةً بِتَرْكِ الْعَمَلِ وَمَنْ عَلِمَ وَعَمِلَ فَقَدْ نَجَا وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النَّاسُ كُلُّهُمْ هَلْكَى إلَّا الْعَالِمُونَ وَالْعَالِمُونَ كُلُّهُمْ هَلْكَى إلَّا الْعَامِلُونَ وَالْعَامِلُونَ كُلُّهُمْ هَلْكَى إلَّا الْمُخْلِصُونَ وَالْمُخْلِصُونَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ } فَحَكَمَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلَائِقِ بِالْهَلَاكِ إلَّا الْعُلَمَاءَ مِنْهُمْ .
ثُمَّ ذَكَرَ شُرُوطًا أُخَرَ مَعَ الْعِلْمِ فِي النَّجَاةِ مِنْ الْهَلَاكِ نَعَمْ الْجَهْلُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ لِلْمُكَلَّفِ بِمُقْتَضَى الْعَادَةِ يَكُونُ عُذْرًا كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَهُ فَظَنَّهَا أَجْنَبِيَّةً أَوْ شَرِبَ

خَمْرًا يَظُنُّهُ خَلًّا أَوْ أَكَلَ طَعَامًا نَجِسًا يَظُنُّهُ طَاهِرًا مُبَاحًا فَهَذِهِ الْجَهَالَاتُ يُعْذَرُ بِهَا إذْ لَوْ اُشْتُرِطَ الْيَقِينُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَشَبَهِهَا لَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فَيُعْذَرُونَ بِذَلِكَ ، وَأَمَّا الْجَهْلُ الَّذِي يُمْكِنُ رَفْعُهُ لَا سِيَّمَا مَعَ طُولِ الزَّمَانِ وَاسْتِمْرَارِ الْأَيَّامِ وَاَلَّذِي لَا يُعْلَمُ الْيَوْمَ يُعْلَمُ فِي غَدٍ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَأْخِيرِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ فَسَادٌ فَلَا يَكُونُ عُذْرًا لِأَحَدٍ وَلِذَلِكَ أَلْحَقَ مَالِكٌ الْجَاهِلَ فِي الْعِبَادَاتِ بِالْعَامِدِ دُونَ النَّاسِي ؛ لِأَنَّهُ جَهْلٌ يُمْكِنُهُ رَفْعُهُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ ، وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } أَيْ بِجَوَازِ سُؤَالِهِ فَاشْتَرَطَ الْعِلْمَ بِالْجَوَازِ قَبْلَ الْإِقْدَامِ عَلَى الدُّعَاءِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الدُّعَاءِ التَّحْرِيمُ إلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ جَلِيلَةٌ يَتَخَرَّجُ عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنْ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُهَا فِي الْفُرُوقِ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَيَنْبَغِي لِلسَّائِلِ أَنْ يَحْذَرَ هَذِهِ الْأَدْعِيَةَ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا حَذَرًا شَدِيدًا لِمَا تُؤَدِّي إلَيْهِ مِنْ سَخَطِ الدَّيَّانِ وَالْخُلُودِ فِي النِّيرَانِ وَحُبُوطِ الْأَعْمَالِ وَانْفِسَاخِ الْأَنْكِحَةِ وَاسْتِبَاحَةِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَمْوَالِ وَهَذَا فَسَادٌ كُلُّهُ يَتَحَصَّلُ بِدُعَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ وَلَا يَرْجِعُ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا تَرْتَفِعُ أَكْثَرُ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ إلَّا بِتَجْدِيدِ الْإِسْلَامِ وَالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَإِنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ أَمْرُهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ مِنْ مُوجِبَاتِ عِقَابِهِ ، وَأَصْلُ كُلِّ فَسَادٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إنَّمَا هُوَ الْجَهْلُ فَاجْتَهِدْ فِي إزَالَتِهِ عَنْك مَا اسْتَطَعْت كَمَا أَنَّ أَصْلَ كُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إنَّمَا هُوَ

الْعِلْمُ فَاجْتَهِدْ فِي تَحْصِيلِهِ مَا اسْتَطَعْت وَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُعِينُ عَلَى الْخَيْرِ كُلِّهِ فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَقْسَامُ بِتَمَيُّزِهَا حَصَلَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا هُوَ كُفْرٌ مِنْ الدُّعَاءِ وَمَا لَيْسَ بِكُفْرٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ

قَالَ ( الْقِسْمُ الرَّابِعُ أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ثُبُوتَ مَا دَلَّ الْقَاطِعُ الْعَقْلِيُّ عَلَى نَفْيِهِ مِمَّا يُخِلُّ بِجَلَالِ الرُّبُوبِيَّةِ وَلَهُ مُثُلٌ : الْأَوَّلُ أَنْ يَعْظُمَ شَوْقُ الدَّاعِي إلَى رَبِّهِ حَتَّى يَسْأَلَهُ أَنْ يَحِلَّ فِي بَعْضِ مَخْلُوقَاته حَتَّى يَجْتَمِعَ بِهِ ) قُلْت الْكَلَامُ فِي هَذَا الْقِسْمِ كَالْكَلَامِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ وَقَوْلُهُ هُنَاكَ وَهُنَا مِمَّا يُخِلُّ بِجَلَالِ الرُّبُوبِيَّةِ صَوَابُهُ بِإِجْلَالِ الرُّبُوبِيَّةِ أَمَّا جَلَالُ الرُّبُوبِيَّةِ فَلَا يُخِلُّ بِهِ شَيْءٌ قَالَ ( وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ جُهَّالِ الصُّوفِيَّةِ فَيَقُولُونَ فُلَانٌ أُعْطِيَ كَلِمَةَ كُنْ وَيَسْأَلُونَ أَنْ يُعْطَوْا كَلِمَةَ كُنْ الَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا أَمْرُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَمَا يَعْلَمُونَ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَعْلَمُونَ مَا مَعْنَى إعْطَائِهَا إنْ صَحَّ أَنَّهَا أُعْطِيت وَهَذِهِ أَغْوَارٌ بَعِيدَةُ الرَّوْمِ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْمُحَصِّلِينَ فَضْلًا عَنْ الصُّوفِيَّةِ الْمُتَخَرِّصِينَ ، فَيَهْلَكُونَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مُتَقَرِّبُونَ وَهُمْ عَنْهُ مُتَبَاعِدُونَ عَصَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْفِتَنِ وَأَسْبَابِهَا وَالْجَهَالَاتِ وَشَبَهِهَا ) قُلْت إنْ كَانَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ يُعْطِي غَيْرَهُ كَلِمَةَ كُنْ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُعْطِيهِ الِاقْتِدَارَ فَذَلِكَ جَهْلٌ شَنِيعٌ إنْ أَرَادُوا أَنَّهُ يُعْطِيهِ الِاسْتِقْلَالَ وَإِلَّا فَهُوَ مَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ وَكِلَاهُمَا كُفْرٌ بِالْمَآلِ .
وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي كُنْ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الشَّخْصِ الْكَائِنَاتُ الَّتِي يُرِيدُهَا مَقْرُونَةً بِإِرَادَتِهِ فَعَبَّرُوا عَنْ ذَلِكَ بِإِعْطَائِهِ كَلِمَةَ كُنْ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ إذَا اقْتَرَنَ بِقَوْلِهِمْ قَرِينَةٌ تُفْهِمُ الْمَقْصُودَ قَالَ ( الثَّانِي أَنْ يَسْأَلَ الدَّاعِي رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ نَسَبًا فَيَحْصُلَ لَهُ

الشَّرَفُ عَلَى الْخَلَائِقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَقَدْ دَلَّ الْقَاطِعُ الْعَقْلِيُّ عَلَى اسْتِحَالَةِ النَّسَبِ وَأَسْبَابِ الِاسْتِيلَادِ الْمُوجِبَةِ لِلْأَنْسَابِ ) قُلْت الْكَلَامُ فِي هَذَا كَالْكَلَامِ فِيمَا قَبْلَهُ قَالَ ( وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ بِنَاءَ الْكَنَائِسِ كُفْرٌ إذَا بَنَاهَا مُسْلِمٌ أَوْ يَكُونُ رِدَّةً فِي حَقِّهِ لِاسْتِلْزَامِهِ إرَادَةَ الْكُفْرِ ) قُلْت مَعْنَى قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ إنَّ بِنَاءَ الْكَنَائِسِ كُفْرٌ أَيْ فِي الْحُكْمِ الدُّنْيَوِيِّ ، وَأَمَّا الْأُخْرَوِيُّ فَبِحَسَبِ النِّيَّةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ أَفْتَى فِي الْمُسْلِمِ إذَا قَتَلَ نَبِيًّا يَعْتَقِدُ صِحَّةَ رِسَالَتِهِ كَانَ كَافِرًا لِإِرَادَتِهِ إمَاتَةَ شَرِيعَتِهِ وَإِرَادَةُ إمَاتَةِ الشَّرَائِعِ كُفْرٌ ) قُلْت مَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرٌ قَالَ ( وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَهْلَ بِمَا تُؤَدِّي إلَيْهِ هَذِهِ الْأَدْعِيَةُ لَيْسَ عُذْرًا إلَى آخِرِهِ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلُّهُ صَحِيحٌ إلَّا مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الدُّعَاءِ التَّحْرِيمُ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَسْأَلَك مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } فَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ وَإِلَّا ظَهَرَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الدُّعَاءِ النَّدْبُ إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْعِهِ .
قَالَ ( إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَيَنْبَغِي لِلسَّائِلِ أَنْ يَحْذَرَ هَذِهِ الْأَدْعِيَةَ ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا حَذَرًا شَدِيدًا .
ثُمَّ قَالَ فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَقْسَامُ بِتَمَيُّزِهَا حَصَلَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا هُوَ كُفْرٌ مِنْ الدُّعَاءِ ، وَمَا لَيْسَ بِكُفْرٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ) قُلْت لَمْ يَحْصُلْ الْمَطْلُوبُ بِمَا قَرَّرَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَدْعِيَةِ فِي هَذَا الْفَرْقِ لَمْ يَأْتِ بِحُجَّةٍ عَلَى أَنَّهُ بِعَيْنِهِ كُفْرٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّكْفِيرِ بِالْمَآلِ وَهُوَ لَا يَقُولُ بِهِ .

( وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ ) أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ثُبُوتَ مَا دَلَّ الْقَاطِعُ الْعَقْلِيُّ عَلَى نَفْيِهِ مِمَّا يُخِلُّ ثُبُوتُهُ بِإِجْلَالِ الرُّبُوبِيَّةِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَنْ يَعْظُمَ شَوْقُ الدَّاعِي إلَى رَبِّهِ حَتَّى يَسْأَلَهُ أَنْ يَحِلَّ فِي بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ لِيَجْتَمِعَ بِهِ أَوْ يَعْظُمَ خَوْفُهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَيَسْأَلَهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِيَأْخُذَ مِنْهُ الْأَمَانَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَسْتَبْدِلَ مِنْ وَحْشَتِهِ أُنْسًا ، وَقَدْ دَلَّ الْقَاطِعُ الْعَقْلِيُّ عَلَى اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَمِنْهَا أَنْ تَعْظُمَ حَمَاقَةُ الدَّاعِي وَتَجَرِّيهِ فَيَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُفَوِّضَ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الْعَالَمِ مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ وَالْإِرَادَةِ الرَّبَّانِيَّةِ مِنْ الْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ وَالْقَضَاءِ النَّافِذِ الْمُحَتَّمِ بِأَنْ يَسْأَلَهُ تَعَالَى أَنْ يُعْطِيَهُ كَلِمَةَ كُنْ الَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا أَمْرُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَلَا يَعْلَمُ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا مَعْنَى إعْطَائِهَا إنْ صَحَّ أَنَّهَا أُعْطِيت لِأَحَدٍ وَهَذَا غَوْرٌ بَعِيدُ الرَّوْمِ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْمُحَصِّلِينَ فَضْلًا عَمَّنْ يَسْأَلُ ذَلِكَ مِنْ الصُّوفِيَّةِ الْمُتَخَرِّصِينَ ، وَقَدْ دَلَّ الْقَاطِعُ الْعَقْلِيُّ عَلَى اسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ ذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَسْأَلَ الدَّاعِي رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ نَسَبًا فَيَحْصُلَ لَهُ الشَّرَفُ عَلَى الْخَلَائِقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَقَدْ دَلَّ الْقَاطِعُ الْعَقْلِيُّ عَلَى اسْتِحَالَةِ النَّسَبِ وَأَسْبَابِ الِاسْتِيلَاءِ الْمُوجِبَةِ لِلْأَنْسَابِ وَلَا يَخْفَاك أَنَّ طَلَبَ نَفْيِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ لَيْسَ طَلَبًا لِضِدِّهِمَا وَهُمَا الْجَهْلُ وَالْعَجْزُ كَمَا زَعَمَ الْأَصْلُ لِجَوَازِ غَفْلَةِ الدَّاعِي وَإِضْرَابِهِ عَنْهُمَا وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْغَفْلَةِ وَالْإِضْرَابِ إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ التَّكْفِيرِ بِالْمَآلِ ، وَإِنْ طَلَبَ الدَّاعِي مِنْ

اللَّهِ تَعَالَى الِاسْتِيلَاءَ عَلَى نَفْسِهِ وَسَلْبَ اسْتِيلَائِهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَارْتِفَاعَ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ تَعَالَى حَتَّى يَسْتَقِلَّ بِالتَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ وَيَأْمَنَ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ مِنْ جِهَةِ الْقَضَاءِ إنْ أَرَادَ أَنَّ عَيْنَهُ هُوَ الْكُفْرُ فَلَا يَسْلَمُ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ طَلَبَ ذَلِكَ كُفْرٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ كَوْنَ أَمْرٍ مَا كُفْرًا إنَّمَا هُوَ وَضْعِيٌّ شَرْعِيٌّ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْكُفْرَ وَهُوَ الْجَهْلُ بِكَوْنِ سَلْبِ الِاسْتِيلَاءِ مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ أَوْ لَا تَتَعَلَّقُ فَهُوَ مِنْ التَّكْفِيرِ بِالْمَآلِ ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي طَلَبِ الدَّاعِي حُلُولَهُ تَعَالَى فِي بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ حَتَّى يَجْتَمِعَ بِهِ أَوْ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهُ الْأَمَانَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَسْتَبْدِلَ مِنْ وَحْشَتِهِ أُنْسًا إلَّا أَنَّهُ يُقَالُ فِي الشِّقِّ الثَّانِي ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْكُفْرَ وَهُوَ الْجَهْلُ بِكَوْنِ سَلْبِ الْحُلُولِ فِي بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ أَوْ لَا إلَخْ فَافْهَمْ وَلَا يَخْفَى أَيْضًا أَنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ يُعْطِي غَيْرَهُ كَلِمَةَ كُنْ إنْ عَنَى بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي غَيْرَهُ كُنْ أَنَّهُ يُعْطِيهِ الِاقْتِدَارَ بِالِاسْتِقْلَالِ فَذَلِكَ جَهْلٌ شَنِيعٌ أَوْ بِقُدْرَةٍ يَخْلُقُهَا اللَّهُ فِيهِ فَهُوَ مَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ وَكِلَاهُمَا كُفْرٌ بِالْمَآلِ ، وَإِنْ عَنَى بِأَنَّ اللَّهَ يُعْطِي غَيْرَهُ كُنْ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الشَّخْصِ الْكَائِنَاتُ الَّتِي يُرِيدُهَا مَقْرُونَةً بِإِرَادَتِهِ مُعَبِّرًا عَنْ ذَلِكَ بِإِعْطَائِهِ كَلِمَةَ كُنْ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ إذَا اقْتَرَنَ قَوْلُهُ بِقَرِينَةٍ تُفْهِمُ الْمَقْصُودَ .
وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي طَلَبِ الدَّاعِي رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ نَسَبًا فَيَحْصُلَ لَهُ الشَّرَفُ عَلَى الْخَلَائِقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّهُ إنْ عَنَى بِجَعْلِ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ نَسَبًا أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الشَّرَفُ عَلَى الْخَلَائِقِ بِالِاسْتِقْلَالِ فَذَلِكَ جَهْلٌ شَنِيعٌ أَوْ بِقُدْرَةٍ يَخْلُقُهَا اللَّهُ

تَعَالَى فِيهِ فَهُوَ مَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ وَكِلَاهُمَا كُفْرٌ بِالْمَآلِ ، وَإِنْ عَنَى بِذَلِكَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الشَّرَفُ عَلَى الْخَلَائِقِ مَقْرُونًا بِإِرَادَتِهِ تَعَالَى فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ إذَا اقْتَرَنَ بِقَرِينَةٍ تُفْهِمُ الْمَقْصُودَ فَتَأَمَّلْ .
قَالَ وَقَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنَّ بِنَاءَ الْمُسْلِمِ الْكَنَائِسَ كُفْرٌ يُرِيدُ فِي الْحُكْمِ الدُّنْيَوِيِّ ، وَأَمَّا الْأُخْرَوِيُّ فَبِحَسَبِ النِّيَّةِ نَعَمْ فَتْوَاهُ بِكُفْرِ الْمُسْلِمِ إذَا قَتَلَ نَبِيًّا يَعْتَقِدُ صِحَّةَ رِسَالَتِهِ لِإِرَادَتِهِ إمَاتَةَ شَرِيعَتِهِ وَإِرَادَةُ إمَاتَةِ الشَّرِيعَةِ كُفْرٌ ا هـ ظَاهِرٌ صِحَّتُهَا كَقَوْلِ الْأَصْلِ إنَّ الْجَهْلَ بِمَا تُؤَدِّي إلَيْهِ هَذِهِ الْأَدْعِيَةُ لَا يُعْذَرُ الدَّاعِي بِهِ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الشَّرْعِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ جَهْلٍ يُمْكِنُ الْمُكَلَّفَ رَفْعُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِلْجَاهِلِ لَا سِيَّمَا مَعَ طُولِ الزَّمَانِ وَاسْتِمْرَارِ الْأَيَّامِ فَإِنَّ الَّذِي لَا يُعْلَمُ الْيَوْمَ يُعْلَمُ فِي غَدٍ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَأْخِيرِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ فَسَادٌ فَلَا يَكُونُ عُذْرًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ رُسُلَهُ إلَى خَلْقِهِ بِرِسَالَتِهِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ كَافَّةً أَنْ يُعَلِّمُوهَا ثُمَّ يَعْمَلُوا بِهَا ، فَالْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِهَا وَاجِبَانِ فَمَنْ تَرَكَ التَّعَلُّمَ وَالْعَمَلَ وَبَقِيَ جَاهِلًا فَقَدْ عَصَى مَعْصِيَتَيْنِ لِتَرْكِهِ وَاجِبَيْنِ .
وَإِنْ عَلِمَ وَلَمْ يَعْمَلْ فَقَدْ عَصَى مَعْصِيَةً وَاحِدَةً بِتَرْكِ الْعَمَلِ وَمَنْ عَلِمَ وَعَمِلَ فَقَدْ نَجَا وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النَّاسُ كُلُّهُمْ هَلْكَى إلَّا الْعَالِمُونَ وَالْعَالِمُونَ كُلُّهُمْ هَلْكَى إلَّا الْعَامِلُونَ وَالْعَامِلُونَ كُلُّهُمْ هَلْكَى إلَّا الْمُخْلِصُونَ وَالْمُخْلِصُونَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ } فَحَكَمَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلَائِقِ بِالْهَلَاكِ إلَّا الْعُلَمَاءَ مِنْهُمْ ثُمَّ ذَكَرَ شُرُوطًا أُخَرَ مَعَ الْعِلْمِ فِي النَّجَاةِ مِنْ الْهَلَاكِ

وَلِذَلِكَ أَلْحَقَ مَالِكٌ الْجَاهِلَ فِي الْعِبَادَاتِ بِالْعَامِدِ دُونَ النَّاسِي لِأَنَّهُ جَهْلٌ يُمْكِنُهُ رَفْعُهُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ نَعَمْ الْجَهْلُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ لِلْمُكَلَّفِ بِمُقْتَضَى الْعَادَةِ يَكُونُ عُذْرًا كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَهُ فَظَنَّهَا أَجْنَبِيَّةً أَوْ شَرِبَ خَمْرًا يَظُنُّهُ خَلًّا أَوْ أَكَلَ طَعَامًا نَجِسًا يَظُنُّهُ ظَاهِرًا مُبَاحًا فَهَذِهِ الْجَهَالَاتُ يُعْذَرُ بِهَا إذْ لَوْ اُشْتُرِطَ الْيَقِينُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَشَبَهِهَا لَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فَيُعْذَرُونَ بِذَلِكَ ا هـ فَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ الْأَصْلُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الدُّعَاءِ التَّحْرِيمُ مُسْتَدِلًّا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنِّي أَعُوذ بِك أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } فَفِيهِ نَظَرٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الدُّعَاءِ النَّدْبُ إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْعِهِ ا هـ كَلَامَ ابْنِ الشَّاطِّ بِتَصَرُّفٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ مِنْ الدُّعَاءِ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَيْسَ مُحَرَّمًا ) .
وَقَدْ حَضَرَنِي مِنْ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ اثْنَا عَشَرَ قِسْمًا ثَبَتَ الْحَصْرُ فِيهَا بِالِاسْتِقْرَاءِ فَتَكُونُ هِيَ الْمُحَرَّمَةَ وَمَا عَدَاهَا لَيْسَ مُحَرَّمًا عَمَلًا بِالِاسْتِقْرَاءِ فِي الْقِسْمَيْنِ ، فَإِنْ ظَفِرَ أَحَدٌ بِقِسْمٍ آخَرَ مُحَرَّمٍ أَضَافَهُ لِهَذِهِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَهَا أَنَا أُمَثِّلُ كُلَّ قِسْمٍ بِمُثُلِهِ اللَّائِقَةِ بِهِ لِيُقَاسَ عَلَيْهَا نَظَائِرُهَا : الْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الْمُسْتَحِيلَاتِ الَّتِي لَا تُخِلُّ بِجَلَالِ الرُّبُوبِيَّةِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : ( الْأَوَّلُ ) أَنْ يَطْلُبَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهُ فِي مَكَانَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ لِيَكُونَ مُطَّلِعًا عَلَى أَحْوَالِ الْإِقْلِيمَيْنِ فَهَذَا سُوءُ أَدَبٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُطْلَبُ مِنْ الْمُلُوكِ إلَّا مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ فِي قُدْرَتِهِمْ وَمَنْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ عَرَّضَهُمْ لِلْعَجْزِ لَا سِيَّمَا وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ أَنْ لَا يَطْلُبَ إلَّا مَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ لِئَلَّا يَكُونَ مُتَهَكِّمًا بِالرُّبُوبِيَّةِ .
الثَّانِي ) أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى دَوَامَ إصَابَةِ كَلَامِهِ مِنْ الْحِكَمِ الدَّقِيقَةِ وَالْعُلُومِ الشَّرِيفَةِ أَبَدَ الدَّهْرِ لِيَفْتَخِرَ بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ الْفُضَلَاءِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ .
( الثَّالِثُ ) أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى الِاسْتِغْنَاءَ فِي ذَاتِهِ عَنْ الْأَعْرَاضِ لِيَسْلَمَ طُولَ عُمْرِهِ مِنْ الْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ وَالْأَنْكَادِ وَالْمَخَاوِفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبَلَايَا ، وَقَدْ دَلَّتْ الْعُقُولُ عَلَى اسْتِحَالَةِ جَمِيعِ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ مُسْتَحِيلَةً فِي حَقِّهِ عَقْلًا كَانَ طَلَبُهَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى سُوءَ أَدَبٍ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ طَلَبَهَا يُعَدُّ فِي الْعَادَةِ تَلَاعُبًا وَضَحِكًا مِنْ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ لَهُ مِنْ

الْإِجْلَالِ فَوْقَ مَا يَجِبُ لِخَلْقِهِ فَمَا نَافَى إجْلَالَ خَلْقِهِ أَوْلَى أَنْ يُنَافِيَ جَلَالَهُ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ بَلْ قَدْ عَابَ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ خَلْقِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } أَيْ مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك } أَيْ ثَنَاؤُك الْمُسْتَحَقُّ ثَنَاؤُك عَلَى نَفْسِك أَمَّا ثَنَاءُ الْخَلْقِ فَلَا ؛ لِأَنَّهُ دُونَ الْمُسْتَحَقِّ وَقِسْ عَلَى هَذِهِ الْمُثُلِ نَظَائِرَهَا وَاقْضِ بِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ وَلَا تَصِلْ إلَى الْكُفْرِ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ قِلَّةِ الْأَدَبِ فِي الْمُعَامَلَةِ دُونَ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ ذِي الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ

قَالَ ( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ مِنْ الدُّعَاءِ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَيْسَ مُحَرَّمًا ، وَقَدْ حَضَرَنِي مِنْ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ اثْنَا عَشَرَ قِسْمًا ثَبَتَ الْحَصْرُ فِيهَا بِالِاسْتِقْرَاءِ فَتَكُونُ هِيَ الْمُحَرَّمَةُ ، وَمَا عَدَاهَا لَيْسَ مُحَرَّمًا عَمَلًا بِالِاسْتِقْرَاءِ فِي الْقِسْمَيْنِ ، فَإِنْ ظَفِرَ أَحَدٌ بِقِسْمٍ آخَرَ أَضَافَهُ لِهَذِهِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَهَا أَنَا أُمَثِّلُ كُلَّ قِسْمٍ بِمُثُلِهِ اللَّائِقَةِ بِهِ لِيُقَاسَ عَلَيْهَا نَظَائِرُهَا : الْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِيَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الْمُسْتَحِيلَاتِ الَّتِي لَا تُخِلُّ بِجَلَالِ الرُّبُوبِيَّة وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : الْأَوَّلُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهُ فِي مَكَانَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ لِيَكُونَ مُطَّلِعًا عَلَى أَحْوَالِ الْإِقْلِيمَيْنِ فَهَذَا سُوءُ أَدَبٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا يُطْلَبُ مِنْ الْمُلُوكِ إلَّا مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ فِي قُدْرَتِهِمْ وَمَنْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ عَرَّضَهُمْ لِلْعَجْزِ لَا سِيَّمَا وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ أَنْ لَا يَطْلُبَ إلَّا مَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ لِئَلَّا يَكُونَ مُتَهَكِّمًا بِالرُّبُوبِيَّةِ ) .
قُلْت مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الدُّعَاءَ بِالْكَوْنِ فِي مَكَانَيْنِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ حَرَامٌ لَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ بِحُجَّةٍ غَيْرَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْمُلُوكِ وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ لِجَوَازِ الْعَجْزِ عَلَيْهِمْ وَامْتِنَاعِهِ عَلَيْهِ تَعَالَى .
وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ أَنْ لَا يَطْلُبَ إلَّا مَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ هُوَ عَيْنُ الدَّعْوَى ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُتَهَكِّمًا بِالرُّبُوبِيَّةِ مَمْنُوعٌ وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ إلَّا الْقِيَاسَ عَلَى الْمُلُوكِ ، وَمَا بَالُهُ يَقِيسُهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي قَصْدِ التَّعْجِيزِ وَالتَّهَكُّمِ وَلَا يَقِيسُهُ عَلَيْهِمْ فِي قَصْدِ الْمُبَالَغَةِ وَالْغُلُوِّ فِي التَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ فَقَدْ خُوطِبَ الْمُلُوكُ بِنِسْبَةِ الْمُسْتَحِيلَاتِ

الْعَقْلِيَّةِ وَالْعَادِيَّةِ إلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ الْغُلُوِّ فِي تَرْفِيعِهِمْ لَا عَلَى قَصْدِ تَعْجِيزِهِمْ بَلْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مَنْ خَاطَبَ اللَّهَ تَعَالَى بِمِثْلِ ذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْظِيمِ كَمَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي حَقِّهِ أَوْ قَاصِدًا لِلتَّعْجِيزِ أَوْ غَيْرَ قَاصِدٍ لِهَذَا وَلَا لِهَذَا ، فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ لَا حَرَجَ بَلْ يَكُونُ مُطِيعًا مَأْجُورًا ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي يَكُونُ عَاصِيًا وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّالِثِ يَكُونُ مُطِيعًا بِصُورَةِ الدُّعَاءِ مُثَابًا عَلَيْهِ غَيْرَ مُطِيعٍ وَلَا عَاصٍ بِالْقَصْدِ لِعُرُوِّهِ عَنْهُ قَالَ ( الثَّانِي أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى دَوَامَ إصَابَة كَلَامِهِ مِنْ الْحِكَمِ الدَّقِيقَةِ وَالْعُلُومِ الشَّرِيفَةِ أَبَدَ الدَّهْرِ لِيَفْتَخِرَ بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ الْفُضَلَاءِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ ) قُلْت لَيْسَ هَذَا الْمِثَالُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ بَلْ هُوَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ طَلَبُ الْمُسْتَحِيلَاتِ الْعَادِيَّةِ .
قَالَ ( الثَّالِثُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى الِاسْتِغْنَاءَ فِي ذَاتِهِ عَنْ الْأَعْرَاضِ لِيَسْلَمَ طُولَ عُمْرِهِ مِنْ الْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ وَالْأَنْكَادِ وَالْمَخَاوِفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبَلَايَا ، وَقَدْ دَلَّتْ الْعُقُولُ عَلَى اسْتِحَالَةِ جَمِيعِ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ مُسْتَحِيلَةً فِي حَقِّهِ عَقْلًا كَانَ طَلَبُهَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى سُوءَ أَدَبٍ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ طَلَبَهَا يُعَدُّ فِي الْعَادَةِ تَلَاعُبًا وَضَحِكًا مِنْ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ لَهُ مِنْ الْإِجْلَالِ فَوْقَ مَا يَجِبُ لِخَلْقِهِ فَمَا نَافَى إجْلَالَ خَلْقِهِ أَوْلَى أَنْ يُنَافِيَ جَلَالَهُ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ ) قُلْت مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مُسْتَحِيلَةٌ عَقْلًا خَطَأٌ بَلْ هِيَ مُسْتَحِيلَةٌ عَادَةً إلَّا الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ الْأَعْرَاضِ فَهُوَ مِنْ الْمُسْتَحِيلِ عَقْلًا خَاصَّةً عِنْدَ مَنْ لَا يُجَوِّزُ الْعَرَضَ لَا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُهُ ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ طَلَبَ ذَلِكَ سُوءُ أَدَبٍ قَدْ مَرَجُوا بِهِ

، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ الْإِجْلَالِ إلَى آخِرِهِ صَحِيحٌ غَيْرَ أَنَّ فِي كَلَامِهِ إيهَامَ الْمُشَارَكَةِ فِي مُوجَبِ الْإِجْلَالِ مِنْ جِهَةِ اقْتِضَاءِ أَفْعَلْ الَّتِي لِلْمُفَاضَلَةِ .
قَالَ ( بَلْ قَدْ عَابَ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ خَلْقِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } أَيْ مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك } أَيْ ثَنَاؤُك الْمُسْتَحَقُّ ثَنَاؤُك عَلَى نَفْسِك أَمَّا ثَنَاءُ الْخَلْقِ فَلَا لِأَنَّهُ دُونَ الْمُسْتَحَقِّ ) قُلْت إنْ كَانَ الثَّنَاءُ اللَّائِقُ بِجَلَالِهِ تَعَالَى مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ اكْتِسَابِ الْبَشَرِ .
ثُمَّ قَصَّرُوا فِيهِ لَحِقَهُمْ الذَّمُّ وَالْعَيْبُ لِأَجْلِ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ فَلَا يَلْحَقُهُمْ ذَمٌّ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا .
قَالَ ( وَقِسْ عَلَى هَذِهِ الْمُثُلِ نَظَائِرَهَا وَاقْضِ بِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ وَلَا تَصِلُ إلَى الْكُفْرِ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ قِلَّةِ الْأَدَبِ فِي الْمُعَامَلَةِ دُونَ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ ذِي الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ ) قُلْت قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِحُجَّةٍ عَلَى أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ قِلَّةُ أَدَبٍ فَلَا قِيَاسَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ مِنْ الدُّعَاءِ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَيْسَ مُحَرَّمًا ) .
ادَّعَى الْأَصْلُ أَنَّ الْمُحَرَّمَ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ مِنْ الدُّعَاءِ ثَبَتَ حَصْرُهُ بِاسْتِقْرَائِهِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا فَتَكُونُ هِيَ الْمُحَرَّمَةَ وَمَا عَدَاهَا لَيْسَ مُحَرَّمًا عَمَلًا بِالِاسْتِقْرَاءِ فِي الْقِسْمَيْنِ .
قَالَ فَإِنْ ظَفِرَ أَحَدٌ بِقِسْمٍ آخَرَ مُحَرَّمٍ أَضَافَهُ لِهَذِهِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَسَاقَ الْأَقْسَامَ بِمِثْلِهَا وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الشَّاطِّ مِنْ الِاثْنَيْ عَشَرَ إلَّا سِتَّةً : ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) مِنْهَا الدُّعَاءُ الْمُعَلَّقُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَعَالَى فَلَا يَجُوزُ لِلدَّاعِي أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت وَلَا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إلَّا أَنْ تَشَاءَ وَلَا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ قَدَّرْت غَيْرَ ذَلِكَ وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ النَّظَائِرَ لِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ { لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت وَلْيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ } وَسِرُّهُ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ عَرِيَ عَنْ إظْهَارِ الْحَاجَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمُشْعِرٌ بِغِنَى الْعَبْدِ عَنْ الرَّبِّ هَذَا مَا وَجَّهَ بِهِ الْأَصْلُ وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ ، وَأَمَّا تَوْجِيهُهُ أَيْضًا بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا مُقَدَّرَةً ، وَإِذَا قُدِرَتْ وَهِيَ وَاقِعَةٌ جَزْمًا بِغَيْرِ دُعَاءٍ وَطَلَبُ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ مُحَالٌ لَا يَجُوزُ لِمُنَاقَضَتِهِ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَالْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ ابْنُ الشَّاطِّ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بِالْمَغْفِرَةِ وَهِيَ مَعْلُومَةُ الْحُصُولِ عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَنَا وَأَمَرَنَا أَنْ نَدْعُوَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِتْيَانِهِ الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ وَابْعَثْهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدْته وَذَلِكَ كُلُّهُ

مَعْلُومُ الْحُصُولِ عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَنَا ا هـ .

( وَالْقِسْمُ الثَّانِي ) مِنْ السِّتَّةِ الدُّعَاءُ الْمُعَلَّقُ بِشَأْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ افْعَلْ بِي مَا أَنْتَ أَهْلُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سُئِلَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ بِهِ إمَّا الْخَيْرَ وَإِمَّا الشَّرَّ وَأَنْ يَغْفِرَ لَهُ أَوْ يُؤَاخِذَهُ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت } وَلِأَنَّ الدُّعَاءَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِيهِ إظْهَارُ الِاسْتِغْنَاءِ وَعَدَمُ الِافْتِقَارِ فَيَكُونُ مَعْصِيَةً إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الدَّاعِي مَا أَنْتَ أَهْلُهُ مِنْ الْخَيْرِ الْجَزِيلِ وَلَا يَقْتَصِرْ فِي نِيَّتِهِ عَلَى مُطْلَقِ الْخَيْرِ فَيَذْهَبُ حِينَئِذٍ التَّحْرِيمُ وَلَمْ يَفُتْهُ نِيَّةُ تَعْظِيمِ الْمَسْأَلَةِ الَّذِي يُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَأَعْظِمُوا الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ وَإِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ تَعَالَى فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى } وَيَقْتَصِدُ فِي نِيَّتِهِ عَلَى مُطْلَقِ الْخَيْرِ فَيَذْهَبُ التَّحْرِيمُ لَكِنْ يَفُوتُهُ نِيَّةُ تَعْظِيمِ الْمَسْأَلَةِ .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ ، وَكَذَا إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَصْلًا وَكَانَ مِمَّنْ لَمْ يَعْتَقِدْ مَذْهَبَ الِاعْتِزَالِ ؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ الْحَالِ فِي كَوْنِ الْإِنْسَانِ لَا يُرِيدُ لِنَفْسِهِ إلَّا الْخَيْرَ مَعَ سَلَامَتِهِ مِنْ اعْتِقَادِ الِاعْتِزَالِ تُقَيِّدُ مُطْلَقَ دُعَائِهِ فَلَا كُفْرَ وَلَا مَعْصِيَةَ خِلَافًا لِقَوْلِ الْأَصْلِ إنَّ الدَّاعِيَ بِذَلِكَ إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَصْلًا كَانَ عَاصِيًا وَلَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ مَذْهَبَ الِاعْتِزَالِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ إلَّا الْخَيْرَ وَلَا يَفْعَلُ الشَّرَّ إلَّا شِرِّيرٌ وَأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَ نَفْسِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِقُدْرَةٍ خَلْقهَا اللَّهُ فِيهِ وَهُوَ إمَّا كُفْرٌ أَوْ فُسُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ كَمَذْهَبِ الْحَشَوِيَّةِ مِنْ اعْتِقَادِ جِسْمِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا بِنَاء

عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ يَسْبِقُ إلَى طَبْعِ الْإِنْسَانِ الْبَشَرِيِّ بِحَسَبِ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ حَتَّى يُرْتَاضَ بِالْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ .
فَمِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ أَحَدٍ إنَّمَا يُرِيدُ بِهَذَا الدُّعَاءِ الْخَيْرَ وَإِنَّهُ يُرِيدُ بِمُقْتَضَى مَا يَسْبِقُ إلَى طَبْعِهِ الْبَشَرِيِّ مِنْ شَائِبَةِ الِاعْتِزَالِ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ شَأْنُ اللَّهِ تَعَالَى يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ .
قَالَ فَاحْذَرْ شَائِبَةَ الِاعْتِزَالِ الَّتِي تَسْبِقُ إلَى الطِّبَاعِ وَاقْصِدْ بِنِيَّتِك مَا يَلِيقُ بِجَلَالِ رَبِّك وَلَمْ يُلْفَتْ مَعَ ذَلِكَ إلَى قَرِينَةِ الْحَالِ فِي كَوْنِهِ لَا يُرِيدُ لِنَفْسِهِ إلَّا الْخَيْرَ مَعَ سَلَامَتِهِ مِنْ اعْتِقَادِ الِاعْتِزَالِ مِنْ كَوْنِهَا تُقَيِّدُ مُطْلَقَ دُعَائِهِ كَمَا الْتَفَتَ إلَيْهَا ابْنُ الشَّاطِّ فَقَالَ لَا كُفْرَ وَلَا مَعْصِيَةَ إذَا لَمْ يَنْوِ الدَّاعِي بِهَذَا شَيْئًا أَصْلًا وَكَانَ مِمَّنْ لَمْ يَعْتَقِدْ مَذْهَبَ الِاعْتِزَالِ ؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ حَالِهِ تُقَيِّدُ مُطْلَقَ دُعَائِهِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ افْعَلْ بِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا يَلِيقُ بِعَظَمَتِك أَوْ بِجَلَالِك أَوْ بِكِبْرِيَائِك أَوْ بِذَاتِك أَوْ بِرُبُوبِيَّتِك أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا يَأْتِي مِنْ هَذَا الْبَابِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ هَبْنِي مَا يَلِيقُ بِقَضَائِك وَقُدْرَتِك فَإِنَّ اللَّائِقَ بِعَظَمَتِهِ تَعَالَى وَنَحْوِ ذَلِكَ الْفَضْلُ وَالْعَدْلُ وَهُمَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٌ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَظَمَتِهِ وَاللَّائِقُ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ الْكَثِيرُ وَالْحَقِيرُ وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ وَمَحْمُودُ الْعَاقِبَةِ وَغَيْرُ مَحْمُودِهَا فَالْكَلَامُ عَلَى هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ كَالْكَلَامِ عَلَى الْمِثَالِ الْأَوَّلِ بِلَا فَرْقٍ .

( وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ ) مِنْ السِّتَّةِ الدُّعَاءُ بِالْأَلْفَاظِ الْعَجَمِيَّةِ الَّتِي غَلَبَ عَلَى عَادَةِ مُسْتَعْمَلِيهَا مِنْ الْعَجَمِ الضَّلَالُ وَالْفَسَادُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُك أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ } وَقَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَسْأَلَك مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنْ أَسْأَلَك مَا لَيْسَ لِي بِجَوَازِ سُؤَالِهِ عِلْمٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِالْجَوَازِ شَرْطٌ فِي جَوَازِ السُّؤَالِ فَمَا لَمْ يُعْلَمْ جَوَازُهُ لَا يَجُوزُ سُؤَالُهُ وَأَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { إنِّي أَعِظُك أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ } وَاللَّفْظُ الْعَجَمِيُّ لَا سِيَّمَا الصَّادِرُ مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعَجَمِ الضَّلَالُ وَالْفَسَادُ غَيْرُ مَعْلُومِ الْجَوَازِ لِجَوَازِ اشْتِمَالِهِ عَلَى مَا يُنَافِي جَلَالَ الرُّبُوبِيَّةِ فَلِذَا مَنَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ الدُّعَاءِ بِالْأَلْفَاظِ الْعَجَمِيَّةِ الصَّادِرَةِ مِمَّنْ غَلَبَ عَلَى عَادَتِهِمْ مِنْ الْعَجَمِ ذَلِكَ حَتَّى يُعْلَمَ خُلُوصُهَا مِنْ الْفَسَادِ وَمَنَعَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الرَّقْيِ بِهَا ، وَأَمَّا الصَّادِرَةُ مِمَّنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى عَادَتِهِمْ مِنْ الْعَجَمِ ذَلِكَ فَيُكْرَهُ الدُّعَاءُ وَالرَّقْيُ بِهَا سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ .

( وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ ) مِنْ السِّتَّةِ الدُّعَاءُ عَلَى غَيْرِ الظَّالِمِ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَحْوَالِ الْعِبَادِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا وَأَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ إضْرَارٌ بِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ إلَّا أَنَّ الْمَدْعُوَّ عَلَيْهِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَفَ ذُنُوبًا أَوْ اكْتَسَبَ سَيِّئَاتٍ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الدَّاعِي وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَقِيًّا مِنْ الذُّنُوبِ وَطَاهِرًا مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ فَيَجُوزُ عَلَى الْأَوَّلِ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الدُّعَاءَ وَيَجْعَلَهُ سَبَبًا لِلِانْتِقَامِ مِنْ هَذَا الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ بِذُنُوبِهِ السَّالِفَةِ .
وَيَجُوزُ عَلَى الثَّانِي أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ هَذَا الدُّعَاءَ لِيَجْعَلَهُ سَبَبًا لِرَفْعِ دَرَجَاتِ هَذَا الْعَبْدِ صَبَرَ أَمْ لَا وَسَبَبًا لِوُقُوعِ الصَّبْرِ مِنْ الصَّابِرِ فَيَحْصُلُ لَهُ الْجَزِيلُ مِنْ الثَّوَابِ فَافْهَمْ وَيَكُونَ الدَّاعِي عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ ظَالِمًا بِدُعَائِهِ الَّذِي أَنْفَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ سَعَى فِي إضْرَارٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ وَكُلُّ الْمَسَاعِي الضَّارَّةِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ حَرَامٌ فَيُعَاقِبُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى دُعَائِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُنْفِذُ فِي عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ سَهْمَ الْعَدُوِّ وَالْكَافِرِ وَسَيْفَ الْقَاتِلِ لَهُ ظُلْمًا كَمَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِ السِّبَاعَ وَالْهَوَامَّ ، وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ فِي حَقِّهَا مَا يُوجِبُ ذَلِكَ إمَّا مُؤَاخَذَةً لَهُ بِذُنُوبِهِ أَوْ رَفْعًا لِدَرَجَاتِهِ فَكَمَا أَنَّ صَاحِبَ السَّيْفِ وَالرُّمْحِ ظَالِمٌ وَيُنْفِذُ اللَّهُ سَيْفَهُ وَرُمْحَهُ فِي الْمَظْلُومِ وَيُعَاقِبُهُ عَلَى ظُلْمِهِ كَذَلِكَ صَاحِبُ الدُّعَاءِ ظَالِمٌ بِدُعَائِهِ وَيُنْفِذُ اللَّهُ دُعَاءَهُ فِي الْمَظْلُومِ وَيُعَاقِبُهُ عَلَى ظُلْمِهِ أَيْضًا وَالْكُلُّ عَدْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى .
( تَنْبِيهٌ ) أَجَازَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الدُّعَاءَ عَلَى الظَّالِمِ وَادَّعَى الْأَصْلُ أَنَّ دَلِيلَهُ قَوْله تَعَالَى { وَلَمَنْ

انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِانْتِصَارِ الَّذِي هُوَ الِانْتِصَافُ مِنْهُ عَلَى دَرَجَةٍ لَا يَكُونُ فِيهَا زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ الظُّلْمِ وَبِالْوَجْهِ الَّذِي أُبِيحَ الِانْتِصَافُ بِهِ وَجَوَازُ الِانْتِصَافِ لَا يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ بِتَيْسِيرِ أَسْبَابِ الِانْتِصَافِ مِنْهُ فَقَدْ يُسَوَّغُ دَعْوَى دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَيْهِ ضِمْنًا لَا صَرِيحًا ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِهِ لَا ضِمْنًا وَلَا صَرِيحًا ا هـ فَمِنْ هُنَا قَالَ الْأَصْلُ وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَحَيْثُ قُلْنَا بِجَوَازِ الدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِ فَلَا تَدْعُو عَلَيْهِ بِمُؤْلِمَةٍ مِنْ أَنْكَادِ الدُّنْيَا لَمْ تَقْتَضِهَا جِنَايَتُهُ عَلَيْك بِأَنْ يَجْنِيَ عَلَيْك جِنَايَةً فَتَدْعُوَ عَلَيْهِ بِأَعْظَمَ مِنْهَا فَتَكُونَ جَانِيًا عَلَيْهِ بِالْمِقْدَارِ الزَّائِدِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } بَلْ تَدْعُو عَلَيْهِ بِمُؤْلِمَةٍ مِنْ أَنْكَادِ الدُّنْيَا تَقْتَضِيهَا جِنَايَتُهُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَدْعُوَ عَلَيْهِ بِمُلَابَسَةِ مَعْصِيَةٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى وَلَا بِالْكُفْرِ صَرِيحًا أَوْ ضِمْنًا بِأَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ اُرْزُقْهُ سُوءَ الْخَاتِمَةِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى طَلَبِ الْكُفْرِ .
وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ - كَمَا قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ - أَنَّ مُرِيدَ الْمَعْصِيَةِ لَيْسَ بِعَاصٍ إلَّا إنْ اقْتَرَنَ بِإِرَادَتِهِ الْمَعْصِيَةَ قَوْلٌ فِي الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ فِي الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ فِعْلٌ فَذَلِكَ مَعْصِيَةٌ ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْإِرَادَةِ فَلَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ } فَإِرَادَةُ الْكُفْرِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ عُمُومِ الْحَدِيثِ

الْمَذْكُورِ وَلَا أَعْلَمُ لِهَذَا الْحَدِيثِ الْآنَ مُعَارِضًا فَلَا كُفْرَ لِمُرِيدِ الْكُفْرِ حَيْثُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ الْكُفْرُ بِقَوْلٍ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْكُفْرُ قَوْلًا ، أَوْ بِفِعْلٍ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِعْلًا فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مُرِيدُ مَا يَلْزَمُ عَنْهُ الْكُفْرُ كَافِرًا ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَتْ إرَادَتُهُ كُفْرَ الْغَيْرِ بِقَصْدِ نَفْعِهِ لِرُجْحَانِ الْكُفْرِ عِنْدَهُ عَلَى الْإِيمَانِ فَهَذَا كُفْرٌ ، وَإِنْ كَانَتْ إرَادَتُهُ كُفْرَ الْغَيْرِ بِقَصْدِ إضْرَارِهِ فَهِيَ مَعْصِيَةٌ غَيْرُ كُفْرٍ ا هـ قُلْت ، وَكَذَا إنْ أَرَادَ مَعْصِيَةَ الْغَيْرِ بِقَصْدِ نَفْعِهِ بِالْمَعْصِيَةِ لِرُجْحَانِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى الطَّاعَةِ عِنْدَهُ أَوْ أَرَادَ مَعْصِيَةَ الْغَيْرِ بِقَصْدِ إضْرَارِهِ فَهِيَ لِمَكَانِ الرِّضَا بِالْمَعْصِيَةِ فِي الْأَوَّلِ وَإِضْرَارِ الْغَيْرِ فِي الثَّانِي فَافْهَمْ .
بَلْ الْأَحْسَنُ لِلْمَظْلُومِ الصَّبْرُ وَالْعَفْوُ عَنْ الظَّالِمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } أَيْ مِنْ مَعْزُومِهَا وَمَطْلُوبِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
فَإِنْ زَادَ فِي الْإِحْسَانِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ دَعَا لَهُ بِالْإِصْلَاحِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الظُّلْمِ فَقَدْ أَحْسَنَ إلَى نَفْسِهِ بِمَثُوبَةِ الْعَفْوِ وَتَحْصِيلِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَإِلَى الْجَانِي بِالتَّسَبُّبِ إلَى إصْلَاحِ صِفَاتِهِ وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً بِالتَّسَبُّبِ إلَى كِفَايَتِهِمْ شَرَّهُ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنْ الْإِحْسَانِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَفُوتَ اللَّبِيبَ لَا سِيَّمَا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا دَعَا بِمَكْرُوهٍ عَلَى بَرِيءٍ أَوْ عَلَى جَانٍ بِأَزْيَدَ مِنْ جِنَايَتِهِ تَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ وَلَك مِثْلُهُ ، وَإِنْ دَعَا بِخَيْرٍ لِأَحَدٍ جَانِيًا أَوْ بَرِيئًا تَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ وَلَك مِثْلُهُ .
نَعَمْ يَنْبَغِي فِي الظَّالِمِ الَّذِي لَا يَرْدَعُهُ إلَّا إظْهَارُ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْعَفْوُ عَنْهُ فِيمَا بَيْنَك وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ لَا يَظْهَرَ لَهُ ذَلِكَ بَلْ أَظْهِرْ مَا فِيهِ صَلَاحُهُ مِنْ دُعَائِك عَلَيْهِ ، وَأَمَّا مَنْ يَجُودُ إذَا

جُدْت عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي إظْهَارُ ذَلِكَ لَهُ .

( وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ ) مِنْ السِّتَّةِ الدُّعَاءُ بِطَلَبِ وُقُوعِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْوُجُودِ إمَّا لِنَفْسِهِ كَأَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ أَمِتْهُ كَافِرًا أَوْ اسْقِهِ خَمْرًا أَوْ أَعِنْهُ عَلَى الْمَكْسِ الْفُلَانِيِّ أَوْ وَطْءِ الْأَجْنَبِيَّةِ الْفُلَانِيَّةِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ ، وَإِمَّا لِغَيْرِهِ عَدُوِّهِ كَقَوْلِهِ اللَّهُمَّ لَا تُمِتْ فُلَانًا عَلَى الْإِسْلَامِ اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ مَنْ يَقْتُلُهُ أَوْ يَأْخُذُ مَالَهُ أَوْ صَدِيقِهِ كَقَوْلِهِ اللَّهُمَّ يَسِّرْ لَهُ الْوِلَايَةَ الْفُلَانِيَّةَ أَوْ السَّفَرَ الْفُلَانِيَّ وَصُحْبَةَ الْوَزِيرِ فُلَانٍ أَوْ الْمَلِكِ فُلَانٍ وَيَكُونُ جَمِيعُ ذَلِكَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَعْصِيَةٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى فَجَمِيعُ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ تَحْرِيمَ الْوَسَائِلِ وَمَنْزِلَتُهُ مِنْ التَّحْرِيمِ مَنْزِلَةُ مُتَعَلِّقِهِ فَالدُّعَاءُ بِتَحْصِيلِ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ أَقْبَحُ الدُّعَاءِ وَدَلِيلُ أَنَّ الدُّعَاءَ بِالْمُحَرَّمِ مُحَرَّمٌ مَا رُوِيَ مَنْ دَعَا لِفَاسِقٍ بِالْبَقَاءِ فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يُعْصَى اللَّهُ تَعَالَى وَمَحَبَّةُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَرَّمَةٌ .

( وَالْقِسْمُ السَّادِسُ ) مِنْ السِّتَّةِ الدُّعَاءُ الْمُوهِمُ اسْتِئْنَافَ صِفَتَيْ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ كَقَوْلِ الدَّاعِي اللَّهُمَّ قَدِّرْ لَنَا أَوْ اقْضِ لَنَا بِالْخَيْرِ وَاسْتِئْنَافُ الْعِلْمِ كَقَوْلِ الدَّاعِي اللَّهُمَّ اجْعَلْ سَعَادَتَنَا مَقْدُورَةً فِي عِلْمِك .
قَالَ الْأَصْلُ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الدُّعَاءَ بِوَضْعِهِ اللُّغَوِيِّ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمُسْتَقْبَلَ لِأَنَّهُ طَلَبٌ وَالطَّلَبُ فِي الْمَاضِي مُحَالٌ فَيَكُونُ مُقْتَضَى الدُّعَاءِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَنْ يَقَعَ تَقْدِيرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ الزَّمَانِ وَالتَّقْدِيرِ جَمِيعِهِ وَقَعَ فِي الْأَزَلِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي الْأَوَّلِ اللَّهُمَّ قَدِّرْ إلَخْ ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الثَّانِي اللَّهُمَّ اقْضِ إلَخْ لِأَنَّ مَعْنَى اقْضِ مُسَاوٍ فِي الْمُعَرَّفِ جَمِيعِهِ وَقَعَ فِي الْأَزَلِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي الْأَوَّلِ اللَّهُمَّ قَدِّرْ إلَخْ ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الثَّانِي اللَّهُمَّ اقْضِ إلَخْ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى اقْضِ مُسَاوٍ فِي الْمُعَرَّفِ لِمَعْنَى قَدِّرْ يَقْتَضِي مَذْهَبَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا قَضَاءَ فِي الْأَزَلِ وَأَنَّ الْأَمْرَ أَنِفَ كَمَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ الْخَوَارِجِ وَهُوَ فِسْقٌ بِالْإِجْمَاعِ .
قَالَ ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ الثَّالِثِ لِأَنَّ الَّذِي يَتَقَدَّرُ فِي الْعِلْمِ هُوَ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ الْقَدِيمَةُ فَكُلَّمَا يَسْتَحِيلُ اسْتِئْنَافُ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِهِ يَسْتَحِيلُ اسْتِئْنَافُ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِهِ فَيَسْتَحِيلُ اسْتِئْنَافُ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالسَّعَادَةِ فَيَكُونُ مُحَرَّمًا لِمَا مَرَّ .
نَعَمْ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ اللَّهُمَّ اُقْدُرْ أَوْ اقْضِ إلَخْ مُحَرَّمًا لِلْإِيهَامِ الْمَذْكُورِ إلَّا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَعَدَمِ النِّيَّةِ أَمَّا إنْ أَرَادَ بِالتَّقْدِيرِ التَّيْسِيرَ مَجَازًا فَلَا حُرْمَةَ وَلَا مَعْصِيَةَ وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِيمَا وَرَدَ عَنْ الشَّارِعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ { قَوْلِهِ فِي الِاسْتِخَارَةِ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ وَرَضَّنِي بِهِ } بِمَعْنَى التَّيْسِيرِ

مَجَازًا ا هـ ، وَقَالَ ابْنُ الشَّاطِّ مَا خُلَاصَتُهُ إنَّ الدُّعَاءَ بِالْأَوَّلِ وَالثَّانِي ، وَإِنْ أَوْهَمَا اسْتِئْنَافَ صِفَتَيْ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ لَا يَفْتَقِرَا إلَى نِيَّةٍ كَمَا قَالَ الْأَصْلُ بَعْدَ أَنْ وَرَدَ عَنْ الشَّارِعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ فِي الِاسْتِخَارَةِ وَاقْدُرْ ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى اسْتِحَالَةِ اسْتِئْنَافِ صِفَتَيْ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ وَمُعَيِّنَةٌ لِلْحَمْلِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالدُّعَاءِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مَا يَجُوزُ مِنْ اسْتِئْنَافِ الْمَقْدُورِ ، وَالْمُرَادُ فَلَا امْتِنَاعَ فِيهِمَا لِلْإِيهَامِ الْمَذْكُورِ ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ الثَّالِثُ فَيَمْتَنِعُ لِإِيهَامِهِ اسْتِئْنَافَ الْعِلْمِ كَمَا قَالَ الْأَصْلُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْ الشَّارِعِ اسْتِئْنَافُ الْعِلْمِ فِيمَا عَلِمْت مِثْلُ مَا وَرَدَ فِي اسْتِئْنَافِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِاسْتِخَارَةِ وَاقْدُرْ فَلَيْسَ الْإِيهَامُ هُنَا مِثْلَ الْإِيهَامِ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِعَدَمِ وُرُودِ الْإِيهَامِ هُنَا عَنْ الشَّارِعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا عَلِمْت وَوُرُودَهُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَاكَ .
ا هـ .
قُلْت وَوَجْهُ مَا قَالَهُ ابْنُ الشَّاطِّ أَنَّ مُوهِمَ مَا يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) مَا وَرَدَ هُوَ نَفْسُهُ فِي كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ كَالِاسْتِوَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَالْفَوْقِيَّةِ فِي قَوْله تَعَالَى { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } وَالْإِتْيَانِ فِي قَوْله تَعَالَى { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ } وَالْمَجِيءِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَجَاءَ رَبُّكَ } وَالْوَجْهِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } وَالْيَدِ فِي قَوْله تَعَالَى { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } وَالنُّزُولِ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ { يَنْزِلُ رَبُّنَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا } وَالصُّورَةِ فِي حَدِيثِهِمَا أَيْضًا { إنَّ اللَّهَ

خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ } فَهَذَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ أَمَّا مَعَ التَّأْوِيلِ التَّفْصِيلِيِّ كَمَا هُوَ طَرِيقَةُ الْخَلَفِ بِأَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِوَاءِ الِاسْتِيلَاءُ وَالْمُلْكُ كَمَا قَالَ قَدْ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ وَبِالْفَوْقِيَّةِ التَّعَالِي فِي الْعَظَمَةِ دُونَ الْمَكَانِ وَبِالْإِتْيَانِ إتْيَانُ رَسُولِ عَذَابِهِ أَوْ رَحْمَتِهِ وَثَوَابِهِ ، وَكَذَا النُّزُولُ وَبِالْوَجْهِ الذَّاتُ أَوْ الْوُجُودُ وَبِالْيَدِ الْقُدْرَةُ وَيَرْجِعُ ضَمِيرٌ عَلَى صُورَتِهِ إلَى الْأَخِ الْمُصَرِّحِ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى الَّتِي رَوَاهَا مُسْلِمٌ بِلَفْظِ { إذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَتَجَنَّبْ الْوَجْهَ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ } وَالْمُرَادُ بِالصُّورَةِ الصِّفَةُ وَأَمَّا مَعَ التَّأْوِيلِ الْإِجْمَالِيِّ وَيُفَوَّضُ عِلْمُ الْمَعْنَى الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ النَّصِّ تَفْصِيلًا إلَيْهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ طَرِيقُ السَّلَفِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ لَمَّا سُئِلَ عَنْ قَوْله تَعَالَى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ كَمَا فِي شَرْحِ عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى جَوْهَرَةِ التَّوْحِيدِ .
( وَالْقِسْمُ الثَّانِي ) مَا وَرَدَ نَظِيرُهُ فِي كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ وَإِلَى مِثَالِهِ وَحُكْمِهِ أَشَارَ الْعَلَّامَةُ الْأَمِيرُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الشَّيْخِ عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى جَوْهَرَةِ التَّوْحِيدِ بِقَوْلِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَالَ جِسْمٌ كَالْأَجْسَامِ فَاسِقٌ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَى اسْتِظْهَارِ بَعْضِ أَشْيَاخِنَا كُفْرَهُ كَيْفَ ، وَقَدْ صَحَّ وَجْهٌ لَا كَالْوُجُوهِ وَيَدٌ لَا كَالْأَيْدِي نَعَمْ لَمْ تَرِدْ عِبَارَةُ جِسْمٍ فَلْيُتَأَمَّلْ ا هـ بِلَفْظِهَا قُلْت وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّهُ تَعَالَى فِي مَكَان لَيْسَ كَمَكَانِ الْحَوَادِثِ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ اسْتِوَاءٌ عَلَى الْعَرْشِ لَا كَالِاسْتِوَاءِ عَلَى السَّرِيرِ نَعَمْ لَمْ تَرِدْ عِبَارَةُ مَكَان بَلْ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ : حَدِيثُ { لَا

تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ } يُفِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الْمَكَانِ أَزَلًا إذْ لَوْلَا تَنَزُّهُهُ عَنْ الْجِهَةِ لَكَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِعْرَاجِهِ أَقْرَبَ مِنْ يُونُسَ فِي نُزُولِ الْحُوتِ بِهِ لِقَاعِ الْبَحْرِ كَمَا أَفَادَهُ الْأَمِيرُ فِي الْحَاشِيَة الْمَذْكُورَةِ .
( وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ ) مَا لَمْ يَرِدْ هُوَ وَلَا نَظِيرُهُ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ وَإِلَى مِثَالِهِ وَحُكْمِهِ أَشَارَ الْعَلَّامَةُ الْأَمِيرُ فِي الْحَاشِيَة الْمَذْكُورَةِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْفَلَاسِفَةُ إلَى أَنَّهُ تَعَالَى الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَتَّصِفُ بِالْوُجُودِ أَصْلًا حَتَّى إذَا قَالُوا الْإِنْسَانُ مَوْجُودٌ فَمَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ تَعَلُّقًا بِالْوُجُودِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ كُفْرٌ وَلَا حُلُولَ وَلَا اتِّحَادَ ، فَإِنْ وَقَعَ مِنْ أَكَابِرِ الْأَوْلِيَاءِ مَا يُوهِمُ ذَلِكَ أُوِّلَ بِمَا يُنَاسِبُهُ كَمَا يَقَعُ مِنْهُمْ فِي وَحْدَةِ الْوُجُودِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ مَا فِي الْجُبَّةِ إلَّا اللَّهُ أَرَادَ أَنَّ مَا فِي الْجُبَّةِ وَالْكَوْنِ كُلِّهِ لَا وُجُودَ لَهُ إلَّا بِاَللَّهِ { إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ } وَذَلِكَ اللَّفْظُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ شَرْعًا لِإِيهَامِهِ لَكِنَّ الْقَوْمَ تَارَةً تَغْلِبُهُمْ الْأَحْوَالُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ ضَعِيفٌ إلَّا مَنْ تَمَكَّنَ بِإِقَامَةِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ ، وَرَأَيْت فِي مَفَاتِيحِ الْكُنُوزِ أَنَّ الْحَلَّاجَ قَالَ أَنَا وَفِيهِ بَقِيَّةٌ مَا مِنْ شُعُورِهِ بِنَفْسِهِ ثُمَّ فَنِيَ بِشُهُودِهِ فَقَالَ اللَّهُ فَهُمَا كَلِمَتَانِ فِي مَقَامَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَكِنْ مِمَّنْ أَفْتَى بِقَتْلِهِ الْجُنَيْدُ كَمَا فِي شَرْحِ الْكُبْرَى عَمَلًا بِظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ الَّذِي هُوَ أَمْرُ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَقَامُ الْعَظِيمُ لَا تُحِيطُ بِهِ الْعِبَارَةُ وَالْوُجْدَانُ يَخْتَلِفَ بِحَسَبِ مَا يُرِيدُ الْحَقُّ وَرَأَيْت وَأَظُنُّهُ فِي كَلَامِ ابْنِ وَفَا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ

إشَارَاتِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ قَوْله تَعَالَى { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّك أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَا إنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ } وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ كُنْت سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ إلَخْ وَمِنْ أَلْطَفِ إشَارَاتِهِ قَوْلُ أَبِي مَدِينٍ التِّلْمِسَانِيِّ اللَّهَ قُلْ وَذْرِ الْوُجُودَ وَمَا حَوَى إنْ كُنْت مُرْتَادًا بُلُوغَ كَمَالِ فَالْكُلُّ دُونَ اللَّهِ إنْ حَقَّقْتَهُ عَدَمٌ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالْإِجْمَالِ وَاعْلَمْ بِأَنَّك وَالْعَوَالِمَ كُلَّهَا لَوْلَاهُ فِي مَحْوٍ وَفِي اضْمِحْلَالِ مَنْ لَا وُجُودَ لِذَاتِهِ مِنْ ذَاتِهِ فَوُجُودُهُ لَوْلَاهُ عَيْنُ مُحَالِ وَالْعَارِفُونَ فَنَوْا بِهِ لَمْ يَشْهَدُوا شَيْئًا سِوَى الْمُتَكَبِّرِ الْمُتَعَالِي وَرَأَوْا سِوَاهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ هَالِكًا فِي الْحَالِ وَالْمَاضِي وَالِاسْتِقْبَالِ ا هـ بِلَفْظِهَا قُلْت وَمِمَّا هُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ الْمَذْكُورِ قَوْلُ صَاحِبِ التُّحْفَةِ الْمُرْسَلَةِ وَإِنَّ ذَلِكَ الْوُجُودَ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ إحَاطَةَ الْمَلْزُومِ بِاللَّوَازِمِ وَالْمَوْصُوفِ بِالصِّفَاتِ لَا كَإِحَاطَةِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ وَلَا كَإِحَاطَةِ الْكُلِّ بِالْجُزْءِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا ا هـ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مُنْصِفٍ وَمِمَّا هُوَ جَارٍ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ بَلْ أَقْبَحُ مِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ مَكَانَهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِالْعَالَمِ بِذَاتِهِ لَا بِصِفَاتِهِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ إذْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ ذَاتَه تَعَالَى الَّتِي هِيَ مَكَانُهُ مُحِيطٌ بِالْعَالَمِ إحَاطَةَ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ أَوْ الْكُلِّ بِالْجُزْءِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا فَتَحَصَّلَ أَنَّ فِي مُوهِمِ مَا يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى ثَلَاثُ قَوَاعِدَ : ( الْأُولَى ) أَنْ كُلَّ مَا وَرَدَ الْإِذْنُ بِإِطْلَاقِهِ نَفْسِهِ فِي كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ كَاسْتِئْنَافِ الْقُدْرَةِ أَوْ الْإِرَادَةِ فِي الدُّعَاءِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي جَازَ

إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ تَعَالَى مَعَ حَمْلِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ تَعَالَى بِقَرِينَةِ اسْتِحَالَةِ مَعْنَاهُ .
( وَالثَّانِيَةُ ) أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ الْإِذْنُ بِنَظِيرِهِ فِي كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْسَهُ كَاسْتِئْنَافِ الْعِلْمِ فِي الدُّعَاءِ الثَّالِثِ فَهُوَ حَرَامٌ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ .
( وَالثَّالِثُ ) أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَرِدْ الْإِذْنُ بِهِ وَلَا بِنَظِيرِهِ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ كَقَوْلِ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَلَا وُجُودَ لِغَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْوُجُودِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ كُفْرٌ فَهَذِهِ الْأَدْعِيَةُ الَّتِي فِي الْأَقْسَامِ السِّتَّةِ كُلِّهَا أَدْعِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ إمَّا كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً إنْ تَكَرَّرَتْ صَارَتْ كَبِيرَةً وَفِسْقًا بِاتِّفَاقِ الْأَصْلِ وَابْنِ الشَّاطِّ وَالسِّتَّةُ الْبَاقِيَةُ مِنْ الِاثْنَيْ عَشَرَ أَقْسَامِ الدُّعَاءِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ الَّتِي اسْتَقْرَأَهَا الْأَصْلُ لَمْ يُسَلِّمْ ابْنُ الشَّاطِّ مَا ادَّعَاهُ الْأَصْلُ فِي وَجْهِ تَحْرِيمِهَا ، وَقَالَ وَالْعَاقِلُ الْحَرِيصُ عَلَى دِينِهِ أَوَّلُ مَا يَسْعَى فِي تَحْصِيلِ السَّلَامِ وَالْخُلُوصِ مِنْ الْمَهَالِكِ وَحِينَئِذٍ يَطْلُبُ الْأَرْبَاحَ فَهَذَا مَا حَضَرَنِي مِنْ الْأَدْعِيَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا الْمُحَرَّمَةِ وَمَا عَدَاهَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ عَمَلًا بِالِاسْتِقْرَاءِ وَهَذَا الْفَرْقُ ، وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ قَلَّ أَنْ تُوجَدَ فِي الْكُتُبِ مَعَ التَّصْرِيحِ بِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَلْ الْمَوْجُودُ فِي بَعْضِهَا كَلِمَاتٌ يَسِيرَةٌ مُشِيرَةٌ إلَيْهَا فَتَأَمَّلْهُ وَأَلْحِقْ مَا تَجِدُهُ بِنَظِيرِهِ فَيَنْضَبِطُ لَك الْمُبَاحُ مِنْ غَيْرِهِ انْتَهَى .

( وَصْلٌ ) فِي بَيَانِ وَجْهِ تَحْرِيمِ الْأَقْسَامِ السِّتَّةِ الْبَاقِيَةِ الَّذِي ادَّعَاهُ الْأَصْلُ وَبَيَانِ مَا تَعَقَّبَهُ بِهِ ابْنُ الشَّاطِّ : ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الْمُسْتَحِيلَاتِ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي لَا تُخِلُّ بِجَلَالِ الرُّبُوبِيَّةِ كَأَنْ يَطْلُبَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهُ فِي مَكَانَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ لِيَكُونَ مُطَّلِعًا عَلَى أَحْوَالِ الْإِقْلِيمَيْنِ أَوْ يَطْلُبَ مِنْهُ تَعَالَى الِاسْتِغْنَاءَ فِي ذَاتِهِ عَنْ الْأَعْرَاضِ لِيَسْلَمَ طُولُ عُمْرِهِ مِنْ الْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ وَالْأَنْكَادِ وَالْمَخَاوِفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبَلَايَا فَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْمُسْتَحِيلِ عَقْلًا لَكِنْ عِنْدَ مَنْ لَا يُجَوِّزُ الْعُرُوَّ عَنْ الْأَعْرَاضِ لَا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُهُ فَافْهَمْ ادَّعَى الْأَصْلُ تَحْرِيمَهُ مُطْلَقًا نَظَرًا لِكَوْنِهِ سُوءَ أَدَبٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُلُوكَ لَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ إلَّا مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ فِي قُدْرَتِهِمْ وَإِلَّا فَقَدْ عَرَّضَهُمْ لِلْعَجْزِ لَا سِيَّمَا وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ أَنْ لَا يَطْلُبَ إلَّا مَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ لِئَلَّا يَكُونَ مُتَهَكِّمًا بِالرُّبُوبِيَّةِ ا هـ ، وَتَعَقَّبْهُ ابْنُ الشَّاطِّ بِأَنَّ مَا قَالَهُ مِنْ تَحْرِيمِ الدُّعَاءِ بِالْكَوْنِ فِي مَكَانَيْنِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ وَأَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ أَنْ لَا يَطْلُبَ إلَّا مَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ وَأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ طَلَبِ مَا لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ التَّهَكُّمُ بِالرُّبُوبِيَّةِ لَا وَجْهَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْقِيَاسَ عَلَى الْمُلُوكِ وَهُوَ فَاسِدٌ لِجَوَازِ الْعَجْزِ عَلَيْهِمْ وَامْتِنَاعِهِ عَلَيْهِ تَعَالَى .
قَالَ وَمَا بَالُهُ يَقِيسُهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي قَصْدِ التَّعْجِيزِ وَالتَّهَكُّمِ وَلَا يَقِيسُهُ عَلَيْهِمْ فِي قَصْدِ الْمُبَالَغَةِ وَالْغُلُوِّ فِي التَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ فَقَدْ خُوطِبَ الْمُلُوكُ بِنِسْبَةِ الْمُسْتَحِيلَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعَادِيَّةِ إلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ الْغُلُوِّ فِي تَرْفِيقِهِمْ لَا عَلَى قَصْدِ تَعْجِيزِهِمْ بَلْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ

مَنْ خَاطَبَ اللَّهَ تَعَالَى بِمِثْلِ ذَلِكَ تَعَيَّنَ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْظِيمِ كَمَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي حَقِّهِ فَيَكُونَ مُطِيعًا مَأْجُورًا لَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لِلتَّعْجِيزِ فَيَكُونَ عَاصِيًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ قَاصِدٍ لِهَذَا وَلَا لِهَذَا فَيَكُونَ مُطِيعًا بِصُورَةِ الدُّعَاءِ مُثَابًا عَلَيْهِ غَيْرَ مُطِيعٍ وَلَا عَاصٍ بِالْقَصْدِ لِعُرُوِّهِ عَنْهُ ا هـ .

( الْقِسْمُ الثَّانِي ) مِنْ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَا يَكُونُ كُفْرًا أَنْ يَسْأَلَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الْمُسْتَحِيلَاتِ الْعَادِيَّةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا فَإِنَّ عَادَةَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرْقُ الْعَادَةِ فَيَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ كَمَا سَأَلُوا نُزُولَ الْمَائِدَةِ مِنْ السَّمَاءِ وَخُرُوجَ النَّاقَةِ مِنْ الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ أَوْ يَكُونَ وَلِيًّا لَهُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى عَادَةً بِذَلِكَ فَهُوَ جَارٍ عَلَى عَادَتِهِ فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ قِلَّةُ أَدَبٍ أَوْ لَا يَكُونَ وَلِيًّا وَيَسْأَلَ خَرْقَ الْعَادَةِ وَيَكُونَ مَعْنَى سُؤَالِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ وَلِيًّا مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ خَرْقَ الْعَادَةِ فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ لَيْسَتْ حَرَامًا ، وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فَلَهُ أَمْثِلَةٌ : ( الْأَوَّلُ ) أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ التَّنَفُّسِ فِي الْهَوَاءِ لِيَأْمَنَ الِاخْتِنَاقَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَقَدْ دَلَّتْ الْعَادَةُ عَلَى اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ .
( الثَّانِي ) أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةِ مِنْ الْمَرَضِ أَبَدَ الدَّهْرِ لِيَنْتَفِعَ بِقُوَاهُ وَحَوَاسِّهِ وَأَعْضَائِهِ أَبَدَ الدَّهْرِ ، وَقَدْ دَلَّتْ الْعَادَةُ عَلَى اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ .
( الثَّالِثُ ) أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى الْوَلَدَ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ الثِّمَارَ مِنْ غَيْرِ أَشْجَارٍ وَغِرَاسٍ ، وَقَدْ دَلَّتْ الْعَادَةُ عَلَى اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ فَطَالِبُ ذَلِكَ مُسِيءُ الْأَدَبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الدَّاعِي اللَّهُمَّ لَا تَرْمِ بِنَا فِي شِدَّةٍ فَإِنَّ عَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى جَارِيَةٌ قَطْعًا بِوُقُوعِ بَعْضِ الْأَنْفُسِ فِي الشَّدَائِدِ بَلْ لَا تَكَادُ نَفْسٌ تَسْلَمُ مِنْ شِدَّةٍ فِي مُدَّةِ حَيَاتِهَا ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الدَّاعِي خَرَقَ اللَّهُ الْعَادَةَ فِي بَقَائِك وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْعُرْفِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أَعْطِنَا خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاصْرِفْ عَنَّا شَرَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الْمَدْعُوُّ بِهِ لِهَذَا الدَّاعِي فَلَا بُدَّ

أَنْ يَقْصِدَ بِهَذَا الْعُمُومِ الْخُصُوصَ إذْ لَا بُدَّ أَنْ يَفُوتَ هَذَا الدَّاعِي رُتْبَةُ النُّبُوَّةِ وَمَرْتَبَةُ الْمَلَائِكَةِ وَدَرَجَاتُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْجَنَّةِ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُدْرِكَهُ بَعْضُ الشُّرُورِ وَلَوْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَوَحْشَةَ الْقَبْرِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ بِهَذَا الْعُمُومِ الْخُصُوصَ وَقِسْ عَلَى هَذِهِ نَظَائِرَهَا بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَفْهَمَ عَوَائِدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَصَرُّفَاتِهِ فِي خَلْقِهِ وَرَبْطِهِ الْمُسَبَّبَاتِ بِالْأَسْبَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعَ إمْكَانِ صُدُورِهَا عَنْ قُدْرَتِهِ بِغَيْرِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ أَوْ بِغَيْرِ سَبَبٍ أَلْبَتَّةَ بَلْ رَتَّبَ اللَّهُ تَعَالَى مَمْلَكَتَهُ عَلَى نِظَامٍ وَوَضَعَهَا عَلَى قَانُونٍ قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } .
فَإِذَا سَأَلَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى تَغْيِيرَ مَمْلَكَتِهِ وَنَقْضَ نِظَامِهِ وَسُلُوكَ غَيْرِ عَوَائِدِهِ فِي مُلْكِهِ كَانَ مُسِيئًا الْأَدَبَ عَلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ بَلْ ذَلِكَ سُوءُ أَدَبٍ عَلَى أَدْنَى الْمُلُوكِ بَلْ الْوُلَاةِ ، وَلِذَلِكَ عَابَ الْعُلَمَاءُ وَغَلَّطُوا جَمَاعَةً مِنْ الْعُبَّادِ حَيْثُ تَوَسَّطُوا الْقِفَارَ مِنْ غَيْرِ زَادٍ وَلَجَّجُوا فِي الْبِحَارِ فِي زَمَنِ الْهَوْلِ فِي غَيْرِ الزَّمَنِ الْمُعْتَادِ طَالِبِينَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى خَرْقَ عَوَائِدِهِ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ سَائِرُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ ذَاهِبُونَ عَنْهُ ظَانِّينَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ هِيَ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ وَأَنَّ مَا عَدَاهَا يُنَافِي الِاعْتِمَادَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ فَقَدْ دَخَلَ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مَكَّةَ مَحْفُوفًا بِالْخَيْلِ وَالرَّجْلِ وَالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ مُظَاهِرًا بَيْنَ دِرْعَيْنِ عَلَى رَأْسِهِ مِغْفَرٌ مِنْ حَدِيدٍ ، وَقَالَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ مَنْ يَعْصِمُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَكَانَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ عِنْدَ أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ مَعَ رَبِّهِ يَدَّخِرُ لِعِيَالِهِ قُوتَ سَنَةٍ وَهُوَ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ

وَتَحْقِيقُ هَذَا الْبَابِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ التَّوَكُّلَ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَطْلُبُهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ يَكْرَهُهُ مِنْ ضَيْرٍ لِأَجْلِ أَنَّهُ الْمُسْتَوْلِي بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ عَلَى سَائِرِ الْكَائِنَاتِ مِنْ غَيْرِ مُشَارِكٍ لَهُ فِي ذَلِكَ { مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } وَمَعَ ذَلِكَ فَلَهُ عَوَائِدُ فِي مُلْكِهِ رَتَّبَهَا بِحِكْمَتِهِ فَمُقْتَضَى شُمُولِ قُدْرَتِهِ انْقِطَاعُ الْقَلْبِ عَنْ غَيْرِهِ وَمُقْتَضَى سُلُوكُ أَدَبِهِ الْتِمَاسُ فَضْلِهِ مِنْ عَوَائِدِهِ .
وَقَدْ انْقَسَمَ الْخَلْقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ عَامَلُوا اللَّهَ تَعَالَى بِمُقْتَضَى شُمُولِ قُدْرَتِهِ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَحَصَلُوا عَلَى حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ وَأَعْرَضُوا عَنْ الْأَسْبَابِ فَفَاتَهُمْ الْأَدَبُ الْوَاجِبُ الِاتِّبَاعِ .
وَقِسْمٌ لَاحَظُوا الْأَسْبَابَ وَاسْتَوْلَتْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَحَجَبَتْهُمْ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَهَؤُلَاءِ فَاتَهُمْ التَّوَكُّلُ وَالْأَدَبُ وَهَذَا هُوَ الْمَهْيَعُ الْعَامُّ الَّذِي هَلَكَ فِيهِ أَكْثَرُ الْخَلَائِقِ ، وَقِسْمٌ عَامَلُوا اللَّهَ تَعَالَى بِمُقْتَضَى شُمُولِ قُدْرَتِهِ وَعَوَائِدِهِ فِي مَمْلَكَتِهِ فَهَؤُلَاءِ جَامِعُونَ بَيْنَ التَّوَكُّلِ وَالْأَدَبِ وَهَذَا مَقَامُ الْأَنْبِيَاءِ وَخَوَاصِّ الْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْأَصْفِيَاءِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ قَلِيلَ الْأَدَبِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْعَمَلِ وَلِذَلِكَ هَلَكَ إبْلِيسُ وَضَاعَ أَكْثَرُ عَمَلِهِ بِقِلَّةِ أَدَبِهِ فَنَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَقَالَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ اجْعَلْ عَمَلَك مِلْحًا وَأَدَبَك دَقِيقًا أَيْ لِيَكُنْ اسْتِكْثَارُك مِنْ الْأَدَبِ أَكْثَرَ مِنْ اسْتِكْثَارِك مِنْ الْعَمَلِ لِكَثْرَةِ جَدْوَاهُ وَنَفَاسَةِ مَعْنَاهُ وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ طَلَبِ خَرْقِ الْعَوَائِدِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } أَيْ لَا تَرْكَبُوا الْأَخْطَارَ الَّتِي دَلَّتْ الْعَادَةُ عَلَى أَنَّهَا مُهْلِكَةٌ وقَوْله

تَعَالَى { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } أَيْ الْوَاقِيَةُ لَكُمْ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى السُّؤَالِ وَالسَّرِقَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَافِرُونَ إلَى الْجِهَادِ وَالْحَجِّ بِغَيْرِ زَادٍ فَرُبَّمَا وَقَعَ بَعْضُهُمْ فِي إحْدَى الْمَفْسَدَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِالْتِزَامِ الْعَوَائِدِ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ تَرْكَهَا فَإِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مَنْهِيٌّ عَنْ ضِدِّهِ بَلْ أَضْدَادِهِ .
وَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِهِمْ إنْ كُنْت مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ وَمُعْتَمِدًا عَلَيْهِ وَوَاثِقًا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فَأَلْقِ نَفْسَك مِنْ هَذَا الْحَائِطِ فَإِنَّهُ لَا يُصِيبُك إلَّا مَا قُدِّرَ لَك فَقَالَ إنَّ اللَّهَ خَلَقَ عِبَادَهُ لِيُجَرِّبَهُمْ وَيَمْتَحِنَهُمْ لَا لِيُجَرِّبُوهُ وَيَمْتَحِنُوهُ إشَارَةً إلَى سُلُوكِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَهْلِ الْأَدَبِ مَعَهُ وَمَعَ عِبَادِهِ حَتَّى نَلْقَاهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ

قَالَ ( الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَا يَكُون كُفْرًا أَنْ يَسْأَلَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الْمُسْتَحِيلَاتِ الْعَادِيَّةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا فَإِنَّ عَادَةَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرْقُ الْعَادَةِ فَيَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ كَمَا سَأَلُوا نُزُولَ الْمَائِدَةِ مِنْ السَّمَاءِ وَخُرُوجَ النَّاقَةِ مِنْ الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ أَوْ يَكُونَ وَلِيًّا لَهُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى عَادَةً بِذَلِكَ فَهُوَ جَارٍ عَلَى عَادَتِهِ فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ قِلَّةُ أَدَبٍ أَوْ لَا يَكُونُ وَلِيًّا وَيَسْأَلُ خَرْقَ الْعَادَةِ وَيَكُونُ مَعْنَى سُؤَالِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ وَلِيًّا مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ خَرْقَ الْعَادَةِ فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ لَيْسَتْ حَرَامًا ) قُلْت إجَازَةُ دُعَاءِ مَنْ لَيْسَ بِوَلِيٍّ بِخَرْقِ الْعَادَةِ إجَازَةٌ لِلدُّعَاءِ بِخَرْقِ الْعَادَةِ فَكُلُّ مَا أَنْكَرَهُ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ أَجَازَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ وَإِذَا أَجَازَهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ فَقَدْ أَجَازَهُ عَلَى الْجُمْلَةِ فَلَا يَصِحُّ لَهُ مَنْعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ .
قَالَ ( وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فَلَهُ أَمْثِلَةٌ الْأَوَّلُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ التَّنَفُّسِ فِي الْهَوَاءِ لِيَأْمَنَ الِاخْتِنَاقَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَقَدْ دَلَّتْ الْعَادَةُ عَلَى اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ ) قُلْت قَدْ أَجَازَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْقَصْدِ لِطَلَبِ الْوِلَايَةِ وَحُكْمُهُ بِأَنَّهُ إسَاءَةُ أَدَبٍ دَعْوًى عَرِيَّةٌ عَنْ الْحُجَّةِ وَتَكْثِيرُهُ الْأَمْثِلَةَ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ قَوْلُ الدَّاعِي اللَّهُمَّ لَا تَرْمِ بِنَا فِي شِدَّةٍ فَإِنَّ عَادَةَ اللَّهِ جَارِيَةٌ قَطْعًا بِوُقُوعِ بَعْضِ الْأَنْفُسِ فِي الشَّدَائِدِ بَلْ لَا تَكَادُ نَفْسٌ تَسْلَمُ مِنْ شِدَّةٍ فِي مُدَّةِ حَيَاتِهَا ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الدَّاعِي خَرَقَ اللَّهُ الْعَادَةَ فِي بَقَائِك وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْعُرْفِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهُمَّ أَعْطِنَا خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاصْرِفْ عَنَّا شَرَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ

يَحْصُلَ هَذَا الْمَدْعُوُّ بِهِ لِهَذَا الدَّاعِي ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ بِهَذَا الْعُمُومِ الْخُصُوصَ إذْ لَا بُدَّ أَنْ يَفُوتَ هَذَا الدَّاعِيَ رُتْبَةُ النُّبُوَّةِ وَمَرْتَبَةُ الْمَلَائِكَةِ وَدَرَجَاتُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْجَنَّةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُدْرِكَهُ بَعْضُ الشُّرُورِ وَلَوْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَوَحْشَةَ الْقَبْرِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ بِهَذَا الْعُمُومِ الْخُصُوصَ وَقِسْ عَلَى هَذَا نَظَائِرَهَا ) قُلْت لَيْسَ كَوْنُ هَذِهِ الْأُمُورِ وَاقِعَةً عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ بِمُوجِبٍ أَنْ لَا تُطْلَبَ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ تُطْلَبَ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ وَغَايَتُهُ أَنْ نَقُولَ طَلَبُ مِثْلِ ذَلِكَ طَلَبٌ لِلْمُمْتَنِعِ عَادَةً عَلَى مَعْنَى أَنْ يَقْصِدَ الطَّالِبُ بِطَلَبِهِ أَنْ يَصِيرَ وَلِيًّا فَتُخْرَقَ لَهُ الْعَادَةُ فَقَدْ جَوَّزَ مَا مُنِعَ .
قَالَ ( بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَفْهَمَ عَوَائِدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَصَرُّفَاتِهِ فِي خَلْقِهِ وَرَبْطِهِ الْمُسَبَّبَاتِ بِالْأَسْبَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعَ إمْكَانِ صُدُورِهَا عَنْ قُدْرَتِهِ بِغَيْرِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ أَوْ بِغَيْرِ سَبَبٍ أَلْبَتَّةَ بَلْ رَتَّبَ اللَّهُ تَعَالَى مَمْلَكَتَهُ عَلَى نِظَامٍ دَبَّرَهُ وَوَضَعَهَا عَلَى قَانُونٍ قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ فَإِذَا سَأَلَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى تَغْيِيرَ مَمْلَكَتِهِ وَنَقْضَ نِظَامِهِ وَسُلُوكَ غَيْرِ عَوَائِدِهِ فِي مُلْكِهِ كَانَ مُسِيئًا الْأَدَبَ عَلَيْهِ بَلْ ذَلِكَ سُوءُ أَدَبٍ عَلَى أَدْنَى الْمُلُوكِ بَلْ الْوُلَاةِ ) قُلْت لَمْ يَأْتِ عَلَى دَعْوَاهُ بِحُجَّةٍ ، وَمَا قَالَ إنَّهُ سُوءُ أَدَبٍ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ طَلَبُ خَرْقِ الْعَادَةِ هُوَ عَيْنُ مَا جَوَّزَهُ لِلدَّاعِي عَلَى قَصْدِ أَنْ يَصِيرَ وَلِيًّا وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ مَا مَنَعَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ لَمْ يَأْتِ عَلَى مَنْعِهِ بِحُجَّةٍ أَصْلًا إلَّا مَا أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْمُلُوكِ وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ لَا شَكَّ فِي فَسَادِهِ .
قَالَ ( وَلِذَلِكَ عَابَ الْعُلَمَاءُ وَغَلَّطُوا جَمَاعَةً مِنْ الْعُبَّادِ حَيْثُ تَوَسَّطُوا الْقِفَارَ

بِغَيْرِ زَادٍ وَلَجَّجُوا فِي الْبِحَارِ فِي زَمَنِ الْهَوْلِ فِي غَيْرِ الزَّمَنِ الْمُعْتَادِ طَالِبِينَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى خَرْقَ عَوَائِدِهِ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ سَائِرُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ ذَاهِبِينَ عَنْهُ ظَانِّينَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ هِيَ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ وَأَنَّ مَا عَدَاهَا يُنَافِي الِاعْتِمَادَ عَلَى الرَّبِّ ، وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ فَقَدْ دَخَلَ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ مَحْفُوفًا بِالْخَيْلِ وَالرَّجْلِ وَالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ مُظَاهِرًا بَيْنَ دِرْعَيْنِ عَلَى رَأْسِهِ مِغْفَرٌ مِنْ حَدِيدٍ ، وَقَالَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ مَنْ يَعْصِمُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَكَانَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ عِنْدَ غَايَةِ كَمَالِهِ مَعَ رَبِّهِ مُدَّخِرًا لِعِيَالِهِ قُوتَ سَنَةٍ وَهُوَ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ ) قُلْت تَغْلِيطُ مَنْ غَلَّطَ مِنْ الْعُلَمَاءِ جَمَاعَةَ الْعُبَّادِ فِيمَا ذَكَرَهُ غَلَطٌ مِنْ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى إسَاءَتِهِمْ الظَّنَّ بِأُولَئِكَ الْعُبَّادِ ، وَإِسَاءَةُ الظَّنِّ بِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا فَكَيْفَ بِالْعُبَّادِ مِنْهُمْ وَالْعُبَّادُ وَاَلَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ تَعَوَّدَ خَرْقَ الْعَادَةِ لَهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَعَوَّدْ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَلَا عَيْبَ عَلَيْهِمْ .
وَإِنْ كَانُوا مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ أَحْوَالٌ لَا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَهَا أَوْ مِمَّنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِمْ أَحْوَالٌ كَذَلِكَ ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَلَا عَيْبَ عَلَيْهِمْ لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِمْ دَفْعَ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي يَكُونُونَ مُرْتَكِبِينَ لِمَمْنُوعٍ فَيَلْحَقُهُمْ الْعَيْبُ فَمَا بَالُ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ حَكَمُوا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ هَذَا الْأَخِيرِ دُونَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، وَالثَّانِي أَلَيْسَ ذَلِكَ إسَاءَةَ ظَنٍّ فِي مَوْطِنٍ يُمْكِنُ فِيهِ

تَحْسِينُهُ وَلَمْ يُسَأْ بِهِمْ الظَّنُّ فَيُظَنُّ أَنَّهُمْ ظَانُّونَ أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ بَلْ الظَّنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ التَّوَكُّلِ وَأَنَّهُ كَمَا لَا يُنَافِي التَّسَبُّبَ لَا يُنَافِي أَيْضًا عَدَمَ التَّسَبُّبِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ التَّسَبُّبِ إذْ مَسَاقُ كَلَامِهِ يَقْتَضِي أَنَّ التَّوَكُّلَ مَعَ التَّسَبُّبِ يَصِحُّ وَمَعَ عَدَمِ التَّسَبُّبِ يَصِحُّ ، وَمَا عَدَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى التَّوَكُّلِ إلَّا لِأَنَّهُ الْمُعَلِّمُ الْمُقْتَدَى بِهِ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْخَوَاصِّ وَالْجُمْهُورِ فَلَمَّا تَطْمَئِنُّ نُفُوسُهُمْ إلَّا مَعَ التَّسَبُّبِ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ وَارِدَةٌ عَلَى الْغَالِبِ لَا عَلَى النَّادِرِ .
مَعَ أَنَّهُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ التَّوَكُّلَ وَإِنْ صَحَّ مَعَ التَّسَبُّبِ وَعَدَمِهِ فَالتَّوَكُّلُ مَعَ التَّسَبُّبِ رَاجِحٌ فِي حَقِّهِ لِلْحَاجَةِ لِتَعْلِيمِ الْجُمْهُورِ كَمَا سَبَقَ ، وَلِأَمْنِهِ مِنْ شَائِبَةِ مُرَاعَاةِ الْأَسْبَابِ لِعِصْمَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالتَّوَكُّلُ مَعَ عَدَمِ التَّسَبُّبِ رَاجِحٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِعَدَمِ أَمْنِهِ مِنْ شَائِبَةِ مُرَاعَاةِ الْأَسْبَابِ لِعَدَمِ عِصْمَتِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَتَحْقِيقُ هَذَا الْبَابِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ التَّوَكُّلَ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَطْلُبُهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ يَكْرَهُهُ مِنْ ضَيْرٍ لِأَجْلِ أَنَّهُ الْمُسْتَوْلِي بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ عَلَى سَائِرِ الْكَائِنَاتِ مِنْ غَيْرِ مُشَارِكٍ لَهُ فِي ذَلِكَ { مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ، وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ لَا رَيْبَ فِيهِ .
قَالَ ( وَمَعَ ذَلِكَ فَلَهُ عَوَائِدُ فِي مُلْكِهِ رَتَّبَهَا بِحِكْمَتِهِ فَمُقْتَضَى شُمُولِ قُدْرَتِهِ انْقِطَاعُ الْقَلْبِ عَنْ غَيْرِهِ وَمُقْتَضَى سُلُوكِ أَدَبِهِ الْتِمَاسُ فَضْلِهِ

مِنْ عَوَائِدِهِ ، ثُمَّ قَالَ قِسْمٌ عَامَلُوا اللَّهَ تَعَالَى بِمُقْتَضَى شُمُولِ قُدْرَتِهِ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَحَصَلُوا عَلَى حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ وَأَعْرَضُوا عَنْ الْأَسْبَابِ فَفَاتَهُمْ الْأَدَبُ الْوَاجِبُ الِاتِّبَاعِ ) .
قُلْت قَدْ اعْتَرَفَ هُنَا بِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّوَكُّلِ الْمُعَامَلَةُ بِمُقْتَضَى شُمُولِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْأَسْبَابِ وَهُوَ عَيْنُ مَا عَابَ عَلَى الْعُبَّادِ حَيْثُ قَالَ ظَانِّينَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ هِيَ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ فَقَوْلُهُ هُنَا مُنَاقِضٌ بِظَاهِرِهِ لِذَلِكَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَنَّ التَّوْكِيلَ يَصِحُّ مَعَ التَّسَبُّبِ وَمَعَ عَدَمِ التَّسَبُّبِ وَأَنَّ الرُّسُلَ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ يَتَرَجَّحُ فِي حَقِّهِمْ التَّوَكُّلُ مَعَ التَّسَبُّبِ لِضَرُورَةِ اقْتِدَاءِ الْجُمْهُورِ بِهِمْ مَعَ مَا تَخْتَصُّ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْعِصْمَةِ وَأَنَّ مَنْ عَدَاهُمْ مِمَّنْ لَيْسَ مُقْتَضَيَا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ يَتَرَجَّحُ فِي حَقِّهِ التَّوَكُّلُ مَعَ عَدَمِ التَّسَبُّبِ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ شَائِبَةِ مُرَاعَاةِ الْأَسْبَابِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَاعْلَمْ أَنَّ قَلِيلَ الْأَدَبِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْعَمَلِ وَلِذَلِكَ هَلَكَ إبْلِيسُ وَضَاعَ أَكْثَرُ عَمَلِهِ بِقِلَّةِ أَدَبِهِ فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَقَالَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ لِابْنِهِ اجْعَلْ عَمَلَك مِلْحًا وَأَدَبَك دَقِيقًا أَيْ لِيَكُنْ اسْتِكْثَارُك مِنْ الْأَدَبِ أَكْثَرَ مِنْ اسْتِكْثَارِك مِنْ الْعَمَلِ لِكَثْرَةِ جَدْوَاهُ وَنَفَاسَةِ مَعْنَاهُ ) قُلْت مُسَلَّمٌ أَنَّ قِلَّةَ الْأَدَبِ مَمْنُوعَةٌ وَلَكِنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَدْعِيَةِ مِنْ جُمْلَةِ قِلَّةِ الْأَدَبِ .
قَالَ ( وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ طَلَبِ خَرْقِ الْعَوَائِدِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } أَيْ لَا تَرْكَبُوا الْأَخْطَارَ الَّتِي دَلَّتْ الْعَادَةُ عَلَى أَنَّهَا مُهْلِكَةٌ وقَوْله تَعَالَى { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } أَيْ

الْوَاقِيَةُ لَكُمْ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى السُّؤَالِ وَالسَّرِقَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَافِرُونَ إلَى الْجِهَادِ وَالْحَجِّ بِغَيْرِ زَادٍ فَرُبَّمَا وَقَعَ بَعْضُهُمْ فِي إحْدَى الْمَفْسَدَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ بِالْتِزَامِ الْعَوَائِدِ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ تَرْكَهَا فَإِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مَنْهِيٌّ عَنْ ضِدِّهِ بَلْ أَضْدَادِهِ .
وَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِهِمْ إنْ كُنْت مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ وَمُعْتَمِدًا عَلَيْهِ وَوَاثِقًا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فَأَلْقِ نَفْسَك مِنْ هَذَا الْحَائِطِ فَإِنَّهُ لَا يُصِيبُك إلَّا مَا قُدِّرَ لَك فَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ عِبَادَهُ لِيُجَرِّبَهُمْ وَيَمْتَحِنَهُمْ لَا لِيُجَرِّبُوهُ وَيَمْتَحِنُوهُ إشَارَةً إلَى سُلُوكِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَهْلِ الْأَدَبِ مَعَ وَمِنْ عِبَادِهِ حَتَّى نَلْقَاهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ ) وَقُلْت كُلُّ مَا ذَكَرَهُ مُحْتَجًّا بِهِ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَقْصُودُهُ فَإِنَّ كُلَّ مَا ذَكَرَهُ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ طَلَبِ الْمُسْتَحِيلِ ، وَإِنَّمَا فِيهِ الْمَنْعُ مِنْ ارْتِكَابِ الْعَمَلِ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ وَالْعَمَلُ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ مُغَايِرٌ لِطَلَبِ خَرْقِهَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْمَنْعِ مِنْ أَحَدِهِمَا الْمَنْعُ مِنْ الْآخَرِ .

( وَالْقِسْمُ الثَّانِي ) أَنْ يَسْأَلَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الْمُسْتَحِيلَاتِ الْعَادِيَّةَ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا كَمَا قَالَ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ التَّنَفُّسِ فِي الْهَوَاءِ لِيَأْمَنَ الِاخْتِنَاقَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ الْعَافِيَةَ مِنْ الْمَرَضِ أَبَدَ الدَّهْرِ لِيَنْتَفِعَ بِقُوَاهُ وَحَوَاسِّهِ وَأَعْضَائِهِ أَبَدَ الدَّهْرِ أَوْ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى الْوَلَدَ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ الثِّمَارَ مِنْ غَيْرِ أَشْجَارٍ وَغِرَاسٍ ، أَوْ يَقُولَ اللَّهُمَّ لَا تَرْمِ بِنَا فِي شِدَّةٍ أَوْ أَعْطِنَا خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاصْرِفْ عَنَّا شَرَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى عُمُومِهِ إذْ لَا بُدَّ أَنْ يَفُوتَهُ رُتْبَةُ النُّبُوَّةِ وَمَرْتَبَةُ الْمَلَائِكَةِ وَدَرَجَاتُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا بُدَّ أَنْ يُدْرِكَهُ بَعْضُ الشُّرُورِ وَلَوْ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ وَوَحْشَةُ الْقَبْرِ ، وَمِنْهَا كَمَالٌ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ دَوَامَ إصَابَةِ كَلَامِهِ مِنْ الْحِكَمِ الدَّقِيقَةِ وَالْعُلُومِ الشَّرِيفَةِ أَبَدَ الدَّهْرِ لِيَفْتَخِرَ بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ الْفُضَلَاءِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ .
قَالَ الْأَصْلُ وَقِسْ عَلَى هَذِهِ نَظَائِرَهَا بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَفْهَمَ عَوَائِدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ وَرَبْطِهِ الْمُسَبَّبَاتِ بِالْأَسْبَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعَ إمْكَانِ صُدُورِهَا عَنْ قُدْرَتِهِ بِغَيْرِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ أَوْ بِغَيْرِ سَبَبٍ أَلْبَتَّةَ بَلْ رَتَّبَ اللَّهُ تَعَالَى مَمْلَكَتَهُ عَلَى نِظَامٍ دَبَّرَهُ وَوَضَعَهَا عَلَى قَانُونٍ قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ، وَإِذَا سَأَلَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى تَغْيِيرَ مَمْلَكَتِهِ وَنَقْضَ نِظَامِهِ وَسُلُوكَ غَيْرِ عَوَائِدِهِ فِي مُلْكِهِ كَانَ مُسِيئًا الْأَدَبَ عَلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ بَلْ ذَلِكَ سُوءُ أَدَبٍ عَلَى أَدْنَى الْمُلُوكِ بَلْ الْوُلَاةِ .
قَالَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ لَهُ مِنْ الْإِجْلَالِ فَوْقَ مَا يَجِبُ لِخَلْقِهِ فَمَا نَافَى إجْلَالَ خَلْفِهِ

أَوْلَى أَنْ يُنَافِيَ فِي جَلَالِهِ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ بَلْ قَدْ عَابَ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ خَلْقِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } أَيْ مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك } أَيْ ثَنَاؤُك الْمُسْتَحَقُّ ثَنَاؤُك عَلَى نَفْسِك أَمَّا ثَنَاءُ الْخَلْقِ فَلَا لِأَنَّهُ دُونَ الْمُسْتَحَقِّ قَالَ وَلِذَلِكَ عَابَ الْعُلَمَاءُ وَغَلَّطُوا جَمَاعَةً مِنْ الْعُبَّادِ حَيْثُ تَوَسَّطُوا الْقِفَارَ مِنْ غَيْرِ زَادٍ وَلَجَّجُوا فِي الْبِحَارِ فِي زَمَنِ الْهَوْلِ أَوْ فِي غَيْرِ الزَّمَنِ الْمُعْتَادِ طَالِبِينَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى خَرْقَ عَوَائِدِهِ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ سَائِرُونَ إلَى اللَّهِ وَهُمْ ذَاهِبُونَ عَنْهُ ظَانِّينَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ هِيَ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ وَأَنَّ مَا عَدَاهَا يُنَافِي الِاعْتِمَادَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ فَقَدْ دَخَلَ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مَكَّةَ مَخْفُوقًا بِالْخَيْلِ وَالرَّجْلِ وَالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ مُظَاهِرًا بَيْنَ دِرْعَيْنِ وَعَلَى رَأْسِهِ مِغْفَرٌ مِنْ حَدِيدٍ ، وَقَالَ أَوَّلَ أَمْرِهِ مَنْ يَعْصِمُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَكَانَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ عِنْدَ أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ مَعَ رَبِّهِ يَدَّخِرُ لِعِيَالِهِ قُوتَ سَنَةٍ وَهُوَ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ .
وَتَحْقِيقُ هَذَا الْبَابِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ التَّوَكُّلَ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَطْلُبُهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ يَكْرَهُهُ مِنْ ضَيْرٍ لِأَجْلِ أَنَّهُ الْمُسْتَوْلِي بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ عَلَى سَائِرِ الْكَائِنَاتِ مِنْ غَيْرِ مُشَارِكٍ لَهُ فِي ذَلِكَ { مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } وَمَعَ ذَلِكَ فَلَهُ عَوَائِدُ فِي مُلْكِهِ رَتَّبَهَا بِحِكْمَةٍ ، فَمُقْتَضَى شُمُولِ قُدْرَتِهِ انْقِطَاعُ الْقَلْبِ عَنْ غَيْرِهِ وَمُقْتَضَى سُلُوكِ أَدَبِهِ الْتِمَاسُ فَضْلِهِ

مِنْ عَوَائِدِهِ ، وَقَدْ انْقَسَمَ الْخَلْقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ عَامَلُوا اللَّهَ تَعَالَى بِمُقْتَضَى شُمُولِ قُدْرَتِهِ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَحَصَلُوا عَلَى حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ وَأَعْرَضُوا عَنْ الْأَسْبَابِ فَفَاتَهُمْ الْأَدَبُ الْوَاجِبُ الِاتِّبَاعِ وَقِسْمٌ لَاحَظُوا الْأَسْبَابَ وَاسْتَوْلَتْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَحَجَبَتْهُمْ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَهَؤُلَاءِ فَاتَهُمْ التَّوَكُّلُ وَالْأَدَبُ وَهَذَا هُوَ الْمَهْيَعُ الْعَامُّ الَّذِي هَلَكَ فِيهِ أَكْثَرُ الْخَلَائِقِ ، وَقِسْمٌ عَامَلُوا اللَّهَ تَعَالَى بِمُقْتَضَى شُمُولِ قُدْرَتِهِ وَعَوَائِدِهِ فِي مَمْلَكَتِهِ فَهَؤُلَاءِ جَامِعُونَ بَيْنَ التَّوَكُّلِ وَالْأَدَبِ وَهَذَا مَقَامُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ خَوَاصِّ الْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْأَصْفِيَاءِ وَمَا ذَلِكَ إلَّا أَنَّ قَلِيلَ الْأَدَبِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْعَمَلِ وَلِذَلِكَ هَلَكَ إبْلِيسُ وَضَاعَ أَكْثَرُ عَمَلِهِ بِقِلَّةِ أَدَبِهِ فَنَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَقَالَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ اجْعَلْ عَمَلَك مِلْحًا وَأَدَبَك دَقِيقًا ، أَيْ لِيَكُنْ اسْتِكْثَارُك مِنْ الْأَدَبِ أَكْثَرَ مِنْ اسْتِكْثَارِك مِنْ الْعَمَلِ لِكَثْرَةِ جَدْوَاهُ وَنَفَاسَةِ مَعْنَاهُ وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ طَلَبِ خَرْقِ الْعَوَائِدِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } أَيْ لَا تَرْكَبُوا الْأَخْطَارَ الَّتِي دَلَّتْ الْعَادَةُ عَلَى أَنَّهَا مُهْلِكَةٌ وقَوْله تَعَالَى { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } أَيْ الْوَاقِيَةُ لَكُمْ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى السُّؤَالِ وَالسَّرِقَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَافِرُونَ إلَى الْجِهَادِ وَالْحَجِّ بِغَيْرِ زَادٍ فَرُبَّمَا وَقَعَ بَعْضُهُمْ فِي إحْدَى الْمَفْسَدَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ السُّؤَالِ وَالسَّرِقَةِ فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِالْتِزَامِ الْعَوَائِدِ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ تَرْكَهَا فَإِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مَنْهِيٌّ عَنْ ضِدِّهِ بَلْ إضْدَادِهِ ، وَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِهِمْ إنْ كُنْت مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ وَمُعْتَمِدًا عَلَيْهِ وَوَاثِقًا بِقَضَائِهِ

وَقَدَرِهِ فَأَلْقِ نَفْسَك مِنْ هَذَا الْحَائِطِ فَإِنَّهُ لَا يُصِيبُك إلَّا مَا قُدِّرَ لَك فَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ عِبَادَهُ لِيُجَرِّبَهُمْ وَيَمْتَحِنَهُمْ لَا لِيُجَرِّبُوهُ وَيَمْتَحِنُوهُ إشَارَةً إلَى سُلُوكِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَهْلِ الْأَدَبِ مَعَهُ وَمَعَ عِبَادِهِ حَتَّى نَلْقَاهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .
نَعَمْ يَجُوزُ طَلَبُ خَرْقِ الْعَادَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِلْأَنْبِيَاءِ ؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرْقَهَا ، وَكَذَلِكَ لِمَنْ لَهُ عَادَةٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى بِخِرَقِهَا مِنْ الْأَوْلِيَاءِ لِجَرَيَانِهِ عَلَى عَادَتِهِ فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ قِلَّةُ أَدَبٍ ، وَكَذَلِكَ لِمَنْ لَا يَكُونُ وَلِيًّا حَيْثُ أَرَادَ بِسُؤَالِهِ خَرْقَهَا أَنْ يَجْعَلَهُ وَلِيًّا مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ خَرْقَ الْعَادَةِ .
فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ لَيْسَتْ حَرَامًا انْتَهَى .
وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الشَّاطِّ بِأَنَّ دَعْوَاهُ أَنَّ طَلَبَ خَرْقِ الْعَوَائِدِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إسَاءَةُ أَدَبٍ عَرِيَّةٌ عَنْ الْحُجَّةِ إلَّا مَا أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْمُلُوكِ وَهُوَ قِيَاسٌ لَا شَكَّ فِي فَسَادِهِ وَالْعَيْبُ وَالذَّمُّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { وَمَا قَدَرُوا اللَّهُ حَقَّ قَدْرِهِ } الْآيَةَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً الْحَدِيثَ لَا يَلْحَقُ الْبَشَرَ إلَّا إنْ كَانَ الثَّنَاءُ اللَّائِقُ بِجَلَالِهِ تَعَالَى مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ اكْتِسَابِهِمْ ثُمَّ قَصَّرُوا فِيهِ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ فَلَا يَلْحَقُهُمْ ذَمٌّ { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } قَالَ وَتَغْلِيطُ مَنْ غَلَّطَ مِنْ الْعُلَمَاءِ جَمَاعَةَ الْعُبَّادِ فِيمَا ذَكَرَهُ غَلَطٌ مِنْ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى إسَاءَتِهِمْ الظَّنَّ بِأُولَئِكَ الْعُبَّادِ وَإِسَاءَةُ الظَّنِّ بِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا فَكَيْفَ بِالْعُبَّادِ مِنْهُمْ ؟ وَذَلِكَ أَنَّ الْعُبَّادَ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونُوا

مِمَّنْ تَعَوَّدَ خَرْقَ الْعَادَةِ لَهُ فَلَا عَيْبَ عَلَيْهِمْ أَوْ مِمَّنْ لَمْ يَتَعَوَّدْ ذَلِكَ فَلَا عَيْبَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا إنْ كَانُوا مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ أَحْوَالٌ لَا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَهَا وَإِلَّا لَحِقَهُمْ الْعَيْبُ لِارْتِكَابِهِمْ حِينَئِذٍ لِمَمْنُوعٍ فَمَا بَالُ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ حَكَمُوا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ هَذَا الْأَخِيرِ دُونَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَلَيْسَ ذَلِكَ إسَاءَةَ ظَنٍّ فِي مَوْطِنٍ يُمْكِنُ فِيهِ تَحْسِينُهُ وَعَدَمُ إسَاءَتِهِ فَيُظَنُّ أَنَّهُمْ ظَانُّونَ أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ بَلْ الظَّنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ التَّوَكُّلِ وَأَنَّهُ كَمَا لَا يُنَافِي التَّسَبُّبَ كَذَلِكَ لَا يُنَافِي عَدَمَ التَّسَبُّبِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ التَّسَبُّبِ إذْ مَسَاقُ كَلَامِهِ يَقْتَضِي أَنَّ التَّوَكُّلَ يَصِحُّ مَعَ التَّسَبُّبِ وَمَعَ عَدَمِهِ ، وَمَا عَدَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى التَّوَكُّلِ مَعَ التَّسَبُّبِ إلَّا لِأَنَّهُ الْمُعَلِّمُ الْمُقْتَدَى بِهِ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْخَوَاصِّ بَلْ يَعُمُّهُمْ وَغَيْرَهُمْ ، وَالْجُمْهُورُ قَلَّمَا تَطْمَئِنُّ نُفُوسُهُمْ إلَّا مَعَ التَّسَبُّبِ .
ا هـ .
قَالَ الْغَزَالِيُّ وَلَقَدْ سَمِعْت أَبَا الْمَعَالِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إنَّ مَنْ جَرَى مَعَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَادَةِ النَّاسِ جَرَى اللَّهُ مَعَهُ عَلَى مَا هُوَ عَادَةُ النَّاسِ فِي كِفَايَةِ الْمُؤْنَةِ وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ جِدًّا وَفِيهِ فَوَائِدُ جَمَّةٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهَا ا هـ بِلَفْظِهِ قُلْت يَعْنِي أَنَّ مَنْ جَرَى مَعَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ كِفَايَةَ الْمُؤْنَةِ بِالسَّبَبِ جَرَى اللَّهُ مَعَهُ عَلَى الْكِفَايَةِ بِالسَّبَبِ وَمَنْ جَرَى مَعَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ كِفَايَتَهَا بِدُونِ السَّبَبِ جَرَى اللَّهُ مَعَهُ عَلَى الْكِفَايَةِ بِدُونِ السَّبَبِ .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ وَارِدَةٌ عَلَى الْغَالِبِ لَا عَلَى النَّادِرِ مَعَ

أَنَّهُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ التَّوَكُّلَ ، وَإِنْ صَحَّ مَعَ التَّسَبُّبِ وَعَدَمِهِ فَالتَّوَكُّلُ مَعَ التَّسَبُّبِ رَاجِحٌ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَاجَةِ لِتَعْلِيمِ الْجُمْهُورِ كَمَا سَبَقَ وَلَا مِنْهُ مِنْ شَائِبَةِ مُرَاعَاةِ الْأَسْبَابِ لِعِصْمَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّوَكُّلُ مَعَ عَدَمِ التَّسَبُّبِ رَاجِحٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِعَدَمِ أَمْنِهِ مِنْ شَائِبَةِ مُرَاعَاةِ الْأَسْبَابِ لِعَدَمِ عِصْمَتِهِ ا هـ ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ مِنْهَاجُ الْعَابِدِينَ إنَّ أَخْذَ الزَّادِ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ لِمُقْتَدًى بِهِ يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ أَخْذَ الزَّادِ مُبَاحٌ أَوْ يَنْوِيَ بِهِ عَوْنَ مُسْلِمٍ أَوْ إغَاثَةَ مَلْهُوفٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ مِنْ أَخْذِهِ لِمَنْ كَانَ مُنْفَرِدًا قَوِيَّ الْقَلْبِ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِشَغْلِهِ بِالزَّادِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ فَالشَّأْنُ إذًا فِي الْقَلْبِ لَا فِي حَمْلِ الزَّادِ وَتَرْكِهِ ، فَكَمْ مِنْ حَامِلٍ لِلزَّادِ وَقَلْبُهُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الزَّادِ يَقُولُ الرِّزْقُ مَقْسُومٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى إنْ شَاءَ أَقَامَ بِنْيَتِي بِهَذَا أَوْ بِغَيْرِهِ أَوْ يَنْوِيَ بِحَمْلِهِ أَنْ يُعِينَ بِهِ مُسْلِمًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَكَمْ مِنْ تَارِكٍ لِلزَّادِ وَقَلْبُهُ مَعَ الزَّادِ دُونَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ فَحَمْلُ الزَّادِ مُبَاحٌ غَيْرُ حَرَامٍ لِوُقُوعِهِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَذَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ ، وَإِنَّمَا الْحَرَامُ تَعْلِيقُ الْقَلْبِ بِالزَّادِ وَتَرْكُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَافْهَمْ ذَلِكَ ثُمَّ مَا ظَنُّك بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } أَعَصَاهُ فِي ذَلِكَ وَعَلَّقَ قَلْبَهُ بِطَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ دِرْهَمٍ أَوْ دِينَارٍ ؟ كَلًّا وَحَاشَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَلْ كَانَ قَلْبُهُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوَكُّلُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا أَمَرَهُ فَإِنَّهُ

الَّذِي لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا وَلَمْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَى مَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ كُلِّهَا ، وَإِنَّمَا كَانَ أَخْذُ الزَّادِ مِنْهُ وَمِنْ السَّلَفِ الصَّالِح بِنِيَّاتِ الْخَيْرِ لَا لِمَيْلِ قُلُوبِهِمْ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَى الزَّادِ وَالْمُعْتَبَرُ الْقَصْدُ عَلَى مَا أَعْلَمْنَاك فَافْهَمْ وَانْتَبِهْ ا هـ بِتَصَرُّفٍ .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ بَيَانِ حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ وَالْأَدَبِ اعْتَرَفَ بِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّوَكُّلِ الْمُعَامَلَةُ بِمُقْتَضَى شُمُولِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْأَسْبَابِ وَهُوَ عَيْنُ مَا عَابَ عَلَى الْعُبَّادِ حَيْثُ قَالَ ظَانِّينَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ هِيَ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ فَقَوْلُهُ هُنَا مُنَاقِضٌ لِظَاهِرِهِ لِذَلِكَ ، وَقَوْلُهُ إنَّ قِلَّةَ الْأَدَبِ مَمْنُوعَةٌ مُسَلَّمٌ وَلَكِنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَدْعِيَةِ مِنْ جُمْلَةِ قِلَّةِ الْأَدَبِ وقَوْله تَعَالَى { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } وقَوْله تَعَالَى { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } لَيْسَ فِيهِمَا دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ طَلَبِ الْمُسْتَحِيلِ ، وَإِنَّمَا دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ ارْتِكَابِ الْعَمَلِ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ ، وَالْعَمَلُ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ مُغَايِرٌ لِطَلَبِ خَرْقِهَا إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْمَنْعِ مِنْ أَحَدِهِمَا الْمَنْعُ مِنْ الْآخَرِ ا هـ قُلْت عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ الْغَزَالِيَّ قَالَ فِي الْمِنْهَاجِ إنَّ فِي قَوْله تَعَالَى { وَتَزَوَّدُوا } إلَخْ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ زَادُ الْآخِرَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ { خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } وَلَمْ يَقُلْ حُطَامَ الدُّنْيَا وَأَسْبَابَهَا ، وَالثَّانِي أَنَّهُ كَانَ قَوْمٌ لَا يَأْخُذُونَ زَادًا فِي طَرِيقِ الْحَجِّ لِأَنْفُسِهِمْ اتِّكَالًا عَلَى النَّاسِ وَيَسْأَلُونَ النَّاسَ وَيَشْكُونَ وَيُلِحُّونَ وَيُؤْذُونَ النَّاسَ فَأُمِرُوا بِالزَّادِ أَمْرَ تَنْبِيهٍ عَلَى أَنَّ أَخْذَ الزَّادِ مِنْ مَالِكٍ خَيْرٌ مِنْ أَخْذِ مَالِ النَّاسِ وَالِاتِّكَالِ عَلَيْهِمْ ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ ا هـ ، وَقَالَ ابْنُ

الشَّاطِّ وَعَلَى أَنَّ إجَازَةَ الْأَصْلِ دُعَاءُ مَنْ لَيْسَ بِوَلِيٍّ بِخِرَقِ الْعَادَةِ إجَازَةٌ لِلدُّعَاءِ بِخَرْقِ الْعَادَةِ فَكُلُّ مَا أَنْكَرَهُ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ أَجَازَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ وَإِذَا أَجَازَهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ فَقَدْ أَجَازَ عَلَى الْجُمْلَةِ فَلَا يَصِحُّ لَهُ مَنْعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا حَاجَةَ إلَى تَكْثِيرِهِ الْأَمْثِلَةَ ا هـ ، وَقَدْ أَطَالَ الْغَزَالِيُّ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْمَقَامِ فِي مِنْهَاجِهِ إلَى أَنْ قَالَ وَلَعَلَّك تَقُولُ أَطْنَبْت فِي هَذَا الْفَصْلِ خِلَافَ شَرْطِ الْكِتَابِ فَأَقُولُ لَعَمْرُ اللَّهِ إنَّهُ لَقَلِيلٌ فِي جَنْبِ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى إذْ هُوَ أَهَمُّ شَأْنًا فِي الْعِبَادَةِ بَلْ عَلَيْهِ مَدَارُ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْعُبُودِيَّةِ فَمَنْ لَهُ هِمَّةٌ فِي هَذَا الشَّأْنِ فَلْيَسْتَمْسِكْ بِذَلِكَ وَلْيُرَاعِهِ حَقَّهُ وَإِلَّا فَهُوَ عَنْ الْمَقْصُودِ بِمَعْزُولٍ وَاَلَّذِي يَدُلُّك عَلَى بَصِيرَةِ عُلَمَاءِ الْآخِرَةِ الْعَارِفِينَ بِاَللَّهِ أَنَّهُمْ بَنَوْا أَمْرَهُمْ عَلَى التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَالتَّفَرُّغِ لِعِبَادَةِ اللَّهِ وَقَطْعِ الْعَلَائِقِ كُلِّهَا فَكَمْ صَنَّفُوا مِنْ كِتَابٍ وَكَمْ أَوْصَوْا بِوَصِيَّةٍ وَقَيَّضَ اللَّهُ لَهُمْ أَعْوَانًا مِنْ السَّادَةِ وَأَصْحَابًا حَتَّى يَتَمَشَّى لَهُمْ مِنْ الْخَيْرِ الْمَحْضِ مَا لَمْ يَتَمَشَّ لِطَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْأَئِمَّةِ الْأَزْهَادِ الْكَرَامِيَّةِ فَإِنَّهُمْ بَنَوْا مَذَاهِبَهُمْ عَلَى أُصُولٍ غَيْرِ مُسْتَقِيَةٍ وَمَا زِلْنَا أَعِزَّةً مَا دُمْنَا عَلَى مِنْهَاجِ أَئِمَّتِنَا ا هـ الْمُرَادُ مِنْهُ .

.
( الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ وَهُوَ مُحَرَّمٌ أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى نَفْيَ أَمْرٍ دَلَّ السَّمْعُ عَلَى نَفْيِهِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : الْأَوَّلُ أَنْ يَقُولَ { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } مَعَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ قَالَ { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } فَقَدْ دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مَرْفُوعَةٌ عَنْ الْعِبَادِ فَيَكُونُ طَلَبُهَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى طَالِبًا لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ فَيَكُونُ سُوءَ أَدَبٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ طَلَبٌ عَرِيَ عَنْ الْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ وَلَوْ أَنَّ أَحَدَنَا سَأَلَ بَعْضَ الْمُلُوكِ أَمْرًا فَقَضَاهُ لَهُ ، ثُمَّ سَأَلَهُ إيَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَالِمًا بِقَضَائِهِ لَهُ لَعُدَّ هَذَا الطَّلَبُ الثَّانِي اسْتِهْزَاءً بِالْمَلِكِ وَتَلَاعُبًا بِهِ وَلَحَسُنَ مِنْ ذَلِكَ الْمَلِكِ تَأْدِيبُهُ فَأَوْلَى أَنْ يَسْتَحِقَّ التَّأْدِيبَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ رَأَيْنَا رَجُلًا يَقُولُ اللَّهُمَّ افْرِضْ عَلَيْنَا الصَّلَاةَ وَأَوْجِبْ عَلَيْنَا الزَّكَاةَ وَاجْعَلْ السَّمَاءَ فَوْقَنَا وَالْأَرْضَ تَحْتَنَا لَبَادَرْنَا إلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ لِقُبْحِ مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ التَّلَاعُبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ فِي دُعَائِهِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ الدَّاعِي بِقَوْلِهِ إنْ نَسِينَا أَيْ تَرَكْنَاهُ مَعَ مُتَعَمِّدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } وقَوْله تَعَالَى { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } أَيْ تَرَكُوا طَاعَتَهُ فَتَرَكَ اللَّهُ الْإِحْسَانَ إلَيْهِمْ فَهَذَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ طَلَبَ الْعَفْوَ عَمَّا لَمْ يُعْلَمْ الْعَفْوُ فِيهِ أَمَّا النِّسْيَانُ الَّذِي هُوَ التَّرْكُ مَعَ غَفْلَةِ الَّذِي هُوَ مُشْتَهِرٌ فِي الْعُرْفِ لَا يَجُوزُ طَلَبُ الْعَفْوِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْعَفْوِ فِيهِ وَعَنْهُ قَدْ عُلِمَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ

وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ أَيْ مِنْ الْبَلَايَا وَالرَّزَايَا وَالْمَكْرُوهَاتِ جَازَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَدُلَّ النُّصُوصُ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ بِخِلَافِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهَا مَرْفُوعَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } فَيَقْتَضِي طَلَبَ رَفْعِ ذَلِكَ ، فَإِنْ أَطْلَقَ الْعُمُومَ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ لَا بِالنِّيَّةِ وَلَا بِالْعَادَةِ عَصَى لِاشْتِمَالِ الْعُمُومِ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ فَيَكُونُ ذَلِكَ حَرَامًا ؛ لِأَنَّ فِيهِ طَلَبَ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ ، فَإِنْ قُلْت فَقَدْ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمٍ فِي سِيَاقِ الْمَدْحِ { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّك لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } وَوَعْدُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فَقَدْ طَلَبَ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ وَهُوَ عَيْنُ مَا نَحْنُ فِيهِ وَمَدَحَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ وَأَنْتَ تَمْنَعُهُ قُلْتُ إنَّمَا جَازَ لَهُمْ سُؤَالُ مَا وَعَدَهُمْ اللَّهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ حُصُولَهُ لَهُمْ مَشْرُوطٌ بِالْوَفَاةِ عَلَى الْإِيمَانِ .
وَهَذَا شَرْطٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ وَالشَّكُّ فِي الشَّرْطِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي الْمَشْرُوطِ فَمَا طَلَبُوا إلَّا مَشْكُوكًا فِي حُصُولِهِ لَا مَعْلُومَ الْحُصُولِ ، وَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَلَيْسَ فِيهِ شَرْطٌ مَجْهُولٌ بَلْ عُلِمَ مِنْ الشَّرِيعَةِ بِالضَّرُورَةِ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ مُطْلَقًا ، فَإِنْ قُلْت فَإِذَا جَوَّزْت ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْجَهَالَةِ بِالشُّرُوطِ فَيُجَوِّزُهُ هَاهُنَا بِنَاءً عَلَى الْجَهَالَةِ بِالشَّرْطِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخْبِرْ بِذَلِكَ مُطْلَقًا ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ بِالرَّفْعِ عَنْ أُمَّتِهِ وَكَوْنِ الدَّاعِي يَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أُمَّتِهِ مَجْهُولٌ فَمَا طَلَبَ إلَّا مَجْهُولًا بِنَاءً عَلَى التَّقْرِيرِ الْمُتَقَدِّمِ .
قُلْت كَوْنُهُ مِنْ الْأُمَّةِ لَيْسَ شَرْطًا فِي هَذَا الرَّفْعِ وَدَلَالَةُ الْخَبَرِ عَلَى ذَلِكَ إنَّمَا هِيَ مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ

وَنَحْنُ نَمْنَعُ كَوْنَ الْمَفْهُومِ حُجَّةً لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ سَلَّمْنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ لَكِنَّهُ مَتْرُوكٌ هَاهُنَا إجْمَاعًا وَتَقْرِيرُهُ أَنْ نَقُولَ الْكُفَّارُ إمَّا أَنْ نَقُولَ إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ أَوْ لَا ، فَإِنْ قُلْنَا إنَّهُمْ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ بِهَا فَالرَّفْعُ حَاصِلٌ لَهُمْ فِي جَمِيعِ الْفُرُوعِ النِّسْيَانُ وَغَيْرُهُ فَبَطَلَ الْمَفْهُومُ وَاسْتَوَتْ الْخَلَائِقُ فِي الرَّفْعِ حِينَئِذٍ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْفُرُوعِ فَلَا يَكُونُ قَدْ شُرِعَ فِي حَقِّهِمْ مَا لَيْسَ سَبَبًا فِي حَقِّنَا بَلْ كُلُّ مَا هُوَ سَبَبُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّنَا هُوَ سَبَبُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِمْ ، وَمَا هُوَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ فِي حَقِّنَا هُوَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ فِي حَقِّهِمْ ، وَمَا هُوَ سَبَبُ التَّرْخِيصِ وَالْإِبَاحَةِ فِي حَقِّنَا هُوَ كَذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ خُصُوصُ الْأُمَّةِ شَرْطًا فِي الرَّفْعِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ الْكُفَّارَ فِي الْفُرُوعِ أَشَدُّ حَالًا مِنْ الْأُمَّةِ فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا فَلَيْسَ هُنَاكَ فِي النِّسْيَانِ وَالْخَطَإِ شَرْطٌ مَجْهُولٌ فَيَكُونُ الشَّارِعُ قَدْ أَخْبَرَ بِالرَّفْعِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مُطْلَقًا فَيَحْرُمُ الدُّعَاءُ بِهِ .
( الْمِثَالُ الثَّانِي ) أَنْ يَقُولُ الدَّاعِي رَبَّنَا لَا تُهْلِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ بِالْخَسْفِ الْعَامِّ وَالرِّيحِ الْعَاصِفَةِ كَمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَنَا ، وَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الصِّحَاحِ أَنَّهُ سَأَلَ رَبَّهُ فِي إعْفَاءِ أُمَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ فَأَجَابَهُ فَيَكُونُ طَلَبُ ذَلِكَ مَعْصِيَةً كَمَا تَقَدَّمَ .
( الثَّالِثُ ) أَنْ يَقُولُ اللَّهُمَّ لَا تُسَلِّطْ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يَسْتَأْصِلُهَا ، وَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّحَاحِ بِأَنَّهُ { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ } فَيَكُونُ الدُّعَاءُ بِذَلِكَ

مَعْصِيَةً لِمَا مَرَّ .
( الرَّابِعُ ) أَنْ يَقُولَ الدَّاعِي لِمَرِيضٍ أَوْ مُصَابٍ اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَهُ هَذِهِ الْمِرْضَةَ أَوْ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ كَفَّارَةً فَقَدْ دَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى أَنَّ الْمَصَائِبَ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانٌ أَنَّ السُّخْطَ لَا يُخِلُّ بِذَلِكَ التَّكْفِيرِ بَلْ يُجَدِّدُ ذَنْبًا آخَرَ كَمَنْ قَضَى دَيْنَهُ ، ثُمَّ اسْتَدَانَ لَا يُقَالُ إنَّهُ لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ مِنْ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ ، وَكَذَلِكَ الْمُصَابُ بَرِيءٌ مِنْ عُهْدَةِ الذَّنْبِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَدَّدَ ذَنْبًا آخَرَ بِسُخْطِهِ فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ مَعْصِيَةً بَلْ يَقُولُ اللَّهُمَّ عَظِّمْ لَهُ الْكَفَّارَةَ ، فَإِنْ قُلْت إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْ قَوْمٍ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ } ، وَقَدْ وَرَدَتْ الْأَحَادِيثُ أَنَّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَوْ يَكُونُ فِي الْأَعْرَافِ لَا يَدْخُلُ النَّارَ وَمَا عَلِمْت فِي هَذَا خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَيَكُونُ دُعَاؤُهُمْ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الذَّمِّ لَهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ سَمِعُوا تِلْكَ النُّصُوصَ فِي الدُّنْيَا وَعَلِمُوا أَنَّ مَنْ سَلِمَ مِنْ النَّارِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ لَا يَدْخُلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ قُلْت قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ وَهُمْ عَلَى خَوْفٍ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ ، وَأَهْوَالُ الْقِيَامَةِ تُوجِبُ الدَّهَشَ عَنْ الْمَعْلُومَاتِ فَقَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ { مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا } لِاسْتِيلَاءِ الْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ جِهَةِ هَوْلِ الْمَنْظَرِ كَذَلِكَ هَؤُلَاءِ مَعَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مُكَلَّفِينَ وَلَا ذَمَّ إلَّا مَعَ التَّكْلِيفِ .
الْخَامِسُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ لَا تَغْفِرْ لِفُلَانٍ الْكَافِرِ ، وَقَدْ دَلَّ

السَّمْعُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فَهَذَا مُحَرَّمٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَقِلَّةِ الْأَدَبِ بِخِلَافِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ فَإِنَّهُ كُفْرٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ تَكْذِيبِ السَّمْعِ الْقَاطِعِ

قَالَ ( الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ وَهُوَ مُحَرَّمٌ أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى نَفْيَ أَمْرٍ دَلَّ السَّمْعُ عَلَى نَفْيِهِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : الْأَوَّلُ أَنْ يَقُولَ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْته عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ .
مَعَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } فَقَدْ دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مَرْفُوعَةٌ عَنْ الْعِبَادِ فَيَكُونُ طَلَبُهَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى طَلَبًا لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ فَيَكُونُ سُوءَ أَدَبٍ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ طَلَبٌ عَرِيَ عَنْ الْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ وَلَوْ أَنَّ أَحَدَنَا سَأَلَ بَعْضَ الْمُلُوكِ أَمْرًا فَقَضَاهُ لَهُ .
ثُمَّ سَأَلَهُ إيَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَالِمًا بِقَضَائِهِ لَهُ لَعُدَّ هَذَا الطَّلَبُ الثَّانِي اسْتِهْزَاءً بِالْمَلِكِ وَتَلَاعُبًا بِهِ وَلَحَسُنَ مِنْ ذَلِكَ الْمَلِكِ تَأْدِيبُهُ فَأَوْلَى أَنْ يَسْتَحِقَّ الْأَدَبَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى ) قُلْت لَمْ يَأْتِ بِحُجَّةٍ عَلَى مَا ادَّعَاهُ غَيْرَ مَا عَوَّلَ عَلَيْهِ مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْمَمْلُوكِ وَهُوَ قِيَاسٌ لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ الْجَامِعِ ، وَكَيْفَ يُقَاسُ الْخَالِقُ بِالْمَخْلُوقِ وَالرَّبُّ بِالْمَرْبُوبِ وَالْخَالِقُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ النَّقْصُ وَالْمَخْلُوقُ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّقْصُ ، ثُمَّ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ طَلَبَ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ عَرِيَ عَنْ الْحَاجَةِ مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ حَمْلِهِ عَلَى طَلَبِ مِثْلِهِ أَوْ الْإِجَابَةِ بِإِعْطَاءِ الْعِوَضِ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ وَلِمَ لَا يَكُونُ الدُّعَاءُ بِمَا ذَكَرَهُ ، وَمَا أَشْبَهَ مِمَّا يَمْتَنِعُ وَيَتَعَذَّرُ عَقْلًا وَعَادَةً مُتَنَوِّعًا بِحَسَبِ الدَّاعِي بِهِ .
فَإِنْ كَانَ غَافِلًا عَنْ تَعَذُّرِهِ فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ لِمَا ثَبَتَ مِنْ رَفْعِ الْحَرَجِ عَنْ الْغَافِلِ وَإِذَا كَانَ غَيْرَ غَافِلٍ ، فَإِنْ

كَانَ قَاصِدًا لِطَلَبِ ذَلِكَ الْمُتَعَذِّرِ بِعَيْنِهِ فَلَا مَانِعَ أَنْ يُعَوِّضَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ لِلْعِوَضِ كَمَا إذَا طَلَبَ غَيْرَ الْمُتَعَذِّرِ وَكَانَ مِمَّا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ جَزَاءٌ لَهُ عَلَى لَجْئِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَابْتِهَالِهِ إلَى عَظِيمِ كَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَاصِدًا لِلتَّلَاعُبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ أَوْ التَّعْجِيزِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهَاهُنَا يَكُونُ عَاصِيًا بِسَبَبِ قَصْدِهِ ذَلِكَ لَا بِمُجَرَّدِ دُعَائِهِ بِالْمُتَعَذِّرِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الشِّهَابِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَلَوْ رَأَيْنَا رَجُلًا يَقُولُ اللَّهُمَّ افْرِضْ عَلَيْنَا الصَّلَاةَ وَأَوْجِبْ عَلَيْنَا الزَّكَاةَ وَاجْعَلْ السَّمَاءَ فَوْقَنَا وَالْأَرْضَ تَحْتَنَا لَبَادَرْنَا إلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ لِقُبْحِ مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ التَّلَاعُبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ فِي دُعَائِهِ ) قُلْت إنَّمَا ذَلِكَ الْإِنْكَارُ مَبْنِيٌّ عَلَى سُوءِ أَحْوَالِهِ بِهِ وَكَوْنِ الْعَادَةِ جَارِيَةً بِسَبَقِ ذَلِكَ إلَى نَفْسِ السَّامِعِ لِذَلِكَ الدُّعَاءِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْعَادَةِ جَارِيَةً بِسَبْقِ الظَّنِّ السَّيْءِ بِذَلِكَ الدَّاعِي أَنْ تَكُونَ حَالُهُ فِي دُعَائِهِ ذَلِكَ مُوَافِقَةً لِذَلِكَ الظَّنِّ بَلْ إنْ كَانَتْ حَالُهُ فِي دُعَائِهِ ذَلِكَ مُوَافِقَةً لِذَلِكَ الظَّنِّ كَانَ عَاصِيًا وَإِلَّا فَلَا .
قَالَ ( إلَّا أَنْ يُرِيدَ الدَّاعِي بِقَوْلِهِ إنْ نَسِينَا أَيْ تَرَكْنَاهُ مَعَ التَّعَمُّدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } وقَوْله تَعَالَى { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } أَيْ تَرَكُوا طَاعَتَهُ فَتَرَكَ اللَّهُ الْإِحْسَانَ إلَيْهِمْ فَهَذَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ طَلَبُ الْعَفْوِ عَمَّا لَمْ يُعْلَمْ الْعَفْوُ فِيهِ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي هَذَا صَحِيحٌ .
قَالَ ( أَمَّا النِّسْيَانُ الَّذِي هُوَ التَّرْكُ مَعَ الْغَفْلَةِ الَّذِي هُوَ مُشْتَهِرٌ فِي الْعُرْفِ لَا يَجُوزُ طَلَبُ الْعَفْوِ فِيهِ لِأَنَّ طَلَبَ الْعَفْوِ فِيهِ وَعَنْهُ قَدْ عُلِمَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ) .
قُلْت

لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ النِّسْيَانُ الْعُرْفِيُّ الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا تَسَبُّبَ فِيهِ أَوْ مِمَّا لَهُ فِيهِ تَسَبُّبٌ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَوَّلِ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ طَلَبُ الْعَفْوِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قِلَّةُ أَدَبٍ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الثَّانِي فَلَا شَكَّ أَنَّ طَلَبَ الْعَفْوِ إنَّمَا هُوَ طَلَبُ الْعَفْوِ عَنْ التَّسَبُّبِ وَطَلَبَ الْعَفْوِ عَنْ ذَلِكَ طَلَبٌ لِلْعَفْوِ عَمَّا لَمْ يُعْلَمْ الْعَفْوُ عَنْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ أَيًّا مِنْ الْبَلَايَا وَالرَّزَايَا وَالْمَكْرُوهَاتِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَدُلَّ النُّصُوصُ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ ) قُلْت مَا قَالَهُ هُنَا صَحِيحٌ .
قَالَ ( بِخِلَافِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهَا مَرْفُوعَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } فَيَقْتَضِي طَلَبَ رَفْعِ ذَلِكَ ، فَإِنْ أَطْلَقَ الْعُمُومَ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ لَا بِالنِّيَّةِ وَلَا بِالْعَادَةِ عَصَى لِاشْتِمَالِ الْعُمُومِ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ فَيَكُونُ ذَلِكَ حَرَامًا ؛ لِأَنَّ فِيهِ طَلَبَ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ ، فَإِنْ قُلْت فَقَدْ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمٍ فِي سِيَاقِ الْمَدْحِ { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِك وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّك لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } وَوَعْدُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فَقَدْ طَلَبُوا تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ وَهُوَ عَيْنُ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَقَدْ مَدَحَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ وَأَنْتَ تَمْنَعُهُ قَالَ قُلْت إنَّمَا جَازَ لَهُمْ سُؤَالُ مَا وَعَدَهُمْ اللَّهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ حُصُولَهُ لَهُمْ مَشْرُوطٌ بِالْوَفَاةِ عَلَى الْإِيمَانِ ، وَهَذَا شَرْطٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ وَالشَّكُّ فِي الشَّرْطِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي الْمَشْرُوطِ فَمَا طَلَبُوا إلَّا مَشْكُوكًا فِي حُصُولِهِ لَا مَعْلُومَ الْحُصُولِ .
وَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَلَيْسَ فِيهِ شَرْطٌ مَجْهُولٌ بَلْ عُلِمَ مِنْ الشَّرِيعَةِ بِالضَّرُورَةِ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ

الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ مُطْلَقًا ، فَإِنْ قُلْت فَإِذَا جَوَّزْت ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْجَهَالَةِ بِالشَّرْطِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخْبِرْ بِذَلِكَ مُطْلَقًا ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ بِالرَّفْعِ عَنْ أُمَّتِهِ ، وَكَوْنُ الدَّاعِي يَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أُمَّتِهِ مَجْهُولٌ فَمَا طُلِبَ إلَّا مَجْهُولٌ بِنَاءً عَلَى التَّقْرِيرِ الْمُتَقَدِّمِ .
قُلْت كَوْنُهُ مِنْ الْأُمَّةِ لَيْسَ شَرْطًا فِي هَذَا الرَّفْعِ وَدَلَالَةُ الْخَبَرِ عَلَى ذَلِكَ إنَّمَا هِيَ مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ وَنَحْنُ نَمْنَعُ كَوْنَ الْمَفْهُومِ حُجَّةً لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ سَلَّمْنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ لَكِنَّهُ مَتْرُوكٌ هَاهُنَا إجْمَاعًا وَتَقْرِيرُهُ أَنْ نَقُولَ الْكُفَّارُ إمَّا أَنْ نَقُولَ إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ أَوْ مَا هُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا ، فَإِنْ قُلْنَا إنَّهُمْ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ بِهَا فَالرَّفْعُ حَاصِلٌ لَهُمْ فِي جَمِيعِ الْفُرُوعِ : النِّسْيَانِ وَغَيْرِهِ ، فَبَطَلَ الْمَفْهُومُ وَاسْتَوَتْ الْخَلَائِقُ فِي الرَّفْعِ حِينَئِذٍ ، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا فَلَا يَكُونُ قَدْ شُرِعَ فِي حَقِّهِمْ مَا لَيْسَ سَبَبًا فِي حَقِّنَا بَلْ كُلُّ مَا هُوَ سَبَبُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّنَا هُوَ سَبَبُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِمْ ، وَمَا هُوَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ فِي حَقِّنَا هُوَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ فِي حَقِّهِمْ ، وَكَذَلِكَ سَبَبُ التَّرَخُّصِ وَالْإِبَاحَةِ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ خُصُوصُ الْأُمَّةِ شَرْطًا فِي الرَّفْعِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ الْكُفَّارَ فِي الْفُرُوعِ أَشَدُّ حَالًا مِنْ الْأُمَّةِ فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا فَلَيْسَ هُنَاكَ فِي النِّسْيَانِ وَالْخَطَإِ شَرْطٌ مَجْهُولٌ فَيَكُونُ الشَّارِعُ قَدْ أَخْبَرَ بِالرَّفْعِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مُطْلَقًا فَيَحْرُمُ الدُّعَاءُ بِهِ ) .
قُلْت لَيْسَ مَا قَالَهُ شِهَابُ الدِّينِ فِي هَذَا الْجَوَابِ وَأَطَالَ فِيهِ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ مَسَاقَ الْحَدِيثِ مُشْعِرٌ بِالْمَدْحِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَيَتَعَيَّنُ لِذَلِكَ اخْتِصَاصُهَا بِذَلِكَ الرَّفْعِ وَيَلْزَمُ الْقَوْلُ بِهَذَا الْمَفْهُومِ

لِقَرِينَةِ الْمَدْحِ وَيَكُونُ هُنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ شَرْطٌ مَجْهُولٌ كَمَا قَالَهُ السَّائِلُ وَيَبْطُلُ جَوَابُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ( الْمِثَالُ الثَّانِي أَنْ يَقُولَ الدَّاعِي رَبَّنَا لَا تُهْلِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ بِالْخَسْفِ الْعَامِّ وَالرِّيحِ الْعَاصِفَةِ كَمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَنَا ، وَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الصِّحَاحِ أَنَّهُ سَأَلَ رَبَّهُ فِي إعْفَاءِ أُمَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ فَأَجَابَهُ فَيَكُونُ طَلَبُ ذَلِكَ مَعْصِيَةً كَمَا تَقَدَّمَ ) .
قُلْت قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى طَلَبِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ بِحُجَّةٍ فِي أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ ، وَكَذَلِكَ جَوَابُهُ فِيمَا قَالَ فِي الْمِثَالِ الثَّالِثِ قَالَ ( الرَّابِعُ أَنْ يَقُولَ الدَّاعِي لِمَرِيضٍ أَوْ مُصَابٍ اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَهُ هَذِهِ الْمِرْضَةَ أَوْ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ كَفَّارَةً فَقَدْ دَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى أَنَّ الْمَصَائِبَ كَفَّارَةٌ لِأَهْلِهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَنَّ السُّخْطَ لَا يُخِلُّ بِذَلِكَ التَّكْفِيرِ بَلْ يُجَدِّدُ ذَنْبًا آخَرَ كَمَنْ قَضَى دَيْنَهُ ، ثُمَّ اسْتَدَانَ لَا يُقَالُ إنَّهُ لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ مِنْ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ ، وَكَذَلِكَ الْمُصَابُ بَرِيءٌ مِنْ عُهْدَةِ الذَّنْبِ الْأَوَّلِ .
وَإِنْ كَانَ قَدْ جَدَّدَ ذَنْبًا آخَرَ بِسُخْطِهِ فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ مَعْصِيَةً بَلْ يَقُولُ اللَّهُمَّ عَظِّمْ لَهُ الْكَفَّارَةَ ، فَإِنْ قُلْت إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْ قَوْمٍ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ } ، وَقَدْ وَرَدَتْ الْأَحَادِيثُ أَنَّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَوْ يَكُونُ فِي الْأَعْرَافِ لَا يَدْخُلُ النَّارَ ، وَمَا عَلِمْت فِي هَذَا خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَيَكُونُ دُعَاؤُهُمْ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي

سِيَاقِ الذَّمِّ لَهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ سَمِعُوا تِلْكَ النُّصُوصَ فِي الدُّنْيَا وَعَلِمُوا أَنَّ مَنْ سَلِمَ مِنْ النَّارِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ لَا يَدْخُلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ قُلْت قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ وَهُمْ عَلَى خَوْفٍ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ وَأَهْوَالُ الْقِيَامَةِ تُوجِبُ الدَّهَشَ عَنْ الْمَعْلُومَاتِ فَقَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ { مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا } لِاسْتِيلَاءِ الْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ جِهَةِ هَوْلِ الْمَنْظَرِ ، كَذَلِكَ هَؤُلَاءِ مَعَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مُكَلَّفِينَ وَلَا ذَمَّ إلَّا مَعَ التَّكْلِيفِ ) قُلْت عَلَى تَسْلِيمِ جَوَابِهِ لِلسَّائِلِ يَبْقَى هُوَ مُطَالَبًا بِدَلِيلِ الْمَنْعِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الدُّعَاءِ وَلَمْ يَأْتِ بِدَلِيلٍ وَلَا شُبْهَةٍ ، وَكَذَلِكَ جَوَابُهُ فِي الْمِثَالِ الْخَامِسِ ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى الدُّعَاءِ بِالْغُفْرَانِ لِلْكَافِرِ .

( وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ ) أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى نَفْيَ أَمْرٍ دَلَّ السَّمْعُ عَلَى نَفْيِهِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : مِنْهَا أَنْ يَقُولَ { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ رَبَّنَا لَا تُهْلِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ بِالْخَسْفِ الْعَامِّ وَالرِّيحِ الْعَاصِفَةِ كَمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَنَا ، وَمِنْهَا أَنْ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ لَا تُسَلِّطْ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يَسْتَأْصِلُهَا ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ لِمَرِيضٍ أَوْ مُصَابٍ اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَهُ هَذِهِ الْمِرْضَةَ أَوْ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ كَفَّارَةً ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ لَا تَغْفِرْ لِفُلَانٍ الْكَافِرِ قَالَ الْأَصْلُ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ الْخَمْسَةِ حَرَامٌ لَيْسَ بِكُفْرٍ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ طَلَبِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ .
( أَمَّا الْأَوَّلُ ) فَلِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مَرْفُوعَةٌ عَنْ الْعِبَادِ .
( أَمَّا الثَّانِي ) فَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ كَمَا فِي الصِّحَاحِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ رَبَّهُ فِي إعْفَاءِ أُمَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ فَأَجَابَهُ .
( أَمَّا الثَّالِثُ ) فَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ كَمَا فِي الصِّحَاحِ بِأَنَّهُ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ .
( وَأَمَّا الرَّابِعُ ) فَلِأَنَّ النُّصُوصَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمَصَائِبَ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَنَّ السُّخْطِ لَا يُخِلُّ بِذَلِكَ التَّكْفِيرِ بَلْ يُجَدِّدُ ذَنْبًا آخَرَ كَمَنْ قَضَى دَيْنَهُ ثُمَّ اسْتَدَانَ فَكَمَا لَا يُقَالُ إنَّهُ لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ مِنْ

الدَّيْنِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ الْمُصَاب لَا يُقَالُ أَنَّهُ بِسُخْطِهِ لَمْ يَبْرَأْ مِنْهَا بَلْ يُقَالُ بَرِئَ مِنْ عُهْدَةِ الذَّنْبِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَدَّدَ ذَنْبًا آخَرَ بِسُخْطِهِ .
( وَأَمَّا الْخَامِسُ ) فَلِأَنَّ السَّمْعَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ قَالَ وَطَلَبُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ سُوءُ أَدَبٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ طَلَبٌ عَرِيَ عَنْ الْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ تَعَالَى إذْ لَوْ أَنَّ أَحَدَنَا سَأَلَ بَعْضَ الْمُلُوكِ أَمْرًا فَقَضَاهُ لَهُ ثُمَّ سَأَلَهُ إيَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَالِمًا بِقَضَائِهِ لَهُ لَعُدَّ هَذَا الطَّلَبُ الثَّانِي اسْتِهْزَاءً بِالْمَلِكِ وَتَلَاعُبًا بِهِ وَلَحَسُنَ مِنْ ذَلِكَ الْمَلِكِ تَأْدِيبُهُ فَأَوْلَى أَنْ يَسْتَحِقَّ التَّأْدِيبَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَوْ رَأَيْنَا رَجُلًا يَقُولُ اللَّهُمَّ افْرِضْ عَلَيْنَا الصَّلَاةَ وَأَوْجِبْ عَلَيْنَا الزَّكَاةَ وَاجْعَلْ السَّمَاءَ فَوْقَنَا وَالْأَرْضَ تَحْتَنَا لَبَادَرْنَا إلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ لِقُبْحِ مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ التَّلَاعُبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ فِي دُعَائِهِ .
نَعَمْ مَحِلُّ حُرْمَةِ قَوْلِ الدَّاعِي { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا } وَقَوْلِهِ { رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } إنْ أَرَادَ النِّسْيَانَ الَّذِي هُوَ التَّرْكُ مَعَ الْغَفْلَةِ الَّذِي هُوَ مُشْتَهِرٌ فِي الْعُرْفِ ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْعَفْوِ فِيهِ وَعَنْهُ قَدْ عُلِمَ بِالنَّصْرِ وَالْإِجْمَاعِ وَأَرَادَ بِمَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ التَّكَالِيفَ الشَّرْعِيَّةَ فَإِنَّهَا مَرْفُوعَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } أَمَّا إنْ أَرَادَ النِّسْيَانَ الَّذِي هُوَ التَّرْكُ مَعَ التَّعَمُّدِ وقَوْله تَعَالَى { الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } وقَوْله تَعَالَى { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } أَيْ تَرَكُوا طَاعَتَهُ فَتَرَكَ اللَّهُ الْإِحْسَانَ إلَيْهِمْ فَهَذَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ طَلَبُ الْعَفْوِ عَمَّا لَمْ يُعْلَمْ الْعَفْوُ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ مِنْ الْبَلَايَا

وَالرَّزَايَا وَالْمَكْرُوهَاتِ جَازَ لِأَنَّهُ لَمْ تَدُلَّ النُّصُوصُ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا إنْ أَطْلَقَ الْعُمُومَ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ لَا بِالنِّيَّةِ وَلَا بِالْعَادَةِ عَصَى لِاشْتِمَالِ الْعُمُومِ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ فَيَكُونُ ذَلِكَ حَرَامًا ؛ لِأَنَّ فِيهِ طَلَبَ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمٍ فِي سِيَاقِ الْمَدْحِ { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّك لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } وَإِنْ كَانَ طَلَبَ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ ؛ لِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ .
وَقَدْ مَدَحَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّ سُؤَالَ مَا وَعَدَهُمْ اللَّهُ بِهِ إنَّمَا جَازَ لَهُمْ ؛ لِأَنَّ حُصُولَهُ لَهُمْ مَشْرُوطٌ بِالْوَفَاةِ عَلَى الْإِيمَانِ وَهَذَا شَرْطٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ وَالشَّكُّ فِي الشَّرْطِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي الْمَشْرُوطِ فَمَا طَلَبُوا إلَّا مَشْكُوكًا فِي حُصُولِهِ لَا مَعْلُومَ الْحُصُولِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ بِالْعَكْسِ ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ الشَّرِيعَةِ بِالضَّرُورَةِ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ مُطْلَقًا .
وَكَوْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخْبِرْ بِذَلِكَ مُطْلَقًا ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ بِالرَّفْعِ عَنْ أُمَّتِهِ ، وَأَمَّا مَا يُقَالُ إنَّ كَوْنَ الدَّاعِي يَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أُمَّتِهِ مَجْهُولٌ فَمَا طَلَبَ إلَّا مَجْهُولًا بِنَاءً عَلَى التَّقْرِيرِ الْمُتَقَدِّمِ فَلَا يُرَدُّ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ الْأُمَّةِ لَيْسَ شَرْطًا فِي هَذَا الرَّفْعِ وَدَلَالَةُ الْخَبَرِ عَلَى ذَلِكَ إنَّمَا هِيَ مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ وَنَحْنُ نَمْنَعُ كَوْنَ الْمَفْهُومِ حُجَّةً لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ سَلَّمْنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ لَكِنَّهُ مَتْرُوكٌ هَاهُنَا إجْمَاعًا ، وَتَقْرِيرُهُ أَنْ نَقُولَ الْكَفَّارَةُ إمَّا أَنْ نَقُولَ إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ أَوْ لَا ، فَإِنْ قُلْنَا إنَّهُمْ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ بِهَا فَالرَّفْعُ حَاصِلٌ لَهُمْ فِي جَمِيعِ الْفُرُوعِ النِّسْيَانِ وَغَيْرِهِ فَيَبْطُلُ الْمَفْهُومُ وَاسْتَوَتْ الْخَلَائِقُ فِي الرَّفْعِ حِينَئِذٍ ،

وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْفُرُوعِ فَلَا يَكُونُ قَدْ شُرِعَ فِي حَقِّهِمْ مَا لَيْسَ سَبَبًا فِي حَقِّنَا بَلْ كُلُّ مَا هُوَ سَبَبُ الْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ أَوْ التَّرْخِيصِ أَوْ الْإِبَاحَةِ فِي حَقِّنَا لَهُوَ سَبَبُ مَا ذُكِرَ فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ خُصُوصُ الْأُمَّةِ شَرْطًا فِي الرَّفْعِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ الْكُفَّارَ فِي الْفُرُوعِ أَشَدُّ حَالًا مِنْ الْأُمَّةِ فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا فَلَيْسَ هُنَالِكَ فِي النِّسْيَانِ وَالْخَطَإِ شَرْطٌ مَجْهُولٌ فَيَكُونُ الشَّارِعُ قَدْ أَخْبَرَ بِالرَّفْعِ فِي الْأُمُورِ مُطْلَقًا فَيَحْرُمُ الدُّعَاءُ بِهِ .
وَأَمَّا إخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ قَوْمٍ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ فَيَكُونُ دُعَاؤُهُمْ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَتْ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَوْ يَكُونُ فِي الْأَعْرَافِ لَا يَدْخُلُ النَّارَ وَلَمْ يُعْلَمْ فِي هَذَا خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَهُمْ قَدْ سَمِعُوا تِلْكَ النُّصُوصَ فِي الدُّنْيَا وَعَلِمُوا أَنَّ مَنْ سَلِمَ مِنْ النَّارِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ لَا يَدْخُلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الذَّمِّ لَهُمْ ، فَلَا يَرِدُ عَلَى مَنْعِ طَلَبِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ لِقَوْلِ الْمُفَسَّرَيْنِ إنَّ هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ وَهُمْ عَلَى خَوْفٍ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ وَأَهْوَالُ الْقِيَامَةِ تُوجِبُ الدَّهَشَ عَنْ الْمَعْلُومَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ { مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا } لِاسْتِيلَاءِ الْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ جِهَةِ هَوْلِ الْمَنْظَرِ ، عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مُكَلَّفِينَ وَلَا ذَمَّ إلَّا مَعَ التَّكْلِيفِ .
ا هـ .
وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الشَّاطِّ بِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِحُجَّةٍ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ أَنَّ طَلَبَ

تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ مَعْصِيَةٌ إلَّا مَا عَوَّلَ عَلَيْهِ مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْمُلُوكِ وَهُوَ قِيَاسٌ لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ الْجَامِعِ ، وَكَيْفَ يُقَاسُ الْخَالِقُ بِالْمَخْلُوقِ وَالرَّبُّ بِالْمَرْبُوبِ وَالْخَالِقُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ النَّقْصُ وَالْمَخْلُوقُ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّقْصُ ، ثُمَّ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ طَلَبَ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ عَرِيٌّ عَنْ الْحَاجَةِ مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ حَمْلِهِ عَلَى طَلَبِ مِثْلِهِ أَوْ الْإِجَابَةِ بِإِعْطَاءِ الْعِوَضِ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ وَلِمَ لَا يَكُونُ الدُّعَاءُ بِمَا ذَكَرَهُ وَبِمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا يَمْتَنِعُ وَيَتَعَذَّرُ عَقْلًا وَعَادَةً مُتَنَوِّعًا بِحَسَبِ الدَّاعِي بِهِ فَإِنْ كَانَ غَافِلًا عَنْ تَعَذُّرِهِ فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ لِمَا ثَبَتَ مِنْ رَفْعِ الْحَرَجِ عَنْ الْغَافِلِ وَإِذَا كَانَ غَيْرَ غَافِلٍ فَإِنْ كَانَ قَاصِدُ الطَّلَبِ ذَلِكَ الْمُتَعَذِّرَ بِعَيْنِهِ فَلَا مَانِعَ أَنْ يُعَوِّضَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْعِوَضَ كَمَا إذَا طَلَبَ غَيْرَ الْمُتَعَذِّرِ وَكَانَ مِمَّا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ جَزَاءً لَهُ عَلَى لَجْئِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَابْتِهَالِهِ إلَى عَظِيمِ كَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَاصِدًا التَّلَاعُبَ وَالِاسْتِهْزَاءَ أَوْ أَوْ التَّعْجِيزَ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهَاهُنَا يَكُونُ عَاصِيًا بِسَبَبِ قَصْدِهِ ذَلِكَ وَبِمُجَرَّدِ دُعَائِهِ بِالْمُتَعَذِّرِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الشِّهَابِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ .
وَإِنْكَارُ السَّامِعِ لِقَوْلِ الدَّاعِي اللَّهُمَّ افْرِضْ عَلَيْنَا الصَّلَاةَ إلَخْ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ الْعَادَةِ جَارِيَةً بِسَبَقِ الظَّنِّ السَّيْءِ بِذَلِكَ الدَّاعِي إلَى نَفْسِ السَّامِعِ لِذَلِكَ الدُّعَاءِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ حَالُ الدَّاعِي فِي دُعَائِهِ ذَلِكَ مُوَافِقَةً لِذَلِكَ الظَّنِّ بَلْ إنْ كَانَتْ مُوَافِقَةً لِذَلِكَ الظَّنِّ كَانَ عَاصِيًا وَإِلَّا فَلَا .
قَالَ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ النِّسْيَانَ الْعُرْفِيَّ الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ طَلَبُ الْعَفْوِ فِيهِ

وَعَنْهُ لَا يَجُوزُ طَلَبُ الْعَفْوِ فِيهِ بَلْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا تَسَبُّبَ لَهُ فِيهِ أَوْ مِمَّا لَهُ فِيهِ تَسَبُّبٌ فَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَوَّلِ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى دَلِيلٍ عَلَى مَنْعِ طَلَبِ الْعَفْوِ عَنْهُ وَأَنَّ ذَلِكَ قِلَّةُ أَدَبٍ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الثَّانِي فَلَا شَكَّ أَنَّ طَلَبَ الْعَفْوِ حِينَئِذٍ إنَّمَا هُوَ عَنْ التَّسَبُّبِ ، وَطَلَبُ الْعَفْوِ عَنْ ذَلِكَ طَلَبٌ لِلْعَفْوِ عَمَّا لَمْ يُعْلَمْ عَنْهُ ا هـ قُلْت عَلَى أَنَّ الْجَلَالَ السُّيُوطِيّ فِي تَكْمِلَتِهِ لِتَفْسِيرِ الْجَلَالِ الْمَحَلِّيِّ قَالَ مَا تَوْضِيحُهُ مِنْ حَاشِيَةِ الْجَمَلِ عَلَيْهِ إنَّ طَلَبَ رَفْعِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ .
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ طَلَبٌ لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُهُ اعْتِرَافًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ا هـ قَالَ الْجَمَلُ أَيْ فَالْقَصْدُ مِنْ سُؤَالِ هَذَا الرَّفْعُ وَطَلَبُهُ الْإِقْرَارَ وَالِاعْتِرَافَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ أَيْ إظْهَارُهَا وَالتَّحَدُّثَ بِهَا عَلَى حَدِّ { ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّك فَحَدِّثْ } ا هـ وَهَذَا مُنَافٍ جَمِيعَ مَوَاطِنِ طَلَبِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ فَافْهَمْ .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَمَسَاقُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي } الْحَدِيثَ أَيْ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ مُشْعِرٌ بِالْمَدْحِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَيَتَعَيَّنُ لِذَلِكَ اخْتِصَاصُهَا بِذَلِكَ الرَّفْعِ وَيَلْزَمُ الْقَوْلُ بِهَذَا الْمَفْهُومِ لِقَرِينَةِ الْمَدْحِ وَيَكُونُ هُنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ شَرْطٌ مَجْهُولٌ كَمَا قَالَهُ الْمَوْرِدُ كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمٍ فِي سِيَاقِ الْمَدْحِ مِنْ قَوْلِهِمْ { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا } إلَخْ عَلَى دَعْوَى الشِّهَابِ أَنَّ طَلَبَ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ مَعْصِيَةٌ وَيَكُونُ مَا أَطَالَ بِهِ الشِّهَابُ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْإِيرَادِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ بَاطِلٌ وَعَلَى تَسْلِيمِ جَوَابِهِ عَمَّا أَوْرَدَ عَلَى دَعْوَاهُ الْمَذْكُورَةِ مِنْ إخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ فِي

سِيَاقِ مَدْحِهِمْ لَا ذَمِّهِمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ { رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } إلَخْ يَبْقَى هُوَ مُطَالَبًا بِدَلِيلِ الْمَنْعِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الدُّعَاءِ وَلَمْ يَأْتِ بِدَلِيلٍ وَلَا شُبْهَةٍ ا هـ كَلَامَ ابْنِ الشَّاطِّ بِتَصَرُّفٍ .

.
( الْقِسْمُ الرَّابِعُ ) مِنْ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ أَنْ يَسْأَلَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ثُبُوتَ أَمْرٍ دَلَّ السَّمْعُ عَلَى ثُبُوتِهِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : الْأَوَّلُ أَنْ يَقُولَ الدَّاعِي جَعَلَ اللَّهُ مَوْتَ مَنْ مَاتَ لَك مِنْ أَوْلَادِك حِجَابًا مِنْ النَّارِ ، وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَلَى أَنَّ { مَنْ مَاتَ لَهُ اثْنَانِ مِنْ الْوَلَدِ كَانَا حِجَابًا لَهُ مِنْ النَّارِ } فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ مَعْصِيَةً ، فَإِنْ قُلْت قَدْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَدْعُوَ لَهُ بِقَوْلِهِ اللَّهُمَّ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ وَابْعَثْهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدْته إنَّك لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الْوَسِيلَةَ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لِعَبْدٍ صَالِحٍ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ إيَّاهُ وَأَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ الشَّفَاعَةُ ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أُعْطِيهَا فَيَلْزَمُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إمَّا إبَاحَةُ الدُّعَاءِ بِمَا هُوَ ثَابِتٌ وَإِمَّا الْإِشْكَالُ عَلَى الْإِخْبَارِ عَلَى كَوْنِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُعْطِيهَا قُلْت ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعْلِمَ أَنَّهُ أُعْطِيَ هَذِهِ الْأُمُورَ مَرْتَبَةً عَلَى دُعَائِنَا وَأُعْلِمَ أَنَّ دُعَاءَنَا يُحَصِّلُ لَهُ ذَلِكَ فَحَسُنَ أَمْرُنَا بِالدُّعَاءِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ هَذِهِ الْأُمُورِ وَحَسُنَ الْإِخْبَارُ بِحُصُولِهَا ؛ لِأَنَّهُ أُعْلِمَ بِوُقُوعِ سَبَبِ حُصُولِهَا وَالْمُحَرَّمُ إنَّمَا هُوَ الدُّعَاءُ بِحُصُولِ شَيْءٍ قَدْ عُلِمَ حُصُولُهُ مِنْ غَيْرِ دُعَائِنَا فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ .
( الثَّانِي ) أَنْ يَقُولَ الدَّاعِي اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَوْمَ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ لِي سَنَةً ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ { صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ وَصَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً } فَلَا يَجُوزُ طَلَبُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
( الثَّالِثُ ) أَنْ يَقُولَ

اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِي كَفَّارَاتٍ لِمَا بَيْنَهُنَّ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { الصَّلَاةُ إلَى الصَّلَاةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا } فَيَكُونُ الدُّعَاءُ بِذَلِكَ مَعْصِيَةً لِمَا مَرَّ وَأُلْحِقَ بِهَذِهِ الْمُثُلِ نَظَائِرُهَا

قَالَ ( الْقِسْمُ الرَّابِعُ مِنْ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ أَنْ يَسْأَلَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ ثُبُوتَ أَمْرٍ دَلَّ السَّمْعُ عَلَى ثُبُوتِهِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : الْأَوَّلُ أَنْ يَقُولَ الدَّاعِي جَعَلَ اللَّهُ مَوْتَ مَنْ مَاتَ لَك مِنْ أَوْلَادِك حِجَابًا مِنْ النَّارِ ، وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَلَى أَنَّ { مَنْ مَاتَ لَهُ اثْنَانِ مِنْ الْوَلَدِ كَانَا حِجَابًا لَهُ مِنْ النَّارِ } فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ مَعْصِيَةً قَالَ ، فَإِنْ قُلْت أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَدْعُوَ لَهُ بِقَوْلِنَا اللَّهُمَّ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ وَابْعَثْهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدْته إنَّك لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَنَّ الْوَسِيلَةَ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لِعَبْدٍ صَالِحٍ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ إيَّاهُ وَأَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ الشَّفَاعَةُ } ، وَقَدْ أَخْبَرْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أُعْطِيهَا فَيَلْزَمُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إمَّا إبَاحَةُ الدُّعَاءِ بِمَا هُوَ ثَابِتٌ وَإِمَّا الْإِشْكَالُ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ كَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُعْطِيهَا قُلْت ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعْلِمَ أَنَّهُ أُعْطِيَ هَذِهِ الْأُمُورَ مُرَتَّبَةً عَلَى دُعَائِنَا وَأُعْلِمَ أَنَّ دُعَاءَنَا يُحَصِّلُ لَهُ ذَلِكَ فَحَسُنَ أَمْرُنَا بِالدُّعَاءِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ هَذِهِ الْأُمُورِ وَحَسُنَ الْإِخْبَارُ بِحُصُولِهَا ؛ لِأَنَّهُ أُعْلِمَ بِوُقُوعِ سَبَبِ حُصُولِهَا ، وَالْمُحَرَّمُ إنَّمَا هُوَ الدُّعَاءُ بِحُصُولِ شَيْءٍ قَدْ عُلِمَ حُصُولُهُ مِنْ غَيْرِ دُعَائِنَا فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ ) قُلْت جَوَابُهُ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَعْلُومِ الْحُصُولُ مَمْنُوعٌ وَذَلِكَ هُوَ عَيْنُ دَعْوَاهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ أَتَى بِهَا .
قَالَ ( الثَّانِي أَنْ يَقُولَ الدَّاعِي اجْعَلْ صَوْمَ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ لِي سَنَةً ، وَقَدْ جَاءَ فِي

الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ { صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ وَصَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً } فَلَا يَجُوزُ طَلَبُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
الثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِي كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهُنَّ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ { الصَّلَاةُ إلَى الصَّلَاةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا } فَيَكُونُ الدُّعَاءُ بِذَلِكَ مَعْصِيَةً لِمَا مَرَّ ) قُلْت مَا قَالَهُ دَعْوَى كَمَا سَبَقَ مَعَ أَنَّ هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ يَتَّجِهُ فِيهِمَا أَنْ يَكُونَ دُعَاءٌ بِتَحْسِينِ عَاقِبَتِهِ وَذَلِكَ مَجْهُولٌ عِنْدَهُ .

( وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ ) أَنْ يَسْأَلَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ثُبُوتَ أَمْرٍ دَلَّ السَّمْعُ عَلَى ثُبُوتِهِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : مِنْهَا أَنْ يَقُولَ جَعَلَ اللَّهُ مَوْتَ مَنْ مَاتَ مِنْ أَوْلَادِك حِجَابًا مِنْ النَّارِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَوْمَ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ لِي سَنَةً ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِي كَفَّارَاتٍ لِمَا بَيْنَهُنَّ .
قَالَ الْأَصْلُ : فَالدُّعَاءُ بِهَذِهِ الْأَدْعِيَةِ الثَّلَاثَةِ وَنَظَائِرِهَا مَعْصِيَةٌ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ طَلَبٌ لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ قَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَلَى أَنَّ { مَنْ مَاتَ لَهُ اثْنَانِ مِنْ الْوَلَدِ كَانَا حِجَابًا لَهُ مِنْ النَّارِ } ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ { صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ وَصَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً } ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { الصَّلَاةُ إلَى الصَّلَاةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا } قَالَ وَأَمَّا مَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ أَمْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا بِأَنْ نَدْعُوَ لَهُ بِقَوْلِنَا اللَّهُمَّ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ وَابْعَثْهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدْته إنَّك لَا تُخْلِفْ الْمِيعَادَ مَعَ إنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ { الْوَسِيلَةَ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لِعَبْدٍ صَالِحٍ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ إيَّاهُ وَأَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ الشَّفَاعَةُ } ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أُعْطِيهَا فَيَلْزَمُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إمَّا إبَاحَةُ الدُّعَاءِ بِمَا هُوَ ثَابِتٌ وَإِمَّا الْإِشْكَالُ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ كَوْنِهِ أُعْطِيهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَدْفَعُهُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ أَنَّهُ أُعْطِيَ هَذِهِ الْأُمُورَ مَرْتَبَةً عَلَى دُعَائِنَا وَأَعْلَمَ أَنَّ دُعَاءَنَا

يُحَصِّلُ لَهُ ذَلِكَ فَحَسُنَ أَمْرُنَا بِالدُّعَاءِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ هَذِهِ الْأُمُورِ وَحَسُنَ الْإِخْبَارُ بِحُصُولِهَا ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمَ بِوُقُوعِ سَبَبِ حُصُولِهَا وَالْمُحَرَّمُ إنَّمَا هُوَ الدُّعَاءُ بِحُصُولِ شَيْءٍ قَدْ عُلِمَ حُصُولُهُ مِنْ غَيْرِ دُعَائِنَا .
ا هـ .
وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الشَّاطِّ بِأَنَّ جَوَابَهُ هَذَا عَمَّا ذَكَرَ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا بِأَنْ نَدْعُوَ لَهُ بِمَا ذَكَرَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَعْلُومِ الْحُصُولَ مَمْنُوعٌ وَذَلِكَ هُوَ عَيْنُ دَعْوَاهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ أَتَى بِهَا عَلَى أَنَّهُ يَتَّجِهُ فِي الْمِثَالِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَنْ يَكُونَ دُعَاءُ الدَّاعِي بِهَا بِتَحْسِينِ عَاقِبَتِهِ وَذَلِكَ مَجْهُولٌ عِنْدَهُ ا هـ .
قُلْت بَلْ يَتَّجِهُ فِي جَمِيعِ أَمْثِلَةِ هَذَا الْقِسْمِ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ الْجَلَالِ السُّيُوطِيّ أَنَّ مِنْ الدُّعَاءِ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ مِنْ قَبِيلِ التَّحَدُّثِ بِالنِّعْمَةِ أَيْ أَوْ الْحَمْلِ عَلَيْهِ فَافْهَمْ .

( الْقِسْمُ الْخَامِسُ ) فِي الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى نَفْيَ مَا دَلَّ السَّمْعُ الْوَارِدُ بِطَرِيقِ الْآحَادِ عَلَى ثُبُوتِهِ وَقَوْلِي بِطَرِيقِ الْآحَادِ احْتِرَازٌ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ فَإِنَّ طَلَبَ نَفْيِ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْكُفْرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ ( الْأَوَّلُ ) أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعَ ذُنُوبِهِمْ ، وَقَدْ دَلَّتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ النَّارَ وَخُرُوجِهِمْ مِنْهَا بِشَفَاعَةٍ وَبِغَيْرِ شَفَاعَةٍ ، وَدُخُولُهُمْ النَّارَ إنَّمَا هُوَ بِذُنُوبِهِمْ فَلَوْ غُفِرَ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ ذُنُوبُهُمْ كُلُّهَا لَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ النَّارَ فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ مُسْتَلْزِمًا لِتَكْذِيبِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فَيَكُونُ مَعْصِيَةً وَلَا يَكُونُ كُفْرًا ؛ لِأَنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ وَالتَّكْفِيرُ إنَّمَا يَكُونُ بِجَحْدِ مَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ بِالضَّرُورَةِ أَوْ بِالتَّوَاتُرِ ، فَإِنْ قُلْت فَمِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ إذَا قَالَ الْإِنْسَانُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَنْ يَقُولَ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا خِلَافُ مَا قَرَّرْته ، .
وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُوا { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَك وَقِهمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } أَيْ تَابُوا مِنْ الْكُفْرِ وَاتَّبَعُوا الْإِسْلَامَ وَلَفْظُ الَّذِينَ عَامٌّ فِي التَّائِبِينَ مِنْ الْكُفْرِ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ فَيَكُونُ عَامًّا فِي الْمُؤْمِنِينَ ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ } عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ خِلَافُ مَا قَرَّرْته قُلْت الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ، فَإِنْ أَرَادَ الْمَغْفِرَةَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَا عَلَى وَجْهِ التَّعْمِيمِ صَحَّ أَنْ يُشْرِكَ مَعَهُ كَافَّةَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا طَلَبَهُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مَغْفِرَةِ بَعْضِ الذُّنُوبِ

وَدُخُولِهِمْ النَّارَ بِبَعْضٍ آخَرَ فَلَا يُنَافِي أَحَادِيثَ الشَّفَاعَةِ وَإِنْ أَرَادَ مَغْفِرَةَ جَمِيعِ ذُنُوبِهِ صَحَّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الدَّاخِلِينَ النَّارَ الْخَارِجِينَ بِالشَّفَاعَةِ ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ ، فَإِنْ أَرَادَ الْمَغْفِرَةَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَلَمْ يُشْرِكْهُمْ فِي جُمْلَةِ مَا طَلَبَهُ لِنَفْسِهِ صَحَّ أَيْضًا إذْ لَا مُنَافَاةَ فَلَا رَدَّ عَلَى النُّبُوَّةِ وَإِنْ أَرَادَ اشْتِرَاكَهُمْ مَعَهُ فِي جُمْلَةِ مَا طَلَبَهُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مَغْفِرَةُ جَمِيعِ الذُّنُوبِ فَذَلِكَ مُحَرَّمٌ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ .
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ طَلَبَ الْمَلَائِكَةِ الْمَغْفِرَةَ لِلْمُؤْمِنِ بِقَوْلِهِمْ { فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا } وقَوْله تَعَالَى { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ } لَا عُمُومَ فِي تِلْكَ الْأَلْفَاظِ لِكَوْنِهَا أَفْعَالًا فِي سِيَاقِ الثُّبُوتِ فَلَا تَعُمُّ إجْمَاعًا وَلَوْ كَانَتْ لِلْعُمُومِ لَوَجَبَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهَا الْخُصُوصَ وَهُوَ الْمَغْفِرَةُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لِلْقَوَاعِدِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ أَطْلَقَ الدَّاعِي قَوْلَهُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ جَازَ لِأَنَّ لَفْظَةَ افْعَلْ فِي سِيَاقِ الثُّبُوتِ فَلَا تَعُمُّ كَمَا أَطْلَقَتْهُ الْمَلَائِكَةُ .
الْمِثَالُ الثَّانِي ) أَنْ يَقُولَ الدَّاعِي اللَّهُمَّ اكْفِنِي أَمْرَ الْعُرْيِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى تَسْتَتِرَ عَوْرَتِي عَنْ الْأَبْصَارِ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { الْخَلَائِقَ يُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا } فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ مُسْتَلْزِمًا لِلرَّدِّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَبَرِهِ فَيَكُونُ مَعْصِيَةً .
( الثَّالِثُ ) أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ إذَا قَبَضْتَنِي إلَيْك وَأَمَتَّنِي فَلَا تُحْيِيَنِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَتَّى أَسْتَرِيحَ مِنْ وَحْشَةِ الْقَبْرِ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ رُجُوعُ الْأَرْوَاحِ إلَى الْأَجْسَادِ { إنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ خَفْقَ أَنْعِلَةِ الْمُنْصَرِفِينَ } ، وَقَدْ

قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَتْلَى بَدْرٍ { مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ } وَلَيْسَ ذَلِكَ خَاصًّا بِهِمْ إجْمَاعًا فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ مُسْتَلْزِمًا لِلرَّدِّ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ مَعْصِيَةً وَلِكَوْنِهِ مِنْ بَابِ الْآحَادِ لَا يَكُونُ كُفْرًا

قَالَ ( الْقِسْمُ الْخَامِسُ مِنْ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى نَفْيَ مَا دَلَّ السَّمْعُ الْوَارِدُ بِطَرِيقِ الْآحَادِ عَلَى ثُبُوتِهِ وَقَوْلِي بِطَرِيقِ الْآحَادِ احْتِرَازٌ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ فَإِنَّ طَلَبَ نَفْيَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْكُفْرِ كَمَا تَقَدَّمَ ) قُلْت قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى طَلَبِ نَفْيِ مَا دَلَّ السَّمْعُ الْقَاطِعُ عَلَى ثُبُوتِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْرٍ إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُكَفِّرُ بِالْمَآلِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبَهُ .
قَالَ ( وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : الْأَوَّلُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعَ ذُنُوبِهِمْ ، وَقَدْ دَلَّتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ النَّارَ وَخُرُوجِهِمْ مِنْهَا بِشَفَاعَةٍ وَبِغَيْرِ شَفَاعَةٍ وَدُخُولُهُمْ النَّارَ إنَّمَا هُوَ بِذُنُوبِهِمْ فَلَوْ غُفِرَ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ ذُنُوبُهُمْ كُلُّهَا لَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ النَّارَ فَيَكُونُ هَذِهِ الدُّعَاءُ مُسْتَلْزِمًا لِتَكْذِيبِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فَيَكُونُ مَعْصِيَةً وَلَا يَكُونُ كُفْرًا ؛ لِأَنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ وَالتَّكْفِيرُ إنَّمَا يَكُونُ بِجَحْدِ مَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ بِالضَّرُورَةِ أَوْ بِالتَّوَاتُرِ .
قَالَ فَإِنْ قُلْت فَمِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ إذَا قَالَ الدَّاعِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَنْ يَقُولَ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَهَذَا خِلَافُ مَا قَرَّرْته ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ { رَبَّنَا وَسِعْت كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَك وَقِهمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } أَيْ تَابُوا مِنْ الْكُفْرِ وَاتَّبَعُوا الْإِسْلَامَ وَلَفْظُ الَّذِينَ عَامٌّ فِي التَّائِبِينَ عَنْ الْكُفْرِ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ فَيَكُونُ عَامًّا فِي الْمُؤْمِنِينَ .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ } عَامٌّ جَمِيعَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ خِلَافُ مَا قَرَّرْته .
قَالَ قُلْت الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا قَالَ اللَّهُمَّ

اغْفِرْ لِي ، فَإِنْ أَرَادَ الْمَغْفِرَةَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَا عَلَى وَجْهِ التَّعْمِيمِ صَحَّ أَنْ يُشْرِكَ مَعَهُ كَافَّةَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا طَلَبَهُ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مَغْفِرَةِ بَعْضِ الذُّنُوبِ وَدُخُولِهِمْ النَّارَ بِبَعْضٍ آخَرَ فَلَا يُنَافِي الدُّعَاءُ أَحَادِيثَ الشَّفَاعَةِ ، وَإِنْ أَرَادَ مَغْفِرَةَ جَمِيعِ ذُنُوبِهِ صَحَّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الدَّاخِلِينَ النَّارَ الْخَارِجِينَ بِالشَّفَاعَةِ ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ ، فَإِنْ أَرَادَ الْمَغْفِرَةَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَلَمْ يُشْرِكْهُمْ فِي جُمْلَةِ مَا طَلَبَهُ لِنَفْسِهِ صَحَّ أَيْضًا إذْ لَا مُنَافَاةَ فَلَا رَدَّ عَلَى النُّبُوَّةِ ، وَإِنْ أَرَادَ اشْتِرَاكَهُمْ مَعَهُ فِي جُمْلَةِ مَا طَلَبَهُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مَغْفِرَةُ جَمِيعِ الذُّنُوبِ فَذَلِكَ مُحَرَّمٌ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ طَلَبَ الْمَلَائِكَةِ الْمَغْفِرَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ { فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا } وقَوْله تَعَالَى { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ } لَا عُمُومَ فِي تِلْكَ الْأَلْفَاظِ لِكَوْنِهَا أَفْعَالًا فِي سِيَاقِ الثُّبُوتِ فَلَا تَعُمُّ إجْمَاعًا وَلَوْ كَانَتْ لِلْعُمُومِ لَوَجَبَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهَا الْخُصُوصَ وَهُوَ الْمَغْفِرَةُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لِلْقَوَاعِدِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ أَطْلَقَ الدَّاعِي قَوْلَهُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ جَازَ لِأَنَّ لَفْظَةَ افْعَلْ ؛ لِأَنَّ فِي سِيَاقِ الثُّبُوتِ لَا تَعُمُّ كَمَا أَطْلَقَتْهُ الْمَلَائِكَةُ ) .
قُلْت لَقَدْ كَلَّفَ هَذَا الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ شَطَطًا وَادَّعَى دَوَاعِيَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا وَهْمًا مِنْهُ وَغَلَطًا ، وَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ يُكَلِّفَ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقَهُ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ الْمَغْفِرَةَ لِذُنُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ قَضَى بِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَغْفِرُ لَهُ ، وَمِنْ أَيْنَ تَلْزَمُ الْمُنَافَاةُ بَيْنَ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ

وَوُجُوبِ نَقِيضِهَا ؟ هَذَا أَمْرٌ لَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا إلَّا مُجَرَّدَ التَّحَكُّمِ بِمَحْضِ التَّوَهُّمِ ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا عُمُومَ فِي قَوْله تَعَالَى { فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا } وقَوْله تَعَالَى { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ } لِكَوْنِهَا أَفْعَالًا فِي سِيَاقِ الثُّبُوتِ خَطَأٌ فَاحِشٌ ؛ لِأَنَّهُ الْتَفَتَ إلَى الْأَفْعَالِ دُونَ مَا بَعْدَهَا مِنْ مَعْمُولَاتِهَا وَالْمَعْمُولَاتُ فِي الْآيَتَيْنِ لَفْظًا عُمُومٌ .
قَالَ ( الْمِثَالُ الثَّانِي أَنْ يَقُولَ الدَّاعِي اللَّهُمَّ اكْفِنِي أَمْرَ الْعُرْيِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى تَسْتَتِرَ عَوْرَتِي عَنْ الْأَبْصَارِ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ إنَّ { الْخَلَائِقَ يُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا } فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ مُسْتَلْزِمًا لِلرَّدِّ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَبَرِهِ فَيَكُونُ مَعْصِيَةً .
الثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ إذَا قَبَضْتنِي إلَيْك وَأَمَتّنِي فَلَا تُحْيِنِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَتَّى أَسْتَرِيحَ مِنْ وَحْشَةِ الْقَبْرِ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ رُجُوعُ الْأَرْوَاحِ إلَى الْأَجْسَادِ { وَأَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ خَفْقَ أَنْعِلَةِ الْمُنْصَرِفِينَ } ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلَى بَدْرٍ { مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ } وَلَيْسَ ذَلِكَ خَاصًّا بِهِمْ إجْمَاعًا فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ مُسْتَلْزِمًا لِلرَّدِّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ مَعْصِيَةً وَلِكَوْنِهِ مِنْ بَابِ الْآحَادِ لَا يَكُونُ كُفْرًا ) قُلْت هَذَانِ الْمِثَالَانِ مِنْ الطِّرَازِ الْأَوَّلِ مُجَرَّدُ دَعْوَى ، وَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَدْعُوَ إلَّا بِمَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ ؟ لَا أَعْرِفُ لِذَلِكَ وَجْهًا وَلَا دَلِيلًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ ) أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى نَفْيَ مَا دَلَّ السَّمْعُ الْوَارِدُ بِطَرِيقِ الْآحَادِ عَلَى ثُبُوتِهِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : مِنْهَا أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعَ ذُنُوبِهِمْ ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اكْفِنِي أَمْرَ الْعُرْيِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى تَسْتَتِرَ عَوْرَتِي عَنْ الْأَبْصَارِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ إذَا قَبَضْتنِي إلَيْك وَأَمَتَّنِي فَلَا تُحْيِنِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَتَّى أَسْتَرِيحَ مِنْ وَحْشَةِ الْقَبْرِ .
قَالَ الْأَصْلُ : فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ الثَّلَاثَةِ وَأَمْثَالِهَا مُسْتَلْزِمٌ لِتَكْذِيبِ حَدِيثٍ مِنْ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحِيحَةِ وَالْوَارِدَةِ بِطَرِيقِ الْآحَادِ فَيَكُونُ مَعْصِيَةً لَا كُفْرًا ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ إنَّمَا يَكُونُ بِجَحْدِ مَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ بِالضَّرُورَةِ أَوْ بِالتَّوَاتُرِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ قَدْ دَلَّتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ النَّارَ وَخُرُوجِهِمْ مِنْهَا بِشَفَاعَةٍ وَبِغَيْرِ شَفَاعَةٍ وَدُخُولُهُمْ النَّارَ إنَّمَا هُوَ بِذُنُوبِهِمْ فَلَوْ غُفِرَ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ ذُنُوبُهُمْ كُلُّهَا لَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ النَّارَ وَمَا عُدَّ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَنْ يَقُولَ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ فِيهِ رَدٌّ عَلَى النُّبُوَّةِ حَيْثُ أَرَادَ الدَّاعِي بِقَوْلِهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي الْمَغْفِرَةَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَشَرَكَ مَعَهُ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا طَلَبَهُ .
وَكَذَا إنْ أَرَادَ مَغْفِرَةَ جَمِيعِ ذُنُوبِهِ وَشَرَكَ مَعَهُ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ مُرِيدًا فِي حَقِّهِمْ الْمَغْفِرَةَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَصَحَّ التَّعْمِيمُ فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الدَّاخِلِينَ النَّارَ الْخَارِجِينَ بِالشَّفَاعَةِ أَمَّا إنْ شَرَكَهُمْ مَعَهُ فِي جُمْلَةِ مَا طَلَبَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ مَغْفِرَةِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِيهِ حِينَئِذٍ رَدٌّ عَلَى

النُّبُوَّةِ فَيَكُونُ مُحَرَّمًا فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ .
وَإِنْ أَطْلَقَ الدَّاعِي قَوْلَهُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ جَازَ لِأَنَّ لَفْظَةَ افْعَلْ فِي سِيَاقِ الثُّبُوتِ فَلَا تَعُمُّ ، وَكَذَلِكَ الْأَلْفَاظُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ بِهَا الْمَغْفِرَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } أَيْ تَابُوا مِنْ الْكُفْرِ وَاتَّبَعُوا الْإِسْلَامَ وقَوْله تَعَالَى { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ } لَا عُمُومَ فِيهَا لِكَوْنِهَا أَفْعَالًا فِي سِيَاقِ الثُّبُوتِ فَلَا تَعُمُّ إجْمَاعًا ، وَلَوْ كَانَتْ لِلْعُمُومِ لَوَجَبَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهَا الْخُصُوصَ وَهُوَ الْمَغْفِرَةُ مِنْ الْجُمْلَةِ لِلْقَوَاعِدِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ ، وَأَمَّا الْمِثَالُ الثَّانِي فَلِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { الْخَلَائِقَ يُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا } ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ رُجُوعُ الْأَرْوَاحِ إلَى الْأَجْسَادِ { إنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ خَفْقَ أَنْعِلَةِ الْمُنْصَرِفِينَ } ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي قَتْلَى بَدْرٍ { مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ } وَلَيْسَ ذَلِكَ خَاصًّا بِهِمْ إجْمَاعًا ا هـ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَمَا قَالَهُ مِنْ الدُّعَاءِ بِهَذِهِ الْأَدْعِيَةِ وَنَحْوِهَا مَعْصِيَةٌ مُجَرَّدُ دَعْوَى ، وَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يُدْعَى إلَّا بِمَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ ؟ لَا أَعْرِفُ لِذَلِكَ وَجْهًا وَلَا دَلِيلًا .
وَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ يُكَلِّفَ اللَّهُ خَلْقَهُ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ الْمَغْفِرَةَ لِذُنُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ قَضَى بِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يُغْفَرُ لَهُ وَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ الْمُنَافَاةُ بَيْنَ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ وَوُجُوبِ نَقِيضِهَا ؟ هَذَا أَمْرٌ لَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا إلَّا مُجَرَّدَ التَّحَكُّمِ بِمَحْضِ

التَّوَهُّمِ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا عُمُومَ فِي قَوْله تَعَالَى { فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا } وقَوْله تَعَالَى { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ } لِكَوْنِهَا أَفْعَالًا فِي سِيَاقِ الثُّبُوتِ خَطَأٌ فَاحِشٌ ؛ لِأَنَّهُ الْتَفَتَ إلَى الْأَفْعَالِ دُونَ مَا بَعْدَهَا مِنْ مَعْمُولَاتِهَا وَالْمَعْمُولَاتُ فِي الْآيَتَيْنِ لَفْظًا عُمُومٌ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ كَلَّفَ هَذَا الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ شَطَطًا وَادَّعَى دَعْوًى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا وَهْمًا مِنْهُ وَغَلَطًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ طَلَبَ نَفْيِ مَا دَلَّ السَّمْعُ الْقَاطِعُ عَلَى ثُبُوتِهِ لَيْسَ بِكُفْرٍ إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُكَفِّرُ بِالْمَآلِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبَهُ ا هـ .

( الْقِسْمُ السَّادِسُ ) مِنْ الدُّعَاءِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ وَهُوَ أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ثُبُوتَ أَمْرٍ دَلَّ السَّمْعُ الْوَارِدُ بِطَرِيقِ الْآحَادِ عَلَى نَفْيِهِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : ( الْأَوَّلُ ) أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَسْتَرِيحَ مِنْ غَمِّهَا وَوَحْشَتِهَا مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ قَبْلَ غَيْرِي ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ رَدَّا عَلَى النُّبُوَّةِ فَيَكُونُ مَعْصِيَةً .
( الثَّانِي ) أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَوَّلَ دَاخِلِ الْجَنَّةِ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ دَاخِلِ الْجَنَّةِ } فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ مُضَادًّا لِخَبَرِ النُّبُوَّةِ فَيَكُونُ مَعْصِيَةً .
( الثَّالِثُ ) أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ الْأَغْنِيَاء يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْفُقَرَاءِ لِكَوْنِهِ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { الْفُقَرَاءَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ } فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ مُضَادًّا لِلْحَدِيثِ فَيَكُونُ مَعْصِيَةً وَلَا يَكُونُ كُفْرًا لِأَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ

قَالَ ( الْقِسْمُ السَّادِسُ مِنْ الدُّعَاءِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ثُبُوتَ أَمْرٍ دَلَّ السَّمْعُ الْوَارِدُ بِطَرِيقِ الْآحَادِ عَلَى نَفْيِهِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ الْأَوَّلِ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَسْتَرِيحَ مِنْ غَمِّهَا وَوَحْشَتِهَا مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ قَبْلَ غَيْرِي ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ } فَيَكُونَ هَذَا الدُّعَاءُ رَدًّا عَلَى النُّبُوَّةِ فَيَكُونَ مَعْصِيَةً .
الثَّانِي أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَوَّلَ دَاخِلٍ الْجَنَّةَ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ دَاخِلِ الْجَنَّةِ } فَيَكُونَ هَذَا الدُّعَاءُ مُضَادًّا لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ الْأَغْنِيَاءَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْفُقَرَاءِ لِكَوْنِهِ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ غَيْرُ ذَلِكَ فَيَكُونُ مَعْصِيَةً ) قُلْت قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا مُضَادَّةَ بَيْنَ التَّكْلِيفِ بِطَلَبِ أَمْرٍ وَنُفُوذِ الْقَضَاءِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ وَمُدَّعِي ذَلِكَ مُطَالَبٌ بِالدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَأْتِ عَلَى ذَلِكَ بِدَلِيلٍ إلَّا مُجَرَّدَ دَعْوَى الْمُضَادَّةِ .

( الْقِسْمُ السَّادِسُ ) أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ثُبُوتَ أَمْرٍ دَلَّ السَّمْعُ الْوَارِدُ بِطَرِيقِ الْآحَادِ عَلَى نَفْيِهِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : مِنْهَا أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَسْتَرِيحَ مِنْ غَمِّهَا وَوَحْشَتِهَا مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ قَبْلَ غَيْرِي ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَوَّلَ دَاخِلٍ الْجَنَّةَ ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ الْأَغْنِيَاءَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْفُقَرَاءِ لِكَوْنِهِ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ .
قَالَ الْأَصْلُ : فَكُلُّ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ الثَّلَاثَةِ مُضَادٌّ لِخَبَرٍ مِنْ أَخْبَارِ النُّبُوَّةِ فَيَكُونُ مَعْصِيَةً لَا كُفْرًا ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ هُنَا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ دَاخِلِ الْجَنَّةِ } ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { الْفُقَرَاءَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ } ا هـ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الشَّاطِّ بِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا مُضَادَّةَ بَيْنَ التَّكْلِيفِ بِطَلَبِ أَمْرٍ مَا وَنُفُوذِ الْقَضَاءِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ وَمُدَّعِي ذَلِكَ مُطَالَبٌ بِالدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَأْتِ عَلَى ذَلِكَ بِدَلِيلٍ إلَّا مُجَرَّدَ دَعْوَى الْمُضَادَّةِ ا هـ بِلَفْظِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْقِسْمُ السَّابِعُ ) مِنْ الدُّعَاءِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ وَهُوَ الدُّعَاءُ الْمُعَلَّقُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت وَلَا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إلَّا أَنْ تَشَاءَ وَلَا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَدَّرْت غَيْرَ ذَلِكَ وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ النَّظَائِرَ لِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ { لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت وَلْيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ } وَسِرُّهُ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ عَرِيَ عَنْ إظْهَارِ الْحَاجَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيُشْعِرُ بِغِنَى الْعَبْدِ عَنْ الرَّبِّ وَطَلَبُ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ مُحَالٌ فَإِنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مُنَاقِضٌ لِقَوَاعِد الشَّرِيعَةِ وَالْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاقِعَ بِغَيْرِ دُعَاءٍ ، وَقَدْ عَلِمَ أَنْ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ طَلَبُهُ لِأَجْلِ أَنَّ الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا مُقَدَّرَةً وَإِذَا قُدِّرَتْ فَهِيَ وَاقِعَةٌ جَزْمًا

.
قَالَ ( الْقِسْمُ السَّابِعُ مِنْ الدُّعَاءِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ وَهُوَ الدُّعَاءُ الْمُعَلَّقُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت وَلَا إلَّا إنْ تَشَاءَ وَلَا إلَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ قَدَّرْت غَيْرَ ذَلِكَ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ { لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت وَلْيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ } وَسِرُّهُ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ عَرِيَ عَنْ إظْهَارِ الْحَاجَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيُشْعِرُ بِغِنَى الْعَبْدِ عَنْ الرَّبِّ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ قَالَ ( وَطَلَبُ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ مُحَالٌ فَإِنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مُنَاقِضٌ لِقَوَاعِد الشَّرِيعَةِ وَالْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى ) قُلْت لَيْسَ مَا قَالَهُ فِي طَلَبِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ بِصَحِيحٍ ، وَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بِالْمَغْفِرَةِ وَهِيَ مَعْلُومَةُ الْحُصُولِ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَدْعُوَ لَهُ بِإِيتَائِهِ الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ وَابْعَثْهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدْته وَذَلِكَ كُلُّهُ مَعْلُومُ الْحُصُولِ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا .
قَالَ ( وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاقِعَ بِغَيْرِ دُعَاءٍ ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ طَلَبُهُ لِأَجْلِ أَنَّ الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا مُقَدَّرَةً وَإِذَا قُدِّرَتْ فَهِيَ وَاقِعَةٌ جَزْمًا ) قُلْت قَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُ مِثْلِ هَذَا فِيمَا سَبَقَ .

( الْقِسْمُ الثَّامِنُ ) مِنْ الدُّعَاءِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ الدُّعَاءُ الْمُعَلَّقُ بِشَأْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُ أَمْثِلَةٌ .
( الْأَوَّلُ ) أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ افْعَلْ بِي مَا أَنْتِ لَهُ أَهْلٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَذَا الدُّعَاءُ يَعْتَقِدُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ أَنَّهُ حَسَن وَهُوَ قَبِيحٌ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا هُوَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ فِي الذُّنُوبِ هُوَ أَهْلُ لِلْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهَا وَنِسْبَةُ الْأَمْرَيْنِ إلَى جَلَالِهِ تَعَالَى نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَكَذَلِكَ تَعَلُّقُ قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَقَضَائِهِ بِالْخُيُورِ كَنِسْبَةِ تَعَلُّقِهَا بِالْمَكَارِهِ وَالشُّرُورِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِشَأْنِهِ مِنْ الْآخَرِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ الْأَصْلَحَ لِعِبَادِهِ وَأَنْ لَا يَفْعَلَهُ ، وَنِسْبَةُ الْأَمْرَيْنِ إلَيْهِ تَعَالَى نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ وَكُلُّ ذَلِكَ شَأْنُ اللَّهِ تَعَالَى فِي مُلْكِهِ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ وَالْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ دَائِرُونَ بَيْنَ عَدْلِهِ وَفَضْلِهِ فَمَنْ هَلَكَ مِنْهُمْ فَبِعَدْلِهِ وَمَنْ نَجَا فَبِفَضْلِهِ وَعَدْلِهِ ، وَفَضْلُهُ مِنْ شَأْنِهِ وَنِسْبَتُهُمَا إلَيْهِ تَعَالَى نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يَزِيدُهُ الْإِحْسَانُ جَلَالًا وَعَظَمَةً وَلَا يُنْقِصُ الْعَدْلُ مِنْ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ بَلْ الْأَمْرَانِ مُسْتَوِيَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَكِلَاهُمَا شَأْنُهُ فَمَنْ دَعَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَالَ اللَّهُمَّ افْعَلْ بِي مَا أَنْتَ أَهْلُهُ فَقَدْ سَأَلَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ بِهِ إمَّا الْخَيْرَ وَإِمَّا الشَّرَّ وَأَنْ يَغْفِرَ لَهُ أَوْ يُؤَاخِذَهُ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت } وَلِأَنَّ الدُّعَاءَ بِمِثْلِ هَذَا فِيهِ إظْهَارُ الِاسْتِغْنَاءِ وَعَدَمُ الِافْتِقَارِ فَيَكُونُ مَعْصِيَةً إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الدَّاعِي مَا أَنْتَ أَهْلُهُ مِنْ الْخَيْرِ الْجَزِيلِ وَلَا يَقْتَصِرُ فِي نِيَّتِهِ عَلَى مُطْلَقِ الْخَيْرِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَأَعْظِمُوا الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ وَإِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ تَعَالَى فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى } ، فَإِنْ عَرِيَتْ نَفْسُ الدَّاعِي عَنْ نِيَّةِ تَعْظِيمِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ الْقَصْدِ إلَى الْخَيْرِ فِي الْجُمْلَةِ فَقَدْ ذَهَبَ التَّحْرِيمُ وَإِنْ عَرِيَتْ عَنْ النِّيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ كَانَ بِهَذَا اللَّفْظِ عَاصِيًا وَهَذَا الدُّعَاءُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجِبُ عَلَيْهِ رِعَايَةُ الْمَصَالِحِ وَأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْخَيْرِ فَقَطْ وَلَا يُنْسَبُ إلَى شَأْنِهِ إلَّا ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ شَأْنُهُ عِنْدَهُمْ ، وَمَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ إمَّا كُفْرٌ أَوْ فُسُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فَلَا خَيْرَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ وَهُمَا مَذْهَبَانِ ضَالَّانِ يَسْبِقَانِ إلَى الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ وَلَا يَزَالُ الْبَشَرُ مَعَهُمَا حَتَّى تُرَوِّضَهَا الْعُلُومُ الْعَقْلِيَّةُ وَالنَّقْلِيَّةُ وَهُمَا الْحَشَوِيَّةُ وَالِاعْتِزَالُ فَلَا يَزَالُ الْإِنْسَانُ يَعْتَقِدُ الْجِسْمِيَّةَ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ إلَّا الْخَيْرَ وَلَا يَفْعَلُ الشَّرَّ إلَّا شِرِّيرٌ وَلَا يَزَالُ الْبَشَرُ كَذَلِكَ حَتَّى يُرْتَاضَ بِالْعِلْمِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ إنَّمَا يُرِيدُ بِهَذَا الدُّعَاءِ الْخَيْرَ وَلَكِنْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ شَأْنُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ أَهْلُهُ لَيْسَ إلَّا ، فَهِيَ شَائِبَةُ اعْتِزَالٍ تَسْبِقُ إلَى الطِّبَاعِ فَاحْذَرْهَا وَاقْصِدْ بِنِيَّتِك مَا يَلِيقُ بِجَلَالِ رَبِّك .
الْمِثَالُ الثَّانِي ) أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ افْعَلْ بِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا يَلِيقُ بِعَظَمَتِك وَاللَّائِقُ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَذَاتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَكُلِّ مَا يَأْتِي مِنْ هَذَا الْبَابِ وَاحِدَةٌ وَهُوَ الْفَضْلُ وَالْعَدْلُ وَهُمَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٌ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى

عَظَمَتِهِ ، فَيَكُونُ جَمِيعُ ذَلِكَ مُحَرَّمًا لِمَا مَرَّ .
( الثَّالِثُ ) أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ هَبْنِي مَا يَلِيقُ بِقَضَائِك وَقَدَرِك وَاللَّائِقُ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ الْكَثِيرُ وَالْحَقِيرُ وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ وَمَحْمُودُ الْعَاقِبَةِ وَغَيْرُ مَحْمُودِهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ حَرَامًا لِمَا تَقَدَّمَ

قَالَ ( الْقِسْمُ الثَّامِنُ مِنْ الدُّعَاءِ الْمُحَرَّمُ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ الدُّعَاءُ الْمُعَلَّقُ بِشَأْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : الْأَوَّلُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ افْعَلْ بِي مَا أَنْتَ لَهُ أَهْلٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَهَذَا الدُّعَاءُ يَعْتَقِدُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ أَنَّهُ حَسَنٌ وَهُوَ قَبِيحٌ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَمَا هُوَ أَهْلٌ لِلْمَغْفِرَةِ فِي الذُّنُوبِ هُوَ أَهْلٌ لِلْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهَا وَنِسْبَةُ الْأَمْرَيْنِ إلَى جَلَالِهِ تَعَالَى نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَكَذَلِكَ تَعَلُّقُ قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَقَضَائِهِ بِالْخُيُورِ كَنِسْبَةِ تَعَلُّقِهَا بِالْمَكَارِهِ وَالشُّرُورِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِشَأْنِهِ تَعَالَى وَجَلَالِهِ مِنْ الْآخَرِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ الْأَصْلَحَ لِعِبَادِهِ وَأَنْ لَا يَفْعَلَهُ ، وَنِسْبَةُ الْأَمْرَيْنِ إلَيْهِ تَعَالَى نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ كُلُّ ذَلِكَ شَأْنُ اللَّهِ تَعَالَى فِي مُلْكِهِ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ وَالْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ دَائِرُونَ بَيْنَ عَدْلِهِ وَفَضْلِهِ فَمَنْ هَلَكَ مِنْهُمْ فَبِعَدْلِهِ وَمَنْ نَجَا فَبِفَضْلِهِ وَعَدْلِهِ وَفَضْلُهُ مِنْ شَأْنِهِ وَنِسْبَتُهَا إلَيْهِ تَعَالَى نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يَزِيدُهُ الْإِحْسَانُ جَلَالًا وَعَظَمَةً وَلَا يُنْقِصُ الْعَدْلُ مِنْ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ بَلْ الْأَمْرَانِ مُسْتَوِيَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَكِلَاهُمَا شَأْنُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، فَمَنْ دَعَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ اللَّهُمَّ افْعَلْ بِي مَا أَنْتَ أَهْلُهُ فَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ بِهِ إمَّا الْخَيْرَ وَإِمَّا الشَّرَّ وَأَنْ يَغْفِرَ لَهُ أَوْ يُؤَاخِذَهُ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت } وَلِأَنَّ الدُّعَاءَ بِمِثْلِ هَذَا فِيهِ إظْهَارُ الِاسْتِغْنَاءِ وَعَدَمُ الِافْتِقَارِ فَيَكُونُ مَعْصِيَةً ) قُلْت قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا قَالَهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ ( إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الدَّاعِي مَا أَنْتَ أَهْلُهُ

مِنْ الْخَيْرِ الْجَزِيلِ ، وَلَا يَقْتَصِرُ فِي نِيَّتِهِ عَلَى مُطْلَقِ الْخَيْرِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَأَعْظِمُوا الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ وَإِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى } ، فَإِنْ عَرِيَتْ نَفْسُ الدَّاعِي عَنْ نِيَّةِ تَعْظِيمِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ الْقَصْدِ إلَى الْخَيْرِ فِي الْجُمْلَةِ فَقَدْ ذَهَبَ التَّحْرِيمُ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَإِنْ عَرِيَتْ عَنْ النِّيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ كَانَ بِهَذَا اللَّفْظِ عَاصِيًا ، وَهَذَا الدُّعَاءُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجِبُ عَلَيْهِ رِعَايَةُ الْمَصَالِحِ وَأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْخَيْرِ فَقَطْ وَلَا يُنْسَبُ إلَى شَأْنِهِ إلَّا ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ شَأْنُهُ عِنْدَهُمْ وَمَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ إمَّا الْكُفْرُ أَوْ فُسُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فَلَا خَيْرَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ ، وَهُمَا مَذْهَبَانِ ضَالَّانِ يَسْبِقَانِ إلَى الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ وَلَا يَزَالُ الْبَشَرُ مَعَهَا حَتَّى تُرَوِّضَهَا الْعُلُومُ الْعَقْلِيَّةُ وَالنَّقْلِيَّةُ وَهُمَا الْحَشَوِيَّةُ وَالِاعْتِزَالُ فَلَا يَزَالُ الْإِنْسَانُ يَعْتَقِدُ الْجِسْمِيَّةَ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ إلَّا الْخَيْرَ وَلَا يَفْعَلُ الشَّرَّ إلَّا شِرِّيرٌ وَلَا يَزَالُ الْبَشَرُ كَذَلِكَ حَتَّى يُرْتَاضَ بِالْعِلْمِ وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ إنَّمَا يُرِيدُ بِهَذَا الدُّعَاءِ الْخَيْرَ وَلَكِنْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ شَأْنُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ أَهْلُهُ لَيْسَ إلَّا ، فَهِيَ شَائِبَةُ اعْتِزَالٍ تَسْبِقُ إلَى الطِّبَاعِ فَاحْذَرْهَا وَاقْصِدْ بِنِيَّتِك مَا يَلِيقُ بِجَلَالِ رَبِّك ) .
قُلْت حُكْمُهُ بِالْمَعْصِيَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الدُّعَاءِ فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي مِمَّنْ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ الِاعْتِزَالِ أَوْ

لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَذَلِكَ ضَلَالٌ كَمَا قَالَ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ هَلْ هُوَ كُفْرٌ أَوْ ضَلَالٌ غَيْرُ كُفْرٍ ؟ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ الِاعْتِزَالِ فَقَرِينَةُ الْحَالِ فِي كَوْنِ الْإِنْسَانَ لَا يُرِيدُ إلَّا الْخَيْرَ مَعَ سَلَامَتِهِ مِنْ اعْتِقَادِ الِاعْتِزَالِ تُقَيِّدُ مُطْلَقَ دُعَائِهِ فَلَا كُفْرَ وَلَا مَعْصِيَةَ .
قَالَ ( الْمِثَالُ الثَّانِي أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ افْعَلْ بِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا يَلِيقُ بِعَظَمَتِك إلَى آخِرِهِ ) قُلْت الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ .
قَالَ ( الثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ هَبْنِي مَا يَلِيقُ بِقَضَائِك وَقَدَرِكَ ، وَاللَّائِقُ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ الْكَثِيرُ وَالْحَقِيرُ وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ وَمَحْمُودُ الْعَاقِبَةِ وَغَيْرُ مَحْمُودِهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ حَرَامًا لِمَا تَقَدَّمَ ) قُلْت الْكَلَامُ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ .

( الْقِسْمُ التَّاسِعُ ) مِنْ الدُّعَاءِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ الدُّعَاءُ الْمُرَتَّبُ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْمَشِيئَةِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : ( الْأَوَّلُ ) أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ قَدِّرْ لِي الْخَيْرَ وَالدُّعَاءُ بِوَضْعِهِ اللُّغَوِيِّ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمُسْتَقْبَلَ ؛ لِأَنَّهُ طَلَبٌ وَالطَّلَبُ فِي الْمَاضِي مُحَالٌ فَيَكُونُ مُقْتَضَى هَذَا الدُّعَاءِ أَنْ يَقَعَ تَقْدِيرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ الزَّمَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ التَّقْدِيرِ بَلْ وَقَعَ جَمِيعُهُ فِي الْأَزَلِ فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ يَقْتَضِي مَذْهَبَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا قَضَاءَ وَأَنَّ الْأَمْرَ أَنِفَ كَمَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ الْخَوَارِجِ وَهُوَ فِسْقٌ بِالْإِجْمَاعِ .
( الثَّانِي ) أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اقْضِ لَنَا بِالْخَيْرِ وَقَدِّرْ وَاقْضِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ فِي الْعُرْفِ فَيَحْرُمُ لِمَا مَرَّ ، فَإِنْ قُلْت قَدْ وَرَدَ الدُّعَاءُ بِلَفْظِ الْقَدَرِ فِي حَدِيثِ { الِاسْتِخَارَةِ فَقَالَ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ وَرَضِّنِي بِهِ } قُلْت يَتَعَيَّنُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ التَّقْدِيرَ هَاهُنَا أُرِيدَ بِهِ التَّيْسِيرُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ وَأَنْتَ أَيْضًا إذَا أَرَدْت هَذَا الْمَجَازَ جَازَ ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْإِطْلَاقُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ .
( الثَّالِثُ ) أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ سَعَادَتَنَا مُقَدَّرَةً فِي عِلْمِك وَاَلَّذِي يَتَقَدَّرُ فِي الْعِلْمِ هُوَ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ الْقَدِيمَةُ فَكَمَا يَسْتَحِيلُ اسْتِئْنَافُ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِهِ يَسْتَحِيلُ اسْتِئْنَافُ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِهِ فَيَسْتَحِيلُ اسْتِئْنَافُ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالسَّعَادَةِ فَيَكُونُ مُحَرَّمًا لِمَا مَرَّ

قَالَ ( الْقِسْمُ التَّاسِعُ مِنْ الدُّعَاءِ الْمُحَرَّمِ وَاَلَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ الدُّعَاءُ الْمُرَتَّبِ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْمَشِيئَةِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : الْأَوَّلُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ قَدِّرْ لِي الْخَيْرَ ، وَالدُّعَاءُ بِوَضْعِهِ اللُّغَوِيِّ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمُسْتَقْبَلَ دُونَ الْمَاضِي ؛ لِأَنَّهُ طَلَبٌ وَالطَّلَبُ فِي الْمَاضِي مُحَالٌ فَيَكُونُ مُقْتَضَى هَذَا الدُّعَاءِ أَنْ يَقَعَ تَقْدِيرُ اللَّهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ الزَّمَانِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ التَّقْدِيرِ بَلْ وَقَعَ جَمِيعُهُ فِي الْأَزَلِ ، فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ يَقْتَضِي مَذْهَبَ مَنْ يَرَى لِأَنَّهُ لَا قَدَرَ وَأَنَّ الْأَمْرَ أَنِفَ كَمَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ الْخَوَارِجِ وَهُوَ فِسْقٌ بِالْإِجْمَاعِ .
الثَّانِي أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اقْضِ لَنَا بِالْخَيْرِ وَقَدِّرْ وَاقْضِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ فِي الْعُرْفِ فَيَحْرُمُ لِمَا مَرَّ ، فَإِنْ قُلْت وَرَدَ الدُّعَاءُ بِلَفْظِ الْقَدَرِ فِي حَدِيثِ { الِاسْتِخَارَةِ فَقَالَ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ وَرَضِّنِي بِهِ } قُلْت يَتَعَيَّنُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ التَّقْدِيرَ هَاهُنَا أُرِيدَ بِهِ التَّيْسِيرُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ وَأَنْتَ أَيْضًا إذَا أَرَدْت هَذَا الْمَجَازَ جَازَ ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْإِطْلَاقُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ ) قُلْت فِي هَذَا الْكَلَامِ نَقْصٌ فِيمَا أَرَى وَمِثْلُ ذَلِكَ الْكَلَامِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ اسْتِئْنَافُ صِفَتَيْ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ اسْتِئْنَافُ الْمَقْدِرَةِ وَالْمُرَادُ لِاسْتِحَالَةِ الْأَوَّلِ وَجَوَازِ الثَّانِي وَمُقْتَضَى اسْتِحَالَةِ الْأَوَّلِ قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ لِلثَّانِي فَلَا تَحْرِيمَ وَلَا مَعْصِيَةَ وَلَا يَفْتَقِرُ مَعَ ذَلِكَ إلَى نِيَّةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( الثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ سَعَادَتَنَا مُقَدَّرَةً فِي عِلْمِك وَاَلَّذِي يَتَقَدَّرُ فِي الْعِلْمِ هُوَ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ الْقَدِيمَةُ فَكُلَّمَا يَسْتَحِيلُ اسْتِئْنَافُ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِهِ يَسْتَحِيلُ اسْتِئْنَافُ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِهِ فَيَسْتَحِيلُ

اسْتِئْنَافُ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالسَّعَادَةِ فَيَكُونُ مُحَرَّمًا لِمَا مَرَّ ) قُلْت وَرَدَ عَنْ الشَّارِعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ فِي الِاسْتِخَارَةِ وَاقْدُرْ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا يَجُوزُ مِنْ اسْتِئْنَافِ الْمُرَادِ لَا الْإِرَادَةِ وَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ فِي اسْتِئْنَافِ الْعِلْمِ مِثْلُ ذَلِكَ فِيمَا عَلِمْت فَيَمْتَنِعُ الْإِبْهَامُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْقِسْمُ الْعَاشِرُ ) مِنْ الدُّعَاءِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ وَهُوَ الدُّعَاءُ بِالْأَلْفَاظِ الْعَجَمِيَّةِ لِجَوَازِ اشْتِمَالِهَا عَلَى مَا يُنَافِي جَلَالَ الرُّبُوبِيَّةِ فَمَنَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ ذَلِكَ وَبَعْضُهَا يَقْرَبُ مِنْ التَّحْرِيمِ وَبَعْضُهَا مِنْ الْكَرَاهَةِ بِحَسَبِ حَالِ مُسْتَعْمَلِيهَا مِنْ الْعَجَمِ فَمَنْ غَلَبَ عَلَى عَادَتِهِ الضَّلَالُ وَالْفَسَادُ حَرُمَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِهِ حَتَّى يُعْلَمَ خُلُوصُهُ مِنْ الْفَسَادِ ، وَمَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَالْكَرَاهَةُ سَدٌّ لِلذَّرِيعَةِ وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ قَوْله تَعَالَى لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُك أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ } وَقَوْلُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } مَعْنَاهُ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِجَوَازِ سُؤَالِهِ عِلْمٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِالْجَوَازِ شَرْطٌ فِي جَوَازِ السُّؤَالِ فَمَا لَا يُعْلَمُ جَوَازُهُ لَا يَجُوزُ سُؤَالُهُ وَأَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { إنِّي أَعِظُك أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ } وَاللَّفْظُ الْعَجَمِيُّ غَيْرُ مَعْلُومِ الْجَوَازِ فَيَكُونُ السُّؤَالُ بِهِ غَيْرَ جَائِزٍ وَلِذَلِكَ مَنَعَ مَالِكٌ مِنْ الرَّقْيِ بِهِ

.
قَالَ ( الْقِسْمُ الْعَاشِرُ مِنْ الدُّعَاءِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ وَهُوَ الدُّعَاءُ بِالْأَلْفَاظِ الْعَجَمِيَّةِ لِجَوَازِ اشْتِمَالِهَا عَلَى مَا يُنَافِي جَلَالَ الرُّبُوبِيَّةِ فَمَنَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ ذَلِكَ وَبَعْضُهَا يَقْرَبُ مِنْ التَّحْرِيمِ وَبَعْضُهَا مِنْ الْكَرَاهَةِ بِحَسَبِ حَالِ مُسْتَعْمِلِهَا مِنْ الْعَجَمِ فَمَنْ غَلَبَ عَلَى عَادَتِهِ الضَّلَالُ وَالْفَسَادُ حَرُمَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِهِ حَتَّى يَعْلَمَ خُلُوصَهُ مِنْ الْفَسَادِ وَمَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَالْكَرَاهَةُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ قَوْله تَعَالَى لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ } وَقَوْلُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } مَعْنَاهُ أَنْ أَسْأَلَك مَا لَيْسَ لِي بِجَوَازِ سُؤَالِهِ عِلْمٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِالْجَوَازِ شَرْطٌ فِي جَوَازِ السُّؤَالِ فَمَا لَا يُعْلَمُ جَوَازُهُ لَا يَجُوزُ سُؤَالُهُ ، وَأَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { إنِّي أَعِظُك أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ } وَاللَّفْظُ الْعَجَمِيُّ غَيْرُ مَعْلُومِ الْجَوَازِ فَيَكُونُ السُّؤَالُ بِهِ غَيْرَ جَائِزٍ .
وَلِذَلِكَ مَنَعَ مَالِكٌ الرَّقْيَ بِهِ ) .
قُلْت مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْقِسْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ ) مِنْ الدُّعَاءِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ الدُّعَاءُ عَلَى غَيْرِ الظَّالِمِ ؛ لِأَنَّهُ سَعَى فِي إضْرَارٍ غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ فَيَكُونُ حَرَامًا كَسَائِرِ الْمَسَاعِي الضَّارَّةِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ ، فَإِنْ قُلْت اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَالِمٌ بِأَحْوَالِ الْعِبَادِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا فَلَا يُجِيبُ دُعَاءَ مَنْ دَعَا ظُلْمًا لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ إضْرَارٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَظْلِمُ أَحَدًا فَلَا يَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ سَعَيَا لِلْإِضْرَارِ وَلَا وَسِيلَةً لَهُ قُلْت لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ ضَرَرًا وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مُسَلَّمٌ وَلَكِنَّ الْمَدْعُوَّ عَلَيْهِ لَا يَخْلُو غَالِبًا مِنْ ذُنُوبٍ اقْتَرَفَهَا أَوْ سَيِّئَاتٍ اكْتَسَبَهَا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الدَّاعِي فَيَسْتَجِيبُ اللَّهُ تَعَالَى دُعَاءَ هَذَا الدَّاعِي الظَّالِمِ بِهِ عَلَيْهِ وَيَجْعَلُهُ سَبَبًا لِلِانْتِقَامِ مِنْ هَذَا الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ بِذُنُوبِهِ السَّالِفَةِ كَمَا يُنْفِذُ فِيهِ سَهْمَ الْعَدُوِّ وَالْكَافِرِ وَسَيْفَ الْقَاتِلِ لَهُ ظُلْمًا إمَّا مُؤَاخَذَةً لَهُ بِذُنُوبِهِ أَوْ رَفْعًا لِدَرَجَاتِهِ مَعَ أَنَّ صَاحِبَ السَّيْفِ وَالسَّهْمِ ظَالِمٌ فَكَذَلِكَ صَاحِبُ الدُّعَاءِ ظَالِمٌ بِدُعَائِهِ وَيُنْفِذُ اللَّهُ دُعَاءَهُ كَسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ ، وَلِذَلِكَ يُسَلِّطُ اللَّهُ عَلَيْهِ السِّبَاعَ وَالْهَوَامَّ لِلِانْتِقَامِ وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ فِي حَقِّهَا مَا يُوجِبُ ذَلِكَ وَيُعَاقِبُ هَذَا الدَّاعِي أَيْضًا عَلَى دُعَائِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْكُلُّ عَدْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ لَوْ جَوَّزْنَا خُلُوَّ هَذَا الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ مِنْ الذُّنُوبِ مُطْلَقًا وَطَهَارَتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ لَجَوَّزْنَا اسْتِجَابَةَ هَذَا الدُّعَاءِ لِيَجْعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَإِظْهَارِ صَبْرِ الْعَبْدِ وَرِضَاهُ فَيَحْصُلَ لَهُ الْجَزِيلُ مِنْ الثَّوَابِ ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ عَلَى الظَّالِمِ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِجَوَازِهِ وَالْمُسْتَنَدُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَلَمَنْ انْتَصَرَ

بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } لَكِنَّ الْأَحْسَنَ الصَّبْرُ وَالْعَفْوُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } أَيْ مِنْ مَعْزُومِهَا وَمَطْلُوبِهَا عِنْدَ اللَّهِ ، فَإِنْ زَادَ فِي الْإِحْسَانِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ دَعَا لَهُ بِالْإِصْلَاحِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الظُّلْمِ فَقَدْ أَحْسَنَ إلَى نَفْسِهِ بِمَثُوبَةِ الْعَفْوِ وَتَحْصِيلِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَإِلَى الْجَانِي بِالتَّسَبُّبِ إلَى إصْلَاحِ صِفَاتِهِ وَإِلَى النَّاسِ بِالتَّسَبُّبِ إلَى كِفَايَتِهِمْ شَرَّهُ ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنْ الْإِحْسَانِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَفُوتَ اللَّبِيبَ لَا سِيَّمَا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا دَعَا بِمَكْرُوهٍ عَلَى غَيْرِهِ تَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ وَلَك مِثْلُهُ وَإِذَا دَعَا بِخَيْرٍ لِأَحَدٍ تَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ وَلَك مِثْلُهُ .
( تَنْبِيهٌ ) مِنْ الظُّلْمَةِ مَنْ إذَا عَلِمَ بِالْمُسَامَحَةِ وَالْعَفْوِ زَادَ طُغْيَانُهُ وَلَا يَرْدَعُهُ إلَّا إظْهَارُ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ فَلْيَكُنْ الْعَفْوُ عَنْهُ بَيْنَك وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تُظْهِرْ لَهُ ذَلِكَ بَلْ أَظْهِرْ لَهُ فِيهِ صَلَاحَهُ وَاسْتِصْلَاحَهُ وَمَنْ يَجُودُ إذَا جُدْت عَلَيْهِ كَانَ سِمَةَ خَيْرٍ فَيَنْبَغِي إظْهَارُ ذَلِكَ لَهُ وَحَيْثُ قُلْنَا بِجَوَازِ الدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِ فَلَا تَدْعُو عَلَيْهِ بِمُلَابَسَةِ مَعْصِيَةٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى وَلَا بِالْكُفْرِ فَإِنَّ إرَادَةَ الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ وَإِرَادَةَ الْكُفْرِ كُفْرٌ بَلْ تَدْعُو عَلَيْهِ بِإِنْكَادِ الدُّنْيَا وَلَا تَدْعُو عَلَيْهِ بِمُؤْلِمَةٍ لَمْ تَقْتَضِهَا جِنَايَتُهُ عَلَيْك بِأَنْ يَجْنِيَ عَلَيْك جِنَايَةً فَتَدْعُوَ عَلَيْهِ بِأَعْظَمَ مِنْهَا فَهَذَا حَرَامٌ عَلَيْك ؛ لِأَنَّك جَانٍ عَلَيْهِ بِالْمِقْدَارِ الزَّائِدِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الضَّوَابِطَ وَلَا تَخْرُجْ عَنْهَا .
فَإِنْ قُلْت فَإِنْ قَالَ اللَّهُمَّ اُرْزُقْهُ سُوءَ الْخَاتِمَةِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى

طَلَبِ الْكُفْرِ هَلْ يَكُونُ هَذَا الدَّاعِي كَافِرًا أَوْ لَا لِأَنَّ إرَادَةَ الْكُفْرِ كُفْرٌ وَالطَّالِبَ مُرِيدٌ لِمَا طَلَبَهُ قُلْت الدَّاعِي لَهُ حَالَتَانِ تَارَةً يُرِيدُ الْكُفْرَ بِالْعَرَضِ لَا بِالذَّاتِ فَيَقَعُ تَابِعًا لِمَقْصُودِهِ لَا أَنَّهُ مَقْصُودُهُ فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِرٍ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَدِدْت أَنْ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، ثُمَّ أُحْيَا فَأُقْتَلَ ، ثُمَّ أُحْيَا فَأُقْتَلَ } فَقَدْ طَلَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ كُفْرٌ لَكِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُرَادُهُ وَمَقْصُودُهُ مَنَازِلُ الشُّهَدَاءِ وَمَا عَدَا ذَلِكَ وَقَعَ تَابِعًا لِمَقْصُودِهِ لَا أَنَّهُ مَقْصُودُهُ فَمِثْلُ هَذَا لَا حَرَجَ فِيهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَكَذَلِكَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ مِنْ قَوْلِهِ { إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِك فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } مَقْصُودُهُ إنَّمَا هُوَ السَّلَامَةُ مِنْ الْقَتْلِ لَا مِنْ أَنْ يَقْتُلَ وَيَصْدُرَ مِنْهُ مَعْصِيَةُ الْقَتْلِ .
وَإِنْ لَزِمَ عَنْ ذَلِكَ مَعْصِيَةُ أَخِيهِ بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ } فَأَمَرَهُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَقْتُلَهُ غَيْرُهُ وَلَا يَعْزِمَ هُوَ عَلَى الْقَتْلِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ إنَّمَا هُوَ السَّلَامَةُ وَوَقَعَ غَيْرُ ذَلِكَ تَبَعًا وَتَارَةً يُرِيدُ الْكُفْرَ بِالذَّاتِ فَهَذَا كَافِرٌ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ بِالْكُفْرِ لَيْسَ إلَّا ، كَذَلِكَ هَذَا الدَّاعِي إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَعْصِيَ هَذَا الْمَدْعُوُّ عَلَيْهِ رَبَّهُ لَا أَنْ يَكْفُرَ بِاَللَّهِ وَيَقَعَ الْكُفْرُ تَبَعًا لِمَقْصُودِهِ فَهَذَا لَيْسَ بِكُفْرٍ .
نَعَمْ قَدْ لَا يَكُونُ الْمَدْعُوُّ عَلَيْهِ جَنَى عَلَيْهِ جِنَايَةً يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَابَلَ عَلَيْهَا بِهَذَا الدُّعَاءِ الْعَظِيمِ فَيَكُونُ عَاصِيًا بِجِنَايَتِهِ عَلَى الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ لَا كَافِرًا فَهَذَا تَفْصِيلُ حَالِ

هَذَا الدُّعَاءِ ، وَقَدْ غَلِطَ جَمَاعَةٌ فَأَفْتَوْا بِالتَّكْفِيرِ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ

قَالَ ( الْقِسْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ الدُّعَاءِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ الدُّعَاءُ عَلَى غَيْرِ الظَّالِمِ لِأَنَّهُ سَعْيٌ فِي إضْرَارٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ فَيَكُونُ حَرَامًا كَسَائِرِ الْمَسَاعِي الضَّارَّةِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ ، فَإِنْ قُلْت اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِأَحْوَالِ الْعِبَادِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا فَلَا يُجِيبُ دُعَاءَ مَنْ دَعَا ظُلْمًا لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ إضْرَارٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَظْلِمُ أَحَدًا فَلَا يَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ سَعْيًا لِلْإِضْرَارِ وَلَا وَسِيلَةً لَهُ قُلْت لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ ضَرَرًا ، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مُسَلَّمٌ وَلَكِنَّ الْمَدْعُوَّ عَلَيْهِ لَا يَخْلُو غَالِبًا مِنْ ذُنُوبٍ اقْتَرَفَهَا أَوْ سَيِّئَاتٍ اكْتَسَبَهَا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الدَّاعِي فَيَسْتَجِيبُ اللَّهُ تَعَالَى دُعَاءَ هَذَا الدَّاعِي الظَّالِمِ بِدُعَائِهِ وَيَجْعَلُهُ سَبَبًا لِلِانْتِقَامِ مِنْ هَذَا الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ بِذُنُوبِهِ السَّالِفَةِ كَمَا يَنْفُذُ فِيهِ سَهْمُ الْعَدُوِّ وَالْكَافِرِ وَسَيْفُ الْقَاتِلِ لَهُ ظُلْمًا إمَّا مُؤَاخَذَةً لَهُ بِذُنُوبِهِ أَوْ رَفْعًا لِدَرَجَاتِهِ مَعَ أَنَّ صَاحِبَ السَّيْفِ وَالسَّهْمِ ظَالِمٌ فَكَذَلِكَ صَاحِبُ الدُّعَاءِ ظَالِمٌ بِدُعَائِهِ ، وَيُنْفِذُ اللَّهُ دُعَاءَهُ كَسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ ، وَلِذَلِكَ يُسَلِّطُ اللَّهُ عَلَيْهِ السِّبَاعَ وَالْهَوَامَّ لِلِانْتِقَامِ ، وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ فِي حَقِّهَا مَا يُوجِبُ ذَلِكَ وَيُعَاقِبُ هَذَا الدَّاعِيَ أَيْضًا عَلَى دُعَائِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْكُلُّ عَدْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ لَوْ جَوَّزْنَا خُلُوَّ هَذَا الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ مِنْ الذُّنُوبِ مُطْلَقًا وَطَهَارَتَهُ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ لَجَوَّزْنَا اسْتِجَابَةَ هَذَا الدُّعَاءِ لِيَجْعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَإِظْهَارِ صَبْرِ الْعَبْدِ وَرِضَاهُ فَيَحْصُلَ لَهُ الْجَزِيلُ مِنْ الثَّوَابِ ) .
قُلْت مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ صَحِيحٌ إلَّا قَوْلَهُ وَإِظْهَارُ صَبْرِ الْعَبْدِ إنْ كَانَ يُرِيدُ بِهِ اشْتِرَاطَ الصَّبْرِ فِي رَفْعِ

الدَّرَجَاتِ بِالْمَصَائِبِ وَالْآلَامِ وَشِبْهِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ غَيْرُ مُكْتَسَبٍ عَلَى مَا سَبَقَ لَهُ فِي الْفَرْقِ الثَّالِثِ وَالسِّتِّينَ وَالْمِائَتَيْنِ وَسَبَقَ الْقَوْلُ فِي مُخَالَفَتِي إيَّاهُ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُرِدْ اشْتِرَاطَ الصَّبْرِ فِي ذَلِكَ بَلْ أَرَادَ إنَّمَا ذَكَرَهُ مِنْ إجَابَةِ دَعْوَةِ الظَّالِمِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمُصِيبَاتِ يَكُونُ سَبَبًا لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الصَّبْرِ وَيَكُونُ أَيْضًا سَبَبًا لِوُقُوعِ الصَّبْرِ مِنْ الصَّابِرِ فَقَدْ خَالَفَ قَوْلَهُ هُنَالِكَ وَنَاقَضَهُ بِهَذَا الْقَوْلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَأَمَّا الدُّعَاءُ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِجَوَازِهِ وَالْمُسْتَنَدُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَلَمَنْ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } لَكِنَّ الْأَحْسَنَ الصَّبْرُ وَالْعَفْوُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } أَيْ مِنْ مَعْزُومِهَا وَمَطْلُوبِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنْ زَادَ فِي الْإِحْسَانِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ دَعَا لَهُ بِالْإِصْلَاحِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الظُّلْمِ فَقَدْ أَحْسَنَ إلَى نَفْسِهِ بِمَثُوبَةِ الْعَفْوِ وَتَحْصِيلِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَإِلَى الْجَانِي بِالتَّسَبُّبِ إلَى إصْلَاحِ صِفَاتِهِ وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً بِالتَّسَبُّبِ إلَى كِفَايَتِهِمْ شَرَّهُ فَهَذِهِ ثَلَاثُ أَنْوَاعٍ مِنْ الْإِحْسَانِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَفُوتَ اللَّبِيبَ لَا سِيَّمَا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذْ دَعَا بِمَكْرُوهٍ عَلَى غَيْرِهِ تَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ وَلَك مِثْلُهُ ، وَإِذَا دَعَا بِخَيْرٍ تَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ وَلَك مِثْلُهُ ) قُلْت لَيْسَ فِي الْآيَةِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِ ، وَإِنَّمَا فِيهَا الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الِانْتِصَارِ وَالِانْتِصَارُ هُوَ الِانْتِصَافُ مِنْهُ عَلَى دَرَجَةٍ لَا يَكُونُ فِيهَا زِيَادَةٌ عَلَى قَدْرِ الظُّلْمِ وَبِالْوَجْهِ الَّذِي أُبِيحَ الِانْتِصَافُ بِهِ ، وَجَوَازُ الِانْتِصَافِ لَا يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ

الدُّعَاءِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ بِتَيْسِيرِ أَسْبَابِ الِانْتِصَافِ مِنْهُ فَقَدْ يُسَوِّغُ دَعْوَى دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ ضِمْنًا لَا صَرِيحًا ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا بِضِمْنٍ وَلَا صَرِيحٍ ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ إنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ دَعَا لَهُ فَقَدْ أَحْسَنَ إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى الْجَانِي صَحِيحٌ أَيْضًا ، وَمَا عَقَّبَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الْمُخْبِرِ عَنْ الْمَلَائِكَةِ تَقُولُ وَلَك مِثْلُهُ إنْ كَانَ أَرَادَ حَمْلَهُ عَلَى إطْلَاقِهِ فِي الدُّعَاءِ بِالْمَكْرُوهِ ، وَكَذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ بِالْمَحْبُوبِ فَلَا أَرَى ذَلِكَ صَحِيحًا بَلْ إنْ دَعَا عَلَى ظَالِمٍ بِأَنْ يُصَابَ بِمِثْلِ مَا أَصَابَ بِهِ فَلَا يَقُولُ الْمَلَكُ وَلَك مِثْلُهُ ، وَإِنَّمَا يَقُولُ الْمَلَكُ ذَلِكَ إذَا دَعَا عَلَى بَرِيءٍ أَوْ عَلَى جَانٍ بِأَزْيَدَ فِي جِنَايَتِهِ هَذَا فِي جَانِبِ الْمَكْرُوهِ ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ فِي جَانِبِ الْمَحْبُوبِ فَلَا أَرَاهُ إلَّا عَلَى إطْلَاقِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَالَ ( تَنْبِيهٌ مِنْ الظَّلَمَةِ مَنْ إذَا عَلِمَ بِالْمُسَامَحَةِ وَالْعَفْوِ زَادَ طُغْيَانُهُ وَلَا يَرْدَعُهُ إلَّا إظْهَارُ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ فَلْيَكُنْ الْعَفْوُ عَنْهُ بَيْنَك وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تُظْهِرْ لَهُ ذَلِكَ بَلْ أَظْهِرْ لَهُ مَا فِيهِ صَلَاحُهُ وَاسْتِصْلَاحُهُ وَمَنْ يَجُودُ إذَا جُدْت عَلَيْهِ كَانَ سِمَةَ خَيْرٍ فَيَنْبَغِي إظْهَارُ ذَلِكَ لَهُ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ ( وَحَيْثُ قُلْنَا بِجَوَازِ الدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِ فَلَا يَدْعُ عَلَيْهِ بِمُلَابَسَةِ مَعْصِيَةٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى وَلَا بِالْكُفْرِ فَإِنَّ إرَادَةَ الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ وَإِرَادَةَ الْكُفْرِ كُفْرٌ ) قُلْت لَيْسَ هَذَا الْإِطْلَاقُ عِنْدِي بِصَحِيحٍ بَلْ إنْ اقْتَرَنَ بِإِرَادَةِ الْمَعْصِيَةِ قَوْلٌ فِي الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ فِي الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ فِعْلٌ فَذَلِكَ مَعْصِيَةٌ وَإِلَّا فَلَا عَلَى مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ

بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ } فَإِرَادَةُ الْكُفْرِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ عُمُومِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَلَا أَعْلَمُ لِهَذَا الْحَدِيثِ الْآنَ مُعَارِضًا فَلَا كُفْرَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
هَذَا فِي إرَادَةِ الْمَرْءِ أَنْ يَعْصِيَ أَوْ أَنْ يَكْفُرَ فَكِلَا الْإِرَادَتَيْنِ مَعْصِيَةٌ لَا كُفْرٌ .
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَقَوْلُهُ ( بَلْ تَدْعُو عَلَيْهِ بِإِنْكَادِ الدُّنْيَا وَلَا تَدْعُ عَلَيْهِ بِمُؤْلِمَةٍ لَمْ تَقْتَضِهَا جِنَايَتُهُ عَلَيْك بِأَنْ يَجْتَنِيَ عَلَيْك جِنَايَةً فَتَدْعُوَ عَلَيْهِ بِأَعْظَمَ مِنْهَا فَهَذَا حَرَامٌ عَلَيْك ؛ لِأَنَّك جَانٍ عَلَيْهِ بِالْمِقْدَارِ الزَّائِدِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الضَّوَابِطَ وَلَا تَخْرُجْ عَنْهَا ) .
قُلْت مَا قَالَهُ فِيهِ صَحِيحٌ .
قَالَ ( فَإِنْ قُلْت فَإِنْ قَالَ اللَّهُمَّ اُرْزُقْهُ سُوءَ الْخَاتِمَةِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى طَلَبِ الْكُفْرِ هَلْ يَكُونُ هَذَا الدَّاعِي كَافِرًا أَوْ لَا لِأَنَّ إرَادَةَ الْكُفْرِ كُفْرٌ وَالطَّالِبَ مُرِيدٌ لِمَا طَلَبَهُ ؟ قُلْت الدَّاعِي لَهُ حَالَتَانِ : تَارَةً يُرِيدُ الْكُفْرَ بِالْعَرَضِ لَا بِالذَّاتِ فَيَقَعُ تَابِعًا لِمَقْصُودِهِ لَا أَنَّهُ مَقْصُودُهُ فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِرٍ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَدِدْت أَنْ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، ثُمَّ أَحْيَا فَأُقْتَلَ } فَقَدْ طَلَبَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ كُفْرٌ لَكِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُرَادُهُ وَمَقْصُودُهُ مَنَازِلُ الشُّهَدَاءِ ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ وَقَعَ تَابِعًا لِمَقْصُودِهِ لَا أَنَّهُ مَقْصُودُهُ فَمِثْلُ هَذَا لَا حَرَجَ فِيهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ) قُلْت قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُرِيدَ الْكُفْرِ لَيْسَ بِكَافِرٍ مَا لَمْ يَقَعْ مِنْهُ الْكُفْرُ بِقَوْلٍ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْكُفْرُ قَوْلًا أَوْ بِفِعْلٍ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِعْلًا فَمُرِيدُ مَا يَلْزَمُ عَنْهُ الْكُفْرُ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ كَافِرًا .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ

مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ مِنْ قَوْلِهِ { إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِك فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } مَقْصُودُهُ إنَّمَا هُوَ السَّلَامَةُ مِنْ الْقَتْلِ لَا مِنْ أَنْ يَقْتُلَ وَيَصْدُرَ مِنْهُ مَعْصِيَةُ الْقَتْلِ ، وَإِنْ لَزِمَ عَنْ ذَلِكَ مَعْصِيَةُ أَخِيهِ بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ ) قُلْت لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كُفْرٌ كَمَا تَقَدَّمَ .
قَالَ ( وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ } فَأَمَرَهُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَقْتُلَهُ غَيْرُهُ وَلَا يَعْزِمَ هُوَ عَلَى الْقَتْلِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ إنَّمَا هُوَ السَّلَامَةُ وَوَقَعَ غَيْرُ ذَلِكَ تَبَعًا ) قُلْت قَوْلُهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَقْتُلَهُ غَيْرُهُ وَلَا يَعْزِمَ هُوَ عَلَى الْقَتْلِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ مَا أَمَرَهُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَقْتُلَهُ غَيْرُهُ وَلَا نَهَاهُ أَنْ يَعْزِمَ هُوَ عَلَى الْقَتْلِ فَإِنَّهُ لَمْ يَجْرِ فِي لَفْظِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذِكْرُ إرَادَتِهِ وَلَا ذِكْرُ عَزْمِهِ بَلْ أَمَرَهُ بِالِاسْتِسْلَامِ وَتَرْكِ الْمُقَاتَلَةِ الَّتِي رُبَّمَا أَدَّتْ إلَى أَنْ تَكُونَ قَاتِلًا .
قَالَ ( وَتَارَةً يُرِيدُ الْكُفْرَ بِالذَّاتِ فَهَذَا كَافِرٌ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ تَعَالَى بِالْكُفْرِ لَيْسَ إلَّا ) قُلْت لَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ بَلْ إذَا أَرَادَ كُفْرَ غَيْرِهِ بِقَصْدِ إضْرَارِ ذَلِكَ الْغَيْرِ فَهِيَ مَعْصِيَةٌ غَيْرُ كُفْرٍ إلَّا أَنْ تَكُونَ إرَادَتُهُ كُفْرَ الْغَيْرِ بِقَصْدِ نَفْعِهِ لِرُجْحَانِ الْكُفْرِ عِنْدَهُ عَلَى الْإِيمَانِ فَهَذَا كُفْرٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَالَ ( كَذَلِكَ هَذَا الدَّاعِي إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ هَذَا الْمَدْعُوُّ عَلَيْهِ رَبُّهُ لَا أَنْ يَكْفُرَ بِاَللَّهِ وَيَقَعَ الْكُفْرُ تَبَعًا لِمَقْصُودِهِ فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِرٍ ) قُلْت مَا قَالَهُ صَحِيحٌ .
قَالَ ( فَهَذَا تَفْصِيلُ حَالِ هَذَا الدُّعَاءِ ، وَقَدْ غَلِطَ جَمَاعَةٌ فَأَفْتَوْا بِالتَّكْفِيرِ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ) قُلْت قَدْ سَبَقَ

أَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْرٍ وَلَا إذَا دَعَا بِالْكُفْرِ وَلَا بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ

( الْقِسْمُ الثَّانِيَ عَشَرَ ) مِنْ الدُّعَاءِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ وَهُوَ مَا اسْتَفَادَ التَّحْرِيمُ مِنْ مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ الْمَدْعُوُّ بِهِ لِكَوْنِهِ طَلَبًا لِوُقُوعِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْوُجُودِ أَمَّا الدَّاعِي فَكَقَوْلِهِ اللَّهُمَّ أَمِتْهُ كَافِرًا أَوْ اسْقِهِ خَمْرًا أَوْ أَعْنِهِ عَلَى الْمَكْسِ الْفُلَانِيِّ أَوْ وَطْءِ الْأَجْنَبِيَّةِ الْفُلَانِيَّةِ أَوْ يَسِّرْ لَهُ الْوِلَايَةَ الْفُلَانِيَّةَ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ أَوْ يَطْلُبُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ أَمَّا لِعَدُوِّهِ كَقَوْلِهِ اللَّهُمَّ لَا تُمِتْ فُلَانًا عَلَى الْإِسْلَامِ اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ مَنْ يَقْتُلُهُ أَوْ يَأْخُذُ مَالَهُ ، وَأَمَّا لِصَدِيقِهِ فَيَقُولُ اللَّهُمَّ يَسِّرْ لَهُ الْوِلَايَةَ الْفُلَانِيَّةَ أَوْ السَّفَرَ الْفُلَانِيَّ أَوْ صُحْبَةَ الْوَزِيرِ فُلَانٍ أَوْ الْمَلِكِ فُلَانٍ ، وَيَكُونُ جَمِيعُ ذَلِكَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَعْصِيَةٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى فَجَمِيعُ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ تَحْرِيمَ الْوَسَائِلِ وَمَنْزِلَتُهُ مِنْ التَّحْرِيمِ مَنْزِلَةُ مُتَعَلِّقِهِ ، فَالدُّعَاءُ بِتَحْصِيلِ أَعْظَمُ الْمُحَرَّمَاتِ أَقْبَحُ الدُّعَاءِ وَيُرْوَى مَنْ دَعَا لِفَاسِقٍ بِالْبَقَاءِ فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يُعْصَى اللَّهُ تَعَالَى وَمَحَبَّةُ مَعْصِيَتِهِ تَعَالَى مُحَرَّمَةٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ بِالْمُحَرَّمِ مُحَرَّمٌ فَهَذِهِ كُلُّهَا أَدْعِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ إمَّا كَبِيرَةٌ أَوْ صَغِيرَةٌ ، إنْ تَكَرَّرَتْ صَارَتْ كَبِيرَةً وَفِسْقًا وَالْعَاقِلُ الْحَرِيصُ عَلَى دِينِهِ أَوَّلُ مَا يَسْعَى فِي تَحْصِيلِ السَّلَامَةِ وَالْخُلُوصِ مِنْ الْمَهَالِكِ وَحِينَئِذٍ يَطْلُبُ الْأَرْبَاحَ فَهَذَا مَا حَضَرَنِي مِنْ الْأَدْعِيَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا الْمُحَرَّمَةِ وَمَا عَدَاهَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ عَمَلًا بِالِاسْتِقْرَاءِ وَهَذَا الْفَرْقُ وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ قَلَّ أَنْ تُوجَدَ فِي الْكُتُبِ بَلْ كَلِمَاتٌ يَسِيرَةٌ تُوجَدُ فِي بَعْضِهَا مُشِيرَةٌ إلَيْهَا أَمَّا التَّصْرِيحُ بِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَلِيلٌ أَوْ مَعْدُومٌ فَتَأَمَّلْهُ وَأَلْحِقْ مَا تَجِدُهُ بِنَظِيرِهِ فَيَنْضَبِطُ لَك الْمُبَاحُ مِنْ

غَيْرِهِ
وَمَا قَالَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي عَشَرَ صَحِيحٌ ، وَكَذَلِكَ مَا قَالَ فِي الْفَرْقِ الرَّابِعِ وَالسَّبْعِينَ وَالْمِائَتَيْنِ وَهُوَ فِي آخِرِ الْفُرُوقِ وَهُنَا انْتَهَى الْكَلَامُ عَلَى كِتَابِ أَنْوَارِ الْبُرُوقِ بِمَا وَفَّقَ اللَّهُ إلَيْهِ وَأَعَانَ عَلَيْهِ وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى ذَلِكَ وَكُلِّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ بِهَا وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
ا هـ .

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ مِنْ الدُّعَاءِ وَقَاعِدَةِ مَا لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ ) اعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الدُّعَاءِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دُعَاءٌ النَّدْبُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَيَعْرِضُ لَهُ مِنْ جِهَةِ مُتَعَلِّقِهِ مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَقَدْ تَقَدَّمَ وَمَا يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ وَلِذَلِكَ أَسْبَابٌ خَمْسَةٌ : ( السَّبَب الْأَوَّلُ ) الْأَمَاكِنُ كَالدُّعَاءِ فِي الْكَنَائِسِ وَالْحَمَّامَاتِ وَمَوَاضِعِ النَّجَاسَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ وَمَوَاضِعِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْمَعَاصِي وَالْمُخَالَفَاتِ كَالْحَانَاتِ وَنَحْوِهَا ، وَكَذَلِكَ الْأَسْوَاقُ الَّتِي يَغْلِبُ فِيهَا وُقُوعُ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَيْمَانِ الْحَانِثَةِ فَجَمِيعُ ذَلِكَ يُكْرَهُ الدُّعَاءُ فِيهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْقُرْبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى أَحْسَنِ الْهَيْئَاتِ فِي أَحْسَنِ الْبِقَاعِ وَالْأَزْمَانِ وَيَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى { نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ } ، فَإِنْ أَعْجَزَهُ الْخُلُوصُ مِنْ ذَلِكَ حَصَلَ لَهُ الدُّعَاءُ مَعَ فَوَاتِ رُتْبَةِ الدُّعَاءِ كَالصَّلَاةِ فِي الْبِقَاعِ الْمَكْرُوهَةِ .
( السَّبَبُ الثَّانِي ) لِلْكَرَاهَةِ الْهَيْئَاتُ كَالدُّعَاءِ مَعَ النُّعَاسِ وَفَرْطِ الشِّبَعِ وَمُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ أَوْ مُلَابَسَةِ النَّجَاسَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ أَوْ قَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْهَيْئَاتِ الَّتِي لَا تُنَاسَبُ التَّقَرُّبَ إلَى ذِي الْجَلَالِ ، فَإِنْ فَعَلَ صَحَّ مَعَ فَوَاتِ رُتْبَةِ الْكَمَالِ .
( السَّبَبُ الثَّالِثُ ) الْكَرَامَةُ كَوْنُهُ سَبَبًا لِتَوَقُّعِ فَسَادِ الْقُلُوبِ وَحُصُولِ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ كَمَا كَرِهَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِأَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ وَالْجَمَاعَاتِ الدُّعَاءَ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ فَيَجْتَمِعُ لِهَذَا الْإِمَامِ التَّقَدُّمُ فِي الصَّلَاةِ وَشَرَفُ كَوْنِهِ نَصَّبَ نَفْسَهُ وَاسِطَةً بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادِهِ فِي

تَحْصِيلِ مَصَالِحِهِمْ عَلَى يَدِهِ بِالدُّعَاءِ ، وَيُوشِكُ أَنْ تَعْظُمَ نَفْسُهُ عِنْدَهُ فَيَفْسُدَ قَلْبُهُ وَيَعْصِيَ رَبَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يُطِيعُهُ وَيُرْوَى أَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ اسْتَأْذَنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَنْ يَدْعُوَ لِقَوْمِهِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ بِدَعَوَاتٍ فَقَالَ لَا إنِّي أَخْشَى أَنْ تَشْمَخَ حَتَّى تَصِلَ إلَى الثُّرَيَّا إشَارَةً إلَى مَا ذَكَرْنَا وَيَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى كُلُّ مَنْ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِلدُّعَاءِ لِغَيْرِهِ وَخَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الْكِبْرَ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَالْأَحْسَنُ لَهُ التَّرْكُ حَتَّى تَحْصُلَ لَهُ السَّلَامَةُ .
( السَّبَبُ الرَّابِعُ ) كَوْنُ مُتَعَلِّقِهِ مَكْرُوهًا فَيُكْرَهُ كَرَاهَةَ الْوَسَائِلِ لَا كَرَاهَةَ الْمَقَاصِدِ كَالدُّعَاءِ بِالْإِعَانَةِ عَلَى اكْتِسَابِ الرِّزْقِ بِالْحِجَامَةِ وَنُزُوِّ الدَّوَابِّ وَالْعَمَلِ فِي الْحَمَّامَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحِرَفِ الدَّنِيَّاتِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الِاكْتِسَابِ بِغَيْرِهَا ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الدُّعَاءِ بِكُلِّ مَا نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاهَتِهِ يُكْرَهُ كَرَاهَةَ الْوَسَائِلِ .
( السَّبَبُ الْخَامِسُ ) لِلْكَرَاهَةِ عَدَمُ تَعْيِينِهِ قُرْبَةً بَلْ يُطْلَقُ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ وَالِاسْتِرَاحَةِ فِي الْكَلَامِ وَتَحْسِينِ اللَّفْظِ مِنْ الَّذِي يُلَابِسُهُ كَمَا يَجْرِي ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ السَّمَاسِرَةِ فِي الْأَسْوَاقِ عِنْدَ افْتِتَاحِ النِّدَاءِ عَلَى السِّلَعِ كَقَوْلِهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَيْرِ الْأَنَامِ .
قَالَ مَالِكٌ كَمْ يَقُولُونَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الدُّعَاءِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ الدُّعَاءُ وَكَمَا يَقُولُ الْمُتَحَدِّثُونَ فِي مَجَالِسِهِمْ مَا أَقْوَى فَرَسِ فُلَانٍ أَبْلَاهَا اللَّهُ بَدَنِيَّة أَوْ سُبْع وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى وَلَا يُرِيدُونَ شَيْئًا مِنْ حَقِيقَتِهِ فَهَذَا كُلُّهُ مَكْرُوهٌ ، وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى تَحْرِيمِهِ ، وَقَالَ كُلُّ مَا يُشْرَعُ قُرْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ إلَّا قُرْبَةً

لَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّلَاعُبِ ، فَإِنْ قُلْت قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ نَحْوًا مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ ، وَمَنْصِبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَزَّهٌ عَنْ الْمَكْرُوهَاتِ بَلْ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقَلُّ الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا فَمِنْ ذَلِكَ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَرِبَتْ يَدَاك وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ } لَمَّا تَعَجَّبَتْ مِمَّا لَمْ تَعْلَمْ مِنْ كَوْنِ الْمَرْأَةِ تُنْزِلُ الْمَنِيَّ كَمَا يُنْزِلُ الرَّجُلُ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَرَادَ إذَايَتَهَا بِالدُّعَاءِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْك بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك } لَيْسَ مِنْ الْإِرْشَادِ مَا يَقْتَضِي قَصْدَ الْإِضْرَارِ بِالدُّعَاءِ فَقَدْ اُسْتُعْمِلَ الدُّعَاءُ لَا عَلَى وَجْهِ الطَّلَبِ وَالتَّقَرُّبِ وَهُوَ عَيْنُ مَا نَحْنُ فِيهِ .
قُلْت لَفْظُ الدُّعَاءِ إذَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعُرْفِ فِي غَيْرِ الدُّعَاءِ انْتَسَخَ مِنْهُ حُكْمُ الدُّعَاءِ وَلَا يَنْصَرِفُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الدُّعَاءِ إلَّا بِالْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ فَإِذَا اسْتَعْمَلَهُ مُسْتَعْمِلٌ فِي غَيْرِ الدُّعَاءِ فَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا هُوَ مَوْضُوعٌ لَهُ عُرْفًا وَلَا حَرَجَ فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَنْصَرِفُ بِصَرَاحَتِهَا لِلدُّعَاءِ وَتُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ فَلَيْسَ مَا فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَهَاهُنَا انْتَهَى مَا جُمِعَ مِنْ الْقَوَاعِدِ وَالْفُرُوقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31