كتاب : أنوار البروق في أنواع الفروق
المؤلف : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي

الْإِخْلَاصِ فَيَنْتَفِي ذَلِكَ الْحُكْمُ كَمَا يَنْتَفِي الْحُكْمُ بِالْإِيمَانِ بِسَبَبِ مُلَابَسَةِ الْكُفْرِ وَالْحُكْمُ بِالْكُفْرِ بِسَبَبِ مُلَابَسَةِ الْإِيمَانِ وَرَابِعُهَا النِّيَّةُ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ تَحْصُلُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ فَهَذِهِ هِيَ النِّيَّةُ الْفِعْلِيَّةُ فَإِذَا غَفَلَ عَنْهَا فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ حَكَمَ صَاحِبُ الشَّرْعِ بِأَنَّهُ نَاوٍ وَلَهُ أَحْكَامُ النَّاوِينَ لِتِلْكَ الْعِبَادَاتِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْمَعَانِي الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَالْمَأْمُورِ بِهَا مِنْ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَحُبِّ السُّمْعَةِ وَالْإِذْلَالِ وَقَصْدِ الْفَسَادِ وَإِرَادَةِ الْعِنَادِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمَنْهِيَّاتِ وَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ وَبُغْضِ الْكَافِرِينَ وَتَعْظِيمِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَقَصْدِ نَفْعِ الْإِخْوَانِ وَإِرَادَةِ الْبُعْدِ عَنْ حُرُمَاتِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَأْمُورَاتِ فَكُلُّ مَنْ خَطَرَ بِبَالِهِ مَعْنًى مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي ثُمَّ غَفَلَ عَنْهَا كَانَ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَعْنَى حَتَّى يُلَابِسَ ضِدَّهُ فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ فِي هَذِهِ الْفُرُوقِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَالْحُكْمِيَّاتُ أَبَدًا فِي هَذَا الْبَابِ فَرْعُ الْفِعْلِيَّاتِ .
وَهَاهُنَا خَمْسُ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) مَنْ خَرِسَ لِسَانُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَذَهَبَ عَقْلُهُ فَلَمْ يَنْطِقْ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَا أَحْضَرَ الْإِيمَانَ بِقَلْبِهِ وَمَاتَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مَاتَ مُؤْمِنًا وَلَا يَضُرُّهُ عَدَمُ الْإِيمَانِ الْفِعْلِيِّ عِنْدَ الْمَوْتِ كَمَا أَنَّ الْكَافِرَ إذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَخْرَسَ ذَاهِبَ الْعَقْلِ عَاجِزًا عَنْ الْكُفْرِ فِي تِلْكَ الْحَالِ لِعَدَمِ صَلَاحِيَّتِهِ لَهُ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ وَحُكْمُهُ عِنْدَ اللَّهِ حُكْمُ الَّذِينَ اسْتَحْضَرُوا الْكُفْرَ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِالْفِعْلِ فَالْمُعْتَبَرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كُفْرٍ وَإِيمَانٍ وَلَا يَضُرُّ الْعَدَمُ فِي الْمَعْنَى عِنْدَ الْمَوْتِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ

) إذَا سَهَا عَنْ السُّجُودِ فِي الْأُولَى وَالرُّكُوعِ فِي الثَّانِيَةِ لَا يَنْضَافُ سُجُودُ الثَّانِيَةِ لِرُكُوعِ الْأُولَى إلَّا أَنْ يَقْصِدَ بِهِ إضَافَتَهُ لِلْأُولَى وَلَا تَكْفِيهِ النِّيَّةُ الْفِعْلِيَّةُ الْمُقَارِنَةُ لِأَوَّلِ الصَّلَاةِ بِسَبَبِ أَنَّ النِّيَّةَ الْحُكْمِيَّةَ هِيَ فَرْعُ الْفِعْلِيَّةِ عَلَى حَسْبِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ وَالنِّيَّةُ الْفِعْلِيَّةُ الْأُولَى إنَّمَا تَنَاوَلَتْ الْفِعْلَ الشَّرْعِيَّ لَا بِوَصْفِ كَوْنِهِ مُرَقَّعًا بَلْ عَلَى مَجَارِي الْعَادَةِ فِي الْأَكْثَرِ فَهَذِهِ الصَّلَاةُ الْمُرْقَعَةُ الْخَارِجَةُ عَنْ نَمَطِ الْعَادَةِ لَا تَتَنَاوَلُهَا النِّيَّةُ الْحُكْمِيَّةُ لِأَنَّهَا فَرْعُ الْفِعْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةُ لَمْ تَتَنَاوَلْهَا فَكَذَلِكَ الْحُكْمِيَّةُ الَّتِي هِيَ فَرْعُ الْفِعْلِيَّةِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا الصَّلَاةَ الْمُرَتَّبَةَ الْعَادِيَّةَ لَا الصَّلَاةَ الْمُرْقَعَةَ فَبَقِيَتْ الْمُرْقَعَةُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ فِعْلِيَّةٍ وَلَا حُكْمِيَّةٍ فَاحْتَاجَتْ إلَى نِيَّةٍ مُجَدِّدَةٍ لِلتَّرْقِيعِ وَلِأَنَّ الْمُرْقَعَةَ الْمَتْرُوكَ رُكُوعُهَا وَسُجُودُهَا حَتَّى يَنْضَافَ إلَيْهَا سُجُودٌ مِنْ رَكْعَةٍ أُخْرَى غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ إجْمَاعًا وَغَيْرُ الْمَشْرُوعِ قُرْبَةٌ لَا يُنْوَى شَرْعًا فَلَيْسَ فِيهَا نِيَّةٌ فِعْلِيَّةٌ قَطْعًا وَلَيْسَ لَهَا نِيَّةٌ حُكْمِيَّةٌ قَطْعًا فَإِنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا يَحْكُمُ بِاسْتِصْحَابِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ النِّيَّةِ فَإِذَا لَمْ تَتَقَدَّمْ نِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ لَا يَحْكُمُ الشَّرْعُ بِاسْتِصْحَابِهَا قَطْعًا فَهَذِهِ الْمُرْقَعَةُ خَالِيَةٌ مِنْ النِّيَّةِ قَطْعًا فَتَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ إجْمَاعًا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلصَّلَاةِ مِنْ النِّيَّةِ إجْمَاعًا فَهَذَا تَقْرِيرٌ ظَاهِرٌ قَطْعِيٌّ فَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْأُمُورِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي يَذْكُرُهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) إذَا نَسِيَ سَجْدَةً مِنْ الْأُولَى ثُمَّ ذَكَرَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يَقُومُ إلَى رَكْعَةٍ خَامِسَةٍ يَجْعَلُهَا عِوَضَ الْأُولَى وَلَا بُدَّ لِهَذِهِ الرَّكْعَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ نِيَّةٍ مُجَدَّدَةٍ بِأَنَّهَا

عِوَضٌ عَنْ الْأُولَى وَإِلَّا فَلَا تَكُونُ عِوَضًا عَنْ الْأُولَى بِالنِّيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوَّلَ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا لَمْ تَتَنَاوَلْ إلَّا الصَّلَاةَ الْعَادِيَّةَ أَمَّا الْمُرَقَّعَاتُ فَلَا وَكَذَلِكَ الْحُكْمِيَّةُ الَّتِي هِيَ فَرْعُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةٍ جَدِيدَةٍ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نِيَّةٍ فِعْلِيَّةٍ أَوْ حُكْمِيَّةٍ فَمَتَى عَرَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ عَنْهَا بَطَلَتْ الصَّلَاةُ مَا لَمْ تُسْتَدْرَكْ بِالنِّيَّةِ عَنْ قُرْبٍ .
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ مَنْ بَقِيَتْ رِجْلَاهُ مِنْ وُضُوئِهِ فَخَاضَ بِهِمَا نَهْرًا فَدَلَّكَهُمَا فِيهِ بِيَدَيْهِ وَلَمْ يَنْوِ بِهِمَا تَمَامَ وُضُوئِهِ لَمْ يَجْزِهِ حَتَّى يَنْوِيَهُ قُلْت وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ النِّيَّةَ الْفِعْلِيَّةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ إلَّا الْوُضُوءَ الْعَادِيَّ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ أَوَّلَ الْعِبَادَةِ أَوْ الْوُضُوءِ لَا يُقْدِمُ عَلَى تَرْقِيعِ الصَّلَاةِ وَلَا تَرْقِيعِ وُضُوئِهِ بَلْ إنَّمَا يَقْصِدُ الْعِبَادَةَ الَّتِي لَا تَرْقِيعَ فِيهَا فَالْمُرَقَّعَةُ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا لَا النِّيَّةُ الْفِعْلِيَّةُ وَلَا الْحُكْمِيَّةُ الَّتِي هِيَ فَرْعُ الْفِعْلِيَّةِ فَلَا تَتَنَاوَلُ الْمُرَقَّعَةَ وَلَا الْمُفَرَّقَةَ فَبَقِيَ جُزْءُ الْعِبَادَةِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ مُطْلَقًا فَتَبْطُلُ الْعِبَادَةُ لِعَدَمِ شَرْطِهَا فَلِأَجْلِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ احْتَاجَ التَّرْقِيعُ أَبَدًا إلَى النِّيَّةِ الْفِعْلِيَّةِ تُجَدَّدُ لَهُ فَمَتَى وَقَعَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ تُجَدَّدُ لَهُ بَقِيَ جُزْءُ الْعِبَادَةِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ فَتَبْطُلُ الْعِبَادَةُ لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي كُلِّ أَجْزَائِهَا فِعْلِيَّةٍ أَوْ حُكْمِيَّةٍ .
( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) رَفْضُ النِّيَّةِ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَاتِ فِيهِ قَوْلَانِ هَلْ يُؤَثِّرُ أَمْ لَا فَإِنْ قُلْنَا بِعَدَمِ التَّأْثِيرِ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ قُلْنَا يُؤَثِّرُ فَوَجْهُهُ أَنَّ هَذِهِ النِّيَّةَ الَّتِي حَصَلَ بِهَا الرَّفْضُ وَهِيَ الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعِبَادَةِ لَوْ قَارَنَتْ النِّيَّةَ الْفِعْلِيَّةَ الْكَائِنَةَ أَوَّلَ

الْعِبَادَةِ لَضَادَدَتْهَا وَنَافَتْهَا فَإِنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْفِعْلِ ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِهِ مُتَضَادَّانِ وَمَا ضَادَّ الْفِعْلِيَّةَ ضَادَّ الْحُكْمِيَّةَ الَّتِي هِيَ فَرْعُهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَظَهَرَ بِهَذِهِ الْفُرُوعِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعَانِي الْفِعْلِيَّةِ وَالْحُكْمِيَّةِ وَأَنَّ الْحُكْمِيَّاتِ أَبَدًا تَابِعَةٌ فُرُوعَ الْفِعْلِيَّاتِ وَأَنَّ الْفِعْلِيَّاتِ وَالْحُكْمِيَّاتِ إنَّمَا تَتَنَاوَلُ الْعِبَادَاتِ الْعَادِيَّاتِ دُونَ الطَّارِئَاتِ وَأَنَّ التَّلَفِيَّاتِ تَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ جَدِيدَةٍ أَبَدًا لِعَدَمِهَا فِيهَا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَعَانِي الْفِعْلِيَّةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَعَانِي الْحُكْمِيَّةِ إلَى آخِرِ الْفَرْقِ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِيهِ صَحِيحٌ .
غَيْرَ أَنَّهُ فِي الْمَسَائِلِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ مَنْ نَوَى الصَّلَاةَ فَإِنَّ نِيَّتَهُ تَتَضَمَّنُ إصْلَاحَهَا إنْ احْتَاجَتْ إلَيْهِ لَكِنِّي لَا أَذْكُرُهُ الْآنَ مِنْ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمَا قَالَهُ فِي الْفَرْقِ الْخَامِسِ وَالثَّلَاثِينَ صَحِيحٌ .

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَعَانِي الْفِعْلِيَّةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَعَانِي الْحُكْمِيَّةِ ) اعْلَمْ أَنَّ الْمَعْنَى الْفِعْلِيَّ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَتَحَقُّقِهِ فِي زَمَانِ وُجُودِهِ دُونَ زَمَانِ عَدَمِهِ وَالْمَعْنَى الْحُكْمِيُّ عِبَارَةٌ عَنْ حُكْمِ صَاحِبِ الشَّرْعِ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ بَعْدَ عَدَمِهِ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَفِي حُكْمِ الْمَوْصُوفِ بِهِ دَائِمًا حَقٌّ يُلَابِسُ ضِدَّهُ وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ الْإِيمَانَ إذَا اسْتَحْضَرَهُ الْإِنْسَانُ فِي قَلْبِهِ فَهُوَ إيمَانٌ فِعْلِيٌّ فَإِذَا غَفَلَ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَحَكَمَ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَلَهُ أَحْكَامُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَهُوَ إيمَانٌ حُكْمِيٌّ وَمِنْهَا الْكُفْرُ إذَا اسْتَحْضَرَهُ الْإِنْسَانُ فِي قَلْبِهِ فَهُوَ الْكُفْرُ الْفِعْلِيُّ فَإِذَا غَفَلَ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَحَكَمَ صَاحِبُ الشَّرْعِ بِأَنَّهُ كَافِرٌ وَلَهُ أَحْكَامُ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ إبَاحَةِ الدَّمِ وَاسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ الْكُفْرُ الْحُكْمِيُّ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { إنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ } فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ كَافِرٌ الْكُفْرَ الْفِعْلِيَّ لِأَنَّ كُلَّ كَافِرٍ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ يَضْطَرُّ لِلْإِيمَانِ فَلَا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِالْفِعْلِ وَالْإِيمَانُ الْفِعْلِيُّ يُنَافِي الْكُفْرَ الْفِعْلِيَّ فَهُوَ غَيْرُ كَافِرٍ بِالْفِعْلِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ الْإِيمَانُ وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُ إذَا وَقَعَ قَبْلَ الْمُعَايَنَةِ وَالِاضْطِرَارِ إلَيْهِ وَمِنْهَا الْإِخْلَاصُ يَقَعُ مِنْ الْعَبْدِ فِي أَوَّلِ الْعِبَادَةِ فَيَكُونُ إخْلَاصًا فِعْلِيًّا فَإِذَا غَفَلَ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَحَكَمَ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنْ الْمُخْلِصِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَانَ إخْلَاصًا حُكْمِيًّا حَتَّى يَخْطِرَ لَهُ الرِّيَاءُ وَهُوَ ضِدُّ الْإِخْلَاصِ فَيُنْفَى ذَلِكَ الْحُكْمُ كَمَا يَنْتَفِي

الْحُكْمُ بِالْإِيمَانِ بِسَبَبِ مُلَابَسَةِ الْكُفْرِ وَيَنْتَفِي الْحُكْمُ بِالْكُفْرِ بِسَبَبِ مُلَابَسَةِ الْإِيمَانِ وَمِنْهَا النِّيَّةُ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةُ وَالصَّوْمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ إذَا حَصَلَتْ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ فَهِيَ النِّيَّةُ الْفِعْلِيَّةُ فَإِذَا غَفَلَ عَنْهَا فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ وَحَكَمَ صَاحِبُ الشَّرْعِ بِأَنَّهُ نَاوٍ وَلَهُ أَحْكَامُ النَّاوِينَ لِتِلْكَ الْعِبَادَاتِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْمَعَانِي الْمَنْهِيِّ عَنْهَا مِنْ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَحُبِّ السُّمْعَةِ وَالْإِذْلَالِ وَقَصْدِ الْفَسَادِ وَإِرَادَةِ الْعِنَادِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمَنْهِيَّاتِ وَالْمَعَانِي الْمَأْمُورُ بِهَا مِنْ حُبِّ الْمُؤْمِنِينَ وَبُغْضِ الْكَافِرِينَ وَتَعْظِيمِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ وَقَصْدِ نَفْعِ الْإِخْوَانِ وَإِرَادَةِ الْبُعْدِ عَنْ حُرُمَاتِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَأْمُورَاتِ فَكُلُّ مَنْ خَطَرَ بِبَالِهِ مَعْنًى مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي ثُمَّ غَفَلَ عَنْهَا كَانَ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَعْنَى حَتَّى يُلَابِسَ ضِدَّهُ وَكُلٌّ مِنْ الْمَعْنَى الْفِعْلِيِّ وَالْمَعْنَى الْحُكْمِيِّ وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي أَنَّهُمَا إنَّمَا يَتَنَاوَلَانِ الْعِبَادَاتِ الْعَادِيَاتِ دُونَ الطَّارِئَاتِ وَالتَّلْفِيقَاتِ فَإِنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ جَدِيدَةٍ أَبَدًا لِعَدَمِهَا فِيهَا كَمَا سَيَتَّضِحُ إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ جِهَتَيْنِ الْجِهَةُ الْأُولَى أَنَّ الْمَعْنَى الْحُكْمِيَّ يَتَحَقَّقُ بَعْدَ عَدَمِ الْمَعْنَى الْفِعْلِيِّ وَقَبْلَ مُلَابَسَةِ ضِدِّهِ وَالْجِهَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ الْمَعْنَى الْحُكْمِيَّ تَابِعٌ وَفَرْعٌ لِلْمَعْنَى الْفِعْلِيِّ ( وَصْلٌ ) فِي تَوْضِيحِ هَذَا الْفَرْقِ بِخَمْسِ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) عَدَمُ الْإِيمَانِ الْفِعْلِيِّ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا يَضُرُّ مِمَّنْ أُخْرِسَ لِسَانُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَذَهَبَ عَقْلُهُ فَلَمْ يَنْطِقْ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَا أَحْضَرَ الْإِيمَانَ بِقَلْبِهِ وَمَاتَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مَاتَ

مُؤْمِنًا وَعَدَمُ الْكُفْرِ الْفِعْلِيِّ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا يَنْفَعُ فَمَنْ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَخْرَسَ ذَاهِبَ الْعَقْلِ عَاجِزًا عَنْ الْكُفْرِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِعَدَمِ صَلَاحِيَّتِهِ لَهُ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ وَحُكْمُهُ عِنْدَ اللَّهِ حُكْمُ الَّذِينَ اسْتَحْضَرُوا الْكُفْرَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِالْفِعْلِ فَالْمُعْتَبَرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كُفْرٍ وَإِيمَانٍ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) إذَا سَهَا عَنْ السُّجُودِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَعَنْ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَنْضَافُ سُجُودُ الثَّانِيَةِ لِرُكُوعِ الْأُولَى إلَّا أَنْ يُجَدَّدَ قَصْدُ إضَافَتِهِ لِلْأُولَى عِنْدَ فِعْلِهِ لِأَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ النِّيَّةَ الْفِعْلِيَّةَ الْمُقَارِنَةَ لِأَوَّلِ الصَّلَاةِ إنَّمَا تَنَاوَلَتْ الْفِعْلَ الشَّرْعِيَّ لَا بِوَصْفِ كَوْنِهِ مُرْقَعًا بَلْ بِوَصْفِ كَوْنِهِ عَلَى مَجَارِي الْعَادَةِ فِي الْأَكْثَرِ وَإِذَا لَمْ تَتَنَاوَلْ النِّيَّةُ الْفِعْلِيَّةُ الصَّلَاةَ الْمُرْقَعَةَ الْخَارِجَةَ عَنْ نَمَطِ الْعَادَةِ لَمْ تَتَنَاوَلْهَا النِّيَّةُ الْحُكْمِيَّةُ الَّتِي هِيَ فَرْعُ الْفِعْلِيَّةِ كَذَلِكَ فَبَقِيَتْ الْمُرْقَعَةُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ فِعْلِيَّةٍ وَلَا حُكْمِيَّةٍ فَاحْتَاجَتْ إلَى نِيَّةٍ مُجَدِّدَةٍ لِلتَّرْقِيعِ الثَّانِي أَنَّ الْمُرْقَعَةَ الْمَتْرُوكَ رُكُوعُهَا وَسُجُودُهَا حَتَّى يَنْضَافَ إلَيْهَا سُجُودٌ مِنْ رَكْعَةٍ أُخْرَى غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ إجْمَاعًا وَغَيْرُ الْمَشْرُوعَةِ قُرْبَةً لَا يُنْوَى شَرْعًا فَلَيْسَ فِيهَا نِيَّةٌ فِعْلِيَّةٌ قَطْعًا وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِيهَا نِيَّةٌ حُكْمِيَّةٌ قَطْعًا فَإِنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا يَحْكُمُ بِاسْتِصْحَابِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ النِّيَّةِ فَإِذَا لَمْ تَتَقَدَّمْ نِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ لَا يَحْكُمُ الشَّرْعُ بِاسْتِصْحَابِهَا قَطْعًا فَهَذِهِ الْمُرْقَعَةُ خَالِيَةٌ مِنْ النِّيَّةِ قَطْعًا فَتَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ إجْمَاعًا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلصَّلَاةِ مِنْ النِّيَّةِ إجْمَاعًا ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) إذَا نَسِيَ سَجْدَةً مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى ثُمَّ ذَكَرَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ قَامَ إلَى رَكْعَةٍ خَامِسَةٍ بِشَرْطِ أَنْ يُجَدِّدَ لَهَا نِيَّةً

بِأَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ الْأُولَى لِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نِيَّةٍ فِعْلِيَّةٍ أَوْ حُكْمِيَّةٍ وَهَذِهِ الرَّكْعَةُ الْخَامِسَةُ تَرْقِيعٌ لِلرَّكْعَةِ الْأُولَى لَا رَكْعَةٌ عَادِيَةٌ مُرَتَّبَةٌ فَلَا تَتَنَاوَلُهَا النِّيَّةُ الْفِعْلِيَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَوَّلَ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ الْحُكْمِيَّةُ لِأَنَّهَا فَرْعُ الْفِعْلِيَّةِ وَمَتَى عَرِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ عَنْ النِّيَّةِ بَطَلَتْ الصَّلَاةُ مَا لَمْ تُسْتَدْرَكْ بِالنِّيَّةِ عَنْ قُرْبٍ فَافْهَمْ ( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) السَّبَبُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ مَنْ بَقِيَتْ رِجْلَاهُ مِنْ وُضُوئِهِ فَخَاضَ بِهِمَا نَهْرًا فَدَلَّكَهُمَا فِيهِ بِيَدَيْهِ وَلَمْ يَنْوِ بِهِمَا تَمَامَ وُضُوءُهُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْوِيَهُ ا هـ هُوَ أَنَّ النِّيَّةَ الْفِعْلِيَّةَ الْأُولَى لَمْ تَتَنَاوَلْ إلَّا الْوُضُوءَ الْعَادِيَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ أَوَّلَ الْعِبَادَةِ أَوْ الْوُضُوءِ لَا يَقْدَمُ عَلَى تَرْقِيعِ صَلَاتِهِ وَلَا تَرْقِيعِ وُضُوئِهِ بَلْ إنَّمَا يَقْصِدُ الْعِبَادَةَ الَّتِي لَا تَرْقِيعَ فِيهَا فَالْمُرَقَّعَةُ وَكَذَا الْمُفَرَّقَةُ لَمْ تَتَنَاوَلْهَا النِّيَّةُ الْفِعْلِيَّةُ فَكَذَلِكَ الْحُكْمِيَّةُ الَّتِي هِيَ فَرْعُ الْفِعْلِيَّةِ فَبَقِيَ جُزْءُ الْعِبَادَةِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ مُطْلَقًا فَتَبْطُلُ الْعِبَادَةُ لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي كُلِّ أَجْزَائِهَا فِعْلِيَّةٍ أَوْ حُكْمِيَّةٍ فَلِهَذِهِ الْقَاعِدَةُ احْتَاجَ التَّرْقِيعُ أَبَدًا إلَى النِّيَّةِ الْفِعْلِيَّةِ تُجَدَّدُ لَهُ ( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) فِي عَدَمِ التَّأْثِيرِ لِرَفْضِ النِّيَّةِ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَاتِ نَظَرًا لِكَوْنِ النِّيَّةِ الَّتِي حَصَلَ بِهَا الرَّفْضُ وَإِنْ كَانَتْ تُضَادُّ الْفِعْلِيَّةَ الْكَائِنَةَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْفِعْلِ يُضَادُّ الْعَزْمَ عَلَى تَرْكِهِ إلَّا أَنَّهَا لَمْ تُقَارِنْهَا وَتَأْثِيرُهُ نَظَرًا لِكَوْنِ النِّيَّةِ الَّتِي حَصَلَ بِهَا الرَّفْضُ وَهِيَ الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعِبَادَةِ وَإِنْ لَمْ تُقَارِنْ النِّيَّةَ

الْفِعْلِيَّةَ الْمُضَادَّةَ لَهَا إلَّا أَنَّهَا قَارَنَتْ الْحُكْمِيَّةَ الَّتِي هِيَ فَرْعُهَا وَمَا ضَادَّ الْأَصْلَ يُضَادُّ الْفَرْعَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَافْهَمْ كَذَا فِي الْأَصْلِ قَالَ الْحَطَّابُ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمُخْتَصَرِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْخِلَافَ جَارٍ فِي كُلٍّ مِنْ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ بَلْ صُرِّحَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْأُمْنِيَةِ فِي إدْرَاكِ النِّيَّةِ وَأَنَّهُ جَارٍ فِي الرَّفْضِ قَبْلَ كَمَالِ الْعِبَادَةِ وَبَعْدَ كَمَالِهَا وَنَقَلَهُ عَنْ الْعَبْدِيِّ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ التَّوْضِيحِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَفِي تَأْثِيرِ رَفْضِهَا بَعْدَ الْوُضُوءِ رِوَايَتَانِ ا هـ هَذَا الْخِلَافُ جَارٍ فِي الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ عَنْ الْعَبْدِيِّ أَنَّهُ قَالَ الْمَشْهُورُ فِي الْوُضُوءِ وَالْحَجِّ عَدَمُ الرَّفْضِ عَكْسَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّ الْخِلَافَ جَارٍ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْفِعْلِ فَإِنَّهُ قَالَ رَفْضُ النِّيَّةِ مِنْ الْمُشْكِلَاتِ لَا سِيَّمَا بَعْدَ كَمَالِ الْعِبَادَةِ كَمَا نَقَلَهُ الْعَبْدِيُّ فَذَكَرَ الْكَلَامَ السَّابِقَ ثُمَّ قَالَ وَالْقَاعِدَةُ الْعَقْلِيَّةُ أَنَّ رَفْعَ الْوَاقِعِ مُحَالٌ ا هـ وَالْفَرْقُ عَلَى الْمَشْهُورِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْوُضُوءِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوُضُوءُ مَعْقُولَ الْمَعْنَى بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَمْ تُوجِبْ فِيهِ النِّيَّةَ وَالْحَجَّ مُحْتَوٍ عَلَى أَعْمَالٍ مَالِيَّةٍ وَبَدَنِيَّةٍ لَمْ يَتَأَكَّدْ طَلَبُ النِّيَّةِ فِيهِمَا فَرَفْضُ النِّيَّةِ فِيهِمَا رَفْضٌ لِمَا هُوَ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ .
وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ الرَّفْضِ وَلِأَنَّ الْحَجَّ لَمَّا كَانَ عِبَادَةً شَاقَّةً وَيَتَمَادَى فِي فَاسِدِهِ نَاسَبَ أَنْ يُقَالَ بِعَدَمِ تَأْثِيرِ الرَّفْضِ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ الْحَاصِلَةِ عَلَى تَقْدِيرِ رَفْضِهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَكَانَ بَعْضُ مَنْ لَقِيته مِنْ الشُّيُوخِ يُنْكِرُ إطْلَاقَ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ وَيَقُولُ إنَّ الْعِبَادَةَ الْمُشْتَرَطَ فِيهَا النِّيَّةُ إمَّا أَنْ تَنْقَضِيَ حِسًّا وَحُكْمًا

كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهِمَا أَوْ لَا تَنْقَضِي حِسًّا وَحُكْمًا كَمَا فِي حَالِ التَّلَبُّسِ بِهَا أَوْ تَنْقَضِي حِسًّا دُونَ الْحُكْمِ كَالْوُضُوءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ فَإِنَّهُ وَإِنْ انْقَضَى حِسًّا لَكِنَّ حُكْمَهُ وَهُوَ رَفْعُ الْحَدَثِ بَاقٍ فَالْأَوَّلُ لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ تَأْثِيرِ الرَّفْضِ فِيهِ وَالثَّانِي لَا خِلَافَ فِي تَأْثِيرِهِ فِيهِ وَمَحَلُّ الْخِلَافِ هُوَ الثَّالِثُ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ جِهَةِ الْفِقْهِ لَوْ سَاعَدَتْ الْأَنْقَالُ ا هـ وَقَدْ نَصَّ صَاحِبُ النُّكَتِ فِي بَابِ الصَّوْمِ عَلَى خِلَافِهِ فَإِنَّهُ نُصَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ رَفَضَ الْوُضُوءَ وَهُوَ لَمْ يُكْمِلْهُ أَنَّ رَفْضَهُ لَا يُؤَثِّرُ إذَا أَكْمَلَ وُضُوءَهُ بِالْقُرْبِ قَالَ وَكَذَلِكَ الْحَجُّ إذَا رُفِضَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ثُمَّ قَالَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ قَالَ وَأَمَّا إنْ كَانَ فِي حَيِّزِ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِ نَوَى الرَّفْضَ وَفَعَلَهَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ كَالطَّوَافِ وَنَحْوِهِ فَهَذَا رَفْضٌ يُعَدُّ كَالتَّارِكِ لِذَلِكَ ا هـ مِنْهُ مِنْ مَوْضِعَيْنِ قُلْت وَهُوَ مُشْكِلٌ فَإِنَّ الْإِحْرَامَ سَوَاءٌ كَانَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ بِهِمَا أَوْ بِإِطْلَاقٍ لَا يُرْتَفَضُ وَرَفْضُهُ فِي أَثْنَائِهِ وَلَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ خِلَافًا بَلْ قَالَ سَنَدٌ فِي كِتَابِ الْحَجِّ مَذْهَبُ الْكَافَّةِ أَنَّهُ لَا يُرْفَضُ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى حُكْمِ إحْرَامِهِ وَقَالَ دَاوُد يُرْتَفَضُ إحْرَامُهُ وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَنْعَدِمُ بِمَا يُضَادُّهُ حَتَّى لَوْ وَطِئَ بَقِيَ عَلَى إحْرَامِهِ وَغَايَةُ رَفْضِ الْعِبَادَةِ أَنْ يُضَادَّهَا فِيمَا لَا يَنْتَفِي مَعَ مَا يُفْسِدُهُ لَا يَنْتَفِي مَعَ مَا يُضَادُّهُ .
ا هـ .
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ إذَا رَفَضَ إحْرَامَهُ لِغَيْرِ شَيْءٍ فَهُوَ بَاقٍ عِنْدَ مَالِكٍ وَالْأَئِمَّةِ خِلَافًا لِدَاوُدَ وَلَمْ يَحْكِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَلَا ابْنُ عَرَفَةَ وَلَا غَيْرُهُمَا فِي ذَلِكَ خِلَافًا وَإِذَا لَمْ يُؤَثِّرْ الرَّفْضُ وَهُوَ فِي أَثْنَائِهِ فَأَحْرَى بَعْدَ كَمَالِهِ وَأَمَّا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ فَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّ

الْخِلَافَ جَارٍ فِيهِمَا سَوَاءٌ وَقَعَ الرَّفْضُ فِي أَثْنَائِهِمَا أَوْ بَعْدَ كَمَالِهِمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَفِي وُجُوبِ إعَادَتِهَا لِرَفْضِهَا بَعْدَ تَمَامِهَا نَقْلًا عَنْ اللَّخْمِيِّ ا هـ وَحَكَى غَيْرُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الرَّفْضُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَالْمَعْرُوفُ مِنْ الْمَذْهَبِ الْبُطْلَانُ وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ النُّكَتِ وَلَمْ يَحْكِ غَيْرَهُ وَأَمَّا إذَا كَانَ الرَّفْضُ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ وَكَمَّلَهُ بِالْقُرْبِ فَاَلَّذِي جَزَمَ بِهِ عَبْدُ الْحَقِّ فِي نُكَتِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي التَّوْضِيحِ أَنَّهُ اعْتَمَدَهُ هُنَا أَيْ فِي الْمُخْتَصَرِ حَيْثُ قَالَ فِي فَصْلِ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ وَرَفْضُهَا مُغْتَفَرٌ وَهُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِهِ وَكَلَامُ صَاحِبِ الطِّرَازِ وَابْنِ الْجَمَاعَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُرْتَفَضُ قَالَ ابْنُ نَاجِي وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ وَأَمَّا إذَا كَانَ الرَّفْضُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعِبَادَةِ فَنَقَلَ صَاحِبُ الْجَمْعِ عَنْ ابْنِ رَاشِدٍ أَنَّهُ قَالَ إنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ التَّأْثِيرِ عِنْدِي أَصَحُّ لِأَنَّ الرَّفْضَ يَرْجِعُ إلَى التَّقْدِيرِ لِأَنَّ الْوَاقِعَ يَسْتَحِيلُ رَفْضُهُ وَالتَّقْدِيرُ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَلِأَنَّهُ بِنَفْسِ الْفَرَاغِ مِنْ الْفِعْلِ سَقَطَ التَّكْلِيفُ بِهِ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ التَّكْلِيفَ يَرْجِعُ بَعْدَ سُقُوطِهِ لِأَجْلِ الرَّفْضِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ ا هـ وَفِي كَلَامِ صَاحِبِ الطِّرَازِ فِي بَابِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْعِبَادَةَ كُلَّهَا الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ وَالصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَالْإِحْرَامَ لَا يُرْتَفَضُ شَيْءٌ مِنْهَا بَعْدَ كَمَالِهِ وَقَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ التُّونُسِيُّ وَرَفْضُ الْوُضُوءِ إنْ كَانَ بَعْدَ تَمَامِهِ لَا يُرْتَفَضُ وَكَذَلِكَ الْغُسْلُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ .
ا هـ .
وَقَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ فِي أَوَاخِرِ بَابِ الْغُسْلِ وَاخْتُلِفَ إذَا رَفَضَ النِّيَّةَ بَعْدَ الْوُضُوءِ عَلَى قَوْلَيْنِ لِمَالِكٍ وَالْفَتْوَى بِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ لِأَنَّ مَا حَصَلَ

اسْتَحَالَ رَفْعُهُ ا هـ وَكَلَامُ الْقَرَافِيِّ فِي كِتَابِ الْأُمْنِيَةِ أَيْ وَكَذَا فِي الْفُرُوقِ أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ الرَّفْضَ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ يُؤَثِّرُ وَلَوْ بَعْدَ الْكَمَالِ وَلَكِنَّهُ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي إبْطَالَ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ وَبَحَثَ فِيهِ وَأَطَالَ وَقَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ إنَّهُ سُؤَالٌ حَسَنٌ لَمْ أَجِدْ مَا يَقْتَضِي انْدِفَاعَهُ فَالْأَحْسَنُ الِاعْتِرَافُ بِذَلِكَ وَقَوْلُ ابْنِ نَاجِي فِي تَرْجَمَةِ مَا لَا يَجِبُ مِنْهُ الْوُضُوءُ رَفْضُ الطَّهَارَةِ يَنْقُضُهَا فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ مَنْ تَصَنَّعَ لِنَوْمٍ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ وَإِنْ لَمْ يَنَمْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَفْضَ الْوُضُوءِ يَصِحُّ وَابْنُ الْقَاسِمِ يُخَالِفُ فِي هَذَا وَيَقُولُ هُوَ كَالْحَجِّ لَا يَصِحُّ رَفْضُهُ وَجْهُ رِوَايَةِ أَشْهَبَ أَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ يُبْطِلُهَا الْحَدَثُ فَصَحَّ رَفْضُهَا كَالصَّلَاةِ وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ هَذِهِ طَهَارَةٌ فَلَمْ تَبْطُلْ بِالرَّفْضِ كَالطَّهَارَةِ الْكُبْرَى ا هـ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْغُسْلَ لَا يُرْتَفَضُ بِلَا خِلَافٍ ا هـ كَلَامُ الْحَطَّابِ بِتَصَرُّفٍ وَمُحَصِّلُهُ مَعَ زِيَادَةِ بَيَانِ مَا فِي رَفْضِ التَّيَمُّمِ وَالِاعْتِكَافِ قَوْلُ الْأَمِيرِ فِي الْمَجْمُوعِ وَشَرْحِهِ ( وَارْتُفِضَ وُضُوءٌ وَغُسْلٌ فِي الْأَثْنَاءِ ) عَلَى الرَّاجِحِ ( فَقَطْ ) وَيُغْتَفَرُ بَعْدَ الْفَرَاغِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْأَصْلُ ( كَصَلَاةٍ وَصَوْمٍ ) فِي الْأَثْنَاءِ اتِّفَاقًا .
( وَقِيلَ ) وَرَجَحَ أَيْضًا يُرْتَفَضُ ( هَذَانِ مُطْلَقًا ) وَلَوْ بَعْدَ الْفَرَاغِ ( وَلَا يُرْتَفَضُ حَجٌّ أَوْ عُمْرَةٌ مُطْلَقًا ) لِمَظِنَّةِ الْمَشَقَّةِ وَلَا يُقَالُ يَأْتَنِفُ إحْرَامًا صَحِيحًا وَيَتْرُكُ مَا رَفَضَهُ لِأَنَّ فَاسِدَهُمَا يَجِبُ إتْمَامُهُ وَقَضَاؤُهُ ( وَالتَّيَمُّمُ ) وَإِنْ كَانَ طَهَارَةً ضَعِيفَةً ( وَالِاعْتِكَافُ ) وَإِنْ احْتَوَى عَلَى الصَّوْمِ ( كَالْوُضُوءِ عَلَى الظَّاهِرِ ) وَيُحْتَمَلُ رَفْضُ الْأَوَّلِ مُطْلَقًا وَجَرَيَانُ الثَّانِي عَلَى الصَّوْمِ ا هـ بِزِيَادَةٍ مِنْ ضَوْءِ الشُّمُوعِ

وَالسَّعْيُ وَالطَّوَافُ كَالصَّلَاةِ فِيمَا ذُكِرَ كَمَا فِي حَاشِيَةِ شَيْخِنَا عَلَى مَنْسَكِ الْوَالِدِ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحَقَائِقُ عَشْرَةٌ وُضُوءٌ وَغُسْلٌ وَتَيَمُّمٌ وَاعْتِكَافٌ وَصَلَاةٌ وَصَوْمٌ وَحَجٌّ وَعُمْرَةٌ وَطَوَافٌ وَسَعْيٌ وَلَا خِلَافَ فِي رَفْضِ مَا عَدَا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَالْوُضُوءَ وَالتَّيَمُّمَ وَالِاعْتِكَافَ فِي الْأَثْنَاءِ وَلَا فِي عَدَمِ رَفْضِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مُطْلَقًا وَلَا فِي عَدَمِ رَفْضِ الْغُسْلِ بَعْدَ الْفَرَاغِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي رَفْضِ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ بَعْدَ الْفَرَاغِ وَفِي رَفْضِ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَالِاعْتِكَافِ فِي الْأَثْنَاءِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ فِي الْمُوَافَقَاتِ أَثْنَاءَ الْمَسْأَلَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ الْأَسْبَابِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ قِسْمَيْ الْأَحْكَامِ مَا تَوْضِيحُهُ .
وَالْحَقُّ صِحَّةُ الرَّفْضِ فِي أَثْنَاءِ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ لَا بَعْدَ كَمَالِهَا عَلَى شُرُوطِهَا لِأَنَّ مَعْنَاهَا فِي الْأَثْنَاءِ أَنَّهُ كَانَ قَاصِدًا بِالْعِبَادَةِ امْتِثَالَ الْأَمْرِ ثُمَّ أَتَمَّهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ بَلْ بِنِيَّةٍ أُخْرَى لَيْسَتْ بِعِبَادَتِهِ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا كَالْمُتَطَهِّرِ يَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثِ ثُمَّ يَنْسَخُ تِلْكَ النِّيَّةَ بِنِيَّتِهِ التَّبَرُّدَ أَوْ التَّنَظُّفَ مِنْ الْأَوْسَاخِ الْبَدَنِيَّةِ وَمَعْنَاهُ بَعْدَ كَمَالِهَا عَلَى شُرُوطِهَا قَصْدُهُ أَنْ لَا تَكُونَ عِبَادَةً وَلَا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا حُكْمُهَا مِنْ إجْزَاءٍ أَوْ اسْتِبَاحَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيهَا بَلْ هِيَ عَلَى حُكْمِهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْقَصْدُ وَخِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي رَفْضِ الْوُضُوءِ وَكَذَا التَّيَمُّمُ بَعْدَ الْكَمَالِ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الطَّهَارَةَ هُنَا لَهَا وَجْهَانِ فِي النَّظَرِ فَمَنْ نَظَرَ إلَى فِعْلِهَا عَلَى مَا يَنْبَغِي قَالَ إنَّ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ بِهَا لَازِمٌ وَمُسَبَّبٌ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ إلَّا بِنَاقِضٍ طَارِئٍ وَمَنْ نَظَرَ إلَى حُكْمِهِمَا أَعْنِي

حُكْمَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ مُسْتَصْحِبًا إلَى أَنْ يُصَلِّيَ وَذَلِكَ أَمْرٌ مُسْتَقْبَلٌ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ الْأُولَى الْمُقَارِنَةِ لِلطَّهَارَةِ وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِنِيَّةِ الرَّفْضِ الْمُنَافِيَةِ لَهَا فَلَا يَصِحُّ اسْتِبَاحَةُ الصَّلَاةِ الْآتِيَةِ بِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ كَالرَّفْضِ الْمُقَارِنِ لِلْفِعْلِ وَمَا قَارَنَ الْفِعْلَ مُؤَثِّرٌ فَكَذَلِكَ مَا شَابَهَهُ فَلَوْ انْتَفَتْ الْمُشَابَهَةُ بِأَنْ رَفَضَ نِيَّةَ الطَّهَارَةِ بَعْدَمَا أَدَّى بِهَا الصَّلَاةَ وَتَمَّ حُكْمُهَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ مَنْ صَلَّى ثُمَّ رَفَضَ تِلْكَ الصَّلَاةَ بَعْدَ السَّلَامِ مِنْهَا وَقَدْ كَانَ أَتَى بِهَا عَلَى مَا أَمَرَ بِهِ فَإِنْ قَالَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الرَّفْضِ فِي مِثْلِ هَذَا فَالْقَاعِدَةُ ظَاهِرَةٌ فِي خِلَافِ مَا قَالَ .
ا هـ .
قُلْت وَلَمَّا لَمْ يَجْرِ هَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي الْغُسْلِ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ لُزُومَ الْوُضُوءِ لَهُ إنَّمَا هُوَ فِي الِابْتِدَاءِ فَقَطْ لِأَنَّ اللُّزُومَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ طَرَءَانِ النَّاقِضِ فِي أَثْنَاءِ الْغُسْلِ جَزَمَ الْفُقَهَاءُ بِعَدَمِ رَفْضِهِ بَعْدَ كَمَالِهِ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَلِكَ الِاعْتِكَافُ لَمَّا لَمْ يَجْرِ فِيهِ هَذَانِ الْوَجْهَانِ كَمَا لَا يَخْفَى قَالَ الشَّيْخُ يُوسُفُ الصَّفْتِيُّ الظَّاهِرُ رَفْضُهُ فِي الْأَثْنَاءِ لَا بَعْدَ الْكَمَالِ وَقَدْ اسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَأَجْمَعُوا عَلَى عَدَمِ تَأْثِيرِ الرَّفْضِ فِيهِمَا مُطْلَقًا لِمَا مَرَّ عَنْ الْأَمِيرِ مِنْ مَظِنَّةِ الْمَشَقَّةِ مَعَ وُجُوبِ إتْمَامِ فَاسِدِهِمَا وَقَضَائِهِ فَافْهَمْ قَالَ عبق وَالرَّفْضُ لُغَةً التَّرْكُ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا تَقْدِيرُ مَا وُجِدَ مِنْ الْعِبَادَةِ كَالْعَدَمِ وَفِي شَرْحِ الْمَجْمُوعِ وَضَوْءِ الشُّمُوعِ وَاسْتَظْهَرَ شب جَوَازَ الرَّفْضِ كَالنَّقْضِ وَلَعَلَّ أَقَلَّهُ الْكَرَاهَةُ فَإِنَّ شَأْنَ النَّقْضِ الْحَاجَةُ وَفِي الْمُحَشِّيِّ حُمِلَ { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } عَلَى الْمَقَاصِدِ وَظَاهِرُهُ عُمُومُ الْمَقَاصِدِ

الَّتِي هِيَ السَّبْعَةُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَرَفَةَ فِيمَا يَجِبُ مِنْ النَّوَافِلِ بِالشُّرُوعِ صَلَاةٌ وَصَوْمٌ ثُمَّ حَجٌّ وَعُمْرَةٌ طَوَافٌ عُكُوفٌ وَائْتِمَانٌ تَحَتُّمًا وَفِي غَيْرِهَا كَالطُّهْرِ وَالْوَقْفِ خُيِّرْنَ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَقْطَعْ وَمَنْ شَاءَ تَمَّمَا قُلْت أَوْ عَلَى مَا يَعُمُّ الْوَسَائِلَ مَعَ رَفْعِ الْمَقَاصِدِ بِغَيْرِ هَذَا كَالرِّيَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فَجَعَلُوهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } ثُمَّ إنَّ الرَّفْضَ الْمُضِرَّ الْإِفْسَادُ الْمُطْلَقُ أَمَّا إنْ أَرَادَ حَدَثًا أَثْنَاءَ الْوُضُوءِ فَلَمْ يَفْعَلْ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَرَفْعِ نِيَّةِ الصَّائِمِ لِأَكْلِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ فَلَمْ يَجِدْهُ وَيَأْتِي أَنَّهُ لَا يَضُرُّ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ عَزَمَ عَلَى إفْسَادٍ لَمْ يَحْصُلْ لَا إفْسَادٍ بِالْفِعْلِ ا هـ كَلَامُ الْأَمِيرِ قُلْت .
وَهَذَا يُخَالِفُ مَا مَرَّ فِي كَلَامِ الْحَطَّابِ مِنْ رِوَايَةِ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ مَنْ تَصَنَّعَ لِنَوْمٍ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ وَإِنْ لَمْ يَنَمْ نَعَمْ فِي شَرْحِ الْمَوَّاقِ عَلَى الْمُخْتَصَرِ وَضَعَّفَ الْمَازِرِيُّ وَاللَّخْمِيُّ وَغَيْرُهُمَا قَوْلَ مَالِكٍ مَنْ تَصَنَّعَ لِنَوْمٍ فَلَمْ يَنَمْ تَوَضَّأَ قَالَ اللَّخْمِيُّ عَلَى هَذَا يَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى مَنْ أَرَادَ الْوَطْءَ فَكَفُّ ابْنُ عَرَفَةَ يُشَبِّهُ إرَادَةَ الْفِطْرِ أَثْنَاءَ الصَّوْمِ الرَّفْضَ أَثْنَاءَ الْوُضُوءِ لَا بَعْدَهُ ا هـ بِلَفْظِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَسْبَابِ الْفِعْلِيَّةِ وَقَاعِدَةِ الْأَسْبَابِ الْقَوْلِيَّةِ ) فَالْأَسْبَابُ الْفِعْلِيَّةُ كَالِاحْتِطَابِ وَالِاحْتِشَاشِ وَالِاصْطِيَادِ وَالْأَسْبَابُ الْقَوْلِيَّةُ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْقِرَاضِ وَمَا هُوَ فِي الشَّرْعِ مِنْ الْأَقْوَالِ سَبَبُ انْتِقَالِ الْمِلْكِ وَافْتَرَقَتْ هَاتَانِ الْقَاعِدَتَانِ مِنْ وُجُوهٍ تَظْهَرُ بِذِكْرِ مَسَائِلِهَا وَلْنَذْكُرْ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) الْأَسْبَابُ الْفِعْلِيَّةُ تَصِحُّ مِنْ السَّفِيهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ دُونَ الْقَوْلِيَّةِ فَلَوْ صَادَ مَالِكُ الصَّيْدِ أَوْ احْتَشَّ مَالِكُ الْحَشِيشِ أَوْ احْتَطَبَ مَالِكُ الْحَطَبِ أَوْ اسْتَقَى مَاءَ مِلْكِهِ وَتَرَتَّبَ لَهُ الْمِلْكُ عَلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى أَوْ قَبِلَ الْهِبَةَ أَوْ الصَّدَقَةَ أَوْ قَارَضَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْقَوْلِيَّةِ لَا يَتَرَتَّبُ لَهُ عَلَيْهَا مِلْكٌ بِسَبَبِ أَنَّ الْأَسْبَابَ الْفِعْلِيَّةَ غَالِبُهَا خَيْرٌ مَحْضٌ مِنْ غَيْرِ خَسَارَةٍ وَلَا غَبْنٍ وَلَا ضَرَرٍ فَلَا أَثَرَ لِسَفَهِهِ فِيهَا فَجَعَلَهَا الشَّرْعُ مُعْتَبَرَةً فِي حَقِّهِ تَحْصِيلًا لِلْمَصَالِحِ بِتِلْكَ الْأَسْبَابِ فَإِنَّهَا لَا تَقَعُ إلَّا نَافِعَةً مُفِيدَةً غَالِبًا وَأَمَّا الْقَوْلِيَّةُ فَإِنَّهَا مَوْضِعُ الْمُمَاكَسَةِ وَالْمُغَابَنَةِ وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ آخَرَ يُنَازِعُهُ وَيُجَاذِبُهُ إلَى الْغَبْنِ ، وَضَعْفُ عَقْلِهِ فِي ذَلِكَ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْهُ ضَيَاعُ مَصْلَحَتِهِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَعْتَبِرْهَا الشَّرْعُ مِنْهُ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ مَصْلَحَتِهَا بِخِلَافِ الْفِعْلِيَّةِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) لَوْ وَطِئَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ أَمَتَهُ صَارَتْ لَهُ بِذَلِكَ أُمَّ وَلَدٍ وَهُوَ سَبَبٌ فِعْلِيٌّ يَقْتَضِي الْعِتْقَ وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ مَعَ عُلُوِّ مَنْزِلَةِ الْعِتْقِ عِنْدَ صَاحِبِ الشَّرْعِ لَا سِيَّمَا الْمُنَجَّزُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا السَّبَبِ الْفِعْلِيِّ وَهَذَا السَّبَبِ الْقَوْلِيِّ أَنَّ نَفْسَهُ تَدْعُوهُ إلَى وَطْءِ أَمَتِهِ

فَلَوْ مَنَعْنَاهُ مِنْهَا لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى وُقُوعِهِ فِي الزِّنَى وَيَطَؤُهَا وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ فَيَقَعُ فِي عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا دَاعِيَةَ تَدْعُوهُ لِعِتْقِ عَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ مِنْ جِهَةِ الطَّبْعِ فَإِذَا قُلْنَا لَهُ لَيْسَ لَك ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مَحْذُورٌ وَإِذَا جَوَّزْنَا لَهُ الْوَطْءَ وَجَبَ أَنْ يُقْضَى بِاسْتِحْقَاقِ الْأَمَةِ الْعِتْقَ عِنْدَ مَوْتِ سَيِّدِهَا لِأَنَّ الْوَطْءَ سَبَبٌ تَامٌّ لِلْعِتْقِ عِنْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ وَقَدْ أَبَحْنَا لَهُ الْإِقْدَامَ عَلَيْهِ وَالسَّبَبُ التَّامُّ إذَا أُذِنَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَجَبَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُسَبِّبُهُ لِأَنَّ وُجُودَ السَّبَبِ الْمَأْذُونِ فِيهِ دُونَ الْمُسَبِّبِ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ وَالسَّبَبُ الْقَوْلِيُّ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ فَكَانَ كَالْمَعْدُومِ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ شَرْعًا كَالْمَعْدُومِ حِسًّا وَالسَّبَبُ الْمَعْدُومُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ الْأَسْبَابُ الْفِعْلِيَّةُ أَقْوَى أَوْ الْقَوْلِيَّةُ أَقْوَى فَقِيلَ الْفِعْلِيَّةُ أَقْوَى لِنُفُوذِهَا مِنْ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَمِنْ غَيْرِهِ وَقِيلَ الْقَوْلِيَّةُ أَقْوَى بِدَلِيلِ أَنَّ الْعِتْقَ بِالْقَوْلِ يَسْتَعْقِبُ الْعِتْقَ وَالْعِتْقَ بِالْوَطْءِ لَا يَسْتَعْقِبُ الْعِتْقَ وَالسَّبَبُ الَّذِي يَسْتَعْقِبُ مُسَبَّبَهُ أَقْوَى مِمَّا لَا يَسْتَعْقِبُهُ .
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) نَصَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ السَّفِينَةَ إذَا وَثَبَتَ فِيهَا سَمَكَةٌ فِي حِجْرِ إنْسَانٍ فَهِيَ لَهُ دُونَ صَاحِبِ السَّفِينَةِ لِأَنَّ حَوْزَهُ أَخَصُّ بِالسَّمَكَةِ مِنْ حَوْزِ صَاحِبِ السَّفِينَةِ لِأَنَّ حَوْزَ السَّفِينَةِ يَشْمَلُ هَذَا الرَّجُلَ وَغَيْرَهُ وَحَوْزَ هَذَا الرَّجُلِ لَا يَتَعَدَّاهُ فَهُوَ أَخَصُّ بِالسَّمَكَةِ مِنْ صَاحِبِ السَّفِينَةِ وَالْأَخَصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَعَمِّ كَمَا قُلْنَا فِي الْمُصَلِّي لَا يَجِدُ إلَّا نَجِسًا وَحَرِيرًا يُصَلِّي فِي الْحَرِيرِ وَيُقَدَّمُ النَّجِسُ فِي الِاجْتِنَابِ لِأَنَّهُ أَخَصُّ وَالْأَخَصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَعَمِّ

وَالْمُحْرِمِ لَا يَجِدُ مَا يَقُوتُهُ إلَّا مَيْتَةً أَوْ صَيْدًا يُقَدَّمُ الصَّيْدُ فِي الِاجْتِنَابِ عَلَى الْمَيْتَةِ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الصَّيْدِ أَخَصُّ بِالْإِحْرَامِ مِنْ الْمَيْتَةِ وَتَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ يَشْمَلُ الْحَاجَّ وَغَيْرَهُ كَمَا أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَرِيرِ يَشْمَلُ الْمُصَلِّيَ وَغَيْرَهُ فَقَاعِدَةُ تَقْدِيمِ الْأَخَصِّ عَلَى الْأَعَمِّ لَهُ نَظَائِرُ فِي الشَّرِيعَةِ .
( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) الْمِلْكُ بِالْإِحْيَاءِ عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ أَضْعَفُ مِنْ تَحْصِيلِ الْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ لِأَنَّهُ إذَا زَالَ الْإِحْيَاءُ عَنْهُ بَطَلَ الْمِلْكُ وَلَا يَبْطُلُ الْمِلْكُ فِي الْقَوْلِيِّ إلَّا بِسَبَبٍ نَاقِلٍ وَالْإِحْيَاءُ سَبَبٌ فِعْلِيٌّ فَيَكُونُ هَذَا الْفَرْعُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَسْبَابَ الْفِعْلِيَّةَ أَضْعَفُ مِنْ الْقَوْلِيَّةِ عَلَى قَاعِدَةِ مَالِكٍ أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلَا يُزِيلُ الْمِلْكَ بِزَوَالِ الْإِحْيَاءِ فَلَا مَقَالَ مَعَهُ وَكَذَلِكَ يَقُولُ مَالِكٌ إذَا تَوَحَّشَ الصَّيْدُ بَعْدَ حَوْزِهِ أَوْ الْحَمَامُ بَعْدَ إيوَائِهِ أَوْ النَّحْلُ بَعْدَ ضَمِّهِ بِجَبْحِهِ يَزُولُ الْمِلْكُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَكَذَلِكَ السَّمَكَةُ إذَا انْفَلَتَتْ فِي الْبَحْرِ فَصَادَهَا غَيْرُ صَائِدِهَا الْأَوَّلِ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَسْبَابِ الْفِعْلِيَّةِ وَقَاعِدَةِ الْأَسْبَابِ الْقَوْلِيَّةِ ) وَالْأَسْبَابُ الْفِعْلِيَّةُ كَالِاحْتِطَابِ وَالِاحْتِشَاشِ وَالِاصْطِيَادِ وَالْأَسْبَابُ الْقَوْلِيَّةُ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْقِرَاضِ وَكُلِّ مَا هُوَ فِي الشَّرْعِ مِنْ الْأَقْوَالِ سَبَبُ انْتِقَالِ الْمِلْكِ وَافْتَرَقَتْ هَاتَانِ الْقَاعِدَتَانِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْفِعْلِيَّةَ تَصِحُّ مِنْ السَّفِيهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ دُونَ الْقَوْلِيَّةِ الثَّانِي أَنَّ الْفِعْلِيَّةَ لَا تَقَعُ إلَّا نَافِعَةً مُفِيدَةً غَالِبًا بِخِلَافِ الْقَوْلِيَّةِ الثَّالِثُ أَنَّ الْفِعْلِيَّةَ قَدْ تَكُونُ لَهَا دَاعِيَةٌ تَدْعُو لَهَا مِنْ جِهَةِ الطَّبْعِ بِخِلَافِ الْقَوْلِيَّةِ الرَّابِعُ أَنَّ الْفِعْلِيَّةَ لَا تَسْتَعْقِبُ مُسَبِّبَاتِهَا وَالْقَوْلِيَّةَ تَسْتَعْقِبُهَا الْخَامِسُ أَنَّ الْمِلْكَ بِالْفِعْلِيَّةِ عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ضَعِيفٌ يَزُولُ بِمُجَرَّدِ زَوَالِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَفِي الْقَوْلِيَّةِ قَوِيٌّ لَا يَزُولُ إلَّا بِسَبَبٍ نَاقِلٍ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ السَّادِسُ أَنَّ قَاعِدَةَ تَقْدِيمِ الْأَخَصِّ عَلَى الْأَعَمِّ إنَّمَا تَأَتَّى فِي الْفِعْلِيَّةِ دُونَ الْقَوْلِيَّةِ ( وَصْلٌ ) فِي تَوْضِيحِ هَذَا الْفَرْقِ بِخَمْسِ مَسَائِلَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَسْبَابَ الْفِعْلِيَّةَ لَا تَقَعُ إلَّا نَافِعَةً مُفِيدَةً غَالِبًا جَعَلَهَا الشَّرْعُ مُعْتَبَرَةً حَتَّى فِي حَقِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجْعَلْ لِسَفَهِهِ أَثَرًا فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ تَحْصِيلًا لِمَصَالِحِهَا وَأَمَّا الْأَسْبَابُ الْقَوْلِيَّةُ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَوْضِعُ الْمُمَاسَكَةِ وَالْمُغَالَبَةِ وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ آخَرَ يُنَازِعُهُ وَيُجَاذِبُهُ إلَى الْغَبْنِ وَالْمَحْجُورُ لِضَعْفِ عَقْلِهِ فِي ذَلِكَ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ ضَيَاعُ مَصْلَحَةٍ عَلَيْهِ لَمْ يَعْتَبِرْهَا الشَّرْعُ مِنْهُ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ مَصْلَحَتِهَا فَيَمْلِكُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا يَصْطَادُهُ أَوْ يَحْتَشُّهُ أَوْ يَحْتَطِبُهُ أَوْ

يَسْتَقِيهِ لِتَرَتُّبِ الْمِلْكِ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ الْفِعْلِيَّةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى أَوْ قَبِلَ الْهِبَةَ أَوْ الصَّدَقَةَ أَوْ قَارَضَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْقَوْلِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ لَهُ عَلَيْهِ مِلْكٌ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْفَرْقُ بَيْنَ وَطْءِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ أَمَتَهُ وَهُوَ سَبَبٌ فِعْلِيٌّ يَقْتَضِي الْعِتْقَ وَيُصَيِّرُهَا أُمَّ وَلَدٍ وَبَيْنَ عِتْقِهِ عَبْدَهُ وَهُوَ سَبَبٌ قَوْلِيٌّ لَا يَنْفُذُ عِنْدَ صَاحِبِ الشَّرْعِ لَا سِيَّمَا الْمُنَجَّزُ هُوَ أَنَّ السَّبَبَ الْفِعْلِيَّ الَّذِي هُوَ الْوَطْءُ لَمَّا كَانَتْ نَفْسُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ تَدْعُوهُ إلَى وَطْءِ أَمَتِهِ فَلَوْ مَنَعْنَاهُ مِنْهَا لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى وُقُوعِهِ فِي الزِّنَا بِأَنْ يَطَأَهَا وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ فَيَقَعَ فِي عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَلْزَمَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَحْذُورُ جَوَّزَهُ الشَّرْعُ لَهُ وَهُوَ سَبَبٌ تَامٌّ لِلْعِتْقِ عِنْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ وَالسَّبَبُ التَّامُّ إذَا أُذِنَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَجَبَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُسَبِّبُهُ لِأَنَّ وُجُودَ السَّبَبِ الْمَأْذُونِ فِيهِ دُونَ الْمُسَبِّبِ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ فَلِذَا وَجَبَ أَنْ يُقْضَى بِاسْتِحْقَاقِ أَمَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ الْعِتْقَ عِنْدَ مَوْتِ سَيِّدِهَا حَيْثُ وَطِئَهَا وَوَلَدَتْ لَهُ وَأَمَّا السَّبَبُ الْقَوْلِيُّ الَّذِي هُوَ الْعِتْقُ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا دَاعِيَةَ تَدْعُو الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لِعِتْقِ عَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ مِنْ جِهَةِ الطَّبْعِ فَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَنْعِهِ مِنْهُ مَحْذُورٌ لَمْ يُجَوِّزْهُ لَهُ الشَّرْعُ وَالسَّبَبُ إذَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ يَكُونُ كَالْمَعْدُومِ شَرْعًا وَالْمَعْدُومُ شَرْعًا كَالْمَعْدُومِ حِسًّا فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي كَوْنِ الْفِعْلِيَّةِ أَقْوَى لِنُفُوذِهَا مِنْ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَمِنْ غَيْرِهِ أَوْ الْقَوْلِيَّةِ أَقْوَى بِدَلِيلِ أَنَّ الْعِتْقَ بِالْقَوْلِ يَسْتَعْقِبُ الْعِتْقَ وَالْعِتْقَ بِالْوَطْءِ لَا يَسْتَعْقِبُ الْعِتْقَ وَالسَّبَبُ الَّذِي

يَسْتَعْقِبُ مُسَبِّبَهُ أَقْوَى مِمَّا لَا يَسْتَعْقِبُهُ خِلَافٌ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْمِلْكُ بِالْإِحْيَاءِ عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ ضَعِيفٌ يَبْطُلُ بِمُجَرَّدِ زَوَالِ الْإِحْيَاءِ عَنْهُ وَكَذَلِكَ يَزُولُ الْمِلْكُ بِمُجَرَّدِ تَوَحُّشِ الصَّيْدِ بَعْدَ حَوْزِهِ وَالْحَمَامِ بَعْدَ إيوَائِهِ وَالنَّحْلِ بَعْدَ ضَمِّهِ بِجَبْحِهِ وَبِمُجَرَّدِ انْفِلَاتِ السَّمَكَةِ فِي الْبَحْرِ فَتَكُونُ لِغَيْرِ صَائِدِهَا الْأَوَّلِ إذَا صَادَهَا وَالْمِلْكُ بِنَحْوِ الشِّرَاءِ قَوِيٌّ لَا يَبْطُلُ إلَّا بِسَبَبٍ نَاقِلٍ أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلَا يُزِيلُ الْمِلْكَ بِزَوَالِ الْإِحْيَاءِ وَنَحْوِهِ فَلَا مَقَالَ مَعَهُ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ نَصَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ السَّفِينَةَ إذَا وَثَبَتَ فِيهَا سَمَكَةٌ فِي حِجْرِ إنْسَانٍ فَهِيَ لَهُ دُونَ صَاحِبِ السَّفِينَةِ جَرْيًا عَلَى قَاعِدَةِ تَقْدِيمِ الْأَخَصِّ عَلَى الْأَعَمِّ لِأَنَّ حَوْزَ هَذَا الْإِنْسَانِ أَخَصُّ مِنْ حَوْزِ صَاحِبِ السَّفِينَةِ لِأَنَّ حَوْزَ السَّفِينَةِ يَشْمَلُ هَذَا الْإِنْسَانَ وَغَيْرَهُ وَحَوْزَ هَذَا الْإِنْسَانِ لَا يَتَعَدَّاهُ فَهُوَ أَخَصُّ بِالسَّمَكَةِ مِنْ صَاحِبِ السَّفِينَةِ وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الْأَخَصَّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَعَمِّ وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْهَا الْمُصَلِّي لَا يَجِدُ إلَّا نَجِسًا وَحَرِيرًا يُصَلِّي فِي الْحَرِيرِ فَقَطْ فَيُقَدَّمُ النَّجِسُ فِي الِاجْتِنَابِ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ أَخَصُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْحَرِيرِ إذْ تَحْرِيمُ الْحَرِيرِ يَشْمَلُ الْمُصَلِّيَ وَغَيْرَهُ وَتَحْرِيمُ النَّجِسِ خَاصٌّ بِالْمُصَلِّي وَالْأَخَصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَعَمِّ وَمِنْهَا الْمُحْرِمُ لَا يَجِدُ مَا يَقُوتُهُ إلَّا مَيْتَةً أَوْ صَيْدًا تُبَاحُ لَهُ الْمَيْتَةُ فَقَطْ فَيُقَدَّمُ الصَّيْدُ فِي الِاجْتِنَابِ عَلَى الْمَيْتَةِ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الصَّيْدِ أَخَصُّ بِالْإِحْرَامِ مِنْ الْمَيْتَةِ إذْ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ يَشْمَلُ الْحَاجَّ وَغَيْرَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَصَرُّفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَضَاءِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَصَرُّفِهِ بِالْفَتْوَى وَهِيَ التَّبْلِيغُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَصَرُّفِهِ بِالْإِمَامَةِ ) اعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ وَالْقَاضِي الْأَحْكَمُ وَالْمُفْتِي الْأَعْلَمُ فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَامُ الْأَئِمَّةِ وَقَاضِي الْقُضَاةِ وَعَالِمُ الْعُلَمَاءِ فَجَمِيعُ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ فَوَّضَهَا اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي رِسَالَتِهِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَنْ تَوَلَّى مَنْصِبًا مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْمَنْصِبِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمَا مِنْ مَنْصِبٍ دِينِيٍّ إلَّا وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ فِي أَعْلَى رُتْبَةٍ غَيْرَ أَنَّ غَالِبَ تَصَرُّفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّبْلِيغِ لِأَنَّ وَصْفَ الرِّسَالَةِ غَالِبٌ عَلَيْهِ ثُمَّ تَقَعُ تَصَرُّفَاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا مَا يَكُونُ بِالتَّبْلِيغِ وَالْفَتْوَى إجْمَاعًا وَمِنْهَا مَا يُجْمِعُ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ بِالْقَضَاءِ وَمِنْهَا مَا يُجْمِعُ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ بِالْإِمَامَةِ وَمِنْهَا مَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِيهِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ رُتْبَتَيْنِ فَصَاعِدًا فَمِنْهُمْ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ رُتْبَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ أُخْرَى ثُمَّ تَصَرُّفَاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ تَخْتَلِفُ آثَارُهَا فِي الشَّرِيعَةِ فَكُلُّ مَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فَعَلَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّبْلِيغِ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا عَامًّا عَلَى الثِّقْلَيْنِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ أَقْدَمَ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ بِنَفْسِهِ وَكَذَلِكَ الْمُبَاحُ وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ اجْتَنَبَهُ كُلُّ أَحَدٍ بِنَفْسِهِ وَكُلُّ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِوَصْفِ الْإِمَامَةِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ اقْتِدَاءً بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِأَنَّ سَبَبَ تَصَرُّفِهِ فِيهِ بِوَصْفِ الْإِمَامَةِ دُونَ التَّبْلِيغِ يَقْتَضِي

ذَلِكَ وَمَا تَصَرَّفَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ الْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ إلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ اقْتِدَاءً بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ تَصَرَّفَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ الْقَضَاءِ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَهَذِهِ هِيَ الْفُرُوقُ بَيْنَ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الثَّلَاثِ وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِأَرْبَعِ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) بَعْثُ الْجُيُوشِ لِقِتَالِ الْكُفَّارِ وَالْخَوَارِجِ وَمَنْ تَعَيَّنَ قِتَالُهُ وَصَرْفُ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ فِي جِهَاتِهَا وَجَمْعُهَا مِنْ مَحَالِّهَا وَتَوْلِيَةُ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ الْعَامَّةَ وَقِسْمَةُ الْغَنَائِمِ وَعَقْدُ الْعُهُودِ لِلْكُفَّارِ ذِمَّةً وَصُلْحًا هَذَا هُوَ شَأْنُ الْخَلِيفَةِ وَالْإِمَامِ الْأَعْظَمِ فَمَتَى فَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقِ الْإِمَامَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَمَتَى فَصَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي دَعَاوَى الْأَمْوَالِ أَوْ أَحْكَامِ الْأَبْدَانِ وَنَحْوِهَا بِالْبَيِّنَاتِ أَوْ الْإِيمَانِ وَالنُّكُولَاتِ وَنَحْوِهَا فَنَعْلَمُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا تَصَرَّفَ فِي ذَلِكَ بِالْقَضَاءِ دُونَ الْإِمَامَةِ الْعَامَّةِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّ هَذَا شَأْنَ الْقَضَاءُ وَالْقُضَاةِ وَكُلُّ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعِبَادَاتِ بِقَوْلِهِ أَوْ بِفِعْلِهِ أَوْ أَجَابَ بِهِ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ أَمْرٍ دِينِيٍّ فَأَجَابَهُ فِيهِ فَهَذَا تَصَرُّفٌ بِالْفَتْوَى وَالتَّبْلِيغِ فَهَذَا الْمَوَاطِنُ لَا خَفَاءَ فِيهَا وَأَمَّا مَوَاضِعُ الْخَفَاءِ وَالتَّرَدُّدِ فَفِي بَقِيَّةِ الْمَسَائِلِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ هَلْ تُصْرَفُ بِالْفَتْوَى فَيَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُحْيِيَ إذْنَ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ الْإِحْيَاءِ أَمْ لَا

وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَوْ هُوَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْإِمَامَةِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُحْيِيَ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَمَّا تَفْرِقَةُ مَالِكٍ بَيْنَ مَا قَرُبَ مِنْ الْعِمَارَةِ فَلَا يُحْيَا إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَبَيْنَ مَا بَعُدَ فَيَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الَّذِي نَحْنُ فِيهِ بَلْ مِنْ قَاعِدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ مَا قَرُبَ مِنْ الْعِمْرَانِ يُؤَدِّي إلَى التَّشَاجُرِ وَالْفِتَنِ وَإِدْخَالِ الضَّرَرِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نَظَرِ الْأَئِمَّةِ دَفْعًا لِذَلِكَ الْمُتَوَقَّعِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمَا بَعُدَ مِنْ ذَلِكَ لَا يُتَوَقَّعُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَيَجُوزُ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْإِحْيَاءِ أَرْجَحُ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي تَصَرُّفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفُتْيَا وَالتَّبْلِيغُ وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الدَّائِرَ بَيْنَ الْغَالِبِ وَالنَّادِرِ إضَافَتُهُ إلَى الْغَالِبِ أَوْلَى .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ لَمَّا قَالَتْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي وَوَلَدِي مَا يَكْفِينِي فَقَالَ لَهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ خُذِي لَك وَلِوَلَدِك مَا يَكْفِيك بِالْمَعْرُوفِ } اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهَذَا التَّصَرُّفُ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ هُوَ بِطَرِيقِ الْفَتْوَى فَيَجُوزُ لِكُلِّ مَنْ ظَفِرَ بِحَقِّهِ أَوْ بِجِنْسِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِغَيْرِ عِلْمِ خَصْمِهِ بِهِ وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ خِلَافُهُ بَلْ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَوْ هُوَ تَصَرُّفٌ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ جِنْسَ حَقِّهِ أَوْ حَقَّهُ إذَا تَعَذَّرَ أَخْذُهُ مِنْ الْغَرِيمِ إلَّا بِقَضَاءِ قَاضٍ حَكَى الْخَطَّابِيُّ الْقَوْلَيْنِ عَنْ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّةُ مَنْ قَالَ إنَّهُ بِالْقَضَاءِ أَنَّهَا دَعْوَى فِي مَالٍ عَلَى مُعَيَّنٍ فَلَا يَدْخُلُهُ إلَّا الْقَضَاءُ لِأَنَّ الْفَتَاوَى

شَأْنُهَا الْعُمُومُ وَحَجَّةُ الْقَوْلِ بِأَنَّهَا فَتْوَى مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ وَالْقَضَاءُ عَلَى الْحَاضِرِينَ مِنْ غَيْرِ إعْلَامٍ وَلَا سَمَاعِ حُجَّةٍ لَا يَجُوزُ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّهُ فَتْوَى وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ .
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هَلْ تَصَرَّفَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِمَامَةِ فَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ سَلَبَ الْمَقْتُولِ إلَّا ` أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ ذَلِكَ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فَخَالَفَ أَصْلَهُ فِيمَا قَالَهُ فِي الْإِحْيَاءِ وَهُوَ أَنَّ غَالِبَ تَصَرُّفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَتْوَى فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْفُتْيَا عَمَلًا بِالْغَالِبِ وَسَبَبُ مُخَالَفَتِهِ لِأَصْلِهِ أُمُورٌ مِنْهَا أَنَّ الْغَنِيمَةَ أَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ لِلْغَانِمِينَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } وَإِخْرَاجُ السَّلَبِ مِنْ ذَلِكَ خِلَافُ هَذَا الظَّاهِرِ وَمِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا أَفْسَدَ الْإِخْلَاصَ عِنْدَ الْمُجَاهِدِينَ فَيُقَاتِلُونَ لِهَذَا السَّلَبِ دُونَ نَصْرِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يُقْبَلَ عَلَى قَتْلِ مَنْ لَهُ سَلَبٌ دُونَ غَيْرِهِ فَيَقَعَ التَّخَاذُلُ فِي الْجَيْشِ وَرُبَّمَا كَانَ قَلِيلُ السَّلَبِ أَشَدَّ نِكَايَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ تُرِكَ هَذَا الْأَصْلُ وَعَلَى هَذَا الْقَانُونِ وَهَذِهِ الْفُرُوقِ يَتَخَرَّجُ مَا يَرِدُ عَلَيْك مِنْ هَذَا الْبَابِ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ .

قَالَ ( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَصَرُّفِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْإِمَامَةِ إلَى قَوْلِهِ وَنُحَقِّقُ ذَلِكَ بِأَرْبَعِ مَسَائِلَ ) قُلْت لَمْ يُجَوِّدْ التَّعْرِيفَ بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا أَوْضَحَهَا كُلَّ الْإِيضَاحِ وَالْقَوْلُ الَّذِي يُوَضِّحُهَا هُوَ أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِتَعْرِيفِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَنْفِيذِهِ فَإِنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِتَعْرِيفِهِ فَذَلِكَ هُوَ الرَّسُولُ إنْ كَانَ هُوَ الْمُبْلِغَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَتَصَرُّفُهُ هُوَ الرِّسَالَةُ وَإِلَّا فَهُوَ الْمُفْتِي وَتَصَرُّفُهُ هُوَ الْفَتْوَى وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِتَنْفِيذِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَنْفِيذُهُ ذَلِكَ بِفَصْلٍ وَقَضَاءٍ وَإِبْرَامٍ وَإِمْضَاءٍ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَذَلِكَ هُوَ الْإِمَامُ وَتَصَرُّفُهُ هُوَ الْإِمَامَةُ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَذَلِكَ هُوَ الْقَاضِي وَتَصَرُّفُهُ هُوَ الْقَضَاءُ قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) قُلْت التَّقْسِيمُ الَّذِي ذَكَرْته قَدْ أَتَى عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِيهَا مَعَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ يُعْطِي ذَلِكَ الْمَعْنَى لَكِنَّ مَا ذَكَرْته مِنْ التَّقْسِيمِ أَمَسُّ بِالتَّحْرِيرِ وَأَقْرَبُ إلَى الْإِيضَاحِ .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إلَى آخِرِهَا ) قُلْت مَا قَالَهُ فِيهَا ظَاهِرٌ وَمَا رَجَحَ بِهِ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَاجِحٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمَا قَالَهُ بَعْدُ إلَى آخِرِ الْفَرْقِ صَحِيحٌ ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

.
( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَصَرُّفِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَضَاءِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَصَرُّفِهِ بِالْفَتْوَى وَهِيَ التَّبْلِيغُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَصَرُّفِهِ بِالْإِمَامَةِ ) لَمَّا كَانَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامَ الْأَئِمَّةِ وَقَاضِيَ الْقُضَاةِ وَعَالِمَ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ فَوَّضَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي رِسَالَتِهِ جَمِيعَ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ كَانَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَ مِنْ كُلِّ مَنْ تَوَلَّى مَنْصِبًا مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْمَنْصِبِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمَا مِنْ مَنْصِبٍ دِينِيٍّ إلَّا وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ فِي أَعْلَى رُتْبَةٍ نَعَمْ غَالِبُ تَصَرُّفِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّبْلِيغِ لِأَنَّ وَصْفَ الرِّسَالَةِ غَالِبٌ عَلَيْهِ ثُمَّ إنَّ تَصَرُّفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا مَا يُجْمِعُ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ بِالتَّبْلِيغِ وَالْفَتْوَى وَمِنْهَا مَا يُجْمِعُ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ بِالْقَضَاءِ وَمِنْهَا مَا يُجْمِعُ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ بِالْإِمَامَةِ وَمِنْهَا مَا يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِيهِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ رُتْبَتَيْنِ فَأَكْثَرَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ رُتْبَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ أُخْرَى وَتَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الثَّلَاثِ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الرِّسَالَةِ هُوَ أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِتَعْرِيفِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَنْفِيذِهِ فَإِنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِتَعَرُّفِهِ فَذَلِكَ هُوَ الرَّسُولُ إنْ كَانَ هُوَ الْمُبَلِّغَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَتَصَرُّفُهُ هُوَ الرِّسَالَةُ وَإِلَّا فَهُوَ الْمُفْتِي وَتَصَرُّفُهُ هُوَ الْفَتْوَى وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِتَنْفِيذِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَنْفِيذُهُ ذَلِكَ بِفَضْلِ قَضَاءٍ وَإِبْرَامٍ وَإِمْضَاءٍ فَذَلِكَ هُوَ الْقَاضِي وَتَصَرُّفُهُ هُوَ الْقَضَاءُ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ تَنْفِيذُهُ بِفَصْلِ قَضَاءٍ وَإِبْرَامٍ وَإِمْضَاءٍ فَذَلِكَ

هُوَ الْإِمَامُ وَتَصَرُّفُهُ هُوَ الْإِمَامَةُ ( فَائِدَةٌ ) الرَّسُولُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ الْجَاهِلَ لِيُعْلِمَهُ بِخِلَافِ الْعَالِمِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ بَلْ الْوَاجِبُ عَلَى الْجَاهِلِ أَنْ يَطْلُبَ الْعَالِمَ لِيُعْلِمَهُ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ يُقَرِّرُهَا الرَّسُولُ عَلَى النَّاسِ فَلْيَبْحَثُوا بَعْدُ عَمَّنْ يُعْلِمُهُمْ نَعَمْ يَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ الْإِجَابَةُ بَعْدَ الطَّلَبِ وَكُلُّ هَذَا مَا لَمْ يُشَاهِدْ مُنْكَرًا مِنْ الْجَاهِلِ فَيَجِبْ حِينَئِذٍ الْمُبَادَرَةُ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّغْيِيرِ حَسْبَ الْإِمْكَانِ أَفَادَهُ الْأَمِيرُ عَلِيٌّ عَبْدُ السَّلَامِ عَلِيٌّ الْجَوْهَرِيُّ ( وَصْلٌ ) فِي زِيَادَةِ تَوْضِيحِ هَذَا الْفَرْقِ بِأَرْبَعِ مَسَائِلَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى كُلُّ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِوَصْفِ الْإِمَامَةِ الَّذِي هُوَ التَّنْفِيذُ لَا عَلَى وَجْهِ فَصْلِ الْقَضَاءِ وَالْإِبْرَامِ وَالْإِمْضَاءِ كَبَعْثِ الْجُيُوشِ لِقِتَالِ الْكُفَّارِ وَالْخَوَارِجِ وَمَنْ تَعَيَّنَ قِتَالُهُ وَصَرْفِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ فِي جِهَاتِهَا وَجَمْعِهَا مِنْ مَحَالِّهَا وَتَوْلِيَةِ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ الْعَامَّةِ وَقِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَعَقْدُ الْعُهُودِ لِلْكُفَّارِ ذِمَّةً وَصُلْحًا لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ اقْتِدَاءً بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِأَنَّ سَبَبَ تَصَرُّفِهِ فِيهِ بِوَصْفِ الْإِمَامَةِ دُونَ وَصْفِ التَّبْلِيغِ الَّذِي هُوَ التَّعْرِيفُ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَكُلُّ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِوَصْفِ الْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ التَّنْفِيذُ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ وَالْإِبْرَامِ وَالْإِمْضَاءِ كَفَصْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي دَعَاوَى الْأَمْوَالِ وَأَحْكَامِ الْأَبَدَانِ وَنَحْوِهَا بِالْبَيِّنَاتِ أَوْ الْأَيْمَانِ وَالنُّكُولَاتِ وَنَحْوِهَا لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ إلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ اقْتِدَاءً بِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ تَصَرَّفَ فِيهِ صَلَّى

اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ الْقَضَاءِ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَكُلُّ مَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فَعَلَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّبْلِيغِ وَالْفَتْوَى الَّذِي هُوَ التَّعْرِيفُ لَا عَلَى وَجْهِ كَوْنِهِ الْمُبَلِّغَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى كَتَصَرُّفِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعِبَادَاتِ بِقَوْلِهِ أَوْ بِفِعْلِهِ أَوْ أَجَابَ بِهِ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ أَمْرٍ دِينِيٍّ فَأَجَابَهُ فِيهِ يَكُونُ حُكْمًا عَامًّا عَلَى الثِّقْلَيْنِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
فَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ أَقْدَمَ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ بِنَفْسِهِ وَكَذَلِكَ الْمُبَاحُ وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ اجْتَنَبَهُ كُلُّ أَحَدٍ بِنَفْسِهِ وَهَذِهِ الْمَوَاطِنُ لَا خَفَاءَ فِيهَا وَأَمَّا مَوَاضِعُ الْخَفَاءِ وَالتَّرَدُّدِ فَفِي بَقِيَّةِ الْمَسَائِلِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي كَوْنِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ } تَصَرُّفًا بِالْفَتْوَى فَيَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُحْيِيَ إذْنَ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ الْإِحْيَاءِ أَمْ لَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَهُوَ الرَّاجِحُ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي تَصَرُّفِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفُتْيَا وَالتَّبْلِيغُ وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ إضَافَةَ الدَّائِرِ بَيْنَ الْغَالِبِ وَالنَّادِرِ إلَى الْغَالِبِ أَوْلَى أَوْ كَوْنِهِ تَصَرُّفًا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْإِمَامَةِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُحْيِيَ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ تَفْرِقَةَ مَالِكٍ بَيْنَ مَا قَرُبَ مِنْ الْعِمَارَةِ فَلَا يُحْيَا إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَبَيْنَ مَا بَعُدَ فَيَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِهِ بَلْ هُوَ مِنْ قَاعِدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ مَا قَرُبَ مِنْ الْعِمْرَانِ يُؤَدِّي إلَى التَّشَاجُرِ وَالْفِتَنِ وَإِدْخَالِ الضَّرَرِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نَظَرِ الْأَئِمَّةِ دَفْعًا لِذَلِكَ الْمُتَوَقَّعِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمَا

بَعُدَ مِنْ ذَلِكَ لَا يُتَوَقَّعُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَيَجُوزُ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَوْنِ { قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ لَمَّا قَالَتْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي وَوَلَدِي مَا يَكْفِينِي .
مَا نَصُّهُ : خُذِي لَك وَلِوَلَدِك مَا يَكْفِيك بِالْمَعْرُوفِ } تَصَرُّفًا بِطَرِيقِ الْفَتْوَى فَيَجُوزُ لِكُلِّ مَنْ ظَفِرَ بِحَقِّهِ أَوْ بِجِنْسِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِغَيْرِ عِلْمِ خَصْمِهِ بِهِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَوْ كَوْنِهِ تَصَرُّفًا بِالْقَضَاءِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ أَوْ جِنْسَهُ إذَا تَعَذَّرَ أَخْذُهُ مِنْ الْغَرِيمِ إلَّا بِقَضَاءِ قَاضٍ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَحُجَّتُهُ أَنَّهَا دَعْوَى فِي مَالٍ عَلَى مُعَيَّنٍ فَلَا يَدْخُلُهُ إلَّا الْقَضَاءُ لِأَنَّ الْفَتَاوَى شَأْنُهَا الْعُمُومُ وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ وَالْقَضَاءُ عَلَى الْحَاضِرِينَ مِنْ غَيْرِ إعْلَامٍ وَلَا سَمَاعِ حُجَّةٍ لَا يَجُوزُ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّهُ فَتْوَى وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ كَذَا قَالَ الْأَصْلُ وَفِي جَعْلِهِ عَدَمَ جَوَازِ أَخْذِ أَحَدٍ حَقَّهُ أَوْ جِنْسَهُ إذَا تَعَذَّرَ أَخْذُهُ مِنْ الْغَرِيمِ إلَّا بِقَضَاءِ قَاضٍ هُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَإِنْ وَافَقَ ظَاهِرَ قَوْلِ خَلِيلٍ فِي بَابِ الْوَدِيعَةِ وَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْهَا لِمَنْ ظَلَمَهُ بِمِثْلِهَا ا هـ مُخَالَفَةً لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ هَذَا وَإِنْ قَدَرَ عَلَى شَيْئِهِ فَلَهُ أَخْذُهُ إنْ يَكُنْ غَيْرَ عُقُوبَةٍ وَأَمِنَ فِتْنَةً وَرَذِيلَةً ا هـ قَالَ الْمَوَّاقُ وَحَاصِلُ كَلَامِ اللَّخْمِيِّ وَابْنِ يُونُسَ وَابْنِ رُشْدٍ وَالْمَازِرِيُّ تَرْجِيحُ الْأَخْذِ ا هـ .
وَفِي مِنَحِ الْجَلِيلِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ عبق وَالْخَرَشِيَّ قَرَّرَا أَنَّ مُرَادَ خَلِيلٍ بِشَيْئِهِ مَا يَشْمَلُ عَيْنَهُ أَوْ غَيْرَ عَيْنِهِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَيَدُلُّ

لَهُ قَوْلُ خَلِيلٍ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عُقُوبَةٍ لِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُ أَخْذُ عَيْنِهَا فَلَوْ أَرَادَ خَلِيلٌ بِشَيْئِهِ عَيْنَهُ خَاصَّةً لَمْ يَحْتَجْ لِقَوْلِهِ إنْ يَكُنْ غَيْرَ عُقُوبَةٍ لِعَدَمِ شُمُولِ عَيْنِ شَيْئِهِ لَهَا فَيُحْمَلُ شَيْؤُهُ عَلَى حَقِّهِ الشَّامِلِ لِعَيْنِ شَيْئِهِ وَعِوَضِهِ فَيُحْتَاجُ إلَى إخْرَاجِ الْعُقُوبَةِ وَشَمِلَ كَلَامُهُ الْوَدِيعَةَ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَمَا قَدَّمَهُ فِي بَابِهَا مِنْ قَوْلِهِ وَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ إلَخْ ضَعِيفٌ ا هـ قَالَ الْبُنَانِيُّ وَسَلَّمَهُ الرَّهُونِيُّ وَكَوْنُ مَا قَرَّرَ بِهِ عبق هُوَ الظَّاهِرُ وَمَا قَالَهُ طفى وَصَوَّبَهُ مِنْ حَمْلِ مَا هُنَا عَلَى عَيْنِ شَيْئِهِ إذْ هُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ وَأَمَّا غَيْرُ عَيْنِ شَيْئِهِ فَفِيهِ أَقْوَالٌ مَشَى فِيهِ خَلِيلٌ مِنْهَا فِيمَا تَقَدَّمَ فِي الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمَنْعِ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ لِأَنَّ أَظْهَرَ الْأَقْوَالِ عِنْدَ ابْنِ عَرَفَةَ الْإِبَاحَةُ ا هـ وَنَقَلَ كَنُونِ عَنْ التَّوْضِيحِ بِاخْتِصَارٍ أَنَّ الدَّعْوَى إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِ مَتَاعِهِ وَإِلَّا جَازَ لَهُ أَخْذُهُ أَيْ بِشَرْطَيْهِ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ إلَى الْحَاكِمِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الرَّفْعِ إنَّمَا هُوَ الْوُصُولُ إلَى الْحَقِّ فَإِذَا أَمْكَنَ بِدُونِهِ فَالرَّفْعُ إلَيْهِ عَنَاءٌ وَرُبَّمَا لَمْ يَجِدْ الرَّافِعُ بَيِّنَةً فَيُؤَدِّي إلَى ضَيَاعِ مَالِهِ وَهُوَ ضِدُّ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ حِفْظِهِ ا هـ قَالَ وَنَحْوُهُ لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ا هـ وَلِلَّهِ دُرُّ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْعَاقِبِ بْنِ مَا يَأْبَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ قَالَ إذَا وَجَدَ الْمَظْلُومُ بِالْمَطْلِ قُدْرَةً عَلَى أَخْذِ حَقٍّ لَازِمٍ لِمُطَوِّلِ فَأَخَذَ جَمِيعَ الْحَقِّ أَوْ مَا يَنُوبُهُ مَعَ الْغَيْرِ مَا عَنْ مَحِلِّهِ مِنْ عُدُولِ بِذَا صَرَّحَ الزَّرْقَانِيُّ قُدِّسَ سِرُّهُ وَسَلَّمَهُ الْبُنَانِيُّ حَبْرُ النُّقُولِ وَمَنْ يَدْعُهُ بِاسْمِ الْفُضُولِيِّ بَعْدَمَا أُبِيحَ لَهُ ذَا الْأَخْذِ فَهُوَ الْفُضُولِيّ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَوْنِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {

مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } تَصَرُّفًا بِالْفَتْوَى عَمَلًا بِالْغَالِبِ مِنْ تَصَرُّفِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَسْتَحِلُّ كُلُّ أَحَدٍ سَلَبَ الْمَقْتُولِ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ الْإِمَامُ ذَلِكَ أَوْ كَوْنِهِ تَصَرُّفًا بِالْإِمَامَةِ فَلَا يَسْتَحِلُّ أَحَدٌ سَلَبَ الْمَقْتُولِ إلَّا أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ ذَلِكَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ خَالَفَ أَصْلَهُ الَّذِي قَالَهُ فِي الْإِحْيَاءِ وَهُوَ أَنَّ غَالِبَ تَصَرُّفِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَتْوَى نَظَرًا لِأُمُورٍ مِنْهَا أَنَّ الْغَنِيمَةَ أَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ لِلْغَانِمِينَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } وَإِخْرَاجُ السَّلَبِ مِنْ ذَلِكَ خِلَافُ هَذَا الظَّاهِرِ وَمِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا أَفْسَدَ الْإِخْلَاصَ عِنْدَ الْمُجَاهِدِينَ فَيُقَاتِلُونَ لِهَذَا السَّلَبِ دُونَ نَصْرِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَمِنْهَا أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يُقْبِلَ عَلَى قَتْلِ مَنْ لَهُ سَلَبٌ دُونَ غَيْرِهِ فَيَقَعَ التَّخَاذُلُ فِي الْجَيْشِ وَرُبَّمَا كَانَ قَلِيلُ السَّلَبِ أَشَدَّ نِكَايَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ تَرَكَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْأَصْلَ هُنَا ، فَتَأَمَّلْ هَذَا الْقَانُونَ وَهَذِهِ الْفُرُوقَ لِتُخْرِجَ عَلَيْهِ مَا يَرِدُ عَلَيْك مِنْ هَذَا الْبَابِ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنْ الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَعْلِيقِ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَقَاعِدَةِ تَعْلِيقِ سَبَبِيَّةِ الْأَسْبَابِ عَلَى الْمَشِيئَةِ ) فَالْأَوَّلُ عِنْدَنَا غَيْرُ قَادِحٍ وَلَا يُؤَثِّرُ إلَّا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى دُونَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهِمَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ مُؤَثِّرٌ فِي الْجَمِيعِ وَفَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَيُعِيدُ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الدُّخُولِ فَلَا يَلْزَمُ الطَّلَاقُ أَوْ عَلَى الطَّلَاقِ فَيَلْزَمُ وَإِذَا قَالَ إنْ كَلَّمْت زَيْدًا فَعَلَيَّ الْحَجُّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إنْ أَعَادَ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى كَلَامِ زَيْدٍ وَيَلْزَمُ إنْ أَعَادَهُ عَلَى الْحَجِّ وَبَسْطُ ذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّرْطِ اللُّغَوِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الشُّرُوطِ فَيُطَالَعُ مِنْ هُنَالِكَ مَبْسُوطًا مُسْتَوْفًى مُحَرَّرًا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَالْجَوْدَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّطْوِيلِ بِإِعَادَتِهِ .
قَالَ ( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَعْلِيقِ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَقَاعِدَةِ تَعْلِيقِ سَبَبِيَّةِ الْأَسْبَابِ عَلَى الْمَشِيئَةِ إلَى آخِرِ الْفَرْقِ ) قُلْت أَحَالَ هُنَا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّرْطِ اللُّغَوِيِّ وَغَيْرِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَعْلِيقِ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَقَاعِدَةِ تَعْلِيقِ سَبَبِيَّةِ الْأَسْبَابِ عَلَى الْمَشِيئَةِ ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ هِيَ مَا عُلِّقَ عَلَى مِثْلِ الدُّخُولِ وَالْكَلَامُ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ وَغَيْرِهَا فِي نَحْوِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ إنْ دَخَلْت الدَّارَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ إنْ كَلَّمْت زَيْدًا فَعَلَيَّ الْحَجُّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَحَصَلَ الدُّخُولُ وَالْكَلَامُ وَالْأَسْبَابُ هِيَ نَحْوُ الدُّخُولِ وَالْكَلَامُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ وَقَدْ فَرَّقُوا فِي الْمَذْهَبِ بَيْنَ أَنْ يُعِيدَ الْمَشِيئَةَ فِي الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ لِلدُّخُولِ أَوْ الْكَلَامِ أَيْ لِجَعْلِهِ سَبَبًا لِلطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنَّذْرُ وَغَيْرُهَا بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الدُّخُولَ وَنَحْوَهُ مِنْ أَسْبَابِ الْأَحْكَامِ الَّتِي وَكَّلَهَا اللَّهُ لِخِيرَةِ خَلْقِهِ فَحَيْثُ أَعَادَ الْمَشِيئَةَ لَهُ وَلَمْ يَجْزِمْ بِجَعْلِهِ سَبَبًا لِلطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ نَفَعَهُ وَبَيْنَ أَنْ يُعِيدَ الْمَشِيئَةَ لِلطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ فَيَلْزَمُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ اعْتِبَارِ الشَّكِّ فِي الْعِصْمَةِ وَالْعِتْقِ وَالنَّذْرِ وَنَحْوِهَا فَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَيَلْزَمُ الْعِتْقُ وَالنَّذْرُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَنَحْوَهُ مِنْ أَسْبَابِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ يَكِلْهَا اللَّهُ تَعَالَى لِخِيرَةِ خَلْقِهِ فَلَا يَتَأَتَّى فِيهَا عَدَمُ الْجَزْمِ بِجَعْلِهَا أَسْبَابًا لِمُسَبَّبَاتِهَا الشَّرْعِيَّةِ فَافْهَمْ وَبَيَانُ الشَّكِّ هُنَا أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْمَشِيئَةِ الَّذِي هُوَ الطَّلَاقُ أَيْ حَلُّ الْعِصْمَةِ وَالْعِتْقِ وَالنَّذْرِ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ حَتَّى تُعْلَمَ فِيهِ مَشِيئَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنَّهُ أَرَادَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَالنَّذْرَ عَلَى التَّعْيِينِ أَمْ لَا وَلَا طَرِيقَ لَنَا إلَى

التَّوَصُّلِ إلَى ذَلِكَ فَالْمَشِيئَةُ عِنْدَنَا لَا تُؤَثِّرُ إلَّا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى دُونَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهِمَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْهُ تُؤَثِّرُ الْمَشِيئَةَ فِي الْجَمِيعِ كَذَا قَالَ الْأَصْلُ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا بَسَطَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّرْطِ اللُّغَوِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الشُّرُوطِ مِنْ حَمْلِ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ بِأَنَّ الْمَشِيئَةَ إذَا عَادَتْ لِلْمُسَبِّبَاتِ مِنْ طَلَاقٍ وَغَيْرِهِ لَا تُؤَثِّرُ إلَّا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ اعْتِبَارِ الشَّكِّ فِي الْعِصْمَةِ كَمَا عَلِمْت .
وَقَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِأَنَّهَا إذَا عَادَتْ لِلْمُسَبِّبَاتِ مِنْ طَلَاقٍ وَغَيْرِهِ أَثَّرَتْ فِيهَا كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ إلْغَاءِ الشَّكِّ فِي الْعِصْمَةِ وَالْعِتْقِ وَالنَّذْرِ وَغَيْرِهَا عَلَى الِاخْتِلَافِ وَحَمْلِ قَوْلَيْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بِأَنَّهَا إذَا عَادَتْ لِنَحْوِ الدُّخُولِ وَالْكَلَامِ لَا تَنْفَعُهُ أَوْ تَنْفَعُهُ عَلَى الْوِفَاقِ مُطْلَقًا وَلَوْ احْتَمَلَ الْمِثَالُ رُجُوعَهُ لِلْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ وَادَّعَاهُ مَعَ الْبَيِّنَةِ بِأَنْ يُوَفَّقَ بَيْنَهُمَا بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ لَوْ جَزَمَ بِجَعْلِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ سَبَبًا لِلطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ الِاسْتِثْنَاءُ كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَلَوْ لَمْ يَجْزِمْ بِجَعْلِهِ سَبَبًا نَفَعَهُ كَمَا قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ إذْ الْفِعْلُ مِنْ أَسْبَابِ الْأَحْكَامِ الَّتِي وَكَّلَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِخِيرَةِ خَلْقِهِ وَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ وَبَيَانُ مَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ الْفَرْقِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّطْوِيلِ بِإِعَادَتِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ النَّهْيِ الْخَاصِّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ النَّهْيِ الْعَامِّ ) هَذَانِ النَّهْيَانِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَنْقَسِمَانِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَنْ يَتَضَادَّا وَيَتَنَافَيَا كَقَوْلِهِ لَا تَقْتُلُوا بَنِي تَمِيمٍ لَا تُبْقُوا مِنْ رِجَالِهِمْ أَحَدًا حَيًّا فَحُكْمُ هَذَا الْقِسْمِ أَنْ يُقَدَّمَ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ وَيُبْتَنَى الْعَامُّ عَلَيْهِ فَيُقْتَلُ رِجَالُهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي تَقْدِيمِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ فِي النُّصُوصِ الْمُتَعَارِضَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَدِلَّةِ الْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ لَا يَتَضَادَّا وَلَا يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا مُنَاسَبَةٌ يَخْتَصُّ بِهَا دُونَ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ } لَا تَقْتُلُوا الرِّجَالَ فَهَذَانِ مِنْ قَاعِدَةِ ذِكْرِ بَعْضِ الْعَامِّ الصَّحِيحِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يُخَصِّصُهُ كَانَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ خَبَرًا فَإِنَّ جُزْءَ الشَّيْءِ لَا يُنَافِيهِ وَقِيلَ عَلَى الشُّذُوذِ أَنَّهُ يُخَصِّصُهُ مِنْ طَرِيقِ الْمَفْهُومِ فَإِنَّ ذِكْرَ الرِّجَالِ يَقْتَضِي مَفْهُومَهُ قَتْلَ غَيْرِهِمْ الْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ لَا يَتَنَافَيَا وَيَكُونُ لِأَحَدِهِمَا مُنَاسَبَةٌ تَخُصُّهُ فِي مُتَعَلِّقِهِ وَفِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } وقَوْله تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } فَيَضْطَرُّ الْمُحْرِمُ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ الصَّيْدِ قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَيَتْرُكُ الصَّيْدَ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا إلَّا أَنَّ تَحْرِيمَ الصَّيْدِ لَهُ مُنَاسَبَةٌ بِالْإِحْرَامِ وَمَفْسَدَتُهُ الَّتِي اعْتَمَدَهَا النَّهْيُ إنَّمَا هِيَ فِي الْإِحْرَامِ وَأَمَّا مَفْسَدَةُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَذَلِكَ أَمْرٌ عَامٌّ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِخُصُوصِ الْإِحْرَامِ وَالْمُنَاسِبُ إذَا كَانَ لِأَمْرٍ عَامٍّ وَهُوَ كَوْنُهَا مَيْتَةً لَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خُصُوصِ الْإِحْرَامِ مُنَافَاةٌ وَلَا

تَعَلُّقَ وَالْمُنَافِي الْأَخَصُّ أَوْلَى بِالِاجْتِنَابِ وَنَظِيرُهُ مِنْ الْعُرْفِيَّاتِ مَنْ هُوَ عَدُوٌّ لِقَبِيلَتِك أَوْ مِلَّتِك وَآخَرُ عَدُوٌّ لَك فِي نَفْسِك دُونَ غَيْرِك فَإِنَّ حَذَرَك يَكُونُ مِنْ عَدُوِّك الْخَاصِّ بِك أَشَدَّ ، وَاجْتِنَابَك لَهُ أَكْثَرُ وَأَلْيَقُ بِك ، إنَّ تَسَلُّطَهُ عَلَيْك أَعْظَمُ وَأَمَّا عَدُوُّ مِلَّتِك فَإِنَّهُ لَا يُلَاحِظُ خُصُوصَك فِي عَدَاوَتِهِ بَلْ رُبَّمَا مَالَ إلَيْك دُونَ أَهْلِ مِلَّتِك لِأَمْرٍ يَجِدُهُ فِيك دُونَهُمْ وَأَمَّا عَدُوُّك فَلَوْ تَرَكَ النَّاسَ كُلَّهُمْ مَا تَرَكَك وَكَذَلِكَ غَرِيمٌ لَا يُطَالِبُ إلَّا أَنْتَ وَغَرِيمٌ يُطَالِبُ جَمَاعَةً أَنْتَ مِنْهُمْ تَجِدُ فِي نَفْسِك الْمِلْكَ مِنْ الْمُطَالِبِ لَك وَحْدَك أَشَدَّ وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ الشَّرْعِيَّةُ الْخَاصُّ مِنْهَا يَكُونُ أَشَدَّ اجْتِنَابًا ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) إذَا لَمْ يَجِدْ الْمُصَلِّي مَا يَسْتُرُهُ إلَّا حَرِيرًا أَوْ نَجِسًا قَالَ أَصْحَابُنَا يُصَلِّي فِي الْحَرِيرِ وَيَتْرُكُ النَّجِسَ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ النَّجَاسَةِ خَاصَّةٌ بِالصَّلَاةِ بِخِلَافِ مَفْسَدَةِ الْحَرِيرِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِخُصُوصِ الصَّلَاةِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ وَالْمُنَافَاةُ حَاصِلَةً لَكِنْ لِأَمْرٍ عَامٍّ يَتَعَلَّقُ بِحَقِيقَةِ الْحَرِيرِ لَا بِخُصُوصِ الصَّلَاةِ فَإِنْ قُلْت إذَا كَانَتْ مَفْسَدَةُ الشَّيْءِ تَثْبُتُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَمَفْسَدَةُ غَيْرِهِ لَا تَثْبُتُ إلَّا فِي حَالَةٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اعْتِنَاءَ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِمَا تَعُمُّ مَفْسَدَتُهُ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ أَقْوَى وَأَنَّ الْمَفْسَدَةَ أَعْظَمُ وَالْقَاعِدَةُ إذَا تَعَارَضَتْ الْمَفْسَدَةُ الدُّنْيَا وَالْمَفْسَدَةُ الْعُلْيَا فَإِنَّا نَدْفَعُ الْعُلْيَا بِالْتِزَامِ الدُّنْيَا كَمَا نَقْطَعُ الْيَدَ الْمُتَآكِلَةَ لِبَقَاءِ النَّفْسِ لِأَنَّ مَفْسَدَتَهَا أَعْظَمُ وَأَشْمَلُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا مَفْسَدَةُ الْحَرِيرِ أَعْظَمُ وَأَشْمَلُ فَكَانَ اجْتِنَابُهُ أَوْلَى مِنْ اجْتِنَابِ النَّجِسِ قُلْت نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ إذَا كَانَتْ أَعْظَمَ وَأَشْمَلَ تَكُونُ أَوْلَى بِالِاجْتِنَابِ لَكِنَّ

ذَلِكَ حَيْثُ تَكُونُ الْمَفْسَدَةُ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِخُصُوصِ الْحَالِ بَلْ هِيَ فِي تِلْكَ الْحَقَائِقِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ أَمَّا إذَا كَانَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِخُصُوصِ الْحَالِ فَنَمْنَعُ تَقْدِيمَ الْأَعَمِّ وَالْأَشْمَلِ عَلَيْهَا .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) وَقَعَ فِي الْمَذْهَبِ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ وَهِيَ أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى بَلَدٍ مُعَيَّنٍ فَتَجَاوَزَ بِهَا تِلْكَ الْبَلْدَةَ مُتَعَدِّيًا فَإِنَّ لِرَبِّهَا تَضْمِينَهُ الدَّابَّةَ وَإِنْ رَدَّهَا سَالِمَةً وَالْغَاصِبُ إذَا تَعَدَّى بِالْغَصْبِ فِي الدَّابَّةِ وَرَدَّهَا سَالِمَةً لَا يَكُونُ لِرَبِّهَا تَضْمِينَهُ إجْمَاعًا وَغَايَةُ هَذَا الْمُتَعَدِّي أَنْ يَكُونَ كَالْغَاصِبِ وَالْغَاصِبُ إذَا رَدَّ الْمَغْصُوبَ لَا يَضْمَنُ فَكَذَلِكَ هَذَا الْمُتَعَدِّي وَرَامَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ تَخْرِيجَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِأَنْ قَالَ النَّهْيُ عَنْ الْغَصْبِ نَهْيٌ عَامٌّ لَا يَخْتَصُّ بِحَالَةٍ وَلَا بِعَيْنٍ دُونَ عَيْنٍ وَهَاهُنَا فِي هَذَا الْمُتَعَدِّي وُجِدَ نَهْيٌ خَاصٌّ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ لِأَنَّهُ لَمَّا آجَرَهُ إلَى الْغَايَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَحَدَّدَ لَهُ الْغَايَةَ فَقَدْ نَهَاهُ أَنْ يُجَاوِزَهَا فَالزَّائِدُ عَلَى هَذِهِ الْغَايَةِ فِيهِ نَهْيٌ يَخُصُّهُ وَيَتَعَلَّقُ بِخُصُوصِ هَذِهِ الدَّابَّةِ دُونَ غَيْرِهَا وَبِهَذِهِ الْغَايَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ النَّهْيَ الْخَاصَّ بِالْحَالَةِ الْمُعَيَّنَةِ أَقْوَى مِمَّا هُوَ عَامٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بِخُصُوصِ تِلْكَ الْحَالَةِ فَهَذَا فَرْقٌ بَيْنَ الْغَاصِبِ وَالْمُتَعَدِّي فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ تَضْمِينِ الْغَاصِبِ مَعَ الرَّدِّ أَنْ لَا يَضْمَنَ الْمُتَعَدِّي مَعَ الرَّدِّ لِقُوَّةِ النَّهْيِ فِي حَقِّهِ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَسْئِلَةٌ أَحَدُهَا أَنَّ الْقَاعِدَةَ إنَّمَا هِيَ فِي التَّعَارُضِ وَلَمْ يَقَعْ هَاهُنَا تَعَارُضٌ فَلَمْ يَجْتَمِعْ نَهْيُ الْغَصْبِ وَنَهْيُ التَّعَدِّي وَقَدَّمَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ بَلْ انْفَرَدَ نَهْيُ الْمُتَعَدِّي وَحْدَهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَثَانِيهَا أَنَّ النَّهْيَ الْخَاصَّ هَاهُنَا نَهْيُ آدَمِيٍّ وَالنَّهْيُ الْعَامُّ نَهْيُ

اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُرَجَّحُ نَهْيُ الْآدَمِيِّ لِخُصُوصِهِ عَلَى نَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ عُمُومِهِ بَلْ لَا اعْتِبَارَ بِنَهْيِ الْعَبْدِ أَصْلًا وَإِنَّمَا تَنْبَنِي الشَّرَائِعُ عَلَى نَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِهِ .
فَإِنْ قُلْت إذَا نُهِيَ الْعَبْدُ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ فِي غَايَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ فِي حَالَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَإِنَّ نَهْيَ اللَّهِ يَصْحَبُهُ فِي تِلْكَ الْغَايَةِ وَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَنَحْنُ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا رَجَّحْنَا بَيْنَ نَهْيَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى أَحَدُهُمَا خَاصٌّ وَالْآخَرُ عَامٌّ قُلْت هَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ وَلَكِنَّ النَّهْيَ الَّذِي صَحِبَ نَهْيَ الْعَبْدِ هَاهُنَا هُوَ نَهْيٌ عَامٌّ وَهُوَ نَهْيُ الْغَصْبِ بِعَيْنِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الِانْتِفَاعَ بِالْأَمْلَاكِ وَالْأَمْوَالِ إلَّا بِرِضَا أَرْبَابِهَا فَأَيُّ حَالَةٍ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا الرِّضَا يَكُونُ ذَلِكَ النَّهْيُ مُتَحَقِّقًا فَيَكُونُ نَهْيُ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ الْغَايَةِ هُوَ ذَلِكَ النَّهْيُ الْعَامُّ الَّذِي اُسْتُثْنِيَ مِنْهُ حَالَةُ الرِّضَا دُونَ غَيْرِهَا وَهَذَا هُوَ عَيْنُ نَهْيِ الْغَصْبِ الَّذِي هُوَ النَّهْيُ الْعَامُّ وَهَذِهِ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِهِ وَهُوَ الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسِهِ } وَاسْتَثْنَى حَالَةَ الطِّيبِ عَنْ النَّهْيِ الْعَامِّ وَبَقِيَ مَا عَدَا حَالَةَ طِيبِ النَّفْسِ مُنْدَرِجًا تَحْتَ النَّهْيِ الْعَامِّ وَهُوَ بِعَيْنِهِ نَهْيُ الْغَصْبِ فَظَهَرَ أَنَّ التَّخَيُّلَ الَّذِي قَالَهُ مِنْ تَعَارُضِ نَهْيَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ بَاطِلٍ وَثَالِثُهَا إذَا قِسْنَا تَرْكَ الضَّمَانِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى تَرْكِ الضَّمَانِ فِي صُورَةِ الْغَصْبِ كَانَ الْقِيَاسُ صَحِيحًا سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ وَلَوْ قِسْنَا هُنَالِكَ الْحَرِيرَ عَلَى الْجِنْسِ أَوْ الْمَيْتَةَ عَلَى الصَّيْدِ فَتَرْكُ الْجَمِيعِ أَدَّى ذَلِكَ إلَى هَلَاكِ الْمُحْرِمِ بِالْجُوعِ وَبَقَاءِ الْمُصَلِّي عُرْيَانًا وَهَذِهِ مَفْسَدَةٌ تُعَارِضُنَا فِي قِيَاسِنَا وَتَمْنَعُ مِنْهُ فَكَيْفَ نُسَوِّي بَيْنَ مَوْضِعٍ لَا مُعَارِضَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ

وَبَيْنَ مَوْضِعٍ لِلْقِيَاسِ فِيهِ مُعَارِضٌ أَقْوَى مِنْهُ أَوْ قَادِحٌ فِيهِ .
( قَالَ الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ إلَى آخِرِ الْفَرْقِ السَّادِسِ وَالْأَرْبَعِينَ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْفُرُوقِ كُلِّهَا صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ النَّهْيِ الْخَاصِّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ النَّهْيِ الْعَامِّ ) حَيْثُ اُعْتُبِرَ وَتَقْدِيمُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَابْتِنَاءُ الْخَاصِّ عَلَيْهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ حَالَةُ عَدَمِ تَنَافِيهِمَا وَلَا مُنَاسَبَةَ لِأَحَدِهِمَا يَخْتَصُّ بِهَا دُونَ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ } لَا تَقْتُلُوا الرِّجَالَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا حِينَئِذٍ مِنْ قَاعِدَةِ ذِكْرِ بَعْضِ الْعَامِّ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يُخَصِّصُهُ كَانَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ خَبَرًا فَإِنَّ جُزْءَ الشَّيْءِ لَا يُنَافِيهِ فَلِذَا قَالُوا إنَّ الْمِثَالَ لَا يُخَصِّصُ الْقَاعِدَةَ وَقِيلَ عَلَى شُذُوذٍ أَنَّهُ يُخَصِّصُهُ مِنْ طَرِيقِ الْمَفْهُومِ فَإِنَّ ذِكْرَ الرِّجَالِ يَقْتَضِي مَفْهُومَهُ قَتْلَ غَيْرِهِمْ وَاعْتَبَرُوا تَقْدِيمَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَابْتِنَاءَ الْعَامِّ عَلَيْهِ فِي حَالَتَيْنِ أَحَدُهُمَا تَنَافِيهِمَا فِي نَحْوِ قَوْلِهِ لَا تَقْتُلُوا بَنِي تَمِيمٍ لَا تُبْقُوا مِنْ رِجَالِهِمْ أَحَدًا حَيًّا فَحَكَمُوا بِقَتْلِ رِجَالِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي تَقْدِيمِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ فِي النُّصُوصِ الْمُتَعَارِضَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَدِلَّةِ وَثَانِيهِمَا عَدَمُ تَنَافِيهِمَا وَلِأَحَدِهِمَا مُنَاسَبَةٌ تَخُصُّهُ فِي مُتَعَلِّقِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا حِينَئِذٍ مِنْ قَاعِدَةِ أَنَّ النَّهْيَ الْخَاصَّ بِالْحَالَةِ الْمُعَيَّنَةِ أَقْوَى مِمَّا هُوَ عَامٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بِخُصُوصِ تِلْكَ الْحَالَةِ فَيُقَدَّمُ فِي الِاجْتِنَابِ عَلَى الْعَامِّ وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ ثَلَاثُ مَسَائِلَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى إذَا اضْطَرَّ الْمُحْرِمُ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ الْمُحَرَّمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ أَوْ الصَّيْدِ الْمُحَرَّمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } قَالَ مَالِكٌ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَيَتْرُكُ الصَّيْدَ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا إلَّا أَنَّ تَحْرِيمَ الصَّيْدِ لَهُ مُنَاسَبَةٌ بِالْإِحْرَامِ وَمَفْسَدَتُهُ

الَّتِي اعْتَمَدَهَا النَّهْيُ إنَّمَا هِيَ فِي الْإِحْرَامِ وَأَمَّا مَفْسَدَةُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَأَمْرٌ عَامٌّ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِخُصُوصِ الْإِحْرَامِ وَهُوَ كَوْنُهَا مَيْتَةً فَلَا يَكُونُ بَيْنَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَبَيْنَ خُصُوصِ الْإِحْرَامِ مُنَافَاةٌ وَلَا تَعَلُّقٌ وَالْمُنَافِي الْأَخَصُّ أَوْلَى بِالِاجْتِنَابِ أَلَا تَرَى أَنَّ حَذَرَك مِنْ عَدُوٍّ لَك فِي نَفْسِك دُونَ غَيْرِك أَشَدُّ مِنْ حَذَرِك مِنْ الْعَدُوِّ لِقَبِيلَتِك أَوْ مِلَّتِك فَاجْتِنَابُك لَهُ أَكْثَرُ وَأَلْيَقُ بِك فَإِنَّ تَسَلُّطَهُ عَلَيْك أَعْظَمُ لِأَنَّ عَدُوَّك الْخَاصَّ بِك لَوْ تَرَكَ النَّاسَ كُلَّهُمْ مَا تَرَكَك وَأَمَّا عَدُوُّ مِلَّتِك أَوْ قَبِيلَتِك لَا يُلَاحِظُ خُصُوصَك فِي عَدَاوَتِهِ بَلْ رُبَّمَا مَالَ إلَيْك دُونَ أَهْلِ مِلَّتِك أَوْ أَهْلِ قَبِيلَتِك لِأَمْرٍ يَجِدُهُ فِيك دُونَهُمْ وَإِنَّ أَلَمَك الَّذِي تَجِدُهُ فِي نَفْسِك مِنْ الْغَرِيمِ الَّذِي لَا يُطَالِبُ إلَّا أَنْتَ أَشَدُّ مِنْ أَلَمِك مِنْ الْغَرِيمِ الْمُطَالِبِ لِجَمَاعَةٍ أَنْتَ مِنْهُمْ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا لَمْ يَجِدْ الْمُصَلِّي مَا يَسْتُرُهُ إلَّا حَرِيرًا أَوْ نَجِسًا يُصَلِّي فِي الْحَرِيرِ وَيَتْرُكُ النَّجِسَ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ النَّجَاسَةِ خَاصَّةٌ بِالصَّلَاةِ وَمَفْسَدَةُ الْحَرِيرِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِخُصُوصِ الصَّلَاةِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ وَالْمُسَاقَاةَ وَإِنْ كَانَتْ حَاصِلَةً إلَّا أَنَّهَا لِأَمْرٍ عَامٍّ يَتَعَلَّقُ بِحَقِيقَةِ الْحَرِيرِ لَا بِخُصُوصِ الصَّلَاةِ وَقَاعِدَةُ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْعُلْيَا بِالْتِزَامِ الْمَفْسَدَةِ الدُّنْيَا إذَا تَعَارَضَتَا كَمَا تُقْطَعُ الْيَدُ الْمُتَآكِلَةُ لِبَقَاءِ النَّفْسِ لِأَنَّ مَفْسَدَتَهَا أَعْظَمُ وَأَشْمَلُ وَكُلَّمَا كَانَتْ مَفْسَدَةُ الشَّيْءِ تَثْبُتُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَمَفْسَدَةُ غَيْرِهِ لَا تَثْبُتُ إلَّا فِي حَالَةٍ كَانَ اعْتِنَاءُ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِمَا تَعُمُّ مَفْسَدَتُهُ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ أَقْوَى وَمَفْسَدَتُهُ أَعْظَمُ مَحَلِّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْمَفْسَدَةُ الدُّنْيَا لَهَا تَعَلُّقٌ بِخُصُوصِ الْحَالِ بِأَنْ تَكُونَ فِي تِلْكَ

الْحَقَائِقِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ أَمَّا إذَا كَانَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِخُصُوصِ الْحَالِ كَمَا هُنَا فَيَمْتَنِعُ تَقْدِيمُ الْأَعَمِّ وَالْأَشْمَلِ عَلَيْهَا فَافْهَمْ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ رَامَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ دَفْعَ إشْكَالَ الْمَسْأَلَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْمَذْهَبِ مِنْ أَنَّ لِرَبِّ الدَّابَّةِ أَنْ يُضَمِّنَ الدَّابَّةَ مَنْ تَجَاوَزَ بِهَا الْبَلَدَ الْمُعَيَّنَ الَّتِي اسْتَأْجَرَهَا إلَيْهِ مُتَعَدِّيًا وَإِنْ رَدَّهَا سَالِمَةً وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهَا الْغَاصِبَ إذَا تَعَدَّى بِالْغَصْبِ فِيهَا وَرَدَهَا سَالِمَةً الْمُصَوَّرُ بِأَنَّ غَايَةَ هَذَا التَّعَدِّي أَنْ يَكُونَ كَالْغَاصِبِ لَا يَضْمَنُ إذَا رَدَّهَا سَالِمَةً فَخَرَّجَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَعْنِي قَاعِدَةَ أَنَّ النَّهْيَ الْخَاصَّ بِالْحَالَةِ الْمُعَيَّنَةِ أَقْوَى مِمَّا هُوَ عَامٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بِخُصُوصِ تِلْكَ الْحَالَةِ بِأَنْ قَالَ النَّهْيُ عَنْ الْغَصْبِ نَهْيٌ عَامٌّ لَا يَخْتَصُّ بِحَالَةٍ وَلَا بِعَيْنٍ دُونَ عَيْنٍ وَوُجِدَ فِي هَذَا الْمُتَعَدِّي نَهْيٌ خَاصٌّ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ لِأَنَّهُ لَمَّا آجَرَهُ إلَى الْغَايَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَحَدَّدَ لَهُ الْغَايَةَ فَقَدْ نَهَاهُ أَنْ يُجَاوِزَهَا فَالزَّائِدُ عَلَى هَذِهِ الْغَايَةِ فِيهِ نَهْيٌ يَخُصُّهُ وَيَتَعَلَّقُ بِخُصُوصِ هَذِهِ الدَّابَّةِ دُونَ غَيْرِهَا وَبِهَذِهِ الْغَايَةِ دُونَ غَيْرِهَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ تَضْمِينِ الْغَاصِبِ مَعَ رَدِّهَا سَالِمَةً أَنْ لَا يُضَمِّنَ الْمُتَعَدِّيَ مَعَ ذَلِكَ لِقُوَّةِ النَّهْيِ فِي حَقِّهِ بِمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ الْمَارَّةِ وَفِي هَذَا التَّخْرِيجِ نَظَرٌ مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْقَاعِدَةَ إنَّمَا هِيَ فِي التَّعَارُضِ وَلَمْ يَقَعْ هَاهُنَا تَعَارُضٌ إذْ لَمْ يَجْتَمِعْ نَهْيُ الْغَصْبِ وَنَهْيُ التَّعَدِّي حَتَّى يُقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بَلْ انْفَرَدَ نَهْيُ التَّعَدِّي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ النَّهْيَ الْخَاصَّ هَاهُنَا نَهْيُ آدَمِيٍّ وَالنَّهْيُ الْعَامُّ نَهْيُ اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يُرَجَّحُ نَهْيُ الْآدَمِيِّ لِخُصُوصِهِ عَلَى نَهْيِ

اللَّهِ تَعَالَى مَعَ عُمُومِهِ وَالشَّرَائِعُ إنَّمَا تَنْبَنِي عَلَى نَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِهِ وَنَهْيِ الْعَبْدِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ فِي غَايَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ فِي حَالَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَإِنْ صَحِبَهُ نَهْيُ اللَّهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْغَايَةِ وَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَمَا هُوَ الْمُصَرَّحُ بِهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسِهِ } فَاسْتَثْنَى حَالَةَ الطِّيبِ عَنْ النَّهْيِ الْعَامِّ وَبَقِيَ مَا عَدَا حَالَةَ طِيبِ النَّفْسِ مُنْدَرِجًا تَحْتَ النَّهْيِ الْعَامِّ إلَّا أَنَّ نَهْيَ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ الْغَايَةِ هُوَ عَيْنُ نَهْيِ الْغَصْبِ الَّذِي هُوَ النَّهْيُ الْعَامُّ وَهَذِهِ صُورَةٌ مِنْ صُورَةٍ فَتَخَيُّلُ تَعَارُضِ نَهْيَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ بَاطِلٌ فَافْهَمْ الْوَجْهُ الثَّالِثُ إنَّا إذَا قِسْنَا تَرْكَ الضَّمَانِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى تَرْكِ الضَّمَانِ فِي صُورَةِ الْغَصْبِ كَانَ الْقِيَاسُ صَحِيحًا سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ وَلَوْ قِسْنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ الْحَرِيرَ عَلَى النَّجِسِ أَوْ الْمَيْتَةَ عَلَى الصَّيْدِ فَتَرَكَ الْجَمِيعَ أَدَّى ذَلِكَ إلَى هَلَاكِ الْمُحْرِمِ بِالْجُوعِ وَبَقَاءِ الْمُصَلِّي عُرْيَانًا وَهَذِهِ مَفْسَدَةٌ تُعَارِضُنَا فِي قِيَاسِنَا وَتَمْنَعُ مِنْهُ فَكَيْفَ نُسَوِّي بَيْنَ مَوْضِعٍ لَا مُعَارِضَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ وَبَيْنَ مَوْضِعٍ لِلْقِيَاسِ فِيهِ مُعَارِضٌ أَقْوَى مِنْهُ أَوْ قَادِحٌ فِيهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الزَّوَاجِرِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْجَوَابِرِ ) وَهَاتَانِ قَاعِدَتَانِ عَظِيمَتَانِ وَتَحْرِيرُهُمَا أَنَّ الزَّوَاجِرَ تَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ فَقَدْ يَكُونُ مَعَهُمَا الْعِصْيَانُ فِي الْمُكَلَّفِينَ وَقَدْ لَا يَكُونُ مَعَهَا عِصْيَانٌ كَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ فَإِنَّا نَزْجُرُهُمْ وَنُؤَدِّبُهُمْ لَا لِعِصْيَانِهِمْ بَلْ لِدَرْءِ مَفَاسِدِهِمْ وَاسْتِصْلَاحِهِمْ وَكَذَلِكَ الْبَهَائِمُ ثُمَّ هِيَ قَدْ يَكُونُ مُقَدَّرَةً كَالْحُدُودِ وَقَدْ لَا تَكُونُ كَالتَّعَازِيرِ وَأَمَّا الْجَوَابِرُ فَهِيَ مَشْرُوعَةٌ لِاسْتِدْرَاكِ الْمَصَالِحِ الْفَائِتَةِ وَالزَّوَاجِرُ مَشْرُوعَةٌ لِدَرْءِ الْمَفَاسِدِ الْمُتَوَقَّعَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ مَنْ يَتَوَجَّهُ فِي حَقِّهِ الْجَابِرُ أَنْ يَكُونَ آثِمًا وَلِذَلِكَ شُرِعَ مَعَ الْعَمْدِ وَالْجَهْلِ وَالْعِلْمِ وَالنِّسْيَانِ وَالذِّكْرِ وَعَلَى الْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ بِخِلَافِ الزَّوَاجِرِ فَإِنَّ مُعْظَمَهُمَا عَلَى الْعُصَاةِ زَجْرًا لَهُمْ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَزَجْرًا لِمَنْ يَقْدُمُ بَعْدَهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَقَدْ تَكُونُ مَعَ عَدَمِ الْعِصْيَانِ كَمَا نُقَدِّمُ تَمْثِيلَهُ بِالصِّبْيَانِ وَكَذَلِكَ قِتَالُ الْبُغَاةِ دَرْءًا لِتَفْرِيقِ الْكَلِمَةِ مَعَ عَدَمِ التَّأْثِيمِ لِأَنَّهُمْ مُتَأَوِّلُونَ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي بَعْضِ الْكَفَّارَاتِ هَلْ هِيَ زَوَاجِرُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَشَاقِّ تَحَمُّلِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا أَوْ هِيَ جَوَابِرُ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ لَا تَصِحُّ إلَّا بِنِيَّاتٍ وَلَيْسَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ زَجْرًا بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ قُرُبَاتٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِعْلًا لِلْمَزْجُورِينَ بَلْ يَفْعَلُهَا الْأَئِمَّةُ بِهِمْ ثُمَّ الْجَوَابِرُ تَقَعُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالنُّفُوسِ وَالْأَعْضَاءِ وَمَنَافِعِ الْأَعْضَاءِ وَالْجِرَاحِ وَالْأَمْوَالِ وَالْمَنَافِعِ فَجَوَابِرُ الْعِبَادَاتِ كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ وَسُجُودِ السَّهْوِ لِلسُّنَنِ وَجِهَةِ السَّفَرِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ الْكَعْبَةِ وَجِهَةِ الْعَدُوِّ فِي الْخَوْفِ مَعَ الْكَعْبَةِ إذَا أَلْجَأَتْ الضَّرُورَةُ

إلَى ذَلِكَ .
وَصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ لِمَنْ صَلَّى وَحْدَهُ لِأَنَّهُ يَجْبُرُ مَا فَاتَهُ مِنْ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ بِالْإِعَادَةِ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى وَأَخْذِ النَّقْدَيْنِ مَعَ دُونِ السِّنِّ الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ أَوْ زِيَادَةِ السِّنِّ فِي ابْنِ اللَّبُونِ مَعَ وَصْفِ الْأُنُوثَةِ الْفَائِتِ فِي بِنْتِ الْمَخَاضِ وَالْإِطْعَامِ لِمَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ عَنْ سَنَتِهِ إلَى بَعْدِ شَعْبَانَ أَوْ لَمْ يَصُمْ لِعَجْزِهِ وَالصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ وَالنُّسُكِ فِي حَقِّ مَنْ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ أَوْ الدَّمِ لِتَرْكِ الْمِيقَاتِ أَوْ التَّلْبِيَةِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ مَا عَدَا الْأَرْكَانَ أَوْ الْعَمَلَ فِي التَّمَتُّعِ أَوْ الْقِرَانِ وَجَبْرِ الدَّمِ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ فِي غَيْرِهِ وَجَبْرِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ أَوْ الْإِحْرَامِ بِالْمِثْلِ أَوْ الْإِطْعَامِ أَوْ الصِّيَامِ أَوْ الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ بِذَلِكَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَبِقِيمَتِهِ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ الْمَالِكِ وَهُوَ مُتْلَفٌ وَاحِدٌ جُبِرَ بِبَدَلَيْنِ وَهُوَ مِنْ نَوَادِرِ الْمَجْبُورَاتِ وَلَمْ يُشْرَعْ لِشَجَرِ الْحَرَمِ جَابِرٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُجْبَرُ إلَّا بِعَمَلٍ بَدَنِيٍّ وَلَا تُجْبَرُ الْأَمْوَالُ إلَّا بِالْمَالِ وَيُجْبَرُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَالصَّيْدُ بِالْبَدَنِيِّ وَالْمَالِيِّ مَعًا وَمُفْتَرِقَيْنِ وَالصَّوْمُ بِالْبَدَنِيِّ بِالْقَضَاءِ وَبِالْمَالِ فِي الْإِطْعَامِ وَأَمَّا جَوَابِرُ الْمَالِ فَالْأَصْلُ أَنْ يُؤْتِيَ بِعَيْنِ الْمَالِ مَعَ الْإِمْكَانِ فَإِنْ أَتَى بِهِ كَامِلَ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ بَرِئَ مِنْ عُهْدَتِهِ أَوْ نَاقِصَ الْأَوْصَافِ جُبِرَ بِالْقِيمَةِ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَيْسَتْ مِثْلِيَّةً إلَّا أَنْ تَكُونَ الْأَوْصَافُ تُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ خَلَلًا كَثِيرًا فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْجُمْلَةَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ كَمَنْ قَطَعَ ذَنَبَ بَغْلَةِ الْقَاضِي وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ رُكُوبُهَا عَلَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَكَذَلِكَ ضَمَّنَهُ أَصْحَابُنَا الْمَغْصُوبَ

إذَا ذَبَحَ الشَّاةَ أَوْ طَحَنَ الْقَمْحَ أَوْ ضَرَبَ الْفِضَّةَ دَرَاهِمَ أَوْ شَقَّ الْخَشَبَةَ أَلْوَاحًا أَوْ زَرَعَ الْحِنْطَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بَلْ لَهُ أَخْذُ عَيْنِ مَالِهِ حَيْثُ وَجَدَهُ وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا لِلْغَاصِبِ مَنْعُهُ مِمَّا وُجِدَ مِنْ مَالِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَالْأَوَّلُ أَنْضَرُ وَأَقْرَبُ لِلْقَوَاعِدِ وَأَمَّا إنْ جَاءَ بِهَا نَاقِصَةَ الْقِيمَةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّ الْفَائِتَ رَغَبَاتُ النَّاسِ وَهِيَ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ فِي الشَّرْعِ وَلَا قَائِمَةً بِالْعَيْنِ .
وَتُجْبَرُ الْأَمْوَالُ الْمِثْلِيَّةُ بِأَمْثَالِهَا لِأَنَّ الْمِثْلَ أَقْرَبُ إلَى رَدِّ الْعَيْنِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ مِنْ الْقِيمَةِ وَقَدْ خُولِفَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي صُورَتَيْنِ فِي لَبَنِ الْمُصَرَّاةِ لِأَجْلِ اخْتِلَاطِ لَبَنِ الْبَائِعِ بِلَبَنِ الْمُشْتَرِي وَعَدَمِ تَمْيِيزِ الْمِقْدَارِ وَفِيمَنْ غَصَبَ مَاءً فِي الْمَعَاطِشِ فَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْعُلَمَاءِ يُضَمِّنُونَهُ الْقِيمَةَ فِي مَحَلِّ غَصْبِهِ .
وَأَمَّا الْمَنَافِعُ فَالْمُحَرَّمُ مِنْهَا لَا يُجْبَرُ احْتِقَارًا لَهَا كَالْمِزْمَارِ وَنَحْوِهِ كَمَا لَمْ تُجْبَرْ النَّجَاسَاتُ مِنْ الْأَعْيَانِ وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ مَهْرُ الْمَزْنِيِّ بِهَا كُرْهًا تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تَأْتِ مُحَرَّمًا وَالظَّالِمُ أَحَقُّ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ كَالْغَاصِبِ لِسُكْنَى دَارٍ وَلَمْ يُجْبَرْ اللِّوَاطُ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَوَّمْ قَطُّ فِي الشَّرْعِ فَأَشْبَهَ الْقُبْلَةَ وَالْعِنَاقَ وَغَيْرُ الْمُحَرَّمِ مِنْهُ مَا يُضْمَنُ بِالْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ وَالْفَوَاتُ تَحْتَ الْأَيْدِي الْمُبْطِلَةِ .
وَلَا تُضْمَنُ مَنَافِعُ الْحُرِّ بِحَبْسِهِ لِأَنَّ يَدَهُ عَلَى مَنَافِعِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فَوَاتُهَا فِي يَدِ غَيْرِهِ وَمَنَافِعُ الْأَبْضَاعِ تُضْمَنُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَالشُّبْهَةِ وَالْإِكْرَاهِ وَلَا تُجْبَرُ بِالْفَوَاتِ تَحْتَ الْأَيْدِي الْعَادِيَةِ وَالْفَرْقُ أَنَّ قَلِيلَ الْمَنَافِعِ يُجْبَرُ بِالْقَلِيلِ مِنْ الْجَابِرِ وَكَثِيرَهَا بِكَثِيرِهِ وَضَمَانُ الْبُضْعِ

بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَهُوَ يُسْتَحَقُّ بِمُجَرَّدِ الْإِيلَاجِ فَلَوْ جُبِرَ بِالْفَوَاتِ لَوَجَبَ مَا لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ فَضْلًا عَنْ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّ كُلَّ سَاعَةٍ يَفُوتُ فِيهَا مِنْ الْإِيلَاجَاتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا وَإِيجَابُ مِثْلِ هَذَا بَعِيدٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ .
وَأَمَّا النُّفُوسُ فَإِنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ هَذِهِ الْقَوَانِينِ لِمَصَالِحَ تُذْكَرُ فِي الْجِنَايَاتِ فُرُوعٌ ثَلَاثَةٌ فِي الزَّوَاجِرِ الْأَوَّلُ الْحَنَفِيُّ إذَا شَرِبَ يَسِيرَ النَّبِيذِ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَحُدُّهُ وَأَقْبَلُ شَهَادَتَهُ أَمَّا حَدُّهُ فَلِدَرْءِ الْمَفْسَدَةِ فِي التَّسَبُّبِ لِإِفْسَادِ الْعَقْلِ وَأَمَّا قَبُولُ شَهَادَتِهِ فَلِأَنَّهُ مُقَلِّدٌ أَوْ مُجْتَهِدٌ وَكِلَاهُمَا غَيْرُ عَاصٍ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا مَا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَقَالَ مَالِكٌ أَحُدُّهُ وَلَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ أَمَّا حَدُّهُ فَلِلْمَفْسَدَةِ وَالْمَعْصِيَةِ مَعًا بِسَبَبِ أَنَّ إبَاحَةَ الْيَسِيرِ مِنْ النَّبِيذِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ بِجَامِعِ الْإِسْكَارِ وَعَلَى خِلَافِ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } وَعَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ لِأَنَّ الْقَوَاعِدَ تَقْتَضِي صِيَانَةَ الْعُقُولِ وَمَنْعَ التَّسَبُّبِ لِإِفْسَادِهَا وَالْحُكْمُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى خِلَافِ أَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ إذَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي يُنْقَضُ قَضَاؤُهُ وَمَا لَا يُقَرُّ مَعَ قَضَاءِ الْقَاضِي وَتَأَكُّدِهِ بِالْقَضَاءِ وَلَا نُقِرُّهُ شَرْعًا مَعَ التَّأْكِيدِ فَأَوْلَى أَنْ لَا نُقِرَّهُ شَرْعًا مَعَ عَدَمِ التَّأْكِيدِ وَمَا لَا يُقَرُّ شَرْعًا لَيْسَ فِيهِ تَقْلِيدٌ وَلَا اجْتِهَادٌ مَقْبُولٌ شَرْعًا وَمَنْ أَتَى الْمَفْسَدَةَ بِغَيْرِ تَقْلِيدٍ صَحِيحٍ أَوْ اجْتِهَادٍ مُعْتَبَرٍ فَهُوَ عَاصٍ فَنَحُدُّهُ لِلْمَعْصِيَةِ وَالْمَفْسَدَةِ وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ لِفِسْقِهِ حِينَئِذٍ بِالْمَعْصِيَةِ وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إنَّ التَّأْدِيبَ قَدْ يَكُونُ مَعَ عَدَمِ الْمَعْصِيَةِ بَلْ

لِأَجْلِ الْمَفْسَدَةِ كَتَأْدِيبِ الصِّبْيَانِ وَالْبَهَائِمِ فَلَا يُفِيدُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّا نُسَلِّمُ لَهُ ذَلِكَ فِي التَّأْدِيبِ الَّذِي لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ وَأَمَّا الْمُقَدَّرُ وَهُوَ الْحُدُودُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ الثَّانِي النَّبَاتُ الْمَعْرُوفُ بِالْحَشِيشَةِ الَّتِي يَتَعَاطَاهَا أَهْلُ الْفُسُوقِ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ أَهْلِ الْعَصْرِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهَا أَعْنِي كَثِيرَهَا الْمُغَيِّبَ لِلْعَقْلِ وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ هَلْ الْوَاجِبُ فِيهَا التَّعْزِيرُ أَوْ الْحَدُّ عَلَى أَنَّهَا مُسْكِرَةٌ أَوْ مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ سُكْرٍ وَنُصُوصُ الْمُتَحَدِّثِينَ عَلَى النَّبَاتِ تَقْتَضِي أَنَّهَا مُسْكِرَةٌ فَإِنَّهُمْ يَصِفُونَهَا بِذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ .
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهَا مُفْسِدَةٌ عَلَى مَا أُقَرِّرُهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَرْعٌ مُرَتَّبٌ سُئِلَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْعَصْرِ عَمَّنْ صَلَّى بِالْحَشِيشَةِ مَعَهُ هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا ؟ فَأَفْتَى أَنَّهُ إنْ صَلَّى بِهَا قَبْلَ أَنْ تُحَمَّصَ أَوْ تُصْلَقَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَقَالَ فِي تَعْلِيلِ الْفَرْقِ بِأَنَّهَا إنَّمَا تُغَيِّبُ الْعَقْلَ بَعْدَ التَّحْمِيصِ أَوْ الصَّلْقِ أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ وَهِيَ وَرَقٌ أَخْضَرُ فَلَا بَلْ هِيَ كَالْعَصِيرِ الَّذِي لِلْعِنَبِ وَتَحْمِيصُهَا كَغَلَيَانِهِ وَسَأَلْت عَنْ هَذَا الْفَرْقِ جَمَاعَةً مِمَّنْ يُعَانِيهَا فَاخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ فَمِنْهُمْ مَنْ سَلَّمَ هَذَا الْفَرْقَ وَقَالَ لَا تُؤَثِّرُ إلَّا بَعْدَ مُبَاشَرَةِ النَّارِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلْ تُؤَثِّرُ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا تُحَمَّصُ لِإِصْلَاحِ طَعْمِهَا وَتَعْدِيلِ كَيْفِيَّتِهَا خَاصَّةً فَعَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ هَذَا الْفَرْقِ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ مُطْلَقًا وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْفَرْقِ يَكُونُ الْحَقُّ مَا قَالَهُ الْمُفْتِي إنْ صَحَّ أَنَّهَا مِنْ الْمُسْكِرَاتِ وَإِلَّا صَحَّتْ الصَّلَاةُ بِهَا مُطْلَقًا وَهُوَ الَّذِي أَعْتَقِدُهُ أَنَّهَا مُفْسِدَةٌ وَالْمُفْسِدَةُ لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ كَالْبَنْجِ

وَالسَّيْكَرَانِ وَجَوْزَةِ بَابِلَ الثَّالِثُ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْقَاعِدَةُ فِي التَّأْدِيبَاتِ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَاتِ فَكُلَّمَا عَظُمَتْ الْجِنَايَةُ عَظُمَتْ الْعُقُوبَةُ فَإِذَا فَرَضَ شَخْصٌ مِنْ الْجُنَاةِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ التَّأْدِيبُ اللَّائِقُ بِجِنَايَتِهِ رَدْعًا وَاَلَّذِي يُؤَثِّرُ فِيهِ كَالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً لِتِلْكَ الْجِنَايَةِ فَإِنَّ هَذَا الْجَانِيَ يَسْقُطُ تَأْدِيبُهُ مُطْلَقًا أَمَّا الْمُنَاسِبُ فَيَسْقُطُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهِ وَالْإِيلَامُ مَفْسَدَةٌ لَا تُشْرَعُ إلَّا لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ فَحَيْثُ لَا مَصْلَحَةَ لَا تُشْرَعُ وَأَمَّا غَيْرُ الْمُنَاسِبِ فَلِعَدَمِ سَبَبِهِ الْمُبِيحِ فَيَسْقُطُ تَأْدِيبُهُ مُطْلَقًا وَهُوَ مُتَّجَهٌ اتِّجَاهًا قَوِيًّا .

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الزَّوَاجِرِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْجَوَابِرِ ) وَتَحْرِيرُ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا مِنْ وُجُوهٍ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ الزَّوَاجِرَ مَشْرُوعَةٌ لِدَرْءِ الْمَفَاسِدِ الْمُتَوَقَّعَةِ وَالْجَوَابِرُ مَشْرُوعَةٌ لِاسْتِدْرَاكِ الْمَصَالِحِ الْفَائِتَةِ الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ مُعْظَمَ الزَّوَاجِرِ عَلَى الْعُصَاةِ زَجْرًا لَهُمْ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَزَجْرًا لِمَنْ يَقْدُمُ بَعْدَهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَقَدْ تَكُونُ مَعَ عَدَمِ الْعِصْيَانِ كَمَا فِي الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ فَإِنَّا نَزْجُرُهُمْ وَنُؤَدِّبُهُمْ لَا لِعِصْيَانِهِمْ بَلْ لِدَرْءِ مَفَاسِدِهِمْ وَاسْتِصْلَاحِهِمْ وَكَمَا فِي الْبَهَائِمِ وَكَقِتَالِ الْبُغَاةِ دَرْءًا لِتَفْرِيقِ الْكَلِمَةِ مَعَ عَدَمِ التَّأْثِيمِ لِأَنَّهُمْ مُتَأَوِّلُونَ وَمُعْظَمُ الْجَوَابِرِ عَلَى مَنْ لَا يَكُونُ آثِمًا فَقَدْ شَرَعَ الْجَابِرَ مَعَ الْعَمْدِ وَالْجَهْلِ وَالْعِلْمِ وَالنِّسْيَانِ وَالذِّكْرِ وَعَلَى الْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ مُعْظَمَ الزَّوَاجِرِ إمَّا حُدُودٌ مُقَدَّرَةٌ وَإِمَّا تَعْزِيرَاتٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ فَهِيَ لَيْسَتْ فِعْلًا لِلْمَزْجُورِينَ بَلْ يَفْعَلُهَا الْأَئِمَّةُ بِهِمْ وَإِنَّمَا الْجَوَابِرُ فِعْلٌ لِمَنْ خُوطِبَ بِهَا وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي بَعْضِ الْكَفَّارَاتِ هَلْ هِيَ زَوَاجِرُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَشَاقِّ تَحَمُّلِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا أَوْ هِيَ جَوَابِرُ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ لَا تَصِحُّ إلَّا بِنِيَّاتٍ وَلَيْسَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى زَاجِرًا بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ قُرُبَاتٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِعْلًا لِلْمَزْجُورِينَ كَمَا عَلِمْت الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّ الْجَوَابِرَ تَقَعُ فِي النُّفُوسِ وَالْأَعْضَاءِ وَمَنَافِعُ الْأَعْضَاءِ وَالْجِرَاحِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْأَمْوَالِ وَالْمَنَافِعِ بِخِلَافِ الزَّوَاجِرِ فَإِنَّهَا إنَّمَا تَقَعُ فِي الْجِنَايَاتِ وَالْمُخَالَفَاتِ فَفِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ لِابْنِ رُشْدٍ وَالْجِنَايَاتُ الَّتِي لَهَا حُدُودٌ مَشْرُوعَةٌ خَمْسٌ أَحَدُهَا

جِنَايَاتٌ عَلَى الْأَبْدَانِ أَوْ النُّفُوسِ وَالْأَعْضَاءِ وَهُوَ الْمُسَمَّى قَتْلًا وَجُرْحًا وَثَانِيهَا جِنَايَاتٌ عَلَى الْفُرُوجِ وَهُوَ الْمُسَمَّى زِنًا وَسِفَاحًا وَثَالِثُهَا جِنَايَاتٌ عَلَى الْأَمْوَالِ وَهَذِهِ مَا كَانَ مِنْهَا مَأْخُوذًا بِحِرَابٍ سُمِّيَ حِرَابَةً إذَا كَانَ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ وَإِنْ كَانَ بِتَأْوِيلٍ سُمِّيَ بَغْيًا وَمَا كَانَ مِنْهَا مَأْخُوذًا عَلَى وَجْهِ الْمُعَافَصَةِ مِنْ حِرْزٍ يُسَمَّى سَرِقَةً وَمَا كَانَ مِنْهَا مَأْخُوذًا بِعُلُوِّ مَرْتَبَةٍ وَقُوَّةِ سُلْطَانٍ سُمِّيَ غَصْبًا وَرَابِعُهَا جِنَايَةٌ عَلَى الْأَعْرَاضِ وَهِيَ الْمُسَمَّى قَذْفًا وَخَامِسُهَا جِنَايَاتٌ بِالتَّعَدِّي عَلَى اسْتِبَاحَةِ مَا حَرَّمَهُ الشَّرْعُ مِنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَهَذِهِ إنَّمَا يُوجَدُ فِيهَا حَدٌّ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ فِي الْخَمْرِ فَقَطْ وَهُوَ حَدٌّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَعْدَ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ا هـ بِبَعْضِ تَغْيِيرٍ لِلْإِصْلَاحِ فَجَوَابِرُ الْعِبَادَاتِ كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ وَسُجُودِ السَّهْوِ لِلسُّنَنِ وَجِهَةِ السَّفَرِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ الْكَعْبَةِ وَجِهَةِ الْعَدُوِّ فِي الْخَوْفِ مَعَ الْكَعْبَةِ إذَا أَلْجَأَتْ الضَّرُورَةُ إلَى ذَلِكَ وَصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ لِمَنْ صَلَّى وَحْدَهُ لِأَنَّهُ يَجْبُرُ مَا فَاتَهُ مِنْ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ بِالْإِعَادَةِ فِي جَمَاعَةٍ وَأَخْذِ النَّقْدَيْنِ مَعَ دُونِ السِّنِّ الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ أَوْ زِيَادَةِ السِّنِّ فِي ابْنِ اللَّبُونِ مَعَ وَصْفِ الْأُنُوثَةِ الْفَائِتِ فِي بِنْتِ الْمَخَاضِ وَالْإِطْعَامِ لِمَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ عَنْ سَنَتِهِ إلَى بَعْدَ شَعْبَانَ أَوْ لَمْ يَصُمْ لِعَجْزِهِ وَالصِّيَامُ وَالْإِطْعَامُ وَالنُّسُكُ فِي حَقِّ مَنْ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَوْ الدَّمِ لِتَرْكِ الْمِيقَاتِ أَوْ التَّلْبِيَةِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ مَا عَدَا الْأَرْكَانَ أَوْ الْعَمَلَ فِي التَّمَتُّعِ أَوْ الْقِرَانِ وَجَبْرُ الدَّمِ بِصَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أَيْ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِهِ وَسَبْعَةٍ فِي غَيْرِهِ وَجَبْرُ الصَّيْدِ فِي

الْحَرَمِ أَوْ الْإِحْرَامِ بِالْمِثْلِ أَوْ الْإِطْعَامِ أَوْ الصِّيَامِ أَوْ الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ بِذَلِكَ لِحَقِّ اللَّه تَعَالَى وَبِقِيمَتِهِ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ الْمَالِكِ فَهَذَا مُتْلَفٌ وَاحِدٌ جُبِرَ بِبَدَلَيْنِ وَهُوَ مِنْ نَوَادِرِ الْمَجْبُورَاتِ وَلَمْ يُشْرَعْ لِشَجَرِ الْحَرَمِ جَابِرٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَبِالْجُمْلَةِ فَالصَّلَاةُ لَا تُجْبَرُ إلَّا بِعَمَلٍ بَدَنِيٍّ .
وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَالصَّيْدُ تُجْبَرُ بِالْبَدَنِيِّ وَالْمَالِيِّ مَعًا وَمُفْتَرِقَيْنِ وَالصَّوْمُ بِالْبَدَنِيِّ بِالْقَضَاءِ وَبِالْمَالِ فِي الْإِطْعَامِ وَأَمَّا جَوَابِرُ الْمَالِ فَالْأَصْلُ أَنْ يُؤْتَى بِعَيْنِ الْمَالِ مَعَ الْإِمْكَانِ فَإِنْ أَتَى بِهِ كَامِلَ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ بَرِئَ مِنْ عُهْدَتِهِ أَوْ نَاقِصَ الْأَوْصَافِ جَبَرَ نَقْصَهَا بِالْقِيمَةِ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَيْسَتْ مِثْلِيَّةً إلَّا أَنْ تَكُونَ الْأَوْصَافُ تُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ خَلَلًا كَثِيرًا فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْجُمْلَةَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ كَمَنْ قَطَعَ ذَنَبَ بَغْلَةِ الْقَاضِي وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ رُكُوبُهَا عَلَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ أَصْحَابُنَا الْمَغْصُوبَ لِلْغَاصِبِ إذَا ذَبَحَ الشَّاةَ أَوْ طَحَنَ الْقَمْحَ أَوْ ضَرَبَ الْفِضَّةَ دَرَاهِمَ أَوْ شَقَّ الْخَشَبَةَ أَلْوَاحًا أَوْ زَرَعَ الْحِنْطَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمُفَوِّتَاتِ فَلِلْغَاصِبِ مَنْعُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ مِنْ أَخْذِ مَا وَجَدَهُ مِنْ مَالِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بَلْ لَهُ أَخْذُ عَيْنِ مَالِهِ حَيْثُ وَجَدَهُ وَالْأَوَّلُ أَنْضَرُ وَأَقْرَبُ لِلْقَوَاعِدِ فَفِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ لِأَبِي الْوَلِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ رُشْدٍ مَا لَفْظُهُ وَأُصُولُ الشَّرْعِ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَسْتَحِلَّ مَالَ الْغَاصِبِ مِنْ أَجْلِ غَصْبِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ مَنْفَعَةً أَوْ عَيْنًا إلَّا أَنْ يَحْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ } لَكِنْ هَذَا مُجْمَلٌ وَمَفْهُومُهُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَنْفَعَةٌ مُتَوَلِّدَةٌ بَيْنَ

مَالِهِ وَبَيْنَ الشَّيْءِ الَّذِي غَصَبَهُ أَعْنِي مَالَهُ الْمُتَعَلِّقَ بِالْمَغْصُوبِ .
ا هـ .
وَأَمَّا إنْ جَاءَ بِهَا نَاقِصَةَ الْقِيمَةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ فَلَا يَضْمَنُ لِأَنَّ الْفَائِتَ رَغَبَاتُ النَّاسِ وَهِيَ غَيْرُ مُقَوَّمَةٍ فِي الشَّرْعِ وَلَا قَائِمَةٍ بِالْعَيْنِ وَتُجْبَرُ الْأَمْوَالُ الْمِثْلِيَّةُ بِأَمْثَالِهَا لِأَنَّ الْمِثْلَ أَقْرَبُ إلَى رَدِّ الْعَيْنِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ مِنْ الْقِيمَةِ وَقَدْ خُولِفَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي صُورَتَيْنِ فِي لَبَنِ الْمُصَرَّاةِ لِأَجْلِ اخْتِلَاطِ لَبَنِ الْبَائِعِ بِلَبَنِ الْمُشْتَرِي وَعَدَمِ تَمْيِيزِ الْمِقْدَارِ وَفِيمَنْ غَصَبَ مَاءً فِي الْمَعَاطِشِ فَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْعُلَمَاءِ يُضَمِّنُونَهُ الْقِيمَةَ فِي مَحَلِّ غَصْبِهِ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا تُجْبَرُ الْأَمْوَالُ إلَّا بِالْمَالِ وَأَمَّا الْمَنَافِعُ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ فَلَا تُجْبَرُ احْتِقَارًا لَهَا كَالْمِزْمَارِ وَنَحْوِهِ كَمَا لَا تُجْبَرُ النَّجَاسَاتُ مِنْ الْأَعْيَانِ نَعَمْ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَهْرَ الْمَزْنِيِّ بِهَا كُرْهًا تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تَأْتِ مُحَرَّمًا وَالظَّالِمُ أَحَقُّ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ كَالْغَاصِبِ لِسُكْنَى دَارٍ وَلَمْ يُجْبَرْ اللِّوَاطُ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَوَّمْ قَطُّ فِي الشَّرْعِ فَأَشْبَهَ الْقُبْلَةَ وَالْعِنَاقَ وَإِمَّا غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ فَإِنْ كَانَتْ مَنَافِعُ جِسْمِ الْحُرِّ فَلَا تُضْمَنُ لِأَنَّ يَدَهُ عَلَى مَنَافِعِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فَوَاتُهَا فِي يَدِ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَتْ مَنَافِعُ الْأَبْضَاعِ ضُمِّنَتْ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَالشُّبْهَةِ وَالْإِكْرَاهِ وَلَا تُجْبَرُ بِالْفَوَاتِ تَحْتَ الْأَيْدِي الْعَادِيَةِ وَالْفَرْقُ أَنَّ قَلِيلَ الْمَنَافِعِ يُجْبَرُ بِالْقَلِيلِ مِنْ الْجَابِرِ وَكَثِيرُهَا بِكَثِيرِهِ وَضَمَانُ الْبُضْعِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَهُوَ يُسْتَحَقُّ بِمُجَرَّدِ الْإِيلَاجِ فَلَوْ جُبِرَ بِالْفَوَاتِ لَوَجَبَ مَا لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ فَضْلًا عَنْ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّ كُلَّ سَاعَةٍ يَفُوتُ فِيهَا مِنْ الْإِيلَاجَاتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا وَإِيجَابُ مِثْلِ هَذَا بَعِيدٌ مِنْ

قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَتْ مَنَافِعُ غَيْرِ مَا ذُكِرَ ضُمِّنَتْ بِالْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ وَالْفَوَاتُ تَحْتَ الْأَيْدِي الْمُبْطِلَةِ .
قُلْت وَأَمَّا النُّفُوسُ وَالْأَعْضَاءُ وَمَنَافِعُ الْأَعْضَاءِ وَالْجِرَاحِ فَمَا رَتَّبَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَلَيْهَا مِنْ دِيَاتٍ أَوْ كَفَّارَاتٍ أَوْ حُكُومَةٍ فَجَوَابِرُ وَمَا رَتَّبَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَلَيْهَا مِنْ قِصَاصٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ سِجْنٍ أَوْ تَأْدِيبٍ فَزَوَاجِرُ فَمِنْ هُنَا قَالَ الْأَصْلُ وَأَمَّا النُّفُوسُ فَإِنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ هَذِهِ الْقَوَانِينِ لِمَصَالِحَ تُذْكَرُ فِي الْجِنَايَاتِ فَفِي تَبْصِرَةِ ابْنِ فَرْحُونٍ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ حَرَامٌ وَقَدْ شُرِعَ فِيهِ إذَا وُجِدَ سَبَبُهُ وَشَرْطُهُ وَانْتَفَى مَانِعُهُ الْقِصَاصُ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } ا هـ ( وَصْلٌ ) فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالزَّوَاجِرِ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا شَرِبَ الْحَنَفِيُّ يَسِيرَ النَّبِيذِ أَحُدُّهُ وَلَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْيَسِيرِ مِنْ النَّبِيذِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ عَلَى الْخَمْرِ لِجَامِعِ الْإِسْكَارِ الْمُقْتَضِي تَحْرِيمَهُ وَعَلَى خِلَافِ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } وَعَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ الْمُقْتَضِيَةِ صِيَانَةَ الْعُقُولِ وَمَنْعَ التَّسَبُّبِ لِإِفْسَادِهَا وَالْحُكْمُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْأُمُورِ إذَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي يُنْقَضُ قَضَاؤُهُ وَلَا نُقِرُّهُ شَرْعًا مَعَ التَّأْكِيدِ لِقَضَاءِ الْقَاضِي فَأَوْلَى أَنْ لَا نُقِرَّهُ شَرْعًا مَعَ عَدَمِ التَّأْكِيدِ وَمَا لَا يُقَرُّ شَرْعًا لَيْسَ فِيهِ تَقْلِيدٌ وَلَا اجْتِهَادٌ مَقْبُولٌ شَرْعًا وَمَنْ أَتَى الْمَفْسَدَةَ بِغَيْرِ تَقْلِيدٍ صَحِيحٍ أَوْ اجْتِهَادٍ مُعْتَبَرٍ فَهُوَ عَاصٍ فَنَحُدُّهُ لِلْمَعْصِيَةِ وَالْمَفْسَدَةِ وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ لِفِسْقِهِ حِينَئِذٍ

بِالْمَعْصِيَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَحُدُّهُ وَأَقْبَلُ شَهَادَتَهُ أَمَّا قَبُولُ شَهَادَتِهِ فَلِأَنَّهُ مُقَلِّدٌ أَوْ مُجْتَهِدٌ وَكِلَاهُمَا غَيْرُ عَاصٍ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا مَا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَأَمَّا حَدُّهُ فَلِدَرْءِ الْمَفْسَدَةِ فِي التَّسَبُّبِ لِإِفْسَادِ الْعَقْلِ إذْ التَّأْدِيبُ قَدْ يَكُونُ مَعَ عَدَمِ الْمَعْصِيَةِ بَلْ لِأَجْلِ الْمَفْسَدَةِ كَتَأْدِيبِ الصِّبْيَانِ وَالْبَهَائِمِ وَفِيهِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ قَدْ يَكُونُ مَعَ عَدَمِ الْمَعْصِيَةِ حَتَّى تَتِمَّ كُلِّيَّةُ الْكُبْرَى الْمَشْرُوطَةِ فِي إنْتَاجِ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ بَلْ التَّأْدِيبُ إمَّا مُقَدَّرٌ وَهُوَ الْحُدُودُ كَمَا هُنَا فَلَا يَكُونُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَإِمَّا غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَيَكُونُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَلَا يُفِيدُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَافْهَمْ ( لَطِيفَةٌ ) فِي شَرْحِ الْمَجْمُوعِ وَضَوْءِ الشُّمُوعِ لِلْعَلَّامَةِ الْأَمِيرِ اشْتَهَرَ بَيْنَ أَهْلِ الْأَدَبِ وَإِنْ لَمْ يَخْلُ شَرْعًا عَنْ قِلَّةِ أَدَبٍ .
قَوْلُ ابْنِ الرُّومِيِّ كَمَا فِي حَلْبَةِ الْكُمَيْتِ أَحَلَّ الْعِرَاقِيُّ النَّبِيذَ وَشُرْبَهُ وَقَالَ حَرَامَانِ الْمُدَامَةُ وَالسُّكْرُ وَقَالَ الْحِجَازِيُّ الشَّرَابَانِ وَاحِدٌ فَحَلَّتْ لَنَا مِنْ بَيْنِ قَوْلَيْهِمَا الْخَمْرُ أَرَادَ الْخَمْرَ نَبِيذٌ وَالنَّبِيذُ حَلَالٌ فَالصُّغْرَى مِنْ الِاتِّحَادِ عِنْدَنَا وَالْكُبْرَى مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَإِنَّمَا فَسَدَ الْقِيَاسُ الْمُشَارُ إلَيْهِ لِأَنَّ شَرْطَهُ كُلِّيَّةُ الْكُبْرَى وَالْحَنَفِيَّةِ لَا يَقُولُونَ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ يَخُصُّونَ الْبَعْضَ الَّذِي لَمْ يُسْكِرْ ا هـ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) اتَّفَقَ فُقَهَاءُ أَهْلِ الْعَصْرِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ النَّبَاتِ الْمَعْرُوفِ بِالْحَشِيشَةِ الَّتِي يَتَعَاطَاهَا أَهْلُ الْفُسُوق أَعْنِي كَثِيرَهَا الْمُغَيِّبَ لِلْعَقْلِ وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهَا مُفْسِدَةً لِلْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ سُكْرٍ فَتَكُونُ طَاهِرَةً وَيَجِبُ فِيهَا التَّعْزِيرُ أَوْ مُسْكِرَةً فَتَكُونُ نَجِسَةً وَيَجِبُ فِيهَا الْحَدُّ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ لِلْأَصْلِ قَالَ وَاَلَّذِي

أَعْتَقِدُهُ أَنَّهَا مِنْ الْمُفْسِدَاتِ لَا مِنْ الْمُسْكِرَاتِ فَلَا أُوجِبُ فِيهَا الْحَدَّ وَلَا أُبْطِلُ بِهَا الصَّلَاةَ بَلْ التَّعْزِيرُ الزَّاجِرُ عَنْ مُلَابَسَتِهَا لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّا نَجِدُهَا تُثِيرُ الْخَلْطَ الْكَامِنَ فِي الْجَسَدِ كَيْفَمَا كَانَ فَصَاحِبُ الصَّفْرَاءِ تُحْدِثُ لَهُ حِدَّةً وَصَاحِبُ الْبَلْغَمِ تُحْدِثُ لَهُ سُبَاتًا وَصَمْتًا وَصَاحِبُ السَّوْدَاءِ تُحْدِثُ لَهُ بُكَاءً وَجَزَعًا وَصَاحِبُ الدَّمِ تُحْدِثُ لَهُ سُرُورًا بِقَدْرِ حَالِهِ فَتَجِدُ مِنْهُمْ مَنْ يَشْتَدُّ بُكَاؤُهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَدُّ صَمْتُهُ وَأَمَّا الْخَمْرُ وَالْمُسْكِرَاتُ فَلَا تَكَادُ تَجِدُ أَحَدًا مِمَّنْ يَشْرَبُهَا إلَّا وَهُوَ نَشْوَانُ مَسْرُورٌ بَعِيدٌ عَنْ الْبُكَاءِ وَالصَّمْتِ وَثَانِيهِمَا أَنَّا نَجِدُ شُرَّابَ الْخَمْرِ تَكْثُرُ عَرْبَدَتُهُمْ وَوُثُوبُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِالسِّلَاحِ وَيَهْجُمُونَ عَلَى الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يَهْجُمُونَ عَلَيْهَا حَالَةَ الصَّحْوِ حَتَّى إنَّ الْقَتْلَى يُوجَدُونَ كَثِيرًا مَعَهُمْ وَلَا تَجِدُ أَكَلَةَ الْحَشِيشَةِ إذَا اجْتَمَعُوا يَجْرِي مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُسْمَعْ عَنْهُمْ مِنْ الْعَوَائِدِ مَا يُسْمَعُ عَنْ شُرَّابِ الْخَمْرِ بَلْ هُمْ هَمَدَةٌ سُكُوتٌ مَسْبُوتُونَ لَوْ أَخَذْت قُمَاشَهُمْ أَوْ سَبَبْتَهُمْ لَمْ تَجِدْ فِيهِمْ قُوَّةَ الْبَطْشِ الَّتِي تَجِدُهَا فِي شَرَبَةِ الْخَمْرِ بَلْ هُمْ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْبَهَائِمِ فَلِذَا لَا تَجِدُ الْقَتْلَى مَعَهُمْ قَطُّ ا هـ بِتَصَرُّفٍ وَوَافَقَهُ الْأَمِيرُ فِي مَجْمُوعِهِ قَالَ وَمِنْهُ أَيْ الْمُفْسِدُ الَّذِي يُغَيِّبُ الْعَقْلَ فَقَطْ لَا يَفْرَحُ وَهُوَ الْمُخَدِّرُ الْحَشِيشَةُ وِفَاقًا لِلْقَرَافِيِّ لِغَلَبَةِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ عَلَى أَهْلِهَا انْتَهَى وَالثَّانِي لِلْمَنُوفِيِّ قَالَ يَبِيعُونَ لَهَا بُيُوتَهُمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُمْ بِهَا طَرَبًا وَفَرَحًا كَمَا فِي شَرْحِ الْمَجْمُوعِ لِلْعَلَّامَةِ الْأَمِيرِ وَفِي الْأَصْلِ وَنُصُوصُ الْمُتَحَدِّثِينَ عَلَى النَّبَاتِيِّ تَقْتَضِي أَنَّهَا مُسْكِرَةٌ فَإِنَّهُمْ يَصِفُونَهَا بِذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ ا هـ وَفِي حَاشِيَةِ

ابْنِ حَمْدُونٍ وَمُقْتَضَى كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهَا مِنْ الْمُفْسِدَاتِ كَمَا اخْتَارَهُ الْقَرَافِيُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ خِلَافُ مَا لِلْمَنُوفِيِّ قَالَ ابْنُ مَرْزُوقٍ لِأَنَّ إتْلَافَ الْأَمْوَالِ فِيهَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِيهَا لَذَّةً مَا وَأَمَّا تَعْيِينُ كَوْنِهَا تُحْدِثُ الطَّرَبَ الْمُمَاثِلَ لِطَرَبِ الْخَمْرِ فَلَا إذْ الْأَعَمُّ لَا إشْعَارَ لَهُ بِأَخَصَّ مُعَيَّنٍ .
ا هـ .
وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَفِي كَوْنِهَا لَا تُسْكِرُ إلَّا بَعْدَ مُبَاشَرَةِ النَّارِ أَوْ كَوْنِهَا تُسْكِرُ مُطْلَقًا قَوْلَانِ الْأَوَّلُ لِلْمُقْرِي فِي قَوَاعِدِهِ قَالَ وَذَلِكَ أَيْ كَوْنُهَا مُسْكِرَةً وَنَجِسَةً بَعْدَ غَلْيِهَا لَا قَبْلَهُ فَظَاهِرُهُ ا هـ وَعَلَيْهِ مَا فِي الْأَصْلِ سُئِلَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْعَصْرِ عَمَّنْ صَلَّى بِالْحَشِيشَةِ مَعَهُ هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا فَأَفْتَى أَنَّهُ إنْ صَلَّى بِهَا قَبْلَ أَنْ تُحَمَّصَ أَوْ تُسْلَقَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ مُعَلِّلًا أَنَّهَا إنَّمَا تُغَيِّبُ الْعَقْلَ بَعْدَ التَّحْمِيصِ أَوْ السَّلْقِ أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ وَهِيَ وَرَقٌ أَخْضَرُ فَلَا بَلْ هِيَ كَالْعَصِيرِ الَّذِي لِلْعِنَبِ وَتَحْمِيصُهَا كَغَلَيَانِهِ ا هـ وَالثَّانِي لِبَعْضِهِمْ قَالَ وَإِنَّمَا تُحَمَّصُ لِإِصْلَاحِ طَعْمِهَا وَتَعْدِيلِ كَيْفِيَّتِهَا خَاصَّةً انْتَهَى وَعَلَيْهِ فَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ مَعَ حَمْلِهَا مُطْلَقًا كَمَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِهَا مُطْلَقًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ سُكْرٍ كَالْبَنْجِ وَالسَّيْكَرَانِ وَجَوْزَةِ بَابِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْقَاعِدَةُ أَنَّ التَّأْدِيبَاتِ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَاتِ فَكُلَّمَا عَظُمَتْ الْجِنَايَةُ عَظُمَتْ الْعُقُوبَةُ فَإِذَا فُرِضَ شَخْصٌ مِنْ الْجُنَاةِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ التَّأْدِيبُ اللَّائِقُ بِجِنَايَتِهِ رَدْعًا وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ كَالْقَتْلِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً لِتِلْكَ الْجِنَايَةِ فَإِنَّ هَذَا الْجَانِي يَسْقُطُ تَأْدِيبُهُ مُطْلَقًا أَمَّا

الْمُنَاسِبُ فَيَسْقُطُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهِ وَالْإِيلَامُ مَفْسَدَةٌ لَا تُشْرَعُ إلَّا لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ فَحَيْثُ لَا مَصْلَحَةَ لَا تُشْرَعُ وَأَمَّا غَيْرُ الْمُنَاسِبِ فَلِعَدَمِ سَبَبِ الْمُبِيحِ فَيَسْقُطُ تَأْدِيبُهُ مُطْلَقًا وَهُوَ مُتَّجَهٌ اتِّجَاهًا قَوِيًّا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

الْفَرْقُ الْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُسْكِرَاتِ وَقَاعِدَةِ الْمُرْقِدَاتِ وَقَاعِدَةِ الْمُفْسِدَاتِ ) هَذِهِ الْقَوَاعِدُ الثَّلَاثُ قَوَاعِدُ تَلْتَبِسُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا أَنَّ الْمُتَنَاوَلَ مِنْ هَذِهِ إمَّا أَنْ تَغِيبَ مَعَهُ الْحَوَاسُّ أَوْ لَا فَإِنْ غَابَتْ مَعَهُ الْحَوَاسُّ كَالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَاللَّمْسِ وَالشَّمِّ وَالذَّوْقِ فَهُوَ الْمُرْقِدُ وَإِنْ لَمْ تَغِبْ مَعَهُ الْحَوَاسُّ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَحْدُثَ مَعَهُ نَشْوَةٌ وَسُرُورٌ وَقُوَّةُ نَفْسٍ عِنْدَ غَالِبِ الْمُتَنَاوِلِ لَهُ أَوْ لَا فَإِنْ حَدَثَ ذَلِكَ فَهُوَ الْمُسْكِرُ وَإِلَّا فَهُوَ الْمُفْسِدُ فَالْمُسْكِرُ هُوَ الْمُغَيِّبُ لِلْعَقْلِ مَعَ نَشْوَةٍ وَسُرُورٍ كَالْخَمْرِ وَالْمِزْرِ وَهُوَ الْمَعْمُولُ مِنْ الْقَمْحِ وَالْبِتْعِ وَهُوَ الْمَعْمُولُ مِنْ الْعَسَلِ وَالسُّكْرُكَةِ وَهُوَ الْمَعْمُولُ مِنْ الذُّرَةِ وَالْمُفْسِدُ هُوَ الْمُشَوِّشُ لِلْعَقْلِ مَعَ عَدَمِ السُّرُورِ الْغَالِبِ كَالْبَنْجِ وَالسَّيْكَرَانِ وَيَدُلُّك عَلَى ضَابِطِ الْمُسْكِرِ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ فَالْمُسْكِرُ يَزِيدُ فِي الشَّجَاعَةِ وَالْمَسَرَّةِ وَقُوَّةِ النَّفْسِ وَالْمَيْلِ إلَى الْبَطْشِ وَالِانْتِقَامِ مِنْ الْأَعْدَاءِ وَالْمُنَافَسَةِ فِي الْعَطَاءِ وَأَخْلَاقِ الْكُرَمَاءِ وَهُوَ مَعْنَى الْبَيْتِ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي وَصَفَ بِهِ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَلِأَجْلِ اشْتِهَارِ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْمُسْكِرَاتِ أَنْشَدَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ زَعَمَ الْمُدَامَةَ شَارِبُوهَا أَنَّهَا تَنْفِي الْهُمُومَ وَتَصْرِفُ الْغَمَّا صَدَقُوا سَرَّتْ بِعُقُولِهِمْ فَتَوَهَّمُوا أَنَّ السُّرُورَ لَهُمْ بِهَا تَمَّا سَلَبَتْهُمْ أَدْيَانَهُمْ وَعُقُولَهُمْ أَرَأَيْت عَادِمَ ذَيْنِ مُغْتَمَّا فَلَمَّا شَاعَ أَنَّهَا تُوجِبُ السُّرُورَ وَالْأَفْرَاحَ أَجَابَهُمْ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ .
وَبِهَذَا الْفَرْقِ يَظْهَرُ لَك أَنَّ الْحَشِيشَةَ مُفْسِدَةٌ وَلَيْسَتْ مُسْكِرَةٌ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّا نَجِدُهَا تُثِيرُ الْخَلْطَ الْكَامِنَ فِي

الْجَسَدِ كَيْفَمَا كَانَ فَصَاحِبُ الصَّفْرَاءِ تُحْدِثُ لَهُ حِدَّةً وَصَاحِبُ الْبَلْغَمِ تُحْدِثُ لَهُ سُبَاتًا وَصَمْتًا وَصَاحِبُ السَّوْدَاءِ تُحْدِثُ لَهُ بُكَاءً وَجَزَعًا وَصَاحِبُ الدَّمِ تُحْدِثُ لَهُ سُرُورًا بِقَدْرِ حَالِهِ فَتَجِدُ مِنْهُمْ مَنْ يَشْتَدُّ بُكَاؤُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَدُّ صَمْتُهُ وَأَمَّا الْخَمْرُ وَالْمُسْكِرَاتُ فَلَا تَكَادُ تَجِدُ أَحَدًا مِمَّنْ يَشْرَبُهَا إلَّا وَهُوَ نَشْوَانُ مَسْرُورٌ بَعِيدٌ عَنْ صُدُورِ الْبُكَاءِ وَالصَّمْتِ وَثَانِيهمَا أَنَّا نَجِدُ شُرَّابَ الْخَمْرِ تَكْثُرُ عَرْبَدَتُهُمْ وَوُثُوبُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِالسِّلَاحِ وَيَهْجُمُونَ عَلَى الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يَهْجُمُونَ عَلَيْهَا حَالَةَ الصَّحْوِ وَهُوَ مَعْنَى الْبَيْتِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ : وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ وَلَا نَجِدُ أَكَلَةَ الْحَشِيشَةِ إذَا اجْتَمَعُوا يَجْرِي بَيْنَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُسْمَعْ عَنْهُمْ مِنْ الْعَوَائِدِ مَا يُسْمَعُ عَنْ شُرَّابِ الْخَمْرِ بَلْ هُمْ هَمَدَةٌ سُكُوتٌ مَسْبُوتِينَ لَوْ أَخَذْت قُمَاشَهُمْ أَوْ سَبَبْتَهُمْ لَمْ تَجِدْ فِيهِمْ قُوَّةَ الْبَطْشِ الَّتِي تَجِدُهَا فِي شَرَبَةِ الْخَمْرِ بَلْ هُمْ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْبَهَائِمِ وَلِذَلِكَ إنَّ الْقَتْلَى يُوجَدُونَ كَثِيرًا مِنْ شُرَّابِ الْخَمْرِ وَلَا يُوجَدُونَ مَعَ أَكَلَةِ الْحَشِيشَةِ فَلِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنَا أَعْتَقِدُ أَنَّهَا مِنْ الْمُفْسِدَاتِ لَا مِنْ الْمُسْكِرَاتِ وَلَا أُوجِبُ فِيهَا الْحَدَّ وَلَا أُبْطِلُ بِهَا الصَّلَاةَ بَلْ التَّعْزِيرُ الزَّاجِرُ عَنْ مُلَابِسِهَا ( تَنْبِيهٌ ) تَنْفَرِدُ الْمُسْكِرَاتُ عَنْ الْمُرْقِدَاتِ وَالْمُفْسِدَاتِ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ الْحَدِّ وَالتَّنْجِيسِ وَتَحْرِيمِ الْيَسِيرِ وَالْمُرْقِدَاتُ وَالْمُفْسِدَاتُ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا نَجَاسَةَ فَمَنْ صَلَّى بِالْبَنْجِ مَعَهُ أَوْ الْأَفْيُونِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ إجْمَاعًا وَيَجُوزُ تَنَاوُلُ الْيَسِيرِ مِنْهَا فَمَنْ تَنَاوَلَ حَبَّةً مِنْ الْأَفْيُونِ أَوْ الْبَنْجِ أَوْ السَّيْكَرَانِ جَازَ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَدْرًا يَصِلُ إلَى التَّأْثِيرِ فِي الْعَقْلِ أَوْ الْحَوَاسِّ أَمَّا

دُونَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْأَحْكَامُ وَقَعَ بِهَا الْفَرْقُ بَيْن الْمُسْكِرَاتِ وَالْآخَرِينَ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَاضْبُطْهُ فَعَلَيْهِ تَتَخَرَّجُ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ

( الْفَرْقُ الْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُسْكِرَاتِ وَقَاعِدَةِ الْمُرْقِدَاتِ وَقَاعِدَةِ الْمُفْسِدَاتِ ) وَذَلِكَ أَنَّ الْمُتَنَاوِلَ لِمَا يُغَيِّبُ الْعَقْلَ إمَّا أَنْ يَغِيبَ مَعَهُ الْحَوَاسُّ أَوْ لَا فَإِنْ غَابَتْ مَعَهُ الْحَوَاسُّ كَالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَاللَّمْسِ وَالشَّمِّ وَالذَّوْقِ فَهُوَ الْمُرْقِدُ وَإِنْ لَمْ تَغِبْ مَعَهُ الْحَوَاسُّ فَإِمَّا أَنْ تَحْدُثَ مَعَهُ نَشْوَةٌ وَسُرُورٌ وَقُوَّةُ نَفْسٍ عِنْدَ غَالِبِ الْمُتَنَاوِلِ لَهُ فَهُوَ الْمُسْكِرُ وَإِمَّا أَنْ لَا يَحْدُثَ مَعَهُ ذَلِكَ فَهُوَ الْمُفْسِدُ فَالْمُرْقِدُ مَا يُغَيِّبُ الْعَقْلَ وَالْحَوَاسَّ كَالسَّكْرَانِ بِضَمِّ الْكَافِ أَوَّلُهُ مُهْمَلٌ أَوْ مُعْجَمٌ كَمَا فِي الْحَطَّابِ وَالْمُفْسِدُ مَا يُغَيِّبُ الْعَقْلَ دُونَ الْحَوَاسِّ لَا مَعَ نَشْوَةٍ وَفَرَحٍ كَالْأَفْيُونِ وَعَسَلِ الْبَلَادِرِ الَّذِي يُشْرَبُ لِلْحِفْظِ وَمَا أَلْطَفَ قَوْلُ الرَّجْرَاجِيِّ شَرِبَ الْبَلَادِرَ عُصْبَةٌ كَيْ يُحْفَظُوا وَنَسُوا الَّذِي فِي ذِكْرِهِ مَنْ قَالَ أَوَمَا رَأَوْا أَنَّ الْبَلَا شَطْرُ اسْمِهِ وَالضُّرَّ آخِرُهُ بِقَلْبِ الدَّالِ وَيُسَمَّى الْمُفْسِدُ أَيْضًا بِالْمُخَدِّرِ وَالْمُفَتِّرِ وَمِنْهُ الْحَشِيشَةُ عَلَى مَا لِلْأَصْلِ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا عَرَفْت وَالْمُسْكِرُ مَا غَيَّبَ الْعَقْلَ دُونَ الْحَوَاسِّ مَعَ نَشْوَةٍ وَفَرَحٍ وَزِيَادَةٍ فِي الشَّجَاعَةِ وَقُوَّةِ النَّفْسِ وَالْمَيْلِ إلَى الْبَطْشِ وَالِانْتِقَامِ مِنْ الْأَعْدَاءِ وَالْمُنَافَسَةِ فِي الْعَطَاءِ وَأَخْلَاقِ الْكُرَمَاءِ كَمَا يُشِيرُ لِذَلِكَ قَوْلُ حَسَّانَ وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ مِنْ نَحْوِ الْخَمْرِ وَهُوَ الْمَعْمُولُ مِنْ الزَّبِيبِ وَالْعِنَبِ وَالْمَزْرِ وَهُوَ الْمَعْمُولُ مِنْ الْقَمْحِ وَالتِّبْعِ وَهُوَ الْمَعْمُولُ مِنْ الْعَسَلِ وَالسُّكْرُكَةِ وَهُوَ الْمَعْمُولُ مِنْ الذُّرَةِ وَلِأَجْلِ اشْتِهَارِ هَذَا فِي الْمُسْكِرَاتِ وَشَاعَ بَيْنَ مُتَنَاوِلِيهَا أَنَّهَا تُوجِبُ السُّرُورَ وَالْأَفْرَاحَ حَتَّى قَالَ شَاعِرُهُمْ وَلَيْسَتْ الْكِيمْيَاءُ فِي غَيْرِهَا وُجِدَتْ .
وَكُلُّ مَا قِيلَ فِي أَبْوَابِهَا كَذِبُ

قِيرَاطُ خَمْرٍ عَلَى الْقِنْطَارِ مِنْ حُزْنٍ يَعُودُ فِي الْحَالِ أَفْرَاحًا وَيَنْقَلِبُ أَنْشَدَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ زَعَمَ الْمُدَامَةَ شَارِبُوهَا أَنَّهَا تَنْفِي الْهُمُومَ وَتَصْرِفُ الْغَمَّا صَدَقُوا سَرَّتْ بِعُقُولِهِمْ فَتَوَهَّمُوا أَنَّ السُّرُورَ لَهُمْ بِهَا تَمَّا سَلَبَتْهُمُو أَدْيَانَهُمْ وَعُقُولَهُمْ أَرَأَيْت عَادِمَ ذَيْنِ مُغْتَمًّا وَقَدْ أَنْشَدَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ أَيْضًا أَبُو الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيُّ عَلَى الْمِنْبَرِ بِمِصْرَ وَحَكَى ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ كَمَا فِي حَاشِيَةِ ابْنِ حَمْدُونٍ وَتَنْفَرِدُ الْمُسْكِرَاتُ عَنْ الْمُرْقِدَاتِ وَالْمُفْسِدَاتِ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ الْحَدِّ وَالنَّجَاسَةِ وَتَحْرِيمِ الْيَسِيرِ وَمَا نَقَلَهُ الْحَطَّابُ عَنْ ابْنِ فَرْحُونٍ مِنْ أَنَّ مِنْ اللَّبَنِ نَوْعًا يُغَطِّي الْعَقْلَ إذَا صَارَ قَارِصًا وَيُحْدِثُ نَوْعًا مِنْ السُّكْرِ فَإِنْ شَرِبَ لِذَلِكَ حَرُمَ وَيَحْرُمُ مِنْهُ الْقَدْرُ الَّذِي يُغَطِّي الْعَقْلَ ا هـ فِيهِ نَظَرٌ بَلْ يَحْرُمُ تَنَاوُلُ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْهُ حَيْثُ كَانَ يُحْدِثُ نَوْعًا مِنْ السُّكْرِ كَمَا فِي حَاشِيَةِ ابْنِ حَمْدُونٍ وَلَا حَدَّ فِي الْمُرْقِدَاتِ وَالْمُفْسِدَاتِ وَلَا نَجَاسَةَ فَمَنْ صَلَّى حَامِلَ الْبَنْجِ أَوْ الْأَفْيُونِ أَوْ السَّيْكَرَانِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ إجْمَاعًا وَيَجُوزُ تَنَاوُلُ الْيَسِيرِ مِنْهَا وَهُوَ مَا لَا يَصِلُ إلَى التَّأْثِيرِ فِي الْعَقْلِ أَوْ الْحَوَاسِّ وَيَحْرُمُ تَنَاوُلُ الْكَثِيرِ الَّذِي يَصِلُ إلَى التَّأْثِيرِ فِي الْعَقْلِ أَوْ الْحَوَاسِّ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْأَحْكَامِ وَقَعَ بِهَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْكِرَاتِ وَالْآخَرِينَ وَفِي الْحَطَّابِ مَا نَصُّهُ فَرْعٌ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ وَالظَّاهِرُ جَوَازُ مَا يُسْقَى مِنْ الْمُرْقِدِ لِقَطْعِ عُضْوٍ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ ضَرَرَ الْمُرْقِدِ مَأْمُونٌ وَضَرَرُ الْعُضْوِ غَيْرُ مَأْمُونٍ نَقَلَهُ الْأَمِيرُ فِي شَرْحِ مَجْمُوعِهِ قُلْت وَفِي هَذَا الْجَوَازِ يَنْفَرِدُ الْمُرْقِدُ عَنْ الْمُفْسِدِ أَيْضًا فَافْهَمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ( وَصْلٌ ) فِي أَرْبَعِ مَسَائِلَ

تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَرْقِ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) اعْلَمْ أَنَّ النَّبَاتَ الْمَعْرُوفَ بِالْحَشِيشَةِ لَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ وَلَا غَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِهِمْ وَإِنَّمَا ظَهَرَ فِي أَوَاخِرِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ وَانْتَشَرَتْ فِي دَوْلَةِ التَّتَارِ قَالَ الْعَلْقَمِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْعَجَمِ قَدِمَ الْقَاهِرَةَ وَطَلَبَ دَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِ الْحَشِيشَةِ وَعَقَدَ لِذَلِكَ مَجْلِسًا حَضَرَهُ عُلَمَاءُ الْعَصْرِ فَاسْتَدَلَّ الْحَافِظُ زَيْنُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ } فَأَعْجَبَ الْحَاضِرِينَ قَالَ وَنَبَّهَ السُّيُوطِيّ عَلَى صِحَّتِهِ وَاحْتَجَّ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى حُرْمَةِ الْمُفَتِّرِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَرَابًا وَلَا مُسْكِرًا ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْخَمْرِ وَالْعَسَلِ مِنْ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَكَذَا احْتَجَّ بِهِ الْقَسْطَلَّانِيُّ فِي الْمَوَاهِبِ اللَّدُنِّيَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا .
وَذَكَرَهُ السُّيُوطِيّ فِي جَامِعِهِ وَلَوْلَا صَلَاحِيَّتُهُ لِلِاحْتِجَاجِ مَا احْتَجَّ بِهِ هَؤُلَاءِ وَهُمْ رِجَالُ الْحَدِيثِ وَجَهَابِذَتُهُ وَكَوْنُ الْحَشِيشَةِ مِنْ الْمُفَتِّرِ مِمَّا أَطْبَقَ عَلَيْهِ مُسْتَعْمِلُوهَا مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِمْ وَبِخَبَرِهِمْ يُعْتَدُّ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ إذَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ شَيْئَيْنِ مُقْتَرِنَيْنِ ثُمَّ نَصَّ عَلَى حُكْمِ النَّهْيِ عَنْ أَحَدِهِمَا مِنْ حُرْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا أُعْطِيَ الْآخَرُ ذَلِكَ الْحُكْمَ بِدَلِيلِ اقْتِرَانِهِمَا فِي الذِّكْرِ وَالنَّهْيِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ ذُكِرَ الْمُفَتِّرُ مَقْرُونًا بِالْمُسْكِرِ وَتَقَرَّرَ عِنْدنَا تَحْرِيمُ الْمُسْكِرِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَيَجِبُ أَنْ يُعْطَى الْمُفَتِّرُ حُكْمَهُ بِقَرِينَةِ النَّهْيِ عَنْهُمَا مُقْتَرِنَيْنِ وَفَسَّرَ غَيْرُ وَاحِدٍ التَّفْتِيرَ بِاسْتِرْخَاءِ الْأَطْرَافِ وَتَخَدُّرِهَا وَصَيْرُورَتِهَا إلَى

وَهَنٍ وَانْكِسَارٍ وَذَلِكَ مِنْ مَبَادِئِ النَّشْوَةِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِهَا أَفَادَهُ ابْنُ حَمْدُونٍ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) أَوَّلُ مَا ظَهَرَتْ الْعُشْبَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالتُّنْبَاكِ وَالتُّتْن وَالدُّخَانِ وَدُخَانِ طَابَهُ وَتَابِغًا وَطَابِغًا وَطَابَهُ بتنبكتو فِي أَوَائِلِ الْقَرْنِ الْحَادِي عَشَرَ كَمَا فِي ابْنِ حَمْدُونٍ أَيْ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ بَعْدَ الْأَلْفِ كَمَا نَقَلَهُ اللَّكْنَوِيُّ عَنْ الْعَلَّامَةِ الزَّاهِدِ مُحَمَّدٍ أَوْ فِي سَنَةِ خَمْسَةَ عَشْرَ كَمَا نَقَلَهُ اللَّكْنَوِيُّ عَنْ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ شَرْحِ تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ فِي رِسَالَتِهِ تَرْوِيحِ الْجَنَانِ وَمُقْتَضَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ يَا خَلِيلِي عَنْ الدُّخَانِ أَجِبْنِي هَلْ لَهُ فِي كِتَابِنَا إيمَاءُ قُلْت مَا فَرَّطَ الْكِتَابُ بِشَيْءِ ثُمَّ أَرَّخْت يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ أَنَّهُ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الْعَاشِرِ وَهُوَ مُفَادُ قَوْلِ الشَّيْخِ إبْرَاهِيمَ اللَّقَانِيِّ فِي عُمْدَةِ الْمُرِيدِ شَرْحِ جَوْهَرَةِ التَّوْحِيدِ قَدْ حَدَثَ فِي أَوَائِلِ الْقَرْنِ الْحَادِي عَشَرَ وَقُبَيْلَهُ بِمُدَّةِ قَلِيلَةٍ كَمَا فِي تَرْوِيحِ الْجَنَانِ بِتَشْرِيحِ حُكْمِ شُرْبِ الدُّخَّانِ لِلَّكْنَوِيِّ وَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ حَمْدُونٍ عَلَى مُخْتَصَرِ مَيَّارَةَ عَلَى ابْنِ عَاشِرٍ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْقَدْرِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْعَقْلِ مِنْهَا حَرَامٌ اتِّفَاقًا كَمَا فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ وَغَيْرِهِ وَأَمَّا الْقَدْرُ الْغَيْرُ الْمُؤَثِّرِ فَأَطْبَقَ الْمَغَارِبَةُ وَأَكْثَرُ الْمَشَارِقَةِ كَالشَّيْخِ سَالِمٍ السَّنْهُورِيِّ وَتِلْمِيذُهُ الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ اللَّقَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَأَلَّفَ فِي تَحْرِيمِهَا سَيِّدِي الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْفَكُّونُ تَأْلِيفًا فِي عِدَّةِ كَرَارِيسَ مُشْتَمِلًا عَلَى أَجْوِبَةٍ عِدَّةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ سَمَّاهُ مُحَدِّدَ السِّنَانِ فِي نُحُورِ إخْوَانِ الدُّخَانِ وَفِي الْعَمَلِيَّاتِ الْفَاسِيَّةِ وَحَرَّمُوا طَابَا لِلِاسْتِعْمَالِ وَلِلتِّجَارَةِ عَلَى الْمِنْوَالِ .
وَاخْتَلَفُوا هَلْ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ أَنَّهَا تُحْدِثُ تَفْتِيرًا وَخَدَرًا فَتُشَارِكُ

أَوَّلِيَّةَ الْخَمْرِ فِي نَشْوَتِهِ قَالَ الشَّيْخُ سَيِّدِي التَّاوَدِيُّ فِي أَجْوِبَتِهِ وَكَفَى حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ الْمُتَقَدِّمُ حُجَّةً وَدَلِيلًا يَعْنِي عَلَى تَحْرِيمِ دُخَانِ طَابَةَ اُنْظُرْهُ أَوْ أَنَّهَا تُسْكِرُ فِي ابْتِدَاءِ تَعَاطِيهَا إسْكَارًا سَرِيعًا بِغَيْبَةٍ تَامَّةٍ ثُمَّ لَا يَزَالُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَنْقُصُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يَطُولَ الْأَمْرُ جِدًّا فَيَصِيرُ لَا يُحَسُّ بِهِ لَكِنَّهُ يَجِدُ نَشْوَةً وَطَرَبًا أَحْسَنَ عِنْدَهُ مِنْ السُّكْرِ وَعَلَى هَذَا فَهِيَ نَجِسَةٌ وَيَحْرُمُ مِنْهَا الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَيُحَدُّ شَارِبُهَا وَعَلَى الْأَوَّلِ فَلَا حَدَّ وَلَا نَجَاسَةَ نَعَمْ يَحْرُمُ الْقَلِيلُ كَالْكَثِيرِ خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِي التَّأْثِيرِ إذْ الْغَالِبُ وُقُوعُهُ بِأَدْنَى شَيْءٍ مِنْهَا وَحِفْظُ الْعُقُولِ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ أَوْ أَنَّهَا لَا تَفْتِيرَ بِهَا وَلَا إسْكَارَ إلَّا أَنَّهَا سَرَفٌ وَضَرَرٌ وَنَجَاسَةٌ لِكَوْنِهَا تُبَلُّ بِالْخَمْرِ وَحِينَئِذٍ يَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْهَا وَالْكَثِيرُ وَأَفْتَى جَمْعٌ مِنْ أَئِمَّةِ كُلِّ مَذْهَبٍ بِالْإِبَاحَةِ مِنْهُمْ الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِيِّ النَّابُلُسِيُّ وَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّهَا مِمَّا سَكَتَ عَنْهُ الْمَوْلَى فِي كِتَابِهِ فَهِيَ مِمَّا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ لِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ { الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ رَحْمَةً بِكُمْ فَهُوَ مِمَّا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ } قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ أَيْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى حِلِّهِ وَلَا حُرْمَتِهِ نَصًّا جَلِيًّا وَلَا خَفِيًّا فَهُوَ مِمَّا عُفِيَ عَنْهُ فَيَحِلُّ تَنَاوُلُهُ مَا لَمْ يَرِدْ النَّهْيُ عَنْهُ .
ا هـ .
وَأَلَّفَ الشَّيْخُ عَلِيُّ الْأُجْهُورِيُّ تَأْلِيفًا سَمَّاهُ غَايَةَ الْبَيَانِ لِحِلِّ مَا لَا يُغِيبُ الْعَقْلَ مِنْ الدُّخَّانِ حَاصِلُهُ أَنَّ الْفُتُورَ الَّذِي يَحْصُلُ لِمُبْتَدِئِ شُرْبِهِ لَيْسَ مِنْ تَغْيِيبِ الْعَقْلِ فِي شَيْءٍ وَإِنْ سَلِمَ

أَنَّهُ مِمَّا يُغَيِّبُ الْعَقْلَ فَلَيْسَ مِنْ الْمُسْكِرِ قَطْعًا لِأَنَّ الْمُسْكِرَ مَعَ نَشْوَةٍ وَفَرَحٍ كَمَا تَقَرَّرَ وَطَابَةُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَحِينَئِذٍ فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا لِمَنْ لَا يُغَيِّبُ عَقْلَهُ كَاسْتِعْمَالِ الْأَفْيُونِ لِمَنْ لَا يُغَيِّبُ عَقْلَهُ وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْزِجَةِ وَالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ فَقَدْ يُغَيِّبُ عَقْلَ شَخْصٍ وَلَا يُغَيِّبُ عَقْلَ آخَرَ وَقَدْ يُغَيِّبُ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْكَثِيرِ دُونَ الْقَلِيلِ وَنَظْمُهُ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ أَنْ تَقُولَ شُرْبُ الدُّخَانِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لَا يُغَيِّبُ الْعَقْل مَعَ نَشْوَةٍ وَفَرَحٍ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ الْقَدْرِ الَّذِي لَا يُغَيِّبُ الْعَقْلَ مِنْهُ لِذَاتِهِ وَالصُّغْرَى مِنْ الْوِجْدَانِيَّاتِ أَوْ الْمُشَاهَدَاتِ وَدَلِيلُ الْكُبْرَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُسْكِرِ وَالْمُفْسِدِ وَنَجَاسَتُهَا لِبَلِّهَا بِالْخَمْرِ إنْ تَحَقَّقَتْ فَحُرْمَتُهَا لِعَارِضٍ لَا لِذَاتِهَا وَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ فَالْأَصْلُ الطَّهَارَةُ وَهَذَا عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا يَأْتِي مِنْ بِلَادِ النَّصَارَى وَنَحْوِهَا وَأَمَّا مَا يَأْتِي مِنْ بِلَادِ التَّكْرُورِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ مِنْ مُحَقَّقِ السَّلَامَةِ مِنْ هَذَا عَلَى أَنَّ ابْنَ رُشْدٍ جَازِمٌ بِطَهَارَةِ دُخَانِ النَّجِسِ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَبِلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَالشَّيْخُ خ فِي ضبح وَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ تَرْجِيحًا وَلِذَا تَعَقَّبَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمُخْتَصَرِ قَوْلَهُ فِيهِ أَنَّ دُخَانَ النَّجِسِ نَجِسٌ بِكَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ ثُمَّ إنَّ الْحُكْمَ بِالنَّجَاسَةِ عَلَى مَا بُلَّ مِنْ الْعُشْبِ وَنَحْوِهِ بِالْخَمْرِ وَإِنْ طَالَ مُكْثُهُ فِي الْخَمْرِ إذَا جَفَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَوْ بُلَّ تَحَلَّلَ مِنْهَا مَا يُسْكِرُ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ إذَا بُلَّ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ يَتَحَلَّلُ مِنْهُ مَا لَا يُسْكِرُ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ كَمَا فِي الْخَمْرِ إذَا تَحَجَّرَ وَكَانَ بِحَيْثُ لَوْ بُلَّ لَمْ يُسْكِرْ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ كَمَا هُوَ

مُصَرَّحٌ بِهِ وَصَرْفُ الْمَالِ فِي الْمُبَاحَاتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِسَرَفٍ لِأَنَّ الْإِسْرَافَ فِي النَّفَقَاتِ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ هُوَ التَّبْذِيرُ وَفَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ التَّبْذِيرَ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ فَإِذَا كَانَ الْإِنْفَاقُ فِي حَقِّهِ وَلَوْ مُبَاحًا فَلَيْسَ بِسَرَفٍ قَالَ مُجَاهِدٌ لَوْ أَنْفَقَ الرَّجُلُ جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ ذَهَبًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ سَرَفًا وَلَوْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا وَاحِدًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَانَ سَرَفًا وَحُرْمَتُهُ لِضَرَرِهِ إنْ تَحَقَّقَ فَهِيَ لِأَمْرٍ عَارِضٍ لَا لِذَاتِهِ وَيَحْرُمُ عَلَى مَنْ يَضُرُّهُ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ وَدَعْوَى أَنَّهُ مُضِرٌّ مُطْلَقًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا ا هـ مَا قَالَهُ عج بِاخْتِصَارٍ كَثِيرٍ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُفَتِّرَ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ حَرَامٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ الْمُتَقَدِّمُ ا هـ كَلَامُ ابْنِ حَمْدُونٍ بِاخْتِصَارٍ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْعُشْبَةِ مِنْ الْمُسْكِرَاتِ مُطْلَقًا فَيَكُونُ نَجِسًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ وَحُرْمَةُ قَلِيلِهِ كَكَثِيرِهِ أَوْ مِنْ الْمُفَتِّرَاتِ مُطْلَقًا وَأَنَّهَا تُحْدِثُ اسْتِرْخَاءَ الْأَطْرَافِ وَتُخَدِّرُهَا وَصَيْرُورَتُهَا إلَى وَهَنٍ وَانْكِسَارٍ كَالْحَشِيشَةِ بِحَيْثُ تُشَارِكُ أَوَّلِيَّةَ الْخَمْرِ فِي نَشْوَتِهِ فَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ الْقَدْرِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْعَقْلِ اتِّفَاقًا وَفِي حُرْمَةِ اسْتِعْمَالِ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْلِ خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِي التَّأْثِيرِ إذْ الْغَالِبُ وُقُوعُهُ بِأَدْنَى شَيْءٍ مِنْهَا وَحِفْظُ الْعُقُولِ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ أَوْ إبَاحَتِهِ نَظَرًا لِكَوْنِ الْعِلَّةِ تَدُورُ مَعَ الْمَعْلُولِ وُجُودًا وَعَدَمًا قَوْلَانِ أَوْ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمُسْكِرَاتِ وَلَا مِنْ الْمُفَتِّرَاتِ مُطْلَقًا وَعَلَيْهِ فَهَلْ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ قَلِيلِهَا كَكَثِيرِهَا لِأَنَّهَا سَرَفٌ وَضَرَرٌ وَنَجَاسَةٌ لِكَوْنِهَا تُبَلُّ بِالْخَمْرِ أَوْ تُبَاحُ مُطْلَقًا لِأَنَّهَا مِمَّا سَكَتَ اللَّهُ عَنْهُ فِي

كِتَابِهِ فَهِيَ مِمَّا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ لِلْحَدِيثِ الْمَارِّ فَالْأَقْوَالُ فِيهَا خَمْسَةٌ اخْتَارَ ابْنُ حَمْدُونٍ مِنْهَا الْقَوْلَ بِأَنَّهَا مِنْ الْمُفَتِّرَاتِ مُطْلَقًا وَأَنَّهُ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ قَلِيلِهَا كَكَثِيرِهَا لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الْمُتَقَدِّمِ وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ حُكِيَ الْخِلَافُ فِي إبَاحَةِ قَلِيلِهَا وَاخْتَارَ تَحْرِيمَهُ كَكَثِيرِهَا مَعَ أَنَّ مُفَادَ قَوْلِهِ عَنْ ضَبْحٍ بَعْدَمَا ذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُسْكِرَاتِ وَالْمُرْقِدَاتِ وَالْمُفَتِّرَاتِ بِمِثْلِ مَا قَدَّمْته عَنْ الْأَصْلِ مَا نَصُّهُ وَيَنْبَنِي عَلَى الْإِسْكَارِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ دُونَ الْأَخِيرَيْنِ الْحَدُّ وَالنَّجَاسَةُ وَتَحْرِيمُ الْقَلِيلِ ا هـ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْلِ مِنْ الْمُرْقِدَاتِ كَالْبَنْجِ وَالْمُفَتِّرَاتِ كَالْأَفْيُونِ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَيْضًا مِثْلَهُ عَنْ الْأَصْلِ فَلَمْ يُحْكَ الْخِلَافُ فِي إبَاحَةِ مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّرْقِيدِ كَالْبَنْجِ وَلَا مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّفْتِيرِ كَالْأَفْيُونِ فَكَيْفَ يُحْكَى فِي إبَاحَةِ مَا هُوَ فَرْعٌ فِي التَّفْتِيرِ كَهَذِهِ الْعُشْبَةِ وَيُرَجَّحُ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ قَلِيلِهَا كَكَثِيرِهَا الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ الْمُتَقَدِّمَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَدْرِ الْمُفَتِّرِ مِنْهَا فَقَطْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُفَتِّرَ وَإِنْ اقْتَرَنَ فِي الذِّكْرِ وَالنَّهْيِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالسُّكْرِ الْمُتَقَرِّرِ عِنْدَنَا تَحْرِيمُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ أَنْ يُعْطَى الْمُقَارِنُ الْمَجْهُولِ الْحُكْمِ حُكْمَ مُقَارِنِهِ الْمَعْلُومِ إلَّا أَنَّ إعْطَاءَ حُكْمِ الْمُسْكِرِ لِلْمُفَتِّرِ إنَّمَا يَظْهَرُ فِيمَا تَحَقَّقَ فِيهِ التَّفْتِيرُ بِالْفِعْلِ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْقَلِيلِ مِنْ الْمُسْكِرِ قِيلَ لِنَجَاسَتِهِ وَكَوْنِهِ ذَرِيعَةً لِاسْتِعْمَالِ الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ مِنْهُ وَقِيلَ لِنَجَاسَتِهِ فَقَطْ فَلَا يَحْرُمُ مِنْهُ قَلِيلُ مَا لَيْسَ بِنَجِسٍ كَغَيْرِ

الْخَمْرِ وَالْمُفَتِّرِ لَيْسَ بِنَجِسٍ اتِّفَاقًا فَكَيْفَ يُقَالُ بِتَحْرِيمِ قَلِيلِهِ وَالْحُكْمُ يَدُورُ مَعَ الْعِلَّةِ وَكَوْنُ اسْتِعْمَالِ قَلِيلِ الْمُفَتِّرِ ذَرِيعَةً لِاسْتِعْمَالِ الْقَدْرِ الْمُفَتِّرِ مِنْهُ لَا يَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ كَوْنِ اسْتِعْمَالِ قَلِيلِ الْمُسْكِرِ ذَرِيعَةً وَاسْتِعْمَالِ كَثِيرِهِ فِي اقْتِضَائِهِ التَّحْرِيمَ عَلَى أَنَّهُ فِي الْمُسْكِرِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ جُزْءَ عِلَّةٍ لَا عِلَّةً تَامَّةً وَأَيْضًا سَيَأْتِي عَنْ اللَّكْنَوِيِّ أَنَّ التَّفْتِيرَ هُنَا لَيْسَ هُوَ التَّفْتِيرُ الْمُوجِبُ لِلتَّحْرِيمِ حَتَّى يَكُونَ اسْتِعْمَالُ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ ذَرِيعَةً فِيمَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ فَافْهَمْ الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْعُشْبَةِ مُفَتِّرَةً بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ لَيْسَ مُطَّرِدًا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا زُرِعَ مِنْهَا فِي نَحْوِ وَزَّانَ مِنْ أَعْمَالِ الْمَغْرِبِ الْأَقْصَى وَنَحْوِ الْبُخَارِيّ وَنَحْوِ الْبَاطِنَةِ أَمَّا مَا زُرِعَ مِنْهَا فِي الْأَنَاضُولِ وَنَحْوِ الْيَمَنِ وَالْحِجَازِ وَالشَّامِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ التَّفْتِيرُ أَصْلًا كَمَا أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ مَنْ يَعْتَمِدُ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى أَنَّ الْعِيَانَ شَاهِدُ صِدْقٍ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّا نَجِدُ الصَّغِيرَ الَّذِي فِي الْخَامِسَةِ إذَا اسْتَعْمَلَ الْكَثِيرَ مِمَّا زُرِعَ مِنْهَا فِي نَحْوِ الْيَمَنِ وَهُوَ لَمْ يَعْتَدْهُ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِيهِ أَدْنَى تَفْتِيرٍ فَأُلْحِقَ مَا فِي شَرْحِ الْمَجْمُوعِ لِلْعَلَّامَةِ الْأَمِيرِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْعُشْبَةَ فِي ذَاتِهَا مُبَاحَةٌ وَيُعْرَضُ لَهَا حُكْمُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا عَلَى الْأَظْهَرِ كَالْبُنِّ وَكَثْرَتُهَا لَهْوٌ ا هـ بِتَوْضِيحٍ لِلْمُرَادِ نَعَمْ قَالَ اللَّكْنَوِيُّ إنَّ هَاهُنَا اخْتِلَافَيْنِ الْأَوَّلُ فِي الْحُرْمَةِ وَالْإِبَاحَةِ وَالثَّانِي فِي الْكَرَاهَةِ وَعَدَمِهَا وَالْحَقُّ فِي الِاخْتِلَافِ الْأَوَّلِ هُوَ الْإِبَاحَةُ وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ بِدَلِيلٍ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَفِي الِاخْتِلَافِ الثَّانِي الْحَقُّ فِي جَانِبِ الذَّاهِبِينَ إلَى الْكَرَاهَةِ

لِوُجُودِ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ النَّارِ وَالْأَشْرَارِ وَاسْتِعْمَالِ مَا يُعَذَّبُ بِهِ أَرْبَابُ الشِّقَاقِ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ وَلِإِيرَاثِهِ الرِّيح الْكَرِيهَة غَالِبًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلِّيًّا ا هـ .
الْمُرَادُ ثُمَّ نُقِلَ عَنْ شَرْحِ الْجَوْهَرَةِ لِلَّقَانِيِّ آخِرَ رِسَالَتِهِ تَرْوِيحِ الْجَنَانِ فِي تَشْرِيحِ حُكْمِ شُرْبِ الدُّخَّانِ مَا نَصُّهُ حَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ الْأَعْلَامُ فِي حُرْمَةِ الدُّخَانِ وَكَرَاهَتِهِ وَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ الْكَرَاهَةُ وَمَعَ وُجُودِ عِدَّةٍ مِنْ الْعَوَارِضِ لَا يَنْتَهِي إلَى دَرَجَةِ الْإِبَاحَةِ أَصْلًا وَلَا يُقَاسُ عَلَى الْقَهْوَةِ كَمَا تَوَهَّمَ الْبَعْضُ لِأَنَّ شُبْهَةَ أَهْلِ الْعَذَابِ لَا تَخْلُو عَنْ كَرَاهَةٍ بِخِلَافِ الْقَهْوَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا هَذَا التَّشَبُّهُ وَأَيْضًا فِيهَا مَنَافِعُ بِلَا شَكٍّ بِخِلَافِ الدُّخَانِ ا هـ اُنْظُرْهَا إنْ شِئْت فَمِنْ هُنَا مَا قَدَّمْته عَنْ الشَّيْخِ يُوسُفَ الصَّفْتِيِّ مِنْ أَنَّ شُرْبَ الدُّخَانِ مَكْرُوهٌ عَلَى الْأَظْهَرِ لَا يُقَالُ إنَّ كَلَامَ ابْنِ حَمْدُونٍ يُفِيدُ وُقُوعَ الْإِجْمَاعِ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى تَحْرِيمِ الْكَثِيرِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْعَقْلِ مِنْهُ كَالْقَلِيلِ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ عِنْدَ جَمِيعِ الْمَغَارِبَةِ وَأَكْثَرِ الْمَشَارِقَةِ وَبَعْدَ الْإِجْمَاعِ كَيْفَ يَكُونُ الْحَقُّ أَوْ الْأَظْهَرُ الْقَوْل بِكَرَاهَةِ الدُّخَانِ وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ مِنْ الْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ قُلْت قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ عَبْدُ الْحَيِّ اللَّكْنَوِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْمَذْكُورَةِ الْإِجْمَاعُ الَّذِي هُوَ إحْدَى الْحُجَجُ الْأَرْبَعُ هُوَ إجْمَاعُ الْمُجْتَهِدِينَ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِيِّينَ وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الِاجْتِهَادَ الْمُطْلَقَ مُنْقَطِعٌ مِنْ رَأْسِ الْأَرْبَعِمِائَةِ وَقِيلَ مِنْ رَأْسِ الْخَمْسِمِائَةِ فَأَيْنَ وُجُودُ الْمُجْتَهِدِينَ حِينَ حُدُوثِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ أَمَّا الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ أَفْتَوْا بِتَحْرِيمِهِ فَهُمْ لَيْسُوا مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ حَتَّى يَجِبَ تَقْلِيدُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَيْسُوا

مِنْ أَصْحَابِ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَذْهَبِ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْضًا مُخْتَلِفُونَ فَانْتَفَى الْإِجْمَاعُ رَأْسًا ا هـ بِلَفْظِهِ .
ثُمَّ قَالَ اللَّكْنَوِيُّ وَرَأَيْت فِي تَنْقِيحِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ لِلْعَلَّامَةِ ابْنِ عَابْدِينَ مَا نَصُّهُ ( مَسْأَلَةٌ ) أَفْتَى أَئِمَّةٌ أَعْلَامٌ بِتَحْرِيمِ شُرْبِ الدُّخَانِ الْمَشْهُورِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْنَا تَقْلِيدُهُمْ وَإِفْتَاءُ النَّاسِ بِحُرْمَتِهِ أَمْ لَا فَلْنُبَيِّنْ ذَلِكَ بَعْدَمَا حَقَّقَهُ أَئِمَّةُ أُصُولِ الدِّينِ قَالَ شَارِحُ مِنْهَاجِ الْوُصُولِ إلَى عِلْمِ الْأُصُولِ لِلْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عُمَر الْبَيْضَاوِيِّ وَيَجُوزُ الْإِفْتَاءُ لِلْمُجْتَهِدِينَ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَا الْمُقَلِّدُ الْمُجْتَهِدُ وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ الْمُجْتَهِدِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْقَاضِي الْبَيْضَاوِيِّ الْجَوَازُ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْفَتْوَى إذْ لَيْسَ فِي زَمَانِهِ مُجْتَهِدٌ ا هـ وَكَلَامُ الْإِمَامِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ مُجْتَهِدٌ فَكَيْفَ زَمَانُنَا الْآنَ فَإِنَّ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ لَا تَكَادُ تُوجَدُ فَهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ الَّذِينَ أَفْتَوْا بِتَحْرِيمِ التُّنْبَاكِ إنْ كَانَ فَتْوَاهُمْ عَنْ اجْتِهَادٍ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْنَا تَقْلِيدُهُمْ فَاجْتِهَادُهُمْ لَيْسَ بِثَابِتٍ فَإِنْ كَانَ عَنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ فَإِمَّا عَنْ مُجْتَهِدٍ آخَرَ حَتَّى سَمِعُوا مَنْ فِيهِ مُشَافَهَةٌ فَهُوَ أَيْضًا لَيْسَ بِثَابِتٍ وَإِمَّا مِنْ مُجْتَهِدٍ ثَبَتَ إفْتَاؤُهُ فِي الْكُتُبِ فَهُوَ أَيْضًا كَذَلِكَ إذْ لَمْ يَرِدْ فِي كِتَابٍ وَلَمْ يَنْقُلُوا عَنْ دَفْتَرٍ فِي إفْتَائِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى حُرْمَتِهِ فَكَيْفَ سَاغَ لَهُمْ الْفَتْوَى وَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْنَا تَقْلِيدُهُمْ وَالْحَقُّ فِي إفْتَاءِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِي هَذَا الزَّمَانِ التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْبَيْضَاوِيُّ فِي الْأُصُولِ

وَوَصَفَهُمَا بِأَنَّهُمَا نَافِعَانِ فِي الشَّرْعِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ وَالْمَأْخَذُ الشَّرْعِيُّ آيَاتٌ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى { خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } وَاللَّامُ لِلنَّفْعِ فَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمُنْتَفَعِ بِهِ مَأْذُونٌ بِهِ شَرْعًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى { مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } وَالزِّينَةُ تَدُلُّ عَلَى الِانْتِفَاعِ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ } الْمُرَادُ بِالطَّيِّبَاتِ الْمُسْتَطَابَاتُ طَبْعًا وَذَلِكَ يَقْتَضِي حِلَّ الْمَنَافِعِ بِأَسْرِهَا وَالثَّانِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَضَارِّ التَّحْرِيمُ وَالْمَنْعُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ } وَأَيْضًا ضَبَطَ أَهْلُ الْفِقْهِ حُرْمَةَ التَّنَاوُلِ إمَّا بِالْإِسْكَارِ كَالْبَنْجِ وَإِمَّا بِالْإِضْرَارِ بِالْبَدَنِ كَالتُّرَابِ وَالتِّرْيَاقِ أَوْ بِالِاسْتِقْذَارِ كَالْمُخَاطِ وَالْبُزَاقِ وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا كَانَ طَاهِرًا وَبِالْجُمْلَةِ إنْ ثَبَتَ فِي هَذَا الدُّخَانِ أَضْرَارٌ صُرِفَ عَنْ الْمَنَافِعِ فَيَجُوزُ الْإِفْتَاءُ بِتَحْرِيمِهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَضْرَارُهُ فَالْأَصْلُ الْحِلُّ مَعَ أَنَّ الْإِفْتَاءَ بِحِلِّهِ فِيهِ دَفْعُ الْحَرَجِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ مُبْتَلَوْنَ بِتَنَاوُلِهِ فَتَحْلِيلُهُ أَيْسَرُ مِنْ تَحْرِيمِهِ { وَمَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا } وَأَمَّا كَوْنُهُ بِدْعَةً فَلَا ضَرَرَ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ فِي التَّنَاوُلِ لَا فِي الدِّينِ فَإِثْبَاتُ حُرْمَتِهِ أَمْرٌ عَسِيرٌ لَا يَكَادُ يُوجَدُ لَهُ نَصِيرُ نَعَمْ لَوْ أَضَرَّ بِبَعْضِ الطَّبَائِعِ فَهُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ أَوْ نَفَعَ بِبَعْضٍ وَقَصَدَ التَّدَاوِيَ فَهُوَ مَرْغُوبٌ هَذَا مَا سَنَحَ فِي الْخَاطِرِ إظْهَارًا لِلصَّوَابِ مِنْ غَيْرِ تَعَنُّتٍ وَلَا عِنَادٍ فِي الْجَوَابِ كَذَا أَجَابَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ حَيْدَرٍ الْكُرْدِيُّ الْجَزَرِيُّ

رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ا هـ كَلَامُ ابْنِ عَابِدِينَ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ بِمَنْعِ مَنْ يَعْتَادُ كَثْرَةَ شُرْبِ الدُّخَانِ كَأَكْلِ الْبَصَلِ وَالثُّومِ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ لِوُجُودِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ فِي فَمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ تَتَأَذَّى مِنْهَا ا هـ كَلَامُ اللَّكْنَوِيِّ وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ شُرْبِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مُخْتَارِهِ فَيُدْخِلُ عَلَيْهِمْ شَغَبًا فِي أَنْفُسِهِمْ وَحِيرَةً فِي دِينِهِمْ إذْ مِنْ شَرْطِ التَّغْيِيرِ أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ قَالَ عِيَاضٌ فِي الْإِكْمَالِ مَا نَصُّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مَذْهَبِهِ وَإِنَّمَا يُغَيِّرُ مَا اُجْتُمِعَ عَلَى إحْدَاثِهِ وَإِنْكَارِهِ ا هـ وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ فِي مِنْهَاجِهِ أَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَلَا إنْكَارَ فِيهِ وَلَيْسَ لِلْمُفْتِي وَلَا لِلْقَاضِي أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ إذَا لَمْ يُخَالِفْ نَصَّ الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ وَنَحْوُ هَذَا فِي جَامِعِ الذَّخِيرَةِ لِلْقَرَافِيِّ وَنَحْوِهِ فِي قَوَاعِدِ عِزِّ الدِّينِ قَالَ شَيْخُ الشُّيُوخِ ابْنِ لُبٍّ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي كَرَاهِيَةٍ لَا فِي تَحْرِيمٍ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ وَرُبَّمَا يُؤَوَّلُ الْإِنْكَارُ إلَى أَمْرٍ يَحْرُمُ ا هـ وَقَدْ نَقَلَ الْبُرْزُلِيُّ فِي نَوَازِلِهِ كَلَامَ ابْنِ لُبٍّ مَعْزُوًّا لِبَعْضٍ الشُّيُوخِ وَرَشَّحَهُ أَفَادَهُ الْمَوَّاقُ فِي شَرْحِهِ عَلَى خَلِيلٍ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ وَلَا تَنْظُرْ لِمَنْ قَالَ بَلْ لَمَّا قَالَ كَمَا هُوَ دَأْبُ الرِّجَالِ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) أَفَادَ الْحَطَّابُ أَنَّ ظُهُورَ قَهْوَةِ الْبُنِّ كَانَ فِي الْقَرْنِ الْعَاشِرِ وَقَبْلَهُ بِيَسِيرٍ وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي أَنَّ أَوَّلَ مَنْ شَرِبَهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِشُرْبِهَا لِيَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى السَّهَرِ فِي الْعِبَادَةِ الشَّيْخُ الْوَلِيُّ الصَّالِحُ الْمُتَّفَقُ عَلَى وِلَايَتِهِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ

الشَّاذِلِيُّ الْيَمَنِيّ لَا الْمَغْرِبِيُّ وَنَقَلَ الْأُجْهُورِيُّ عَنْ الْجُنَيْدِ أَنَّ الْبُنَّ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ غَرَسَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ تُسَمَّى شَجَرَةَ السُّلْوَانِ فَلَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ هَبَطَ بِهَا مَعَهُ مِنْ الْجَنَّةِ لِلسُّلْوَانِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَرَمَاهَا فِي هَذِهِ الْأَرْضِ وَهِيَ أَرْضُ زَيْلَعِ الْحَبَشَةِ وَقَالَ ابْنُ سِينَا نَقْلًا عَنْ صَاحِبِ الْقَامُوسِ فِي كِتَابِ الطِّبِّ أَنَّ الْبُنَّ الْمَعْلُومَ فِي بَلَدِ زَيْلَعِ الْحَبَشَةِ هُوَ الْبَنْدُ بِزِيَادَةِ الدَّالِ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا فَمِنْ مُتَغَالٍ فِيهَا يَرَى أَنَّ شُرْبَهَا قُرْبَةٌ وَمِنْ غَالٍ يَرَى أَنَّ شُرْبَهَا مُسْكِرٌ كَالْخَمْرِ وَالْحَقُّ أَنَّهَا فِي ذَاتِهَا لَا إسْكَارَ فِيهَا وَإِنَّمَا فِيهَا تَنْشِيطٌ لِلنَّفْسِ وَيَحْصُلُ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا ضَرَاوَةٌ تُؤَثِّرُ فِي الْبَدَنِ عِنْدَ تَرْكِهَا كَمَنْ اعْتَادَ اللَّحْمَ بِالزَّعْفَرَانِ وَالْمُفْرَدَاتِ فَيَتَأَثَّرُ عِنْدَ تَرْكِهِ وَيَحْصُلُ لَهُ انْشِرَاحٌ بِاسْتِعْمَالِهِ غَيْرَ أَنَّهَا تَعْرِضُ لَهَا الْحُرْمَةُ لِأُمُورٍ ذَكَرَهَا الْحَطَّابُ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ وَاللَّقَانِيِّ فِي شَرْحِ الْجَوْهَرَةِ كَمَا فِي حَاشِيَةِ ابْنِ حَمْدُونٍ وَفِي شَرْحِ الْمَجْمُوعِ وَزُبْدَةُ مَا فِي الْحَطَّابِ أَنَّهَا فِي ذَاتِهَا مُبَاحَةٌ وَيَعْرِضُ لَهَا حُكْمُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ا هـ وَفِي تَرْوِيحِ الْجَنَانِ لِلَّكْنَوِيِّ وَالْحَقُّ فِي اسْتِعْمَالِ الْقَهْوَةِ هُوَ الْحِلُّ كَشُرْبِ الدُّخَانِ إلَّا أَنَّ حِلَّ اسْتِعْمَالِهَا خَالٍ عَنْ الْكَرَاهَةِ أَيْضًا بِخِلَافِ حِلِّ شُرْبِ الدُّخَانِ ثُمَّ نُقِلَ عَنْ شَرْحِ الْجَوْهَرَةِ لِلَّقَانِيِّ مَا نَصُّهُ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ الْإِسْكَارُ وَلَا فَسَادُ الْعَقْلِ فِي الْقَهْوَةِ بِنَفْسِهَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْفَوَائِدِ الْبَدَنِيَّةِ فَيُبَاحُ تَنَاوُلُهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مُقَارَنًا بِالْمُحَرَّمَاتِ الْخَارِجِيَّةِ كَالْإِدَارَةِ عَلَى هَيْئَةِ الْفَسَقَةِ أَوْ تَنَاوُلِهَا فِي الْأَوَانِي الْمُحَرَّمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ( الْمَسْأَلَةُ

الرَّابِعَةُ ) الأتاي عُشْبٌ يُزْرَعُ بِأَرْضِ الصِّينِ وَوَرَقُهُ وَنَبَاتُهُ كَالْقَصَبِ وَيُحْصَدُ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَوَّلُ حَصَادِهِ لِلْمَلِكِ وَهُوَ أَعْلَاهُ الثَّانِي لِلْعُمَّالِ وَالْخُدَّامِ وَالثَّالِثُ لِسَائِرِ سُكَّانِ الْبَلْدَةِ وَيَجْلِبُهُ التُّجَّارُ لِسَائِرِ الْأَقَالِيمِ وَهَذَا النَّوْعُ يَكُونُ ضَعِيفًا مِنْ حَيْثُ الْخَاصِّيَّةُ وَالتَّأْثِيرُ وَلَهُ مَنَافِعُ وَخَوَاصُّ أَلَّفَ بَعْضُهُمْ فِيهَا رِسَالَةً وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ فَحَرَّمَهُ بَعْضُ قُضَاةِ الْعَصْرِ وَأَلَّفَ فِيهِ تَأْلِيفًا سَمَّاهُ رَقَمَ الْآي فِي تَحْرِيمِ الْأَتَاي وَسُئِلَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ فَأَجَابَ أَرَى شُرْبَ الْأَتَايْ الْيَوْمَ جَرْحًا فَلَا تَبْقَى إذًا مَعَهُ الْعَدَالَهْ فَلَمْ يَحْرُمْ وَلَمْ يُكْرَهْ وَلَكِنْ رَأَيْنَا كُلَّ ذِي سَفَهٍ عِدَالَهْ وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَنْ سَلِمَ مِنْ عَوَارِضِ تَحْرِيمِهِ يَرْجِعُ فِي حَقِّهِ إلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ كَمَا فِي ابْنِ حَمْدُونٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ كَوْنِ الزَّمَانِ ظَرْفَ التَّكْلِيفِ ) ( دُونَ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ كَوْنِ الزَّمَانِ ظَرْفًا لِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ مَعَ التَّكْلِيفِ ) هَذَا الْمَوْضِعُ الْتَبَسَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ وَاخْتَلَطَتْ عَلَيْهِمْ الْقَاعِدَتَانِ فَوَرَدَتْ إشْكَالَاتٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَيَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ بِذِكْرِ ثَلَاثِ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) فِي كَوْنِ الْكُفَّارِ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مُخَاطَبُونَ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّوَاهِي فَهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا دُونَ الْأَوَامِرِ فَلَا يُخَاطَبُونَ بِهَا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ وَبِقَوَاعِدِ الدِّينِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْفُرُوعِ وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْسُوطٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهَا هَاهُنَا بَيَانُ هَذَا الْفَرْقِ خَاصَّةً بِسَبَبِ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ قَالُوا لَوْ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ لَوَجَبَتْ أَمَّا حَالَةُ الْكُفْرِ .
وَهُوَ بَاطِلٌ لِعَدَمِ صِحَّتِهَا حِينَئِذٍ أَوْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى سُقُوطِهَا بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ } وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ النُّكْتَةِ أَنْ نَقُولَ نَخْتَارُ أَنَّهَا وَجَبَتْ حَالَةَ الْكُفْرِ وَقَوْلُهُ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ قُلْنَا مُسَلَّمٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ حُصُولِ التَّكْلِيفِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَهَذَا الزَّمَانُ لِأَنَّهُ عِنْدَنَا ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ لَا لِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ لُزُومُ الصِّحَّةِ أَنْ لَوْ كَانَ هَذَا الزَّمَانُ ظَرْفًا لِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ حَتَّى نَقُولَ يَصِحُّ أَمَّا مَا لَا يُكَلَّفُ بِهِ كَيْفَ يُمْكِنُ وَصْفُهُ بِالصِّحَّةِ فَإِنَّ وَصْفَ الصِّحَّةِ تَابِعٌ لِلْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ فَحَيْثُ لَا إذْنَ لَا صِحَّةَ وَمَعْنَى كَوْنِ هَذَا الزَّمَانِ ظَرْفًا لِلتَّكْلِيفِ دُونَ

إيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ أَنَّهُ أَمْرٌ فِي زَمَنِ الْكُفْرِ أَنْ يُزِيلَهُ وَيُبَدِّلَهُ بِالْإِيمَانِ وَيَفْعَلَ الصَّلَاةَ فِي زَمَنِ الْإِسْلَامِ لَا فِي زَمَنِ الْكُفْرِ وَصَارَ زَمَنُ الْكُفْرِ ظَرْفًا لِلتَّكْلِيفِ فَقَطْ وَزَمَنُ الْإِسْلَامِ هُوَ زَمَنُ إيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ فَتَصَوَّرْنَا حِينَئِذٍ أَنَّ الزَّمَانَ قَدْ يَكُونُ ظَرْفًا لِلتَّكْلِيفِ فَقَطْ وَهَذَا الزَّمَانُ بِخِلَافِ زَمَنِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ زَمَنٌ هُوَ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ بِالصَّوْمِ وَإِيقَاعِهِ مَعًا وَكَذَلِكَ الْقَامَةُ لِلظُّهْرِ فَظَهَرَ بِهَذَا الْفَرْعِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَانْدَفَعَ بِسَبَبِ مَعْرِفَةِ الْفَرْقِ السُّؤَالُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ وَظَهَرَ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) الْمُحْدِثُ مَأْمُورٌ بِإِيقَاعِ الصَّلَاةِ وَمُخَاطَبٌ بِهَا فِي زَمَنِ الْحَدَثِ إجْمَاعًا وَالْكُفْرُ هُوَ الَّذِي وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ أَمَّا زَمَنُ الْحَدَثِ فَلَا ثُمَّ إنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى أَنَّ الْمُحْدِثَ لَا تَصِحُّ مِنْهُ الصَّلَاةُ فِي الزَّمَنِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مُحْدِثٌ بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ فِي زَمَنِ الْحَدَثِ أَنْ يُزِيلَ الْحَدَثَ وَيُبَدِّلَهُ بِالطَّهَارَةِ فَإِذَا وُجِدَ زَمَنُ الطَّهَارَةِ فَتَوَقَّعَ الصَّلَاةَ حِينَئِذٍ فَزَمَنُ الطَّهَارَةِ هُوَ زَمَنُ التَّكْلِيفِ بِإِيقَاعِ الصَّلَاةِ دُونَ زَمَنِ الْحَدَثِ وَزَمَنُ الْحَدَثِ هُوَ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ فَقَطْ فَقَدْ تَصَوَّرْنَا أَيْضًا الزَّمَانَ ظَرْفًا لِلتَّكْلِيفِ فَقَطْ دُونَ إيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَأَمَّا الزَّمَانُ الَّذِي هُوَ ظَرْفٌ لَهُمَا فَقَدْ تَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ بِرَمَضَانَ وَغَيْرِهِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) الدَّهْرِيُّ مُكَلَّفٌ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَعَ أَنَّهُ جَاحِدٌ لِلصَّانِعِ وَمَعَ جَحْدِهِ لِلصَّانِعِ يَتَعَذَّرُ مِنْهُ تَصْدِيقُ الرُّسُلِ فَزَمَنُ جَحْدِهِ لِلصَّانِعِ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ دُونَ إيقَاعِ التَّصْدِيقِ لِتَعَذُّرِهِ بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ فِي زَمَنِ الْجَهْلِ بِالصَّانِعِ أَنْ يُزِيلَ هَذَا الْجَهْلَ وَيُبَدِّلَهُ بِعِنْدِهِ وَهُوَ الْعِرْفَانُ فَإِذَا حَصَلَ

الْعِرْفَانُ بِالصَّانِعِ فَفِي ذَلِكَ الزَّمَانِ هُوَ مُكَلَّفٌ بِإِيقَاعِ التَّصْدِيقِ لِلرُّسُلِ فَالزَّمَنُ الثَّانِي فِي الْكَافِرِ وَالْمُحْدِثِ وَالدَّهْرِيِّ هُوَ زَمَنُ التَّكْلِيفِ وَإِيقَاعُ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَزَمَنُ الْكُفْرِ وَالْحَدَثِ وَجَحْدُ الصَّانِعِ هُوَ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ دُونَ إيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ فَتَأَمَّلْ الْفَرْقَ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَالسِّرَّ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ يَتَيَسَّرُ عَلَيْك الْجَوَابُ عَنْ أَسْئِلَةِ الْخُصُومِ وَشُبُهَاتِهِمْ وَهُوَ فَرْقٌ لَطِيفٌ شَرِيفٌ .

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ كَوْنِ الزَّمَانِ ظَرْفَ التَّكْلِيفِ دُونَ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ كَوْنِ الزَّمَانِ ظَرْفًا لِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ مَعَ التَّكْلِيفِ ) وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ زَمَنَ الْكُفْرِ وَالْحَدَثِ وَجَحْدِ الصَّانِعِ هُوَ ظَرْفُ التَّكْلِيفِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فِي الْكَافِرِ وَبِإِيقَاعِ الصَّلَاةِ فِي الْمُحْدِثِ وَبِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الدَّهْرِيِّ وَلَيْسَ هُوَ بِظَرْفٍ لِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ لِتَعَذُّرِهِ فِيهِ وَزَمَنُ إسْلَامِ الْكَافِرِ وَطَهَارَةُ الْمُحْدِثِ وَعِرْفَانُ الدَّهْرِيِّ بِالصَّانِعِ بَعْدُ هُوَ ظَرْفٌ لِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ مَعَ التَّكْلِيفِ وَيَتَّضِحُ هَذَا الْفَرْقُ بِذِكْرِ ثَلَاثِ مَسَائِلَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى لَا خِلَافَ فِي خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْإِيمَانِ وَبِقَوَاعِدِ الدِّينِ وَفِي خِطَابِهِمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ أَيْضًا أَقْوَالٌ ثَالِثُهَا بِالنَّوَاهِي دُونَ الْأَوَامِرِ وَحُجَّةُ الْقَائِلِ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ لَوَجَبَتْ أَمَّا حَالَةُ الْكُفْرِ وَهُوَ بَاطِلٌ لِعَدَمِ صِحَّتِهَا حِينَئِذٍ وَأَمَّا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى سُقُوطِهَا بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ } وَحُجَّةُ الْقَائِلِ بِأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ حَالَةَ الْكُفْرِ عَدَمُ حُصُولِ التَّكْلِيفِ حِينَئِذٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ وَهَذَا الزَّمَانُ عِنْدَنَا ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ لَا لِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ لُزُومُ الصِّحَّةِ أَنْ لَوْ كَانَ هَذَا الزَّمَانُ ظَرْفًا فَالْإِيقَاعُ الْمُكَلَّفُ بِهِ حَتَّى نَقُولَ يَصِحُّ أَمَّا مَا لَا يُكَلَّفُ بِإِيقَاعِهِ كَيْفَ يُمْكِنُ وَصْفُهُ بِالصِّحَّةِ وَوَصْفُ الصِّحَّةِ تَابِعٌ لِلْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ فَحَيْثُ لَا إذْنَ لَا صِحَّةَ وَمَعْنَى كَوْنِ هَذَا الزَّمَانِ ظَرْفًا لِلتَّكْلِيفِ دُونَ إيقَاعِ

الْمُكَلَّفِ بِهِ أَنَّهُ أَمْرٌ فِي زَمَنِ الْكُفْرِ أَنْ يُزِيلَهُ وَيُبَدِّلَهُ بِالْإِيمَانِ وَيَفْعَلَ الصَّلَاةَ فِي زَمَنِ الْإِسْلَامِ لَا فِي زَمَنِ الْكُفْرِ بِحَيْثُ يَصِيرُ زَمَنُ الْكُفْرِ ظَرْفًا لِلتَّكْلِيفِ فَقَطْ وَزَمَنُ الْإِسْلَامِ هُوَ زَمَنُ إيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَالتَّكْلِيفُ مَعًا كَزَمَنِ رَمَضَانَ وَالْقَامَةِ لِلظُّهْرِ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) لَا خِلَافَ فِي كَوْنِ الْمُحْدِثِ مَأْمُورًا بِإِيقَاعِ الصَّلَاةِ وَمُخَاطَبًا بِهَا فِي زَمَنِ الْحَدَثِ بِخِلَافِ الْكَافِرِ فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَارُّ إلَّا أَنَّ الْمُحْدِثَ لَا تَصِحُّ مِنْهُ الصَّلَاةُ فِي الزَّمَنِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مُحْدِثٌ إجْمَاعًا بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ فِي زَمَنِ الْحَدَثِ أَنْ يُزِيلَ الْحَدَثَ وَيُبَدِّلَهُ بِالطَّهَارَةِ فَإِذَا وَجَدَ زَمَنَ الطَّهَارَةِ أَوْقَعَ الصَّلَاةَ حِينَئِذٍ فَزَمَنُ الطَّهَارَةِ هُوَ زَمَنُ التَّكْلِيفِ بِإِيقَاعِ الصَّلَاةِ دُونَ زَمَنِ الْحَدَثِ وَزَمَنُ الْحَدَثِ هُوَ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ فَقَطْ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) الدَّهْرِيُّ مُكَلَّفٌ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَّا أَنَّ زَمَنَ جَحْدِهِ لِلصَّانِعِ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ دُونَ إيقَاعِ التَّصْدِيقِ لِتَعَذُّرِهِ بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ فِي زَمَنِ الْجَهْلِ بِالصَّانِعِ أَنْ يُزِيلَ هَذَا الْجَهْلَ وَيُبَدِّلَهُ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْعِرْفَانُ فَإِذَا حَصَلَ الْعِرْفَانُ بِالصَّانِعِ كَانَ زَمَانُ عِرْفَانِهِ بِالصَّانِعِ مُكَلَّفًا بِإِيقَاعِ التَّصْدِيقِ لِلرُّسُلِ فَتَأَمَّلْ الْفَرْقَ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَالسِّرَّ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ يَتَيَسَّرُ عَلَيْك الْجَوَابُ عَنْ أَسْئِلَةِ الْخُصُومِ وَشُبُهَاتِهِمْ وَهُوَ فَرْقٌ لَطِيفٌ شَرِيفٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ كَوْنِ الزَّمَانِ ظَرْفًا لِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ فَقَطْ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ كَوْنِ الزَّمَانِ ظَرْفًا لِلْإِيقَاعِ ) وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ سَبَبٌ لِلتَّكْلِيفِ وَالْوُجُوبِ فَيَجْتَمِعُ الطَّرَفَانِ الظَّرْفِيَّةُ وَالسَّبَبِيَّةُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْأَجْزَاءِ وَيَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ بِذِكْرِ سَبْعِ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ كَالْقَامَةِ مَثَلًا بِالنِّسْبَةِ لِلظُّهْرِ هِيَ ظَرْفٌ لِلْمُكَلَّفِ بِهِ لِوُقُوعِهِ فِيهَا وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا سَبَبٌ لِلتَّكْلِيفِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سَبَبُ التَّكْلِيفِ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ إنَّمَا هُوَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْهَا فَقَطْ لَكَانَ مَنْ بَلَغَ بَعْدَهُ أَوْ أَسْلَمَ مِنْ الْكُفَّارِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ لِتَأَخُّرِهِ عَنْ السَّبَبِ وَزَوَالُ الْمَانِعِ وَاجْتِمَاعُ الشَّرَائِطِ بَعْدَ زَوَالِ الْأَسْبَابِ لَا تُفِيدُ شَيْئًا بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّ الْبُلُوغَ إذَا جَاءَ بَعْدَهَا لَا يُحَقِّقُ وُجُوبًا فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ أَنْ يُصَادِفَ الْبُلُوغُ وَنَحْوُهُ سَبَبًا بَعْدَهُ فَوَجَبَ الظُّهْرُ عَلَى مَنْ بَلَغَ فِي الْقَامَةِ بِالْجُزْءِ الَّذِي صَادَفَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ أَرْبَابِ الْأَعْذَارِ فَظَهَرَ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْقَامَةِ مُسَاوٍ لِلزَّوَالِ فِي السَّبَبِيَّةِ وَأَنَّ مَا سَبَقَ إلَى الْفَهْمِ أَنَّ السَّبَبَ لِلظُّهْرِ إنَّمَا هُوَ الزَّوَالُ فَقَطْ لَيْسَ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّهَا كُلُّهَا ظُرُوفٌ لِلتَّكْلِيفِ وَجَمِيعُ أَجْزَائِهَا ظُرُوفٌ وَأَسْبَابٌ لَهُ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) أَيَّامُ الْأَضَاحِيّ الثَّلَاثَةُ أَوْ الْأَرْبَعَةُ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ظُرُوفٌ لِلْأَمْرِ بِالْأُضْحِيَّةِ لِوُجُودِهِ فِيهَا وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا سَبَبٌ لِلْأَمْرِ أَيْضًا بِالْأُضْحِيَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ

تَجَدَّدَ إسْلَامُهُ مِنْ الْكُفَّارِ أَوْ بُلُوغُهُ مِنْ الصِّبْيَانِ يَتَجَدَّدُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْأُضْحِيَّةِ وَكَذَلِكَ مَنْ عَتَقَ مِنْ الْعَبِيدِ وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّهُ وُجِدَ بَعْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ وَحُصُولُ الشَّرْطِ مَا هُوَ سَبَبٌ لِلْأَمْرِ بِالْأُضْحِيَّةِ وَهُوَ الْجُزْءُ الْكَائِنُ بَعْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ فَتَكُونُ كُلُّهَا ظُرُوفًا وَأَسْبَابًا لِلْأَمْرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) شَهْرُ رَمَضَانَ الْمُعَظَّمِ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ لِوُقُوعِهِ فِيهِ وَكُلُّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِهِ سَبَبٌ لِلتَّكْلِيفِ لِمَنْ اسْتَقْبَلَهُ فَمَنْ بَلَغَ أَوْ أَسْلَمَ أَوْ زَالَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَيْضُ أَوْ قَدِمَ مِنْ السَّفَرِ فَيَلْزَمُهُ لِلْيَوْمِ الَّذِي يَسْتَقْبِلُهُ وَأَمَّا أَجْزَاءُ الْيَوْمِ فَلَيْسَتْ أَسْبَابًا لِلتَّكْلِيفِ بَلْ ظُرُوفًا لَهُ بِدَلِيلِ حُصُولِ التَّكْلِيفِ فِيهَا وَعَدَمُ التَّكْلِيفِ فِيهَا عَلَى مَنْ بَلَغَ فِي بَعْضِ يَوْمٍ أَوْ أَسْلَمَ وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَجْزَاءِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَأَجْزَاءِ شَهْرِ الصَّوْمِ أَنَّ مُطْلَقَ الْجُزْءِ كَيْفَ كَانَ وَإِنْ قَلَّ مَا لَمْ يَنْقُصْ عَنْ زَمَنٍ يَسَعُ إيقَاعُ رَكْعَةٍ سَبَبُ التَّكْلِيفِ فَإِنْ نَقَصَ عَنْ زَمَنِ رَكْعَةِ فَعِنْدَ مَالِكٍ لَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ وَعِنْدَ غَيْرِهِ يَجِبُ بِأَقَلَّ مِنْ إدْرَاكِ رَكْعَةٍ وَيُحْكَى عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَمَّا أَجْزَاءُ شَهْرِ الصَّوْمِ فَلَا بُدَّ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ أَنْ يَكُونَ يَوْمًا كَامِلًا فَهُوَ وِزَانُ زَمَنٍ يَسَعُ رَكْعَةً عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ مِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ الظَّرْفِيَّةُ وَالسَّبَبِيَّةُ فَنَذْكُرُ ثَلَاثًا أُخَرَ مِمَّا هُوَ ظَرْفٌ فَقَطْ .
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) قَضَاءُ رَمَضَانَ يَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا إلَى شَعْبَانَ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ كَمَا تَجِبُ الظُّهْرُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا مِنْ أَوَّلِ الْقَامَةِ إلَى آخِرِهَا غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الشُّهُورَ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ بِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ دُونَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا سَبَبًا

لِلتَّكْلِيفِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ زَالَ عُذْرُهُ فِيهَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَإِنَّمَا السَّبَبُ فِي وُجُوبِ هَذَا الصَّوْمِ أَجْزَاءُ رَمَضَانَ السَّابِقِ فَكُلُّ يَوْمٍ هُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ فِي يَوْمٍ آخَرَ مِنْ هَذِهِ الشُّهُورِ إذَا لَمْ يَصُمْ فِيهِ وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ هُوَ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ فَقَطْ بَلْ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ سَبَبٌ لِجَعْلِ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ وَظَرْفًا لَهُ فَيَصِيرُ سَبَبُ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ كُلَّ يَوْمٍ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْإِيقَاعِ فِيهِ وَتَفْوِيتُهُ سَبَبًا لِلصَّوْمِ فِي يَوْمٍ آخَرَ مِنْ هَذِهِ الشُّهُورِ فَقَطْ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَقَلَّ مَنْ يَتَفَطَّنُ لَهُ بَلْ يَعْتَقِدُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ سَبَبَ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ هُوَ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ فَقَطْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ سَبَبٌ لِسَبَبِيَّةِ ثَلَاثِينَ سَبَبًا لِلْقَضَاءِ وَهِيَ ثَلَاثُونَ تَرْكًا إنْ وَقَعَتْ أَوْ بَعْضُهَا وَسَبَبٌ لِوُجُوبِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مُسَبَّبَاتٌ فَقَطْ لَا أَسْبَابٌ فَصَارَتْ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ يَتَعَلَّقُ بِهَا سِتُّونَ يَوْمًا ثَلَاثُونَ يَوْمًا مُسَبَّبَاتُ صَوْمٍ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا أَسْبَابُ تُرُوكٍ هَذَا تَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَظَهَرَ أَنَّ شُهُورَ الْقَضَاءِ ظُرُوفٌ لِلتَّكْلِيفِ لَا أَسْبَابٌ لَهُ ( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) جَمِيعُ الْعُمْرِ ظَرْفٌ لِوُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِإِيقَاعِ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ لِوُجُودِ التَّكْلِيفِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ سَبَبًا لِلتَّكْلِيفِ بِالْكَفَّارَةِ أَوْ النَّذْرِ بَلْ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ يَمِينٍ أَوْ غَيْرِهِ وَسَبَبُ لُزُومِ النَّذْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الِالْتِزَامِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
( الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ ) شُهُورُ الْعِدَدِ ظُرُوفٌ لِلتَّكْلِيفِ بِالْعِدَّةِ لِوُجُودِهِ فِيهَا وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا سَبَبًا لِلتَّكْلِيفِ بِالْعِدَّةِ بَلْ سَبَبُ لُزُومِ الْعِدَّةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْوَفَاةِ أَوْ الطَّلَاقِ وَهَذِهِ الشُّهُورُ تُشْبِهُ شُهُورَ قَضَاءِ رَمَضَانَ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ السَّبَبِيَّةِ

وَتُفَارِقُهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ شُهُورَ الْعِدَّةِ التَّكْلِيفُ فِيهَا مُضَيَّقٌ وَالْوُجُوبُ فِي شُهُورِ قَضَاءِ رَمَضَانَ مُوَسَّعٌ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْفُرُوقَ وَإِذَا تَقَرَّرَتْ مَسَائِلُ الْقِسْمَيْنِ فَاذْكُرْ مَسْأَلَةً مُرَكَّبَةً مِنْ الْقِسْمَيْنِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ فَأَقُولُ ( الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ ) زَكَاةُ الْفِطْرِ اُخْتُلِفَ فِيهَا مَتَى تَجِبُ قِيلَ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ آخِرَ أَيَّامِ رَمَضَانَ وَقِيلَ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْفِطْرِ وَقِيلَ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْهُ وَقِيلَ تَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ آخِرَ أَيَّامِ رَمَضَانَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ يَوْمَ الْفِطْرِ وَقَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ تَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا مِنْ الْغُرُوبِ إلَى الْغُرُوبِ مَعْنَاهُ إنَّهُ لَا يَأْثَمُ إلَّا بَعْدَ الْغُرُوبِ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْمَنْقُولُ عَنْ صَاحِبِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ يَوْمَ الْفِطْرِ وَأَنَّهُ إنَّمَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ بَعْدَ الْغُرُوبِ يَوْمَ الْفِطْرِ وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْقَوْلِ الرَّابِعِ وَقَدْ عَسُرَ الْفَرْقُ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَائِلَ الْأَوَّلَ يَقُولُ غُرُوبُ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الصَّوْمِ سَبَبٌ وَمَا بَعْدَهُ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ فَقَطْ وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الزَّمَانِ سَبَبًا لِلتَّكْلِيفِ وَالْقَائِلُ الرَّابِعُ يَقُولُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ الْغُرُوبِ إلَى الْغُرُوبِ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ وَسَبَبٌ لَهُ فَقَدْ اشْتَرَكَا فِي التَّوْسِعَةِ لَكِنْ تَوْسِعَةُ الْأَوَّلِ كَتَوْسِعَةِ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَتَوْسِعَةُ الثَّانِي كَتَوْسِعَةِ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّوْسِعَتَيْنِ قَدْ تَقَدَّمَ وَأَنَّ التَّوْسِعَةَ قَدْ تَسْتَمِرُّ فِيهَا السَّبَبِيَّةُ وَقَدْ لَا تَسْتَمِرُّ وَيَتَخَرَّجُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَنْ بَلَغَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَوْ عَتَقَ أَوْ أَسْلَمَ فَإِنَّهُ

يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي كَاَلَّذِي يَبْلُغُ فِي أَثْنَاءِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَلَا يُتَّجَهُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ كَمَنْ بَلَغَ فِي شُهُورِ قَضَاءِ الصَّوْمِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمَهُ إلَّا مَنْ عَلِمَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَقَدْ تَلَخَّصَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ تَلْخِيصًا ظَاهِرًا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى .

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ كَوْنِ الزَّمَانِ ظَرْفًا لِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ فَقَطْ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ كَوْنِ الزَّمَانِ ظَرْفًا لِلْإِيقَاعِ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ سَبَبٌ لِلتَّكْلِيفِ وَالْوُجُوبِ فَيَجْتَمِعُ الطَّرَفَانِ الظَّرْفِيَّةُ وَالسَّبَبِيَّةُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْأَجْزَاءِ ) وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامٍ مَا عَدَا رَمَضَانَ مِنْ الشُّهُورِ مَثَلًا ظَرْفٌ لِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَهُوَ وُجُوبُ قَضَاءِ رَمَضَانَ وُجُوبًا مُوَسَّعًا دُونَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْأَيَّامِ سَبَبًا لِلتَّكْلِيفِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ زَالَ عُذْرُهُ فِيهَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَرُؤْيَةُ هِلَالِ رَمَضَانَ سَبَبٌ لِجَعْلِ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الصَّوْمِ وَظَرْفًا لَهُ بِحَيْثُ إنَّ مَنْ بَلَغَ أَوْ أَسْلَمَ أَوْ زَالَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَيْضُ أَوْ قَدِمَ مِنْ السَّفَرِ يَلْزَمُهُ صَوْمُ الْيَوْمِ الَّذِي يَسْتَقْبِلُهُ فَيَصِيرُ سَبَبُ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ كُلَّ يَوْمٍ سَبَبًا لِوُجُوبِ إيقَاعِ الصَّوْمِ فِيهِ وَتَفْوِيتُ الْإِيقَاعِ فِيهِ سَبَبًا لِلصَّوْمِ فِي يَوْمٍ آخَرَ مِمَّا عَدَا رَمَضَانَ مِنْ الشُّهُورِ فَقَطْ وَيُوَضِّحُ لَك هَذَا الْفَرْقَ سَبْعُ مَسَائِلَ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا مِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ الظَّرْفِيَّةُ وَالسَّبَبِيَّةُ وَثَلَاثَةٌ مِنْهَا مِمَّا انْفَرَدَ فِيهِ الظَّرْفِيَّةُ عَنْ السَّبَبِيَّةِ وَالسَّابِعَةُ مِمَّا تَحْتَمِلُهُمَا أَمَّا مَسَائِلُ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ الظَّرْفِيَّةُ وَالسَّبَبِيَّةُ فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ كَالْقَامَةِ مَثَلًا بِالنِّسْبَةِ لِلظُّهْرِ هِيَ ظَرْفٌ لِلْمُكَلَّفِ بِهِ لِوُقُوعِهِ فِيهَا وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا لَا الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْهَا الَّذِي هُوَ الزَّوَالُ فَقَطْ كَمَا تَوَهَّمَ سَبَبٌ لِلتَّكْلِيفِ إذْ لَوْ كَانَ سَبَبُ التَّكْلِيفِ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ هُوَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْهَا فَقَطْ لَكَانَ مَنْ بَلَغَ بَعْدَهُ أَوْ أَسْلَمَ مِنْ الْكُفَّارِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ لِتَأَخُّرِهِ عَنْ السَّبَبِ وَلَا يُفِيدُ شَيْئًا

زَوَالُ الْمَانِعِ وَاجْتِمَاعُ الشَّرَائِطِ بَعْدَ زَوَالِ الْأَسْبَابِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْبُلُوغَ إذَا جَاءَ بَعْدَ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ لَا يُحَقِّقُ وُجُوبًا وَإِنَّمَا يُحَقِّقُهُ إذَا صَادَفَ سَبَبًا بَعْدَهُ كَمَنْ بَلَغَ فِي الْقَامَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الظُّهْرُ بِالْجُزْءِ الَّذِي صَادَفَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ أَرْبَابِ الْأَعْذَارِ فَظَهَرَ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْقَامَةِ مُسَاوٍ لِلزَّوَالِ فِي السَّبَبِيَّةِ وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا ظُرُوفٌ لِلتَّكْلِيفِ وَجَمِيعُ أَجْزَائِهَا ظُرُوفٌ وَأَسْبَابٌ لَهُ ( وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) أَيَّامُ الْأَضَاحِيّ الثَّلَاثَةِ أَوْ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ظُرُوفٌ لِلْأَمْرِ بِالْأُضْحِيَّةِ لِوُجُودِهِ فِيهَا وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا سَبَبٌ لِلْأَمْرِ بِالْأُضْحِيَّةِ أَيْضًا بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ تَجَدَّدَ إسْلَامُهُ مِنْ الْكُفَّارِ أَوْ بُلُوغُهُ مِنْ الصِّبْيَانِ يَتَجَدَّدُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْأُضْحِيَّةِ وَكَذَلِكَ مَنْ عَتَقَ مِنْ الْعَبِيدِ وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّهُ وُجِدَ بَعْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ وَحُصُولُ الشَّرْطِ مَا هُوَ سَبَبٌ لِلْأَمْرِ بِالْأُضْحِيَّةِ وَهُوَ الْجُزْءُ الْكَائِنُ بَعْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ فَتَكُونُ كُلُّهَا ظُرُوفًا وَأَسْبَابًا لِلْأَمْرِ بِالْأُضْحِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) شَهْرُ رَمَضَانَ الْمُعَظَّمُ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ لِوُقُوعِهِ فِيهِ وَكُلُّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِهِ سَبَبٌ لِلتَّكْلِيفِ لِمَنْ اسْتَقْبَلَهُ فَمَنْ أَسْلَمَ أَوْ بَلَغَ أَوْ قَدِمَ مِنْ السَّفَرِ أَوْ زَالَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَيْضُ فَيَلْزَمُهُ صَوْمُ الْيَوْمِ الَّذِي يَسْتَقْبِلُهُ وَأَمَّا أَجْزَاءُ الْيَوْمِ الَّذِي زَالَ فِيهِ الْمَانِعُ فَلَيْسَتْ أَسْبَابًا لِلتَّكْلِيفِ بَلْ ظُرُوفًا لَهُ بِدَلِيلِ حُصُولِ التَّكْلِيفِ فِيهَا وَعَدَمُ التَّكْلِيفِ بِهَا عَلَى مَنْ بَلَغَ فِي بَعْضِ يَوْمٍ أَوْ أَسْلَمَ فَظَهَرَ بِهَذَا حُصُولُ الْفَرْقِ بَيْنَ أَجْزَاءِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَأَجْزَاءِ شَهْرِ

الصَّوْمِ بِأَنَّ مُطْلَقَ الْجُزْءِ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ كَيْفَ كَانَ وَإِنْ قَلَّ مَا لَمْ يَنْقُصْ عَنْ زَمَنٍ يَسَعُ إيقَاعَ رَكْعَةِ سَبَبِ التَّكْلِيفِ فَإِنْ نَقَصَ عَنْ زَمَنِ رَكْعَةٍ فَعِنْدَ مَالِكٍ لَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ وَعِنْدَ غَيْرِهِ يَجِبُ بِأَقَلَّ مِنْ إدْرَاكِ رَكْعَةٍ وَيُحْكَى عَنْ الشَّافِعِيِّ وَلَا بُدَّ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ شَهْرِ الصَّوْمِ أَنْ يَكُونَ يَوْمًا كَامِلًا فَالْيَوْمُ الْكَامِلُ مِنْ شَهْرِ الصَّوْمِ وِزَانُ زَمَنٍ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ يَسَعُ رَكْعَةً عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَمَّا مَسَائِلُ مَا انْفَرَدَ فِيهِ الظَّرْفِيَّةُ عَنْ السَّبَبِيَّةِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَضَاءُ رَمَضَانَ وَإِنْ وَجَبَ وُجُوبًا مُوَسَّعًا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامٍ مَا عَدَا رَمَضَانَ مِنْ الشُّهُورِ كَمَا تَجِبُ الظُّهْرُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ أَوَّلِ الْقَامَةِ إلَى آخِرِهَا إلَّا أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ شُهُورٍ مَا عَدَا رَمَضَانَ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ بِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ لَا سَبَبٌ لِلتَّكْلِيفِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ زَالَ عُذْرُهُ فِي أَيِّ يَوْمٍ مِنْهَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْقَامَةِ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ بِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَسَبَبٌ لِلتَّكْلِيفِ بِالْأَدَاءِ فِيهِ وَالْقَضَاءُ بَعْدَ فَوَاتِ الْقَامَةِ كَمَا عَرَفْت وَكَذَا كُلُّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ بِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَسَبَبٌ لِلتَّكْلِيفِ بِالْأَدَاءِ فِيهِ وَالْقَضَاءُ بَعْدَ فَوَاتِهِ فِي يَوْمٍ مِمَّا عَدَا رَمَضَانَ مِنْ الشُّهُورِ إلَّا أَنَّ جُزْءَ الْيَوْمِ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ وَإِنْ كَانَ ظَرْفًا لِلتَّكْلِيفِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لَهُ بِدَلِيلِ حُصُولِ التَّكْلِيفِ فِيهِ وَعَدَمِ التَّكْلِيفِ بِهِ عَلَى مَنْ بَلَغَ فِي بَعْضِ يَوْمٍ أَوْ أَسْلَمَ وَأَيُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْقَامَةِ مَثَلًا وَإِنْ قَلَّ مَا لَمْ يَنْقُصْ عَمَّا يَسَعُ إيقَاعُ رَكْعَةٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ غَيْرِنَا وَإِنْ نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ سَبَبُ التَّكْلِيفِ بِلَا دَاءٍ فِيهِ وَالْقَضَاءُ بَعْدَ فَوَاتِهِ كَمَا عَلِمْت وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ يَوْمٍ

كَامِلٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ وَظَرْفٌ لَهُ وَتَفْوِيتُهُ سَبَبٌ لِلصَّوْمِ فِي يَوْمٍ آخَرَ مِنْ أَيَّامٍ مَا عَدَا رَمَضَانَ مِنْ الشُّهُورِ وِزَانُ زَمَنٍ يَسَعُ رَكْعَةً أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا عَلَى الْخِلَافِ مِنْ أَزْمَانِ الْقَامَةِ مَثَلًا وَالسَّبَبُ فِي جَعْلِ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ وَظَرْفًا لَهُ وَتَفْوِيتُهُ سَبَبًا لِلصَّوْمِ فِي يَوْمٍ آخَرَ مِمَّا عَدَا رَمَضَانَ مِنْ الشُّهُورِ وَهُوَ رُؤْيَةُ هِلَالِ رَمَضَانَ فَرُؤْيَةُ الْهِلَالِ لَيْسَتْ سَبَبَ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُعْتَقَدُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ بَلْ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ سَبَبٌ لِسَبَبِيَّةِ ثَلَاثِينَ سَبَبًا لِلْقَضَاءِ وَهِيَ ثَلَاثُونَ تَرْكًا إنْ وَقَعَتْ هِيَ أَوْ بَعْضُهَا وَسَبَبٌ لِوُجُوبِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مُسَبَّبَاتٌ فَقَطْ لَا أَسْبَابٌ فَصَارَتْ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ يَتَعَلَّقُ بِهَا سِتُّونَ يَوْمًا ثَلَاثُونَ يَوْمًا مُسَبَّبَاتُ صَوْمٍ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا أَسْبَابُ تُرُوكٍ فَافْهَمْ هَذَا التَّحْقِيقَ وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ جَمِيعُ الْعُمْرِ ظَرْفٌ لِوُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِإِيقَاعِ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ لِوُجُودِ التَّكْلِيفِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ سَبَبًا لِلتَّكْلِيفِ بِالْكَفَّارَةِ أَوْ النَّذْرِ بَلْ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ يَمِينٍ أَوْ غَيْرِهِ وَسَبَبُ لُزُومِ النَّذْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الِالْتِزَامِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ( وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) شُهُورُ الْعِدَدِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ كَشُهُورِ قَضَاءِ رَمَضَانَ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ السَّبَبِيَّةِ فَهِيَ ظُرُوفٌ لِلتَّكْلِيفِ بِالْعِدَّةِ لِوُجُودِهِ فِيهَا وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا سَبَبًا لِلتَّكْلِيفِ بِالْعِدَّةِ بَلْ سَبَبُ لُزُومِ الْعِدَّةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْوَفَاةِ أَوْ الطَّلَاقِ إلَّا أَنَّ شُهُورَ الْعِدَدِ تُفَارِقُ شُهُورَ قَضَاءِ رَمَضَانَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّكْلِيفَ فِيهَا مُضَيَّقٌ وَالْوُجُوبُ فِي شُهُورِ قَضَاءِ رَمَضَانَ مُوَسَّعٌ وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ الَّتِي تَحْتَمِلُهُمَا فَهِيَ أَنَّ فِي وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ آخِرَ

أَيَّامِ رَمَضَانَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ يَوْمَ الْفِطْرِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا أَوْ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ آخِرَ أَيَّامِ رَمَضَانَ أَوْ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْفِطْرِ أَوْ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ أَقْوَالٌ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ يَوْمَ الْفِطْرِ وَإِنَّمَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ بَعْدَ الْغُرُوبِ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْمَنْقُولُ عَنْ الْقَائِلِ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ مُقَابِلِهِ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ إلَّا بَعْدَ الْغُرُوبِ يَوْمَ الْفِطْرِ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْقَائِلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَقُولُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ الْغُرُوبِ إلَى الْغُرُوبِ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ وَسَبَبٌ لَهُ وَالْقَائِلُ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ مُقَابِلِهِ يَقُولُ غُرُوبُ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الصَّوْمِ سَبَبٌ وَمَا بَعْدَهُ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ فَقَطْ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَجْزَائِهِ سَبَبًا لِلتَّكْلِيفِ فَهُمَا وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي التَّوْسِعَةِ إلَّا أَنَّ التَّوْسِعَةَ فِي الْأَوَّلِ كَتَوْسِعَةِ صَلَاةِ الظُّهْرِ تَسْتَمِرُّ فِيهَا السَّبَبِيَّةُ وَفِي الثَّانِي كَتَوْسِعَةِ قَضَاءِ رَمَضَانَ لَا تَسْتَمِرُّ فِيهَا السَّبَبِيَّةُ .
وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ فِيمَنْ بَلَغَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَوْ عَتَقَ أَوْ أَسْلَمَ فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ كَاَلَّذِي يَبْلُغُ فِي أَثْنَاءِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَلَا يُتَّجَهُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ مُقَابِلِهِ كَمَنْ بَلَغَ فِي شُهُورِ قَضَاءِ الصَّوْمِ فَافْهَمْ هَذِهِ الْفُرُوقَ تَنْفَعْك وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ اللُّزُومِ الْجُزْئِيِّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ اللُّزُومِ الْكُلِّيِّ ) اعْلَمْ أَنَّهُ إذَا لَزِمَ شَيْءٌ شَيْئًا فَقَدْ يَكُونُ لُزُومُهُ كُلِّيًّا عَامًّا وَقَدْ يَكُونُ جُزْئِيًّا خَاصًّا وَضَابِطُ اللُّزُومِ الْكُلِّيِّ الْعَامِّ أَنْ يَكُونَ الرَّبْطُ بَيْنَهُمَا وَاقِعًا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ وَعَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ الْمُمْكِنَةِ كَلُزُومِ الزَّوْجِيَّةِ لِلْعِشْرَةِ فَمَا مِنْ حَالَةٍ تَعْرِضُ وَلَا زَمَانٍ وَلَا تَقْدِيرٍ يُقَدَّرُ مِنْ التَّقَادِيرِ الْمُمْكِنَةِ إلَّا وَالزَّوْجِيَّةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لَازِمَةٌ لِلْعِشْرَةِ وَقَدْ يَكُونُ اللُّزُومُ كُلِّيًّا عَامًّا فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ كَقَوْلِنَا كُلَّمَا كَانَ زَيْدٌ يَكْتُبُ فَهُوَ يُحَرِّكُ يَدَهُ أَيْ مَا مِنْ حَالَةٍ تَعْرِضُ وَلَا زَمَانٍ مَا يُشَارُ إلَيْهِ وَزَيْدٌ يَكْتُبُ إلَّا وَهُوَ يُحَرِّكُ يَدَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَفِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَاللُّزُومُ بَيْنَ كِتَابَتِهِ وَحَرَكَةِ يَدِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ وَالشَّخْصُ وَاحِدٌ فَهَذَا هُوَ اللُّزُومُ الْكُلِّيُّ وَاللُّزُومُ الْجُزْئِيُّ هُوَ لُزُومُ الشَّيْءِ لِلشَّيْءِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ أَوْ بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ دُونَ بَعْضٍ وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِسُؤَالٍ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الطَّهَارَةَ الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ مَثَلًا إذَا حَصَلَتْ أَغْنَتْ عَنْ الْوُضُوءِ وَجَازَتْ بِهَا الصَّلَاةُ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ وُضُوءٍ فَقَالَ هَذَا السَّائِلُ أَنْتُمْ جَعَلْتُمْ الطَّهَارَةَ الصُّغْرَى لَازِمَةً لِلطَّهَارَةِ الْكُبْرَى وَالْقَاعِدَةُ الْعَقْلِيَّةُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ انْتِفَاءُ الْمَلْزُومِ فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا مِنْ انْتِفَاءِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى انْتِفَاءُ الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى فَإِذَا أَحْدَثَ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ تَنْتِفِي الطَّهَارَةُ الْكُبْرَى بَعْدَ انْتِفَاءِ الصُّغْرَى فَيَلْزَمُهُ الْغُسْلُ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَيَلْزَمُ الْفُقَهَاءُ بِقَوْلِهِمْ إنَّ الطَّهَارَةَ الصُّغْرَى لَازِمَةٌ لِلطَّهَارَةِ

الْكُبْرَى أَمَّا مُخَالَفَةُ الْقَاعِدَةِ الْعَقْلِيَّةِ بِأَنْ لَا يَلْزَمَ مِنْ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ انْتِفَاءُ الْمَلْزُومِ إنْ أَبْقَوْا الطَّهَارَةَ الْكُبْرَى بَعْدَ انْتِفَاءِ الصُّغْرَى .
وَأَمَّا مُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ إنْ أَوْجَبُوا الْغُسْلَ بِخُرُوجِ الرِّيحِ أَوْ الْغَائِطِ أَوْ الْمُلَامَسَةِ وَكِلْتَا الْقَاعِدَتَيْنِ لَا سَبِيلَ إلَى مُخَالَفَتِهِمَا فَلَا سَبِيلَ إلَى الْقَوْلِ بِلُزُومِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى لِلطَّهَارَةِ الْكُبْرَى هَذَا تَقْرِيرُ السُّؤَالِ وَهُوَ سُؤَالٌ قَوِيٌّ حَسَنٌ يَحْتَاجُ الْجَوَابُ عَنْهُ إلَى مَعْرِفَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ وَمَنْ جَهِلَ هَذَا الْفَرْقَ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ وَانْسَدَّ عَلَيْهِ الْبَابُ بِالْكُلِّيَّةِ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنْ نَقُولَ اللُّزُومُ بَيْنَ الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى جُزْئِيٌّ لَا كُلِّيٌّ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُغْتَسِلَ إذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ نَاقِضٌ فِي أَثْنَاءِ غُسْلِهِ لَزِمَ غُسْلَهُ ذَلِكَ الْوُضُوءُ فِي الِابْتِدَاءِ فَقَطْ دُونَ الدَّوَامِ فَاللُّزُومُ بِهَذَا الشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ طَرَءَانِ النَّاقِضِ فِي أَثْنَاءِ الْغُسْلِ حَالَةٌ خَاصَّةٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ وَحَالَةُ دَوَامِ الْغُسْلِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَحْوَالِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهَا لُزُومٌ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ انْتِفَاءُ الْمَلْزُومِ إلَّا فِي الْحَالَةِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا اللُّزُومُ فَلَا جَرَمَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِاللُّزُومِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِبَقَاءِ الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى دُونَ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى بَلْ إنَّمَا قَالَ بِهِ فِي حَالَةِ الدَّوَامِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا لُزُومٌ فَانْتِفَاءُ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَقْدَحُ فِي انْتِفَاءِ الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى لِأَنَّ انْتِفَاءَ مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ لَا يَقْدَحُ إنَّمَا يَقْدَحُ انْتِفَاءُ مَا هُوَ لَازِمٌ وَالطَّهَارَةُ الصُّغْرَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَتْ لَازِمَةً فَلَا يَضُرُّ انْتِفَاؤُهَا وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي اللُّزُومِ الْجُزْئِيِّ كُلُّ مُؤَثِّرٍ مَعَ أَثَرِهِ فَإِنَّ

الْمُؤَثِّرَ يَجِبُ حُضُورُهُ حَالَةَ وُجُودِ أَثَرِهِ وَهُوَ زَمَنُ حُدُوثِهِ دُونَ مَا بَعْدَ زَمَنِ الْحُدُوثِ فَكُلُّ بِنَاءٍ يَلْزَمُهُ الْبِنَاءُ حَالَةَ الْبِنَاءِ دُونَ مَا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ يَمُوتُ الْبِنَاءُ وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ الْبِنَاءِ وَكَذَلِكَ النَّاسِجُ مَعَ نَسْجِهِ وَكُلُّ مُؤَثِّرٍ مَعَ أَثَرِهِ لُزُومُهُ جُزْئِيٌّ فِي حَالَةِ الْحُدُوثِ فَقَطْ فَلَا جَرَمَ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْمُؤَثِّرِ بَعْدَ ذَلِكَ عَدَمُ الْأَثَرِ لِأَنَّ الْعَدَمَ فِي تِلْكَ الْحَالِ عَدَمٌ لِمَا لَيْسَ بِلَازِمٍ وَعَدَمُ مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ لَا يَقْدَحُ لَا عَقْلًا وَلَا عَادَةً وَلَا شَرْعًا فَكَذَلِكَ هَاهُنَا اللُّزُومُ جُزْئِيٌّ فِي حَالَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فَعَدَمُ اللُّزُومِ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يَقْدَحُ .
وَقَوْلُهُمْ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اللَّازِمِ عَدَمُ الْمَلْزُومِ إنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ حَيْثُ قُضِيَ بِاللُّزُومِ إمَّا عَامًّا وَإِمَّا خَاصًّا إمَّا فِي الصُّورَةِ الَّتِي لَمْ يَقْضِ فِيهَا بِاللُّزُومِ فَلَا وَنَظِيرُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَيْضًا قَوْلُهُمْ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الشَّرْطِ عَدَمُ الْمَشْرُوطِ إنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا شَرْطٌ أَمَّا لَوْ كَانَ شَرْطًا فِي حَالَةٍ دُونَ حَالَةٍ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِهِ فِي صُورَةٍ مَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهَا عَدَمُ الْمَشْرُوطِ كَمَا تَقُولُ فِي الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي بَعْضِ صُوَرِ الصَّلَاةِ وَهِيَ صُورَةُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ وَعَلَى اسْتِعْمَالِهِ فَلَا جَرَمَ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ عَدَمُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صُورَةِ عَدَمِ الْمَاءِ أَوْ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فَلَا جَرَمَ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ عَدَمُ الْمَشْرُوطِ لِعَدَمِ الشَّرْطِيَّةِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ فَالشَّرْطُ وَاللَّازِمُ فِي هَذَا الْبَابِ سَوَاءٌ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ .

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ اللُّزُومِ الْجُزْئِيِّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ اللُّزُومِ الْكُلِّيِّ ) .
وَذَلِكَ أَنَّ ضَابِطَ اللُّزُومِ الْكُلِّيِّ الْعَامِّ أَنْ يَكُونَ الرَّبْطُ بَيْنَهُمَا وَاقِعًا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ وَعَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ الْمُمْكِنَةِ وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْمَنَاطِقَةِ بِاللُّزُومِ الْبَيِّنِ أَمَّا بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ تَصَوُّرِ الْمَلْزُومِ تَصَوُّرُ اللَّازِمِ كَلُزُومِ الزَّوْجِيَّةِ لِلْعِشْرَةِ وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ تَصَوُّرِ الْمَلْزُومِ وَاللَّازِمِ مَعًا الْجَزْمُ بِاللُّزُومِ سَوَاءٌ كَفَى تَصَوُّرُ الْمَلْزُومِ فِي تَصَوُّرِ اللَّازِمِ أَوْ لَمْ يَكْفِ تَصَوُّرُهُ فِي تَصَوُّرِهِ بَلْ لَا بُدَّ فِي الْجَزْمِ بِاللُّزُومِ مِنْ تَصَوُّرِهِمَا مَعًا كَلُزُومِ قَبُولِ الْعِلْمِ وَصَنْعَةِ الْكِتَابَةِ لِلْإِنْسَانِ ثُمَّ إنَّ اللُّزُومَ الْكُلِّيَّ الْعَامَّ يَكُونُ لِلْمَاهِيَّةِ كَمَا ذُكِرَ وَقَدْ يَكُونُ لِلشَّخْصِ الْوَاحِدِ فِي حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِهِ كَلُزُومِ حَرَكَةِ الْيَدِ لِزَيْدٍ فِي حَالَةِ كِتَابَتِهِ فَكُلَّمَا كَانَ زَيْدٌ يَكْتُبُ فَهُوَ يُحَرِّكُ يَدَهُ أَيْ مَا مِنْ حَالَةٍ تَعْرِضُ وَلَا زَمَانٍ مَا يُشَارُ إلَيْهِ وَزَيْدٌ يَكْتُبُ إلَّا وَهُوَ يُحَرِّكُ يَدَهُ فَاللُّزُومُ بَيْنَ كِتَابَتِهِ وَحَرَكَةِ يَدِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ وَضَابِطُ اللُّزُومِ الْجُزْئِيِّ أَنْ يَكُونَ لُزُومُ الشَّيْءِ لِلشَّيْءِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ أَوْ بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ دُونَ بَعْضٍ وَهُوَ الْمُرَادُ بِاللُّزُومِ فِي الْجُمْلَةِ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ الْبَيَانِيِّينَ فِي الْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ كَلُزُومِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى لِلطَّهَارَةِ الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ مَثَلًا بِمَعْنَى أَنَّ الطَّهَارَةَ الْكُبْرَى إذَا حَصَلَتْ أَغْنَتْ عَنْ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى الَّتِي هِيَ الْوُضُوءُ وَجَازَتْ بِهَا الصَّلَاةُ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ وُضُوءٍ كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ لَكِنْ لَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ حَتَّى يُقَالَ إنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى

قَوْلِ الْفُقَهَاءِ الْمَذْكُورِ أَمَّا مُخَالَفَةُ الْقَاعِدَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَهِيَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ انْتِفَاءُ الْمَلْزُومِ بِأَنْ لَا يَلْزَمَ مِنْ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ انْتِفَاءُ الْمَلْزُومِ أَنْ أَبْقَوْا الطَّهَارَةَ الْكُبْرَى بَعْدَ انْتِفَاءِ الصُّغْرَى إذَا أَحْدَثَ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ وَأَمَّا مُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ بِعَدَمِ انْتِفَاءِ الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى بَعْدَ انْتِفَاءِ الصُّغْرَى إذَا أَحْدَثَ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ إنْ أَوْجَبُوا الْغُسْلَ بِخُرُوجِ الرِّيحِ أَوْ الْغَائِطِ أَوْ الْمُلَامَسَةِ .
وَكِلْتَا الْقَاعِدَتَيْنِ لَا سَبِيلَ إلَى مُخَالَفَتِهِمَا فَلَا سَبِيلَ إلَى الْقَوْلِ بِلُزُومِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى لِلطَّهَارَةِ الْكُبْرَى بَلْ مُرَادُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ لُزُومَ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى لِلطَّهَارَةِ الْكُبْرَى مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَقَعْ مِنْ الْمُغْتَسِلِ نَاقِضٌ فِي أَثْنَاءِ غُسْلِهِ بِمَعْنَى أَنَّ لُزُومَ الْوُضُوءِ لِلْغُسْلِ فِي الِابْتِدَاءِ فَقَطْ دُونَ الدَّوَامِ فَاللُّزُومُ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ طَرَءَانِ النَّاقِضِ فِي أَثْنَاءِ الْغُسْلِ فَهُوَ فِي حَالَةٍ خَاصَّةٍ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ وَلَا يَحْصُلُ فِي حَالَةِ دَوَامِ الْغُسْلِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَحْوَالِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ انْتِفَاءُ الْمَلْزُومِ إلَّا فِي الْحَالَةِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا اللُّزُومُ فَلَا جَرَمَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِاللُّزُومِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِبَقَاءِ الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى دُونَ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى بَلْ إنَّمَا قَالَ بِهِ فِي حَالَةِ الدَّوَامِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا لُزُومٌ فَانْتِفَاءُ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَقْدَحُ إذْ لَا يَقْدَحُ الِانْتِفَاءُ مَا هُوَ لَازِمٌ وَالطَّهَارَةُ الصُّغْرَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَتْ لَازِمَةً فَلَا يَضُرُّ انْتِفَاؤُهَا وَمِنْ أَمْثِلَةِ اللُّزُومِ الْجُزْئِيِّ أَيْضًا لُزُومُ الْمُؤَثِّرِ لِأَثَرِهِ زَمَنَ حُدُوثِ ذَلِكَ الْأَثَرِ دُونَ مَا بَعْدَ زَمَنِ الْحُدُوثِ فَكُلُّ بِنَاءٍ يَلْزَمُهُ الْبِنَاءُ حَالَةَ الْبِنَاءِ دُونَ مَا بَعْدَ

ذَلِكَ فَقَدْ يَمُوتُ الْبِنَاءُ وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ الْبِنَاءِ وَكَذَلِكَ النَّاسِجُ مِنْ نَسْجِهِ فَعَدَمُ اللُّزُومِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْحُدُوثِ لَا يَقْدَحُ إذْ لَمْ يُرِيدُوا بِقَوْلِهِمْ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اللَّازِمِ عَدَمُ الْمَلْزُومِ إلَّا حَيْثُ قُضِيَ بِاللُّزُومِ إمَّا عَامًّا وَإِمَّا خَاصًّا أَمَّا فِي الصُّورَةِ الَّتِي لَمْ يُقْضَ فِيهَا بِاللُّزُومِ فَلَا كَمَا أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الشَّرْطِ عَدَمُ الْمَشْرُوطِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُهُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا شَرْطٌ .
أَمَّا لَوْ كَانَ شَرْطًا فِي حَالَةٍ دُونَ حَالَةٍ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِهِ فِي صُورَةِ مَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهَا عَدَمُ الْمَشْرُوطِ كَالطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي صُورَةِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ وَعَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صُورَةِ عَدَمِ الْمَاءِ أَوْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فَلَا جَرَمَ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ فِي صُورَةِ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ عَدَمُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ فِي صُورَةِ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ عَدَمُ الْمَشْرُوطِ الَّذِي هُوَ صِحَّةُ الصَّلَاةِ لِعَدَمِ الشَّرْطِيَّةِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ .
فَالشَّرْطُ وَاللَّازِمُ فِي هَذَا الْبَابِ سَوَاءٌ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الشَّكِّ فِي السَّبَبِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ السَّبَبِ فِي الشَّكِّ ) أُشْكِلَ عَلَى جَمْعٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ وَانْبَنَى عَلَى عَدَمِ تَحْرِيرِ هَذَا الْفَرْقِ الْإِشْكَالُ فِي مَوَاضِعَ وَمَسَائِلَ حَتَّى خَرَقَ بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ فِيهَا فَعَمَدَ إلَى النَّظَرِ الْأَوَّلِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ قَالَ يُمْكِنُ فِيهِ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ مَعَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَعَذُّرِ ذَلِكَ فِيهِ كَمَا حَكَاهُ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ فَأَنْكَرَ الْإِجْمَاعَ وَقَالَ كَيْفَ يُحْكَى الْإِجْمَاعُ فِي تَعَذُّرِ هَذَا وَهُوَ وَاقِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ فِي عِدَّةِ صُوَرٍ فَإِنَّ غَايَةَ هَذَا النَّاظِرِ قَبْلَ أَنْ يَنْظُرَ أَنْ يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَانِعٌ وَأَنْ لَا يَكُونَ وَأَنْ يَكُونَ هَذَا النَّظَرُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَأَنْ لَا يَكُونَ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ قَصْدَ التَّقَرُّبِ بِدَلِيلِ مَا وَقَعَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ مَنْ شَكَّ هَلْ صَلَّى أَمْ لَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَنْوِيَ التَّقَرُّبَ بِتِلْكَ الصَّلَاةِ الْمَشْكُوكِ فِيهَا وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الْخَمْسِ فَإِنَّهُ يَنْوِي التَّقَرُّبَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْخَمْسِ مَعَ شَكِّهِ فِي وُجُوبِهَا عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ مَنْ شَكَّ هَلْ تَطَهَّرَ أَمْ لَا فَإِنَّهُ يَتَطَهَّرُ وَيَنْوِي بِذَلِكَ الْوُضُوءِ التَّقَرُّبَ وَمَنْ شَكَّ هَلْ صَامَ أَمْ لَا فَإِنَّهُ يَصُومُ وَيَنْوِي التَّقَرُّبَ بِذَلِكَ الصِّيَامِ وَمَنْ شَكَّ هَلْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ أَمْ لَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ وَيَنْوِي التَّقَرُّبَ بِهَا وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَإِذَا وَقَعَ فِي الشَّرِيعَةِ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِالْمَشْكُوكِ فِيهِ جَازَ شَكُّهُ فِي النَّظَرِ الْأَوَّلِ وَتَكُونُ حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ فِي تَعَذُّرِهِ خَطَأً بَلْ يُمْكِنُ قَصْدُ التَّقَرُّبِ بِهِ قِيلَ لَهُ فَإِنَّ الشَّكَّ فِي صُورَةِ النَّظَرِ الْأَوَّلِ فِي الْمُوجِبِ وَالشَّكُّ هَاهُنَا فِي الْوَاجِبِ فَافْتَرَقَا فَقَالَ بَلْ كَمَا لَا يُمْنَعُ الشَّكُّ فِي الْوَاجِبِ وَهُوَ أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ لَا

يُمْنَعُ فِي الْآخَرِ لِأَنَّ غَايَةَ الشَّكِّ فِي الْمُوجِبِ أَنْ يُفْضِيَ إلَى الشَّكِّ فِي الْوَاجِبِ وَهَذَا لَا يُمْنَعُ فَذَاكَ لَا يُمْنَعُ وَالْجَوَابُ الْحَقُّ فِي هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ الشَّارِعَ شَرَعَ الْأَحْكَامَ وَشَرَعَ لَهَا أَسْبَابًا وَجَعَلَ مِنْ جُمْلَةِ مَا شَرَعَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الشَّكَّ فَشَرَعَهُ فِي عِدَّةٍ مِنْ الصُّوَرِ حَيْثُ شَاءَ فَإِذَا شَكَّ فِي الشَّاةِ الْمُذَكَّاةِ وَالْمَيْتَةِ حَرُمَتَا مَعًا وَسَبَبُ التَّحْرِيمِ هُوَ الشَّكُّ وَإِذَا شَكَّ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ وَأُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ حَرُمَتَا مَعًا وَسَبَبُ التَّحْرِيمِ هُوَ الشَّكُّ وَإِذَا شَكَّ فِي عَيْنِ الصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ خَمْسُ صَلَوَاتٍ وَسَبَبُ وُجُوبِ الْخَمْسِ هُوَ الشَّكُّ وَإِذَا شَكَّ هَلْ تَطَهَّرَ أَمْ لَا وَجَبَ الْوُضُوءُ وَسَبَبُ وُجُوبِهِ الشَّكُّ .
وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ النَّظَائِرِ الَّتِي ذَكَرَهَا فَالْمُتَقَرِّبُ فِي جَمِيعِ تِلْكَ الصُّوَرِ جَازِمٌ بِوُجُودِ الْمُوجِبِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَسَبَبُ الْوُجُوبِ الَّذِي هُوَ الشَّكُّ وَالْوَاجِبُ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ الَّذِي هُوَ الْإِجْمَاعُ أَوْ النَّصُّ فَالْجَمِيعُ مَعْلُومٌ وَفِي صُورَةِ النَّظَرِ لَا شَيْءَ مِنْهَا بِمَعْلُومٍ بَلْ الْجَمِيعُ مَجْهُولٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَالشَّكُّ فِي السَّبَبِ غَيْرُ السَّبَبِ فِي الشَّكِّ فَالْأَوَّلُ يَمْنَعُ التَّقَرُّبَ وَلَا يَتَقَرَّرُ مَعَهُ حُكْمٌ وَالثَّانِي لَا يَمْنَعُ التَّقَرُّبَ وَتَتَقَرَّرُ مَعَهُ الْأَحْكَامُ كَمَا رَأَيْت فِي هَذِهِ النَّظَائِرِ فَانْدَفَعَ سُؤَالُ هَذَا السَّائِلِ وَصَحَّ الْإِجْمَاعُ وَنَقَلَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ وَمَا أَوْرَدَهُ مِنْ النُّقُوضِ عَلَيْهِمْ لَا يَرِدُ وَلَا نَدَّعِي أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ نَصَبَ الشَّكَّ سَبَبًا فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ بَلْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ بِحَسَبِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ أَوْ النَّصُّ وَقَدْ يُلْغِي صَاحِبُ الشَّرْعِ الشَّكَّ فَلَا يَجْعَلُ فِيهِ شَيْئًا كَمَنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَالشَّكُّ لَغْوٌ وَمَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ هَلْ سَهَا أَمْ لَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَالشَّكُّ لَغْوٌ فَهَذِهِ

صُوَرٌ مِنْ الشَّكِّ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ فِيهَا كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى اعْتِبَارِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ وَقِسْمٌ ثَالِثٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نَصْبِهِ سَبَبًا كَمَنْ شَكَّ هَلْ أَحْدَثَ أَمْ لَا فَاعْتَبَرَهُ مَالِكٌ دُونَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ ثَلَاثًا أَمْ اثْنَتَيْنِ أَلْزَمَهُ مَالِكٌ الطَّلْقَةَ الْمَشْكُوكَ فِيهَا دُونَ الشَّافِعِيِّ .
وَمَنْ حَلَفَ يَمِينًا وَشَكَّ مَا هِيَ أَلْزَمَهُ مَالِكٌ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ فَقَدْ انْقَسَمَ الشَّكُّ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ مُجْمَعٌ عَلَى اعْتِبَارِهِ وَمُجْمَعٌ عَلَى إلْغَائِهِ وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ وَيَتَّضِحُ لَك الْفَرْقُ أَيْضًا بَيْنَ الشَّكِّ فِي الْأَسْبَابِ وَبَيْنَ الْأَسْبَابِ فِي الشَّكِّ بِذِكْرِ ثَلَاثِ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إذَا نَسِيَ صَلَاةً مِنْ خَمْسٍ فَإِنَّهُ يُصَلِّي خَمْسًا وَتَصِحُّ نِيَّتُهُ مَعَ التَّرَدُّدِ وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ النِّيَّةَ لَا تَصِحُّ مَعَ التَّرَدُّدِ وَاسْتُثْنِيَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ لِتَعَذُّرِ جَزْمِ النِّيَّةِ فِيهَا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا بَلْ الْمُصَلِّي جَازِمٌ بِوُجُوبِ الْخَمْسِ عَلَيْهِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا وَهُوَ الشَّكُّ وَإِذَا وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ جَزَمَ الْمُكَلِّفُ بِالْوُجُوبِ وَكَانَتْ نِيَّتُهُ جَازِمَةً لَا مُتَرَدِّدَةً وَكَذَلِكَ مَنْ شَكَّ فِي جِهَةِ الْكَعْبَةِ وَقُلْنَا يُصَلِّي أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ جَزَمْنَا بِوُجُوبِ أَرْبَعٍ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الشَّكِّ وَيُصَلِّي الْأَرْبَعَ بِنِيَّةٍ جَازِمَةٍ وَكَذَلِكَ مَنْ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْأَجْنَبِيَّةُ بِأُخْتِهِ أَوْ الْمُذَكَّاةِ بِالْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ جَازِمٌ بِالتَّحْرِيمِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ الَّذِي هُوَ الشَّكُّ وَكَذَلِكَ مَنْ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْأَوَانِي أَوْ الثِّيَابُ وَقُلْنَا يَجْتَهِدُ فَإِنَّهُ يُجْزَمُ بِوُجُوبِ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ وَلَا تَرَدُّدَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ أَلْبَتَّةَ بَلْ الْقَصْدُ جَازِمٌ وَالنِّيَّةُ جَازِمَةٌ وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ بَقِيَّةَ النَّظَائِرِ كَمَا تَقَدَّمَ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ

فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا فَإِنَّهُ يَجْعَلُهَا ثَلَاثًا وَيُصَلِّي رَكْعَةً وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ مَعَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ مَنْ شَكَّ هَلْ سَهَا أَمْ لَا لَا سُجُودَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَادَ وَأَنْ لَا يَكُونَ فَكَيْفَ يَسْجُدُ مَعَ أَنَّهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ لَوْ شَكَّ هَلْ زَادَ أَمْ لَا لَا يَسْجُدُ فَتَصِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُشْكِلَاتِ وَيَتَعَذَّرُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ شَكَّ هَلْ سَهَا أَمْ لَا وَبَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَقَدْ ذَكَرْت هَذَا الْإِشْكَالَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ الْأَعْيَانِ فَلَمْ يَجِدُوا عَنْهُ جَوَابًا ثُمَّ أَنَّهُ كَيْفَ يُصَلِّي هَذِهِ الرَّكْعَةَ الَّتِي قَامَ إلَيْهَا وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ تَجْدِيدِ النِّيَّةِ فَكَيْفَ يَنْوِي التَّقَرُّبَ بِهَا مَعَ عَدَمِ الْجَزْمِ بِوُجُوبِهَا وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُحَرَّمَةً خَامِسَةً وَأَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً رَابِعَةً وَمَعَ التَّرَدُّدِ لَا جَزْمَ وَالْجَوَابُ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ جَعَلَ الشَّكَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ سَبَبًا لِوُجُوبِ رَكْعَةٍ وُجُوبَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يَقْتَضِي عَلَيْهِ ذَلِكَ الْوَصْفَ لِذَلِكَ الْحُكْمِ فَصَاحِبُ الشَّرْعِ قَدْ رَتَّبَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ عَلَى الشَّكِّ فَقَالَ { إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَصَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَأْتِ بِرَكْعَةٍ وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ يُرْغِمُ بِهِمَا أَنْفَ الشَّيْطَانِ } فَرَتَّبَ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى الشَّكِّ الْمَذْكُورِ وَالتَّرْتِيبُ دَلِيلُ السَّبَبِيَّةِ كَمَا لَوْ قَالَ إذَا سَهَا أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ وَإِذَا أَحْدَثَ فَلْيَتَوَضَّأْ وَنَحْوَهُ فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ عَنْهُ إلَّا سَبَبِيَّةُ الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ فَيَكُونُ الشَّكُّ سَبَبَ وُجُوبِ هَذِهِ الرَّكْعَةِ وَسُجُودِ السَّهْوِ وَعَلَى هَذَا تَكُونُ أَسْبَابُ السُّجُودِ ثَلَاثَةً الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ وَالشَّكُّ وَهَذَا الثَّالِثُ قَلَّ أَنْ يُتَفَطَّنَ لَهُ

فَتَأَمَّلْهُ وَلَا تَجِدُ مَا يُسَوِّغُ عَلَى مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ غَيْرَهُ وَبِهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّكِّ فِي سَبَبِ السَّهْوِ وَبَيْنَ الشَّكِّ فِي الْعَدَدِ وَأَنَّ الْأَوَّلَ شَكٌّ فِي السَّبَبِ وَالثَّانِي سَبَبٌ فِي الشَّكِّ بِمَعْنَى أَنَّ الشَّكَّ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّرْعُ مَحَلَّ السَّبَبِيَّةِ فَذَكَرْته بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لِيَحْصُلَ التَّقَابُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ طَرْدًا وَعَكْسًا ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) وَقَعَ فِي بَعْضِ تَعَالِيقِ الْمَذْهَبِ أَنَّ رَجُلًا تَوَضَّأَ وَصَلَّى الصُّبْحَ وَالظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ ثُمَّ أَحْدَثَ وَتَوَضَّأَ وَصَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ نَسِيَ مَسْحَ رَأْسِهِ مِنْ أَحَدِ الْوُضُوءَيْنِ لَا يَدْرِي أَيُّهُمَا هُوَ ؟ فَسَأَلَ الْعُلَمَاءَ فَقَالُوا لَهُ يَلْزَمُك أَنْ تَمْسَحَ رَأْسَك وَتُعِيدَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَذَهَبَ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ فَنَسِيَ مَسْحَ رَأْسِهِ وَصَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ثُمَّ جَاءَ يَسْتَفْتِي عَنْ ذَلِكَ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ أَوَّلًا فَقَالُوا لَهُ اذْهَبْ وَامْسَحْ رَأْسَك وَأَعِدْ الْعِشَاءَ وَحْدَهَا فَأُشْكِلَ ذَلِكَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْعَصْرِ وَقَالُوا الشَّكُّ مَوْجُودٌ فِي الْحَالَتَيْنِ فَكَيْفَ أُمِرَ أَوَّلًا بِإِعَادَةِ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا وَفِي ثَانِي الْحَالِ أُمِرَ بِإِعَادَةِ الْعِشَاءِ وَحْدَهَا وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَسْحَ الْمَتْرُوكَ إنْ كَانَ مِنْ وُضُوءِ الصَّلَوَاتِ الْأَرْبَعِ فَقَدْ أَعَادَهَا بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ بَعْدَ أَنْ اسْتَفْتَى أَوَّلًا فَبَرِئَتْ الذِّمَّةُ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ وُضُوءِ الْعِشَاءِ فَقَدْ بَرِئَتْ الذِّمَّةُ مِنْهَا بِوُضُوئِهَا الْأَوَّلِ فَقَدْ بَرِئَتْ الذِّمَّةُ مِنْهَا عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَلَمْ يَبْقَ الشَّكُّ إلَّا فِي الْعِشَاءِ فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمَسْحُ نُسِيَ مِنْ وُضُوئِهَا تَكُونُ ثَابِتَةً فِي ذِمَّتِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا صَلَّاهَا بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ وُضُوءُ الْعِشَاءِ أَمَّا غَيْرُهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ فَقَدْ صُلِّيَتْ بِوُضُوءَيْنِ فَتَصِحُّ أَمَّا بِالْأَوَّلِ وَأَمَّا بِالثَّانِي بِخِلَافِ

الْعِشَاءِ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ جَوَابُ الْمُفْتِي قَبْلَ الْإِعَادَةِ وَبَعْدَهَا .

الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الشَّكِّ فِي السَّبَبِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ السَّبَبِ فِي الشَّكِّ ) بِمَعْنَى أَنَّ الشَّكَّ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّرْعُ مَحَلَّ السَّبَبِيَّةِ وَمَوْصُوفًا بِهَا وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ السَّبَبَ فِي الشَّكِّ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ مَنْ شَكَّ فِي عَيْنِ الصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ وَنَظَائِرُهَا الْوَاقِعَةُ فِي الشَّرِيعَةِ لَا يَمْنَعُ التَّقَرُّبَ وَتَتَقَرَّرُ مَعَهُ الْأَحْكَامُ ضَرُورَةً أَنَّ الْمُتَقَرِّبَ جَازِمٌ فِيهِ بِوُجُودِ الْمُوجِبِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَسَبَبُ الْوُجُوبِ الَّذِي هُوَ الشَّكُّ وَالْوَاجِبُ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ .
وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ الَّذِي هُوَ الْإِجْمَاعُ أَوْ النَّصُّ وَالشَّكُّ فِي السَّبَبِ كَمَا فِي النَّظَرِ الْأَوَّلِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ يَمْنَعُ التَّقَرُّبَ وَلَا يَتَقَرَّرُ مَعَهُ حُكْمٌ ضَرُورَةً أَنَّ الْمُتَقَرِّبَ لَمْ يَجْزِمْ فِيهِ بِوُجُودِ الْمُوجِبِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا بِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ الَّذِي هُوَ الشَّكُّ وَلَا بِوُجُودِ الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ وَلَا بِوُجُودِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ الَّذِي هُوَ الْإِجْمَاعُ أَوْ النَّصُّ فَالْجَمِيعُ مَجْهُولٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ لَا مَعْلُومٌ فَلِذَا حَكَى الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَعَذُّرِ نِيَّةِ التَّقَرُّبِ فِي النَّظَرِ الْأَوَّلِ الْمَذْكُورِ وَانْدَفَعَ مَا أَوْرَدَهُ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَيْفَ يَحْكِي الْإِجْمَاعَ فِي تَعَذُّرِ هَذَا وَهُوَ وَاقِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ فِي عِدَّةِ صُوَرٍ فَإِنَّ غَايَةَ هَذَا النَّاظِرِ قَبْلَ أَنْ يَنْظُرَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَانِعٌ وَأَنْ لَا يَكُونَ وَأَنْ يَكُونَ هَذَا النَّظَرُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَأَنْ لَا يَكُونَ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ قَصْدَ التَّقَرُّبِ بِدَلِيلِ مَا وَقَعَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ مَنْ شَكَّ هَلْ صَلَّى أَمْ لَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَنْوِيَ التَّقَرُّبَ بِتِلْكَ الصَّلَاةِ الْمَشْكُوكِ فِيهَا وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَإِذَا وَقَعَ فِي الشَّرِيعَةِ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِالْمَشْكُوكِ فِيهِ جَازَ شَكُّهُ فِي

النَّظَرِ الْأَوَّلِ وَتَكُونُ حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ فِي تَعَذُّرِهِ خَطَأً بَلْ يُمْكِنُ قَصْدُ التَّقَرُّبِ بِهِ وَلَا يَنْفَعُ الْفَرْقُ بِأَنَّ الشَّكَّ فِي صُورَةِ النَّظَرِ الْأَوَّلِ فِي الْمُوجِبِ وَفِي صُورَةِ غَيْرِهِ الْوَاقِعُ فِي الشَّرِيعَةِ فِي الْوَاجِبِ إذْ كَمَا لَا يُمْنَعُ الشَّكُّ فِي الْوَاجِبِ كَذَلِكَ لَا يُمْنَعُ فِي الْمُوجِبِ لِأَنَّ غَايَةَ الشَّكِّ فِيهِ أَنْ يُفْضِيَ إلَى الشَّكِّ فِي الْوَاجِبِ وَحَاصِلُ الدَّفْعِ أَنَّ كُلًّا مِنْ وُجُودِ الْمُوجِبِ وَسَبَبِ الْوُجُوبِ وَالْوَاجِبِ وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فِي صُورَةِ النَّظَرِ بَلْ مَجْهُولٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ وَفِي صُورَةِ غَيْرِهِ الْوَاقِعِ فِي الشَّرِيعَةِ مَجْزُومٌ بِهِ فَالْأَوَّلُ شَكٌّ فِي السَّبَبِ وَالثَّانِي سَبَبٌ فِي الشَّكِّ فَافْتَرَقَا وَبِعِبَارَةٍ أَنَّ الشَّارِعَ شَرَعَ الْأَحْكَامَ وَشَرَعَ لَهَا أَسْبَابًا وَجَعَلَ مِنْ جُمْلَةِ مَا شَرَعَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الشَّكَّ فَشَرَعَهُ فِي عِدَّةٍ مِنْ الصُّوَرِ حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا مَا إذَا شَكَّ فِي الشَّاةِ الْمُذَكَّاةِ وَالْمَيْتَةِ حَرُمَتَا مَعًا وَسَبَبُ التَّحْرِيمِ هُوَ الشَّكُّ وَمِنْهَا مَا إذَا شَكَّ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ وَأُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ حَرُمَتَا مَعًا وَسَبَبُ التَّحْرِيمِ هُوَ الشَّكُّ وَمِنْهَا مَا إذَا شَكَّ فِي عَيْنِ الصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ خَمْسُ صَلَوَاتٍ وَسَبَبُ وُجُوبِ الْخَمْسِ هُوَ الشَّكُّ وَمِنْهَا مَا إذَا شَكَّ هَلْ تَظْهَرُ أَمْ لَا وَجَبَ الْوُضُوءُ .
وَسَبَبُ وُجُوبِهِ الشَّكُّ وَمِنْهَا مَا إذَا شَكَّ هَلْ صَامَ أَمْ لَا وَجَبَ الصَّوْمُ وَسَبَبُ وُجُوبِهِ الشَّكُّ وَمِنْهَا مَا إذَا شَكَّ هَلْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ أَمْ لَا وَجَبَ إخْرَاجُهَا وَسَبَبُ الْوُجُوبِ الشَّكُّ وَمِنْهَا بَقِيَّةُ النَّظَائِرِ الْكَثِيرَةِ فِي الشَّرِيعَةِ وَقَدْ يُلْغِي صَاحِبُ الشَّرْعِ الشَّكَّ فَلَا يَجْعَلُ فِيهِ شَيْئًا كَمَا فِي صُورَةِ النَّظَرِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَشْكُوكَ فِيهِ مَجْهُولٌ كَالْمُوجِبِ وَالْوَاجِبِ وَدَلِيلِ الْوُجُوبِ وَسَبَبِهِ كَمَا عَلِمْت فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْوُجُوبُ وَكَمَنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا فَلَا

شَيْءَ عَلَيْهِ وَالشَّكُّ لَغْوٌ وَمَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ هَلْ سَهَا أَمْ لَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَالشَّكُّ لَغْوٌ فَهَذِهِ صُوَرٌ مِنْ الشَّكِّ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ فِيهَا كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى اعْتِبَارِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ فَهَذَانِ قِسْمَانِ وَبَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نَصْبِ الشَّكِّ سَبَبًا فِيهِ كَمَنْ شَكَّ هَلْ أَحْدَثَ أَمْ لَا فَاعْتَبَرَهُ مَالِكٌ دُونَ الشَّافِعِيِّ .
وَمَنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ ثَلَاثًا أَمْ اثْنَتَيْنِ أَلْزَمَهُ مَالِكٌ الطَّلْقَةَ الْمَشْكُوكَ فِيهَا دُونَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ حَلَفَ يَمِينًا وَشَكَّ مَا هِيَ أَلْزَمَهُ مَالِكٌ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ فَقَدْ انْقَسَمَ الشَّكُّ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ مُجْمَعٍ عَلَى اعْتِبَارِهِ وَمُجْمَعٍ عَلَى إلْغَائِهِ وَمُخْتَلَفٍ فِيهِ ( وَصْلٌ ) فِي زِيَادَةِ تَوْضِيحِ هَذَا الْفَرْقِ بِثَلَاثِ مَسَائِلَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى إذَا نَسِيَ الْمُكَلَّفُ صَلَاةً مِنْ الْخَمْسِ صَلَّى خَمْسًا بِنِيَّةٍ جَازِمَةٍ بِوُجُوبِ الْخَمْسِ عَلَيْهِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا وَهُوَ الشَّكُّ لَا بِنِيَّةٍ مُتَرَدِّدَةٍ حَتَّى يَحْتَاجَ لَأَنْ يُقَالَ اُسْتُثْنِيَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ مِنْ قَاعِدَةِ أَنَّ النِّيَّةَ لَا تَصِحُّ مَعَ التَّرَدُّدِ لِتَعَذُّرِ جَزْمِ النِّيَّةِ فِيهَا وَكَذَلِكَ مَنْ شَكَّ فِي جِهَةِ الْكَعْبَةِ يُصَلِّي أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ إلَى الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ بِنِيَّةٍ جَازِمَةٍ بِوُجُوبِ الْأَرْبَعِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الشَّكِّ وَمَنْ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْأَوَانِي أَوْ الثِّيَابُ يَجْتَهِدُ بِنِيَّةٍ جَازِمَةٍ بِوُجُوبِ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الشَّكِّ وَكَذَلِكَ مَنْ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْأَجْنَبِيَّةُ بِأُخْتِهِ أَوْ الْمُذَكَّاةُ بِالْمَيْتَةِ جَازِمٌ بِالتَّحْرِيمِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ الَّذِي هُوَ الشَّكُّ فَلَا تَرَدُّدَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ أَلْبَتَّةَ بَلْ الْقَصْدُ جَازِمُ النِّيَّةِ جَازِمَةٌ وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ بَقِيَّةَ النَّظَائِرِ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) قَاعِدَةُ أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يَقْتَضِي عَلَيْهِ ذَلِكَ الْوَصْفَ لِذَلِكَ الْحُكْمِ مَعَ

قَوْلِ صَاحِبِ الشَّرْعِ { إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَصَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَأْتِ بِرَكْعَةٍ وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ يُرْغِمُ بِهِمَا أَنْفَ الشَّيْطَانِ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ لَمَّا رَتَّبَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وُجُوبَ رَكْعَةٍ وَوُجُوبَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ عَلَى الشَّكِّ جَعَلَ ذَلِكَ الشَّكَّ فِيهَا سَبَبًا لِهَذَيْنِ الْوُجُوبَيْنِ إذْ التَّرْتِيبُ دَلِيلُ السَّبَبِيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ إذَا سَهَا أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ وَإِذَا أَحْدَثَ فَلْيَتَوَضَّأْ وَنَحْوُهُ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ إلَّا سَبَبِيَّةُ السَّهْوِ لِوُجُوبِ السُّجُودِ وَسَبَبِيَّةُ الْحَدَثِ لِوُجُوبِ الْوُضُوءِ فَتَكُونُ أَسْبَابُ السُّجُودِ ثَلَاثَةً السَّهْوُ فِي الزِّيَادَةِ وَالسَّهْوُ فِي النُّقْصَانِ وَالشَّكُّ وَقَلَّ أَنْ يُتَفَطَّنَ لِهَذَا الثَّالِثِ فَلَمْ يُصَلِّ الْمُكَلَّفُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ هَذِهِ الرَّكْعَةَ الَّتِي قَامَ إلَيْهَا إلَّا بِنِيَّةٍ جَازِمَةٍ بِوُجُوبِهَا لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا وَهُوَ الشَّكُّ لَا بِنِيَّةٍ مُتَرَدِّدَةٍ فِي أَنْ تَكُونَ مُحَرَّمَةً خَامِسَةً وَأَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً رَابِعَةً حَتَّى يُقَالَ كَيْفَ يَنْوِي التَّقَرُّبَ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ مَعَ عَدَمِ الْجَزْمِ بِوُجُوبِهَا وَتَعَيَّنَ كَوْنُ هَذِهِ الصُّورَةِ شَكًّا فِي الْعَدَدِ أَيْ سَبَبًا فِي الشَّكِّ بِمَعْنَى أَنَّ الشَّكّ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّرْعُ مَحَلَّ السَّبَبِيَّةِ وَمَوْصُوفًا بِهَا بِخِلَافِ صُورَةِ مَا لَوْ شَكَّ هَلْ سَهَا أَمْ لَا فَإِنَّهَا مِنْ الشَّكِّ فِي سَبَبِ السَّهْوِ فَلِذَا جَرَتْ فِيهَا قَاعِدَةُ أَنَّ مَنْ شَكَّ هَلْ سَهَا أَمْ لَا لَا سُجُودَ عَلَيْهِ وَلَمْ تَجْرِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا أَعْنِي صُورَةَ مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا وَإِنْ جَازَ فِيهَا أَنْ يَكُونَ زَادَ وَأَنْ لَا يَكُونَ فَلَمْ يَتَعَذَّرْ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ شَكَّ هَلْ سَهَا أَمْ لَا وَبَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ حَتَّى يَرِدَ الْإِشْكَالُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ بِأَنَّهُ كَيْفَ يَسْجُدُ فِيهَا مَعَ أَنَّهُ فِي غَيْرِهَا لَوْ شَكَّ هَلْ زَادَ أَمْ

لَا لَا يَسْجُدُ فَافْهَمْ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) سَأَلَ رَجُلٌ بَعْضَ عُلَمَاءِ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحَ وَالظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ ثُمَّ أَحْدَثَ وَتَوَضَّأَ وَصَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ نَسِيَ مَسْحَ رَأْسِهِ مِنْ أَحَدِ الْوُضُوءَيْنِ لَا يَدْرِي أَيَّهمَا هُوَ فَقَالُوا لَهُ يَلْزَمُك أَنْ تَمْسَحَ رَأْسَك وَتُعِيدَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ثُمَّ جَاءَ يَسْتَفْتِي عَنْ ذَلِكَ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ أَوَّلًا فَقَالُوا لَهُ اذْهَبْ وَامْسَحْ رَأْسَك وَأَعِدْ الْعِشَاءَ وَحْدَهَا وَوَجْهُ اخْتِلَافِ جَوَابِ الْمُفْتِي قَبْلَ الْإِعَادَةِ وَبَعْدَهَا أَنَّ الْمَسْحَ الْمَتْرُوكَ إنْ كَانَ مِنْ وُضُوءِ الصَّلَوَاتِ الْأَرْبَعِ فَقَدْ أَعَادَهَا بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ بَعْدَ أَنْ اسْتَفْتَى أَوَّلًا فَبَرِئَتْ الذِّمَّةُ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ وُضُوءِ الْعِشَاءِ فَقَدْ بَرِئَتْ الذِّمَّةُ مِنْهَا بِوُضُوئِهَا الْأَوَّلِ فَعَلَى كُلٍّ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ قَدْ بَرِئَتْ الذِّمَّةُ مِنْهَا وَلَمْ يَبْقَ الشَّكُّ إلَّا فِي الْعِشَاءِ لِأَنَّهُ إنَّمَا صَلَّاهَا بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ لَا بِوُضُوءَيْنِ كَغَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمَسْحُ نُسِيَ مِنْ وُضُوءِ الْعِشَاءِ تَكُونُ ثَابِتَةً فِي ذِمَّتِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ قَبُولِ الشَّرْطِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ قَبُولِ التَّعْلِيقِ عَلَى الشَّرْطِ ) الْحَقَائِقُ فِي الشَّرِيعَةِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ مَا يَقْبَلُ الشَّرْطَ وَالتَّعْلِيقَ عَلَيْهِ وَمَا لَا يَقْبَلُ الشَّرْطَ وَلَا التَّعْلِيقَ عَلَيْهِ وَمَا يَقْبَلُ الشَّرْطَ دُونَ التَّعْلِيقِ عَلَيْهِ وَمَا لَا يَقْبَلُ الشَّرْطَ وَيَقْبَلُ التَّعْلِيقَ عَلَيْهِ أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَكَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهِمَا فَيَقْبَلُ الشَّرْطَ بِأَنْ يَقُولَ أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيْك أَلْفٌ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْك أَلْفٌ فَهَذِهِ صُورَةُ قَبُولِ الشَّرْطِ فَيَلْزَمُ ذَلِكَ إذَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَيُنَجَّزُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ الْآنَ وَيَقْبَلُ التَّعْلِيقَ عَلَى الشَّرْطِ بِأَنْ يَقُولَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ فَلَا يُنَجَّزُ طَلَاقٌ وَلَا عَتَاقٌ الْآنَ حَتَّى يَقَعَ الشَّرْطُ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي الَّذِي لَا يَقْبَلُهُمَا فَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالدُّخُولُ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ الشَّرْطَ فَلَا يَصِحُّ أَسْلَمْت عَلَى أَنَّ لِي أَنْ أَشْرَبَ الْخَمْرَ أَوْ أَتْرُكَ الصَّلَاةَ وَنَحْوَهُ وَيَسْقُطُ شَرْطُهُ الَّذِي قَرَنَ بِهِ إسْلَامَهُ وَأَمَّا عَدَمُ قَبُولِهِ التَّعْلِيقَ عَلَى الشَّرْطِ فَكَقَوْلِهِ إنْ كُنْت كَاذِبًا فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فَأَنَا مُسْلِمٌ أَوْ مُؤْمِنٌ أَوْ إنْ لَمْ آتِ بِالدِّينِ فِي وَقْتِ كَذَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي يُعَلَّقُ عَلَيْهَا فَلَا يَلْزَمُ إسْلَامٌ إذَا وُجِدَ ذَلِكَ الشَّرْطُ بَلْ يَبْقَى عَلَى كُفْرِهِ بِسَبَبِ أَنَّ الدُّخُولَ فِي الدِّينِ يَعْتَمِدُ الْجَزْمَ بِصِحَّتِهِ وَالْمُعَلَّقُ لَيْسَ جَازِمًا فَهَذَا مُتَّجَهٌ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَمَّا الْحَرْبِيُّونَ فَنَحْنُ نُلْزِمُهُمْ الْإِسْلَامَ قَهْرًا بِالسَّيْفِ فَجَازَ أَنْ يُلْزِمَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ الشَّرْطَ دُونَ التَّعْلِيقِ عَلَيْهِ فَكَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَال بِعْتُك عَلَى أَنَّ عَلَيْك أَنْ تَأْتِيَ بِالرَّهْنِ

أَوْ الْكَفِيلِ بِالثَّمَنِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ الْمُقَارِنَةِ لِتَنْجِيزِ الْبَيْعِ وَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ إنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَقَدْ بِعْتُك أَوْ آجَرْتُك بِسَبَبِ أَنَّ انْتِقَالَ الْأَمْلَاكِ يَعْتَمِدُ الرِّضَى وَالرِّضَى إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْجَزْمِ وَلَا جَزْمَ مَعَ التَّعْلِيقِ فَإِنَّ شَأْنَ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ يَعْتَرِضُهُ عَدَمُ الْحُصُولِ وَقَدْ يَكُونُ مَعْلُومَ الْحُصُولِ كَقُدُومِ الْحَاجِّ وَحَصَادِ الزَّرْعِ وَلَكِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ بِجِنْسِ الشَّرْطِ دُونَ أَنْوَاعِهِ وَأَفْرَادِهِ فَلُوحِظَ الْمَعْنَى الْعَامُّ دُونَ خُصُوصِيَّاتِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَفْرَادِ وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ مَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ عَلَى الشَّرْطِ دُونَ مُقَارَنَتِهِ فَكَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا فَلَا يَصِحُّ أَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى أَنْ لَا أَسْجُدَ أَوْ أُسَلِّمَ بَعْدَ سَجْدَةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَأَدْخُلُ فِي الصَّوْمِ عَلَى أَنَّ لِي الِاقْتِصَارَ عَلَى بَعْضِ يَوْمٍ فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى الشَّرْطِ فَنَقُولُ إنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ صَلَاةُ مِائَةِ رَكْعَةٍ وَنَحْوِهَا مِنْ الشُّرُوطِ فِي النُّذُورِ فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ فِي هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ يَدُورُ عَلَيْهَا التَّصَرُّفَاتُ فِي الشَّرِيعَةِ وَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَبُولِ التَّعْلِيقِ قَبُولُ الشَّرْطِ وَلَا مِنْ قَبُولِ الشَّرْطِ قَبُولُ التَّعْلِيقِ وَتُطْلَبُ الْمُنَاسَبَةُ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ قَبُولِ الشَّرْطِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ قَبُولِ التَّعْلِيقِ عَلَى الشَّرْطِ ) وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَبُولِ التَّعْلِيقِ قَبُولُ الشَّرْطِ وَلَا مِنْ قَبُولِ الشَّرْطِ قَبُولُ التَّعْلِيقِ فَإِنَّ الْحَقَائِقَ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مَا يَقْبَلُ الشَّرْطَ وَالتَّعْلِيقَ عَلَيْهِ مِنْ نَحْوِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَيَقْبَلُ الشَّرْطَ بِأَنْ يَقُولَ أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَنَّ عَلَيْك أَلْفًا أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنَّ عَلَيْك أَلْفًا فَيَلْزَمُ الشَّرْطُ إنْ اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَيُنَجَّزُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ الْآنَ وَيَقْبَلُ التَّعْلِيقَ عَلَى الشَّرْطِ بِأَنْ يَقُولَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ فَلَا يَقَعُ طَلَاقٌ وَلَا عَتَاقٌ الْآنَ بَلْ حَتَّى يَقَعَ الشَّرْطُ الْقِسْمُ الثَّانِي مَا لَا يَقْبَلُهُمَا مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالدُّخُولِ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ الشَّرْطَ بِأَنْ يَقُولَ أَسْلَمْت عَلَى أَنَّ لِي أَنْ أَشْرَبَ الْخَمْرَ أَوْ أَتْرُكَ الصَّلَاةَ وَنَحْوَهُ بَلْ يَسْقُطُ شَرْطُهُ الَّذِي قَرَنَ بِهِ إسْلَامُهُ وَلَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ حَيْثُ اعْتَمَدَ الْجَزْمَ بِصِحَّتِهِ كَمَا فِي دُخُولِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الدِّينِ فَلَا يَلْزَمُ إسْلَامُ الذِّمِّيِّ بِقَوْلِهِ إنْ كُنْت كَاذِبًا فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فَأَنَا مُسْلِمٌ أَوْ مُؤْمِنٌ أَوْ إنْ لَمْ آتِ بِالدِّينِ فِي وَقْتِ كَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ أَوْ مُؤْمِنٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي يُعَلَّقُ عَلَيْهَا إذَا وُجِدَ ذَلِكَ الشَّرْطُ بَلْ يَبْقَى عَلَى كُفْرِهِ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ لَيْسَ بِجَازِمٍ وَدُخُولُهُ فِي الدِّينِ يَعْتَمِدُ الْجَزْمَ بِصِحَّتِهِ وَأَمَّا الْحَرْبِيُّونَ فَمِنْ حَيْثُ إنَّا نُلْزِمُهُمْ الْإِسْلَامَ قَهْرًا بِالسَّيْفِ يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَهُمْ إسْلَامُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا يَقْبَلُ الشَّرْطَ دُونَ التَّعْلِيقِ عَلَيْهِ مِنْ نَحْوِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ بِعْتُك عَلَى أَنْ تَأْتِيَ بِالرَّهْنِ أَوْ الْكَفِيلِ

بِالثَّمَنِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ الْمُقَارِنَةِ لِتَنْجِيزِ الْبَيْعِ وَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ إنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَقَدْ بِعْتُك أَوْ آجَرْتُك لِأَنَّ انْتِقَال الْأَمْلَاكِ يَعْتَمِدُ الرِّضَا وَالرِّضَا إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْجَزْمِ وَلَا جَزْمَ مَعَ التَّعْلِيقِ لِأَنَّ الشَّأْنَ فِي جِنْسِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ دُونَ أَنْوَاعِهِ وَأَفْرَادِهِ أَنْ يَعْتَرِضَهُ عَدَمُ الْحُصُولِ فَلَا يَرِدُ أَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَيْهِ قَدْ يَكُونُ مَعْلُومَ الْحُصُولِ كَقُدُومِ الْحَاجِّ وَحَصَادِ الزَّرْعِ وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ مَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ عَلَى الشَّرْطِ دُونَ مُقَارَنَتِهِ مِنْ نَحْوِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَلَا يَصِحُّ أَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى أَنْ لَا أَسْجُدَ أَوْ عَلَى أَنْ أُسَلِّمَ بَعْدَ سَجْدَةٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَا أَدْخُلُ فِي الصَّوْمِ عَلَى أَنَّ لِي الِاقْتِصَارَ عَلَى بَعْضِ يَوْمٍ وَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى الشَّرْطِ بِأَنْ تَقُولَ إنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ صَلَاةُ مِائَةِ رَكْعَةٍ وَنَحْوُهَا مِنْ الشُّرُوطِ فِي النُّذُورِ فَجَمِيعُ التَّصَرُّفَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ تَدُورُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ فِي هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ وَتُطْلَبُ الْمُنَاسَبَةُ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ ( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُطْلَبُ جَمْعُهُ وَافْتِرَاقُهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُطْلَبُ افْتِرَاقُهُ دُونَ جَمْعِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُطْلَبُ جَمْعُهُ دُونَ افْتِرَاقِهِ ) الْمَطْلُوبَاتُ فِي الشَّرِيعَةِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : مَا يُطْلَبُ وَحْدَهُ وَمَعَ غَيْرِهِ كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ فَإِنَّهُ مَطْلُوبٌ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ شَرْطٌ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ وَالشَّرْطُ مَطْلُوبُ الْحُصُولِ مَعَ الْمَشْرُوطِ فَالْإِيمَانُ مَطْلُوبُ الْجَمْعِ مَعَ كُلِّ عِبَادَةٍ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ يُكْتَفَى مِنْهُ بِالْإِيمَانِ الْحُكْمِيِّ تَخْفِيفًا عَلَى الْعَبْدِ فَإِنَّ اسْتِحْضَارَهُ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ وَفِي جَمِيعِ أَجْزَائِهَا بِمَا يَشُقُّ عَلَى الْمُكَلَّفِ فَيُكْتَفَى بِتَقْدِيمِهِ فِعْلًا ثُمَّ يُسْتَصْحَبُ حُكْمًا ، وَكَالدُّعَاءِ مَطْلُوبٌ فِي نَفْسِهِ وَالسُّجُودُ فِي الصَّلَاةِ مَطْلُوبٌ فِي نَفْسِهِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَطْلُوبٌ وَكَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ كُلٌّ مِنْهُمَا مَطْلُوبٌ فِي نَفْسِهِ وَالرُّكُوعُ فِي الصَّلَاةِ مَطْلُوبٌ فِي نَفْسِهِ أَيْضًا وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا مَطْلُوبٌ فِي نَفْسِهِ وَنَحْوُ هَذِهِ النَّظَائِرِ .
الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ مَا يُطْلَبُ مُنْفَرِدًا دُونَ جَمْعِهِ مَعَ غَيْرِهِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَطْلُوبَيْنِ فِي الشَّرِيعَةِ قَدْ يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا غَيْرَ مَطْلُوبٍ وَرُبَّمَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَقَدْ يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَطْلُوبًا كَمَا تَقَدَّمَ مِثَالُ هَذَا الْقِسْمِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مَطْلُوبَةٌ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ مَطْلُوبَانِ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { نُهِيت أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا } عَكْسُ مَا وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ مَعَ السُّجُودِ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَأَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ الدُّعَاءِ فَعَسَى

أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ } .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا يُطْلَبُ جَمْعُهُ دُونَ افْتِرَاقِهِ فَكَالرُّكُوعِ مَعَ سَجْدَتَيْنِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبُ الْجَمْعِ وَلَمْ يُشْرَعْ التَّقَرُّبُ بِأَحَدِهِمَا مُنْفَرِدًا وَكَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مَعَ رَمْيِ الْجِمَارِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَطْلُوبٌ مَعَ الْآخَرِ وَلَيْسَ مَطْلُوبًا مُنْفَرِدًا وَكَالْحِلَاقِ مَعَ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ لَيْسَ قُرْبَةً عَلَى انْفِرَادِهِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا قُرْبَةٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ الِاسْتِقْرَاءُ عَلَيْهِ فَهَذَا تَمْثِيلُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ ، وَأَمَّا وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَقَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَعَبُّدًا لَا يَطَّلِعُ عَلَى حِكْمَتِهِ فَالْإِيمَانُ لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ فِي كُلِّ تَقَرُّبٍ اُشْتُرِطَ جَمْعُهُ لِيَتَحَقَّقَ التَّقَرُّبُ فَإِنَّ التَّقَرُّبَ بِالْعِبَادَةِ فَرْعُ التَّصْدِيقِ بِالْآمِرِ بِهَا وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَأَصْلِهِ مُنَاسِبٌ وَأَمَّا الدُّعَاءُ مَعَ السُّجُودِ وَالثَّنَاءُ مَعَ الرُّكُوعِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَتَقَرَّبُوا إلَيْهِ عَلَى حَسَبِ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ مَعَ الْأَمَاثِلِ وَالْمُلُوكِ وَالْأَكَابِرِ فَإِنَّ الطَّاعَاتِ كُلَّهَا وَالْمَعَاصِيَ كُلَّهَا نِسْبَتُهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى نِسْبَةً وَاحِدَةً لَا تَزِيدُهُ الطَّاعَاتُ وَلَا تَنْقُصُهُ الْمَعَاصِي وَإِنَّمَا أَمَرَ عِبَادَهُ لِتَظْهَرَ مِنْهُمْ الطَّاعَةُ عَلَى حَسَبِ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ مَعَ الْأَكَابِرِ ، وَلِذَلِكَ لَمَّا كَانَ السُّجُودُ فِي الْعِبَادَةِ أَبْلَغَ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ إذَا كَانَ سَاجِدًا } وَكَانَ بَذْلُ الدِّينَارِ أَفْضَلَ مِنْ بَذْلِ الدِّرْهَمِ فِي الصَّدَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْعَادَةِ أَبْلَغُ وَارْتِكَابُ الْمَشَاقِّ فِي تَحْصِيلِ الْمَأْمُورِ يَكُونُ مُوجِبًا لِمَزِيدِ الْأَجْرِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْعَادَةِ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الطَّوَاعِيَةِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَفْضَلُ

الْعِبَادَةِ أَحْمَزُهَا } أَيْ أَشَقُّهَا .
وَلَمَّا جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ مَعَ الْمُلُوكِ أَنْ يُقَدِّمُوا الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الطَّلَبِ مِنْهُمْ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ وَاسْتِعْطَافًا لِأَنْفُسِهِمْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الثَّنَاءَ وَالتَّمْجِيدَ لَهُ فِي الرُّكُوعِ وَجَعَلَ الدُّعَاءَ فِي السُّجُودِ بَعْدَ الثَّنَاءِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَمَّا سُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْته أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } فَقِيلَ لَهُ هَذَا الثَّنَاءُ فَأَيْنَ الدُّعَاءُ فَأَنْشَدَ أَبْيَاتِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ أَأَطْلُبُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي حَيَاؤُك إنَّ شِيمَتَك الْحَيَاءُ إذَا أَثْنَى عَلَيْك الْمَرْءُ يَوْمًا كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِك الثَّنَاءُ كَرِيمٌ لَا يُغَيِّرُهُ صَبَاحٌ عَنْ الْخُلُقِ الْجَمِيلِ وَلَا مَسَاءُ وَعِلْمُك بِالْحُقُوقِ وَأَنْتَ قِدَمًا لَك الْحَسَبُ الْمُهَذَّبُ وَالْوَفَاءُ .
يَعْنِي فَلَمَّا كَانَ الثَّنَاءُ يُحَصِّلُ مِنْ الْكَرِيمِ مَا يُحَصِّلُهُ الدُّعَاءُ سُمِّيَ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دُعَاءً ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ } فَهَذَا هُوَ وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِي الثَّنَاءِ فِي الرُّكُوعِ وَالدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ ، وَأَمَّا الْمَنْعُ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ فَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ جَعَلَ لَهَا الشَّرْعُ مَوْطِنًا وَهُوَ الْقِيَامُ ؛ لِأَنَّهُ حَالَةُ اسْتِقْرَارٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ الْفِكْرُ مِنْ التَّأَمُّلِ لِمَعَانِي الْقِرَاءَةِ وَالِاتِّعَاظِ بِوَعِيدِهَا وَوَعْدِهَا وَالتَّفْكِيرِ فِي مَعَانِيهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا مَعَ حُسْنِ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُنَاجَاةِ ، وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ لَا تُنَاسِبُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ لِضِيقِ النَّفْسِ وَضَجَرِهَا فِي حَالَةِ

الِانْحِنَاءِ وَانْحِصَارِ الْأَعْضَاءِ وَحَبْسِ النَّفَسِ فَتُنَاسِبُ الْمَنْعَ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَمَّا عُيِّنَ لَهَا مَوْطِنٌ نَاسَبَ أَنْ تُعَيَّنَ بَقِيَّةُ الْمَوَاطِنِ لِغَيْرِهَا مِنْ الثَّنَاءِ الْمَحْضِ وَالدُّعَاءِ الْمَحْضِ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ قَدْ لَا تَكُونُ ثَنَاءً وَلَا دُعَاءً فَتَشْتَمِلُ الصَّلَاةُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ وَلَا تَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ فَتَكُونُ حِينَئِذٍ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { أَفْضَلُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ } وَهَذِهِ الْمَوَاطِنُ الثَّلَاثُ مُنَاسِبَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا لِمَا وُضِعَ فِيهِ فَالْقِرَاءَةُ فِي الْقِيَامِ لِلتَّمَكُّنِ وَالدُّعَاءُ فِي السُّجُودِ لِفَرْطِ الْقُرْبِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ عَادَةُ الْمُلُوكِ وَأَمَّا كَوْنُ الرُّكُوعِ لَا يَتَقَرَّبُ بِهِ وَحْدَهُ بِخِلَافِ السَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ فَإِنَّهَا شُرِعَتْ قُرْبَةً فِي التِّلَاوَةِ وَشُكْرِ النِّعَمِ عِنْدَ مَنْ يَرَى سَجْدَةَ الشُّكْرِ ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرَاهَا دُونَ مَالِكٍ فَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّقَرُّبِ بِالرُّكُوعِ وَحْدَهُ لَمْ أَقِفْ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ تَعَبُّدٌ ، وَكَذَلِكَ أَرْكَانُ الْحَجِّ الَّتِي لَا يُتَقَرَّبُ بِهَا مُنْفَرِدَةً الْغَالِبُ عَلَيْهَا التَّعَبُّدُ بِخِلَافِ الطَّوَافِ فَإِنَّهُ شُرِعَ قُرْبَةً وَحْدَهُ دُونَ السَّعْيِ فَإِنَّهُ لَا يُشْرَعُ قُرْبَةً وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ اُشْتُرِطَ مَعَ الطَّوَافِ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ وَعَلَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ وَالْفُرُوقِ انْبَنَى قَوْلُ الْقَائِلِ لَوْ لَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ شَرْطًا فِي الِاعْتِكَافِ لَمَا صَارَ شَرْطًا لَهُ بِالنَّذْرِ كَالصَّلَاةِ لَكِنَّهُ إذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَائِمًا لَزِمَهُ ذَلِكَ وَوَجَبَ الصَّوْمُ وَصِحَّةُ هَذَا الْكَلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ : الْقَاعِدَةُ الْأُولَى أَنَّ النَّذْرَ لَا يُؤَثِّرُ إلَّا فِي مَنْدُوبٍ وَلَمَّا أَثَّرَ النَّذْرُ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ مَعَ الِاعْتِكَافِ إذَا نَذَرَهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَطْلُوبٌ أَنْ يَجْمَعَ

بَيْنَهُمَا .
وَالْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ صَائِمًا لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ غَيْرُ مَطْلُوبٍ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَطْلُوبًا فِي نَفْسِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُؤَثِّرْ النَّذْرُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) وَبِحَمْدِهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ مِنْ بَعْدِهِ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ شَادُوا الدِّينَ .
( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُطْلَبُ جَمْعُهُ وَافْتِرَاقُهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُطْلَبُ افْتِرَاقُهُ دُونَ جَمْعِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُطْلَبُ جَمْعُهُ دُونَ افْتِرَاقِهِ ) أَمَّا أَمْثِلَةُ قَاعِدَةِ مَا يُطْلَبُ جَمْعُهُ وَافْتِرَاقُهُ فَمِنْهَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ فَإِنَّهُ مَطْلُوبٌ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ شَرْطٌ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي كُلِّ تَقَرُّبٍ فَإِنَّ التَّقَرُّبَ بِالْعِبَادَةِ فَرْعُ التَّصْدِيقِ بِالْأَمْرِ بِهَا وَالْأَصْلُ شَرْطٌ فِي تَحَقُّقِ الْفَرْعِ ، فَالْإِيمَانُ شَرْطٌ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ وَالشَّرْطُ مَطْلُوبُ الْحُصُولِ مَعَ الْمَشْرُوطِ فَالْإِيمَانُ مَطْلُوبُ الْجَمْعِ مَعَ كُلِّ عِبَادَةٍ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ يُكْتَفَى مِنْهُ بِالْإِيمَانِ الْحُكْمِيِّ تَخْفِيفًا عَلَى الْعَبْدِ فَإِنَّ اسْتِحْضَارَهُ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ وَفِي جَمِيعِ أَجْزَائِهَا رُبَّمَا يَشُقُّ عَلَى الْمُكَلَّفِ فَيُكْتَفَى بِتَقَدُّمِهِ عَنْ الْعِبَادَةِ فِعْلًا ثُمَّ يُسْتَصْحَبُ حُكْمًا وَمِنْهَا الدُّعَاءُ وَالسُّجُودُ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَطْلُوبٌ فِي نَفْسِهِ وَقَدْ وَرَدَ طَلَبُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَأَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ الدُّعَاءِ فَعَسَى أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ } وَمِنْهَا الثَّنَاءُ وَالتَّمْجِيدُ لَهُ تَعَالَى بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ فَإِنَّهُ مَطْلُوبٌ فِي نَفْسِهِ وَالرُّكُوعُ فِي الصَّلَاةِ مَطْلُوبٌ فِي نَفْسِهِ أَيْضًا وَقَدْ وَرَدَ طَلَبُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي نَفْسِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ أَنَّ الْقَاعِدَةَ لَمَّا تَقَرَّرَتْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَتَقَرَّبُوا إلَيْهِ عَلَى حَسَبِ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ مَعَ الْأَمَاثِلِ وَالْمُلُوكِ وَالْأَكَابِرِ ؛

إذْ نِسْبَةُ كُلٍّ مِنْ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدَةٌ لَا تَزِيدُهُ الطَّاعَاتُ وَلَا تَنْقُصُهُ الْمَعَاصِي وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ مَعَ مَنْ ذَكَرَ أَنْ يُقَدِّمُوا الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الطَّلَبِ مِنْهُمْ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ وَاسْتِعْطَافًا لِأَنْفُسِهِمْ نَاسَبَ جَعْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الثَّنَاءَ وَالتَّمْجِيدَ لَهُ فِي الرُّكُوعِ وَجَعْلَ الدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ بَعْدَ الثَّنَاءِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا كَانَ السُّجُودُ فِي الْعِبَادَةِ أَبْلَغَ شَرْعًا مِنْ الرُّكُوعِ كَمَا أَنَّ بَذْلَ الدِّينَارِ صَدَقَةً أَبْلَغُ فِي الْعَادَةِ مِنْ بَذْلِ الدِّرْهَمِ وَأَبْلَغِيَّةُ السُّجُودِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا الْإِفْرَاطُ فِي الْقُرْبِ مِنْ الرَّبِّ تَعَالَى قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ إذَا كَانَ سَاجِدًا } .
وَثَانِيهِمَا : أَنَّهُ أَشَقُّ مِنْ الرُّكُوعِ لِمَا سَيَأْتِي ، وَارْتِكَابُ الْأَشَقِّ فِي تَحْصِيلِ الْمَأْمُورِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الطَّوَاعِيَةِ فَيَكُونُ مُوجِبًا لِمَزِيدِ الْأُجُورِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ أَحَمْزُهَا } أَيْ أَشَقُّهَا وَكَانَ الدُّعَاءُ مُخَّ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الطَّلَبِ ، وَالثَّنَاءُ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ حَتَّى سُمِّيَ دُعَاءً فِي قَوْلِهِ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْته أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } فَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فَقِيلَ لَهُ هَذَا الثَّنَاءُ فَأَيْنَ الدُّعَاءُ فَأَنْشُد أَبْيَاتِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ وَهِيَ أَأَطْلُبُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي حَيَاؤُك إنَّ شِيمَتَك الْحَيَاءُ إذَا أَثْنَى عَلَيْك الْمَرْءُ يَوْمًا كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِك الثَّنَاءُ كَرِيمٌ لَا يُغَيِّرُهُ صَبَاحٌ عَنْ الْخُلُقِ الْجَمِيلِ وَلَا مَسَاءُ وَعِلْمُك بِالْحُقُوقِ وَأَنْتَ قِدَمًا لَك الْحَسَبُ الْمُهَذَّبُ وَالْوَفَاءُ يَعْنِي فَلَمَّا كَانَ الثَّنَاءُ يُحَصِّلُ مِنْ الْكَرِيمِ مَا لَا يُحَصِّلُهُ الدُّعَاءُ

سُمِّيَ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دُعَاءً ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ { مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ } نَاسَبَ تَقْدِيمَ الْوَسِيلَةِ فِي الرُّكُوعِ وَتَأْخِيرَ الدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ وَأَشَقُّ وَأَفْرَطُ فِي الْقُرْبِ مِنْ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَأَمَّا أَمْثِلَةُ قَاعِدَةِ مَا يُطْلَبُ افْتِرَاقُهُ دُونَ جَمْعِهِ فَمِنْهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مَطْلُوبَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ كَمَا أَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ مَطْلُوبَانِ كَذَلِكَ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مَطْلُوبٍ بَلْ قَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { نُهِيت أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا } عَكْسُ مَا وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ مَعَ السُّجُودِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا عَيَّنَ الرُّكُوعَ لِلثَّنَاءِ الْمَحْضِ وَالسُّجُودَ لِلدُّعَاءِ الْمَحْضِ نَاسَبَ أَنْ يُعَيِّنَ الْقِيَامَ مَوْطِنًا لِلْقِرَاءَةِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ لَا تَكُونُ ثَنَاءً وَلَا دُعَاءً لِتَشْمَلَ الصَّلَاةُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ وَلَا تَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ فَتَكُونُ حِينَئِذٍ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { أَفْضَلُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ } .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا جَعَلَ الْقِيَامَ مَوْطِنًا لِلْقِرَاءَةِ ؛ لِأَنَّهُ حَالَةُ اسْتِقْرَارٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ الْفِكْرُ مِنْ التَّأَمُّلِ لِمَعَانِي الْقِرَاءَةِ وَالِاتِّعَاظِ بِوَعِيدِهَا وَوَعْدِهَا وَالتَّفَكُّرِ فِي مَعَانِيهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا مَعَ حُسْنِ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُنَاجَاةِ بِخِلَافِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِمَا فِي الْأَوَّلِ مِنْ ضِيقِ النَّفْسِ وَضَجَرِهَا فِي حَالَةِ الِانْحِنَاءِ ، وَالثَّانِي مِنْ انْحِصَارِ الْأَعْضَاءِ وَحَبْسِ النَّفْسِ وَذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ أَحْوَالَ الْقِرَاءَةِ كَمَا أَنَّهُ

إنَّمَا جَعَلَ الدُّعَاءَ فِي السُّجُودِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَرْطِ الْقُرْبِ وَالثَّنَاءِ فِي الرُّكُوعِ ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لِلدُّعَاءِ وَلِجَرَيَانِهِ عَلَى عَادَةِ الطَّلَبِ مِنْ الْمُلُوكِ كَمَا عَلِمْتَ وَمِنْهَا الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَلَبُ التَّقَرُّبِ مِنْهُ مُنْفَرِدًا وَلَمْ يُطْلَبْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِقَاعِدَتَيْنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ صَائِمًا لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ وَالْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ النَّذْرَ لَا يُؤَثِّرُ إلَّا فِي مَنْدُوبٍ فَلَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ النَّذْرُ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ مَعَ الصَّلَاةِ كَمَا أَثَّرَ فِي وُجُوبِهِ مَعَ الِاعْتِكَافِ إذًا نَذْرَهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ مَعَ الصَّلَاةِ .
وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَطْلُوبًا فِي نَفْسِهِ وَأَنَّهُ مَطْلُوبٌ مَعَ الِاعْتِكَافِ فَمِنْ هُنَا ظَهَرَ صِحَّةُ قَوْلِ الْقَائِلِ لَوْ لَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ شَرْطًا فِي الِاعْتِكَافِ لَمَا كَانَ شَرْطًا لَهُ بِالنَّذْرِ كَالصَّلَاةِ لَكِنَّهُ إذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَائِمًا لَزِمَهُ ذَلِكَ وَوَجَبَ الصَّوْمُ فَافْهَمْ وَأَمَّا أَمْثِلَةُ قَاعِدَةِ مَا يُطْلَبُ جَمْعُهُ دُونَ افْتِرَاقِهِ فَمِنْهَا الرُّكُوعُ مَعَ سَجْدَتَيْنِ فِي الصَّلَاةِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبُ الْجَمْعِ وَلَمْ يُشْرَعْ التَّقَرُّبُ بِأَحَدِهِمَا مُنْفَرِدًا قَالَ الْأَصْلُ مَا مَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ قُرْبَةً إلَّا السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ فِي التِّلَاوَةِ وَكَذَا فِي شُكْرِ النِّعَمِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ دُونَ مَالِكٍ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّقَرُّبِ بِالرُّكُوعِ وَحْدَهُ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ تَعَبُّدٌ وَمِنْهَا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ مَعَ رَمْي الْجِمَارِ كُلُّ وَاحِدٍ مَطْلُوبٌ مَعَ الْآخَرِ وَلَيْسَ مَطْلُوبًا مُنْفَرِدًا وَمِنْهَا السَّعْيُ مَعَ الطَّوَافِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ قُرْبَةٌ وَلَيْسَ هُوَ بِانْفِرَادِهِ قُرْبَةٌ وَمِنْهَا الْحِلَاقُ مَعَ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ قُرْبَةٌ وَلَيْسَ هُوَ بِانْفِرَادِهِ قُرْبَةٌ .
قَالَ الْأَصْلُ : وَالْغَالِبُ عَلَى أَرْكَانِ الْحَجِّ الَّتِي لَا يَتَقَرَّبُ بِهَا

مُنْفَرِدَةً أَيْ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالسَّعْيِ وَكَذَا الْحِلَاقُ عَلَى الْقَوْلِ بِرُكْنِيَّتِهِ التَّعَبُّدُ بِخِلَافِ الطَّوَافِ فَإِنَّهُ شُرِعَ قُرْبَةً وَحْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ اُشْتُرِطَ مَعَهُ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ وَمِنْهَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ الِاسْتِقْرَاءُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ يَصِحُّ مَعَ التَّخْيِيرِ وَقَاعِدَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا يَصِحُّ مَعَ التَّخْيِيرِ ) وَسِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مَعَ التَّخْيِيرِ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ يَكُونُ الْأَمْرُ فِيهِ مُتَعَلِّقًا بِمَفْهُومِ أَحَدِهَا الَّذِي هُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا لِصِدْقِهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَيَكُونُ الْمُشْتَرَكُ مُتَعَلِّقَ الْأَمْرِ وَلَا تَخْيِيرَ فِيهِ وَالْخُصُوصِيَّاتُ هِيَ مُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ وَلَا وُجُوبَ فِيهَا فَمَفْهُومُ أَحَدِهَا الَّذِي هُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ أَلْبَتَّةَ ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ بِتَرْكِ الْجَمِيعِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَالْخُصُوصِيَّاتُ مُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ وَلَا وُجُوبَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عَيْنُ الْعِتْقِ وَلَا عَيْنُ الْكِسْوَةِ وَلَا عَيْنُ الْإِطْعَامِ بَلْ لَهُ تَرْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْخُصُوصِيَّاتِ بِفِعْلِ الْآخَرِ وَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِفِعْلِ الْمُشْتَرَكِ فِي أَيُّهَا شَاءَ فَإِنْ أَعْتَقَ حَصَلَ مَفْهُومُ أَحَدِهَا الَّذِي هُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا ، وَكَذَلِكَ إنْ كَسَا أَوْ أَطْعَمَ وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي هُوَ مَفْهُومُ أَحَدِهَا فَالْقَاعِدَةُ تَقْتَضِي أَنَّ النَّهْيَ مَتَى تَعَلَّقَ بِمُشْتَرَكٍ حُرِّمَتْ أَفْرَادُهُ كُلُّهَا فَإِذَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مَفْهُومَ الْخِنْزِيرِ حَرَّمَ كُلَّ خِنْزِيرٍ أَوْ مَفْهُومَ الْخَمْرِ حَرَّمَ كُلَّ خَمْرٍ وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فَرْدٌ فِي الْوُجُودِ لَدَخَلَ فِي ضِمْنِهِ الْمُشْتَرَكُ فَيَلْزَمُ الْمَحْذُورُ وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُشْتَرَكِ تَحْرِيمُ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إيجَابِ الْمُشْتَرَكِ إيجَابُ كُلِّ فَرْدٍ بِسَبَبِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ تَحْصِيلُ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَإِذَا حَصَلَ فَرْدٌ مِنْهَا حَصَلَتْ فِي ضِمْنِهِ وَاسْتُغْنِيَ عَنْ غَيْرِهِ فَلِذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنْ إيجَابِ الْمُشْتَرَكِ إيجَابُ أَفْرَادِهِ كُلِّهَا فَصَحَّ التَّخْيِيرُ مَعَ

الْأَمْرِ بِالْمُشْتَرَكِ وَلَمْ يَصِحَّ التَّخْيِيرُ مَعَ النَّهْيِ عَنْ الْمُشْتَرَكِ فَهَذَا هُوَ سِرُّ الْفَرْقِ ، فَإِنْ قُلْت : قَدْ وَقَعَ النَّهْيُ مَعَ التَّخْيِيرِ فِي الْأُخْتَيْنِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِ إحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا وَلَا نَعْنِي بِتَحْرِيمِ الْمُشْتَرَكِ إلَّا ذَلِكَ وَحَرَّمَ الْأُمَّ وَابْنَتَهَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَأَوْجَبَ إحْدَى الْخِصَالِ فِي الْكَفَّارَةِ وَإِذَا وَجَبَتْ وَاحِدَةٌ لَا بِعَيْنِهَا حُرِّمَتْ وَاحِدَةٌ لَا بِعَيْنِهَا فَهَذِهِ صُوَرٌ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ النَّهْيِ وَبَيْنَ التَّخْيِيرِ قُلْت هَذَا مُحَالٌ عَقْلًا وَمِنْ الْمُحَالِ عَقْلًا أَنْ يَفْعَلَ الْإِنْسَانُ فَرْدًا مِنْ جِنْسٍ أَوْ نَوْعٍ أَوْ كُلِّيٍّ مُشْتَرَكٍ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْمُشْتَرَكَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْجُزْئِيَّ فِيهِ الْكُلِّيُّ بِالضَّرُورَةِ وَفَاعِلُ الْأَخَصِّ فَاعِلُ الْأَعَمِّ فَلَا سَبِيلَ إلَى الْخُرُوجِ عَنْ الْعُهْدَةِ فِي النَّهْيِ إلَّا بِتَرْكِ كُلِّ فَرْدٍ ، وَالتَّخْيِيرُ مَعَ النَّهْيِ عَنْ الْمُشْتَرَكِ مُحَالٌ عَقْلًا ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الصُّوَرِ فَوَهْمٌ أَمَّا الْأُخْتَانِ وَالْأُمُّ وَابْنَتُهَا فَلِأَنَّ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِالْمَجْمُوعِ عَيْنًا لَا بِالْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَلَمَّا كَانَ الْمَطْلُوبُ أَنْ لَا تَدْخُلَ مَاهِيَّةُ الْمَجْمُوعِ الْوُجُودَ وَالْقَاعِدَةُ الْعَقْلِيَّةُ أَنَّ عَدَمَ الْمَاهِيَّةِ يَتَحَقَّقُ بِأَيِّ جُزْءٍ كَانَ مِنْ أَجْزَائِهَا لَا بِعَيْنِهِ فَلَا جَرَمَ أَيَّ أُخْتٍ تَرَكَهَا خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّهْيِ عَنْ الْمَجْمُوعِ لَا لِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ الْمُشْتَرَكِ بَلْ لِأَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْمَجْمُوعِ يَكْفِي فِيهِ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ لَا لِأَنَّ التَّحْرِيمَ تَعَلَّقَ بِوَاحِدَةٍ لَا بِعَيْنِهَا بَلْ تَعَلَّقَ بِالْمَجْمُوعِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِوَاحِدَةٍ لَا بِعَيْنِهَا فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفَرْقَ فَخِلَافُهُ مُحَالٌ عَقْلًا وَالشَّرْعُ لَا يَرِدُ بِخِلَافِ الْعَقْلِ وَلَا بِالْمُسْتَحِيلَاتِ .

وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ لَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُشْتَرَكَ حَرَّمَ تَرْكَ الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ الْمُشْتَرَكِ فَالْمُحَرَّمُ تَرْكُ الْجَمِيعِ لَا وَاحِدَةٌ بِعَيْنِهَا مِنْ الْخِصَالِ فَلَا نَجِدُ نَهْيًا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ إلَّا وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَجْمُوعِ لَا بِالْمُشْتَرَكِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَلِذَلِكَ صَحَّ التَّخْيِيرُ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَمْ يَصِحَّ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَإِنَّمَا يَقَعُ فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهِ لَا فِي أَصْلِ النَّهْيِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الشَّيْخَ سَيْفَ الدِّينِ فِي الْأَحْكَامِ لَهُ الْمَوْضُوعِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ حَكَى عَنْ أَصْحَابِنَا صِحَّةَ النَّهْيِ مَعَ التَّخْيِيرِ كَالْأَمْرِ وَحَكَى عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ مَنْعَهُ وَالْحَقُّ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دُونَ أَصْحَابِنَا إلَّا أَنْ يُرِيدُوا التَّخْيِيرَ فِي الْخُرُوجِ عَنْ الْعُهْدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَبْقَى خِلَافٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ .

قَالَ ( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ يَصِحُّ مَعَ التَّخْيِيرِ وَقَاعِدَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا يَصِحُّ مَعَ التَّخْيِيرِ ، وَسِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مَعَ التَّخْيِيرِ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ يَكُونُ الْأَمْرُ فِيهِ مُتَعَلِّقًا بِمَفْهُومِ أَحَدِهَا الَّذِي هُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا لِصِدْقِهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ) قُلْت : قَوْلُهُ : إنَّ الْأَمْرَ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ مُتَعَلِّقٌ بِأَحَدِهَا - صَحِيحٌ ، وَقَوْلُهُ : الَّذِي هُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا - لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَفْهُومُ أَحَدِ الْأُمُورِ إلَّا وَاحِدٌ مِنْهَا مُبْهَمًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ لَا الْحَقِيقَةُ الْمُشْتَرَكُ فِيهَا ، وَلَوْ تَعَلَّقَ الْوُجُوبُ بِالْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ لَلَزِمَ شُمُولُ الْوُجُوبِ لِكُلِّ شَخْصٍ مِمَّا فِيهِ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، وَقَوْلُهُ : لِصِدْقِهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ، قُلْت : لَا يَلْزَمُ مِنْ صِدْقِهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَقِيقَةُ الْمُشْتَرَكُ فِيهَا .
قَالَ ( فَيَكُونُ الْمُشْتَرَكُ مُتَعَلِّقَ الْأَمْرِ وَلَا تَخْيِيرَ فِيهِ ) قُلْت قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْأَمْرِ لَيْسَ الْمُشْتَرَكَ قَالَ ( وَالْخُصُوصِيَّاتُ هِيَ مُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ وَلَا وُجُوبَ فِيهَا ) قُلْت ذَلِكَ صَحِيحٌ إنْ أَرَادَ مِنْ حَيْثُ تَعَيُّنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا مُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ مِنْ حَيْثُ دُخُولِهَا تَحْتَ الْمُشْتَرَكِ فَلَا وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ تُعْتَبَرَ الْحَقِيقَةُ الشَّامِلَةُ لِأَنْوَاعِ الْكَفَّارَةِ وَشَبَهُهَا مِنْ حَيْثُ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ أَوَّلًا فَإِنْ اُعْتُبِرَتْ مِنْ حَيْثُ هِيَ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ فَلَا تَعَلُّقَ لِلْوُجُوبِ بِهَا وَإِنْ لَمْ تُعْتَبَرْ مِنْ حَيْثُ هِيَ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ فَلَا يَخْلُو أَنْ تُعْتَبَرَ الْأَنْوَاعُ مِنْ حَيْثُ هِيَ تِلْكَ الْأَنْوَاعُ أَوَّلًا ، فَإِنْ اُعْتُبِرَتْ مِنْ حَيْثُ هِيَ تِلْكَ الْأَنْوَاعُ فَلَا تَعَلُّقَ لِلْوُجُوبِ بِهَا ، وَإِنْ لَمْ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31