كتاب : أنوار البروق في أنواع الفروق
المؤلف : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَقَاصِدِ وَقَاعِدَةِ الْوَسَائِلِ ) وَكَذَا بَيْنَ قَاعِدَةِ كَوْنِ الْمَعَاصِي أَسْبَابًا لِلرُّخَصِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مُقَارَنَةِ الْمَعَاصِي لِأَسْبَابِ الرُّخَصِ .
أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَقَاصِدِ وَالْوَسَائِلِ فَهُوَ أَنَّ مَوَارِدَ الْأَحْكَامِ عَلَى قِسْمَيْنِ : الْأُولَى الْمَقَاصِدُ وَهِيَ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فِي أَنْفُسِهَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي مُوَافَقَاتِهِ وَقَوْلُ الرَّازِيّ إنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ لَيْسَتْ مُعَلَّلَةً بِعِلَّةٍ أَلْبَتَّةَ كَمَا أَنَّ أَفْعَالَهُ كَذَلِكَ خِلَافُ الْمُعْتَمَدِ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّا اسْتَقْرَيْنَا مِنْ الشَّرِيعَةِ أَنَّهَا وُضِعَتْ لِمَصَالِح الْعِبَادِ اسْتِقْرَاءً لَا يُنَازِعُ فِيهِ الرَّازِيّ وَلَا غَيْرُهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي بَعْثَةِ الرُّسُلِ وَهِيَ الْأَصْلُ { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } { وَمَا أَرْسَلْنَاك إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } وَقَالَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } { وَمَا خَلَقْت الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } .
وَأَمَّا التَّعَالِيلُ لِتَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى كَقَوْلِهِ بَعْدَ آيَةِ الْوُضُوءِ { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } وَقَالَ فِي الصِّيَامِ { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وَفِي الصَّلَاةِ { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } .
وَقَالَ فِي الْقِبْلَةِ { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } وَفِي الْجِهَادِ { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } وَفِي الْقِصَاصِ {

وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } وَفِي التَّقْرِيرِ عَلَى التَّوْحِيدِ بِ { أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ وَإِذَا دَلَّ الِاسْتِقْرَاءُ عَلَى هَذَا وَكَانَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ فَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ الْأَمْرَ مُسْتَمِرٌّ فِي جَمِيعِ تَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ وَمِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ ثَبَتَ الْقِيَاسُ وَالِاجْتِهَادُ فَلْنَجْرِ عَلَى مُقْتَضَاهُ وَيَبْقَى الْبَحْثُ فِي كَوْنِ ذَلِكَ وَاجِبًا أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ مَوْكُولًا إلَى عِلْمِهِ ثُمَّ إنَّهُ قَسَّمَ الْمَقَاصِدَ وَبَيَّنَ أَقْسَامَهَا بِمَسَائِلَ بَدِيعَةٍ فَانْظُرْهُ .
الْقِسْمُ الثَّانِي : الْوَسَائِلُ وَالْمَشْهُورُ فِي الِاصْطِلَاحِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِالذَّرَائِعِ وَهِيَ الطُّرُقُ الْمُفْضِيَةُ إلَى الْمَقَاصِدِ قِيلَ وَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا أَفْضَتْ إلَيْهِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ غَيْرِهِ إلَّا أَنَّهَا أَخْفَضُ رُتْبَةً فِي حُكْمِهَا مِمَّا أَفْضَتْ إلَيْهِ فَلَيْسَ كُلُّ ذَرِيعَةٍ يَجِبُ سَدُّهَا بَلْ الذَّرِيعَةُ كَمَا يَجِبُ سَدُّهَا يَجِبُ فَتْحُهَا وَتُكْرَهُ وَتُنْدَبُ وَتُبَاحُ بَلْ قَدْ تَكُونُ وَسِيلَةَ الْمُحَرَّمِ غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ إذَا أَفْضَتْ إلَى مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ كَالتَّوَسُّلِ إلَى فِدَاءِ الْأَسَارَى بِدَفْعِ الْمَالِ لِلْكُفَّارِ الَّذِي هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِنَاءً عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَنَا مِنْ خِطَابِهِمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَكَدَفْعِ مَالٍ لِرَجُلٍ يَأْكُلُهُ حَرَامًا حَتَّى لَا يَزْنِيَ بِامْرَأَةٍ إذَا عَجَزَ عَنْ دَفْعِهِ عَنْهَا إلَّا بِذَلِكَ وَكَدَفْعِ الْمَالِ لِلْمُحَارِبِ حَتَّى لَا يَقَعَ الْقَتْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الْمَالِ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَكِنَّهُ اشْتَرَطَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْوَسَائِلِ الْحَسَنَةِ قَوْله تَعَالَى { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ

عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } فَأَثَابَهُمْ اللَّهُ عَلَى الظَّمَأِ وَالنَّصَبِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ فِعْلِهِمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ حَصَلَا لَهُمْ بِسَبَبِ التَّوَسُّلِ إلَى الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةٌ لِإِعْزَازِ الدِّينِ وَصَوْنِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الِاسْتِعْدَادُ وَسِيلَةَ الْوَسِيلَةِ فَالذَّرَائِعُ الْمُفْضِيَةُ إلَى الْمُحَرَّمِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ .
( وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) مَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى سَدِّهِ وَمَنْعِهِ وَحَسْمِهِ وَلَهُ مَثَلٌ مِنْهَا حَفْرُ الْآبَارِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى إهْلَاكِهِمْ فِيهَا وَمِنْهَا إلْقَاءُ السُّمِّ فِي أَطْعِمَتِهِمْ ، وَمِنْهَا سَبُّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ مَنْ يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ سَبِّهَا .
( وَالْقِسْمُ الثَّانِي ) مَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى عَدَمِ مَنْعِهِ وَأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ لَا تُسَدُّ وَوَسِيلَةٌ لَا تُحْسَمُ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا زِرَاعَةُ الْعِنَبِ وَسِيلَةٌ إلَى الْخَمْرِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِالْمَنْعِ مِنْهَا خَشْيَةَ الْخَمْرِ وَمِنْهَا الْمُجَاوَرَةُ فِي الْبُيُوتِ وَسِيلَةٌ إلَى الزِّنَا وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِمَنْعِهَا خَشْيَةَ الزِّنَا .
( وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ ) مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُسَدُّ أَمْ لَا ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا بُيُوعُ الْآجَالِ وَهِيَ كَمَا قِيلَ تَصِلُ إلَى أَلْفِ مَسْأَلَةٍ كَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى شَهْرٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِخَمْسَةٍ قَبْلَ الشَّهْرِ فَاخْتَصَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقَوْلِ بِوُجُوبِ سَدِّهَا نَظَرًا إلَى أَنَّهُ تَوَسُّلٌ بِإِظْهَارِ صُورَةِ الْبَيْعِ لِسَلَفِ خَمْسَةٍ بِعَشَرَةٍ إلَى أَجَلٍ مَثَلًا ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ مِنْ يَدِهِ خَمْسَةً الْآنَ وَأَخَذَ عَشَرَةً آخِرَ الشَّهْرِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُنْظَرُ إلَى صُورَةِ الْبَيْعِ وَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ وَمِنْهَا النَّظَرُ إلَى النِّسَاءِ قِيلَ يُحَرَّمُ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الزِّنَا وَقِيلَ لَا يُحَرَّمُ وَمِنْهَا حَكَمَ بِعِلْمِهِ قِيلَ يُحَرَّمُ ؛

لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لِلْقَضَاءِ بِالْبَاطِلِ مِنْ الْقُضَاةِ السُّوءِ ، وَقِيلَ لَا يُحَرَّمُ وَمِنْهَا صُنَّاعُ السِّلَعِ قِيلَ يَضْمَنُونَهَا إذَا ادَّعَوْا ضَيَاعَهَا سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْأَخْذِ ؛ لِأَنَّهُمْ يُؤَثِّرُونَ فِيهَا بِصَنْعَتِهِمْ فَتَتَغَيَّرُ فَلَا يَعْرِفُهَا رَبُّهَا إذَا بِيعَتْ وَقِيلَ لَا يَضْمَنُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ أُجَرَاءُ وَأَصْلُ الْإِجَارَةِ عَلَى الْأَمَانَةِ ، وَمِنْهَا حَمَلَةُ الطَّعَامِ قِيلَ : يَضْمَنُونَهُ إذَا تَلِفَ لِئَلَّا تَمْتَدَّ أَيْدِيهِمْ إلَيْهِ ، وَقِيلَ : لَا يَضْمَنُونَهُ قُلْت وَمِنْهَا آلَاتُ الْمَلَاهِي فَإِنَّهَا مُجْمَعٌ عَلَى تَحْرِيمِهَا إنْ تَرَتَّبَ فُسُوقٌ وَمَشْهُورُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا كَمَا فِي مَجْمُوعِ الْأَمِيرِ وَالصَّاوِيِّ عَلَى أَقْرَبِ الْمَسَالِكِ بَلْ قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الزَّوَاجِرِ وَقَدْ حَكَى الشَّيْخَانِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ الْمِزْمَارِ الْعِرَاقِيِّ وَمَا يُضْرَبُ بِهِ مِنْ الْأَوْتَارِ ا هـ .
وَاخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً وَالْأَصَحُّ الثَّانِي كَمَا فِي الدُّسُوقِيِّ عَلَى الدَّرْدِيرِ عَلَى خَلِيلٍ وَفِي الْإِحْيَاءِ الْمَنْعُ مِنْ الْأَوْتَارِ كُلِّهَا لِثَلَاثِ عِلَلٍ : كَوْنُهَا تَدْعُو إلَى شُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنَّ اللَّذَّةَ الْحَاصِلَةَ تَدْعُو إلَيْهَا فَلِهَذَا حُرِّمَ شُرْبُ قَلِيلِهَا ، وَكَوْنُهَا فِي قَرِيبِ الْعَهْدِ بِشُرْبِهَا تُذَكِّرُهُ مَجَالِسَ الشُّرْبِ وَالذِّكْرُ سَبَبُ انْبِعَاثِ الْفُسُوقِ وَانْبِعَاثُهُ سَبَبُ الْإِقْدَامِ ، وَكَوْنُ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْأَوْتَارِ صَارَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْفِسْقِ مَعَ التَّشَبُّهِ بِهِمْ وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ كَمَا فِي الزَّوَاجِرِ قَالَ أَيْ فَالتَّشَبُّهُ بِهِمْ حَرَامٌ وَفِي شَرْحِ الْمَجْمُوعِ وَلَا يَبْعُدُ مَا فِي الْإِحْيَاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ النَّظَرِ لِمَا يَتَرَتَّبُ ا هـ .
قَالَ الشَّيْخُ حِجَازِيٌّ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ الْعِلَّةِ فَمَنْ حَسُنَ قَصْدُهُ وَتَطَهَّرَ مِنْ حُظُوظِ الشَّهَوَاتِ وَرَذَائِلِ الشُّبُهَاتِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُحْكَمَ عَلَى سَمَاعِهِ بِالْحُرْمَةِ ا هـ الْمُرَادُ .
وَفِي ضَوْءِ

الشُّمُوعِ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ دَاعِي دَرْءِ الْمَفَاسِدِ فَلِذَا قَالَ وَلَا يَبْعُدُ إلَخْ وَلَمْ يَجْزِمْ ا هـ .
بِتَغْيِيرٍ .
وَمِنْهَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي قُلْنَا بِسَدِّهَا وَلَمْ يَقُلْ بِسَدِّهَا الشَّافِعِيُّ فَلَيْسَ سَدُّ الذَّرَائِعِ خَاصًّا بِمَالِكٍ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ بَلْ قَالَ بِهَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ وَأَصْلُ سَدِّهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ا هـ .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَكَوْنُ مَا أَفْضَى إلَى الْوَاجِبِ وَاجِبًا مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ فِيمَا لَمْ يُصَرِّحْ الشَّرْعُ بِوُجُوبِهِ ا هـ .
( تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ ) قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَقَاعِدَةُ الذَّرِيعَةِ الَّتِي يَجِبُ سَدُّهَا شَرْعًا هُوَ مَا يُؤَدِّي مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ إلَى مَحْظُورٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ لَا مُطْلَقِ مَحْظُورٍ فَمِنْ هُنَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَشْتَرِي الْوَلِيُّ فِي مَشْهُورِ الْأَقْوَالِ مِنْ مَالِ يَتِيمِهِ إذَا كَانَ نَظَرًا لَهُ وَهُوَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِصْلَاحِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي آيَةِ { وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } إلَخْ فَلَا يُقَالُ لِمَ تَرَكَ مَالِكٌ أَصْلَهُ فِي التُّهْمَةِ وَالذَّرَائِعِ وَجَوَّزَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ مَعَ يَتِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ قَدْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى هَاهُنَا فِي صُورَةِ الْمُخَالَطَةِ وَوَكَلَ الْحَاضِنِينَ إلَى أَمَانَتِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ } وَكُلُّ أَمْرٍ مَخُوفٍ وَوَكَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ الْمُكَلَّفَ إلَى أَمَانَتِهِ لَا يُقَالُ فِيهِ أَنَّهُ يَتَذَرَّعُ إلَى مَحْظُورٍ فَمَنَعَ مِنْهُ كَمَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النِّسَاءَ مُؤْتَمَنَاتٍ عَلَى فُرُوجِهِنَّ مَعَ عِظَمِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى قَوْلِهِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَيَرْتَبِطُ بِهِ مِنْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَالْأَنْسَابِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكْذِبْنَ وَهَذَا فَنٌّ بَدِيعٌ فَتَأَمَّلُوهُ وَاِتَّخِذُوهُ

دُسْتُورًا فِي الْأَحْكَامِ وَأَصِّلُوهُ ا هـ .
( التَّنْبِيهُ الثَّانِي ) قَالَ الْأَصْلُ الْقَاعِدَةُ أَنَّهُ كُلَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْمَقْصِدِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْوَسِيلَةِ فَإِنَّهَا تَبَعٌ لَهُ فِي الْحُكْمِ وَقَدْ خُولِفَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الْحَجِّ فِي إمْرَارِ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِ مَنْ لَا شَعْرَ لَهُ مَعَ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى إزَالَةِ الشَّعْرِ فَيَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى الْقَاعِدَةِ ا هـ .
قُلْت : وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ أَغْلَبِيَّةٌ كَقَاعِدَةِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَكَذَا كَوْنُ الْوَسِيلَةِ إلَى أَفْضَلِ الْمَقَاصِدِ أَفْضَلَ الْوَسَائِلِ وَإِلَى أَقْبَحِ الْمَقَاصِدِ أَقْبَحَ الْوَسَائِلِ وَإِلَى مَا يَتَوَسَّطُ مُتَوَسِّطَةً كَمَا لَا يَخْفَى فَافْهَمْ .
( وَأَمَّا الْفَرْقُ ) بَيْنَ كَوْنِ الْمَعَاصِي أَسْبَابًا لِلرُّخَصِ وَبَيْنَ مُقَارَنَةِ الْمَعَاصِي لِأَسْبَابِ الرُّخَصِ فَهُوَ أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَا تَكُونُ أَسْبَابًا لِلرُّخْصِ ؛ لِأَنَّ تَرْتِيبَ التَّرَخُّصِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ سَعْيٌ فِي تَكْثِيرِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِسَبَبِهَا فَالْعَاصِي بِسَفَرِهِ كَالْآبِقِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَلَا يَقْصُرُ وَلَا يُفْطِرُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ هَذَيْنِ الرُّخْصَتَيْنِ السَّفَرُ وَهُوَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَعْصِيَةٌ فَلَا يُنَاسِبُ الرُّخْصَةَ .
وَأَمَّا مُقَارَنَةُ الْمَعَاصِي لِأَسْبَابِ الرُّخَصِ فَلَا تَمْتَنِعُ إجْمَاعًا وَمِنْ مِثْلِهِ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ أَفْسَقُ النَّاسِ وَأَعْصَاهُمْ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ وَهُوَ رُخْصَةٌ ، وَإِذَا أَضَرَّ الصَّوْمُ بِأَفْسَقِ النَّاسِ جَازَ لَهُ الْفِطْرُ وَإِذَا أَضَرَّ بِهِ الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ جَازَ لَهُ الْجُلُوسُ وَيُقَارِضُ وَيُسَاقِي وَلَا يَمْنَعُهُ عِصْيَانُهُ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرُّخْصِ وَنَحْوِهَا ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ هَذِهِ الرُّخَصِ غَيْرُ مَعْصِيَةٍ وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ مُقَارِنَةٌ لِلسَّبَبِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الْمَاءِ أَوْ الْعَجْزُ عَنْ الصَّوْمِ أَوْ عَنْ الْقِيَامِ أَوْ نَحْوِهِمَا مِمَّا

لَيْسَ هُوَ بِمَعْصِيَةٍ لَا أَنَّهَا هِيَ السَّبَبُ حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ لَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ إذَا اضْطَرَّ إلَيْهَا وَيَلْزَمُهُ أَنْ لَا يُبِيحَ لِلْعَاصِي جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَا قَالَهُ مُسَاوٍ لِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ضَرُورَةَ أَنَّ سَبَبَ أَكْلِهِ خَوْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا سَفَرِهِ الَّذِي هُوَ مَعْصِيَةٌ فَالْمَعْصِيَةُ مُقَارِنَةٌ لِسَبَبِ الرُّخْصَةِ لَا أَنَّهَا هِيَ السَّبَبُ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ عَدَمِ عِلَّةِ الْإِذْنِ أَوْ التَّحْرِيمِ وَبَيْنَ عَدَمِ عِلَّةِ غَيْرِهِمَا مِنْ الْعِلَلِ ) اعْلَمْ أَنَّ عَدَمَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ الْآخَرِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا مِنْ الْعِلَلِ فَعَدَمُ عِلَّةِ الْإِذْنِ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ وَعَدَمُ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ عِلَّةُ الْإِذْنِ .
وَأَمَّا عَدَمُ عِلَّةِ الْوُجُوبِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ شَيْءٌ فَقَدْ يَكُونُ غَيْرُ الْوَاجِبِ مُحَرَّمًا وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ مَكْرُوهًا ، وَكَذَلِكَ عَدَمُ عِلَّةِ النَّدْبِ أَوْ الْكَرَاهَةِ قَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ بَعْدَ ذَلِكَ وَاجِبًا أَوْ مُحَرَّمًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ مَتَى عُدِمَتْ عِلَّةُ الْإِذْنِ تَعَيَّنَ التَّحْرِيمُ وَمَتَى عُدِمَتْ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ تَعَيَّنَ الْإِذْنُ وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِذِكْرِ ثَلَاثِ مَسَائِلَ .
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) عِلَّةُ النَّجَاسَةِ الِاسْتِقْذَارُ فَمَتَى كَانَتْ الْعَيْنُ لَيْسَتْ بِمُسْتَقْذَرَةٍ فَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْعَيْنِ عَدَمُ النَّجَاسَةِ وَأَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً فَعِلَّةُ الطَّهَارَةِ عَدَمُ عِلَّةِ النَّجَاسَةِ فَهَذَا هُوَ شَأْنُ هَذَا الْمَقَامِ إلَّا أَنْ يَحْدُثَ مُعَارِضٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يُعَارِضُنَا عِنْدَ عَدَمِ الْعِلَّةِ كَمَا فِي الْخَمْرِ ، فَإِنَّ الْخَمْرَ لَيْسَتْ بِمُسْتَقْذَرَةٍ وَإِنَّمَا قُضِيَ بِتَنْجِيسِهَا ؛ لِأَنَّهَا مَطْلُوبَةُ الْإِبْعَادِ وَالْقَوْلُ بِتَنْجِيسِهَا يُفْضِي إلَى إبْعَادِهَا وَمَا يُفْضِي إلَى الْمَطْلُوبِ مَطْلُوبٌ فَتَنْجِيسُهَا مَطْلُوبٌ فَتَكُونُ نَجِسَةً فَهَذِهِ عِلَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ الِاسْتِقْذَارِ وُجِدَتْ عِنْدَ عَدَمِهِ فَقَامَتْ مَقَامَهُ وَإِلَّا فَالْحُكْمُ مَا ذَكَرَ عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَلِّلَ النَّجَاسَةَ وَإِذَا سَأَلَتْهُ عَنْ عِلَّةِ الطَّهَارَةِ لَا يَعْلَمُهَا وَهِيَ عَدَمُ عِلَّةِ النَّجَاسَةِ وَإِذَا سُئِلَ أَيْضًا أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَنْ النَّجَاسَةِ إلَى أَيِّ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ تَرْجِعُ رُبَّمَا عَسِرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَظَنَّ أَنَّهَا حُكْمٌ آخَرُ مِنْ

أَحْكَامِ الْوَضْعِ أَوْ غَيْرِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ تَرْجِعُ إلَى أَحَدِ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ لَهُمْ مَا الطَّهَارَةُ عَسِرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ حَتَّى رَأَيْت لِبَعْضِ الْأَكَابِرِ أَنَّ الطَّهَارَةَ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الطَّهُورِ فِي الْعَيْنِ الَّتِي قُضِيَ عَلَيْهَا بِالطَّهَارَةِ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ بُطُونَ الْجِبَالِ وَتِلَالَ الرِّمَالِ وَبُطُونَ الْأَرْضِ طَاهِرَةٌ مَعَ عَدَمِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِيهَا بَلْ النَّجَاسَةُ تَرْجِعُ إلَى تَحْرِيمِ الْمُلَابَسَةِ فِي الصَّلَوَاتِ وَالْأَغْذِيَةِ لِأَجْلٍ الِاسْتِقْذَارِ أَوْ التَّوَسُّلِ لِلْإِبْعَادِ فَقَوْلِي لِأَجْلِ الِاسْتِقْذَارِ احْتِرَازًا مِنْ السَّمُومِ فَإِنَّهَا تَحْرُمُ مُلَابَسَتُهَا فِي الْأَغْذِيَةِ ، وَكَذَلِكَ الْأَغْذِيَةُ وَالْأَشْرِبَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْأَسْقَامِ وَالْأَمْرَاضِ تَحْرُمُ مُلَابَسَتُهَا فِي الْأَغْذِيَةِ وَلَيْسَتْ نَجِسَةً وَقَوْلِي أَوْ التَّوَسُّلِ لِلْإِبْعَادِ احْتِرَازًا مِنْ الْخَمْرِ حَتَّى تَنْدَرِجَ فِي الْحَدِّ ، وَلَوْ اقْتَصَرْت عَلَى قَوْلِي تَحْرُمُ مُلَابَسَتُهَا فِي الصَّلَوَاتِ لَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا لَكِنْ أَرَدْت بِذِكْرِ الْأَغْذِيَةِ زِيَادَةَ الْبَيَانِ وَالطَّهَارَةُ عِبَارَةٌ عَنْ إبَاحَةِ الْمُلَابَسَةِ فِي الصَّلَوَاتِ وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ تَنْدَرِجُ بُطُونُ الْجِبَالِ وَسَائِرُ الْأَعْيَانِ فَظَهَرَ أَنَّ النَّجَاسَةَ تَرْجِعُ لِلتَّحْرِيمِ وَالطَّهَارَةُ تَرْجِعُ لِلْإِبَاحَةِ وَأَنَّ عَدَمَ عِلَّةِ التَّنْجِيسِ عِلَّةُ الطَّهَارَةِ وَأَنَّ عَدَمَ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ عِلَّةُ الْإِبَاحَةِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) تَحْرِيمُ الْخَمْرِ مُعَلَّلٌ بِالْإِسْكَارِ فَمَتَى زَالَ الْإِسْكَارُ زَالَ التَّحْرِيمُ وَثَبَتَ الْإِذْنُ وَجَازَ أَكْلُهَا وَشُرْبُهَا وَعِلَّةُ إبَاحَةِ شُرْبِ الْعَصِيرِ مُسَالَمَتُهُ لِلْعَقْلِ وَسَلَامَتُهُ عَنْ الْمَفَاسِدِ فَعَدَمُ هَذِهِ الْمُسَالَمَةِ وَالسَّلَامَةِ عِلَّةٌ لِتَحْرِيمِهِ فَظَهَرَ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ عَدَمَ التَّحْرِيمِ عِلَّةُ الْإِذْنِ وَعَدَمُ عِلَّةِ الْإِذْنِ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ .
(

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) الْحَدَثُ لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِلْوُضُوءِ فَلِذَلِكَ يُقَالُ أَحْدَثَ إذَا خَرَجَ مِنْهُ خَارِجٌ وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ الْمَنْعُ الْمُرَتَّبُ عَلَى هَذَا السَّبَبِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْعُلَمَاءِ يَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثِ بِفِعْلِهِ أَيْ يَنْوِي ارْتِفَاعَ الْمَنْعِ الْمُرَتَّبِ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ وَلَا يُمْكِنُ فِي نِيَّتِهِ رَفْعُ الْحَدَثِ إلَّا بِهَذَا فَإِنَّ تِلْكَ الْأَسْبَابَ الْمُوجِبَةَ لِلْوُضُوءِ يَسْتَحِيلُ رَفْعُهَا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ وَاقِعَةً دَاخِلَةً فِي الْوُجُودِ وَلَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّهُ يَرْفَعُ تِلْكَ الْأَعْيَانَ الْمُسْتَقْذَرَةَ مِنْ غَيْرِهَا بِوُضُوءٍ بَلْ الَّذِي يَنْوِي بِرَفْعِهِ هَذَا الْمَنْعَ الْمُرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الْأَسْبَابِ ، وَالْمَنْعُ وَإِنْ كَانَ أَيْضًا وَقَعَ وَصَارَ مِنْ جُمْلَةِ الْوَاقِعَاتِ وَالْوَاقِعَاتُ يَسْتَحِيلُ رَفْعُهَا غَيْرَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِرَفْعِهِ مَنْعُ اسْتِمْرَارِهِ كَمَا أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يَمْنَعُ اسْتِمْرَارَ مَنْعِ الْوَطْءِ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ كَذَلِكَ هَاهُنَا وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ لَا يَعْرِفُ مَعْنَى الْحَدَثِ أَيْضًا وَهُوَ يَرْجِعُ إلَى تَحْرِيمِ مُلَابَسَةِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَتَطَهَّرَ وَإِذَا كَانَ الْحَدَثُ عِبَارَةً عَنْ التَّحْرِيمِ ، فَإِذَا تَطَهَّرَ الْإِنْسَانُ وَصَارَ يُبَاحُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعِبَادَةِ فَالْإِبَاحَةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُضَافَةٌ إلَى عَدَمِ سَبَبٍ يَقْتَضِي وُجُوبَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ فَعِلَّةُ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ عَدَمُ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ الَّتِي هِيَ عِلَّةُ الْحَدَثِ الَّذِي هُوَ الْمَنْعُ فَذَلِكَ الْخَارِجُ مَثَلًا هُوَ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ وَعَدَمُهُ عِلَّةُ الْإِبَاحَةِ بَعْدَ التَّطَهُّرِ وَاسْتِعْمَالُ الْمَاءِ سَبَبُ ارْتِفَاعِ ذَلِكَ الْمَنْعِ وَحُصُولُ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ فَحَصَلَ أَيْضًا فِي هَذَا الْمِثَالِ أَنَّ عِلَّةَ الْإِبَاحَةِ عَدَمُ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَعَدَمُ سَبَبِ الْإِبَاحَةِ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنْ قُلْت لِمَ لَا يَكُونُ الْوُضُوءُ مَثَلًا هُوَ سَبَبُ

الْإِبَاحَةِ وَعَدَمُهُ هُوَ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ وَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ تِلْكَ الْفَضَلَاتِ الْمُسْتَقْذَرَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُلَامَسَةِ وَنَحْوِهَا قُلْت لَا خَفَاءَ أَنَّ الْوُضُوءَ مُوجِبٌ لِلْإِبَاحَةِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَمَا هُوَ مُشْتَرَطٌ فِيهِ الْوُضُوءُ وَنَقُولُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الطَّهَارَةُ سَبَبٌ لِلْإِبَاحَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ حَتَّى يَطْرَأَ الْحَدَثُ وَالْحَدَثُ سَبَبُ الْمَنْعِ الْمُسْتَمِرِّ حَتَّى تَطْرَأَ الطَّهَارَةُ وَيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ فَإِنَّ عَدَمَ الطَّهَارَةِ بِالْكُلِّيَّةِ سَبَبُ الْمَنْعِ وَعَدَمُ الْحَدَثِ بِالْكُلِّيَّةِ سَبَبُ الْإِبَاحَةِ فَإِنْ قُلْت فَمَنْ لَمْ يُحْدِثْ قَطُّ يَلْزَمْك أَنْ تُبَاحَ لَهُ الصَّلَاةُ وَإِنْ لَمْ يَتَطَهَّرْ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْإِبَاحَةِ مَوْجُودٌ فِي حَقِّهِ وَهُوَ عَدَمُ الْحَدَثِ قُلْت الْتَزَمَهُ مَعَ أَنَّهُ فَرْضٌ مُحَالٌ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهُ فَضَلَاتُ غِذَائِهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَعِنْدَ الْوِلَادَةِ فَإِذَا فُرِضَ وُقُوعُ هَذَا الْمُحَالِ وَهُوَ عَدَمُ خُرُوجِ شَيْءٍ مِنْهُ أَلْبَتَّةَ لَا مَانِعَ لِي مِنْ الْتِزَامِ الْإِبَاحَةِ فِي حَقِّهِ لَا بِنَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ .
وَكَذَلِكَ أَقُولُ فِي الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فِي سَبَبِ الْمَنْعِ الْمُسْتَمِرِّ حَتَّى تَطْرَأَ الطَّهَارَةُ وَالطَّهَارَةُ سَبَبُ الْإِبَاحَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ حَتَّى تَطْرَأَ هَذِهِ الْأَحْدَاثُ وَعَدَمُ هَذِهِ الْأَحْدَاثِ سَبَبُ الْإِبَاحَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَلَوْلَا اشْتِرَاطُ صَاحِبِ الشَّرْعِ الْوُضُوءَ لَأَبَحْنَا الصَّلَاةَ لِمَنْ عُدِمَتْ فِي حَقِّهِ هَذِهِ الْأَحْدَاثُ الْكِبَارُ وَصَحَّ لَنَا حِينَئِذٍ فِي الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ وَالطَّهَارَةِ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى أَنَّ عَدَمَ سَبَبِ الْإِبَاحَةِ سَبَبُ الْمَنْعِ وَعَدَمُ سَبَبِ الْمَنْعِ سَبَبُ الْإِبَاحَةِ وَاطَّرَدَتْ الْقَاعِدَةُ وَهَذَا الْخِلَافُ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَعِلَّتُهُ فَإِنَّ سَبَبَ وُجُوبِ إرَاقَةِ دَمِ الْمُرْتَدِّ رِدَّتُهُ فَإِذَا فُقِدَتْ الرِّدَّةُ كَانَ دَمُهُ حَرَامًا وَسَبَبُ وُجُوبِ النَّفَقَةِ الزَّوْجِيَّةُ

أَوْ الْقَرَابَةُ ، فَإِذَا عُدِمَ ذَلِكَ لَا تَحْرُمُ النَّفَقَةُ بَلْ يُنْدَبُ إلَيْهَا فِي الْأَجَانِبِ وَسَبَبُ وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ حُضُورُ مَحَلِّهَا الَّذِي هُوَ الْقِيَامُ فَإِذَا رَكَعَ وَسَجَدَ وَعُدِمَ الْقِيَامُ كُرِهَتْ الْقِرَاءَةُ فَلَمَّا كَانَ عَدَمُ سَبَبِ الْوُجُوبِ لَا يَسْتَلْزِمُ مِنْ ذَلِكَ حُكْمًا مُعَيَّنًا فَارَقَ بِذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عِلَّةِ الْإِبَاحَةِ وَالْمَنْعِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ .
وَمَا قَالَ فِي الْفَرْقِ التَّاسِعِ وَالْخَمْسِينَ وَالْفَرْقِ السِّتِّينَ وَالْحَادِي وَالسِّتِّينَ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ عَدَمِ عِلَّةِ الْإِذْنِ أَوْ التَّحْرِيمِ وَبَيْنَ عَدَمِ عِلَّةِ غَيْرِهِمَا مِنْ الْعِلَلِ ) وَذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى عَدِمَتْ عِلَّةُ الْإِذْنِ تَعَيَّنَ التَّحْرِيمُ وَمَتَى عَدِمَتْ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ تَعَيَّنَ الْإِذْنُ فَعَدَمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ الْآخَرِ أَيْ عَدَمُ عِلَّةِ الْإِذْنِ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ وَعَدَمُ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ عِلَّةُ الْإِذْنِ .
وَأَمَّا عَدَمُ عِلَّةِ كُلٍّ مِنْ الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ أَوْ الْكَرَاهَةِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ شَيْءٌ فَإِنَّ غَيْرَ الْوَاجِبِ قَدْ يَكُونُ مُحَرَّمًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ مَكْرُوهًا وَغَيْرُ الْمَنْدُوبِ كَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا أَوْ مُحَرَّمًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ مَكْرُوهًا وَغَيْرُ الْمَكْرُوهِ كَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا أَوْ مُحَرَّمًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ مَنْدُوبًا وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِذِكْرِ أَرْبَعِ مَسَائِلَ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ تُوَضِّحُ اطِّرَادَ الْقَاعِدَةِ الْأُولَى وَالرَّابِعَةُ تُوَضِّحُ عَدَمَ اطِّرَادِ الْقَاعِدَةِ الثَّانِيَةِ .
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) النَّجَاسَةُ تَرْجِعُ إلَى تَحْرِيمِ الْمُلَابَسَةِ فِي الصَّلَوَاتِ وَالْأَغْذِيَةِ لِلِاسْتِقْذَارِ أَوْ التَّوَسُّلِ لِلْإِبْعَادِ فَقُيِّدَ لِلِاسْتِقْذَارِ إلَخْ مُخْرِجٌ لِمَا تَحْرُمُ مُلَابَسَتُهُ فِي الْأَغْذِيَةِ لَا لِأَجْلِ ذَلِكَ بَلْ لِكَوْنِهِ مُضِرًّا كَالسَّمُومِ وَالْأَغْذِيَةِ وَالْأَشْرِبَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْأَسْقَامِ وَالْأَمْرَاضِ فَلَا تَكُونُ نَجِسَةً وَمُدْخِلٌ لِلْخَمْرِ وَنَحْوَهَا مِمَّا قُضِيَ بِتَنْجِيسِهِ لَا لِاسْتِقْذَارِهِ بَلْ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِتَنْجِيسِهِ يُفْضِي إلَى إبْعَادٍ وَإِبْعَادُهُ مَطْلُوبٌ شَرْعًا فَالْقَوْلُ بِتَنْجِيسِهِ يُفْضِي إلَى مَطْلُوبٍ شَرْعًا وَمَا يُفْضِي إلَى الْمَطْلُوبِ مَطْلُوبٌ فَتَنَجُّسُهُ مَطْلُوبٌ فَيَكُونُ نَجِسًا لِلتَّوَسُّلِ لِلْإِبْعَادِ لَا لِلِاسْتِقْذَارِ وَزِيَادَةٍ ، وَالْأَغْذِيَةُ لَا لِلِاحْتِرَازِ بَلْ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ قَوْلُنَا تَحْرِيمَ الْمُلَابَسَةِ فِي الصَّلَوَاتِ كَافِيًا

وَالطَّهَارَةُ تَرْجِعُ إلَى إبَاحَةِ الْمُلَابَسَةِ فِي الصَّلَوَاتِ لِعَدَمِ عِلَّةِ النَّجَاسَةِ الَّتِي هِيَ الِاسْتِقْذَارُ فَمَتَى كَانَتْ الْعَيْنُ لَيْسَتْ بِمُسْتَقْذَرَةٍ فَحُكْمُ اللَّهِ فِيهَا عَدَمُ النَّجَاسَةِ وَأَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً مَا لَمْ تَكُنْ مَطْلُوبَةَ الْإِبْعَادِ كَالْخَمْرِ وَإِلَّا قَضَى بِتَنْجِيسِهَا مَعَ عَدَمِ الِاسْتِقْذَارِ لِقِيَامِ عِلَّةِ التَّوَسُّلِ إلَى الْإِبْعَادِ مَقَامَ الِاسْتِقْذَارِ فَظَهَرَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ الْخَمْسَةِ بَلْ النَّجَاسَةُ تَرْجِعُ لِلتَّحْرِيمِ وَالطَّهَارَةُ تَرْجِعُ لِلْإِبَاحَةِ وَأَنَّ عَدَمَ عِلَّةِ التَّنْجِيسِ عِلَّةُ الطَّهَارَةِ وَأَنَّ عَدَمَ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ عِلَّةُ الْإِبَاحَةِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) عِلَّةُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ الْإِسْكَارُ فَمَتَى زَالَ الْإِسْكَارُ بِنَحْوِ تَخْلِيلِهِ أَوْ تَحْجِيرِهِ زَالَ التَّحْرِيمُ وَثَبَتَ الْإِذْنُ بِجَوَازِ أَكْلِهَا وَشُرْبِهَا وَعِلَّةُ إبَاحَةِ شُرْبِ الْعَصِيرِ مُسَالَمَتُهُ لِلْعَقْلِ وَسَلَامَتُهُ عَنْ الْمَفَاسِدِ فَعَدَمُ هَذِهِ الْمُسَالَمَةِ وَالسَّلَامَةِ عِلَّةٌ لِتَحْرِيمِ الْعَصِيرِ فَظَهَرَ أَيْضًا أَنَّ عَدَمَ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ عِلَّةُ الْإِذْنِ وَعَدَمُ عِلَّةِ الْإِذْنِ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) الْحَدَثُ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْوُضُوءِ فَيُقَالُ أَحْدَثَ إذَا خَرَجَ مِنْهُ خَارِجٌ كَذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَنْعِ الْمُرَتَّبِ عَلَى هَذَا السَّبَبِ وَعَلَيْهِ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ يَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثِ بِفِعْلِهِ أَيْ يَنْوِي ارْتِفَاعَ الْمَنْعِ الْمُرَتَّبِ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ لَا أَنَّهُ يَنْوِي ارْتِفَاعَ أَعْيَانِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ الْمُسْتَقْذَرَةِ بِوُضُوئِهِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ وَاقِعَةً دَاخِلَةً فِي الْوُجُودِ وَالْوَاقِعَاتُ يَسْتَحِيلُ رَفْعُهَا وَالْمَنْعُ وَإِنْ كَانَ أَيْضًا وَقَعَ وَصَارَ مِنْ جُمْلَةِ الْوَاقِعَاتِ إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِرَفْعِهِ مَنْعُ اسْتِمْرَارِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ إنَّمَا يَمْنَعُ اسْتِمْرَارَ مَنْعِ

الْوَطْءِ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ لَا نَفْسَ الْوَطْءِ وَلَا مَنْعَهُ فَالْحَدَثُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَنْعِ الْمُسْتَمِرِّ مِنْ مُلَابَسَةِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ أَيْضًا يَرْجِعُ إلَى تَحْرِيمِ الْمُلَابَسَةِ الْمَذْكُورَةِ حَتَّى يَتَطَهَّرَ فَيُبَاحَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعِبَادَةِ .
فَالْإِبَاحَةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُضَافَةٌ إلَى عَدَمِ سَبَبٍ يَقْتَضِي وُجُوبَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ فَالسَّبَبُ الَّذِي هُوَ الْخَارِجُ الْمُعْتَادُ مِنْ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ عَلَى سَبِيلِ الصِّحَّةِ وَالِاعْتِيَادِ مَثَلًا هُوَ عِلَّةُ الْحَدَثِ الَّذِي هُوَ التَّحْرِيمُ وَعَدَمُهُ عِلَّةُ الْإِبَاحَةِ بَعْدَ التَّطَهُّرِ ، وَاسْتِعْمَالُ الْمَاءِ سَبَبُ ارْتِفَاعِ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ وَالْمَنْعِ وَحُصُولِ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ فَحَصَلَ فِي هَذَا الْمِثَالِ أَيْضًا أَنَّ عِلَّةَ الْإِبَاحَةِ عَدَمُ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَعَدَمُ سَبَبِ الْإِبَاحَةِ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ نَعَمْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْوُضُوءَ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْإِبَاحَةِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَنَحْوِهَا مِمَّا اُشْتُرِطَ فِيهِ الْوُضُوءُ وَتَقُولُ إنَّ الطَّهَارَةَ سَبَبٌ لِلْإِبَاحَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ حَتَّى يَطْرَأَ الْحَدَثُ وَالْحَدَثُ بِمَعْنَى الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْوُضُوءِ سَبَبُ الْمَنْعِ الْمُسْتَمِرِّ حَتَّى تَطْرَأَ الطَّهَارَةُ وَيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ فَيَكُونَ عَدَمُ الطَّهَارَةِ بِالْكُلِّيَّةِ بِسَبَبِ الْمَنْعِ وَعَدَمُ الْحَدَثِ بِالْكُلِّيَّةِ سَبَبُ الْإِبَاحَةِ فَإِذَا فُرِضَ وُقُوعُ عَدَمِ خُرُوجِ شَيْءٍ مِنْ الْإِنْسَانِ أَلْبَتَّةَ فَلَا مَانِعَ لَا بِنَصٍّ وَلَا بِإِجْمَاعٍ وَلَا بِقِيَاسٍ مِنْ الْتِزَامِنَا الْإِبَاحَةَ فِي حَقِّهِ .
قُلْت : وَمِمَّا يُقَرِّبُ هَذَا الْفَرْضَ مَا حَكَاهُ السُّبْكِيُّ فِي طَبَقَاتِهِ مِنْ حَدِيثِ رَحْمَةَ بِنْتِ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْحَاكِمِ عَنْ أَبِي زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَنْبَرِيِّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الطَّهْمَانِيِّ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ وَرَدَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِ خُوَارِزْمَ تُدْعَى هِزَارَنِيفْ

وَهِيَ فِي غَرْبِيِّ وَادِي جَيْحُونٍ وَمِنْهَا إلَى الْمَدِينَةِ الْعُظْمَى مَسَافَةُ نِصْفِ يَوْمٍ قَالَ وَأُخْبِرْت أَنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ الشُّهَدَاءِ رَأَتْ رُؤْيَا كَأَنَّهَا أُطْعِمَتْ فِي مَنَامِهَا شَيْئًا فَهِيَ لَا تَأْكُلُ شَيْئًا وَلَا تَشْرَبُ مُنْذُ عَهْدِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ طَاهِرٍ وَالِي خُرَاسَانَ وَكَانَ تُوُفِّيَ قَبْلَ ذَلِكَ بِثَمَانِ سِنِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
ثُمَّ مَرَرْت بِتِلْكَ الْمَدِينَةِ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ فَرَأَيْتهَا وَحَدَّثَتْنِي بِحَدِيثِهَا فَلَمْ أَسْتَقْصِ عَلَيْهَا لِحَدَاثَةِ سِنِّي ثُمَّ إنِّي عُدْت إلَى خُوَارِزْمَ فِي آخِرِ سَنَةِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ فَرَأَيْتهَا بَاقِيَةً وَوَجَدْت حَدِيثَهَا شَائِعًا مُسْتَفِيضًا وَهَذِهِ الْمَدِينَةُ عَلَى مُدْرَجَةِ الْقَوَافِلِ وَكَانَ الْكَثِيرُ مِمَّنْ يَنْزِلُهَا إذَا بَلَغَهُمْ قِصَّتَهَا أَحَبُّوا أَنْ يَنْظُرُوا إلَيْهَا فَلَا يَسْأَلُونَ عَنْهَا رَجُلًا وَلَا امْرَأَةً وَلَا غُلَامًا إلَّا عَرَفَهَا وَدَلَّ عَلَيْهَا فَلَمَّا وَافَيْت النَّاحِيَةَ طَلَبْتهَا فَوَجَدْتهَا غَائِبَةً عَلَى عِدَّةِ فَرَاسِخَ فَمَضَيْت فِي أَثَرِهَا مِنْ قَرْيَةٍ إلَى أُخْرَى فَأَدْرَكْتهَا بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ تَمْشِي مِشْيَةً قَوِيَّةً وَإِذَا هِيَ امْرَأَةٌ نِصْفُ جَيِّدَةِ الْقَامَةِ ظَاهِرَةُ الدَّمِ مُتَوَرِّدَةُ الْخَدَّيْنِ زَكِيَّةُ الْفُؤَادِ فَسَايَرَتْنِي وَأَنَا رَاكِبٌ فَعَرَضْت عَلَيْهَا مَرْكَبًا فَلَمْ تَرْكَبْهُ وَأَقْبَلَتْ تَمْشِي مَعِي بِقُوَّةٍ وَحَضَرَ مَجْلِسِي قَوْمٌ مِنْ التُّجَّارِ وَالدَّهَاقِينِ وَفِيهِمْ فَقِيهٌ يُسَمَّى مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدَوَيْهِ الْحَارِثِيُّ وَقَدْ كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْبَزَّارُ بِمَكَّةَ ، وَكَهْلٌ لَهُ عِبَارَةٌ وَرِوَايَةٌ لِلْحَدِيثِ ، وَشَابٌّ حَسَنٌ يُسَمَّى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَ يُحَلِّقُ أَصْحَابُ الْمَظَالِمِ بِنَاحِيَتِهِ فَسَأَلْتهمْ عَنْهَا فَأَحْسَنُوا الثَّنَاءَ عَلَيْهَا وَقَالُوا عَنْهَا خَيْرًا وَقَالُوا إنَّ أَمْرَهَا ظَاهِرٌ عِنْدَنَا فَلَيْسَ فِينَا مَنْ يَخْتَلِفُ فِيهَا قَالَ الْمُسَمَّى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ

الرَّحْمَنِ أَنَا أَسْمَعُ حَدِيثَهَا مُنْذُ أَيَّامِ الْحَدَاثَةِ وَنَشَأْت وَالنَّاسُ يَتَفَاوَضُونَ فِي خَبَرِهَا وَقَدْ فَرَّغْت بَالِي لَهَا وَشَغَلْت نَفْسِي بِالِاسْتِقْصَاءِ عَلَيْهَا فَلَمْ أَرَ إلَّا سَتْرًا و عَفَافًا وَلَمْ أَعْثُرْ مِنْهَا عَلَى كَذِبٍ فِي دَعْوَاهَا وَلَا حِيلَةٍ فِي التَّلْبِيسِ ، وَذَكَرَ أَنَّ مَنْ كَانَ يَلِي خُوَارِزْمَ مِنْ الْعُمَّالِ كَانُوا فِيمَا خَلَا يَشْخَصُونَهَا وَيَحْضُرُونَهَا الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ وَالْأَكْثَرَ فِي بَيْتٍ يُغْلِقُونَهُ عَلَيْهَا وَيُوَكِّلُونَ عَلَيْهَا مَنْ يُرَاعِيهَا فَلَا يَرَوْنَهَا تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ وَلَا يَجِدُونَ لَهَا أَثَرَ بَوْلٍ وَلَا غَائِطٍ فَيَبَرُّونَهَا وَيَكْسُونَهَا وَيُخَلُّونَ سَبِيلَهَا ، فَلَمَّا تَوَاطَأَ أَهْلُ النَّاحِيَةِ عَلَى تَصْدِيقِهَا قَصَصْتهَا عَنْ حَدِيثِهَا وَسَأَلْتُهَا عَنْ اسْمِهَا وَشَأْنِهَا كُلِّهِ فَذَكَرَتْ أَنَّ اسْمَهَا رَحْمَةُ بِنْتُ إبْرَاهِيمَ وَأَنَّهُ كَانَ لَهَا زَوْجٌ نَجَّارٌ فَقِيرٌ مَعِيشَتُهُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ يَأْتِيهِ رِزْقُهُ يَوْمًا وَيَوْمًا لَا فَضْلَ فِي كَسْبِهِ عَنْ قُوتِ أَهْلِهِ وَأَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْهُ عِدَّةَ أَوْلَادٍ وَجَاءَ الْأَقْطَعُ مَلِكُ التُّرْكِ إلَى الْقَرْيَةِ وَكَانَ كَافِرًا عَاتِيًا كَثِيرَ الْعَدَاوَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي زُهَاءِ ثَلَاثَةِ آلَافِ فَارِسٍ وَعَاثَ وَأَفْسَدَ وَقَتَلَ وَمَثَّلَ وَعَجَزَتْ عَنْهُ خُيُولُ خُوَارِزْمَ ، فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُ أَبَا الْعَبَّاسِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ أَنْهَضَ إلَيْهِمْ أَرْبَعَةً مِنْ الْقُوَّادِ وَشَحَنَ الْبَلَدَ بِالْعَسَاكِرِ وَالْأَسْلِحَةِ وَرَتَّبَهُمْ فِي أَرْبَاعِ الْبَلَدِ كُلٌّ فِي رُبْعٍ فَحَمَوْا الْحَرِيمَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى .
ثُمَّ إنَّ وَادِيَ جَيْحُونٍ وَهُوَ الَّذِي فِي أَعْلَى نَهْرِ بَلْخٍ جَمَدَ لَمَّا اشْتَدَّ الْبَرْدُ قَالَتْ الْمَرْأَةُ فَعَبَرَ الْكَافِرُ فِي خَيْلِهِ إلَى بَابِ الْحِصْنِ وَقَدْ تَحَصَّنَ النَّاسُ وَضَمُّوا أَمْتِعَتَهُمْ فَحَضَرَ أَهْلُ النَّاحِيَةِ وَأَرَادُوا الْخُرُوجَ فَمَنَعَهُمْ الْعَامِلُ عَنْ الْخُرُوجِ إلَّا فِي عَسَاكِرِ السُّلْطَانِ فَشَدَّ طَائِفَةٌ مِنْ شُبَّانِ النَّاسِ وَأَحْدَاثِهِمْ

فَتَقَارَبُوا مِنْ السُّورِ بِمَا أَطَاقُوا حَمْلَهُ مِنْ السِّلَاحِ وَحَمَلُوا عَلَى الْكَفَرَةِ فَتَهَارَجَ الْكَفَرَةُ وَاسْتَحَرُّوهُمْ مِنْ بَيْنِ الْأَبْنِيَةِ وَالْحِيطَانِ فَلَمَّا أَصْحَرُوا أَكْثَرَ التُّرْكُ عَلَيْهِمْ وَانْقَطَعَ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحِصْنِ وَبَعُدَتْ الْمُؤْنَةُ عَنْهُمْ فَحَارَبُوا كَأَشَدِّ حَرْبٍ وَثَبَتُوا حَتَّى تَقَطَّعَتْ الْأَوْتَارُ وَالْقِسِيُّ وَأَدْرَكَهُمْ التَّعَبُ وَمَسَّهُمْ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ وَقُتِلَ عَامَّتُهُمْ وَأُثْخِنَ الْبَاقُونَ بِالْجِرَاحَاتِ ، وَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِمْ اللَّيْلُ تَحَاجَزَ الْفَرِيقَانِ قَالَتْ الْمَرْأَةُ وَرُفِعَتْ النَّارُ عَلَى الْمَنَاظِرِ سَاعَةَ عُبُورِ الْكَافِرِ فَاتَّصَلَتْ بالجرجانية وَهِيَ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ فِي قَاصِيَةِ خُوَارِزْمَ وَكَانَ مِيكَالُ مَوْلَى طَاهِرٍ مُرَابِطًا بِهَا فِي عَسْكَرٍ فَخَفَّ فِي الطَّلَبِ وَرَكَضَ إلَى هِزَارَنِيفْ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَرْبَعِينَ فَرْسَخًا بِفَرَاسِخِ خُوَارِزْمَ وَفِيهَا فَضْلٌ كَثِيرٌ عَلَى فَرَاسِخِ خُرَاسَانَ وَعَنَّ لِلتُّرْكِ الْفَرَاغُ مِنْ أَمْرِ أُولَئِكَ النَّفَرِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ ارْتَفَعَتْ لَهُمْ الْأَعْلَامُ السُّودُ سَمِعُوا أَصْوَاتَ الطُّبُولِ فَأَفْرَجُوا عَنْ الْقَوْمِ وَوَافَى مِيكَالُ مَوْضِعَ الْمَعْرَكَةِ فَوَارَى الْقَتْلَى وَحَمَلَ الْجَرْحَى .
قَالَتْ الْمَرْأَةُ وَأَدْخَلَ الْحِصْنَ ذَلِكَ الْيَوْمَ زُهَاءَ أَرْبَعِمِائَةِ جِنَازَةٍ فَلَمْ يَبْقَ دَارٌ إلَّا حُمِلَ إلَيْهَا قَتِيلٌ وَعَمَّتْ الْمُصِيبَةُ وَارْتَجَّتْ النَّاحِيَةُ بِالْبُكَاءِ قَالَتْ : وَوُضِعَ زَوْجِي بَيْنَ يَدَيَّ قَتِيلًا فَأَدْرَكَنِي مِنْ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ عَلَيْهِ مَا يُدْرِكُ الْمَرْأَةَ الشَّابَّةَ عَلَى الزَّوْجِ أَبِي الْأَوْلَادِ وَكَانَتْ لَنَا عِيَالٌ قَالَتْ فَاجْتَمَعَ النِّسَاءُ مِنْ قَرَابَاتِي وَالْجِيرَانُ يُسَاعِدْنَنِي عَلَى الْبُكَاءِ وَجَاءَ الصِّبْيَانُ وَهُمْ أَطْفَالٌ لَا يَعْقِلُونَ مِنْ الْأُمُورِ شَيْئًا يَطْلُبُونَ الْخُبْزَ وَلَيْسَ عِنْدِي مَا أُعْطِيهِمْ فَضِقْت صَدْرًا بِأَمْرِي .
ثُمَّ إنِّي سَمِعْت أَذَانَ الْمَغْرِبِ فَفَزِعْت إلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّيْت مَا قَضَى لِي رَبِّي

ثُمَّ سَجَدْت أَدْعُو وَأَتَضَرَّعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْأَلُهُ الصَّبْرَ وَأَنْ يَجْبُرَ يُتْمَ صِبْيَانِي قَالَتْ : فَذَهَبَ بِي النَّوْمُ فِي سُجُودِي فَرَأَيْت فِي مَنَامِي كَأَنِّي فِي أَرْضٍ خَشْنَاءَ ذَاتِ حِجَارَةٍ وَأَنَا أَطْلُبُ زَوْجِي فَنَادَانِي رَجُلٌ إلَى أَيْنَ أَيَّتُهَا الْحُرَّةُ قُلْت أَطْلُبُ زَوْجِي فَقَالَ : خُذِي ذَاتَ الْيَمِينِ فَرُفِعَ لِي أَرْضٌ سَهْلَةٌ طَيِّبَةُ الرَّيِّ ظَاهِرَةُ الْعُشْبِ وَإِذَا قُصُورٌ وَأَبْنِيَةٌ لَا أَحْفَظُ أَنْ أَصِفَهَا وَلَمْ أَرَ مِثْلَهَا وَإِذَا أَنْهَارٌ تَجْرِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ غَيْرَ أَخَادِيدَ لَيْسَتْ لَهَا حَافَّاتٌ فَانْتَهَيْت إلَى قَوْمٍ جُلُوسٍ حِلَقًا حِلَقًا عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ خُضْرٌ قَدْ عَلَاهُمْ النُّورُ فَإِذَا هُمْ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي الْمَعْرَكَةِ يَأْكُلُونَ عَلَى مَوَائِدَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَجَعَلْت أَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُمْ لِأَلْقَى زَوْجِي فَنَادَانِي يَا رَحْمَةُ يَا رَحْمَةُ فَيَمَّمْت الصَّوْتَ فَإِذَا أَنَا بِهِ فِي مِثْلِ حَالِ مَنْ رَأَيْت مِنْ الشُّهَدَاءِ وَجْهُهُ مِثْلُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَهُوَ يَأْكُلُ مَعَ رِفْقَةٍ لَهُ قُتِلُوا يَوْمَئِذٍ مَعَهُ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ إنَّ هَذِهِ الْبَائِسَةَ جَائِعَةٌ مُنْذُ الْيَوْمِ أَفَتَأْذَنُوا لِي أَنْ أُنَاوِلَهَا شَيْئًا تَأْكُلُهُ فَأَذِنُوا لِي فَنَاوَلَنِي كَسْرَةَ خُبْزٍ قَالَتْ وَأَنَا أَعْلَمُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ خُبْزٌ وَلَكِنْ لَا أَدْرِي كَيْفَ هُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ الثَّلْجِ وَاللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ وَأَلْيَنُ مِنْ الزُّبْدِ فَأَكَلْته فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي جَوْفِي قَالَ اذْهَبِي كَفَاكِ اللَّهُ مُؤْنَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَا حَيِيت فِي الدُّنْيَا فَانْتَبَهْتُ مِنْ نَوْمِي شَبْعَى رَيَّانَةً لَا أَحْتَاجُ إلَى طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ وَمَا ذُقْتُهُمَا مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ إلَى يَوْمِي هَذَا وَلَا شَيْئًا يَأْكُلُهُ النَّاسُ .
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : وَكَانَتْ تَحْضُرُنَا وَكُنَّا نَأْكُلُ فَتَأْخُذُ عَلَى أَنْفِهَا تَزْعُمُ أَنَّهَا تَتَأَذَّى مِنْ رَائِحَةِ الطَّعَامِ فَسَأَلْتهَا تَتَغَذِّي بِشَيْءٍ أَوْ تَشْرَبِي شَيْئًا غَيْرَ الْمَاءِ فَقَالَتْ لَا

فَسَأَلْتهَا هَلْ يَخْرُجُ مِنْهَا رِيحٌ أَوْ أَذًى كَمَا يَخْرُجُ مِنْ النَّاسِ ؟ فَقَالَتْ : لَا عَهْدَ لِي بِالْأَذَى مُنْذُ ذَلِكَ الزَّمَانِ قُلْت : وَالْحَيْضُ ؟ أَظُنُّهَا قَالَتْ : انْقَطَعَ بِانْقِطَاعِ الطَّعَامِ قُلْت : فَهَلْ تَحْتَاجِينَ حَاجَةَ النِّسَاءِ إلَى الرِّجَالِ ؟ قَالَتْ : أَمَا تَسْتَحِي مِنِّي تَسْأَلُنِي عَنْ مِثْلِ هَذَا قُلْت : إنِّي لَعَلِّي أُحَدِّثُ النَّاسَ عَنْك وَلَا بُدَّ أَنْ أَسْتَقْصِيَ قَالَتْ : لَا أَحْتَاجُ ، قُلْت : فَتَنَامِينَ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ أَطْيَبُ نَوْمٍ قُلْت : فَمَا تَرَيْنَ فِي مَنَامِك ؟ قَالَتْ : مِثْلَ مَا تَرَوْنَ قُلْت : فَتَجِدِينَ لِفَقْدِ الطَّعَامِ وَهْنًا فِي نَفْسِك ؟ قَالَتْ : مَا أَحْسَسْت بِالْجُوعِ مُنْذُ طَعِمْت ذَلِكَ الطَّعَامَ وَكَانَتْ تَقْبَلُ الصَّدَقَةَ فَقُلْت : مَا تَصْنَعِينَ بِهَا ؟ قَالَتْ : أَكْتَسِي وَأَكْسُو وَلَدِي قُلْت فَهَلْ تَجِدِينَ الْبَرْدَ وَتَتَأَذَّيْنَ بِالْحَرِّ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ قُلْت : يُدْرِكُك اللُّغُوبُ وَالْإِعْيَاءُ إذَا مَشَيْت ؟ قَالَتْ : نَعَمْ أَلَسْت مِنْ الْبَشَرِ ؟ قُلْت : فَتَتَوَضَّئِينَ لِلصَّلَاةِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، قُلْت : لِمَ ؟ قَالَتْ : أَمَرَنِي بِذَلِكَ الْفُقَهَاءُ ، فَقُلْت : إنَّهُمْ أَفْتَوْهَا عَلَى حَدِيثِ لَا وُضُوءَ إلَّا مِنْ حَدَثٍ أَوْ نَوْمٍ وَذَكَرَتْ لِي أَنَّ بَطْنَهَا لَاصِقٌ بِظَهْرِهَا وَأَمَرْتُ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِنَا فَنَظَرَتْ فَإِذَا بَطْنُهَا كَمَا وَصَفَتْ وَإِذَا قَدْ اتَّخَذَتْ كِيسًا مُصْمَتًا بِالْقُطْنِ وَشَدَّتْهُ عَلَى بَطْنِهَا كَيْ لَا يَقْصِفَ ظَهْرُهَا إذَا مَشَتْ .
ثُمَّ لَمْ أَزَلْ أَخْتَلِفُ إلَى هِزَارَنِيفْ ، بَيْنَ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ فَتَحْضُرُنِي فَأُعِيدُ مَسْأَلَتَهَا فَلَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ وَعَرَضْت كَلَامَهَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَقِيهِ فَقَالَ : أَنَا أَسْمَعُ هَذَا الْكَلَامَ مُنْذُ نَشَأْت فَلَا أَجِدُ مَنْ يَدْفَعُهُ أَوْ يَزْعُمُ أَنَّهَا تَأْكُلُ أَوْ تَشْرَبُ أَوْ تَتَغَوَّطُ ا هـ .
الْمُرَادُ هَذَا وَالْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ مِثْلُ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ فِي سَبَبِ الْمَنْعِ الْمُسْتَمِرِّ حَتَّى تَطْرَأَ الطَّهَارَةُ

وَالطَّهَارَةُ سَبَبُ الْإِبَاحَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَلَوْلَا اشْتِرَاطُ صَاحِبِ الشَّرْعِ الْوُضُوءَ لَأَبَحْنَا الصَّلَاةَ لِمَنْ عُدِمَتْ فِي حَقِّهِ هَذِهِ الْأَحْدَاثُ الْكِبَارُ وَصَحَّ لَنَا حِينَئِذٍ فِي الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ وَالطَّهَارَةِ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى أَنَّ عَدَمَ سَبَبِ الْإِبَاحَةِ سَبَبُ الْمَنْعِ وَعَدَمُ سَبَبِ الْمَنْعِ سَبَبُ الْإِبَاحَةِ وَاطَّرَدَتْ الْقَاعِدَةُ الْأُولَى .
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) الرِّدَّةُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى عِلَّةٌ وَسَبَبٌ لِوُجُوبِ إرَاقَةِ دَمِ الْمُرْتَدِّ فَإِذَا فُقِدَتْ الرِّدَّةُ كَانَ دَمُهُ حَرَامًا وَالزَّوْجِيَّةُ وَالْقَرَابَةُ عِلَّةٌ وَسَبَبٌ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالْقَرِيبِ فَإِذَا عُدِمَتْ الزَّوْجِيَّةُ وَالْقَرَابَةُ لَا تَحْرُمُ وَالنَّفَقَةُ بَلْ يَنْدُبُ إلَيْهَا فِي الْأَجَانِبِ وَحُضُورُ مَحَلِّ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ الَّذِي هُوَ الْقِيَامُ عِلَّةٌ وَسَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ فَإِذَا رَكَعَ وَسَجَدَ وَعُدِمَ الْقِيَامُ كُرِهَتْ الْقِرَاءَةُ فَلَمْ يَسْتَلْزِمْ عَدَمُ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَعِلَّتُهُ كَمَا رَأَيْت حُكْمًا مُعَيَّنًا كَمَا اسْتَلْزَمَ عَدَمُ سَبَبِ الْمَنْعِ وَعِلَّتُهُ الْإِبَاحَةُ وَعَدَمُ سَبَبِ الْإِبَاحَةِ وَعِلَّتُهَا الْمَنْعُ فِي الْمَسَائِلِ قَبْلُ وَاتَّضَحَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ إثْبَاتِ النَّقِيضِ فِي الْمَفْهُومِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ إثْبَاتِ الضِّدِّ فِيهِ ) اعْلَمْ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْحُكْمَ الْمَنْطُوقَ غَيْرُ ثَابِتٍ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَهَلْ الْقَاعِدَةُ فِيهِ عِنْدَ الْقَضَاءِ بِأَنَّ حُكْمَ الْمَسْكُوتِ يَقْتَضِي إثْبَاتَ ضِدِّ الْحُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ أَوْ إثْبَاتَ نَقِيضِهِ ، وَالثَّانِي هُوَ الْحَقُّ بِأَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ لِلْمَنْطُوقِ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِإِثْبَاتِ حُكْمِ الْمَسْكُوتِ أَلْبَتَّةَ فَهُوَ يَنْقَسِمُ إلَى عَشْرَةِ أَقْسَامٍ كُلُّهَا مُسْتَقِيمَةٌ مَعَ النَّقِيضِ فَقَطْ مَفْهُومُ الْعِلَّةِ نَحْوَ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَهُوَ حَرَامٌ مَفْهُومُهُ مَا لَمْ يُسْكِرْ كَثِيرُهُ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَمَفْهُومُ الصِّفَةِ فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ مَفْهُومُهُ مَا لَيْسَ بِسَائِمَةٍ لَا زَكَاةَ فِيهِ وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ مَنْ تَطَهَّرَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ مَفْهُومُهُ مَنْ لَمْ يَتَطَهَّرْ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ وَمَفْهُومُ الْمَانِعِ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ إلَّا الدَّيْنُ مَفْهُومُهُ أَنَّ مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ وَمَفْهُومُ الزَّمَانِ سَافَرْت يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَمْ يُسَافِرْ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَمَفْهُومُ الْمَكَانِ جَلَسْت أَمَامَك مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَمْ يَجْلِسْ عَنْ يَمِينِك وَمَفْهُومُ الْغَايَةِ { أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } مَفْهُومُهُ لَا يَجِبُ بَعْدَ اللَّيْلِ وَمَفْهُومُ الْحَصْرِ إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ مِنْ غَيْرِ الْمَاءِ وَمَفْهُومُ الِاسْتِثْنَاءِ قَامَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا مَفْهُومُهُ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَقُمْ وَمَفْهُومُ اللَّقَبِ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى أَسْمَاءِ الذَّوَاتِ نَحْوَ فِي الْغَنَمِ الزَّكَاةُ مَفْهُومُهُ لَا تَجِبُ فِي غَيْرِ الْغَنَمِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْمَفْهُومِ وَهُوَ أَضْعَفُهَا فَهَذِهِ الْمَفْهُومَاتُ جَمِيعُهَا أَثْبَتْنَا فِيهَا نَقِيضَ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ لِلْمَسْكُوتِ وَحَصَلَ فِيهَا مَعْنَى الْمَفْهُومِ فَظَهَرَ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ إثْبَاتُ نَقِيضِ

حُكْمِ الْمَنْطُوقِ لِلْمَسْكُوتِ وَأَنَّ هَذَا هُوَ قَاعِدَتُهُ وَلَيْسَ قَاعِدَتُهُ إثْبَاتَ الضِّدِّ .
وَيَظْهَرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا حَيْثُ اسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا } أَنَّ مَفْهُومَهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ بَلْ مَفْهُومُهُ عَدَمُ تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَعَدَمُ التَّحْرِيمِ صَادِقٌ مَعَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْإِبَاحَةِ فَلَا يَسْتَلْزِمُ الْوُجُوبَ ؛ لِأَنَّ الْأَعَمَّ مِنْ الشَّيْءِ لَا يُسْتَلْزَمُ فَلَا يَلْزَمُ الْوُجُوبُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَكَذَلِكَ يَكُونُ دَأْبُك أَبَدًا فِي مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ إثْبَاتَ النَّقِيضِ فَقَطْ وَلَا تَتَعَرَّضْ لِلضِّدِّ أَلْبَتَّةَ لِمَا ظَهَرَ لَك مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ .

( الْفَرْقُ السِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ إثْبَاتِ النَّقِيضِ فِي الْمَفْهُومِ بَيْنَ قَاعِدَةِ إثْبَاتِ الضِّدِّ فِيهِ ) مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ أَبَدًا يَقْتَضِي أَنَّ حُكْمَ الْمَنْطُوقِ غَيْرُ ثَابِتٍ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ قَطْعًا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ هَلْ يَثْبُتُ لَهُ ضِدُّ الْحُكْمِ الثَّابِتِ لِلْمَنْطُوقِ بِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا حَيْثُ اسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا } فَقَالَ إنَّ مَفْهُومَهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ يُثْبِتُ لَهُ نَقِيضَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ لِلْمَنْطُوقِ بِهِ وَنَقِيضُ كُلِّ شَيْءٍ رَفْعُهُ أَيْ يُثْبِتُ لَهُ عَدَمَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ لِلْمَنْطُوقِ بِهِ وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الْحَقُّ فِي جَمِيعِ مَفَاهِيمِ الْمُخَالَفَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَفْهُومِ الصِّفَةِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّ مَفْهُومَ مِنْهُمْ فِيهَا عَدَمُ تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ صَادِقٌ مَعَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْإِبَاحَةِ فَلَا يَسْتَلْزِمُ الْوُجُوبَ ؛ لِأَنَّ الْأَعَمَّ مِنْ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ وَكَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ } فَإِنَّ مَفْهُومَهُ مَا لَيْسَ بِسَائِمَةٍ لَا زَكَاةَ فِيهِ .
وَمَفْهُومُ الْعِلَّةِ كَمَا فِي نَحْوِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَهُوَ حَرَامٌ فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّ مَا لَمْ يُسْكِرْ كَثِيرُهُ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ كَمَا فِي نَحْوِ مَنْ تَطَهَّرَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَطَهَّرْ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ وَمَفْهُومُ الْمَانِعِ كَمَا فِي نَحْوِ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ إلَّا الدَّيْنُ فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّ مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ وَمَفْهُومُ الزَّمَانِ كَمَا فِي نَحْوِ سَافَرْت يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهُ لَمْ يُسَافِرْ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَمَفْهُومُ الْمَكَانِ كَمَا فِي نَحْوِ جَلَسْت

أَمَامَك فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهُ لَمْ يَجْلِسْ عَنْ يَمِينِك وَمَفْهُومُ الْغَايَةِ كَمَا فِي نَحْوِ { أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَجِبُ بَعْدَ اللَّيْلِ ، وَمَفْهُومُ الْحَصْرِ كَمَا فِي { إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ } فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ مِنْ غَيْرِ الْمَاءِ ، وَمَفْهُومُ الِاسْتِثْنَاءِ كَمَا فِي نَحْوِ قَامَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَقُمْ .
وَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرَ مِنْ الْمَفَاهِيمِ التِّسْعَةِ تَرْجِعُ إلَى مَفْهُومِ الصِّفَةِ فَفِي حَاشِيَةِ السَّعْدِ عَلَى عَضُدِ ابْنِ الْحَاجِبِ ذَكَرَ الْإِمَامُ فِي الْبُرْهَانِ أَنَّ جَمِيعَ جِهَاتِ التَّخْصِيصِ تَرْجِعُ إلَى الصِّفَةِ فَإِنَّ الْمَحْدُودَ وَالْمَعْدُودَ مَوْصُوفَانِ بِعَدَدِهِمَا وَحَدَّهُمَا وَالْمُخَصَّصُ بِالْكَوْنِ فِي زَمَانٍ وَمَكَانٍ مَوْصُوفٌ بِالِاسْتِقْرَارِ فِيهِمَا ا هـ .
وَكَذَا الْبَاقِي كَمَا لَا يَخْفَى وَمَفْهُومُ اللَّقَبِ أَيْ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى أَسْمَاءِ الذَّوَاتِ كَمَا فِي نَحْوِ فِي الْغَنَمِ الزَّكَاةُ فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي غَيْرِ الْغَنَمِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْمَفْهُومِ وَهُوَ الدَّقَّاقُ وَمَنْ مَعَهُ كَمَا سَيَأْتِي وَهَذَا الْمَفْهُومُ أَضْعَفُ الْمَفَاهِيمِ الْعَشَرَةِ الْمَذْكُورَةِ فَقَاعِدَةُ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ أَبَدًا إثْبَاتُ نَقِيضِ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ فَقَطْ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ عَلَى الْقَوْلِ الْحَقِّ وَلَيْسَ قَاعِدَتُهُ إثْبَاتَ ضِدِّ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ خِلَافًا لِابْنِ أَبِي زَيْدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا فَلْيَكُنْ دَأْبُك أَبَدًا فِيهِ إثْبَاتَ النَّقِيضِ فَقَطْ وَلَا تَتَعَرَّضْ لِلضِّدِّ أَلْبَتَّةَ لِمَا ظَهَرَ لَك مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَفْهُومِ اللَّقَبِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ غَيْرِهِ مِنْ الْمَفْهُومَاتِ ) فَإِنَّ قَاعِدَةَ مَفْهُومِ اللَّقَبِ لَمْ يَقُلْ بِهَا إلَّا الدَّقَّاقُ وَقَاعِدَةُ مَفْهُومِ غَيْرِ اللَّقَبِ قَالَ بِهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا ، وَسِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ أَصْلُهُ كَمَا قَالَ التَّبْرِيزِيُّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ فِي قَوْلِنَا لَقَبٌ .
وَأَمَّا أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ نَحْوِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَنَحْوِهِمَا لَا يُقَالُ لَهَا لَقَبٌ فَالْأَصْلُ حِينَئِذٍ إنَّمَا هِيَ الْأَعْلَامُ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا ، قَالَ : وَيَلْحَقُ بِهَا أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْفَرْقُ أَنَّ الْعَلَمَ نَحْوَ قَوْلِنَا أَكْرِمْ زَيْدًا أَوْ اسْمَ الْجِنْسِ نَحْوَ زَكِّ عَنْ الْغَنَمِ لَا إشْعَارَ فِيهِ بِالْعِلَّةِ لِعَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ وَمَفْهُومُ الصِّفَةِ وَنَحْوُهُ فِيهِ رَائِحَةُ التَّعْلِيلِ فَإِنَّ الشُّرُوطَ اللُّغَوِيَّةَ أَسْبَابٌ أَيْضًا فَمَتَى جُعِلَ الشَّيْءُ شَرْطًا أَشْعَرَ ذَلِكَ بِسَبَبِيَّةِ ذَلِكَ الشَّرْطِ عِنْدَ الْمُتَعَلَّقِ عَلَيْهِ أَدْرَكْنَا نَحْنُ ذَلِكَ أَمْ لَا ، وَكَذَلِكَ إذَا حُصِرَ أَوْ جُعِلَ غَايَةً وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُشْعِرُ بِالتَّعْلِيلِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ عَدَمَ الْعِلَّةِ عِلَّةٌ لِعَدَمِ الْمَعْلُولِ فَيَلْزَمُ فِي صُورَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ عِلَّةِ الثُّبُوتِ فِيهِ أَمَّا الْأَعْلَامُ وَالْأَجْنَاسُ فَلَا إشْعَارَ لَهَا بِالْعِلِّيَّةِ فَلَا جَرَمَ لَا يَكُونُ عَدَمُهَا مِنْ صُورَةِ السُّكُوتِ عِلَّةً لِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَدَمَ عِلَّةٍ فَلَا يَلْزَمُ عَدَمُ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَهَذَا هُوَ سَبَبُ ضَعْفِهِ وَقِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِهِ وَيَنْبَغِي لَك أَنْ تَتَفَطَّنَ لَهُ فَإِنَّ جَمَاعَةً مِمَّنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ وَقَعَ فِيهِ عِنْدَ الِاسْتِدْلَالِ وَمَا شَعَرَ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ التَّيَمُّمُ

بِغَيْرِ التُّرَابِ لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } وَفِي أُخْرَى { وَتُرَابُهَا طَهُورًا } وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ وَتُرَابُهَا طَهُورًا أَنَّ غَيْرَ التُّرَابِ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ ، وَاسْتِدْلَالُهُ بِذَلِكَ عَلَى مَالِكٍ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَقَبٌ لَيْسَ حُجَّةً عِنْدَهُ وَلَا عِنْدَ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ اسْمُ جِنْسٍ فَقَدْ اسْتَدَلَّ بِمَا لَيْسَ حُجَّةً عِنْدَهُ وَلَا عِنْدَ خَصْمِهِ ، وَكَذَلِكَ اسْتَدَلَّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ الْخَلَّ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { حُتِّيهِ ثُمَّ اقْرِضِيهِ بِالْمَاءِ } فَمَفْهُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُغْسَلَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْخَلِّ وَغَيْرِهِ وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ فَإِنَّ الْمَاءَ اسْمُ جِنْسٍ فَمَفْهُومُهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُ وَلَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ أَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَقُلْ بِالْمَفْهُومِ مُطْلَقًا فَضْلًا عَنْ مَفْهُومِ اللَّقَبِ فَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَبْعَدُ مِنْ اسْتِدْلَالِهِ عَلَى مَالِكٍ بِسَبَبِ أَنَّ مَالِكًا قَالَ بِالْمَفْهُومِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَا فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَالتَّنْبِيهُ عَلَيْهِ بِالْمِثْلِ .

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَفْهُومِ اللَّقَبِ ) لَمْ يَقُلْ بِهَا إلَّا الدَّقَّاقُ وَالصَّيْرَفِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ خُوَيْزٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ كَمَا فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ غَيْرِهِ مِنْ الْمَفْهُومَاتِ قَالَ بِهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا ، وَذَلِكَ أَنَّ غَيْرَ مَفْهُومِ اللَّقَبِ مِنْ بَقِيَّةِ الْمَفَاهِيمِ كَمَفْهُومِ الصِّفَةِ وَالْغَايَةِ وَالْحَصْرِ فِيهِ رَائِحَةُ التَّعْلِيلِ ضَرُورَةَ أَنَّ الصِّفَةَ وَالْغَايَةَ وَالْحَصْرَ وَالزَّمَانَ وَالْمَكَانَ وَالْمَانِعَ وَالِاسْتِثْنَاءَ وَالشَّرْطَ شُرُوطٌ لُغَوِيَّةٌ وَالشُّرُوطُ اللُّغَوِيَّةُ أَسْبَابٌ شَرْعِيَّةٌ كَالْعِلَّةِ فَمَتَى جُعِلَ الشَّيْءُ شَرْطًا أَشْعَرَ بِسَبَبِيَّةِ ذَلِكَ الشَّرْطِ لِلْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَدْرَكْنَا نَحْنُ ذَلِكَ أَمْ لَا وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُشْعِرُ بِالتَّعْلِيلِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ عَدَمَ الْعِلَّةِ عِلَّةٌ لِعَدَمِ الْمَعْلُولِ كَانَ اللَّازِمُ فِي صُورَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ عَدَمَ الْحُكْمِ لِعَدَمِ عِلَّةِ الثُّبُوتِ فِيهِ وَأَمَّا مَفْهُومُ اللَّقَبِ فَإِنَّهُ وَإِنْ اسْتَدَلَّ لَهُ مَنْ احْتَجَّ لَهُ بِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِذِكْرِهِ إلَّا نَفْيَ الْحُكْمِ عَنْ غَيْرِهِ كَالصِّفَةِ وَنَحْوِهَا إلَّا أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّفَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ جِهَتَيْنِ الْأُولَى أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَسْتَقِيمُ بِدُونِ ذِكْرِهِ بِخِلَافِ الصِّفَةِ وَنَحْوِهَا .
وَالْجِهَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَصْلُهُ كَمَا قَالَ التَّبْرِيزِيُّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَنْ أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ فِي قَوْلِنَا لَقَبٌ ، وَأَمَّا أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ نَحْوَ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ فَلَا يُقَالُ لَهَا لَقَبٌ إلَّا أَنَّهَا تُلْحَقُ بِهَا فَتَجْرِي مَجْرَاهَا جَامِدَةً كَانَتْ أَوْ مُشْتَقَّةً غَلَبَتْ عَلَيْهِ الِاسْمِيَّةُ فَاسْتُعْلِمَتْ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ كَالطَّعَامِ فِي حَدِيثِ { لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ } كَمَا مَثَّلَ بِهِ الْغَزَالِيُّ فِي

الْمُسْتَصْفَى لِلَّقَبِ وَلَمْ تَكُنْ لِلْأَعْلَامِ وَلَا لِلْأَجْنَاسِ إشْعَارٌ بِالْعِلَّةِ لِعَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ فِيهِمَا بِخِلَافِ الصِّفَةِ وَنَحْوِهَا كَمَا عَلِمْت كَانَ عَدَمُهُمَا مِنْ صُورَةِ السُّكُوتِ لَيْسَ عِلَّةً لِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَدَمَ عِلَّةٍ فَلَا يَلْزَمُ عَدَمُ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَلِذَا قَلَّ الْقَائِلُونَ بِهِ وَحُكِمَ بِضَعْفِهِ ، وَمِنْ هُنَا تَعْلَمُ صِحَّةَ اسْتِدْلَالِ صَاحِبِ الْمُهَذَّبِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَالِكٍ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ التُّرَابِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى { وَتُرَابُهَا طَهُورًا } حَيْثُ قَالَ مَفْهُومُ قَوْلِهِ وَتُرَابُهَا طَهُورًا أَنَّ غَيْرَ التُّرَابِ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ ا هـ .
وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ اسْمُ جِنْسٍ فَمَفْهُومُهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ لَيْسَ حُجَّةً عِنْدَهُ وَلَا عِنْدَ مَالِكٍ فَقَدْ اسْتَدَلَّ بِمَا لَيْسَ حُجَّةً عِنْدَهُ وَلَا عِنْدَ خَصْمِهِ وَكَذَا عَدَمُ صِحَّةِ اسْتِدْلَالِهِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ الْخَلَّ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ { بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَسْمَاءِ فِي دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ حُتِّيهِ ثُمَّ اقْرِضِيهِ بِالْمَاءِ } حَيْثُ قَالَ مَفْهُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْمَاءِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَغْسِلَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْخَلِّ وَغَيْرِهِ ا هـ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَاءَ اسْمُ جِنْسٍ فَمَفْهُومُهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُ وَلَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ أَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَقُلْ بِالْمَفْهُومِ مُطْلَقًا فَضْلًا عَنْ مَفْهُومِ اللَّقَبِ فَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَبْعَدُ مِنْ اسْتِدْلَالِهِ عَلَى مَالِكٍ بِسَبَبِ أَنَّ مَالِكًا قَالَ بِالْمَفْهُومِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ .
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَا كَذَا قَالَ الْأَصْلُ وَفِي حَاشِيَةِ الْعَطَّارِ عَلَى مُحَلَّى جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَمْرَ إذَا تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ

بِعَيْنِهِ لَا يَقَعُ الِامْتِثَالُ إلَّا بِذَلِكَ الشَّيْءِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْأَمْرُ صِفَةً أَوْ لَقَبًا وَلِأَنَّهُ بِالْحَدِيثِ الثَّانِي مِنْ جِهَةِ أَنَّ قَرِينَةَ الِامْتِنَانِ تَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ فِيهِ وَأَنَّ الْعُدُولَ عَنْ أُسْلُوبِ التَّعْمِيمِ مَعَ الْإِيجَازِ إلَى التَّخْصِيصِ مَعَ تَرْكِ الْإِيجَازِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نُكْتَةٍ وَنُكْتَتُهُ اخْتِصَاصُ الطَّهُورِيَّةِ .
وَقَدْ صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ بِأَنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ حُجَّةٌ مَعَ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ وَأَشَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنْ يُقَالَ اللَّقَبُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ رَائِحَةُ التَّعْلِيقِ فَإِنْ وُجِدَتْ كَانَ حُجَّةً فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ { إذَا اسْتَأْذَنَتْ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا } يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَمْنَعُ امْرَأَتَهُ مِنْ الْخُرُوجِ إلَّا بِإِذْنِهِ لِأَجْلِ تَخْصِيصِ النَّهْيِ بِالْخُرُوجِ لِلْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ لِمَا فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ وَهُوَ كَوْنُهُ مَحَلَّ الْعِبَادَةِ فَلَا تُمْنَعُ مِنْهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ ا هـ .
فَتَأَمَّلْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَفْهُومِ إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الْغَالِبِ ) فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الْغَالِبِ كَانَ حُجَّةً عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ وَإِذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لَا يَكُونُ حُجَّةً إجْمَاعًا وَضَابِطُهُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الَّذِي وَقَعَ بِهِ التَّقْيِيدُ غَالِبًا عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ وَمَوْجُودًا مَعَهَا فِي أَكْثَرِ صُوَرِهَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا مَعَهَا فِي أَكْثَرِ صُوَرِهَا فَهُوَ الْمَفْهُومُ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ ، وَسِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْوَصْفَ إذَا كَانَ غَالِبًا عَلَى الْحَقِيقَةِ يَصِيرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ لُزُومٌ فِي الذِّهْنِ فَإِذَا اسْتَحْضَرَ الْمُتَكَلِّمُ الْحَقِيقَةَ لِيَحْكُمَ عَلَيْهَا حَضَرَ مَعَهَا ذَلِكَ الْوَصْفُ الْغَالِبُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِهَا فَإِذَا حَضَرَ فِي ذِهْنِهِ نَطَقَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي ذِهْنِهِ فَعَبَّرَ عَنْ جَمِيعِ مَا وَجَدَهُ فِي ذِهْنِهِ لَا أَنَّهُ قَصَدَ بِالنُّطْقِ بِهِ نَفْيَ الْحُكْمِ عَنْ صُورَةِ عَدَمِهِ بَلْ الْحَالُ تَضْطَرُّهُ لِلنُّطْقِ بِهِ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ غَالِبًا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا يَلْزَمُهَا فِي الذِّهْنِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ اسْتِحْضَارِ الْحَقِيقَةِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهَا حُضُورُهُ فَيَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ حِينَئِذٍ لَهُ غَرَضٌ فِي النُّطْقِ بِهِ وَإِحْضَارُهُ مَعَ الْحَقِيقَةِ وَلَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا لِذَلِكَ بِسَبَبِ الْحُضُورِ فِي الذِّهْنِ ، وَإِذَا كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِيهِ وَسَلْبُ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ غَرَضَهُ فَحَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يُصَرِّحَ بِخِلَافِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَبَادِرُ لِلذِّهْنِ مِنْ التَّقْيِيدِ وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَسِرُّ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ وَكَانَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ يُورِدُ عَلَى هَذَا سُؤَالًا فَيَقُولُ الْوَصْفُ الْغَالِبُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ حُجَّةً مِمَّا لَيْسَ بِغَالِبٍ .
وَمَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ يَقْتَضِي

الْحَالُ فِيهِ الْعَكْسَ بِسَبَبِ أَنَّ الْوَصْفَ إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ وَكَانَتْ الْعَادَةُ شَاهِدَةً بِثُبُوتِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ يَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ مُسْتَغْنِيًا عَنْ ذِكْرِهِ لِلسَّامِعِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْعَادَةَ كَافِيَةٌ فِي إفْهَامِ السَّامِعِ ذَلِكَ فَلَوْ أَخْبَرَهُ بِثُبُوتِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لَكَانَ ذَلِكَ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ غَالِبًا فَإِنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى ثُبُوتِهِ لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ مِنْ جِهَةِ الْعَادَةِ فَيَتَّجِهُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِخَبَرِهِ بِهِ لِعَدَمِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ حِينَئِذٍ يُفِيدُهُ فَائِدَةً جَدِيدَةً وَغَيْرُ مُفِيدٍ لَهُ فِي الْوَصْفِ الْغَالِبِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْعَادَةُ ، وَإِذَا كَانَ فِي الْغَالِبِ غَيْرُ مُفِيدٍ بِإِخْبَارِهِ عَنْ ثُبُوتِهِ لِلْحَقِيقَةِ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّهُ إنَّمَا نَطَقَ بِهِ لِقَصْدٍ آخَرَ غَيْرِ الْإِخْبَارِ عَنْ ثُبُوتِهِ لِلْحَقِيقَةِ وَهُوَ سَلْبُ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ وَهَذَا الْغَرَضُ لَا يَتَعَيَّنُ إذَا لَمْ يَكُنْ غَالِبًا ؛ لِأَنَّهُ غَرَضُهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْإِخْبَارَ عَنْ ثُبُوتِهِ لِلْحَقِيقَةِ لَا سَلْبَ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَظَهَرَ أَنَّ الْوَصْفَ الْغَالِبَ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ حُجَّةً وَهُوَ سُؤَالٌ حَسَنٌ مُتَّجِهٌ غَيْرَ أَنَّهُ عَارَضْنَا فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْدِيرِ كَوْنِهِ حُجَّةً وَهُوَ أَنَّهُ اضْطَرَّ لِلنُّطْقِ بِهِ بِخِلَافِ غَيْرِ الْغَالِبِ وَأَوْرَدَ لَك ثَلَاثَ مَسَائِلَ تُوَضِّحُ لَك الْقَاعِدَتَيْنِ وَالْفَرْقَ بَيْنَهُمَا .
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ } أَوْ { زَكُّوا عَنْ الْغَنَمِ السَّائِمَةِ } اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمَعْلُوفَةِ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَيَكُونُ مِنْ الْمَفْهُومِ الَّذِي لَيْسَ حُجَّةً إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّ السَّوْمَ يَغْلِبُ عَلَى الْغَنَمِ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا لَا سِيَّمَا فِي الْحِجَازِ لِعِزَّةِ

الْعَلَفِ هُنَالِكَ وَالِاسْتِدْلَالُ بِمَا لَيْسَ حُجَّةً إجْمَاعًا لَا يَسْتَقِيمُ الثَّانِي أَنَّ هَذَا مَفْهُومٌ وَإِنْ سَلَّمَ أَنَّهُ حُجَّةٌ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِالْمَنْطُوقِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ } فَهَذَا الِاسْتِدْلَال بَاطِلٌ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ } مَفْهُومُهُ أَنَّهُ إذَا أَذِنَ لَهَا وَلِيُّهَا صَحَّ نِكَاحُهَا وَهَذَا الْمَفْهُومُ مَلْغِيٌّ بِسَبَبِ أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهَا لَا تُنْكِحُ نَفْسَهَا فِي مَجْرَى الْعَادَةِ إلَّا وَوَلِيُّهَا غَيْرُ آذِنٍ بَلْ غَيْرُ عَالِمٍ فَصَارَ عَدَمُ إذْنِ الْوَلِيِّ غَالِبًا فِي الْعَادَةِ عَلَى تَزْوِيجِهَا لِنَفْسِهَا فَالتَّقْيِيدُ بِهِ تَقْيِيدٌ بِمَا هُوَ غَالِبٌ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهُ تَعَالَى { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } وَمَفْهُومُهُ أَنَّكُمْ إذَا لَمْ تَخْشَوْا الْإِمْلَاقَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْكُمْ الْقَتْلُ وَهُوَ مَفْهُومٌ مَلْغِيٌّ إجْمَاعًا بِسَبَبِ أَنَّهُ قَدْ غَلَبَ فِي الْعَادَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقْتُلُ وَلَدَهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَأَمْرٍ قَاهِرٍ ؛ لِأَنَّ حِنَّةَ الْأُبُوَّةِ مَانِعَةٌ مِنْ قَتْلِهِ فَتَقْيِيدُ الْقَتْلِ بِخَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ تَقْيِيدٌ لَهُ بِوَصْفٍ هُوَ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ فِي الْقَتْلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَكَانُوا لَا يَقْتُلُونَ إلَّا خَوْفَ الْفَقْرِ أَوْ الْفَضِيحَةِ فِي الْبَنَاتِ وَهُوَ الْوَأْدُ الَّذِي صُرِّحَ بِهِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ فِي قَوْلِهِ { وَإِذَا الْمَوْءُودَةِ سُئِلَتْ } وَالْوَأْدُ الثِّقَلُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْفِنُونَهُنَّ أَحْيَاءً فَيَمُتْنَ مِنْ غَمِّ التُّرَابِ وَثِقَلِهِ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } أَيْ لَا يُثْقِلُهُ وَعَلَى هَذَا الْقَانُونِ اُعْتُبِرَ الْمَفْهُومُ الْغَالِبُ مِنْ غَيْرِهِ

قَالَ ( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَفْهُومِ إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الْغَالِبِ ) فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الْغَالِبِ كَانَ حُجَّةً عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ وَإِذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لَا يَكُونُ حُجَّةً إجْمَاعًا وَضَابِطُهُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الَّذِي وَقَعَ بِهِ التَّقْيِيدُ غَالِبًا عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ مَوْجُودًا مَعَهَا فِي أَكْثَرِ صُوَرِهَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا مَعَهَا فِي أَكْثَرِ صُوَرِهَا فَهُوَ الْمَفْهُومُ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ وَسِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْوَصْفَ إذَا كَانَ غَالِبًا عَلَى الْحَقِيقَةِ يَصِيرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ لُزُومٌ فِي الذِّهْنِ فَإِذَا اسْتَحْضَرَ الْمُتَكَلِّمُ الْحَقِيقَةَ لِيَحْكُمَ عَلَيْهَا حَضَرَ مَعَهَا ذَلِكَ الْوَصْفُ الْغَالِبُ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِهَا فَإِذَا حَضَرَ فِي ذِهْنِهِ نَطَقَ بِهِ لِأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي ذِهْنِهِ فَعَبَّرَ عَنْ جَمِيعِ مَا وَجَدَهُ فِي ذِهْنِهِ لَا أَنَّهُ قَصَدَ بِالنُّطْقِ بِهِ نَفْيَ الْحُكْمِ عَنْ صُورَةِ عَدَمِهِ بَلْ الْحَالُ تَضْطَرُّهُ لِلنُّطْقِ بِهِ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ غَالِبًا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا يَلْزَمُهَا فِي الذِّهْنِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ اسْتِحْضَارِ حَقِيقَةِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهَا حُضُورُهُ فَيَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ حِينَئِذٍ لَهُ غَرَضٌ فِي النُّطْقِ بِهِ وَإِحْضَارُهُ مَعَ الْحَقِيقَةِ وَلَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا لِذَلِكَ بِسَبَبِ الْحُضُورِ فِي الذِّهْنِ وَإِذَا كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِيهِ وَسُلِبَ الْحُكْمُ عَنْ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ غَرَضَهُ فَحَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ حَتَّى يُصَرِّحَ بِخِلَافِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَبَادِرُ لِلذِّهْنِ مِنْ التَّقْيِيدِ وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَسِرُّ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ قُلْت : مَا أَبْعَدَ مَا قَالَهُ أَنْ يَكُونَ سِرًّا وَسَبَبًا لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فَكَيْفَ يَكُونُ الشَّارِعُ مُضْطَرًّا إلَى النُّطْقِ بِمَا لَا يَقْصِدُهُ ؟ ، هَذَا مُحَالٌ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشَّارِعِ اللَّهَ تَعَالَى فَاضْطِرَارُهُ إلَى

أَمْرٍ مَا مُحَالٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشَّارِعِ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَذَلِكَ هُوَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْصُومٌ وَالْحَامِلُ عَلَى هَذَا الْحَالِ إنَّمَا هُوَ الْقَوْلُ بِالْمَفْهُومِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ بَاطِلٌ عِنْدَ التَّجَرُّدِ عَنْ الْقَرَائِنِ الْمُفْهِمَةِ لِمُقْتَضَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَكَانَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ يُورِدُ عَلَى هَذَا سُؤَالًا إلَى آخِرِ السُّؤَالِ ) قُلْت : السُّؤَالُ وَارِدٌ قَالَ ( وَهُوَ سُؤَالٌ حَسَنٌ غَيْرَ أَنَّهُ عَارَضْنَا فِيهِ مَا تَقَدَّمَ إلَى آخِرِ قَوْلِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ) قُلْت : قَدْ سَبَقَ مَا وَرَدَ عَلَى دَعْوَى الِاضْطِرَارِ .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ } إلَى آخِرِهَا قُلْت : مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِلشَّافِعِيَّةِ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ قَدْ سَبَقَ مَا أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ عِزُّ الدِّينِ وَقَوْلُهُ الثَّانِي أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِالْمَنْطُوقِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ } لَا بَأْسَ بِهِ .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ } إلَى آخِرِهِ قُلْت : يَرِدُ عَلَى مَا قَالَهُ فِيهَا سُؤَالُ عِزِّ الدِّينِ .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } إلَى آخِرِهَا قُلْت : إنَّمَا أُلْغِيَ هَذَا الْمَفْهُومُ لِمُعَارَضَتِهِ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ قَتْلِ مَنْ لَمْ يَجْنِ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقَتْلَ وَلَدًا كَانَ أَوْ غَيْرَ وَلَدٍ .

الْفَرْقُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَفْهُومِ إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ ) قِيلَ : لَا يَكُونُ حُجَّةً إجْمَاعًا وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الْغَالِبِ قِيلَ : يَكُونُ حُجَّةً عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ وَالصَّحِيحُ كَمَا فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ الْأُصُولِيِّ أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي وَقَعَ بِهِ تَقْيِيدُ الْحَقِيقَةِ إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ بِأَنْ وُجِدَ مَعَهَا فِي أَكْثَرِ صُوَرِهَا كَوَصْفِ الرَّبَائِبِ بِاَللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ فِي قَوْله تَعَالَى { وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } وَهُنَّ جَمْعُ رَبِيبَةٍ بِنْتُ زَوْجَةِ الرَّجُلِ مِنْ آخَرَ سُمِّيَتْ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُرَبِّيهَا غَالِبًا كَمَا يُرَبِّي وَلَدَهُ ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فَسُمِّيَتْ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَرِبْهَا وَإِنَّمَا لَحِقَتْهُ الْهَاءُ مَعَ أَنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ اسْمًا فَكَوْنُهُنَّ فِي حُجُورِ أَزْوَاجِ الْأُمَّهَاتِ هُوَ الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِنَّ فَوَصَفَهُنَّ بِهِ لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ فَلَا يَدُلُّ الْكَلَامُ الْمُفِيدُ لِلْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْحَقِيقَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِهِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهِ كَالْكَلَامِ الْمُفِيدِ لِتَحْرِيمِهِنَّ عَلَيْهِمْ عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِهِنَّ عَلَيْهِمْ عِنْدَ عَدَمِ كَوْنِهِنَّ فِي حُجُورِهِمْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا إجْمَاعًا .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَهُ شَرْطًا حَتَّى إنَّ الْبَعِيدَةَ عَنْ الزَّوْجِ لَا تُحَرَّمُ عَلَيْهِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ وَأَسْنَدَهُ إلَيْهِ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فَقَالَ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ كَانَتْ عِنْدِي امْرَأَةٌ فَتُوُفِّيَتْ وَقَدْ وَلَدَتْ لِي فَوَجَدْت عَلَيْهَا فَلَقِيَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ مَا لَكَ فَقُلْت تُوُفِّيَتْ الْمَرْأَةُ فَقَالَ عَلِيٌّ : هَلْ لَهَا ابْنَةٌ ؟ فَقُلْت :

نَعَمْ وَهِيَ بِالطَّائِفِ قَالَ : كَانَتْ فِي حِجْرِك ؟ قُلْت : لَا ، قَالَ : فَانْكِحْهَا قُلْت : فَأَيْنَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } قَالَ : إنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِك إنَّمَا ذَلِكَ إذَا كَانَتْ فِي حِجْرِك ، قَالَ الْحَافِظُ الْعِمَادُ بْنُ كَثِيرٍ : إسْنَادُهُ قَوِيٌّ ثَابِتٌ إلَى عَلِيٍّ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا ا هـ بِتَوْضِيحٍ وَزِيَادَةٍ مِنْ الْعَطَّارِ .
نَعَمْ قَدْ يُقَالُ الْمُرَادُ إجْمَاعُ الْأَرْبَعَةِ الْأَئِمَّةِ لَا جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ لَكِنْ فِي الْمُحَلَّى عَلَى جَمْعِ الْجَوَامِعِ .
وَقَدْ مَشَى فِي النِّهَايَةِ فِي آيَةِ الرَّبِيبَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّ الْقَيْدَ فِيهَا لِمُوَافَقَةِ الْغَالِبِ لَا مَفْهُومَ لَهُ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ عَنْ مَالِكٍ الْقَوْلَ بِمَفْهُومِهِ وَمِنْ أَنَّ الرَّبِيبَةَ الْكَبِيرَةَ وَقْتَ التَّزَوُّجِ بِأَنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي حِجْرِهِ وَتَرْبِيَتِهِ وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ فَقَدْ نَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ كَالْمَاوَرْدِيِّ وَابْنِ الصَّبَّاغِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ دَاوُد كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَرَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ وَمَرْجِعُ مَا نَقَلَ عَنْ دَاوُد وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى أَنَّ الْقَيْدَ لَيْسَ لِمُوَافَقَةِ الْغَالِبِ أَيْ بَلْ لِنَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ ا هـ فَافْهَمْ .
وَأَوْرَدَ الْإِمَامُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ لِغَيْرِ الْغَالِبِ مَفْهُومًا دُونَ الْغَالِبِ وَالْقَاعِدَةُ تَقْتَضِي الْعَكْسَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ يَكُونُ لَهُ مَفْهُومٌ لَا إذَا لَمْ يَكُنْ غَالِبًا ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْحَقِيقَةِ تَدُلُّ الْعَادَةُ عَلَى ثُبُوتِهِ لَهَا فَالْمُتَكَلِّمُ يَكْتَفِي بِدَلَالَتِهَا عَلَى ثُبُوتِهِ لَهَا عَنْ ذِكْرِهِ فَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِيَدُلَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ بِانْحِصَارِ غَرَضِهِ فِيهِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَادَةٌ فَغَرَضُ الْمُتَكَلِّمِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ

إفْهَامُ السَّامِعِ بِثُبُوتِهَا لِلْحَقِيقَةِ .
وَأَجَابَ بِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْمَفْهُومِ لِخُلُوِّ الْقَيْدِ عَنْ الْفَائِدَةِ لَوْلَاهُ وَهُوَ إذَا كَانَ الْغَالِبُ يُفْهَمُ مِنْ الظَّنِّ بِاللَّفْظِ أَوَّلًا لِغَلَبَتِهِ فَذِكْرُهُ بَعْدَهُ يَكُونُ تَأْكِيدًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ لِلْمُتَّصِفِ بِهِ وَهَذِهِ فَائِدَةٌ أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْقَيْدِ فِيهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى الْمَفْهُومِ بِخِلَافِ غَيْرِ الْغَالِبِ .
وَأَجَابَ الْأَصْلُ بِأَنَّ الْغَالِبَ مُلَازِمٌ لِلْحَقِيقَةِ فِي الذِّهْنِ فَذِكْرُهُ مَعَهَا عِنْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهَا لِحُضُورِهِ فِي ذِهْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِهَا فَيَضْطَرُّهُ الْحَالُ لِلنُّطْقِ بِهِ لِذَلِكَ لَا لِتَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ اسْتِحْضَارِ الْحَقِيقَةِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهَا حُضُورُهُ مَعَهَا فَلَا يَضْطَرُّهُ الْحَالُ لِنُطْقِهِ بِهِ مَعَهَا فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْمُتَكَلِّمِ غَرَضٌ فِي نُطْقِهِ بِهِ ، وَإِحْضَارُهُ مَعَ الْحَقِيقَةِ وَسَلْبُ الْحُكْمِ عَنْ صُورَةِ عَدَمِهِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ غَرَضَهُ فَيُحْمَلَ عَلَيْهِ حَتَّى يُصَرِّحَ بِخِلَافِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَبَادِرُ إلَى الذِّهْنِ مِنْ التَّقْيِيدِ ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الشَّاطِّ بِأَنَّ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَارِدٌ وَدَعْوَى الِاضْطِرَارِ بَاطِلَةٌ إذْ كَيْفَ يَكُونُ الشَّارِعُ سَوَاءٌ قُلْنَا اللَّهُ تَعَالَى أَوْ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَرًّا إلَى النُّطْقِ بِمَا لَا يَقْصِدُهُ وَاضْطِرَارُ اللَّهِ تَعَالَى إلَى أَمْرٍ مَا مُحَالٌ وَكَذَلِكَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْصُومٌ ، وَالْحَامِلُ عَلَى هَذَا الْحَالِ إنَّمَا هُوَ الْقَوْلُ بِالْمَفْهُومِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ بَاطِلٌ عِنْدَ التَّجَرُّدِ عَنْ الْقَرَائِنِ الْمُفْهِمَةِ لِمُقْتَضَاهُ .
( قُلْت ) يُعَيَّنُ أَنَّ الْبَاطِلَ هُوَ مَا لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْأَشْعَرِيِّ وَالْإِمَامِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ بِأَقْسَامِهِ الرَّاجِعَةِ إلَى مَفْهُومِ الصِّفَةِ كَمَا مَرَّ عِنْدَ التَّجَرُّدِ عَنْ الْقَرَائِنِ الْمُفْهِمَةِ

لِمُقْتَضَاهُ إذَا تَوَفَّرَتْ الشُّرُوطُ لِتَحَقُّقِهِ وَهِيَ أُمُورٌ أَحْرَى أَنْ لَا تُظْهِرَ أَوْلَوِيَّةَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فِي الْحُكْمِ وَإِلَّا اسْتَلْزَمَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَكَانَ مَفْهُومَ مُوَافَقَةٍ لَا مُخَالَفَةٍ كَتَحْرِيمِ الضَّرْبِ مِنْ قَوْله تَعَالَى { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } وَتَأْدِيَةِ مَا دُونَ الْقِنْطَارِ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارِ يُؤَدِّهِ إلَيْك } .
وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ مِثْلَ { وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } فَإِنَّ الْغَالِبَ كَوْنُ الرَّبَائِبِ فِي الْحُجُورِ وَمِنْ شَأْنِهِنَّ ذَلِكَ فَقَيَّدَ بِهِ لِذَلِكَ لَا ؛ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّاتِي لَسْنَ فِي الْحُجُورِ بِخِلَافَةِ وَمِثْلَ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } إذْ الْخُلْعُ غَالِبًا إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ خَوْفِ أَنْ لَا يَقُومَ كُلٌّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ وَمِثْلَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ } إذْ الْمَرْأَةُ إنَّمَا تُبَاشِرُ نِكَاحَ نَفْسِهَا عِنْدَ مَنْعِ الْوَلِيِّ فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهَا إذَا نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا لَمْ يَكُنْ بَاطِلًا .
وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يَكُونَ لِسُؤَالِ سَائِلٍ عَنْ الْمَذْكُورِ وَلَا لِحَادِثَةٍ خَاصَّةٍ بِالْمَذْكُورِ مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَ هَلْ فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ فَيَقُولُ فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ أَوْ يَكُونُ الْغَرَضُ بَيَانَ ذَلِكَ لَهُ السَّائِمَةُ دُونَ الْمَعْلُوفَةِ .
وَالرَّابِعُ : أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ تَقْدِيرُ جَهَالَةٍ بِحُكْمِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ وَإِلَّا رُبَّمَا تَرَكَ التَّعَرُّضَ لَهُ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِحَالِهِ وَلَا يَكُونُ خَوْفٌ يَمْنَعُ مِنْ ذِكْرِهِ كَقَوْلِ قَرِيبِ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ لِعَبْدِهِ بِحُضُورِ الْمُسْلِمِينَ تَصَدَّقْ

بِهَذَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ يُرِيدُ وَغَيْرِهِمْ وَتَرَكَهُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُتَّهَمَ بِالنِّفَاقِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِالذِّكْرِ كَمُوَافَقَةِ الْوَاقِعِ فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى { لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } نَزَلَتْ كَمَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالَوْا الْيَهُودَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ تَتَوَفَّرْ هَذِهِ الشُّرُوطُ بِانْتِفَاءِ الْمَذْكُورَاتِ بَلْ ثَبَتَ وَاحِدٌ مِنْهَا فَلَا يَسْتَنِدُ فِي الْعَمَلِ إلَى الْمَفْهُومِ ضَرُورَةَ أَنَّ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ فَوَائِدُ ظَاهِرَةٌ وَالْمَفْهُومُ فَائِدَةٌ خَفِيفَةٌ فَيُؤَخَّرُ عَنْهَا وَيَكُونُ الْعَمَلُ حِينَئِذٍ عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ وَلَوْ خَالَفَ الْمَفْهُومَ ، فَإِذَا دَلَّ عَلَى إعْطَاءِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ حُكْمَ الْمَنْطُوقِ بِهِ عُمِلَ بِمُقْتَضَاهُ كَمَا فِي نَحْوِ آيَتَيْ الرَّبِيبَةِ وَالْمُوَالَاةِ وَقَوْلُ قَرِيبِ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ إلَخْ فَإِنَّ إرَادَةَ قَرِيبِ الْعَهْدِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا عَلِمْت وَتَحَقُّقَ عِلَّةِ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فِي الْآيَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الرَّبِيبَةَ حُرِّمَتْ لِئَلَّا يَقَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أُمِّهَا التَّبَاغُضُ لَوْ أُبِيحَتْ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَيُوجَدُ نَظَرًا لِلْعَادَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حِجْرِ الزَّوْجِ أَمْ لَا ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ مُوَالَاةَ الْمُؤْمِنِ الْكَافِرَ حُرِّمَتْ لِعَدَاوَةِ الْكَافِرِ لَهُ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ سَوَاءٌ وَالَى الْمُؤْمِنَ أَمْ لَا ، وَقَدْ عَمَّ مَنْ وَالَاهُ وَمَنْ يُوَالِيهِ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ } إلَى قَوْلِهِ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَقِيَاسُ الْمَسْكُوتِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ عَلَى الْمَنْطُوقِ لَا يَمْتَنِعُ ؛ إذْ كَيْفَ يَمْتَنِعُ وَهُنَاكَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْمَعْرُوضَ لِلصِّفَةِ وَنَحْوِهَا كَالْغَنَمِ فِي حَدِيثِ { فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ } يَعُمُّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ كَالْمَعْلُوفَةِ فِي الْحَدِيثِ

الْمَذْكُورِ بِدُونِ قِيَاسٍ ؛ لِأَنَّ عَارِضَهُ مِنْ الصِّفَةِ وَنَحْوِهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَسْكُوتِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْعِلَّةِ كَأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ .
نَعَمْ الْحَقُّ عَدَمُ الْعُمُومِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ وَقَوْلُ إمَامِنَا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ الْمَعْلُوفَةَ فِيهَا الزَّكَاةُ لَمْ يَكُنْ مِنْ حَيْثُ شُمُولُ الْغَنَمِ لِلْمَعْلُوفَةِ فِي الْحُكْمِ كَمَا قِيلَ بَلْ إمَّا لِكَوْنِ حَدِيثِ { فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ } مَنْطُوقًا عَارَضَ مَفْهُومَ حَدِيثِ { فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ } فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ كَمَا قَالُوا بِالْمِنَّةِ مَنْ قَتَلَ مَنْ لَمْ يَجْنِ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقَتْلَ وَلَدًا كَانَ أَوْ غَيْرَ وَلَدٍ لِلْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ الْمُعَارِضَةِ لِمَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } لَا لِكَوْنِهِ غَالِبًا فِي مَجْرَى الْعَادَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْتُلُونَ إلَّا خَوْفَ الْفَقْرِ وَالْفَضِيحَةِ فِي الْبَنَاتِ وَهُوَ الْوَأْدُ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ } وَالْوَأْدُ الْقَتْلُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْفِنُونَهُنَّ أَحْيَاءً فَيَمُتْنَ مِنْ غَمِّ التُّرَابِ وَثِقَلِهِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } أَيْ لَا يُثْقِلُهُ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ عُمُومًا فِي خُصُوصِ عَيْنِ الْغَنَمِ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى حَدِيثِ فِي الْغَنَمِ إلَخْ ؛ لِأَنَّهُ عُمُومٌ فِي خُصُوصِ حَالِ الْغَنَمِ لِمَا مَرَّ عَنْ الْإِمَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ مِنْ أَنَّ حَالَ الْعَيْنِ أَرْجَحُ مِنْ حَالِ الْحَالِ .
وَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إعْطَاءِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ نَقِيضَ حُكْمِ الْمَنْقُوضِ بِهِ عُمِلَ بِمُقْتَضَاهُ كَمَا فِي نَحْوِ الْغَنَمِ الْمَعْلُوفَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ بِعَدَمِ الزَّكَاةِ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فَتَبْقَى الْمَعْلُوفَةُ الَّتِي لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا الْأَصْلُ كَمَا سَيَأْتِي وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ بِمَفْهُومِ

الْمُخَالَفَةِ بَاطِلًا كَانَ الصَّحِيحُ مُقَابِلَهُ وَهُوَ مَا أَشَارَ لَهُ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ بِقَوْلِهِ وَأَنْكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ الْكُلَّ مُطْلَقًا قَالَ الْمَحَلِّيُّ أَيْ لَمْ يَقُلْ بِشَيْءٍ مِنْ مَفَاهِيمِ الْمُخَالَفَةِ وَإِنْ قَالَ فِي الْمَسْكُوتِ بِخِلَافِ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ فَلِأَمْرٍ آخَرَ كَمَا فِي انْتِفَاءِ الزَّكَاةِ عَنْ الْمَعْلُوفَةِ ، قَالَ : إنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الزَّكَاةِ وَوَرَدَتْ فِي السَّائِمَةِ فَبَقِيَتْ الْمَعْلُوفَةُ عَلَى الْأَصْلِ ا هـ .
وَمُحَصِّلُهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَنِدُ فِي الْعَمَلِ إلَى الْمَفْهُومِ وَلَوْ تَوَفَّرَتْ شُرُوطُ تَحَقُّقِهِ الْمَذْكُورَةِ بَلْ إنَّمَا يَسْتَنِدُ إلَى الْقَرَائِنِ الْمُفْهِمَةِ لِمُوَافَقَتِهِ أَوْ مُخَالَفَتِهِ لِحُكْمِ الْمَنْطُوقِ مُطْلَقًا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ أَوْ كَلَامِ النَّاسِ .
نَعَمْ قَالَ الْعَطَّارُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى مَحَلِّي جَمْعِ الْجَوَامِعِ : إنَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا نَقَلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا عَنْ أَصْحَابِهِ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا يُنْكِرُونَ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ ، أَمَّا فِي كَلَامِ النَّاسِ فَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَهُمْ عَكْسُ مَا لِوَالِدِ الْمُصَنِّفِ مِنْ إنْكَارِهِ الْكُلَّ فِي غَيْرِ الشَّرْعِ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِينَ وَالْوَاقِفِينَ لِغَلَبَةِ الذُّهُولِ عَلَيْهِمْ بِخِلَافِهِ فِي الشَّرْعِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ قَالَ سم : وَحَاصِلُ كَلَامِ وَالِدِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمَفْهُومَ مَعْنًى يُقْصَدُ تَبَعًا لِلْمَنْطُوقِ فَلَا يُعْتَبَرُ مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الذُّهُولُ ؛ إذْ الْأُمُورُ التَّابِعَةُ إنَّمَا يُعْتَدُّ بِهَا مِمَّنْ قَصَدَهَا وَلَاحَظَهَا وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الذُّهُولُ وَلَا وُثُوقَ بِقَصْدِهِ وَمُلَاحَظَتِهِ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَوَقُّفُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْإِرَادَةِ بَلْ الَّذِي فِيهِ تَوَقُّفٌ اعْتِبَارُهَا فِي الْمَعَانِي التَّابِعَةِ لَا مُطْلَقًا عَلَى مَنْ يُوثَقُ فِيهِ بِإِرَادَتِهِ وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ ا هـ .

وَوَجْهُ بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ عِنْدَ التَّجَرُّدِ عَنْ الْقَرَائِنِ الْمُفْهِمَةِ لِمُقْتَضَاهُ إذَا تَوَفَّرَتْ شُرُوطُ تَحَقُّقِهِ وَإِنْ قَالُوا إنَّهُ الْمَذْهَبُ الْمُخْتَارُ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ دَاعٍ إلَى دَعْوَى الِاضْطِرَارِ إلَى النُّطْقِ بِمَا لَا يَقْصِدُ وَاضْطِرَارُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَمْرٍ مَا مُحَالٌ كَمَا عَلِمْت .
الثَّانِي : أَنَّ وُجُوهَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ ضَعِيفَةٌ .
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يُقَرِّرَ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا لِلْحَصْرِ لَزِمَ اشْتِرَاكُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ لِلْمَذْكُورِ فِي الْحُكْمِ إذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الِاخْتِصَاصِ وَالِاشْتِرَاكِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الْمَذْكُورِ قَطْعًا فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَهُوَ الِاخْتِصَاصُ وَإِنْ ثَبَتَ فَهُوَ الِاشْتِرَاكُ وَهَذَا تَرْدِيدٌ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا وَاللَّازِمُ أَعْنِي الِاشْتِرَاكَ الْمَذْكُورَ مُنْتَفٍ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلِاشْتِرَاكِ غَايَتُهُ أَنَّهُ مُحْتَمَلٌ وَإِمَّا أَنْ يُقَرِّرَ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُفِدْ الْحَصْرَ لَمْ يُفِدْ الِاخْتِصَاصَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ ؛ إذْ لَا مَعْنَى لِلْحَصْرِ فِيهِ إلَّا اخْتِصَاصَهُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَمْ يَحْصُلْ وَاللَّازِمُ أَعْنِي انْتِفَاءَ إفَادَتِهِ اخْتِصَاصَ الْحُكْمِ بِالْمَذْكُورِ دُونَ غَيْرِهِ مُنْتَفٍ لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِأَنَّهُ يُفِيدُ اخْتِصَاصَ الْحُكْمِ بِالْمَذْكُورِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَأَمَّا ضَعْفُهُ فَمِنْ جِهَتَيْنِ الْجِهَةُ الْأُولَى أَنَّهُ عَلَى التَّقْرِيرِ الْأَوَّلِ ، وَالثَّانِي إنْ أَرَادَ بِاخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِالْمَذْكُورِ دُونَ الْمَسْكُوتِ أَنَّ الْحُكْمَ النَّفْسِيَّ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالذِّكْرِ اللَّفْظِيِّ مُخْتَصٌّ بِهِ بِمَعْنَى أَنَّا حَكَمْنَا عَلَى السَّائِمَةِ مَثَلًا وَلَمْ نَحْكُمْ عَلَى الْمَعْلُوفَةِ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْحُكْمِ النَّفْسِيِّ وَهُوَ النِّسْبَةُ الْوَاقِعَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الْمُعَبَّرِ

عَنْهَا بِالْحُكْمِ الْخَارِجِيِّ مُخْتَصٌّ بِالْمَذْكُورِ بِمَعْنَى أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي السَّائِمَةِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ فِي الْمَعْلُوفَةِ فَمَمْنُوعٌ ؛ إذْ غَايَةُ الْأَمْرِ عَدَمُ الْحُكْمِ بِالْوُجُوبِ فِي الْمَعْلُوفَةِ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ فِيهَا لِجَوَازِ أَنْ تَثْبُتَ نِسْبَتُهُ وَلَا يُحْكَمَ بِثُبُوتِهَا وَحَاصِلُهُ تَسْلِيمُ اخْتِصَاصِ النِّسْبَةِ الذِّهْنِيَّةِ دُونَ الْخَارِجِيَّةِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْإِخْبَارِ دُونَ الْإِنْشَاءِ إذْ لَيْسَ لِنَفْسِهِ مُتَعَلِّقٌ هُوَ الْخَارِجِيُّ إلَّا أَنْ يَئُولَ بِالْخَبَرِ أَوْ يُقَالَ : إنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَعَلِّقِ هَاهُنَا هُوَ طَرَفُ الْحُكْمِ كَالسَّائِمَةِ مَثَلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُتَعَلِّقَ الذِّكْرِ النَّفْسِيِّ هُوَ الطَّرَفَانِ لِيَصِحَّ فِي الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ جَمِيعًا .
الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بِكِلَا تَقْرِيرَيْهِ كَمَا يَجْرِي هُنَا يَجْرِي فِي اللَّقَبِ بِأَنْ يُقَالَ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَصْرِ لَكَانَ لِلِاشْتِرَاكِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ أَوْ يُقَالَ لَوْ لَمْ يُفِدْ الْحَصْرَ لَمْ يُفِدْ الِاخْتِصَاصُ وَأَنَّهُ يُفِيدُهُ قَطْعًا مَعَ أَنَّ اللَّقَبَ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَهُوَ أَنَّهُ إذَا قِيلَ الْفُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةُ فُضَلَاءُ وَلَا مُقْتَضَى لِتَخْصِيصِ الْحَنَفِيَّةِ بِالْفَضْلِ نَفَرَتْ الشَّافِعِيَّةُ وَلَوْلَا فَهْمُهُمْ نَفْيَ الْفَضْلِ عَنْ غَيْرِهِمْ لَمَا نَفَرُوا .
وَأَمَّا ضَعْفُهُ فَبِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ النَّفْرَةِ وَفَهْمِهِمْ نَفْيِ الْفَضْلِ عَنْ غَيْرِهِمْ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ النَّفْرَةُ إمَّا لِتَصْرِيحٍ بِغَيْرِهِمْ وَتَرْكِهِمْ عَلَى الِاحْتِمَالِ كَمَا يَنْفِرُ مِنْ التَّقْدِيرِ فِي الذِّكْرِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِلتَّفْضِيلِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ وَإِمَّا لِتَوَهُّمِ الْمُعْتَقِدِينَ لِإِفَادَةِ النَّفْيِ عَنْ الْغَيْرِ قَصْدَ تِلْكَ الْإِفَادَةِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ إمَّا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ نَفَرُوا عَنْ أَنْ تُذْكَرَ عِبَارَةٌ يَتَوَهَّمُ مِنْهَا بَعْضُ النَّاسِ نَفْيَ

الْفَضْلِ عَنْهُمْ أَوْ بِمَعْنَى أَنَّ النَّفْرَةَ إنَّمَا هُوَ لِلْمُعْتَقِدَيْنِ تِلْكَ الْإِفَادَةَ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِمْ وَأَنَّهُ تَوَهُّمٌ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ فَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِبَ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى { إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } قَالَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا قَدْحَ فِي رُوَاتِهِ { لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِمَ مِنْ الْآيَةِ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى السَّبْعِينَ حُكْمُهُ بِخِلَافِ السَّبْعِينَ وَذَلِكَ مَفْهُومُ الْعَدَدِ وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِهِ قَالَ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ فَيَثْبُتُ مَفْهُومُ الصِّفَةِ .
وَأَمَّا ضَعْفُهُ فَبِمَنْعِ فَهْمِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ السَّبْعِينَ لِلْمُبَالَغَةِ وَمَا زَادَ عَلَى السَّبْعِينَ مِثْلُهُ فِي الْحُكْمِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ السَّبْعِينَ وَمَا فَوْقَهَا وَهُوَ مَا يَتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ عَدَمِ الْمَغْفِرَةِ فَلَا يَتَبَادَرُ مِنْ ذِكْرِ السَّبْعِينَ أَنَّ مَا فَوْقَهَا بِخِلَافِهَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ } فَلَعَلَّهُ مِنْ جِهَةِ عِلْمِهِ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ السَّبْعِينَ وَمَا فَوْقَهَا غَيْرُ مُرَادٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِخُصُوصِهِ لَا مِنْ جِهَةِ فَهْمِهِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَلَوْ سَلِمَ أَنَّهُ فَهِمَهُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ فَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ التَّقْيِيدِ بِالْعَدَدِ بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَصْلَ قَبُولُ اسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ تَحَقَّقَ النَّفْيُ فِي السَّبْعِينَ فَبَقِيَ مَا فَوْقَهَا عَلَى الْأَصْلِ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ فَهُوَ أَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَهِمَا مِنْ قَوْله تَعَالَى { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ } حَيْثُ قَيَّدَ قَصْرَ الصَّلَاةِ بِحَالِ الْخَوْفِ أَنَّ عَدَمَ قَصْرِهَا عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ { وَأَقَرَّ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عُمَرَ عَلَيْهِ

فَقَالَ يَعْلَى لِعُمَرَ مَا بَالُنَا نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } إلَخْ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ } إذْ لَوْلَا إفَادَةُ تَقْيِيدِ الْقَصْرِ بِالْخَوْفِ فِي الْآيَةِ لِعَدَمِهِ عِنْدَ عَدَمِهِ لُغَةً مَا فَهِمَاهُ وَلَمَا أَقَرَّهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَأَمَّا ضَعْفُهُ فَبِمَنْعِ فَهْمِهَا مِنْهُ لِجَوَازِ أَنَّهُمَا حَكَمَا بِذَلِكَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِي وُجُوبِ إتْمَامِ الصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ الْأَصْلُ وَخُولِفَ فِي الْخَوْفِ بِالْآيَةِ ، وَلِذَا ذَكَرُوا الْآيَةَ عِنْدَ التَّعَجُّبِ يَعْنُونَ أَنَّ الْقَصْرَ حَالَ الْخَوْفِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْآيَةِ فَمَا بَالُ حَالِ الْأَمْنِ لَمْ يَبْقَ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ مِنْ الْإِتْمَامِ بِحَيْثُ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ فِيهِ إلَّا لِدَلِيلٍ وَلَا دَلِيلَ وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يَكُونَ الْفَهْمُ مِنْهُ فَلَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ فِيهِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مَفْهُومَ الشَّرْطِ لَا الصِّفَةِ وَلَعَلَّ الْغَرَضَ مِنْهُ إلْزَامُ مَنْ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْخَامِسُ فَهُوَ أَنَّ إفَادَتَهُ لِتَخْصِيصٍ تُفْضِي إلَى تَكْثِيرِ الْفَائِدَةِ فَإِنَّ إثْبَاتَ الْمَذْكُورِ وَنَفْيَ غَيْرِهِ أَكْثَرُ فَائِدَةً مِنْ إثْبَاتِ الْمَذْكُورِ وَحْدَهُ وَكَثْرَةُ فَائِدَتِهِ تُرَجِّحُ الْمَصِيرَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُلَائِمٌ لِغَرَضِ الْعُقَلَاءِ وَأَمَّا ضَعْفُهُ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا لَا يَلْزَمُ إلَّا الْقَائِلِينَ بِأَنَّ تَكْثِيرَ الْفَائِدَةِ دَالٌّ عَلَى الْوَضْعِ كَعَبَّادٍ الصَّيْمَرِيِّ وَالْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْوَضْعِ إنَّمَا هُوَ النَّقْلُ تَوَاتُرًا أَوْ آحَادًا كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ وَعَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى النَّفْيِ عَنْ الْغَيْرِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْوَضْعِ تَكْثِيرُ الْفَائِدَةِ تَتَوَقَّفُ عَلَى تَكْثِيرِ الْفَائِدَةِ

إذْ بِهِ تَثْبُتُ وَتَكْثِيرُ الْفَائِدَةِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِدَلَالَتِهِ عَلَى النَّفْيِ عَلَى الْغَيْرِ وَذَلِكَ دَوْرٌ ظَاهِرٌ .
نَعَمْ قَدْ يُقَالُ : إنَّ مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ تَعَقُّلُ كَثْرَةِ الْفَائِدَةِ لَا حُصُولُهَا وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الدَّلَالَةِ حُصُولُ كَثْرَةِ الْفَائِدَةِ لَا تَعَقُّلُهَا .
وَأَمَّا الْوَجْهُ السَّادِسُ فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ مُخَالِفًا لِلْمَذْكُورِ فِي الْحُكْمِ فَفِي نَحْوِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعًا إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ } يَلْزَمُ أَنْ لَا تَكُونَ السَّبْعُ مُطَهِّرَةً ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ إذَا حَصَلَتْ بِدُونِ السَّبْعِ فَلَا تَحْصُلُ بِالسَّبْعِ ؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ وَأَنَّهُ مُحَالٌ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { خَمْسُ رَضَعَاتٍ يُحَرِّمْنَ } يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَمْسُ مُحَرِّمَةً ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَحْصُلُ بِدُونِ الْخَمْسِ فَلَا تَحْصُلُ بِالْخَمْسِ ؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ وَأَنَّهُ مُحَالٌ .
وَأَمَّا ضَعْفُهُ فَبِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ دَلَالَةِ السَّبْعِ عَلَى نَفْيِ الطَّهَارَةِ فِيمَا دُونَهَا حُصُولُ الطَّهَارَةِ قَبْلَ السَّابِعَةِ وَلَا مِنْ عَدَمِ دَلَالَةِ الْخَمْسِ عَلَى نَفْيِ تَحْرِيمِ الْمُرْضِعَةِ حُصُولُ التَّحْرِيمِ قَبْلَ الْخَمْسِ لِجَوَازِ أَنْ يَثْبُتَ التَّحْرِيمُ وَأَنْ تَثْبُتَ النَّجَاسَةُ بِدَلِيلٍ آخَرَ .
أَمَّا فِي الرَّضَاعِ فَظَاهِرٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّحْرِيمِ ، وَأَمَّا فِي الْإِنَاءِ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ الطَّهَارَةَ مَا لَمْ يَظْهَرْ دَلِيلُ النَّجَاسَةِ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ إلَّا أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى التَّنَجُّسِ قَائِمٌ هُنَا بِوُجُودِ النَّجَسِ وَهُوَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ فَإِذَا لَمْ يَدُلَّ الْعَدَدُ عَلَى النَّفْيِ فِيمَا دُونَهُ بَقِيَ مَا كَانَ ثَابِتًا مِنْ النَّجَاسَةِ وَعَدَمِ التَّحْرِيمِ حَتَّى يَظْهَرَ الدَّلِيلُ كَذَا فِي شَرْحِ الْعَضُدِ عَلَى مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَحَاشِيَةِ السَّعْدِ عَلَيْهِ وَلَا يَخْفَاك أَنَّ بُطْلَانَ

الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ لَا يُنْتِجُهُ وَاحِدٌ مِنْ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمَفْهُومِ فِي غَيْرِ الْغَالِبِ لَا فِي الْغَالِبِ دَاعٍ إلَى الِاضْطِرَارِ الْمَذْكُورِ فِي الْغَالِبِ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ الْأَصْلُ بِذَلِكَ فِي بَيَانِ سِرِّ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَدَفَعَ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ سِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا غَيْرَ ذَلِكَ وَهُوَ مَا مَرَّ عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ فِي جَوَابِهِ عَمَّا أَوْرَدَهُ مِنْ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْغَالِبِ لَمَّا كَانَتْ فَائِدَتُهُ هِيَ التَّأْكِيدُ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ لِلْمُتَّصِفِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لِغَلَبَتِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ يُفْهَمُ مِنْ النُّطْقِ بِلَفْظِهَا أَوَّلًا لَمْ يَحْتَجْ فِيهِ إلَى الْمَفْهُومِ ضَرُورَةَ أَنَّ فَائِدَةَ التَّأْكِيدِ فِيهِ ظَاهِرَةٌ وَالْمَفْهُومُ فَائِدَةٌ خَفِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ اسْتِفَادَتَهُ بِوَاسِطَةِ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَائِدَةٍ وَغَيْرُ التَّخْصِيصِ بِالْحُكْمِ مُنْتَفٍ فَتَعَيَّنَ التَّخْصِيصُ بِخِلَافِ غَيْرِ الْغَالِبِ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَظْهَرْ لِلتَّقْيِيدِ بِهِ فَائِدَةٌ غَيْرُ التَّخْصِيصِ تَعَيَّنَ فِيهِ التَّخْصِيصُ وَمِنْ هُنَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ اللَّفْظِ فَلَا تُسْقِطُهُ مُوَافَقَةُ الْغَالِبِ بَلْ قَالَ زَكَرِيَّا : لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الرِّسَالَةِ كَلَامٌ آخَرُ يَنْدَفِعُ بِهِ أَيْضًا تَوْجِيهَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ لِمَا نَفَاهُ مُخَالِفًا لِلشَّافِعِيِّ بِمَا ذَكَرَ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ لِتَخْصِيصِ الْمَنْطُوقِ فَائِدَةٌ غَيْرُ نَفْيِ الْحُكْمِ بِطَرِيقِ الِاحْتِمَالِ إلَى الْمَفْهُومِ فَيَصِيرُ الْكَلَامُ مُجْمَلًا حَتَّى لَا يَقْضِيَ فِيهِ بِمُوَافَقَةٍ أَوْ مُخَالَفَةٍ ا هـ فَافْهَمْ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ ضَعْفَ دَلِيلِ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي بُطْلَانَهُ عَلَى أَنَّ وُجُوهَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْقَوْلِ بِإِنْكَارِ الْمَفْهُومِ مُطْلَقًا قَدْ ضَعُفَتْ أَيْضًا فَمَا وَجْهُ إبْطَالِ مُقَابِلِهِ دُونَهُ ، أَمَّا

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْمَفْهُومُ لَثَبَتَ بِدَلِيلٍ وَلَا دَلِيلَ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا عَقْلِيٌّ وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي مِثْلِهِ وَإِمَّا نَقْلِيٌّ إمَّا مُتَوَاتِرٌ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِيهِ وَإِمَّا آحَادٌ وَأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِي مِثْلِهِ .
وَأَمَّا ضَعْفُهُ فَيَمْنَعُ اشْتِرَاطَ التَّوَاتُرِ وَعَدَمَ إفَادَةِ الْآحَادِ فِي مِثْلِهِ وَإِلَّا امْتَنَعَ الْعَمَلُ بِأَكْثَرِ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ لِعَدَمِ التَّوَاتُرِ فِي مُفْرَدَاتِهَا وَأَيْضًا فَإِنَّا نَقْطَعُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ فِي الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ كَانُوا يَكْتَفُونَ فِي فَهْمِ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ بِالْآحَادِ كَنَقْلِهِمْ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ وَالْخَلِيلِ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَسِيبَوَيْهِ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْمَفْهُومُ لَلَزِمَ ثُبُوتُهُ فِي الْخَبَرِ لِأَنَّ الَّذِي بِهِ ثَبَتَ فِي الْأَمْرِ وَهُوَ الْحَذَرُ مِنْ عَدَمِ الْفَائِدَةِ قَائِمٌ فِي الْخَبَرِ وَالْعِلَّةُ تَدُورُ مَعَ الْمَعْلُولِ وُجُودًا وَعَدَمًا وَاللَّازِمُ وَهُوَ ثُبُوتُهُ فِي الْخَبَرِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي الشَّامِ الْغَنَمُ السَّائِمَةُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى عَدَمِ الْمَعْلُوفَةِ بِهَا وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ قَطْعًا .
وَأَمَّا ضَعْفُهُ فَيَمْنَعُ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ لِقَوْلِ السَّعْدِ الْحَقُّ عَدَمُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ كَمَا فِي قَوْلِنَا الْفُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةُ أَئِمَّةٌ فُضَلَاءُ وَمَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ عِنْدَ قَصْدِ الْإِخْبَارِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ وَنَفْيَ الْمَفْهُومِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِمَعُونَةِ الْقَرَائِنِ كَمَا فِي قَوْلِنَا فِي الشَّامِ الْغَنَمُ السَّائِمَةُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الْقَوْلُ بِالْمَفْهُومِ لَلَزِمَ أَنْ لَا يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ أَدِّ زَكَاةَ الْغَنَمِ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ مُجْتَمِعًا أَوْ أَدِّ زَكَاةَ الْغَنَمِ السَّائِمَةِ أَدِّ زَكَاةَ الْغَنَمِ الْمَعْلُوفَةِ مُتَفَرِّقًا وَتَحَقَّقَ التَّخْصِيصُ بِالصِّفَةِ فِي صُورَةِ الِاجْتِمَاعِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحُكْمَ

عُلِّقَ بِالسَّائِمَةِ تَارَةً بِالْمَعْلُوفَةِ أُخْرَى أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ وِزَانَ قَوْلِك فِي مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَدِّ زَكَاةَ الْغَنَمِ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ مُجْتَمِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا وِزَانُ قَوْلِك فِي مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ لَا تَقُلْ لَهُ أُفٍّ وَاضْرِبْهُ فِي مُنَافَاةِ الْمَفْهُومِ لِلْمَنْطُوقِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ بِلَا شَكٍّ أَنْ يُقَالَ لَا تَقُلْ لَهُ أُفٌّ وَاضْرِبْهُ ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ لَا تَقُلْ لَهُ أُفٍّ وَهُوَ حُرْمَةُ الضَّرْبِ يُنَاقِضُ مَنْطُوقَ اضْرِبْهُ وَهُوَ جَوَازُ الضَّرْبِ وَمَفْهُومُ اضْرِبْهُ وَهُوَ جَوَازُ أَنْ يُقَالَ لَهُ أُفٍّ يُنَاقِضُ مَنْطُوقَ لَا تَقُلْ لَهُ أُفٍّ وَهُوَ حُرْمَةُ أَنْ يُقَالَ لَهُ أُفٍّ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَدِّ زَكَاةَ الْغَنَمِ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ مُجْتَمِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْمَنْطُوقَيْنِ مَعَ الْمَفْهُومَيْنِ مُتَعَارِضَانِ وَالْمَنْطُوقُ أَقْوَى مِنْ الْمَفْهُومِ فَيَنْدَفِعُ الْمَفْهُومَانِ فَلَا يَبْقَى لِذِكْرِ الْقَيْدَيْنِ فَائِدَةٌ إذْ فَائِدَةُ التَّقْيِيدِ الْمَفْهُومَةِ وَيَكُونُ بِمَثَابَةِ قَوْلِك أَدِّ زَكَاةَ الْغَنَمِ فَيَضِيعُ ذِكْرُ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ بِخُصُوصِهِمَا وَاللَّازِمُ أَعْنِي صِحَّةَ أَنْ يُقَالَ أَدِّ زَكَاةَ الْغَنَمِ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ مُجْتَمِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ .
وَأَمَّا ضَعْفُهُ فَيَمْنَعُ الْمُلَازَمَةَ بِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا أَنَّ دَلَالَةَ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ قَطْعِيَّةٌ وَدَلَالَةُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ ظَنِّيَّةٌ .
وَثَانِيهَا : أَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ فِي الظَّوَاهِرِ مَعَ إمْكَانِ الصَّرْفِ عَنْ مَعَانِيهَا لِدَلِيلٍ وَدَفْعُ التَّنَاقُضِ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَيْهِ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي ذِكْرِ الْقَيْدَيْنِ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ عَدَمُ تَخْصِيصِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْعَامِّ فَإِنَّ الْعَامَّ ظَاهِرٌ فِي تَنَاوُلِ الْخَاصِّينَ وَيُمْكِنُ إخْرَاجُ أَحَدِهِمَا عَنْهُ تَخْصِيصًا لَهُ ، إذَا ذَكَرَهُمَا بِالنُّصُوصِيَّةِ

لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْمَفْهُومُ لَلَزِمَ أَنْ لَا يَثْبُتَ خِلَافُهُ إذَا لَوْ ثَبَتَ خِلَافُهُ مَعَ ثُبُوتِهِ لَثَبَتَ التَّعَارُضُ بَيْنَ دَلِيلِ الْمَفْهُومِ وَدَلِيلِ خِلَافِهِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّعَارُضِ وَاللَّازِمُ أَعْنِيَ عَدَمَ ثُبُوتِ خِلَافِ الْمَفْهُومِ مُنْتَفٍ ؛ لِأَنَّ خِلَافَ الْمَفْهُومِ قَدْ ثَبَتَ فِي نَحْوِ { لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } فَإِنَّ قَوْلَهُ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً فِي مَعْنَى الْوَصْفِ وَمَفْهُومُهُ عَدَمُ النَّهْيِ عَنْ الْقَلِيلِ مِنْهُ وَقَدْ تَحَقَّقَ التَّحْرِيمُ فِي الْقَلِيلِ مَعَ انْتِفَاءِ الْوَصْفِ كَمَا تَحَقَّقَ فِي الْكَثِيرِ لِتَحَقُّقِ الْوَصْفِ .
وَأَمَّا ضَعْفُهُ فَبِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَنْعُ الْمُلَازَمَةِ فِي أَصْلِ الدَّلِيلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَفْهُومُ حَقًّا وَثَبَتَ خِلَافُهُ أَحْيَانَا بِنَاءً عَلَى دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ لَا يُعَارِضُهُ دَلِيلُ الْمَفْهُومِ لِكَوْنِهِ ظَنِّيًّا .
وَثَانِيهِمَا : مَنْعُ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ لِجَوَازِ أَنْ يَثْبُتَ التَّعَارُضُ لِقِيَامِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَصْلَ الْبَرَاءَةُ وَيُخَالِفُهَا بِالدَّلِيلِ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى ا هـ مُلَخَّصًا مِنْ الْعَضُدِ وَالسَّعْدِ بِزِيَادَةٍ مِنْ الْمَحَلِّيِّ وَالْعَطَّارِ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ حَصْرِ الْمُبْتَدَأِ فِي خَبَرِهِ : وَهُوَ مَعْرِفَةٌ أَوْ ظَرْفٌ أَوْ مَجْرُورٌ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ حَصْرِ الْمُبْتَدَأِ فِي خَبَرِهِ وَهُوَ نَكِرَةٌ .
اعْلَمْ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ يَجِبُ انْحِصَارُهُ فِي خَبَرِهِ مُطْلَقًا كَانَ مَعْرِفَةً أَوْ نَكِرَةً بِسَبَبِ أَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ بَلْ مُسَاوِيًا أَوْ أَعَمَّ فَالْمُسَاوِي نَحْوُ : الْإِنْسَانُ نَاطِقٌ ، وَالْأَعَمُّ نَحْوُ : الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ ، وَالْعَشَرَةُ عَدَدٌ أَوْ زَوْجٌ هَذَا شَأْنُ الْخَبَرِ وَلَوْ قُلْت الْحَيَوَانُ إنْسَانٌ أَوْ الْعَدَدُ عَشَرَةٌ لَمْ يَصِحَّ وَالْمُبْتَدَأُ عَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا إنْ كَانَ الْخَبَرُ مُسَاوِيًا أَوْ أَخَصَّ إنْ كَانَ الْخَبَرُ أَعَمَّ وَإِذَا وَجَبَ لِلْمُبْتَدَأِ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا أَوْ أَخَصَّ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ كَانَ الْحَصْرُ لَازِمًا فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوِيَ مُنْحَصِرٌ فِي مُسَاوِيهِ وَالْأَخَصُّ مُنْحَصِرٌ فِي الْأَعَمِّ فَالْإِنْسَانُ كَمَا هُوَ مُنْحَصِرٌ فِي النَّاطِقِ مُنْحَصِرٌ فِي الْحَيَوَانِ فَلَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ فَهَذَا بُرْهَانٌ عَقْلِيٌّ قَطْعِيٌّ فِي وُجُوبِ انْحِصَارِ الْمُبْتَدَأِ فِي خَبَرِهِ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ فَرَّقَ الْعُلَمَاءُ بَيْنَ قَوْلِنَا زَيْدٌ قَائِمٌ لَمْ يَجْعَلُوهُ لِلْحَصْرِ وَبَيْنَ قَوْلِنَا زَيْدٌ الْقَائِمُ فَجَعَلُوهُ لِلْحَصْرِ فَكَيْفَ صَحَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مُخَالَفَةُ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ فِي الْمُبْتَدَأِ إذَا كَانَ خَبَرُهُ نَكِرَةً .
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ الْحَصْرَ حَصْرَانِ حَصْرٌ يَقْتَضِي نَفْيَ النَّقِيضِ فَقَطْ وَحَصْرٌ يَقْتَضِي نَفْيَ النَّقِيضِ وَالضِّدِّ وَالْخِلَافُ وَمَا عَدَا ذَلِكَ الْوَصْفَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَهَذَا الْحَصْرُ الثَّانِي هُوَ الَّذِي نَفَاهُ الْعُلَمَاءُ عَنْ الْخَبَرِ إذَا كَانَ نَكِرَةً ، وَأَمَّا الْحَصْرُ الْأَوَّلُ فَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّك إذَا قُلْت : زَيْدٌ قَائِمٌ فَزَيْدٌ مُنْحَصِرٌ فِي مَفْهُومِ قَائِمٍ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَى نَقِيضِهِ لَكِنْ قَوْلُنَا قَائِمٌ مُطْلَقٌ فِي

الْقِيَامِ فَهِيَ مُوجَبَةٌ جُزْئِيَّةٌ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَنَقِيضُهُ إنَّمَا هُوَ السَّالِبَةُ الدَّائِمَةُ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ زَيْدٌ قَائِمًا دَائِمًا لَا فِي الْمَاضِي وَلَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الِاسْتِقْبَالِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا النَّقِيضَ مَنْفِيٌّ إذَا صَدَقَ قَوْلُنَا زَيْدٌ قَائِمٌ فِي وَقْتِ كَذَا فَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَخْبَارِ الَّتِي هِيَ نَكِرَاتٌ فَالْحَصْرُ ثَابِتٌ بِحَسَبِ النَّقِيضِ لَا بِحَسَبِ غَيْرِهِ فَإِذَا صَدَقَ مَفْهُومُ الْحَصْرِ بِاعْتِبَارِ النَّقِيضِ صَدَقَ الْخَبَرُ وَلَمْ يُخَالِفْ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الِاتِّصَافِ بِالنَّقِيضِ عَدَمُ الِاتِّصَافِ بِالضِّدِّ وَالْخِلَافِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَعَ كَوْنِهِ قَائِمًا جَالِسًا فِي وَقْتٍ آخَرَ وَنَحْوُهُ وَمِنْ الْأَضْدَادِ وَحَيًّا وَفَقِيهًا وَعَابِدًا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَكَذَلِكَ كُلُّ وَصْفٍ هُوَ خِلَافٌ أَوْ ضِدٌّ فَجَمِيعُ ذَلِكَ يَجُوزُ ثُبُوتُهُ .
وَأَمَّا النَّقِيضُ فَلَا سَبِيلَ لِلِاتِّصَافِ بِهِ أَلْبَتَّةَ فَالْحَصْرُ بِاعْتِبَارِهِ لَا بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ هَذَا فِي النَّكِرَاتِ وَأَمَّا غَيْرُ النَّكِرَاتِ فَأَذْكُرُ فِيهِ سَبْعَ مَسَائِلَ تُوَضِّحُهُ وَتُبَيِّنُ الْفَرْقَ .
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الصَّلَاةِ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ اسْتَدَلَّ بِهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى انْحِصَارِ سَبَبِ تَحْرِيمِهَا فِي التَّكْبِيرِ وَسَبَبِ تَحْلِيلِهَا فِي التَّسْلِيمِ فَلَا يَدْخُلُ فِي حُرُمَاتِ الصَّلَاةِ إلَّا بِالتَّكْبِيرِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ حُرُمَاتِهَا إلَى حِلِّهَا إلَّا بِالتَّسْلِيمِ فَهَذَا خَبَرٌ مُعَرَّفٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ اقْتَضَى الْحَصْرَ فِي التَّكْبِيرِ دُونَ نَقِيضِهِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ التَّكْبِيرِ وَضِدُّهُ الَّذِي هُوَ الْهَزْلُ وَاللَّعِبُ وَالنَّوْمُ وَالْجُنُونُ وَخِلَافُهُ الَّذِي هُوَ الْخُشُوعُ وَالتَّعْظِيمُ ، فَأَيُّ شَيْءٍ فَعَلَ مِنْ هَذِهِ الْأَضْدَادِ وَالْخِلَافَاتِ وَلَمْ يَفْعَلْ التَّكْبِيرَ لَمْ يَدْخُلْ فِي حُرُمَاتِ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ يَقْتَضِي الْحَصْرَ فِي التَّسْلِيمِ دُونَ نَقِيضِهِ الَّذِي

هُوَ عَدَمُ التَّسْلِيمِ وَضِدِّهِ الَّذِي هُوَ النَّوْمُ وَالْإِغْمَاءُ وَخِلَافُهُ الَّذِي هُوَ الْحَدَثُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَغَيْرِهِمَا فَلَا يَخْرُجُ مِنْ حِلِّ الصَّلَاةِ إلَى حُرُمَاتِهَا إلَّا بِالتَّسْلِيمِ فَقَطْ .
وَنَعْنِي بِالْحُرُمَاتِ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْرُمُ فِي الصَّلَاةِ وَنَعْنِي بِحِلِّهَا إبَاحَةَ جَمِيعِ مَا حَرُمَ بِالصَّلَاةِ فَإِنْ قُلْت فَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الصَّلَاةِ بِالضِّدِّ الَّذِي هُوَ النَّوْمُ وَالْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ وَبِالْخِلَافِ الَّذِي هُوَ الْحَدَثُ وَنَعْنِي بِالضِّدِّ مَا لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُ مَعَهُ وَبِالْخِلَافِ مَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُ مَعَهُ قُلْت لَيْسَ مُرَادُنَا بِالْخُرُوجِ مِنْ حُرُمَاتِ الصَّلَاةِ إلَى حِلِّهَا بُطْلَانَ الصَّلَاةِ كَيْفَ كَانَ إنَّمَا مُرَادُنَا بِذَلِكَ الْخُرُوجُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَلَا سَبَبَ لَهُ إلَّا السَّلَامُ الْمَشْرُوعُ وَالْخُرُوجُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ مُرَادَنَا فَإِنْ قُلْت السَّلَامُ إذَا وَقَعَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ يَخْرُجُ مِنْ حُرُمَاتِهَا وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا إبَاحَةَ وَلَا بَرَاءَةَ ذِمَّةٍ قُلْت إنَّمَا أَخْرَجَ السَّلَامُ مِنْ حُرُمَاتِ الصَّلَاةِ فِي أَثْنَائِهَا ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ فَهُوَ كَسَبْقِ الْحَدَثِ وَغَيْرِهِ وَمِنْ الْمُبْطِلَاتِ وَإِخْرَاجُهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ لَيْسَ مِنْ بَابِ إخْرَاجِهِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ وَالْحَصْرُ إنَّمَا تَعَرَّضَ لَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ مِنْ الْوَجْهِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ ، وَهَذَا الْجَوَابُ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ نَافِعٍ مِنْ أَصْحَابِنَا فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ السَّلَامَ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَلَا يَحْتَاجُ فِي الرُّجُوعِ إلَى تَكْبِيرٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَجَعَلَ السَّلَامَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ كَالْكَلَامِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَالْكَلَامُ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ فِي أَثْنَاءِ

الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا ، وَكَذَلِكَ السَّلَامُ سَهْوًا وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُتَّجَهُ وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّهُ أُرِيدَ بِهِ السَّلَامُ الْمَأْذُونُ فِيهِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ أَمَّا سَهْوُ السَّلَامِ وَعَمْدُهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَرِدْ وَلَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ إلَّا التَّكْبِيرَ الْأَوَّلَ الْمَشْرُوعَ سَبَبًا لِلدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَالسَّلَامُ الَّذِي هُوَ فِي آخِرِهَا الْمَشْرُوعُ سَبَبًا فِي الْخُرُوجِ مِنْهَا لَا سِيَّمَا وَلَفْظُ السَّلَامِ خَبَرٌ مَعْنَاهُ الدُّعَاءُ بِالسَّلَامَةِ وَالدُّعَاءُ لَا يَقْدَحُ فِي الصَّلَاةِ لَا سَهْوًا وَلَا عَمْدًا فَالْقَوْلُ بِكَوْنِهِ إذَا وَقَعَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ مُحْوِجٌ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ لِلدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَّهُ مُخْرِجٌ مِنْهَا مُطْلَقًا مُشْكِلٌ فَإِنْ قُلْت النِّيَّةُ الْمُقْتَرِنَةُ بِهِ تَقْتَضِي رَفْضَ الصَّلَاةِ وَرَفْضُ الصَّلَاةِ يَقْتَضِي إبْطَالَهَا فَذَلِكَ أَحْوَجُ لِلتَّكْبِيرِ وَلِأَنَّ جِنْسَهُ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ إجْمَاعًا وَقَعَ فِي أَجْزَائِهَا وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ الْفَرْدِ بَقِيَّةُ صُوَرِهِ بِالْقِيَاسِ أَوْ نَقُولُ اللَّامُ فِيهِ لِلْعُمُومِ فَيَشْمَلُ صُورَةَ النِّزَاعِ .
قُلْتُ السَّلَامُ قَدْ يَقَعُ مَعَ نِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ وَقَدْ لَا يَقَعُ فَإِنَّ الْمَذْهَبَ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ نِيَّةٌ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ وَقَعَتْ فَلَيْسَتْ رَفْضًا ؛ لِأَنَّ الرَّفْضَ هُوَ قَصْدُ إبْطَالِ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَقْصِدْ إبْطَالَهَا إنَّمَا اعْتَقَدَ أَنَّ صَلَاتَهُ كَمُلَتْ فَأَتَى بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ وَهَذَا لَيْسَ رَفْضًا وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ السَّلَامَ كَوْنُهُ مُخْرِجًا مِنْ الصَّلَاةِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى وَلَا يُنَاسِبُ لَفْظٌ هُوَ دُعَاءُ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ فِي ذَلِكَ مَا يُنَافِيهَا وَالدُّعَاءُ لَا يُنَافِي الصَّلَاةَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْقُولَ الْمَعْنَى امْتَنَعَ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّ

الْقِيَاسَ بِلَا جَامِعٍ لَا يَصِحُّ فَإِنْ قُلْت هُوَ قِيَاسُ الشَّبَهِ لَا قِيَاسُ الْمَعْنَى قُلْت قِيَاسُ الشَّبَهِ ضَعِيفٌ وَقَدْ مَنَعَ الْقَاضِي شَيْخُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ حُجَّةٌ سَلَّمْنَا صِحَّتَهُ لَكِنْ الْفَرْقُ أَنَّهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ مُعَارِضٌ فَالْمُقْتَضَى لَا كَمَالُ الصَّلَاةِ الَّذِي يَقْتَضِي الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهَا وَفِي آخِرِ الصَّلَاةِ وَهُوَ سَالِمٌ عَنْ هَذَا الْمُعَارِضِ فَافْتَرَقَا ، .
وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِالْعُمُومِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ قَرِينَةَ السِّيَاقِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّامَ هَهُنَا إنَّمَا أُرِيدَ بِهَا حَقِيقَةُ الْجِنْسِ الَّذِي هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ لَا الْعُمُومُ ؛ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ مَعَهُ مِنْ الطَّهُورِ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْفَرْدُ الْمُقَارِنُ لِلْأَوَّلِ فَقَطْ فَكَذَلِكَ التَّكْبِيرُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا بِالْمُقَارِنِ الْأَوَّلِ وَاَلَّذِي فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ مِنْهُ لَا يَدْخُلُ بِهِ فِي حُرُمَاتِ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ يُحْمَلُ السَّلَامُ عَلَى الْمُقَارِنِ لِآخِرِ الصَّلَاةِ تَسْوِيَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قُرِنَ مَعَهُ وَلِأَنَّهُ الْمُتَبَادِرُ لِلذِّهْنِ وَلَوْ كَانَ السَّلَامُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ يُحْوِجُ لِلتَّكْبِيرِ وَيُخْرِجُ مِنْ حُرُمَاتِ الصَّلَاةِ لَبَطَلَ مَا مَضَى مِنْ الصَّلَاةِ وَابْتُدِئَتْ مِنْ أَوَّلِهَا وَلَمْ يَقُلْ بِهِ مَالِكٌ فِي السَّهْوِ أَلْبَتَّةَ فَلَمَّا لَمْ تُعَدْ الصَّلَاةُ مِنْ أَوَّلِهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ فِي حُرُمَاتِ الصَّلَاةِ وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا أَجِدُ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي أَنَّ السَّلَامَ سَهْوًا مُحْوِجٌ لِلتَّكْبِيرِ إلَّا مُشْكِلًا وَالْمُتَّجَهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ يَقْتَضِي حَصْرَ ذَكَاةِ الْجَنِينِ فِي ذَكَاةِ أُمِّهِ فَلَا يُحْوِجُ إلَى ذَكَاةٍ أُخْرَى وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ ذَكَاةَ الْجَنِينِ تُغْنِي عَنْهَا ذَكَاةُ أُمِّهِ فَإِنْ قُلْت فَذَكَاةُ الْجَنِينِ هِيَ الذَّبْحُ الْخَاصُّ فِي حَلْقِهِ هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ فَجَعَلَ هَذِهِ الذَّكَاةَ عَيْنَ

ذَكَاةِ أُمِّهِ إنَّمَا يَصْدُقُ حِينَئِذٍ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَقَوْلِنَا أَبُو يُوسُفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمَجَازِ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ هَذَا اللَّفْظَ بِوَضْعِهِ يَقْتَضِي أَنَّ عَيْنَ ذَكَاةِ الْجَنِينِ هِيَ عَيْنُ ذَكَاةِ أُمِّهِ ؟ قُلْت : سُؤَالٌ حَسَنٌ وَالْجَوَابُ عَنْهُ يَحْتَاجُ إلَى جَوْدَةِ ذِهْنٍ وَفِكْرٍ فِي فَهْمِهِ بِسَبَبِ النَّظَرِ فِي قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ إضَافَةَ الْمَصَادِرِ مُخَالِفَةٌ لِإِسْنَادِ الْأَفْعَالِ فَالْإِضَافَةُ تَكْفِي فِيهَا أَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَيَكُونُ ذَلِكَ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً كَقَوْلِنَا صَوْمُ رَمَضَانَ وَحَجُّ الْبَيْتِ فَنُضِيفُ الصَّوْمَ لِرَمَضَانَ وَالْحَجَّ لِلْبَيْتِ فَتَكُونُ إضَافَةً حَقِيقَةً وَلَوْ أَسْنَدْنَا الْفِعْلَ فَقُلْنَا صَامَ رَمَضَانُ بِأَنْ يُجْعَلَ الشَّهْرُ هُوَ الْفَاعِلَ أَوْ الْبَيْتَ يَحُجُّ لَمْ يَصْدُقْ ذَلِكَ حَقِيقَةً وَيَنْفِرُ مِنْهُ سَمْعُ السَّامِعِ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي هَاهُنَا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ ذَكَّيْت الْجَنِينَ وَبَيْنَ ذَكَاةِ الْجَنِينِ فَذَكَّيْت الْجَنِينَ لَا يَصْدُقُ إلَّا إذَا قَطَعَ مِنْهُ مَوْضِعَ الذَّكَاةِ وَذَكَاةُ الْجَنِينِ تَصْدُقُ بِأَيْسَرِ مُلَابَسَةٍ ، وَأَحَدُ طُرُقِ الْمُلَابَسَةِ أَنَّ ذَكَاةَ أُمِّهِ تُبِيحُهُ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَكَاةِ أُمِّهِ مُلَابَسَةٌ تَصْدُقُ أَنَّهَا ذَكَاتُهُ فَيَكُونُ عَلَى التَّقْدِيرِ ذَكَاةُ أُمِّهِ هِيَ عَيْنُ ذَكَاتِهِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا وَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ النُّحَاةِ عَنْ الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا يَكْفِي فِي الْإِضَافَةِ أَدْنَى مُلَابَسَةٍ كَقَوْلِ أَحَدِ حَامِلِي الْخَشَبَةِ لِلْآخَرِ شِلْ طَرَفَك فَجَعَلَ طَرَفَ الْخَشَبَةِ طَرَفًا لَهُ بِسَبَبِ الْمُلَابَسَةِ وَأَنْشَدُوا : إذَا كَوْكَبُ الْخَرْقَاءِ لَاحَ بِسُحْرَةٍ فَأَضَافَ الْكَوْكَبَ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَقُومُ لِشُغْلِهَا عِنْدَ طُلُوعِهِ وَإِذَا اسْتَقْرَيْت ذَلِكَ وَجَدْته كَثِيرًا عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ فَصَحَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إضَافَةِ الذَّكَاةِ لِلْجَنِينِ وَأَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي الْحَصْرَ وَاسْتَغْنَى الْجَنِينُ عَنْ الذَّكَاةِ

بِسَبَبِ ذَكَاةِ أُمِّهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يُرْوَى بِالرَّفْعِ فِي الذَّكَاةِ الثَّانِيَةِ وَبِالنَّصْبِ فَتَمَسَّكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِرَاوِيَةِ الرَّفْعِ عَلَى اسْتِغْنَاءِ الْجَنِينِ عَنْ الذَّكَاةِ وَتَمَسَّكَ الْحَنَفِيَّةُ بِرِوَايَةِ النَّصْبِ عَلَى احْتِيَاجِهِ لِلذَّكَاةِ وَأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُمْ ذَكَاةُ الْجَنِينِ أَنْ يُذَكَّى ذَكَاةً مِثْلَ ذَكَاةِ أُمِّهِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ مَعَ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَقَامَهُ فَأُعْرِبَ كَإِعْرَابِهِ وَهُوَ الْقَاعِدَةُ فِي حَذْفِ الْمُضَافِ .
وَالْجَوَابُ عَمَّا تَمَسَّكَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَاهُنَا تَقْدِيرًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ذَكَاةُ الْجَنِينِ دَاخِلَةٌ فِي ذَكَاةِ أُمِّهِ فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ فَانْتَصَبَتْ الذَّكَاةُ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ كَقَوْلِك دَخَلْت الدَّارَ وَيَكُونُ الْمَحْذُوفُ أَقَلَّ مِمَّا قَدَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَيَكُونُ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ جَمْعٌ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ التَّعَارُضِ وَالتَّنَافِي بَيْنَهُمَا فَيُرَجَّحُ بِقِلَّةِ الْمَحْذُوفِ وَالْجَمْعِ لَا يَبْقَى لَهُمْ فِيهِ مُسْتَنَدٌ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ وَيَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ يَقْتَضِي حَصْرَ الشُّفْعَةِ الَّذِي هُوَ قَابِلٌ لِلْقِسْمَةِ وَلَمْ يُقْسَمْ بَعْدُ وَالْخَبَرُ هَاهُنَا لَيْسَ مَعْرِفَةً بَلْ مَجْرُورًا وَتَقْدِيرُ الْخَبَرِ الشُّفْعَةُ مُسْتَحَقَّةٌ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } يَقْتَضِي حَصْرَ الْأَعْمَالِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي النِّيَّاتِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ الْأَعْمَالُ مُعْتَبَرَةٌ بِالنِّيَّاتِ فَالْعَمَلُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا كَمَا أَنَّ طَلَبَ الشُّفْعَةِ فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ لَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا .
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) قَوْله تَعَالَى { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } تَقْدِيرُهُ زَمَانُ الْحَجِّ

أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَيَكُونُ وَقْتُ الْحَجِّ مَحْصُورًا فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ وَهِيَ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَهُوَ الْمِيقَاتُ الزَّمَانِيُّ وَهَلْ هَذَا الْحَصْرُ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَلَا يُحْرِمُ بِالْحَجِّ قَبْلَهُ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْفَضِيلَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فَيُكْرَهُ الْإِحْرَامُ قَبْلَهُ فَإِنْ وَقَعَ صَحَّ قَوْلَانِ .
( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) قَالَ الْغَزَالِيُّ إذَا قُلْت صَدِيقِي زَيْدٌ أَوْ زَيْدٌ صَدِيقِي اخْتَلَفَ الْحُكْمُ فِي زَيْدٍ فَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي حَصْرَ أَصْدِقَائِك فِي زَيْدٍ فَلَا تُصَادِقُ أَنْتَ غَيْرَهُ وَهُوَ يَجُوزُ أَنْ يُصَادِقَ غَيْرَك وَالثَّانِي يَقْتَضِي حَصْرَهُ فِي صَدَاقَتِك فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَادِقَ غَيْرَك وَأَنْتَ يَجُوزُ أَنْ تُصَادِقَ غَيْرَهُ عَلَى عَكْسِ الْأَوَّلِ .
( الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ ) قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي كِتَابِ الْإِعْجَازِ لَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ قَدْ تَرِدُ لِحَصْرِ الثَّانِي فِي الْأَوَّلِ كَقَوْلِك زَيْدٌ الْقَائِمُ أَيْ لَا قَائِمَ إلَّا زَيْدٌ فَيُحْصَرُ وَصْفُ الْقِيَامِ وَكَذَلِكَ إذَا قُلْت : أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ الْخِلَافَةُ بَعْدَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنْحَصِرَةٌ فِي أَبِي بَكْرٍ وَمِنْهُ زَيْدٌ النَّاقِلُ لِهَذَا الْخَبَرِ وَالْمُتَسَبِّبُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فَالثَّانِي أَبَدًا مُنْحَصِرٌ فِي الْأَوَّلِ بِخِلَافِ قَاعِدَةِ الْحَصْرِ أَبَدًا الْأَوَّلُ مُنْحَصِرٌ فِي الثَّانِي .
( الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ ) إذَا قُلْتَ السَّفَرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فُهِمَ مِنْهُ الْحَصْرُ فِي هَذَا الظَّرْفِ وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ وَلَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَيَّامِ وَكَذَلِكَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْخَبَرِ فَقَدْ اتَّضَحَ لَكَ الْحَصْرُ لِلْمُبْتَدَأِ فِي خَبَرِهِ مَعَ التَّعْرِيفِ وَالظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ بِخِلَافِ قَوْلِنَا زَيْدٌ قَائِمٌ وَعَمْرٌو خَارِجٌ .

قَالَ ( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ حَصْرِ الْمُبْتَدَأِ فِي خَبَرِهِ وَهُوَ مَعْرِفَةٌ أَوْ ظَرْفٌ أَوْ مَجْرُورٌ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ حَصْرِ الْمُبْتَدَأِ فِي خَبَرِهِ وَهُوَ نَكِرَةٌ ، اعْلَمْ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ يَجِبُ انْحِصَارُهُ فِي خَبَرِهِ مُطْلَقًا كَانَ مَعْرِفَةً أَوْ نَكِرَةً بِسَبَبِ أَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ بَلْ مُسَاوِيًا أَوْ أَعَمَّ ) قُلْت : مَا قَالَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ يَجِبُ انْحِصَارُهُ فِي الْخَبَرِ مُطْلَقًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ إلَّا فِيهِ وَمَعَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ لَا مُطْلَقًا وَلَا مُقَيَّدًا وَقَوْلُهُ بِسَبَبِ أَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ بَلْ مُسَاوِيًا أَوْ أَعَمَّ لَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ إلَّا مُسَاوِيًا لِلْمُبْتَدَأِ لَا أَخَصَّ مِنْهُ وَلَا أَعَمَّ ، فَإِنَّهُ إذَا أَخْبَرَ بِشَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ فَلَيْسَ الْمُرَادُ إلَّا أَنَّ الَّذِي هُوَ الْمُبْتَدَأُ هُوَ بِعَيْنِهِ الْخَبَرُ وَلَوْ صَحَّ مَا قَالَهُ لَكَانَ قَوْلُنَا الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ الْخَاصَّ هُوَ الْحَيَوَانُ الْعَامُّ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ ، فَيَكُونُ مِنْ مَضْمُونِ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ حِمَارٌ وَثَوْرٌ وَكَلْبٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَصْنَافِ الْحَيَوَانِ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ مَعْنَى قَوْلِنَا الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ مَا .
قَالَ ( فَالْمُسَاوِي نَحْوُ الْإِنْسَانُ نَاطِقٌ وَالْأَعَمُّ نَحْوُ الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ إلَى قَوْلِهِ هَذَا شَأْنُ الْخَبَرِ ) قُلْتُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ الْإِنْسَانُ نَاطِقٌ وَالْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ مِنْ حَيْثُ الْقَصْدُ بِالْخَبَرِ نَعَمْ بَيْنَهُمَا الْفَرْقُ فِي اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ إنَّ لَفْظَ النَّاطِقِ يَخْتَصُّ بِالْإِنْسَانِ وَلَفْظُ الْحَيَوَانِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِ أَيْ يَصْدُقُ فِي غَيْرِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى غَيْرِ الْإِنْسَانِ وَأَمَّا فِي هَذَا الْقَوْلِ فَلَا يَصِحُّ أَلْبَتَّةَ أَنْ يُرَادَ بِهِ إلَّا الْإِنْسَانُ لَا غَيْرُهُ وَلَا هُوَ

وَغَيْرُهُ .
قَالَ ( وَلَوْ قُلْتُ : الْحَيَوَانُ إنْسَانٌ أَوْ الْعَدَدُ عَشَرَةٌ لَمْ يَصِحَّ ) قُلْتُ : إنْ أُرِيدَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ اللَّتَيْنِ فِي الْحَيَوَانِ وَالْعَدَدِ الْعَهْدُ فِي الْإِنْسَانِ وَفِي الْعَشَرَةِ صَحَّ وَإِنْ أُرِيدَ الْعَهْدُ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ الْعُمُومِ لَمْ يَصِحَّ لِلُزُومِ مُسَاوَاةُ الْمُبْتَدَأِ لِلْخَبَرِ وَأَنَّهُ هُوَ بِعَيْنِهِ .
قَالَ ( وَالْمُبْتَدَأُ عَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا إنْ كَانَ الْخَبَرُ مُسَاوِيًا أَوْ أَخَصَّ إنْ كَانَ الْخَبَرُ أَعَمَّ ) قُلْتُ قَوْلُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا إنْ كَانَ الْخَبَرُ مُسَاوِيًا كَلَامٌ لَا حَاصِلَ لَهُ فَإِنَّهُ يُوهِمُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا مَعَ أَنَّ الْخَبَرَ غَيْرُ مُسَاوٍ وَقَوْلُهُ وَأَخَصُّ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ أَخَصَّ بَلْ مُسَاوِيًا مِنْ حَيْثُ الْقَصْدُ وَالْمُرَادُ وَإِنْ كَانَ أَعَمَّ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ قَالَ ( وَإِذَا وَجَبَ لِلْمُبْتَدَأِ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا أَوْ أَخَصَّ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ كَانَ الْحَصْرُ لَازِمًا فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوِيَ مُنْحَصِرٌ فِي مُسَاوِيهِ وَالْأَخَصُّ مُنْحَصِرٌ فِي الْأَعَمِّ فَالْإِنْسَانُ كَمَا هُوَ مُنْحَصِرٌ فِي النَّاطِقِ مُنْحَصِرٌ فِي الْحَيَوَانِ فَلَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ فَهَذَا بُرْهَانٌ عَقْلِيٌّ قَطْعِيٌّ فِي وُجُوبِ انْحِصَارِ الْمُبْتَدَأِ فِي خَبَرِهِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ مُنْحَصِرٌ فِي الْخَبَرِ إذَا كَانَ الْخَبَرُ مُسَاوِيًا أَوْ أَعَمَّ غَيْرُ مُسَلَّمٍ كَمَا سَبَقَ .
قَالَ ( وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ فَرَّقَ الْعُلَمَاءُ بَيْنَ قَوْلِنَا زَيْدٌ قَائِمٌ لَمْ يَجْعَلُوهُ لِلْحَصْرِ وَبَيْنَ قَوْلِنَا زَيْدٌ الْقَائِمُ فَجَعَلُوهُ لِلْحَصْرِ فَكَيْفَ صَحَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مُخَالَفَةُ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ فِي الْمُبْتَدَأِ إذَا كَانَ خَبَرُهُ نَكِرَةً .
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ الْحَصْرَ حَصْرَانِ حَصْرٌ يَقْتَضِي نَفْيَ النَّقِيضِ فَقَطْ وَحَصْرٌ يَقْتَضِي نَفْيَ النَّقِيضِ وَالضِّدِّ وَالْخِلَافُ وَمَا عَدَا ذَلِكَ الْوَصْفُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَهَذَا الْحَصْرُ الثَّانِي هُوَ الَّذِي نَفَاهُ الْعُلَمَاءُ عَنْ

الْخَبَرِ إذَا كَانَ نَكِرَةً وَأَمَّا الْحَصْرُ الْأَوَّلُ فَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ ) .
قُلْتُ قَوْلُهُ يَقْتَضِي نَفْيَ النَّقِيضِ فَقَطْ إنْ أَرَادَ يَقْتَضِي نَفْيَ النَّقِيضِ نُطْقًا وَصَرِيحًا فَلَيْسَ قَوْلُهُ بِصَحِيحٍ وَإِنْ أَرَادَ يَقْتَضِي ذَلِكَ ضَرُورَةً فَقَوْلُهُ صَحِيحٌ فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ : زَيْدٌ قَائِمٌ فَقَدْ أَثْبَتَ لَهُ الْقِيَامَ وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْقِيَامِ انْتِفَاءُ عَدَمِهِ فَالْقَائِلُ زَيْدٌ قَائِمٌ إنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ ثُبُوتِ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ وَلَمْ يُخْبِرْ عَنْ انْتِفَاءِ عَدَمِ الْقِيَامِ عَنْهُ وَلَكِنْ ذَلِكَ لَازِمٌ ضَرُورَةً .
قَالَ ( وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّكَ إذَا قُلْتَ زَيْدٌ قَائِمٌ فَزَيْدٌ مُنْحَصِرٌ فِي مَفْهُومِ قَائِمٌ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَى نَقِيضِهِ إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ وَلَمْ يُخَالِفْ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ هُنَا صَحِيحٌ كَمَا قَالَ لَكِنْ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْلِ لَا مِنْ مُقْتَضَى اللَّفْظِ .
قَالَ ( وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الِاتِّصَافِ بِالضِّدِّ وَالْخِلَافِ إلَى قَوْلِهِ فَاذْكُرْ فِيهِ سَبْعَ مَسَائِلَ تُوَضِّحُهُ وَتُبَيِّنُ الْفَرْقَ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( فِي الصَّلَاةِ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ إلَى قَوْلِهِ وَخِلَافُهُ الَّذِي هُوَ الْخُشُوعُ وَالتَّعْظِيمُ قُلْتُ مَا قَالَهُ نَقْلٌ لَا كَلَامَ فِيهِ قَالَ : فَأَيُّ شَيْءٍ فَعَلَ مِنْ هَذِهِ الْأَضْدَادِ وَالْخِلَافَاتِ وَلَمْ يَفْعَلْ التَّكْبِيرَ لَمْ يَدْخُلْ فِي حُرُمَاتِ الصَّلَاةِ ) قُلْتُ إنْ أَرَادَ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ يَقْتَضِي صَرِيحًا الْمَنْعَ مِنْ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ بِغَيْرِ التَّكْبِيرِ فَذَلِكَ مَمْنُوعٌ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مَفْهُومًا فَيَجْرِي عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمَفْهُومِ فَذَلِكَ مُسَلَّمٌ .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ يَقْتَضِي الْحَصْرَ فِي التَّسْلِيمِ إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ وَمَعْنَى تَحْلِيلِهَا إبَاحَةُ جَمِيعِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ بِالصَّلَاةِ ) قُلْتُ الْكَلَامُ

فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
قَالَ ( فَإِنْ قُلْتُ : فَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالضِّدُّ الَّذِي هُوَ النَّوْمُ وَالْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ إلَى آخَرِ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ وَجَوَابَاتُهُ صَحِيحَةٌ وَاسْتِشْكَالُهُ لِمَا اُسْتُشْكِلَ مِنْ مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ يَقْتَضِي حَصْرَ ذَكَاةِ الْجَنِينِ فِي ذَكَاةِ أُمِّهِ فَلَا يَحُوجُ إلَى ذَكَاةٍ أُخْرَى وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ ذَكَاةَ الْجَنِينِ تُغْنِي عَنْهَا ذَكَاةُ أُمِّهِ فَإِنْ قُلْتَ : ذَكَاةُ الْجَنِينِ هُوَ الذَّبْحُ الْخَاصُّ فِي حَلْقِهِ هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ قُلْتُ لَيْسَ الذَّكَاةُ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً بَلْ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً شَرْعِيَّةً .
قَالَ ( فَجَعَلَ هَذِهِ الذَّكَاةَ عَيْنَ ذَكَاةِ أُمِّهِ إنَّمَا يَصْدُقُ حِينَئِذٍ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَقَوْلِنَا أَبُو يُوسُف أَبُو حَنِيفَة وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمَجَازِ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَقْتَضِي بِوَضْعِهِ أَنَّ عَيْنَ ذَكَاةِ الْجَنِينِ هُوَ عَيْنُ ذَكَاةِ أُمَّةِ ) قُلْتُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ عَيْنَ ذَكَاةِ الْجَنِينِ هِيَ عَيْنُ ذَكَاةِ أُمِّهِ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لَا غَيْرُ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَّحِدُ مُتَعَدِّدًا .
قَالَ ( قُلْتُ سُؤَالٌ حَسَنٌ وَالْجَوَابُ عَنْهُ يَحْتَاجُ إلَى جَوْدَةِ ذِهْنٍ وَفِكْرٍ فِي فَهْمِهِ بِسَبَبِ النَّظَرِ فِي قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ إضَافَةَ الْمَصَادِرِ مُخَالِفَةٌ لِإِسْنَادِ الْأَفْعَالِ فَالْإِضَافَةُ تَكْفِي فِيهَا أَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَيَكُونُ ذَلِكَ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً كَقَوْلِنَا صَوْمُ رَمَضَانَ وَحَجُّ الْبَيْتِ إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ وَاسْتَغْنَى الْجَنِينُ عَنْ الذَّكَاةِ بِسَبَبِ ذَكَاةِ أُمِّهِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْإِضَافَةَ تَصِحُّ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَهِيَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ صَحِيحٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِضَافَةِ

وَالْإِسْنَادِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِسْنَادَ يَلْزَمُ فِيهِ مُرَاعَاةُ الْفَاعِلِ وَهَلْ هُوَ مِمَّا وَقَعَ فِي إسْنَادِ ذَلِكَ الْفِعْلِ إلَيْهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ حَقِيقَةً فِيهِ أَوْ لَا ؟ فَيَكُونُ مَجَازًا وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي الْحَصْرَ وَاسْتَغْنَى الْجَنِينُ عَنْ الذَّكَاةِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ .
قَالَ ( وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يُرْوَى بِالرَّفْعِ فِي الذَّكَاةِ الثَّانِيَةِ وَبِالنَّصْبِ فَتَمَسَّكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِرَاوِيَةِ الرَّفْعِ عَلَى اسْتِغْنَاءِ الْجَنِينِ عَنْ الذَّكَاةِ وَتَمَسَّكَ الْحَنَفِيَّةُ بِرِوَايَةِ النَّصْبِ عَلَى احْتِيَاجِهِ لِلذَّكَاةِ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ وَمِنْ أَنَّ قَوْلَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يُرَجَّحُ بِقِلَّةِ الْحَذْفِ مُسَلَّمٌ إلَّا أَنَّهُ يُرَجَّحُ أَيْضًا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ تَقْدِيرَهُمْ مِنْ مُقْتَضَى مَسَاقِ الْكَلَامِ وَتَقْدِيرُ غَيْرِهِمْ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مِنْ مُقْتَضَى رَأْيِهِ وَمَذْهَبِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي مَسَاقِ الْكَلَامِ دَلِيلٌ عَلَى دُخُولِ ذَكَاةِ الْجَنِينِ فِي ذَكَاةِ أُمِّهِ وَمَا قَالَهُ وَمِنْ أَنَّ قَوْلَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يُرَجَّحُ بِالْجَمْعِ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَعَذُّرِ الْجَمْعِ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْجَمْعُ مُتَّجَهٌ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا وَالشَّأْنُ إنَّمَا هُوَ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَمْعَيْنِ عَلَى الْآخِرِ وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ وَبَسْطُهُ يَطُولُ قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ يَقْتَضِي حَصْرَ الشُّفْعَةِ فِي الَّذِي هُوَ قَابِلٌ لِلْقِسْمَةِ وَلَمْ يُقْسَمْ بَعْدُ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ قُلْتُ مَا قَالَهُ دَعْوَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) قَوْله تَعَالَى { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } إلَى آخِرِهَا قُلْتُ وَمَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دَعْوَى أَيْضًا .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) قَالَ الْغَزَالِيُّ إذَا قُلْتُ : صَدِيقِي زَيْدٌ وَزَيْدٌ صَدِيقِي إلَى آخِرِهَا

قُلْتُ : قَوْلُ الْغَزَالِيِّ دَعْوَى أَيْضًا .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ ، قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي كِتَابِ الْإِعْجَازِ لَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ قَدْ تَرُدُّ الْحَصْرَ الثَّانِيَ فِي الْأَوَّلِ كَقَوْلِك زَيْدٌ الْقَائِمُ إلَى آخِرِهَا ) قُلْتُ وَقَوْلُ الْفَخْرِ دَعْوَى أَيْضًا .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ ) إذَا قُلْتُ : السَّفَرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فُهِمَ مِنْهُ الْحَصْرُ فِي هَذَا الظَّرْفِ إلَى آخِرِهَا قُلْتُ مَا قَالَهُ لَهُ هُنَا أَيْضًا دَعْوَى لَمْ يَأْتِ عَلَيْهَا بِحُجَّةٍ .

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ حَصْرِ الْمُبْتَدَأِ فِي خَبَرِهِ وَهُوَ مَعْرِفَةٌ بِاللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ حَصْرِ الْمُبْتَدَأِ فِي خَبَرِهِ وَهُوَ نَكِرَةٌ ) اعْلَمْ أَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْمُبْتَدَأِ مِنْ حَيْثُ قَصْدُ الْإِخْبَارِ بِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ لَفْظُهُ أَعَمَّ مِنْ الْمُبْتَدَأِ عَلَى الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَخْبَرَ بِشَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ فَلَيْسَ الْمُرَادُ إلَّا أَنَّ الَّذِي هُوَ الْمُبْتَدَأُ هُوَ بِعَيْنِهِ الْخَبَرُ فَمَعْنَى قَوْلِنَا الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ مَا وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْإِنْسَانُ الْخَاصُّ هُوَ الْحَيَوَانُ الْعَامُّ لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَإِلَّا لَتَضَمَّنَ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ حِمَارٌ وَثَوْرٌ وَكَلْبٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَصْنَافِ الْحَيَوَانِ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَحِينَئِذٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ الْإِنْسَانُ نَاطِقٌ وَقَوْلِهِ الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ مِنْ حَيْثُ الْقَصْدُ بِالْخَبَرِ وَإِنَّمَا بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ لَفْظَ النَّاطِقِ يَخْتَصُّ بِالْإِنْسَانِ لِوَضْعِهِ لِمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ وَلَفْظُ الْحَيَوَانِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِ لِوَضْعِهِ لِمَا هُوَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِ فَيَصْدُقُ فِي غَيْرِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى غَيْرِ الْإِنْسَانِ .
وَأَمَّا فِي هَذَا الْقَوْلِ فَلَا يَصِحُّ أَلْبَتَّةَ أَنْ يُرَادَ بِهِ إلَّا الْإِنْسَانَ لَا غَيْرُهُ وَلَا هُوَ وَغَيْرُهُ وَأَنَّ الْحَصْرَ حَصْرَانِ حَصْرٌ يَقْتَضِي نَفْيَ النَّقِيضِ فَقَطْ وَحَصْرٌ يَقْتَضِي نَفْيَ النَّقِيضِ وَالضِّدِّ وَالْخِلَافُ وَمَا عَدَا ذَلِكَ الْوَصْفَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْأَوَّلُ حَاصِلٌ بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ لِكُلِّ مُبْتَدَأٍ فِي خَبَرِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُهُ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ ضَرُورَةَ أَنَّ انْتِفَاءَ نَقِيضِهِ لَازِمٌ لِثُبُوتِهِ لِلْمُبْتَدَأِ فَنَحْوُ قَوْلِكَ زَيْدٌ قَائِمٌ مُخْبِرًا عَنْ ثُبُوتِ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ يَلْزَمُهُ عَقْلًا انْتِفَاءُ عَدَمِ الْقِيَامِ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ صَرِيحًا وَالثَّانِي حَاصِلٌ صَرِيحًا يَدُلُّ

عَلَيْهِ خُصُوصُ الْخَبَرِ الْمُعَرَّفِ فَاللَّامُ الْجِنْسِ بِمُقْتَضَى اسْتِقْرَارِ تَرَاكِيبِ الْبُلَغَاءِ فَهَذَا الْحَصْرُ الثَّانِي وَهُوَ مُرَادُ مَنْ فَرَّقَ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ قَوْلِنَا زَيْدٌ قَائِمٌ وَبَيْنَ قَوْلِنَا زَيْدٌ الْقَائِمُ بِجَعْلِهِ الثَّانِيَ لِلْحَصْرِ دُونَ الْأَوَّلِ فَزَيْدٌ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ لَا اللَّفْظِ مُنْحَصِرًا فِي مَفْهُومِ قَائِمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَى نَقِيضِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ زَيْدٌ قَائِمًا دَائِمًا لَا فِي الْمَاضِي وَلَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الِاسْتِقْبَالِ ضَرُورَةَ أَنَّ لَفْظَ قَائِمٍ مُطْلَقٌ فِي الْقِيَامِ .
فَقَوْلُنَا زَيْدٌ قَائِمٌ مُوجَبَةٌ جُزْئِيَّةٌ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَنَقِيضُهُ إنَّمَا هُوَ السَّالِبَةُ الدَّائِمَةُ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُنْحَصِرٍ فِي مَفْهُومِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَى ضِدِّهِ أَوْ خِلَافِهِ أَيْضًا إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الِاتِّصَافِ بِالنَّقِيضِ عَدَمُ الِاتِّصَافِ بِالضِّدِّ وَالْخِلَافِ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ كَوْنِهِ قَائِمًا جَالِسًا فِي وَقْتٍ آخَرَ وَنَحْوُهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُ مَعَهُ مِنْ الْأَضْدَادِ وَحَيًّا وَفَقِيهًا وَعَابِدًا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُ مَعَهُ مِنْ خِلَافِهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ .
وَأَمَّا زَيْدٌ فِي الْمِثَالِ الثَّانِي فَكَمَا أَنَّهُ مُنْحَصِرٌ فِي مَفْهُومِ الْقَائِمِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَى نَقِيضِهِ كَذَلِكَ وَهُوَ مُنْحَصِرٌ فِيهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَى ضِدِّهِ أَوْ خِلَافِهِ أَيْضًا وَيُوَضِّحُ لَك هَذَا مَسْأَلَةً وَهِيَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الصَّلَاةِ { تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } عَلَى انْحِصَارِ سَبَبِ تَحْرِيمِهَا أَيْ الدُّخُولِ فِي حُرُمَاتِهَا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْرُمُ فِيهَا فِي التَّكْبِيرِ وَانْحِصَارِ سَبَبِ تَحْلِيلِهَا أَيْ حِلِّهَا بِإِبَاحَةِ جَمِيعِ مَا حُرِّمَ بِهَا فِي التَّسْلِيمِ فَلَا يَدْخُلُ فِي حُرُمَاتِ

الصَّلَاةِ إلَّا بِالتَّكْبِيرِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ حُرُمَاتِهَا إلَى حِلِّهَا إلَّا بِالتَّسْلِيمِ فَالتَّكْبِيرُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ خَبَرٌ مُعَرَّفٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ اقْتَضَى حَصْرَ الْمُبْتَدَأِ وَهُوَ تَحْرِيمُهَا فِيهِ فَيَكُونُ مَفْهُومُهُ أَنَّ تَحْرِيمَهَا لَا يَثْبُتُ مَعَ نَقِيضِهِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ التَّكْبِيرِ وَلَا مَعَ ضِدِّهِ الَّذِي هُوَ الْهَزْلُ وَاللَّعِبُ وَالنَّوْمُ وَالْجُنُونُ وَلَا مَعَ خِلَافِهِ الَّذِي هُوَ الْخُشُوعُ وَالتَّعْظِيمُ بِحَيْثُ إذَا فَعَلَ أَيَّ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَضْدَادِ وَالْخِلَافَاتِ وَلَمْ يَفْعَلْ التَّكْبِيرَ لَمْ يَدْخُلْ فِي حُرُمَاتِ الصَّلَاةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ .
وَكَذَا التَّسْلِيمُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } خَبَرٌ مُعَرَّفٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ اقْتَضَى حَصْرَ الْمُبْتَدَأِ وَهُوَ تَحْلِيلُهَا فِيهِ فَيَكُونُ مَفْهُومُهُ أَنَّ تَحْلِيلَهَا لَا يَثْبُتُ مَعَ نَقِيضِهِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ التَّسْلِيمِ وَلَا مَعَ ضِدِّهِ الَّذِي هُوَ النَّوْمُ وَالْإِغْمَاءُ وَلَا مَعَ خِلَافِهِ الَّذِي هُوَ الْحَدَثُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ نَحْوِ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ بِحَيْثُ إذَا فَعَلَ أَيَّ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَضْدَادِ وَالْخِلَافَاتِ وَلَمْ يَفْعَلْ التَّسْلِيمَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ حُرُمَاتِ الصَّلَاةِ إلَى حِلِّهَا أَيْ إبَاحَةِ جَمِيعِ مَا حَرُمَ بِهَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ حُرُمَاتِ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ الشَّرْعِيَّةِ لَا عَلَى وَجْهِ بُطْلَانِهَا كَيْفَ كَانَ فَلَا سَبَبَ لَهُ إلَّا السَّلَامُ الْمَشْرُوعُ الْمَأْذُونُ فِيهِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ أَمَّا سَهْوُ السَّلَامِ وَعَمْدُهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَرِدْ وَلَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } لَا سِيَّمَا وَلَفْظُ السَّلَامِ خَبَرٌ مَعْنَاهُ الدُّعَاءُ بِالسَّلَامَةِ وَالدُّعَاءُ لَا يَقْدَحُ فِي الصَّلَاةِ لَا سَهْوًا وَلَا عَمْدًا

أَمَّا نَقُولُ بِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ مُخْرِجٌ مِنْهَا مُطْلَقًا وَمُحْوِجٌ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ لِلدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ كَمَا هُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ مُشْكِلٌ وَالْمُتَّجَهُ أَنَّهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ كَالْكَلَامِ فِي أَثْنَائِهَا سَهْوًا فِي كَوْنِهِ لَا يُبْطِلُهَا وَلَا يُحْوِجُ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ لِلدُّخُولِ فِيهَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ نَافِعٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالسَّلَامُ فِي أَثْنَائِهَا قَدْ يَقَعُ مَعَ نِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ وَقَدْ لَا يَقَعُ فَإِنَّ الْمَذْهَبَ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهِ وَلَيْسَتْ النِّيَّةُ إذَا وَقَعَتْ بِرَفْضٍ حَتَّى يُقَالَ إنَّ رَفْضَ الصَّلَاةِ يَقْتَضِي إبْطَالَهَا فَلِذَلِكَ أَحْوَجَ لِلتَّكْبِيرِ ؛ لِأَنَّ مَنْ نَوَى الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ سَلَامِهِ أَثْنَاءَهَا لَمْ يَقْصِدْ إبْطَالَهَا بَلْ إنَّمَا اعْتَقَدَ أَنَّ صَلَاتَهُ كَمُلَتْ فَأَتَى بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ وَهَذَا لَيْسَ رَفْضًا وَكَوْنُ جِنْسِ السَّلَامِ مُبْطِلًا لِلصَّلَاةِ إجْمَاعًا فَيَلْحَقُ بِذَلِكَ الْفَرْدِ بَقِيَّةُ صُوَرِهِ بِالْقِيَاسِ مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ بِلَا جَامِعٍ ضَرُورَةَ أَنَّ السَّلَامَ دُعَاءٌ وَالدُّعَاءُ لَا يُنَافِي الصَّلَاةَ فَلَمْ يَكُنْ جَعْلُهُ مُخْرِجًا مِنْ الصَّلَاةِ بِمَعْقُولِ الْمَعْنَى حَتَّى يَتَأَتَّى الْقِيَاسُ عَلَيْهِ .
وَالْقِيَاسُ بِلَا جَامِعٍ لَا يَصِحُّ وَكَوْنُ عَدَمِ الصِّحَّةِ إنَّمَا هِيَ فِي قِيَاسِ الْمَعْنَى وَهَذَا قِيَاسُ الشَّبَهِ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ قِيَاسَ الشَّبَهِ ضَعِيفٌ ، وَقَدْ مَنَعَ الْقَاضِي شَيْخُ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ السَّلَامَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ مُعَارَضٌ بِالْمُقْتَضَى لِإِكْمَالِ الصَّلَاةِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا وَفِي آخِرِ الصَّلَاةِ هُوَ سَالِمٌ عَنْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ فَافْتَرَقَا وَلَا قِيَاسَ مَعَ الْفَارِقِ وَكَوْنُ اللَّامِ فِي السَّلَامِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } لِلْعُمُومِ فَيَشْمَلُ السَّلَامَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ قَرِينَةَ السِّيَاقِ تَدُلُّ

عَلَى أَنَّ اللَّامَ هَا هُنَا إنَّمَا أُرِيدَ بِهَا حَقِيقَةُ الْجِنْسِ الَّذِي هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ إلَى الْعُمُومِ ؛ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ مَعَهُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } مِنْ الطَّهُورِ وَالتَّكْبِيرِ الْمُحَلَّيَيْنِ بِاللَّامِ إنَّمَا أُرِيدَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا الْفَرْدُ الْمُقَارِنُ لِأَوَّلِ الصَّلَاةِ فَقَطْ فَلَا يَدْخُلُ فِيهَا بِفَرْدِ التَّكْبِيرِ الَّذِي فِي أَثْنَائِهَا فَكَذَلِكَ بِحَمْلِ السَّلَامِ عَلَى فَرْدِهِ الْمُقَارِنِ لِآخِرِ الصَّلَاةِ تَسْوِيَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قُرِنَ مَعَهُ وَلِأَنَّهُ الْمُتَبَادِرُ لِلذِّهْنِ ، وَلَوْ كَانَ السَّلَامُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ يُخْرِجُ مِنْ حُرُمَاتِ الصَّلَاةِ وَيُحْوِجُ لِلتَّكْبِيرِ لَبَطَلَ مَا مَضَى مِنْ الصَّلَاةِ وَابْتُدِئَتْ مِنْ أَوَّلِهَا ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ مَالِكٌ فِي السَّهْوِ أَلْبَتَّةَ فَلَمَّا لَمْ تَعُدْ الصَّلَاةُ مِنْ أَوَّلِهَا كَانَ الْمُصَلِّي فِي حُرُمَاتِ الصَّلَاةِ قَالَ الْأَصْلُ وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا أَجِدُ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي أَنَّ السَّلَامَ سَهْوًا مُحْوِجٌ لِلتَّكْبِيرِ إلَّا مُشْكِلًا وَالْمُتَّجَهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ا هـ هَذَا حَاصِلُ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مِنْ كَلَامِ الْأَصْلِ هُنَا .
وَأَمَّا قَوْلُ الْأَصْلِ إنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ وَقَدْ رُوِيَ بِرَفْعِ الذَّكَاةِ الثَّانِيَةِ وَبِهَا تَمَسَّكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلِهِمْ بِاسْتِغْنَاءِ الْجَنِينِ عَنْ الذَّكَاةِ وَأَنَّهُ يُؤْكَلُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَقْتَضِي حَصْرَ ذَكَاتِهِ فِي ذَكَاةِ أُمِّهِ بِمَعْنَى أَنَّ ذَكَاةَ أُمِّهِ تُبِيحُهُ فَيُسْتَغْنَى بِهَا عَنْ الذَّكَاةِ الَّتِي هِيَ فِي الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ عِبَارَةٌ عَنْ الذَّبْحِ الْخَاصِّ فِي حَلْقِهِ فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ مُلَابَسَةٌ تُصَحِّحُ أَنْ تَكُونَ ذَكَاةُ أُمِّهِ هِيَ عَيْنَ ذَكَاتِهِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ أَنَّ إضَافَةَ الْمَصَادِرِ مُخَالِفَةٌ لِإِسْنَادِ الْأَفْعَالِ فِي أَنَّهُ

يَكْفِي فِي كَوْنِهَا حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً أَدْنَى مُلَابَسَةٍ كَقَوْلِنَا : صَوْمُ رَمَضَانَ وَحَجُّ الْبَيْتِ بِخِلَافِ إسْنَادِ الْأَفْعَالِ ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ لِكَوْنِهِ حَقِيقَةً مُرَاعَاةُ الْفَاعِلِ الْحَقِيقِيِّ لَا مُطْلَقُ مُلَابِسٍ .
وَرُوِيَ بِنَصْبِ الذَّكَاةِ الثَّانِيَةِ وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ تَمَسَّكَ الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلِهِمْ بِاحْتِيَاجِ الْجَنِينِ لِلذَّكَاةِ وَأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ ذَكَاةُ الْجَنِينِ أَنْ يُذَكَّى ذَكَاةً مِثْلَ ذَكَاةِ أُمِّهِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ مَعَ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَقَامَهُ فَأُعْرِبَ كَإِعْرَابِهِ عَلَى قَاعِدَةِ حَذْفِ الْمُضَافِ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ عَلَى رِوَايَةِ النَّصْبِ ذَكَاةَ الْجَنِينِ دَاخِلَةً فِي ذَكَاةِ أُمِّهِ فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ فَانْتَصَبَتْ الذَّكَاةُ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ عَلَى حَدِّ دَخَلْت الدَّارَ بَلْ هَذَا التَّقْدِيرُ أَرْجَحُ مِمَّا قَدَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قِلَّةُ الْحَذْفِ .
وَثَانِيهِمَا : الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ وَدَفْعُ التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا ا هـ .
فَقَالَ ابْنُ الشَّاطِّ : وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي الْحَصْرَ وَاسْتَغْنَى الْجَنِينُ عَنْ الذَّكَاةِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ وَمَا قَالَهُ مِنْ تَرْجِيحِ التَّقْدِيرِ عَلَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِقِلَّةِ الْحَذْفِ وَإِنْ سَلِمَ إلَّا أَنَّهُ يَضْعُفُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَسَاقِ الْكَلَامِ دَلِيلٌ عَلَى دُخُولِ ذَكَاةِ الْجَنِينِ فِي ذَكَاةِ أُمِّهِ كَمَا أَنَّ التَّقْدِيرَ عَلَى قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ وَإِنْ ضَعُفَ بِكَثْرَةِ الْحَذْفِ إلَّا أَنَّهُ يُرَجَّحُ بِأَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَى مَسَاقِ الْكَلَامِ ، وَمَا قَالَهُ مِنْ تَرْجِيحِ التَّقْدِيرِ عَلَى مَا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِالْجَمْعِ لَا يَتِمُّ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ عَلَى مَا لِلْحَنَفِيَّةِ مَعَ أَنَّ الْجَمْعَ مُتَّجَهٌ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا وَالشَّأْنُ إنَّمَا هُوَ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَمْعَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ

وَبَسْطُهُ يَطُولُ ا هـ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْأَصْلِ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ يَقْتَضِي حَصْرَ الشُّفْعَةِ فِي الَّذِي هُوَ قَابِلٌ لِلْقِسْمَةِ وَلَمْ يُقْسَمْ بَعْدُ وَالتَّقْدِيرُ الشُّفْعَةُ مُسْتَحَقَّةٌ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } يَقْتَضِي حَصْرَ الْأَعْمَالِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي النِّيَّاتِ وَالتَّقْدِيرُ الْأَعْمَالُ مُعْتَبَرَةٌ بِالنِّيَّاتِ فَكَمَا أَنَّ الْعَمَلَ لَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا بِغَيْرِ نِيَّةٍ كَذَلِكَ طَلَبُ الشُّفْعَةِ لَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ ا هـ .
فَقَالَ ابْنُ الشَّاطِّ هُوَ دَعْوَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ وَمِثْلُهُ فِي كَوْنِهِ دَعْوَى لَمْ يَأْتِ عَلَيْهَا بِحُجَّةٍ قَوْلُهُ إنَّ الْحَجَّ قَوْله تَعَالَى { أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } بِتَقْدِيرِ زَمَانِ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ يَقْتَضِي حَصْرَ وَقْتِ الْحَجِّ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ وَهِيَ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَفِي كَوْنِهِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَلَا يُحْرِمُ بِالْحَجِّ قَبْلَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْفَضِيلَةِ فَيَصِحُّ الْإِحْرَامُ قَبْلَهُ إذَا وَقَعَ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ قَوْلَانِ .
وَكَذَا قَوْلُهُ : إنَّ مِثْلَ قَوْلِنَا السَّفَرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُفْهَمُ مِنْهُ الْحَصْرُ لِلسَّفَرِ فِي هَذَا الظَّرْفِ وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ وَلَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَيَّامِ ، وَمِثْلُهُ أَيْضًا فِي كَوْنِهِ دَعْوَى قَوْلُ الْغَزَالِيِّ إذَا قُلْت : صَدِيقِي زَيْدٌ أَوْ زَيْدٌ صَدِيقِي اقْتَضَى الْأَوَّلُ حَصْرَ أَصْدِقَائِك فِي زَيْدٍ فَلَا تُصَادِقْ أَنْتَ غَيْرَهُ وَهُوَ يَجُوزُ أَنْ يُصَادِقَ غَيْرَك وَالثَّانِي حَصْرُ زَيْدٍ فِي صَدَاقَتِك فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَادِقَ غَيْرَك وَأَنْتَ يَجُوزُ أَنْ تُصَادِقَ غَيْرَهُ عَلَى عَكْسِ الْأَوَّلِ وَمِثْلُهُ فِي كَوْنِهِ دَعْوَى أَيْضًا قَوْلُ الْفَخْرِ الرَّازِيّ فِي كِتَابِهِ الْإِعْجَازُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ قَدْ تَرِدُ لِحَصْرِ الثَّانِي فِي الْأَوَّلِ عَلَى خِلَافِ قَاعِدَةِ الْحَصْرِ مِنْ

كَوْنِ الْأَوَّلِ أَبَدًا مُنْحَصِرًا فِي الثَّانِي كَقَوْلِك زَيْدٌ الْقَائِمُ تُرِيدُ لَا قَائِمَ إلَّا زَيْدٌ بِحَصْرِ وَصْفِ الْقِيَامِ فِي زَيْدٍ ، وَقَوْلُك أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُرِيدُ أَنَّ الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنْحَصِرَةٌ فِي أَبِي بَكْرٍ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ زَيْدٌ النَّاقِلُ لِهَذَا الْخَبَرِ وَالْمُتَسَبِّبُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ ا هـ كَلَامُ ابْنِ الشَّاطِّ .
قُلْتُ : وَلَا يَخْفَاك أَنَّ فِي اخْتِيَارِهِ حَصْرَ الْمُبْتَدَأِ فِي خَبَرِهِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ وَأَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ الْفَخْرِ بِعَكْسِهِ فِي نَحْوِ زَيْدٌ الْقَائِمُ أَوْ النَّاقِلُ لِهَذَا الْخَبَرِ أَوْ الْمُتَسَبِّبُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ دَعْوَى لَا حُجَّةَ لَهَا وَإِنَّ الْمُسْنَدَ النَّكِرَةَ لَا يَقْتَضِي لُغَةً الْحَصْرَ أَلْبَتَّةَ وَلَوْ عُرِّفَ الْمُسْنَدُ إلَيْهِ بِاللَّامِ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي عَقْلًا حَصْرَ الْمُبْتَدَأِ فِيهِ دُونَ نَقِيضِهِ مُخَالَفَةً لِمَا قَالَهُ عُلَمَاءُ الْمَعَانِي فِي مَبْحَثِ الْقَصْرِ مِمَّا حَاصِلُهُ كَمَا فِي الدُّسُوقِيِّ عَلَى مُخْتَصَرِ السَّعْدِ وَابْنِ يَعْقُوبَ عَلَى التَّلْخِيصِ أَنَّ التَّعْرِيفَ فَاللَّامُ الْجِنْسِ إنْ كَانَ الْمُسْنَدَ إلَيْهِ فَهُوَ الْمَقْصُورُ عَلَى الْمُسْنَدِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْنَدُ مَعْرِفَةً نَحْوُ الْأَمِيرُ زَيْدٌ أَوْ نَكِرَةً نَحْوُ التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ أَيْ لَا عَلَى غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْنَدِ فَهُوَ الْمَقْصُورُ عَلَى الْمُسْنَدِ إلَيْهِ وَهَلْ وَلَوْ عُرِّفَ الْمُسْنَدُ إلَيْهِ فَاللَّامُ الْجِنْسِ أَيْضًا نَحْوُ الْكَرْمُ التَّقْوَى وَبِهِ صَرَّحَ السَّعْدُ فِي الْمُطَوَّلِ أَوْ إنْ عُرِّفَ الْمُسْنَدُ إلَيْهِ بِهَا أَيْضًا احْتَمَلَ قَصْرَهُ عَلَى الْمُسْنَدِ أَوْ قَصْرَ الْمُسْنَدِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ حِينَئِذٍ قَصْرُ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ ؛ لِأَنَّ الْقَصْرَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَصْدِ الِاسْتِغْرَاقِ وَشُمُولِ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ وَذَلِكَ أَنْسَبُ بِالْمُسْنَدِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ فِيهِ إلَى الذَّاتِ وَفِي الْمُسْنَدِ إلَى الصِّفَةِ وَإِلَى

هَذَا ذَهَبَ السَّيِّدُ أَوْ إنْ عُرِّفَ الْمُسْنَدُ إلَيْهِ بِهَا أَيْضًا فَالْأَعَمُّ مُطْلَقًا مِنْهُمَا سَوَاءٌ قُدِّمَ وَجُعِلَ مُبْتَدَأً أَوْ أُخِّرَ وَجُعِلَ خَبَرًا يُقْصَرُ عَلَى الْأَخَصِّ نَحْوُ الْعُلَمَاءُ النَّاسُ أَوْ النَّاسُ الْعُلَمَاءُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ فَبِحَسَبِ الْقَرَائِنِ فَفِي نَحْوِ الْعُلَمَاءُ الْخَاشِعُونَ تَارَةً يُقْصَدُ قَصْرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْخَاشِعِينَ وَتَارَةً يُقْصَدُ عَكْسُهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ فَالْأَظْهَرُ قَصْرُ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ وَمَعْنَى تَصَوُّرِ الْعُمُومِ فِي الْقَصْرِ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَعَمَّ مَفْهُومًا وَإِنْ تَسَاوَيَا مَا صَدَقَا وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عَبْدُ الْحَكِيمِ أَقُولُ : وَالْجِنْسُ فِي الْخَبَرِ قَدْ يَبْقَى عَلَى إطْلَاقِهِ وَقَدْ يُقَيَّدُ بِوَصْفٍ أَوْ حَالٍ أَوْ ظَرْفٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ نَحْوُ هُوَ الرَّجُلُ الْكَرِيمُ وَهُوَ السَّائِرُ رَاكِبًا وَهُوَ الْأَمِيرُ فِي الْبَلَدِ وَهُوَ الْوَاهِبُ أَلْفَ قِنْطَارٍ وَكَوْنُ التَّعْرِيفِ فَاللَّامُ الْجِنْسِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ وَإِنْ عُلِمَ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَتَصَفُّحِ تَرَاكِيبِ الْبُلَغَاءِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَعْرِيفَ الْخَبَرِ فَاللَّامُ الْجِنْسِ فِي قَوْلِ الْخَنْسَاءِ فِي مَرْثِيَةِ أَخِيهَا صَخْرٍ : إذَا قَبُحَ الْبُكَاءُ عَلَى قَتِيلٍ رَأَيْتُ بُكَاءَكَ الْحَسَنَ الْجَمِيلَا لَمْ يَكُنْ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ وَأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ بُكَاءَكَ هُوَ الْحَسَنُ الْجَمِيلُ فَقَطْ دُونَ بُكَاءِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَسَنٍ كَمَا تُوُهِّمَ بَلْ إنَّمَا هُوَ لِإِفَادَةِ الْإِشَارَةِ إلَى مَعْلُومِيَّةِ الْحَسَنِ لِذَلِكَ ادِّعَاءً وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَصْرَ لَا يُلَائِمُهُ إذَا قَبُحَ الْبُكَاءُ عَلَى قَتِيلٍ لِإِشْعَارِهِ بِأَنَّ الْكَلَامَ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْبُكَاءَ عَلَى هَذَا الْمَرْثِيِّ قَبِيحٌ كَغَيْرِهِ وَالرَّدُّ عَلَى ذَلِكَ الْمُتَوَهَّمِ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ إخْرَاجِ بُكَائِهِ مِنْ الْقُبْحِ إلَى كَوْنِهِ حَسَنًا وَيُتَصَوَّرُ فِي تَعْرِيفِ كُلٍّ مِنْ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ كُلٌّ

مِنْ قَصْرِ الْأَفْرَادِ وَقَصْرِ الْقَلْبِ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي تَعْرِيفِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَاللَّامُ الْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ قَصْرُ الْأَفْرَادِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا فِيهِ عُمُومٌ كَالْجِنْسِ فَيُحْصَرُ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ وَلَا عُمُومَ فِي الْمَفْهُومِ الْخَارِجِيِّ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ قَصْرُ الْقَلْبِ فَيُقَالُ لِمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ الْمُنْطَلِقَ الْمَعْهُودَ هُوَ عَمْرٌو الْمُنْطَلِقُ زَيْدٌ أَيْ لَا عَمْرٌو كَمَا تَعْتَقِدُ وَهُوَ ظَاهِرٌ ا هـ .
وَقَدْ نَظَمْتُ هَذَا الْحَاصِلَ مُذَيِّلًا لِبَيْتَيْ الشَّيْخِ عَلِيٍّ الْأُجْهُورِيِّ بِقَوْلِي : مُبْتَدَأٌ فَاللَّامُ جِنْسٍ عُرِّفَا مُنْحَصِرٌ فِي مُخْبَرٍ بِهِ وَفَا وَإِنْ خَلَا عَنْهَا وَعُرِّفَ الْخَبَرْ بِاللَّامِ مُطْلَقًا فَبِالْعَكْسِ اسْتَقَرْ كَذَا إذَا مَا عُرِّفَ الْجُزْءَانِ بِاللَّامِ عِنْدَ السَّعْدِ ذِي الْإِتْقَانِ وَالسَّيِّدِ بِأَنَّ ذَا يَحْتَمِلُ أَيْضًا لِحَصْرِ الْمُبْتَدَأِ بَلْ أَكْمَلُ وَالثَّالِثُ الْأَعَمُّ مِنْهُمَا بِنَصِّ حِينَئِذٍ يُحْصَرُ دَوْمًا مَا فِي الْأَخَصِّ وَإِنْ أَتَى عُمُومُهُ وَجْهِيًّا حِيلَ عَلَى قَرَائِنَ مَلِيًّا وَحَيْثُ لَا قَرَائِنَ فَالْأَظْهَرُ مُبْتَدَأٌ فِي خَبَرٍ يَنْحَصِرُ وَكُلُّ أَقْسَامِ الْحَصْرِ قَدْ أَتَتْ فِيمَا فَاللَّامُ الْجِنْسِ حَصْرُهُ ثَبَتْ وَقَدْ أَتَى مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ لِغَيْرِ حَصْرٍ فَافْهَمْ كَلَامِي وَمَا فَاللَّامُ الْعَهْدِ خَارِجًا فَلَا حَصْرَ لِإِفْرَادٍ بِهِ تَحَصَّلَا وَقَدْ مَرَّ عَنْ السَّعْدِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى عَضُدِ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّ الْحَقَّ عَدَمُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ كَمَا فِي قَوْلِنَا الْفُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةُ أَئِمَّةً فُضَلَاءَ وَمَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ عِنْدَ قَصْدِ الْإِخْبَارِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ وَنَفْيُهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِمَعُونَةِ الْقَرَائِنِ كَمَا فِي قَوْلِنَا فِي الشَّامِ الْغَنَمُ السَّائِمَةُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ .
ا هـ .
قَالَ الْعَلَّامَةُ الشِّرْبِينِيُّ فِي تَقْرِيرَاتِهِ عَلَى حَوَاشِي مَحَلِّي جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ

الْخِلَافَ بَيْنَ كَوْنِ مَدْلُولِ الْخَبَرِ الْإِيقَاعُ وَالِانْتِزَاعُ أَوْ الْوُقُوعُ وَاللَّا وُقُوعُ لَفْظِيٌّ بِنَاءً عَلَى مَا قَالَهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ فِي حَاشِيَةِ الْمُطَوَّلِ مِنْ أَنَّ الْقَائِلَ بِأَنَّ مَدْلُولَهُ الْإِيقَاعُ أَرَادَ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُهُ بِالْوُقُوعِ وَالْقَائِلُ بِأَنَّ مَدْلُولَهُ الْوُقُوعُ أَرَادَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُتَعَلِّقُ الْإِيقَاعِ وَلَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ الْمَوْضُوعَ لَهُ الصُّورَةُ الذِّهْنِيَّةُ أَوْ الْخَارِجِيَّةُ بَلْ وَلَوْ بَنَيْنَا عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلصُّورَةِ الذِّهْنِيَّةِ أَعْنِي الْحُكْمَ بِالنِّسْبَةِ قُلْنَا أَنْ نَقُولَ هُوَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِفَادَةِ هُوَ الْمُتَعَلِّقُ الَّذِي هُوَ النِّسْبَةُ بِمَعْنَى الْوُقُوعِ أَوْ اللَّا وُقُوعِ إذْ هُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْمُتَكَلِّمُ وَلِهَذَا جَزَمَ السَّعْدُ فِي حَاشِيَةِ الْعَضُدِ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَوْضُوعُ لَهُ هَذَا وَغَيْرُ خَافٍ عَلَيْكَ أَنَّ طَرِيقَ حُجَّةِ الْمَفْهُومِ سَوَاءٌ فِي الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ هُوَ أَنَّهُ الْمَفْهُومُ لُغَةً ا هـ .
وَمَا مَرَّ عَنْ الْإِمَامِ الْفَخْرِ جَارٍ عَلَى هَذَا الَّذِي قَالَهُ عُلَمَاءُ الْمَعَانِي فَكَيْفَ يَكُونُ دَعْوَى لَا حُجَّةَ لَهَا وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْأَصْلَ فِي الْخَبَرِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ غَيْرُ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ أَوْ الْمَعْرُوفُ بِهَا إذَا كَانَ الْمُبْتَدَأُ مُعَرَّفًا بِهَا أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ مَحْصُورًا فِيهِ بِمَعْنَى اتِّصَافِهِ بِهِ دُونَ نَقِيضِهِ وَضِدُّهُ وَخِلَافُهُ عَلَى قَاعِدَةِ حَصْرِ الْأَوَّلِ فِي الثَّانِي وَالْأَصْلُ فِي الْخَبَرِ الْمُعَرَّفِ فَاللَّامُ الْجِنْسِ إذَا لَمْ يُعَرَّفْ مُبْتَدَؤُهُ بِاللَّامِ أَنْ يَكُونَ مَحْصُورًا فِي الْمُبْتَدَأِ عَلَى خِلَافِ قَاعِدَةِ الْحَصْرِ لِلْأَوَّلِ فِي الثَّانِي وَقَدْ يَجِيءُ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْأَصْلِ فَيَجْرِي عَلَى قَاعِدَةِ الْحَصْرِ لِلْأَوَّلِ فِي الثَّانِي كَمَا فِي حَدِيثِ { مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَأْتِي لِغَيْرِ الْحَصْرِ كَمَا فِي : وَجَدْتُ

بُكَاءَكَ الْحَسَنَ الْجَمِيلَا وَإِذَا كَانَ هَذَا كَذَلِكَ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَبَرِ الْمُعَرَّفِ فَاللَّامُ الْجِنْسِ وَغَيْرِهِ إذَا لَمْ يُعَرَّفْ مُبْتَدَؤُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ : الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ حَصْرُ الثَّانِي فِي الْأَوَّلِ وَقَدْ يَجِيءُ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْأَصْلِ إمَّا بِحَصْرِ الْأَوَّلِ فِي الثَّانِي وَإِمَّا بِدُونِ الْحَصْرِ ، وَغَيْرُهُ إنَّمَا يَكُونُ لِحَصْرِ الْأَوَّلِ فِي الثَّانِي .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ حَصْرَهُ لُغَوِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ فَقَطْ وَحَصْرُ غَيْرِهِ عَقْلِيٌّ فَقَطْ .
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ حَصْرَهُ الْحَقِيقِيَّ يَقْتَضِي نَفْيَ النَّقِيضِ وَالضِّدِّ وَالْخِلَافِ جَمِيعًا وَحَصْرُ غَيْرِهِ إنَّمَا يَقْتَضِي حَصْرَ النَّقِيضِ فَقَطْ .
هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْمَقَامِ فَتَأَمَّلْهُ بِإِنْصَافٍ فَإِنَّهُ نَفِيسٌ جِدًّا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّشْبِيهِ فِي الدُّعَاءِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّشْبِيهِ فِي الْخَبَرِ ) وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي الْخَبَرِ يَصِحُّ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ فَتُشَبِّهُ مَا وَقَعَ لَكَ أَمْسِ بِمَا وَقَعَ أَمْسِ لِشَخْصٍ آخَرَ وَتُشَبِّهُ مَا وَقَعَ لَكَ الْيَوْمَ بِمَا وَقَعَ لِغَيْرِكَ الْيَوْمَ وَتُشَبِّهُ مَا يَقَعُ لَكَ غَدًا بِمَا يَقَعُ لِغَيْرِك غَدًا وَكُلُّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ وَلَا يَقَعُ التَّشْبِيهُ فِي الدُّعَاءِ إلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ خَاصَّةً بِسَبَبِ أَنَّ عَشَرَةَ أَلْفَاظٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِمُسْتَقْبَلٍ وَهِيَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالدُّعَاءُ وَالشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالتَّرَجِّي وَالتَّمَنِّي وَالْإِبَاحَةُ فَلَا يُؤْمَرُ إلَّا بِمَعْدُومٍ مُسْتَقْبَلٍ وَلَا يُنْهَى إلَّا عَنْ مَعْدُومٍ مُسْتَقْبَلٍ وَلَا يُدْعَى إلَّا بِمَعْدُومٍ مُسْتَقْبِلٍ وَكَذَلِكَ الْبَوَاقِي وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا الْمَعْدُومَ الْمُسْتَقْبَلَ فَمَتَى وَقَعَ التَّشْبِيهُ فِي بَابٍ مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ بَيْنَ لَفْظَيْنِ دُعَاءٍ أَوْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ وَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ مَعَهَا إنَّمَا يَقَعُ فِي أَمْرَيْنِ مُسْتَقْبَلَيْنِ مَعْدُومَيْنِ لَمْ يُوجَدَا بَعْدُ .
وَبِاعْتِبَارِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ ظَهَرَتْ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ ذَلِكَ أَنَّ الشَّيْخَ عِزَّ الدِّينِ بْنَ عَبْدِ السَّلَامِ كَانَ يُورِدُ سُؤَالًا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } فَيَقُولُ كَيْفَ وَقَعَ التَّشْبِيهُ بَيْنَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّلَاةِ عَلَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ إعْطَاؤُهُ وَإِحْسَانُهُ وَعَطِيَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْ عَطِيَّةِ اللَّهِ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالتَّشْبِيهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ أَدْنَى رُتْبَةً مِنْ الْمُشَبَّهِ بِهِ أَوْ مُسَاوِيًا فَكَيْفَ وَقَعَ هَذَا التَّشْبِيهُ وَكَانَ يُجِيبُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ آلَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْبِيَاءُ وَآلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسُوا أَنْبِيَاءَ وَالتَّشْبِيهُ إنَّمَا وَقَعَ بَيْنَ الْمَجْمُوعِ الْحَاصِلِ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَآلِهِ وَالْمَجْمُوعِ الْحَاصِلِ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَآلِهِ فَيَحْصُلُ ؛ لِآلِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ تِلْكَ الْعَطِيَّةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَحْصُلُ لِآلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ هَذِهِ الْعَطِيَّةِ فَيَكُونُ الْفَاضِلُ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ أَخْذِ آلِهِ مِنْ هَذِهِ الْعَطِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْ الْفَاضِلِ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ تِلْكَ الْعَطِيَّةِ وَإِذَا كَانَتْ عَطِيَّةُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْظَمَ كَانَ أَفْضَلَ فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ فَجَعَلَ التَّشْبِيهَ فِي الدُّعَاءِ كَالتَّشْبِيهِ فِي الْخَبَرِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ إنَّمَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ بَيْنَ عَطِيَّةٍ تَحْصُلُ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ تَكُنْ حَصَلَتْ لَهُ قَبْلَ الدُّعَاءِ فَإِنَّ الدُّعَاءَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْدُومِ الْمُسْتَقْبَلِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الَّذِي حَصَلَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ الدُّعَاءِ لَمْ يَدْخُلْ فِي التَّشْبِيهِ وَهُوَ الَّذِي فُضِّلَ بِهِ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُمَا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا كَرَجُلَيْنِ أُعْطِيَ لِأَحَدِهِمَا أَلْفٌ وَلِلْآخَرِ أَلْفَانِ ثُمَّ طُلِبَ لِصَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ مِثْلُ مَا أُعْطِيَ لِصَاحِبِ الْأَلْفِ فَيَحْصُلُ لَهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَالْآخَرُ أَلْفٌ فَقَطْ فَلَا يَرِدُ السُّؤَالُ مِنْ أَصْلِهِ ؛ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ وَقَعَ فِي دُعَاءٍ لَا فِي خَبَرٍ نَعَمْ لَوْ قِيلَ إنَّ الْعَطِيَّةَ الَّتِي حَصَلَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ الْعَطِيَّةِ الَّتِي حَصَلَتْ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ

السَّلَامُ لَزِمَ الْإِشْكَالُ لِكَوْنِ التَّشْبِيهِ وَقَعَ فِي الْخَبَرِ لَكِنْ التَّشْبِيهُ مَا وَقَعَ إلَّا فِي الدُّعَاءِ فَتَأَمَّلْ الْفَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَاضْبِطْ الْقَاعِدَةَ وَالْفَرْقُ يَنْدَفِعُ لَك بِهِمَا أَسْئِلَةٌ كَثِيرَةٌ وَإِشْكَالَاتٌ عَظِيمَةٌ

قَالَ ( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّشْبِيهِ فِي الدُّعَاءِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّشْبِيهِ فِي الْخَبَرِ إلَى قَوْلِهِ إنَّمَا يَقَعُ فِي أَمْرَيْنِ مُسْتَقْبَلَيْنِ مَعْدُومَيْنِ لَمْ يُوجَدَا بَعْدُ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ وَأَطْلَقَ قَوْلَهُ فِيهِ مِنْ أَنَّ التَّشْبِيهَ لَا يَقَعُ فِي الدُّعَاءِ إلَّا بِالْمُسْتَقْبَلِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَمَا الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ أَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ عَشَرَةَ أَلْفَاظٍ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْمُسْتَقْبَلِ صَحِيحٌ إلَّا فِي الشَّرْطِ خَاصَّةً وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ السَّبَبَ فِي التَّشْبِيهِ فِي الدُّعَاءِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمُسْتَقْبَلِ كَوْنُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْمُسْتَقْبِلِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْمُسْتَقْبَلِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَشْبِيهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بِغَيْرِ الْمُسْتَقْبِلِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرِيدَ تَشْبِيهَ دُعَاءٍ بِدُعَاءٍ وَأَمْرٍ بِأَمْرٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ .
قَالَ ( وَبِاعْتِبَارِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ ظَهَرَتْ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ وَذَكَرَ مَا كَانَ يُورِدُهُ عِزُّ الدِّينِ عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ صَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } إلَى قَوْلِهِ فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ ) قُلْتُ قَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَوَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا .
قَالَ ( فَجَعَلَ التَّشْبِيهَ فِي الدُّعَاءِ كَالتَّشْبِيهِ فِي الْخَبَرِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ إنَّمَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ بَيْنَ عَطِيَّةٍ تَحْصُلُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَكُنْ حَصَلَتْ لَهُ قَبْلَ الدُّعَاءِ فَإِنَّ الدُّعَاءَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْدُومِ الْمُسْتَقْبَلِ إلَى قَوْلِهِ فَإِنَّ التَّشْبِيهَ وَقَعَ فِي دُعَاءٍ لَا فِي خَبَرٍ )

قُلْتُ مَا قَالَهُ هُنَا صَحِيحٌ لَكِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالدُّعَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ بِهِ عَطَاءً مُسَاوِيًا لِعَطَاءِ الْمُشَبَّهِ بِهِ زَائِدًا عَلَى مَا ثَبَتَ لِلْمَدْعُوِّ لَهُ مِنْ الْعَطَاءِ قَبْلَ الدُّعَاءِ وَعَلَى ذَلِكَ لَا يَرِدُ السُّؤَالُ مِنْ أَصْلِهِ كَمَا قَالَ ( قَالَ : نَعَمْ لَوْ قِيلَ إنَّ الْعَطِيَّةَ الَّتِي حَصَلَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ الْعَطِيَّةِ الَّتِي حَصَلَتْ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَزِمَ الْإِشْكَالُ لِكَوْنِ التَّشْبِيهِ وَقَعَ فِي الْخَبَرِ إلَى آخَرِ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْفَرْقِ ) .
قُلْتُ : قَوْلُهُ لِكَوْنِ التَّشْبِيهِ وَقَعَ فِي الْخَبَرِ لَيْسَ بِلَازِمٍ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الدَّاعِي أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ بِالدُّعَاءِ تَسْوِيَةَ الْمَدْعُوِّ لَهُ وَمَعَ الشَّبَهِ بِعَطَائِهِ فَإِنْ كَانَ الْمَدْعُوُّ لَهُ قَدْ أُعْطِيَ قَبْلَ الدُّعَاءِ عَطَاءً فَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ بِالدُّعَاءِ زِيَادَةً تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ يُتَّجَهُ وُرُودُ السُّؤَالِ وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِمِثَالٍ وَهُوَ أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ : أَعْطِ زَيْدًا كَمَا أَعْطَيْتَ عَمْرًا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ سَوِّ بَيْنَهُمَا فِي مُطْلَقِ الْعَطَاءِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِقَصْدِ التَّسْوِيَةِ فِي مِقْدَارِ الْعَطِيَّةِ وَلَا صِفَتِهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ سَوِّ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الْعَطِيَّةِ وَصِفَتِهَا وَمِنْ غَيْرِ مُحَاسَبَةِ زَيْدٍ بِمَا أَعْطَيْتَهُ قَبْلَ هَذَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ سَوِّ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الْعَطِيَّةِ وَصِفَتِهَا مَعَ مُحَاسَبَةِ زَيْدٍ بِمَا أَعْطَيْتَهُ قَبْلَ هَذَا وَسُؤَالُ عِزِّ الدِّينِ لَا يَصِحُّ وُرُودُهُ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَوْلَيْنَ وَيَصِحُّ وُرُودُهُ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّالِثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّشْبِيهِ فِي الدُّعَاءِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّشْبِيهِ فِي الْخَبَرِ ) بِنَاءً عَلَى مَا زَعَمَهُ الْأَصْلُ مِنْ أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي الدُّعَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّرَجِّي وَالتَّمَنِّي وَالْإِبَاحَةِ لَا يَقَعُ إلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ خَاصَّةً بِسَبَبِ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الثَّمَانِيَةَ لَا تَتَعَلَّقُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إلَّا بِمُسْتَقْبَلٍ كَمَا مَرَّ فِي الْفَرْقِ الرَّابِعِ بِخِلَافِ الْخَبَرِ فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَلَّقُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِالْمَاضِي وَالْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ يَصِحُّ التَّشْبِيهُ فِيهِ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ بِأَنْ تُشَبِّهَ مَا وَقَعَ لَك أَمْسِ بِمَا وَقَعَ أَمْسِ لِشَخْصٍ آخَرَ ، وَتُشَبِّهَ مَا وَقَعَ لَكَ الْيَوْمَ بِمَا وَقَعَ لِغَيْرِكَ الْيَوْمَ ، وَتُشَبِّهَ مَا يَقَعُ لَكَ غَدًا بِمَا يَقَعُ لِغَيْرِكَ غَدًا وَكُلُّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ ، لَكِنْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ الشَّاطِّ بِأَنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّمَانِيَةِ مِنْ الدُّعَاءِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إلَخْ لَا تَتَعَلَّقُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إلَّا بِالْمُسْتَقْبَلِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَشْبِيهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهَا بِغَيْرِ الْمُسْتَقْبَلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : أَعْطِ زَيْدًا كَمَا أَعْطَيْتَ عَمْرًا كَمَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ سَوِّ بَيْنَهُمَا فِي مُطْلَقِ الْعَطِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِقَصْدِ التَّسْوِيَةِ لَا فِي مِقْدَارِ الْعَطِيَّةِ وَلَا فِي صِفَتِهَا أَوْ مُرَادُهُ سَوِّ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الْعَطِيَّةِ وَصِفَتِهَا مِنْ غَيْرِ مُحَاسَبَةِ زَيْدٍ بِمَا أَعْطَيْتَهُ قَبْلَ هَذَا كَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ سَوِّ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الْعَطِيَّةِ وَصِفَتِهَا مَعَ مُحَاسَبَةِ زَيْدٍ بِمَا أَعْطَيْتَهُ قَبْلَ هَذَا فَيَكُونُ قَدْ شَبَّهَ مَا أَعْطَى لِزَيْدٍ أَمْسِ أَوْ فِي الْحَالِ بِمَا أَعْطَى لِعَمْرٍو أَمْسِ أَوْ فِي الْحَالِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرِيدَ تَشْبِيهَ دُعَاءٍ بِدُعَاءٍ وَأَمْرٍ بِأَمْرٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ا هـ .

وَقَدْ مَرَّ عَنْ ابْنِ الشَّاطِّ فِي الْفَرْقِ الرَّابِعِ أَنَّ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثَ كَذَلِكَ تَأْتِي فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قِيلَ لَهُ : كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ قَالَ ؟ قُولُوا : { اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } وَأَنَّ مَا أَوْرَدَهُ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ قَاعِدَةَ الْعَرَبِ تَقْتَضِي أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ أَخْفَضَ رُتْبَةً مِنْهُ وَأَعْظَمُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ وَهَا هُنَا صَلَاةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعْنَاهَا الْإِحْسَانُ مَجَازٌ أَوْ نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ إحْسَانَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ مِنْ إحْسَانِهِ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى خِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ التَّشْبِيهُ فَمَا وَجْهُ التَّشْبِيهِ إنَّمَا يَصِحُّ وُرُودُهُ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّالِثِ لَا عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْإِشْكَالَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى التَّشْبِيهِ لَوْ وَقَعَ فِي الْخَبَرِ بِأَنْ قِيلَ إنَّ الْعَطِيَّةَ الَّتِي حَصَلَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ الْعَطِيَّةِ الَّتِي حَصَلَتْ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُثَابُ عَلَيْهِ مِنْهَا وَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ وَاجِبًا ) اعْلَمْ أَنَّ الْمَأْمُورَاتِ قِسْمَانِ مَا صُورَةُ فِعْلِهِ كَافِيَةٌ فِي تَحْصِيلِ مَصْلَحَتِهِ كَأَدَاءِ الدُّيُونِ وَرَدِّ الْغُصُوبِ وَدَفْعِ الْوَدَائِعِ وَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ وَالدَّوَابِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ صُورَةُ هَذَا الْفِعْلِ تَحْصُل مَقْصُودَةً وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ التَّقَرُّبُ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلَا نِيَّةٍ وَقَعَ ذَلِكَ وَاجِبًا مُجْزِئًا وَلَا يَلْزَمُ فِيهِ الْإِعَادَةُ وَلَا ثَوَابَ فِيهِ حَتَّى يَنْوِيَ بِهِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ فَعَلَهُ غَيْرَ قَاصِدٍ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا عَالِمٍ بِهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ثَوَابٌ وَإِنْ سَدَّ الْفِعْلُ مَسَدَّهُ وَوَقَعَ وَاجِبًا وَمِنْ هَذَا الْبَابِ النِّيَّةُ لَا يُقْصَدُ بِهَا التَّقَرُّبُ وَتَقَعُ وَاجِبَةً وَلَا تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ أُخْرَى وَكَذَلِكَ النَّظَرُ الْأَوَّلُ أَفْضَى إلَى الْعِلْمِ بِإِثْبَاتِ الصَّانِعِ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِ التَّقَرُّبُ وَالْقِسْمُ الْآخَرُ لَا يَقَعُ وَاجِبًا إلَّا مَعَ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالطِّهَارَاتِ وَجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّاتُ فَهَذَا الْقِسْمُ إذَا وَقَعَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَلَا يَقَعُ وَاجِبًا وَلَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ مَنْوِيًّا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ كَانَ قَابِلًا لِلثَّوَابِ وَهُوَ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ لَهُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ غَيْرَ أَنَّ هَاهُنَا قَاعِدَةً وَهِيَ أَنَّ الْقَبُولَ غَيْرُ الْإِجْزَاءِ وَغَيْرُ الْفِعْلِ الصَّحِيحِ فَالْمُجْزِئُ مِنْ الْأَفْعَالِ هُوَ مَا اجْتَمَعَتْ شَرَائِطُهُ وَأَرْكَانُهُ وَانْتَفَتْ مَوَانِعُهُ فَهَذَا يُبْرِئُ الذِّمَّةَ بِغَيْرِ خِلَافٍ وَيَكُونُ فَاعِلُهُ مُطِيعًا بَرِيءَ الذِّمَّةِ فَهَذَا أَمْرٌ لَازِمٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الثَّوَابُ عَلَيْهِ فَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى عَدَمِ لُزُومِهِ وَأَنَّ اللَّهَ

تَعَالَى قَدْ يُبْرِئُ الذِّمَّةَ بِالْفِعْلِ وَلَا يُثِيبُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْقَبُولِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ أَحَدُهَا : قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ ابْنَيْ آدَمَ { إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ } لَمَّا قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الْآخَرِ مَعَ أَنَّ قُرْبَانَهُ كَانَ عَلَى وَفْقِ الْأَمْرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ أَخَاهُ عَلَّلَ عَدَمَ الْقَبُولِ بِعَدَمِ التَّقْوَى وَلَوْ أَنَّ الْفِعْلَ مُخْتَلٌّ فِي نَفْسِهِ لَقَالَ لَهُ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ الْعَمَلَ الصَّحِيحَ الصَّالِحَ ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ الْقَرِيبُ لِعَدَمِ الْقَبُولِ فَحَيْثُ عَدَلَ عَنْهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ كَانَ صَحِيحًا مُجْزِئًا وَإِنَّمَا انْتَفَى الْقَبُولُ لِأَجْلِ انْتِفَاءِ التَّقْوَى فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْمُجْزِئَ قَدْ لَا يُقْبَلُ وَإِنْ بَرِئَتْ الذِّمَّةُ بِهِ وَصَحَّ فِي نَفْسِهِ وَثَانِيهَا قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ { وَإِذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فَسُؤَالُهُمَا الْقَبُولَ فِي فِعْلِهِمَا مَعَ أَنَّهُمَا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَسَلَامُهُ لَا يَفْعَلَانِ إلَّا فِعْلًا صَحِيحًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَبُولَ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ الْفِعْلِ الصَّحِيحِ وَلِذَلِكَ دَعَوْا بِهِ لِأَنْفُسِهِمَا .
وَثَالِثُهَا : الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَمَّا مَنْ أَسْلَمَ وَأَحْسَنَ فِي إسْلَامِهِ فَإِنَّهُ يُجْزَى بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ } فَاشْتَرَطَ فِي الْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ الثَّوَابُ أَنْ يُحْسِنَ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانُ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ التَّقْوَى وَهُوَ يَرِدُ عَلَى مَنْ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ } أَنَّ الْمُرَادَ الْمُؤْمِنُونَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَرَّحَ بِالْإِسْلَامِ ثُمَّ ذَكَرَ الْإِحْسَانَ فِيهِ .

وَرَابِعُهَا : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأُضْحِيَّةِ لَمَّا ذَبَحَهَا { اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ } فَسَأَلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْقَبُولَ مَعَ أَنَّ فِعْلَهُ فِي الْأُضْحِيَّةِ كَانَ عَلَى وَفْقِ الشَّرِيعَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقَبُولَ وَرَاءَ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ وَالْإِجْزَاءِ وَإِلَّا لَمَا سَأَلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ سُؤَالَ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ لَا يَجُوزُ .
وَخَامِسُهَا : أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ صُلَحَاءُ الْأُمَّةِ وَخِيَارُهَا يَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى الْقَبُولَ فِي الْعَمَلِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ طَلَبًا لِلصِّحَّةِ وَالْإِجْزَاءِ لَكَانَ هَذَا الدُّعَاءُ إنَّمَا يَحْسُنُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ فَيَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى تَيْسِيرَ الْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ وَانْتِفَاءَ الْمَوَانِعِ أَمَّا بَعْدَ الْجَزْمِ بِوُقُوعِهَا فَلَا يَحْسُنُ ذَلِكَ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ عَلَى أَنَّ الْقَبُولَ غَيْرُ الْإِجْزَاءِ وَغَيْرُ الصِّحَّةِ وَأَنَّهُ الثَّوَابُ .
وَسَادِسُهَا : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّ مِنْ الصَّلَاةِ لَمَا يُقْبَلُ نِصْفُهَا وَثُلُثُهَا وَرُبْعُهَا وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الْخَلَقُ فَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا } فَحَمَلَهُ الصُّوفِيَّةُ وَقَلِيلٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ الْإِجْزَاءِ وَأَنَّهُ تَجِبُ الْإِعَادَةُ إذَا غَفَلَ عَنْ صَلَاتِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ صَلَاتِهِ إلَّا مَا عَقَلَ مِنْهَا } وَحَكَى الْغَزَالِيُّ الْإِجْمَاعَ فِي إجْزَائِهَا إذَا عَلِمَ عَدَدَ رَكَعَاتِهَا وَأَرْكَانَهَا وَشَرَائِطَهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُشْتَغِلٍ بِالْخُشُوعِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا .
وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إنَّ الْمُرَادَ بِالثُّلُثِ وَبِالرُّبْعِ وَنَحْوِهِ الثَّوَابُ لَا الْإِجْزَاءُ وَالصِّحَّةُ فَظَهَرَ حِينَئِذٍ أَنَّ الْقَبُولَ غَيْرُ الْإِجْزَاءِ وَأَنَّ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ يُثَابُ عَلَيْهَا دُونَ بَعْضٍ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْفَرْقِ إذَا تَقَرَّرَ الْفَرْقُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ وَصْفَ التَّقْوَى شَرْطٌ فِي الْقَبُولِ بَعْدَ الْإِجْزَاءِ وَالتَّقْوَى هَاهُنَا لَيْسَ

مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُوَ مُجَرَّدُ الِاتِّقَاءِ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَإِنَّ الْفَسَقَةَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ لَا يُسَمَّوْنَ أَتْقِيَاءَ وَلَا مِنْ الْمُتَّقِينَ وَلَوْ اعْتَبَرْنَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ لَقِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ بَلْ التَّقْوَى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ الْمُبَالَغَةُ فِي اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ الْغَالِبَ عَلَى الشَّخْصِ ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَإِذَا حَصَلَ هَذَا الْوَصْفُ يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَقِدَ أَيْضًا أَنَّ الْقَبُولَ غَيْرُ لَازِمٍ بَلْ الْمَحَلُّ قَابِلٌ لَهُ لِحُصُولِ الشَّرْطِ وَأَنَّ الْقَبُولَ مَشْرُوطٌ بِالتَّقْوَى وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الشَّرْطِ حُصُولُ الْمَشْرُوطِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَحَلَّ يَبْقَى قَابِلًا لِلْقَبُولِ مِنْ غَيْرِ لُزُومِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا بِالْقَبُولِ مَعَ أَنَّهُ سَيِّدُ الْمُتَّقِينَ وَكَذَلِكَ إبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَالْمَدْعُوُّ بِهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِصَدَدِ الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ ؛ إذْ لَوْ تَعَيَّنَ وُقُوعُهُ لَكَانَ ذَلِكَ طَلَبًا لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ يُمْكِنُ حُصُولُهُ وَعَدَمُ حُصُولِهِ وَعَلَى هَذِهِ الْمَدَارِكِ وَهَذِهِ التَّقَادِيرِ يَكُونُ قَوْله تَعَالَى { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } مَشْرُوطًا بِالتَّقْوَى فَإِنَّ أَمْثَالَ الْعَشْرِ هِيَ الْمَثُوبَاتُ وَلَا تَحْصُلُ إلَّا لِلْمُتَّقِينَ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَ وَالزَّائِدَ عَلَيْهَا هِيَ مَثُوبَاتٌ تَتَضَاعَفُ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ وَصَلَاةٌ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِسِتِّمِائَةِ صَلَاةٍ } وقَوْله تَعَالَى { وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } يَقْتَضِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّقْرِيرِ أَنْ يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ مَشْرُوطًا بِالتَّقْوَى وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ

السَّلَامُ { صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ كُلَّهَا تَقْتَضِي الْمَثُوبَاتِ مُطْلَقًا وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّقْدِيرِ يَقْتَضِي أَنَّهَا لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالتَّقْوَى فَيَتَعَيَّنُ رَدُّ أَحَدِ الظَّاهِرَيْنِ إلَى الْآخَرِ وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَسَدِّ وَقَدْ بَيَّنْتُ لَكَ وَجْهَ التَّعَارُضِ وَوَجْهَ الْجَمْعِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهُوَ مَوْضِعٌ صَعْبٌ مُشْكِلٌ وَاَلَّذِي رَأَيْتُ عَلَيْهِ جَمَاعَةً مِنْ الْمُحَقِّقِينَ هُوَ مَا ذَكَرْتُهُ لَكَ فَتَأَمَّلْهُ .

قَالَ ( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُثَابُ عَلَيْهِ مِنْهَا وَإِنْ وَقَعَ وَاجِبًا اعْلَمْ أَنَّ الْمَأْمُورَاتِ قِسْمَانِ مَا صُورَةُ فِعْلِهِ كَافِيَةٌ فِي تَحْصِيلِ مَصْلَحَتِهِ كَأَدَاءِ الدُّيُونِ وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَدَفْعِ الْوَدَائِعِ وَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ النَّظَرُ الْأَوَّلُ الْمُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِثُبُوتِ الصَّانِعِ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِ التَّقَرُّبُ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي أَدَاءِ الدُّيُونِ وَشَبَهِهِ وَمِنْ أَنَّهُ لَا ثَوَابَ فِيهِ حَتَّى يَنْوِيَ بِهِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْضَارِ نِيَّةِ الِامْتِثَالِ وَلَا يَكْتَفِي بِنِيَّةِ أَدَاءِ الدُّيُونِ فَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ فَإِنَّ الَّذِي يُؤَدِّي دَيْنَهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَنْوِيَ بِأَدَائِهِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ أَوْ لَا فَإِنْ نَوَى ذَلِكَ فَلَا نِزَاعَ فِي الثَّوَابِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَنْوِيَ سَبَبًا لِلْأَدَاءِ غَيْرَ الِامْتِثَالِ كَتَخَوُّفِهِ أَنْ لَا يُدَايِنَهُ أَحَدٌ إذَا عُرِفَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْأَدَاءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أَوْ لَا فَإِنْ نَوَى بِالْأَدَاءِ شَيْئًا غَيْرَ الِامْتِثَالِ فَلَا نِزَاعَ أَيْضًا فِي عَدَمِ الثَّوَابِ .
وَإِنْ عَرَى عَنْ نِيَّةِ الِامْتِثَالِ وَنِيَّةِ سَبَبٍ غَيْرِهِ وَلَمْ يَنْوِ إلَّا مُجَرَّدَ أَدَاءِ دَيْنِهِ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا يُحْرَمُ صَاحِبُ هَذِهِ الْحَالَةِ الثَّوَابَ اسْتِدْلَالًا بِسَعَةِ بَابِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ النِّيَّةَ وَالنَّظَرَ الْأَوَّلَ لَا يَنْوِي بِهِمَا التَّقَرُّبَ صَحِيحٌ فِي النَّظَرِ الْأَوَّلِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُتَقَرَّبِ إلَيْهِ وَغَيْرُهُ صَحِيحٌ فِي النِّيَّةِ فَإِنَّ نِيَّةَ الظُّهْرِ مَثَلًا يُمْكِنُ فِيهِ التَّقَرُّبُ بِهَا ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَهَا شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَالشَّرْطُ كَالرُّكْنِ فَكَمَا يَنْوِي الرُّكْنَ

يَنْوِي الشَّرْطَ وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ لَا فِي النِّيَّةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا وَمَا ذُكِرَ مِنْ التَّسَلْسُلِ لَا يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِالنِّيَّةِ فَلَا تَسَلْسُلَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا ثَوَابَ فِيهِمَا فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْأَعْمَالِ إنَّمَا هُوَ حَدِيثُ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَمُطْلَقُهُ مُقَيَّدٌ بِإِمْكَانِ النِّيَّاتِ فَبَقِيَ مَحَلُّ امْتِنَاعِهَا غَيْرَ مُتَنَاوِلٍ لَهُ دَلِيلُ اشْتِرَاطِهَا فَيُسْتَدَلُّ عَلَى إثْبَاتِ الثَّوَابِ فِي النِّيَّةِ وَالنَّظَرِ الْأَوَّلِ بِقَاعِدَةِ سَعَةِ بَابِ الثَّوَابِ إذْ لَا مُعَارِضَ لِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( شِهَابُ الدِّينِ وَالْقِسْمُ الْآخَرُ لَا يَقَعُ وَاجِبًا إلَّا مَعَ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ إلَى قَوْلِهِ وَهُوَ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ لَهُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ صَحِيحٌ .
قَالَ ( غَيْرَ أَنَّ هَاهُنَا قَاعِدَةً وَهِيَ أَنَّ الْقَبُولَ غَيْرُ الْإِجْزَاءِ وَغَيْرُ الْفِعْلِ الصَّحِيحِ فَالْمُجْزِئُ مِنْ الْأَفْعَالِ هُوَ مَا اجْتَمَعَتْ شَرَائِطُهُ وَأَرْكَانُهُ وَانْتَفَتْ مَوَانِعُهُ وَهَذَا يُبْرِئُ الذِّمَّةَ بِغَيْرِ خِلَافٍ وَيَكُونُ فَاعِلُهُ مُطِيعًا بَرِيءَ الذِّمَّةِ فَهَذَا أَمْرٌ لَازِمٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الثَّوَابُ عَلَيْهِ فَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى عَدَمِ لُزُومِهِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُبْرِئُ الذِّمَّةَ بِالْفِعْلِ وَلَا يُثِيبُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْقَبُولِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ أَحَدُهُمَا قَوْله تَعَالَى حِكَايَةٌ عَنْ ابْنَيْ آدَمَ { إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ } إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْمُجْزِئَ قَدْ لَا يُقْبَلُ وَإِنْ بَرِئَتْ الذِّمَّةُ بِهِ وَصَحَّ فِي نَفْسِهِ ) قُلْتُ الْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةٌ لَا يَكْفِي فِيهَا مِثْلُ هَذَا الدَّلِيلِ وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهَا ظَنِّيَّةٌ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ الْمَعْنَى الَّذِي

تَأَوَّلَهُ مِنْ الْآيَةِ بِظَاهِرٍ لِاحْتِمَالِ الْآيَةِ أَنْ يُرِيدَ بِالتَّقْوَى الْإِيمَانَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْإِيمَانَ الْمُوَافِيَ عَلَيْهِ وَعَلَى تَسْلِيمِ ظُهُورِ تَأْوِيلِهِ لَعَلَّهُ كَانَ شَرْعًا لَهُمْ اشْتِرَاطُ عَدَمِ الْعِصْيَانِ فِي الْقَبُولِ ثُمَّ جَمِيعُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَضَمَّنَةُ لِوَعْدِ الْمُطِيعِ بِالثَّوَابِ مُعَارِضَةٌ لِذَلِكَ الظَّاهِرِ إنْ قُلْنَا إنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا .
قَالَ ( ثَانِيهَا قَوْلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ حِكَايَةً عَنْ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ { وَإِذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فَسُؤَالُهُمَا الْقَبُولَ فِي فِعْلِهِمَا مَعَ أَنَّهُمَا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَسَلَامُهُ لَا يَفْعَلَانِ إلَّا فِعْلًا صَحِيحًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَبُولَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي الْفِعْلِ فِي الصَّحِيحِ وَلِذَلِكَ دَعَوَا بِهِ لِأَنْفُسِهِمَا ) قُلْتُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُهُمَا ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِهِمَا بِعَاقِبَةِ أَمْرِهِمَا لِيَقْتَدِيَ بِهِمَا مَنْ لَا يَعْلَمُ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ مِنْ أَتْبَاعِهِمَا وَهَذَا الِاحْتِمَالُ حَالٌ لَا مَقَالِيٌّ وَالِاحْتِمَالَاتُ الْحَالِيَّةُ لَا تَفَاوُتَ فِيهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهَا أَظْهَرَ مِنْ بَعْضٍ فَيُسْتَدَلُّ بِالظَّاهِرِ مِنْهَا بِخِلَافِ الْحَالَاتِ الْمَقَالِيَّةِ فَإِنَّهُ تَكُونُ مُسْتَوِيَةً فِي الْمُحْتَمَلَاتِ وَغَيْرِهِ مُسْتَوِيَةً فِي الظَّاهِرِ وَالْمُؤَوَّلَاتِ .
قَالَ ( وَثَالِثُهَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَمَّا مَنْ أَسْلَمَ وَأَحْسَنَ فِي إسْلَامِهِ فَإِنَّهُ يُجْزَى بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ } فَاشْتُرِطَ فِي الْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ الثَّوَابُ أَنْ يُحْسِنَ فِي إسْلَامِهِ وَالْإِحْسَانُ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ التَّقْوَى وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ } إنَّ الْمُرَادَ الْمُؤْمِنُونَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَرَّحَ

بِالْإِسْلَامِ ثُمَّ ذَكَرَ الْإِحْسَانَ فِيهِ ) قُلْتُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْإِحْسَانِ الْمُوَافَاةَ عَلَى الْإِيمَانِ لَا اجْتِنَابَ الْعِصْيَانِ ، وَالْمُوَافَاةُ عَلَى الْإِيمَانِ هُوَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْأَعْمَالِ الَّذِي لَا شَرْطَ لِثُبُوتِ الْأَعْمَالِ سِوَاهُ فَكُلُّ مَا وَرَدَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ وَمِمَّا يَقْتَضِي اشْتِرَاطَ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى صِحَّةِ الْعَمَلِ وَبَرَاءَةَ الذِّمَّةِ فَهُوَ مُتَأَوَّلٌ بِأَنَّهُ الْمُرَادُ هَذَا إنْ سُلِّمَ ظُهُورُ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ فِي غَيْرِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ .
قَالَ ( وَرَابِعُهُمَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُضْحِيَّةِ لَمَّا ذَبَحَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ } فَسَأَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْقَبُولَ إلَى قَوْلِهِ فَإِنَّ سُؤَالَ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ لَا يَجُوزُ ) قُلْتُ الِاحْتِمَالُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ كَالِاحْتِمَالِ فِي قَوْلِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
قَالَ ( وَخَامِسُهَا أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ صُلَحَاءُ الْأُمَّةِ وَخِيَارُهَا يَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى الْقَبُولَ فِي الْعَمَلِ إلَى آخِرِهِ ) قُلْتُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا حُصُولَ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْمُوَافَاةُ عَلَى الْإِيمَانِ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ أَوْ طَلَبُوا الْمُسَامَحَةَ فِي إغْفَالِ بَعْضِ شُرُوطِ الْأَعْمَالِ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِتَحْصِيلِ ذَلِكَ عَلَى الْكَمَالِ .
قَالَ ( وَسَادِسُهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَّ مِنْ الصَّلَاةِ لَمَا يُقْبَلُ نِصْفُهَا وَثُلُثُهَا وَرُبْعُهَا وَأَنَّ مِنْهَا لَمَا يُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الْخَلَقُ فَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا } إلَى آخِرِ قَوْلِهِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْفَرْقِ ) قُلْتُ قَوْلُهُ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِثْلَهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الثَّوَابُ مَعَ تَقْدِيرِ كَمَالِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَجَمِيعِ أَوْصَافِهَا خِلَافُ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَأَنَّ مِنْهَا لَمَا يُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الْخَلَقُ

فَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا } إذْ لَوْ كَانَتْ مُسْتَوْفِيَةً لِشُرُوطِهَا وَأَوْصَافِهَا لَمْ يَكُنْ لِتَشْبِيهِهَا بِالثَّوْبِ الْخَلَقِ وَجْهٌ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إنَّمَا هُوَ مَغْزَاهُ التَّحْذِيرُ مِنْ التَّهَاوُنِ بِشُرُوطِهَا وَالتَّحْرِيضُ عَلَى مُرَاعَاةِ أَحْوَالِهَا فَلَا دَلِيلَ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا أَرَادَ لَا بِظَاهِرٍ وَلَا بِنَصٍّ أَلْبَتَّةَ .
قَالَ ( وَإِذَا تَقَرَّرَ الْفَرْقُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ وَصْفَ التَّقْوَى شَرْطٌ فِي الْقَبُولِ بَعْدَ الْإِجْزَاءِ إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ الْغَالِبَ عَلَى الشَّخْصِ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ فِي أَنَّ التَّقْوَى شَرْطٌ فِي الْقَبُولِ مُسَلَّمٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ وَصْفَ التَّقْوَى فِي الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ الْمُبَالَغَةُ فِي اجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ وَفِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ مُسَلَّمٌ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّقْوَى الْمُشْتَرَطَةِ فِي الْقَبُولِ التَّقْوَى الْعُرْفِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ لِمُعَارَضَةِ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الْمُتَكَاثِرَةِ الْمُتَظَافِرَةِ بِتَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّحِيحَةِ ، وَلَيْسَ كَوْنُ التَّقْوَى عُرْفًا مَا فَسَّرَهَا بِهِ بِالْمُقَاوِمِ فِي الظُّهُورِ لِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ هَذَا إنْ لَمْ تَقُلْ بِانْتِهَاءِ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ إلَى الْقَطْعِ بِلُزُومِ تَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُسْتَوْفِيَةِ لِشُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَالْقَطْعُ بِذَلِكَ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي وَمَنْ تَتَبَّعَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ وَتَأَمَّلَ مَسَاقَ الْكَلَامِ فِيهِ عَلِمَ صِحَّةَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَإِذَا حَصَلَ هَذَا الْوَصْفُ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ أَيْضًا أَنَّ الْقَبُولَ غَيْرُ لَازِمٍ إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ يُمْكِنُ حُصُولُهُ وَعَدَمُ حُصُولِهِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الشَّرْطِ حُصُولُ الْمَشْرُوطِ صَحِيحٌ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ حُصُولِ الثَّوَابِ بَلْ يَلْزَمُ حُصُولُهُ لَا

لِمُجَرَّدِ حُصُولِ الشَّرْطِ بَلْ لِلْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى حُصُولِهِ وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ كَوْنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا بِالْقَبُولِ قَدْ تَقَدَّمَ تَأْوِيلُهُ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْمَدْعُوَّ بِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِصَدَدِ الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ إنْ أَرَادَ بِاعْتِبَارِ عِلْمِنَا فَمُسَلَّمٌ وَإِنْ أَرَادَ مُطْلَقًا فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ ؛ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ تَعَلَّقَ أَزَلًا بِمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ لَوْ تَعَيَّنَ وُقُوعُهُ لَكَانَ ذَلِكَ طَلَبًا لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ فَكَلَامٌ لَيْسَ لَهُ حَاصِلٌ فَإِنَّ الدُّعَاءَ مَشْرُوعٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَالْمَدْعُوُّ بِهِ مُسْتَقَرٌّ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى حُصُولُهُ أَوْ عَدَمُ حُصُولِهِ فَعَلَى تَقْدِيرِ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِحُصُولِهِ يَكُونُ الدُّعَاءُ طَلَبًا لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَعَلَى تَقْدِيرِ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِ حُصُولِهِ يَكُونُ الدُّعَاءُ طَلَبًا لِتَحْصِيلِ الْمُمْتَنِعِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ فِي بَادِي الرَّأْيِ مُحَالٌ .
وَذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ الطَّلَبُ عَقْلًا جَوَازَ الْمَطْلُوبِ بَلْ يَجُوزُ طَلَبُ الْجَائِزِ وَغَيْرِ الْجَائِزِ فَلَا فَرْقَ فِي الْعَقْلِ بَيْنَ طَلَبِ تَحْصِيلِ الْوَاقِعِ الْحَاصِلِ وَبَيْنَ طَلَبِ تَحْصِيلِ غَيْرِهِ فَإِنْ ثَبَتَ فِي ذَلِكَ فَرْقٌ شَرْعِيٌّ فَذَاكَ وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بِوَجْهٍ .
قَالَ ( وَعَلَى هَذِهِ الْمَدَارِكِ وَهَذِهِ التَّقَادِيرِ يَكُونُ قَوْله تَعَالَى { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } مَشْرُوطًا بِالتَّقْوَى إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَشْرُوطٌ بِالتَّقْوَى مُسَلَّمٌ لَكِنْ بِمَعْنَى الْمُوَافَاةِ عَلَى الْإِيمَانِ لَا بِمَعْنَى مُجَانَبَةِ الْعِصْيَانِ .
قَالَ ( فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ كُلَّهَا تَقْتَضِي الْمَثُوبَاتِ مُطْلَقًا وَمَا تَقَدَّمَ وَمِنْ التَّقْرِيرِ يَقْتَضِي

أَنَّهَا لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالتَّقْوَى ) قُلْتُ لَا يُقَاوِمُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّقْرِيرِ تِلْكَ الظَّوَاهِرَ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ الْقَطْعَ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهَا قَدْ بَلَغَتْهُ فَإِنَّ الظَّوَاهِرَ إذَا تَظَاهَرَتْ وَتَكَاثَرَتْ وَلَمْ يُعَارِضْهَا سِوَاهَا حَصَلَ الْقَطْعُ بِمَعْنَاهَا وَهَذِهِ الظَّوَاهِرُ وَقَدْ تَظَاهَرَتْ وَتَكَاثَرَتْ وَلَمْ يُعَارِضْهَا سِوَاهَا فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ مُعَارِضًا لَيْسَ بِمُعَارِضٍ لِاسْتِوَاءِ احْتِمَالَاتِهِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ .
قَالَ ( فَيَتَعَيَّنَ رَدُّ أَحَدِ الظَّاهِرَيْنِ إلَى الْآخَرِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَسَدِّ ) قُلْتُ إنْ سُلِّمَ عَدَمُ الْقَطْعِ فَلَيْسَ الْوَجْهُ الْأَسَدُّ مَا ذَكَرَهُ وَاخْتَارَهُ وَإِنْ لَمْ يُسَلَّمْ فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ الْأَسَدُّ .
قَالَ ( وَقَدْ بَيَّنْت لَك وَجْهَ التَّعَارُضِ وَوَجْهَ الْجَمْعِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهُوَ مَوْضِعٌ صَعْبٌ مُشْكِلٌ ) قُلْتُ قَدْ تَبَيَّنَ مَا قَالَ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَتَأَمَّلْتُهُ كَمَا أَمَرَ وَلَمْ أَجِدْ مَا وَجَدَ مِنْ الصُّعُوبَةِ وَالْإِشْكَالِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ذِي الْمِنَّةِ وَالْإِفْضَالِ .
قَالَ ( وَاَلَّذِي رَأَيْتُ عَلَيْهِ جَمَاعَةً مِنْ الْمُحَقِّقِينَ هُوَ مَا ذَكَرْتُهُ فَتَأَمَّلْهُ ) قُلْتُ لَعَلَّهُمْ مُحَقِّقُونَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَمَّا فِي هَذِهِ فَلَا

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُثَابُ عَلَيْهِ مِنْهَا وَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ وَاجِبًا ) اعْلَمْ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا لِلْأَصْلِ مِنْ أَنَّ الْقَبُولَ غَيْرُ الْإِجْزَاءِ وَغَيْرُ الْفِعْلِ الصَّحِيحِ وَأَنَّ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ يُثَابُ عَلَيْهَا وَيَكُونُ مَقْبُولًا دُونَ بَعْضٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُبَرِّئُ الذِّمَّةَ بِالْفِعْلِ وَلَا يُثِيبُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَكْمِلًا لِشُرُوطِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَرْطَ تَحْقِيقِ الْقَبُولِ وَالثَّوَابِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا قَصْدُ الِامْتِثَالِ بِالْعَمَلِ وَثَانِيهِمَا التَّقْوَى الْعُرْفِيَّةُ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَأْمُورَاتِ قِسْمَانِ الْأَوَّلُ مَا صُورَةُ فِعْلِهِ كَافِيَةٌ فِي تَحْصِيلِ مَصْلَحَتِهِ كَأَدَاءِ الدُّيُونِ وَرَدِّ الْغُصُوبِ وَدَفْعِ الْوَدَائِعِ وَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ وَالدَّوَابِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَسُدُّ فِعْلُهُ مَسَدَّهُ وَيَقَعُ وَاجِبًا مُجْزِئًا لَا يَلْزَمُ فِيهِ الْإِعَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصَدَ بِهِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا عَالِمًا بِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ مَقْبُولًا إلَّا إذَا نَوَى بِهِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ هَذَا الْبَابِ النِّيَّةُ لَا يُقْصَدُ بِهَا التَّقَرُّبُ وَتَقَعُ وَاجِبَةً وَلَا تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ أُخْرَى لِئَلَّا يَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ ، وَكَذَلِكَ النَّظَرُ الْأَوَّلُ الْمُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِإِثْبَاتِ الصَّانِعِ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِ التَّقَرُّبُ لِمَا مَرَّ فِي الْفَرْقِ الثَّامِنَ عَشَرَ وَالْقِسْمُ الثَّانِي مَا لَا تَكُونُ صُورَةُ فِعْلِهِ كَافِيَةً فِي تَحْصِيلِ مَصْلَحَتِهِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالطَّهَارَاتِ وَجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّاتُ فَلَا يَقَعُ وَاجِبًا مُجْزِئًا بِحَيْثُ لَا تَلْزَمُ فِيهِ الْإِعَادَةُ إلَّا إذَا وَقَعَ مَنْوِيًّا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ غَيْرَ أَنَّ هَا هُنَا قَاعِدَةً وَهِيَ أَنَّ الثَّوَابَ

وَالْقَبُولَ غَيْرُ لَازِمٍ لِصِحَّةِ الْفِعْلِ وَإِجْزَائِهِ كَمَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ أَحَدُهَا : أَنَّ ابْنَيْ آدَمَ لَمَّا قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الْآخَرِ مَعَ أَنَّ قُرْبَانَهُ كَانَ عَلَى وَفْقِ الْأَمْرِ بِدَلِيلِ أَنَّ أَخَاهُ عَلَّلَ عَدَمَ الْقَبُولِ بِعَدَمِ التَّقْوَى كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ } إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَفْقِ الْأَمْرِ بَلْ كَانَ مُخْتَلًّا فِي نَفْسِهِ لَقَالَ لَهُ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ الْعَمَلَ الصَّحِيحَ الصَّالِحَ ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ الْقَرِيبُ لِعَدَمِ الْقَبُولِ فَدَلَّ عُدُولُهُ عَنْهُ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ كَانَ صَحِيحًا مُجْزِئًا وَإِنَّمَا انْتَفَى عَنْهُ الْقَبُولُ لِأَجْلِ انْتِفَاءِ شَرْطِهِ الَّذِي هُوَ التَّقْوَى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَأَنَّ الْعَمَلَ الْمُجْزِئَ قَدْ لَا يُقْبَلُ وَإِنْ بَرَأَتْ الذِّمَّةُ بِهِ وَصَحَّ فِي نَفْسِهِ .
وَثَانِيهَا : أَنَّ سُؤَالَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ الْقَبُولَ فِي فِعْلِهِمَا كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا بِقَوْلِهِ { وَإِذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وَهُمَا لَا يَفْعَلَانِ إلَّا فِعْلًا صَحِيحًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَبُولَ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْفِعْلِ الصَّحِيحِ بَلْ الْمَحَلُّ قَابِلٌ لَهُ لِحُصُولِ شَرْطِهِ الَّذِي هُوَ التَّقْوَى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الشَّرْطِ حُصُولُ الْمَشْرُوطِ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّ اشْتِرَاطَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ الثَّوَابُ أَنْ يُحْسِنَ فِي الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ { أَمَّا مَنْ أَسْلَمَ وَأَحْسَنَ فِي إسْلَامِهِ فَإِنَّهُ يُجْزَى بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِحْسَانَ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ التَّقْوَى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ الَّتِي هِيَ

الْمُبَالَغَةُ فِي اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ لَا بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ الِاتِّقَاء لِلْمَكْرُوهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ } الْمُؤْمِنُونَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَرَّحَ بِالْإِسْلَامِ ثُمَّ ذَكَرَ الْإِحْسَانَ فِيهِ .
وَرَابِعُهَا : أَنَّ سُؤَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَبُولَ فِي الْأُضْحِيَّةِ لَمَّا ذَبَحَهَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ } مَعَ أَنَّ فِعْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُضْحِيَّةِ كَانَ عَلَى وَفْقِ الشَّرِيعَةِ قَطْعًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَبُولَ وَرَاءَ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ وَالْإِجْزَاءِ وَأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ وَإِنْ حَصَلَ شَرْطُهُ الَّذِي هُوَ التَّقْوَى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ ؛ لِأَنَّهُ سَيِّدُ الْمُتَّقِينَ وَإِلَّا لَمَا سَأَلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ سُؤَالَ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ لَا يَجُوزُ .
وَخَامِسُهَا : أَنَّ صُلَحَاءَ الْأُمَّةِ وَخِيَارَهَا لَمْ يَزَالُوا يَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى الْقَبُولَ فِي الْعَمَلِ بَعْدَ فِعْلِهِ وَفِي أَثْنَائِهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ طَلَبًا لِلصِّحَّةِ وَالْإِجْزَاءِ لَكَانَ إنَّمَا يَحْسُنُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ فَيَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى تَيْسِيرَ الْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ وَانْتِفَاءَ الْمَوَانِعِ ، وَأَمَّا بَعْدَ الْجَزْمِ بِوُقُوعِهَا فَإِنَّمَا يَحْسُنُ إذَا كَانَ الْقَبُولُ غَيْرَ الْإِجْزَاءِ وَغَيْرَ الصِّحَّةِ وَأَنَّهُ الثَّوَابُ .
وَسَادِسُهَا : أَنَّ حَمْلَ الصُّوفِيَّةِ وَقَلِيلٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مِنْ الصَّلَاةِ لَمَا يَقْبَلُ اللَّهُ نِصْفَهَا وَثُلُثَهَا وَرُبْعَهَا وَأَنَّ مِنْهَا لَمَا يُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الْخَلَقُ فَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا } عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ وَأَنَّهُ تَجِبُ الْإِعَادَةُ إذَا غَفَلَ عَنْ صَلَاتِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ

مِنْ صَلَاتِهِ إلَّا مَا عَقَلَ مِنْهَا } مَعَ حِكَايَةِ الْغَزَالِيِّ الْإِجْمَاعَ فِي إجْزَائِهَا إذَا عَلِمَ عَدَدَ رَكَعَاتِهَا وَأَرْكَانَهَا وَشَرَائِطَهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُشْتَغِلٍ بِالْخُشُوعِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا .
وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ : إنَّ الْمُرَادَ بِالثُّلُثِ وَبِالرُّبْعِ وَنَحْوِهِ الثَّوَابُ وَالْإِجْزَاءُ لَا الصِّحَّةُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْقَبُولَ غَيْرُ الْإِجْزَاءِ وَأَنَّ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ يُثَابُ عَلَيْهَا دُونَ بَعْضٍ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْفَرْقِ وَكَوْنُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَدَارِكِ وَالتَّقَارِيرِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَثُوبَاتِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالتَّقْوَى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَإِنْ عَارَضَهُ ظَوَاهِرُ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ وَصَلَاةٌ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِسِتِّمِائَةِ صَلَاةٍ } وقَوْله تَعَالَى { وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } مِنْ حَيْثُ إنَّ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ تَقْتَضِي حُصُولَ الْمَثُوبَاتِ مُطْلَقًا فَإِنَّ أَمْثَالَ الْعَشْرِ حَسَنَاتٍ وَالْأَلْفِ صَلَاةٍ وَالزَّائِدِ عَلَيْهَا وَالسِّتِّمِائَةِ صَلَاةٍ وَالْمُضَاعَفَةِ لِمَنْ يَشَاءُ تَعَالَى وَالْخَمْسِ أَوْ السَّبْعِ وَالْعِشْرِينَ دَرَجَةً هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ مَثُوبَاتٍ تَتَضَاعَفُ إلَّا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ رَدُّ أَحَدِ الظَّاهِرَيْنِ إلَى الْآخَرِ وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَسَدِّ بِحَمْلِ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ تِلْكَ الْمَدَارِكُ وَالتَّقَارِيرُ مِنْ اشْتِرَاطِ التَّقْوَى فِي الْجَمِيعِ هَذَا مَا لِلْأَصْلِ ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ تَرَتُّبَ الثَّوَابِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُسْتَوْفِيَةِ لِشُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا مَشْرُوطٌ كَمَا هُوَ

مُقْتَضَى تِلْكَ الْمَدَارِكِ وَالتَّقَارِيرِ بِالتَّقْوَى الْعُرْفِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْمُبَالَغَةُ فِي اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَإِجْزَائِهِ حَيْثُ قَالَ : الصَّحِيحُ عِنْدِي خِلَافُهُ وَإِنْ قَالَ : إنَّهُ رَأَى عَلَيْهِ جَمَاعَةً مِنْ الْمُحَقِّقِينَ أَوْ لَعَلَّهُمْ مُحَقِّقُونَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَمَّا فِي هَذِهِ فَلَا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى الْقَطْعِ فَتَتَعَارَضُ ظَوَاهِرُ الْأَدِلَّةِ الْمُتَكَاثِرَةِ الْمُتَظَافِرَةِ بِتَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّحِيحَةِ بِدُونِ اشْتِرَاطِ التَّقْوَى الْعُرْفِيَّةِ وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّقْوَى الْعُرْفِيَّةِ جَرْيًا عَلَى قَاعِدَةِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ .
لَكِنْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ الشَّاطِّ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ بِعَدَمِ تَرْتِيبِ الثَّوَابِ عَلَى صِحَّةِ الْعَمَلِ بِلُزُومِ تَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُسْتَوْفِيَةِ لِشُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا هُوَ أَنَّ مَا تَقْتَضِيهِ تِلْكَ الْمَدَارِكُ وَالتَّقَارِيرُ مِنْ اشْتِرَاطِ التَّقْوَى الْعُرْفِيَّةِ لَا يُقَاوِمُ تِلْكَ الظَّوَاهِرَ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ الْقَطْعَ حَتَّى يَتَعَيَّنَ دَفْعُ التَّعَارُضِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَاعِدَةِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الظَّوَاهِرَ الْمَذْكُورَةَ قَدْ بَلَغَتْ الْقَطْعَ فَإِنَّهَا قَدْ تَظَافَرَتْ وَتَكَاثَرَتْ وَلَمْ يُعَارِضْهَا سِوَاهَا وَلَيْسَ مَا ذَكَرَ أَنَّهُ مُعَارِضٌ بِمُعَارِضٍ لِاسْتِوَاءِ احْتِمَالَاتِهِ أَمَّا قَوْله تَعَالَى حِكَايَتُهُ عَنْ ابْنَيْ آدَمَ { إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ } فَلَيْسَ الْمَعْنَى الَّذِي تَأَوَّلَهُ بِهِ بِظَاهِرٍ لِاحْتِمَالِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّقْوَى الْإِيمَانَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْإِيمَانُ الْمُوَافِي عَلَيْهِ وَعَلَى تَسْلِيمِ ظُهُورِ تَأْوِيلِهِ لَعَلَّهُ كَانَ شَرْعًا لَهُمْ اشْتِرَاطُ عَدَمِ الْعِصْيَانِ فِي الْقَبُولِ وَكَوْنُ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَحَلُّهُ إذَا لَمْ يُعَارَضْ وَجَمِيعُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ

الْمُتَضَمِّنَةِ لِوَعْدِ الْمُطِيعِ بِالثَّوَابِ مُعَارِضَةٌ لِذَلِكَ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ { وَإِذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُهُمَا ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِهِمَا بِعَاقِبَةِ أَمْرِهِمَا لِيَقْتَدِيَ بِهِمَا مَنْ لَا يَعْلَمُ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ فَيَتْبَعُهُمَا فِي ذَلِكَ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ حَالِيٌّ لَا مَقَالِيٌّ وَالِاحْتِمَالَاتُ الْحَالِيَّةُ لَا تَفَاوُتَ فِيهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهَا أَظْهَرَ مِنْ بَعْضٍ فَيُسْتَدَلُّ بِالظَّاهِرِ مِنْهَا بِخِلَافِ الْحَالَاتِ الْمَقَالِيَّةِ فَإِنَّهُ تَكُونُ مُسْتَوِيَةً فِي الْمُحْتَمَلَاتِ وَغَيْرَ مُسْتَوِيَةٍ فِي الظَّاهِرِ وَالْمُؤَوَّلَاتِ ، وَأَمَّا مَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَّا مَنْ أَسْلَمَ وَأَحْسَنَ فِي إسْلَامِهِ فَإِنَّهُ يُجْزَى بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ } فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْإِحْسَانِ الْمُوَافَاةَ عَلَى الْإِيمَانِ الَّذِي لَا شَرْطَ لِثُبُوتِ الْأَعْمَالِ سِوَاهُ بَلْ لَوْ سُلِّمَ ظُهُورُ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ فِي اشْتِرَاطِ غَيْرِهِ لَكَانَ كُلُّ مَا وَرَدَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ مِمَّا يَقْتَضِي اشْتِرَاطَ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى صِحَّةِ الْعَمَلِ وَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مُتَأَوَّلًا بِأَنَّهُ الْمُرَادُ لِاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي مَعَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُضْحِيَّةِ لَمَّا ذَبَحَهَا { اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ } فَالِاحْتِمَالُ فِيهِ كَالِاحْتِمَالِ فِي قَوْلِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَأَمَّا كَوْنُ صُلَحَاءِ الْأُمَّةِ وَخِيَارِهَا لَمْ يَزَالُوا يَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى الْقَبُولَ فِي الْعَمَلِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا حُصُولَ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْمُوَافَاةُ عَلَى الْإِيمَانِ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ أَوْ طَلَبُوا الْمُسَامَحَةَ فِي إغْفَالِ بَعْضِ شُرُوطِ الْأَعْمَالِ

لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ لِتَحْصِيلِ ذَلِكَ عَلَى الْكَمَالِ .
وَأَمَّا قَوْلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مِنْ الصَّلَاةِ لَمَا يُقْبَلُ نِصْفُهَا وَثُلُثُهَا وَرُبْعُهَا وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الْخَلَقُ فَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا } فَلَا دَلِيلَ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ فِيهِ عَلَى مَا أَوْرَدَ لَا بِظَاهِرٍ وَلَا بِبَاطِنٍ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَمْ تَكُنْ مُسْتَوْفِيَةً لِشُرُوطِهَا وَأَوْصَافِهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يُلَفُّ كَمَا تُلَفُّ إلَخْ إذْ لَوْ كَانَتْ مُسْتَوْفِيَةً لِشُرُوطِهَا وَأَوْصَافِهَا لَمْ يَكُنْ لِشَبَهِهَا بِالثَّوْبِ الْخَلَقِ وَجْهٌ .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَغْزَى هَذَا الْحَدِيثِ إنَّمَا هُوَ التَّحْذِيرُ مِنْ التَّهَاوُنِ بِشُرُوطِهَا وَالتَّحْرِيضُ عَلَى مُرَاعَاةِ أَحْوَالِهَا فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الثَّوَابُ مَعَ تَقْدِيرِ كَمَالِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَجَمِيعِ أَوْصَافِهَا خِلَافُ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ كَمَا عَلِمْت يُنَافِي قَوْلَهُ إنَّ أَدَاءَ الدُّيُونِ وَشَبَهَهُ لَا ثَوَابَ فِيهِ حَتَّى يَنْوِيَ بِهِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ قَالَ : إنْ أَرَادَ بِهِ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْضَارِ نِيَّةِ الِامْتِثَالِ وَلَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ نِيَّةِ أَدَاءِ الدُّيُونِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا يُحْرَمُ صَاحِبُ هَذِهِ الْحَالَةِ الثَّوَابَ اسْتِدْلَالًا بِقَاعِدَةِ سَعَةِ بَابِ الثَّوَابِ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا ثَوَابَ لَهُ إذَا نَوَى سَبَبًا لِلْأَدَاءِ غَيْرَ الِامْتِثَالِ كَتَخَوُّفِهِ أَنْ لَا يُدَايِنَهُ أَحَدٌ إذَا عُرِفَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْأَدَاءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَمُسَلَّمٌ إذْ لَا نِزَاعَ فِي عَدَمِ الثَّوَابِ حِينَئِذٍ لَكِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ وَثَالِثًا فِي قَوْلِهِ إنَّ النِّيَّةَ وَالنَّظَرَ الْأَوَّلَ وَلَا يَنْوِي بِهِمَا التَّقَرُّبَ حَيْثُ قَالَ : هَذَا صَحِيحٌ فِي النَّظَرِ الْأَوَّلِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُتَقَرَّبِ إلَيْهِ وَغَيْرُ صَحِيحٍ فِي النِّيَّةِ فَإِنَّ نِيَّةَ الظُّهْرِ مَثَلًا يُمْكِنُ فِيهِ التَّقَرُّبُ بِهَا ؛ لِأَنَّ

الشَّارِعَ جَعَلَهَا شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَالشَّرْطُ كَالرُّكْنِ فَكَمَا يَنْوِي الرُّكْنَ يَنْوِي الشَّرْطَ وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ لَا فِي النِّيَّةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا ، وَلَا يَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ إلَّا لَوْ شُرِعَ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِالنِّيَّةِ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهَا لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا شَرْطًا فَافْهَمْ .
وَرَابِعًا : فِي قَوْلِهِ إنَّ النِّيَّةَ وَالنَّظَرَ لَا ثَوَابَ فِيهِمَا حَيْثُ قَالَ : يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ الثَّوَابِ فِيهِمَا قَاعِدَةُ سَعَةِ بَابِ الثَّوَابِ ؛ إذْ لَا يُعَارِضُهَا حَدِيثُ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } وَمَا فِي مَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَهُ مُقَيَّدٌ بِإِمْكَانِ النِّيَّاتِ فَبَقِيَ مَحَلُّ امْتِنَاعِهَا غَيْرَ مُتَنَاوِلٍ لَهُ دَلِيلُ اشْتِرَاطِهَا فَافْهَمْ ا هـ .
قُلْتُ : وَقَاعِدَةُ إنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَكُونُ مُعْتَبَرَةً حَتَّى تُقْرَنَ بِهَا الْمَقَاصِدُ مُسْتَمِرَّةٌ فِي بَابِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ خَاصَّةً لَا فِي بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ ، قَالَ الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي مُوَافَقَاتِهِ : وَإِذَا عَرَّيْت الْأَفْعَالَ وَالتُّرُوكَ عَنْ الْمَقَاصِدِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ ، وَالدَّلِيلُ عَنْ ذَلِكَ أُمُورٌ : أَحَدُهَا : مَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ وَهُوَ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ وَالْأَدِلَّةُ عَلَيْهِ لَا تَقْصُرُ عَنْ مَبْلَغِ الْقَطْعِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْأَعْمَالِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَحْسُوسَةٌ فَقَطْ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا عَلَى حَالٍ إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِهِ فِي بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ خَاصَّةً أَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَالْقَاعِدَةُ مُسْتَمِرَّةٌ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُعْتَبَرَةً حَتَّى تَقْتَرِنَ بِهَا الْمَقَاصِدُ كَانَ مُجَرَّدُهَا فِي الشَّرْعِ بِمَثَابَةِ حَرَكَاتِ الْعَجْمَاوَاتِ وَالْجَمَادَاتِ وَالْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا عَقْلًا وَلَا سَمْعًا فَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِثْلَهَا .
وَالثَّانِي : مَا ثَبَتَ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِ الْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ وَالصَّبِيِّ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَأَنَّهَا لَا حُكْمَ لَهَا فِي الشَّرْعِ

فَلَا يُقَالُ فِيهَا جَائِزٌ أَوْ مَمْنُوعٌ أَوْ وَاجِبٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا لَا اعْتِبَارَ بِهَا مِنْ الْبَهَائِمِ وَفِي الْقُرْآنِ { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } وَقَالَ { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ : قَدْ فَعَلْت ، وَفِي مَعْنَاهُ رُوِيَ الْحَدِيثُ أَيْضًا { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ فَذَكَرَ الصَّبِيَّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ حَتَّى يُفِيقَ } فَجَمِيعُ هَؤُلَاءِ لَا قَصْدَ لَهُمْ وَهِيَ الْعِلَّةُ فِي رَفْعِ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ عَنْهُمْ .
وَالثَّالِثُ : الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الشَّرِيعَةِ وَتَكْلِيفُ مَنْ لَا قَصْدَ لَهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ وَالْمُبَاحُ وَإِنْ كَانَ لَا تَكْلِيفَ فِيهِ إلَّا تَعْلِيقَ التَّخْيِيرِ وَمَتَى صَحَّ تَعَلُّقُ التَّخْيِيرِ صَحَّ تَعَلُّقُ الطَّلَبِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الْمُخْبِرِ وَقَدْ فَرَضْنَاهُ غَيْرَ قَاصِدٍ هَذَا خُلْفٌ .
وَأَمَّا تَعَلُّقُ الْغَرَامَاتِ وَالزَّكَاةِ بِالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ خِطَابِ الْوَضْعِ لَا خِطَابِ التَّكْلِيفِ الَّذِي كَلَامُنَا فِيهِ ، وَأَمَّا تَعَلُّقُ خِطَابِ التَّكْلِيفِ بِالسَّكْرَانِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } فَإِمَّا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَدْخَلَ السُّكْرَ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ كَالْقَاصِدِ لِرَفْعِ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ فَعُومِلَ بِنَقِيضِ الْمَقْصُودِ وَلَمْ يَكُنْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ كَمَا حُجِرَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إلَّا فِي خُصُوصِ عُقُودِهِ وَبُيُوعِهِ ، وَإِمَّا ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ سَبَبٌ لِمَفَاسِدَ كَثِيرَةٍ فَصَارَ اسْتِعْمَالُهُ تَسَبُّبًا فِي تِلْكَ الْمَفَاسِدِ فَيُؤَاخِذُهُ الشَّرْعُ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهَا كَمَا وَقَعَتْ مُؤَاخَذَةُ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ بِكُلِّ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا وَكَمَا يُؤَاخَذُ الزَّانِي بِمُقْتَضَى الْمَفْسَدَةِ فِي اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ غَيْرُ الْإِيلَاجِ الْمُحَرَّمِ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ا هـ بِتَصَرُّفٍ فَافْهَمْ

.
وَحَاصِلُ مَا لِابْنِ الشَّاطِّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الشَّرْعِ وَاجِبٌ صَحِيحٌ مُجْزِئٌ إلَّا وَهُوَ مَقْبُولٌ مُثَابٌ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَاعِدَةِ سَعَةِ بَابِ الثَّوَابِ وَالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِوَعْدِ الْمُطِيعِ بِالثَّوَابِ بِدُونِ أَدْنَى مُعَارِضٍ صَحِيحٍ سَالِمٍ مِنْ الِاحْتِمَالِ وَبِالْجُمْلَةِ فَفِي لُزُومِ الثَّوَابِ وَالْقَبُولِ لِلْعَمَلِ الصَّحِيحِ الْمُجْزِئِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ فِي الثَّوَابِ وَالْقَبُولِ هُوَ التَّقْوَى بِمَعْنَى الْإِيمَانِ الْمُوَافِي عَلَيْهِ وَعَدَمُ لُزُومِ الثَّوَابِ وَالْقَبُولِ لِلْعَمَلِ الْمَذْكُورِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَرْطَ الثَّوَابِ وَالْقَبُولِ أَمْرٌ إنْ قَصَدَ الِامْتِثَالَ وَالتَّقْوَى الْعُرْفِيَّةَ الَّتِي هِيَ الْمُبَالَغَةُ فِي اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ قَوْلَا ابْنِ الشَّاطِّ وَالشِّهَابِ ، وَعَلَى الثَّانِي تَتَحَقَّقُ الْقَاعِدَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا قَاعِدَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ صَحِيحٍ مُجْزِئٍ يُثَابُ عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فَتَأَمَّلْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَائِدَتَانِ ) الْأُولَى مَا ذُكِرَ مِنْ الْمُضَاعَفَةِ صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الثَّوَابِ فَقَطْ وَلَا يَتَعَدَّى ذَلِكَ إلَى الْإِجْزَاءِ عَنْ الْفَوَائِتِ حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَيْهِ صَلَاتَانِ فَصَلَّى فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ أَوْ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ أَوْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى صَلَاةً لَمْ تُجْزِهِ عَنْهُمَا قَطْعًا خِلَافًا لِمَا يَغْتَرُّ بِهِ بَعْضُ الْجَهَلَةِ أَفَادَهُ شَيْخُنَا نَقْلًا عَنْ الْوَالِدِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى كِتَابِهِ تَوْضِيحِ الْمَنَاسِكِ ، وَنَقَلَ الصَّاوِيُّ فِي مَنَاسِكِهِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي رِسَالَتِهِ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَرَمِ لَا يَخْتَصُّ بِالصَّلَوَاتِ بَلْ كُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا الْعَبْدُ فِيهِ بِمِائَةِ أَلْفٍ فَمَنْ صَامَ فِيهِ يَوْمًا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ صَوْمَ مِائَةِ أَلْفِ يَوْمٍ وَمَنْ تَصَدَّقَ فِيهِ بِدِرْهَمٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ صَدَقَةً وَمَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فِيهِ مَرَّةً وَاحِدَةً كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ خَتْمَةٍ بِغَيْرِهِ وَمَنْ سَبَّحَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ مَرَّةً كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ مَرَّةٍ بِغَيْرِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ا هـ .

( الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ ) قَالَ الْبَاجِيَّ : وَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي فَضْلِ الْمَسْجِدَيْنِ مَسْجِدِ مَكَّةَ وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ مُخَالَفَةَ حُكْمِ مَسْجِدِ مَكَّةَ لِسَائِرِ الْمَسَاجِدِ وَكَذَا مَسْجِدِ الرَّسُولِ وَلَا يُعْلَمُ مِنْهَا حُكْمُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي التَّفَاضُلِ إلَّا أَنَّ حَدِيثَ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ بِمِائَةِ أَلْفٍ إذْ أُثِيبَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ نَفْسَ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ نَفْسِ الْمَدِينَةِ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الْوَالِدِ عَلَى كِتَابِهِ تَوْضِيحِ الْمَنَاسِكِ قُلْتُ عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حَدِيثَ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ إلَخْ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّ أَسْبَابَ التَّفْضِيلِ لَا تَنْحَصِرُ فِي مَزِيدِ الْمُضَاعَفَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِمِنًى عِنْدَ التَّوَجُّه بِعَرَفَةَ أَفْضَلُ مِنْهَا بِمَسْجِدِ مَكَّةَ وَإِنْ انْتَفَتْ عَنْهَا نَعَمْ إنْ ثَبَتَ حَدِيثُ { خَيْرِ بَلَدٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَأَحَبُّهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَكَّةُ } كَمَا فِي مَنَاسِكِ الصَّاوِيُّ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي رِسَالَتِهِ لِأَخِيهِ كَانَ صَرِيحًا فِي ذَلِكَ فَتَأَمَّلْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَعَيَّنَ وَقْتُهُ فَيُوصَفُ فِيهِ بِالْأَدَاءِ وَبَعْدَهُ بِالْقَضَاءِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَعَيَّنَ وَقْتُهُ وَلَا يُوصَفُ فِيهِ بِالْأَدَاءِ وَلَا بَعْدَهُ بِالْقَضَاءِ وَالتَّعْيِينُ فِي الْقِسْمَيْنِ شَرْعِيٌّ ) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ وَهَذَا الْفَرْقَ لَمْ أَرَهُ لِأَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِيمَ رَأَيْتُهُ وَلَمْ يَقَعْ التَّصْرِيحُ بِهِ فِيمَا وَجَدْتُهُ وَلَا التَّعْرِيضُ بَلْ التَّصْرِيحُ فِي حَدِّ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ بِضِدِّهِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فَيَقُولُونَ فِي حَدِّ الْأَدَاءِ هُوَ إيقَاعُ الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ الْمَحْدُودِ لَهُ شَرْعًا وَفِي حَدِّ الْقَضَاءِ هُوَ إيقَاعُ الْوَاجِبِ خَارِجَ وَقْتِهِ الْمَحْدُودِ لَهُ شَرْعًا وَهَذَانِ التَّفْسِيرَانِ بَاطِلَانِ بِسَبَبِ أَنَّ الْوَاجِبَاتِ الْفَوْرِيَّةَ كَرَدِّ الْغُصُوبِ وَالْوَدَائِعِ إذَا طُلِبَتْ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَقْضِيَةِ الْحُكَّامِ إذَا نَهَضَتْ الْحِجَاجُ كُلُّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ لَهَا إنَّهَا أَدَاءٌ إذَا وَقَعَتْ فِي وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ لَهَا شَرْعًا وَلَا قَضَاءً إذَا وَقَعَتْ بَعْدَهُ فَإِنَّ الشَّرْعَ حَدَّدَ لَهَا زَمَانًا وَهُوَ زَمَانُ الْوُقُوعِ فَأَوَّلُهُ أَوَّلُ زَمَانِ التَّكْلِيفِ وَآخِرُهُ الْفَرَاغُ مِنْهَا بِحَسَبِهَا فِي طُولِهَا وَقِصَرِهَا فَزَمَانُهَا مَحْدُودٌ شَرْعًا مَعَ انْتِفَاءِ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ عَنْهَا فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ .
وَكَذَلِكَ إنْقَاذُ الْغَرِيقِ حَدَّدَ لَهُ الشَّرْعُ الزَّمَانَ فَأَوَّلُهُ مَا يَلِي زَمَنَ السُّقُوطِ وَآخِرُهُ الْفَرَاغُ مِنْ عِلَاجِهِ بِحَسَبِ حَالِهِ وَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ أَدَاءٌ فِي الْوَقْتِ وَلَا قَضَاءٌ بَعْدَهُ مَعَ التَّحْدِيدِ الشَّرْعِيِّ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْحَجُّ إذَا قُلْنَا : إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَإِنَّ الشَّارِعَ حَدَّدَ لَهُ زَمَانًا مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ قَضَاءٌ بَعْدَ هَذِهِ السَّنَةِ إذَا أُخِّرَتْ هَذِهِ الْحِجَّةُ وَلَا يَلْزَمُ مَعَهَا هَدْيُ الْقَضَاءِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا الْأَمْرُ لِلْفَوْرِ

فَإِنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ زَمَانٍ لِلسَّمَاعِ وَزَمَانٍ لِلتَّأَمُّلِ وَتَعَرُّفِ مَعْنَى الْخِطَابِ وَفِي الزَّمَنِ الثَّالِثِ يَكُونُ الْفِعْلُ زَمَانِيًّا وَبِالتَّأْخِيرِ عَنْهُ يُوصَفُ الْمُكَلَّفُ بِالْمُخَالَفَةِ .
وَقَدْ حَدَّدَ الشَّرْعُ الزَّمَانَ حِينَئِذٍ أَوَّلُهُ الزَّمَنُ الثَّالِثُ مِنْ زَمَنِ السَّمَاعِ وَآخِرُهُ الْفَرَاغُ مِنْ الْفِعْلِ بِحَسَبِهِ وَهَذِهِ النُّقُوضُ كُلُّهَا تُبْطِلُ حَدَّ الْأَدَاءِ فَإِنَّ حَدَّهُ يَتَنَاوَلُهَا وَلَيْسَتْ أَدَاءً فَيَكُونُ غَيْرَ مَانِعٍ وَإِيقَاعُهَا بَعْدَ وَقْتِهَا يَتَنَاوَلُهُ حَدُّ الْقَضَاءِ وَلَيْسَتْ قَضَاءً فَيَكُونُ غَيْرَ جَامِعٍ فَحِينَئِذٍ تَتَعَيَّنُ الْعِنَايَةُ بِتَحْرِيرِ الْفَرْقِ وَتَحْرِيرِ هَذِهِ الضَّوَابِطِ وَالْحُدُودِ حَتَّى يَتَّضِحَ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ نَقُولَ الْأَدَاءُ هُوَ إيقَاعُ الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ الْمَحْدُودِ لَهُ شَرْعًا لِمَصْلَحَةٍ اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْوَقْتُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَالْقَضَاءُ إيقَاعُ الْوَاجِبِ خَارِجَ وَقْتِهِ الْمَحْدُودِ لَهُ شَرْعًا لِأَجْلِ مَصْلَحَةٍ فِيهِ بِالْأَمْرِ الثَّانِي فَقَوْلُهُ فِي وَقْتِهِ احْتِرَازٌ مِنْ الْقَضَاءِ ، وَقَوْلُنَا : " الْمَحْدُودُ لَهُ " احْتِرَازٌ مِنْ الْمُغَيَّا بِجَمِيعِ الْعُمْرِ ، وَقَوْلُنَا : " شَرْعًا " احْتِرَازٌ مِمَّا يَحُدُّهُ أَهْلُ الْعُرْفِ ، وَقَوْلُنَا : " لِمَصْلَحَةٍ اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْوَقْتُ " احْتِرَازٌ مِنْ تِلْكَ النُّقُوضِ كُلِّهَا ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا عَيَّنَ شَهْرَ رَمَضَانَ لِمَصْلَحَةٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا دُونَ غَيْرِهِ طَرْدًا لِقَاعِدَةِ الشَّرْعِ فِي رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ فَإِنَّا إذَا لَاحَظْنَا الشَّرَائِعَ وَجَدْنَاهَا مَصَالِحَ فِي الْأَغْلَبِ أَدْرَكْنَا ذَلِكَ وَخَفِيَ عَلَيْنَا فِي الْأَقَلِّ فَقُلْنَا ذَلِكَ الْأَقَلُّ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الْأَكْثَرِ كَمَا لَوْ جَرَتْ عَادَةُ مَلِكٍ بِأَنْ لَا يَخْلَعَ الْأَخْضَرَ إلَّا عَلَى الْفُقَهَاءِ فَإِذَا رَأَيْنَا مَنْ خَلَعَ عَلَيْهِ الْأَخْضَرَ وَلَا نَعْلَمُ قُلْنَا هُوَ فَقِيهٌ طَرْدًا لِقَاعِدَةِ

ذَلِكَ الْمَلِكِ وَكَذَلِكَ نَعْتَقِدُ فِيمَا لَمْ نَطَّلِعْ فِيهِ عَلَى مَفْسَدَةٍ وَلَا مَصْلَحَةٍ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ إنْ كَانَ فِي جَانِبِ الْأَمْرِ وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ إنْ كَانَ فِي جَانِبِ النَّوَاهِي طَرْدًا لِقَاعِدَةِ الشَّرْعِ فِي رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ ، وَكَذَا نَقُولُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ إنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَصَالِحَ لَا نَعْلَمُهَا وَكَذَلِكَ كُلُّ تَعَبُّدِيٍّ وَمَعْنَاهُ أَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً لَا نَعْلَمُهَا فَحِينَئِذٍ تَتَعَيَّنُ أَوْقَاتُ الْعِبَادَاتِ لِمَصَالِحَ فِيهَا ، وَتَعْيِينُ الْفَوْرِيَّاتِ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ تَبَعٌ لِلْمَأْمُورَاتِ وَطَرَيَانِ الْأَسْبَابِ فَالْغَرِيقُ لَوْ تَأَخَّرَ سُقُوطُهُ فِي الْبَحْرِ تَأَخَّرَ الزَّمَانُ أَوْ تَعَجَّلَ تَعَجَّلَ الزَّمَانُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ الْحَجُّ تَابِعٌ لِلِاسْتِطَاعَةِ فَلَوْ تَأَخَّرَتْ تَأَخَّرَتْ السَّنَةُ أَوْ تَقَدَّمَتْ تَقَدَّمَتْ السَّنَةُ فَصَارَ تَعْيِينُ الْوَقْتِ تَابِعًا لِلِاسْتِطَاعَةِ لَا لِمَصْلَحَةٍ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ : إنَّ الْفَوْرَ تَعَيُّنُ الْوَقْتِ إذَا قُلْنَا الْأَمْرُ عَلَى الْفَوْرِ تَابِعٌ لِوُرُودِ الصِّيغَةِ فَإِنْ تَقَدَّمَتْ تَقَدَّمَ الْوَقْتُ أَوْ تَأَخَّرَتْ تَأَخَّرَ الْوَقْتُ وَكَذَلِكَ أَقْضِيَةُ الْحُكَّامِ الْوَقْتُ تَابِعٌ لِنُهُوضِ الْحِجَاجِ فَتَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ وَكَذَلِكَ رَدُّ الْمَغْصُوبِ وَبَقِيَّةُ النُّقُوضِ قَدْ اتَّضَحَ لَك التَّخْرِيجُ فِي ذَلِكَ وَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَوْقَاتِ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّهَا مُتَعَيِّنَةٌ لِمَصَالِحَ فِيهَا وَلَوْلَاهَا لَمَا تَعَيَّنَ بَعْدَ الزَّوَالِ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَلَا رَمَضَانُ دُونَ بَقِيَّةِ شُهُورِ السَّنَةِ إذَا اتَّضَحَ لَك الْفَرْقُ فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِّ لِمَصْلَحَةٍ اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْوَقْتُ احْتِرَازٌ مِنْ تَعْيِينِ الْوَقْتِ لِمَصْلَحَةِ الْمَأْمُورِ وَالتَّبَعِيَّةِ لِطَرَيَانِ الْأَسْبَابِ .
وَاتُّجِهَ أَيْضًا حَدُّ الْقَضَاءِ بِذَلِكَ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ إيقَاعُ الْوَاجِبِ خَارِجَ وَقْتِهِ الْمَحْدُودِ لَهُ

شَرْعًا لِمَصْلَحَةٍ اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْوَقْتُ فَلَا يَكُونُ الْفِعْلُ مَوْصُوفًا بِالْقَضَاءِ إلَّا إذَا وَقَعَ خَارِجَ وَقْتِهِ الْمَحْدُودِ لِمَصْلَحَةٍ فِيهِ ، وَقَوْلُنَا فِي الْقَضَاءِ بِالْأَمْرِ الثَّانِي احْتِرَازٌ مِنْ نَقْضٍ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِقَضَاءِ رَمَضَانَ جُمْلَةَ السَّنَةِ كُلِّهَا الَّتِي تَلِي شَهْرَ الْأَدَاءِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَقَعَ فِي وَقْتِهِ الْمَحْدُودِ لَهُ شَرْعًا وَلَيْسَ أَدَاءً فَخَرَجَ بِقَوْلِنَا بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقَضَاءَ وَجَبَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ وَدَخَلَ فِي حَدِّ الْقَضَاءِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ بِقَوْلِنَا بِالْأَمْرِ الثَّانِي وَسَبَبُ انْدِرَاجِهِ فِي حَدِّ الْأَدَاءِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَيَّنَ السَّنَةَ لِمَصْلَحَةٍ تَخْتَصُّ بِهَا لَا نَعْلَمُهَا فَالسَّنَةُ كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ لَيْسَتْ تَابِعَةً لِغَيْرِهَا بِخِلَافِ سَنَةِ الْحَجِّ تَابِعَةٌ لِلِاسْتِطَاعَةِ فَإِنْ قُلْت وَسَنَةُ الْقَضَاءِ أَيْضًا تَابِعَةٌ لِتَرْكِ الصَّوْمِ قُلْت مُسَلَّمٌ لَكِنْ هَذَا وَقْتٌ حُدِّدَ طَرَفَاهُ وَجُعِلَ وَاجِبًا مُوَسَّعًا بِخِلَافِ الْحَجِّ .
وَلَمَّا تَرَتَّبَ رَمَضَانُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الشُّهُورِ لِلْأَدَاءِ رُتِّبَ مَا بَعْدَهُ لِلْقَضَاءِ إلَى شَعْبَانَ فِي أَصْلِ الشَّرِيعَةِ مُعَيَّنًا فِي حَقِّ كُلِّ مُكَلَّفٍ بِخِلَافِ الْحَجِّ لَمْ يُعَيَّنْ لَهُ إلَّا مَا كَانَ عَقِيبَ الِاسْتِطَاعَةِ وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ وَسَنَةُ الْقَضَاءِ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ فَإِنْ قُلْتَ مَا ذَكَرْتَهُ لَا يَتِمُّ لِاتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ يُوصَفُ بِالْقَضَاءِ مَعَ خُرُوجِهِ عَمَّا ذَكَرْته مِنْ التَّحْدِيدِ فَيَقُولُونَ فِي الْحَجِّ بَعْدَ الْحِجَّةِ الْفَاسِدَةِ قَضَاءٌ وَيَقُولُونَ إنَّ النَّوَافِلَ تُقْضَى وَلَيْسَ لَهَا وَقْتٌ مَحْدُودٌ بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْتَهُ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُقْضَى مَا لَهُ سَبَبٌ وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ مَا شُرِعَ فِيهِ مِنْ الطَّاعَاتِ وَأَبْطَلَهُ عَلَى تَفْصِيلٍ عِنْدَ الْإِمَامَيْنِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ لِلْفَرِيقَيْنِ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى الْقَضَاءِ فِي

النَّوَافِلِ وَيَقُولُونَ الْمَأْمُومُ فِيمَا فَاتَهُ هَلْ يَكُونُ قَاضِيًا أَمْ بَانِيًا خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَعْيِينِ الْقَضَاءِ لَا فِي أَنَّهُ يُسَمَّى قَضَاءً لَوْ وَقَعَ فَاتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ مَا فَاتَهُ مِنْ الْمَغْرِبِ جَهْرًا لَكَانَ قَضَاءً اتِّفَاقًا إنَّمَا الْخِلَافُ هَلْ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ أَمْ لَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشَرُوا فِي الْأَرْضِ } مَعَ أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ وَقَضَاءَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الْوَقْتِ فَبَطَلَ بِهَذِهِ الْأَنْوَاعِ حَدُّ الْأَدَاءِ وَحَدُّ الْقَضَاءِ قُلْتُ الْقَضَاءُ فِي اصْطِلَاحِ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يُطْلَقُ عَلَى ثَلَاثِ مَعَانٍ : أَحَدُهُمَا إيقَاعُ الْوَاجِبِ خَارِجَ وَقْتِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَحْدِيدُهُ ، وَثَانِيهَا : إيقَاعُ الْوَاجِبِ بَعْدَ تَعْيِينِهِ بِالشُّرُوعِ وَمِنْهُ حِجَّةُ الْقَضَاءِ وَمِنْهُ قَضَاءُ النَّوَافِلِ إذَا شُرِعَ فِيهَا وَهَذَا مُغَايِرٌ لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِنَا خَارِجَ وَقْتِهِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِنَا بَعْدَ تَعَيُّنِهِ بِالشُّرُوعِ فَإِنَّ بَعْدِيَّةَ الْوَقْتِ غَيْرُ بَعْدِيَّةِ الشُّرُوعِ ، وَثَالِثُهَا : مَا وَقَعَ عَلَى خِلَافِ وَضْعِهِ فِي الشَّرِيعَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْوَقْتِ وَالتَّعْيِينِ بِالشُّرُوعِ ، وَمِنْهُ قَضَاءُ الْمَأْمُومِ ؛ لِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ مِنْ الْعِشَاءِ إذَا صُلِّيَتَا جَهْرًا فَهَذَا خِلَافُ الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ فَإِنَّ وَضْعَ الشَّرِيعَةِ تَقَدُّمُ الْجَهْرِ عَلَى السِّرِّ فَتَأْخِيرُهُ خِلَافُ الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ فِي الِاصْطِلَاحِ وَيُلْحَقُ بِهَا قِسْمٌ رَابِعٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ : إنَّ السُّنَنَ تُقْضَى لِتَقَدُّمِ أَسْبَابِهَا لَا لِلشُّرُوعِ فِيهَا فَيَكُونُ مُفَسَّرًا عِنْدَهُ أَيْضًا بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ بَعْدَ تَقَدُّمِ سَبَبِهِ فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ } فَذَلِكَ وَضْعٌ لُغَوِيٌّ لَا اصْطِلَاحِيٌّ فَيُقَالُ قُضِيَ الْفِعْلُ إذَا فُعِلَ كَيْفَ كَانَ فَقَضَى

بِمَعْنَى فَعَلَ وَهَذَا غَيْرُ مَا نَحْنُ فِيهِ وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ لَفْظُ الْقَضَاءِ يُطْلَقُ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ عَلَى خَمْسَةِ مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ أَرْبَعَةٌ مِنْهَا اصْطِلَاحِيَّةٌ وَوَاحِدٌ لُغَوِيٌّ وَاللَّفْظُ إذَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَحَدَّدْنَا بَعْضَ تِلْكَ الْمَعَانِي لَا يَرِدُ عَلَيْنَا غَيْرُهُ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي نَقْضًا وَلَا سُؤَالًا كَمَا إذَا حَدَّدْنَا الْعَيْنَ بِمَعْنَى الْحَدَقَةِ بِأَنَّهَا عُضْوٌ يَتَأَتَّى بِهِ الْإِبْصَارُ فَيَقُولُ السَّائِلُ يُنْتَقَضُ عَلَيْكَ بِعَيْنِ الْمَاءِ وَبِالذَّهَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُسَمَّى عَيْنًا فَلَا يُسْمَعُ هَذَا السُّؤَالُ فَإِنَّ الْحَقَائِقَ الْمُخْتَلِفَةَ أَنْ تَكُونَ حُدُودُهَا مُخْتَلِفَةً فَحِينَئِذٍ لَا يَرِدُ عَلَيْنَا حَقِيقَةٌ مِنْ تِلْكَ الْحَقَائِقِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى تَحْدِيدِنَا الْقَضَاءَ بِالْمُوقَعِ خَارِجَ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّهَا مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٌ فَانْدَفَعَتْ الْأَسْئِلَةُ الَّتِي وَرَدَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَاسْتَقَامَ حَدُّ الْقَضَاءِ وَحَدُّ الْأَدَاءِ وَظَهَرَ حِينَئِذٍ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَعَيَّنَ وَقْتُهُ فَيُوصَفُ بِالْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَتَعَيَّنُ وَقْتُهُ فَلَا يُوصَفُ لَا بِالْأَدَاءِ وَلَا بِالْقَضَاءِ .
وَمَا قَالَهُ فِي الْفَرْقِ السَّادِسِ وَالسِّتِّينَ صَحِيحٌ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَعَيَّنَ وَقْتُهُ فَيُوصَفُ فِيهِ بِالْأَدَاءِ وَبَعْدَهُ بِالْقَضَاءِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَعَيَّنَ وَقْتُهُ وَلَا يُوصَفُ فِيهِ بِالْأَدَاءِ وَلَا بَعْدَهُ بِالْقَضَاءِ وَالتَّعَيُّنُ فِي الْقِسْمَيْنِ شَرْعِيٌّ ) اعْلَمْ وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ لِمَا فِيهِ رِضَاهُ أَنَّ تَحْرِيرَ الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ يَتَوَقَّفُ عَلَى بَيَانِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْوَاجِبَ قِسْمَانِ : الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ وَهُوَ مَا جَعَلَ الشَّارِعُ لِأَدَائِهِ وَقَضَائِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَقْتًا حُدِّدَ طَرَفَاهُ لِمَصْلَحَةٍ فِيهِ مُعَيَّنًا فِي حَقِّ كُلِّ مُكَلَّفٍ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِفُ وَقْتُ أَدَائِهِ وَلَا وَقْتُ قَضَائِهِ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ كَالصَّوْمِ عَيَّنَ الشَّارِعُ لِأَدَائِهِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي كُلِّ مُكَلَّفٍ لِمَصْلَحَةٍ فِيهِ وَلِقَضَائِهِ مَا بَعْدَهُ إلَى شَعْبَانَ بِالْأَمْرِ الثَّانِي فِي حَقِّ كُلِّ مُكَلَّفٍ أَيْضًا بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِفُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِاخْتِلَافِ النَّاسِ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : الْوَاجِبُ عَلَى الْفَوْرِ وَهُوَ مَا جَعَلَ الشَّارِعُ لَهُ مِنْ الْفَوْرِيَّاتِ وَقْتًا مُرَتَّبًا عَلَى ثُبُوتِ أَمْرٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ لَا لِمَصْلَحَةٍ فِيهِ كَالْحَجِّ إذَا قُلْنَا : إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ الشَّارِعُ إلَّا مَا كَانَ عَقِيبَ الِاسْتِطَاعَةِ وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ بِحَيْثُ لَوْ تَأَخَّرَتْ الِاسْتِطَاعَةُ تَأَخَّرَتْ السُّنَّةُ أَوْ تَقَدَّمَتْ تَقَدَّمَتْ السُّنَّةُ فَصَارَ تَعْيِينُ الْوَقْتِ تَابِعًا لِلِاسْتِطَاعَةِ لَا لِمَصْلَحَةٍ فِيهِ فَحِينَئِذٍ تَعَيَّنَ أَوْقَاتُ الْعِبَادَاتِ لِمَصَالِحَ فِيهَا بِحَيْثُ إنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا عَيَّنَ شَهْرَ رَمَضَانَ لِلصَّوْمِ مَثَلًا لِمَصْلَحَةٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا دُونَ غَيْرِهِ طَرْدًا لِقَاعِدَةِ الشَّرْعِ فِي رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ فَإِنَّا إذَا لَاحَظْنَا الشَّرَائِعَ وَجَدْنَاهَا مَصَالِحَ فِي الْأَغْلَبِ أَدْرَكْنَا ذَلِكَ وَخَفِيَ

عَلَيْنَا فِي الْأَقَلِّ فَقُلْنَا : ذَلِكَ الْأَقَلُّ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الْأَكْثَرِ كَمَا لَوْ جَرَتْ عَادَةُ مَلِكٍ بِأَنْ لَا يَخْلَعَ الْأَخْضَرَ إلَّا عَلَى الْفُقَهَاءِ فَإِذَا رَأَيْنَا مَنْ خُلِعَ عَلَيْهِ الْأَخْضَرُ وَلَا نَعْلَمُ قُلْنَا : هُوَ فَقِيهٌ طَرْدًا لِقَاعِدَةِ ذَلِكَ الْمَلِكِ .
وَهَكَذَا لَمَّا كَانَتْ قَاعِدَةُ الشَّرْعِ رِعَايَةَ الْمَصَالِحِ فِي جَانِبِ الْأَوَامِرِ وَالْمَفَاسِدِ فِي جَانِبِ النَّوَاهِي عَلَى سَبِيلِ التَّفْضِيلِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ لَزِمَ أَنْ نَعْتَقِدَ فِيمَا لَمْ نَطَّلِعْ فِيهِ عَلَى مَفْسَدَةٍ وَلَا مَصْلَحَةٍ إنْ كَانَ فِي جَانِبِ الْأَوَامِرِ أَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً وَإِنْ كَانَ فِي جَانِبِ النَّوَاهِي أَنَّ فِيهِ مَفْسَدَةً كَأَنْ نَقُولَ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ : إنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَصَالِحَ لَا نَعْلَمُهَا وَكَذَلِكَ كُلُّ تَعَبُّدِيٍّ مَعْنَاهُ أَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً لَا نَعْلَمُهَا .
وَأَمَّا تَعَيُّنُ أَوْقَاتِ الْفَوْرِيَّاتِ كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْوَدَائِعِ إذَا طُلِبَتْ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَقْضِيَةِ الْحُكَّامِ إذَا نَهَضَتْ الْحِجَاجُ وَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ إذَا قُلْنَا : إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : لَا بُدَّ مِنْ زَمَانٍ لِلسَّمَاعِ وَزَمَانٍ لِلتَّأَمُّلِ وَتَعَرُّفِ مَعْنَى الْخِطَابِ وَفِي الزَّمَنِ الثَّالِثِ يَكُونُ الْفِعْلُ زَمَانِيًّا وَبِالتَّأْخِيرِ عَنْهُ يُوصَفُ الْمُكَلَّفُ بِالْمُخَالَفَةِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ تَبَعٌ لِلْمَأْمُورَاتِ وَطَرَيَانِ الْأَسْبَابِ فَتَعَيُّنُ وَقْتِ إنْقَاذِ الْغَرِيقِ تَابِعٌ لِسُقُوطِهِ فِي الْبَحْرِ فَلَوْ تَأَخَّرَ سُقُوطُهُ فِي الْبَحْرِ تَأَخَّرَ الزَّمَانُ أَوْ تَعَجَّلَ تَعَجَّلَ الزَّمَانُ .
وَتَعَيُّنُ وَقْتِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ إذَا قُلْنَا : إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ تَابِعٌ لِوُرُودِ الصِّيغَةِ فَإِنْ تَقَدَّمَتْ تَقَدَّمَ الْوَقْتُ أَوْ تَأَخَّرَتْ تَأَخَّرَ الْوَقْتُ وَتَعَيُّنُ وَقْتِ أَقْضِيَةِ الْأَحْكَامِ تَابِعٌ لِنُهُوضِ الْحِجَاجِ لَا لِمَصْلَحَةٍ فِي

نَفْسِ الْوَقْتِ وَهَكَذَا يُقَالُ فِي الْبَاقِي .
وَالْأَمْرُ الثَّانِي : أَنَّ الْوَاجِبَاتِ الْفَوْرِيَّةَ وَإِنْ حَدَّ الشَّارِعُ لَهَا زَمَانًا وَهُوَ زَمَانُ الْوُقُوعِ الَّذِي أَوَّلُهُ أَوَّلُ زَمَانِ التَّكْلِيفِ وَآخِرُهُ الْفَرَاغُ مِنْهَا بِحَسَبِهَا فِي طُولِهَا وَقِصَرِهَا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَابِعًا لِمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ لَا لِمَصْلَحَةٍ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ مَحْدُودَ الطَّرَفَيْنِ بِخِلَافِ زَمَانِ الْعِبَادَاتِ لَمْ يُقَلْ لِلْوَاجِبَاتِ الْفَوْرِيَّةِ إذَا وَقَعَتْ فِي وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ لَهَا شَرْعًا أَدَاءً وَلَا إذَا وَقَعَتْ بَعْدَهُ قَضَاءً بِخِلَافِ الْعِبَادَاتِ .
وَالْأَمْرُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْأَدَاءَ هُوَ إيقَاعُ الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ الْمَحْدُودِ لَهُ شَرْعًا لِمَصْلَحَةٍ اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْوَقْتُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَقَيْدُ فِي وَقْتِهِ يُخْرِجُ الْقَضَاءَ وَقَيْدُ الْمَحْدُودِ لَهُ يُخْرِجُ الْوَاجِبَ الْمُغَيَّا بِجَمِيعِ الْعُمْرِ كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَقَيْدُ شَرْعًا يُخْرِجُ الْمَحْدُودَ عُرْفًا وَقَيْدُ لِمَصْلَحَةٍ اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْوَقْتُ يُخْرِجُ الْوَاجِبَاتِ الْفَوْرِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ كُلَّهَا ؛ لِأَنَّ تَحْدِيدَ وَقْتِهَا شَرْعًا تَابِعٌ لِحُصُولِ أَمْرٍ لَا لِمَصْلَحَةٍ فِي الْوَقْتِ كَمَا عَلِمْتَ فَلَا يُوصَفُ الْفِعْلُ بِالْأَدَاءِ إلَّا إذَا وَقَعَ فِي وَقْتِهِ الْمَحْدُودِ لِمَصْلَحَةٍ فِيهِ فَوَقْتُ الْأَدَاءِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ الْكُلُّ لَا جُزْءٌ مِنْهُ لَا بِعَيْنِهِ يَتَعَيَّنُ بِالْوُقُوعِ فِيهِ سَوَاءٌ وَقَعَ فِي الْكُلِّ أَوْ الْبَعْضِ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الْجَزَاءُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْفِعْلُ بِمَعْنَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ جُزْءٌ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ لَا بِعَيْنِهِ وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا يَتَعَيَّنُ بِالْوُقُوعِ فِيهِ إنْ فُعِلَ فِي الْوَقْتِ وَإِلَّا تَعَيَّنَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ الْآخِرُ فَالْوُجُوبُ لِلْأَدَاءِ عِنْدَهُمْ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ مَعَ الشُّرُوعِ فِي الْفِعْلِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ السَّعْدُ فِي شَرْحِ التَّوْضِيحِ أَفَادَهُ الشِّرْبِينِيُّ عَلَى حَوَاشِي مَحَلِّي

جَمْعِ الْجَوَامِعِ .
وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ فِعْلُ الشَّيْءِ كَيْفَ كَانَ وَعَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ } أَيْ فَإِذَا فُعِلَتْ ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ لَهُ أَرْبَعَةُ مَعَانٍ أَحَدُهَا مَا يُقَابِلُ الْأَدَاءَ الْمَذْكُورَ وَهُوَ إيقَاعُ الْوَاجِبِ خَارِجَ وَقْتِهِ الْمَحْدُودِ لَهُ شَرْعًا لِمَصْلَحَةٍ اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْوَقْتُ بِالْأَمْرِ الثَّانِي فَقَيْدُ خَارِجَ وَقْتِهِ يُخْرِجُ الْأَدَاءَ وَقَيْدُ الْمَحْدُودِ لَهُ شَرْعًا يُخْرِجُ الْمَحْدُودَ وَقْتُهُ عُرْفًا وَقَيْدُ لِمَصْلَحَةٍ اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْوَقْتُ يُخْرِجُ الْوَاجِبَاتِ الْفَوْرِيَّةَ ؛ لِأَنَّ تَحْدِيدَ وَقْتِهَا شَرْعًا تَابِعٌ لِحُصُولِ أَمْرٍ لَا لِمَصْلَحَةٍ كَمَا عَلِمْتَ فَلَا يُوصَفُ الْفِعْلُ بِالْقَضَاءِ إلَّا إذَا وَقَعَ خَارِجَ وَقْتِهِ الْمَحْدُودِ لِمَصْلَحَةٍ فِيهِ وَقَيَّدَ بِالْأَمْرِ الثَّانِي لِدَفْعِ نَقْضٍ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِقَضَاءِ رَمَضَانَ جُمْلَةَ السَّنَةِ كُلِّهَا الَّتِي تَلِي شَهْرَ الْأَدَاءِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَقَعَ فِي وَقْتِهِ الْمَحْدُودِ لَهُ شَرْعًا وَلَيْسَ أَدَاءً ، وَحَاصِلُ الدَّفْعِ أَنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ وَإِنْ دَخَلَ فِي حَدِّ الْأَدَاءِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَيَّنَ لَهُ السَّنَةَ تَعْيِينًا لَا كَسَنَةِ الْحَجِّ لِخُصُوصِ كَوْنِهَا تَابِعَةً لِلِاسْتِطَاعَةِ غَيْرَ مَحْدُودَةِ الطَّرَفَيْنِ بَلْ إنَّمَا عَيَّنَهَا لَهُ مَحْدُودَةَ الطَّرَفَيْنِ لِمَصْلَحَةٍ يَخْتَصُّ بِهَا لَا نَعْلَمُهَا لَا لِخُصُوصِ كَوْنِهَا تَابِعَةً لِتَرْكِ الصَّوْمِ إلَّا أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْأَدَاءِ بِقَيْدِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَفِيهِ وَدَخَلَ فِي حَدِّ الْقَضَاءِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ بِقَيْدِ بِالْأَمْرِ الثَّانِي فِيهِ فَافْهَمْ .
وَثَانِيهَا : إيقَاعُ الْوَاجِبِ تَعْيِينُهُ بِالشُّرُوعِ وَعَلَيْهِ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ بِقَضَاءِ مَا شُرِعَ فِيهِ مِنْ الطَّاعَاتِ وَأَبْطَلَهُ لِوُجُوبِهَا بِالشُّرُوعِ عَلَى تَفْصِيلٍ عِنْدَ الْإِمَامَيْنِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ لِلْفَرِيقَيْنِ وَمِنْهُ حِجَّةُ الْقَضَاءِ فِي الْحَجِّ بَعْدَ الْحِجَّةِ الْفَاسِدَةِ .

وَثَالِثُهَا : مَا وَقَعَ عَلَى خِلَافِ وَضْعِهِ فِي الشَّرِيعَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْوَقْتِ وَالتَّعْيِينِ بِالشُّرُوعِ وَمِنْهُ قَضَاءُ الْمَأْمُومِ الْمَسْبُوقِ مَا فَاتَهُ مَعَ الْإِمَامِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ فَاتَتَاهُ مَعَ الْإِمَامِ مِنْ الْمَغْرِبِ أَوْ الْعِشَاءِ جَهْرًا تُسَمَّى قَضَاءً اتِّفَاقًا ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا صُلِّيَتَا جَهْرًا وَقَدْ صَارَا أَخِيرَيْنِ كَانَا عَلَى خِلَافِ الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ مِنْ تَقَدُّمِ الْجَهْرِ عَلَى السِّرِّ ، وَقَوْلُهُمْ الْمَأْمُورُ فِيمَا فَاتَهُ هَلْ يَكُونُ قَاضِيًا أَوْ بَانِيًا إنَّمَا هُوَ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَعْيِينِ الْقَضَاءِ أَيْ هَلْ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ أَوَّلًا لَا فِي أَنَّهُ يُسَمَّى قَضَاءً لَوْ وَقَعَ كَذَلِكَ فَافْهَمْ .
وَرَابِعُهَا : إيقَاعُ الْفِعْلِ بَعْدَ تَقَدُّمِ سَبَبِهِ وَعَلَيْهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ إنَّ السُّنَنَ تُقْضَى لِتَقَدُّمِ أَسْبَابِهَا لَا لِلشُّرُوعِ فِيهَا وَبِالْجُمْلَةِ فَمَعَانِي لَفْظِ الْقَضَاءِ خَمْسَةٌ مُخْتَلِفَةٌ أَرْبَعَةٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ وَوَاحِدٌ لُغَوِيٌّ فَلَا يَرِدُ صِدْقُهُ بِاعْتِبَارِ أَحَدِ مَعَانِيهِ عَلَى غَيْرِ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ حَدُّنَا لَهُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ الْآخَرِ لَا نَقْضًا وَلَا سُؤَالًا أَلَا تَرَى أَنَّا إذَا حَدَّدْنَا الْعَيْنَ بِمَعْنَى الْحَدَقَةِ بِأَنَّهَا عُضْوٌ يَتَأَتَّى بِهِ الْإِبْصَارُ لَا نَلْتَفِتُ لِلْقَوْلِ بِنَقْضِهِ بِعَيْنِ الْمَاءِ وَبِالذَّهَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمَعَانِيَ الْمُخْتَلِفَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ حُدُودُهَا مُخْتَلِفَةً فَحِينَئِذٍ اسْتَقَامَ مَا ذُكِرَ مِنْ حَدِّ الْقَضَاءِ وَحَدِّ الْأَدَاءِ وَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَعَيَّنَ وَقْتُهُ بِتَحْدِيدِ طَرَفَيْهِ لِمَصْلَحَةٍ فِيهِ فَيُوصَفُ بِالْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَعَيَّنَ وَقْتُهُ بِغَيْرِ تَحْدِيدِ طَرَفَيْهِ لِانْتِفَاءِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ بَلْ تَعْيِينًا تَابِعًا لِتَحَقُّقِ أَمْرٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فَلَا يُوصَفُ لَا بِالْأَدَاءِ وَلَا بِالْقَضَاءِ .
وَظَهَرَ أَيْضًا أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا مَا

غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ثُمَّ عَاشَ أَنَّ الْفِعْلَ يَكُونُ مِنْهُ أَدَاءً ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْوَقْتِ لَمْ تَكُنْ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ بَلْ تَبَعٌ لِلظَّنِّ الْكَاذِبِ وَهَلْ هُوَ قَضَاءٌ قَوْلَانِ لِلْقَاضِي وَالْغَزَالِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَسَيَأْتِي عَنْ ابْنِ الشَّاطِّ أَنَّ قَوْلَ الْغَزَالِيِّ بِأَنَّهُ قَضَاءٌ دَعْوَى لَا حُجَّةَ عَلَيْهَا أَلْبَتَّةَ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَاتِ بِاعْتِبَارِ الِاتِّصَافِ بِالْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ مَا يُوصَفُ بِهِمَا بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ الِاصْطِلَاحِيِّ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَرَمَضَانَ .
وَالثَّانِي : مَا لَا يُوصَفُ بِهِمَا بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ الِاصْطِلَاحِيِّ وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِهِمَا بِالْمَعْنَى الثَّانِي الِاصْطِلَاحِيِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْأَحْنَافِ أَوْ بِالْمَعْنَى الرَّابِعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَالنَّوَافِلِ فَافْهَمْ .
وَالثَّالِثُ : مَا يُوصَفُ بِالْأَدَاءِ بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ فَقَطْ كَالْجُمُعَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ

( فَائِدَةٌ ) الْعِبَادَاتُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : مِنْهَا مَا يُوصَفُ بِالْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَرَمَضَانَ ، وَمِنْهَا مَا لَا يُوصَفُ بِهِمَا كَالنَّوَافِلِ إلَّا بِذَلِكَ التَّفْسِيرِ الْآخَرِ الَّذِي تَقَدَّمَ تَحْرِيرُهُ ، وَمِنْهَا مَا يُوصَفُ بِالْأَدَاءِ فَقَطْ كَالْجُمُعَةِ .

فَائِدَةٌ : اتَّضَحَ بِمَا تَحَرَّرَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ثُمَّ عَاشَ أَنَّ الْفِعْلَ يَكُونُ مِنْهُ أَدَاءً لِأَنَّ تَعْيِينَ الْوَقْتِ لَمْ تَكُنْ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ بَلْ تَبَعٌ لِلظَّنِّ الْكَاذِبِ وَقِيلَ هُوَ قَضَاءٌ قَوْلَانِ لِلْقَاضِي وَالْغَزَالِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَدَاءِ الَّذِي يَثْبُتُ مَعَهُ الْإِثْمُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَدَاءِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ مَعَهُ الْإِثْمُ ) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ قَدْ أَشْكَلَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَاسْتَشْكَلُوا كَيْفَ تَكُونُ الْعِبَادَةُ أَدَاءً وَفَاعِلُهَا آثِمٌ وَسِرُّ الْفَرْقِ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ أَرْبَابَ الْأَعْذَارِ يُدْرِكُونَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِإِدْرَاكِ وَقْتٍ يَسَعُ خَمْسَ رَكَعَاتٍ بَعْدَ الطَّهَارَةِ وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ وَقْتُهُ قَبْلَ زَوَالِ الْعُذْرِ لَا يَلْزَمُ أَرْبَابَ الْأَعْذَارِ فَدَلَّ لُزُومُ الصَّلَاتَيْنِ لَهُمْ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عَلَى بَقَاءِ وَقْتِهَا وَلَمَّا كَانَ الْأَدَاءُ كَمَا تَقَدَّمَ إيقَاعُ الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ الْمَحْدُودِ لَهُ شَرْعًا كَمَا تَقَدَّمَ تَحْرِيرُهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ أَدَاءً فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ؛ لِأَنَّا لَمَّا حَدَّدْنَا الْأَدَاءَ لَمْ نَحُدَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَاعِلِينَ وَإِنَّمَا حَدَّدْنَاهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِبَادَةِ خَاصَّةً مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْفَاعِلِ مَنْ هُوَ هَلْ هُوَ ذُو عُذْرٍ أَمْ لَا .
وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ فِي حَدِّ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ لِأَحْوَالِ الْمُكَلَّفِ فِي حَدِّهِمَا بَلْ لِلْعِبَادَةِ فَقَطْ فَصَارَ الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ تَابِعًا لِكَوْنِ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا أَمْ لَا فَكَانَ الظُّهْرُ أَدَاءً إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ بِنَاءً عَلَى صِدْقِ حَدِّ الْأَدَاءِ عَلَيْهِ وَلَمَّا كَانَ الشَّرْعُ قَدْ مَنَعَ الْمُكَلَّفَ الَّذِي لَا عُذْرَ لَهُ مِنْ تَأْخِيرِ الْعِبَادَاتِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ مُطْلَقًا بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُوقِعَ فِي آخَرَ فَسُمِّيَ الْوَقْتُ وَهُوَ مِنْ أَوَّلِ الزَّوَالِ إلَى آخِرِ الْقَامَةِ وَيَبْقَى مِنْ آخِرِ الْقَامَةِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ هُوَ مِنْ الْوَقْتِ بِاعْتِبَارِ حَدِّ الْأَدَاءِ ، وَغَيْرُ الْمَعْذُورِ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فَإِذَا أَخَّرَ الْفِعْلَ إلَيْهِ وَأَوْقَعَهُ فِيهِ كَانَ مُؤَدِّيًا آثِمًا أَمَّا أَدَاؤُهُ فَلِصِدْقِ

حَدِّ الْأَدَاءِ .
وَأَمَّا ثَمَّةَ فَلِتَأْخِيرِهِ عَنْ الْحَدِّ الَّذِي حُدِّدَ لَهُ مِنْ الْوَقْتِ وَلِصَاحِبِ الشَّرْعِ أَنْ يُحَدِّدَ لِلْعِبَادَةِ وَقْتًا وَيَجْعَلَ نِصْفَهُ الْأَوَّلَ لِطَائِفَةٍ وَنِصْفَهُ الْآخَرَ لِطَائِفَةٍ أُخْرَى فَتَأْثَمُ الْأُولَى بِتَعَدِّيهَا لِغَيْرِ وَقْتِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَامَةَ وَقْتُ أَدَاءً بِلَا خِلَافٍ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ طَائِفَةٍ أَنَّهَا لَا تَعِيشُ إلَى آخِرِ الْقَامَةِ بَلْ لِنِصْفِهَا جَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ نِصْفَ الْقَامَةِ وَقْتًا لِهَؤُلَاءِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ وَالنِّصْفَ الْآخَرَ مِنْ الْقَامَةِ لَيْسَ وَقْتًا لَهُمْ كَذَلِكَ هَاهُنَا وَقْتُ الظُّهْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَحَجَرَ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَلَى الْمُخْتَارِينَ الْوُصُولَ إلَيْهِ وَحَدَّدَ لَهُمْ آخِرَ الْقَامَةِ فَإِذَا تَعَدَّوْا الْقَامَةَ كَانُوا مُؤَدِّينَ آثِمِينَ فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْمَغْرِبِ أَدَاءً إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ بِسَبَبِ أَنَّ أَرْبَابَ الْأَعْذَارِ يُدْرِكُونَ صَلَاتَيْ اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ وَقْتُهُ لَا يَلْزَمُ أَرْبَابَ الْأَعْذَارِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يُدْرِكُونَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِإِدْرَاكِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الْفَجْرِ وَلَا يَلْزَمُ بِذَلِكَ صَلَاةُ النَّهَارِ الْمُتَقَدِّمِ بِسَبَبِ أَنَّ وَقْتَهُ خَرَجَ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ .
فَإِذَا أَخَّرَ أَيْضًا الْمُكَلَّفُ الْمُخْتَارُ الْمَغْرِبَ أَوْ الْعِشَاءَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ كَانَ مُؤَدِّيًا آثِمًا أَمَّا أَدَاؤُهُ فَلِوُجُودِ الْأَدَاءِ فِي حَقِّهِ .
وَأَمَّا إثْمُهُ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّصَهُ بِقِطْعَةٍ مِنْ الْوَقْتِ فَتَعَدَّاهَا لِنَصِيبِ غَيْرِهِ مِنْهُ وَإِنَّمَا كَانَ يَلْزَمُ الْإِشْكَالُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالْإِثْمِ أَنْ لَوْ كَانَ حَدُّ الْأَدَاءِ إيقَاعَ الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ الِاخْتِيَارِيِّ لَهُ فَكَانَ حِينَئِذٍ إيقَاعُهُ فِي غَيْرِ الِاخْتِيَارِيِّ قَضَاءً لَكِنْ حَدُّ الْأَدَاءِ إيقَاعُ الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ مُطْلَقًا وَالْقَضَاءُ إيقَاعُهُ خَارِجَ وَقْتِهِ مُطْلَقًا

وَلَمْ نَقُلْ إنَّهُ خَارِجَ وَقْتِهِ الِاخْتِيَارِيِّ وَكُتُبُ أُصُولِ الْفِقْهِ مُجْمِعَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَمُصَرِّحَةٌ بِهِ فَظَهَرَ إمْكَانُ اجْتِمَاعِ الْأَدَاءِ وَالْإِثْمِ فِي حَقِّ مَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْوَقْتِ وَعَدَمُ اجْتِمَاعِ الْإِثْمِ مَعَ الْأَدَاءِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْوَقْتِ كَمَا يَجْتَمِعُ الْأَدَاءُ وَالْإِثْمُ فِيمَنْ أَخَّرَ إلَى آخِرِ الْقَامَةِ وَهُوَ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيقَاعِ الْفِعْلِ آخِرَ الْقَامَةِ فَقَدَرَ وَأَخَّرَ وَصَلَّى فَإِنَّهُ مُؤَدٍّ آثِمٌ وَيَجْتَمِعُ فِي حَقِّهِ الْأَدَاءُ عَلَى الْخِلَافِ وَالْإِثْمُ إجْمَاعًا وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي اجْتِمَاعِهِمَا آخِرَ النَّهَارِ وَعِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَمَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ اجْتِمَاعُهُمَا وَمَذْهَبُ غَيْرِهِ عَدَمُ اجْتِمَاعِهِمَا فَعَلَى هَذَا يَجْتَمِعُ الْإِثْمُ وَالْأَدَاءُ فِي حَقِّ فَرِيقَيْنِ مِنْ النَّاسِ أَحَدُهُمَا الْمُخْتَارُونَ الَّذِينَ لَا عُذْرَ لَهُمْ إذَا أَخَّرُوا إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ بَعْدَ الْقَامَةِ وَمِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ أَوْ أَخَّرُوا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ إلَى بَعْدِ ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ عَلَى الْخِلَافِ فِي آخِرِ وَقْتِ الْعِشَاءِ هَلْ هُوَ ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفُهُ وَهَلْ تُؤَخَّرُ الْمَغْرِبُ إلَى الشَّفَقِ أَمْ لَا وَثَانِيهِمَا الْفَرْقُ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِمْ عَدَمُ الْمُكْنَةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ الِاخْتِيَارِيِّ فَيُؤَخِّرُونَ إلَى آخِرِهِ فَإِنَّهُمْ آثِمُونَ مَعَ الْأَدَاءِ إذَا فَعَلُوا آخِرَ الْوَقْتِ الِاخْتِيَارِيِّ فِي الْقَامَةِ لِلظُّهْرِ مَثَلًا وَنَحْوُهُ مِنْ الْأَوْقَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَتَحَرَّرَ بِهَذَا الْفَرْقِ زَوَالُ مَا اسْتَشْكَلَهُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَيْنَا مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالْإِثْمِ فَإِنَّهُمْ قَائِلُونَ بِهِ فِي الْفَرِيقِ الثَّانِي فَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُمْ فِي الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ وَيَتَّضِحُ مَذْهَبُنَا اتِّضَاحًا جَيِّدًا وَأَنَّا لَمْ نُخَالِفْ قَاعِدَةً بَلْ مَشَيْنَا عَلَى الْقَوَاعِدِ وَيَلْزَمُ الشَّافِعِيَّةَ إشْكَالٌ لَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31