كتاب : أنوار البروق في أنواع الفروق
المؤلف : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْكِبْرِ وَقَاعِدَةِ الْعَجَبِ ) وَهُوَ مِنْ جِهَتَيْنِ أَيْضًا ( الْجِهَة الْأُولَى ) : مَا فِي الْأَصْلِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مِنْ أَنَّ الْكِبْرَ رَاجِعٌ لِلْخَلْقِ وَالْعِبَادِ كَمَا عُلِمَ مِنْ حَقِيقَتِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَالْعَجَبُ رَاجِعٌ لِلْعِبَادَةِ ؛ إذْ هُوَ رُؤْيَةُ الْعِبَادَةِ وَاسْتِعْظَامُهَا مِنْ الْعَبْدِ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ تَكُونُ بَعْدَ الْعِبَادَةِ ، وَمُتَعَلِّقَةٌ بِهَا هَذَا التَّعَلُّقَ الْخَاصَّ كَمَا يَتَعَجَّبُ الْعَابِدُ بِعِبَادَتِهِ .
وَالْعَالِمُ بِعِلْمِهِ ، وَكُلُّ مُطِيعٍ بِطَاعَتِهِ ، وَهُوَ - وَإِنْ كَانَ حَرَامًا - لَا يُفْسِدُ الْعِبَادَةَ ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ بَعْدَهَا بِخِلَافِ الرِّيَاءِ فَإِنَّهُ يَقَعُ مَعَهَا فَيُفْسِدُهَا وَسِرُّ تَحْرِيمِ الْعَجَبِ أَنَّهُ سُوءُ أَدَبٍ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَعْظِمَ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى سَيِّدِهِ بَلْ يَسْتَصْغِرُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَظَمَةِ سَيِّدِهِ لَا سِيَّمَا عَظَمَةُ اللَّهِ - تَعَالَى - وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } أَيْ مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ فَمَنْ أُعْجِبَ بِنَفْسِهِ وَعِبَادَتِهِ فَقَدْ هَلَكَ مَعَ رَبِّهِ ، وَهُوَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِمَقْتِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَسَخَطِهِ وَنَبَّهَ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } مَعْنَاهُ يَفْعَلُونَ مِنْ الطَّاعَاتِ مَا يَفْعَلُونَ وَهُمْ خَائِفُونَ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِتِلْكَ الطَّاعَةِ احْتِقَارًا لَهَا ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهَا ا هـ ( وَالْجِهَةُ الثَّانِيَةُ ) مَا فِي الزَّوَاجِرِ لِابْنِ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ الْكِبْرَ إمَّا بَاطِنٌ ، وَهُوَ خُلُقٌ فِي النَّفْسِ وَاسْمُ الْكِبْرِ بِهَذَا أَحَقُّ أَيْ كَمَا يُرْشِدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى { إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } فَجَعَلَ مَحِلَّهُ الْقَلْبَ وَالصُّدُورَ ، وَإِمَّا ظَاهِرٌ ،

وَهُوَ أَعْمَالٌ تَصْدُرُ مِنْ الْجَوَارِحِ ، وَهِيَ ثَمَرَاتُ ذَلِكَ الْخُلُقِ ، وَعِنْدَ ظُهُورِهَا يُقَالُ لَهُ تَكَبُّرٌ ، وَعِنْدَ عَدَمِهَا يُقَالُ فِي نَفْسِهِ كِبْرٌ فَالْأَصْلُ هُوَ خُلُقُ النَّفْسِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِرْوَاحُ وَالرُّكُونُ إلَى رُؤْيَةِ النَّفْسِ فَوْقَ الْمُتَكَبَّرِ عَلَيْهِ فَهُوَ يَسْتَدْعِي مُتَكَبَّرًا عَلَيْهِ وَمُتَكَبِّرًا بِهِ بِخِلَافِ الْعَجَبِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَدْعِي غَيْرَ الْمُعْجَبِ بِهِ حَتَّى لَوْ فُرِضَ انْفِرَادُهُ دَائِمًا أَمْكَنَ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ الْعَجَبُ دُونَ الْكِبْرِ ، وَمُجَرَّدُ اسْتِعْظَامِ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي التَّكَبُّرَ إلَّا إنْ كَانَ ثَمَّ مَنْ يَرَى أَنَّهُ فَوْقَهُ ا هـ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْعَجَبِ وَقَاعِدَةِ التَّسْمِيعِ ) كِلَاهُمَا مَعْصِيَةٌ وَيُعَكِّرُ عَلَى الْعِبَادَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُوَازَنَةِ لَا مِنْ جِهَةِ الْإِحْبَاطِ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أَيْ يُنَادِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَذَا فُلَانٌ عَمِلَ عَمَلًا لِي ثُمَّ أَرَادَ بِهِ غَيْرِي ، وَهُوَ غَيْرُ الرِّيَاءِ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ يَقَعُ قَبْلَهُ خَالِصًا ، وَالرِّيَاءُ مُقَارِنٌ مُفْسِدٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُجْبِ أَنَّهُ يَكُونُ بِاللِّسَانِ ، وَالْعُجْبُ بِالْقَلْبِ كِلَاهُمَا بَعْدِ الْعِبَادَةِ
( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْعَجَبِ وَقَاعِدَةِ التَّسْمِيعِ ) وَهُوَ أَنَّهُمَا ، وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعْصِيَةً لَا تُحْبِطُ الْعِبَادَةَ لِكَوْنِهَا تَقَعُ قَبْلَهُمَا خَالِصَةً بِخِلَافِ الرِّيَاءِ فَإِنَّهُ يُقَارِنُهَا فَيُحْبِطُهَا ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا تَقَدَّمَ كَوْنُ الْعَجَبِ مَعْصِيَةً لَا تُحْبِطُ الْعِبَادَةَ إلَخْ ، وَأَمَّا التَّسْمِيعُ فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أَيْ يُنَادَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَذَا فُلَانُ عَمِلَ عَمَلًا لِي ثُمَّ أَرَادَ بِهِ غَيْرِي فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إخْبَارِ الشَّخْصِ بِمَا عَمِلَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي أَخْلَصَ فِيهَا لِيُعْتَقَدَ فِيهِ ، وَيُكْرَمَ بِخِلَافِ الرِّيَاءِ فَإِنَّهُ كَمَا فِي تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ قَدْ سَرَّهُ تَرْكُ الْإِخْلَاصِ فِي الْعَمَلِ بِمُلَاحَظَةِ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِيهِ إلَّا أَنَّ التَّسْمِيعَ يُفَارِقُ الْعَجَبَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَكُونُ بِاللِّسَانِ ، وَالْعَجَبُ يَكُونُ بِالْقَلْبِ كَمَا عَلِمْت ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ ، وَبَيْنَ قَاعِدَةِ عَدَمِ الرِّضَا بِالْمَقْضِيِّ ) اعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَلْتَبِسَانِ عَلَيْهِ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ السَّخَطِ بِالْقَضَاءِ وَعَدَمِ الرِّضَا بِهِ ، وَالسَّخَطِ بِالْمَقْضِيِّ وَعَدَمِ الرِّضَا بِهِ اعْلَمْ أَنَّ السَّخَطَ بِالْقَضَاءِ حَرَامٌ إجْمَاعًا وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَاجِبٌ إجْمَاعًا بِخِلَافِ الْمَقْضِيِّ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْمَقْضِيِّ وَالْقَدَرِ وَالْمَقْدُورِ أَنَّ الطَّبِيبَ إذَا وَصَفَ لِلْعَلِيلِ دَوَاءً مُرًّا ، أَوْ قَطَعَ يَدَهُ الْمُتَآكِلَةَ ، فَإِنْ قَالَ : بِئْسَ تَرْتِيبُ الطَّبِيبِ ، وَمُعَالَجَتُهُ ، وَكَانَ غَيْرُ هَذَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِمَّا هُوَ أَيْسَرُ مِنْهُ فَهُوَ تَسَخُّطٌ بِقَضَاءِ الطَّبِيبِ وَأَذِيَّةٌ لَهُ ، وَجِنَايَةٌ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَوْ سَمِعَهُ الطَّبِيبُ كَرِهَ ذَلِكَ وَشَقَّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قَالَ : هَذَا دَوَاءٌ مُرٌّ قَاسَيْت مِنْهُ شَدَائِدَ ، وَقَطْعُ الْيَدِ حَصَلَ لِي مِنْهَا آلَامٌ عَظِيمَةٌ مُبَرِّحَةٌ فَهَذَا تَسَخُّطٌ بِالْمَقْضِيِّ الَّذِي هُوَ الدَّوَاءُ وَالْقَطْعُ لَا بِالْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ تَرْتِيبُ الطَّبِيبِ ، وَمُعَالَجَتُهُ فَهَذَا لَيْسَ قَدْحًا فِي الطَّبِيبِ ، وَلَا يُؤْلِمُهُ إذَا سَمِعَ ذَلِكَ بَلْ يَقُولُ لَهُ : صَدَقْت الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَعَلَى هَذَا إذَا اُبْتُلِيَ الْإِنْسَانُ بِمَرَضٍ فَتَأَلَّمَ مِنْ الْمَرَضِ بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ فَهَذَا لَيْسَ عَدَمَ رِضًا بِالْقَضَاءِ بَلْ عَدَمُ رِضًا بِالْمَقْضِيِّ ، وَإِنْ قَالَ : أَيَّ شَيْءٍ عَمِلْت حَتَّى أَصَابَنِي مِثْلُ هَذَا ، وَمَا ذَنْبِي وَمَا كُنْت أَسْتَأْهِلُ هَذَا فَهَذَا عَدَمُ رِضًا بِالْقَضَاءِ فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالرِّضَا بِالْقَضَاءِ ، وَلَا نَتَعَرَّضُ لِجِهَةِ رَبِّنَا إلَّا بِالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ ، وَلَا نَعْتَرِضُ عَلَيْهِ فِي مُلْكِهِ وَأَمَّا أَنَّا أُمِرْنَا بِأَنْ تَطِيبَ لَنَا الْبَلَايَا وَالرَّزَايَا وَمُؤْلِمَاتُ الْحَوَادِثِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَلَمْ تَرِدْ الشَّرِيعَةُ بِتَكْلِيفِ أَحَدٍ بِمَا لَيْسَ فِي طَبْعِهِ ، وَلَمْ يُؤْمَرْ الْأَرْمَدُ

بِاسْتِطَابَةِ الرَّمَدِ الْمُؤْلِمِ ، وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الْمَرَضِ بَلْ ذَمَّ اللَّهُ قَوْمًا لَا يَتَأَلَّمُونَ ، وَلَا يَجِدُونَ لِلْبَأْسَاءِ وَقْعًا فَذَمَّهُمْ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } فَمَنْ لَمْ يَسْكُنْ وَلَمْ يَذِلَّ لِلْمُؤْلِمَاتِ وَيُظْهِرْ الْجَزَعَ مِنْهَا وَيَسْأَلْ رَبَّهُ إقَالَةَ الْعَثْرَةِ مِنْهَا فَهُوَ جَبَّارٌ عَنِيدٌ بَعِيدٌ عَنْ طُرُقِ الْخَيْرِ فَالْمَقْضِيُّ وَالْمَقْدُورُ أَثَرُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فَالْوَاجِبُ هُوَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ فَقَطْ أَمَّا الْمَقْضِيُّ فَقَدْ يَكُونُ الرِّضَا بِهِ وَاجِبًا كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - وَالْوَاجِبَاتِ إذَا قَدَّرَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - لِلْإِنْسَانِ ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا فِي الْمَنْدُوبَاتِ وَحَرَامًا فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ وَمُبَاحًا فِي الْمُبَاحَاتِ ، وَأَمَّا بِالْقَضَاءِ فَوَاجِبٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ تَفْصِيلٍ فَمَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْمَعْصِيَةِ أَوْ الْكُفْرِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ أَنْ يُلَاحِظَ جِهَةَ الْمَعْصِيَةِ وَالْكُفْرِ فَيُكْرِهُهُمَا وَأَمَّا قَدَرُ اللَّهِ فِيهِمَا فَالرِّضَا بِهِ لَيْسَ إلَّا وَمَتَى سَخِطَهُ وَسَفَّهَ الرُّبُوبِيَّةَ فِي ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً أَوْ كُفْرًا مُنْضَمًّا إلَى مَعْصِيَتِهِ وَكُفْرِهِ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ فِي ذَلِكَ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْفُرُوقَ ، وَإِذَا وَضَحَتْ لَك فَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ إنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَخَاصَّةِ عِبَادِ اللَّهِ - تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْعَزِيزِ الْوُجُودِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ أَكْثَرُ الْعَوَامّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ إنَّمَا يَتَأَلَّمُونَ مِنْ الْمَقْضِيِّ فَقَطْ ، وَأَمَّا التَّوَجُّهُ إلَى جِهَةِ الرُّبُوبِيَّةِ بِالتَّجْوِيرِ وَالْقَضَاءِ بِغَيْرِ الْعَدْلِ ، فَهَذَا لَا يَكَادُ يُوجَدُ إلَّا نَادِرًا مِنْ الْفُجَّارِ وَالْمَرَدَةِ وَإِنَّمَا يَبْعَثُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَوْلِهِمْ : إنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْأَوْلِيَاءِ خَاصَّةً أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ

الرِّضَا بِالْقَضَاءِ هُوَ الرِّضَا بِالْمَقْضِيِّ وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ هُوَ عَزِيزُ الْوُجُودِ بَلْ هُوَ كَالْمُتَعَذِّرِ فَإِنَّا نَجْزِمُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأَلَّمَ لِقَتْلِ عَمِّهِ حَمْزَةَ وَمَوْتِ وَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ وَرَمْيِ عَائِشَةَ بِمَا رُمِيَتْ بِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الْمَقْضِيِّ وَنَجْزِمُ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ طِبَاعُهُمْ تَتَأَلَّمُ وَتَتَوَجَّعُ مِنْ الْمُؤْلِمَاتِ وَتُسَرُّ بِالْمَسَرَّاتِ وَإِذَا كَانَ الرِّضَا بِالْمَقْضِيَّاتِ غَيْرَ حَاصِلٍ فِي طَبَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ فَغَيْرُهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَالرِّضَا بِهَذَا التَّفْسِيرِ لَا طَمَعَ فِيهِ ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ غَلَطٌ بَلْ الْحَقُّ مَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ مُتَيَسِّرٌ عَلَى أَكْثَرِ الْعَوَامّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَضْلًا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَاعْلَمْ ذَلِكَ

قَالَ ( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَعَدَمِ الرِّضَا بِالْمُقَضَّى ) قُلْت : مَا قَالَهُ فِيهِ صَحِيحٌ مَا عَدَا قَوْلَهُ : وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ مَعَ عِلْمِهِ بِكُفْرِهِ فَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا مِنْ الْكَافِرِ عِنَادًا عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ ذَلِكَ عَادَةً ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ عَادَةً فَلَا ، وَمَا عَدَا قَوْلَهُ فَمَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْمَعْصِيَةِ أَوْ الْكُفْرِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُلَاحِظَ جِهَةَ الْمَعْصِيَةِ وَالْكُفْرِ فَيَكْرَهُهُمَا ، وَأَمَّا قَدَرُ اللَّهِ - تَعَالَى - فِيهِمَا فَالرِّضَا بِهِ لَيْسَ إلَّا وَمَتَى سَخِطَهُ وَسَفَّهَ الرُّبُوبِيَّةَ فِي ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً أَوْ كُفْرًا مُنْضَمًّا إلَى مَعْصِيَتِهِ وَكُفْرِهِ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ كَرَاهَةَ الْكُفْرِ لَا يَتَأَتَّى إلَّا مَعَ الْكُفْرِ عِنَادًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبَعِيدِ الْمُشَبَّهِ بِالْمُحَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا كُفْرَ عِنَادًا إلَّا لِحَامِلٍ يَحْمِلُهُ عَلَيْهِ وَيُرَجِّحُهُ عُنُدَهُ فَكَرَاهِيَتُهُ إيَّاهُ مَعَ رُجْحَانِهِ عِنْدَهُ كَالْمُتَنَاقَضِينَ ، وَأَمَّا كَرَاهِيَتُهُ الْمَعْصِيَةَ فَهِيَ مُمْكِنَةٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ عَاصٍ عَالِمٌ بِعِصْيَانِهِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ عَدَمِ الرِّضَا بِالْمَقْضِيِّ ) وَهُوَ أَنَّ الْقَضَاءَ قِيلَ : مُرَادِفٌ لِلْقَدَرِ ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ لَكِنَّهُ قَوِيٌّ وَعَلَيْهِ فَهَلْ هُمَا إرَادَةٌ فَقَطْ أَوْ إرَادَةٌ وَعِلْمٌ أَوْ هُمَا وَقُدْرَةٌ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ تَبَايُنُهُمَا وَعَلَيْهِ فَقِيلَ : الْقَضَاءُ إرَادَةٌ وَالْقَدَرُ إيجَادُ مُمْكِنٍ وَقِيلَ : بِالْعَكْسِ أَيْ الْقَضَاءُ إيجَادُ مُمْكِنٍ وَالْقَدَرُ إرَادَةٌ وَقَالَ السَّنُوسِيُّ : الْقَدَرُ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ مَعًا فِي الْأَزَلِ بِالْمُمْكِنِ ، وَالْقَضَاءُ إجْرَاءُ الْمُمْكِنِ عَلَى وَفْقِ مَا مَضَى بِهِ الْقَدَرُ وَالْعِلْمُ وَقَالَ الْقَرَافِيُّ : الْقَدَرُ تَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ فِي الْأَزَلِ بِالْمُمْكِنِ وَالْقَضَاءُ الْإِرَادَةُ بِحُكْمٍ خَبَرِيٍّ كَإِرَادَتِهِ - تَعَالَى - لِزَيْدٍ بِالسَّعَادَةِ مَعَ إخْبَارِهِ بِكَلَامِهِ وَقَدْ نَظَمَ الرَّهُونِيُّ حَاصِلَ هَذَا بِقَوْلِهِ وَفِي تَبَايُنِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرْ أَوْ التَّرَادُفِ خِلَافٌ اشْتَهَرْ وَالْأَوَّلُ الْمَعْزُوُّ لِلْجُمْهُورِ وَالثَّانِي قَوْلٌ لَيْسَ بِالْمَهْجُورِ ثُمَّ عَلَيْهِ هَلْ هُمَا إرَادَةٌ أُوتِيَ وَعِلْمٌ أَوْ هُمَا وَقُدْرَةٌ ثُمَّ عَلَى الْأَوَّلِ أَيْضًا اخْتُلِفْ عَلَى أَقَاوِيلَ فَهَاكَ مَا عُرِفْ قِيلَ الْقَضَاءُ إرَادَةٌ ثُمَّ الْقَدَرْ إيجَادُ مُمْكِنٍ وَعَكْسُ ذَا اشْتَهَرْ وَلِلسُّنُوسِيِّ الْإِمَامِ وَقَعَا تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ مَعَا فِي أَزَلٍ قُلْ قَدَرٌ ثُمَّ الْقَضَا إجْرَاءُ مُمْكِنٍ بِوَفْقِ مَا مَضَى أَوْ قَدْرُ تَعَلُّقِ الْإِرَادَهْ فِي أَزَلٍ فَحَصَلَ الْإِفَادَهْ ثُمَّ الْإِرَادَةُ بِحُكْمٍ خَبَرِي قُضِيَ وَهَذَا لِلْقَرَافِيِّ السَّرِيّ وَعَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَاجِبٌ إجْمَاعًا ، وَالسَّخَطُ وَعَدَمُ الرِّضَا بِهِ حَرَامٌ إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِأَنْ لَا نَتَعَرَّضَ لِجِهَةِ رَبِّنَا إلَّا بِالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ ، وَلَا نَتَعَرَّضَ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُنَا

سَاخِطًا لِقَضَائِهِ - تَعَالَى - : أَيَّ شَيْءٍ عَمِلْت حَتَّى أَصَابَنِي مِثْلُ هَذَا وَمَا ذَنْبِي وَمَا كُنْت أَسْتَأْهِلُ هَذَا وَفِي الزَّوَاجِرِ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ { مَنْ سَخِطَ رِزْقَهُ وَبَثَّ شَكْوَاهُ وَلَمْ يَصْبِرْ لَمْ يَصْعَدْ لَهُ إلَى اللَّهِ عَمَلٌ وَلَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ } .
ا هـ .
وَأَمَّا الْمَقْضِيُّ وَالْمَقْدُورُ فَهُوَ أَثَرُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَلَيْسَ الرِّضَا بِهِ وَاجِبًا عَلَى الْإِطْلَاقِ كَمَا هُوَ زَعْمُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ هُوَ الرِّضَا بِالْمَقْضِيِّ حَتَّى بَعَثَ هَؤُلَاءِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمْ : إنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْأَوْلِيَاءِ خَاصَّةً فَهُوَ عَزِيزُ الْوُجُودِ بَلْ هُوَ كَالْمُتَعَذِّرِ ، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ أَنَّ الرِّضَا بِهِ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - وَالْوَاجِبَاتِ إذَا قَدَّرَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - لِلْإِنْسَانِ ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا كَمَا فِي الْمَنْدُوبَاتِ وَحَرَامًا كَمَا فِي الْمُحَرَّمَاتِ نَعَمْ الرِّضَا بِالْكُفْرِ لَا يَكُونُ كُفْرًا كَمَا زَعَمَ الْأَصْلُ إلَّا إذَا كَانَ مَعَ عِلْمِهِ بِكُفْرِهِ ، وَهُوَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا مِنْ الْكَافِرِ عِنَادًا بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ ذَلِكَ عَادَةً أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ عَادَةً فَلَا عَلَى أَنَّ جَوَازَ الْكُفْرِ عِنَادٌ عَادَةً مِنْ الْبَعِيدِ الْمُشَبَّهِ بِالْمُحَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا كُفْرَ عِنَادًا إلَّا لِحَامِلٍ يَحْمِلُهُ عَلَيْهِ وَيُرَجِّحُهُ عِنْدَهُ ، وَكَرَاهِيَتُهُ إيَّاهُ مَعَ رُجْحَانِهِ عَادَةً كَالْمُتَنَاقَضِينَ ، وَأَمَّا كَرَاهِيَةُ الْمَعْصِيَةِ فَهِيَ مُمْكِنَةٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ عَاصٍ عَالِمٌ بِعِصْيَانِهِ قَالَهُ ابْنُ الشَّاطِّ ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا كَمَا فِي الْمُبَاحَاتِ مِنْ نَحْوِ الْبَلَايَا وَالرَّزَايَا وَمُؤْلِمَاتِ الْحَوَادِثِ فَإِنَّا مَا أُمِرْنَا بِأَنْ تَطِيبَ لَنَا ؛ إذْ هُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَيْسَ فِي طَبْعِ الْمُكَلَّفِ ، وَالشَّرِيعَةُ لَمْ تَرِدْ بِتَكْلِيفِ أَحَدٍ بِمَا لَيْسَ فِي طَبْعِهِ فَالْأَرْمَدُ مَثَلًا لَمْ يُؤْمَرْ بِاسْتِطَابَةِ الرَّمَدِ الْمُؤْلِمِ

بَلْ ذَمَّ اللَّهُ قَوْمًا لَا يَتَأَلَّمُونَ ، وَلَا يَجِدُونَ لِلْبَأْسَاءِ وَقْعًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } فَمَنْ لَمْ يَسْتَكِنْ وَلَمْ يَذِلَّ لِلْمُؤْلِمَاتِ وَيُظْهِرْ الْجَزَعَ مِنْهَا ، وَيَسْأَلْ رَبَّهُ إقَالَةَ الْعَثْرَةِ مِنْهَا فَهُوَ جَبَّارٌ عَنِيدٌ بَعِيدٌ عَنْ طُرُقِ الْخَيْرِ ، وَأَنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ لَيْسَ بِنَادِرٍ ، وَلَا مُتَعَذِّرٍ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعَوَامّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ إنَّمَا يَأْلَمُونَ مِنْ الْمَقْضِيِّ فَقَطْ .
وَأَمَّا التَّوَجُّهُ إلَى جِهَةِ الرُّبُوبِيَّةِ بِالتَّجْوِيرِ ، وَالْقَضَاءُ بِغَيْرِ الْعَدْلِ فَهَذَا لَا يَكَادُ يُوجَدُ إلَّا نَادِرًا مِنْ الْفُجَّارِ وَالْمَرَدَةِ ، وَإِنَّا نَجْزِمُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأَلَّمَ لِقَتْلِ عَمِّهِ حَمْزَةَ وَمَوْتِ وَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ وَرَمْيِ عَائِشَةَ بِمَا رُمِيَتْ بِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الْمَقْضِيِّ وَنَجْزِمُ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ طِبَاعُهُمْ تَتَأَلَّمُ ، وَتَتَوَجَّعُ مِنْ الْمُؤْلِمَاتِ ، وَتُسَرُّ بِالْمَسَرَّاتِ وَإِذَا كَانَ الرِّضَا بِالْمَقْضِيَّاتِ غَيْرَ حَاصِلٍ فِي طَبَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ فَغَيْرُهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحَقُّ تَفْسِيرُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ بِمَا قُلْنَا لَا بِمَا قَالُوا ، وَهُوَ بِتَفْسِيرِنَا مُتَيَسِّرٌ عَلَى أَكْثَرِ الْعَوَامّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَضْلًا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَبِتَفْسِيرِهِمْ لَا طَمَعَ فِيهِ فَهُوَ غَلَطٌ هَذَا تَهْذِيبُ مَا صَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مِنْ كَلَامِ الْأَصْلِ مَعَ زِيَادَةٍ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ ( تَنْبِيهٌ ) كَوْنُ الْمَقْضِيِّ يَكُونُ خَيْرًا أَوْ شَرًّا ، وَلَا يَجِبُ الرِّضَا بِهِ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ كَسْبِنَا ، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ خَلْقِ اللَّهِ إيَّاهُ فَحَسَنٌ يَجِبُ الرِّضَا بِهِ ؛ إذْ كُلُّ مَا صَدَرَ عَنْهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَضْلٌ أَوْ عَدْلٌ فِي عَبِيدِهِ وَلِسَيِّدِي مُحَمَّدِ وَفَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْت اللَّهَ فِي

سِرِّي يَقُولُ أَنَا فِي الْمُلْكِ وَحْدِي لَا أَزُولُ وَحَيْثُ الْكُلُّ مِنِّي لَا قَبِيحُ وَقُبْحُ الْقُبْحِ مِنْ حَيْثِيّ جَمِيلُ وَتَوْضِيحُ ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ لَهُ جِهَتَانِ كَوْنُهُ مَقْضِيًّا لَهُ - تَعَالَى - وَكَوْنُهُ مُكْتَسَبًا لِلْعَبْدِ فَيَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الرِّضَا بِالْقَدَرِ أَيْ مَا يَقَعُ مِنْ الْعَبْدِ الْمُقَدَّرِ فِي الْأَزَلِ .
وَهُوَ الْمَقْدُورُ مِنْ الْجِهَةِ الْأُولَى لَا الثَّانِيَةِ ، وَلِذَلِكَ قِيلَ : يَجِبُ الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ يَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ بَعَثَنِي بِالْحَقِّ ، وَيُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ } وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ } وَأَمَّا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَك مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِك } فَوَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ أَيْ كَيْفَ تَكُونُ هَذِهِ التَّفْرِقَةُ ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى مُجَرَّدِ السَّبَبِيَّةِ رُوِيَ لِأَصْبَغَ بْنِ نَبَاتَةَ أَنَّ شَيْخًا قَامَ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ صِفِّينَ فَقَالَ أَخْبِرْنَا عَنْ مَسِيرِنَا إلَى الشَّامِ أَكَانَ بِقَضَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى ، وَقَدَرِهِ فَقَالَ : وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا وَطِئْنَا مَوْطِئًا ، وَلَا هَبَطْنَا وَادِيًا ، وَلَا عَلَوْنَا تَلْعَةً إلَّا بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ فَقَالَ الشَّيْخُ : عِنْدَ اللَّهِ أَحْتَسِبُ عَنَائِي مَا أَرَى لِي مِنْ الْأَجْرِ شَيْئًا فَقَالَ لَهُ : مَهْ أَيُّهَا الشَّيْخُ عَظَّمَ اللَّهُ أَجْرَكُمْ فِي مَسِيرِكُمْ ، وَأَنْتُمْ سَائِرُونَ ، وَفِي مُنْصَرَفِكُمْ وَأَنْتُمْ مُنْصَرِفُونَ وَلَمْ تَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنْ حَالَاتِكُمْ مُكْرَهِينَ .
وَلَا إلَيْهَا مُضْطَرِّينَ فَقَالَ الشَّيْخُ : كَيْفَ وَالْقَضَاءُ

وَالْقَدَرُ سَاقَانَا فَقَالَ : وَيْحَك لَعَلَّك ظَنَنْت قَضَاءً لَازِمًا وَقَدَرًا حَتْمًا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَلَمْ تَأْتِ لَائِمَةٌ مِنْ اللَّهِ لِمُذْنِبٍ ، وَلَا مَحْمَدَةٌ لِمُحْسِنٍ وَلَمْ يَكُنْ الْمُحْسِنُ أَوْلَى بِالْمَدْحِ مِنْ الْمُسِيءِ ، وَلَا الْمُسِيءُ أَوْلَى بِالذَّمِّ مِنْ الْمُحْسِنِ تِلْكَ مَقَالَةُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَجُنُودِ الشَّيْطَانِ وَشُهُودِ الزُّورِ وَأَهْلِ الْعَمَى عَنْ الصَّوَابِ وَهُمْ قَدَرِيَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمَجُوسُهَا إنَّ اللَّهَ أَمَرَ تَخْيِيرًا وَنَهَى تَحْذِيرًا وَكَلَّفَ يَسِيرًا لَمْ يُعْصَ مَغْلُوبًا وَلَمْ يُطَعْ مُكْرِهًا .
وَلَمْ يُرْسِلْ الرُّسُلَ إلَى خَلْقِهِ عَبَثًا ، وَلَمْ يَخْلُقْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا { ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ } فَقَالَ الشَّيْخُ : وَمَا الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ اللَّذَانِ مَا سِرْنَا إلَّا بِهِمَا قَالَ هُوَ الْأَمْرُ مِنْ اللَّهِ وَالْحُكْمُ ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى { وَقَضَى رَبُّك أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ } ا هـ أَفَادَهُ الْعَطَّارُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى مُحَلَّى جَمْعِ الْجَوَامِعِ قُلْت : وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ أَنَّ مَا لِلْأَصْلِ مِنْ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ غَيْرُ الرِّضَا بِالْمَقْضِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ لِلْمَقْضِيِّ ، وَأَنَّ اعْتِقَادَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ هُوَ الرِّضَا بِالْمَقْضِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ الْجِهَةِ الْأُولَى لِلْمَقْضِيِّ نَعَمْ لَا يَظْهَرُ قَوْلُهُمْ : إنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْأَوْلِيَاءِ إلَخْ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ وَلَا تَنْظُرْ لِمَنْ قَالَ ، بَلْ لِمَا قَالَ كَمَا هُوَ دَأْبُ الرِّجَالِ مِنْ ذَوِي الْكَمَالِ

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُكَفِّرَاتِ وَقَاعِدَةِ أَسْبَابِ الْمَثُوبَاتِ ) اعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَصَائِبَ سَبَبٌ فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَحُصُولِ الْمَثُوبَاتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ تَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَثُوبَاتِ لَهَا شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ وَمَقْدُورِهِ فَمَا لَا كَسْبَ لَهُ فِيهِ وَمَا لَا فِي قُدْرَتِهِ ، أَوْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بِمَقْدُورِهِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ لَا مَثُوبَةَ فِيهِ ، وَأَصْلُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } فَحَصَرَ مَالَهُ فِيمَا هُوَ مِنْ سَعْيِهِ وَكَسْبِهِ وقَوْله تَعَالَى { إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } فَحَصَرَ الْجَزَاءَ فِيمَا هُوَ مَعْمُولٌ لَنَا وَمَقْدُورٌ ، وَثَانِيهِمَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُكْتَسَبُ مَأْمُورًا بِهِ فَمَا لَا أَمْرَ فِيهِ لَا ثَوَابَ فِيهِ كَالْأَفْعَالِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ ، وَكَأَفْعَالِ الْحَيَوَانَاتِ الْعَجْمَاوَاتِ مُكْتَسَبَةٌ مُرَادَةٌ لَهَا وَاقِعَةٌ بِاخْتِيَارِهَا ، وَلَا ثَوَابَ لَهَا فِيهَا لِعَدَمِ الْأَمْرِ بِهَا ، وَكَذَلِكَ الْمَوْتَى يَسْمَعُونَ فِي قُبُورِهِمْ الْمَوَاعِظَ وَالْقُرْآنَ وَالذِّكْرَ وَالتَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ ، وَلَا ثَوَابَ لَهُمْ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَأْمُورِينَ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلَا مَنْهِيِّينَ فَلَا إثْمَ ، وَلَا ثَوَابَ لِعَدَمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هَذَا أَحَدُ أَسْبَابِ الْمَثُوبَاتِ .
وَأَمَّا الْمُكَفِّرَاتُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ قَدْ تَكُونُ كَذَلِكَ مُكْتَسَبَةً مَقْدُورَةً مِنْ بَابِ الْحَسَنَاتِ لِقَوْلِهِ { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } وَقَدْ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ كَمَا تُكَفِّرُ التَّوْبَةُ وَالْعُقُوبَاتُ السَّيِّئَاتِ ، وَتَمْحُو آثَارَهَا ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَصَائِبُ الْمُؤْلِمَاتُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا

يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ ، وَلَا نَصَبٍ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا ذُنُوبَهُ } فَالْمُصِيبَةُ كَفَّارَةٌ لِلذُّنُوبِ جَزْمًا سَوَاءٌ اقْتَرَنَ بِهَا السَّخَطُ أَوْ الصَّبْرُ وَالرِّضَا فَالسَّخَطُ مَعْصِيَةٌ أُخْرَى ، وَنَعْنِي بِالسَّخَطِ عَدَمَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ لَا التَّأَلُّمَ مِنْ الْمَقْضِيَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَالصَّبْرُ مِنْ الْقُرَبِ الْجَمِيلَةِ ، فَإِذَا تَسَخَّطَ جُعِلَتْ سَيِّئَةً ثُمَّ قَدْ تَكُونُ هَذِهِ السَّيِّئَةُ قَدْرَ السَّيِّئَةِ الَّتِي كَفَّرَتْهَا الْمُصِيبَةُ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَعْظَمَ بِحَسَبِ كَثْرَةِ السَّخَطِ وَقِلَّتِهِ وَعِظَمِ الْمُصِيبَةِ وَصِغَرِهَا فَإِنَّ الْمُصِيبَةَ الْعَظِيمَةَ تُكَفِّرُ مِنْ السَّيِّئَاتِ أَكْثَرَ مِنْ الْمُصِيبَةِ الْيَسِيرَةِ فَالتَّكْفِيرُ وَاقِعٌ قَطْعًا تَسَخَّطَ الْمُصَابُ أَوْ صَبَرَ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ صَبَرَ اجْتَمَعَ التَّكْفِيرُ وَالْأَجْرُ ، وَإِنْ تَسَخَّطَ فَقَدْ يَعُودُ الَّذِي تَكَفَّرَ بِالْمُصِيبَةِ بِمَا جَنَاهُ مِنْ التَّسَخُّطِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنْ تَرْتِيبِهِ الْمَثُوبَاتِ عَلَى الْمَصَائِبِ أَيْ إذَا صَبَرَ لَيْسَ إلَّا فَالْمُصِيبَاتُ لَا ثَوَابَ فِيهَا قَطْعًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مُصِيبَةٌ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ .
وَالتَّكْفِيرُ بِالْمُصِيبَةِ يَقَعُ بِالْمُكْتَسَبِ وَغَيْرِ الْمُكْتَسَبِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ : عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ { لَا يَمُوتُ لِأَحَدِكُمْ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ إلَّا كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ قَالَتْ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ وَخِلْته لَوْ قُلْت لَهُ : وَوَاحِدٌ لَقَالَ وَوَاحِدٌ } وَالْحِجَابُ رَاجِعٌ إلَى مَعْنَى التَّكْفِيرِ أَيْ تُكَفِّرُ مُصِيبَةُ فَقْدِ الْوَلَدِ ذُنُوبًا كَانَ شَأْنَهَا أَنْ يَدْخُلَ بِهَا النَّارَ فَلَمَّا كَفَّرَتْ تِلْكَ الذُّنُوبَ بَطَلَ دُخُولُ النَّارِ بِسَبَبِهَا فَصَارَتْ الْمُصِيبَةُ كَالْحِجَابِ الْمَانِعِ مِنْ دُخُولِ النَّارِ مِنْ جِهَةِ مَجَازِ التَّشْبِيهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّكْفِيرَ فِي مَوْتِ

الْأَوْلَادِ وَنَحْوِهِمْ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ الْآلَامِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ فَقْدِ الْمَحْبُوبِ ، فَإِنْ كَثُرَ كَثُرَ التَّكْفِيرُ ، وَإِنْ قَلَّ قَلَّ التَّكْفِيرُ فَلَا جَرَمَ يَكُونُ التَّكْفِيرُ عَلَى قَدْرِ نَفَاسَةِ الْوَلَدِ فِي صِفَاتِهِ وَنَفَاسَتِهِ فِي بِرِّهِ وَأَحْوَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مَكْرُوهًا يُسَرُّ بِفَقْدِهِ فَلَا كَفَّارَةَ بِفَقْدِهِ أَلْبَتَّةَ ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّكْفِيرَ بِمَوْتِ الْأَوْلَادِ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ أَنَّهُ يُؤْلِمُ فَظَهَرَ لَك الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُكَفِّرَاتِ وَأَسْبَابِ الْمَثُوبَاتِ بِهَذِهِ التَّقَادِيرِ وَالْمَبَاحِثِ ، وَعَلَى هَذَا الْبَيَانِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لِمُصَابٍ بِمَرَضٍ أَوْ فَقْدِ مَحْبُوبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ : جَعَلَ اللَّهُ لَك هَذِهِ الْمُصِيبَةَ كَفَّارَةً ؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ قَطْعًا وَالدُّعَاءُ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ قِلَّةُ أَدَبٍ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى ، وَقَدْ بَسَطْت هَذَا فِي كِتَابِ الْمُنْجِيَاتِ وَالْمُوبِقَاتِ فِي الْأَدْعِيَةِ بَلْ يُقَالُ : اللَّهُمَّ عَظِّمْ لَهُ الْكَفَّارَةَ ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَهَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ بِخِلَافِ أَصْلِ التَّكْفِيرِ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ لَنَا بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا يَجُوزُ طَلَبُهُ فَاعْلَمْ ذَلِكَ فِيهِ وَفِي نَظَائِرِهِ

قَالَ ( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُكَفِّرَاتِ وَقَاعِدَةِ أَسْبَابِ الْمَثُوبَاتِ اعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَصَائِبَ سَبَبٌ فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَحُصُولِ الْمَثُوبَاتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ تَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَثُوبَاتِ لَهَا شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ وَمَقْدُورِهِ فَمَا لَا كَسْبَ لَهُ فِيهِ وَمَا لَا فِي قُدْرَتِهِ ، أَوْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بِمَقْدُورِهِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ لَا مَثُوبَةَ فِيهِ ، وَأَصْلُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } فَحَصَرَ مَا لَهُ فِيمَا هُوَ مِنْ سَعْيِهِ وَكَسْبِهِ وقَوْله تَعَالَى { إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } فَحَصَرَ الْجَزَاءَ فِيمَا هُوَ مَعْمُولٌ لَنَا وَمَقْدُورٌ ، وَثَانِيهمَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُكْتَسَبُ مَأْمُورًا بِهِ فَمَا لَا أَمْرَ فِيهِ لَا ثَوَابَ فِيهِ كَالْأَفْعَالِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَكَأَفْعَالِ الْحَيَوَانَاتِ الْعَجْمَاوَاتِ مُكْتَسَبَةٌ مُرَادَةٌ لَهَا وَاقِعَةٌ بِاخْتِيَارِهَا ، وَلَا ثَوَابَ لَهَا فِيهَا لِعَدَمِ الْأَمْرِ بِهَا ، وَكَذَلِكَ الْمَوْتَى يَسْمَعُونَ فِي قُبُورِهِمْ الْمَوَاعِظَ وَالْقُرْآنَ وَالذِّكْرَ وَالتَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ ، وَلَا ثَوَابَ لَهُمْ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَأْمُورِينَ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلَا مَنْهِيِّينَ فَلَا إثْمَ ، وَلَا ثَوَابَ لِعَدَمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ) قُلْت هَذَا حَدِيثٌ غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّ رَفْعَ الدَّرَجَاتِ لَا يُشْتَرَطُ فِي أَسْبَابِهَا كَوْنُهَا مُكْتَسَبَةً ، وَلَا مَأْمُورًا بِهَا فَمِنْهَا مَا يَكُونُ سَبَبُهُ كَذَلِكَ وَمِنْ ذَلِكَ الْآلَامُ وَجَمِيعُ الْمَصَائِبِ وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ دَلَائِلُ وَظَوَاهِرُ الشَّرْعِ مُتَظَاهِرَةٌ يُعَضِّدُهَا قَاعِدَةُ رُجْحَانِ جَانِبِ الْحَسَنَاتِ الْمَقْطُوعِ بِهَا وَمَا اُسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا

كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْآيِ وَالْأَخْبَارِ يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى الْخُصُوصِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ ذَلِكَ : وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَزِيَادَةِ النَّعِيمِ فَلَا يُسَمَّى ثَوَابًا وَلَا أَجْرًا ، وَلَا جَزَاءً فَإِنَّهَا أَلْفَاظٌ مُشْعِرَةٌ بِالْإِعْطَاءِ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ فَالْأَمْرُ فِيمَا يَقُولُهُ قَرِيبٌ ؛ إذْ لَا مُشَاحَّةَ فِي الْأَلْفَاظِ ، وَكَيْفَ يَصِحُّ حَمْلُهُ الْآيَتَيْنِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا عَلَى الْعُمُومِ مَعَ الْإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ الْمُنْعَقِدِ عَلَى صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي الْأَعْمَالِ الْمَالِيَّةِ كُلِّهَا مَعَ الْخِلَافِ فِي الْبَدَنِيَّةِ كُلِّهَا أَوْ مَا عَدَا الصَّلَاةَ مِنْهَا فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الْآيَتَيْنِ وَشِبْهِهِمَا عَلَى الْإِيمَانِ أَوْ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ قَالَ ( وَأَمَّا الْمُكَفِّرَاتُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ قَدْ تَكُونُ كَذَلِكَ مُكْتَسَبَةً مَقْدُورَةً مِنْ بَابِ الْحَسَنَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } وَقَدْ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ كَمَا تُكَفِّرُ التَّوْبَةُ وَالْعُقُوبَاتُ السَّيِّئَاتِ وَتَمْحُو آثَارَهَا وَمِنْ ذَلِكَ الْمَصَائِبُ الْمُؤْلِمَاتُ ) قُلْت : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ إلَّا قَوْلَهُ : وَتَمْحُو آثَارَهَا فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَحْوَهَا مِنْ الصَّحَائِفِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْإِحْبَاطِ ، وَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ قَالَ ( لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } ) قُلْتُ لَا دَلِيلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِ الْمَصَائِبِ مُكَفِّرَةً لِلذُّنُوبِ أَوْ غَيْرَ مُكَفِّرَةٍ ، وَإِنَّمَا فِيهَا أَنَّ الْمَصَائِبَ سَبَبُهَا الذُّنُوبُ ، وَأَنَّ مِنْ الذُّنُوبِ مَا لَا يُقَابَلُ بِمُصِيبَةٍ يَكُونُ سَبَبًا لَهَا بَلْ يُسَامَحُ فِيهِ وَيُعْفَى عَنْهُ .
قَالَ ( وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ ، وَلَا نَصَبٍ حَتَّى الشَّوْكَةَ يُشَاكُهَا إلَّا

كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا ذُنُوبَهُ } ) قُلْت : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ يَعُودُ يَكُونُ ذَنْبُ السَّخَطِ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ يَعُودُ حَقِيقَةً قَالَ ( وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنْ تَرَتُّبِ الْمَثُوبَاتِ عَلَى الْمَصَائِبِ أَيْ إذَا صَبَرَ لَيْسَ إلَّا فَالْمُصِيبَاتُ لَا ثَوَابَ فِيهَا قَطْعًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مُصِيبَةٌ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ ، وَالتَّكْفِيرُ بِالْمَعْصِيَةِ يَقَعُ بِالْمُكْتَسَبِ وَغَيْرِ الْمُكْتَسَبِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ { لَا يَمُوتُ لِأَحَدِكُمْ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ إلَّا كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ قَالَتْ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ وَخِلْته لَوْ قُلْت لَهُ وَوَاحِدٌ لَقَالَ وَوَاحِدٌ } فَالْحِجَابُ رَاجِعٌ إلَى مَعْنَى التَّكْفِيرِ أَيْ تُكَفِّرُ مُصِيبَةُ فَقْدِ الْوَلَدِ ذُنُوبًا كَانَ شَأْنَهَا أَنْ يَدْخُلَ بِهَا النَّارَ فَلَمَّا كَفَّرَتْ تِلْكَ الذُّنُوبَ بَطَلَ دُخُولُ النَّارِ بِسَبَبِهَا فَصَارَتْ الْمُصِيبَةُ كَالْحِجَابِ الْمَانِعِ مِنْ دُخُولِ النَّارِ مِنْ جِهَةِ مَجَازِ التَّشْبِيهِ ) قُلْت : مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْمُصِيبَةَ لَا ثَوَابَ فِيهَا قَطْعًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَقَدْ تَبَيَّنَ قَبْلَ هَذَا أَنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ الْعُمُومَاتِ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِتَعَيُّنِ حَمْلِهَا عَلَى الْخُصُوصِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي الْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ وَبِالظَّوَاهِرِ الْمُظَاهَرَةِ بِثُبُوتِ الْحَسَنَاتِ فِي الْآلَامِ وَشِبْهِهَا قَالَ ( وَاعْلَمْ أَنَّ التَّكْفِيرَ فِي مَوْتِ الْأَوْلَادِ وَنَحْوِهِمْ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ الْآلَامِ ) قُلْت : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ قَالَ ( فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مَكْرُوهًا يَسَّرَ بِفَقْدِهِ فَلَا كَفَّارَةَ بِفَقْدِهِ أَلْبَتَّةَ ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّكْفِيرَ بِمَوْتِ الْأَوْلَادِ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ أَنَّهُ يُؤْلِمُ ) .
قُلْت : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ تَحَكُّمٌ بِتَقْيِيدِ كَلَامِ الشَّارِعِ مِنْ

غَيْرِ دَلِيلٍ ، وَتَضْيِيقٌ لِبَابِ الرَّحْمَةِ الثَّابِتِ سِعَتُهُ قَالَ ( فَظَهَرَ لَك الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُكَفِّرَاتِ وَأَسْبَابِ الْمَثُوبَاتِ بِهَذِهِ التَّقَارِيرِ وَالْمَبَاحِثِ ) قُلْت : لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي زَعَمَ قَالَ ( وَعَلَى هَذَا الْبَيَانِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ : الْمُصَابُ بِمَرَضٍ أَوْ فَقْدِ مَحْبُوبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ لَك هَذِهِ الْمُصِيبَةَ كَفَّارَةً ؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ قَطْعًا ، وَالدُّعَاءُ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ قِلَّةُ أَدَبٍ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى ، وَقَدْ بَسَطْت هَذَا فِي كِتَابِ الْمُنْجِيَاتِ وَالْمُوبِقَاتِ فِي الْأَدْعِيَةِ بَلْ يُقَالُ : اللَّهُمَّ عَظِّمْ لَهُ الْكَفَّارَةَ ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَهَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ بِخِلَافِ أَصْلِ التَّكْفِيرِ أَنَّهُ مَعْلُومٌ لَنَا بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا يَجُوزُ طَلَبُهُ فَاعْلَمْ ذَلِكَ فِيهِ وَفِي نَظَائِرِهِ ) قُلْت : مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَلَا مَانِعَ مِنْ الدُّعَاءِ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ أَيْ الْمَعْلُومِ الْحُصُولِ ؛ إذْ ذَلِكَ مُرَادُهُ هُنَا ، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ : إنَّ ذَلِكَ قِلَّةُ أَدَبٍ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى - كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يَدْعُو لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بِالْمَغْفِرَةِ } مَعَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِهَا لَهُ ، وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَدْعُوَ بِذَلِكَ غَيْرُهُ ، أَوْ يَدْعُوَ لَهُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِحُصُولِ شَرْطِ التَّكْفِيرِ وَالْغُفْرَانِ ، وَهُوَ الْوَفَاةُ عَلَى الْإِيمَانِ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُكَفِّرَاتِ وَقَاعِدَةِ الْمَثُوبَاتِ ) وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى طَرِيقَةِ الْأَصْلِ ، وَهِيَ أَنَّ لِلْمَثُوبَاتِ شَرْطَيْنِ : ( الْأَوَّلُ ) أَنْ تَكُونَ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ وَمَقْدُورِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : - { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } فَحَصَرَ مَالَهُ فِيمَا هُوَ مِنْ سَعْيِهِ وَكَسْبِهِ وقَوْله تَعَالَى : - { إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } فَحَصَرَ الْجَزَاءَ فِيمَا هُوَ مَعْمُولٌ لَنَا وَمَقْدُورٌ ( وَالشَّرْطُ الثَّانِي ) : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُكْتَسَبُ مَأْمُورًا بِهِ فَلَا ثَوَابَ فِيمَا لَا أَمْرَ فِيهِ كَالْأَفْعَالِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَكَأَفْعَالِ الْحَيَوَانَاتِ الْعَجْمَاوَاتِ فَإِنَّهَا لِعَدَمِ الْأَمْرِ بِهَا لَا ثَوَابَ لَهَا فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مُكْتَسَبَةً مُرَادُهُ لَهَا وَاقِعَةٌ بِاخْتِيَارِهَا ، وَكَالْمَوْتَى يَسْمَعُونَ فِي قُبُورِهِمْ الْمَوَاعِظَ وَالْقُرْآنَ وَالذِّكْرَ وَالتَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ ؛ إذْ لَا ثَوَابَ لَهُمْ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ غَيْرُ مَأْمُورِينَ ، وَلَا مَنْهِيِّينَ ، وَأَنَّ الْمُكَفِّرَاتِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ هِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ ؛ لِأَنَّهَا إمَّا مِنْ بَابِ الْحَسَنَاتِ فَتَكُونُ مُكْتَسَبَةً مَقْدُورَةً قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى : - { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } ، وَإِمَّا مِنْ بَابِ التَّوْبَةِ وَالْعُقُوبَاتِ فَتُكَفِّرُ السَّيِّئَاتِ وَتَمْحُو آثَارَهَا ، وَإِمَّا مِنْ بَابِ الْمَصَائِبِ الْمُؤْلِمَاتِ فَتُكَفِّرُ الذُّنُوبَ جَزْمًا سَوَاءٌ اقْتَرَنَ بِهَا السَّخَطُ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ لَا التَّأَلُّمِ مِنْ الْمَقْضِيَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَوْ اقْتَرَنَ بِهَا الصَّبْرُ وَالرِّضَا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَبَبًا فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَحُصُولِ الْمَثُوبَاتِ ضَرُورَةَ أَنَّهَا غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ وَقَالَ - تَعَالَى - { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبْتِ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا يُصِيبُ

الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ ، وَلَا نَصَبٍ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا ذُنُوبَهُ } خِلَافًا لِمَا يَعْتَقِدُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ أَنَّهَا تَكُونُ سَبَبًا فِي ذَلِكَ وَمَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنْ تَرْتِيبِهِ الْمَثُوبَاتِ عَلَى الْمَصَائِبِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا صَبَرَ لَيْسَ إلَّا فَإِنَّهُ إنْ صَبَرَ اجْتَمَعَ لَهُ التَّكْفِيرُ وَالْأَجْرُ .
وَإِنْ تَسَخَّطَ فَقَدْ يَعُودُ الَّذِي تَكَفَّرَ بِالْمُصِيبَةِ بِمَا جَنَاهُ مِنْ السَّخَطِ أَوْ أَقَلُّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ فَقَوْلُهُ : عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ { لَا يَمُوتُ لِأَحَدِكُمْ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ إلَّا كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ قَالَتْ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ وَخِلْته لَوْ قُلْت لَهُ : وَوَاحِدٌ لَقَالَ : وَوَاحِدٌ } مَعْنَاهُ أَنَّ مُصِيبَةَ فَقْدِ الْوَلَدِ تُكَفِّرُ ذُنُوبًا كَانَ شَأْنَهَا أَنْ يَدْخُلَ بِهَا النَّارَ فَلَمَّا كَفَّرَتْ تِلْكَ الذُّنُوبَ بَطَلَ دُخُولُ النَّارِ بِسَبَبِهَا فَصَارَتْ الْمُصِيبَةُ كَالْحِجَابِ الْمَانِعِ مِنْ دُخُولِ النَّارِ مِنْ جِهَةِ مَجَازِ التَّشْبِيهِ ثُمَّ إنَّ تَكْفِيرَ مَوْتِ الْأَوْلَادِ وَنَحْوِهِمْ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ الْآلَامِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ فَقْدِ الْمَحْبُوبِ فَإِنْ كَثُرَ كَثُرَ التَّكْفِيرُ ، وَإِنْ قَلَّ قَلَّ التَّكْفِيرُ فَلَا جَرَمَ يَكُونُ التَّكْفِيرُ عَلَى قَدْرِ نَفَاسَةِ الْوَلَدِ فِي صِفَاتِهِ أَوْ نَفَاسَتِهِ فِي بِرِّهِ وَأَحْوَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مَكْرُوهًا يُسَرُّ بِفَقْدِهِ فَلَا كَفَّارَةَ بِفَقْدِهِ أَلْبَتَّةَ ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّكْفِيرَ بِمَوْتِ الْأَوْلَادِ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ أَنَّهُ يُؤْلِمُ ، قَالَ : فَظَهَرَ بِهَذِهِ التَّقَارِيرِ وَالْمَبَاحِثِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُكَفِّرَاتِ وَأَسْبَابِ الْمَثُوبَاتِ ، وَعَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لِمُصَابٍ بِمَرَضٍ أَوْ فَقْدِ مَحْبُوبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ : جَعَلَ اللَّهُ لَك هَذِهِ الْمُصِيبَةَ كَفَّارَةً ؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ قَطْعًا ، وَالدُّعَاءُ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ قِلَّةُ

أَدَبٍ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى ، وَقَدْ بَسَطْت هَذَا فِي كِتَابِ الْمُنْجِيَاتِ وَالْمُوبِقَاتِ فِي الْأَدْعِيَةِ بَلْ يُقَالُ : اللَّهُمَّ عَظِّمْ لَهُ الْكَفَّارَةَ ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَهَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ بِخِلَافِ أَصْلِ التَّكْفِيرِ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ لَنَا بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا يَجُوزُ طَلَبُهُ فَاعْلَمْ ذَلِكَ فِيهِ ، وَفِي نَظَائِرِهِ هَذَا خُلَاصَةُ مَا قَالَهُ الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ .
وَاخْتَارَ ابْنُ الشَّاطِّ وَالْجُمْهُورُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ الطَّرِيقَةَ الثَّانِيَةَ ، وَهِيَ أَنَّ رَفْعَ الدَّرَجَاتِ وَحُصُولَ الْمَثُوبَاتِ لَا يُشْتَرَطُ فِي أَسْبَابِهَا كَوْنُهَا مُكْتَسَبَةً ، وَلَا مَأْمُورًا بِهَا ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُكَفِّرَاتِ بَلْ هِيَ نَوْعٌ مِنْهَا ، وَأَنَّ تِلْكَ الْأَسْبَابَ نَوْعَانِ مَا يَكُونُ سَبَبُهُ غَيْرَ مُكْتَسَبٍ ، وَلَا مَقْدُورٍ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْآلَامُ وَجَمِيعُ الْمَصَائِبِ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ : وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ دَلَائِلُ .
وَظَوَاهِرُ الشَّرْعِ مُتَظَاهِرَةٌ يُعَضِّدُهَا قَاعِدَةُ رُجْحَانِ جَانِبِ الْحَسَنَاتِ الْمَقْطُوعِ بِهَا ا هـ وَقَدْ نَقَلَ الْعَلَّامَةُ الْجَمَلُ عَلَى الْجَلَالَيْنِ عَنْ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ كَالْكَرْخِيِّ أَنَّ مِنْ تِلْكَ الظَّوَاهِرِ أَنَّ أَوْلَادَ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِعَمَلِ آبَائِهِمْ كَمَا فِي آيَةِ { وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ } إلَخْ ، وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْغُلَامَيْنِ الْيَتِيمَيْنِ { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا } فَانْتَفَعَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا ، وَلَيْسَ مِنْ سَعْيِهِمَا وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } وَقَالَ - تَعَالَى - { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ } وَقَالَ - تَعَالَى - { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } فَقَدْ رَفَعَ - تَعَالَى - الْعَذَابَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ بِسَبَبِ بَعْضٍ وَذَلِكَ انْتِفَاعٌ بِعَمَلِ

الْغَيْرِ ، وَمِنْهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْتَفِعُ بِدُعَاءِ غَيْرِهِ ، وَهُوَ انْتِفَاعٌ بِعَمَلِ الْغَيْرِ ، وَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ فِي الْحِسَابِ ثُمَّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي دُخُولِهَا ثُمَّ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ النَّارِ } وَهَذَا انْتِفَاعٌ بِسَعْيِ الْغَيْرِ ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَدْعُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ .
وَذَلِكَ مَنْفَعَةٌ بِعَمَلِ الْغَيْرِ .
وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنْ النَّارِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ بِمَحْضِ رَحْمَتِهِ ، وَهَذَا انْتِفَاعٌ بِغَيْرِ عَمَلِهِمْ .
وَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ امْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَدِينِ حَتَّى قَضَى دَيْنَهُ أَبُو قَتَادَةَ وَقَضَى دَيْنَ الْآخَرِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَانْتَفَعَ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مِنْ عَمَلِ الْغَيْرِ ، وَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ لِمَنْ صَلَّى وَحْدَهُ أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ } فَقَدْ حَصَلَ لَهُ فَضْلُ الْجَمَاعَةِ بِفِعْلِ الْغَيْرِ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : وَمَنْ تَأَمَّلَ الْعِلْمَ وَجَدَ مِنْ انْتِفَاعِ الْإِنْسَانِ بِمَا لَمْ يَعْمَلْهُ مَا لَا يَكَادُ يُحْصَى فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْتَفِعُ إلَّا بِعَمَلِهِ فَقَدْ خَرَقَ الْإِجْمَاعَ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَغَيْرِهَا ا هـ وَمِثْلُهُ لِلْكَرْخِيِّ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } وقَوْله تَعَالَى { إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْآيِ وَالْأَخْبَارِ وَالْخُصُوصِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَزِيَادَةِ النَّعِيمِ فَلَا يُسَمَّى ثَوَابًا ، وَلَا أَجْرًا وَلَا جَزَاءً فَإِنَّهَا أَلْفَاظٌ مُشْعِرَةٌ بِالْإِعْطَاءِ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ فَالْأَمْرُ فِيمَا يَقُولُهُ قَرِيبٌ ؛ إذْ لَا مُشَاحَّةَ فِي

الْأَلْفَاظِ ، وَكَيْفَ يَصِحُّ حَمْلُهُ أَيْ الشِّهَابِ الْقَرَافِيِّ الْآيَتَيْنِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا عَلَى الْعُمُومِ مَعَ الْإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ الْمُنْعَقِدِ عَلَى صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي الْأَعْمَالِ الْمَالِيَّةِ كُلِّهَا مَعَ الْخِلَافِ فِي الْبَدَنِيَّةِ كُلِّهَا ، أَوْ مَا عَدَا الصَّلَاةَ مِنْهَا .
ا هـ .
فَفِي حَاشِيَةِ الْبُنَانِيِّ عَلَى عَبْدِ الْبَاقِي عَلَى مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ نَقَلَ الْحَطَّابُ عِنْدَ قَوْلِهِ فِي الْمُخْتَصَرِ : وَمَا تَطَوَّعَ وَلِيُّهُ عَنْهُ مَا لِلْعُلَمَاءِ مِنْ الْخِلَافِ فِي جَوَازِ إهْدَاءِ ثَوَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْقُرَبِ قَالَ : وَجُلُّهُمْ أَجَابَ بِالْمَنْعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ أَثَرٌ ، وَلَا شَيْءٌ عَمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ مِنْ السَّلَفِ اُنْظُرْهُ .
وَقَدْ اعْتَرَضَهُ الشَّيْخُ ابْنُ زِكْرِيٍّ بِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ كَمَا فِي الْمَوَاهِبِ وَغَيْرِهَا { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْك فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ صَلَاتِي قَالَ مَا شِئْت قُلْت : الرُّبْعَ قَالَ مَا شِئْت ، وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قُلْت النِّصْفَ قَالَ مَا شِئْت ، وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قَالَ : أَجْعَلُ صَلَاتِي كُلَّهَا لَك قَالَ قَالَ إذًا تُكْفَى هَمَّك وَيُغْفَرُ ذَنْبُك } ا هـ بِلَفْظِهِ ، وَفِي حَاشِيَةِ كَنُونٍ أَنَّ الشَّيْخَ الطَّيِّبَ بْنَ كَيْرَانِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْلَهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ قَوْلُهُ : أُكْثِرُ الصَّلَاةَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ صَلَاتِي مَعْنَاهُ أُكْثِرُ الدُّعَاءَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ دُعَائِي صَلَاةً عَلَيْك ا هـ قَالَ : وَفِيهِ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ ، وَلَوْ أُرِيدَ لَقِيلَ : فَكَمْ أَصْرِفُ لَك مِنْ وَقْتِ دُعَائِي مَثَلًا ، وَيُؤَيِّدُ إرَادَةَ ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ مَا فِي الْمَعْهُودِ لِلشُّهُودِ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْحَدِيثَ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ، وَتَفْسِيرُ الْمُنْذِرِيِّ الْمُتَقَدِّمُ ذُكِرَ عَنْ أَبِي الْمَوَاهِبِ الشَّاذِلِيِّ أَنَّهُ قَالَ فَذَكَرَ رُؤْيَاهُ الْمُتَقَدِّمَةَ ، وَقَالَ عَقِبَهَا : انْتَهَى

، وَهُوَ حَسَنٌ .
وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ قَالَ أَبُو الْمَوَاهِبِ التُّونُسِيُّ قَالَ لِي الْمُصْطَفَى فِي مَبْشَرَةٍ : أَنْتَ تَشْفَعُ فِي مِائَةِ أَلْفٍ قُلْت : بِمَ نِلْت هَذَا قَالَ بِإِعْطَائِك لِي ثَوَابَ صَلَاتِك عَلَيَّ وَحَجَّ ابْنُ الْمُوَفَّقِ حِجَجًا فَجَعَلَ ثَوَابَهَا لِلْمُصْطَفَى فَرَآهُ يَقُولُ لَهُ : هَذِهِ يَدٌ لَك عِنْدِي أُكَافِئُك بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخُذُ بِيَدِك فَأُدْخِلُك الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ سُوءَ الْأَدَبِ كَمَا زَعَمُوا .
وَمِنْهُمْ سَيِّدِي زَرُّوقٌ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِهْدَاءِ لِلْعُظَمَاءِ إجْلَالُهُمْ وَإِعْظَامُهُمْ لَا أَنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ لِمَا يُهْدَى لَهُمْ ، وَالْهَدِيَّةُ عَلَى قَدْرِ مُهْدِيهَا لَا الْمُهْدَى إلَيْهِ ، وَالْأَعْمَالُ أَنْفَسُ مَا عِنْدَ الْمُهْدِي ، وَهِيَ جَهْدُ مُقِلٍّ فَلَا مَحْذُورَ فِي إهْدَائِهَا مَعَ رُؤْيَةِ قُصُورِهَا وَعَدَمِ أَهْلِيَّتِهَا نَعَمْ إنْ اسْتَعْظَمَ مَا أَهْدَى فَسُوءُ أَدَبٍ ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ سَيِّدِي زَرُّوقٍ عَلَيْهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ا هـ وَأَصْلُهُ لِجَسُّوسٍ وَزَادَ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ أَعْمَالَهُ هَدِيَّةً لِلْأَوْلِيَاءِ أَوْ يَجْعَلُ وِرْدًا لِجَمِيعِهِمْ أَوْ لِلْجِهَةِ الَّتِي يَعْتَقِدُهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ مَآبٌ حَسَنُ النِّيَّةِ وَالتَّقَرُّبِ لِجَانِبِهِ الْكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا قَوْلُ الشَّيْخِ زَرُّوقٍ فِي عُدَّةِ الْمُرِيدِ بَعْدَ نَقْلِ مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ الْمُتَقَدِّمِ لَيْسَ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ إلَّا بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ ، وَإِكْرَامِ قَرَابَتِهِ وَكَثْرَةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ أَعْمَالِنَا وَإِنِّي لَأَرَى ذَلِكَ إسَاءَةَ أَدَبٍ مَعَهُ لِمُقَابَلَتِهِ بِمَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مَقْبُولًا فَكَيْفَ الِاعْتِدَادُ بِثَوَابِهِ ا هـ فَلَيْسَ بِقَوِيٍّ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْجَوَازِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِهْدَاءِ لِلْعُظَمَاءِ إجْلَالُهُمْ إلَى آخِرِ مَا

تَقَدَّمَ ثُمَّ قَالَ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ سَيِّدِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِكْرِيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَرْحِهِ لِصَلَاةِ الْقُطْبِ مَوْلَانَا عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ مُشَيْشٍ نَفَعَنَا اللَّهُ بِبَرَكَتِهِ آمِينَ .
ا هـ .
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ زِكْرِيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ : صَلَاةٌ تَلِيقُ بِك مِنْك إلَيْهِ كَمَا هُوَ أَهْلُهُ إلَّا أَنَّ عِبَارَتَهُ كَلَامُ الْعُهُودِ أَقْوَى وَأَظْهَرُ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ يَدُلُّ لَهُ ؛ إذْ لَوْ أُرِيدَ بَيَانُ كَمْ يَجْعَلُ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنْ أَوْقَاتِ عِبَادَتِهِ لَقَالَ فَكَمْ أَصْرِفُ مِنْ أَوْقَاتِ عِبَادَتِي فِي الصَّلَاةِ عَلَيْك ، وَيُؤَيِّدُهُ رُؤْيَا أَبِي الْمَوَاهِبِ الْمُتَقَدِّمَةِ ثُمَّ قَالَ : وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةٌ لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْمُصَلِّي كَوْنَ ثَوَابِهَا لَهُ فَمَعْنَى الْإِهْدَاءِ حَاصِلٌ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْإِهْدَاءِ لِلْعُظَمَاءِ إجْلَالُهُمْ وَإِعْظَامُهُمْ لَا أَنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى هَدِيَّةِ الْمُهْدِي ؛ وَلِذَلِكَ يُجْزِلُونَ الْمَثُوبَاتِ عَلَى أَدْنَى شَيْءٍ ، وَأَيْضًا فَيَنْوِي الْمُصَلِّي بِذَلِكَ تَحْصِينَ عَمَلِهِ مِنْ الرَّدِّ لِيَقْوَى بِذَلِكَ رَجَاؤُهُ احْتِرَامًا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الْهَدَايَا لِلْمُلُوكِ إذَا كَانَتْ لَا تُنَاسِبُ جَلَالَةَ مَقَادِيرِهِمْ ، وَيُخْشَى رَدُّهُمْ لَهَا دَخَلَتْ فِي جُمْلَةِ هَدَايَا وَاسِطَةِ عَظِيمٍ عِنْدَ الْمَلِكِ فَتُقْبَلُ حِينَئِذٍ مِنْ جُمْلَةِ هَدَايَاهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا احْتَقَرَ الْعَامِلُ نَفْسَهُ ، وَاعْتَقَدَ قُصُورَهُ وَعَدَمَ أَهْلِيَّتِهِ لِذَلِكَ ، وَأَمَّا إذَا رَأَى عَمَلَهُ شَيْئًا مُعْتَبَرًا فِي نَفْسِهِ مُعْتَدًّا بِهِ فَسُوءُ الْأَدَبِ لَازِمٌ لَهُ ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ مَا لِسَيِّدِي زَرُّوقٍ عَلَيْهِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ غَيْرَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا هِيَ فَحَدِيثُ أَبِي ظَاهِرٍ فِي خِلَافِهِ كَمَا سَبَقَ

وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ ا هـ فَأَنْتَ تَرَاهُ إنَّمَا ذَكَرَ رُؤْيَا أَبِي الْمَوَاهِبِ وَغَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ التَّأْيِيدِ وَالِاسْتِئْنَاسِ لِظَاهِرِ لَفْظِ الْحَدِيثِ لَا عَلَى وَجْهِ الِاحْتِجَاجِ .
وَقَبْلَ ذَلِكَ تِلْمِيذُهُ جَسُّوسُ وَغَيْرُهُ فَتَأَمَّلْهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ا هـ الْمُرَادُ مِنْ كَلَامِ كَنُونٍ وَمُرَادُهُ دَفْعُ تَنْظِيرِ الرُّهُونِ فِي مُسْتَنَدِ ابْنِ زِكْرِيٍّ أَوَّلًا بِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَثْبُتُ بِالرُّؤْيَا ، وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا لَا سِيَّمَا مِنْ مِثْلِ أَبِي الْمَوَاهِبِ وَثَانِيًا بِأَنَّ مَا فُهِمَ مِنْ الْحَدِيثِ مُعَارَضٌ بِمَا فَهِمَ مِنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ فِيهِ فَانْظُرْهُ إنْ شِئْت ، قُلْت : وَقَدْ وَجَّهَ عَدَمَ ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالرُّؤْيَا الْعَلَّامَةُ الْعَطَّارُ عَلَى مُحَلَّى جَمْعِ الْجَوَامِعِ فَقَالَ : وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الرُّؤْيَةِ التَّعْوِيلُ عَلَيْهَا فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لِاحْتِمَالِ الْخَطَأِ فِي التَّحَمُّلِ وَعَدَمِ ضَبْطِ الرَّائِي حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا رَآهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ يَقُولُ لَهُ إنَّ فِي الْمَحَلِّ الْفُلَانِيِّ رِكَازًا اذْهَبْ فَخُذْهُ ، وَلَا خُمُسَ عَلَيْك فَذَهَبَ فَوَجَدَهُ فَاسْتَفْتَى الْعُلَمَاءَ فَقَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : أَخْرِجْ الْخُمُسَ فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ ، وَقُصَارَى رُؤْيَتِك الْآحَادُ ا هـ فَافْهَمْ ، وَفِي الْخَازِنِ : وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ عَنْ الْمَيِّتِ تَنْفَعُ الْمَيِّتَ وَيَصِلُهُ ثَوَابُهَا وَعَلَى وُصُولِ الدُّعَاءِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَيَصِحُّ الْحَجُّ عَنْ الْمَيِّتِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِحَجٍّ تَطَوُّعٍ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الصَّوْمِ إذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ فَالرَّاجِحُ جَوَازُهُ عَنْهُ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ لَا يَصِلُ لِلْمَيِّتِ ثَوَابُهَا ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : يَصِلُهُ

ثَوَابُهَا ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَمَّا الصَّلَوَاتُ وَسَائِرُ التَّطَوُّعَاتِ فَلَا تَصِلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ ، وَقَالَ أَحْمَدُ : يَصِلُهُ ثَوَابُ الْجَمِيعِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ا هـ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ : فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الْآيَتَيْنِ وَشِبْهِهِمَا عَلَى الْإِيمَانِ أَوْ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ .
ا هـ .
وَفِي الْخَازِنِ وَقِيلَ : أَرَادَ بِالْإِنْسَانِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ } الْآيَةَ الْكَافِرُ وَالْمَعْنَى لَيْسَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ إلَّا مَا عَمِلَ هُوَ فَيُثَابُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ يُوَسَّعَ عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ وَيُعَافَى فِي بَدَنِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ ، وَقِيلَ : إنَّ قَوْلَهُ { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } هُوَ مِنْ بَابِ الْفَضْلِ فَجَائِزٌ أَنْ يَزِيدَهُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ ا هـ وَفِي الْخَطِيبِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذَا مَنْسُوخُ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ أَيْ : وَإِنَّمَا هُوَ فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } فَأَدْخَلَ الْأَبْنَاءَ الْجَنَّةَ بِصَلَاحِ الْآبَاءِ وَقَالَ عِكْرِمَةُ : إنَّ ذَلِكَ لِقَوْمِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ فَلَهُمْ مَا سَعَوْا وَمَا سَعَى لَهُمْ غَيْرُهُمْ لِمَا رُوِيَ أَنَّ { امْرَأَةً رَفَعَتْ صَبِيًّا لَهَا ، وَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِهَذَا حَجٌّ فَقَالَ : نَعَمْ وَلَك أَجْرٌ } { وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أُمِّي قَتَلَتْ نَفْسَهَا فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إنْ تَصَدَّقْت عَنْهَا قَالَ : نَعَمْ } ا هـ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ : وَقَوْلُ الْقَرَافِيِّ بِأَنَّ التَّوْبَةَ وَالْعُقُوبَاتِ تُكَفِّرُ السَّيِّئَاتِ ، وَتَمْحُو آثَارَهَا إنْ أَرَادَ بِهِ مَحْوَهَا مِنْ الصَّحَائِفِ فَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْإِحْبَاطِ ، وَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ قَالَ : وَلَا دَلِيلَ لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَا أَصَابَكُمْ

مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبْتِ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } عَلَى كَوْنِ الْمَصَائِبِ مُكَفِّرَةً لِلذُّنُوبِ أَوْ غَيْرَ مُكَفِّرَةٍ ، وَإِنَّمَا فِيهَا الْمَصَائِبُ سَبَبُهَا الذُّنُوبُ ، وَأَنَّ مِنْ الذُّنُوبِ مَا لَا يُقَابَلُ بِمُصِيبَةٍ يَكُونُ سَبَبًا لَهَا بَلْ يُسَامَحُ فِيهِ وَيُعْفَى عَنْهُ قَالَ : وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْمُصِيبَةَ لَا ثَوَابَ فِيهَا قَطْعًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ قَبْلَ هَذَا أَنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ الْعُمُومَاتِ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِتَعَيُّنِ حَمْلِهَا عَلَى الْخُصُوصِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي الْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ وَبِالظَّوَاهِرِ الْمُتَظَاهِرَةِ بِثُبُوتِ الْحَسَنَاتِ فِي الْآلَامِ وَشِبْهِهَا ، قَالَ : فَلَمْ يَظْهَرْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي زَعَمَ أَيْ : وَإِنَّمَا يَظْهَرُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ قَبْلُ بِقَوْلِهِ : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ مُسَبِّبًا إلَخْ قَالَ : وَمَا قَالَهُ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَ التَّكْفِيرَ بِمَوْتِ الْأَوْلَادِ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ أَنَّهُ يُؤْلِمُ فَهُوَ تَحْكِيمٌ بِتَقْيِيدِ كَلَامِ الشَّارِعِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ، وَتَضْيِيقٌ لِبَابِ الرَّحْمَةِ الثَّابِتِ سِعَتُهُ قَالَ : وَلَا مَانِعَ مِنْ الدُّعَاءِ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ أَيْ الْمَعْلُومِ الْحُصُولِ ؛ إذْ ذَلِكَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ : وَالدُّعَاءُ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ إلَخْ ، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ : إنَّ ذَلِكَ قِلَّةُ أَدَبٍ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى - كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بِالْمَغْفِرَةِ } مَعَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِهَا لَهُ ، وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَدْعُوَ بِذَلِكَ غَيْرُهُ ، أَوْ يَدْعُوَ لَهُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِحُصُولِ شَرْطِ التَّكْفِيرِ وَالْمَغْفِرَةِ وَهُوَ الْمُوَافَاةِ عَلَى الْإِيمَانِ ا هـ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُدَاهَنَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُدَاهَنَةِ الَّتِي لَا تَحْرُمُ ، وَقَدْ تَجِبُ ) اعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الْمُدَاهَنَةِ مُعَامَلَةُ النَّاسِ بِمَا يُحِبُّونَ مِنْ الْقَوْلِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } أَيْ هُمْ يَوَدُّونَ لَوْ أَثْنَيْت عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ ، وَيَقُولُونَ لَك مِثْلَ ذَلِكَ فَهَذِهِ مُدَاهَنَةٌ حَرَامٌ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ يَشْكُرُ ظَالِمًا عَلَى ظُلْمِهِ أَوْ مُبْتَدِعًا عَلَى بِدْعَتِهِ أَوْ مُبْطِلًا عَلَى إبْطَالِهِ وَبَاطِلِهِ فَهِيَ مُدَاهَنَةٌ حَرَامٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ لِتَكْثِيرِ ذَلِكَ الظُّلْمِ وَالْبَاطِلِ مِنْ أَهْلِهِ ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إنَّا لَنَشْكُرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ ، وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ يُرِيدُ الظَّلَمَةَ وَالْفَسَقَةَ الَّذِينَ يُتَّقَى شَرُّهُمْ ، وَيُتَبَسَّمُ فِي وُجُوهِهِمْ وَيُشْكَرُونَ بِالْكَلِمَاتِ الْحَقَّةِ فَإِنَّ مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَفِيهِ صِفَةٌ تُشْكَرُ ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَنْحَسِ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُ ذَلِكَ اسْتِكْفَاءً لِشَرِّهِ فَهَذَا قَدْ يَكُونُ مُبَاحًا ، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا إنْ كَانَ يَتَوَصَّلُ بِهِ الْقَائِلُ لِدَفْعِ ظُلْمٍ مُحَرَّمٍ أَوْ مُحَرَّمَاتٍ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِذَلِكَ الْقَوْلِ وَيَكُونُ الْحَالُ يَقْتَضِي ذَلِكَ ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا إنْ كَانَ وَسِيلَةً لِمَنْدُوبٍ أَوْ مَنْدُوبَاتٍ ، وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا إنْ كَانَ عَنْ ضَعْفٍ لَا ضَرُورَةَ تَتَقَاضَاهُ بَلْ خَوْرٌ فِي الطَّبْعِ أَوْ يَكُونُ وَسِيلَةً لِلْوُقُوعِ فِي مَكْرُوهٍ فَانْقَسَمَتْ الْمُدَاهَنَةُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَظَهَرَ - حِينَئِذٍ - الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَاهَنَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَغَيْرِ الْمُحَرَّمَةِ ، وَقَدْ شَاعَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ الْمُدَاهَنَةَ كُلَّهَا مُحَرَّمَةٌ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْأَمْرُ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ

وَجَمِيعُ مَا قَالَ فِي الْفَرْقِ بَعْدَهُ ، وَهُوَ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ إلَى آخِرِ الْفَرْقِ الْحَادِي وَالسَّبْعِينَ وَالْمِائَتَيْنِ صَحِيحٌ أَوْ نَقْلٌ لَا كَلَامَ فِيهِ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُدَاهَنَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُدَاهَنَةِ الَّتِي لَا تَحْرُمُ وَقَدْ تَجِبُ ) وَهُوَ أَنَّ الْمُدَاهَنَةَ ، وَهِيَ مُعَامَلَةُ النَّاسِ بِمَا يُحِبُّونَ مِنْ الْقَوْلِ ، وَإِنْ شَاعَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهَا كُلَّهَا مُحَرَّمَةٌ إلَّا أَنَّهَا تَجْرِي عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ ، فَقِسْمُ الْمُحَرَّمَةِ مَا كَانَ وَسِيلَةً لِتَكْثِيرِ الظُّلْمِ وَالْبَاطِلِ مِنْ أَهْلِهِ كَشُكْرِ الظَّالِمِ عَلَى ظُلْمِهِ وَالْمُبْتَدِعِ عَلَى بِدْعَتِهِ أَوْ مُبْطِلٍ عَلَى إبْطَالِهِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } أَيْ هُمْ يَوَدُّونَ لَوْ أَثْنَيْت عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ وَيَقُولُونَ لَك مِثْلَ ذَلِكَ وَقِسْمُ غَيْرِ الْمُحَرَّمَةِ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ عِبَارَةً عَنْ شُكْرِ الظَّلَمَةِ الْفَسَقَةِ وَاَلَّذِينَ يُتَّقَى شَرُّهُمْ بِالْكَلِمَاتِ الْحَقَّةِ وَبِالتَّبَسُّمِ فِي وُجُوهِهِمْ وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : إنَّا لَنَشْكُرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ وَهَذَا قَدْ يَكُونُ مُبَاحًا إنْ لَمْ يَكُنْ وَسِيلَةً لِوَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ أَوْ مَكْرُوهٍ ، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا إنْ كَانَ يَتَوَصَّلُ بِهِ الْقَائِلُ لِدَفْعِ ظُلْمٍ مُحَرَّمٍ أَوْ مُحَرَّمَاتٍ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِذَلِكَ الْقَوْلِ ، وَيَكُونُ الْحَالُ يَقْتَضِي ذَلِكَ ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا إنْ كَانَ وَسِيلَةً لِمَنْدُوبٍ أَوْ مِنْ مَنْدُوبَاتٍ ، وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا إنْ كَانَ عَنْ ضَعْفٍ لَا ضَرُورَةَ تَتَقَاضَاهُ بَلْ خَوْرٌ فِي الطَّبْعِ أَوْ كَانَ وَسِيلَةً لِلْوُقُوعِ فِي مَكْرُوهٍ هَذَا تَهْذِيبُ كَلَامِ الْأَصْلِ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ قُلْت : وَقِسْمُ الْمُدَاهَنَةِ الْمُحَرَّمَةِ هُوَ الَّذِي عَدَّهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الزَّوَاجِرِ مِنْ الْكَبَائِر لِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِنْ أَسْوَأِ النَّاسِ مَنْزِلَةً مَنْ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ } وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ

أَشَرُّ النَّاسِ نَدَامَةً ، وَفِي أُخْرَى أَنَّهُ أَشَرُّ النَّاسِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إلَى النَّاسِ } ا هـ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - الْمُحَرَّمِ وَقَاعِدَةِ الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - الَّذِي لَا يَحْرُمُ ) وَرَدَ قَوْله تَعَالَى { وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ } وقَوْله تَعَالَى { فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي } وقَوْله تَعَالَى { وَتَخْشَى النَّاسَ وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الْمَانِعَةِ مِنْ خَوْفِ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَهُوَ الْمُسْتَفِيضُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْجُمْهُورِ ، وَهَذِهِ النُّصُوصُ مَحْمُولَةٌ عَلَى خَوْفِ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - الْمَانِعِ مِنْ فِعْلِ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ أَوْ خَوْفٍ مِمَّا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْخَوْفِ كَمَنْ يَتَطَيَّرُ بِمَا لَا يَخَافُ مِنْهُ عَادَةً كَالْعُبُورِ بَيْنَ الْغَنَمِ يُخَافُ لِذَلِكَ أَنْ لَا تُقْضَى حَاجَتُهُ بِهَذَا السَّبَبِ فَهَذَا كُلُّهُ خَوْفٌ حَرَامٌ ، وَمِمَّا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَهُوَ قَلِيلٌ أَنْ يَتَفَطَّنَ لَهُ قَوْله تَعَالَى { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاَللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } فَمَعْنَى هَذَا التَّشْبِيهِ فِي هَذِهِ الْكَافِ قَلَّ مَنْ يُحَقِّقُهُ ، وَهُوَ قَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي سِيَاقِ الذَّمِّ وَالْإِنْكَارِ مَعَ أَنَّ فِتْنَةَ النَّاسِ مُؤْلِمَةٌ ، وَعَذَابُ اللَّهِ مُؤْلِمٌ ، وَمَنْ شَبَّهَ مُؤْلِمًا بِمُؤْلِمٍ كَيْفَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ هَذَا التَّشْبِيهَ وَمُدْرَكُ الْإِنْكَارِ بَيِّنٌ ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - وَضَعَ عَذَابَهُ حَاثًّا عَلَى طَاعَتِهِ وَزَاجِرًا عَنْ مَعْصِيَتِهِ فَمَنْ جَعَلَ أَذِيَّةَ النَّاسِ حَاثَّةً عَلَى طَاعَتِهِمْ فِي ارْتِكَابِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَزَاجِرَةً لَهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ سَوَّى بَيْنَ عَذَابِ اللَّهِ وَفِتْنَةِ النَّاسِ فِي الْحَثِّ وَالزَّجْرِ وَشَبَّهَ الْفِتْنَةَ بِعَذَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَالتَّشْبِيهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ حَرَامٌ قَطْعًا مُوجِبٌ لِلتَّحْرِيمِ وَاسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ الشَّرْعِيِّ فَأُنْكِرَ عَلَى

فَاعِلِهِ ذَلِكَ ، وَهُوَ مِنْ بَابِ خَوْفِ غَيْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ ، وَهُوَ سِرُّ التَّشْبِيهِ هَا هُنَا ، وَقَدْ يَكُونُ الْخَوْفُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - لَيْسَ مُحَرَّمًا كَالْخَوْفِ مِنْ الْأُسُودِ وَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالظُّلْمَةِ ، وَقَدْ يَجِبُ الْخَوْفُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَمَا أَمَرَنَا بِالْفِرَارِ مِنْ أَرْضِ الْوَبَاءِ وَالْخَوْفِ مِنْهَا عَلَى أَجْسَامِنَا مِنْ الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ ، وَفِي الْحَدِيثِ { فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَك مِنْ الْأَسَدِ } فَصَوْنُ النَّفْسِ وَالْأَجْسَامِ وَالْمَنَافِعِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ عَنْ الْأَسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ وَاجِبٌ ، وَعَلَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ فَقِسْ يَظْهَرْ لَك مَا يَحْرُمُ مِنْ الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَمَا لَا يَحْرُمُ وَحَيْثُ تَكُونُ الْخَشْيَةُ مِنْ الْخَلْقِ مُحَرَّمَةً وَحَيْثُ لَا تَكُونُ فَاعْلَمْ ذَلِكَ

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - الْمُحَرَّمِ وَقَاعِدَةِ الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - الَّذِي لَا يَحْرُمُ ) وَهُوَ أَنَّ الْخَوْفَ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ مُحَرَّمٌ إنْ كَانَ مَانِعًا مِنْ فِعْلِ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ ، أَوْ كَانَ مِمَّا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْخَوْفِ كَمَنْ يَتَطَيَّرُ بِمَا لَا يَخَافُ مِنْهُ عَادَةً كَالْعُبُورِ بَيْنَ الْغَنَمِ يَخَافُ أَنْ لَا تُقْضَى حَاجَتُهُ بِهَذَا السَّبَبِ وَعَلَى هَذَا الْخَوْفِ الْمُحَرَّمِ يُحْمَلُ قَوْله تَعَالَى : - { وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ } وقَوْله تَعَالَى { فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي } وقَوْله تَعَالَى { وَتَخْشَى النَّاسَ وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاَللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ جَعَلَ أَذِيَّةَ النَّاسِ حَاثَّةً عَلَى طَاعَتِهِمْ فِي ارْتِكَابِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَزَجْرَهُ لَهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَمَا وَضَعَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَذَابَهُ حَاثًّا عَلَى طَاعَتِهِ وَزَاجِرًا عَنْ مَعْصِيَتِهِ فَقَدْ سَوَّى بَيْنَ عَذَابِ اللَّهِ وَفِتْنَةِ النَّاسِ فِي الْحَثِّ وَالزَّجْرِ فَتَشْبِيهُهُ الْفِتْنَةَ بِعَذَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ هَذَا الْوَجْهِ حَرَامٌ قَطْعًا مُوجِبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ الشَّرْعِيِّ ، وَهُوَ مِنْ بَابِ خَوْفِ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - الْمُحَرَّمِ وَهُوَ سِرُّ التَّشْبِيهِ هَا هُنَا وَأَنَّ الْخَوْفَ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - غَيْرُ مُحَرَّمٍ إنْ كَانَ غَيْرَ مَانِعٍ مِنْ فِعْلِ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ وَكَانَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْخَوْفِ كَالْخَوْفِ مِنْ الْأُسُودِ وَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالظُّلْمَةِ وَكَالْخَوْفِ مِنْ أَرْضِ الْوَبَاءِ ، وَمِنْ الْمَجْذُومِ عَلَى أَجْسَامِنَا مِنْ الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ بَلْ صَوْنُ النُّفُوسِ وَالْأَجْسَامِ وَالْمَنَافِعِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَمْوَالِ

وَالْأَعْرَاضِ عَنْ الْأَسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } .
وَقَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَك مِنْ الْأَسَدِ } وَعَلَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ فَقِسْ يَظْهَرْ لَك مَا يَحْرُمُ مِنْ الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَمَا لَا يَحْرُمُ ، وَحَيْثُ تَكُونُ الْخَشْيَةُ مِنْ الْخَلْقِ مُحَرَّمَةً ، وَحَيْثُ لَا تَكُونُ فَاعْلَمْ ذَلِكَ ، هَذَا تَنْقِيحُ مَا فِي الْأَصْلِ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ قُلْت : وَمُرَادُهُ بِالْخَوْفِ مِنْ أَرْضِ الْوَبَاءِ خَوْفُ مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا مِنْ دُخُولِهَا فَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِمَّا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا سَمِعْتُمْ الطَّاعُونَ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ } قَالَ الْمُنَاوِيُّ : أَيْ يَحْرُمُ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَيْهِ جُرْأَةٌ عَلَى خَطَرٍ وَإِيقَاعٌ لِلنَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ وَالشَّرْعُ نَاهٍ عَنْ ذَلِكَ قَالَ اللَّه - تَعَالَى - { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } وَقَالَ الشَّيْخُ : النَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ أَفَادَهُ الْعَزِيزِيُّ فَلَا يُنَافِي مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ جَابِرٍ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْفَارُّ مِنْ الطَّاعُون كَالْفَارِّ مِنْ الزَّحْفِ ، وَالصَّابِرُ فِيهِ كَالصَّابِرِ فِي الزَّحْفِ } وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَيْضًا { الْفَارُّ مِنْ الطَّاعُونِ كَالْفَارِّ مِنْ الزَّحْفِ ، وَمَنْ صَبَرَ فِيهِ كَانَ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ } كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْحَافِظِ السُّيُوطِيّ فَإِنَّ مَعْنَاهُ كَمَا فِي شَرْحِ الْعَزِيزِيِّ أَنَّهُ كَمَا يَحْرُمُ الْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ يَحْرُمُ الْخُرُوجُ مِنْ بَلَدٍ وَقَعَ فِيهَا الطَّاعُونُ بِقَصْدِ الْفِرَارِ ا هـ وَفِي حَاشِيَةِ الْحِفْنِيِّ فَإِنْ خَرَجَ لِنَحْوِ زِيَارَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ .
ا هـ .
وَسَيَأْتِي نَقْلُ صَاحِبِ الْقَبَسِ عَنْ بَعْضِ

الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ : مَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا عَدْوَى } أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى بَعْضِ الْأَمْرَاضِ بِدَلِيلِ تَحْذِيرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ الْقُدُومِ عَلَى بَلَدٍ فِيهِ الْوَبَاءُ ا هـ كَمَا حَصَلَ الْعَزِيزِيُّ عَلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ } كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى خُصُوصِ سَبَبِهِ فَقَالَ قَالَهُ لِمَنْ اُسْتُشْهِدَ عَلَى الْعَدْوَى بِإِعْدَاءِ الْبَعِيرِ الْأَجْرَبِ لِلْإِبِلِ ، وَهُوَ مِنْ الْأَجْوِبَةِ الْمُسْكِتَةِ ؛ إذْ لَوْ جَلَبَتْ الْأَدْوَاءُ بَعْضَهَا بَعْضًا لَزِمَ فَقْدُ الدَّاءِ الْأَوَّلِ لِفَقْدِ الْجَالِبِ فَاَلَّذِي فَعَلَهُ فِي الْأَوَّلِ هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ فِي الثَّانِي ، وَهُوَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْخَالِقُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ا هـ وَذَلِكَ الْبَعْضُ هُوَ مَا لَمْ تَتَمَحَّضْ ، وَلَمْ تَجْرِ لَا بِطَرِيقِ الِاطِّرَادِ وَلَا الْغَلَبَةِ عَادَةُ اللَّهِ - تَعَالَى - بِهِ فِي حُصُولِ الضَّرَرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ كَالْجَرَبِ بِخِلَافِ مَا كَانَتْ عَادَةُ اللَّهِ - تَعَالَى - بِهِ فِي حُصُولِ الضَّرَرِ اضْطِرَارِيَّةً ، أَوْ أَكْثَرِيَّةً كَالْجُذَامِ ، فَإِنَّ عَوَائِدَ اللَّهِ إذَا دَلَّتْ عَلَى شَيْءٍ وَجَبَ اعْتِقَادُهُ ، وَإِذَا لَمْ تَدُلَّ عَلَى شَيْءٍ حَرُمَ اعْتِقَادُهُ كَمَا سَيَتَّضِحُ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّطَيُّرِ وَقَاعِدَةِ الطِّيَرَةِ وَمَا يَحْرُمُ مِنْهُمَا وَمَا لَا يَحْرُمُ ) فَالتَّطَيُّرُ هُوَ الظَّنُّ السَّيِّئُ الْكَائِنُ فِي الْقَلْبِ ، وَالطِّيَرَةُ هُوَ الْفِعْلُ الْمُرَتَّبُ عَلَى هَذَا الظَّنِّ مِنْ فِرَارٍ أَوْ غَيْرِهِ وَكِلَاهُمَا حَرَامٌ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ ، وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ } وَلِأَنَّهَا مِنْ بَابِ سُوءِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ - تَعَالَى ، وَلَا يَكَادُ الْمُتَطَيِّرُ يَسْلَمُ مِمَّا تَطَيَّرَ مِنْهُ إذَا فَعَلَهُ ، وَغَيْرُهُ لَا يُصِيبُهُ مِنْهُ بَأْسٌ ، وَسَأَلَ بَعْضُ الْمُتَطَيِّرِينَ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ لَهُ : إنَّنِي لَا أَتَطَيَّرُ فَلَا يَنْخَرِمُ عَلَى ذَلِكَ بَلْ يَقَعُ الضَّرَرُ بِي وَغَيْرِي يَقَعُ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ السَّبَبِ فَلَا يَجِدُ مِنْهُ ضَرَرًا ، وَقَدْ أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَيَّ فَهَلْ لِهَذَا أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَقَالَ لَهُ نَعَمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ - تَعَالَى - : { أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ } وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ فَلْيَظُنَّ بِي خَيْرًا وَأَنْتَ تَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُؤْذِيَك عِنْدَ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي تَطَيَّرْت مِنْهُ فَتُسِيءُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَيُقَابِلُك اللَّهُ عَلَى سُوءِ ظَنِّك بِهِ بِإِذَايَتِكَ بِذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي تَطَيَّرْت بِهِ ، وَغَيْرُك لَا يُسِيءُ ظَنَّهُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى ، وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ ضَرَرٌ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يُعَاقِبُهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فَلَا يَتَضَرَّرُ ثُمَّ هَذَا الْمَقَامُ يَحْتَاجُ إلَى تَحْقِيقٍ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ خَافَ الْهَلَاكَ عِنْدَ مُلَاقَاةِ السَّبُعِ لَمْ يَحْرُمْ إجْمَاعًا فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ فِي الْغَالِبِ قِسْمَانِ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنَّهُ مُؤْذٍ كَالسَّمُومِ وَالسِّبَاعِ وَالْوَبَاءِ وَمُعَادَاةِ النَّاسِ وَالتُّخْمِ وَأَكْلِ الْأَغْذِيَةِ الثَّقِيلَةِ الْمُنَفِّخَةِ عِنْدَ ضُعَفَاءِ الْمَعِدَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَالْخَوْفُ فِي هَذَا

الْقِسْمِ لَيْسَ حَرَامًا ؛ لِأَنَّهُ خَوْفٌ عَنْ سَبَبٍ مُحَقَّقٍ فِي مَجَارِي الْعَادَةِ ، وَقَدْ نَقَلَ صَاحِبُ الْقَبَسِ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ : مَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا عَدْوَى } مَحْمُولٌ عَلَى بَعْضِ الْأَمْرَاضِ بِدَلِيلِ تَحْذِيرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ الْوَبَاءِ وَالْقُدُومِ عَلَى بَلَدٍ هُوَ فِيهِ .
وَهَذَا حَقٌّ فَإِنَّ عَوَائِدَ اللَّهِ إذَا دَلَّتْ عَلَى شَيْءٍ وَجَبَ اعْتِقَادُهُ كَمَا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْمَاءَ مُرْوٍ وَالْخُبْزَ مُشْبِعٌ وَالنَّارَ مُحْرِقَةٌ وَقَطْعَ الرَّأْسِ مُمِيتٌ وَمَنْعَ النَّفَسِ مُمِيتٌ ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ كَانَ خَارِجًا عَنْ نَمَطِ الْعُقَلَاءِ ، وَمَا سَبَبُهُ إلَّا جَرَيَانُ الْعَادَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِهِ ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي الْعَادَةِ أَكْثَرِيًّا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطَّرِدًا نَحْوُ كَوْنِ الْمَحْمُودَةِ مُسَهِّلَةً وَالْآسِ قَابِضًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدْوِيَةِ فَإِنَّ اعْتِقَادَهَا حَسَنٌ مُتَعَيِّنٌ مَعَ عَدَمِ اطِّرَادِهَا بَلْ لِكَوْنِهَا أَكْثَرِيَّةً فَيَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ أَنَّ الَّذِي يَحْرُمُ التَّطَيُّرُ فِيهِ هُوَ الْقِسْمُ الْخَارِجُ عَنْ هَذَا الْقِسْمِ ، وَهُوَ مَا لَمْ تَجْرِ عَادَةُ اللَّهِ - تَعَالَى - بِهِ فِي حُصُولِ الضَّرَرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ فَإِذَا عَرَضَ التَّطَيُّرُ حَصَلَ بِهِ الضَّرَرُ عُقُوبَةً لِمَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فِيهِ وَاعْتَقَدَ فِي مِلْكِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَتَصَرُّفِهِ مَا لَيْسَ فِيهِ مَعَ سُوءِ الظَّنِّ بِهِ وَهَذَا الْقِسْمُ كَشَقِّ الْأَغْنَامِ وَالْعُبُورِ بَيْنَ الْغَنَمِ وَشِرَاءِ الصَّابُونِ يَوْمَ السَّبْتِ وَنَحْوِ هَذَا مِنْ هَذَيَانِ الْعَوَامّ الْمُتَطَيِّرِينَ فَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْحَرَامُ الْمَخُوفُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ سُوءُ ظَنٍّ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ، وَمِنْ الْأَشْيَاءِ مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ .
وَلَمْ يَتَمَحَّضْ كَالْعَدْوَى فِي بَعْضِ الْأَمْرَاضِ وَنَحْوِهِ فَالْوَرَعُ تَرْكُ الْخَوْفِ مِنْهُ حَذَرًا مِنْ الطِّيَرَةِ وَمِنْ ذَلِكَ الشُّؤْمُ الْوَارِدُ فِي الْأَحَادِيثِ فَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ

السَّلَامُ { إنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ الدَّارُ وَالْمَرْأَةُ وَالْفَرَسُ } وَفِي بَعْضِهَا { إنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ } قَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَقَى : فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ - كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - إنْ كَانَ النَّاسُ يَعْتَقِدُونَ الشُّؤْمَ فَإِنَّمَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ أَوْ إنْ كَانَ الشُّؤْمُ وَاقِعًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَفِي هَذِهِ الثَّلَاثِ وَقِيلَ : أَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ أَوَّلًا مُجْمَلًا ثُمَّ أَخْبَرَ بِهِ وَاقِعًا فِي الثَّلَاثِ ؛ فَلِذَلِكَ أَجْمَلَ ثُمَّ فَصَّلَ وَجَزَمَ كَمَا { قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الدَّجَّالِ إنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ ، وَإِنْ لَمْ أَكُنْ فِيكُمْ فَالْمَرْءُ حَجِيجُ نَفْسِهِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - خَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ ثُمَّ أَخْبَرَ } عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الدَّجَّالَ إنَّمَا يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَأَخْبَرَ بِالدَّجَّالِ أَوَّلًا مُجْمَلًا ثُمَّ أَخْبَرَ بِهِ مُفَصَّلًا عَلَى حَسَبِ مَا وَرَدَ الْوَحْيُ بِهِ ، وَكَذَلِكَ { سُئِلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَكْلِ الضَّبِّ فَقَالَ : إنَّهُ قَدْ مُسِخَتْ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ } أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْمَمْسُوخَ لَمْ يَعْقُبْ فَقَدْ أَخْبَرَ بِالْمَسْخِ أَوَّلًا مُجْمَلًا ثُمَّ أَخْبَرَ بِهِ مُفَصَّلًا ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي السُّنَّةِ فَتَنَبَّهْ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَبِهَا يَحْصُلُ لَك الْجَمْعُ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يُجْرِيَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَادَتَهُ بِجَعْلِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَحْيَانًا سَبَبًا لِلضَّرَرِ فَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ دَارٌ سَكَنَّاهَا ، وَالْعَدَدُ كَثِيرٌ ، وَالْمَالُ وَافِرٌ فَقَلَّ الْعَدَدُ وَذَهَبَ الْمَالُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهَا ذَمِيمَةً } وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : إنَّمَا تَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ أَقْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الثَّلَاثِ قَالَ الْبَاجِيَّ : وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَادَةً ، وَفِي

الْمُوَطَّإِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا عَدْوَى ، وَلَا هَامَ ، وَلَا صَفَرَ } ، وَلَا يَحُلُّ الْمُمْرِضُ عَلَى الْمُصِحِّ وَلْيَحِلَّ الْمُصِحُّ حَيْثُ شَاءَ قَالَ الْبَاجِيَّ قَالَ ابْنُ دِينَارٍ : لَا يُعْدِي مَرِيضٌ مَرِيضًا خِلَافًا لِمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَعْتَقِدُهُ فَبَيَّنَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ - تَعَالَى - ، وَلَا هَامَةَ قَالَ مَالِكٌ : مَعْنَاهُ لَا تَطَيُّرَ بِالْهَامَةِ كَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُ : إذَا وَقَعَتْ هَامَةٌ عَلَى بَيْتٍ خَرَجَ مِنْهُ مَيِّتٌ .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَقُولُ إذَا قُتِلَ أَحَدٌ خَرَجَ مِنْ رَأْسِهِ طَائِرٌ لَا يَزَالُ يَقُولُ اسْقُونِي حَتَّى يَقْتُلَ قَاتِلَهُ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْخَبَرُ نَهْيًا وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ تَكْذِيبًا ، وَلَا صَفَرَ هُوَ النَّسِيءُ الَّتِي كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تُحَرِّمُ فِيهِ صَفَرَ لِتُبِيحَ بِهِ الْمُحَرَّمَ وَقِيلَ : كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَقُولُ : هُوَ دَاءٌ فِي الْجَوْفِ يَقْتُلُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَمُوتُ إلَّا بِأَجَلِهِ وَالْمُمْرِضُ صَاحِبُ الْمَاشِيَةِ الْمَرِيضَةِ وَالْمُصِحُّ صَاحِبُ الْمَاشِيَةِ الصَّحِيحَةِ قَالَ ابْنُ دِينَارٍ وَمَعْنَى الْمُمْرِضِ الْمُصِحِّ بِإِيرَادِ مَاشِيَةٍ عَلَى مَاشِيَةٍ فَيُؤْذِيهِ بِذَلِكَ فَنُسِخَ بِقَوْلِهِ { لَا عَدْوَى } وَقِيلَ : مَعْنَاهُ لَا يَحِلُّ الْمَجْذُومُ مَحَلَّ الصَّحِيحِ مَعَهُ يُؤْذِيهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْدِي فَالنَّفْسُ تَكْرَهُهُ فَهُوَ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الضَّرَرِ لَا مِنْ الْعَدْوَى وَقِيلَ : هُوَ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا عَدْوَى }

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّطَيُّرِ وَقَاعِدَةِ الطِّيَرَةِ ، وَمَا يَحْرُمُ مِنْهُمَا وَلَا يَحْرُمُ ) وَذَلِكَ أَنَّ التَّطَيُّرَ هُوَ الظَّنُّ السَّيِّئُ الْكَائِنُ فِي الْقَلْبِ وَالطِّيَرَةُ هُوَ الْفِعْلُ الْمُرَتَّبُ عَلَى هَذَا الظَّنِّ مِنْ قَرَارٍ أَوْ غَيْرِهِ وَإِنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي يَكُونُ الْخَوْفُ مِنْهَا الْمُرَتَّبُ عَلَى سُوءِ الظَّنِّ الْكَائِنِ فِي الْقَلْبِ تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : ( الْأَوَّلُ ) : مَا جَرَتْ الْعَادَةُ الثَّابِتَةُ بِاطِّرَادٍ بِأَنَّهُ مُؤْذٍ كَالسَّمُومِ وَالسِّبَاعِ وَالْوَبَاءِ وَالطَّاعُونِ وَالْجُذَامِ وَمُعَادَاةِ النَّاسِ وَالتُّخْمِ وَأَكْلِ الْأَغْذِيَةِ الثَّقِيلَةِ الْمُنَفِّخَةِ عِنْدَ ضُعَفَاءِ الْمَعِدَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَالْخَوْفُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَنْ سَبَبٍ مُحَقَّقٍ فِي مَجَارِي الْعَادَةِ لَا يَكُونُ حَرَامًا ، فَإِنَّ عَوَائِدَ اللَّهِ إذَا دَلَّتْ عَلَى شَيْءٍ وَجَبَ اعْتِقَادُهُ كَمَا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْمَاءَ مُرُورٌ ، وَالْخُبْزَ مُشْبِعٌ وَالنَّارَ مُحْرِقَةٌ وَقَطْعَ الرَّأْسِ مُمِيتٌ وَمَنْعَ النَّفْسِ مُمِيتٌ وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ كَانَ خَارِجًا عَنْ نَمَطِ الْعُقَلَاءِ ، وَمَا سَبَبُهُ إلَّا جَرَيَانُ الْعَادَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِهِ بِاطِّرَادٍ ( وَالْقِسْمُ الثَّانِي ) : مَا كَانَ جَرَيَانُ الْعَادَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِهِ فِي حُصُولِ أَمْرٍ أَكْثَرِيًّا لَا اطِّرَادِيًّا كَكَوْنِ الْمَجْمُودَةِ مُسَهِّلَةً وَالْآسِ قَابِضًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدْوِيَةِ فَالِاعْتِقَادُ وَكَذَا الْفِعْلُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْقِسْمِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطَّرِدًا لَيْسَ بِحَرَامٍ بَلْ هُوَ حَسَنٌ مُتَعَيِّنٌ لِأَكْثَرِيَّتِهِ ؛ إذْ الْحُكْمُ لِلْغَالِبِ فَهُوَ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ قُلْت : وَعَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ تُحْمَلُ جُمْلَةُ أَحَادِيثَ مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَك مِنْ الْأَسَدِ } وَمِنْهَا قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ احْتَجَمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَيَوْمَ السَّبْتِ فَرَأَى فِي جَسَدِهِ وَضَحًا أَيْ

بَرَصًا فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ } كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ ) : مَا لَمْ تَجْرِ عَادَةُ اللَّهِ - تَعَالَى - بِهِ أَصْلًا فِي حُصُولِ الضَّرَرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ كَشَقِّ الْأَغْنَامِ وَالْعُبُورِ بَيْنَهَا يَخَافُ لِذَلِكَ أَنْ لَا تُقْضَى حَاجَتُهُ وَنَحْوُ هَذَا مِنْ هَذَيَانِ الْعَوَامّ الْمُتَطَيِّرِينَ كَشِرَاءِ الصَّابُونِ يَوْمَ السَّبْتِ فَالْخَوْفُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ حَرَامٌ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ ، وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ } فَالطِّيَرَةُ فِيهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى هَذَا الْقِسْمِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ سُوءِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكَادُ الْمُتَطَيِّرُ يَسْلَمُ مِمَّا تَطَيَّرَ مِنْهُ إذَا فَعَلَهُ جَزَاءً لَهُ عَلَى سُوءِ ظَنِّهِ .
وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُسِئْ ظَنَّهُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - لَا يُصِيبُهُ مِنْهُ بَأْسٌ فَمِنْ هُنَا لَمَّا سَأَلَ بَعْضُ الْمُتَطَيِّرِينَ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ لَهُ : إنَّنِي لَا أَتَطَيَّرُ فَلَا يَنْخَرِمُ عَلَى ذَلِكَ بَلْ يَقَعُ الضَّرَرُ بِي وَغَيْرِي يَقَعُ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ السَّبَبِ فَلَا يَجِدُ مِنْهُ ضَرَرًا وَقَدْ أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَيَّ فَهَلْ لِهَذَا أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ ، قَالَ لَهُ : نَعَمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ - تَعَالَى - { أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ } وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ فَلْيَظُنَّ بِي خَيْرًا وَأَنْتَ تَظُنُّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُؤْذِيَك عِنْدَ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي تَطَيَّرْت مِنْهُ فَتُسِيءُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيُقَابِلُك اللَّهُ عَلَى سُوءِ ظَنِّك بِهِ بِإِذَايَتِكَ بِذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي تَطَيَّرْت بِهِ وَغَيْرُك لَا يُسِيءُ ظَنَّهُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ ضَرَرٌ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يُعَاقِبُهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فَلَا يَتَضَرَّرُ .
ا هـ .
( وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ ) مَا لَمْ يَتَمَحَّضْ بِهِ حُصُولُ ضَرَرٍ لَا بِالْعَادَةِ الِاطِّرَادِيَّةِ وَلَا الْأَكْثَرِيَّةِ ، وَلَا عَدَمُ

حُصُولِهِ أَصْلًا بَلْ اسْتَوَى بِهِ الْحُصُولُ ، وَعَدَمُهُ كَالْجَرَبِ فَمِنْ ثَمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ اُسْتُشْهِدَ عَلَى الْعَدْوَى بِإِعْدَاءِ الْبَعِيرِ الْأَجْرَبِ لِلْإِبِلِ { فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ } .
وَهُوَ مِنْ الْأَجْوِبَةِ الْمُسْكِتَةِ إذْ لَوْ جَلَبَتْ الْأَدْوَاءُ بَعْضَهَا بَعْضًا لَزِمَ فَقْدُ الدَّاءِ الْأَوَّلِ لِفَقْدِ الْجَالِبِ فَاَلَّذِي فَعَلَهُ فِي الْأَوَّلِ هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ فِي الثَّانِي .
وَهُوَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْخَالِقُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْعَزِيزِيِّ عَلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَالْوَرَعُ تَرْكُ الْخَوْفِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ حَذَرًا مِنْ الطِّيَرَةِ وَالْمَرَضِ الَّذِي مِنْ هَذَا الْقِسْمِ كَالْجَرَبِ هُوَ الْمُرَادُ بِبَعْضِ الْأَمْرَاضِ فِيمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْقَبَسِ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَوْلِهِ : إنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا عَدْوَى } مَعْنَاهُ قَالَ ابْنُ دِينَارٍ : لَا يُعْدِي خِلَافًا لِمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَعْتَقِدُهُ فَبَيَّنَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ - تَعَالَى - ا هـ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى بَعْضِ الْأَمْرَاضِ بِدَلِيلِ تَحْذِيرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ الْوَبَاءِ وَالْقُدُومِ عَلَى بَلَدٍ هُوَ فِيهِ ا هـ قَالَ الْأَصْلُ : وَهَذَا حَقٌّ فَإِنَّ عَوَائِدَ اللَّهِ إذَا دَلَّتْ عَلَى شَيْءٍ وَجَبَ اعْتِقَادُهُ كَمَا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْمَاءَ مُرٌّ وَإِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ وَالْمُمْرِضُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا يَحُلُّ عَلَى الْمُمْرِضِ الْمُصِحُّ } هُوَ صَاحِبُ الْمَاشِيَةِ الْمَرِيضَةِ وَالْمُصِحُّ هُوَ صَاحِبُ الْمَاشِيَةِ الصَّحِيحَةِ قَالَ ابْنُ دِينَارٍ وَمَعْنَى الْمُمْرِضِ الْمُصِحُّ بِإِيرَادِ مَاشِيَةٍ عَلَى مَاشِيَتِهِ فَيُؤْذِيهِ بِذَلِكَ فَنُسِخَ بِقَوْلِهِ لَا عَدْوَى وَقِيلَ : مَعْنَاهُ لَا يَحُلُّ الْمَجْذُومُ مَحَلَّ الصَّحِيحِ مَعَهُ يُؤْذِيهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْدِي فَالنَّفْسُ تَكْرَهُهُ فَهُوَ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الضَّرَرِ لَا مِنْ الْعَدْوَى .
وَقِيلَ : هُوَ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا عَدْوَى } ا

هـ قَالَ الْأَصْلُ : وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ الشُّؤْمُ الْوَارِدُ فِي الْأَحَادِيثِ فَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ الدَّارُ وَالْمَرْأَةُ وَالْفَرَسُ ، وَفِي بَعْضِهَا إنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ } قَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَقَى : فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنْ كَانَ النَّاسُ يَعْتَقِدُونَ الشُّؤْمَ فَإِنَّمَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ أَوْ إنْ كَانَ الشُّؤْمُ وَاقِعًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَفِي هَذِهِ الثَّلَاثِ .
وَقِيلَ : أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ بِذَلِكَ أَوَّلًا مُجْمَلًا ثُمَّ أَخْبَرَ بِهِ وَاقِعًا فِي الثَّلَاثِ فَلِذَلِكَ أَجْمَلَ ثُمَّ فَصَّلَ وَجَزَمَ كَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِالدَّجَّالِ أَوَّلًا مُجْمَلًا ثُمَّ أَخْبَرَ بِهِ مُفَصَّلًا عَلَى حَسَبِ مَا وَرَدَ الْوَحْيُ بِهِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ ، وَإِنْ لَمْ أَكُنْ فِيكُمْ فَالْمَرْءُ حَجِيجُ نَفْسِهِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - خَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّ الدَّجَّالَ إنَّمَا يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ } ، وَكَذَلِكَ { سُئِلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَكْلِ الضَّبِّ فَقَالَ : إنَّهُ قَالَ : قَدْ مُسِخَتْ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ ، وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ } أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْمَمْسُوخَ لَمْ يُعْقَبْ فَقَدْ أَخْبَرَ بِالْمَسْخِ أَوَّلًا مُجْمَلًا ثُمَّ أَخْبَرَ بِهِ مُفَصَّلًا ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي السُّنَّةِ فَنُنَبِّهُ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَبِهَا يَحْصُلُ لَك الْجَمْعُ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يُجْرِيَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَادَتَهُ بِجَعْلِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَحْيَانَا سَبَبًا لِلضَّرَرِ فَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ دَارٌ سَكَنَّاهَا ، وَالْعَدَدُ كَثِيرٌ ، وَالْمَالُ وَافِرٌ فَقَلَّ الْعَدَدُ ، وَذَهَبَ الْمَالُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهَا ذَمِيمَةً } وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى

عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ إنَّمَا تَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ أَقْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الثَّلَاثِ قَالَ الْبَاجِيَّ .
وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَادَةً ا هـ وَاخْتُلِفَ فِي الْهَامَةِ وَصَفَرٍ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ الْمُوَطَّإِ { لَا عَدْوَى وَلَا هَامَةَ ، وَلَا صَفَرَ } إلَخْ هَلْ هُمَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ أَمْ لَا قَالَ الْبَاجِيَّ : وَلَا هَامَةَ قَالَ مَالِكٌ : مَعْنَاهُ لَا تَطَيُّرَ بِالْهَامَةِ كَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُ : إذَا وَقَعَتْ هَامَةٌ عَلَى بَيْتٍ خَرَجَ مِنْهُ مَيِّتٌ .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَقُولُ إذَا قُتِلَ أَحَدٌ خَرَجَ مِنْ رَأْسِهِ طَائِرٌ لَا يَزَالُ يَقُولُ : اسْبِقْنِي حَتَّى يَقْتُلَ قَاتِلَهُ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْخَبَرُ نَهْيًا وَعَلَى الثَّانِي تَكْذِيبًا ، وَلَا صَفَرَ هُوَ النَّسِيءُ الَّتِي كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تُحَرِّمُ فِيهِ صَفَرَ لِتُبِيحَ بِهِ الْمُحَرَّمَ ، وَقِيلَ : كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَقُولُ : هُوَ دَاءٌ فِي الْجَوْفِ يَقْتُلُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَمُوتُ إلَّا بِأَجْلِهِ ا هـ هَذَا تَهْذِيبُ كَلَامِ الْأَصْلِ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مَعَ زِيَادَةٍ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الطِّيَرَةِ ، وَقَاعِدَةِ الْفَأْلِ الْحَلَالِ الْمُبَاحِ وَالْفَأْلِ الْحَرَامِ ) أَمَّا التَّطَيُّرُ وَالطِّيَرَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ حَقِيقَتُهُمَا وَأَحْكَامُهُمَا ، وَأَمَّا الْفَأْلُ فَهُوَ مَا يُظَنُّ عِنْدَهُ الْخَيْرُ عَكْسُ الطِّيَرَةِ وَالتَّطَيُّرِ غَيْرَ أَنَّهُ تَارَةً يَتَعَيَّنُ لِلْخَيْرِ ، وَتَارَةً لِلشَّرِّ وَتَارَةً مُتَرَدِّدًا بَيْنَهُمَا فَالْمُتَعَيِّنُ لِلْخَيْرِ مِثْلُ الْكَلِمَةِ الْحَسَنَةِ يَسْمَعُهَا الرَّجُلُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ نَحْوُ يَا فَلَّاحُ يَا مَسْعُودُ وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ الْوَلَدِ وَالْغُلَامِ بِالِاسْمِ الْحَسَنِ حَتَّى مَتَى سَمِعَ اسْتَبْشَرَ الْقَلْبُ فَهَذَا فَأْلٌ حَسَنٌ مُبَاحٌ مَقْصُودٌ وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَوَّلَ أَسْمَاءَ مَكْرُوهَةً مِنْ أَقْوَامٍ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِأَسْمَاءٍ حَسَنَةٍ فَهَذَانِ الْقِسْمَانِ هُمَا الْفَأْلُ الْمُبَاحُ وَعَلَيْهِمَا يُحْمَلُ قَوْلُهُمْ : { إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ } وَأَمَّا الْفَأْلُ الْحَرَامُ فَقَدْ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ إنَّ أَخْذَ : الْفَأْلِ مِنْ الْمُصْحَفِ وَضَرْبَ الرَّمْلِ وَالْقُرْعَةِ وَالضَّرْبِ بِالشَّعِيرِ وَجَمِيعَ هَذَا النَّوْعِ حَرَامٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ .
وَالْأَزْلَامُ أَعْوَادٌ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَكْتُوبٌ عَلَى أَحَدِهِمَا افْعَلْ وَعَلَى الْآخَرِ لَا تَفْعَلْ وَعَلَى الْآخَرِ غُفْلٌ فَيَخْرُجُ أَحَدُهُمَا ، فَإِنْ وَجَدَ عَلَيْهِ افْعَلْ أَقْدَمَ عَلَى حَاجَتِهِ الَّتِي يَقْصِدُهَا أَوْ لَا تَفْعَلْ أَعْرَضَ عَنْهَا وَاعْتَقَدَ أَنَّهَا ذَمِيمَةٌ ، أَوْ خَرَجَ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ غُفْلٌ أَعَادَ الضَّرْبَ فَهُوَ يَطْلُبُ قَسْمَهُ مِنْ الْغَيْبِ بِتِلْكَ الْأَعْوَادِ فَهُوَ اسْتِقْسَامٌ أَيْ طَلَبُ الْقَسْمِ الْجَيِّدِ يَتْبَعُهُ ، وَالرَّدِيءِ يَتْرُكُهُ ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَخَذَ الْفَأْلَ مِنْ الْمُصْحَفِ أَوْ غَيْرِهِ إنَّمَا يَعْتَقِدُ هَذَا الْمَقْصِدَ إنْ خَرَجَ جَيِّدًا اتَّبَعَهُ أَوْ رَدِيئًا اجْتَنَبَهُ فَهُوَ عَيْنُ الِاسْتِقْسَامِ

بِالْأَزْلَامِ الَّذِي وَرَدَ الْقُرْآنُ بِتَحْرِيمِهِ فَيَحْرُمُ ، وَمَا رَأَيْته حَكَى فِي ذَلِكَ خِلَافًا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِسْمِ الَّذِي تَقَدَّمَ الَّذِي هُوَ مُبَاحٌ أَنَّ هَذَا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، وَالْأَوَّلُ مُتَعَيِّنٌ لِلْخَيْرِ فَهُوَ يَبْعَثُ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - فَهُوَ حَسَنٌ ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لِلْخَيْرِ ، وَالثَّانِي بِصَدَدِ أَنْ يُبَيِّنَ سُوءَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - فَحَرُمَ لِذَلِكَ ، وَهُوَ يَحْرُمُ لِسُوءِ الظَّنِّ بِغَيْرِ سَبَبٍ تَقْتَضِيهِ عَادَةٌ فَيَلْحَقُ بِالطِّيَرَةِ فَهَذَا هُوَ تَلْخِيصُ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّطَيُّرِ وَالْفَأْلِ الْمُبَاحِ وَالْفَأْلِ الْحَرَامِ

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الطِّيَرَةِ وَقَاعِدَةِ الْفَأْلِ الْحَلَالِ الْمُبَاحِ وَالْفَأْلِ الْحَرَامِ ) وَهُوَ أَنَّ بَيْنَ الطِّيَرَةِ وَالْفَأْلِ التَّبَايُنَ الْكُلِّيَّ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَتْ حَقِيقَةُ التَّطَيُّرِ وَالطِّيَرَةِ ، وَأَحْكَامُهَا .
وَأَمَّا الْفَأْلُ فَهُوَ مَا يُظَنُّ عِنْدَهُ الْخَيْرُ عَكْسُ الطِّيَرَةِ وَالتَّطَيُّرِ فَإِنَّ مَا يُتَطَيَّرُ وَيُتَشَاءَمُ بِهِ لِرُؤْيَةٍ أَوْ سَمَاعٍ هُوَ مَا يُظَنُّ عِنْدَهُ السُّوءُ وَالشَّرُّ فَفِي الْعَزِيزِيِّ عَلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عِنْدَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { وَإِذَا تَطَيَّرْتُمْ فَامْضُوا ، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا } أَيْ وَإِذَا خَرَجْتُمْ لِنَحْوِ سَفَرٍ ، أَوْ عَزَمْتُمْ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ فَتَشَاءَمْتُمْ بِهِ لِرُؤْيَةٍ أَوْ سَمَاعِ مَا فِيهِ كَرَاهَةٌ فَلَا تَرْجِعُوا وَفَوِّضُوا أُمُورَكُمْ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - لَا إلَى غَيْرِهِ ، وَالْتَجِئُوا إلَيْهِ فِي دَفْعِ شَرِّ مَا تَطَيَّرْتُمْ بِهِ ا هـ قُلْت : وَلَا يُنَافِيهِ مَا فِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرِهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ خَيْبَرَ وَأَبْصَرَ مِسْحَاةً وَزِنْبِيلًا قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ } لِمَا تَقَدَّمَ تَوْضِيحُهُ فَلَا تَغْفُلْ مَا ذُكِرَ مِنْ كَوْنِ الْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ مُتَبَايِنٌ تَبَايُنًا كُلِّيًّا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِ صَاحِبِ الْمُخْتَارِ : الْفَأْلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مَرِيضًا فَيَسْمَعَ آخَرَ يَقُولُ : يَا سَالِمُ ، أَوْ يَكُونَ طَالِبًا فَيَسْمَعَ آخَرَ يَقُولُ : يَا وَاجِدُ يُقَالُ تَفَاءَلْ بِكَذَا بِالتَّشْدِيدِ وَفِي الْحَدِيثِ { كَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ } ا هـ بِلَفْظِهِ .
لَكِنْ وَمُقْتَضَى قَوْلِهِمْ : إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ أَنَّ الْفَأْلَ أَعَمُّ مُطْلَقًا مِنْ الطِّيَرَةِ وَأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَمَّا يُظَنُّ

عِنْدَهُ الْخَيْرُ أَوْ الشَّرُّ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَارَةً يَتَعَيَّنُ لِلْخَيْرِ وَتَارَةً لِلشَّرِّ ، وَتَارَةً يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا فَالْمُتَعَيِّنُ لِلْخَيْرِ مِثْلُ الْكَلِمَةِ الْحَسَنَةِ يَسْمَعُهَا الرَّجُلُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ نَحْوُ يَا فَلَاحُ يَا مَسْعُودُ وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ الْوَلَدِ وَالْغُلَامِ بِالِاسْمِ الْحَسَنِ حَتَّى مَتَى سَمِعَ اسْتَبْشَرَ الْقَلْبُ وَمِثْلُ الْمَنْظَرِ الْحَسَنِ يَرَاهُ الرَّجُلُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَيَسْتَبْشِرُ بِهِ .
وَمِنْهُ إرْسَالُ الرَّسُولِ الْحَسَنِ الْوَجْهِ لِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَطَلَبِ الْحَوَائِجِ مِمَّنْ كَانَ حَسَنَ الْوَجْهِ أَمَلًا فِي قَضَائِهَا ، وَفِي الْحَدِيثِ { اُطْلُبُوا الْحَوَائِجَ عِنْدَ حِسَانِ الْوُجُوهِ } وَعَقَدَهُ الصَّرْصَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : أَلَا يَا رَسُولَ الْإِلَهِ الَّذِي هَدَانَا بِهِ اللَّهُ فِي كُلِّ تِيهٍ سَمِعْت حَدِيثًا مِنْ الْمُسْنَدَاتِ يَسُرُّ فُؤَادَ النَّبِيلِ النَّبِيهِ وَأَنَّكَ قَدْ قُلْت فِيهِ اُطْلُبُوا الْحَ وَائِجَ عِنْدَ حِسَانِ الْوُجُوهِ وَلَمْ أَرَ أَحْسَنَ مِنْ وَجْهِكَ الْ كَرِيمِ فَجُدْ لِي بِمَا أَرْتَجِيهِ فَهَذَا فَأْلٌ حَسَنٌ مَقْصُودٌ وَالْمُتَعَيِّنُ لِلشَّرِّ مِثْلُ الْكَلِمَةِ الْقَبِيحَةِ يَسْمَعُهَا الرَّجُلُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ نَحْوُ يَا خَيْبَةُ يَا وَيْلُ وَمِنْهُ كَرَاهَةُ تَسْمِيَةِ الْوَلَدِ وَالْغُلَامِ بِالِاسْمِ الْقَبِيحِ فَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { حَوَّلَ أَسْمَاءً مَكْرُوهَةً مِنْ أَقْوَامٍ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِأَسْمَاءٍ حَسَنَةٍ } وَخَرَّجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِرَجُلٍ مَا اسْمُك فَقَالَ جَمْرَةُ فَقَالَ : ابْنُ مَنْ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ قَالَ : مِمَّنْ قَالَ الْحَرَّةُ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ قَالَ بِحَرَّةِ النَّارِ قَالَ بِأَيِّهَا قَالَ بِذَاتِ لَظَى قَالَ عُمَرُ أَدْرِك أَهْلَك فَقَدْ احْتَرَقُوا قَالَ فَكَانَ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِثْلُ الْمَنْظَرِ الْقَبِيحِ يَرَاهُ الْمَرْءُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَيَتَشَاءَمُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا دَخَلَ خَيْبَرَ وَرَأَى زِنْبِيلًا وَمِسْحَاةً قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ } وَمِنْهُ كَرَاهَةُ إرْسَالِ الرَّسُولِ الْوَخْشَ لِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ أَوْ كَرَاهَةُ طَلَبِ الْحَوَائِجِ مِمَّنْ كَانَ قَبِيحَ الْوَجْهِ حَذَرًا مِنْ عَدَمِ قَضَائِهَا فَهَذَا قَالَ قَبِيحٌ مُبَاحٌ ، وَالْمُتَرَدِّدُ بَيْنَهُمَا هُوَ الْفَأْلُ الْحَرَامُ الَّذِي بَيَّنَهُ الطُّرْطُوشِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ فَقَالَ : إنَّ أَخْذَ الْفَأْلِ مِنْ الْمُصْحَفِ .
وَضَرْبَ الرَّمْلِ وَالْقُرْعَةِ ، وَالضَّرْبَ بِالشَّعِيرِ ، وَجَمِيعَ هَذَا النَّوْعِ حَرَامٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ لِأَزْلَامِ أَعْوَادٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَكْتُوبٌ عَلَى أَحَدِهَا افْعَلْ ، وَعَلَى الْآخَرِ لَا تَفْعَلْ ، وَعَلَى الْآخَرِ غُفْلٌ فَيَخْرُجُ أَحَدُهَا ، فَإِنْ وَجَدَ عَلَيْهِ افْعَلْ أَقْدَمَ عَلَى حَاجَتِهِ الَّتِي يَقْصِدُهَا أَوْ لَا تَفْعَلْ أَعْرَضَ عَنْهَا ، وَاعْتَقَدَ أَنَّهَا ذَمِيمَةٌ أَوْ خَرَجَ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهَا غُفْلٌ أَعَادَ الضَّرْبَ فَهُوَ يَطْلُبُ قِسْمَهُ مِنْ الْغَيْبِ بِتِلْكَ الْأَعْوَادِ فَهُوَ اسْتِقْسَامٌ أَيْ طَلَبُ الْقَسْمِ ، الْجَيِّدُ يَتْبَعُهُ وَالرَّدِيء يَتْرُكُهُ ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَخَذَ الْفَأْلَ مِنْ الْمُصْحَفِ أَوْ غَيْرِهِ إنَّمَا يَعْتَقِدُ هَذَا الْمَقْصِدَ إنْ خَرَجَ جَيِّدًا اتَّبَعَهُ أَوْ رَدِيئًا اجْتَنَبَهُ فَهُوَ عَيْنُ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ الَّذِي وَرَدَ الْقُرْآنُ بِتَحْرِيمِهِ فَيَحْرُمُ ا هـ قَالَ الْأَصْلُ : وَمَا رَأَيْتُهُ يَعْنِي الطُّرْطُوشِيَّ حَكَى فِي ذَلِكَ خِلَافًا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا هُوَ مُتَعَيِّنٌ لِلْخَيْرِ أَوْ لِلشَّرِّ هُوَ أَنَّ تَحْرِيمَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - بِغَيْرِ سَبَبٍ تَقْتَضِيهِ عَادَةٌ رَبَّانِيَّةٌ فَالْحَقُّ بِالطِّيَرَةِ وَإِبَاحَةِ الْمُتَعَيِّنِ لِلْخَيْرِ ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لِلْخَيْرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَبْعَثُ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - وَإِبَاحَةِ الْمُتَعَيِّنِ لِلشَّرِّ ؛ لِأَنَّهُ ، وَإِنْ

كَانَ وَسِيلَةً لِلشَّرِّ وَسُوءِ ظَنٍّ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - إلَّا أَنَّهُ بِسَبَبٍ تَقْتَضِيهِ عَادَةُ اللَّهِ - تَعَالَى - وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عَوَائِدَ اللَّهِ إذَا دَلَّتْ عَلَى شَيْءٍ وَجَبَ اعْتِقَادُهُ فَهَذَا هُوَ تَلْخِيصُ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّطَيُّرِ وَالْفَأْلِ الْمُبَاحِ وَالْفَأْلِ الْحَرَامِ هَذَا تَوْضِيحُ وَتَنْقِيحُ مَا فِي الْأَصْلِ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الرُّؤْيَا الَّتِي تَجُوزُ تَعْبِيرُهَا وَقَاعِدَةِ الرُّؤْيَا الَّتِي لَا يَجُوزُ تَعْبِيرُهَا ) قَالَ صَاحِبُ الْقَبَسِ تَقُولُ الْعَرَبُ : رَأَيْت رُؤْيَةً إذَا عَايَنْت بِبَصَرِك ، وَرَأَيْت رَأْيًا إذَا اعْتَقَدْت بِقَلْبِك ، وَرَأَيْت رُؤْيَا بِالْقَصْرِ إذَا عَايَنْت فِي مَنَامِك ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْيَقَظَةِ .
( قُلْت : ) قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاك إلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا فِي الْيَقَظَةِ قَالَ الْكَرْمَانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ : الرُّؤْيَا ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ سَبْعَةٌ مِنْهَا لَا تُعَبِّرُ ، وَوَاحِدَةٌ فَقَطْ تُعَبِّرُ ، وَالسَّبْعَةُ أَرْبَعَةٌ مِنْهَا نَشَأَتْ عَنْ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ الْغَالِبَةِ عَلَى مِزَاجِ الرَّائِي فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ خَلْطٌ رَأَى مَا يُنَاسِبَهُ فَمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ السَّوْدَاءُ رَأَى الْأَلْوَانَ السُّودَ وَالْأَشْيَاءَ الْمُحَرَّقَةَ وَالطُّعُومَ الْحَامِضَةَ ؛ لِأَنَّهُ طَعْمُ السَّوْدَاءِ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الطِّبِّيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى غَلَبَةِ ذَلِكَ الْخَلْطِ عَلَى ذَلِكَ الرَّائِي ، وَمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الصَّفْرَاءُ رَأَى الْأَلْوَانَ الصُّفْرَ وَالطُّعُومَ الْمُرَّةَ وَالسَّمُومَ وَالْحَرُورَ وَالصَّوَاعِقَ وَنَحْوَ ذَلِكَ ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ يَرَى الْأَلْوَانَ الْحُمْرَ وَالطُّعُومَ الْحُلْوَةَ وَأَنْوَاعَ الطَّرَبِ ؛ لِأَنَّ الدَّمَ مُفْرِحٌ حُلْوٌ ، وَالصَّفْرَاءُ مُسَخِّنَةٌ مُرَّةٌ ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْبَلْغَمُ رَأَى الْأَلْوَانَ الْبِيضَ وَالْأَمْطَارَ وَالْمِيَاهَ وَالثَّلْجَ ( الْقِسْمُ الْخَامِسُ ) مَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَيُفْهَمُ ذَلِكَ بِجَوَلَانِهِ فِي الْيَقَظَةِ وَكَثْرَةِ الْفِكْرِ فِيهِ فَيَسْتَوْلِي عَلَى النَّفْسِ فَتَتَكَيَّفُ بِهِ فَيَرَاهُ فِي النَّوْمِ ( الْقِسْمُ السَّادِسُ ) مَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ ، وَيُعْرَفُ بِكَوْنِهِ فِيهِ حَثٌّ عَلَى أَمْرٍ تُنْكِرُهُ الشَّرِيعَةُ أَوْ بِأَمْرٍ مَعْرُوفٍ جَائِزٍ غَيْرَ أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَمْرٍ مُنْكَرٍ كَمَا إذَا

أَمَرَهُ بِالتَّطَوُّعِ بِالْحَجِّ فَتَضِيعُ عَائِلَتُهُ أَوْ يَعُقَّ بِذَلِكَ أَبَوَيْهِ ( الْقِسْمُ السَّابِعُ ) مَا كَانَ فِيهِ احْتِلَامٌ ( الْقِسْمُ الثَّامِنُ ) هُوَ الَّذِي يَجُوزُ تَعْبِيرُهُ ، وَهُوَ مَا خَرَجَ عَنْ هَذِهِ ، وَهُوَ مَا يَنْقُلُهُ مَلَكُ الرُّؤْيَا مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ، فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - وَكَّلَ مَلَكًا بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ يَنْقُلُ لِكُلِّ أَحَدٍ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لَا يَتْرُكُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ ذَكَرَهُ مَنْ ذَكَرَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَجُوزُ تَعْبِيرُهُ ، وَمَا عَدَاهُ لَا يُعَبَّرُ وَفِي الْفَرْقِ سَبْعُ مَسَائِلَ .
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) خَرَّجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنْ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ } قَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَقَى : قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : مَعْنَاهُ أَنَّ مُدَّةَ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ نُبُوَّةٌ بِالرُّؤْيَا فَأَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ كَفَلَقِ الصُّبْحِ وَنِسْبَةُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا وَقِيلَ : أَجْزَاءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَحَدٌ ، وَرُوِيَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَرُوِيَ مِنْ سَبْعِينَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا فِي الرُّؤْيَا فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى الْجَلِيَّةِ وَالْأَكْثَرُ مِنْ الْعَدَدِ عَلَى الرُّؤْيَا الْخَفِيَّةِ أَوْ تَكُونُ السِّتَّةُ وَالْأَرْبَعُونَ هِيَ الْمُبَشِّرَةَ ، وَالسَّبْعُونَ هِيَ الْمُحْزِنَةَ وَالْمَخُوفَةَ لِقِلَّةِ تَكَرُّرِهِ ، وَلِمَا يَكُونُ جِنْسُهُ مِنْ الشَّيْطَانِ ، وَفِي الْقَبَسِ رُوِيَ أَيْضًا خَمْسَةٌ وَسِتُّونَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ

وَخَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ فَاخْتَلَفَتْ الْأَعْدَادُ ؛ لِأَنَّهَا رُؤْيَا النُّبُوَّةِ لَا نَفْسُ النُّبُوَّةِ وَجُعِلَتْ بِشَارَاتٍ بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ جُزْءًا مِنْ سَبْعِينَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ زَادَ حَتَّى بَلَغَ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ قَالَ : وَتَفْسِيرُهَا بِمُدَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ لِنَقْلٍ صَحِيحٍ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، قَالَ : الْأَحْسَنُ قَوْلُ الْإِمَامِ الطَّبَرِيِّ عَالِمُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ : إنَّ نِسْبَةَ هَذِهِ الْأَعْدَادِ إلَى النُّبُوَّةِ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الرَّائِي فَرُؤْيَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ عَلَى نِسْبَتِهِ ، وَاَلَّذِي دُونَ دَرَجَتِهِ دُونَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَمْ يَبْقَ بَعْدِي مِنْ النُّبُوَّةِ إلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ } حَضٌّ عَلَى نَقْلِهَا وَالِاهْتِمَامِ بِهَا لِيَبْقَى لَهُمْ بَعْدَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ فَبَشَّرَ بِذَلِكَ أُمَّتَهُ .
وَلَا يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا إلَّا مَنْ يَعْلَمُهَا وَيُحْسِنُهَا ، وَإِلَّا فَلْيَتْرُكْ .
وَسُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيُفَسِّرُ الرُّؤْيَا كُلُّ أَحَدٍ ؟ قَالَ : أَبِالنُّبُوَّةِ يُلْعَبُ قِيلَ : لَهُ أَيُفَسِّرُهَا عَلَى الْخَيْرِ ، وَهِيَ عِنْدَهُ عَلَى الشَّرِّ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ : الرُّؤْيَا عَلَى مَا أُوِّلَتْ فَقَالَ : الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ أَفَيُتَلَاعَبُ بِأَمْرِ النُّبُوَّةِ .
وَفِي الْمُوَطَّإِ { الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ الشَّيْءَ يَكْرَهُهُ فَلْيَتْفُلْ يَسَارَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إذَا اسْتَيْقَظَ وَلْيَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - } .
قَالَ الْبَاجِيَّ : فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ الْمُبَشِّرَةَ وَيُحْتَمَلُ الصَّادِقَةُ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - وَيُرِيدُ بِالْحُلْمِ مَا يُحْزِنُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْكَاذِبَ يُخَيَّلُ بِهِ لِيَفْرَحَ أَوْ يَحْزَنَ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : يَقُولُ فِي الِاسْتِعَاذَةِ إذَا نَفَثَ عَنْ يَسَارِهِ : أَعُوذُ

بِمَنْ اسْتَعَاذَتْ بِهِ مَلَائِكَةُ اللَّهِ وَرُسُلُهُ مِنْ شَرِّ مَا رَأَيْت فِي مَنَامِي هَذَا أَنْ يُصِيبَنِي مِنْهُ شَيْءٌ أَكْرَهُهُ ثُمَّ يَتَحَوَّلَ عَلَى جَانِبِهِ الْآخَرِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ : الْفَرْقُ بَيْنَ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ رُؤْيَا غَيْرِهِمْ إذَا أَخْطَأَ فِي تَأْوِيلِهَا لَا تَخْرُجُ كَمَا أُوِّلَتْ وَرُؤْيَا غَيْرِ الصَّالِحِ لَا يُقَالُ فِيهَا جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ ، وَإِنَّمَا يُلْهِمُ اللَّهُ - تَعَالَى - الرَّائِيَ التَّعَوُّذَ إذَا كَانَتْ مِنْ الشَّيْطَانِ أَوْ قَدَّرَ أَنَّهَا لَا تُصِيبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِنَّ شَرَّ الْقَدَرِ قَدْ يَكُونُ وُقُوعُهُ مَوْقُوفًا عَلَى عَدَمِ الدُّعَاءِ

( الْفَرْقُ السَّبْعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الرُّؤْيَا الَّتِي يَجُوزُ تَعْبِيرُهَا وَقَاعِدَةِ الرُّؤْيَا الَّتِي لَا يَجُوزُ تَعْبِيرُهَا ) ، وَهُوَ الرُّؤْيَا الْمَنَامِيَّةُ كَمَا قَالَ الْكَرْمَانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ سَبْعَةٌ مِنْهَا لَا تُعَبِّرُ وَوَاحِدَةٌ مِنْهَا تُعَبِّرُ فَأَمَّا السَّبْعَةُ فَأَحَدُهَا وَثَانِيهَا وَثَالِثُهَا وَرَابِعُهَا مَا نَشَأَتْ عَنْ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ الْغَالِبَةِ عَلَى مِزَاجِ الرَّائِي الْمَعْرُوفِ غَلَبَةُ خَلْطٍ مِنْهَا عَلَيْهِ بِالْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى تِلْكَ الْغَلَبَةِ فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ السَّوْدَاءُ رَأَى الْأَلْوَانَ السُّودَ وَالْأَشْيَاءَ الْمُحَرَّقَةَ وَالطُّعُومَ الْحَامِضَةَ ؛ لِأَنَّهُ طَعِمَ السَّوْدَاءَ ، وَمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الصَّفْرَاءُ رَأَى الْأَلْوَانَ الصُّفْرَ لِطُعُومِ الْمِرَّةِ وَالسَّمُومِ وَالْحَرُورِ وَالصَّوَاعِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الصَّفْرَاءَ مُسَخِّنَةٌ مِرَّةٌ ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ يَرَى الْأَلْوَانَ الْحُمْرَ وَالطُّعُومَ الْحُلْوَةَ وَأَنْوَاعَ الطَّرَبِ ؛ لِأَنَّ الدَّمَ مُفْرِحٌ حُلْوٌ ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْبَلْغَمُ رَأَى الْأَلْوَانَ الْبِيضَ وَالْأَمْطَارَ وَالْمِيَاهَ وَالثَّلْجَ ( وَخَامِسُهَا ) مَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ ، وَيُفْهَمُ ذَلِكَ بِجَوَلَانِهِ فِي الْيَقَظَةِ وَكَثْرَةِ الْفِكْرِ فِيهِ فَيَسْتَوْلِي عَلَى النَّفْسِ فَتُكَيَّفُ بِهِ فَيَرَاهُ فِي النَّوْمِ وَسَادِسُهَا مَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَيُعْرَفُ بِكَوْنِهِ فِيهِ حَثٌّ عَلَى أَمْرٍ تُنْكِرُهُ الشَّرِيعَةُ أَوْ عَلَى أَمْرٍ مَعْرُوفٍ جَائِزٍ يُؤَدِّي إلَى أَمْرٍ مُنْكَرٍ كَمَا إذَا أَمَرَهُ بِالتَّطَوُّعِ بِالْحَجِّ فَتَضِيعُ عَائِلَتُهُ أَوْ يُعْتِقُ بِذَلِكَ أَبَوَيْهِ وَسَابِعُهَا : مَا كَانَ فِيهِ احْتِلَامٌ ( وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ ) : الَّذِي يَجُوزُ تَعْبِيرُهُ هُوَ مَا خَرَجَ عَنْ هَذِهِ السَّبْعَةِ وَهُوَ مَا يَنْقُلُهُ مَلَكُ الرُّؤْيَا مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ ، وَكَّلَ مَلَكًا بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ يَنْقُلُ لِكُلِّ أَحَدٍ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ

اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لَا يَتْرُكُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ ذَكَرَهُ مَنْ ذَكَرَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ ا هـ ( تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ ) قَالَ صَاحِبُ الْقَبَسِ تَقُولُ الْعَرَبُ : رَأَيْت رُؤْيَةً إذَا عَايَنْت بِبَصَرِك وَرَأَيْت رَأْيًا إذَا اعْتَقَدْت بِقَلْبِك ، وَرَأَيْت رُؤْيَا بِالْقَصْرِ إذَا عَايَنْت فِي مَنَامِك ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْيَقَظَةِ ا هـ قَالَ الْأَصْلُ : وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاك إلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } فِي الْيَقَظَةِ ا هـ قُلْت : قَالَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاك } عِيَانًا لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ إلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ أَهْلِ مَكَّةَ إذْ كَذَّبُوا بِهَا وَارْتَدَّ بَعْضُهُمْ لَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِهَا ا هـ وَفِي الْجَمَلِ عَنْ الْكَرْخِيِّ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا فِي الْمِعْرَاجِ ، وَعَلَى الْيَقَظَةِ فَهِيَ بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ فَتَسْمِيَتُهَا رُؤْيَا لِوُقُوعِهَا بِاللَّيْلِ وَسُرْعَةِ تَقَضِّيهَا كَأَنَّهَا مَنَامٌ ا هـ قَالَ الْمَحَلِّيُّ عَلَى جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَاخْتُلِفَ فِي وُقُوعِ رُؤْيَتِهِ - تَعَالَى - فِي الْيَقَظَةِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَالصَّحِيحُ نَعَمْ ا هـ قَالَ الْعَطَّارُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأُجِيبَ عَمَّا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ { سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْت رَبَّك قَالَ رَأَيْت نُورًا } وَفِي رِوَايَةٍ { نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ } بِرَفْعِ " نُورٌ " عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِمَحْذُوفٍ وَفَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّى وَتَشْدِيدِ نُونِهَا بِمَعْنَى كَيْفَ أَيْ حَجَبَنِي نُورٌ كَيْفَ أَرَاهُ أَيْ اللَّهَ - تَعَالَى - بِأَنَّهَا لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي عَدَمِ الرُّؤْيَةِ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صَرَاحَتِهَا فَأَبُو ذَرٍّ نَافٍ ، وَغَيْرُهُ مُثْبِتٌ ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي ا هـ الْمُرَادُ التَّنْبِيهُ الثَّانِي ) خَرَّجَ مَالِكٌ فِي

الْمُوَطَّإِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ الَّذِي يَكْرَهُهُ فَلْيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إذَا اسْتَيْقَظَ وَلْيَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - } قَالَ الْبَاجِيَّ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : يَقُولُ فِي الِاسْتِعَاذَةِ - إذَا نَفَثَ عَنْ يَسَارِهِ : أَعُوذُ بِمَنْ اسْتَعَاذَتْ بِهِ مَلَائِكَةُ اللَّهِ وَرُسُلُهُ مِنْ شَرِّ مَا رَأَيْت فِي مَنَامِي هَذَا أَنْ يُصِيبَنِي مِنْهُ شَيْءٌ أَكْرَهُهُ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ عَلَى جَانِبِهِ الْآخَرِ ا هـ وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا الْمُبَشِّرَةَ أَوْ الصَّالِحَةَ ، وَالْحُلْمُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا يُحْزِنُ ، أَوْ الْكَاذِبَةُ يُخَيَّلُ بِهَا لِيَفْرَحَ أَوْ يَحْزَنَ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ : الْفَرْقُ بَيْنَ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ رُؤْيَا غَيْرِهِمْ إذَا أَخْطَأَ فِي تَأْوِيلِهَا لَا تَخْرُجُ كَمَا أُوِّلَتْ وَرُؤْيَا غَيْرِ الصَّالِحِ لَا يُقَالُ فِيهَا جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ ، وَإِنَّمَا يُلْهِمُ اللَّهُ - تَعَالَى - الرَّائِيَ التَّعَوُّذَ إذَا كَانَتْ مِنْ الشَّيْطَانِ أَوْ قَدَّرَ أَنَّهَا لَا تُصِيبُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِنَّ شَرَّ الْقَدَرِ قَدْ يَكُونُ وُقُوعُهُ مَوْقُوفًا عَلَى عَدَمِ الدُّعَاءِ ا هـ ( وَصْلٌ فِي ثَمَانِ مَسَائِلَ ) تَتَعَلَّقُ بِالرُّؤْيَا ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) خَرَّجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنْ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ } قَالَ الْبَاجِيَّ فِي الْمُنْتَقَى قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَعْنَاهُ أَنَّ مُدَّةَ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ نُبُوَّةٌ بِالرُّؤْيَا فَأَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ

كَفَلَقِ الصُّبْحِ ، وَنِسْبَةُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا ، وَقِيلَ : أَجْزَاءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَحَدٌ ، وَرُوِيَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ ، وَرُوِيَ مِنْ سَبْعِينَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا فِي الرُّؤْيَا فَيُحْمَلَ الْأَوَّلُ عَلَى الْجَلِيَّةِ وَالْأَكْثَرِ مِنْ الْعَدَدِ عَلَى الرُّؤْيَا الْخَفِيَّةِ ، أَوْ تَكُونَ السِّتَّةُ وَالْأَرْبَعُونَ هِيَ الْمُبَشِّرَةَ ، وَالسَّبْعُونَ هِيَ الْمُحْزِنَةَ وَالْمَخُوفَةَ لِقِلَّةِ تَكَرُّرِهِ ، وَلِمَا يَكُونُ جِنْسُهُ مِنْ الشَّيْطَانِ ا هـ قَالَ الزَّرْقَانِيُّ : وَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ مُدَّةَ نُبُوَّتِهِ إلَخْ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : بَعِيدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي بَعْدَ الْبَعْثَةِ ، وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَبْقَى حَدِيثُ سَبْعِينَ جُزْءًا لَا مَعْنَى لَهُ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ .
هَذَا وَإِنْ كَانَ وَجْهًا تَحْمِلُهُ قِسْمَةُ الْحِسَابِ وَالْعَدَدِ فَأَوَّلُ مَا يَجِبُ عَلَى قَائِلِهِ أَنْ يُثْبِتَ مَا ادَّعَاهُ خَبَرًا ، وَلَمْ نَسْمَعْ فِيهِ أَثَرًا وَلَا ذَكَرَ مُدَّعِيهِ فِيهِ خَبَرًا ، فَكَأَنَّهُ قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ ، وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا خَفِيَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ يَلْزَمُنَا حُجَّتُهُ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَأَيَّامِ الصِّيَامِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ فَإِنَّا لَا نَصِلُ مِنْ عِلْمِهَا إلَى أَمْرٍ يُوجِبُ حَصْرَهَا تَحْتَ أَعْدَادِهَا .
وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي مُوجِبِ اعْتِقَادِنَا لِلُزُومِهَا قَالَ : وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ مَحْسُوبَةٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ لَكِنَّهُ يَلْحَقُ بِهَا سَائِرُ الْأَوْقَاتِ الَّتِي أُوحِيَ إلَيْهِ فِيهَا مَنَامًا فِي طُولِ الْمُدَّةِ كَرُؤْيَا أَحَدٍ دُخُولَ مَكَّةَ فَتَلَفَّقَ مِنْ ذَلِكَ مُدَّةٌ أُخْرَى تُزَادُ فِي الْحِسَابِ فَتَبْطُلُ الْقِسْمَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمُرَادَ عَلَى تَقْرِيرِ الصِّحَّةِ وَحْيُ الْمَنَامِ الْمُتَتَابِعِ فَمَا

وَقَعَ فِي غُضُونِ وَحْيِ الْيَقَظَةِ يَسِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَحْيِ الْيَقَظَةِ فَهُوَ مَغْمُورٌ فِي جَانِبِ وَحْيِهَا فَلَمْ تُعْتَبَرْ بِهِ وَقَدْ ذَكَرُوا مُنَاسَبَاتٍ غَيْرَ ذَلِكَ يَطُولُ ذِكْرُهَا ا هـ وَقَوْلُ الْبَاجِيَّ : وَرُوِيَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ إلَخْ قَالَ الزَّرْقَانِيُّ جُمْلَةُ الرِّوَايَاتِ عَشْرٌ الْمَشْهُورُ ، وَهُوَ مَا فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ ، وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ } وَلَهُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنْهُ مِنْ سِتَّةٍ وَسَبْعِينَ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ ، وَعَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ وَعِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { جُزْءٌ مِنْ خَمْسِينَ } وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي رَزِينٍ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ وَلِابْنِ جَرِيرٍ عَنْ عُبَادَةَ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَوَقَعَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ وَفِي رِوَايَةِ عُبَادَةَ مِنْ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ قَالَ الْحَافِظُ : وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ اخْتِلَافِ الْأَعْدَادِ بِأَنَّهُ بِحَسَبِ الْوَقْتِ الَّذِي حَدَّثَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ كَانَ يَكُونُ لَمَّا أَكْمَلَ ثَلَاثَ عَشَرَةَ سَنَةً بَعْدَ مَجِيءِ الْوَحْيِ إلَيْهِ حَدَّثَ بِأَنَّ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ إنْ ثَبَتَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ ، وَذَلِكَ وَقْتُ الْهِجْرَةِ .
وَلَمَّا أَكْمَلَ عِشْرِينَ حَدَّثَ بِأَرْبَعِينَ ، وَلَمَّا أَكْمَلَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ حَدَّثَ أَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ ، ثُمَّ بَعْدَهَا بِخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ حَدَّثَ بِسِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الرِّوَايَاتِ فَضَعِيفٌ ، وَرِوَايَةُ خَمْسِينَ يَحْتَمِلُ جَبْرَ الْكَسْرِ وَالسَّبْعِينَ لِلْمُبَالَغَةِ ، وَعَبَّرَ بِالنُّبُوَّةِ دُونَ الرِّسَالَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَزِيدُ بِالتَّبْلِيغِ بِخِلَافِ النُّبُوَّةِ فَاطِّلَاعٌ عَلَى بَعْضِ الْغَيْبِ ، وَكَذَلِكَ الرُّؤْيَا قَالَ قَائِلٌ :

فَإِذَا كَانَتْ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ فَكَيْفَ يَكُونُ لِلْكَافِرِ مِنْهَا نَصِيبٌ كَرُؤْيَا صَاحِبَيْ السِّجْنِ مَعَ يُوسُفَ وَرُؤْيَا مَلِكِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ جَالِينُوسَ عَرَضَ لَهُ وَرَمٌ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَتَّصِلُ مِنْهُ بِالْحِجَابِ فَأَمَرَهُ اللَّهُ فِي الْمَنَامِ بِفَصْدِ الْعِرْقِ الضَّارِبِ مِنْ كَفِّهِ الْيُسْرَى فَبَرَأَ أُجِيبَ بِأَنَّ الْكَافِرَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لَهَا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَرَى مَا يَعُودُ عَلَيْهِ بِخَيْرٍ فِي دُنْيَاهُ كَمَا أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ لَيْسَ مَحَلًّا لَهَا ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ رُؤْيَتُهُ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ بِخَيْرٍ دُنْيَوِيٍّ فَإِنَّ النَّاسَ فِي الرُّؤَى ثَلَاثُ دَرَجَاتِ : الْأَنْبِيَاءُ رُؤْيَاهُمْ كُلُّهَا صِدْقٌ ، وَقَدْ يَقَعُ فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إلَى تَعْبِيرٍ ، وَالصَّالِحُونَ وَالْغَالِبُ عَلَى رُؤْيَاهُمْ الصِّدْقُ ، وَقَدْ يَقَعُ فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إلَى تَعْبِيرٍ ، وَقَدْ يَقَعُ فِيهَا مَا لَا يَحْتَاجُ إلَى تَعْبِيرٍ وَمَا عَدَاهُمْ يَقَعُ فِي رُؤْيَاهُمْ الصِّدْقُ وَالْأَضْغَاثُ ، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ : مَسْتُورُونَ فَالْغَالِبُ اسْتِوَاءُ الْحَالِ فِي حَقِّهِمْ وَفَسَقَةٌ وَالْغَالِبُ عَلَى رُؤْيَاهُمْ الْأَضْغَاثُ ، وَيَقِلُّ فِيهَا الصِّدْقُ ، وَكُفَّارٌ وَيَنْدُرُ فِيهَا الصِّدْقُ جِدًّا ، وَيَرْشُدُ لِذَلِكَ خَبَرُ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا { وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا } ا هـ وَفِي الْقَبَسِ رُوِيَ أَيْضًا خَمْسَةٌ وَسِتُّونَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ وَخَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ فَاخْتَلَفَتْ الْأَعْدَادُ ؛ لِأَنَّهَا رُؤْيَا النُّبُوَّةِ لَا نَفْسُ النُّبُوَّةِ وَجُعِلَتْ بِشَارَاتٍ بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ جُزْءًا مِنْ سَبْعِينَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ زَادَ حَتَّى بَلَغَ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ قَالَ : وَتَفْسِيرُهَا بِمُدَّةٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ لِنَقْلٍ صَحِيحٍ ، وَلَمْ يُوجَدْ قَالَ : وَالْأَحْسَنُ قَوْلُ الْإِمَامِ الطَّبَرِيِّ عَالِمُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ : إنَّ نِسْبَةَ هَذِهِ الْأَعْدَادِ إلَى النُّبُوَّةِ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الرَّائِي فَرُؤْيَا الرَّجُلِ

الصَّالِحِ عَلَى نِسْبَتِهِ ، وَاَلَّذِي دُونَ دَرَجَتِهِ دُونَ ذَلِكَ ، وَقَوْلُهُ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَمْ يَبْقَ بَعْدِي مِنْ النُّبُوَّةِ إلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ } حَضٌّ عَلَى نَقْلِهَا وَالِاهْتِمَامِ بِهَا لِيَبْقَى لَهُمْ بَعْدَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ فَبَشَّرَ بِذَلِكَ أُمَّتَهُ ، وَلَا يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا إلَّا مَنْ يَعْلَمُهَا وَيُحْسِنُهَا ، وَإِلَّا فَلْيَتْرُكْ ، وَسُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيُفَسِّرُ الرُّؤْيَا كُلُّ أَحَدٍ قَالَ أَبِالنُّبُوَّةِ يُلْعَبُ ؟ ، قِيلَ : لَهُ أَيُفَسِّرُهَا عَلَى الْخَيْرِ ، وَهِيَ عِنْدَهُ عَلَى الشَّرِّ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ : الرُّؤْيَا عَلَى مَا أُوِّلَتْ ؟ فَقَالَ : الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ أَفَيُتَلَاعَبُ بِأَمْرِ النُّبُوَّةِ ا هـ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) قَالَ صَاحِبُ الْقَبَسِ : قَالَ صَالِحٌ الْمُعْتَزِلِيُّ : رُؤْيَا الْمَنَامِ هِيَ رُؤْيَةُ الْعَيْنِ ، وَقَالَ آخَرُونَ : هِيَ رُؤْيَةٌ بِعَيْنَيْنِ فِي الْقَلْبِ يُبْصِرُ بِهِمَا ، وَأُذُنَيْنِ فِي الْقَلْبِ يَسْمَعُ بِهِمَا ، وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ : هِيَ تَخَايِيلُ لَا حَقِيقَةَ لَهَا ، وَلَا دَلِيلَ فِيهَا ، وَجَرَتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أُصُولِهَا فِي تَخْيِيلِهَا عَلَى الْعَادَةِ فِي إنْكَارِ أُصُولِ الشَّرْعِ فِي الْجِنِّ وَأَحَادِيثِهَا وَالْمَلَائِكَةِ وَكَلَامِهَا ، وَأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْ كَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوْتٍ لَسَمِعَهُ الْحَاضِرُونَ ، وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَلَهُمْ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ قَالَ الْقَاضِي : هِيَ خَوَاطِرُ وَاعْتِقَادَاتٌ ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ هِيَ أَوْهَامٌ ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ : هِيَ إدْرَاكٌ بِأَجْزَاءٍ لَمْ تَحُلْهَا آفَةُ النَّوْمِ ، فَإِذَا رَأَى الرَّائِي أَنَّهُ بِالْمَشْرِقِ ، وَهُوَ بِالْمَغْرِبِ أَوْ نَحْوِهِ فَهِيَ أَمْثِلَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - دَلِيلًا عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي كَمَا جُعِلَتْ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ وَالرُّقُومُ لِلْكِتَابَةِ دَلِيلًا عَلَى الْمَعَانِي فَإِذَا رَأَى اللَّهَ - تَعَالَى - أَوْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ أَمْثِلَةٌ تُضْرَبُ لَهُ بِقَدْرِ حَالِهِ فَإِنْ كَانَ مُوَحِّدًا رَآهُ حَسَنًا أَوْ مُلْحِدًا رَآهُ قَبِيحًا ، وَهُوَ أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { رَأَيْت رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ } قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : قَالَ لِي بَعْضُ الْأُمَرَاءِ : رَأَيْت الْبَارِحَةَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَشَدِّ مَا يَكُونُ مِنْ السَّوَادِ فَقُلْت : لَهُ ظَلَمْت الْخَلْقَ وَغَيَّرْت الدِّينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَالتَّغْيِيرُ فِيك لَا شَكَّ فِيهِ وَكَانَ مُتَغَيِّرًا عَلَيَّ وَعِنْدَهُ كَاتِبُهُ وَصِهْرُهُ وَوَلَدُهُ فَأَمَّا الْكَاتِبُ فَمَاتَ ، وَأَمَّا الْآخَرَانِ فَتَنَصَّرَا وَأَمَّا

هُوَ فَكَانَ مُسْتَنِدًا فَجَلَسَ عَلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَ يَتَعَذَّرُ ، وَكَانَ آخِرُ كَلَامِهِ وَدِدْت أَنْ أَكُونَ حَمِيًّا لِنَخَلَاتٍ أَعِيشُ بِهَا بِالثَّغْرِ قُلْت لَهُ : وَمَا يَنْفَعُك أَنَا أَقْبَلُ أَنَا عُذْرك وَخَرَجْت فَوَاَللَّهِ مَا تَوَقَّفَتْ لِي عِنْدَهُ بَعْدُ حَاجَةٌ

( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) قَالَ صَاحِبُ الْقَبَسِ لِأَصْحَابِنَا أَهْلِ السُّنَّةِ فِي رُؤْيَا الْمَنَامِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فَقَالَ الْقَاضِي : هِيَ خَوَاطِرُ وَاعْتِقَادَاتٌ ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ هِيَ إدْرَاكٌ بِأَجْزَاءٍ لَمْ تُحِلْهَا آفَةُ النَّوْمِ فَإِذَا رَأَى الرَّائِي أَنَّهُ بِالْمَشْرِقِ .
وَهُوَ بِالْمَغْرِبِ أَوْ نَحْوَهُ فَهِيَ أَمْثِلَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - دَلِيلًا عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي كَمَا جُعِلَتْ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ وَالرُّقُومُ لِلْكِتَابَةِ دَلِيلًا عَلَى الْمَعَانِي فَإِذَا رَأَى اللَّهَ - تَعَالَى - أَوْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ أَمْثِلَةٌ تُضْرَبُ لَهُ بِقَدْرِ حَالِهِ فَإِنْ كَانَ مُوَحِّدًا رَآهُ حَسَنًا أَوْ مُلْحِدًا رَآهُ قَبِيحًا ، وَهُوَ أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { رَأَيْت رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ } قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَالَ لِي بَعْضُ الْأُمَرَاءِ : رَأَيْت الْبَارِحَةَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَشَدِّ مَا يَكُونُ مِنْ السَّوَادِ فَقُلْت لَهُ : ظَلَمْت الْخَلْقَ وَغَيَّرْت الدِّينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَالتَّغْيِيرُ فِيهِ لَا شَكَّ فِيهِ وَكَانَ مُتَغَيِّرًا عَلَيَّ ، وَعِنْدَهُ كَاتِبُهُ وَصِهْرُهُ وَوَلَدُهُ فَأَمَّا الْكَاتِبُ فَمَاتَ ، وَأَمَّا الْآخَرَانِ فَتَنَصَّرَا ، وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ مُسْتَنِدًا فَجَلَسَ عَلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَ يَتَعَذَّرُ وَكَانَ آخِرُ كَلَامِهِ وَدِدْت أَنْ أَكُونَ حَمِيًّا لِنَخَلَاتٍ أَعِيشُ بِهَا بِالثَّغْرِ قُلْت لَهُ : وَمَا يَنْفَعُك أَنْ أَقْبَلَ أَنَا عُذْرَك فَخَرَجْت فَوَاَللَّهِ مَا تَوَقَّفَتْ لِي عِنْدَهُ بَعْدُ حَاجَةٌ ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا : هِيَ تَخَايِيلُ لَا حَقِيقَةَ لَهَا ، وَلَا دَلِيلَ فِيهَا وَجَرَتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أُصُولِهَا فِي تَخْيِيلِهَا عَلَى الْعَادَةِ فِي إنْكَارِ أُصُولِ الشَّرْعِ فِي الْجِنِّ وَأَحَادِيثِهَا وَالْمَلَائِكَةِ وَكَلَامِهَا وَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْ كَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوْتٍ

لَسَمِعَهُ الْحَاضِرُونَ وَقَالَ صَالِحٌ الْمُعْتَزِلِيّ رُؤْيَا الْمَنَامِ هِيَ رُؤْيَةُ الْعَيْنِ ، وَقَالَ آخَرُونَ هِيَ رُؤْيَةٌ بِعَيْنَيْنِ فِي الْقَلْبِ يُبْصِرُ بِهِمَا وَأُذُنَيْنِ فِي الْقَلْبِ يَسْمَعُ بِهِمَا ا هـ بِتَصَرُّفٍ

( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِدْرَاكُ يُضَادُّهُ النَّوْمُ اتِّفَاقًا وَالرُّؤْيَا إدْرَاكُ الْمِثْلِ كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ تَجْتَمِعُ مَعَ النَّوْمِ وَأَجَابَ بِأَنَّ النَّفْسَ ذَاتُ جَوَاهِرَ فَإِنْ عَمَّهَا النَّوْمُ فَلَا إدْرَاكَ وَلَا مَنَامَ ، وَإِنْ قَامَ عَرَضُ النَّوْمِ بِبَعْضِهَا أَمْكَنَ قِيَامُ إدْرَاكِ الْمَنَامِ بِالْبَعْضِ الْآخَرِ ؛ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمَنَامَاتِ آخِرُ اللَّيْلِ عِنْدَ خِفَّةِ النَّوْمِ ( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُدْرَكَ إنَّمَا هُوَ الْمِثَالُ ، وَبِهِ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ كَوْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَى فِي الْآنِ الْوَاحِدِ فِي مَكَانَيْنِ فَإِنَّ الْمَرْئِيَّ فِي الْمَكَانَيْنِ مِثَالَانِ فَلَا إشْكَالَ إذَا تَعَدَّدَتْ الْمَظْرُوفَاتُ بِتَعَدُّدِ الظُّرُوفِ إذْ الْمُشْكِلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ ، وَأَجَابَ الصُّوفِيَّةُ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَالشَّمْسِ تُرَى فِي أَمَاكِنَ عِدَّةٍ ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ ، وَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَرَاهُ زَيْدٌ فِي بَيْتِهِ وَيَرَاهُ عَمْرٌو بِجُمْلَتِهِ فِي بَيْتِهِ أَوْ دَاخِلَ مَسْجِدِهِ وَالشَّمْسُ إنَّمَا تُرَى مِنْ أَمَاكِنَ عِدَّةٍ ، وَهِيَ فِي مَكَان وَاحِدٍ فَلَوْ رُئِيَتْ دَاخِلَ بَيْتٍ بِجِرْمِهَا اسْتَحَالَ رُؤْيَةُ جِرْمِهَا فِي دَاخِلِ بَيْتٍ آخَرَ ، وَهُوَ الَّذِي يُوَازِنُ رُؤْيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتَيْنِ أَوْ مَسْجِدَيْنِ ، وَالْإِشْكَالُ لَمْ يَرِدْ رُؤْيَتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ مَوَاضِعَ عِدَّةٍ ، وَهُوَ فِي مَكَان وَاحِدٍ إنَّمَا وَرَدَ فِيهِ كَيْفَ يُرَى فِي مَوَاضِعَ عِدَّةٍ بِجُمْلَةِ ذَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ مَعَ اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ حُلُولَ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ فِي الزَّمَنِ الْوَاحِدِ فِي مَكَانَيْنِ مُحَالٌ فَلَا يُتَّجَهُ الْجَوَابُ إلَّا بِأَنَّ الْمَرْئِيَّ مِثَالُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا ذَاتُهُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَرْئِيٍّ مِنْ بَحْرٍ أَوْ جَبَلٍ أَوْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ إنَّمَا يُرَى مِثَالُهُ

لَا هُوَ بِذَاتِهِ ، وَبِهِ يَظْهَرُ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي حَقًّا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي } وَأَنَّ التَّقْدِيرَ مَنْ رَأَى مِثَالِي فَقَدْ رَآنِي حَقًّا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِمِثَالِي ، وَأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا يَشْهَدُ بِعِصْمَةِ الْمِثَالِ عَنْ الشَّيْطَانِ ، وَنَصَّ الْكَرْمَانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ فِي تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا أَنَّ الرُّسُلَ وَالْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ وَالْمَلَائِكَةَ أَيْضًا كَذَلِكَ مَعْصُومَةٌ عَنْ تَمَثُّلِ الشَّيْطَانِ بِمِثْلِهَا وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الْمِثْلِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الشَّيْطَانِ وَأَنَّهُ تَمَثَّلَ بِذَلِكَ الْمِثَالِ

( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ : الْإِدْرَاكُ يُضَادُّهُ النَّوْمُ اتِّفَاقًا ، وَالرُّؤْيَا إدْرَاكُ الْمِثْلِ كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ تَجْتَمِعُ مَعَ النَّوْمِ وَأَجَابَ بِأَنَّ النَّفْسَ ذَاتُ جَوَاهِرَ فَإِنْ عَمَّهَا النَّوْمُ فَلَا إدْرَاكَ ، وَإِنْ عَمَّهَا الْإِدْرَاكُ فَلَا مَنَامَ ، وَإِنْ قَامَ عَرَضُ النَّوْمِ بِبَعْضِهَا أَمْكَنَ قِيَامُ إدْرَاكِ الْمَنَامِ بِالْبَعْضِ الْآخَرِ ؛ وَلِذَلِكَ إنَّ أَكْثَرَ الْمَنَامَاتِ آخِرَ اللَّيْلِ عِنْدَ خِفَّةِ النَّوْمِ ا هـ ( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) : قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْمَضْنُونِ بِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ لَعَلَّ الْعَالِمَ الَّذِي طَبْعُهُ قَرِيبٌ مِنْ طَبْعِ الْعَوَامّ يَفْهَمُ أَنَّ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَأَى حَقِيقَةً شَخْصَهُ الْمُودَعَ فِي رَوْضَةِ الْمَدِينَةِ بِأَنْ شَقَّ الْقَبْرَ وَخَرَجَ مُرْتَحِلًا إلَى مَوْضِعِ الرُّؤْيَةِ ، وَلَا شَكَّ فِي جَهْلِ مَنْ يَتَوَهَّمُ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ قَدْ يُرَى أَلْفَ مَرَّةٍ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فِي أَلْفِ مَوْضِعٍ بِأَشْخَاصٍ مُخْتَلِفَةٍ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ شَخْصٌ وَاحِدٌ فِي مَكَانَيْنِ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ شَخْصٌ وَاحِدٌ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بِصُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ شَيْخٌ وَشَابٌّ طَوِيلٌ وَقَصِيرٌ إلَخْ وَيُرَى عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ وَمَنْ انْتَهَى حُمْقُهُ إلَى هَذَا الْحَالِ فَقَدْ انْخَلَعَ عَنْ رِبْقَةِ الْعَقْلِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَاطَبَ ثُمَّ حُقِّقَ أَنَّ الْمَرْئِيَّ مِثَالٌ صَارَ وَاسِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَذَلِكَ أَنَّ جَوْهَرَ النُّبُوَّةِ أَعْنِي الرُّوحَ الْمُقَدَّسَةَ الْبَاقِيَةَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ مُنَزَّهَةٌ عَنْ اللَّوْنِ وَالشَّكْلِ وَالصُّوَرِ ، وَلَكِنَّ الْعَبْدَ ذَاتَهُ بِوَاسِطَةِ مِثَالٍ مَحْسُوسٍ مِنْ نُورٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مِثَالًا لِلْجَمَالِ الْحَقِيقِيِّ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي لَا صُورَةَ لَهُ ، وَلَا لَوْنَ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ

الْمِثَالُ صَادِقًا حَقًّا وَوَاسِطَةً فِي التَّعْرِيفِ فَقَوْلُ الرَّائِي : رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ لَا بِمَعْنَى أَنِّي رَأَيْت ذَاتَ رُوحِهِ أَوْ ذَاتَ شَخْصِهِ بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ رَأَى مِثَالَهُ لَا مِثْلَهُ ؛ إذْ الْمِثْلُ الْمُسَاوِي فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ ، وَالْمِثَالُ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْمُسَاوَاةِ ؛ إذْ الْعَقْلُ مَعْنًى لَا يُمَاثِلُهُ غَيْرُهُ مُمَاثَلَةً حَقِيقِيَّةً وَلَنَا أَنْ نَضْرِبَ الشَّمْسَ لَهُ مِثَالًا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ .
وَهُوَ أَنَّ الْمَحْسُوسَاتِ تَنْكَشِفُ بِنُورِ الشَّمْسِ كَمَا تَنْكَشِفُ الْمَعْقُولَاتُ بِالْعَقْلِ فَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ كَافٍ فِي الْمِثَالِ وَيُمَثَّلُ فِي النَّوْمِ السُّلْطَانُ بِالشَّمْسِ ، وَالْوَزِيرُ بِالْقَمَرِ وَالسُّلْطَانُ لَا يُمَاثِلُ الشَّمْسَ بِصُورَتِهِ وَلَا بِمَعْنَاهُ ، وَلَا الْوَزِيرُ يُمَاثِلُ الْقَمَرَ إلَّا أَنَّ السُّلْطَانَ لَهُ اسْتِعْلَاءٌ عَلَى الْكُلِّ ، وَيَعُمُّ أَمْرُهُ الْجَمِيعَ ، وَالشَّمْسُ تُنَاسِبُهُ فِي هَذَا الْقَدْرِ ، وَالْقَمَرُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْأَرْضِ فِي إفَاضَةِ النُّورِ كَمَا أَنَّ الْوَزِيرَ وَالسُّلْطَانُ وَالرَّعِيَّةَ فِي نُورِ الْعَدْلِ فَهَذَا مِثَالٌ ، وَلَيْسَ بِمَثَلٍ ، وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ } الْآيَةَ ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ نُورِهِ وَبَيْنَ الزُّجَاجَةِ وَالْمِشْكَاةِ وَعَبَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللَّبَنِ فِي الْمَنَامِ بِالْإِسْلَامِ وَالْحَبْلِ بِالْقُرْآنِ ، وَأَيُّ مُمَاثَلَةٍ بَيْنَ اللَّبَنِ وَالْإِسْلَامِ وَبَيْنَ الْحَبْلِ وَالْقُرْآنِ إلَّا فِي مُنَاسَبَةٍ ، وَهُوَ أَنَّ الْحَبْلَ يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي النَّجَاةِ ، وَاللَّبَنُ غِذَاءُ الْحَيَاةِ الظَّاهِرَةِ ، وَالْإِسْلَامُ غِذَاءُ الْحَيَاةِ الْبَاطِنَةِ فَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ مِثَالٌ ، وَلَيْسَتْ بِمَثَلٍ ا هـ الْمُرَادُ فَمِنْ هُنَا قَالَ الْأَصْلُ : إنَّ جَوَابَ الصُّوفِيَّةِ عَنْ اسْتِشْكَالِ كَوْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يُرَى فِي

مَكَانَيْنِ فِي الْآنِ الْوَاحِدِ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَالشَّمْسِ تُرَى فِي أَمَاكِنَ عِدَّةٍ ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ بَاطِلٌ فَإِنَّ الْإِشْكَالَ لَمْ يَرِدْ فِي رُؤْيَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ مَوَاضِعَ عِدَّةٍ ، وَهُوَ فِي مَكَان وَاحِدٍ حَتَّى يُصْبِحَ الْجَوَابُ عَنْهُ بِذَلِكَ بَلْ إنَّمَا وَرَدَ فِيهِ كَيْفَ يُرَى فِي مَوَاضِعَ عِدَّةٍ بِجُمْلَةِ ذَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ حُلُولَ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ فِي الزَّمَنِ الْوَاحِدِ فِي مَكَانَيْنِ مُحَالٌ فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ فَلَا يُتَّجَهُ الْجَوَابُ إلَّا بِأَنَّ الْمَرْئِيَّ مِثَالُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا ذَاتُهُ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَرْئِيٍّ مِنْ بَحْرٍ أَوْ جَبَلٍ أَوْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إنَّمَا يُرَى مِثَالُهُ لَا هُوَ بِذَاتِهِ وَبِهِ يَظْهَرُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي حَقًّا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي } وَأَنَّ التَّقْدِيرَ مَنْ رَأَى مِثَالِي فَقَدْ رَآنِي حَقًّا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِمِثَالِي ، وَأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا يَشْهَدُ بِعِصْمَةِ الْمِثَالِ عَنْ الشَّيْطَانِ ، وَنَصَّ الْكَرْمَانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ فِي تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا أَنَّ الرُّسُلَ وَالْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ وَالْمَلَائِكَةَ كَذَلِكَ مَعْصُومَةٌ عَنْ تَمَثُّلِ الشَّيْطَانِ بِمِثْلِهَا وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الْمِثْلِ يُمْكِنُ حَقًّا وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الشَّيْطَانِ ، وَأَنَّهُ تَمَثَّلَ بِذَلِكَ الْمِثَالِ ا هـ .

( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) قَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّمَا تَصِحُّ رُؤْيَةُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا صَحَابِيٌّ رَآهُ فَعَلِمَ صِفَتَهُ فَانْطَبَعَ فِي نَفْسِهِ مِثَالُهُ فَإِذَا رَآهُ جَزَمَ بِأَنَّهُ رَأَى مِثَالَهُ الْمَعْصُومَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَيَنْتَفِي عِنْدَ اللُّبْسِ وَالشَّكِّ فِي رُؤْيَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَثَانِيهِمَا : رَجُلٌ تَكَرَّرَ عَلَيْهِ سَمَاعُ صِفَاتِهِ الْمَنْقُولَةِ فِي الْكُتُبِ حَتَّى انْطَبَعَتْ فِي نَفْسِهِ صِفَتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمِثَالُهُ الْمَعْصُومُ كَمَا حَصَلَ ذَلِكَ لِمَنْ رَآهُ فَإِذَا رَآهُ جَزَمَ بِرُؤْيَةِ مِثَالِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا يَجْزِمُ بِهِ مَنْ رَآهُ فَيَنْتَفِي عَنْهُ اللَّبْسُ وَالشَّكُّ فِي رُؤْيَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمَّا غَيْرُ هَذَيْنِ فَلَا يَحْصُلُ لَهُ الْجَزْمُ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَآهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمِثَالِهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَخْيِيلِ الشَّيْطَانِ ، وَلَا يُفِيدُ قَوْلُ الْمَرْئِيِّ لِمَنْ يَرَاهُ : أَنَا رَسُولُ اللَّهِ ، وَلَا قَوْلُ مَنْ يَحْضُرُ مَعَهُ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَكْذِبُ لِنَفْسِهِ وَيَكْذِبُ لِغَيْرِهِ فَلَا يَحْصُلُ الْجَزْمُ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ مِثَالِهِ الْمَخْصُوصِ فَيُشْكِلُ ذَلِكَ بِمَا تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ التَّعْبِيرِ أَنَّ الرَّائِيَ يَرَاهُ شَيْخًا وَشَابًّا وَأَسْوَدَ وَذَاهِبَ الْعَيْنَيْنِ وَذَاهِبَ الْيَدَيْنِ وَعَلَى أَنْوَاعٍ شَتَّى مِنْ الْمُثُلِ الَّتِي لَيْسَتْ مِثَالَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ صِفَاتُ الرَّائِي ، وَأَحْوَالُهُمْ تَظْهَرُ فِيهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَهُوَ كَالْمِرْآةِ لَهُمْ قُلْت لِبَعْضِ مَشَايِخِي : فَكَيْفَ يَبْقَى الْمِثَالُ مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْمُضَادَّةِ لَهُ فَقَالَ لِي : لَوْ كَانَ لَك أَبٌ شَابٌّ تَغَيَّبْت عَنْهُ ثُمَّ جِئْته فَوَجَدْته شَيْخًا أَوْ أَصَابَهُ يَرَقَانُ أَصْفَرُ أَوْ يَرَقَانُ أَسْوَدُ أَوْ أَصَابَهُ بَرَصٌ ، أَوْ جُذَامٌ ، أَوْ قُطِعَتْ أَعْضَاؤُهُ أَكُنْت تَشُكُّ فِيهِ أَنَّهُ أَبُوك قُلْت : لَا فَقَالَ لِي مَا ذَاكَ

إلَّا لِمَا ثَبَتَ فِي نَفْسِك مِنْ مِثَالِهِ الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَك الَّذِي لَا تَجْهَلُهُ بِعُرُوضِ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَهُ فَكَذَلِكَ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ فِي نَفْسِهِ مِثَالُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا لَا يَشُكُّ فِيهِ مَعَ عُرُوضِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يَثِقُ بِأَنَّهُ رَآهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِذَا صَحَّ لَهُ الْمِثَالُ ، وَانْضَبَطَ فَالسَّوَادُ يَدُلُّ عَلَى ظُلْمِ الرَّائِي ، وَالْعَمَى يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إيمَانِهِ ؛ لِأَنَّهُ إدْرَاكٌ ذَاهِبٌ وَقَطْعُ الْيَدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ ظُهُورِ الشَّرِيعَةِ وَنُفُوذِ أَوَامِرِهَا ، فَإِنَّ الْيَدَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْقُدْرَةِ وَكَوْنُهُ أَمْرَدَ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ ، فَإِنَّ الشَّابَّ يُحْتَقَرُ ، وَكَوْنُهُ شَيْخًا يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ النُّبُوَّةِ ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَ يُعَظَّمُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ

( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) قَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّمَا تَصِحُّ رُؤْيَةُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) صَحَابِيٌّ رَآهُ فَعَلِمَ صِفَتَهُ فَالطَّبْعُ فِي نَفْسِهِ مِثَالُهُ ، فَإِذَا رَآهُ جَزَمَ بِأَنَّهُ رَأَى مِثَالَهُ الْمَعْصُومَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَيَنْتَفِي عَنْهُ اللُّبْسُ ، وَالشَّكُّ فِي رُؤْيَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَثَانِيهِمَا : رَجُلٌ تَكَرَّرَ عَلَيْهِ سَمَاعُ صِفَاتِهِ الْمَنْقُولَةِ فِي الْكُتُبِ حَتَّى انْطَبَعَتْ فِي نَفْسِهِ صِفَتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمِثَالُهُ الْمَعْصُومُ كَمَا حَصَلَ ذَلِكَ لِمَنْ رَآهُ فَإِذَا رَآهُ جَزَمَ بِرُؤْيَتِهِ مِثَالَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا يَجْزِمُ بِهِ مَنْ رَآهُ فَيَنْتَفِي عَنْهُ اللُّبْسُ وَالشَّكُّ فِي رُؤْيَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمَّا غَيْرُ هَذَيْنِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْجَزْمُ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَآهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمِثَالِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَخْيِيلِ الشَّيْطَانِ ، وَلَا يُفِيدُ قَوْلُ الْمَرْئِيِّ لِمَنْ رَآهُ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ ، وَلَا قَوْلُ مَنْ يَحْضُرُ مَعَهُ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَكْذِبُ لِنَفْسِهِ وَيَكْذِبُ لِغَيْرِهِ فَلَا يَحْصُلُ الْجَزْمُ وَهَذَا ، وَإِنْ كَانَ صَرِيحًا فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ مِثَالِهِ الْمَخْصُوصِ لَا يُنَافِي مَا تَقَرَّرَ فِي التَّعْبِيرِ أَنَّ الرَّائِيَ يَرَاهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَيْخًا وَشَابًّا وَأَسْوَدَ وَذَاهِبَ الْعَيْنَيْنِ وَذَاهِبَ الْيَدَيْنِ وَعَلَى أَنْوَاعٍ شَتَّى مِنْ الْمُثُلِ الَّتِي لَيْسَتْ مِثَالَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ صِفَاتُ الرَّائِينَ وَأَحْوَالُهُمْ تَظْهَرُ فِيهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَهُوَ كَالْمِرْآةِ لَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ قَالَ الْأَصْلُ قُلْت : لِبَعْضِ مَشَايِخِي فَكَيْفَ يَبْقَى الْمِثَالُ مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْمُضَادَّةِ لَهُ فَقَالَ لِي : لَوْ كَانَ لَك أَبٌ شَابٌّ تَغَيَّبْتَ عَنْهُ ثُمَّ جِئْته فَوَجَدْته شَيْخًا أَوْ أَصَابَهُ يَرَقَانُ أَصْفَرُ أَوْ يَرَقَانُ أَسْوَدُ أَوْ أَصَابَهُ بَرَصٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ قُطِعَتْ أَعْضَاؤُهُ أَكُنْت تَشُكُّ

فِيهِ أَنَّهُ أَبُوك فَقُلْت : لَا فَقَالَ لِي مَا ذَاكَ إلَّا لِمَا ثَبَتَ فِي نَفْسِك مِنْ مِثَالِهِ الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَك الَّذِي لَا تَجْهَلُهُ بِعُرُوضِ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَهُ فَكَذَلِكَ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ فِي نَفْسِهِ مِثَالُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَذَا لَا يَشُكُّ فِيهِ مَعَ عُرُوضِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَهُ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يَثِقُ بِأَنَّهُ رَآهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِذَا صَحَّ لَهُ الْمِثَالُ وَانْضَبَطَ فَالسَّوَادُ يَدُلُّ عَلَى ظُلْمِ الرَّائِي وَالْعَمَى يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إيمَانِهِ ؛ لِأَنَّهُ إدْرَاكُ ذَاهِبٍ ، وَقَطْعُ الْيَدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ ظُهُورِ الشَّرِيعَةِ وَنُفُوذِ أَوَامِرِهَا ، فَإِنَّ الْيَدَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْقُدْرَةِ ، وَكَوْنُهُ أَمْرَدَ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ فَإِنَّ الشَّابَّ يُحْتَقَرُ ، وَكَوْنُهُ شَيْخًا يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ النُّبُوَّةِ ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَ يُعَظَّمُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ ا هـ ( الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ ) قَدْ تَقَدَّمَ عَنْ الْعَلَّامَةِ الْعَطَّارِ أَنَّهُ قَالَ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى مُحَلَّى جَمْعِ الْجَوَامِعِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الرُّؤْيَا التَّعْوِيلُ عَلَيْهَا فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لِاحْتِمَالِ الْخَطَأِ فِي التَّحَمُّلِ وَعَدَمِ ضَبْطِ الرَّائِي عَلَى أَنَّ الْعِزَّ بْنَ عَبْدِ السَّلَامِ لَمَّا رَأَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ يَقُولُ لَهُ : إنَّ فِي الْمَحَلِّ الْفُلَانِيِّ رِكَازًا اذْهَبْ فَخُذْهُ ، وَلَا خُمُسَ عَلَيْك فَذَهَبَ وَوَجَدَهُ وَاسْتَفْتَى الْعُلَمَاءَ قَالَ لِذَلِكَ الرَّائِي أَخْرِجْ الْخُمُسَ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِالتَّوَاتُرِ ، وَقُصَارَى رُؤْيَتِك الْآحَادُ ا هـ فَلِذَا لَمَّا اضْطَرَبَتْ أَرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ رَآهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ إنَّ امْرَأَتَك طَالِقٌ ثَلَاثًا ، وَهُوَ يَجْزِمُ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا بِالتَّحْرِيمِ وَعَدَمِهِ لِتَعَارُضِ خَبَرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ تَحْرِيمِهَا فِي النَّوْمِ ، وَإِخْبَارُهُ فِي الْيَقَظَةِ فِي

شَرِيعَتِهِ الْمُعَظَّمَةِ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ لَهُ اسْتَظْهَرَ الْأَصْلُ أَنَّ إخْبَارَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْيَقَظَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْخَبَرِ فِي النَّوْمِ لِتَطَرُّقِ الِاحْتِمَالِ لِلرَّائِي بِالْغَلَطِ فِي ضَبْطِهِ الْمِثَالَ قَالَ فَإِذَا عَرَضْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا احْتِمَالَ طُرُوءِ الطَّلَاقِ مَعَ الْجَهْلِ بِهِ وَاحْتِمَالَ طُرُوءِ الْغَلَطِ فِي الْمِثَالِ فِي النَّوْمِ وَجَدْنَا الْغَلَطَ فِي الْمِثَالِ أَيْسَرَ وَأَرْجَحَ ، وَمَنْ هُوَ مِنْ النَّاسِ يَضْبِطُ الْمِثَالَ عَلَى النَّحْوِ الْمُتَقَدِّمِ إلَّا أَفْرَادٌ قَلِيلَةٌ مِنْ الْحُفَّاظِ لِصِفَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمَّا ضَبْطُ عَدَمِ الطَّلَاقِ فَلَا يَخْتَلُّ إلَّا عَلَى النَّادِرِ مِنْ النَّاسِ وَالْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ مُتَعَيِّنٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَنْ حَلَالٍ : إنَّهُ حَرَامٌ أَوْ عَنْ حَرَامٍ : إنَّهُ حَلَالٌ أَوْ عَنْ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ قَدَّمْنَا مَا ثَبَتَ فِي الْيَقَظَةِ عَلَى مَا رَأَى فِي النَّوْمِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ كَمَا لَوْ تَعَارَضَ خَبَرَانِ مِنْ أَخْبَارِ الْيَقَظَةِ صَحِيحَانِ فَإِنَّا نُقَدِّمُ الْأَرْجَحَ بِالسَّنَدِ أَوْ بِاللَّفْظِ أَوْ بِفَصَاحَتِهِ أَوْ قِلَّةِ الِاحْتِمَالِ فِي الْمَجَازِ أَوْ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ خَبَرُ الْيَقَظَةِ ، وَخَبَرُ النَّوْمِ يُخَرَّجَانِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ا هـ .

( فَرْعٌ ) فَلَوْ رَآهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ : إنَّ امْرَأَتَك طَالِقٌ ثَلَاثًا ، وَهُوَ يَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا فَهَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا وَقَعَ فِيهِ الْبَحْثُ مَعَ الْفُقَهَاءِ وَاضْطَرَبَتْ آرَاؤُهُمْ فِي ذَلِكَ بِالتَّحْرِيمِ وَعَدَمِهِ لِتَعَارُضِ خَبَرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ تَحْرِيمِهَا فِي النَّوْمِ وَإِخْبَارِهِ فِي الْيَقَظَةِ فِي شَرِيعَتِهِ الْمُعَظَّمَةِ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ لَهُ ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ إخْبَارَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْيَقَظَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْخَبَرِ فِي النَّوْمِ لِتَطَرُّقِ الِاحْتِمَالِ لِلرَّائِي بِالْغَلَطِ فِي ضَبْطِ الْمِثَالِ ، فَإِذَا عَرَضْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا احْتِمَالَ طُرُوءِ الطَّلَاقِ مَعَ الْجَهْلِ بِهِ وَاحْتِمَالَ طُرُوءِ الْغَلَطِ فِي الْمِثَالِ فِي النَّوْمِ وَجَدْنَا الْغَلَطَ فِي الْمِثَالِ أَيْسَرَ وَأَرْجَحَ ، وَمَنْ هُوَ مِنْ النَّاسِ يَضْبِطُ الْمِثَالَ عَلَى النَّحْوِ الْمُتَقَدِّمِ إلَّا أَفْرَادٌ قَلِيلَةٌ مِنْ الْحُفَّاظِ لِصِفَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمَّا ضَبْطُ عَدَمِ الطَّلَاقِ فَلَا يَخْتَلُّ إلَّا عَلَى النَّادِرِ مِنْ النَّاسِ وَالْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ مُتَعَيِّنٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ عَنْ حَلَالٍ : إنَّهُ حَرَامٌ ، أَوْ عَنْ حَرَامٍ إنَّهُ حَلَالٌ ، أَوْ عَنْ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ قَدَّمْنَا مَا ثَبَتَ فِي الْيَقَظَةِ عَلَى مَا رَأَى فِي النَّوْمِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ كَمَا لَوْ تَعَارَضَ خَبَرَانِ مِنْ أَخْبَارِ الْيَقَظَةِ صَحِيحَانِ فَإِنَّا نُقَدِّمُ الْأَرْجَحَ بِالسَّنَدِ أَوْ بِاللَّفْظِ أَوْ بِفَصَاحَتِهِ أَوْ قِلَّةِ الِاحْتِمَالِ فِي الْمَجَازِ أَوْ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ خَبَرُ الْيَقَظَةِ ، وَخَبَرُ النَّوْمِ يُخَرَّجَانِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَة

( الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ ) رُؤْيَةُ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي النَّوْمِ تَصِحُّ وَلِذَلِكَ أَحْوَالٌ ( أَحَدُهَا ) أَنْ يَرَاهُ فِي النَّوْمِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْقُولُ وَالْمَنْقُولُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ لَهُ وَالسَّلَامَةِ مِنْ الصِّفَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحُدُوثِ مِنْ الْجِسْمِيَّةِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ فَهَذَا نُجَوِّزُهُ فِي الدُّنْيَا كَمَا نُجَوِّزُهُ فِي الْآخِرَةِ وَنَجْزِمُ بِوُقُوعِهِ فِي الْآخِرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَلَكِنْ مَنْ ادَّعَى هَذِهِ الْحَالَةَ ، وَهُوَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا مِنْ الْعُصَاةِ ، أَوْ مِنْ الْمُقَصِّرِينَ كَذَّبْنَاهُ ، أَوْ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الْمُتَّقِينَ لَا نُكَذِّبُهُ وَنُسَلِّمُ لَهُ حَالَةَ وقَوْله تَعَالَى { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } فِيهِ تَأْوِيلَاتٌ وَهُوَ عُمُومٌ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ ، وَإِخْبَارُ الْوَلِيِّ الْمَوْثُوقِ بِدِينِهِ الْمُبَرَّزِ فِي عَدَالَتِهِ يَصْلُحُ لِتَقْوِيَةِ بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ وَلِتَخْصِيصِ هَذَا الْعَامِّ ، وَخَبَرُ الْعَدْلِ مَقْبُولٌ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ ، وَنَحْنُ نَقْبَلُ خَبَرَ الْأَوْلِيَاءِ فِي وُقُوعِ الْكَرَامَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ الْمُحَصِّلَةِ لِلْعُلُومِ الْقَطْعِيَّاتِ فَكَيْفَ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومَاتِ الَّتِي لَا تُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ فَتَأَمَّلْ هَذَا ( وَثَانِيهَا ) : أَنْ يَرَاهُ - سُبْحَانَهُ - فِي صُورَةٍ مُسْتَحِيلَةٍ عَلَيْهِ كَمَنْ يَقُولُ : رَأَيْته فِي صُورَةِ رَجُلٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْسَامِ الْمُسْتَحِيلَةِ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْت اللَّهَ - تَعَالَى - فِي صُورَةِ فَرَسٍ وَفَهِمَ هَذَا الرَّائِي أَنَّ هَذَا الْجِسْمَ مِنْ إنْسَانٍ وَغَيْرِهِ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَمْرٌ وَارِدٌ مِنْ قِبَلِهِ يَقْتَضِي حَالَةً مِنْ هَذَا الرَّائِي وَيَتَقَاضَاهَا مِنْهُ ، أَوْ يَأْمُرُهُ بِخَيْرٍ أَوْ يَنْهَاهُ عَنْ شَرٍّ ، وَيَقُولُ لَهُ : أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَامْتَثِلْ أَمْرِي وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْحَالَةُ أَيْضًا صَحِيحَةٌ جَائِزَةٌ عَلَى إطْلَاقِ لَفْظِ

اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى هَذَا الْجِسْمِ فَفِي الْقُرْآنِ { وَجَاءَ رَبُّك وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } فَعَبَّرَ - تَعَالَى - عَنْ أَمْرِهِ الْوَارِدِ مِنْ قِبَلِهِ بِاللَّفْظِ الْخَاصِّ بِالرُّبُوبِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ لَفْظِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ وَلَفْظِ الْمُؤَثِّرِ عَلَى الْأَثَرِ ، وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَمَسْطُورٌ فِي كُتُبِ الْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ وَفِي التَّوْرَاةِ جَاءَ اللَّهُ مِنْ سَيْنَاءَ وَأَشْرَقَ مِنْ سَاغَيْنِ وَاسْتَعْلَنَ مِنْ جِبَالِ فَارَانَ إشَارَةً إلَى التَّوْرَاةِ النَّازِلَةِ بِطُورِ سَيْنَاءَ وَالْإِنْجِيلِ النَّازِلِ بِسَاغَيْنِ مَوْضِعٌ بِالشَّامِ وَالْقُرْآنِ النَّازِلِ بِمَكَّةَ وَاسْمُهَا فَارَانُ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَقَّ جَاءَ مِنْ سَيْنَاءَ ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ وَكَثُرَ ظُهُورُهُ وَعَلَنُهُ بِتَقْوِيَةِ الْإِنْجِيلِ لَهُ فَإِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بُعِثَ لِنُصْرَةِ التَّوْرَاةِ وَتَقْوِيَتِهَا وَإِرَادَةِ الْعَلَانِيَةِ وَالظُّهُورِ ، وَاسْتُكْمِلْ الْحَقُّ وَاسْتُوْفِيَتْ الْمَصَالِحُ وَوَصَلَ الْبَيَانُ وَالْكَمَالُ فِي الشَّرْعِ إلَى أَقْصَى غَايَاتِهِ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْكُتُبُ بِاسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِهَتِهِ وَقِبَلِهِ عَلَى الْمَجَازِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَمِنْ ذَلِكَ { يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنْ اللَّيْلِ } الْحَدِيثَ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّهُ تَنْزِلُ رَحْمَتُهُ فَسَمَّاهَا بِاسْمِهِ لِكَوْنِهَا مِنْ قِبَلِهِ وَمِنْ أَثَرِهِ كَذَلِكَ هَذِهِ الْمُثُلُ الْقَائِلَةُ فِي النَّوْمِ أَنَا اللَّهُ هُوَ صَحِيحٌ جَائِزٌ عَلَى الْمَجَازِ كَمَا تَقَدَّمَ وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّ اللَّهَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْخَلَائِقِ فِي صُورَةٍ يُنْكِرُونَهَا وَيَقُولُونَ لَسْت رَبَّنَا } فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِيهِمْ فِي صُورَةٍ وَتَسْمِيَتُهُ لِهَذِهِ الصُّورَةِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ ؛ لِأَنَّهَا صُورَةٌ مِنْ آثَارِهِ وَفِتْنَةٌ يَخْتَبِرُ

بِهَا خَلْقَهُ ؛ فَلِهَذِهِ الْمُلَازَمَةِ وَالْعَلَاقَةِ حَسُنَ إطْلَاقُ لَفْظِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَيْهَا مَجَازًا كَمَا تَقَدَّمَ فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْمُثُلُ فِي النَّوْمِ حُكْمُهَا حُكْمُ هَذِهِ الْأَجْسَامِ فِي الْيَقَظَةِ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَرَى هَذِهِ الصُّورَةَ الْحَسَنَةَ الْجِسْمِيَّةَ ، وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّهَا اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - حَقِيقَةً ، وَلَا يَخْطِرُ لَهُ فِي النَّوْمِ مَعْنَى الْمَجَازِ أَلْبَتَّةَ فَهَذِهِ الرُّؤْيَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً ، وَيَكُونَ الْمُرَادُ الْمَجَازَ ، وَهُوَ جَهْلُ الْمَجَازِ فَكَانَ الْغَلَطُ مِنْهُ لَا فِي الرُّؤْيَا كَمَا يَرِدُ اللَّفْظُ فِي الْيَقَظَةِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَجَازُ وَالسَّامِعُ يَفْهَمُ الْحَقِيقَةَ كَمَا اتَّفَقَ لِلْحَشَوِيَّةِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ فَكَانَ الْغَلَطُ مِنْهُمْ لَا فِي الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرُّؤْيَا كَذِبًا وَمُحَالًا ، وَالشَّيْطَانُ يُخَيِّلُ لَهُ بِذَلِكَ لِيَضِلَّهُ أَوْ يُخْزِيَهُ ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَكَائِدِهِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - فَهَذِهِ الرُّؤْيَا مَوْضِعُ التَّثَبُّتِ وَالْخَوْفِ مِنْ الْغَلَطِ ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ هَذَا الرَّائِي وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْزِمَ بِأَنَّ الَّذِي رَآهُ لَيْسَ رَبَّهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ بَلْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَاقِعٌ لَهُ وَيَنْظُرُ مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ مِنْهُمَا فَيَعْتَقِدُهُ فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ أَعْرَضَ عَنْ الرُّؤْيَا بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى يَتَّضِحَ الصَّوَابُ فَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا حَقٌّ ، وَأَنَّ الَّذِي رَآهُ رَبُّهُ فَهُوَ كَافِرٌ ، وَقَدْ كَفَرَ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ النَّاشِئِ لَهُ عَنْ هَذِهِ الرُّؤْيَا بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِ الْحَشَوِيَّةِ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْجِسْمُ وَتِلْكَ الْحَالَةُ فِيهَا مِنْ الْحَقَارَةِ وَمُنَافَاةِ الرُّبُوبِيَّةِ مَا يُجْمِعُ الْأُمَّةُ عَلَى تَكْفِيرِهِ وَتُكَفِّرُهُ الْحَشَوِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ كَصُورَةِ الدَّجَّالِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْحَشَوِيَّةَ لَيْسَتْ كُفَّارًا إنَّمَا هُوَ مَعَ قَوْلِهِمْ بِالتَّنَزُّهِ عَنْ الْعَوَرِ وَالْعَمَى

وَالْآفَاتِ وَالنَّقَائِصِ بَلْ اقْتَصَرُوا عَلَى الْجِسْمِيَّةِ خَاصَّةً مَعَ التَّنْزِيهِ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ فَمَنْ اعْتَقَدَ الْجِسْمِيَّةَ مَعَ بَعْضِ صِفَاتِ النَّقْصِ فَأَوَّلُ مَنْ يُكَفِّرُهُ الْحَشَوِيَّةُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ ، وَمِنْهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ رَآهُ فِي صُورَةِ فَرَسٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ السِّبَاعِ أَوْ غَيْرِهَا فَهَذَا كُلُّهُ كُفْرٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ ، وَلَا يَتَخَرَّجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْحَشَوِيَّةِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : رَأَيْته فِي طَلْقٍ أَوْ خِزَانَةٍ أَوْ مَطْمُورَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تُحِيلُهُ الْحَشَوِيَّةُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهَذَا تَفْصِيلُ الْأَحْوَالِ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى -

( الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ ) فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَمُحِلِّيهِ اُخْتُلِفَ هَلْ يَجُوزُ الرُّؤْيَةُ لَهُ - تَعَالَى - فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَا ؛ لِأَنَّ الْمَرْئِيَّ فِيهِ خَيَالٌ وَمِثَالٌ ، وَذَلِكَ عَلَى الْقَدِيمِ مُحَالٌ وَقِيلَ : نَعَمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا اسْتِحَالَةَ لِذَلِكَ فِي الْمَنَامِ ا هـ قَالَ الْمَحَلِّيُّ وَالْعَطَّارُ عَلَيْهِ وَقَدْ ذُكِرَ وُقُوعُهَا فِي الْمَنَامِ لِكَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ مِنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْت رَبَّ الْعِزَّةِ فِي الْمَنَامِ فَقُلْت : يَا رَبِّ مَا أَفْضَلُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمُتَقَرِّبُونَ قَالَ كَلَامِي يَا أَحْمَدُ فَقُلْت : بِفَهْمٍ وَبِغَيْرِ فَهْمٍ قَالَ بِفَهْمٍ وَبِغَيْرِ فَهْمٍ وَرَآهُ أَحْمَدُ بْنُ حَضْرَوَيْهِ فَقَالَ لَهُ يَا أَحْمَدُ كُلُّ الْخَلْقِ يَطْلُبُونَ مِنِّي إلَّا أَبَا يَزِيدَ فَإِنَّهُ يُطَالِبنِي ، وَعَلَى ذَلِكَ الْمُعَبِّرُونَ لِلرُّؤْيَا فَإِنَّهُمْ يَعْقِدُونَ فِي كُتُبِهِمْ بَابًا لِرُؤْيَةِ الرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا وَبَالَغَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي إنْكَارِهِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَنْعِ وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْمَضْمُونِ بِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ : الْحَقُّ أَنَّا نُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُرَى فِي الْمَنَامِ كَمَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَى نَعَمْ ذَاتُ اللَّهِ - تَعَالَى - وَذَاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُرَيَانِ وَإِنَّمَا الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُرَى مِثَالٌ يَعْتَقِدُهُ النَّائِمُ ذَاتَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَذَاتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَيْفَ يُنْكَرُ ذَاكَ مَعَ وُجُودِهِ فِي الْمَنَامَاتِ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَرَهُ بِنَفْسِهِ فَقَدْ تَوَاتَرَ إلَيْهِ مِنْ جَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ قَالَ ، وَلَا يَرِدُ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَا مِثْلَ لَهُ بِخِلَافِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ لَهُ مَثَلًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمِثْلِ وَالْمِثَالِ بِأَنَّ الْمِثْلَ الْمُسَاوِيَ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ ، وَالْمِثَالُ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى

الْمُسَاوَاةِ إلَخْ ا هـ فَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْأَصْلُ رُؤْيَةُ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي النَّوْمِ تَصِحُّ وَلِذَلِكَ أَحْوَالٌ ثَلَاثَةٌ ( أَحَدُهَا ) : أَنْ يَرَاهُ فِي النَّوْمِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْقُولُ وَالْمَنْقُولُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ لَهُ وَالسَّلَامَةِ مِنْ الصِّفَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحُدُوثِ مِنْ الْجِسْمِيَّةِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ فَهَذَا كَمَا نُجَوِّزُهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَنَجْزِمُ بِوُقُوعِهِ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِ كَذَلِكَ نُجَوِّزُهُ فِي الدُّنْيَا لَكِنْ مَنْ ادَّعَى هَذِهِ الْحَالَةَ إنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا مِنْ الْعُصَاةِ ، أَوْ مِنْ الْمُقَصِّرِينَ كَذَّبْنَاهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الْمُتَّقِينَ لَا نُكَذِّبُهُ وَنُسَلِّمُ لَهُ حَالَةَ وقَوْله تَعَالَى { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } فِيهِ تَأْوِيلَاتٌ ، وَهُوَ عُمُومٌ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ ، وَإِخْبَارُ الْوَلِيِّ الْمَوْثُوقِ بِدِينِهِ الْمُبَرَّزِ فِي عَدَالَتِهِ يَصْلُحُ لِتَقْوِيَةِ بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ وَلِتَخْصِيصِ هَذَا الْعَامِّ وَخَبَرُ الْعَدْلِ مَقْبُولٌ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَنَحْنُ نَقْبَلُ خَبَرَ الْأَوْلِيَاءِ فِي وُقُوعِ الْكَرَامَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ الْمُحَصِّلَةِ لِلْعُلُومِ الْقَطْعِيَّاتِ فَكَيْفَ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومَاتِ الَّتِي لَا تُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ فَتَأَمَّلْ هَذَا ( وَثَانِيهَا ) : أَنْ يَرَاهُ فِي صُورَةٍ مُسْتَحِيلَةٍ عَلَيْهِ كَمَنْ يَقُولُ : رَأَيْته فِي صُورَةِ رَجُلٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْسَامِ الْمُسْتَحِيلَةِ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْت اللَّهَ - تَعَالَى - فِي صُورَةِ فَرَسٍ وَفَهِمَ هَذَا الرَّائِي أَنَّ هَذَا الْجِسْمَ مِنْ إنْسَانٍ وَغَيْرِهِ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَمْرٌ وَارِدٌ مِنْ قِبَلِهِ يَقْتَضِي حَالَةً مِنْ هَذَا الرَّائِي وَيَتَقَاضَاهَا مِنْهُ أَوْ يَأْمُرُهُ بِخَيْرٍ أَوْ يَنْهَاهُ عَنْ شَرٍّ ، وَيَقُولُ لَهُ : أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَامْتَثِلْ أَمْرِي وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْحَالَةُ أَيْضًا صَحِيحَةٌ

جَائِزَةٌ عَلَى إطْلَاقِ لَفْظِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى هَذَا الْجِسْمِ فَفِي الْقُرْآنِ { وَجَاءَ رَبُّك وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } فَعَبَّرَ - تَعَالَى - عَنْ أَمْرِهِ الْوَارِدِ مِنْ قِبَلِهِ بِاللَّفْظِ الْخَاصِّ بِالرُّبُوبِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ لَفْظِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ وَلَفْظِ الْمُؤَثِّرِ عَلَى الْأَثَرِ ، وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَمَسْطُورٌ فِي كُتُبِ الْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ وَفِي التَّوْرَاةِ جَاءَ اللَّهُ مِنْ سَيْنَاءَ وَأَشْرَقَ مِنْ سَاغَيْنِ وَاسْتَعْلَنَ مِنْ جِبَالِ فَارَانَ إشَارَةً إلَى التَّوْرَاةِ النَّازِلَةِ بِطُورِ سَيْنَاءَ وَالْإِنْجِيلِ النَّازِلِ بِسَاغَيْنِ مَوْضِعٌ بِالشَّامِ وَالْقُرْآنِ النَّازِلِ بِمَكَّةَ فَارَانُ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَقَّ جَاءَ مِنْ سَيْنَاءَ ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ وَكَثُرَ ظُهُورُهُ وَعَلَنُهُ بِتَقْوِيَةِ الْإِنْجِيلِ لَهُ فَإِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بُعِثَ لِنُصْرَةِ التَّوْرَاةِ وَتَقْوِيَتِهَا وَإِرَادَةِ الْعَلَانِيَةِ وَالظُّهُورِ وَاسْتُكْمِلَ الْحَقُّ وَاسْتُوْفِيَتْ الْمَصَالِحُ وَوَصَلَ الْبَيَانُ وَالْكَمَالُ فِي الشَّرْعِ إلَى أَقْصَى غَايَتِهِ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْكُتُبُ بِاسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِهَتِهِ وَقِبَلِهِ عَلَى الْمَجَازِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَمِنْ ذَلِكَ { يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنْ اللَّيْلِ } الْحَدِيثَ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّهُ تَنْزِلُ رَحْمَتُهُ فَسَمَّاهَا بِاسْمِهِ لِكَوْنِهَا مِنْ قِبَلِهِ وَمِنْ أَثَرِهِ كَذَلِكَ هَذِهِ الْمُثُلُ الْقَائِلَةُ فِي النَّوْمِ أَنَا اللَّهُ هُوَ صَحِيحٌ جَائِزٌ عَلَى الْمَجَازِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّ اللَّهَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْخَلَائِقِ فِي صُورَةٍ يُنْكِرُونَهَا وَيَقُولُونَ : لَسْت رَبَّنَا } فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِيهِمْ فِي صُورَةٍ ، وَتَسْمِيَتُهُ لِهَذِهِ الصُّورَةِ بِاسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ ؛ لِأَنَّهَا صُورَةٌ مِنْ

آثَارِهِ ، وَفِتْنَةٌ يَخْتَبِرُ بِهَا خَلْقَهُ فَهَذِهِ الْمُلَازَمَةُ وَالْعَلَاقَةُ حُسْنُ إطْلَاقِ لَفْظِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَيْهَا مَجَازًا كَمَا تَقَدَّمَ فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْمُثُلُ فِي النَّوْمِ حُكْمُهَا حُكْمُ هَذِهِ الْأَجْسَامِ فِي الْيَقَظَةِ ( الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ ) : أَنْ يَرَى هَذِهِ الصُّورَةَ الْحَسَنَةَ الْجِسْمِيَّةَ ، وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّهَا اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - حَقِيقَةً ، وَلَا يَخْطِرُ لَهُ فِي النَّوْمِ مَعْنَى الْمَجَازِ أَلْبَتَّةَ ، فَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً ، وَيَكُونَ الْمُرَادُ الْمَجَازَ ، وَلَكِنَّهُ جَهْلُ الْمَجَازِ فَكَانَ الْغَلَطُ مِنْهُ لَا فِي الرُّؤْيَا بَلْ فِي الْمُرَادِ بِهَا كَمَا يَرِدُ اللَّفْظُ فِي الْيَقَظَةِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَجَازُ وَالسَّامِعُ يَفْهَمُ الْحَقِيقَةَ كَمَا اتَّفَقَ لِلْحَشَوِيَّةِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ فَكَانَ الْغَلَطُ مِنْهُمْ لَا فِي الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ بَلْ فِي الْمُرَادِ بِهَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ كَذِبًا وَمُحَالًا ، وَالشَّيْطَانُ يُخَيِّلُ لَهُ بِذَلِكَ لِيَضِلَّهُ أَوْ يُخْزِيَهُ ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مَكَائِدِهِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - فَهَذِهِ الرُّؤْيَا مَوْضِعُ التَّثَبُّتِ وَالْخَوْفِ مِنْ الْغَلَطِ ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ هَذَا الرَّائِي وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْزِمَ بِأَنَّ الَّذِي رَآهُ لَيْسَ رَبَّهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ بَلْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ أَعْنِي مِنْ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ عَلَى الْمَجَازِ ، أَوْ كَاذِبَةٌ وَمُحَالٌ مِنْ تَخْيِيلِ الشَّيْطَانِ وَاقِعٌ لَهُ وَيَنْظُرُ مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ مِنْهُمَا فَيَعْتَقِدُهُ فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ أَعْرَضَ عَنْ الرُّؤْيَا بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ الصَّوَابُ ، وَلَا يَعْتَقِدَ مَعَ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ أَنَّهَا حَقٌّ ، وَأَنَّ الَّذِي رَآهُ رَبُّهُ ، وَإِلَّا فَهُوَ كَافِرٌ لَكِنْ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِ الْحَشَوِيَّةِ نَعَمْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْجِسْمُ بِاعْتِبَارِ مَا فِي حَالَتِهِ مِنْ الْحَقَارَةِ وَمُنَافَاةِ الرُّبُوبِيَّةِ مِمَّا يُجْمِعُ الْأُمَّةُ حَتَّى الْحَشَوِيَّةَ عَلَى التَّكْفِيرِ مَنْ يَعْتَقِدُ

فِيهَا الرُّبُوبِيَّةَ كَصُورَةِ الدَّجَّالِ وَصُورَةِ فَرَسٍ وَنَحْوِهِ مِنْ السِّبَاعِ أَوْ غَيْرِهَا وَصُورَةِ رَجُلٍ فِي طَاقٍ أَوْ خِزَانَةٍ أَوْ مَطْمُورَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تُحِيلُهُ الْحَشَوِيَّةُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى ؛ إذْ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْحَشَوِيَّةَ لَيْسَتْ كُفَّارًا إنَّمَا هُوَ مَعَ قَوْلِهِمْ بِالتَّنَزُّهِ عَنْ الْعَوَرِ وَالْعَمَى وَالْآفَاتِ وَالنَّقَائِصِ بَلْ اقْتَصَرُوا عَلَى الْجِسْمِيَّةِ خَاصَّةً مَعَ التَّنْزِيهِ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ فَمَنْ اعْتَقَدَ الْجِسْمِيَّةَ مَعَ بَعْضِ صِفَاتِ النَّقْصِ ، فَأَوَّلُ مَنْ يُكَفِّرُهُ الْحَشَوِيَّةُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهَذَا تَفْصِيلُ الْأَحْوَالِ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - .

( الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ ) فِي تَحْقِيقِ مِثْلِ الرُّؤْيَا وَبَيَانِهَا اعْلَمْ أَنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ الْمُثُلِ عَلَى الْمَعَانِي كَدَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ الصَّوْتِيَّةِ ، وَالرُّقُومِ الْكِتَابِيَّةِ عَلَيْهَا ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَقَعُ فِيهَا جَمِيعُ مَا يَقَعُ فِي الْأَلْفَاظِ مِنْ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُتَوَاطِئِ وَالْمُتَرَادِفِ وَالْمُتَبَايِنِ وَالْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَفْهُومِ وَالْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ وَالْمُطْلَقِ وَالْمُفِيدِ وَالتَّصْحِيفِ وَالْقَلْبِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَالْمَعَارِيضِ حَتَّى يَقَعَ فِيهِ مَا يَقَعُ فِي الْأَلْفَاظِ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ أَبُو يُوسُفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزَيْدٌ زُهَيْرٌ شِعْرًا وَحَاتِمٌ جُودًا ، وَجَمِيعُ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ فَالْمُشْتَرَكُ كَالْفِيلِ هُوَ مَلِكٌ أَعْجَمِيٌّ ، وَهُوَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ نَقَلَهُ الْكَرْمَانِيُّ ؛ لِأَنَّ عَادَةَ الْهِنْدِ إذَا طَلَّقَ أَحَدٌ ثَلَاثًا جَرَّسُوهُ عَلَى فِيلٍ فَلَمَّا كَانَ مِنْ لَوَازِمِ الطَّلَاقِ عُبِّرَ بِهِ عَنْ الطَّلَاقِ ، وَالْمُتَوَاطِئُ كَالشَّجَرَةِ ، وَهُوَ رَجُلٌ أَيَّ رَجُلٍ كَانَ دَالَّةً عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ جَمِيعِ الرِّجَالِ ثُمَّ إنْ كَانَتْ تَنْبُتُ فِي الْعَجَمِ فَهُوَ رَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ ، أَوْ عِنْدَ الْعَرَبِ فَهُوَ رَجُلٌ عَرَبِيٌّ أَوْ لَا ثَمَرَ لَهَا فَلَا خَيْرَ فِيهِ أَوْ لَهَا شَوْكٌ فَهُوَ كَثِيرُ الشَّرِّ أَوْ ثَمَرُهَا لَهُ قِشْرٌ فَلَهُ خَيْرٌ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ مَشَقَّةٍ أَوْ لَا قِشْرَ لَهُ كَالتُّفَّاحِ فَيُوصَلُ لِخَيْرِهِ بِلَا مَشَقَّةٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَهَذَا هُوَ الْمُقَيَّدُ وَالْمُطْلَقُ فَحَصَلَتْ الْأُمُورُ بِالْقُيُودِ الْخَارِجَةِ ، وَكَذَلِكَ يَقَعُ التَّقْيِيدُ بِأَحْوَالِ الرَّائِي فَالصَّاعِدُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَلِي وِلَايَةً فَالْوِلَايَةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْوِلَايَاتِ وَمُطْلَقَةٌ فَإِنْ كَانَ الرَّائِي فَقِيهًا كَانَتْ الْوِلَايَةُ قَضَاءً أَوْ أَمِيرًا فَوَالٍ أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمُلْكِ فَمَلِكٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ تَنْصَرِفُ لِلْخَيْرِ بِقَرِينَةِ الرَّائِي وَحَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا الشَّرَّ ، وَتَنْصَرِفُ

لِلشَّرِّ بِقَرِينَةِ الرَّائِي وَحَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا الْخَيْرَ كَمَنْ رَأَى أَنَّهُ مَاتَ فَالرَّجُلُ الْخَيِّرُ مَاتَتْ حُظُوظُهُ وَصَلَحَتْ نَفْسُهُ ، وَالرَّجُلُ الشِّرِّيرُ مَاتَ قَلْبُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } أَيْ كَافِرًا فَأَسْلَمَ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ } أَيْ الْكَافِرَ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْمُسْلِمَ مِنْ الْكَافِرِ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ ، وَالْمُتَرَادِفَةُ كَالْفَاكِهَةِ فَالصَّفْرَاءُ تَدُلُّ عَلَى الْهَمِّ وَحَمْلُ الصَّغِيرِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا وَالْمُتَبَايِنُ كَالْأَخْذِ مِنْ الْمَيِّتِ وَالدَّفْعِ لَهُ الْأَوَّلُ جَيِّدٌ ؛ لِأَنَّهُ كَسْبٌ مِنْ جِهَةٍ مَيْئُوسٍ مِنْهَا ، وَالثَّانِي رَدِيءٌ ؛ لِأَنَّهُ صَرْفُ رِزْقٍ لِمَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ ، وَرُبَّمَا كَانَ لِمَنْ لَا دِينَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الدِّينَ ذَهَبَ عَنْ الْمَوْتَى لِذَهَابِ التَّكْلِيفِ عَنْهُمْ ، وَالْمَجَازُ وَالْحَقِيقَةُ كَالْبَحْرِ هُوَ السُّلْطَانُ حَقِيقَةً وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنْ سَعَةِ الْعِلْمِ مَجَازًا ، وَالْعُمُومُ كَمَنْ رَأَى أَنَّ أَسْنَانَهُ كُلَّهَا سَقَطَتْ فِي التُّرَابِ فَإِنَّهُ يَمُوتُ أَقَارِبُهُ كُلُّهَا ، فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إنَّمَا يَمُوتُ بَعْضُ أَقَارِبِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فَهُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَكَالرُّؤْيَا يَرَاهَا الرَّائِي لِشَخْصٍ ، وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ يُشْبِهُهُ أَوْ بَعْضُ أَقَارِبِهِ ، أَوْ مَنْ تَسَمَّى بِاسْمِهِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّنْ يُشَارِكُهُ فِي صِفَتِهِ فَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِهِ كَمَا عَبَّرْنَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِأَبِي حَنِيفَةَ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي صِفَةِ الْفِقْهِ وَعَبَّرْنَا عَنْ زَيْدٍ بِزُهَيْرٍ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي الشَّعْرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمُثُلِ وَالْقَلْبِ كَمَا رَأَى الْمِصْرِيُّونَ أَنَّ رَوَاسَا أَخَذَ مِنْهُمْ الْمُلْكَ فَعَبَّرَ لَهُمْ بِأَنَّ شَاوَرَ يَأْخُذُهُ وَكَانَ كَذَلِكَ وَقَلَبَ رواس شَاوَرَ وَجَمْعُ هَذَا الْمِثَالِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالتَّصْحِيفِ فَإِنَّ السِّينَ الْمُهْمَلَةَ صُحِّفَتْ

بِالْمُعْجَمَةِ الَّتِي هِيَ الشِّينُ وَرَأَى مَلِكُ الْعَرَبِ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ : خَالِفْ الْحَقَّ مِنْ عُذْرٍ فَقِيلَ : لَهُ أَنْتَ تَقْصِدُ النَّكْثَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَحَذِرْت مِنْ ذَلِكَ فِي الرُّؤْيَا خَالِفْ الْحَقَّ مِنْ غَدْرٍ فَدَخَلَهُ التَّصْحِيفُ فَقَطْ وَبَسْطُ هَذِهِ التَّفَاصِيلِ فِي كُتُبِ التَّعْبِيرِ وَإِنَّمَا قَصَدْت التَّنْبِيهَ عَلَى هَذِهِ الْمُثُلِ كَالْأَلْفَاظِ فِي الدَّلَالَةِ ، وَأَنَّهَا تُشَارِكُهَا فِي أَحْوَالِهَا ( تَنْبِيهٌ ) اعْلَمْ أَنَّ تَفْسِيرَ الْمَنَامَاتِ قَدْ اتَّسَعَتْ تَقْيِيدَاتُهُ وَتَشَعَّبَتْ تَخْصِيصَاتُهُ وَتَنَوَّعَتْ تَعْرِيفَاتُهُ بِحَيْثُ صَارَ الْإِنْسَانُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَعْتَمِدَ فِيهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْمَنْقُولَاتِ لِكَثْرَةِ التَّخْصِيصَاتِ بِأَحْوَالِ الرَّائِينَ بِخِلَافِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَالتَّحَدُّثِ فِي الْفِقْهِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُلُومِ فَإِنَّ ضَوَابِطَهَا إمَّا مَحْصُورَةٌ أَوْ قَرِيبَةٌ مِنْ الْحَصْرِ وَعِلْمُ الْمَنَامَاتِ مُنْتَشِرٌ انْتِشَارًا شَدِيدًا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ ضَبْطٍ فَلَا جَرَمَ احْتَاجَ النَّاظِرُ فِيهِ مَعَ ضَوَابِطِهِ وَقَرَائِنِهِ إلَى قُوَّةٍ مِنْ قُوَى النُّفُوسِ الْمُعِينَةِ عَلَى الْفِرَاسَةِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ بِحَيْثُ إذَا تَوَجَّهَ الْحَزْرُ إلَى شَيْءٍ لَا يَكَادُ يُخْطِئُ بِسَبَبِ مَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي تِلْكَ النُّفُوسِ مِنْ الْقُوَّةِ الْمُعِينَةِ عَلَى تَقْرِيبِ الْغَيْبِ أَوْ تَحَقُّقِهِ كَمَا قِيلَ فِي ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : إنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إلَى الْغَيْبِ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ رَقِيقٍ إشَارَةً إلَى قُوَّةٍ أَوْدَعَهُ اللَّهُ إيَّاهَا فَرَأَى بِمَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي نَفْسِهِ مِنْ الصَّفَاءِ وَالشُّفُوفِ وَالرِّقَّةِ وَاللَّطَافَةِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ .
وَقَدْ يَهَبُهُ اللَّهُ - تَعَالَى - ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمَنَامَاتِ فَقَطْ أَوْ بِحِسَابِ عِلْمِ الرَّمْلِ فَقَطْ أَوْ الْكَتْفِ الَّذِي لِلْغَنَمِ فَقَطْ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَنْفَتِحُ لَهُ بِصِحَّةِ

الْقَوْلِ وَالنُّطْقِ فِي غَيْرِهِ ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ قُوَّةُ نَفْسٍ فِي هَذَا النَّوْعِ صَالِحَةٍ لِعِلْمِ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا ، وَلَا يَكَادُ يُصِيبُ إلَّا عَلَى النُّدْرَةِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ التَّوَجُّهُ إلَى عِلْمِ التَّعْبِيرِ فِي الرُّؤْيَا ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ قُوَّةُ نَفْسٍ فَهُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِتَعْبِيرِهِ وَقَدْ رَأَيْت مِمَّنْ لَهُ قُوَّةُ نَفْسٍ مَعَ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ فَكَانَ يَتَحَدَّثُ بِالْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ فِي الْمَنَامِ اللَّطِيفِ وَيُخْرِجُ مِنْهُ الْأَشْيَاءَ الْكَثِيرَةَ وَالْأَحْوَالَ الْمُتَبَايِنَةَ وَيُخْبِرُ فِيهِ عَنْ الْمَاضِيَاتِ وَالْحَاضِرَاتِ وَالْمُسْتَقْبِلَات وَيَنْتَهِي فِي الْمَنَامِ الْيَسِيرِ إلَى نَحْوِ الْمِائَةِ مِنْ الْأَحْكَامِ بِالْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ حَتَّى يَقُولَ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِأَحْوَالِ قُوَى النُّفُوسِ : إنَّ هَذَا مِنْ الْجَانِّ أَوْ الْمُكَاشَفَةِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ هُوَ قُوَّةُ نَفْسٍ يَجِدُ بِسَبَبِهَا تِلْكَ الْأَحْوَالَ عِنْدَ تَوَجُّهِهِ لِلْمَنَامِ ، وَلَيْسَ هُوَ صَلَاحٌ ، وَلَا كَشْفٌ ، وَلَا مِنْ قِبَلِ الْجَانِّ وَقَدْ رَأَيْت أَنَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ جَمَاعَةً وَاخْتَبَرْتُهُمْ فَمَنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ قُوَّةُ نَفْسٍ عَسُرَ عَلَيْهِ تَعَاطِي عِلْمِ التَّعْبِيرِ ، وَلَا يَنْبَغِي لَك أَنْ تَطْمَعَ فِي أَنْ يَحْصُلَ لَك بِالتَّعَلُّمِ وَالْقِرَاءَةِ وَحِفْظِ الْكُتُبِ إذَا لَمْ تَكُنْ لَك قُوَّةُ نَفْسٍ فَلَا تَجِدُ ذَلِكَ أَبَدًا ، وَمَتَى كَانَتْ لَك هَذِهِ الْقُوَّةُ حَصَلَ ذَلِكَ بِأَيْسَرِ سَعْيٍ وَأَدْنَى ضَبْطٍ فَاعْلَمْ هَذِهِ الدَّقِيقَةَ فَقَدْ خَفِيَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ

( الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ ) تَحْقِيقُ مِثْلِ الرُّؤْيَا ، وَبَيَانُهَا هُوَ أَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الْمَعَانِي كَدَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ الصَّوْتِيَّةِ وَالرُّقُومِ الْكِتَابِيَّةِ عَلَيْهَا فَكَمَا يَقَعُ فِي دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَعَانِيهَا مِنْ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُتَوَاطِئِ وَالتَّرَادُفِ وَالْمُتَبَايِنِ وَالْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَفْهُومِ وَالْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ وَالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ وَالتَّصْحِيفِ وَالْقَلْبِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَالْمُعَارِضِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ كَذَلِكَ يَقَعُ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ فِي دَلَالَةِ هَذِهِ الْمُثُلِ عَلَى الْمَعَانِي حَتَّى يَقَعَ فِيهَا مَا يَقَعُ فِي الْأَلْفَاظِ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ أَبُو يُوسُفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزَيْدٌ زُهَيْرٌ شِعْرًا وَحَاتِمٌ جُودًا وَجَمِيعُ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ فَالْمُشْتَرَكُ كَالْفِيلِ هُوَ مَلِكٌ أَعْجَمِيٌّ ، وَهُوَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ نَقَلَهُ الْكَرْمَانِيُّ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عَادَةَ الْهِنْدِ إذَا طَلَّقَ أَحَدٌ ثَلَاثًا جَرَّسُوهُ عَلَى فِيلٍ فَمَا كَانَ مِنْ لَوَازِمِ الطَّلَاقِ عُبِّرَ بِهِ عَنْ الطَّلَاقِ ، وَالْمُتَوَاطِئُ كَالشَّجَرَةِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ جَمِيعِ الرِّجَالِ وَالْمُقَيَّدِ وَالْمُطْلَقِ فِيمَا إذَا كَانَتْ تَنْبُتُ فِي الْعَجَمِ فَهُوَ رَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ أَوْ عِنْدَ الْعَرَبِ فَهُوَ رَجُلٌ عَرَبِيٌّ أَوْ لَا ثَمَرَ لَهَا فَلَا خَيْرَ فِيهِ أَوْ لَهَا شَوْكٌ فَهُوَ كَثِيرُ الشَّرِّ أَوْ ثَمَرُهَا لَهُ قِشْرٌ كَالرُّمَّانِ فَلَهُ خَيْرٌ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ مَشَقَّةٍ أَوْ لَا قِشْرَ لَهُ كَالتُّفَّاحِ وَالْخَوْخِ فَيُوصَلُ لِخَبَرِهِ بِلَا مَشَقَّةٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَكَمَا وَقَعَ التَّقْيِيدُ بِالْقُيُودِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْمَرْئِيِّ كَذَلِكَ يَقَعُ بِأَحْوَالِ الرَّائِي فَالصَّاعِدُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَلِي وِلَايَةً وَالْوِلَايَةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْوِلَايَاتِ وَمُطْلَقَةٌ .
فَإِنْ كَانَ الرَّائِي فَقِيهًا كَانَتْ الْوِلَايَةُ قَضَاءً أَوْ أَمِيرًا فَوَالٍ أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمُلْكِ فَمَلِكٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ بِقَرِينَةِ الرَّائِي ، وَحَالُهُ

تَنْصَرِفُ لِلْخَيْرِ ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا الشَّرَّ وَلِلشَّرِّ ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا الْخَيْرَ فَمَنْ رَأَى أَنَّهُ مَاتَ فَالرَّجُلُ الْخَيِّرُ مَاتَتْ حُظُوظُهُ ، وَصَلُحَتْ نَفْسُهُ ، وَالرَّجُلُ الشِّرِّيرُ مَاتَ قَلْبُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } أَيْ كَافِرًا فَأَسْلَمَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ } أَيْ الْكَافِرَ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْمُسْلِمَ مِنْ الْكَافِرِ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ ، وَالْمُتَرَادِفَةُ كَالْفَاكِهَةِ فَالصَّفْرَاءُ تَدُلُّ عَلَى الْهَمِّ ، وَحَمْلُ الصَّغِيرِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَالْمُتَبَايِنُ كَالْأَخْذِ مِنْ الْمَيِّتِ وَالدَّفْعِ لَهُ فَالْأَوَّلُ جَيِّدٌ ؛ لِأَنَّهُ كَسْبٌ مِنْ جِهَةٍ مَيْئُوسٍ مِنْهَا ، وَالثَّانِي رَدِيءٌ ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ وَرِزْقٌ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ ، وَرُبَّمَا كَانَ لِمَنْ لَا دِينَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الدِّينَ ذَهَبَ عَنْ الْمَوْتَى لِذَهَابِ التَّكْلِيفِ عَنْهُمْ وَالْمَجَازُ وَالْحَقِيقَةُ كَالْبَحْرِ هُوَ السُّلْطَانُ حَقِيقَةً وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنْ سِعَةِ الْعِلْمِ مَجَازًا ، وَالْعُمُومُ كَمَنْ رَأَى أَنَّ أَسْنَانَهُ سَقَطَتْ فِي التُّرَابِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ يَمُوتُ أَقَارِبُهُ كُلُّهَا فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ يَمُوتُ بَعْضُ أَقَارِبِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فَهُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ .
وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ أَبُو حَنِيفَةَ فَكَالرُّؤْيَا يَرَاهَا الرَّائِي لِشَخْصٍ ، وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ يُشْبِهُهُ أَوْ بَعْضُ أَقَارِبِهِ أَوْ مَنْ تَسَمَّى بِاسْمِهِ ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّنْ يُشَارِكُهُ فِي صِفَتِهِ فَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِهِ كَمَا عَبَّرْنَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِأَبِي حَنِيفَةَ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي صِفَةِ الْفِقْهِ وَعَبَّرْنَا عَنْ زَيْدٍ بِزُهَيْرٍ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي الشِّعْرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمُثُلِ ، وَالْقَلْبُ وَالتَّصْحِيفُ كَمَا رَأَى الْمِصْرِيُّونَ أَنَّ رَوَاسًا أَخَذَ مِنْهُمْ الْمُلْكَ فَعُبِّرَ لَهُمْ بِأَنَّ شَاوَرَ يَأْخُذُهُ وَكَانَ كَذَلِكَ فَقَلَبَ وَصُحِّفَ رُوَاسٌ ،

وَالتَّصْحِيفُ فَقَطْ كَمَا رَأَى مَلِكُ الْعَرَبِ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ خَالِفْ الْحَقَّ مِنْ عُذْرٍ فَقِيلَ لَهُ : أَنْتَ تَقْصِدُ النَّكْثَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَحَذِرْت مِنْ ذَلِكَ فِي الرُّؤْيَا ؛ إذْ الْمُرَادُ خَالِفْ الْحَقَّ مِنْ غَدْرٍ فَدَخَلَهُ التَّصْحِيفُ وَبَسْطُ هَذِهِ التَّفَاصِيلِ فِي كُتُبِ التَّعْبِيرِ ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُثُلَ كَالْأَلْفَاظِ فِي الدَّلَالَةِ ، وَأَنَّهَا تُشَارِكُهَا فِي أَحْوَالِهَا هَذَا تَنْقِيحُ مَا فِي الْأَصْلِ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مَعَ زِيَادَةٍ ( تَنْبِيهٌ ) قَالَ الْأَصْلُ : ضَوَابِطُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَالتَّحَدُّثِ فِي الْفِقْهِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُلُومِ مَحْصُورَةٌ أَوْ قَرِيبَةٌ مِنْ الْحَصْرِ فَيَقْدِرُ أَنْ يَعْتَمِدَ فِيهَا عَلَى مُجَرَّدِ الْمَنْقُولَاتِ وَأَمَّا عِلْمُ تَفْسِيرِ الْمَنَامَاتِ فَقَدْ اتَّسَعَتْ تَقْيِيدَاتُهُ وَتَشَعَّبَتْ تَخْصِيصَاتُهُ وَتَنَوَّعَتْ تَعْرِيفَاتُهُ بِحَيْثُ صَارَتْ مُنْتَشِرَةً انْتِشَارًا شَدِيدًا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ ضَبْطٍ فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُعْتَمَدَ فِيهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْمَنْقُولَاتِ لِكَثْرَةِ التَّخْصِيصَاتِ بِأَحْوَالِ الرَّائِينَ بَلْ لَا جَرَمَ يَحْتَاجُ النَّاظِرُ فِيهِ مَعَ ضَوَابِطِهِ وَقَرَائِنِهِ إلَى قُوَّةٍ مِنْ قُوَّةِ النُّفُوسِ الْمُعِينَةِ عَلَى الْفِرَاسَةِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ بِحَيْثُ إذَا تَوَجَّهَ الْحَزْرُ إلَى شَيْءٍ لَا يَكَادُ يُخْطِئُ بِسَبَبِ مَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي تِلْكَ النُّفُوسِ مِنْ الْقُوَّةِ الْمُعِينَةِ عَلَى تَقْرِيبِ الْغَيْبِ أَوْ تَحْقِيقِهِ كَمَا قِيلَ فِي ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : إنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إلَى الْغَيْبِ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ رَقِيقٍ إشَارَةً إلَى قُوَّةٍ أَوْدَعَهُ اللَّهُ إيَّاهَا فَرَأَى بِمَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي نَفْسِهِ مِنْ الصَّفَاءِ وَالشُّفُوفِ وَالرِّقَّةِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ عُلُومِ الْغَيْبِ مِنْ عِلْمِ تَعْبِيرِ الْمَنَامَاتِ وَحِسَابِ عِلْمِ الرَّمْلِ وَالْكَتْفِ الَّذِي لِلْغَنَمِ ،

وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَهَبُهُ اللَّهُ - تَعَالَى - ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ عِلْمِ الْمَنَامَاتِ فَقَطْ ، أَوْ بِحِسَابِ عِلْمِ الرَّمْلِ فَقَطْ أَوْ الْكَتْفِ الَّذِي لِلْغَنَمِ فَقَطْ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يُفْتَحُ لَهُ بِصِحَّةِ الْقَوْلِ وَالنُّطْقِ فِي غَيْرِهِ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ قُوَّةُ نَفْسٍ فِي هَذَا النَّوْعِ صَالِحَةٍ لِعِلْمِ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا ، وَلَا يَكَادُ يُصِيبُ إلَّا عَلَى النُّدْرَةِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ التَّوَجُّهُ إلَى عِلْمِ التَّعْبِيرِ فِي الرُّؤْيَا .
وَمَنْ كَانَتْ لَهُ قُوَّةُ نَفْسٍ فَهُوَ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِتَعْبِيرِهِ قَالَ : وَلَا يَنْبَغِي لَك أَنْ تَطْمَعَ فِي أَنْ يَحْصُلَ لَك بِالتَّعَلُّمِ وَالْقِرَاءَةِ وَحِفْظِ الْكُتُبِ ؛ لِأَنَّك إذَا لَمْ تَكُنْ لَك قُوَّةُ نَفْسٍ فَلَا تَجِدُ ذَلِكَ أَبَدًا وَمَتَى كَانَتْ لَك هَذِهِ الْقُوَّةُ حَصَلَ ذَلِكَ بِأَيْسَرِ سَعْيٍ وَأَدْنَى ضَبْطٍ فَاعْلَمْ هَذِهِ الدَّقِيقَةَ فَقَدْ خَفِيَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ ، قَالَ : وَقَدْ رَأَيْت مِمَّنْ لَهُ قُوَّةُ نَفْسٍ مَعَ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ فَكَانَ يَتَحَدَّثُ بِالْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ فِي الْمَنَامِ اللَّطِيفِ ، وَيُخْرِجُ مِنْهُ الْأَشْيَاءَ الْكَثِيرَةَ وَالْأَحْوَالَ الْمُتَبَايِنَةَ ، وَيُخْبِرُ فِيهِ عَنْ الْمَاضِيَاتِ وَالْحَاضِرَاتِ وَالْمُسْتَقْبِلَات ، وَيَنْتَهِي فِي الْمَنَامِ الْيَسِيرِ إلَى نَحْوِ الْمِائَةِ مِنْ الْأَحْكَامِ بِالْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ حَتَّى يَقُولَ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِأَحْوَالِ قُوَى النُّفُوسِ : إنَّ هَذَا مِنْ الْجَانِّ أَوْ الْمُكَاشَفَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ هُوَ نَفْسٌ يَجِدُ بِسَبَبِهَا تِلْكَ الْأَحْوَالَ عِنْدَ تَوَجُّهِهِ لِلْمَنَامِ وَلَيْسَ هُوَ صَلَاحًا ، وَلَا كَشْفًا وَلَا مِنْ قِبَلِ الْجَانِّ قَالَ : وَقَدْ رَأَيْت أَنَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ جَمَاعَةً وَاخْتَبَرْتُهُمْ فَمَنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ قُوَّةُ نَفْسٍ عَسُرَ عَلَيْهِ تَعَاطِي عِلْمِ التَّعْبِيرِ ا هـ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ - وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُبَاحُ فِي عِشْرَةِ النَّاسِ مِنْ الْمُكَارَمَةِ وَقَاعِدَةِ مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ ) اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يُبَاحُ مِنْ إكْرَامِ النَّاسِ قِسْمَانِ ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) : مَا وَرَدَتْ بِهِ نُصُوصُ الشَّرِيعَةِ مِنْ إفْشَاءِ السَّلَامِ وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَالْمُصَافَحَةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَالِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ الدُّخُولِ ، وَأَنْ لَا يَجْلِسَ عَلَى تَكْرِمَةِ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِهِ أَيْ عَلَى فِرَاشِهِ ، وَلَا يَؤُمَّ فِي مَنْزِلِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ أَحَدًا فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ } وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ ( الْقِسْمُ الثَّانِي ) مَا لَمْ يَرِدْ فِي النُّصُوصِ وَلَا كَانَ فِي السَّلَفِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ أَسْبَابُ اعْتِبَارِهِ مَوْجُودَةً حِينَئِذٍ وَتَجَدَّدَتْ فِي عَصْرِنَا فَتَعَيَّنَ فِعْلُهُ لِتَجَدُّدِ أَسْبَابِهِ ؛ لِأَنَّهُ شَرْعٌ مُسْتَأْنَفٌ بَلْ عُلِمَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ لَوْ وُجِدَتْ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ لَكَانَتْ هَذِهِ الْمُسَبِّبَاتُ مِنْ فِعْلِهِمْ وَصُنْعِهِمْ وَتَأَخَّرَ الْحُكْمُ لِتَأَخُّرِ سَبَبِهِ وَوُقُوعُهُ عِنْدَ وُقُوعِ سَبَبِهِ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ تَجْدِيدَ شَرْعٍ وَلَا عَدَمَهُ كَمَا لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - حُكْمًا فِي اللِّوَاطِ مِنْ رَجْمٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْعُقُوبَاتِ فَلَمْ يُوجَدْ اللِّوَاطُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَوُجِدَ فِي زَمَنِنَا اللِّوَاطُ فَرَتَّبْنَا عَلَيْهِ تِلْكَ الْعُقُوبَةَ لَمْ نَكُنْ مُجَدِّدِينَ لِشَرْعٍ بَلْ مُتَّبِعِينَ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ نَعْلَمَ ذَلِكَ بِنَصٍّ أَوْ بِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ مَا فِي زَمَانِنَا مِنْ الْقِيَامِ لِلدَّاخِلِ مِنْ الْأَعْيَانِ وَإِحْنَاءِ الرَّأْسِ لَهُ إنْ عَظُمَ قَدْرُهُ جِدًّا وَالْمُخَاطَبَةُ بِجَمَالِ الدِّينِ وَنُورِ الدِّينِ وَعِزِّ الدِّينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النُّعُوتِ

وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْأَسْمَاءِ وَالْكُنَى وَالْمُكَاتَبَاتِ بِالنُّعُوتِ أَيْضًا كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِهِ وَتَسْطِيرِ اسْمِ الْإِنْسَانِ بِالْمَمْلُوكِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالتَّعْبِيرِ عَنْ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ بِالْمَجْلِسِ الْعَالِي وَالسَّامِي وَالْجَنَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ الْعُرْفِيَّةِ وَالْمُكَاتَبَاتِ الْعَادِيَّةِ وَمِنْ ذَلِكَ تَرْتِيبُ النَّاسِ فِي الْمَجَالِسِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي ذَلِكَ ، وَأَنْوَاعُ الْمُخَاطَبَاتِ لِلْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَأُولِي الرِّفْعَةِ مِنْ الْوُلَاةِ وَالْعُظَمَاءِ فَهَذَا كُلُّهُ وَنَحْوُهُ مِنْ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ لَمْ تَكُنْ فِي السَّلَفِ .
وَنَحْنُ الْيَوْمَ نَفْعَلُهُ فِي الْمُكَارَمَاتِ وَالْمُوَلَّاةِ ، وَهُوَ جَائِزٌ مَأْمُورٌ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ بِدْعَةً وَلَقَدْ حَضَرْت يَوْمًا عِنْدَ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ وَأُولِي الْجِدِّ فِي الدِّينِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً وَعَامَّةً وَالثَّبَاتِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِالْمُلُوكِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ فَقَدِمَتْ إلَيْهِ فُتْيَا فِيهَا : مَا تَقُولُ أَئِمَّةُ الدِّينِ - وَفَّقَهُمْ اللَّهُ - فِي الْقِيَامِ الَّذِي أَحْدَثَهُ أَهْلُ زَمَانِنَا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي السَّلَفِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا يَجُوزُ وَيَحْرُمُ فَكَتَبَ إلَيْهِ فِي الْفُتْيَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَبَاغَضُوا ، وَلَا تَحَاسَدُوا ، وَلَا تَدَابَرُوا ، وَلَا تَقَاطَعُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا } وَتَرْكُ الْقِيَامِ فِي هَذَا الْوَقْتِ يُفْضِي لِلْمُقَاطَعَةِ وَالْمُدَابَرَةِ فَلَوْ قِيلَ : بِوُجُوبِهِ مَا كَانَ بَعِيدًا هَذَا نَصُّ مَا كُتِبَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ، وَلَا نُقْصَانٍ فَقَرَأْتهَا بَعْدَ كِتَابَتِهَا فَوَجَدْتهَا هَكَذَا ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقَضِيَّةٌ عَلَى قَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ أَيْ يُحْدِثُوا أَسْبَابًا يَقْتَضِي الشَّرْعُ فِيهَا أُمُورًا لَمْ تَكُنْ قَبْلَ

ذَلِكَ لِأَجْلِ عَدَمِ سَبَبِهَا قَبْلَ ذَلِكَ لَا ؛ لِأَنَّهَا شَرْعٌ مُتَجَدِّدٌ كَذَلِكَ هَا هُنَا فَعَلَى هَذَا الْقَانُونِ يَجْرِي هَذَا الْقِسْمُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُبِيحَ مُحَرَّمًا ، وَلَا يَتْرُكَ وَاجِبًا فَلَوْ كَانَ الْمَلِكُ لَا يَرْضَى مِنْهُ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَعَاصِي لَمْ يَحِلَّ لَنَا أَنْ نُوَادَّهُ بِذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ النَّاسِ ، وَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ ، وَإِنَّمَا هَذِهِ الْأَسْبَابُ الْمُتَجَدِّدَةُ كَانَتْ مَكْرُوهَةً مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ فَلَمَّا تَجَدَّدَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ صَارَ تَرْكُهَا يُوجِبُ الْمُقَاطَعَةَ الْمُحَرَّمَةَ وَإِذَا تَعَارَضَ الْمَكْرُوهُ وَالْمُحَرَّمُ قُدِّمَ الْمُحَرَّمُ وَالْتُزِمَ دَفْعُهُ وَحَسْمُ مَادَّتِهِ ، وَإِنْ وَقَعَ الْمُكْرَهُ هَذَا هُوَ قَاعِدَةُ الشَّرْعِ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا التَّعَارُضُ مَا وَقَعَ إلَّا فِي زَمَانِنَا فَاخْتَصَّ الْحُكْمُ بِهِ وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ إمَّا مُحَرَّمٌ فَلَا تَجُوزُ الْمُوَادَّةُ بِهِ أَوْ مَكْرُوهٌ فَلَمْ يَحْصُلْ فِيهِ تَعَارُضٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَرَّمٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ نَهْيَ تَنْزِيهٍ قُلْت : فَيَنْقَسِمُ الْقِيَامُ إلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ مُحَرَّمٌ إنْ فُعِلَ تَعْظِيمًا لِمَنْ يُحِبُّهُ تَجَبُّرًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَمَكْرُوهٌ إذَا فُعِلَ تَعْظِيمًا لِمَنْ لَا يُحِبُّهُ ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ فِعْلَ الْجَبَابِرَةِ وَيُوقِعُ فَسَادَ قَلْبِ الَّذِي يُقَامُ لَهُ ، وَمُبَاحٌ إذَا فُعِلَ إجْلَالًا لِمَنْ لَا يُرِيدُهُ ، وَمَنْدُوبٌ لِلْقَادِمِ مِنْ السَّفَرِ فَرَحًا بِقُدُومِهِ لِيُسَلِّمَ عَلَيْهِ أَوْ يَشْكُرَ إحْسَانَهُ أَوْ الْقَادِمِ الْمُصَابِ لِيُعَزِّيَهُ بِمُصِيبَتِهِ ؛ وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ النَّاسُ أَوْ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } وَبَيَّنَ قِيَامَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ لَمَّا قَدِمَ مِنْ الْيَمَنِ فَرَحًا بِقُدُومِهِ ، وَقِيَامِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ لِيُهَنِّئَهُ بِتَوْبَةِ

اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِ بِحُضُورِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَكَانَ كَعْبٌ يَقُولُ : لَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ { وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَكْرَهُ أَنْ يُقَامَ لَهُ } فَكَانُوا إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لَهُ إجْلَالًا لِكَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ وَإِذَا قَامَ إلَى بَيْتِهِ لَمْ يَزَالُوا قِيَامًا حَتَّى يَدْخُلَ بَيْتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ تَعْظِيمِهِ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِكَرَاهَةِ ذَلِكَ ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْأَنْصَارِ { قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ } قِيلَ تَعْظِيمًا لَهُ ، وَهُوَ لَا يُحِبُّ ذَلِكَ .
وَقِيلَ : لِيُعِينُوهُ عَلَى النُّزُولِ عَنْ الدَّابَّةِ قُلْت : وَالنَّهْيُ الْوَارِدُ عَنْ مَحَبَّةِ الْقِيَامِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ ذَلِكَ تَجَبُّرًا أَمَّا مَنْ أَرَادَهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَالنَّقِيصَةِ بِهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْهَى عَنْهُ ؛ لِأَنَّ مَحَبَّةَ دَفْعِ الْأَسْبَابِ الْمُؤْلِمَةِ مَأْذُونٌ فِيهَا بِخِلَافِ التَّكَبُّرِ ، وَمَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ تَجَبُّرًا أَيْضًا لَا يُنْهَى عَنْ الْمَحَبَّةِ وَالْمَيْلِ لِذَلِكَ الطَّبِيعِيِّ بَلْ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَذِيَّةِ النَّاسِ إذَا لَمْ يَقُومُوا وَمُؤَاخَذَتِهِمْ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْأُمُورَ الْجِبِلِّيَّةَ لَا يُنْهَى عَنْهَا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَشْرُوعِ مِنْ الْمُوَادَّةِ وَغَيْرِ الْمَشْرُوعِ

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُبَاحُ فِي عِشْرَةِ النَّاسِ مِنْ الْمُكَارَمَةِ وَقَاعِدَةِ مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ ) وَهُوَ أَنَّ مَا يُبَاحُ مِنْ إكْرَامِ النَّاسِ قِسْمَانِ مَا وَرَدَتْ بِهِ نُصُوصُ الشَّرِيعَةِ وَمَا لَمْ تَرِدْ بِهِ نُصُوصُهَا ، وَلَا كَانَ فِي السَّلَفِ وَلَكِنْ تَجَدَّدَتْ فِي حَصْرِنَا أَسْبَابُ اعْتِبَارِهِ بِمُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ فَتَعَيَّنَ فِعْلُهُ ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِقَوْلِهِ : تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ عَلَى قَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ .
إذْ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُحْدِثُونَ أَسْبَابًا يَقْتَضِي الشَّرْعُ فِيهَا أُمُورًا لَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَجْلِ عَدَمِ سَبَبِهَا قَبْلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا شَرْعٌ مُتَجَدِّدٌ بَلْ عُلِمَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ لَوْ وُجِدَتْ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ لَكَانَتْ هَذِهِ الْمُسَبِّبَاتُ مِنْ فِعْلِهِمْ وَصُنْعِهِمْ ، وَلَكِنْ تَأَخَّرَ الْحُكْمُ لِتَأَخُّرِ سَبَبِهِ ، وَلَا يَقْتَضِي وُقُوعُ الْحُكْمِ عِنْدَ وُقُوعِ سَبَبِهِ تَجْدِيدَ شَرْعٍ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَوْ أَنْزَلَ حُكْمًا فِي اللِّوَاطِ مِنْ رَجْمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُقُوبَاتِ فَلَمْ يُوجَدْ اللِّوَاطُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ وَوُجِدَ فِي زَمَنِنَا اللِّوَاطُ فَرَتَّبْنَا عَلَيْهِ تِلْكَ الْعُقُوبَةَ لَمْ نَكُنْ مُجَدِّدِينَ لِشَرْعٍ بَلْ مُتَّبِعِينَ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ ، وَلَا فَرْقَ أَنْ نَعْلَمَ ذَلِكَ بِنَصٍّ أَوْ بِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ ، وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ هُوَ مَا لَا يُبَاحُ مِنْ إكْرَامِ النَّاسِ .
وَذَلِكَ أَنَّ مَا وَرَدَتْ نُصُوصُ الشَّرْعِ بِهِ مِنْ إكْرَامِ النَّاسِ هُوَ نَحْوُ مَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ مِنْ إفْشَاءِ السَّلَامِ وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَالْمُصَافَحَةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَالِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ الدُّخُولِ ، وَأَنْ لَا يَجْلِسَ عَلَى تَكْرِمَةِ أَحَدٍ أَيْ عَلَى فِرَاشِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَلَا يَؤُمَّ فِي

مَنْزِلِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ أَحَدًا فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ } وَمَا لَمْ تَرِدْ نُصُوصُ الشَّرْعِ بِهِ ، وَلَا كَانَ فِي السَّلَفِ بَلْ تَجَدَّدَتْ أَسْبَابُ اعْتِبَارِهِ فِي عَصْرِنَا فَتَعَيَّنَ بِمُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ فِعْلُهُ مِنْ إكْرَامِ النَّاسِ قَالَ الْأَصْلُ : هُوَ مَا فِي زَمَانِنَا مِنْ الْقِيَامِ لِلدَّاخِلِ مِنْ الْأَعْيَانِ وَمِنْ إحْنَاءِ الرَّأْسِ لَهُ إنْ عَظُمَ قَدْرُهُ جِدًّا وَمِنْ الْمُخَاطَبَةِ بِجَمَالِ الدِّينِ وَنُورِ الدِّينِ وَعِزِّ الدِّينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نُعُوتِ التَّكْرِمَةِ وَأَنْوَاعِ الْمُخَاطَبَاتِ لِلْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَأُولِي الرِّفْعَةِ مِنْ الْوُلَاةِ وَالْعُظَمَاءِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْأَسْمَاءِ وَالْكُنَى وَمِنْ الْمُكَاتَبَاتِ بِنُعُوتِ التَّكْرِيمِ أَيْضًا لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِهِ كَتَسْطِيرِ اسْمِ الْإِنْسَانِ الْكَاتِبِ بِالْمَمْلُوكِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَلْفَاظِ التَّنَزُّلِ وَالتَّعْبِيرِ عَنْ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ بِالْمَجْلِسِ الْعَالِي وَالسَّامِي وَالْجَنَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ الْعُرْفِيَّةِ وَالْمُكَاتَبَاتِ الْعَادِيَّةِ وَمِنْ تَرْتِيبِ النَّاسِ فِي الْمَجَالِسِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ قَالَ : فَهَذَا كُلُّهُ وَنَحْوُهُ مِنْ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ لَمْ تَكُنْ فِي السَّلَفِ وَنَحْنُ الْيَوْمَ نَفْعَلُهُ فِي الْمُكَارَمَاتِ وَالْمُوَالَاتِ .
وَهُوَ جَائِزٌ مَأْمُورٌ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ بِدْعَةً مَكْرُوهَةً تَنْزِيهًا لَا تَحْرِيمًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَجَدَّدَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ صَارَ تَرْكُهَا يُوجِبُ الْمُقَاطَعَةَ الْمُحَرَّمَةَ فَتَعَارَضَ فِي فِعْلِهَا الْمَكْرُوهِ ، وَفِي تَرْكِهَا الْمُحَرَّمِ ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْمَكْرُوهُ وَالْمُحَرَّمُ قُدِّمَ الْمُحَرَّمُ ، وَالْتُزِمَ دَفْعُهُ وَحَسْمُ مَادَّتِهِ وَإِنْ وَقَعَ الْمَكْرُوهُ كَمَا هُوَ قَاعِدَةُ الشَّرْعِ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ لَكِنَّ هَذَا التَّعَارُضَ مَا وَقَعَ إلَّا فِي زَمَنِنَا فَاخْتَصَّ الْحُكْمُ بِهِ فَعَلَى هَذَا الْقَانُونِ يَجْرِي

هَذَا الْقِسْمُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُبِيحَ مُحَرَّمًا ، وَلَا يَتْرُكَ وَاجِبًا وَحِينَئِذٍ فَمَا خَرَجَ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مِنْ إكْرَامِ النَّاسِ نَوْعَانِ ( الْأَوَّلُ ) مُحَرَّمٌ .
وَهُوَ مَا أَبَاحَ مُحَرَّمًا ، أَوْ أَدَّى إلَى تَرْكِ وَاجِبٍ كَمَا لَوْ كَانَ الْمَلِكُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ النَّاسِ لَا يَرْضَى مِنَّا إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَعَاصِي فَلَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نُوَادَّهُ بِذَلِكَ ؛ إذْ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَكَالْقِيَامِ تَعْظِيمًا لِمَنْ يُحِبُّهُ تَجَبُّرًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَلَا تَجُوزُ الْمُوَادَّةُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ تَرْكُهُ لِتَهْذِيبِ نَفْسِ الْمُتَجَبِّرِ وَتَأْدِيبِهِ ( وَالنَّوْعُ الثَّانِي ) مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ بِدْعَةً مَكْرُوهَةً لَمْ يُعَارَضْ بِمُحَرَّمٍ حَتَّى يُبَاحَ فِعْلُهُ كَالْقِيَامِ تَعْظِيمًا لِمَنْ لَا يُحِبُّهُ ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ فِعْلَ الْجَبَابِرَةِ وَبِوَقْعِ فَسَادِ قَلْبِ الَّذِي يُقَامُ لَهُ فَافْهَمْ قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقِيَامُ لِإِكْرَامِ النَّاسِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ نُصُوصُ الشَّرِيعَةِ أَوْ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي الْمُبَاحِ فِعْلُهُ لِتَجَدُّدِ سَبَبِهِ فَيَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ وَمُبَاحٌ فَالْوَاجِبُ هُوَ مَا أَدَّى تَرْكُهُ إلَى مُحَرَّمٍ كَالْمُقَاطَعَةِ وَالْمُدَابَرَةِ فَمِنْ هُنَا لَمَّا حَضَرْت يَوْمًا عِنْدَ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ وَأُولِي الْجِدِّ فِي الدِّينِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً وَعَامَةً وَالثَّبَاتِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِالْمُلُوكِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَقَدِمَتْ إلَيْهِ فُتْيَا فِيهَا مَا تَقُولُ أَئِمَّةُ الدِّينِ - وَفَّقَهُمْ اللَّهُ - فِي الْقِيَامِ الَّذِي أَحْدَثَهُ أَهْلُ زَمَانِنَا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي السَّلَفِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا يَجُوزُ وَيَحْرُمُ كَتَبَ مَا نَصُّهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَبَاغَضُوا ، وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا ، وَلَا تَقَاطَعُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا } وَتَرْكُ الْقِيَامِ فِي هَذَا الْوَقْتِ يُفْضِي لِلْمُقَاطَعَةِ وَالْمُدَابَرَةِ فَلَوْ قِيلَ : بِوُجُوبِهِ مَا كَانَ بَعِيدًا .
ا هـ .
قُلْت : وَمِنْ هَذَا الْقِيَامُ عِنْدَ ذِكْرِ مَوْلِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلَاوَةِ الْقِصَّةِ فَقَدْ قَالَ الْمَوْلَى أَبُو السُّعُودِ أَنَّهُ قَدْ اُشْتُهِرَ الْيَوْمَ فِي تَعْظِيمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتِيدَ فِي ذَلِكَ فَعَدَمُ فِعْلِهِ يُوجِبُ عَدَمَ الِاكْتِرَاثِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَامْتِهَانَهُ فَيَكُونُ كُفْرًا مُخَالِفًا لِوُجُودِ تَعْظِيمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ا هـ .
أَيْ إنْ لَاحَظَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ تَحْقِيرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ ، وَإِلَّا فَهُوَ مَعْصِيَةٌ ، وَالْمَنْدُوبُ هُوَ مَا كَانَ لِلْقَادِمِ مِنْ السَّفَرِ فَرَحًا بِقُدُومِهِ وَقَدْ { قَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ لِيُهَنِّئَهُ بِتَوْبَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِ بِحُضُورِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ ذَلِكَ } فَكَانَ كَعْبٌ يَقُولُ : لَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ ، وَقَدْ { كَانَ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ - إذَا قَامَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى بَيْتِهِ لَمْ يَزَالُوا قِيَامًا حَتَّى يَدْخُلَ بَيْتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } لِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ تَعْظِيمِهِ لَكِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَبْلَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُقَامَ لَهُ فَلَمَّا عَلِمُوا بِذَلِكَ كَانُوا إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لَهُ إجْلَالًا لِكَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ قُلْت : نَعَمْ خَرَّجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { مَا رَأَيْت أَحَدًا أَشْبَهَ كَلَامًا وَحَدِيثًا مِنْ فَاطِمَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ إذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ رَحَّبَ بِهَا وَقَامَ إلَيْهَا فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَبَّلَهَا وَأَجْلَسَهَا فِي

مَجْلِسِهِ ، وَكَانَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا رَحَّبَتْ بِهِ وَقَامَتْ وَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَقَبَّلَتْهَا } ، وَقَدْ { قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْأَنْصَارِ قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ } بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ تَعْظِيمًا لَهُ .
وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ لِسَيِّدِكُمْ لَا لِيُعِينُوهُ ، وَإِلَّا لَقَالَ لَهُمْ قُومُوا لِمَرِيضِكُمْ أَوْ لِمَجْرُوحِكُمْ وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ فِي الْجَوَابِ كَرَاهِيَتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقِيَامِهِمْ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ التَّوَاضُعِ كَمَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ أَجْوِبَتِهِمْ عَنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَنْ قَالَ لَهُ يَا سَيِّدَنَا لَا تَقُلْ ذَلِكَ إنَّمَا السَّيِّدُ اللَّهُ كَمَا فِي رِسَالَتِي انْتِصَارِ الِاعْتِصَامِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ ، قَالَ الْأَصْلُ : وَالْمُبَاحُ هُوَ مَا إذَا فُعِلَ إجْلَالًا لِمَنْ لَا يُرِيدُهُ أَيْ تَكَبُّرًا وَتَجَبُّرًا بَلْ أَرَادَهُ لِدَفْعِ ضَرَرِ النَّقِيصَةِ عَنْ نَفْسِهِ لِمَا سَيَأْتِي قَالَ : وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ مِمَّا خَرَجَ عَنْ الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَيَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ : مُحَرَّمٌ وَمَكْرُوهٌ فَالْمُحَرَّمُ مَا إذَا فُعِلَ تَعْظِيمًا لِمَنْ يُحِبُّهُ تَجَبُّرًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَالْمَكْرُوهُ مَا إذَا فُعِلَ تَعْظِيمًا لِمَنْ لَا يُحِبُّهُ لِمَا تَقَدَّمَ قَالَ : وَالنَّهْيُ الْوَارِدُ عَنْ مَحَبَّةِ الْقِيَامِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ النَّاسُ أَوْ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ ذَلِكَ تَجَبُّرًا أَمَّا مَنْ أَرَادَهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَالنَّقِيصَةِ بِهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْهَى عَنْهُ ؛ لِأَنَّ مَحَبَّةَ دَفْعِ الْأَسْبَابِ الْمُؤْلِمَةِ مَأْذُونٌ فِيهَا بِخِلَافِ التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ نَعَمْ لَا يُنْهَى عَنْ الْمَحَبَّةِ لِلْقِيَامِ تَجَبُّرًا وَتَكَبُّرًا وَالْمَيْلُ لِذَلِكَ الطَّبِيعِيِّ فَإِنَّ الْأُمُورَ الْجِبِلِّيَّةَ لَا يُنْهَى عَنْهَا بَلْ إنَّمَا يُنْهَى عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَذِيَّةِ النَّاسِ إذَا لَمْ يَقُومُوا وَمُؤَاخَذَتُهُمْ عَلَيْهِ فَالْقِيَامُ لِإِكْرَامِ

النَّاسِ يَنْقَسِمُ إلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ مُحَرَّمٌ وَمَكْرُوهٌ وَوَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ وَمُبَاحٌ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَشْرُوعِ مِنْ الْمُوَادَّةِ وَغَيْرِ الْمَشْرُوعِ مِنْهَا هَذَا تَهْذِيبُ مَا فِي الْأَصْلِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مَعَ زِيَادَةٍ .
قُلْت : وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ الْأَصْلِ وَشَيْخُهُ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَابْنُ الشَّاطِّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ أَنَّ الْبِدْعَةَ تَنْقَسِمُ إلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَبِي إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ مِنْ مُتَقَدِّمِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمُتَقَدِّمِ مِنْ أَنَّ الْبِدْعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا ضَلَالَةً مُحَرَّمَةً ، وَإِنَّمَا تَتَفَاوَتُ رُتَبُهَا فِي التَّحْرِيمِ فَلَا يُبَاحُ مِنْ الْمُوَادَّةِ إلَّا مَا وَرَدَتْ بِهِ نُصُوصُ الشَّرِيعَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَهَا هُنَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) الْمُصَافَحَةُ ، وَفِي الْحَدِيثِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إذَا تَلَاقَى الرَّجُلَانِ فَتَصَافَحَا تَحَاتَّتْ ذُنُوبُهُمَا ، وَكَانَ أَقْرَبُهُمَا إلَى اللَّهِ أَكْثَرَهُمَا بِشْرًا } فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُصَافَحَةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الزَّمَانِ مِنْ الْمُصَافَحَةِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ بِدْعَةٌ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ ، وَكَانَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ يَنْهَى عَنْهُ وَيُنْكِرُهُ عَلَى فَاعِلِهِ وَيَقُولُ : إنَّمَا شُرِعَتْ الْمُصَافَحَةُ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَمَّا مَنْ هُوَ جَالِسٌ مَعَ الْإِنْسَانِ فَلَا يُصَافِحُهُ وَرَأَيْت بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ : رُوِيَ فِي مُصَافَحَةِ مَنْ هُوَ جَالِسٌ مَعَك فِي حَدِيثٍ .
وَلَا أَعْلَمُ صِحَّةَ قَوْلِهِ ، وَلَا صِحَّةَ الْحَدِيثِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْمُصَافَحَةُ مُسْتَحَبَّةٌ ، وَعَنْ مَالِكٍ كَرَاهَتُهَا ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ حُجَّةُ الْكَرَاهَةِ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ الْمَلَائِكَةِ لَمَّا دَخَلُوا عَلَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ } قَالَ مَالِكٌ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَافَحَةَ وَلِأَنَّ السَّلَامَ يُنْتَهَى فِيهِ لِلْبَرَكَاتِ ، وَلَا يُزَادُ فِيهِ قَوْلٌ ، وَلَا فِعْلٌ حُجَّةُ الْمَشْهُورِ مَا فِي الْمُوَطَّإِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { تَصَافَحُوا يَذْهَبْ الْغِلُّ وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبْ الشَّحْنَاءُ }

( وَصْلٌ فِي أَرْبَعِ مَسَائِلَ ) تَتَعَلَّقُ بِالْمُصَافَحَةِ وَالْمُعَانَقَةِ وَتَقْبِيلِ الْيَدِ وَرَدِّ السَّلَامِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُكَارَمَةِ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) الْمُصَافَحَةُ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ مُسْتَحَبَّةٌ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَحُجَّتُهُ مَا فِي الْمُوَطَّإِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { تَصَافَحُوا يَذْهَبْ الْغِلُّ وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبْ الشَّحْنَاءُ } وَعَنْ مَالِكٍ كَرَاهَتُهَا وَحُجَّةُ الْكَرَاهَةِ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ الْمَلَائِكَةِ لَمَّا دَخَلُوا عَلَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ } قَالَ مَالِكٌ فَذَكَرَ السَّلَامَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَافَحَةَ أَيْ وَالِاقْتِصَارُ مَحَلُّ الْبَيَانِ يُفِيدُ الْحَصْرَ قَالَ : وَلِأَنَّ السَّلَامَ يَنْتَهِي فِيهِ لِلْبَرَكَاتِ وَلَا يُزَادُ فِيهِ قَوْلٌ ، وَلَا فِعْلٌ ا هـ قُلْت : وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْلِ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُصَافَحَةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا تَلَاقَى الرَّجُلَانِ فَتَصَافَحَا تَحَاتَّتْ ذُنُوبُهُمَا وَكَانَ أَقْرَبُهَا إلَى اللَّهِ أَكْثَرَهُمَا بِشْرًا } يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُصَافَحَةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ .
وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ الْمُصَافَحَةِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ بِدْعَةٌ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ ، وَكَانَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ يُنْهِي عَنْهُ وَيُنْكِرُهُ عَلَى فَاعِلِهِ ، وَيَقُولُ : إنَّمَا شُرِعَتْ الْمُصَافَحَةُ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَمَّا مَنْ هُوَ جَالِسٌ مَعَ الْإِنْسَانِ فَلَا يُصَافِحُهُ وَرَأَيْت بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ : رُوِيَ فِي مُصَافَحَةِ مَنْ هُوَ جَالِسٌ مَعَك حَدِيثٌ ، وَلَا أَعْلَمُ صِحَّةَ قَوْلِهِ ، وَلَا صِحَّةَ الْحَدِيثِ ا هـ نَعَمْ رُبَّمَا يَدُلُّ لَهُ عُمُومُ حَدِيثِ الْمُوَطَّإِ { تَصَافَحُوا يَذْهَبْ الْغِلُّ } فَتَأَمَّلْ .

( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) : الْمُعَانَقَةُ كَرِهَهَا مَالِكٌ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُرْوَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مَعَ جَعْفَرٍ وَلَمْ يَصْحَبْهَا الْعَمَلُ مِنْ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي كِتَابِهِ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ : وَلِأَنَّ النُّفُوسَ تَنْفِرُ عَنْهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا لِوَدَاعٍ مِنْ فَرْطِ أَلَمِ الشَّوْقِ أَوْ مَعَ الْأَهْلِ وَدَخَلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَلَى مَالِكٍ فَصَافَحَهُ مَالِكٌ ، وَقَالَ لَهُ : لَوْلَا أَنَّ الْمُعَانَقَةَ بِدْعَةٌ لَعَانَقْتُك فَقَالَ سُفْيَانُ : عَانَقَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي وَمِنْك ، النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَانَقَ جَعْفَرًا حِينَ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ قَالَ مَالِكٌ : ذَلِكَ خَاصٌّ بِجَعْفَرٍ ، قَالَ سُفْيَانُ : بَلْ عَامٌّ مَا يَخُصُّ جَعْفَرًا يَخُصُّنَا ، وَمَا يَعُمُّ جَعْفَرًا يَعُمُّنَا إذَا كُنَّا صَالِحِينَ أَفَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُحَدِّثَ فِي مَجْلِسِك ، قَالَ : نَعَمْ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { : لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ اعْتَنَقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبَّلَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ .
وَقَالَ جَعْفَرٌ أَشْبَهُ النَّاسِ بِنَا خَلْقًا وَخُلُقًا يَا جَعْفَرُ مَا أَعْجَبُ مَا رَأَيْت بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْت ، وَأَنَا أَمْشِي فِي بَعْضِ أَزِقَّتِهَا إذَا سَوْدَاءُ عَلَى رَأْسِهَا مِكْتَلٌ فِيهِ بُرٌّ فَصَدَمَهَا رَجُلٌ عَلَى دَابَّتِهِ فَوَقَعَ مِكْتَلُهَا وَانْتَشَرَ بُرُّهَا فَأَقْبَلَتْ تَجْمَعُهُ مِنْ التُّرَابِ ، وَهِيَ تَقُولُ : وَيْلٌ لِلظَّالِمِ مِنْ دَيَّانِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيْلٌ لِلظَّالِمِ مِنْ الْمَظْلُومِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيْلٌ لِلظَّالِمِ إذَا وُضِعَ الْكُرْسِيُّ لِلْفَصْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لَا تَأْخُذُ لِضَعِيفِهَا مِنْ قَوِيِّهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتِعٍ } ثُمَّ قَالَ سُفْيَانُ قَدْ قَدِمْت لِأُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُبَشِّرَك بِرُؤْيَا رَأَيْتهَا فَقَالَ مَالِكٌ : رَأَتْ عَيْنَاك خَيْرًا - إنْ شَاءَ اللَّهُ - فَقَالَ سُفْيَانُ : رَأَيْت كَأَنَّ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْشَقَّ فَأَقْبَلَ النَّاسُ يُهْرَعُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَرُدُّ بِأَحْسَنَ رَدٍّ قَالَ سُفْيَانُ فَإِنَّنِي بِك - وَاَللَّهِ أَعْرِفُك فِي مَنَامِي كَمَا أَعْرِفُك فِي يَقَظَتِي فَسَلَّمْتَ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْك السَّلَامَ ثُمَّ رَمَى فِي حِجْرِك بِخَاتَمٍ نَزَعَهُ مِنْ أُصْبُعِهِ فَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَا أَعْطَاك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَكَى مَالِكٌ بُكَاءً شَدِيدًا قَالَ سُفْيَانُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ قَالُوا لَهُ أَخَارِجٌ السَّاعَةَ قَالَ نَعَمْ فَوَدَّعَهُ مَالِكٌ وَخَرَجَ فَيُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ النُّقُولِ أَنَّ الْمُعَانَقَةَ وَرَدَتْ بِهَا السُّنَّةُ وَأَنَّ سُفْيَانَ كَانَ يَعْتَقِدُ عُمُومَ مَشْرُوعِيَّتِهَا ، وَأَنَّ مَالِكًا كَانَ يَكْرَهُهَا

( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) الْمُعَانَقَةُ وَرَدَتْ بِهَا السُّنَّةُ وَلَكِنَّ مَالِكًا كَانَ يَكْرَهُهَا وَيَقُولُ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرِدْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مَعَ جَعْفَرٍ وَلَمْ يَصْحَبْهَا الْعَمَلُ مِنْ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي كِتَابِهِ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ : وَلِأَنَّ النُّفُوسَ تَنْفِرُ عَنْهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا لِوَدَاعٍ مِنْ فَرْطِ أَلَمِ الشَّوْقِ أَوْ مَعَ الْأَهْلِ .
ا هـ .
وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَعْتَقِدُ عُمُومَ مَشْرُوعِيَّتِهَا فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى مَالِكٍ فَصَافَحَهُ مَالِكٌ وَقَالَ لَهُ لَوْلَا أَنَّ الْمُعَانَقَةَ بِدْعَةٌ لَعَانَقْتُك فَقَالَ سُفْيَانُ عَانَقَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي وَمِنْك النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَانَقَ جَعْفَرًا حِينَ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ قَالَ مَالِكٌ : ذَلِكَ خَاصٌّ بِجَعْفَرٍ قَالَ سُفْيَانُ بَلْ عَامٌّ مَا يَخُصُّ جَعْفَرًا يَخُصُّنَا وَمَا يَعُمُّ جَعْفَرًا يَعُمُّنَا إذَا كُنَّا صَالِحِينَ أَفَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُحَدِّثَ فِي مَجْلِسِك قَالَ نَعَمْ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ اعْتَنَقَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبَّلَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ جَعْفَرٌ أَشْبَهُ النَّاسِ بِنَا خَلْقًا وَخُلُقًا يَا جَعْفَرُ مَا أَعْجَبُ مَا رَأَيْتَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْت وَأَنَا أَمْشِي فِي بَعْضِ أَزِقَّتِهَا إذَا سَوْدَاءُ عَلَى رَأْسِهَا مِكْتَلٌ فِيهِ بُرٌّ فَصَدَمَهَا رَجُلٌ عَلَى دَابَّتِهِ فَوَقَعَ مِكْتَلُهَا وَانْتَشَرَ بُرُّهَا فَأَقْبَلَتْ تَجْمَعُهُ مِنْ التُّرَابِ ، وَهِيَ تَقُولُ وَيْلٌ لِلظَّالِمِ مِنْ دَيَّانِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيْلٌ لِلظَّالِمِ مِنْ الْمَظْلُومِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيْلٌ لِلظَّالِمِ إذَا وُضِعَ الْكُرْسِيُّ لِلْفَصْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لَا تَأْخُذُ لِضَعِيفِهَا مِنْ قَوِيِّهَا حَقَّهُ غَيْرَ

مُتَمَتِّعٍ } ثُمَّ قَالَ سُفْيَانُ قَدْ قَدِمْت لِأُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُبَشِّرَكَ بِرُؤْيَا رَأَيْتهَا فَقَالَ مَالِكٌ رَأَتْ عَيْنَاك خَيْرًا - إنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَقَالَ سُفْيَانُ رَأَيْت كَأَنَّ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْشَقَّ فَأَقْبَلَ النَّاسُ يُهْرَعُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَرُدُّ بِأَحْسَنَ رَدٍّ قَالَ سُفْيَانُ : فَأَتَى بِك - وَاَللَّهِ أَعْرِفُك فِي مَنَامِي كَمَا أَعْرِفُك فِي يَقَظَتِي - فَسَلَّمْت عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْك السَّلَامَ ثُمَّ رَمَى فِي حِجْرِك بِخَاتَمٍ نَزَعَهُ مِنْ أُصْبُعِهِ فَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَا أَعْطَاك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَكَى مَالِكٌ بُكَاءً شَدِيدًا قَالَ سُفْيَانُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ قَالُوا لَهُ أَخَارِجٌ السَّاعَةَ قَالَ نَعَمْ فَوَدَّعَهُ مَالِكٌ وَخَرَجَ .

( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) تَقْبِيلُ الْيَدِ قَالَ مَالِكٌ : إذَا قَدِمَ الرَّجُلُ مِنْ سَفَرِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ تُقَبِّلَهُ ابْنَتُهُ وَأُخْتُهُ وَلَا بَأْسَ أَنْ يُقَبِّلَ خَدَّ ابْنَتِهِ وَكُرِهَ أَنْ تُقَبِّلَهُ خَتَنَتُهُ وَمُعْتَقَتُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَجَالَّةً ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُقَبِّلَ رَأْسَ أَبِيهِ ، وَلَا يُقَبِّلُ خَدَّ أَبِيهِ أَوْ عَمَّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ الْمَاضِينَ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ { سَأَلَتْ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التِّسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ لَهُمْ لَا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا ، وَلَا تَسْرِقُوا ، وَلَا تَزْنُوا ، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ ، وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إلَى السُّلْطَانِ لِيَقْتُلَهُ ، وَلَا تَسْحَرُوا ، وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا ، وَلَا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً وَلَا تُوَلُّوا الْفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةَ الْيَهُودُ أَنْ لَا تَعْدُوَا فِي السَّبْتِ فَقَامُوا فَقَبَّلُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَالُوا : نَشْهَدُ أَنَّك نَبِيٌّ قَالَ فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتْبَعُونِي قَالُوا : إنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا رَبَّهُ أَنْ لَا يَزَالَ فِي ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ ، وَإِنَّا نَخَافُ إنْ اتَّبَعْنَاك أَنْ تَقْتُلَنَا الْيَهُودُ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ فَتَقْبِيلُ الْيَهُودِ لِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ قَبَّلَ سَالِمًا وَقَالَ شَيْخٌ يُقَبِّلُ شَيْخًا إنَّ هَذَا جَائِزٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا عَلَى وَجْهٍ مَكْرُوهٍ { وَقَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ فَأَتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ فَقَامَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرْيَانًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ وَاَللَّهِ مَا رَأَيْته عُرْيَانًا قَبْلَهُ ، وَلَا بَعْدَهُ فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ { وَقَبَّلَ

عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعْفَرًا حِينَ قَدِمَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ } .
قَالَ وَأَمَّا الْقُبْلَةُ فِي الْفَمِ مِنْ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ فَلَا رُخْصَةَ فِيهَا بِوَجْهٍ قُلْت : بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَاشَوْنَ تَقْبِيلَ أَوْلَادِهِمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَيُقَبِّلُونَهُمْ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَرُءُوسِهِمْ مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - حَرَّمَ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْمَحَارِمِ ، وَالِاسْتِمْتَاعُ هُوَ أَنْ يَجِدَ لَذَّةً بِالْقُبْلَةِ فَمَنْ كَانَ يَجِدُ لَذَّةً بِهَا امْتَنَعَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَمَنْ كَانَ يَسْتَوِي عِنْدَهُ الْخَدُّ وَالْفَمُ وَالرَّأْسُ وَالْعُنُقُ وَجَمِيعُ الْجَسَدِ عِنْدَهُ سَوَاءٌ ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْجَبْرِ وَالْحَنَانِ فَهَذَا هُوَ الْمُبَاحُ ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا قُلْت : وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ النَّاسِ يَجِدُ اللَّذَّةَ مِنْ تَقْبِيلِ وَلَدِهِ فِي خَدِّهِ أَوْ فَمِهِ كَمَا يَجِدُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بِتَقْبِيلِ امْرَأَتِهِ وَيَعْتَقِدُ ذَلِكَ بِرًّا بِوَلَدِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ لِقَضَاءِ أَرَبِهِ وَلَذَّتِهِ وَيَنْشَرِحُ لِذَلِكَ وَيَفْرَحُ قَلْبُهُ وَيَجِدُ مِنْ اللَّذَّةِ أَمْرًا كَبِيرًا وَمِنْ الْمُنْكَرَاتِ أَنْ يَعْمِدَ الْإِنْسَانُ لِأُخْتِهِ الْجَمِيلَةِ أَوْ ابْنَتِهِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي يَتَمَنَّى أَنْ تَكُونَ لَهُ زَوْجَةٌ مِثْلُهَا فِي مِثْلِ خَدِّهَا وَثَغْرِهَا فَيُقَبِّلَ خَدَّهَا أَوْ ثَغْرَهَا ، وَهُوَ يُعْجِبُهُ ذَلِكَ ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ قُبْلَةَ الْأَجَانِبِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الِاجْتِمَاعُ بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ أَشَدُّ تَحْرِيمًا كَالزِّنَا بِهِنَّ أَقْبَحُ مِنْ الزِّنَا بِالْأَجْنَبِيَّاتِ ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ لَهُ طَبْعٌ سَلِيمٌ ، وَيَرَى جَمَالًا فَائِقًا لَا يَمِيلُ إلَيْهِ طَبْعُهُ ، وَقَدْ يَزَعُهُ عَقْلُهُ وَشَرْعُهُ رَأَيْت النَّاسَ عِنْدَهُمْ مُسَامَحَةٌ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ ، وَقَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّهُ يُقَبِّلُ خَدَّ ابْنَتِهِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ هَذَا ، وَغَيْرُهُ عِنْدَهُ سَوَاءٌ ، أَمَّا مَتَى

حَصَلَ الْفَرْقُ فِي النَّفْسِ صَارَ اسْتِمْتَاعًا حَرَامًا وَالْإِنْسَانُ يُطَالِعُ قَلْبَهُ وَيُحَكِّمُهُ فِي ذَلِكَ

( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) تَقْبِيلُ الْيَدِ وَالرَّأْسِ مِمَّنْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ وَتُقْصَدُ مَوَدَّتُهُ لِدَاعٍ مَشْرُوعٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِقْرَارُهُ وَعَمَلُ السَّلَفِ وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ أَمَّا الْفِعْلُ وَالْإِقْرَارُ وَعَمَلُ السَّلَفِ فَفِي مَا خَرَّجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { مَا رَأَيْت أَحَدًا أَشْبَهَ كَلَامًا وَحَدِيثًا مِنْ فَاطِمَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ إذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ رَحَّبَ بِهَا وَقَامَ إلَيْهَا فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَبَّلَهَا وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ وَكَانَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا رَحَّبَتْ بِهِ وَقَامَتْ وَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَقَبَّلَتْهَا } كَمَا تَقَدَّمَ وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ { سَأَلَتْ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التِّسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ لَهُمْ : لَا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا ، وَلَا تَزْنُوا ، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ ، وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إلَى السُّلْطَانِ لِيَقْتُلَهُ ، وَلَا تَسْحَرُوا ، وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا ، وَلَا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً ، وَلَا تُوَلُّوا الْفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَعَلَيْكُمْ - خَاصَّةَ الْيَهُودِ - أَنْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ فَقَامُوا فَقَبَّلُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَالُوا : نَشْهَدُ إنَّكَ نَبِيٌّ .
قَالَ : فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتْبَعُونِي ، قَالُوا : إنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا رَبَّهُ أَنْ لَا يَزَالَ فِي ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ وَإِنَّا نَخَافُ إنْ اتَّبَعْنَاك أَنْ تَقْتُلَنَا الْيَهُودُ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ فَتَقْبِيلُ الْيَهُودِ لِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ قَبَّلَ سَالِمًا وَقَالَ شَيْخٌ يُقَبِّلُ شَيْخًا قَالَ : فَهَذَا جَائِزٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا عَلَى وَجْهٍ مَكْرُوهٍ { وَقَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ ، وَرَسُولُ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ فَأَتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ فَقَامَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرْيَانًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ : وَاَللَّهِ مَا رَأَيْته عُرْيَانًا قَبْلَهُ ، وَلَا بَعْدَهُ فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَقَبَّلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعْفَرًا حِينَ قَدِمَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ قَالَ وَأَمَّا فِي الْفَمِ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ فَلَا رُخْصَةَ فِيهَا بِوَجْهٍ ا هـ وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ { تَقْبِيلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالْمِحْجَنِ } الَّذِي مَسَّ بِهِ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فَيَدُ وَرَأْسُ مَنْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ أَوْ تُقْصَدُ مَوَدَّتُهُ لِدَاعٍ أَوْلَى بِالتَّقْبِيلِ فَمِنْ هُنَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إذَا قَدِمَ الرَّجُلُ مِنْ سَفَرِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ تُقَبِّلَهُ ابْنَتُهُ وَأُخْتُهُ وَلَا بَأْسَ أَنْ يُقَبِّلَ خَدَّ ابْنَتِهِ ، وَكُرِهَ أَنْ تُقَبِّلَهُ خَتَنَتُهُ وَمُعْتَقَتُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَجَالَّةً ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُقَبِّلَ رَأْسَ أَبِيهِ ، وَلَا يُقَبِّلُ خَدَّ أَبِيهِ أَوْ عَمِّهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ الْمَاضِي ا هـ لَكِنْ قَالَ الْأَصْلُ : بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَاشَوْنَ عَنْ تَقْبِيلِ أَوْلَادِهِمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَيُقَبِّلُونَهُمْ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَرُءُوسِهِمْ مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - حَرَّمَ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْمَحَارِمِ وَالِاسْتِمْتَاعُ هُوَ أَنْ يَجِدَ لَذَّةً بِالْقُبْلَةِ فَمَنْ كَانَ يَجِدُ لَذَّةً بِالْقُبْلَةِ بِهَا امْتَنَعَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ .
وَمَنْ كَانَ يَسْتَوِي عِنْدَهُ الْخَدُّ وَالْفَمُ وَالرَّأْسُ وَالْعُنُقُ وَجَمِيعُ الْجَسَدِ عِنْدَهُ سَوَاءٌ ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْجَبْرِ وَالْحَنَانِ فَهَذَا هُوَ الْمُبَاحُ ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا قَالَ : وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ لَا مِرْيَةَ فِيهِ ، وَلَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ النَّاسِ يَجِدُ اللَّذَّةَ مِنْ تَقْبِيلِ وَلَدِهِ فِي خَدِّهِ أَوْ فَمِهِ

كَمَا يَجِدُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بِتَقْبِيلِ امْرَأَتِهِ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ بِرٌّ بِوَلَدِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ لِقَضَاءِ أَرَبِهِ وَلَذَّتِهِ وَيَنْشَرِحُ لِذَلِكَ وَيَفْرَحُ قَلْبُهُ وَيَجِدُ مِنْ اللَّذَّةِ أَمْرًا كَبِيرًا .
وَمِنْ الْمُنْكَرَاتِ أَنْ يَعْمِدَ الْإِنْسَانُ لِأُخْتِهِ الْجَمِيلَةِ أَوْ ابْنَتِهِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ زَوْجَةٌ مِثْلُهَا فِي مِثْلِ خَدِّهَا وَثَغْرِهَا فَيُقَبِّلَ خَدَّهَا ، أَوْ ثَغْرَهَا أَوْ هُوَ يُعْجِبُهُ ذَلِكَ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ قُبْلَةَ الْأَجَانِبِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الِاسْتِمْتَاعُ بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ أَشَدُّ تَحْرِيمًا كَمَا أَنَّ الزِّنَى بِهِنَّ أَقْبَحُ مِنْ الزِّنَا بِالْأَجْنَبِيَّاتِ ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ لَهُ طَبْعٌ سَلِيمٌ وَيَرَى جَمَالًا فَائِقًا لَا يَمِيلُ إلَيْهِ طَبْعُهُ وَقَدْ يُزِغْهُ عَقْلُهُ وَشَرْعُهُ ، وَرَأَيْت النَّاسَ عِنْدَهُمْ مُسَامَحَةٌ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ ، وَقَوْلُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّهُ يُقَبِّلُ خَدَّ ابْنَتِهِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ هَذَا وَغَيْرُهُ عِنْدَهُ سَوَاءً ، أَمَّا مَتَى حَصَلَ الْفَرْقُ فِي النَّفْسِ صَارَ اسْتِمْتَاعًا حَرَامًا ، وَالْإِنْسَانُ يُطَالِعُ قَلْبَهُ وَيَحْكُمُهُ فِي ذَلِكَ ا هـ .

( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ قِيلَ : إنَّ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلتَّخْيِيرِ ، وَقِيلَ : لِلتَّخْيِيرِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُخَيَّرٌ فِي أَنْ يَرُدَّ أَحْسَنَ أَوْ يَقْتَصِرَ عَلَى لَفْظِ الْمُبْتَدِئِ إنْ كَانَ قَدْ وَقَفَ دُونَ الْبَرَكَاتِ ، وَإِلَّا لَبَطَلَ التَّخْيِيرُ لِتَعَيُّنِ الْمُسَاوَاةِ ، وَقِيلَ : لَا بُدَّ مِنْ الِانْتِهَاءِ إلَى لَفْظِ الْبَرَكَاتِ مُطْلَقًا ، وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ تَنْوِيعُ الرَّدِّ إلَى الْمِثْلِ إنْ كَانَ الْمُبْتَدِئُ انْتَهَى لِلْبَرَكَاتِ ، وَإِلَى الْأَحْسَنِ إنْ كَانَ الْمُبْتَدِئُ اقْتَصَرَ دُونَ الْبَرَكَاتِ ، فَهَذَا مَعْنَى التَّخْيِيرِ وَالتَّنْوِيعِ ، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا هَلْ الِانْتِهَاءُ إلَى الْبَرَكَاتِ مَأْمُورٌ بِهِ مُطْلَقًا ، أَوْ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهِيَ إذَا انْتَهَى الْمُبْتَدِئُ إلَى الْبَرَكَاتِ فَقَطْ
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي رَدِّ السَّلَامِ هَلْ الِانْتِهَاءُ فِيهِ إلَى الْبَرَكَاتِ مَأْمُورٌ بِهِ مُطْلَقًا وَفِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهِيَ مَا إذَا انْتَهَى الْمُبْتَدِئُ بِالسَّلَامِ إلَى الْبَرَكَاتِ فَقَطْ وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رَدُّوهَا } قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ قِيلَ : إنَّ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلتَّخْيِيرِ وَقِيلَ : لِلتَّخْيِيرِ ا هـ قَالَ الْأَصْلُ : وَمَعْنَى التَّخْيِيرِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُخَيَّرٌ فِي أَنْ يَرُدَّ أَحْسَنَ أَوْ يَقْتَصِرَ عَلَى لَفْظِ الْمُبْتَدِئِ إنْ كَانَ قَدْ وَقَفَ دُونَ الْبَرَكَاتِ ، وَإِلَّا لَبَطَلَ التَّخَيُّرُ لِتَعَيُّنِ الْمُسَاوَاةِ وَمَعْنَى التَّنْوِيعِ تَنْوِيعُ الرَّدِّ إلَى الْمِثْلِ إنْ كَانَ الْمُبْتَدِئُ انْتَهَى لِلْبَرَكَاتِ ، وَإِلَى الْأَحْسَنِ إنْ كَانَ الْمُبْتَدِئُ اقْتَصَرَ دُونَ الْبَرَكَاتِ ا هـ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّبْعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ ، وَمَا يَحْرُمُ وَمَا يُنْدَبُ ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَتَأْمُرُنَّ وَلَتَنْهَوُنَّ أَوْ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ فَلِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ : ( الشَّرْطُ الْأَوَّلُ ) أَنْ يَعْلَمَ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ فَالْجَاهِلُ بِالْحُكْمِ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّهْيُ عَمَّا يَرَاهُ ، وَلَا الْأَمْرُ بِهِ ( الشَّرْطُ الثَّانِي ) : أَنْ يَأْمَنَ مِنْ أَنْ يَكُونَ يُؤَدِّي إنْكَارُهُ إلَى مُنْكَرٍ أَكْبَرَ مِنْهُ مِثْلُ أَنْ يَنْهَى عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ فَيُؤَدِّيَ نَهْيُهُ عَنْهُ إلَى قَتْلِ النَّفْسِ أَوْ نَحْوِهِ ( الشَّرْطُ الثَّالِثُ ) : أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ إنْكَارَهُ الْمُنْكَرَ مُزِيلٌ لَهُ ، وَأَنَّ أَمْرَهُ بِالْمَعْرُوفِ مُؤَثِّرٌ فِي تَحْصِيلِهِ فَعَدَمُ أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ وَعَدَمُ الشَّرْطِ الثَّالِثِ يُسْقِطُ الْوُجُوبَ وَيُبْقِي الْجَوَازَ وَالنَّدْبَ ثُمَّ مَرَاتِبُ الْإِنْكَارِ ثَلَاثَةٌ أَقْوَاهَا أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَيْنًا مَعَ الْقُدْرَةِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ انْتَقَلَ لِلتَّغْيِيرِ بِالْقَوْلِ ، وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ وَلْيَكُنْ الْقَوْلُ بِرِفْقٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ أَمَرَ مُسْلِمًا بِمَعْرُوفٍ فَلْيَكُنْ أَمْرُهُ كَذَلِكَ } قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْقَوْلِ انْتَقَلَ لِلرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ وَهِيَ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ ، وَهِيَ أَضْعَفُهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ } وَلَيْسَ وَرَاءَ

ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ ، وَيُرْوَى { وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد ، وَفِي الصَّحِيحِ نَحْوُهُ ( سُؤَالٌ ) قَدْ نَجِدُ أَعْظَمَ النَّاسِ إيمَانًا يَعْجِزُ عَنْ الْإِنْكَارِ ، وَعَجْزُهُ لَا يُنَافِي تَعْظِيمَهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَقُوَّةِ الْإِيمَانِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَهُ أَوْ أَسْقَطَهُ عَنْهُ بِسَبَبِ عَجْزِهِ عَنْ الْإِنْكَارِ لِكَوْنِهِ يُؤَدِّي لِمَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ أَوْ نَقُولُ : لَا يَلْزَمُ مِنْ الْعَجْزِ عَنْ الْقُرْبَةِ نَقْصُ الْإِيمَانِ ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } جَوَابُهُ الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ هَا هُنَا الْإِيمَانُ الْفِعْلِيُّ الْوَارِدُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ } أَيْ صَلَاتَكُمْ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالصَّلَاةُ فِعْلٌ ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْإِيمَانُ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ شُعْبَةً وَقِيلَ : بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ } وَهَذِهِ التَّجْزِئَةُ إنَّمَا تَصِحُّ فِي الْأَفْعَالِ وَقَدْ سَمَّاهَا إيمَانًا وَأَقْوَى الْإِيمَانِ الْفِعْلِيِّ إزَالَةُ الْيَدِ لِاسْتِلْزَامِهِ إزَالَةَ الْمَفْسَدَةِ عَلَى الْفَوْرِ ثُمَّ الْقَوْلُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا تَقَعُ مَعَهُ الْإِزَالَةُ ، وَقَدْ تَقَعُ ، وَالْإِنْكَارُ الْقَلْبِيُّ لَا يُورِثُ إزَالَةً أَلْبَتَّةَ ، أَوْ يُلَاحَظُ عَدَمُ تَأْثِيرِهِ فِي الْإِزَالَةِ فَيَبْقَى الْإِيمَانُ مُطْلَقًا ، وَهَا هُنَا سِتُّ مَسَائِلَ يَكْمُلُ بِهَا الْفَرْقُ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) أَنَّ الْوَالِدَيْنِ يَأْمُرَانِ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَيَانِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، قَالَ مَالِكٌ : وَيَخْفِضُ لَهُمَا فِي ذَلِكَ جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَمَا يَحْرُمُ وَمَا يُنْدَبُ ) وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَاجِبٌ إذَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ شُرُوطٌ ثَلَاثٌ ( الشَّرْطُ الْأَوَّلُ ) أَنْ يَعْلَمَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ ( الشَّرْطُ الثَّانِي ) أَنْ يَأْمَنَ مِنْ أَنْ يُؤَدِّيَ إنْكَارُهُ إلَى مُنْكَرٍ أَكْبَرَ مِنْهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ إذَا نَهَاهُ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ إمَّا فِي غَيْرِ النَّاهِي ، وَإِمَّا فِي النَّاهِي كَأَنْ يَنْهَاهُ عَنْ الزِّنَا فَيَقْتُلَهُ ( الشَّرْطُ الثَّالِثُ ) : أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ إنْكَارَهُ الْمُنْكَرَ مُزِيلٌ لَهُ ، وَأَنَّ أَمْرَهُ بِالْمَعْرُوفِ مُؤَثِّرٌ فِي تَحْصِيلِهِ ، وَمُحَرَّمٌ إذَا كَانَ يَعْتَقِدُ الْمُلَابِسُ تَحْرِيمَهُ ، وَإِذَا فُقِدَ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَلَا يَحِلُّ لِلْجَاهِلِ بِالْحُكْمِ النَّهْيُ عَمَّا يَرَاهُ ، وَلَا الْأَمْرُ بِهِ ، وَلَا لِمَنْ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يُؤَدِّيَ إنْكَارُهُ عَنْ الْمُنْكَرِ إلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ أَمَّا فِي غَيْرِ النَّاهِي فَبِالِاتِّفَاقِ ، وَأَمَّا فِي نَفْسِ النَّاهِي فَعَلَى الْخِلَافِ الْآتِي ، وَمَنْدُوبٌ إذَا كَانَ لَا يَعْتَقِدُ الْمُلَابِسُ حِلَّهُ ، وَلَا حُرْمَتَهُ ، وَهُوَ مُتَقَارِبُ الْمَدَارِكِ وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ مَكْرُوهًا لَا حَرَامًا ، وَالْمَتْرُوكُ مَنْدُوبًا لَا وَاجِبًا ، وَإِذَا عُدِمَ الشَّرْطُ الثَّالِثُ بِأَنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ إنْكَارَهُ الْمُنْكَرَ مُزِيلٌ لَهُ ، وَأَنَّ أَمْرَهُ بِالْمَعْرُوفِ مُؤَثِّرٌ فِي تَحْصِيلِهِ بَلْ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ الْإِزَالَةُ وَعَدَمُهَا وَالتَّأْثِيرُ وَعَدَمُهُ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ الْإِزَالَةِ وَعَدَمُهَا وَالتَّأْثِيرُ وَعَدَمُهُ فَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ الْوَاجِبُ وَيَبْقَى الْجَوَازُ وَالنَّدْبُ وَتَوْضِيحُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْوُجُوبِ حَالَةً وَاحِدَةً ، وَهِيَ مَا إذَا اجْتَمَعَتْ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ الشُّرُوطُ الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ ، وَأَنَّ لِلتَّحْرِيمِ ثَلَاثَ

حَالَاتٍ ( الْحَالَةُ الْأُولَى ) : مَا إذَا اعْتَقَدَ الْمُلَابِسُ لِلْمُنْكِرِ تَحْرِيمَهُ ( وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ ) مَا إذَا فُقِدَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ بِأَنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا يُؤْمَرُ بِهِ وَيُنْهَى عَنْهُ ( الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ ) : مَا إذَا فُقِدَ الشَّرْطُ الثَّانِي وَتَحْتَهُ قِسْمَانِ : الْأَوَّلُ : أَنْ يُؤَدِّيَ إنْكَارُهُ الْمُنْكَرَ إلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي غَيْرِ النَّاهِي فَيَتَّفِقَ النَّاسُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَحْرُمُ النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ ( الْقِسْمُ الثَّانِي ) : أَنْ يُؤَدِّيَ إنْكَارُهُ الْمُنْكَرَ إلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي النَّاهِي بِأَنْ يَنْهَاهُ عَنْ الزِّنَا فَيَقْتُلَهُ فَيَخْتَلِفَ النَّاسُ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّاهُ بِالْأَوَّلِ نَظَرًا لِعِظَمِ الْمَفْسَدَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ ، وَقَالَ : هَذَا لَا يُمْنَعُ ، وَالتَّغْرِيرُ بِالنُّفُوسِ مَشْرُوعٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } فَمَدَحَهُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قُتِلُوا بِسَبَبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَنَّهُمْ مَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَذْلَ النُّفُوسِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - مَأْمُورٌ بِهِ ، وَقُتِلَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا بِسَبَبِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَزْوِيجِ الرَّبِيبَةِ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ } ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ بِمُجَرَّدِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَجَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الْجِهَادِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ كَلِمَةٍ وَكَلِمَةٍ كَانَتْ فِي الْأُصُولِ أَوْ الْفَرْعِ مِنْ الْكَبَائِرِ أَوْ الصَّغَائِرِ وَقَدْ خَرَجَ ابْنُ الْأَشْعَثِ مَعَ جَمْعٍ كَبِيرٍ مِنْ التَّابِعِينَ فِي قِتَالِ الْحَجَّاجِ وَعَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْقَتْلِ وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلَائِقُ كَثِيرَةٌ بِسَبَبِ إزَالَةِ ظُلْمِ الْحَجَّاجِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْفُرُوعِ

لَا فِي الْأُصُولِ ، وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْجَدِّ وَالْعَزَائِمِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ فَيَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ الْعُظْمَى إنَّمَا تُمْنَعُ إذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْقَبِيلِ أَمَّا هَذَا فَلَا ، وَأَنَّ لِلنَّدَبِ ثَلَاثَ حَالَاتٍ ( الْحَالَةُ الْأُولَى ) : مَا إذَا كَانَ الْمُلَابِسُ لِلْمُنْكَرِ لَا يَعْتَقِدُ حِلَّهُ ، وَلَا حُرْمَتَهُ ، وَهُوَ مُتَقَارِبُ الْمَدَارِكِ ( وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ ) مَا إذَا كَانَ الْفِعْلُ مَكْرُوهًا لَا حَرَامًا ، وَالْمَتْرُوكُ مَنْدُوبًا لَا وَاجِبًا ( وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ ) مَا إذَا فُقِدَ الشَّرْطُ الثَّالِثُ بِأَنْ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ الْإِزَالَةُ وَعَدَمُهَا وَالتَّأْثِيرُ وَعَدَمُهُ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ الْإِزَالَةِ وَعَدَمُ التَّأْثِيرِ هَذَا تَهْذِيبُ مَا فِي الْأَصْلِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ قُلْت : وَيُؤْخَذُ مِنْ الْحَالَةِ الْأُولَى لِلتَّحْرِيمِ ، وَالْحَالَةِ الْأُولَى لِلنَّدَبِ أَنَّ لِلْوُجُوبِ حَالَةً ثَانِيَةً هِيَ مَا إذَا كَانَ الْمُلَابِسُ لِلْمُنْكَرِ الْمُتَّفَقِ عَلَى إنْكَارِهِ أَوْ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ مَعَ ضَعْفِ مَدْرِك التَّحْلِيلِ جِدًّا يُعْتَقَدُ حِلُّهُ كَمَا لَا يَخْفَى فَتَأَمَّلْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ( وَصْلٌ ) مَرَاتِبُ الْإِنْكَارِ ثَلَاثَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا مَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ } وَيُرْوَى { وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } وَفِي الصَّحِيحِ نَحْوُهُ وَأَقْوَاهَا أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَيْنًا مَعَ الْقُدْرَةِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ انْتَقَلَ لِلتَّغْيِيرِ بِالْقَوْلِ ، وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ وَلْيَكُنْ الْقَوْلُ بِرِفْقٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ أَمَرَ مُسْلِمًا بِمَعْرُوفٍ فَلْيَكُنْ أَمْرُهُ كَذَلِكَ } قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا

لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْقَوْلِ انْتَقَلَ لِلرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ ، وَهِيَ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ ، وَهِيَ أَضْعَفُهَا قَالَ الْأَصْلُ : وَعَجْزُهُ عَنْ الْإِنْكَارِ بِالْيَدِ أَوْ بِالْقَوْلِ ، وَإِنْ كَانَ أَعْظَمَ النَّاسِ إيمَانًا لَا يُنَافِي تَعْظِيمَهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَقُوَّةَ الْإِيمَانِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَهُ أَوْ أَسْقَطَهُ عَنْهُ بِسَبَبِ عَجْزِهِ عَنْ الْإِنْكَارِ لِكَوْنِهِ يُؤَدِّي لِمَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ ، أَوْ نَقُولُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْعَجْزِ عَنْ الْقُرْبَةِ نَقْصُ الْإِيمَانِ وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } الْإِيمَانُ الْفِعْلِيُّ الْوَارِدُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ } أَيْ صَلَاتَكُمْ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالصَّلَاةُ فِعْلٌ ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْإِيمَانُ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ شُعْبَةً ، وَقِيلَ : بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ } وَهَذِهِ التَّجْزِئَةُ إنَّمَا تَصِحُّ فِي الْأَفْعَالِ وَقَدْ سَمَّاهَا إيمَانًا وَأَقْوَى الْإِيمَانِ الْفِعْلِيِّ إزَالَةُ الْيَدِ لِاسْتِلْزَامِهِ إزَالَةَ الْمَفْسَدَةِ عَلَى الْفَوْرِ ثُمَّ الْقَوْلُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا تَقَعُ مَعَهُ الْإِزَالَةُ وَقَدْ تَقَعُ وَالْإِنْكَارُ الْقَلْبِيُّ لَا يُؤَثِّرُ إزَالَةً أَلْبَتَّةَ ، أَوْ يُلَاحَظُ عَدَمُ تَأْثِيرِهِ فِي الْإِزَالَةِ فَيَبْقَى الْإِيمَانُ ا هـ وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الْأَمِيرُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى جَوْهَرَةِ التَّوْحِيدِ : وَمَعْنَى ضَعْفِهِ دَلَالَتُهُ عَلَى غَرَابَةِ الْإِسْلَامِ وَعَدَمِ انْتِظَامِهِ ، وَإِلَّا فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا ا هـ يُرِيدُ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي الْحَدِيثِ بَاقٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ الْقَلْبِيِّ وَالْمُرَادُ بِضَعْفِهِ ضَعْفُهُ فِي زَمَنِ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِنْكَارِ بِالْيَدِ أَوْ

بِالْقَوْلِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ حَدِيثُ { بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ } لَا ضَعْفُهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُنْكِرِ بِقَلْبِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ ( وَصْلٌ ) فِي خَمْسِ مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَيَكْمُلُ بِهَا الْفَرْقُ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) يَأْمُرُ الْوَلَدُ وَالِدَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ مَالِكٌ : وَيَخْفِضُ لَهُمَا فِي ذَلِكَ جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ .

( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لَا يُشْتَرَطُ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونَ مُلَابِسُهُ عَاصِيًا بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُلَابِسًا لِمَفْسَدَةٍ وَاجِبَةِ الدَّفْعِ أَوْ تَارِكًا لِمَصْلَحَةٍ وَاجِبَةِ الْحُصُولِ ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ أَحَدُهَا أَمْرُ الْجَاهِلِ بِمَعْرُوفٍ لَا يَعْرِفُ وُجُوبَهُ وَنَهْيَهُ عَنْ مُنْكَرٍ لَا يَعْرِفُ تَحْرِيمَهُ كَنَهْيِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أُمَمَهَا أَوَّلَ بَعْثَتِهَا ، وَثَانِيهَا : قِتَالُ الْبُغَاةِ وَهُمْ عَلَى تَأْوِيلٍ ، وَثَالِثُهَا ضَرْبُ الصِّبْيَانِ عَلَى مُلَابَسَةِ الْفَوَاحِشِ ، وَرَابِعُهَا قَتْلُ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ إذَا صَالُوا عَلَى الدِّمَاءِ وَالْأَبْضَاعِ وَلَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُمْ إلَّا بِقَتْلِهِمْ وَخَامِسُهَا أَنْ يُوَكِّلَ وَكِيلًا بِالْقِصَاصِ ثُمَّ يَعْفُوَ أَوْ يُخْبِرَ الْوَكِيلَ فَاسِقٌ بِالْعَفْوِ أَوْ مُتَّهَمٌ فَلَا يُصَدِّقُهُ فَأَرَادَ الْقِصَاصَ فَلِلْفَاسِقِ الَّذِي أَخْبَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ الْقِصَاصِ ، وَلَوْ بِالْقَتْلِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَسَادِسُهَا وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ جَارِيَةٍ فَبَاعَهَا ، فَأَرَادَ الْمُوَكِّلُ أَنْ يَطَأَهَا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الْوَكِيلَ لَمْ يَبِعْهَا فَأَخْبَرَهُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اشْتَرَاهَا فَلَمْ يُصَدِّقْهُ فَلِلْمُشْتَرِي دَفْعُهُ ، وَلَوْ بِالْقَتْلِ وَسَابِعُهَا ضَرْبُ الْبَهَائِمِ لِلتَّعْلِيمِ وَالرِّيَاضَةِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الشِّمَاسِ وَالْجِمَاحِ

( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَا يُشْتَرَطُ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونَ مُلَابِسُهُ عَاصِيًا بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُلَابِسًا لِمَفْسَدَةٍ وَاجِبَةِ الدَّفْعِ أَوْ تَارِكًا لِمَصْلَحَةٍ وَاجِبَةِ الْحُصُولِ ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا أَمْرُ الْجَاهِلِ بِمَعْرُوفٍ لَا يَعْرِفُ وُجُوبَهُ وَنَهْيُهُ عَنْ مُنْكَرٍ لَا يَعْرِفُ تَحْرِيمَهُ كَنَهْيِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أُمَمَهَا أَوَّلَ بَعْثَتِهَا وَمِنْهَا قِتَالُ الْبُغَاةِ وَهُمْ عَلَى تَأْوِيلٍ وَمِنْهَا ضَرْبُ الصِّبْيَانِ عَلَى مُلَابَسَةِ الْفَوَاحِشِ وَمِنْهَا قَتْلُ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ إذَا صَالُوا عَلَى الدِّمَاءِ وَالْأَبْضَاعِ وَلَمْ يُمْكِنُ دَفْعُهُمْ إلَّا بِقَتْلِهِمْ ، وَمِنْهَا أَنْ يُوَكِّلَ وَكِيلًا بِالْقِصَاصِ ثُمَّ يَعْفُوَ وَيُخْبِرَ فَاسِقٌ أَوْ مُتَّهَمٌ الْوَكِيلَ بِالْعَفْوِ فَلَا يُصَدِّقُهُ فَلِلْفَاسِقِ أَوْ الْمُتَّهَمِ الَّذِي أَخْبَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ الْقِصَاصِ إذًا دَفْعًا بِالْقَتْلِ الْوَارِدَةِ لِمَفْسَدَةِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَمِنْهَا أَنْ يُوَكِّلَ سَيِّدُ الْجَارِيَةِ وَكِيلًا فِي بَيْعِهَا فَيَبِيعَهَا وَيُخْبِرَهُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْوَكِيلِ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ وَيُرِيدُ وَطْأَهَا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الْوَكِيلَ لَمْ يَبِعْهَا فَلِلْمُشْتَرِي دَفْعُهُ وَلَوْ بِالْقَتْلِ ، وَمِنْهَا ضَرْبُ الْبَهَائِمِ لِلتَّعْلِيمِ وَالرِّيَاضَةِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الشِّمَاسِ وَالْجِمَاحِ .

( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) قَالَ الْعُلَمَاءُ : الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ إجْمَاعًا فَمَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِمَعْرُوفٍ وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَنْ يَرَى جَمَاعَةً تَرَكُوا الصَّلَاةَ فَيَأْمُرَهُمْ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ قُومُوا لِلصَّلَاةِ
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) قَالَ الْعُلَمَاءُ : الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ إجْمَاعًا فَمَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِمَعْرُوفٍ وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَنْ يَرَى جَمَاعَةً تَرَكُوا الصَّلَاةَ فَيَأْمُرُهُمْ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ قُومُوا لِلصَّلَاةِ .

( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) إذَا رَأَيْنَا مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مُخْتَلَفًا فِي تَحْرِيمِهِ وَتَحْلِيلِهِ ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ أَنْكَرْنَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْتَهِكٌ لِلْحُرْمَةِ مِنْ جِهَةِ اعْتِقَادِهِ ، وَإِنْ اعْتَقَدَ تَحْلِيلَهُ لَمْ نُنْكِرْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَاصِيًا ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، وَلَكِنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ الْمَفْسَدَةُ الْمُوجِبَةُ لِإِبَاحَةِ الْإِنْكَارِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُدْرَكُ الْقَوْلِ بِالتَّحْلِيلِ ضَعِيفًا جِدًّا يُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِمِثْلِهِ لِبُطْلَانِهِ فِي الشَّرْعِ كَوَاطِئِ الْجَارِيَةِ بِالْإِبَاحَةِ مُعْتَقِدًا لِمَذْهَبِ عَطَاءٍ وَشَارِبِ النَّبِيذِ مُعْتَقِدًا مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمًا ، وَلَا تَحْلِيلًا ، وَالْمَدَارِكُ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ مُتَقَارِبَةٌ أُرْشِدَ لِلتَّرْكِ بِرِفْقٍ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْوَرَعِ الْمَنْدُوبِ ، وَالْأَمْرُ بِالْمَنْدُوبَاتِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ هَكَذَا شَأْنُهُمَا الْإِرْشَادُ مِنْ غَيْرِ تَوْبِيخٍ

( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) الْمُخْتَلَفُ فِي تَحْرِيمِهِ وَتَحْلِيلِهِ إنْ رَأَيْنَا مَنْ فَعَلَهُ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ أَنْكَرْنَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْتَهِكٌ لِلْحُرْمَةِ مِنْ جِهَةِ اعْتِقَادِهِ فَإِنْ رَأَيْنَاهُ مُعْتَقِدًا تَحْلِيلَهُ لَمْ نُنْكِرْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَاصٍ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ إلَّا أَنَّ الْمَفْسَدَةَ الْمُوجِبَةَ لِإِبَاحَةِ الْإِنْكَارِ لَمْ تَتَعَيَّنْ نَعَمْ إنْ كَانَ مَدْرَكُ الْقَوْلِ بِالتَّحْلِيلِ ضَعِيفًا جِدًّا يَنْقُصُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِمِثْلِهِ لِبُطْلَانِهِ فِي الشَّرْعِ كَوَاطِئِ الْجَارِيَةِ بِالْإِبَاحَةِ مُعْتَقِدًا لِمَذْهَبِ عَطَاءٍ وَشَارِبِ النَّبِيذِ مُعْتَقِدًا لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْكَرْنَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ رَأَيْنَاهُ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ تَحْرِيمًا ، وَلَا تَحْلِيلًا ، وَالْمَدَارِكُ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ مُتَقَارِبَةٌ أَرْشَدَ لِلتَّرْكِ بِرِفْقٍ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْوَرَعِ الْمَنْدُوبِ ، وَالْأَمْرُ بِالْمَنْدُوبَاتِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ هَكَذَا أَيْ الْمَكْرُوهَاتِ شَأْنُهَا الْإِرْشَادُ مِنْ غَيْرِ تَوْبِيخٍ

( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) الْمَنْدُوبَاتُ وَالْمَكْرُوهَاتُ يَدْخُلُهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْشَادِ لِلْوَرَعِ ، وَلِمَا هُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِ تَعْنِيفٍ ، وَلَا تَوْبِيخٍ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى
( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) يَدْخُلُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ الْمَنْدُوبَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْشَادِ لِلْوَرَعِ وَلِمَا هُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِ تَعْنِيفٍ ، وَلَا تَوْبِيخٍ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى أَفَادَهُ الْأَصْلُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ ) قَوْلُنَا فِي شَرْطِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى مَفْسَدَةٍ هِيَ أَعْظَمُ ، هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ قِسْمَانِ تَارَةً تَكُونُ إذَا نَهَاهُ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي غَيْرِ النَّاهِي ، وَتَارَةً يَفْعَلُهُ فِي النَّاهِي بِأَنْ يَنْهَاهُ عَنْ الزِّنَا فَيَقْتُلَهُ أَعْنِي النَّاهِيَ يَقْتُلُهُ الْمُلَابِسُ لِلْمُنْكَرِ ، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَحْرُمُ النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّاهُ بِالْأَوَّلِ نَظَرَ لِعِظَمِ الْمَفْسَدَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ ، وَقَالَ : هَذَا لَا يَمْنَعُ ، وَالتَّعْذِيرُ بِالنُّفُوسِ مَشْرُوعٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } مَدَحَهُمْ بِأَنَّهُمْ قُتِلُوا بِسَبَبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَنَّهُمْ مَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَذْلَ النُّفُوسِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَأْمُورٌ بِهِ وَقُتِلَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا بِسَبَبِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَزْوِيجِ الرَّبِيبَةِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ بِمُجَرَّدِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَجَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الْجِهَادِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ كَلِمَةٍ وَكَلِمَةٍ كَانَتْ فِي الْأُصُولِ أَوْ الْفُرُوعِ مِنْ الْكَبَائِرِ أَوْ الصَّغَائِرِ ، وَقَدْ خَرَجَ ابْنُ الْأَشْعَثِ مَعَ جَمْعٍ كَبِيرٍ مِنْ التَّابِعِينَ فِي قِتَالِ الْحَجَّاجِ وَعَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْقَتْلِ وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلَائِقُ كَثِيرَةٌ بِسَبَبِ إزَالَةِ ظُلْمِ الْحَجَّاجِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْفُرُوعِ لَا فِي الْأُصُولِ ، وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَزَلْ

أَهْلُ الْجِدِّ وَالْعَزَائِمِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ فَيَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ الْعُظْمَى إنَّمَا تُمْنَعُ إذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْقَبِيلِ أَمَّا هَذَا فَلَا ؛ فَتَلَخَّصَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَاجِبٌ إذَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ تِلْكَ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ ، وَمُحَرَّمٌ إذَا كَانَ يَعْتَقِدُ الْمُلَابِسُ تَحْرِيمَهُ ، وَإِذَا فُقِدَ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ، وَمَنْدُوبٌ إذَا كَانَ لَا يَعْتَقِدُ حِلَّهُ ، وَلَا حُرْمَتَهُ ، وَهُوَ مُتَقَارِبُ الْمَدَارِكِ ، وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ مَكْرُوهًا لَا حَرَامًا أَوْ الْمَتْرُوكُ مَنْدُوبًا لَا وَاجِبًا فَقَدْ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْفَرْقِ

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَجِبُ تَعَلُّمُهُ مِنْ النُّجُومِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَجِبُ ) ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا أَنَّ التَّوَجُّهَ لِلْكَعْبَةِ لَا يَسُوغُ فِيهِ التَّقْلِيدُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاجْتِهَادِ ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى التَّعَلُّمِ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعَلُّمُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ ، وَمُعْظَمُ أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ فِي النُّجُومِ فَيَجِبُ تَعَلُّمُ مَا تُعْلَمُ بِهِ الْقِبْلَةُ كَالْفَرْقَدَيْنِ وَالْجَدْيِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا فِي مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ تَعَلُّمَ هَذَا الْقِسْمِ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : يَتَعَلَّمُ مِنْ أَحْكَامِ النُّجُومِ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى الْقِبْلَةِ وَأَجْزَاءِ اللَّيْلِ ، وَمَا مَضَى مِنْهُ وَمَا يَهْتَدِي بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، وَتُعْرَفُ مَوَاضِعُهَا مِنْ الْفَلَكِ وَأَوْقَاتِ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } ( قُلْت : ) وَمُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ أَنْ يَكُونَ مَا يُعْرَفُ بِهِ مِنْهَا أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ لِجَوَازِ التَّقْلِيدِ فِي الْأَوْقَاتِ قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ : يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ إلَّا الزَّوَالَ فَإِنَّهُ ضَرُورِيٌّ يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ التَّقْلِيدِ ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْأَوْقَاتِ وَاجِبَةٌ يَكُونُ مَا تُعْرَفُ بِهِ الْأَوْقَاتُ فَرْضَ كِفَايَةٍ ، وَيَكُونُ مَوْطِنُ الِاسْتِحْبَابِ هُوَ مَا يُعِينُ عَلَى الْأَسْفَارِ ، وَيُخْرِجُ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَأَمَّا مَا يَقْتَضِي إلَى مَعْرِفَةِ نُقْصَانِ الشَّهْرِ وَوَقْتِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَمَكْرُوهٌ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ فَهُوَ اشْتِغَالٌ بِغَيْرِ مُفِيدٍ قَالَ : وَكَذَلِكَ مَا يُعْرَفُ بِهِ الْكُسُوفَاتِ مَكْرُوهٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُغْنِي شَيْئًا ، وَيُوهِمُ الْعَامَّةَ أَنَّهُ

يَعْلَمُ الْغَيْبَ بِالْحِسَابِ فَيُزْجَرُ عَنْ الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ ، وَيُؤَدَّبُ عَلَيْهِ قَالَ : وَأَمَّا مَا يُخْبِرُ بِهِ الْمُنَجِّمُ مِنْ الْغَيْبِ مِنْ نُزُولِ الْأَمْطَارِ وَغَيْرِهِ فَقِيلَ : ذَلِكَ كُفْرٌ يُقْتَلُ بِغَيْرِ اسْتِتَابَةٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ } وَقِيلَ : يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ ، وَإِلَّا قُتِلَ قَالَهُ أَشْهَبُ وَقِيلَ : يُزْجَرُ عَنْ ذَلِكَ وَيُؤَدَّبُ ، وَلَيْسَ اخْتِلَافًا فِي قَوْلٍ بَلْ اخْتِلَافٌ فِي حَالٍ ، فَإِنْ قَالَ : إنَّ الْكَوَاكِبَ مُسْتَقِلَّةٌ بِالتَّأْثِيرِ قُتِلَ ، وَلَمْ يُسْتَتَبْ إنْ كَانَ يَسُرُّهُ ؛ لِأَنَّهُ زِنْدِيقٌ ، وَإِنْ أَظْهَرَهُ فَهُوَ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ ، وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - هُوَ الْفَاعِلُ عِنْدَهَا زُجِرَ عَنْ الِاعْتِقَادِ الْكَاذِبِ ؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ تُسْقِطُ الْعَدَالَةَ ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ تَصْدِيقُهُ قَالَ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ فِيمَا يُصِيبُونَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْغَالِبِ نَحْوُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إذَا نَشَأَتْ بَحْرِيَّةٌ ثُمَّ تَشَاءَمَتْ فَتِلْكَ عَيْنٌ غُدَيْقَةٌ } فَهَذَا تَلْخِيصُ قَاعِدَةِ مَا يَجِبُ وَيَحْرُمُ مِنْ تَعَلُّمِ أَحْكَامِ النُّجُومِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31