كتاب : أنوار البروق في أنواع الفروق
المؤلف : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي

النِّسْيَانِ وَلَمْ نَحْتَجْ لِلْجَوَابِ عَنْهُ الْمَبْنِيِّ عَلَى صِحَّتِهِ بِأَنَّ الظَّرْفَ قَدْ يَكُونُ أَوْسَعَ مِنْ الْمَظْرُوفِ فَيَفْضُلُ مِنْ زَمَانِ إذَا زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ نِسْيَانٌ يَقَعُ فِيهِ الذِّكْرُ فَلَا يَجْتَمِعُ الضِّدَّانِ عَلَى أَنْ لَا يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ أَوْسَعَ مِنْ الْمَظْرُوفِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا مَعْنَى كَوْنِ الظَّرْفِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوْسَعَ مِنْ الْمَظْرُوفِ كَمَا مَرَّ أَنَّهُ يُطْلَقُ لَفْظُ الْيَوْمِ مَثَلًا فِي فِعْلٍ يَقَعُ فِي بَعْضِهِ لَا فِي جَمِيعِهِ وَذَلِكَ الْإِطْلَاقُ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ لِلْإِطْرَادِ وَلَيْسَ ذَلِكَ حَقِيقَةً مَعْنَوِيَّةً بِمَعْنَى أَنَّ ظَرْفَ الْفِعْلِ يَكُونُ أَوْسَعَ مِنْهُ فِي الْمَعْنَى فَإِنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ وَلَمْ يَزَلْ الْإِشْكَالُ يَقَعُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ بَيْنَ الْحَقَائِقِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَالْحَقَائِقِ اللَّفْظِيَّةِ فَيَظُنُّهَا شَيْئًا وَاحِدًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ قَالَ وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى { وَلَنْ يَنْفَعَكُمْ الْيَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } وَلَنْ يَنْفَعَكُمْ الْيَوْمَ اشْتِرَاكُكُمْ فِي الْعَذَابِ بِسَبَبِ ظُلْمِكُمْ إذْ ظَلَمْتُمْ يَعْنِي أَنَّ إذْ ظَلَمْتُمْ تَعْلِيلٌ لِنَفْيِ النَّفْعِ الْمَأْخُوذِ مِنْ لَنْ أَيْ أَنَّهُمْ لِعِظَمِ مَا هُمْ فِيهِ لَا يُهَوِّنُ عَلَيْهِمْ اشْتِرَاكُهُمْ فِي الْعَذَابِ كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا كَمَا فِي الْمُغْنِي وَحَوَاشِيهِ نَعَمْ ظَاهِرُ قَوْلِهِ بِسَبَبِ ظُلْمِكُمْ إذْ ظَلَمْتُمْ الْجَرْيُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ إذَا التَّعْلِيلِيَّةَ ظَرْفٌ وَالتَّعْلِيلُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قُوَّةِ الْكَلَامِ لَا مِنْ اللَّفْظِ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ ضَرَبْته إذْ أَسَاءَ وَأُرِيدَ بِإِذْ الْوَقْتُ اقْتَضَى ظَاهِرُ الْحَالِ أَنَّ الْإِسَاءَةَ سَبَبُ الضَّرْبِ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِوَصْفٍ يُشْعِرُ بِعَلِيَّتِهِ لَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا حَرْفٌ بِمَنْزِلَةِ لَامِ الْعِلَّةِ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ فِي الْمُغْنِي وَالْجُمْهُورُ لَا يُثْبِتُونَ هَذَا الْقِسْمَ أَيْ كَوْنَ إذْ حَرْفًا بِمَنْزِلَةِ لَامِ الْعِلَّةِ وَلِذَا قَالَ الرَّضِيُّ فِي

قَوْله تَعَالَى { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ } الْآيَةَ وَقَوْلُهُ { وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ } الْآيَةَ .
وَقَوْلُهُ { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } الْآيَةَ أَنَّ الْفَاءَ لِإِجْرَاءِ الظَّرْفِ مَجْرَى كَلِمَةِ الشَّرْطِ كَمَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ فِي نَحْوِ زَيْدٌ حِينَ لَقِيته فَأَنَا أُكْرِمُهُ وَهُوَ فِي إذْ مُطَّرِدٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } أَيْ مِمَّا أُضْمِرَ فِيهِ وَإِنَّمَا جَازَ إعْمَالُ الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي هُوَ سَيَقُولُونَ وَآوَوْا وَأَقِيمُوا فِي الظُّرُوفِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي هِيَ إذْ لَمْ يَهْتَدُوا وَمَا مَعَهُ وَإِنْ كَانَ وُقُوعُ الْمُسْتَقْبَلِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي مُحَالًا لِمَا ذُكِرَ فِي نَحْوِ أَمَّا زَيْدٌ فَمُنْطَلِقٌ مِنْ أَنَّ الْغَرَضَ الْمَعْنَوِيَّ هُوَ قَصْدُ الْمُلَازَمَةِ حَتَّى كَانَ هَذِهِ الْأَفْعَالُ الْمُسْتَقْبَلَةُ وَقَعَتْ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ وَصَارَتْ لَازِمَةً لَهَا كُلُّ ذَلِكَ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ ا هـ نَقَلَهُ الْأَبْيَارِيُّ فِي الْقَصْرِ لَكِنْ أَوْرَدَ فِي الْمُغْنِي عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ إذْ التَّعْلِيلِيَّةَ ظَرْفٌ إشْكَالَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ اُسْتُفِيدَ التَّعْلِيلُ مِنْ قُوَّةِ الْكَلَامِ لَكَانَ إذَا حُذِفَتْ إذْ وَحَلَّ مَحَلُّهَا وَقْتٌ اُسْتُفِيدَ التَّعْلِيلُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ زَمَنِ الْفِعْلَيْنِ فَإِنَّ يَنْفَعُ مُسْتَقْبَلٌ لِاقْتِرَانِهِ بِلَنْ وَظَلَمَ مَاضٍ وَكَذَا إذْ وَلَا بُدَّ فِي التَّعْلِيلِ مِنْ اتِّحَادِ الزَّمَانَيْنِ فِي الْمِثَالِ .
وَثَانِيهِمَا أَنَّ إذْ لَا تُبْدَلُ مِنْ الْيَوْمِ لِاخْتِلَافِ الزَّمَانَيْنِ أَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ وَلَا يَصِحُّ إبْدَالُ أَحَدِ الْمُتَبَايِنَيْنِ مِنْ الْآخَرِ وَلَا تَكُونُ ظَرْفًا لِيَنْفَعَ لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ فِي ظَرْفَيْنِ زَمَانِيَّيْنِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا تَابِعًا لِلْآخَرِ وَلَا مُنْدَرِجًا فِيهِ مَعَ أَنَّ النَّفْعَ لَيْسَ وَاقِعًا فِي وَقْتِ الظُّلْمِ وَلَا تَكُونُ ظَرْفًا لَمُشْتَرِكُونَ لِأَنَّ مَعْمُولَ خَبَرِ الْأَحْرُفِ السِّتَّةِ يَعْنِي إنَّ وَأَخَوَاتِهَا لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا .

وَلِأَنَّ مَعْمُولَ الصِّلَةِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَوْصُولِ وَلِأَنَّ اشْتِرَاكَهُمْ فِي الْآخِرَةِ لَا فِي زَمَنِ ظُلْمِهِمْ وَأَجَابَ عَنْ هَذَا الثَّانِي بِأَرْبَعَةِ أَجْوِبَةٍ أَشَارَ لِأَوَّلِهَا وَثَانِيهَا بِقَوْلِهِ .
وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ رَاجَعْت أَبَا عَلِيٍّ مِرَارًا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَنْ يَنْفَعَكُمْ الْيَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ } الْآيَةَ مُسْتَشْكِلًا إبْدَالَ إذْ مِنْ الْيَوْمِ فَآخِرُ مَا تَحَصَّلَ مِنْهُ أَنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ مُتَّصِلَتَانِ وَأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ فَكَانَ الْيَوْمُ مَاضٍ أَوْ كَانَ إذْ مُسْتَقْبَلَةً ا هـ .
وَلِثَالِثِهَا وَرَابِعِهَا بِقَوْلِهِ وَقِيلَ الْمَعْنَى إذْ ثَبَتَ ظُلْمُكُمْ وَقِيلَ التَّقْدِيرُ بَعْدَ إذْ ظَلَمْتُمْ وَعَلَيْهِمَا أَيْضًا فَإِذْ بَدَلٌ مِنْ الْيَوْمِ وَمَعْنَى إنْ بَعْدُ وَقَبْلُ غَيْرُ صَالِحَيْنِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمَا عِنْدَ إضَافَتِهِمَا إلَى إذْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَةِ مَعْنَاهُمَا وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ حَذْفُهُمَا لِدَلِيلٍ وَهُوَ هُنَا تَوَقُّفُ صِحَّةِ الْكَلَامِ عَلَى تَقْدِيرِ بَعْدَ فَهِيَ دَلَالَةٌ اقْتِضَائِيَّةٌ قَالَ وَإِذَا لَمْ تُقَدَّرْ إذْ تَعْلِيلًا أَيْ بَلْ جُعِلَتْ بَدَلًا عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إنْ وَصِلَتُهَا تَعْلِيلًا أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ حَرْفِ التَّعْلِيلِ وَالْفَاعِلُ مُسْتَتِرٌ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِمْ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَك بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أَوْ إلَى الْقَرِينِ وَيَشْهَدُ لَهُ قِرَاءَةُ بَعْضِهِمْ إنَّكُمْ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ وَصِلَتُهَا فَاعِلَ يَنْفَعُ ا هـ .
بِتَوْضِيحٍ مِنْ الْأَبْيَارِيِّ هَذَا وَزَادَ الْأَصْلُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ إنْ وَإِذَا وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنَّ إنْ لَا يُعَلَّقُ عَلَيْهَا إلَّا مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا تَقُولُ إنْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَأْتِ بِخِلَافِ إذَا فَإِنَّهَا تَقْبَلُ الْمَعْلُومَ وَالْمَشْكُوكَ فِيهِ فَتَقُولُ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَأْتِ وَإِذَا دَخَلَ الْعَبْدُ الدَّارَ فَهُوَ حُرٌّ وَهَذَا الْوَجْهُ وَإِنْ صَرَّحَ بِهِ الْبَيَانِيُّونَ إلَّا أَنَّ ابْنَ الشَّاطِّ جَزَمَ بِأَنَّ

إنْ لَا يَلْزَمُ دُخُولُهَا عَلَى الْمَشْكُوكِ بَلْ هِيَ لِمُطْلَقِ الرَّبْطِ فَقَطْ وَكَمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بِمَا ذُكِرَ كَذَلِكَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا مِنْ جِهَةِ الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ بِأَنَّ إنْ حَرْفٌ وَإِذَا اسْمٌ وَظَرْفٌ وَبِأَنَّ مَا بَعْدَ إنْ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ بِهَا وَمَا بَعْدَ إذَا فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِهَا وَبِأَنَّ الْبِنَاءَ فِي إنْ أَصْلٌ وَفِي إذَا عَارِضٌ لِأَنَّ الْبِنَاءَ فِي الْأَسْمَاءِ عَارِضٌ وَفِي الْحُرُوفِ أَصْلٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْفُرُوقِ النَّحْوِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا فَافْهَمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَسَائِلُ الْفُرُوعِيَّةُ يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهَا مِنْ أَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا لِلْآخَرِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَسَائِلُ الْأَوَانِي وَالنِّسْيَانِ وَالْكَعْبَةِ وَنَحْوِهَا لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا أَنْ يُقَلِّدَ الْآخَرَ ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نُقِلَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ سُئِلَ عَنْهَا فَقِيلَ لَهُ أَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الشَّافِعِيُّ خَلْفَ الْمَالِكِيِّ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْفُرُوعِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْكَعْبَةِ وَالْأَوَانِي أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ الْمُجْتَهِدِ الْآخَرِ فَسَكَتَ عَنْ الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ وَكَانَ الشَّيْخُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ يَحْكِي ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَكَانَ هُوَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بِأَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي الصَّلَاةِ مَطْلُوبَةٌ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ فَلَوْ قُلْنَا بِالْمَنْعِ مِنْ الِائْتِمَامِ لِمَنْ يُخَالِفُ فِي الْمَذْهَبِ وَأَنْ لَا يُصَلِّيَ الْمَالِكِيُّ إلَّا خَلْفَ الْمَالِكِيِّ وَلَا شَافِعِيٌّ إلَّا خَلْفَ شَافِعِيٍّ لَقَلَّتْ الْجَمَاعَاتُ وَإِذَا مَنَعْنَا مِنْ ذَلِكَ فِي الْقِبْلَةِ وَنَحْوِهَا لَمْ يُخِلَّ لَنَا ذَلِكَ بِالْجَمَاعَاتِ كَبِيرَ خَلَلٍ لِنُدْرَةِ وُقُوعِ مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَكَثْرَةِ وُقُوعِ الْخِلَافِ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ وَهَذَا جَوَابُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ ظَهَرَ لِي فِي ذَلِكَ جَوَابٌ هُوَ أَقْوَى مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي مَتَى خَالَفَ إجْمَاعًا أَوْ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا أَوْ الْقَوَاعِدَ نَقَضْنَاهُ .
وَإِذَا كُنَّا لَا نُقِرُّ حُكْمًا تَأَكَّدَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَأَوْلَى أَنْ لَا نُقِرَّهُ إذَا لَمْ يَتَأَكَّدْ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي حُكْمٍ هُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لِأَنَّا لَا نُقِرُّهُ شَرْعًا وَمَا لَيْسَ بِشَرْعٍ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ فَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كُلُّ مَنْ اعْتَقَدْنَا أَنَّهُ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ وَبِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَحْصُلُ الْفَرْقُ فِي غَايَةِ الْجُودَةِ وَبَيَانُهُ بِذِكْرِ أَرْبَعِ

مَسَائِلَ

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَسَائِلُ الْفُرُوعِيَّةُ يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهَا مِنْ أَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا لِلْآخَرِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَسَائِلُ الْأَوَانِي وَالثِّيَابِ وَالْكَعْبَةِ وَنَحْوِهَا لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا أَنْ يُقَلِّدَ الْآخَرَ إلَى قَوْلِهِ فَسَكَتَ عَنْ الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ ) قُلْتُ قَوْلُهُ يَجُوزُ التَّقْلِيدُ قَوْلٌ مُوهِمٌ وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ وَهُوَ مُرَادُهُ بِلَا شَكٍّ .
قَالَ ( وَكَانَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْكِي ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَكَانَ هُوَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُفَرِّقُ بِأَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي الصَّلَاةِ مَطْلُوبَةٌ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ فَلَوْ قُلْنَا بِالْمَنْعِ مِنْ الِائْتِمَامِ لِمَنْ يُخَالِفُ فِي الْمَذْهَبِ وَأَنْ لَا يُصَلِّيَ الْمَالِكِيُّ إلَّا خَلْفَ الْمَالِكِيِّ وَلَا شَافِعِيٌّ إلَّا خَلْفَ شَافِعِيٍّ لَقَلَّتْ الْجَمَاعَاتُ وَإِذَا مَنَعْنَا مِنْ ذَلِكَ فِي الْقِبْلَةِ وَنَحْوِهَا لَمْ يُخِلَّ ذَلِكَ بِالْجَمَاعَاتِ كَبِيرَ خَلَلٍ لِنُدْرَةِ وُقُوعِ مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَكَثْرَةِ وُقُوعِ الْخِلَافِ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ ) قُلْتُ ذَلِكَ فَرْقٌ ضَعِيفٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدِي بِالْفَرْقِ بَلْ الْفَرْقُ الصَّحِيحُ أَنَّ مَسْأَلَةَ اقْتِدَاءِ الْمَالِكِيِّ بِالشَّافِعِيِّ مَعَ أَنَّهُ لَا يَتَدَلَّكُ لَا يُمْكِنُ الْخَطَأُ فِيهَا عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ أَوْ لَا يُمْكِنُ تَعْيِينُ الْخَطَأِ فِيهَا عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ التَّصْوِيبِ وَمَسْأَلَةُ الْأَوَانِي وَنَحْوِهَا لَا بُدَّ مِنْ الْخَطَأِ فِيهَا وَيُمْكِنُ تَعْيِينُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَقَدْ ظَهَرَ لِي فِي ذَلِكَ جَوَابٌ هُوَ أَقْوَى مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي مَتَى خَالَفَ إجْمَاعًا أَوْ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا أَوْ الْقَوَاعِدَ قَضَاهُ وَإِذَا كُنَّا لَا نُقِرُّ حُكْمًا تَأَكَّدَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَأَوْلَى أَنْ لَا تُقِرَّهُ إذَا لَمْ يَتَأَكَّدْ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي حُكْمٍ هُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ

لِأَنَّا لَا نُقِرُّهُ شَرْعًا وَمَا لَيْسَ بِشَرْعٍ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ فَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كُلُّ مَنْ اعْتَقَدْنَا أَنَّهُ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ وَبِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَحْصُلُ الْفَرْقُ فِي غَايَةِ الْجَوْدَةِ وَبَيَانُهُ بِذِكْرِ أَرْبَعِ مَسَائِلَ ) قُلْتُ مَا ذَكَرَهُ فَرْقًا لَيْسَ بِفَرْقٍ لِأَنَّ الْفَرْقَ إنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِيمَا ذَكَرْته لَا فِيمَا ذَكَرَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَسَائِلُ الْفُرُوعِيَّةُ يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ فِيهَا مِنْ أَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا بِالْآخَرِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَسَائِلُ الْأَوَانِي وَالثِّيَابِ وَالْكَعْبَةِ وَنَحْوِهَا لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا أَنْ يَقْتَدِيَ بِالْآخَرِ ) قَدْ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِثَلَاثَةِ فُرُوقٍ الْأَوَّلُ لِابْنِ الشَّاطِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ الْفَرْقُ الصَّحِيحُ أَنَّ مَسْأَلَةَ اقْتِدَاءِ الْمَالِكِيِّ بِالشَّافِعِيِّ مَعَ أَنَّهُ لَا يَتَدَلَّكُ لَا يُمْكِنُ الْخَطَأُ فِيهَا عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ أَوْ لَا يُمْكِنُ تَعْيِينُ الْخَطَأِ فِيهَا عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ التَّصْوِيبِ وَمَسْأَلَةُ الْأَوَانِي وَنَحْوِهَا لَا بُدَّ مِنْ الْخَطَأِ فِيهَا وَيُمْكِنُ تَعْيِينُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ قُلْت وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُ الْمَازِرِيِّ حَكَى الْمَذْهَبُ الْإِجْمَاعَ عَلَى صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِالْمُخَالِفِ فِي الْفُرُوعِ الظَّنِّيَّةِ وَإِنَّمَا يُمْنَعُ فِيمَا عُلِمَ خَطَؤُهُ كَنَقْضِ قَضَاءِ الْقَاضِي قَالَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَفْرِقَةُ أَشْهَبَ بَيْنَ الْقُبْلَةِ وَمَسِّ الذَّكَرِ ا هـ .
أَيْ حَيْثُ قَالَ عِنْدَ ابْنِ سَحْنُونٍ مَنْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ لَا يَرَى الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْقُبْلَةِ يُعِيدُ أَبَدًا .
وَقَالَ سَحْنُونٌ يُعِيدُ فِيهِمَا فِي الْوَقْتِ كَذَا فِي الْحَطَّابِ عَنْ الذَّخِيرَةِ بِتَوْضِيحٍ مَا مِنْ الْمَوَّاقِ وَالْفَرْقُ الثَّانِي لِلْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي الصَّلَاةِ مَطْلُوبَةٌ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ وَكُلُّ مَطْلُوبٍ لَهُ يُغْتَفَرُ فِيهِ مَا يُؤَدِّي لِقِلَّتِهِ وَلَا يُغْتَفَرُ فِيهِ مَا لَا يُؤَدِّي لِقِلَّتِهِ فَلِكَثْرَةِ وُقُوعِ الْخِلَافِ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ لَوْ قُلْنَا بِالْمَنْعِ مِنْ الِائْتِمَامِ لِمَنْ يُخَالِفُ فِي الْمَذْهَبِ وَأَنْ لَا يُصَلِّيَ الْمَالِكِيُّ إلَّا خَلْفَ الْمَالِكِيِّ وَلَا الشَّافِعِيُّ إلَّا خَلْفَ الشَّافِعِيِّ لَقَلَّتْ الْجَمَاعَاتُ وَلِنُدْرَةِ وُقُوعِ مِثْلِ مَسْأَلَةِ الْأَوَانِي وَالْقُبْلَةِ لَوْ قُلْنَا

بِالْمَنْعِ مِنْ الِائْتِمَامِ لِمَنْ يُخَالِفُ فِي الِاجْتِهَادِ فِيهَا لَمْ يُخِلُّ ذَلِكَ بِالْجَمَاعَاتِ كَبِيرَ خَلَلٍ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَهَذَا فَرْقٌ ضَعِيفٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدِي بِالْفَرْقِ أَيْ لِأَنَّ الْفَرْقَ إنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لَا مِنْ غَيْرِهِمَا فَافْهَمْ .
( وَالْفَرْقُ الثَّالِثُ لِلْأَصْلِ ) بِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ لِتَعَيُّنِ الْمَنَاطِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَوَانِي وَنَحْوِهَا دُونَ مُخَالَفَتِهِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ الْمَنَاطِ فِي مَسْأَلَةِ الْبَسْمَلَةِ وَنَحْوِهَا اقْتَضَى أَنْ لَا يَجُوزَ التَّقْلِيدُ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي مَتَى خَالَفَ إجْمَاعًا أَوْ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا أَوْ الْقَوَاعِدَ نَقَضْنَاهُ وَلَا نُقِرُّهُ شَرْعًا وَإِنْ تَأَكَّدَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَأَوْلَى أَنْ لَا نُقِرَّهُ شَرْعًا إذَا لَمْ يَتَأَكَّدْ كَمَا هُنَا فَكُلُّ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ لَا نُقِرُّهُ شَرْعًا وَمَا لَيْسَ بِشَرْعٍ فَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ وَيُوَضِّحُ لَك هَذَا الْفَرْقَ الْأَخِيرَ مَسْأَلَتَانِ

( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْكَعْبَةِ إذَا اخْتَلَفُوا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ الْآخَرَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ تَرَكَ أَمْرًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَهُوَ الْكَعْبَةُ وَتَارِكُ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ لَا يُقَلِّدُ أَمَّا الْمُخْتَلِفَانِ فِي مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ فَإِنَّمَا يَعْتَقِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي صَاحِبِهِ أَنَّهُ خَالَفَ ظَاهِرًا مِنْ نَصٍّ أَوْ مَنْطُوقٍ بِهِ أَوْ مَفْهُومِ لَفْظٍ وَذَلِكَ لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَى اعْتِبَارِهِ وَلَا وَصَلَ إلَى حَدِّ الْقَطْعِ بَلْ هُوَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَجَازَ لَهُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ وَتَقْلِيدُهُ بِخِلَافِ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ خَالَفَ الْكَعْبَةَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا الْمَقْطُوعَ بِاعْتِبَارِهَا وَهَذَا الْفَرْقُ فِي غَايَةِ الْجَلَاءِ فَأَيْنَ الْمَقْطُوعُ مِنْ الْمَظْنُونِ وَأَيْنَ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) إلَى آخِرِ الْفَرْقِ قُلْت مَا قَالَهُ فِي الْمَسَائِلِ صَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى مَا قَرَّرَ وَهُوَ أَنَّ الْفَرْقَ مُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لِتَعَيُّنِ الْمَنَاطِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَوَانِي وَنَحْوِهَا وَعَدَمِ تَعَيُّنِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْبَسْمَلَةِ وَنَحْوِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) اللَّذَانِ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُمَا فِي الْكَعْبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ أَحَدَهُمَا يَعْتَقِدُ أَنَّ الْآخَرَ قَدْ خَالَفَ الْكَعْبَةَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا الْمَقْطُوعِ بِاعْتِبَارِهَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ لِأَنَّ تَارِكَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ الْمَقْطُوعِ بِاعْتِبَارِهِ لَا يُقْتَدَى بِهِ وَالْمُخْتَلِفَانِ فِي مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَعْتَقِدُ فِي صَاحِبِهِ أَنَّهُ خَالَفَ ظَاهِرًا مِنْ نَصٍّ أَوْ مَنْطُوقٍ بِهِ أَوْ مَفْهُومٍ لَفْظٌ لَا مُجْمَعًا عَلَى اعْتِبَارِهِ وَلَا وَاصِلًا إلَى حَدِّ الْقَطْعِ بَلْ هُوَ فِي مَحَلِّ اجْتِهَادٍ يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ صَاحِبِهِ .

( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْأَوَانِي الَّتِي اخْتَلَطَ طَاهِرُهَا بِنَجَسِهَا إذَا اخْتَلَفُوا وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ النَّجَاسَةَ مُبْطِلَةٌ لِلصَّلَاةِ إمَّا بِاجْتِهَادِهِمْ وَصَلُوا إلَى ذَلِكَ أَوْ قَلَّدُوا مَنْ وَصَلَ إلَى ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ فَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ بِالْإِجْمَاعِ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ أَوْ اجْتِهَادُ إمَامِهِمْ الَّذِي قَلَّدُوهُ وَإِذَا كَانَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِمْ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّ صَاحِبَهُ لَابِسٌ فِي صَلَاتِهِ مَا هُوَ مُبْطِلٌ لِصَلَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ فَقَدْ خَالَفَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَمَقْطُوعًا بِهِ فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِخِلَافِ مَنْ لَا يَتَدَلَّكُ فِي غُسْلِهِ أَوْ لَمْ يُبَسْمِلْ لَمْ يُخَالِفْ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَلَا مَقْطُوعًا بِهِ بَلْ ظَاهِرًا مُحْتَمِلَ التَّأْوِيلِ فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) الْمُجْتَهِدُونَ فِي الثِّيَابِ الَّتِي اخْتَلَطَ طَاهِرُهَا بِنَجَسِهَا إذَا اخْتَلَفُوا وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ النَّجَاسَةَ مُبْطِلَةٌ لِلصَّلَاةِ إمَّا بِاجْتِهَادِهِمْ أَوْ بِاجْتِهَادِ إمَامٍ قَلَّدُوهُ لَا يُقَلِّدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَوَانِي بِعَيْنِهِ حَرْفًا بِحَرْفٍ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) اللَّذَانِ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُمَا فِي الْأَوَانِي أَوْ فِي الثِّيَاب الَّتِي اخْتَلَطَ طَاهِرُهَا بِنَجَسِهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَفِي حَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ فِي اجْتِهَادِهِ بِالْإِجْمَاعِ هُوَ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ لَا مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُ غَيْرِهِ يَعْتَقِدُ هُوَ وَمَنْ قَلَّدَهُ أَنَّ غَيْرَهُ لَابِسٌ فِي صَلَاتِهِ مَا هُوَ مُبْطِلٌ لِصَلَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَخَالَفَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَمَقْطُوعًا بِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ وَلَا لِمَنْ قَلَّدَهُ الِاقْتِدَاءُ بِذَلِكَ الْغَيْرِ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَمَنْ لَمْ يَتَدَلَّكْ فِي غُسْلِهِ أَوْ لَمْ يُبَسْمِلْ فِي صَلَاتِهِ .

( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) إنَاءٌ وَقَعَ فِيهِ رَوْثُ عُصْفُورٍ وَتَوَضَّأَ بِهِ مَالِكِيٌّ وَصَلَّى يَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَهُ وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّ كَمَا لَا يَضُرُّهُ تَرْكُ الْمَالِكِيِّ الْبَسْمَلَةَ وَغَيْرَهَا مِمَّا يَعْتَقِدُهُ الشَّافِعِيُّ وَلَوْ اخْتَلَطَ هَذَا الْإِنَاءُ بِإِنَاءٍ طَاهِرٍ فَاجْتَهَدَ فِيهِ هَذَا الشَّافِعِيُّ مَعَ شَافِعِيٍّ آخَرَ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَقْتَدِيَ بِالْآخَرِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الِاجْتِهَادِ وَلَوْ اجْتَمَعَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَاجْتَهَدَا فِي رَوْثِ الْعُصْفُورِ فَحَكَمَ مَالِكٌ بِطَهَارَتِهِ وَالشَّافِعِيُّ بِنَجَاسَتِهِ جَازَ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ مَالِكٍ إذَا تَوَضَّأَ بِالْمَاءِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مَعَ تَعَيُّنِ رَوْثِ الْعُصْفُورِ فِي جِهَةِ الْإِمَامِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى يَجُوزُ الْمَأْمُومُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي إنَاءِ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ فَهُوَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ أَنْ يُعَيِّنَ وَمَعَ ذَلِكَ فَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى امْتِنَاعِ التَّقْلِيدِ فِي الْإِنَاءَيْنِ إذَا اجْتَهَدَا فِي الطَّاهِرِ مِنْهُمَا دُونَ أَنْ يَتَعَيَّنَ فِي جِهَةِ الْإِمَامِ .
وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَشْكَلِ الْمَسَائِلِ وَجَوَابُهُ أَنَّ لِلشَّافِعِيَّيْنِ إذَا اجْتَهَدَا فِي الْإِنَاءَيْنِ فَهُمَا مُقَلِّدَانِ لِمَنْ يَعْتَقِدُ نَجَاسَةَ رَوْثِ الْعُصْفُورِ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الشَّافِعِيِّ وَحَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ مَا ظَهَرَ فِي اجْتِهَادِهِ فَالشَّافِعِيُّ يَعْتَقِدُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ الْآخَرَ قَدْ أَصَابَ فِي صَلَاتِهِ مَا هُوَ مُبْطِلٌ لِصَلَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَمَنْ اعْتَقَدْنَا فِيهِ مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ لَا نُقَلِّدُهُ بِخِلَافِ صَلَاةِ هَذَا الشَّافِعِيِّ خَلْفَ الْمَالِكِيِّ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ مَالِكٍ وَالْمَالِكِيِّ صِحَّةُ صَلَاتِهِ بِرَوْثِ الْعُصْفُورِ إجْمَاعًا وَأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ إجْمَاعًا بَلْ خَالَفَ قِيَاسًا مَظْنُونًا أَوْ ظَاهِرَ نَصٍّ غَيْرِ مَقْطُوعٍ بِهِ وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ إذَا صَلَّى خَلْفَ مَالِكٍ

وَعَلَيْهِ رَوْثُ عُصْفُورٍ أَوْ فِي مَائِهِ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَالِكًا لَمْ يُخَالِفْ إجْمَاعًا وَلَا مَقْطُوعًا بِهِ بَلْ ظَاهِرَ قِيَاسٍ أَوْ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ الِاجْتِهَادِ فَجَازَ لَهُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ بِخِلَافِ أَنْ يَكُونَ إمَامُهُ يَعْتَقِدُ مَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ إبْطَالِ رَوْثِ الْعُصْفُورِ لِلصَّلَاةِ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَسَائِلَ وَهَذِهِ الْمَبَاحِثَ فَهِيَ كُلُّهَا دَائِرَةٌ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ مَنْ اعْتَقَدْنَا فِيهِ أَنَّهُ خَالَفَ مَقْطُوعًا بِهِ لَمْ يَجُزْ لَنَا تَقْلِيدُهُ وَإِنْ لَمْ نَعْتَقِدْ فِيهِ ذَلِكَ جَازَ لَنَا تَقْلِيدُهُ وَالصَّلَاةُ خَلْفَهُ وَهُوَ رُوحُ الْفَرْقِ وَهُوَ فَرْقٌ جَيِّدٌ جِدًّا وَلَكِنْ بَعْدَ التَّأَمُّلِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ وَهُوَ أَجْلَى مِنْ قَوْلِنَا إنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى قِلَّةِ الْجَمَاعَاتِ أَوْ كَثْرَتِهَا .

أَوْ تَوَضَّأَ بِإِنَاءٍ وَقَعَ فِيهِ رَوْثُ عُصْفُورٍ أَوْ صَلَّى بِثَوْبٍ فِيهِ رَوْثُ عُصْفُورٍ مُجْتَهِدًا كَانَ أَوْ مُقَلِّدًا فِي ذَلِكَ الْمُجْتَهِدَ مِنْ حَيْثُ إنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ صِحَّةُ صَلَاتِهِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ أَوْ اجْتِهَادُ مُقَلِّدِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَلَا مَقْطُوعًا بِهِ بَلْ خَالَفَ ظَاهِرًا مُحْتَمِلًا لِلتَّأْوِيلِ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فَرْقًا لَيْسَ بِفَرْقٍ لِأَنَّ الْفَرْقَ إنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِيمَا ذَكَرْته لَا فِيمَا ذَكَرَهُ ا هـ .
قُلْت وَذَلِكَ لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ وَعَدَمَ مُخَالَفَتِهِ وَصْفَانِ لِلْمُجْتَهِدِ لَا لِلْمَسْأَلَتَيْنِ الْمَفْرُوقِ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ الْقَطْعِ بِالْخَطَأِ وَإِمْكَانِ تَعْيِينِهِ وَعَدَمِ إمْكَانِ الْخَطَأِ وَلَا إمْكَانِ تَعْيِينِهِ فَإِنَّهُمَا وَصْفَانِ لِلْمَسْأَلَتَيْنِ الْمَفْرُوقِ بَيْنَهُمَا فَافْهَمْ ( وَصْلٌ ) الظَّاهِرُ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْفَرْقِ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى قَاعِدَةِ الْعَوْفِيِّ الَّتِي فِي قَوْلِ الْعَلَّامَةِ الْأَمِيرِ فِي مَجْمُوعِهِ وَشَرْحِهِ وَالْعِبْرَةُ فِي شَرْطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ بِمَذْهَبِهِ أَيْ الْإِمَامِ وَفِي شَرْطِ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِمَذْهَبِ الْمَأْمُومِ عَلَى مَا قَالَهُ الْعَوْفِيُّ وَارْتَضَوْهُ قَالَ الرَّمَاصِيُّ يَصِحُّ اقْتِدَاءُ مَالِكِيٍّ بِشَافِعِيٍّ فِي ظُهْرٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِاتِّحَادِ عَيْنِ الصَّلَاةِ وَالْمَأْمُومُ يَرَاهَا أَدَاءً كَمَا فِي كَبِيرِ الْخَرَشِيِّ ا هـ .
قَالَ الشَّيْخُ حِجَازِيٌّ فَشَرْطُ الِاقْتِدَاءِ مَوْجُودٌ عَلَى مَذْهَبِ الْمَأْمُومِ بَلْ كَذَلِكَ لَوْ الْتَفَتْنَا إلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ جَدَلًا فَإِنَّهُمَا قَضَاءٌ عِنْدَهُ وَلَا مُوجِبَ لِلتَّلْفِيقِ ا هـ .
قَالَ الْعَلَّامَةُ الْأَمِيرُ عَقِبَ مَا ذَكَرَ بَقِيَ أَنَّ قَاعِدَةَ الْعَوْفِيِّ هَلْ تَجْرِي فِي الْأَرْكَانِ حَتَّى يَصِحَّ خَلْفَ حَنَفِيٍّ لَا يَرْفَعُ مِنْ الرُّكُوعِ وَبِهِ صَرَّحَ

شَيْخُنَا فِي حَاشِيَةِ الْخَرَشِيِّ أَوْ تَقْتَصِرُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ مِنْ الشَّرْطِ كَمَسْحِ رَأْسٍ وَنَقْضِ وُضُوءٍ لِأَنَّ الرُّكْنَ أَعْظَمُ .
وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ مَا فِي الذَّخِيرَةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ لَوْ عَلِمْت أَنَّ رَجُلًا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ لَمْ أُصَلِّ خَلْفَهُ نَقَلَهُ الْحَطَّابُ يُحَرَّرُ ا هـ بِتَوْضِيحٍ مَا وَبِالِاحْتِمَالِ الثَّانِي جَزَمَ الْعَلَّامَةُ الدُّسُوقِيُّ حَيْثُ قَالَ .
وَأَمَّا مَا كَانَ رُكْنًا دَاخِلًا فِي مَاهِيَّتِهَا فَالْعِبْرَةُ فِيهِ بِمَذْهَبِ الْمَأْمُومِ مِثْلُ شَرْطِ الِاقْتِدَاءِ فَلَوْ اقْتَدَى مَالِكِيٌّ بِحَنَفِيٍّ لَا يَرَى رُكْنِيَّةَ السَّلَامِ وَلَا الرَّفْعَ مِنْ الرُّكُوعِ فَإِنْ أَتَى بِهِمَا صَحَّتْ صَلَاةُ مَأْمُومِهِ الْمَالِكِيِّ وَإِنْ تَرَكَ الْإِمَامُ الْحَنَفِيُّ الرَّفْعَ مِنْ الرُّكُوعِ أَوْ خَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ بِأَجْنَبِيٍّ كَانَتْ صَلَاةُ مَأْمُومِهِ الْمَالِكِيِّ بَاطِلَةً وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ الْمَأْمُومُ الْمَذْكُورُ كَذَا قَرَّرَ شَيْخُنَا الْعَدَوِيُّ ا هـ .
وَلَيْسَ مَبْنِيًّا أَيْضًا عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا قَوْلُ صَاحِبِ الطِّرَازِ أَنَّ الْإِمَامَ الْمُخَالِفَ فِي الْفُرُوعِ الظَّنِّيَّةِ مَتَى تَحَقَّقَ فِعْلُهُ لِلشَّرَائِطِ جَازَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ فَالشَّافِعِيُّ مَسْحُ جَمِيعِ رَأْسِهِ سُنَّةٌ فَلَا يَضُرُّ اعْتِقَادُهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَمَّ فِي الْفَرِيضَةِ بِنِيَّةِ النَّافِلَةِ أَوْ مَسَحَ رِجْلَيْهِ نَقَلَهُ الْخَطَّابُ عَنْ الذَّخِيرَةِ وَفِي الْمَوَّاقِ قَالَ عِيَاضٌ إنَّ أَبَا الْمَعَالِيَ الْجُوَيْنِيَّ قَدَّمَ عَبْدَ الْحَقِّ الصَّقَلِّيَّ صَلَّى بِهِ وَقَالَ لَهُ الْبَعْضُ يَدْخُلُ فِي الْكُلِّ يَعْرِضُ لَهُ بِمَسْحِ الرَّأْسِ إذْ كَانَ أَبُو الْمَعَالِي شَافِعِيًّا ا هـ .
وَهِيَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَذْهَبِ الْمَأْمُومِ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا يَنْبَغِي مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْفَرْقِ عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي حَكَاهَا الشَّيْخُ حِجَازِيٌّ عَلَى الْمَجْمُوعِ بِقِيلِ مِنْ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَذْهَبِ الْإِمَامِ مُطْلَقًا قَالَ الْحَطَّابُ أَجَازَ

الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ السَّادِسِ وَالسَّبْعِينَ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْمُخَالِفِ وَإِنْ رَآهُ يَفْعَلُ مَا يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ ا هـ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَحَرِّرْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْخِلَافُ يَتَقَرَّرُ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ قَبْلَ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ يَبْطُلُ الْخِلَافُ فِيهَا وَيَتَعَيَّنُ قَوْلُ وَاحِدٍ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ ) وَذَلِكَ الْقَوْلُ هُوَ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ عَلَى الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ اعْلَمْ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ وَيَرْجِعُ الْمُخَالِفُ عَنْ مَذْهَبِهِ لِمَذْهَبِ الْحَاكِمِ وَتَتَغَيَّرُ فُتْيَاهُ بَعْدَ الْحُكْمِ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فَمَنْ لَا يَرَى وَقْفَ الْمُشَاعِ إذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّةِ وَقْفِهِ ثُمَّ رُفِعَتْ الْوَاقِعَةُ لِمَنْ كَانَ يُفْتِي بِبُطْلَانِهِ نَفَّذَهُ وَأَمْضَاهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُفْتِيَ بِبُطْلَانِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا وَحَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ فَاَلَّذِي كَانَ يَرَى لُزُومَ الطَّلَاقِ لَهُ يُنْفِذُ هَذَا النِّكَاحَ وَلَا يَحِلُّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُفْتِيَ بِالطَّلَاقِ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَلِذَلِكَ وَقَعَ لَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهِ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ لَا يُرَدُّ وَلَا يُنْقَضُ وَأَفْتَى مَالِكٌ فِي السَّاعِي إذَا أَخَذَ مِنْ الْأَرْبَعِينَ شَاةً لِرَجُلَيْنِ خَلِيطَيْنِ فِي الْغَنَمِ شَاةً أَنَّهُمَا يَقْتَسِمَانِهَا بَيْنَهُمَا وَلَا يَخْتَصُّ بِهَا مَنْ أُخِذَتْ مِنْهُ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مَعَ أَنَّهُ يُفْتِي إذَا أَخَذَهَا السَّاعِي الْمَالِكِيُّ أَنَّهَا تَكُونُ مَظْلِمَةً مِمَّنْ أُخِذَتْ مِنْهُ وَعَلَّلَ مَالِكٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُ حُكْمُ حَاكِمٍ فَأَبْطَلَ مَا كَانَ يُفْتِي بِهِ عِنْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِخِلَافِ مَا يَعْتَقِدُهُ مَالِكٌ وَوَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ إذَا حَكَمَ الْإِمَامُ فِيهَا أَنَّهَا لَا تُصَلَّى إلَّا بِإِذْنٍ مِنْ الْإِمَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَوَقَعَ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ بَعْضِ

أَصْحَابِهِمْ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا رُفِعَ لِمَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ لَا يَنْفُذُ وَلَا يَنْقُضُهُ وَيَتْرُكُهُ عَلَى حَالِهِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى التَّنْفِيذِ لِوَجْهَيْنِ وَهُمَا الْفَرْقُ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا اسْتَقَرَّتْ لِلْحُكَّامِ قَاعِدَةٌ وَلَبَقِيَتْ الْخُصُومَاتُ عَلَى حَالِهَا بَعْدَ الْحُكْمِ وَذَلِكَ يُوجِبُ دَوَامَ التَّشَاجُرِ وَالتَّنَازُعِ وَانْتِشَارِ الْفَسَادِ وَدَوَامِ الْعِنَادِ وَهُوَ مُنَافٍ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا نُصِبَ الْحُكَّامُ وَثَانِيهِمَا وَهُوَ أَجَلُّهُمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُنْشِئَ الْحُكْمَ فِي مَوَاضِعِ الِاجْتِهَادِ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ إمَامِهِ الَّذِي قَلَّدَهُ فَهُوَ مُنْشِئٌ لِحُكْمِ الْإِلْزَامِ فِيمَا يَلْزَمُ وَالْإِبَاحَةُ فِيمَا يُبَاحُ كَالْقَضَاءِ بِأَنَّ الْمَوَاتَ الَّذِي ذَهَبَ إحْيَاؤُهُ صَارَ مُبَاحًا مُطْلَقًا كَمَا كَانَ قَبْلَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِنْشَاءِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُفْتِي بِأَنَّ الْمُفْتِيَ مُخْبِرٌ كَالْمُتَرْجِمِ مَعَ الْحَاكِمِ وَالْحَاكِمُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى كَنَائِبِ الْحَاكِمِ مَعَهُ يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا تَقَدَّمَ الْحُكْمُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ مُسْتَنِيبِهِ بَلْ يُنْشِئُ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ رَأْيُهُ وَالْمُتَرْجِمُ لَا يَتَعَدَّى صُورَةَ مَا وَقَعَ فَيَنْقُلُهُ .
وَقَدْ بَسَطْت هَذَا الْمَعْنَى بِشُرُوطِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي كِتَابِ الْإِحْكَامِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ وَتَصَرُّفِ الْقَاضِي وَالْإِمَامِ وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَإِذَا كَانَ مَعْنَى حُكْمِ الْحَاكِمِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ إنْشَاءَ الْحُكْمِ فَهُوَ مُخْبِرٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ الْحُكْمِ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لَهُ أَنَّ مَا حَكَمَ بِهِ فَهُوَ حُكْمُهُ وَهُوَ كَالنَّصِّ الْوَارِدِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خُصُوصِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَيَصِيرُ الْحَالُ إلَى تَعَارُضِ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ فَيُقَدَّمُ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَتَقْرِيبُهُ بِالْمِثَالِ أَنَّ

مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى دَلَّ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ عَلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمِلْكِ يَلْزَمُ وَهَذَا الدَّلِيلُ يَشْمَلُ صُوَرًا لَا نِهَايَةَ لَهَا فَإِذَا رُفِعَتْ صُورَةٌ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ إلَى حَاكِمٍ شَافِعِيٍّ وَحَكَمَ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ وَاسْتِمْرَارِ الْعِصْمَةِ وَإِبْطَالِ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ كَانَ حُكْمُ الشَّافِعِيِّ نَصًّا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَرَدَ فِي خُصُوصِ تِلْكَ الصُّورَةِ .
وَلَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ التَّعْلِيقُ قَبْلَ الْمِلْكِ لَازِمٌ وَقَالَ التَّعْلِيقُ قَبْلَ الْمِلْكِ فِي حَقِّ هَذِهِ الْمَرْأَةِ غَيْرُ لَازِمٍ وَالْعِصْمَةُ فِيهَا تَسْتَمِرُّ لَقُلْنَا هَذَانِ نَصَّانِ خَاصٌّ وَعَامٌّ فَنُقَدِّمُ الْخَاصَّ عَلَى الْعَامِّ كَمَا لَوْ قَالَ اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ لَا تَقْتُلُوا الرُّهْبَانَ فَإِنَّا نَقْتُلُ الْمُشْرِكِينَ وَنَتْرُكُ الرُّهْبَانَ كَذَلِكَ يَقُولُ مَالِكٌ أُعْمِلُ هَذَا الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَتَبْقَى بَقِيَّةُ الصُّوَرِ عِنْدِي لَا يَصِحُّ فِيهَا التَّعْلِيقُ قَبْلَ النِّكَاحِ جَمْعًا بَيْنَ نَصَّيْ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَمَنْ فَهِمَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُفْتِي وَالْحَاكِمِ وَإِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ نَصٌّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى خَاصٌّ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ لَمْ يَسَعْهُ إلَّا مَا قَالَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا خَفِيًّا جِدًّا حَتَّى إنِّي لَمْ أَجِدْ أَحَدًا يُحَقِّقُهُ خَالَفَ فِي ذَلِكَ مَنْ خَالَفَ وَلَمْ يُوجِبْ تَنْفِيذَ أَقْضِيَةِ الْحُكَّامِ فِي مَوَاقِعِ الْخِلَافِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْخِلَافِ قَبْلَ الْحُكْمِ وَبَيْنَ قَاعِدَتِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ وَمَنْ أَرَادَ اسْتِيعَابَهُ فَلْيَقِفْ عَلَى كِتَابِ الْإِحْكَامِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ إلَّا هَذَا الْفَرْقُ لَكِنَّهُ مَبْسُوطٌ فِي أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً مُنَوَّعَةً حَتَّى صَارَ الْمَعْنَى فِي غَايَةِ الضَّبْطِ وَالْجَلَاءِ

قَالَ ( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْخِلَافُ يَتَقَرَّرُ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ قَبْلَ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ يَبْطُلُ الْخِلَافُ فِيهَا وَيَتَعَيَّنُ قَوْلٌ وَاحِدٌ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَذَلِكَ الْقَوْلُ هُوَ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ عَلَى الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ يُوهِمُ أَنَّ الْخِلَافَ يَبْطُلُ مُطْلَقًا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا حُكْمُ الْحَاكِمِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْخِلَافُ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا اسْتَفْتَى الْمُخَالِفُ فِي عَيْنِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي وَقَعَ حُكْمٌ فِيهَا لَا تَسُوغُ الْفَتْوَى فِيهَا بِعَيْنِهَا لِأَنَّهُ قَدْ نَفَذَ فِيهَا الْحُكْمُ بِقَوْلَةِ قَائِلٍ وَمَضَى الْعَمَلُ بِهَا فَإِذَا اسْتَفْتَى فِي مِثْلِهَا قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الْحُكْمُ فِيهَا أَفْتَى بِمَذْهَبِهِ عَلَى أَصْلِهِ فَكَيْفَ يَقُولُ يَبْطُلُ الْخِلَافُ وَلَوْ بَطَلَ الْخِلَافُ لَمَا سَاغَ ذَلِكَ نَعَمْ يَبْطُلُ الْخِلَافُ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَسْأَلَةِ الْمُعَيَّنَةِ خَاصَّةً .
قَالَ ( اعْلَمْ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ إلَى قَوْلِهِ وَلِذَلِكَ وَقَعَ لَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهِ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ لَا يُرَدُّ وَلَا يُنْقَضُ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ إذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّةِ وَقْفِ الْمُشَاعِ ثُمَّ رُفِعَتْ الْوَاقِعَةُ لِمَنْ كَانَ يُفْتِي بِبُطْلَانِهِ نَفَّذَهُ وَأَمْضَاهُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا يُنَفِّذُهُ وَلَا يُمْضِيهِ وَلَكِنَّهُ لَا يَرُدُّهُ وَلَا يَنْقُضُهُ وَفَرَّقَ بَيْنَ كَوْنِهِ يُنَفِّذُهُ وَيُمْضِيهِ وَكَوْنِهِ لَا يَرُدُّهُ وَلَا يَنْقُضُهُ .
قَالَ ( وَأَفْتَى مَالِكٌ فِي السَّاعِي إذَا أَخَذَ مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً لِرَجُلَيْنِ خَلِيطَيْنِ فِي الْغَنَمِ شَاةً أَنَّهُمَا يَقْتَسِمَانِهَا بَيْنَهُمَا وَلَا يَخْتَصُّ بِهَا مَنْ أُخِذَتْ مِنْهُ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ يُفْتِي إذَا أَخَذَهَا لِلسَّاعِي الْمَالِكِيُّ أَنَّهَا تَكُونُ مَظْلِمَةً مِمَّنْ

أُخِذَتْ مِنْهُ وَعَلَّلَ مَالِكٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُ حُكْمُ حَاكِمٍ إلَى قَوْلِهِ وَهُوَ مُنَافٍ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا نُصِبَ الْحُكَّامُ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى التَّنْفِيذِ إنْ أَرَادَ بِهِ إبْقَاءَ الْحُكْمِ عَلَى حَالِهِ وَإِقْرَارِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لَهُ بِرَدٍّ وَلَا نَقْضٍ فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْحَاكِمَ الثَّانِيَ الَّذِي يُخَالِفُ رَأْيُهُ ذَلِكَ الْحُكْمَ يُنْشِئُ تَنْفِيذُهُ الْآنَ عَلَى خِلَافِ رَأْيِهِ مُوَافَقَةً لِرَأْيِ مَنْ قَدْ حَكَمَ بِهِ قَبْلَهُ وَنَفَّذَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدِي بِصَحِيحٍ وَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ وَفِيهِ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ وَالْحُكْمُ بِمَا يُخَالِفُ رَأْيَ الْحَاكِمِ أَمَّا إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِتَنْفِيذِهِ إقْرَارَهُ وَعَدَمَ نَقْضِهِ وَالزَّجْرَ عَنْ الْخُصُومَةِ فِيهِ لِأَنَّهُ حُكْمٌ قَدْ نَفَّذَهُ حَاكِمٌ فَذَلِكَ صَحِيحٌ أَوْ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ إنَّهُ إذَا رُفِعَ لِمَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ لَا يُنَفِّذُهُ وَلَا يَنْقُضُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ أَنْ لَا يُقِرَّهُ عَلَى حُكْمِ ذَلِكَ الْحَاكِمِ وَيُزْجَرَ عَنْ الْخُصُومَةِ فِيهِ وَلَا يَنْقُضَهُ أَيْضًا ابْتِدَاءً بَلْ يُمَكَّنُ مِنْ الْخُصُومَةِ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَثَانِيهِمَا وَهُوَ أَجَلُّهُمَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُنْشِئَ الْحُكْمَ فِي مَوَاضِعِ الِاجْتِهَادِ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ إمَامِهِ الَّذِي قَلَّدَهُ إلَى قَوْلِهِ وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى ) قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْحَاكِمَ مُنْشِئٌ لِلْحُكْمِ وَأَنَّ الْمُفْتِيَ مُخْبِرٌ بِالْحُكْمِ كَالْمُتَرْجِمِ صَحِيحٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْحَاكِمَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى كَنَائِبِ الْحَاكِمِ مَعَهُ يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا تَقَدَّمَ الْحُكْمُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ مُسْتَنِيبِهِ بَلْ يُنْشِئُ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ رَأْيُهُ كَلَامٌ يُوهِمُ بِحَسَبِ التَّشْبِيهِ أَنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا هُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ وَلَا هُوَ مُرَادُهُ بَلْ لَفْظُهُ لَمْ

يُسَاعِدْهُ عَلَى الْمُرَادِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْتَارِ وَمُرَادُهُ عَلَى الْجُمْلَةِ أَنَّ الْمُفْتِيَ نَاقِلٌ وَمُخْبِرٌ وَمُعَرِّفٌ بِالْحُكْمِ وَالْحَاكِمُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مُلْزِمٌ لِلْحُكْمِ وَمُنَفِّذٌ لَهُ وَذَلِكَ بَيِّنٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَإِذَا كَانَ مَعْنَى حُكْمِ الْحَاكِمِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ إنْشَاءَ الْحُكْمِ فَهُوَ مُخْبِرٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ الْحُكْمِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ الْحَاكِمَ مُخْبِرٌ عَنْ اللَّهِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْحَاكِمَ لَيْسَ بِمُخْبِرٍ بِالْحُكْمِ بَلْ هُوَ مُلْزِمٌ لِلْحُكْمِ وَقَوْلُهُ هَذَا نَقِيضٌ لِقَوْلِهِ آنِفًا إنَّ الْحَاكِمَ مُنْشِئٌ لِحُكْمِ الْإِلْزَامِ فِيمَا يَلْزَمُ وَأَنَّ الْمُفْتِيَ مُخْبِرٌ فَسُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ مَا أَسْرَعَ مَا نَسِيَ .
قَالَ ( وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لَهُ أَنَّ مَا حَكَمَ بِهِ فَهُوَ حُكْمُهُ ) قُلْتُ أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ فَقَوْلُهُ ذَلِكَ صَحِيحٌ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُصَوِّبُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ بَلْ رُبَّمَا صَادَفَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَرُبَّمَا لَمْ يُصَادِفْ حُكْمُهُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَهُ لَكِنَّهُ مَعْذُورٌ وَمَأْجُورٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَهُوَ كَالنَّصِّ الْوَارِدِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خُصُوصِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَيَصِيرُ الْحَالُ إلَى تَعَارُضِ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ فَيُقَدَّمُ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ) قُلْتُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ الْمُتَعَارِضَيْنِ عَلَى التَّحْقِيقِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُشْبِهُ الْعَامَّ وَالْخَاصَّ الْمُتَعَارِضَيْنِ بِوَجْهٍ مَا فَذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ ( وَتَقْرِيبُهُ بِالْمِثَالِ أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى دَلَّ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ عَلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمِلْكِ يَلْزَمُ إلَى قَوْلِهِ جَمْعًا بَيْنَ نَصَّيْ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ ) قُلْتُ هُوَ مِثَالٌ صَحِيحٌ غَيْرَ

أَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ مِنْ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ حَقِيقَةً فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُشْبِهُهُ بِوَجْهٍ مَا فَذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ ( وَمَنْ فَهِمَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُفْتِي وَالْحَاكِمِ وَإِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ نَصٌّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى خَاصٌّ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ لَمْ يَسَعْهُ إلَّا مَا قَالَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا خَفِيًّا جِدًّا حَتَّى أَنِّي لَمْ أَجِدْ أَحَدًا يُحَقِّقُهُ خَالَفَ فِي ذَلِكَ مَنْ خَالَفَ وَلَمْ يُوجِبْ تَنْفِيذَ أَقْضِيَةِ الْحُكَّامِ فِي مَوَاقِعِ الْخِلَافِ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ فِي الْفَرْقِ ) قُلْتُ قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ خَاصٌّ وَعَامٌّ تَعَارَضَا حَقِيقَةً فَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُشْبِهُ الْعَامَّ وَالْخَاصَّ مِنْ وَجْهٍ مَا فَهُوَ كَذَلِكَ قُلْتُ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُفْتِي وَالْحَاكِمِ خَفِيٌّ جِدًّا لَيْسَ كَمَا قَالَ وَكَذَلِكَ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ نَصٌّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقَضِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ فَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ مَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ نَقْضِ أَحْكَامِ الْمُجْتَهِدِينَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفْسَدَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، وَمَا قَالَهُ فِي الْفَرْقِ الثَّامِنِ وَالسَّبْعِينَ صَحِيحٌ وَكَذَلِكَ مَا قَالَ فِي الْفَرْقِ التَّاسِعِ وَالسَّبْعِينَ إلَّا مَا ذَكَرَهُ فِي آخِرِهِ مِمَّا أَحَالَ فِيهِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ تَحْرِيمِ الْمُشْتَرَكِ وَثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُشْتَرَكِ فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهُ مِنْ الْفُرُوقِ إلَى الْفَرْقِ الثَّالِثِ وَالثَّمَانِينَ إلَّا مَا قَالَ فِي الْفَرْقِ الثَّانِي وَالثَّمَانِينَ مِنْ نِسْبَةِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَلَّيْت بِأَصْحَابِك وَأَنْتَ جُنُبٌ لِحَسَّانَ فَإِنَّهُ إنَّمَا كَانَ لِعَمَّارٍ

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْخِلَافُ يَتَقَرَّرُ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ قَبْلَ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ يَبْطُلُ الْخِلَافُ فِيهَا وَيَتَعَيَّنُ قَوْلُ وَاحِدٍ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَهُوَ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ عَلَى الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ ) بِمَعْنَى أَنَّ الْمُفْتِي الْمُخَالِفَ إذَا اسْتَفْتَى فِي عَيْنِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي وَقَعَ الْحُكْمُ فِيهَا لَا تَسُوغُ لَهُ الْفَتْوَى فِيهَا بِعَيْنِهَا لِأَنَّهُ قَدْ نَفَذَ فِيهَا الْحُكْمُ بِقَوْلِهِ قَائِلٍ وَمَضَى الْعَمَلُ بِهَا أَمَّا إذَا اسْتَفْتَى فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الْحُكْمُ فِيهَا فَإِنَّهُ يُفْتِي بِمَذْهَبِهِ عَلَى أَصْلِهِ فَالْخِلَافُ إنَّمَا يَبْطُلُ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَسْأَلَةِ الْمُعَيَّنَةِ خَاصَّةً مَثَلًا وَقْفُ الْمُشَاعِ إذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ ثُمَّ رُفِعَتْ الْوَاقِعَةُ عَيْنَهَا لِمَنْ لَا يَرَى صِحَّتَهُ وَكَانَ يُفْتِي بِبُطْلَانِهِ فَهُوَ لَا يَرُدُّهُ وَلَا يَنْقُضُهُ وَنِكَاحُ مَنْ قَالَ لَهَا إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ إذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ ثُمَّ رُفِعَتْ مَسْأَلَتُهُ عَيْنُهَا لِمَنْ كَانَ يَرَى لُزُومَ الطَّلَاقِ لَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَرُدَّ هَذَا النِّكَاحَ وَلَا يَنْقُضَهُ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلِذَلِكَ وَقَعَ لَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهِ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ لَا يُرَدُّ وَلَا يُنْقَضُ وَأَفْتَى مَالِكٌ فِي السَّاعِي الشَّافِعِيِّ إذَا أَخَذَ مِنْ الْأَرْبَعِينَ شَاةً لِرَجُلَيْنِ خَلِيطَيْنِ فِي الْغَنَمِ شَاةً بِأَنَّهُمَا يَقْتَسِمَانِهَا بَيْنَهُمَا وَلَا يَخْتَصُّ بِهَا مَنْ أُخِذَتْ مِنْهُ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبْطَلَ مَا كَانَ يُفْتِي بِهِ وَيَعْتَقِدُهُ مِنْ أَنَّ الشَّاةَ تَكُونُ مَظْلِمَةً مِمَّنْ أُخِذَتْ مِنْهُ مُعَلِّلًا بِأَنَّهُ قَدْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِخِلَافِهِ فَلَا يَتَعَرَّضُ لِحُكْمِهِ بِرَدٍّ وَلَا نَقْضٍ وَوَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ وَإِنَّ صَلَاةَ

الْجَمَاعَةِ إذَا حَكَمَ الْإِمَامُ فِيهَا لَا تُصَلَّى إلَّا بِإِذْنٍ مِنْ الْإِمَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بَلْ قَالَ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ لَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ فِي الِاجْتِهَادِيَّاتِ وِفَاقًا قَالَ الْمَحَلِّيُّ لَا مِنْ الْحَاكِمِ بِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ بِأَنْ اخْتَلَفَ الِاجْتِهَادُ ا هـ .
لَكِنْ قَالَ الْأَصْلُ وَوَقَعَ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِمْ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا رُفِعَ لِمَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ لَا يُنَفِّذُهُ أَيْ لَا يُقِرُّهُ عَلَى حُكْمِ ذَلِكَ الْحَاكِمِ بَلْ يُمَكَّنُ مِنْ الْخُصُومَةِ فِيهِ عَلَى خِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَمَالِكٌ مِنْ أَنَّهُ يُقِرُّهُ عَلَى حُكْمِ ذَلِكَ الْحَاكِمِ .
وَلَا يَنْقُضُهُ بَلْ يُزْجَرُ عَنْ الْخُصُومَةِ فِيهِ نَظَرًا لِوَجْهَيْنِ هُمَا سِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا اسْتَقَرَّتْ لِلْحُكَّامِ قَاعِدَةٌ وَلَبَقِيَتْ الْخُصُومَاتُ عَلَى حَالِهَا بَعْدَ الْحُكْمِ وَذَلِكَ يُوجِبُ دَوَامَ التَّشَاجُرِ وَالتَّنَازُعِ وَانْتِشَارِ الْفَسَادِ وَدَوَامِ الْعِنَادِ وَهُوَ مُنَافٍ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا نُصِبَ الْحُكَّامُ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ اقْتَصَرَ الْمَحَلِّيُّ حَيْثُ قَالَ إذْ لَوْ جَازَ نَقْضُهُ لَجَازَ نَقْضُ النَّقْضِ وَهَلُمَّ فَتَفُوتُ مَصْلَحَةُ نَصْبِ الْحَاكِمِ مِنْ فَصْلِ الْحُكُومَاتِ وَثَانِيهِمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُنْشِئَ الْحُكْمَ فِي مَوَاضِعِ الِاجْتِهَادِ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِي الدَّلِيلُ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ إمَامِهِ الَّذِي قَلَّدَهُ فَهُوَ مُنْشِئٌ لِحُكْمِ الْإِلْزَامِ فِيمَا يَلْزَمُ وَالْإِبَاحَةِ فِيمَا يُبَاحُ كَالْقَضَاءِ بِأَنَّ الْمَوَاتَ الَّذِي ذَهَبَ إحْيَاؤُهُ صَارَ مُبَاحًا مُطْلَقًا كَمَا كَانَ قَبْلَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِنْشَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُنَفِّذٌ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ بَلْ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لَهُ أَنَّ مَا حَكَمَ بِهِ فَهُوَ إمَّا نَفْسُ حُكْمِهِ تَعَالَى بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ وَإِمَّا أَنَّهُ كَالنَّصِّ الْوَارِدِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خُصُوصِ

تِلْكَ الْوَاقِعَةِ مِنْ جِهَةِ مَنْعِهِ تَعَالَى مِنْ نَقْضِ أَحْكَامِ الْمُجْتَهِدِينَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفْسَدَةِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ التَّصْوِيبِ فَيَئُولُ الْحَالُ فِيهَا إلَى مَا يُشْبِهُ تَعَارُضَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ بِوَجْهٍ مَا فَيُقَدَّمُ الْخَاصُّ عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مَثَلًا دَلَّ الدَّلِيلُ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ قَبْلَ مِلْكِ الْعِصْمَةِ يَلْزَمُ وَهَذَا الدَّلِيلُ يَشْمَلُ صُوَرًا لَا نِهَايَةَ لَهَا فَإِذَا رُفِعَتْ صُورَةٌ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ إلَى حَاكِمٍ شَافِعِيٍّ وَحَكَمَ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ وَاسْتِمْرَارِ الْعِصْمَةِ وَإِبْطَالِ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى ذَلِكَ النِّكَاحِ كَانَ حُكْمُ الشَّافِعِيِّ كَالنَّصِّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الْوَارِدِ مِنْ خُصُوصِ تِلْكَ الصُّورَةِ مِنْ الْجِهَةِ الْمَذْكُورَةِ فَيَكُونُ الْحَالُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى التَّعْلِيقُ قَبْلَ الْمِلْكِ لَازِمٌ وَقَالَ التَّعْلِيقُ قَبْلَ الْمِلْكِ فِي حَقِّ هَذِهِ الْمَرْأَةِ غَيْرُ لَازِمٍ وَالْعِصْمَةُ فِيهَا تَسْتَمِرُّ فَقُلْنَا هَذَانِ نَصَّانِ خَاصٌّ وَعَامٌّ فَنُقَدِّمُ الْخَاصَّ عَلَى الْعَامِّ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ فَكَمَا أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِيمَا لَوْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ .
وَقَالَ لَا تَقْتُلُوا الرُّهْبَانَ إنَّا نَقْتُلُ الْمُشْرِكِينَ وَنَتْرُكُ الرُّهْبَانَ جَمْعًا بَيْنَ نَصَّيْ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ كَذَلِكَ يَقُولُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا أَعْمَلُ هَذَا الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَتَبْقَى بَقِيَّةُ الصُّورَةِ عِنْدِي يَصِحُّ فِيهَا التَّعْلِيقُ قَبْلَ النِّكَاحِ جَمْعًا بَيْنَ مَا هُوَ كَنَصَّيْ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَلِيُّ الْمُفْتِي كَالْحَاكِمِ فِيمَا ذُكِرَ بَلْ هُوَ نَاقِلٌ وَمُخْبِرٌ وَمُعَرِّفٌ بِالْحُكْمِ اُنْظُرْ كِتَابَ الْإِحْكَامِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ لِلْأَصْلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ( تَنْبِيهٌ ) الشَّرْطُ فِي كَوْنِ حُكْمِ الِاجْتِهَادِيَّاتِ لَا يَنْقُضُ أَنْ

يَكُونَ مَا حَكَمَ بِهِ عَلَى الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا عَلِمْت وَإِلَّا نُقِضَ قَالَ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَشَرْحِهِ لِلْمَحَلِّيِّ .
( فَإِنْ خَالَفَ ) الْحُكْمُ ( نَصًّا أَوْ ظَاهِرًا جَلِيًّا وَلَوْ قِيَاسًا ) وَهُوَ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ نُقِضَ لِمُخَالَفَتِهِ لِلدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ النَّقْضِ عِنْدَ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ وَعَزَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى إلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ فَإِنْ أَرَادُوا بِهِ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ مِمَّا نَقْطَعُ بِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ قِيَاسًا مَظْنُونًا مَعَ كَوْنِهِ جَلِيًّا فَلَا وَجْهَ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ ظَنٍّ وَظَنٍّ ا هـ .
( أَوْ حَكَمَ ) حَاكِمٌ ( بِخِلَافِ اجْتِهَادِهِ ) قَلَّدَ غَيْرَهُ فِيهِ أَوْ لَا نُقِضَ حُكْمُهُ لِمُخَالَفَتِهِ لِاجْتِهَادِهِ وَامْتِنَاعِ تَقْلِيدِهِ فِيمَا اجْتَهَدَ فِيهِ ( أَوْ حَكَمَ ) حَاكِمٌ ( بِخِلَافِ نَصِّ إمَامِهِ غَيْرِ مُقَلِّدٍ غَيْرَهُ ) مِنْ الْأَئِمَّةِ ( حَيْثُ يَجُوزُ ) لِمُقَلِّدِ إمَامٍ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ بِأَنْ لَمْ يُقَلِّدْ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا لِاسْتِقْلَالِهِ فِيهِ بِرَأْيِهِ أَوْ قَلَّدَ فِيهِ غَيْرَ إمَامِهِ حَيْثُ يُمْتَنَعُ تَقْلِيدُهُ ( نُقِضَ ) حُكْمُهُ لِمُخَالَفَتِهِ لِنَصِّ إمَامِهِ الَّذِي هُوَ فِي حَقِّهِ لِالْتِزَامِهِ تَقْلِيدَهُ كَالدَّلِيلِ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ أَمَّا إذَا قَلَّدَ فِي حُكْمِهِ غَيْرَ إمَامِهِ حَيْثُ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ فَلَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ لِأَنَّهُ لِعَدَالَتِهِ إنَّمَا حَكَمَ بِهِ لِرُجْحَانِهِ عِنْدَهُ ا هـ .
بِزِيَادَةٍ مِنْ حَاشِيَةِ الْعَطَّارِ قَالَ الْعَطَّارُ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ فِي التَّمْهِيدِ نَقْلًا عَنْ الْغَزَالِيِّ إذَا تَوَلَّى مُقَلِّدٌ لِلضَّرُورَةِ فَحَكَمَ بِمَذْهَبِ غَيْرِ مُقَلِّدِهِ فَإِنْ قُلْنَا لَا يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ تَقْلِيدُ مَنْ شَاءَ بَلْ عَلَيْهِ إتْبَاعُ مُقَلِّدِهِ نُقِضَ حُكْمُهُ وَإِنْ قُلْنَا لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ شَاءَ لَمْ يُنْقَضْ ا هـ .
وَنَقَلَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْكِفَايَةِ أَنَّ الدَّامَغَانِيَّ قَاضِيَ بَغْدَادَ الْحَنَفِيَّ فِي أَيَّامِ الْمُعْتَضِدِ وَلَّى ابْنُ

سُرَيْجٍ الْقَضَاءَ وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَحْكُمَ إلَّا بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْتَزَمَ ذَلِكَ ا هـ وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ مَا يُقَابِلُ الظَّاهِرَ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِجْمَاعُ الْقَطْعِيُّ وَفِي الظَّاهِرِ الظَّنِّيِّ وَمَحَلُّ ذَلِكَ فِي النَّصِّ الْمَوْجُودِ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ فَإِنْ حَدَثَ بَعْدَهُ وَهُوَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْقَضْ صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَيُقَاسُ بِالنَّصِّ الْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ ا هـ زَكَرِيَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ ) اعْلَمْ أَنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ لَهُ أَحْوَالٌ الْحَالَةُ الْأُولَى أَنْ يَشْتَغِلَ بِمُخْتَصَرٍ مِنْ مُخْتَصَرَاتِ مَذْهَبِهِ فِيهِ مُطْلَقَاتٌ مُقَيَّدَةٌ فِي غَيْرِهِ وَعُمُومَاتٌ مَخْصُوصَةٌ فِي غَيْرِهِ وَمَتَى كَانَ الْكِتَابُ الْمُعَيَّنُ حَفِظَهُ وَفَهِمَهُ كَذَلِكَ أَوْ جَوَّزَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا فِيهِ وَإِنْ أَجَادَهُ حِفْظًا وَفَهْمًا إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ يُقْطَعُ فِيهَا أَنَّهَا مُسْتَوْعَبَةُ التَّقْيِيدِ وَأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى مَعْنًى آخَرَ مِنْ كِتَابٍ آخَرَ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْقُلَهَا لِمَنْ يَحْتَاجُهَا عَلَى وَجْهِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَتَكُونُ هِيَ عَيْنَ الْوَاقِعَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا لَا أَنَّهَا تُشْبِهُهَا وَلَا تُخَرَّجُ عَلَيْهَا بَلْ هِيَ هِيَ حَرْفًا بِحَرْفٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ هُنَالِكَ فُرُوقٌ تَمْنَعُ مِنْ الْإِلْحَاقِ أَوْ تَخْصِيصٌ أَوْ تَقْيِيدٌ يَمْنَعُ مِنْ الْفُتْيَا بِالْمَحْفُوظِ فَيَجِبُ الْوَقْفُ .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَتَّسِعَ تَحْصِيلُهُ فِي الْمَذْهَبِ بِحَيْثُ يَطَّلِعُ مِنْ تَفَاصِيلِ الشُّرُوحَاتِ وَالْمُطَوَّلَاتِ عَلَى تَقْيِيدِ الْمُطْلَقَاتِ وَتَخْصِيصِ الْعُمُومَاتِ وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَضْبِطْ مَدَارِكَ إمَامِهِ وَمُسْنَدَاتِهِ فِي فُرُوعِهِ ضَبْطًا مُتْقَنًا بَلْ سَمِعَهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ مِنْ أَفْوَاهِ الطَّلَبَةِ وَالْمَشَايِخِ فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِجَمِيعِ مَا يَنْقُلُهُ وَيَحْفَظُهُ فِي مَذْهَبِهِ اتِّبَاعًا لِمَشْهُورِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ بِشُرُوطِ الْفُتْيَا وَلَكِنَّهُ إذَا وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ لَيْسَتْ فِي حِفْظِهِ لَا يُخَرِّجُهَا عَلَى مَحْفُوظَاتِهِ وَلَا يَقُولُ هَذِهِ تُشْبِهُ الْمَسْأَلَةَ الْفُلَانِيَّةَ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَصِحُّ مِمَّنْ أَحَاطَ بِمَدَارِكِ إمَامِهِ وَأَدِلَّتِهِ وَأَقْيِسَتِهِ وَعِلَلِهِ الَّتِي اعْتَمَدَ عَلَيْهَا مُفَصَّلَةً وَمَعْرِفَةِ رُتَبِ تِلْكَ الْعِلَلِ وَنِسْبَتِهَا إلَى

الْمَصَالِحِ الشَّرْعِيَّةِ وَهَلْ هِيَ مِنْ بَابِ الْمَصَالِحِ الضَّرُورِيَّةِ أَوْ الْحَاجِيَّةِ أَوْ التَّتْمِيمِيَّةِ وَهَلْ هِيَ مِنْ بَابِ الْمُنَاسِبِ الَّذِي اُعْتُبِرَ نَوْعُهُ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ وَهَلْ هِيَ مِنْ بَابِ الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ الَّتِي هِيَ أَدْنَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ مَا شَهِدَتْ لَهَا أُصُولُ الشَّرْعِ بِالِاعْتِبَارِ أَوْ هِيَ مِنْ بَابِ قِيَاسِ الشَّبَهِ أَوْ الْمُنَاسِبِ أَوْ قِيَاسِ الدَّلَالَةِ أَوْ قِيَاسِ الْإِحَالَةِ أَوْ الْمُنَاسِبِ الْقَرِيبِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَقْيِسَةِ وَرُتَبِ الْعِلَلِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِينَ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاظِرَ فِي مَذْهَبِهِ وَالْمُخَرِّجَ عَلَى أُصُولِ إمَامِهِ نِسْبَتُهُ إلَى مَذْهَبِهِ وَإِمَامِهِ كَنِسْبَةِ إمَامِهِ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ فِي اتِّبَاعِ نُصُوصِهِ وَالتَّخْرِيجِ عَلَى مَقَاصِدِهِ فَكَمَا أَنَّ إمَامَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقِيسَ مَعَ قِيَامِ الْفَارِقِ لِأَنَّ الْفَارِقَ مُبْطِلٌ لِلْقِيَاسِ وَالْقِيَاسُ الْبَاطِلُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ هُوَ أَيْضًا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخَرِّجَ عَلَى مَقَاصِدِ إمَامِهِ فَرْعًا عَلَى فَرْعٍ نَصَّ عَلَيْهِ إمَامُهُ مَعَ قِيَامِ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا لَكِنَّ الْفُرُوقَ إنَّمَا تَنْشَأُ عَنْ رُتَبِ الْعِلَلِ وَتَفَاصِيلِ أَحْوَالِ الْأَقْيِسَةِ فَإِذَا كَانَ إمَامُهُ أَفْتَى فِي فَرْعٍ بُنِيَ عَلَى عِلَّةٍ اُعْتُبِرَ فَرْعُهَا فِي نَوْعِ الْحُكْمِ لَا يَجُوزُ لَهُ هُوَ أَنْ يُخَرِّجَ عَلَى أَصْلِ إمَامِهِ فَرْعًا مِثْلَ ذَلِكَ الْفَرْعِ لَكِنَّ عِلَّتَهُ مِنْ قَبِيلِ مَا شَهِدَ جِنْسُهُ لِجِنْسِ الْحُكْمِ فَإِنَّ النَّوْعَ عَلَى النَّوْعِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجِنْسِ فِي النَّوْعِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ اعْتِبَارِ الْأَقْوَى اعْتِبَارُ الْأَضْعَفِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ إمَامُهُ قَدْ اعْتَبَرَ مَصْلَحَةً سَالِمَةً عَنْ الْمُعَارِضِ لِقَاعِدَةٍ أُخْرَى فَوَقَعَ لَهُ هُوَ فَرْعٌ فِيهِ عَيْنُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ لَكِنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِقَاعِدَةٍ أُخْرَى أَوْ بِقَوَاعِدَ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّخْرِيجُ حِينَئِذٍ لِقِيَامِ

الْفَارِقِ أَوْ تَكُونُ مَصْلَحَةُ إمَامِهِ الَّتِي اعْتَمَدَ عَلَيْهَا مِنْ بَابِ الضَّرُورِيَّاتِ فَيُفْتِي هُوَ بِمِثْلِهَا وَلَكِنَّهَا مِنْ بَابِ الْحَاجَاتِ أَوْ التَّتِمَّاتِ وَهَاتَانِ ضَعِيفَتَانِ مَرْجُوحَتَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُولَى وَلَعَلَّ إمَامَهُ رَاعَى خُصُوصَ تِلْكَ الْقَوِيَّةِ وَالْخُصُوصُ فَائِتٌ هُنَا وَمَتَى حَصَلَ التَّرَدُّدُ فِي ذَلِكَ وَالشَّكُّ .
وَجَبَ التَّوَقُّفُ كَمَا أَنَّ إمَامَهُ لَوْ وَجَدَ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَدْ نَصَّ عَلَى حُكْمٍ وَمَصْلَحَةٍ مِنْ بَابِ الضَّرُورِيَّاتِ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَقِيسَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مِنْ بَابِ الْحَاجَاتِ أَوْ التَّتِمَّاتِ لِأَجْلِ قِيَامِ الْفَارِقِ فَكَذَلِكَ هَذَا الْمُقَلِّدُ لَهُ لِأَنَّ نِسْبَتَهُ إلَيْهِ فِي التَّخْرِيجِ كَنِسْبَةِ إمَامِهِ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ وَالضَّابِطُ لَهُ وَلِإِمَامِهِ فِي الْقِيَاسِ وَالتَّخْرِيجِ أَنَّهُمَا مَتَى جَوَّزَا فَارِقًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا حَرُمَ الْقِيَاسُ وَلَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ إلَّا بَعْدَ الْفَحْصِ الْمُنْتَهِي إلَى غَايَةٍ أَنَّهُ لَا فَارِقَ هُنَاكَ وَلَا مُعَارِضَ وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ الْقِيَاسِ وَهَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ لِلْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ فَمَهْمَا جَوَّزَ الْمُقَلِّدُ فِي مَعْنًى ظَفِرَ بِهِ فِي فَحْصِهِ وَاجْتِهَادِهِ أَنْ يَكُونَ إمَامُهُ قَصَدَهُ أَوْ يُرَاعِيهِ حَرُمَ عَلَيْهِ التَّخْرِيجُ فَلَا يَجُوزُ التَّخْرِيجُ حِينَئِذٍ إلَّا لِمَنْ هُوَ عَالِمٌ بِتَفَاصِيلِ أَحْوَالِ الْأَقْيِسَةِ وَالْعِلَلِ وَرُتَبِ الْمَصَالِحِ وَشُرُوطِ الْقَوَاعِدِ وَمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا وَمَا لَا يَصْلُحُ وَهَذَا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ يَعْرِفُ أُصُولَ الْفِقْهِ مَعْرِفَةً حَسَنَةً فَإِذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَحَصَلَ لَهُ هَذَا الْمَقَامُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ مَقَامٌ آخَرُ وَهُوَ النَّظَرُ وَبَذْلُ الْجَهْدِ فِي تَصَفُّحِ تِلْكَ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَتِلْكَ الْمَصَالِحِ وَأَنْوَاعِ الْأَقْيِسَةِ وَتَفَاصِيلِهَا فَإِذَا بَذَلَ جَهْدَهُ فِيمَا يَعْرِفُهُ وَوَجَدَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَبِرَهُ إمَامُهُ فَارِقًا أَوْ مَانِعًا أَوْ شَرْطًا

وَهُوَ لَيْسَ فِي الْحَادِثَةِ الَّتِي يَرُومُ تَخْرِيجَهَا حَرُمَ عَلَيْهِ التَّخْرِيجُ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا بَعْدَ بَذْلِ الْجَهْدِ وَتَمَامِ الْمَعْرِفَةِ جَازَ لَهُ التَّخْرِيجُ حِينَئِذٍ .
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي إمَامِهِ مَعَ صَاحِبِ الشَّرْعِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ إمَامُهُ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي بَعْضُهَا مَا تَقَدَّمَ اشْتِرَاطُهُ فِي حَقِّ الْمُقَلِّدِ الْمُخْرَجِ ثُمَّ بَعْدَ اتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الِاجْتِهَادِ يَنْتَقِلُ إلَى مَقَامِ بَذْلِ الْجَهْدِ فِيمَا عَلِمَهُ مِنْ الْقَوَاعِدِ وَتَفَاصِيلِ الْمَدَارِكِ فَإِذَا بَذَلَ جَهْدَهُ وَوَجَدَ حِينَئِذٍ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فَارِقًا أَوْ مَانِعًا أَوْ شَرْطًا قَائِمًا فِي الْفَرْعِ الَّذِي يَرُومُ قِيَاسَهُ عَلَى كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ حَرُمَ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ وَوَجَبَ التَّوَقُّفُ .
وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ جَمِيعِ ذَلِكَ وَأَنَّ الْفَرْعَ مُسَاوٍ لِلصُّورَةِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِلْحَاقُ حِينَئِذٍ وَكَذَلِكَ مُقَلِّدُهُ وَحِينَئِذٍ بِهَذَا التَّقْرِيرِ يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ لَا يَشْتَغِلُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ أَنْ لَا يُخَرِّجَ فَرْعًا أَوْ نَازِلَةً عَلَى أُصُولِ مَذْهَبِهِ وَمَنْقُولَاتِهِ وَإِنْ كَثُرَتْ مَنْقُولَاتُهُ جِدًّا فَلَا تُفِيدُ كَثْرَةُ الْمَنْقُولَاتِ مَعَ الْجَهْلِ بِمَا تَقَدَّمَ كَمَا أَنَّ إمَامَهُ لَوْ كَثُرَتْ مَحْفُوظَاتُهُ لِنُصُوصِ الشَّرِيعَةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْضِيَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِأُصُولِ الْفِقْهِ حَرُمَ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ وَالتَّخْرِيجُ عَلَى الْمَنْصُوصَاتِ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الشَّرْعِ بَلْ حَرُمَ عَلَيْهِ الِاسْتِنْبَاطُ مِنْ نُصُوصِ الشَّارِعِ لِأَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ فَرْعُ مَعْرِفَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ فَهَذَا الْبَابُ الْمُجْتَهِدُونَ وَالْمُقَلِّدُونَ فِيهِ سَوَاءٌ فِي امْتِنَاعِ التَّخْرِيجِ بَلْ يُفْتِي كُلُّ مُقَلِّدٍ وَصَلَ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ ضَبْطُ مُطْلَقَاتِ إمَامِهِ بِالتَّقْيِيدِ وَضَبْطُ عُمُومَاتِ مَذْهَبِهِ بِمَنْقُولَاتِ مَذْهَبِهِ خَاصَّةً مِنْ غَيْرِ تَخْرِيجٍ إذَا فَاتَهُ شَرْطُ

التَّخْرِيجِ كَمَا أَنَّ إمَامَهُ لَوْ فَاتَهُ شَرْطُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَحِفْظِ النُّصُوصِ وَاسْتَوْعَبَهَا يَصِيرُ مُحَدِّثًا نَاقِلًا فَقَطْ لَا إمَامًا مُجْتَهِدًا كَذَلِكَ هَذَا الْمُقَلِّدُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَالنَّاسُ مُهْمِلُونَ لَهُ إهْمَالًا شَدِيدًا وَيَقْتَحِمُونَ عَلَى الْفُتْيَا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّخْرِيجِ عَلَى قَوَاعِدِ الْأَئِمَّةِ مِنْ غَيْرِ شُرُوطِ التَّخْرِيجِ وَالْإِحَاطَةِ بِهَا فَصَارَ يُفْتِي مَنْ لَمْ يُحِطْ بِالتَّقْيِيدَاتِ وَلَا بِالتَّخْصِيصَاتِ مِنْ مَنْقُولَاتِ إمَامِهِ وَذَلِكَ لَعِبٌ فِي دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَفُسُوقٌ مِمَّنْ يَتَعَمَّدُهُ أَوَ مَا عَلِمُوا أَنَّ الْمُفْتِيَ مُخْبِرٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ مَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَخْبَرَ عَنْهُ مَعَ ضَبْطِ ذَلِكَ الْخَبَرِ فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ الْكَاذِبِ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ تَعَالَى امْرُؤٌ فِي نَفْسِهِ وَلَا يَقْدُمُ عَلَى قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ بِغَيْرِ شَرْطِهِ .

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُفْتِيَ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ كَمَا فِي تَحْرِيرِ الْكَمَالِ هُوَ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ الْفَقِيهُ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ مَوْضُوعٌ لِمَنْ قَامَ لِلنَّاسِ بِأَمْرِ دِينِهِمْ وَعَلِمَ جُمَلَ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَخُصُوصِهِ وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَكَذَلِكَ فِي السُّنَنِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَلَمْ يُوضَعْ لِمَنْ عَلِمَ مَسْأَلَةً وَأَدْرَكَ حَقِيقَتَهَا وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ هُوَ مَنْ اُسْتُكْمِلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ شَرَائِطَ الِاجْتِهَادُ وَالْعَدَالَةُ وَالْكَفُّ عَنْ التَّرْخِيصِ وَالتَّسَاهُلِ وَلِلْمُتَسَاهِلِ حَالَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنْ يَتَسَاهَلَ فِي طَلَبِ الْأَدِلَّةِ وَطُرُقِ الْأَحْكَامِ وَيَأْخُذَ بِبَادِئِ النَّظَرِ وَأَوَائِلِ الْفِكْرِ وَهَذَا مُقَصِّرٌ فِي حَقِّ الِاجْتِهَادِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَلَا يَجُوزُ وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَتَسَاهَلَ فِي طَلَبِ الرُّخَصِ وَتَأَوُّلِ السُّنَّةِ فَهَذَا مُتَجَوِّزٌ فِي دِينِهِ وَهُوَ آثِمٌ مِنْ الْأَوَّلِ ا هـ .
لَكِنْ قَالَ مَنْ وَصَفَهُ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ فِي تَوْشِيحِ التَّرْشِيحِ بِالْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الْإِمَامِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ تَوْقِيفُ الْفُتْيَا عَلَى حُصُولِ الْمُجْتَهِدِ يُفْضِي إلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ وَاسْتِرْسَالِ الْخَلْقِ فِي أَهْوَائِهِمْ فَالْمُخْتَارُ أَنَّ الرَّاوِيَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ إذَا كَانَ عَدْلًا مُتَمَكِّنًا مِنْ فَهْمِ كَلَامِ الْإِمَامِ ثُمَّ حَكَى لِلْمُقَلَّدِ قَوْلَهُ فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْعَامِّيِّ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ عِنْدَهُ وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِي زَمَانِنَا عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْفُتْيَا هَذَا مَعَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِأَنَّ نِسَاءَ الصَّحَابَةِ كُنَّ يَرْجِعْنَ فِي أَحْكَامِ الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ إلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ أَزْوَاجُهُنَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَرْسَلَ

الْمِقْدَادَ فِي قِصَّةِ الْمَذْيِ وَفِي مَسْأَلَتِنَا أَظْهَرُ فَإِنَّ مُرَاجَعَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ ذَاكَ مُمْكِنَةٌ وَمُرَاجَعَةُ الْمُقَلِّدِ الْآنَ لِلْأَئِمَّةِ السَّابِقِينَ مُتَعَذِّرَةٌ وَقَدْ أَطْبَقَ النَّاسُ عَلَى تَنْفِيذِ أَحْكَامِ الْقُضَاةِ مَعَ عَدَمِ شَرَائِطِ الِاجْتِهَادِ الْيَوْمَ أَيْ لِطُولِ الْمُدَّةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ زَمَنِ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ مَعَ ضَعْفِ الْعِلْمِ وَغَلَبَةِ الْجَهْلِ سِيَّمَا وَقَدْ ادَّعَى الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَكَانَ إمَامًا جَلِيلًا مُتَضَلِّعًا مِنْ الْعُلُومِ الْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ وَمِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ بُلُوغَهُ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ فَلَمْ يُسَلِّمُوا لَهُ فَمَا بَالُك بِغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ الْبَعِيدَةِ كَمَا فِي رِسَالَةِ كَيْفِيَّةِ الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الزَّيْغِ لِشَيْخِ شُيُوخِنَا السَّيِّدِ أَحْمَدَ دَخْلَانَ وَفِي الْحَطَّابِ عَنْ ابْنِ عَرَفَةَ أَنَّ اسْتِعَاذَةَ الْفَخْرِ فِي الْمَحْصُولِ وَتَبِعَهُ السَّرَّاجُ فِي تَحْصِيلِهِ وَالتَّاجُ فِي حَاصِلِهِ فِي قَوْلِهِمْ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ مَا نَصُّهُ وَلَوْ بَقِيَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَاحِدٌ كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً ا هـ .
وَإِنْ بَنَى عَلَى بَقَاءِ الِاجْتِهَادِ فِي عَصْرِهِمْ وَالْفَخْرُ تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّمِائَةٍ لَكِنَّهُمْ قَالُوا فِي كِتَابِ الِاسْتِفْتَاءِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِي زَمَانِنَا عَلَى تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ إذْ لَا مُجْتَهِدَ فِيهِ ا هـ وَإِذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا مُجْتَهِدَ فِي الْقَرْنِ السَّابِعِ فَكَيْفَ لَا يَنْعَقِدُ بِالْأَوْلَى فِي الْقَرْنِ الرَّابِعَ عَشَرَ وَقَدْ قَالَ الْعَطَّارُ وَفِي عَصْرِنَا وَهُوَ الْقَرْنُ الثَّالِثَ عَشَرَ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ بِتَرَاكُمِ عَظَائِمِ الْخُطُوبِ نَسْأَلُ السَّلَامَةَ ا هـ .
ثُمَّ قَالَ السُّبْكِيُّ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ مَرَاتِبُ إحْدَاهَا أَنْ يَصِلَ إلَى رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ الْمُقَيَّدِ فَيَسْتَقِلُّ بِتَقْرِيرِ مَذْهَبِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ وَنُصُوصِهِ

أُصُولًا يَسْتَنْبِطُ مِنْهَا نَحْوُ مَا يَفْعَلُهُ بِنُصُوصِ الشَّارِعِ وَهَذِهِ صِفَةُ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ وَاَلَّذِي أَظُنُّهُ قِيَامَ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ فُتْيَا هَؤُلَاءِ وَأَنْتَ تَرَى عُلَمَاءَ الْمَذْهَبِ مِمَّنْ وَصَلَ إلَى هَذِهِ الرُّتْبَةِ هَلْ مَنَعَهُمْ أَحَدٌ الْفَتْوَى أَوْ مَنَعُوا هُمْ أَنْفُسَهُمْ عَنْهَا ؛ الثَّانِيَةُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ لَكِنَّهُ فَقِيهُ النَّفْسِ حَافِظٌ لِلْمَذْهَبِ قَائِمٌ بِتَقْرِيرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَرْتَضْ فِي التَّخْرِيجِ وَالِاسْتِنْبَاطِ كَارْتِيَاضِ أُولَئِكَ وَقَدْ كَانُوا يُفْتُونَ وَيُخَرِّجُونَ كَأُولَئِكَ ا هـ وَفِي جَوَازِ إفْتَاءِ مَنْ فِي هَذِهِ الرُّتْبَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَثَالِثُهَا عِنْدَ عَدَمِ الْمُجْتَهِدِ كَمَا حَكَاهُ شَافِعِيٌّ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ الثَّالِثَةُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ هَذَا الْمِقْدَارَ وَلَكِنَّهُ حَافِظٌ لِوَاضِحَاتِ الْمَسَائِلِ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَهُ ضَعْفًا فِي تَقْرِيرِ أَدِلَّتِهَا فَعَلَى هَذَا الْإِمْسَاكُ فِيمَا يَغْمُضُ فَهْمُهُ فِيمَا لَا نَقْلَ عِنْدَهُ فِيهِ وَلَيْسَ هَذَا الَّذِي حَكَيْنَا فِيهِ الْخِلَافَ فَإِنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَى الْمَأْخَذِ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ غَيْرُ عَوَامَّ ا هـ وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ لَهُ الْإِفْتَاءَ فِيمَا لَا يَغْمُضُ فَهْمُهُ قَالَ مُتَأَخِّرٌ شَافِعِيٌّ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا رَاجِعًا لِمَحَلِّ الضَّرُورَةِ لَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ ا هـ .
وَثَانِي الْأَقْوَالِ فِيهِ الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَثَالِثُهَا الْجَوَازُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُجْتَهِدِ وَعَدَمِ الْجَوَازِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِ وَقِيلَ الصَّوَابُ إنْ كَانَ السَّائِلُ يُمْكِنُهُ التَّوَصُّلُ إلَى عَالِمٍ يَهْدِيهِ السَّبِيلَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ اسْتِفْتَاءُ مِثْلِ هَذَا وَلَا يَحِلُّ لِهَذَا أَنْ يُنَصِّبَ نَفْسَهُ لِلْفَتْوَى مَعَ وُجُودِ هَذَا الْعَالِمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِهِ أَوْ نَاحِيَتِهِ غَيْرُهُ فَلَا رَيْبَ أَنَّ رُجُوعَهُ إلَيْهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَقْدُمَ عَلَى الْعَمَلِ بِلَا عِلْمٍ أَوْ يَبْقَى مُرْتَبِكًا فِي حَيْرَتِهِ مُتَرَدِّدًا فِي عَمَاهُ وَجَهَالَتِهِ بَلْ هَذَا هُوَ الْمُسْتَطَاعُ مِنْ

تَقْوَاهُ الْمَأْمُورُ بِهَا وَهُوَ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( أَمَّا الْعَامِّيُّ ) إذَا عَرَفَ حُكْمَ حَادِثَةٍ بِدَلِيلِهَا فَهَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ وَيَسُوغَ لِغَيْرِهِ تَقْلِيدُهُ فَفِيهِ أَوْجُهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَحَدُهَا لَا مُطْلَقًا لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِلِاسْتِدْلَالِ وَعَدَمِ عِلْمِهِ بِشُرُوطِهِ وَمَا يُعَارِضُهُ وَلَعَلَّهُ يَظُنُّ مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ دَلِيلًا وَهَذَا فِي بَحْرِ الزَّرْكَشِيّ الْأَصَحُّ ثَانِيهَا نَعَمْ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِهِ كَمَا لِلْعَالِمِ وَتَمَيُّزِ الْعَالِمِ عَنْهُ لِقُوَّةٍ يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنْ تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ وَدَفْعِ الْمُعَارِضِ لَهُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ ثَالِثُهَا إنْ كَانَ الدَّلِيلُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً جَازَ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُمَا خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فَيَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْعَمَلُ بِمَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْهُمَا وَإِرْشَادُ غَيْرِهِ إلَيْهِ رَابِعُهَا إنْ كَانَ نَقْلِيًّا جَازَ وَإِلَّا فَلَا قَالَ السُّبْكِيُّ ( وَأَمَّا الْعَامِّيُّ ) الَّذِي عَرَفَ مِنْ الْمُجْتَهِدِ حُكْمَ مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَدْرِ دَلِيلَهَا كَمَنْ حَفِظَ مُخْتَصَرًا مِنْ مُخْتَصَرَاتِ الْفِقْهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَرُجُوعُ الْعَامِّيِّ إلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ سِوَاهُ أَوْلَى مِنْ الِارْتِبَاكِ فِي الْحَيْرَةِ .
وَكُلُّ هَذَا فِي مَنْ لَمْ يَنْقُلْ عَنْ غَيْرِهِ أَمَّا النَّاقِلُ فَلَا يُمْنَعُ فَإِذَا ذَكَرَ الْعَامِّيُّ أَنَّ فُلَانًا الْمُفْتِيَ أَفْتَانِي بِكَذَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ نَقْلِ هَذَا الْقَدْرِ .
ا هـ .
لَكِنْ لَيْسَ لِلْمَذْكُورِ لَهُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى مَا فِي الزَّرْكَشِيّ لَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَعْمَلَ بِفَتْوَى مُفْتٍ لِعَامِّيٍّ مِثْلِهِ أَفَادَ جَمِيعَ هَذَا أَمِيرُ الْحَاجِّ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ شَرْحِهِ عَلَى التَّحْرِيرِ الْأُصُولِيِّ مَعَ زِيَادَةٍ وَتَوْضِيحِ الْمَقَامِ عَلَى مَا يُرَامُ أَنَّ الْإِفْتَاءَ كَانَ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي شَهِدَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ

يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } مِنْ خَوَاصِّ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ ضَرُورَةَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ اسْتِفْرَاغُ الْفَقِيهِ الْوُسْعَ لِتَحْصِيلِ ظَنٍّ بِحُكْمٍ وَالْفَقِيهُ هُوَ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ وَتَحَقُّقُ مَاهِيَةِ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ لَا يُوجَدُ إلَّا بِشُرُوطٍ مِنْهَا مَا هِيَ صِفَةٌ فِيهِ وَهِيَ مَا ذَكَرَهُ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ بِقَوْلِهِ مَعَ تَوْضِيحٍ مِنْ شَرْحِ الْمَحَلِّيّ وَغَيْرِهِ ( هُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ ) أَيْ ذُو الْمَلَكَةِ الَّتِي يُدْرِكُ بِهَا الْمَعْلُومَ أَيْ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْلَمَ ( فَقِيهُ النَّفْسِ ) أَيْ شَدِيدُ الْفَهْمِ بِالطَّبْعِ لِمَقَاصِدِ الْكَلَامِ وَإِنْ أَنْكَرَ الْقِيَاسَ ( الْعَارِفُ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ ) أَيْ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالتَّكْلِيفِ بِهِ فِي الْحُجِّيَّةِ بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّا مُكَلَّفُونَ بِالتَّمَسُّكِ بِاسْتِصْحَابِ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ إلَى أَنْ يُصْرَفُ عَنْهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ ( ذُو الدَّرَجَةِ الْوُسْطَى ) أَوْ الْكَامِلَةِ لُغَةً وَعَرَبِيَّةً مِنْ نَحْوٍ وَتَصْرِيفٍ وَأُصُولًا بِأَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ وَبَلَاغَةٍ مِنْ مَعَانٍ وَبَيَانٍ وَمَا تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ بِهِ بِدَلَالَتِهِ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْ الْمُتُونَ لِيَتَأَتَّى لَهُ الِاسْتِنْبَاطُ الْمَقْصُودُ بِالِاجْتِهَادِ أَمَّا عِلْمُهُ بِآيَاتِ الْأَحْكَامِ وَأَحَادِيثِهَا أَيْ مَوَاقِعِهَا .
وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهَا فَلِأَنَّهَا الْمُسْتَنْبَطُ مِنْهُ وَأَمَّا عِلْمُهُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ فَلِأَنَّهُ يَعْرِفُ بِهِ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِنْبَاطِ وَغَيْرَهَا لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَأَمَّا عِلْمُهُ بِالْبَاقِي فَلِأَنَّهُ لَا يَفْهَمُ الْمُرَادَ مِنْ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ إلَّا بِهِ لِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ بَلِيغٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ فِي الِاجْتِهَادِ لَا صِفَةٌ فِي الْمُجْتَهِدِ وَهِيَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ السُّبْكِيّ عَنْ وَالِدِهِ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ مِنْ كَوْنِهِ خَبِيرًا بِمَوَاقِع الْإِجْمَاعِ كَيْ لَا يَخْرِقَهُ وَبِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ لِيُقَدِّمَ الْأَوَّلَ عَلَى الثَّانِي

وَبِأَسْبَابِ النُّزُولِ لِتُرْشِدَهُ إلَى فَهْمِ الْمُرَادِ وَبِشَرْطِ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ الْمُحَقِّقِ لَهُمَا لِيُقَدِّمَ الْأَوَّلَ عَلَى الثَّانِي وَبِالصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ مِنْ الْحَدِيثِ أَيْ مَاصَدَقَاتِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْحَسَنَةِ وَالضَّعِيفَةِ لَا مَفَاهِيمُهَا فَإِنَّ ذَلِكَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ لِيُقَدِّمَ مَاصَدَق الصَّحِيحَةِ وَالْحَسَنَةِ عَلَى مَاصَدَق الضَّعِيفَةِ وَبِحَالِ الرُّوَاةِ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ لِيُقَدِّمَ الْمَقْبُولَ عَلَى الْمَرْدُودِ وَيُشْتَرَطُ لِاعْتِمَادِ قَوْلِهِ لَا لِاجْتِهَادِهِ الْعَدَالَةُ وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ الْبَحْثِ عَنْ الْمُعَارِضِ كَالْمُخَصَّصِ وَالْمُقَيَّدِ وَالنَّاسِخِ .
وَعَنْ اللَّفْظِ هَلْ مَعَهُ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ لِيَسْلَمَ مَا يَسْتَنْبِطُهُ عَنْ تَطَرُّقِ الْخَدْشِ إلَيْهِ لَوْ لَمْ يَبْحَثْ وَاجِبًا أَوْ أَوْلَى فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْعَامِّ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ عَلَى الْأَصَحِّ ا هـ وَهَذِهِ الشُّرُوطُ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى تَسْلِيمِ تَحَقُّقِهَا فِي عُلَمَاءِ تِلْكَ الْقُرُونِ وَلَمْ يُعَارِضُوا مَنْ ادَّعَى الِاجْتِهَادَ الْمُطْلَقَ مِنْهُمْ .
وَأَمَّا عُلَمَاءُ الْقَرْنِ الرَّابِعِ وَعُلَمَاءُ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْقُرُونِ إلَى هَذَا الْقَرْنِ فَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي تَسْلِيمِ تَحَقُّقِ تِلْكَ الشُّرُوطِ فِي بَعْضِهِمْ وَعَدَمِ تَسْلِيمِ ذَلِكَ فَادَّعَى جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ فَمَا بَعْدَهُ تَحَقُّقَ تِلْكَ الشُّرُوطِ فِيهِ وَأَنَّهُ بَلَغَ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ بِنَاءً عَلَى أُمُورٍ أَحَدُهَا قَوْلُ ابْنِ السُّبْكِيّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ مَعَ تَوْضِيحٍ مِنْ الْمَحَلِّيّ وَيَكْفِي الْخِبْرَةُ بِحَالِ الرُّوَاةِ فِي زَمَانِنَا الرُّجُوعُ إلَى أَئِمَّةِ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمْ فَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِمْ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ لِتَعَذُّرِهِمَا فِي زَمَانِنَا إلَّا بِوَاسِطَةٍ وَهُمْ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ .

وَثَانِيهَا قَوْلُ الْعَلَّامَةِ الْمُحَقِّقِ الشَّيْخِ جَلَالِ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّيُوطِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي رِسَالَتِهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ أَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ أَنَّ الِاجْتِهَادَ الْمُطْلَقَ قِسْمَانِ مُسْتَقِلٌّ وَغَيْرُ مُسْتَقِلٍّ وَالْمُسْتَقِلُّ هُوَ الَّذِي اسْتَقَلَّ بِقَوَاعِدِهِ لِنَفْسِهِ يَبْنِي عَلَيْهَا الْفِقْهَ خَارِجًا عَنْ قَوَاعِدِ الْمَذَاهِبِ الْمُقَرَّرَةِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَدَاوُد وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُجْتَهِدِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِيَّةِ قَالَ السُّيُوطِيّ .
وَهَذَا الْقِسْمُ قَدْ فُقِدَ مِنْ دَهْرٍ بَلْ لَوْ أَرَادَهُ الْإِنْسَانُ الْيَوْمَ لَامْتَنَعَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ قَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ أُصُولُ الْمَذَاهِبِ وَقَوَاعِدُ الْأَدِلَّةِ مَنْقُولَةٌ عَنْ السَّلَفِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ فِي الْأَعْصَارِ خِلَافُهَا ا هـ كَلَامُ ابْنِ بُرْهَانٍ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ اتِّبَاعُ الْأَئِمَّةِ الْآنَ الَّذِينَ حَازُوا شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ مُجْتَهِدُونَ مُلْتَزِمُونَ أَنْ لَا يُحْدِثُوا مَذْهَبًا أَمَّا كَوْنُهُمْ مُجْتَهِدِينَ فَلِأَنَّ الْأَوْصَافَ قَائِمَةٌ بِهِمْ .
وَأَمَّا كَوْنُهُمْ مُلْتَزِمِينَ أَنْ لَا يُحْدِثُوا مَذْهَبًا فَلِأَنَّ إحْدَاثَ مَذْهَبٍ زَائِدٍ بِحَيْثُ يَكُونُ لِفُرُوعِهِ أُصُولٌ وَقَوَاعِدُ مُبَايِنَةٌ لِسَائِرِ قَوَاعِدِ الْمُتَقَدِّمِينَ مُتَعَذِّرُ الْوُجُودِ لِاسْتِيعَابِ الْمُتَقَدِّمِينَ سَائِرَ الْأَسَالِيبِ ا هـ كَلَامُهُ وَذَكَرَ نَحْوَهُ ابْنُ الْحَاجِّ فِي الْمَدْخَلِ وَهُوَ مَالِكِيٌّ أَيْضًا وَالْمُجْتَهِدُ غَيْرُ الْمُسْتَقِلِّ هُوَ الَّذِي وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ الِاجْتِهَادِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي اتَّصَفَ بِهَا الْمُجْتَهِدُ الْمُسْتَقِلُّ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَبْتَكِرْ لِنَفْسِهِ قَوَاعِدَ بَلْ سَلَكَ طَرِيقَةَ إمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ فِي الِاجْتِهَادِ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ تَبَعًا لِابْنِ الصَّلَاحِ

فِي كِتَابِهِ آدَابِ الْفُتْيَا وَهَذَا لَا يَكُونُ مُقَلِّدَ الْإِمَامَةِ لَا فِي الْمَذْهَبِ وَلَا فِي دَلِيلِهِ لِاتِّصَافِهِ بِصِفَةِ الْمُسْتَقِلِّ وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَيْهِ لِسُلُوكِهِ طَرِيقَهُ فِي الِاجْتِهَادِ وَادَّعَى الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ هَذِهِ الصِّفَةَ لِأَصْحَابِنَا فَحَكَى عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَدَاوُد وَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمْ صَارُوا إلَى مَذْهَبِ أَئِمَّتِهِمْ تَقْلِيدًا لَهُمْ ثُمَّ قَالَ وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُنَا وَهُوَ أَنَّهُمْ صَارُوا إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا تَقْلِيدًا لَهُ بَلْ لَمَّا وَجَدُوا طَرِيقَهُ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ أَسَدَّ الطُّرُقِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ الِاجْتِهَادِ سَلَكُوا طَرِيقَهُ فَطَلَبُوا مَعْرِفَةَ الْأَحْكَامِ بِطَرِيقِ الشَّافِعِيِّ وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ نَحْوَ هَذَا فَقَالَ اتَّبَعْنَا الشَّافِعِيَّ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّا وَجَدْنَا قَوْلَهُ أَرْجَحَ الْأَقْوَالِ وَأَعْدَلَهَا لَا أَنَّا قَلَّدْنَاهُ قَالَ النَّوَوِيُّ .
هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُوَافِقٌ لِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ الْمُزَنِيّ فِي أَوَّلِ مُخْتَصَرِهِ وَغَيْرُهُ بِقَوْلِهِ مَعَ إعْلَامِهِ بِنَهْيِهِ عَنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ قَالَ ثُمَّ فَتْوَى الْمُفْتِي فِي هَذَا النَّوْعِ كَفَتْوَى الْمُسْتَقِلِّ فِي الْعَمَلِ بِهَا وَالِاعْتِدَادِ بِهَا فِي الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ ا هـ كَلَامُ النَّوَوِيِّ قَالَ السُّيُوطِيّ فَالْمُطْلَقُ أَعَمُّ مُطْلَقًا مِنْ الْمُسْتَقِلِّ فَكُلُّ مُسْتَقِلٍّ مُطْلَقٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُطْلَقٍ مُسْتَقِلًّا وَاَلَّذِي ادَّعَيْنَاهُ هُوَ الِاجْتِهَادُ الْمُطْلَقُ لَا الِاسْتِقْلَالُ بَلْ نَحْنُ تَابِعُونَ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسَالِكُونَ طَرِيقَهُ فِي الِاجْتِهَادِ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَمَعْدُودُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَكَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ اجْتِهَادَنَا مُقَيَّدٌ وَالْمُجْتَهِدُ الْمُقَيَّدُ إنَّمَا يَنْقُصُ عَنْ الْمُطْلَقِ بِإِخْلَالِهِ بِالْحَدِيثِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ مَشْرِقِهَا إلَى مَغْرِبِهَا أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ

وَالْعَرَبِيَّةِ مِنِّي إلَّا أَنْ يَكُونَ الْخَضِرُ أَوْ الْقُطْبُ أَوْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ أَقْصِدْ دُخُولَهُمْ فِي عِبَارَتِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ا هـ كَلَامُ السُّيُوطِيّ الْأَمْرُ الثَّالِثُ أَنَّ الِاجْتِهَادَ الْمُطْلَقَ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَكَيْفَ يَدَّعِي خُلُوَّ الْأَرْضِ عَمَّنْ يَقُومُ بِهِ فَيَأْثَمُ جَمِيعُ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ كَمَا فِي رِسَالَةِ السُّيُوطِيّ الْمَذْكُورَةِ وَفِي حَاشِيَةِ الْبَاجُورِيِّ عَلَى ابْنِ قَاسِمٍ وَادَّعَى الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ بَقَاءَهُ إلَى آخِرِ الزَّمَانِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَبْعَثُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَمْرَ دِينِهَا } وَمَنَعَ الِاسْتِدْلَالَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ يُجَدِّدُ أَمْرَ الدِّينِ مَنْ يُقَرِّرُ الشَّرَائِعَ وَالْأَحْكَامَ لَا الْمُجْتَهِدَ الْمُطْلَقَ ا هـ .
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ الْمَذْكُورَةِ لَمْ تَتَحَقَّقْ فِي شَخْصٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ فَمَا بَعْدَهُ وَأَنَّ مَنْ ادَّعَى بُلُوغَهَا مِنْهُمْ لَا تَسْلَمُ لَهُ دَعْوَاهُ ضَرُورَةَ أَنَّ بُلُوغَهَا لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى وَأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِهِ تَحْصِيلُهُ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الِاجْتِهَادُ فِي تَحْصِيلِ شُرُوطِهِ بِقَدْرِ مَا فِي طَاقَاتِهِمْ الْبَشَرِيَّةِ فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ تَحْصِيلُهَا كَيْفَ يَدَّعِي تَأْثِيمَ جَمِيعِهِمْ قَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ عَالِمُ الْأَقْطَارِ الشَّامِيَّةِ بَعْدَ سَرْدِهِ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ : هَذِهِ الشُّرُوطُ يَعُزُّ وُجُودُهَا فِي زَمَانِنَا فِي شَخْصٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَلْ لَا يُوجَدُ فِي الْبَسِيطَةِ الْيَوْمَ مُجْتَهِدٌ مُطْلَقٌ .
وَقَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ الْوَسِيطِ .
وَأَمَّا شُرُوطُ الِاجْتِهَادِ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْقَاضِي فَقَدْ تَعَذَّرَتْ فِي وَقْتِنَا وَفِي الْإِنْصَافِ مِنْ كُتُبِ السَّادَةِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ مِنْ زَمَنٍ طَوِيلٍ عُدِمَ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيّ

وَالرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ إنَّ النَّاسَ كَالْمُجْمِعِينَ الْيَوْمَ عَلَى أَنَّهُ لَا مُجْتَهِدَ وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ شَيْخِ شُيُوخِنَا فِي رِسَالَتِهِ كَيْفِيَّةُ الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الزَّيْغِ أَنَّ الْإِمَامَ مُحَمَّدَ بْنَ جَرِيرٍ الطَّبَرِيَّ قَدْ ادَّعَى بُلُوغَهُ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ فَلَمْ يُسَلِّمُوا لَهُ وَهُوَ إمَامٌ جَلِيلٌ مُتَضَلِّعٌ مِنْ الْعُلُومِ الْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ وَمِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ فَمَا بَالُك بِغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ الْبَعِيدَةِ وَعَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُطْلَقَ لَا يَكُونُ إلَّا مُسْتَقِلًّا وَأَنَّ مَنْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ عِبَارَةً عَنْ غَيْرِ الْعَامِّيِّ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ عِبَارَةً عَنْ الْعَامِّيِّ وَأَنَّ غَيْرَ الْعَامِّيِّ إمَّا مُجْتَهِدٌ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ وَلَهُ مَرْتَبَتَانِ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى أَشَارَ لَهَا فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ بِقَوْلِهِ مَعَ الشَّرْحِ وَدُونَهُ أَيْ دُونَ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الْمُتَقَدِّمِ مُجْتَهِدُ الْمَذْهَبِ وَهُوَ الْمُتَمَكِّنُ مِنْ تَخْرِيجِ الْوُجُوهِ الَّتِي يُبْدِيهَا عَلَى نُصُوصِ إمَامِهِ فِي الْمَسَائِلِ ا هـ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ تَبَعًا لِابْنِ الصَّلَاحِ أَيْضًا وَهُوَ مَا يَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِتَقْرِيرِ أُصُولِهِ بِالدَّلِيلِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ فِي أَدِلَّتِهِ أُصُولَ إمَامِهِ وَقَوَاعِدَهُ وَشَرْطُهُ كَوْنُهُ عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَأَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ تَفْصِيلًا بَصِيرًا بِمَسَالِكِ الْأَقْيِسَةِ وَالْمَعَانِي تَامِّ الِارْتِيَاضِ فِي التَّخْرِيجِ وَالِاسْتِنْبَاطِ قَيِّمًا بِإِلْحَاقِ مَا لَيْسَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ لِإِمَامِهِ بِأُصُولِهِ وَلَا يُعَرَّى عَنْ شَوْبِ تَقْلِيدٍ لَهُ لِإِخْلَالِهِ بِبَعْضِ أَدَوَاتِ الْمُسْتَقِلِّ بِأَنْ يُخِلَّ بِالْحَدِيثِ أَوْ الْعَرَبِيَّةِ وَكَثِيرًا مَا أَخَلَّ بِهِمَا الْمُقَيَّدُ ثُمَّ يَتَّخِذُ نُصُوصَ إمَامِهِ أُصُولًا يَسْتَنْبِطُ مِنْهَا كَفِعْلِ الْمُسْتَقِلِّ بِنُصُوصِ الشَّرْعِ وَرُبَّمَا اكْتَفَى فِي الْحُكْمِ بِدَلِيلِ إمَامِهِ وَلَا يَبْحَثُ عَنْ مُعَارِضٍ كَفِعْلِ الْمُسْتَقِلِّ فِي

النُّصُوصِ وَهَذِهِ صِفَةُ أَصْحَابِنَا أَصْحَابِ الْوُجُوهِ وَالْعَامِلُ بِفَتْوَى هَذَا مُقَلِّدٌ لِإِمَامِهِ لَا لَهُ ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ لَا يَتَأَدَّى بِهِ فَرْضُ الْكِفَايَةِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَيَظْهَرُ تَأَدِّي الْفَرْضِ بِهِ فِي الْفَتْوَى وَإِنْ لَمْ يَتَأَدَّ فِي إحْيَاءِ الْعُلُومِ الَّتِي مِنْهَا اسْتِمْدَادٌ لِلْفَتْوَى ا هـ .
وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ وَهَذِهِ صِفَةُ أَصْحَابِنَا إلَخْ مِثْلُ الْمُزَنِيّ وَالْبُوَيْطِيِّ صَاحِبَيْ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ صَاحِبَيْ مَالِكٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ الْخَلَّالِ وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيِّ وَالشَّيْخِ حَنْبَلٍ وَصَالِحِ بْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ إفْتَاءِ مَنْ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَالْأَصْلُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَنْ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَلَعَلَّهُ لِعَدَمِ وُجُودِهِ سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ قَالَ شَيْخُ شُيُوخِنَا فِي رِسَالَتِهِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ هَذِهِ الْأَعْصَارِ الِاسْتِنْبَاطُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْأَخْذُ بِأَقْوَالِ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَاتِّبَاعِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَقُولُونَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ وَتَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ .
وَلَوْ لَمْ نَقُلْ ذَلِكَ لَزِمَ الزَّيْغُ وَالضَّلَالُ وَالْإِلْحَادُ فِي الدِّينِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ يُعَارِضُهَا مِثْلُهَا مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَلَا إطْلَاعَ لِغَيْرِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِالنَّقْلِ عَنْهُمْ وَبَعْضُهَا مَنْسُوخٌ وَبَعْضُهَا مَخْصُوصٌ وَبَعْضُهَا مُجْمَلٌ وَبَعْضُهَا مُتَشَابِهٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْسَامِ ا هـ الْمُرَادُ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ مِنْ جَوَازِ خُلُوِّ الزَّمَانِ حَتَّى عَنْ مُجْتَهِدِ الْمَذْهَبِ فَفِي الْعَطَّارِ عَلَى مَحَلِّي جَمْعِ الْجَوَامِعِ قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ يَجُوزُ خُلُوُّ عَصْرٍ مِنْ

الْأَعْصَارِ عَنْ الَّذِي يُمْكِنُ تَفْوِيضُ الْفَتْوَى إلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ مُجْتَهِدًا مُطْلَقًا أَوْ كَانَ مُجْتَهِدًا فِي مَذْهَبِ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُطْلَقِ وَمَنَعَ مِنْهُ الْأَقَلُّونَ كَالْحَنَابِلَةِ ا هـ سَمِّ سِيَّمَا وَنَحْنُ الْآنَ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعَ عَشَرَ وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْأَخْضَرِيُّ فِي سُلَّمِهِ الْمُنْوَرِقِ لَا سِيَّمَا فِي عَاشِرِ الْقُرُونِ ذِي الْجَهْلِ وَالْفَسَادِ وَالْفُتُونِ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ أَشَارَ لَهَا فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ بِقَوْلِهِ مَعَ الشَّرْحِ وَدُونَهُ إلَخْ أَيْ دُونَ مُجْتَهِدِ الْمَذْهَبِ مُجْتَهِدُ الْفُتْيَا وَهُوَ الْمُتَبَحِّرُ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ الْمُتَمَكِّنُ مِنْ تَرْجِيحِ قَوْلٍ لَهُ عَلَى آخَرَ أَطْلَقَهُمَا ا هـ .
وَسَمَّاهُ الْعَلَّامَةُ السُّيُوطِيّ فِي رِسَالَتِهِ الْمَذْكُورَةِ مُجْتَهِدَ التَّرْجِيحِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ تَبَعًا لِابْنِ الصَّلَاحِ أَيْضًا وَهُوَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ لَكِنَّهُ فَقِيهُ النَّفْسِ حَافِظٌ لِمَذْهَبِ إمَامِهِ عَارِفٌ بِأَدِلَّتِهِ قَائِمٌ بِتَقْرِيرِهَا يُصَوِّرُ وَيُحَرِّرُ وَيُقَرِّرُ وَيُمَهِّدُ وَيُزَيِّفُ وَيُرَجِّحُ لَكِنَّهُ قَصَرَ عَنْ أُولَئِكَ لِقُصُورِهِ عَنْهُمْ فِي حِفْظِ الْمَذْهَبِ أَوْ الِارْتِيَاضِ فِي الِاسْتِنْبَاطِ وَمَعْرِفَةِ الْأُصُولِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَدِلَّتِهَا ا هـ .
وَقَالَ شَيْخُ شُيُوخِنَا فِي رِسَالَتِهِ وَمُجْتَهِدُو الْفَتْوَى مَنْ كَمُلُوا فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنْ أَرْبَابِ الْمَذْهَبِ حَتَّى وَصَلُوا لِرُتْبَةِ التَّرْجِيحِ لِلْأَقْوَالِ وَهُمْ كَثِيرُونَ كَالرَّافِعِيِّ وَالنَّوَوِيِّ وَابْنِ حَجَرٍ وَالرَّمْلِيِّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ا هـ بِتَوْضِيحٍ .
وَقَالَ شَيْخُ وَالِدِي الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ الْبَاجُورِيُّ عَلَى ابْنِ قَاسِمٍ إنَّ الرَّمْلِيَّ وَابْنَ حَجَرٍ لَمْ يَبْلُغَا مَرْتَبَةَ التَّرْجِيحِ بَلْ هُمَا مُقَلِّدَانِ فَقَطْ نَعَمْ قَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ لَهُمَا تَرْجِيحٌ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ بَلْ والشبراملسي أَيْضًا ا هـ وَكَالْمَازِرِيِّ وَابْنِ رُشْدٍ وَاللَّخْمِيِّ وَابْنِ الْعَرَبِيِّ وَالْقَرَافِيِّ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ

وَكَابْنِ نَجِيمٍ وَالسَّرَخْسِيِّ وَالْكَمَالِ بْنِ الْهُمَامِ وَالطَّحَاوِيِّ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَأَبِي يَعْلَى وَابْنِ قُدَامَةَ وَأَبِي الْخَطَّابِ وَالْقَاضِي عَلَاءِ الدِّينِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَقَالَ الْأَصْلُ وَحَالُ مَنْ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَنْ يُحِيطَ بِتَقْيِيدِ جَمِيعِ مُطْلَقَاتِ الْمَذْهَبِ وَتَخْصِيصِ جَمِيعِ عُمُومَاتِهِ وَبِمَدَارِكِ إمَامِهِ وَمُسْتَنَدَاتِهِ وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يُفْتِي بِمَا يَحْفَظُهُ وَيُخَرِّجُ وَيَقِيسُ بِشُرُوطِ الْقِيَاسِ مَا لَا يَحْفَظُهُ عَلَى مَا يَحْفَظُهُ ا هـ .
وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَأَمَّا عَالِمٌ غَيْرُ مُجْتَهِدٍ بِأَنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ مُجْتَهِدِ الْفَتْوَى وَلَا يَنْزِلَ إلَى دَرَجَةِ الْعَامِّيِّ وَسَمَّاهُ الْعَلَّامَةُ السُّيُوطِيّ فِي رِسَالَتِهِ الْمَذْكُورَةِ مُجْتَهِدَ الْفُتْيَا نَظَرًا لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ وَعَنْ شَارِحِ التَّحْرِيرِ الْأُصُولِيِّ مِنْ أَنَّهُ رُتْبَةٌ ثَالِثَةٌ لِغَيْرِ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُقَلِّدِينَ إلَّا أَنَّ كَلَامَ شَارِحِ التَّحْرِيرِ الْمَارِّ وَكَلَامَ ابْنِ رُشْدٍ الْآتِي عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُجْتَهِدِ فُتْيَا بَلْ مُجْتَهِدُ الْفُتْيَا هُوَ مُجْتَهِدُ التَّرْجِيحِ فَتَأَمَّلْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ تَبَعًا لِابْنِ الصَّلَاحِ أَيْضًا وَهُوَ مَنْ يَقُومُ بِحِفْظِ الْمَذْهَبِ وَنَقْلِهِ وَفَهْمِهِ فِي الْوَاضِحَاتِ وَالْمُشْكِلَاتِ وَلَكِنْ عِنْدَهُ ضَعْفٌ فِي تَقْرِيرِ أَدِلَّتِهِ وَتَحْرِيرِ أَقْيِسَتِهِ فَهَذَا يُعْتَمَدُ نَقْلُهُ وَفَتْوَاهُ فِيمَا يَحْكِيهِ مِنْ مَسْطُورَاتِ مَذْهَبِهِ وَمَا لَا يَجِدُهُ مَنْقُولًا إنْ وُجِدَ فِي الْمَنْقُولَاتِ مَعْنَاهُ بِحَيْثُ يُدْرِكُ بِغَيْرِ كَبِيرِ فِكْرٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا جَازَ إلْحَاقُهُ بِهِ وَالْفَتْوَى بِهِ وَكَذَا مَا يُعْلَمُ انْدِرَاجُهُ تَحْتَ ضَابِطِ مُجْتَهِدٍ فِي الْمَذْهَبِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ يَجِبُ إمْسَاكُهُ عَنْ الْفَتْوَى فِيهِ ا هـ .
وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ مِنْ الْأَقْوَالِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ الْأَصْلِ

وَحَالُ هَذَا أَنْ يَتَّسِعَ إطْلَاعُهُ بِحَيْثُ يَعْلَمُ بِتَقْيِيدِ الْمُطْلَقَاتِ وَتَخْصِيصِ الْعُمُومَاتِ لَكِنَّهُ لَمْ يَضْبِطْ مَدَارِكَ إمَامِهِ وَمُسْتَنَدَاتِهِ وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يُفْتِي بِمَا يَحْفَظُهُ وَيَنْقُلُهُ مِنْ مَذْهَبِهِ اتِّبَاعًا لِمَشْهُورِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ بِشُرُوطِ الْفُتْيَا لَا بِكُلِّ قَوْلٍ فِيهِ إذْ لَا يُعَرَّى مَذْهَبٌ مِنْ الْمَذَاهِبِ عَنْ قَوْلٍ خَالَفَ فِيهِ الْمُجْتَهِدُ الْإِجْمَاعَ أَوْ الْقَوَاعِدَ أَوْ النَّصَّ أَوْ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ السَّالِمَ عَنْ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ لَكِنَّهُ قَدْ يَقِلُّ وَقَدْ يَكْثُرُ .
وَهَذَا النَّوْعُ لَا يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَنْقُلَهُ لِلنَّاسِ وَلَا يُفْتِي بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَنَقَضْنَاهُ وَلَا نُقِرُّهُ شَرْعًا وَإِنْ تَأَكَّدَ بِحُكْمِهِ فَأَوْلَى أَنْ نُقِرَّهُ شَرْعًا إذَا لَمْ يَتَأَكَّدْ وَلَا يُعْلَمُ فِي مَذْهَبِهِ إلَّا مَنْ عَرَفَ الْقَوَاعِدَ الشَّرْعِيَّةَ وَالْقِيَاسَ الْجَلِيَّ وَالنَّصَّ الصَّرِيحَ وَعَدَمَ الْمُعَارِضِ لِذَلِكَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي تَحْصِيلِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ بِأُصُولِهَا مَعَ مَعْرِفَةِ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ مَعْرِفَةً حَسَنَةً لَا بِمُجَرَّدِ مَعْرِفَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ فَإِنَّ الْقَوَاعِدَ لَيْسَتْ مُسْتَوْعَبَةً فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بَلْ لِلشَّرِيعَةِ قَوَاعِدُ كَثِيرَةٌ جِدًّا عِنْدَ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى وَالْفُقَهَاءِ لَا تُوجَدُ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَصْلًا وَذَلِكَ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى وَضْعِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُسَمَّى كِتَابُ الْأَنْوَارِ وَالْقَوَاعِدِ السَّنِيَّةِ لِأَضْبِطَ تِلْكَ الْقَوَاعِدَ حَسْبَ طَاقَتِي وَلِاعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ يَحْرُمُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ الْفَتْوَى فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهُوَ أَمْرٌ لَازِمٌ وَكَذَلِكَ كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مُتَوَقِّفِينَ فِي الْفُتْيَا تَوَقُّفًا شَدِيدًا .
وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُفْتِيَ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ أَهْلًا لِذَلِكَ وَيَرَى هُوَ نَفْسُهُ أَهْلًا لِذَلِكَ يُرِيدُ تَثَبُّتَ أَهْلِيَّتِهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَيَكُونُ هُوَ بِيَقِينٍ مُطَّلِعًا عَلَى مَا

قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي حَقِّهِ مِنْ الْأَهْلِيَّةِ لِأَنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ مِنْ الْإِنْسَانِ أَمْرٌ عَلَى ضِدِّ مَا هُوَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى مَا وَصَفَهُ بِهِ النَّاسُ حَصَلَ الْيَقِينُ فِي ذَلِكَ وَمَا أَفْتَى مَالِكٌ حَتَّى أَجَازَهُ أَرْبَعُونَ مُحَنَّكًا لِأَنَّ التَّحْنِيكَ وَهُوَ اللِّثَامُ بِالْعَمَائِمِ تَحْتَ الْحَنَكِ شِعَارُ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إنَّ مَالِكًا سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ تَحْنِيكٍ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى تَأَكُّدِ التَّحْنِيكِ وَهَذَا هُوَ شَأْنِ الْفُتْيَا فِي الزَّمَنِ الْقَدِيمِ .
وَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ انْخَرَقَ هَذَا السِّيَاجُ وَسَهُلَ عَلَى النَّاسِ أَمْرُ دِينِهِمْ فَتَحَدَّثُوا فِيهِ بِمَا يَصْلُحُ وَمَا لَا يَصْلُحُ وَعَسُرَ عَلَيْهِمْ اعْتِرَافُهُمْ بِجَهْلِهِمْ وَأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ لَا يَدْرِي فَلَا جَرَمَ آلَ الْحَالُ لِلنَّاسِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْجُهَّالِ وَالْمُتَجَرِّئِينَ عَلَى دِينِ اللَّهِ تَعَالَى ا هـ .
قَالَ الْحَطَّابُ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمُخْتَصَرِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ بِحَيْثُ يَعْلَمُ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقَاتِ وَتَخْصِيصَ الْعُمُومَاتِ يَعْنِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ وَأَمَّا الْقَطْعُ بِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ لَيْسَتْ مُقَيَّدَةً فَبَعِيدٌ وَيَكْفِي الْآنَ فِي ذَلِكَ وُجُودُ الْمَسْأَلَةِ فِي التَّوْضِيحِ أَوْ فِي ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ الَّذِي يُفْتِي فِي هَذَا الزَّمَانِ أَقَلُّ مَرَاتِبِهِ فِي نَقْلِ الْمَذْهَبِ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَبْحَرَ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى رِوَايَاتِ الْمَذْهَبِ وَتَأْوِيلِ الشُّيُوخِ لَهَا وَتَوْجِيهِهِمْ لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ اخْتِلَافِ ظَوَاهِرَ وَاخْتِلَافِ مَذَاهِبَ وَتَشْبِيهِهِمْ مَسَائِلَ بِمَسَائِلَ قَدْ يَسْبِقُ إلَى النَّفْسِ تَبَاعُدُهَا وَتَفْرِيقُهُمْ بَيْنَ مَسَائِلَ وَمَسَائِلَ قَدْ يَقَعُ فِي النَّفْسِ تَقَارُبُهَا وَتَشَابُهُهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا بَسَطَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي كُتُبِهِمْ وَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ فَهَذَا لِعَدَمِ

النُّظَّارِ يُقْتَصَرُ عَلَى نَقْلِهِ عَنْ الْمَذْهَبِ ا هـ .
وَفِي آخِرِ خُطْبَةِ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ لِابْنِ رُشْدٍ قَالَ إذَا جَمَعَ الطَّالِبُ الْمُقَدَّمَاتِ إلَى هَذَا الْكِتَابِ يَعْنِي الْبَيَانَ وَالتَّحْصِيلَ حَصَلَ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا لَا يَسَعُ جَهْلُهُ مِنْ أُصُولِ الدِّيَانَاتِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَعَرَفَ الْعِلْمَ مِنْ طَرِيقِهِ وَأَخَذَهُ مِنْ بَابِهِ وَسَبِيلِهِ وَأَحْكَمَ رَدَّ الْفَرْعِ إلَى الْأَصْلِ وَاسْتَغْنَى بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ كُلِّهِ عَنْ الشُّيُوخِ فِي الْمُشْكِلَاتِ وَحَصَّلَ مَرْتَبَةَ مَنْ يَجِبُ تَقْلِيدُهُ فِي النَّوَازِلِ الْمُعْضِلَاتِ وَدَخَلَ فِي زُمْرَةِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ وَوَعَدَهُمْ فِيهِ بِتَرْفِيعِ الدَّرَجَاتِ ا هـ كَلَامُ الْحَطَّابِ بِتَغْيِيرِ مَا .
قَالَ وَجَعَلَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ مَا خَالَفَ فِيهِ الْإِمَامُ النَّصَّ نَظِيرُ مَا خَالَفَ فِيهِ الْإِجْمَاعَ فِي عَدَمِ جَوَازِ نَقْلِهِ لِلنَّاسِ وَإِفْتَائِهِمْ بِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِنَصِّ مَالِكٍ فِي كِتَابِ الْجَامِعِ مِنْ الْعُتْبِيَّةِ وَغَيْرِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ نَصِّ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إذَا كَانَ الْعَمَلُ بِخِلَافِهِ ا هـ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَعْلِ قَوْلِهِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ وَصْفًا لِخُصُوصِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ لَا لَهُ وَلِلنَّصِّ وَإِلَّا لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ .
هَذَا وَقَالَ الْأَصْلُ وَمَا لَيْسَ مَحْفُوظًا مِنْ رِوَايَاتِ الْمَذْهَبِ لِمَنْ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ تَخْرِيجُهُ عَلَى مَا هُوَ مَحْفُوظٌ لَهُ مِنْهَا وَإِنْ كَثُرَتْ مَنْقُولَاتُهُ جِدًّا إلَّا إذَا حَصَلَتْ لَهُ شُرُوطُ التَّخْرِيجِ مِنْ حِفْظِهِ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي تَحْصِيلِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ بِأُصُولِهَا وَمَعْرِفَتِهِ عِلْمَ أُصُولِ الْفِقْهِ وَكِتَابَ الْقِيَاسِ وَأَحْكَامِهِ وَتَرْجِيحَاتِهِ وَشَرَائِطِهِ وَمَوَانِعِهِ مَعْرِفَةً حَسَنَةً وَعِلْمُهُ بِأَنَّ قَوْلَ إمَامِهِ الْمُخَرَّجَ عَلَيْهِ لَيْسَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ وَلَا لِلْقَوَاعِدِ وَلَا لِنَصٍّ وَلَا لِقِيَاسٍ جَلِيٍّ سَالِمٍ عَنْ مُعَارِضٍ

رَاجِحٍ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقْدُمُونَ عَلَى التَّخْرِيجِ دُونَ هَذِهِ الشُّرُوطِ بَلْ صَارَ يُفْتِي مَنْ لَمْ يُحِطْ بِالتَّقْيِيدَاتِ وَلَا بِالتَّخْصِيصَاتِ مِنْ مَنْقُولِ إمَامِهِ وَذَلِكَ فِسْقٌ وَلَعِبٌ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّنْ يَتَعَمَّدُهُ ا هـ وَيَتَعَيَّنُ جَعْلُ قَوْلِهِ سَالِمٌ عَنْ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ وَصْفًا لِكُلٍّ مِنْ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَالنَّصِّ لَا لِخُصُوصِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ حَتَّى يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ إيرَادُ الْحَطَّابِ فَافْهَمْ .
وَأَمَّا الْعَامِّيُّ فَلَهُ مَرْتَبَتَانِ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى أَنْ يَعْرِفَ مِنْ الْمُجْتَهِدِ حُكْمَ حَادِثَةٍ بِدَلِيلِهَا وَفِي جَوَازِ إفْتَائِهِ بِمَا عَرَفَهُ مُطْلَقًا وَأَنْ يُقَلِّدَهُ غَيْرُهُ فِيهِ ثَالِثُهَا إنْ كَانَ الدَّلِيلُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً رَابِعُهَا إنْ كَانَ نَقْلِيًّا وَالْأَصَحُّ مِنْهَا كَمَا فِي بَحْرِ الزَّرْكَشِيّ الثَّانِي أَيْ الْمَنْعُ مُطْلَقًا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَعْرِفَ مِنْ الْمُجْتَهِدِ حُكْمَ مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَدْرِ دَلِيلَهَا أَوْ يَحْفَظْ مُخْتَصَرًا مِنْ مُخْتَصَرَاتِ الْفِقْهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا عَرَفَهُ نَعَمْ رُجُوعُ الْعَامِّيِّ إلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ سِوَاهُ أَوْلَى مِنْ الِارْتِبَاكِ فِي الْحِيرَةِ وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْقُلَ مَا أَفْتَاهُ بِهِ الْمُجْتَهِدُ لِغَيْرِهِ نَعَمْ فِي بَحْرِ الزَّرْكَشِيّ لَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَعْمَلَ بِفَتْوَى مُفْتٍ لِعَامِّيٍّ مِثْلِهِ وَإِلَى حَالِ مَنْ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ وَحُكْمُ فَتْوَاهُ أَشَارَ الْأَصْلُ بِقَوْلِهِ أَنْ يَحْفَظَ كِتَابًا فِيهِ عُمُومَاتٌ مُخَصَّصَةٌ فِي غَيْرِهِ وَمُطْلَقَاتٌ مُقَيَّدَةٌ فِي غَيْرِهِ فَهَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا فِيهِ إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ يَقْطَعُ أَنَّهَا مُسْتَوْفِيَةٌ لِلْقُيُودِ وَتَكُونُ هِيَ الْوَاقِعَةَ بِعَيْنِهَا ا هـ .
وَإِلَى حُكْمِ فَتْوَى مَنْ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى يُشِيرُ قَوْلُهُ إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ يَقْطَعُ أَنَّهَا مُسْتَوْفِيَةٌ إلَخْ فَتَأَمَّلْ بِدِقَّةٍ إذَا عَلِمْت هَذَا عَلِمْت أَنَّ كَلَامَ الْأَصْلِ فِي هَذَا الْفَرْقِ وَجَوَابَ ابْنِ رُشْدٍ لَمَّا سُئِلَ

عَنْ الْفَتْوَى وَصِفَةِ الْمُفْتِي قَدْ حَصَرَاهُ فِي مُجْتَهِدِ الْفَتْوَى وَالتَّرْجِيحِ وَالْعَالِمِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَتَهُ وَصَاحِبِ الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَرْتَبَتِي الْعَامِّيِّ الْمَارَّتَيْنِ مَعَ إدْمَاجِ صَاحِبِ الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى مِنْهُمَا مَعَ صَاحِبِ الثَّانِيَةِ وَحَاصِلُ كَلَامِ الْأَصْلِ كَمَا فِي الْحَطَّابِ عَلَى مَتْنِ سَيِّدِي خَلِيلٍ أَنَّ لِطَالِبِ الْعِلْمِ ثَلَاثَ حَالَاتٍ الْأُولَى أَنْ يَحْفَظَ كِتَابًا فِيهِ عُمُومَاتٌ مُخَصَّصَةٌ فِي غَيْرِهِ وَمُطْلَقَاتٌ مُقَيَّدَةٌ فِي غَيْرِهِ فَهَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا فِيهِ إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ يَقْطَعُ أَنَّهَا مُسْتَوْفِيَةُ الْقُيُودِ وَتَكُونُ هِيَ الْوَاقِعَةَ بِعَيْنِهَا الثَّانِيَةُ أَنْ يَتَّسِعَ اطِّلَاعُهُ بِحَيْثُ يَعْلَمُ بِتَقْيِيدِ الْمُطْلَقَاتِ وَتَخْصِيصِ الْعُمُومَاتِ لَكِنَّهُ لَمْ يَضْبِطْ مَدَارِكَ إمَامِهِ وَمُسْتَنِدَاتِهِ فَهَذَا يُفْتِي بِمَا يَحْفَظُهُ وَيَنْقُلُهُ مِنْ الْمَشْهُورِ فِي ذَلِكَ الْمَذْهَبِ وَلَا يُخَرِّجُ مَسْأَلَةً لَيْسَتْ مَنْصُوصَةً عَلَى مَا يُشْبِهُهَا الثَّالِثَةُ أَنْ يُحِيطَ بِذَلِكَ وَبِمَدَارِكِ إمَامِهِ وَمُسْتَنِدَاتِهِ وَهَذَا يُفْتِي بِمَا يَحْفَظُهُ وَيُخَرِّجُ وَيَقِيسُ بِشُرُوطِ الْقِيَاسِ مَا لَا يَحْفَظُهُ عَلَى مَا يَحْفَظُهُ ا هـ .
وَجَوَابُ ابْنِ رُشْدٍ كَمَا فِي شَرْحِ الْحَطَّابِ عَلَى خَلِيلٍ نَقْلًا عَنْ وَثَائِقِ ابْنِ سَلْمُونٍ أَنَّ الْجَمَاعَةَ الَّتِي تُنْسَبُ إلَى الْعُلُومِ وَتَتَمَيَّزُ عَنْ جُمْلَةِ الْعَوَامّ فِي الْمَحْفُوظِ وَالْمَفْهُومِ تَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ طَوَائِفَ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ اعْتَقَدَتْ صِحَّةَ مَذْهَبِ مَالِكٍ تَقْلِيدًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَأَخَذَتْ أَنْفُسَهَا بِحِفْظِ مُجَرَّدِ أَقْوَالِهِ وَأَقْوَالِ أَصْحَابِهِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ دُونَ التَّفَقُّهِ فِي مَعَانِيهَا بِتَمْيِيزِ الصَّحِيحِ مِنْهَا وَالسَّقِيمِ فَهَذِهِ لَا يَصِحُّ لَهَا الْفَتْوَى بِمَا عَلِمَتْهُ وَحَفِظَتْهُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إذْ لَا عِلْمَ عِنْدَهَا بِصِحَّةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إذْ لَا يَصِحُّ الْفَتْوَى بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ مِنْ غَيْرِ

عِلْمٍ وَيَصِحُّ لَهَا فِي خَاصَّتِهَا إنْ لَمْ تَجِدْ مَنْ يَصِحُّ لَهَا أَنْ تَسْتَفْتِيَهُ أَنْ تُقَلِّدَ مَالِكًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيمَا حَفِظَتْهُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَنْ نَزَلَتْ بِهِ نَازِلَةٌ مَنْ يُقَلِّدُهُ فِيهَا مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فَيَجُوزُ لِلَّذِي نَزَلَتْ بِهِ النَّازِلَةُ أَنْ يُقَلِّدَهُ فِيمَا حَكَاهُ لَهُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ فِي نَازِلَتِهِ وَيُقَلِّدَ مَالِكًا فِي الْأَخْذِ بِقَوْلِهِ فِيهَا وَذَلِكَ أَيْضًا إذَا لَمْ يَجِدْ فِي عَصْرِهِ مَنْ يَسْتَفْتِيهِ فِي نَازِلَتِهِ فَيُقَلِّدُهُ فِيهَا .
وَإِنْ كَانَتْ النَّازِلَةُ قَدْ عُلِمَ فِيهَا اخْتِلَافًا مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ كَانَ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمَ الْعَامِّيِّ إذَا اسْتَفْتَى الْعُلَمَاءَ فِي نَازِلَتِهِ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِيهَا وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالِ أَحَدُهَا أَنْ يَأْخُذَ بِمَا شَاءَ مِنْ ذَلِكَ الثَّانِي أَنْ يَجْتَهِدَ مِنْ ذَلِكَ فَيَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِ أَعْلَمِهِمْ الثَّالِثُ أَنْ يَأْخُذَ بِأَغْلَظِ الْأَقْوَالِ وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ مِنْهُمْ اعْتَقَدَتْ صِحَّةَ مَذْهَبِ مَالِكٍ بِمَا بَانَ لَهَا مِنْ صِحَّةِ أُصُولِهِ الَّتِي بَنَاهُ عَلَيْهَا فَأَخَذَتْ أَنْفُسَهَا بِحِفْظِ مُجَرَّدِ أَقْوَالِهِ وَأَقْوَالِ أَصْحَابِهِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَتَفَقَّهَتْ فِي مَعَانِيهَا فَعَلِمَتْ الصَّحِيحَ مِنْهَا الْجَارِيَ عَلَى أُصُولِهِ مِنْ السَّقِيمِ الْخَارِجِ إلَّا أَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ دَرَجَةَ التَّحْقِيقِ بِمَعْرِفَةِ قِيَاسِ الْفُرُوعِ عَلَى الْأُصُولِ وَهَذِهِ يَصْلُحُ لَهَا إذَا اُسْتُفْتِيَتْ أَنْ تُفْتِيَ بِمَا عَلِمَتْهُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَقَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ إذَا كَانَتْ قَدْ بَانَتْ لَهَا صِحَّتُهُ كَمَا يَجُوزُ لَهَا فِي خَاصَّتِهَا الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ إذَا بَانَتْ لَهَا صِحَّتُهُ وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُفْتِيَ بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا تَعْلَمُ فِيهِ نَصًّا مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ أَوْ قَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَانَتْ لَهَا صِحَّتُهُ إذْ لَيْسَتْ مِمَّنْ كَمُلَ لَهَا آلَاتُ الِاجْتِهَادِ

الَّذِي يَصِحُّ لَهَا بِهَا قِيَاسٌ مِنْ الْفُرُوعِ عَلَى الْأُصُولِ وَالطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ مِنْهُمْ اعْتَقَدَتْ صِحَّةَ مَذْهَبِهِ بِمَا بَانَ لَهَا أَيْضًا مِنْ صِحَّةِ أُصُولِهِ لِكَوْنِهَا عَالِمَةً أَحْكَامَ الْقُرْآنِ عَارِفَةً لِلنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَالْمُفَصَّلِ وَالْمُجْمَلِ وَالْخَاصِّ مِنْ الْعَامِّ عَالِمَةً بِالسُّنَنِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَحْكَامِ مُمَيِّزَةً بَيْنَ صَحِيحِهَا مِنْ مَعْلُولِهَا عَالِمَةً بِأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَبِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَالِمَةً مِنْ عِلْمِ اللِّسَانِ بِمَا يُفْهَمُ بِهِ مَعَانِي الْكَلَامِ عَالِمَةً بِوَضْعِ الْأَدِلَّةِ فِي مَوَاضِعِيهَا وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي يَصِحُّ لَهَا الْفَتْوَى عُمُومًا بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ عَلَى الْأُصُولِ الَّتِي هِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ بِالْمَعْنَى الْجَامِعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّازِلَةِ وَعَلَى مَا قِيسَ عَلَيْهَا إنْ قُدِّمَ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا وَمِنْ الْقِيَاسِ جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ قَدْ يُعْلَمُ قَطْعًا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وَقَدْ يُعْلَمُ بِالِاسْتِدْلَالِ فَلَا يُوجِبُ إلَّا غَلَبَةَ الظَّنِّ وَلَا يَرْجِعُ إلَى الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ إلَّا بَعْدَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَهَذَا كُلُّهُ يَتَفَاوَتُ الْعُلَمَاءُ فِي التَّحْقِيقِ بِالْمَعْرِفَةِ بِهِ تَفَاوُتًا بَعِيدًا وَتَفْتَرِقُ أَحْوَالُهُمْ أَيْضًا فِي جَوْدَةِ الْفَهْمِ لِذَلِكَ وَجَوْدَةِ الذِّهْنِ فِيهِ افْتِرَاقًا بَعِيدًا إذْ لَيْسَ الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ الْفِقْهُ فِي الدِّينِ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَالْحِفْظِ وَإِنَّمَا هُوَ نُورٌ يَضَعُهُ اللَّهُ حَيْثُ يَشَاءُ فَمَنْ اعْتَقَدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ مِمَّنْ تَصِحُّ لَهُ الْفَتْوَى بِمَا آتَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ الْمُرَكَّبِ عَلَى الْمَحْفُوظِ الْمَعْلُومِ جَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَإِذَا اعْتَقَدَ النَّاسُ فِيهِ ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فَمِنْ الْحَقِّ لِلرَّجُلِ أَنْ لَا يُفْتِيَ حَتَّى يَرَى نَفْسَهُ

أَهْلًا لِذَلِكَ عَلَى مَا حَكَى مَالِكٌ عَنْ ابْنِ هُرْمُزَ أَشَارَ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ اسْتَشَارَهُ السُّلْطَانُ فَاسْتَشَارَهُ فِي ذَلِكَ ا هـ .

( تَنْبِيهٌ ) : كُلُّ شَيْءٍ أَفْتَى فِيهِ الْمُجْتَهِدُ فَخَرَجَتْ فُتْيَاهُ فِيهِ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ أَوْ الْقَوَاعِدِ أَوْ النَّصِّ أَوْ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ لَا يَجُوزُ لِمُقَلِّدِهِ أَنْ يَنْقُلَهُ لِلنَّاسِ وَلَا يُفْتِي بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَنَقَضْنَاهُ وَمَا لَا نُقِرُّهُ شَرْعًا بَعْدَ تَقَرُّرِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْلَى أَنْ لَا نُقِرَّهُ شَرْعًا إذَا لَمْ يَتَأَكَّدْ وَهَذَا لَمْ يَتَأَكَّدْ فَلَا نُقِرُّهُ شَرْعًا وَالْفُتْيَا بِغَيْرِ شَرْعٍ حَرَامٌ فَالْفُتْيَا بِهَذَا الْحُكْمِ حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ غَيْرَ عَاصٍ بِهِ بَلْ مُثَابًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بَذَلَ جَهْدَهُ عَلَى حَسَبِ مَا أُمِرَ بِهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ } فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ تَفَقُّدُ مَذَاهِبِهِمْ فَكُلُّ مَا وَجَدُوهُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الْفُتْيَا بِهِ وَلَا يَعْرَى مَذْهَبٌ مِنْ الْمَذَاهِبِ عَنْهُ لَكِنَّهُ قَدْ يَقِلُّ وَقَدْ يَكْثُرُ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَعْلَمَ هَذَا فِي مَذْهَبِهِ إلَّا مَنْ عَرَفَ الْقَوَاعِدَ وَالْقِيَاسَ الْجَلِيَّ وَالنَّصَّ الصَّرِيحَ وَعَدَمَ الْمُعَارِضِ لِذَلِكَ وَذَلِكَ يَعْتَمِدُ تَحْصِيلَ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالتَّبَحُّرَ فِي الْفِقْهِ فَإِنَّ الْقَوَاعِدَ لَيْسَتْ مُسْتَوْعَبَةً فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بَلْ لِلشَّرِيعَةِ قَوَاعِدُ كَثِيرَةٌ جِدًّا عِنْدَ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى وَالْفُقَهَاءِ لَا تُوجَدُ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَصْلًا وَذَلِكَ هُوَ الْبَاعِثُ لِي عَلَى وَضْعِ هَذَا الْكِتَابِ لِأَضْبِطَ تِلْكَ الْقَوَاعِدَ بِحَسَبِ طَاقَتِي وَلِاعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ يَحْرُمُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ الْفَتْوَى فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهُوَ أَمْرٌ لَازِمٌ وَكَذَلِكَ كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مُتَوَقِّفِينَ فِي الْفُتْيَا تَوَقُّفًا شَدِيدًا وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُفْتِيَ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ أَهْلًا لِذَلِكَ

وَيَرَى هُوَ نَفْسَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ يُرِيدُ تَثْبُتُ أَهْلِيَّتُهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ .
وَيَكُونُ هُوَ بِيَقِينٍ مُطَّلِعًا عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي حَقِّهِ مِنْ الْأَهْلِيَّةِ لِأَنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ مِنْ الْإِنْسَانِ أَمْرٌ عَلَى ضِدِّ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى مَا وَصَفَهُ بِهِ النَّاسُ حَصَلَ الْيَقِينُ فِي ذَلِكَ وَمَا أَفْتَى مَالِكٌ حَتَّى أَجَازَهُ أَرْبَعُونَ مُحَنَّكًا لِأَنَّ التَّحَنُّكَ وَهُوَ اللِّثَامُ بِالْعَمَائِمِ تَحْتَ الْحَنَكِ شِعَارُ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إنَّ مَالِكًا سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ تَحَنُّكٍ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى تَأَكُّدِ التَّحْنِيكِ وَهَذَا هُوَ شَأْنُ الْفُتْيَا فِي الزَّمَنِ الْقَدِيمِ وَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ انْخَرَقَ هَذَا السِّيَاجُ وَسَهُلَ عَلَى النَّاسِ أَمْرُ دِينِهِمْ فَتَحَدَّثُوا فِيهِ بِمَا يَصْلُحُ وَبِمَا لَا يَصْلُحُ وَعَسُرَ عَلَيْهِمْ اعْتِرَافُهُمْ بِجَهْلِهِمْ وَأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ لَا يَدْرِي فَلَا جَرَمَ آلَ الْحَالُ لِلنَّاسِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْجُهَّالِ .
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَصِيرَ طَالِبُ الْعِلْمِ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الشُّرُوطِ مَعَ الدِّيَانَةِ الْوَازِعَةِ وَالْعَدَالَةِ الْمُتَمَكِّنَةِ فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي مَذْهَبِهِ نَقْلًا وَتَخْرِيجًا وَيَعْتَمِدُ عَلَى مَا يَقُولُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ .

تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ الِاسْتِنْبَاطُ لُغَةً اسْتِخْرَاجُ الْمَاءِ مِنْ الْعَيْنِ مِنْ قَوْلِهِمْ نَبَطَ الْمَاءُ إذَا خَرَجَ مِنْ مَنْبَعِهِ وَاصْطِلَاحًا اسْتِخْرَاجُ الْمَعَانِي مِنْ النُّصُوصِ بِفَرْطِ الذِّهْنِ وَقُوَّةِ الْقَرِيحَةِ كَمَا فِي تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ قَالَ الْمَحَلِّيُّ عَلَى جَمْعِ الْجَوَامِعِ أَنْ يَسْتَنْبِطَ الْحُكْمَ بِأَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ بِأَلْ عَامٌّ مِمَّا نُقِلَ أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ حَيْثُ لَا حَصْرَ فِيهِ أَيْ إخْرَاجُ بَعْضِهِ بِإِلَّا أَوْ إحْدَى أَخَوَاتِهَا بِأَنْ يَضُمَّ إلَيْهِ كُبْرَى مَأْخُوذَةً مِنْ قَوْلِهِمْ مِعْيَارًا لِعُمُومِ الِاسْتِثْنَاءِ وَهِيَ كُلُّ مَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ مِمَّا لَا حَصْرَ فِيهِ فَهُوَ عَامٌّ لِيَنْتِجَ مَطْلُوبٌ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ عَامٌّ ا هـ بِتَوْضِيحٍ لِلْمُرَادِ .
وَفِي حَاشِيَتَيْ الشِّرْبِينِيِّ وَالْعَطَّارِ عَلَى مَحَلِّي جَمْعِ الْجَوَامِعِ الِاسْتِنْبَاطُ اسْتِنْتَاجُ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأَدِلَّةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا رُفِعَتْ إلَى الْمُجْتَهِدِ وَاقِعَةٌ فَلْيَعْرِضْهَا عَلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ فَإِنْ أَعْوَزَهُ فَعَلَى الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ ثُمَّ عَلَى الْآحَادِ فَإِنْ أَعْوَزَهُ لَمْ يَخُضْ فِي الْقِيَاسِ بَلْ يَلْتَفِتُ إلَى ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ فَإِنْ وَجَدَ ظَاهِرًا نَظَرَ فِي الْمُخَصَّصَاتِ مِنْ قِيَاسٍ أَوْ خَبَرٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تَخْصِيصًا حَكَمَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْثُرْ عَلَى لَفْظٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ نَظَرَ إلَى الْمَذَاهِبِ فَإِنْ وَجَدَهَا مُجْمَعًا عَلَيْهَا اتَّبَعَ الْإِجْمَاعَ .
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إجْمَاعًا خَاضَ فِي الْقِيَاسِ وَيُلَاحِظُ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ أَوَّلًا وَيُقَدِّمُهَا عَلَى الْجُزْئِيَّاتِ كَمَا فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقِلِ يُقَدِّمُ قَاعِدَةَ الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْآلَةِ فَإِنْ عُدِمَ قَاعِدَةً كُلِّيَّةً نَظَرَ فِي النُّصُوصِ وَمَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ فَإِنْ وَجَدَهَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ أَلْحَقَ بِهِ وَإِلَّا انْحَدَرَ إلَى قِيَاسٍ مُخَيَّلٍ فَإِنْ أَعْوَزَهُ تَمَسَّكَ بِالشَّبَهِ وَلَا يَعُودُ عَلَى طَرْدٍ إنْ

كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَيَعْرِفُ مَأْخَذَ الشَّرْعِ هَذَا تَدْرِيجُ النَّظَرِ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَقَدْ أَخَّرَ الْإِجْمَاعَ عَنْ الْإِخْبَارِ وَذَلِكَ تَأْخِيرُ مَرْتَبَةٍ لَا تَأْخِيرُ عَمَلٍ إذْ الْفِعْلُ بِهِ مُقَدَّمٌ لَكِنَّ الْخَبَرَ يَتَقَدَّمُ فِي الْمَرْتَبَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مُسْتَنَدُ قَبُولِ الْإِجْمَاعِ قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ ا هـ .

( التَّنْبِيهُ الثَّانِي ) الْقِيَاسُ لُغَةً عِبَارَةٌ عَنْ رَدِّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ وَعِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ إبَانَةُ مِثْلِ حُكْمِ الْمَذْكُورِ بِمِثْلِ عِلَّتِهِ فِي الْآخَرِ أَيْ إظْهَارُ مِثْلِ حُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ بِمِثْلِ عِلَّتِهِ فِي آخَرَ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ لَا إثْبَاتُهُ لِأَنَّ الْقِيَاسَ غَيْرُ مُثْبِتٍ لِلْحُكْمِ بَلْ مُظْهِرٍ لَهُ وَاحْتَرَزَ بِمِثْلِ الْحُكْمِ وَمِثْلِ الْعِلَّةِ عَنْ لُزُومِ الْقَوْلِ بِانْتِقَالِ الْأَوْصَافِ وَاخْتِيَارِ لَفْظِ الْمَذْكُورِ لِيَشْمَلَ الْقِيَاسَ بَيْنَ الْمَعْدُومِينَ أَيْضًا وَأَرْكَانُهُ .
أَرْبَعَةٌ مَقِيسٌ عَلَيْهِ وَمَقِيسٌ وَمَعْنًى مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَحُكْمُ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ يَتَعَدَّى بِوَاسِطَةِ الْمُشْتَرَكِ إلَى الْمَقِيسِ وَفِي التَّعْبِيرِ بِالْأَصْلِ وَالْفَرْعِ عَنْ الْأَوَّلَيْنِ وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَوْ عَنْ غَيْرِهِمَا كَحُكْمِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ أَوْ الْأَصْلُ دَلِيلُ حُكْمِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ خِلَافٌ وَيَنْقَسِمُ إلَى جَلِيٍّ وَهُوَ مَا تَسْبِقُ إلَيْهِ الْأَفْهَامُ وَإِلَى خَفِيٍّ وَهُوَ مَا يَكُونُ بِخِلَافِهِ وَيُسَمَّى فِي الْأَغْلَبِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ أَعَمَّ مُطْلَقًا مِنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالضَّرُورَةِ كَمَا فِي تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ وَمَحَلِّي جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَرْكَانِهِ الْأَرْبَعَةِ شُرُوطٌ تُطْلَبُ مِنْ كُتُبِ الْأُصُولِ قَالَ الْحَطَّابُ فِي شَرْحِ وَرَقَاتِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ مَعَ الْمَتْنِ .
وَيَنْقَسِمُ الْقِيَاسُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ قِيَاسِ عِلَّةٍ وَقِيَاسِ دَلَالَةٍ وَقِيَاسِ شَبَهٍ ( فَقِيَاسُ الْعِلَّةِ ) مَا كَانَتْ الْعِلَّةُ فِيهِ مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ بِحَيْثُ لَا يَحْسُنُ عَقْلًا تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهَا وَلَوْ تَخَلَّفَ عَنْهَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ مُحَالٌ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ كَقِيَاسِ تَحْرِيمِ ضَرْبِ الْوَالِدَيْنِ عَلَى التَّأْفِيفِ بِجَامِعِ الْإِيذَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَحْسُنُ فِي الْعَقْلِ إبَاحَةُ الضَّرْبِ مَعَ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الدَّلَالَةَ فِيهِ

عَلَى الْحُكْمِ قِيَاسِيَّةٌ وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الدَّلَالَةَ فِيهِ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْحُكْمِ وَقِيَاسُ الدَّلَالَةِ مَا كَانَتْ الْعِلَّةُ فِيهِ دَالَّةً عَلَى الْحُكْمِ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لَهُ أَيْ مَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ لِعِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ يَجُوزُ أَنْ يَتَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَيْهَا فِي الْفَرْعِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَخَلَّفَ وَهَذَا أَضْعَفُ مِنْ الْأَوَّلِ وَهُوَ غَالِبُ أَنْوَاعِ الْأَقْيِسَةِ كَقِيَاسِ مَالِ الصَّبِيِّ عَلَى مَالِ الْبَالِغِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ بِجَامِعِ أَنَّهُ مَالٌ نَامٍ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَا يَجِبُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ( وَقِيَاسُ الشَّبَهِ ) مَا كَانَ الْفَرْعُ فِيهِ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ أَصْلَيْنِ وَهُوَ أَكْثَرُ شَبَهًا بِأَحَدِهِمَا فَيُلْحَقُ بِهِ كَالْعَبْدِ الْمَقْتُولِ فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ فِي الضَّمَانِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ الْحُرِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ وَبَيْنَ الْبَهِيمَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ وَهُوَ بِالْمَالِ أَكْثَرُ شَبَهًا مِنْ الْحُرِّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُبَاعُ وَيُورَثُ وَيُوقَفُ وَتُضْمَنُ أَجْزَاؤُهُ بِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ فَيَلْحَقُ بِهِ وَتُضْمَنُ قِيمَتُهُ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ وَهَذَا أَضْعَفُ مِمَّا قَبْلَهُ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ مَا قَبْلَهُ ا هـ .
بِتَصَرُّفٍ قُلْتُ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْجَلِيِّ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْخَفِيِّ نَعَمْ قَالَ الرَّازِيّ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الْجَمَلِ عَلَى الْجَلَالَيْنِ إنَّ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ { وَلُوطًا إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ } دَالٌّ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ فِي اللِّوَاطَةِ لِأَنَّهَا اشْتَرَكَتْ مَعَ الزِّنَا فِي كَوْنِهَا فَاحِشَةً وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا أَيْ مِنْ أَمْثِلَةِ قِيَاسِ الدَّلَالَةِ الظَّنِّيِّ إلَّا أَنَّ الْجَامِعَ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْآيَةِ ا هـ .
أَيْ مِنْ النَّصِّ وَكُلُّ مَا اُسْتُفِيدَ مِنْ النَّصِّ فَهُوَ قَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ لَا ظَنِّيُّهَا فَتَأَمَّلْ بِإِمْعَانٍ وَقَدْ اقْتَصَرْت فِي

الْمُقَدِّمَةِ تَبَعًا لِابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ فِي بِدَايَتِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ دَلَالَةَ نَحْوِ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ فِي الْآيَةِ عَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ لَفْظِيَّةٌ لَا قِيَاسِيَّةٌ وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ ابْنُ السُّبْكِيّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ فَافْهَمْ .
قَالَ الْأَصْلُ وَلَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ لِلْمُقَلِّدِ وَلَا لِإِمَامِهِ إلَّا بَعْدَ الْفَحْصِ الْمُنْتَهِي إلَى غَايَةِ أَنَّهُ لَا فَارِقَ هُنَاكَ وَلَا مُعَارِضَ وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ الْقِيَاسِ وَلَا يَتَأَتَّى الْفَحْصُ الْمَذْكُورُ مِنْ الْمُقَلِّدِ إلَّا بَعْدَ إحَاطَتِهِ بِمَدَارِكِ إمَامِهِ وَأَدِلَّتِهِ وَأَقْيِسَتِهِ وَعِلَلِهِ الَّتِي اعْتَمَدَ عَلَيْهَا مُفَصَّلَةً وَمَعْرِفَتِهِ رُتَبَ تِلْكَ الْعِلَلِ وَنِسْبَتَهَا إلَى الْمَصَالِحِ الشَّرْعِيَّةِ وَهَلْ هِيَ مِنْ بَابِ الْمَصَالِحِ الضَّرُورِيَّةِ أَوْ الْحَاجِيَّةِ أَوْ التَّتِمِّيَّةِ وَهَلْ هِيَ مِنْ بَابِ الْمُنَاسِبِ الَّذِي اُعْتُبِرَ نَوْعُهُ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ وَهَلْ هِيَ مِنْ بَابِ الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ الَّتِي هِيَ أَدْنَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ مَا شَهِدَتْ لَهَا أُصُولُ الشَّرْعِ بِالِاعْتِبَارِ أَوْ هِيَ مِنْ بَابِ قِيَاسِ الشَّبَهِ أَوْ الْمُنَاسِبِ أَوْ قِيَاسِ الدَّلَالَةِ أَوْ قِيَاسِ الْإِحَالَةِ أَوْ الْمُنَاسِبِ الْقَرِيبِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَقْيِسَةِ وَرُتَبِ الْعِلَلِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُوَضَّحَةِ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ نِسْبَةَ هَذَا الْمُقَلِّدِ إلَى إمَامِهِ فِي الْقِيَاسِ عَلَى أُصُولِ مَذْهَبِهِ كَنِسْبَةِ إمَامِهِ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ فِي الْقِيَاسِ عَلَى مَقَاصِدِهِ فَكَمَا أَنَّ إمَامَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقِيسَ مَعَ قِيَامِ الْفَارِقِ لِأَنَّ الْفَارِقَ مُبْطِلٌ لِلْقِيَاسِ وَالْقِيَاسُ الْبَاطِلُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ مَثَلًا لَوْ وَجَدَ إمَامُهُ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَدْ نَصَّ عَلَى حُكْمٍ وَمَصْلَحَةٍ مِنْ بَابِ الضَّرُورِيَّاتِ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَقِيسَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مِنْ بَابِ الْحَاجَاتِ أَوْ التَّتِمَّاتِ لِكَوْنِ هَاتَيْنِ

ضَعِيفَتَيْنِ وَمَرْجُوحَتَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُولَى وَلَا يَلْزَمُ مِنْ اعْتِبَارِ الْأَقْوَى اعْتِبَارُ الْأَضْعَفِ كَذَلِكَ هَذَا الْمُقَلِّدُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقِيسَ فَرْعًا عَلَى فَرْعٍ نَصَّ إمَامُهُ عَلَيْهِ مَعَ قِيَامِ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا مَثَلًا إمَامُهُ أَفْتَى فِي فَرْعٍ بُنِيَ عَلَى عِلَّةٍ اُعْتُبِرَ فَرْعُهَا فِي نَوْعِ الْحُكْمِ لَا يَجُوزُ لَهُ هُوَ أَنْ يَقِيسَ عَلَى أَصْلِ إمَامِهِ فَرْعًا مِثْلَ ذَلِكَ الْفَرْعِ لَكِنَّ عِلَّتَهُ مِنْ قَبِيلِ مَا شَهِدَ جِنْسُهُ لِجِنْسِ الْحُكْمِ لِقُوَّةِ النَّوْعِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ اعْتِبَارِ الْأَقْوَى اعْتِبَارُ الْأَضْعَفِ أَوْ وَجَدَ إمَامَهُ اعْتَمَدَ عَلَى مَصْلَحَةٍ مِنْ بَابِ الضَّرُورِيَّاتِ لَا يَجُوزُ لَهُ هُوَ أَنْ يَقِيسَ عَلَيْهَا مِثْلَهَا لَكِنَّهَا مِنْ بَابِ الْحَاجَاتِ أَوْ التَّتِمَّاتِ إذْ لَعَلَّ إمَامَهُ رَاعَى خُصُوصَ تِلْكَ الْقُوَّةِ وَذَلِكَ لِخُصُوصٍ مُنْتَفٍ هُنَا أَوْ وَجَدَ إمَامَهُ اعْتَبَرَ مَصْلَحَةً سَالِمَةً عَنْ الْمُعَارِضِ لِقَاعِدَةٍ أُخْرَى حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَ فِيمَا فِيهِ عَنْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ لَكِنَّهَا مُعَارِضَةٌ لِقَاعِدَةٍ أُخْرَى أَوْ بِقَوَاعِدَ لِقِيَامِ الْفَارِقِ .

( التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ ) التَّخْرِيجُ فِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ تَعَرُّفُ أَحْكَامِ جُزْئِيَّاتِ مَوْضُوعِ الْقَاعِدَةِ مِنْ الْقَاعِدَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى تِلْكَ الْأَحْكَامِ بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ الْفِعْلِ بِإِبْرَازِهَا مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ بِأَنْ تُجْعَلَ الْقَاعِدَةُ نَحْوُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ حَقِيقَةً كُبْرَى قِيَاسٌ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ لِصُغْرَى سَهْلَةِ الْحُصُولِ لِأَنَّ مَحْمُولَهَا مَوْضُوعُ الْكُبْرَى وَمَوْضُوعُهَا هُوَ الْجُزْئِيُّ الَّذِي قُصِدَ تَعَرُّفُ حُكْمِهِ فَيُقَالُ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ أَمْرٌ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ حَقِيقَةٌ تُنْتِجُ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ لِلْوُجُوبِ حَقِيقَةً فَلِذَا عَرَّفُوا الْقَاعِدَةَ بِقَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ يَتَعَرَّفُ مِنْهَا أَحْكَامُ جُزْئِيَّاتِ مَوْضُوعِهَا ، وَفِي صِيغَةِ التَّفَعُّلِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ تِلْكَ الْمَعْرِفَةَ بِالْكُلْفَةِ وَالْمَشَقَّةِ فَخَرَجَ مِنْ التَّعْرِيفِ الْقَضِيَّةُ الَّتِي تَكُونُ فُرُوعُهَا بَدِيهِيَّةً غَيْرَ مُحْتَاجَةٍ إلَى التَّخْرِيجِ فَيَكُونُ ذِكْرُهَا فِي الْفَنِّ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَادِي لِمَسَائِلَ أُخَرَ وَيُقَالُ لِلْإِبْرَازِ الْمَذْكُورِ تَفْرِيعٌ كَمَا فِي الْعَطَّارِ وَالشِّرْبِينِيِّ عَلَى مَحَلِّي جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَأَطْلَقَ الْأَصْلُ التَّخْرِيجَ عَلَى مَعْنَى الْقِيَاسِ فَلِذَا قَالَ لَا يَجُوزُ إلَّا لِمَنْ ضَبَطَ مَدَارِكَ إمَامِهِ وَمُسْتَنَدَاتِهِ بِخِلَافِهِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ يَتَّسِعُ اطِّلَاعُهُ بِحَيْثُ يَعْلَمُ بِتَقْيِيدِ الْمُطْلَقَاتِ وَتَخْصِيصِ الْعُمُومَاتِ وَلَوْ لَمْ يَضْبِطْ مَدَارِكَ إمَامِهِ وَمُسْتَنَدَاتِهِ .
قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ عُلَيْشٌ فِي فَتَاوِيهِ فَتْحِ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ فِي جَوَابِ بَعْضِ مُعَاصِرِيهِ لَمَّا سُئِلَ عَنْ رَجُلَيْنِ اشْتَرَكَا فِي بَهِيمَةٍ اشْتَرَيَاهَا وَالْتَزَمَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ نَفَقَتَهَا ثُمَّ بَعْدَ انْفِصَالِ الشَّرِكَةِ أَرَادَ الْمُلْتَزِمُ مُحَاسَبَةَ شَرِيكِهِ بِمَا أَنْفَقَهُ عَلَى حِصَّتِهِ فِي الْبَهِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ فَهَلْ لَا يُجَابُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ حَيْثُ الْتَزَمَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْإِنْفَاقَ فَلَا

رُجُوعَ لَهُ عَلَى شَرِيكِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ لَازِمٌ لِمَنْ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ مَا لَمْ يُفْلِسْ أَوْ يَمُتْ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ رُشْدٍ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْعَلَّامَةُ الْحَطَّابُ وَنَصُّ مَسْأَلَةِ مَنْ الْتَزَمَ الْإِنْفَاقَ عَلَى شَخْصٍ مُدَّةً مُعَيَّنَةً أَوْ مُدَّةَ حَيَاةِ الْمُنْفِقِ أَوْ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ أَوْ حَتَّى يَقْدُمَ زَيْدٌ أَوْ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ لَزِمَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يُفْلِسْ أَوْ يَمُتْ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ أَنَّ الْمَعْرُوفَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ لَازِمٌ لِمَنْ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَمْ يُفْلِسْ أَوْ يَمُتْ ا هـ .
فَالْمُنْفِقُ عَلَى الْبَهِيمَةِ فِي تِلْكَ النَّازِلَةِ لَا مُحَاسَبَةَ لَهُ لِلْمُنْفَقِ لَهُ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ وَاتِّبَاعُهُ أَسْلَمُ مَا نَصَّهُ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ صَحِيحٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالنَّصُّ الَّذِي فِيهِ هُوَ كَذَلِكَ فِي الْتِزَامَاتِ الْحَطَّابِ وَلَيْسَ فِيهِ قِيَاسٌ عَلَى مَنْ الْتَزَمَ الْإِنْفَاقَ عَلَى رَجُلٍ إلَخْ وَإِنَّمَا فِيهِ تَخْرِيجُ حُكْمِ الْجُزْئِيِّ مِنْ الْقَاعِدَةِ الَّتِي تَشْمَلُهُ وَغَيْرَهُ فَالْمَنْفِيُّ بِهِ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُشْكَرَ عَلَيْهِ وَيُدْعَى لَهُ بِخَيْرٍ وَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ مِنْ التَّغْيِيرِ فِي الْوُجُوهِ الْحِسَانِ سَبَبُهُ فَسَادُ التَّصَوُّرِ وَالْحَسَدِ : وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا وَآفَتُهُ مِنْ الْفَهْمِ السَّقِيمِ كَضَرَائِرِ الْحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا حَسَدًا وَبُغْضًا إنَّهُ لَدَمِيمُ ا هـ .
قُلْتُ وَمِنْهُ تَخَرُّجِي فِي رِسَالَتَيْ شَمْسِ الْإِشْرَاقِ فِي حُكْمِ التَّعَامُلِ بِالْأَوْرَاقِ حُكْمُ الْأَنْوَاطِ مِمَّا فِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ لِي مَالِكٌ فِي الْفُلُوسِ لَا خَيْرَ فِيهَا نَظِرَةٌ بِالذَّهَبِ وَلَا بِالْوَرِقِ وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ أَجَازُوا بَيْنَهُمْ الْجُلُودَ حَتَّى تَكُونَ لَهَا سِكَّةٌ وَعَيْنٌ لِكَرَاهَتِهَا أَنْ تُبَاعَ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ نَظِرَةً وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَجُوزُ فَلْسٌ بِفَلْسَيْنِ ا هـ كَمَا وَضَّحْته فِي تِلْكَ الرِّسَالَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ قِيَاسِهِ عَلَى

الْفُلُوسِ النُّحَاسِ فَرَاجِعْهَا إنْ شِئْت .

( التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ ) قَالَ الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي مُوَافَقَاتِهِ مَا حَاصِلُهُ إنَّ الِاجْتِهَادَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ الْأَوَّلُ مَا يُسَمَّى تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ مَذْكُورًا مَعَ غَيْرِهِ فِي النَّصِّ فَيُنَقَّحُ بِالِاجْتِهَادِ حَتَّى يُمَيَّزَ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ مِمَّا هُوَ مُلْغًى كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي جَاءَ يَنْتِفُ شَعْرَهُ وَيَضْرِبُ صَدْرَهُ وَقَدْ قَسَّمَهُ الْغَزَالِيُّ إلَى أَقْسَامٍ ذَكَرَهَا فِي شِفَاءِ الْعَلِيلِ وَهُوَ مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ قَالُوا وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ بَابِ الْقِيَاسِ وَلِذَلِكَ قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ مَعَ إنْكَارِهِ الْقِيَاسَ فِي الْكَفَّارَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إلَى نَوْعٍ مِنْ تَأْوِيلِ الظَّوَاهِرِ .
( الضَّرْبُ الثَّانِي ) مَا يُسَمَّى بِتَخْرِيجِ الْمَنَاطِ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ النَّصَّ الدَّالَّ عَلَى الْحُكْمِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَنَاطِ فَكَأَنَّهُ أَخْرَجَهُ بِالْبَحْثِ وَهُوَ الِاجْتِهَادُ الْقِيَاسِيُّ وَهُوَ مَعْلُومٌ .
( الضَّرْبُ الثَّالِثُ ) مَا يُسَمَّى بِتَحَقُّقِ الْمَنَاطِ وَهُوَ نَوْعَانِ عَامٌّ وَخَاصٌّ فَتَحْقِيقُ الْمَنَاطِ الْعَامِّ نَظَرٌ فِي تَعْيِينِ الْمَنَاطِ مِنْ حَيْثُ هُوَ لِمُكَلَّفٍ مَا مَثَلًا إذَا نَظَرَ الْمُجْتَهِدُ فِي الْعَدَالَةِ وَوَجَدَ هَذَا الشَّخْصَ مُتَّصِفًا بِهَا عَلَى حَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُ أَوْقَعَ عَلَيْهِ مَا يَقْتَضِيهِ النَّصُّ مِنْ التَّكَالِيفِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْعُدُولِ مِنْ الشَّهَادَاتِ وَالِانْتِصَابِ لِلْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ أَوْ الْخَاصَّةِ وَإِذَا نَظَرَ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي النَّدْبِيَّةِ وَالْأُمُورِ الْإِبَاحِيَّةِ وَوَجَدَ الْمُكَلَّفِينَ وَالْمُخَاطَبِينَ عَلَى الْجُمْلَةِ أَوْقَعَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ تِلْكَ النُّصُوصِ كَمَا يُوقِعُ عَلَيْهِمْ نُصُوصَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إلَى شَيْءٍ غَيْرِ الْقَبُولِ الْمَشْرُوطِ بِالتَّهْيِئَةِ الظَّاهِرَةِ فَالْمُكَلَّفُونَ كُلُّهُمْ فِي أَحْكَامِ تِلْكَ النُّصُوصِ عَلَى سَوَاءٍ فِي النَّظَرِ ، وَتَحْقِيقُ الْمَنَاطِ الْخَاصِّ نَظَرٌ فِي تَعْيِينِ

الْمَنَاطِ فِي حَقِّ كُلِّ مُكَلَّفٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ مِنْ الدَّلَائِلِ التَّكْلِيفِيَّةِ بِحَيْثُ يَتَعَرَّفُ مِنْهُ مَدَاخِلَ الشَّيْطَانِ وَمَدَاخِلَ الْهَوَى وَالْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ حَتَّى يُلْقِيَهَا هَذَا الْمُجْتَهِدُ عَلَى ذَلِكَ الْمُكَلَّفِ مُقَيَّدَةً بِقُيُودِ التَّحَرُّرِ مِنْ تِلْكَ الْمَدَاخِلِ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّكْلِيفِ الْمُتَحَتِّمِ وَغَيْرِهِ وَيَخْتَصُّ غَيْرُ الْمُتَحَتِّمِ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ النَّظَرُ فِيمَا يَصْلُحُ بِكُلِّ مُكَلَّفٍ فِي نَفْسِهِ بِحَسَبِ وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَحَالٍ دُونَ حَالٍ وَشَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ إذْ النُّفُوسُ لَيْسَتْ فِي قَبُولِ الْأَعْمَالِ الْخَاصَّةِ عَلَى وِزَانِ وَاحِدٍ كَمَا أَنَّهَا فِي الْعُلُومِ وَالصَّنَائِعِ كَذَلِكَ فَرُبَّ عَمَلٍ صَالِحٍ يَدْخُلُ بِسَبَبِهِ عَلَى رَجُلٍ ضَرَرٌ أَوْ فَتْرَةٌ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى آخَرَ وَرُبَّ عَمَلٍ يَكُونُ حَظُّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَامِلِ أَقْوَى مِنْهُ فِي عَمَلٍ آخَرَ وَيَكُونُ بَرِيئًا فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ دُونَ بَعْضٍ فَصَاحِبُ هَذَا التَّحْقِيقِ الْخَاصِّ هُوَ الَّذِي رُزِقَ نُورًا يَعْرِفُ بِهِ النُّصُوصَ وَمَرَامِيَهَا وَتَفَاوُتَ إدْرَاكِهَا وَقُوَّةَ تَحَمُّلِهَا لِلتَّكْلِيفِ وَصَبْرِهَا عَلَى حَمْلِ أَعْبَائِهَا أَوْ ضَعْفِهَا وَيَصْرِفُ الْتِفَاتَهَا إلَى الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ وَعَدَمِ الْتِفَاتِهَا فَهَذَا النَّوْعُ أَعْلَى وَأَدَقُّ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَمَنْشَؤُهُ فِي الْحَقِيقَةِ عَنْ نَتِيجَةِ التَّقْوَى الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْله تَعَالَى { إنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْحِكْمَةِ قَالَ تَعَالَى { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } قَالَ مَالِكٌ مِنْ شَأْنِ ابْنِ آدَمَ أَنْ لَا يَعْلَمَ ثُمَّ يَعْلَمَ أَمَا سَمِعْت قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى { إنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } .
وَقَالَ أَيْضًا إنَّ الْحِكْمَةَ مَسْحَةُ مَلَكٍ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ وَقَالَ الْحِكْمَةُ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ وَقَالَ أَيْضًا

يَقَعُ بِقَلْبِي أَنَّ الْحِكْمَةَ الْفِقْهُ فِي دِينِ اللَّهِ وَأَمْرٌ يُدْخِلُهُ اللَّهُ الْقُلُوبَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ هُوَ الِاجْتِهَادُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْقَطِعَ حَتَّى يَنْقَطِعَ أَصْلُ التَّكْلِيفِ وَذَلِكَ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنْ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ وَبِخِلَافِ تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ وَتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ فَإِنَّهَا مِنْ أَفْرَادِ الِاجْتِهَادِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَنْقَطِعَ قَبْلَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ الْخَاصَّ مِنْ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ كُلِّيٌّ فِي كُلِّ زَمَانٍ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْوَقَائِعِ أَوْ أَكْثَرِهَا فَلَوْ فُرِضَ ارْتِفَاعُهُ لَارْتَفَعَ مُعْظَمُ التَّكْلِيفِ الشَّرْعِيِّ أَوْ جَمِيعُهُ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ إنْ فُرِضَ فِي زَمَانٍ ارْتَفَعَتْ الشَّرِيعَةُ ضَرْبَةَ لَازِبٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّ الْوَقَائِعَ الْمُتَجَدِّدَةَ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ قَلِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا تَقَدَّمَ لِاتِّسَاعِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ فَيُمْكِنُ تَقْلِيدُهُمْ فِيهِ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ الشَّرِيعَةِ فَلَا تَتَعَطَّلُ الشَّرِيعَةُ بِتَعَطُّلِ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ كَمَا لَوْ فُرِضَ الْعَجْزُ عَنْ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ دُونَ السَّائِرِ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الشَّرِيعَةِ فِي ذَلِكَ فَوَضَحَ أَنَّهُمَا لَيْسَا سَوَاءً اُنْظُرْ الْمُوَافَقَاتِ إنْ شِئْت ( التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ ) الْفَتْوَى مِنْ الْمُفْتِي كَمَا تَحْصُلُ مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ وَهُوَ الْأَمْرُ الْمَشْهُورُ كَذَلِكَ تَحْصُلُ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ وَالْإِقْرَارِ كَمَا فِي مُوَافَقَاتِ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيِّ قَالَ أَمَّا بِالْفِعْلِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا يُقْصَدُ بِهِ الْإِفْهَامُ فِي مَعْهُودِ الِاسْتِعْمَالِ فَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْقَوْلِ الْمُصَرَّحِ بِهِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ بِيَدَيْهِ } { وَسُئِلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَجَّتِهِ فَقَالَ ذَبَحْت قَبْلَ أَنْ

أَرْمِيَ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ قَالَ لَا حَرَجَ } .
وَقَالَ { يُقْبَضُ الْعِلْمُ وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَالْفِتَنُ وَيَكْثُرُ الْهَرَجُ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْهَرَجُ فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا كَأَنَّهُ يُرِيدُ الْقَتْلَ } وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ حِينَ أَشَارَتْ إلَى السَّمَاءِ قُلْت آيَةٌ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَيْ نَعَمْ وَحِينَ { سُئِلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ قَالَ لِلسَّائِلِ صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ ثُمَّ صَلَّى ثُمَّ قَالَ لَهُ الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ } أَوْ كَمَا قَالَ وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا وَالثَّانِي مَا يَقْتَضِيهِ كَوْنُهُ أُسْوَةً يُقْتَدَى بِهِ وَمَبْعُوثًا لِذَلِكَ قَصْدًا وَأَصْلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ } الْآيَةَ وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } الْآيَةَ .
وَقَالَ فِي إبْرَاهِيمَ { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ وَالتَّأَسِّي إيقَاعُ الْفِعْلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا { وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأُمِّ سَلَمَةَ أَلَا أَخْبَرْتِهِ أَنِّي أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ } وَقَالَ { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِهِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى وَلِذَلِكَ جَعَلَ الْأُصُولِيُّونَ أَفْعَالَهُ فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ كَأَقْوَالِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَثَبَتَ لِلْمُفْتِي أَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ النَّبِيِّ وَنَائِبٌ مَنَابَهُ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَفْعَالَهُ مَحَلٌّ لِلِاقْتِدَاءِ أَيْضًا فَمَا قَصَدَ بِهِ الْبَيَانَ وَالْإِعْلَامَ فَظَاهِرٌ وَمَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ ذَلِكَ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَذَلِكَ أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَارِثٌ وَقَدْ كَانَ الْمُوَرِّثَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ مُطْلَقًا فَكَذَلِكَ الْوَارِثُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ وَارِثًا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالثَّانِي أَنَّ التَّأَسِّي بِالْأَفْعَالِ

بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ يُعَظَّمُ فِي النَّاسِ سِرٌّ مَبْثُوثٌ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِانْفِكَاكِ عَنْهُ بِوَجْهٍ وَلَا بِحَالٍ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الِاعْتِيَادِ وَالتَّكْرَارِ وَإِذَا صَادَفَ مَحَبَّةً وَمَيْلًا إلَى الْمُتَأَسِّي بِهِ وَإِمْكَانِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَالْكَذِبِ عَمْدًا وَسَهْوًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ لَمَّا لَمْ تُعْتَبَرْ فِي الْأَقْوَالِ كَانَ إمْكَانُ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْكُفْرِ مِنْ حَيْثُ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْأَفْعَالِ وَلِأَجْلِ هَذَا تُسْتَعْظَمُ شَرْعًا زَلَّةُ الْعَالِمِ فَلَا بُدَّ لِمَنْ يَنْتَصِبُ لِلْفَتْوَى بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى أَفْعَالِهِ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى قَانُونِ الشَّرْعِ لِيُتَّخَذَ فِيهَا أُسْوَةً .
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَرَاجِعٌ إلَى الْفِعْلِ لِأَنَّ الْكَفَّ فِعْلٌ وَكَفُّ الْمُفْتِي عَنْ الْإِنْكَارِ إذَا رَأَى فِعْلًا مِنْ الْأَفْعَالِ كَتَصْرِيحِهِ بِجَوَازِهِ وَقَدْ أَثْبَتَ الْأُصُولِيُّونَ ذَلِكَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَذَلِكَ يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُنْتَصِبِ لِلْفَتْوَى وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدِلَّةِ فِي الْفَتْوَى الْفِعْلِيَّةِ جَازَ هُنَا بِلَا إشْكَالٍ وَمِنْ هُنَا ثَابَرَ السَّلَفُ عَلَى الْقِيَامِ بِوَظِيفَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَمْ يُبَالُوا فِي ذَلِكَ بِمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنْ عَوْدِ الْمَضَرَّاتِ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ فَمَا دُونَهُ وَمَنْ أَخَذَ بِالرُّخْصَةِ فِي تَرْكِ الْإِنْكَارِ فَرَّ بِدِينِهِ وَاسْتَخْفَى بِنَفْسِهِ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْإِخْلَالِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ تَرْكِ الْإِنْكَارِ فَإِنَّ ارْتِكَابَ خَيْرِ الشَّرَّيْنِ أَوْلَى مِنْ ارْتِكَابِ شَرِّهِمَا وَهُوَ رَاجِعٌ فِي الْحَقِيقَةِ إلَى إهْمَالِ الْقَاعِدَةِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْمَرَاتِبُ الثَّلَاثُ فِي هَذَا الْوَجْهِ مَذْكُورَةٌ شَوَاهِدُهَا فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِيهِ وَبِالْجُمْلَةِ فَمِنْ حَقِيقَةِ نَيْلِ كُلِّ مُنْتَصِبٍ

لِلْفُتْيَا بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَإِقْرَارِهِ لِرُتْبَةِ الْوِرَاثَةِ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ظُهُورُ فِعْلِهِ عَلَى مِصْدَاقِ قَوْلِهِ هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِصِحَّةِ الِانْتِصَابِ وَالِانْتِفَاعِ فِي الْوُقُوعِ وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ الِانْتِصَابُ وَالْفَتْوَى عَلَى الْإِطْلَاقِ طَابَقَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا قَوْلُهُ لِفِعْلِهِ حَصَلَ الِانْتِفَاعُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَعًا أَوْ كَانَ مَظِنَّةً لِلْحُصُولِ لِأَنَّ الْفِعْلَ يُصَدِّقُ الْقَوْلَ أَوْ يُكَذِّبُهُ .
وَإِنْ خَالَفَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ فَإِمَّا أَنْ تُؤَدِّيَهُ الْمُخَالَفَةُ إلَى الِانْحِطَاطِ عَنْ رُتْبَةِ الْعَدَالَةِ إلَى الْفِسْقِ أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا إشْكَالَ فِي عَدَمِ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَعَدَمِ صِحَّةِ الِانْتِصَابِ شَرْعًا وَعَادَةً وَمَنْ اقْتَدَى بِهِ كَانَ مُخَالِفًا مِثْلَهُ فَلَا فَتْوَى فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا حُكْمَ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي صَحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَاسْتِفْتَاؤُهُ وَفَتْوَاهُ فِيمَا وَافَقَ دُونَ مَا خَالَفَ فَإِذَا أَفْتَى بِتَرْكِ الزِّنَا وَالْخَمْرِ وَبِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْوَاجِبَاتِ وَهُوَ فِي فِعْلِهِ عَلَى حَسَبِ قَوْلِهِ حَصَلَ تَصْدِيقُ قَوْلِهِ بِفِعْلِهِ وَإِذَا أَفْتَاكَ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا أَوْ تَرَكَ مُخَالَطَةَ الْمُتْرَفِينَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْدَحُ فِي أَصْلِ الْعَدَالَةِ ثُمَّ رَأَيْته يُحَرِّضُ عَلَى الدُّنْيَا وَيُخَالِطُ مَنْ نَهَاكَ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ فَلَمْ يَصْدُقْ الْقَوْلُ الْفِعْلَ فَهَذَا وَإِنْ نَصَبَهُ الشَّارِعُ أَيْضًا لِيُؤْخَذَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ لِأَنَّهُ وَارِثُ النَّبِيِّ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ وَلَا الْفَتْوَى عَلَى كَمَالِهَا فِي الصِّحَّةِ إلَّا مَعَ مُطَابَقَةِ الْقَوْلِ الْفِعْلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَقَدْ قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ : ابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ فَهُنَاكَ يُسْمَعُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى بِالرَّأْيِ مِنْك وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ

عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ وَهُوَ مَعْنًى مُوَافِقٌ لِلنَّقْلِ وَالْعَقْلِ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ا هـ كَلَامُ الشَّاطِبِيِّ مُلَخَّصًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالسَّبْعُونَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ النَّقْلِ وَقَاعِدَةِ الْإِسْقَاطِ ) اعْلَمْ أَنَّ الْحُقُوقَ وَالْأَمْلَاكَ يَنْقَسِمُ التَّصَرُّفُ فِيهَا إلَى نَقْلٍ وَإِسْقَاطٍ فَالنَّقْلُ يَنْقَسِمُ إلَى مَا هُوَ بِعِوَضٍ فِي الْأَعْيَانِ كَالْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَإِلَى مَا هُوَ فِي الْمَنَافِعِ كَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْقِرَاضِ وَالْجَعَالَةِ وَإِلَى مَا هُوَ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْهَدَايَا وَالْوَصَايَا وَالْعُمْرَى وَالْوَقْفِ وَالْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالزَّكَاةِ وَالْمَسْرُوقِ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ وَالْغَنِيمَةِ فِي الْجِهَادِ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ نَقْلُ مِلْكٍ فِي أَعْيَانٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ .
وَأَمَّا الْإِسْقَاطُ فَهُوَ إمَّا بِعِوَضٍ كَالْخُلْعِ وَالْعَفْوِ عَلَى مَالٍ وَالْكِتَابَةِ وَبَيْعِ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ وَالصُّلْحِ عَلَى الدَّيْنِ وَالتَّعْزِيرِ فَجَمِيعُ هَذِهِ الصُّوَرِ يَسْقُطُ فِيهَا الثَّابِتُ وَلَا يَنْتَقِلُ إلَى الْبَاذِلِ مَا كَانَ يَمْلِكُهُ الْمَبْذُولُ لَهُ مِنْ الْعِصْمَةِ وَبَيْعِ الْعَبْدِ وَنَحْوِهِمَا وَإِمَّا بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْإِبْرَاءِ مِنْ الدُّيُونِ وَالْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَإِيقَافِ الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا فَجَمِيعُ هَذِهِ الصُّوَرِ يَسْقُطُ فِيهَا الثَّابِتُ وَلَا يَنْتَقِلُ لِغَيْرِ الْأَوَّلِ وَيَخْرُجُ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) الْإِبْرَاءُ مِنْ الدَّيْنِ هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ فَلَا يَبْرَأُ مِنْ الدُّيُونِ حَتَّى يَقْبَلَ أَوْ يَبْرَأَ مِنْ الدُّيُونِ إذَا أَبْرَأَهُ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ اشْتِرَاطُ الْقَبُولِ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ هَلْ الْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ وَالْإِسْقَاطُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّهُمَا لَا يَفْتَقِرَانِ إلَى قَبُولِ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَلِذَلِكَ يَنْفُذُ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ وَإِنْ كَرِهَتْ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ أَوْ هُوَ تَمْلِيكٌ لِمَا فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ فَيَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ كَمَا لَوْ مَلَّكَهُ عَيْنًا

بِالْهِبَةِ أَوْ غَيْرِهَا لَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُ وَقَبُولِهِ وَكَذَلِكَ هَا هُنَا يَتَأَكَّدُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمِنَّةَ قَدْ تَعْظُمُ فِي الْإِبْرَاءِ وَذَوُو الْمُرُوآتِ وَالْأَنَفَاتِ يَضُرُّ ذَلِكَ بِهِمْ لَا سِيَّمَا مِنْ السَّفَلَةِ فَجَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ لَهُمْ قَبُولَ ذَلِكَ أَوْ رَدَّهُ نَفْيًا لِلضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنْ الْمِنَنِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ النَّقْلِ وَقَاعِدَةِ الْإِسْقَاطِ ) التَّصَرُّفُ فِي الْحُقُوقِ وَالْأَمْلَاكِ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ الْأَوَّلُ النَّقْلُ وَهُوَ تَصَرُّفٌ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ وَيَنْقَسِمُ إلَى مَا هُوَ بِعِوَضٍ فِي الْأَعْيَانِ كَالْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَإِلَى مَا هُوَ بِعِوَضٍ فِي الْمَنَافِعِ كَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْقِرَاضِ وَالْجَعَالَةِ وَإِلَى مَا هُوَ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْهَدَايَا وَالْوَصَايَا وَالْعُمْرَى وَالْوَقْفِ وَالْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالزَّكَاةِ وَالْمَسْرُوقِ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ وَالْغَنِيمَةِ فِي الْجِهَادِ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ نَقْلُ مِلْكٍ فِي أَعْيَانٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي الْإِسْقَاطُ وَهُوَ تَصَرُّفٌ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ وَهُوَ إمَّا بِعِوَضٍ كَالْخُلْعِ وَالْعَفْوِ عَلَى مَالٍ وَالْكِتَابَةِ وَبَيْعِ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ وَالصُّلْحُ عَلَى الدَّيْنِ وَعَلَى التَّعْزِيرِ فَجَمِيعُ هَذِهِ الصُّوَرِ يَسْقُطُ فِيهَا الثَّابِتُ وَلَا يَنْتَقِلُ إلَى الْبَاذِلِ مَا كَانَ يَمْلِكُهُ الْمَبْذُولُ مِنْ الْعِصْمَةِ وَبَيْعِ الْعَبْدِ وَنَحْوِهِمَا ، وَإِمَّا بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْإِبْرَاءِ مِنْ الدُّيُونِ وَالْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَإِيقَافِ الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا فَجَمِيعُ هَذِهِ الصُّوَرِ يَسْقُطُ فِيهَا الثَّابِتُ وَلَا يَنْتَقِلُ لِغَيْرِ الْأَوَّلِ وَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) فِي افْتِقَارِ الْإِبْرَاءِ مِنْ الدَّيْنِ إلَى الْقَبُولِ فَلَا يَبْرَأُ مِنْ الدَّيْنِ إذَا أَبْرَأَهُ مِنْهُ حَتَّى يَقْبَلَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَعَدَمُ افْتِقَارِهِ إلَى الْقَبُولِ فَيَبْرَأُ مِنْ الدَّيْنِ إذَا أَبْرَأَهُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مَنْشَؤُهُ هَلْ الْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّهُمَا لَا يَفْتَقِرَانِ إلَى قَبُولِ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَلِذَلِكَ يَنْفُذُ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ وَإِنْ كَرِهَتْ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ أَوْ

هُوَ نَقْلٌ وَتَمْلِيكٌ لِمَا فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ فَيَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ كَمَا لَوْ مَلَّكَهُ عَيْنًا بِالْهِبَةِ أَوْ غَيْرِهَا عَلَى أَنَّ الْمِنَّةَ فِي الْإِبْرَاءِ قَدْ تَعْظُمُ وَهِيَ تَضُرُّ بِذَوِي الْمُرُوآتِ وَالْأَنَفَاتِ لَا سِيَّمَا مِنْ السَّفَلَةِ فَجَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ لَهُمْ قَبُولَ ذَلِكَ أَوْ رَدَّهُ نَفْيًا لِلضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنْ الْمِنَنِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ .

( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) الْوَقْفُ هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ أَوْ لَا خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ هَلْ الْوَاقِفُ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ الْمَنَافِعِ فِي الْمَوْقُوفِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالْعِتْقِ أَوْ هُوَ تَمْلِيكٌ لِمَنَافِعِ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَيَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا أَمَّا غَيْرُ الْمُعَيَّنِ فَلَا يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ لِتَعَذُّرِهِ هَذَا فِي مَنَافِعِ الْمَوْقُوفِ أَمَّا أَصْلُ مِلْكِهِ فَهَلْ يَسْقُطُ أَوْ هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ لِأَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْحَائِطِ الْمَوْقُوفِ عَلَى غَيْرِ الْمُعَيَّنِ نَحْوِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ إذَا كَانَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِلْكُ الْوَاقِفِ فَيُزَكِّي عَلَى مِلْكِهِ .
وَأَمَّا الْحَائِطُ عَلَى الْمُعَيَّنِينَ فَيُشْتَرَطُ فِي حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَسَاجِدِ أَنَّهَا مِنْ بَابِ الْإِسْقَاطِ وَالْعِتْقِ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَلِأَنَّهَا تُقَامُ فِيهَا الْجَمَاعَاتُ وَالْجُمُعَةُ ، وَالْجُمُعَةُ لَا تُقَامُ فِي الْمَمْلُوكَاتِ لَا سِيَّمَا عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ فَإِنَّهَا لَا يُصَلِّيهَا أَرْبَابُ الْحَوَانِيتِ فِي حَوَانِيتِهِمْ لِأَجْلِ الْمِلْكِ وَالْحَجْرِ فَلَا يَجْرِي فِي الْمَسَاجِدِ الْقَوْلَانِ .

( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) فِي افْتِقَارِ الْوَقْفِ عَلَى مُعَيَّنٍ إلَى الْقَبُولِ أَوْ لَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ مَنْشَؤُهُ هَلْ الْوَاقِفُ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ مَنَافِعِ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ فَيَكُونُ كَالْعِتْقِ أَوْ أَنَّهُ نَقَلَ مِلْكَهُ لِمَنَافِعِ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ وَمَلَّكَهَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ فَيَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ أَمَّا غَيْرُ الْمُعَيَّنِ فَلَا يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ لِتَعَذُّرِهِ .
وَأَمَّا أَصْلُ مِلْكِ الْوَاقِفِ فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَسَاجِدِ أَنَّهَا مِنْ بَابِ الْإِسْقَاطِ وَالْعِتْقِ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَلِأَنَّهَا تُقَامُ فِيهَا الْجَمَاعَاتُ وَالْجُمُعَةُ وَالْجُمُعَةُ لَا تُقَامُ فِي الْمَمْلُوكَاتِ لَا سِيَّمَا عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ فَإِنَّهَا لَا يُصَلِّيهَا أَرْبَابُ الْحَوَانِيتِ فِي حَوَانِيتِهِمْ لِأَجْلِ الْمِلْكِ وَالْحَجْرِ وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ فَقِيلَ يَسْقُطُ أَصْلُ مِلْكِهِ فِيهَا وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ لِأَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْحَائِطِ الْمَوْقُوفِ عَلَى غَيْرِ الْمُعَيَّنِ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ إذَا كَانَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِلْكُ الْوَاقِفِ فَيُزَكِّي عَلَى مِلْكِهِ وَأَمَّا الْحَائِطُ عَلَى الْمُعَيَّنِينَ فَيُشْتَرَطُ فِي حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ

( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) إذَا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبِيدِهِ يَخْتَارُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقِيلَ يَعُمُّ الْعِتْقُ الْجَمِيعَ وَإِذَا طَلَّقَ أَحَدَ نِسَاؤُهُ يَعُمُّ الطَّلَاقُ النِّسْوَةَ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقِيلَ يَخْتَارُ وَالْفَرْقُ عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ الطَّلَاقَ إسْقَاطٌ لِلْعِصْمَةِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْعِتْقُ قُرْبَةٌ لَا إسْقَاطٌ وَإِنْ لَزِمَهَا الْإِسْقَاطُ وَتَمَامُ هَذَا الْفَرْقِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ تَحْرِيمِ الْمُشْتَرَكِ وَثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُشْتَرَكِ فَلْيُطَالَعْ مِنْ هُنَاكَ وَلَا حَاجَةَ لِلْإِعَادَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرْت الْفَرْعَيْنِ هَا هُنَا لِأَجْلِ تَعَلُّقِهِمَا بِالنَّقْلِ وَالْإِسْقَاطِ فَقَطْ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) الْمَشْهُورُ فِي الْعِتْقِ أَنَّهُ إذَا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبِيدِهِ يَخْتَارُ وَقِيلَ يَعُمُّ الْعِتْقُ الْجَمِيعَ وَفِي الطَّلَاقِ إذَا طَلَّقَ أَحَدَ نِسَائِهِ يَعُمُّ الطَّلَاقُ النِّسْوَةَ وَقِيلَ يَخْتَارُ وَقَدْ مَرَّ آخِرَ الْفَرْقِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ بَيْنَ قَاعِدَةِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُشْتَرَكِ وَقَاعِدَةِ النَّهْيِ عَنْ الْمُشْتَرَكِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ فِي أَنَّ كُلًّا رَافِعٌ وَحَالٌّ لِمَا يُبِيحُ الزَّوْجَةَ وَالْمَمْلُوكَةَ فَيَسْتَلْزِمُ التَّحْرِيمَ إلَّا أَنَّ الْوَجْهَ فِي نَظَرِ مَالِكٍ فِي الطَّلَاقِ لِلِاحْتِيَاطِ لِلْفُرُوجِ وَإِنْ لَزِمَهُ فَخَالَفَهُ الْإِجْمَاعُ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِغَيْرِ مُقْتَضٍ وَفِي الْعِتْقِ لِمَا اقْتَضَاهُ الْإِجْمَاعُ مِنْ عَدَمِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِغَيْرِ مُقْتَضَى وَإِنْ لَزِمَهُ مُخَالَفَةُ الِاحْتِيَاطِ لِلْفُرُوجِ هُوَ أَنَّ اسْتِلْزَامَ الطَّلَاقِ لِلتَّحْرِيمِ لِخُصُوصِ الْوَطْءِ مُطَّرِدٌ إذْ لَا يَكُونُ غَيْرَ مُسْتَلْزِمٍ لَهُ بِخِلَافِ الْعِتْقِ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّمَانُونَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِزَالَةِ فِي النَّجَاسَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِحَالَةِ فِيهَا ) اعْلَمْ أَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ فِي الشَّرِيعَةِ تَقَعُ عَلَى ثَلَاثِ أَقْسَامٍ إزَالَةٍ وَإِحَالَةٍ وَهُمَا مَعًا وَلِكُلِّ قَاعِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ خَاصِّيَّةٌ تَمْتَازُ بِهَا أَمَّا الْإِزَالَةُ فَبِالْمَاءِ فِي الثَّوْبِ وَالْجَسَدِ وَالْمَكَانِ .
وَأَمَّا الْإِحَالَةُ فَفِي الْخَمْرِ تَصِيرُ خَلًّا وَأَمَّا هُمَا مَعًا فَفِي الدِّبَاغِ فَإِنَّهُ إزَالَةٌ لِلْفَضَلَاتِ الْمُتَنَجِّسَةِ الَّتِي تُوجِبُ الْعَصْرَ فَيَخْرُجُ مَا فِي الْجُلُودِ مِنْ ذَلِكَ ، وَأَمَّا الْإِحَالَةُ فَلِأَنَّ صِفَةَ الْجُلُودِ تَتَغَيَّرُ عَنْ هَيْئَتِهَا إلَى هَيْئَةٍ أُخْرَى أَمَّا الْخَوَاصُّ فَخَاصِّيَّةُ الْإِزَالَةِ الْمَاءُ الطَّهُورُ وَالنِّيَّةُ عَلَى الْخِلَافِ وَوُصُولُ الْغُسْلِ حَدًّا يَنْفَصِلُ الْمَاءُ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ وَأَنَّ السَّبَبَ الِاسْتِقْذَارُ وَخَاصِّيَّةُ الْإِحَالَةِ عَدَمُ النِّيَّةِ وَالْمَاءِ وَالِاسْتِقْذَارِ فَلَا تَحْتَاجُ لِلْمَاءِ بَلْ قَدْ تُوجَدُ مَعَ عَدَمِهِ وَقَدْ يُلْقِي فِي الْخَمْرِ مَاءً فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِحَالَتِهَا لِلْخَلِّيَّةِ غَيْرَ أَنَّ الْمَاءَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فِي الْإِحَالَةِ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْإِزَالَةِ ، وَأَمَّا النِّيَّةُ فَمَانِعَةٌ مِنْ تَطْهِيرِهَا عَلَى الْخِلَافِ فِي الْقَصْدِ إلَى تَخْلِيلِ الْخَمْرِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْقَصْدَ مَانِعٌ وَلَيْسَ شَرْطًا إجْمَاعًا وَهُوَ شَرْطٌ فِي الْإِزَالَةِ عَلَى الْخِلَافِ وَحَيْثُ قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ النِّيَّةُ شَرْطٌ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ إنَّمَا يُرِيدُونَ أَحَدَ أَقْسَامِهَا وَهِيَ الْإِزَالَةُ وَمِنْ خَوَاصِّهَا عَدَمُ الِاسْتِقْذَارِ بَلْ سَبَبُ تَنْجِيسِهَا طَلَبُ إبْعَادِهَا فَهَذِهِ ثَلَاثُ خَوَّاصٍ لِلْإِحَالَةِ تَمْتَازُ بِهَا عَنْ الْإِزَالَةِ .
وَأَمَّا الصُّورَةُ الَّتِي يَجْتَمِعَانِ فِيهَا وَهُوَ الدِّبَاغُ فَمِنْ خَوَاصِّهِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْمَاءِ وَعَدَمُ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ إجْمَاعًا وَلَيْسَ الْقَصْدُ مَانِعًا إجْمَاعًا بِخِلَافِ الْإِحَالَةِ الْمُنْفَرِدَةِ

وَالِاسْتِقْذَارِ وَالِاسْتِخْبَاثِ سَبَبُ التَّنْجِيسِ لِأَجْلِ مَا فِيهَا مِنْ النَّجَاسَةِ فَخَوَاصُّهَا أَيْضًا ثَلَاثَةٌ فَهَذِهِ خَوَاصُّ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ وَبِهَا يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَهَا وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْقَوَاعِدِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا قَاعِدَةٌ تُعْرَفُ بِجَمْعِ الْفَرْقِ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ يُوجِبُ الضِّدَّيْنِ الْمُتَنَافِيَيْنِ وَهَذَا النَّوْعُ قَلِيلٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَفِيهَا مُثُلٌ أَحَدُهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَإِنَّ الْقَصْدَ مُنَاسِبٌ لِلتَّطْهِيرِ فَاشْتَرَطَهُ مَنْ اشْتَرَطَ الْمُنَاسِبَ فِي الْإِزَالَةِ وَجَعَلَهُ مَانِعًا فِي الْإِحَالَةِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ فَإِنَّهُ إذَا جَوَّزْنَا الْقَصْدَ لِلتَّخْلِيلِ جَوَّزْنَا إبْقَاءَهَا فِي الْمِلْكِ فَفِي ذَلِكَ الزَّمَانِ رُبَّمَا انْبَعَثَتْ الدَّوَاعِي لِشُرْبِهَا فَمُنِعَ مِنْ الْقَصْدِ لِتَخْلِيلِهَا سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ فَصَارَ الْقَصْدُ يَقْتَضِي هَا هُنَا الْمَنْعَ وَفِي الْإِزَالَةِ الْإِبَاحَةَ فِي الصَّلَاةِ بِذَلِكَ الثَّوْبِ الْمُزَالِ عَنْهُ النَّجَاسَةُ وَقَدْ رُتِّبَ عَلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ الضِّدَّانِ وَهُمَا الْمَنْعُ وَالْإِبَاحَةُ فَنَاسَبَ الضِّدَّيْنِ وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بِجَمْعِ الْفَرْقِ أَيْ جَمْعِ الْمُتَفَرِّقَاتِ مِنْ الْأَضْدَادِ .
الْمِثَالُ الثَّانِي لِجَمْعِ الْفَرْقِ قَالَ الْعُلَمَاءُ تُرَدُّ تَصَرُّفَاتُ السَّفِيهِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ صَوْنًا لِمَالِهِ عَلَى مَصَالِحِهِ لِئَلَّا يَضِيعَ مَالُهُ بِتَصَرُّفَاتٍ رَدِيَّةٍ ، فَصَوْنُ مَالِهِ عَلَى مَصَالِحِهِ هُوَ سَبَبُ رَدِّ تَصَرُّفَاتِهِ وَتَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ فِي الْوَصَايَا عِنْدَ الْمَوْتِ صَوْنًا لِمَالِهِ عَلَى مَصَالِحِهِ فَإِنَّا لَوْ رَدَدْنَا وَصَايَاهُ لَأَخَذَ مَالَهُ وَارِثُهُ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْ مَالِهِ مَصْلَحَةٌ فَصَوْنُ مَالِهِ عَلَى مَصَالِحِهِ اقْتَضَى رَدَّ تَصَرُّفَاتِهِ حَالَ الْحَيَاةِ وَتَنْفِيذُ تَصَرُّفَاتِهِ عِنْدَ الْمَمَاتِ فَقَدْ نَاسَبَ الْوَصْفُ الْوَاحِدُ الضِّدَّيْنِ الْمُنَافِيَيْنِ وَتَرَتَّبَا عَلَيْهِ فِي الشَّرِيعَةِ وَهَذَا هُوَ جَمْعُ الْفَرْقِ أَيْضًا لِأَنَّهُ جَمْعُ الْمُتَفَرِّقَاتِ مِنْ

الْأَضْدَادِ ( الْمِثَالُ الثَّالِثُ ) الْجَهَالَةُ مَانِعَةٌ مِنْ عَقْدِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا وَهِيَ شَرْطٌ فِي الْجَعَالَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْقِرَاضِ فَلَا يَجُوزُ إلَى يَوْمٍ مَعْلُومٍ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ قَدْ لَا يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْأَجَلِ فَاقْتَضَتْ مَصْلَحَةُ هَذِهِ الْعُقُودِ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَجْهُولًا وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَدِّدَ لِخِيَاطَةِ الثَّوْبِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْإِجَارَاتِ يَوْمًا مَعْلُومًا لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْغَرَرَ وَتَفُوتُ الْمَصْلَحَةُ بَلْ الْمَصْلَحَةُ تَقْتَضِي بَقَاءَ الْأَجَلِ مَجْهُولًا .
الْمِثَالُ الرَّابِعُ الْأُنُوثَةُ اقْتَضَى ضَعْفُهَا التَّأَخُّرَ عَنْ الْوِلَايَاتِ وَاقْتَضَى ضَعْفُهَا وِلَايَةَ الْحَضَانَةِ وَالتَّقْدِمَةَ فِيهَا عَلَى الذُّكُورِ فَقَدْ اقْتَضَتْ الضِّدَّيْنِ كَمَا اقْتَضَتْهُ الْجَهَالَةُ الْمِثَالُ الْخَامِسُ قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَضَى تَعْظِيمُهَا بَذْلَ الْمَالِ لِلْأَقَارِبِ وَالْمُبَادَرَةَ إلَى سَدِّ الْخَلَّاتِ فِي حَقِّهِمْ وَاقْتَضَى مَنْعُ الْمَالِ مِنْهُمْ فِي الزَّكَاةِ فَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْبَذْلُ وَالْمَنْعُ وَهُمَا ضِدَّانِ وَإِنَّمَا قَلَّتْ هَذِهِ النَّظَائِرُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُنَاسِبِ أَنْ يُنَافِيَ ضِدَّ مَا يُنَاسِبُهُ .

( الْفَرْقُ الثَّمَانُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِزَالَةِ لِلنَّجَاسَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِحَالَةِ فِيهَا ) تَقَعُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ إزَالَةٌ فَقَطْ وَإِحَالَةٌ فَقَطْ وَإِزَالَةٌ وَإِحَالَةٌ مَعًا فَالْإِزَالَةُ فَقَطْ بِالْمَاءِ فِي الثَّوْبِ وَالْجَسَدِ وَالْمَكَانِ وَخَاصِّيَّتُهَا الَّتِي تَمْتَازُ بِهَا أَرْبَعٌ أَحَدُهَا اشْتِرَاطُ الْمَاءِ الطَّهُورِ وَثَانِيهَا اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ عَلَى الْخِلَافِ وَثَالِثُهَا وُصُولُ الْغُسْلِ إلَى حَدِّ أَنْ يَنْفَصِلَ الْمَاءُ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ وَرَابِعُهَا أَنَّ السَّبَبَ الِاسْتِقْذَارُ وَالْإِحَالَةُ فَقَطْ فِي الْخَمْرِ تَصِيرُ خَلًّا وَخَاصِّيَّتُهَا الَّتِي تَمْتَازُ بِهَا ثَلَاثٌ أَحَدُهَا عَدَمُ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ إجْمَاعًا وَفِي كَوْنِ الْقَصْدِ إلَى تَخْلِيلِ الْخَمْرِ مَانِعًا مِنْ تَطْهِيرِهَا وَهُوَ الْمَذْهَبُ أَوْ غَيْرَ مَانِعٍ مِنْ تَطْهِيرِهَا خِلَافٌ فَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ فِي كُتُبِهِمْ النِّيَّةُ شَرْطٌ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ إنَّمَا يُرِيدُونَ أَحَدَ أَقْسَامِهَا وَهِيَ الْإِزَالَةُ فَقَطْ وَثَانِيهَا أَنَّ الْمَاءَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فِيهَا بَلْ قَدْ تُوجَدُ مَعَ عَدَمِهِ وَقَدْ يُلْقِي فِي الْخَمْرِ مَاءً فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِحَالَتِهَا بِخِلَافِ الْإِزَالَةِ وَثَالِثُهَا عَدَمُ الِاسْتِقْذَارِ بَلْ سَبَبُ تَنْجِيسِهَا طَلَبُ إبْعَادِهَا وَالْإِزَالَةُ وَالْإِحَالَةُ مَعًا فِي الدِّبَاغِ فَإِنَّهُ إزَالَةٌ لِلْفَضَلَاتِ الْمُتَنَجِّسَةِ الَّتِي تُوجِبُ الْعَصْرَ فَيَخْرُجُ مَا فِي الْجُلُودِ مِنْ ذَلِكَ وَإِحَالَةً لِصِفَةِ الْجُلُودِ بِتَغَيُّرِ هَيْئَتِهَا إلَى هَيْئَةٍ أُخْرَى وَخَاصِّيَّتُهَا الَّتِي تَمْتَازُ بِهَا ثَلَاثٌ أَيْضًا أَحَدُهَا عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْمَاءِ وَثَانِيهَا عَدَمُ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ إجْمَاعًا وَلَيْسَ الْقَصْدُ إلَى الدَّبْغِ مَانِعًا مِنْ تَطْهِيرِ الْجِلْدِ إجْمَاعًا بِخِلَافِ الْإِحَالَةِ فَقَطْ وَثَالِثُهَا أَنَّ الِاسْتِقْذَارَ وَالِاسْتِحْبَابَ سَبَبُ التَّنْجِيسِ ( وَصْلٌ ) قَدْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الثَّلَاثِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا قَاعِدَةٌ تُعْرَفُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ

بِجَمْعِ الْفُرُوقِ أَيْ جَمْعُ الْمُتَفَرِّقَاتِ مِنْ الْأَضْدَادِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ قَلِيلٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَلَهُ مُثُلٌ أَحَدُهَا مَا هُنَا فَإِنَّ الْقَصْدَ مُنَاسِبٌ لِلتَّطْهِيرِ فَاشْتَرَطَهُ مَنْ اشْتَرَطَ الْمُنَاسِبَ فِي الْإِزَالَةِ وَجَعَلَهُ مَانِعًا فِي الْإِحَالَةِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ فَإِنَّا إذَا جَوَّزْنَا الْقَصْدَ لِلتَّخْلِيلِ فَقَدْ جَوَّزْنَا إبْقَاءَهَا فِي الْمِلْكِ زَمَانًا وَفِي ذَلِكَ الزَّمَانِ رُبَّمَا انْبَعَثَتْ الدَّوَاعِي لِشُرْبِهَا فَقَدْ رَتَّبَ عَلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ كَوْنَ الْقَصْدِ إلَيْهِ يَقْتَضِي فِي الْإِحَالَةِ الْمَنْعَ وَفِي الْإِزَالَةِ الْإِبَاحَةَ فِي الصَّلَاةِ بِذَلِكَ الثَّوْبِ الْمُزَالِ عَنْهُ النَّجَاسَةُ وَالْمَعْنَى الْوَاحِدُ هُوَ التَّطْهِيرُ وَالضِّدَّانِ هُمَا الْمَنْعُ وَالْإِبَاحَةُ الْمِثَالُ الثَّانِي قَالَ الْعُلَمَاءُ تَرِدُ تَصَرُّفَاتُ السَّفِيهِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ صَوْنًا لِمَالِهِ عَلَى مَصَالِحِهِ لِئَلَّا يَضِيعَ مَالُهُ بِتَصَرُّفَاتٍ رَدِيئَةٍ وَتَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ فِي الْوَصَايَا عِنْدَ الْمَوْتِ صَوْنًا لِمَالِهِ عَلَى مَصَالِحِهِ فَإِنَّا لَوْ رَدَدْنَا وَصَايَاهُ لَأَخَذَ مَالَهُ وَارِثُهُ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْ مَالِهِ مَصْلَحَةٌ فَصَوْنُ مَالِهِ عَلَى مَصَالِحِهِ وَصْفٌ وَاحِدٌ نَاسَبَ الضِّدَّيْنِ الْمُتَنَافِيَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا رَدُّ تَصَرُّفَاتِهِ حَالَ الْحَيَاةِ وَتَنْفِيذُ تَصَرُّفَاتِهِ عِنْدَ الْمَمَاتِ وَتَرَتَّبَا عَلَيْهِ فِي الشَّرِيعَةِ .
الْمِثَالُ الثَّالِثُ الْجَهَالَةُ مَانِعَةٌ مِنْ صِحَّةِ عَقْدِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا وَهِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْجِعَالَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْقِرَاضِ فَمَصْلَحَةُ هَذِهِ الْعُقُودِ اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَجْهُولًا وَأَنْ لَا يَجُوزَ تَحْدِيدُهُ بِيَوْمٍ مَعْلُومٍ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ قَدْ لَا يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْأَجَلِ وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَحْدِيدُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ لِخِيَاطَةِ الثَّوْبِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْإِجَارَاتِ الَّتِي مِنْ قَبِيلِ الْجَعَالَةِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْغَرَرَ فَتَفُوتُ الْمَصْلَحَةُ فَقَدْ اقْتَضَتْ الْجَهَالَةُ الضِّدَّيْنِ كَالْجَهَالَةِ .

الْمِثَالُ الرَّابِعُ : الْأُنُوثَةُ اقْتَضَى ضَعْفُهَا التَّأَخُّرَ عَنْ الْوِلَايَاتِ وَاقْتَضَى ضَعْفُهَا وِلَايَةَ الْحَضَانَةِ وَالتَّقْدِمَةِ فِيهَا عَلَى الذُّكُورِ فَقَدْ اقْتَضَتْ الضِّدَّيْنِ كَالْجَهَالَةِ الْمِثَالُ الْخَامِسُ قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَضَى تَعْظِيمُهَا بَذْلَ الْمَالِ لِلْأَقَارِبِ وَالْمُبَادَرَةَ إلَى سَدِّ الْخَلَّاتِ فِي حَقِّهِمْ وَاقْتَضَى مَنْعُ الْمَالِ مِنْهُمْ فِي الزَّكَاةِ فَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْبَذْلُ وَالْمَنْعُ وَهُمَا ضِدَّانِ وَإِنَّمَا قَلَّتْ هَذِهِ النَّظَائِرُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُنَاسِبِ أَنْ يُنَافِيَ ضِدَّ مَا يُنَاسِبُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الرُّخْصَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ ) وَذَلِكَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالُوا إزَالَةُ النَّجَاسَةِ رُخْصَةٌ بِسَبَبِ أَنَّ السَّبَبَ فِي تَنْجِيسِ الطَّاهِرِ مُلَاقَاتُهُ لِلنَّجَسِ إجْمَاعًا فَإِذَا صَبَبْنَا الْمَاءَ عَلَى النَّجَاسَةِ لِنُزِيلَهَا مِنْ الْإِبْرِيقِ مَثَلًا فَالْجُزْءُ الْوَاصِلُ إلَى النَّجَاسَةِ الْمُتَّصِلِ بِهَا تَنَجَّسَ لِمُلَاقَاتِهِ النَّجَاسَةَ كَمَا تَقَدَّمَ حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ فِي الْقَاعِدَةِ وَإِذَا تَنَجَّسَ الْجُزْءُ الْمُلَاقِي لِلنَّجَاسَةِ تَنَجَّسَ ذَلِكَ الْجُزْءُ الَّذِي يَلِيهِ وَتَنَجَّسَ الْجُزْءُ الثَّانِي لِلثَّالِثِ وَالثَّالِثُ لِلرَّابِعِ وَالرَّابِعُ لِلْخَامِسِ وَكَذَلِكَ حَتَّى يَنْجُسَ الْمَاءُ الَّذِي دَاخِلُ الْإِبْرِيقِ بَلْ يَنْجُسُ مَاءُ الْبَحْرِ الْمَالِحِ إذَا وَضَعْنَا النَّجَاسَةَ فِي طَرَفِهِ وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُلَاقَاةُ النَّجَسِ لِلطَّاهِرِ وَحَيْثُ قَضَى الشَّرْعُ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَزُولُ وَأَنَّ الْمَاءَ لَمْ يَفْسُدْ مُطْلَقًا كَانَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَكَانَ رُخْصَةً مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَهَذَا كَلَامٌ مَتِينٌ قَوِيٌّ لَمْ أَرَ أَحَدًا تَعَرَّضَ لِلْجَوَابِ عَنْهُ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقْضِ عَلَى الْأَعْيَانِ بِأَنَّهَا نَجِسَةٌ وَلَا مُتَنَجِّسَةٌ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهَا جَوَاهِرَ وَلَا أَجْسَامًا إجْمَاعًا بَلْ لِأَجْلِ أَعْرَاضٍ خَاصَّةٍ قَامَتْ بِتِلْكَ الْأَجْسَامِ مِنْ لَوْنٍ خَاصٍّ وَكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ مَعْلُومَةٍ فِي الْعَادَةِ فَإِذَا انْتَفَتْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ وَتِلْكَ الْأَعْرَاضُ انْتَفَى الْحُكْمُ لِانْتِفَاءِ مُوجِبِهِ وَانْتِفَاءُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الرُّخَصِ إجْمَاعًا وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَبْطُلُ السُّؤَالُ بِسَبَبِ أَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْأَعْرَاضَ الْخَاصَّةَ وَالْكَيْفِيَّةَ الْخَاصَّةَ اللَّتَيْنِ قَضَى الشَّرْعُ لِأَجْلِهَا بِالتَّنْجِيسِ لَيْسَا مَوْجُودَيْنِ فِي

جَمِيعِ أَجْزَاءِ مَاءِ الْإِبْرِيقِ وَلَا فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ مَاءِ الْبَحْرِ إذَا وَضَعْنَا النَّجَاسَةَ فِي طَرَفِهِ بَلْ الْأَجْزَاءُ بَعِيدَةٌ مِنْ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَطْعًا فَلَا يَكُونُ الْقَضَاءُ بِتَطْهِيرِ الْأَجْزَاءِ الْبَعِيدَةِ رُخْصَةً بَلْ قَضَاءً بِالْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الرُّخَصِ وَكَذَلِكَ إذَا تَوَالَى الصَّبُّ وَالْغُسْلُ عَلَى الثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ فَقُطِعَ بِعَدَمِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِكَوْنِ الْعَيْنِ نَجِسَةً أَوْ مُتَنَجِّسَةً فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ حُكْمُ التَّنْجِيسِ لِزَوَالِ سَبَبِهِ كَمَا يَزُولُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ لِعَدَمِ النِّصَابِ وَيَزُولُ وُجُوبُ الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ لِزَوَالِ رَمَضَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي لَا يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْهَا رُخْصَةً فَكَذَلِكَ هَا هُنَا فَظَهَرَ أَنَّ مَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ مِنْ بَابِ الرُّخَصِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ بَلْ هِيَ مِنْ بَابِ الْعَزَائِمِ عَلَى وَفْقِ الْقَوَاعِدِ لَا عَلَى خِلَافِهَا

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الرُّخْصَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ ) اعْلَمْ أَنَّ الرُّخْصَةَ كَمَا فِي مُوَافَقَاتِ الشَّاطِبِيِّ لَهَا فِي الشَّرْعِ إطْلَاقَاتٌ أَرْبَعَةٌ الْإِطْلَاقُ الْأَوَّلُ عَلَى مَا شُرِعَ مِنْ الْأَحْكَامِ لِعُذْرٍ شَاقٍّ اسْتِثْنَاءً مِنْ أَصْلٍ كُلِّيٍّ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ فِيهِ فَقَيْدُ لِعُذْرٍ شَاقٍّ مُخْرِجٌ لِمَا كَانَ مِنْ أَصْلِ الْحَاجِيَّاتِ الْكُلِّيَّاتِ مُسْتَثْنًى مِنْ أَصْلٍ مَشْرُوعٍ لِعُذْرِ مُجَرَّدِ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ مَوْجُودَةٍ كَشَرْعِيَّةِ الْقِرَاضِ فَإِنَّهُ لِعُذْرٍ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ عَجْزُ صَاحِبِ الْمَالِ عَنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَيَجُوزُ حَيْثُ لَا عُذْرَ وَلَا عَجْزَ وَكَذَلِكَ الْقَرْضُ وَالْمُسَاقَاةُ وَالسَّلَمُ وَنَحْوُهَا مِمَّا شُرِعَ فِي الْأَصْلِ لِعُذْرِ مُجَرَّدِ الْحَاجَةِ وَإِنْ جَازَ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ فَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقْتَرِضَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَى الِاقْتِرَاضِ وَأَنْ يُسَاقِيَ حَائِطَهُ .
وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى عَمَلِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالِاسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ وَهَكَذَا فَلَا يُسَمَّى هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِاسْمِ الرُّخْصَةِ وَمُخْرِجٌ أَيْضًا لِمَا كَانَ مِنْ أَصْلِ التَّكْمِيلَاتِ مُسْتَثْنًى مِنْ أَصْلٍ مَشْرُوعٍ لِعُذْرِ مُجَرَّدِ التَّكْمِيلِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ مَوْجُودَةٍ كَشَرْعِيَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ جُلُوسًا لِعُذْرِ مُجَرَّدِ طَلَبِ الْمُوَافَقَةِ لِإِمَامِهِمْ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّلَاةِ قَائِمًا أَوْ يَقْدِرُ بِمَشَقَّةٍ حَتَّى شُرِعَ فِي حَقِّهِ الِانْتِقَالُ إلَى الْجُلُوسِ وَإِنْ كَانَ مُخِلًّا بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ بِسَبَبِ الْمَشَقَّةِ صَارَ الْجُلُوسُ رُخْصَةً فِي حَقِّهِ فَفِي الْحَدِيثِ إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ثُمَّ قَالَ وَإِنْ صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعِينَ فَلَا يُسَمَّى مِثْلُ هَذَا رُخْصَةً وَإِنْ كَانَ مُسْتَثْنًى لِعُذْرٍ وَقَيْدُ اسْتِثْنَاءٍ مِنْ أَصْلٍ كُلِّيٍّ يَقْضِي الْمَنْعَ مُدْخِلٌ لِمَا عَرَضَ لَهَا مِنْ الرُّخَصِ

أَنْ تَكُونَ كُلِّيَّاتٍ فِي الْحُكْمِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ أَصْلِهَا الْكُلِّيِّ الَّذِي اُسْتُثْنِيَتْ مِنْهُ لِلْعُذْرِ كَجَوَازِ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ فَإِنَّهُ إنَّمَا كَانَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَتْ آيَاتُ الصَّوْمِ نَزَلَتْ دَفْعَةً وَاحِدَةً إلَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ ثَانٍ عَنْ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَلَى الْجُمْلَةِ وَكَذَلِكَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ فِي قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ اُضْطُرَّ } الْآيَةَ وَمُخْرِجٌ لِبَاقِي أَنْوَاعِ الْعَزِيمَةِ مِمَّا شُرِعَ ابْتِدَاءً لَا اسْتِثْنَاءً مِنْ أَصْلٍ إلَخْ وَقَيْدُ مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ فِيهِ مَدْخَلٌ لِبَاقِي أَنْوَاعِ الرُّخَصِ وَمُوَضِّحٌ لِلْفَرْقِ بَيْنَ مَا شُرِعَ مِنْ الرُّخَصِ وَمَا شُرِعَ مِنْ الْحَاجِيَّاتِ الْكُلِّيَّةِ بِأَنَّ الرُّخَصَ جُزْئِيَّةٌ يُقْتَصَرُ فِيهَا عَلَى مَوْضِعِ الْحَاجَةِ فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا انْقَطَعَ سَفَرُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ مِنْ إتْمَامِ الصَّلَاةِ وَإِلْزَامِ الصَّوْمِ وَالْمَرِيضُ إذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يُصَلِّ قَاعِدًا وَإِذَا قَدَرَ عَلَى مَسِّ الْمَاءِ لَمْ يَتَيَمَّمْ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الرُّخَصِ بِخِلَافِ الْقَرْضِ وَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْحَاجِيَّاتِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي تُشْبِهُ الرُّخْصَةَ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ أَيْضًا وَإِنْ زَالَ الْعُذْرُ كَمَا عَلِمْت .
الْإِطْلَاقُ الثَّانِي عَلَى مَا اسْتَثْنَى مِنْ أَصْلٍ كُلِّيٍّ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مُطْلَقًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِعُذْرٍ شَاقٍّ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا اسْتَنَدَ إلَى أَصْلِ الْحَاجِيَّاتِ مِنْ الْقَرْضِ وَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ وَرَدِّ الصَّاعِ مِنْ الطَّعَامِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُصَرَّاةِ وَبَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِخَرْصِهَا ثَمَرًا وَضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ { نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَك وَأَرْخَصَ فِي السَّلَمِ } فَيَجْرِي عَلَيْهَا فِي التَّسْمِيَةِ كَمَا جَرَى عَلَيْهَا حُكْمُهَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَصْلٍ مَشْرُوعٍ وَيَدْخُلُ فِيهِ

أَيْضًا مَا اسْتَنَدَ إلَى أَصْلِ التَّكْمِيلَاتِ مِنْ صَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ جُلُوسًا اتِّبَاعًا لِلْإِمَامِ الْمَعْذُورِ وَصَلَاةُ الْخَوْفِ الْمَشْرُوعَةِ بِالْإِمَامِ كَذَلِكَ أَيْضًا وَنَحْوُ ذَلِكَ فَيُطْلَقُ عَلَى ذَلِكَ لَفْظُ الرُّخْصَةِ وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ مَعَهَا فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الرُّخْصَةِ عَلَى مَا اُسْتُمِدَّ مِنْ الرُّخَصِ مِنْ أَصْلِ الضَّرُورِيَّاتِ كَالْمُصَلِّي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ فَإِنَّ الرُّخْصَةَ فِي حَقِّهِ ضَرُورِيَّةٌ وَإِنَّمَا تَكُونُ حَاجِيَّةً إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ لَكِنْ بِمَشَقَّةٍ تَلْحَقُهُ فِيهِ أَوْ بِسَبَبِهِ ، الْإِطْلَاقُ الثَّالِثُ عَلَى مَا وُضِعَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ التَّكَالِيفِ الْغَلِيظَةِ وَالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى { رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْته عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } وقَوْله تَعَالَى { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } فَإِنَّ الرُّخْصَةَ فِي اللُّغَةِ رَاجِعَةٌ إلَى مَعْنَى اللِّينِ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَنَعَ شَيْئًا تَرَخَّصَ فِيهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْآخَرَ { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ } كَمَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الرُّخَصَ الَّتِي هِيَ مَحْبُوبَةٌ مَا ثَبَتَ الطَّلَبُ فِيهِ أَوْ مَا أَدَّى تَرْكُهُ إلَى الْمَشَقَّةِ الْفَادِحَةِ الَّتِي قَالَ فِي مِثْلِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ } فَيُوَافِقُ قَوْله تَعَالَى { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } وقَوْله تَعَالَى { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } بَعْدَ مَا قَالَ فِي الْأُولَى { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } .
وَفِي الثَّانِيَةِ { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ } لَكِنْ فَلْيُتَفَطَّنْ فَكَانَ مَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ السَّمْحَةِ مِنْ الْمُسَامَحَةِ وَاللِّينِ رُخْصَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا

حَمَلَهُ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ مِنْ الْعَزَائِمِ الشَّاقَّةِ الْإِطْلَاقُ الرَّابِعُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْمَشْرُوعَاتِ تَوْسِعَةً عَلَى الْعِبَادِ مُطْلَقًا مِمَّا هُوَ رَاجِعٌ إلَى نَيْلِ حُظُوظِهِمْ وَقَضَاءِ أَوْطَارِهِمْ فَالرُّخْصَةُ عَلَى هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ الْإِذْنِ فِي نَيْلِ الْحَظِّ الْمَلْحُوظِ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا كَانَ تَخْفِيفًا وَتَوْسِعَةً عَلَى الْمُكَلَّفِ وَإِنَّ الْعَزِيمَةَ كَذَلِكَ لَهَا فِي الشَّرْعِ أَرْبَعُ إطْلَاقَاتٍ تُقَابِلُ إطْلَاقَاتِ الرُّخْصَةِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ .
فَإِطْلَاقُهَا الْمُقَابِلُ لِهَذَا الْإِطْلَاقِ الرَّابِعِ هُوَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونَ } وقَوْله تَعَالَى { وَأْمُرْ أَهْلَك بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُك رِزْقًا } الْآيَةَ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ مِلْكٌ لِلَّهِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ فَحَقٌّ عَلَيْهِمْ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ وَبَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي عِبَادَتِهِ لِأَنَّهُمْ عِبَادُهُ وَلَيْسَ لَهُمْ حَقٌّ لَدَيْهِ وَلَا حُجَّةَ عَلَيْهِ فَإِذَا وَهَبَ لَهُمْ حَظًّا يَنَالُونَهُ فَذَلِكَ كَالرُّخْصَةِ لَهُمْ لِأَنَّهُ تَوَجُّهٌ إلَى غَيْرِ الْمَعْبُودِ وَاعْتِنَاءٌ بِغَيْرِ مَا اقْتَضَتْهُ الْعُبُودِيَّةُ وَذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُنَبَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ هُوَ امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ كَانَتْ الْأَوَامِرُ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا وَالنَّوَاهِي كَرَاهَةً أَوْ تَحْرِيمًا وَتَرْكُ كُلِّ مَا يَشْغَلُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا لِأَنَّ الْأَمْرَ مِنْ الْآمِرِ مَقْصُودٌ أَنْ يُمْتَثَلَ عَلَى الْجُمْلَةِ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْعَزَائِمُ ثَمَّ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ وَالرُّخَصُ حَظُّ الْعِبَادِ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ فَتَشْتَرِكُ الْمُبَاحَاتُ مَعَ الرُّخَصِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ مِنْ حَيْثُ كَانَا مَعًا تَوْسِعَةً عَلَى الْعَبْدِ وَرَفْعُ حَرَجٍ عَنْهُ وَإِثْبَاتًا لِحَظِّهِ وَتَصِيرُ الْمُبَاحَاتُ عِنْدَ هَذَا النَّظَرِ تَتَعَارَضُ مَعَ

الْمَنْدُوبَاتِ عَلَى الْأَوْقَاتِ فَيُؤْثِرُ حَظَّهُ فِي الْأُخْرَى عَلَى حَظِّهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ يُؤْثِرُ حَقَّ رَبِّهِ عَلَى حَظِّ نَفْسِهِ فَيَكُونُ رَافِعًا لِلْمُبَاحِ مِنْ عَمَلِهِ رَأْسًا أَوْ آخِذًا لَهُ حَقًّا لِرَبِّهِ فَيَصِيرُ حَظُّهُ مُنْدَرِجًا تَابِعًا لِحَقِّ اللَّهِ وَحَقُّ اللَّهِ هُوَ الْمُقَدَّمُ هُوَ الْمَقْصُودُ فَإِنَّ الْعَبْدَ بَذَلَ الْمَجْهُودَ وَالرَّبُّ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَهَذَا الْوَجْهُ يَعْتَبِرُهُ الْأُولَيَاتُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَحْوَالِ وَكَذَا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ رَقَى عَنْ الْأَحْوَالِ وَعَلَيْهِ يُرَبُّونَ التَّلَامِيذَ أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ الْأَخْذُ بِعَزَائِم الْعِلْمِ وَاجْتِنَابِ الرُّخَصِ جُمْلَةً حَتَّى آلَ الْحَالُ بِهِمْ أَنْ عَدُّوا أَصْلَ الْحَاجِيَّاتِ كُلَّهَا أَوْ جُلَّهَا .
وَهُوَ مَا يَرْجِعُ إلَى حَظِّ الْعَبْدِ مِنْهَا حَسْبَمَا بَانَ لَك فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ الْأَخِيرِ مِنْ الرُّخَصِ وَإِطْلَاقُ الْعَزِيمَةِ الْمُقَابِلُ لِلْإِطْلَاقِ الثَّالِثِ هُوَ التَّكَالِيفُ الْغَلِيظَةُ وَالْأَعْمَالُ الشَّاقَّةُ الَّتِي كَانَتْ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا وَوُضِعَتْ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ رُخْصَةً فِي حَقِّهَا كَرَامَةً لِنَبِيِّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِطْلَاقُهَا الْمُقَابِلُ لِلْإِطْلَاقِ الثَّانِي هُوَ مَا لَا يَكُونُ مِنْ الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ الْمَشْرُوعَةِ ابْتِدَاءً مُسْتَثْنًى مِنْ أَصْلٍ كُلِّيٍّ يَقْتَضِي الْمَنْعَ فَلَا تَشْمَلُ عَلَى هَذَا مَا اسْتَنَدَ مِنْ الْأَحْكَامِ إلَى أَصْلِ الْحَاجِيَّاتِ وَلَا مَا اسْتَنَدَ مِنْهَا إلَى أَصْلِ التَّكْمِيلَاتِ كَمَا لَا تَشْمَلُ مَا كَانَ مِنْهَا مُسْتَنِدٌ إلَى أَصْلِ الضَّرُورِيَّاتِ وَإِطْلَاقُهَا الْمُقَابِلُ لِلْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ هُوَ مَا شُرِعَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ ابْتِدَاءً وَمَعْنَى كَوْنِهَا كُلِّيَّةً أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ دُونَ بَعْضٍ فَيَدْخُلُ تَحْتَهَا جَمِيعُ كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا كَانَ مِنْهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ فَإِنَّهَا مَشْرُوعَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ فِي

كُلِّ شَخْصٍ وَفِي كُلِّ حَالٍ وَمَا كَانَ مِنْهَا مَشْرُوعًا لِلتَّوَصُّلِ إلَى إقَامَةِ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَسَائِرِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ الْقِصَاصِ وَالضَّمَانِ وَسَائِرِ أَحْكَامِ الْجِنَايَاتِ وَمَعْنَى شَرْعِيَّتِهَا ابْتِدَاءً أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الشَّارِعِ بِهَا إنْشَاءَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ عَلَى الْعِبَادَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَلَا يَسْبِقُهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَوْ حُكْمًا كَالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْأَخِيرِ النَّاسِخِ لِمَا قَبْلَهُ فَإِنَّهُ كَالْحُكْمِ الِابْتِدَائِيِّ تَمْهِيدًا لِلْمَصَالِحِ الْكُلِّيَّةِ الْعَامَّةِ وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ وَارِدًا عَلَى سَبَبٍ فَإِنَّ الْأَسْبَابَ قَدْ تَكُونُ مَفْقُودَةً قَبْلَ ذَلِكَ فَإِذَا وُجِدَتْ اقْتَضَتْ أَحْكَامًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا } وقَوْله تَعَالَى { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } وقَوْله تَعَالَى { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } وقَوْله تَعَالَى { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } .
وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ تَمْهِيدًا لِأَحْكَامٍ وَرَدَتْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْمُسْتَثْنَيَاتُ مِنْ الْعُمُومَاتِ وَسَائِرِ الْمَخْصُوصَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } وقَوْله تَعَالَى { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } وقَوْله تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } { وَنَهَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ } فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْعَزَائِمِ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى أَحْكَامٍ كُلِّيَّةٍ ابْتِدَائِيَّةٍ وَهَذِهِ الْإِطْلَاقَاتُ الْأَرْبَعَةُ لِلرُّخْصَةِ وَمَا يُقَابِلُهَا لِلْعَزِيمَةِ مِنْهَا

مَا هُوَ خَاصٌّ بِبَعْضِ النَّاسِ وَهُوَ الرَّابِعُ وَمِنْهَا مَا هُوَ عَامٌّ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ وَهُوَ مَا عَدَا الرَّابِعَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَرَّرَ وَهَذَا وَاخْتُلِفَ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّهَا رُخْصَةٌ لَا عَزِيمَةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا حُكْمٌ مُسْتَثْنًى مِنْ أَصْلٍ كُلِّيٍّ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مُطْلَقًا وَذَلِكَ الْأَصْلُ هُوَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ مِنْ أَنَّ السَّبَبَ فِي تَنْجِيسِ الطَّاهِرِ مُلَاقَاتُهُ لِلنَّجَسِ إجْمَاعًا تَقْتَضِي أَنَّا إذَا صَبَبْنَا الْمَاءَ مِنْ الْإِبْرِيقِ مَثَلًا عَلَى النَّجَاسَةِ لِنُزِيلَهَا تَنَجَّسَ الْجُزْءُ الْوَاصِلُ إلَى النَّجَاسَةِ الْمُتَّصِلِ بِهَا لِمُلَاقَاتِهِ النَّجَاسَةَ فَيَتَنَجَّسُ الَّذِي يَلِيهِ لِمُلَاقَاتِهِ لَهُ .
وَهَكَذَا حَتَّى يَتَنَجَّسَ الْمَاءُ الَّذِي دَاخِلُ الْإِبْرِيقِ بَلْ يَنْجُسُ مَاءُ الْبَحْرِ الْمَالِحِ إذَا وَضَعْنَا النَّجَاسَةَ فِي طَرَفِهِ فَلَمَّا قَضَى الشَّرْعُ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَزُولُ وَأَنَّ الْمَاءَ لَمْ يَفْسُدْ مُطْلَقًا عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ كَانَ ذَلِكَ رُخْصَةَ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ اسْتَثْنَاهَا مِنْ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ وَالْحَقُّ أَنَّ مَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّهَا مِنْ بَابِ الرُّخَصِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ بَلْ هِيَ مِنْ بَابِ الْعَزَائِمِ عَلَى وَفْقِ الْقَوَاعِدِ لَا عَلَى خِلَافِهَا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقْضِ عَلَى الْأَعْيَانِ بِأَنَّهَا نَجِسَةٌ وَلَا مُتَنَجِّسَةٌ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهَا جَوَاهِرَ وَلَا أَجْسَامًا إجْمَاعًا بَلْ لِأَجْلِ أَعْرَاضٍ خَاصَّةٍ قَامَتْ بِتِلْكَ الْأَجْسَامِ مِنْ لَوْنٍ خَاصٍّ وَكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ مَعْلُومَةٍ فِي الْعَادَةِ فَإِذَا انْتَفَتْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ وَتِلْكَ الْأَعْرَاضُ انْتَفَى الْحُكْمُ لِانْتِفَاءِ مُوجِبِهِ وَانْتِفَاءُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الرُّخَصِ إجْمَاعًا وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَعْرَاضَ الْخَاصَّةَ وَالْكَيْفِيَّةَ الْخَاصَّةَ اللَّذَيْنِ قَضَى الشَّرْعُ لِأَجْلِهَا بِالتَّنْجِيسِ لَيْسَا مَوْجُودَيْنِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ مَاءِ الْإِبْرِيقِ وَلَا فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ مَاءِ

الْبَحْرِ إذَا وَضَعْنَا النَّجَاسَةَ فِي طَرَفِهِ بَلْ الْأَجْزَاءُ بَعِيدَةٌ مِنْ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَطْعًا فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ حُكْمُ التَّنْجِيسِ لِزَوَالِ سَبَبِهِ كَمَا يَزُولُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ لِعَدَمِ النِّصَابِ وَيَزُولُ وُجُوبُ الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ لِزَوَالِ رَمَضَانَ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي لَا يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْ زَوَالِهَا لِزَوَالِ سَبَبِهَا رُخْصَةً فَافْهَمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ إزَالَةِ الْوُضُوءِ لِلْجَنَابَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّوْمِ خَاصَّةً وَبَيْنَ قَاعِدَةِ إزَالَةِ الْحَدَثِ عَنْ الرَّجُلِ خَاصَّةً بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخُفِّ ) اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَذَاهِبِ فَتَاوَى مُشْكِلَةٌ فِي الْأَحْدَاثِ وَأَحْكَامِهَا وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي الْجُنُبِ يُرِيدُ النَّوْمَ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ لِلنَّوْمِ خَاصَّةً لَا لِلصَّلَاةِ وَلَا لِغَيْرِهَا فَقَالَ الْفُقَهَاءُ هَذَا وُضُوءٌ يَرْفَعُ حَدَثَ الْجَنَابَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّوْمِ خَاصَّةً فَهَذَا حَدَثٌ قَدْ ارْتَفَعَ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَيْءٍ خَاصٍّ وَهَذَا وُضُوءٌ لَا يُزِيلُهُ الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ لِأَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ رَافِعًا لِلْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَإِنَّمَا يُزِيلُهُ الْحَدَثُ الْأَكْبَرُ وَهُوَ الْجَنَابَةُ فَقَطْ فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُقَرَّرَةٌ فِي الْحَدَثِ فِي الْمَذْهَبِ وَيُلْقُونَ هَذَا الْوُضُوءَ لُغْزًا عَلَى الطَّلَبَةِ فَيَقُولُونَ هَلْ تَعْلَمُونَ وُضُوءًا لَا يُزِيلُهُ الْبَوْلُ وَنَحْوُهُ فَيَشْكُلُ ذَلِكَ عَلَى الْمَسْئُولِ وَيُرِيدُونَ هَذَا الْوُضُوءَ هَذِهِ قَاعِدَةٌ قَدْ تَقَرَّرَتْ ثُمَّ قَالُوا إذَا غَسَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ ثُمَّ أَدْخَلَهَا فِي الْخُفِّ قَبْلَ غَسْلِ الْأُخْرَى هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْخُفِّ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ هَلْ يَرْتَفِعُ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ عَلَى حِيَالِهِ أَوْ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بَعْدَ غُسْلِ الْجَمِيعِ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ عَلَى هَذَا الْخُفِّ لِأَنَّهُ لَبِسَهُ بَعْدَ رَفْعِ الْحَدَثِ عَنْ مَحَلِّهِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ فَقِيلَ لَهُمْ إنَّ الْحَدَثَ لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لَهُ كَالْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ وَنَحْوِهِ فَيُقَالُ أَحْدَثَ إذَا وُجِدَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ يَقُولُ الْفُقَهَاءُ النَّوْمُ هَلْ هُوَ حَدَثٌ أَوْ سَبَبٌ لِلْحَدَثِ قَوْلَانِ وَلِلْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ حَدَثٌ قَوْلًا

وَاحِدًا وَثَانِيهِمَا الْمَنْعُ الْمُرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ يُسَمَّى حَدَثًا وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يَرْجِعُ إلَى التَّحْرِيمِ الْخَاصِّ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَنَحْوِهَا فَهَذَا الْمَنْعُ يُسَمَّى حَدَثًا أَيْضًا وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ الْفُقَهَاءُ فِيهِ إنَّ الْمُتَطَهِّرَ يَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثِ أَيْ يَنْوِي بِفِعْلِهِ ارْتِفَاعَ ذَلِكَ الْمَنْعِ وَالْمَنْعُ قَابِلٌ لِلرَّفْعِ كَمَا يَرْتَفِعُ تَحْرِيمُ الْأَجْنَبِيَّةِ بِالْعَقْدِ عَلَيْهَا وَتَحْرِيمُ الْمُطَلَّقَةِ بِالرَّجْعَةِ وَتَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ بِالِاضْطِرَارِ .
وَأَمَّا رَفْعُ تِلْكَ الْفَضَلَاتِ الْخَارِجَةِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ بِالْوُضُوءِ فَمُتَعَذَّرٌ بِالضَّرُورَةِ وَلَمَّا أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ يَرْتَفِعُ بِالطَّهَارَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْمَنْعُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الصَّلَاةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَتَحَرَّرَ حِينَئِذٍ أَنَّ الْحَدَثَ لَهُ مَعْنَيَانِ الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ وَالْمَنْعُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُمْ إنَّ الْحَدَثَ يَرْتَفِعُ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ عَلَى حِيَالِهِ مُشْكِلٌ بِسَبَبِ أَنَّ هَذَا الْمَنْعَ يَتَعَلَّقُ بِالْمُكَلَّفِ لَا بِالْعُضْوِ فَالْمُكَلَّفُ هُوَ الْمَمْنُوعُ مِنْ الصَّلَاةِ لَا إنَّ الْعُضْوَ هُوَ الْمَمْنُوعُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْمَنْعُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ بَاقٍ وَلَوْ غَسَلَ جَمِيعَ الْأَعْضَاءِ إلَّا لُمْعَةً وَاحِدَةً فَقَوْلُهُمْ الْحَدَثُ يَرْتَفِعُ عَنْ الْعُضْوِ بِانْفِرَادِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَإِنَّمَا يُعْقَلُ أَنْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْعُضْوُ مَمْنُوعًا فِي نَفْسِهِ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِذْنٌ لَهُ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْضَاءِ فَحِينَئِذٍ نَقُولُ إنَّ الْحَدَثَ ارْتَفَعَ عَنْهُ وَحْدَهُ لَكِنَّ الْمَمْنُوعَ هُوَ الْمُكَلَّفُ وَالْمَنْعُ بَاقٍ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَدَثَ يَرْتَفِعُ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ بِانْفِرَادِهِ غَيْرِ مَعْقُولٍ وَتَخْرِيجُ مَسْأَلَةِ الْخُفِّ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لَا يَصِحُّ فَإِنْ قُلْت لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غُسْلُ الرِّجْلِ يَرْتَفِعُ الْمَنْعُ بِهِ عَنْ الْمُكَلَّفِ بِاعْتِبَارِ

لُبْسِ الْخُفِّ خَاصَّةً وَيَبْقَى الْمُكَلَّفُ مَمْنُوعًا مِنْ الصَّلَاةِ كَمَا قُلْنَا فِي الْوُضُوءِ يَرْفَعُ الْجَنَابَةَ بِاعْتِبَارِ النَّوْمِ خَاصَّةً وَيَبْقَى الْمُكَلَّفُ مَمْنُوعًا مِنْ الصَّلَاةِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مِثْلَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ سَوَاءً وَيَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ عَنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ قُلْتُ هَذَا الْجَوَابُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ الْحَدَثُ يَرْتَفِعُ عَنْ عُضْوٍ وَحْدَهُ لَمْ يُخَصِّصُوا بِهِ الرِّجْلَ بَلْ عَمَّمُوهُ فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَاتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ غُسْلَ الْوَجْهِ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ بِاعْتِبَارِ خُفٍّ وَلَا غَيْرِهِ .
وَكَذَا الْيَدَانِ وَالرَّأْسُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ بِاعْتِبَارِ شَيْءٍ وَلَا الْمُكَلَّفُ تُبَاحُ لَهُ الصَّلَاةُ بِهِ وَحْدَهُ فَصَارَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ غَيْرَ مَعْقُولَةٍ وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ إنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ يَرْفَعُ الْجَنَابَةَ بِاعْتِبَارِ النَّوْمِ خَاصَّةً لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهِ وَفِي رَفْعِ الْحَدَثِ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ وَحْدَهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تَعَبُّدِيَّةٌ وَقَدْ عُلِّلَ الْوُضُوءُ هُنَاكَ بِأُمُورٍ كُلِّهَا بَاطِلَةٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعَبُّدٌ وَمَعَ التَّعَبُّدِ لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ وَلَوْ صَحَّتْ تِلْكَ الْمَعَانِي فَلَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي كُلِّ عُضْوٍ وَحْدَهُ فَإِنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ وَحْدَهُ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ الْوُضُوءِ حَتَّى يَصِحَّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ فَظَهَرَ أَنَّ الْقَوْلَ بِرَفْعِ الْحَدَثِ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ بِانْفِرَادِهِ قَوْلٌ بَاطِلٌ وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ ثَبَتَتْ الْإِبَاحَةُ عَقِيبَهُ لَكِنَّ الْمَنْعَ بَاقٍ إجْمَاعًا فَالْحَدَثُ بَاقٍ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ قَوْلَنَا إنَّ الْحَدَثَ يَرْتَفِعُ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ وَحْدَهُ قَوْلٌ بَاطِلٌ وَإِنَّ الْقَوْلَ بِثُبُوتِ الْحَدَثِ فِي الْأَعْضَاءِ وَفِي كُلِّ عُضْوٍ وَحْدَهُ أَيْضًا قَوْلٌ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْحَدَثَ هُوَ الْمَنْعُ الشَّرْعِيُّ عَنْ مُلَابَسَةِ الصَّلَاةِ وَالْعُضْوُ لَيْسَ مَمْنُوعًا مِنْ الصَّلَاةِ إنَّمَا الْمَمْنُوعُ هُوَ الْمُكَلَّفُ فَلَا مَعْنَى لِثُبُوتِ الْمَنْعِ عَلَى الْعُضْوِ وَحْدَهُ وَهَذَا

يُؤَكِّدُ أَنَّ الْحَدَثَ لَا يَرْتَفِعُ عَنْ الْعُضْوِ وَحْدَهُ لِأَنَّ الِارْتِفَاعَ عَنْهُ فَرْعُ الثُّبُوتِ فِيهِ فَمَا لَا مَنْعَ فِيهِ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ رَفْعُ الْمَنْعِ مِنْهُ وَهَذَا ضَرُورِيٌّ وَهُوَ يُوَضِّحُ عِنْدَك بُطْلَانَ تِلْكَ الْمَقَالَةِ بِرَفْعِ الْحَدَثِ عَنْ الْعُضْوِ وَحْدَهُ وَأَنَّهَا مَقَالَةٌ بَاطِلَةٌ وَيَتَّضِحُ لَك أَيْضًا أَنَّ الْوُضُوءَ إنَّمَا رَفَعَ الْجَنَابَةَ هُنَالِكَ بِاعْتِبَارِ النَّوْمِ عَلَى الْمُكَلَّفِ لَا عَنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ أَيْضًا بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ إنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَهُوَ عَكْسُ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِسَبَبِ أَنَّ الْحَدَثَ هُوَ الْمَنْعُ الشَّرْعِيُّ مِنْ الصَّلَاةِ وَهَذَا الْحَدَثُ الَّذِي هُوَ الْمَنْعُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُكَلَّفِ وَهُوَ بِالتَّيَمُّمِ قَدْ أُبِيحَتْ لَهُ الصَّلَاةُ إجْمَاعًا وَارْتَفَعَ الْمَنْعُ إجْمَاعًا لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ مَعَ الْإِبَاحَةِ فَإِنَّهُمَا ضِدَّانِ وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَإِذَا كَانَتْ الْإِبَاحَةُ ثَابِتَةً قَطْعًا وَالْمَنْعُ مُرْتَفِعٌ قَطْعًا كَانَ التَّيَمُّمُ رَافِعًا لِلْحَدَثِ قَطْعًا فَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ بَاطِلٌ قَطْعًا .
فَإِنْ قُلْت يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ النَّصُّ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا النَّصُّ { فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِحَسَّانَ لَمَّا تَيَمَّمَ وَصَلَّى بِالنَّاسِ أَصَلَّيْت بِأَصْحَابِك وَأَنْتَ جُنُبٌ } فَسَمَّاهُ جُنُبًا مَعَ التَّيَمُّمِ وَلَا نَعْنِي بِعَدَمِ رَفْعِ الْحَدَثِ إلَّا الْجَنَابَةَ وَنَحْوَهَا ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ إذَا وُجِدَ الْمَاءُ فَلَوْ كَانَ الْحَدَثُ ارْتَفَعَ لَكَانَتْ الْجَنَابَةُ ارْتَفَعَتْ بِالتَّيَمُّمِ وَلَمَّا احْتَاجَ لِلْغُسْلِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي بَقَاءِ الْحَدَثِ وَصِحَّةِ الْقَوْلِ بِهِ ثُمَّ هَذِهِ الْمَقَالَةُ قَالَ بِهَا أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ قَلِيلُونَ جِدًّا وَالْحَقُّ لَا يَفُوتُ الْجُمْهُورَ غَالِبًا قُلْتُ الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ

قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِفْهَامِ لِلِاسْتِطْلَاعِ عَلَى مَا عِنْدَ الْمَسْئُولِ مِنْ الْفِقْهِ فِي التَّيَمُّمِ وَبِمَاذَا يُجِيبُ فَيَظْهَرُ فِقْهُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَأَلَ مُعَاذًا لَمَّا بَعَثَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى الْيَمَنِ { بِمَ تَحْكُمُ فَقَالَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى } الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ لَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصْدَرَ هَذَا الْكَلَامَ مَصْدَرَ الْخَبَرِ الْجَازِمِ حَتَّى يَلْزَمَ الْحُجَّةُ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ قَدْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْخَبَرِ لَوَجَبَ تَأْوِيلُهُ وَحَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ نُكْتَةٌ عَقْلِيَّةٌ قَطْعِيَّةٌ فَمَتَى عَارَضَهَا نَصٌّ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ هَذَا هُوَ قَاعِدَةُ تَعَارُضِ الْقَطْعِيَّاتِ مَعَ الْأَلْفَاظِ وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ وُجُوبَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ عِنْدَ وُجُودِهِ لَيْسَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فَلَنَا مَنْعُهُ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّا نَقُولُ التَّيَمُّمُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ ارْتِفَاعًا مُغَيًّا بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ إمَّا طَرَيَان الْحَدَثِ بِأَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ أَوْ يُبَاشِرَ حَدَثًا مِنْ الْأَحْدَاثِ أَوْ يَفْرُغَ مِنْ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ وَتَوَابِعِهَا مِنْ النَّوَافِلِ فَيَصِيرُ مُحْدِثًا حِينَئِذٍ مَمْنُوعًا مِنْ الصَّلَاةِ أَوْ يَجِدَ الْمَاءَ فَيَصِيرَ مُحْدِثًا عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ وَيَكُونُ الْحُكْمُ ثَابِتًا إلَى آخِرِ غَايَاتٍ كَثِيرَةٍ أَوْ قَلِيلَةٍ فَهُوَ مَعْقُولٌ وَأَمَّا ثُبُوتُ الْمَنْعِ مَعَ الْإِبَاحَةِ وَاجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ فَغَيْرُ مَعْقُولٍ وَإِذَا تَعَارَضَ الْمُسْتَحِيلُ وَالْمُمْكِنُ وَجَبَ الْعُدُولُ إلَى الْقَوْلِ بِمَا هُوَ مُمْكِنٌ .
وَقَدْ رَفَعَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الْحَدَثَ إلَى غَايَةٍ وَهِيَ طَرَيَان الْحَدَثِ فَجَازَ أَنْ يَرْفَعَ التَّيَمُّمُ الْحَدَثَ إلَى غَايَاتٍ وَكَذَلِكَ نَقُولُ الْأَجْنَبِيَّةُ مَمْنُوعَةٌ مُحَرَّمَةٌ وَالْعَقْدُ عَلَيْهَا رَافِعٌ لِهَذَا الْمَنْعِ ارْتِفَاعًا مُغَيًّا بِغَايَاتٍ أَحَدُهَا الطَّلَاقُ وَثَانِيهَا الْحَيْضُ وَثَالِثُهَا الصَّوْمُ وَرَابِعُهَا الْإِحْرَامُ وَخَامِسُهَا الظِّهَارُ فَقَدْ

وَجَدْنَا الْمَنْعَ يَرْتَفِعُ ارْتِفَاعًا مُغَيًّا بِغَايَاتٍ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا يَرْتَفِعُ الْحَدَثُ مُغَيًّا بِأَحَدِ ثَلَاثِ غَايَاتٍ وَهَذَا أَمْرٌ مَعْقُولٌ وَوَاقِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مُسْتَحِيلٌ فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ كَوْنَ الْجُمْهُورِ عَلَى شَيْءٍ يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِصِحَّتِهِ بَلْ الْقَطْعُ إنَّمَا يَحْصُلُ فِي الْإِجْمَاعِ لِأَنَّ مَجْمُوعَ الْأُمَّةِ مَعْصُومٌ أَمَّا جُمْهُورُهُمْ فَلَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ وَالظَّاهِرُ إذَا عَارَضَهُ الْقَطْعُ قَطَعْنَا بِبُطْلَانِ ذَلِكَ الظُّهُورِ وَهَا هُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ الضِّدَّيْنِ مُسْتَحِيلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ فَيَنْدَفِعُ بِهِ الظُّهُورُ وَالنَّاشِئُ عَنْ قَوْلِ الْجُمْهُورِ فَظَهَرَ لَك بِهَذِهِ الْمَبَاحِثِ بُطْلَانُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ رَفْعِ الْوُضُوءِ لِلْجَنَابَةِ بِاعْتِبَارِ النَّوْمِ وَقَاعِدَةِ رَفْعِ غُسْلِ الرِّجْلِ لِلْحَدَثِ بِاعْتِبَارِ لُبْسِ الْخُفِّ

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ إزَالَةِ الْوُضُوءِ لِلْجَنَابَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّوْمِ خَاصَّةً وَقَاعِدَةِ إزَالَةِ الْحَدَثِ عَنْ الرِّجْلِ خَاصَّةً بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخُفِّ ) أَمَّا قَاعِدَةُ إزَالَةِ الْوُضُوءِ لِلْجَنَابَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّوْمِ خَاصَّةً فَقَدْ وَرَدَ فِيهَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّ الْجُنُبَ الَّذِي يُرِيدُ النَّوْمَ يَتَوَضَّأُ لِلنَّوْمِ خَاصَّةً لَا لِلصَّلَاةِ وَلَا لِغَيْرِهَا .
وَقَالَ الْفُقَهَاءُ هَذَا وُضُوءٌ يَرْفَعُ حَدَثَ الْجَنَابَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَيْءٍ خَاصٍّ وَهُوَ النَّوْمُ وَلَا يُزِيلُهُ الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ لِأَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ رَافِعًا لِلْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَإِنَّمَا يُزِيلُهُ الْحَدَثُ الْأَكْبَرُ وَهُوَ الْجَنَابَةُ فَقَطْ وَلِبَعْضِهِمْ إذَا سُئِلْتَ وُضُوءًا لَيْسَ يَنْقُضُهُ إلَّا الْجِمَاعُ وُضُوءُ النَّوْمِ لِلْجُنُبِ وَيُلْقُونَ هَذَا الْوُضُوءَ لُغْزًا عَلَى الطَّلَبَةِ فَيَقُولُونَ لَهُمْ هَلْ تَعْلَمُونَ وُضُوءًا لَا يُزِيلُهُ الْبَوْلُ وَنَحْوُهُ وَيُرِيدُونَ هَذَا الْوُضُوءَ فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ وَرَدَ بِهَا النَّصُّ وَتَقَرَّرَتْ فِي الْمَذْهَبِ .
وَأَمَّا قَاعِدَةُ إزَالَةِ الْحَدَثِ عَنْ الرِّجْلِ خَاصَّةً بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخُفِّ فَهِيَ وَإِنْ قَالَ بِهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فَأَجَازَ لِمَنْ غَسَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ فِي وُضُوئِهِ ثُمَّ أَدْخَلَهَا فِي الْخُفِّ قَبْلَ غُسْلِ الْأُخْرَى أَنْ يَمْسَحَ عَلَى هَذَا الْخُفِّ فِي الْوُضُوءِ الَّذِي بَعْدُ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَدَثَ يَرْتَفِعُ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ عَلَى حِيَالِهِ إلَّا أَنَّ الرَّاجِحَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ ذُكِرَ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى هَذَا الْخُفِّ لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْحَدَثَ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بَعْدَ غُسْلِ جَمِيعِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْحَدَثَ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لَهُ كَالْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ وَنَحْوِهِ فَيُقَالُ أَحْدَثَ إذَا وُجِدَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَيَقُولُ الْفُقَهَاءُ النَّوْمُ هَلْ هُوَ حَدَثٌ أَوْ سَبَبٌ لِلْحَدَثِ قَوْلَانِ وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ

الْمَنْعُ الْمُرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ .
وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يَرْجِعُ إلَى التَّحْرِيمِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُكَلَّفِ لَا بِعُضْوِهِ الْخَاصِّ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الصَّلَاةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَا الْمَنْعُ هُوَ الَّذِي يَقُولُ الْفُقَهَاءُ فِيهِ إنَّ الْمُتَطَهِّرَ يَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثِ أَيْ يَنْوِي بِفِعْلِهِ ارْتِفَاعَ ذَلِكَ الْمَنْعِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ الرَّفْعَ كَمَا يَرْتَفِعُ تَحْرِيمُ الْأَجْنَبِيَّةِ بِالْعَقْدِ عَلَيْهَا وَتَحْرِيمُ الْمُطَلَّقَةِ بِالرَّجْعَةِ وَتَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ بِالِاضْطِرَارِ وَأَمَّا رَفْعُ تِلْكَ الْفَضَلَاتِ الْخَارِجَةِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ بِالْوُضُوءِ فَمُتَعَذِّرٌ بِالضَّرُورَةِ فَالْحَدَثُ الَّذِي أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى رَفْعِهِ بِالطَّهَارَةِ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الصَّلَاةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْمَمْنُوعُ مِنْ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا هُوَ الْمُكَلَّفُ لَا أَنَّ الْعُضْوَ هُوَ الْمَمْنُوعُ مِنْ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا وَالْمَنْعُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ بَاقٍ وَلَوْ غَسَلَ جَمِيعَ الْأَعْضَاءِ إلَّا لُمْعَةً وَاحِدَةً فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْحَدَثَ يَرْتَفِعُ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ بِانْفِرَادِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَتَخْرِيجُ مَسْأَلَةِ الْخُفِّ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لَا يَصِحُّ وَقِيَاسُ ارْتِفَاعِ الْمَنْعِ بِغُسْلِ الرِّجْلِ عَنْ الْمُكَلَّفِ بِاعْتِبَارِ لُبْسِ الْخُفِّ خَاصَّةً وَيَبْقَى الْمُكَلَّفُ مَمْنُوعًا مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى ارْتِفَاعِ الْجَنَابَةِ بِوُضُوءِ النَّوْمِ لِلْجُنُبِ بِاعْتِبَارِ النَّوْمِ خَاصَّةً وَيَبْقَى الْمُكَلَّفُ مَمْنُوعًا مِنْ الصَّلَاةِ لَا يَصِحُّ بِوُجُوهٍ .
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ قَوْلَهُمْ الْحَدَثُ يَرْتَفِعُ عَنْ عُضْوٍ وَحْدَهُ لَمْ يُخَصِّصُوا بِهِ الرِّجْلَ بَلْ عَمَّمُوهُ فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ بِاعْتِبَارِ خُفٍّ وَلَا غَيْرِهِ وَكَذَا الْيَدَانِ وَالرَّأْسُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثُ بِاعْتِبَارِ شَيْءٍ .
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْوُضُوءَ إنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ يَرْفَعُ الْجَنَابَةَ بِاعْتِبَارِ الْيَوْمِ خَاصَّةً لِوُرُودِ

النَّصِّ فِيهِ وَرَفْعُ الْحَدَثِ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ وَحْدَهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تَعَبُّدِيَّةٌ وَمَعَ التَّعَبُّدِ لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي عَلَّلُوا بِهَا رَفْعَ وُضُوءِ النَّوْمِ لِلْجَنَابَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّوْمِ خَاصَّةً كُلُّهَا لَا تَصِحُّ وَعَلَى فَرْضِ صِحَّتِهَا فَلَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي كُلِّ عُضْوٍ وَحْدَهُ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّ الْوُضُوءَ إنَّمَا رَفَعَ الْجَنَابَةَ بِاعْتِبَارِ النَّوْمِ عَنْ الْمُكَلَّفِ لَا عَنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَظَهَرَ أَنَّ الْقَوْلَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ بِانْفِرَادِهِ قَوْلٌ بَاطِلٌ وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ ثَبَتَتْ الْإِبَاحَةُ عَقِيبَهُ لَكِنَّ الْمَنْعَ بَاقٍ إجْمَاعًا فَالْحَدَثُ بَاقٍ وَإِنَّ الْقَوْلَ بِثُبُوتِ الْحَدَثِ فِي الْأَعْضَاءِ وَفِي كُلِّ عُضْوٍ وَحْدَهُ قَوْلٌ بَاطِلٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْحَدَثَ هُوَ الْمَنْعُ الشَّرْعِيُّ عَنْ مُلَابَسَةِ الصَّلَاةِ وَالْعُضْوُ لَيْسَ مَمْنُوعًا مِنْ الصَّلَاةِ الْمَمْنُوعُ هُوَ الْمُكَلَّفُ فَلَا مَعْنَى لِثُبُوتِ الْمَنْعِ عَلَى الْعُضْوِ وَحْدَهُ .
( وَصْلٌ ) يُسْتَفَادُ مِنْ الْبَحْثِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ بَاطِلٌ قَطْعًا وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدَثَ هُوَ الْمَنْعُ الشَّرْعِيُّ مِنْ الصَّلَاةِ وَهَذَا الْحَدَثُ الَّذِي هُوَ الْمَنْعُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُكَلَّفِ وَهُوَ بِالتَّيَمُّمِ قَدْ أُبِيحَتْ لَهُ الصَّلَاةُ إجْمَاعًا وَارْتَفَعَ الْمَنْعُ إجْمَاعًا لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ مَعَ الْإِبَاحَةِ فَإِنَّهُمَا ضِدَّانِ وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ إجْمَاعًا وَإِذَا كَانَتْ الْإِبَاحَةُ ثَابِتَةً قَطْعًا وَالْمَنْعُ مُرْتَفِعٌ قَطْعًا كَانَ التَّيَمُّمُ رَافِعًا لِلْحَدَثِ قَطْعًا { وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ لَمَّا تَيَمَّمَ وَصَلَّى بِالنَّاسِ أَصْلَيْت بِأَصْحَابِك وَأَنْتَ جُنُبٌ } لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ لِأَنَّهُ وَإِنْ سَمَّاهُ جُنُبًا مَعَ التَّيَمُّمِ إلَّا أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِفْهَامِ لِلِاسْتِطْلَاعِ عَلَى مَا عِنْدَ الْمَسْئُولِ مِنْ

الْفِقْهِ فِي التَّيَمُّمِ وَبِمَاذَا يُجِيبُ فَيَظْهَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا { سَأَلَ مُعَاذًا لَمَّا بَعَثَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى الْيَمَنِ بِمَ تَحْكُمُ فَقَالَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى } الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ لَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصْدَرَ هَذَا الْكَلَامَ مَصْدَرَ الْخَبَرِ الْجَازِمِ حَتَّى يَلْزَمَ الْحُجَّةَ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْخَبَرِ لَوَجَبَ تَأْوِيلُهُ وَحَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ نُكْتَةٌ عَقْلِيَّةٌ قَطْعِيَّةٌ عَارَضَهَا نَصٌّ فَمَتَى عَارَضَهَا نَصٌّ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ كَمَا هُوَ الْقَاعِدَةُ فِي تَعَارُضِ الْقَطْعِيَّاتِ مَعَ الْأَلْفَاظِ .
وَأَمَّا أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلَا يَظْهَرُ فِي بَقَاءِ الْحَدَثِ وَصِحَّةُ الْقَوْلِ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَدَثُ ارْتَفَعَ لَكَانَتْ الْجَنَابَةُ ارْتَفَعَتْ بِالتَّيَمُّمِ وَلَمَا احْتَاجَ لِلْغُسْلِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ وُجُوبَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ عِنْدَ وُجُودِهِ لَيْسَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فَلَنَا مَنْعُهُ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّا لَوْ سَلَّمْنَاهُ لَكُنَّا نَقُولُ التَّيَمُّمُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ ارْتِفَاعًا مُغَيًّا بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ إمَّا أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ الْحَدَثُ بِأَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ أَوْ يُبَاشِرَ حَدَثًا مِنْ الْأَحْدَاثِ وَإِمَّا أَنْ يَفْرُغَ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ وَتَوَابِعَهَا مِنْ النَّوَافِلِ فَيَصِيرُ مُحْدِثًا حِينَئِذٍ مَمْنُوعًا مِنْ الصَّلَاةِ وَإِمَّا أَنْ يَجِدَ الْمَاءَ فَيَصِيرَ مُحْدِثًا عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ وَكَوْنُ الْحُكْمِ ثَابِتًا إلَى آخِرِ غَايَاتٍ كَثِيرَةٍ أَوْ قَلِيلَةٍ مُمْكِنٌ مَعْقُولٌ وَثُبُوتُ الْمَنْعِ مَعَ الْإِبَاحَةِ مُسْتَحِيلٌ وَغَيْرُ مَعْقُولٍ لِأَنَّهُ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ وَإِذَا تَعَارَضَ الْمُسْتَحِيلُ وَالْمُمْكِنُ وَجَبَ الْعُدُولُ إلَى الْقَوْلِ بِمَا هُوَ مُمْكِنٌ سِيَّمَا وَقَدْ وَجَدْنَا مِثْلَ هَذَا الْمُمْكِنِ وَاقِعًا فِي الشَّرِيعَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ

رَفْعَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْحَدَثَ إلَى غَايَةٍ وَهِيَ طَرَيَان الْحَدَثِ وَأَنَّ الْأَجْنَبِيَّةَ مَمْنُوعَةٌ مُحَرَّمَةٌ وَالْعَقْدُ عَلَيْهَا رَافِعٌ لِهَذَا الْمَنْعِ ارْتِفَاعًا مُغَيًّا بِغَايَاتٍ أَحَدُهُمَا الطَّلَاقُ وَثَانِيهَا الْحَيْضُ وَثَالِثُهَا الصَّوْمُ وَرَابِعُهَا الْإِحْرَامُ وَخَامِسُهَا الظِّهَارُ فَمَا الْمَانِعُ هَاهُنَا أَنْ يَكُونَ رَفْعُ الْحَدَثِ مُغَيًّا بِإِحْدَى ثَلَاثِ غَايَاتٍ وَكَوْنُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ قَلِيلِينَ جِدًّا وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَرْفَعُهُ فَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْحَقُّ لَا يَفُوتُ الْجُمْهُورَ غَالِبًا لَا يَقْتَضِي الْقَطْعُ بِصِحَّةِ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ بَلْ الْقَطْعُ إنَّمَا يَحْصُلُ فِي الْإِجْمَاعِ لِأَنَّ مَجْمُوعَ الْأُمَّةِ مَعْصُومٌ أَمَّا جُمْهُورُهُمْ فَلَا .
وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ وَهُوَ مُعَارَضٌ هُنَا بِمُسْتَحِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَهُوَ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ وَالظَّاهِرُ يَقْطَعُ بِبُطْلَانِهِ إذَا عَارَضَهُ الْقَطْعُ فَوَجَبَ أَنْ يَقْطَعَ بِبُطْلَانِ الظُّهُورِ النَّاشِئِ عَنْ قَوْلِ الْجُمْهُورِ كَمَا قَطَعَ بِبُطْلَانِ الْقَوْلِ بِرَفْعِ الْحَدَثِ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ بِانْفِرَادِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالثَّمَانُونَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ أَوْ يُكْرَهُ عَلَى الْخِلَافِ ) اعْلَمْ أَنَّ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْبَاقِي عَلَى أَصْلِ خِلْقَتِهِ أَوْ تَغَيَّرَ بِمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ لَهُ كَالْجَارِي عَلَى الْكِبْرِيتِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُلَازِمُ الْمَاءَ فِي مَقَرِّهِ وَكَانَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَنْ لَا يُسَمَّى مُطْلَقًا لِأَنَّهُ قَدْ تَقَيَّدَ بِإِضَافَةِ عَيْنٍ أُخْرَى إلَيْهِ لَكِنَّهُ اُسْتُثْنِيَ لِلضَّرُورَةِ فَجُعِلَ مُطْلَقًا تَوْسِعَةً عَلَى الْمُكَلَّفِ وَاخْتِيرَ هَذَا اللَّفْظُ لِهَذَا الْمَاءِ وَهُوَ قَوْلُنَا مُطْلَقٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ يُفْرَدُ فِيهِ إذَا عَبَّرَ عَنْهُ فَيُقَالُ مَاءٌ وَشَرِبْت مَاءً .
وَهَذَا مَاءٌ وَخَلَقَ اللَّهُ الْمَاءَ رَحْمَةً لِلْعَالَمَيْنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ فَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يُفْرَدُ اللَّفْظُ فِيهِ بَلْ يُقَالُ مَاءُ الْوَرْدِ مَاءُ الرَّيَاحِينِ مَاءُ الْبِطِّيخِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَا يُذْكَرُ اللَّفْظُ إلَّا مُقَيَّدًا بِإِضَافَةٍ أَوْ مَعْنًى آخَرَ .
وَأَمَّا فِي هَذَا الْمَاءِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى لَفْظٍ مُفْرَدٍ مُطْلَقٍ غَيْرِ مُقَيَّدٍ وَإِنْ وَقَعَتْ الْإِضَافَةُ فِيهِ كَقَوْلِنَا مَاءُ الْبَحْرِ وَمَاءُ الْبِئْرِ وَنَحْوُهُمَا فَهِيَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا بِخِلَافِ مَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ الْقَيْدِ وَتِلْكَ الْإِضَافَةِ فَمِنْ هُنَا حَصَلَ الْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ التَّعْيِينِ وَاللُّزُومِ وَعَدَمِهِ أَمَّا جَوَازُ الْإِطْلَاقِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَمُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ فَهَذَا هُوَ ضَابِطُ الْمُطْلَقِ وَأَمَّا الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فَهُوَ الَّذِي أُدِّيَتْ بِهِ طَهَارَةٌ وَانْفَصَلَ مِنْ الْأَعْضَاءِ لِأَنَّ الْمَاءَ مَا دَامَ فِي الْأَعْضَاءِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ طَهُورٌ مُطْلَقٌ مَا دَامَ مُتَرَدِّدًا .
فَإِذَا انْفَصَلَ عَنْ الْعُضْوِ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ صَالِحٌ لِلتَّطْهِيرِ أَمْ لَا وَهَلْ هُوَ نَجَسٌ أَمْ لَا وَهَلْ يَنْجُسُ الثَّوْبُ إذَا لَاقَاهُ أَمْ لَا هَذِهِ أَقْوَالٌ لِلْحَنَفِيَّةِ

وَلِغَيْرِهَا وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِخُرُوجِهِ عَنْ صَلَاحِيَّتِهِ لِلتَّطْهِيرِ هَلْ ذَلِكَ مُعَلَّلٌ بِإِزَالَةِ الْمَانِعِ أَوْ بِأَنَّهُ أُدِّيَتْ بِهِ قُرْبَةٌ وَيَتَخَرَّجُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَسَائِلُ فَإِنْ قُلْنَا إنَّ الْعِلَّةَ إزَالَةُ الْمَانِعِ لَمْ يَنْدَرِجْ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ الْغُسْلُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فِي الْوُضُوءِ إذَا نَوَى فِي الْأُولَى الْوُجُوبَ وَلَا الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُزِيلُ الْمَانِعَ وَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غُسْلِ الذِّمِّيَّةِ لِأَنَّهُ أَزَالَ الْمَانِعَ مِنْ الْوَطْءِ وَإِنْ قُلْنَا إنَّ سَبَبَ ذَلِكَ كَوْنُهُ أُدِّيَتْ بِهِ قُرْبَةٌ انْدَرَجَ فِيهِ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَفِي تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ وَلَا يَنْدَرِجُ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غُسْلِ الذِّمِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَمْ تَحْصُلْ بِهِ قُرْبَةٌ عَكْسُ مَا تَقَدَّمَ وَلِلْقَائِلَيْنِ بِالْمَنْعِ وَخُرُوجِهِ عَنْ كَوْنِهِ صَالِحًا لِلتَّطْهِيرِ مَدَارِكُ أَحْسَنُهَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } وقَوْله تَعَالَى { لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } .
مُطْلَقٌ فِي التَّطْهِيرِ لَا عَامٌّ فِيهِ بَلْ عَامٌّ فِي الْمُكَلَّفِينَ فَإِذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبِيدِهِ أَخْرَجْت هَذَا الثَّوْبَ لِأُغَطِّيَكُمْ بِهِ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُغَطِّيهِمْ بِهِ مَرَّاتٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَصْلِ التَّغْطِيَةِ فِي جَمِيعِهِمْ فَإِذَا غَطَّاهُمْ بِهِ مَرَّةً حَصَلَ مُوجِبُ اللَّفْظِ وَكَذَلِكَ هُنَا إذَا تَطَهَّرْنَا بِالْمَاءِ مَرَّةً حَصَلَ مُوجِبُ اللَّفْظِ فَبَقِيَتْ الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ فِيهِ غَيْرَ مَنْطُوقٍ بِهَا فَتَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ عَدَمُ الِاعْتِبَارِ فِي التَّطْهِيرِ إذْ الْأَصْلُ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِي التَّطْهِيرِ وَغَيْرِهِ إلَّا مَا وَرَدَتْ الشَّرِيعَةُ بِهِ وَهَذَا وَجْهٌ قَوِيٌّ حَسَنٌ وَمَدْرَكٌ جَمِيلٌ وَاحْتَجُّوا مَعَ هَذَا الْوَجْهِ بِقَوْلِهِمْ إنَّهُ مَاءٌ أُدِّيَتْ بِهِ عِبَادَةٌ

فَلَا تُؤَدَّى بِهِ عِبَادَةٌ أُخْرَى كَالرَّقَبَةِ فِي الْعِتْقِ وَبِقَوْلِهِمْ إنَّهُ مَاءُ الذُّنُوبِ فَيَكُونُ نَجِسًا .
وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ مَاءُ الذُّنُوبِ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إذَا تَوَضَّأَ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتْ الْخَطَايَا مِنْ بَيْنِ أَنَامِلِهِ وَإِذَا مَسَحَ بِرَأْسِهِ خَرَجَتْ الْخَطَايَا مِنْ أَطْرَافِ أُذُنَيْهِ } الْحَدِيثَ .
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَاءَ تَخْرُجُ مَعَهُ الذُّنُوبُ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ إذَا كَانَ مَاءَ الذُّنُوبِ يَكُونُ نَجَسًا لِأَنَّ الذُّنُوبَ مَمْنُوعٌ مِنْ مُلَابَسَتِهَا شَرْعًا وَالنَّجَاسَةُ هِيَ مَنْعٌ شَرْعِيٌّ فَإِذَا حَصَلَ الْمَنْعُ حَصَلَتْ النَّجَاسَةُ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّكُمْ تُجَوِّزُونَ عِتْقَ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ فِي الْكَفَّارَاتِ الْوَاجِبَاتِ وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا كَافِرًا ذِمِّيًّا ثُمَّ خَرَجَ إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ ثُمَّ غَنِمْنَاهُ عَادَ رَقِيقًا وَجَازَ عِتْقُهُ فِي الْوَاجِبِ مَرَّةً أُخْرَى عِنْدَكُمْ فَمَا قِسْتُمْ عَلَيْهِ لَا يَتِمُّ عَلَى أُصُولِكُمْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ الْقِيَاسِ لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِأَنَّهُ عَيْنٌ أُدِّيَتْ بِهِ عِبَادَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ تُؤَدَّى بِهِ عِبَادَةٌ أُخْرَى كَالثَّوْبِ فِي سُتْرَةِ الصَّلَاةِ وَاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ .
وَكَذَلِكَ الْمَالُ فِي الزَّكَاةِ لَوْ اشْتَرَاهُ مِمَّنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ الْفُقَرَاءِ جَازَ أَنْ يُخْرِجَهُ فِي الزَّكَاةِ مَرَّةً أُخْرَى وَكَذَلِكَ السَّيْفُ فِي الْجِهَادِ يُجَاهِدُ بِهِ مِرَارًا وَالْفَرَسُ وَغَيْرُهُ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ فِي الشَّرِيعَةِ تُؤَدَّى بِهِ الْعِبَادَاتُ مِرَارًا كَثِيرَةً نُعَارِضُكُمْ بِهِ فِي هَذَا الْقِيَاسِ وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الذُّنُوبَ لَيْسَتْ أَجْرَامًا تُوجِبُ تَنْجِيسَ الْمَاءِ وَالنَّجَاسَةُ فِي الشَّرْعِ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْأَجْرَامِ عِنْدَ اتِّصَافِهَا بِأَعْرَاضٍ أُخَرَ وَهَذِهِ لَيْسَتْ أَجْرَامًا فَلَا تَكُونُ تُوجِبُ التَّنْجِيسَ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ مُلَابَسَةَ الذُّنُوبِ حَرَامٌ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا

الْقَبِيلِ وَإِنَّمَا الذُّنُوبُ الَّتِي تَحْرُمُ مُلَابَسَتُهَا فِي الشَّرِيعَةِ هِيَ أَفْعَالٌ خَاصَّةٌ لِلْمُكَلَّفِ اخْتِيَارِيَّةٌ مُكْتَسَبَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ .
وَأَمَّا هَذِهِ الذُّنُوبُ فَمَعْنَاهَا اسْتِحْقَاقُ الْمُؤَاخَذَةِ وَذَلِكَ حُكْمٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِعْلٌ لِلْمُكَلَّفِ وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَيَخْتَصُّ بِهِ لَا اخْتِيَارَ لِلْمُكَلَّفِ فِيهِ وَلَا كَسْبَ وَحِينَئِذٍ لَا يُوصَفُ بِتَحْرِيمٍ وَلَا تَحْلِيلٍ فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا إيهَامٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ السَّلَفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يُبَاشِرُونَ الْأَسْفَارَ مَعَ قِلَّةِ الْمَاءِ فِيهَا وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ جَمَعَ مَاءَ طَهَارَتِهِ لِيَسْتَعْمِلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ لَا يُتَطَهَّرُ بِهِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْغَالِبَ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ التَّغَيُّرُ لَا سِيَّمَا فِي زَمَنِ الصَّيْفِ وَشُعْثِ السَّفَرِ فَلَا يَنْفَصِلُ إلَّا مُتَغَيِّرًا بِالْأَعْرَاقِ وَغَيْرِهَا وَالْمُتَغَيِّرُ لَا يَصْلُحُ لِلتَّطْهِيرِ إنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ أَمَّا هَذَا فَمَانِعٌ آخَرُ غَيْرُ كَوْنِهِ مُسْتَعْمَلًا فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَالْمَاءِ الْمُطْلَقِ .

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالثَّمَانُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ أَوْ يُكْرَهُ عَلَى الْخِلَافِ ) الْمَاءُ الْمُطْلَقُ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مَاءٍ بِلَا قَيْدٍ لَازِمٍ فَيُقَالُ هَذَا مَاءٌ وَشَرِبْت مَاءً وَخَلَقَ اللَّهُ الْمَاءَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَنَحْوُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ إمَّا بَاقِيًا عَلَى أَصْلِ خِلْقَتِهِ أَوْ مُتَغَيِّرًا بِمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ لَهُ كَالْجَارِي عَلَى الْكِبْرِيتِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُلَازِمُ الْمَاءَ فِي مَقَرِّهِ وَإِضَافَتِهِ فِي نَحْوِ مَاءِ الْبَحْرِ وَمَاءِ الْبِئْرِ وَإِنْ كَانَتْ قَيْدًا إلَّا أَنَّهَا غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا وَيُقَابِلُ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ الْمَاءُ الْمُقَيَّدُ وَهُوَ مَا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ إلَّا بِقَيْدٍ لَازِمٍ مِنْ إضَافَةٍ أَوْ وَصْفٍ كَمَاءِ الْوَرْدِ وَمَاءِ الشِّيشَةِ وَلَهُ حُكْمُ قَيْدِهِ مِنْ طَهَارَةٍ وَخِلَافِهَا وَمِنْهُ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ وَهُوَ الَّذِي أُدِّيَتْ بِهِ طَهَارَةٌ بِأَنْ انْفَصَلَ عَنْ الْأَعْضَاءِ وَجُمِعَ فِي إنَاءٍ إذْ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمَاءَ مَا دَامَ مُتَرَدِّدًا فِي الْأَعْضَاءِ طَهُورٌ وَمُطْلَقٌ فَإِذَا انْفَصَلَ عَنْهَا اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ فِي كَوْنِهِ صَالِحًا لِلتَّطْهِيرِ أَمْ لَا وَفِي كَوْنِهِ نَجَسًا أَمْ لَا وَفِي كَوْنِ مُلَاقِيهِ يُنَجِّسُ أَمْ لَا وَفِي كَوْنِ عَدَمِ صَلَاحِيَّتِهِ لِلتَّطْهِيرِ مُعَلَّلًا بِإِزَالَةِ الْمَانِعِ أَوْ بِأَنَّهُ أُدِّيَتْ بِهِ قُرْبَةٌ وَثَمَرَةُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِكَوْنِ الْعِلَّةِ إزَالَةَ الْمَانِعِ لَا يَنْدَرِجُ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ الْمَاءُ الْمُنْفَصِلُ عَنْ الْأَعْضَاءِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ إذَا نَوَى فِي الْأُولَى الْوُجُوبَ وَلَا الْمَاءَ الْمُنْفَصِلَ عَنْ الْأَعْضَاءِ فِي تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُزِيلُ الْمَانِعَ وَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غُسْلِ الذِّمِّيَّةِ لِأَنَّهُ أَزَالَ الْمَنْعَ مِنْ الْوَطْءِ .
وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ أَنَّهُ أُدِّيَتْ بِهِ قُرْبَةٌ

بِالْعَكْسِ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْمَاءُ الْمُنْفَصِلُ عَنْ الْأَعْضَاءِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَفِي تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ وَلَا يَنْدَرِجُ فِيهِ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غُسْلِ الذِّمِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَمْ تَحْصُلْ بِهِ قُرْبَةٌ وَأَحْسَنُ مَدَارِك الْقَائِلِينَ بِإِزَالَتِهِ الْمَنْعُ وَخُرُوجُهُ عَنْ صَلَاحِيَّتِهِ لِلتَّطْهِيرِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } وقَوْله تَعَالَى { لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } مُطْلَقٌ فِي التَّطْهِيرِ لَا عَامٌّ فِيهِ بَلْ عَامٌّ فِي الْمُكَلَّفِينَ فَلَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى أَصْلِ التَّطْهِيرِ فَإِذَا تَطَهَّرْنَا بِالْمَاءِ مَرَّةً حَصَلَ مُوجِبُ اللَّفْظِ فَبَقِيَتْ الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ فِيهِ غَيْرَ مَنْطُوقٍ بِهَا فَتَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ فِي التَّطْهِيرِ وَغَيْرِهِ إلَّا مَا وَرَدَتْ الشَّرِيعَةُ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ السَّيِّدَ إذَا قَالَ لِعَبِيدِهِ أَخْرَجْت هَذَا الثَّوْبَ لِأُغَطِّيَكُمْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُغَطِّيهِمْ بِهِ مَرَّاتٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَصْلِ التَّغْطِيَةِ فِي جَمِيعِهِمْ فَإِذَا غَطَّاهُمْ بِهِ مَرَّةً حَصَلَ مُوجِبُ اللَّفْظِ وَاحْتَجُّوا مَعَ هَذَا الْمُدْرِكِ الْحَسَنِ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُمْ إنَّهُ مَاءٌ أُدِّيَتْ بِهِ عِبَادَةٌ فَلَا تُؤَدَّى عِبَادَةٌ أُخْرَى كَالرَّقَبَةِ فِي الْعِتْقِ وَفِيهِ أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى الرَّقَبَةِ فِي الْعِتْقِ لَا يَتِمُّ عَلَى أُصُولِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ عِتْقَ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ فِي الْكَفَّارَاتِ الْوَاجِبَاتِ وَأَنَّهُ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا كَافِرًا ذِمِّيًّا ثُمَّ خَرَجَ إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ نَاقِصًا لِلْعَهْدِ ثُمَّ غَنِمْنَاهُ وَعَادَ رَقِيقًا جَازَ عِتْقُهُ فِي الْوَاجِبِ مَرَّةً أُخْرَى سَلَّمْنَا صِحَّةَ الْقِيَاسِ لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِأَنَّهُ كَمْ مِنْ عَيْنٍ فِي الشَّرِيعَةِ تُؤَدَّى بِهِ الْكَثِيرَةُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالُ فِي الزَّكَاةِ لَوْ اشْتَرَاهُ مِمَّنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ الْفُقَرَاءِ جَازَ أَنْ يُخْرِجَهُ فِي الزَّكَاةِ مَرَّةً أُخْرَى وَالسَّيْفُ وَالْفَرَسُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ آلَاتِ

الْحَرْبِ يُجَاهِدُ مِرَارًا وَلِلثَّوْبِ يَسْتَتِرُ بِهِ وَالْكَعْبَةُ تُسْتَقْبَلُ فِي الصَّلَاةِ مِرَارًا .
الْأَمْرُ الثَّانِي قَوْلُهُمْ إنَّهُ مَاءُ الذُّنُوبِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا تَوَضَّأَ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتْ الْخَطَايَا مِنْ بَيْنِ أَنَامِلِهِ وَإِذَا مَسَحَ بِرَأْسِهِ خَرَجَتْ الْخَطَايَا مِنْ أَطْرَافِ أُذُنَيْهِ } الْحَدِيثَ وَإِذَا كَانَ مَاءُ الذُّنُوبِ يَكُونُ نَجَسًا لِأَنَّ الذُّنُوبَ مَمْنُوعٌ مِنْ مُلَابَسَتِهَا شَرْعًا وَالنَّجَاسَةُ هِيَ مَنْعٌ شَرْعِيٌّ فَإِذَا حَصَلَ الْمَنْعُ حَصَلَتْ النَّجَاسَةُ وَفِيهِ أَنَّ النَّجَاسَةَ فِي الشَّرْعِ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْأَجْرَامِ عِنْدَ اتِّصَافِهَا بِأَعْرَاضٍ أُخَرَ وَالذُّنُوبُ لَيْسَتْ أَجْرَامًا حَتَّى تُوجِبَ التَّنْجِيسَ وَالذُّنُوبُ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ مُلَابَسَةَ الذُّنُوبِ حَرَامٌ فِي الشَّرِيعَةِ مَعْنَاهَا أَفْعَالٌ خَاصَّةٌ لِلْمُكَلَّفِ اخْتِيَارِيَّةٌ مُكْتَسَبَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ وَالذُّنُوبُ هُنَا مَعْنَاهَا اسْتِحْقَاقُ الْمُؤَاخَذَةِ وَذَلِكَ حُكْمٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِعْلٌ لِلْمُكَلَّفِ وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَيَخْتَصُّ بِهِ لَا اخْتِيَارَ لِلْمُكَلَّفِ فِيهِ وَلَا كَسْبَ وَحِينَئِذٍ لَا يُوصَفُ بِتَحْرِيمٍ وَلَا تَحْلِيلٍ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِدَعْوَى أَنَّ الذُّنُوبَ مَمْنُوعٌ مِنْ مُلَابَسَتِهَا شَرْعًا بَلْ هُوَ مَحْضُ إيهَامٍ .
الْأَمْرُ الثَّالِثُ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُمْ يُبَاشِرُونَ الْأَسْفَارَ مَعَ قِلَّةِ الْمَاءِ فِيهَا أَنَّهُ جَمْعُ مَاءِ طَهَارَتِهِ لِيَسْتَعْمِلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ لَا يُتَطَهَّرُ بِهِ وَفِيهِ أَنَّ النِّزَاعَ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ وَمَاءُ طَهَارَةِ السَّلَفِ فِي أَسْفَارِهِمْ فَفِيهِ مَانِعٌ آخَرُ غَيْرَ كَوْنِهِ مُسْتَعْمَلًا إذْ الْغَالِبُ فِيهِ التَّغَيُّرُ لَا سِيَّمَا فِي زَمَنِ الصَّيْفِ وَشُعْثُ السَّفَرِ فَلَا يَنْفَصِلُ إلَّا مُتَغَيِّرًا بِالْإِعْرَاقِ وَغَيْرِهَا

وَالْمُتَغَيِّرُ لَا يَصْلُحُ لِلتَّطْهِيرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ النَّجَاسَاتِ فِي الْبَاطِنِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ النَّجَاسَاتِ تُرَدُّ عَلَى بَاطِنِ الْحَيَوَانِ ) اعْلَمْ أَنَّ بَاطِنَ الْحَيَوَانِ مُشْتَمِلٌ عَلَى رُطُوبَاتٍ كَالدَّمِ وَالْمَذْيِ وَالْمَنِيِّ وَالْبَوْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الرُّطُوبَاتِ وَكَذَلِكَ أَثَفَالُ الْغِذَاءِ وَالْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ الدَّمُ وَالصَّفْرَاءُ وَالسَّوْدَاءُ وَالْبَلْغَمُ وَجَمِيعُ ذَلِكَ فِي بَاطِنِ الْحَيَوَانِ كُلِّهِ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِنَجَاسَةٍ فَمَنْ حَمَلَ حَيَوَانًا فِي صَلَاتِهِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ فَإِذَا انْفَصَلَتْ هَذِهِ الرُّطُوبَاتُ وَالْأَثْفَالُ مِنْ بَاطِنِ الْحَيَوَانِ فَحِينَئِذٍ يُقْبَلُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهَا بِالنَّجَاسَةِ فَالدَّمُ لَمْ أَرَ أَحَدًا قَضَى عَلَيْهِ بِالطَّهَارَةِ .
وَأَمَّا الْبَوْلُ وَالْعُذْرَةُ فَهُمَا نَجَسَانِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَمِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ يَحْرُمُ أَكْلُهُ وَأَمَّا مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَهُمَا مِنْهُ عِنْدَ مَالِكٍ طَاهِرَانِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ نَجَسَانِ وَمِنْ الْحَيَوَانِ الْمَكْرُوهِ الْأَكْلِ قِيلَ مَكْرُوهَانِ كَاللَّحْمِ وَقِيلَ نَجَسَانِ تَغْلِيبًا لِلِاسْتِقْذَارِ وَأَمَّا الدَّمُ وَالسَّوْدَاءُ فَهُمَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ نَجَسَانِ وَالْبَلْغَمُ وَالصَّفْرَاءُ .
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ طَاهِرَانِ مِنْ الْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِ .
وَأَمَّا الْمَنِيُّ فَنَجِسٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَطَاهِرٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْمَذْيُ نَجِسٌ عِنْدَهُمَا وَكَذَا الْوَدْيُ وَالْمَعِدَةُ طَاهِرَةٌ عِنْدَ مَالِكٍ نَجِسَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا حُكْمُ الْحَيَوَانِ وَمَا فِي بَاطِنِهِ قَبْلَ انْفِصَالِهِ .
وَأَمَّا مَا حَصَلَ فِي بَاطِنِهِ مِنْ خَارِجٍ مِنْ النَّجَاسَاتِ بَعْدَ أَنْ قَضَى عَلَيْهِ بِالتَّنْجِيسِ فَهُوَ نَجِسٌ وَيَنْجُسُ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعِدَةِ وَغَيْرِهَا فَمَنْ شَرِبَ خَمْرًا أَوْ أَكَلَ مَيْتَةً أَوْ شَرِبَ بَوْلًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ مُلَابِسٌ فِي صَلَاتِهِ مَا قَضَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّجَاسَةِ وَقَوْلُنَا مَا فِي بَاطِنِ

الْحَيَوَانِ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إنَّمَا يُرِيدُ الْعُلَمَاءُ بِذَلِكَ الَّذِي لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِالتَّنْجِيسِ أَمَّا مَا قُضِيَ عَلَيْهِ بِالتَّنْجِيسِ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ فِي ظَاهِرِ الْجَسَدِ وَفِي بَاطِنِهِ تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ فَإِنْ حَدَثَ عَنْهُ عَرَقٌ يُخْتَلَفُ فِي نَجَاسَةِ ذَلِكَ الْعَرَقِ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي رَمَادِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ الَّتِي طَرَأَتْ عَلَيْهَا التَّغَيُّرَاتُ وَالِاسْتِحَالَاتُ فَإِذَا صَارَ غِذَاءً وَأَجْزَاءً مِنْ الْأَعْضَاءِ لَحْمًا وَعَظْمًا وَغَيْرَهُمَا مِنْ الْأَعْضَاءِ فَقَدْ صَارَ طَاهِرًا بَعْدَ الِاسْتِحَالَةِ فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْبَقَرَةِ الْجَلَّالَةِ وَالشَّاةِ تَشْرَبُ لَبَنَ خِنْزِيرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا بَعُدَتْ الِاسْتِحَالَةُ طَهُرَ كَمَا أَنَّ الدَّمَ إذَا صَارَ مَنِيًّا ثُمَّ آدَمِيًّا قُضِيَ بِطَهَارَتِهِ بَعْدَ الِاسْتِحَالَةِ وَمَا طُرِحَ مِنْ الْأَغْذِيَةِ الطَّاهِرَةِ فِي مَعِدَةِ الْحَيَوَانِ كَانَ طَاهِرًا عِنْدَ مَالِكٍ حَتَّى يَتَغَيَّرَ إلَى صِفَةِ الْعُذْرَةِ أَوْ يَخْتَلِطَ بِنَجَاسَةٍ مِنْ عَرَقٍ يُنْشَرُ فِي بَاطِنِ الْجَسَدِ وَنَحْوِهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ كُلُّ مَا يَصِلُ إلَى الْمَعِدَةِ يَتَنَجَّسُ بِهَا لِأَنَّهَا عِنْدَهُ نَجِسَةٌ وَعَرَضَ هَا هُنَا فَرْعٌ وَهُوَ جُبْنُ الرُّومِ فَإِنَّهُمْ يَعْمَلُونَهُ بِالْإِنْفَحَةِ وَهُمْ لَا يُذَكُّونَ بَلْ الْإِنْفَحَة مَيْتَةٌ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ الْمُحَقِّقُونَ هُوَ نَجِسٌ لِذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ هُوَ طَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَعِدَةَ طَاهِرَةٌ وَاللَّبَنُ الَّذِي يَشْرَبُهُ فِيهَا طَاهِرٌ فَيَكُونُ الْجُبْنُ طَاهِرًا وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ بِالْمَوْتِ صَارَ جُرْمُ الْمَعِدَةِ نَجِسًا فَيَنْجُسُ اللَّبَنُ الْكَائِنُ فِيهِ فَيَصِيرُ الْجُبْنُ نَجِسًا وَاَلَّذِي رَأَيْت عَلَيْهِ فَتَاوَى الْعُلَمَاءِ فِي الْعَصْرِ تَحْرِيمُهُ وَتَنْجِيسُهُ بِنَاءً عَلَى هَذَا إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمَبَاحِثُ فَيَكُونُ سِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَنْشَأُ فِي بَاطِنِ الْحَيَوَانِ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَبَيْنَ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ أَنَّ الَّذِي

نَشَأَ فِيهِ أَصْلُهُ الطَّهَارَةُ فَاسْتُصْحِبَتْ وَالْوَارِدُ قَدْ قَضَى عَلَيْهِ بِالنَّجَاسَةِ قَبْلَ أَنْ يَرِدَ فَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِ النَّجَاسَةَ فَاسْتُصْحِبَتْ فَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ فِيهِمَا أَوْجَبَ الْحُكْمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ

قَالَ ( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ النَّجَاسَاتِ فِي الْبَاطِنِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ النَّجَاسَاتِ تُرَدُّ عَلَى بَاطِنِ الْحَيَوَانِ إلَى قَوْلِهِ هَذَا حُكْمُ الْحَيَوَانِ وَمَا فِي بَاطِنِهِ قَبْلَ انْفِصَالِهِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ وَحَكَاهُ صَحِيحٌ .
قَالَ ( أَمَّا مَا حَصَلَ فِي بَاطِنِهِ مِنْ خَارِجٍ مِنْ النَّجَاسَاتِ بَعْدَ أَنْ قَضَى عَلَيْهِ بِالتَّنْجِيسِ فَيُنَجِّسُ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعِدَةِ وَغَيْرِهَا فَمَنْ شَرِبَ خَمْرًا أَوْ أَكَلَ مَيْتَةً أَوْ شَرِبَ بَوْلًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ مُلَابِسٌ فِي صَلَاتِهِ مَا قَضَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّجَاسَةِ إلَى قَوْلِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ فِي ظَاهِرِ الْجَسَدِ وَفِي بَاطِنِهِ تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ ) قُلْتُ لَمْ أَقِفْ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ عَلَى مَا قَالَهُ هُنَا مِنْ بُطْلَانِ صَلَاةِ مَنْ فِي جَوْفِهِ نَجَاسَةٌ وَرَدَتْ عَلَيْهِ وَلَا أَرَاهُ صَحِيحًا .
قَالَ ( فَإِنْ حَدَثَ عَنْهُ عِرْقٌ يُخْتَلَفُ فِي نَجَاسَةِ ذَلِكَ الْعِرْقِ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ نَجِسَةٌ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ هُنَا وَحَكَاهُ صَحِيحٌ .
قَالَ ( وَعَرَضَ هَا هُنَا فَرْعٌ وَهُوَ جُبْنُ الرُّومِ إلَى قَوْلِهِ وَاَلَّذِي رَأَيْت عَلَيْهِ فَتَاوَى الْعُلَمَاءِ فِي الْعَصْرِ تَحْرِيمُهُ وَتَنْجِيسُهُ بِنَاءً عَلَى هَذَا ) قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الرُّومَ لَا يُذَكُّونَ قَدْ حَكَى بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُذَكِّي وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُمْ لَا يُذَكُّونَ لَيْسَتْ الْإِنْفَحَة مُتَعَيِّنَةً لِعَقْدِ الْجُبْنِ فَإِنَّهُ قَدْ يُعْقَدُ بِغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ طَاهِرٌ كَبَعْضِ الْأَعْشَابِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرُّومَ لَا يُذَكُّونَ وَأَنَّ الطَّائِفَةَ الَّذِينَ يَكُونُ الْجُبْنُ الْمُعَيَّنُ جُبْنَهُمْ لَا يُذَكُّونَ وَأَنَّهُمْ لَا يَعْقِدُونَ بِغَيْرِ الْإِنْفَحَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَوْلَ مَا ارْتَضَاهُ وَحَكَاهُ وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَوَقَعَ الِاحْتِمَالُ فَهُوَ مَوْضِعُ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَالْأَقْوَى نَقْلًا وَنَظَرًا الْجَوَازُ وَعَدَمُ التَّنْجِيسِ وَاَللَّهُ

أَعْلَمُ .
قَالَ ( إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمَبَاحِثُ فَيَكُونُ سِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَنْشَأُ فِي بَاطِنِ الْحَيَوَانِ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَبَيْنَ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ أَنَّ الَّذِي نَشَأَ فِيهِ أَصْلُهُ الطَّهَارَةُ فَاسْتُصْحِبَتْ وَالْوَارِدُ قَدْ قَضَى عَلَيْهِ بِالنَّجَاسَةِ قَبْلَ أَنْ يَرِدَ فَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِ النَّجَاسَةَ فَاسْتُصْحِبَتْ فَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ فِيهِمَا أَوْجَبَ الْحُكْمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ ) قُلْتُ لَا شَكَّ أَنَّ عَيْنَ مَا فِي الْبَاطِنِ هُوَ عَيْنُ مَا فِي الْخَارِجِ مِنْ الْعُذْرَةِ وَالْبَوْلِ وَغَيْرِهِمَا فَإِذَا حَكَمَ لِمَا فِي الْبَاطِنِ مِنْ ذَلِكَ بِالطَّهَارَةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَحْكُمَ لِمَا فِي الْخَارِجِ بِالطَّهَارَةِ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَا كَانَ فِي الْبَاطِنِ وَلَمَّا لَمْ يَحْكُمْ لِمَا فِي الْخَارِجِ بِالطَّهَارَةِ إجْمَاعًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ لِمَا فِي الْبَاطِنِ بِالطَّهَارَةِ لِأَنَّ أَصْلَهُ الطَّهَارَةُ بَلْ لِأَمْرٍ آخَرَ هَذَا إنْ سَلَّمَ أَنَّ حُكْمَ مَا فِي الْبَاطِنِ الطَّهَارَةُ لَكِنَّهُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ مَا فِي الْبَاطِنِ مِنْ ذَلِكَ بِطَاهِرٍ بَلْ هُوَ نَجَسٌ لَكِنَّهُ عُفِيَ عَنْهُ لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَى إزَالَتِهِ وَإِذَا كَانَ مَا عَلَى الْمَخْرَجِ مَعْفُوًّا عَنْهُ مَعَ إمْكَانِ الْإِزَالَةِ دَفْعًا لِمَشَقَّةِ الْإِزَالَةِ مَعَ إمْكَانِهَا فَأَحْرَى أَنْ يُعْفَى عَمَّا تَعَذَّرَتْ فِيهِ الْإِزَالَةُ وَالدَّاعِي إلَى هَذَا الْكَلَامِ وَاخْتِيَارُهُ دُونَ مَا اخْتَارَهُ أَنَّ عَيْنَ مَا فِي الْخَارِجِ هُوَ عَيْنُ مَا فِي الْبَاطِنِ مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ بِطَهَارَتِهِ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ وَبِالْجُمْلَةِ فَكَلَامُهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَلَا الظَّاهِرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ النَّجَاسَاتِ فِي الْبَاطِنِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ النَّجَاسَاتِ تَرِدُ عَلَى بَاطِنِ الْحَيَوَانِ ) اعْلَمْ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا إمَّا أَنْ يَبْنِيَ عَلَى أَنَّ عَيْنَ مَا فِي الْبَاطِنِ هُوَ عَيْنُ مَا فِي الْخَارِجِ مِنْ الْعُذْرَةِ وَالْبَوْلِ وَغَيْرِهِمَا وَأَنَّهُ إذَا حَكَمَ لِمَا فِي الْبَاطِنِ مِنْ ذَلِكَ بِالطَّهَارَةِ لَزِمَ أَنْ يَحْكُمَ لِمَا فِي الْخَارِجِ بِهَا أَيْضًا وَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْكُمْ لِمَا فِي الْخَارِجِ بِالطَّهَارَةِ إجْمَاعًا عَادَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ لِمَا فِي الْبَاطِنِ بِالطَّهَارَةِ بَلْ هُوَ نَجَسٌ فَيَكُونُ سِرُّهُ أَنَّهُ عُفِيَ عَمَّا فِي الْبَاطِنِ لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَى إزَالَتِهِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْعَفْوَ عَمَّا تَعَذَّرَتْ فِيهِ الْإِزَالَةُ أَحْرَى مِنْ عَفْوِهِمْ عَمَّا عَلَى الْمُخْرَجِ وَقَدْ أُمْكِنَتْ إزَالَتُهُ مَعَ الْمَشَقَّةِ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ فَافْهَمْ وَأَمَّا أَنْ يَبْنِيَ عَلَى أَنَّ عَيْنَ مَا فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ كَانَ عَيْنَ مَا فِي الْخَارِجِ إلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِطَهَارَتِهِ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ فَيَكُونُ سِرُّهُ هُوَ أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ فِيهِمَا أَوْجَبَ الْحُكْمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي نَشَأَ فِي بَاطِنِ الْحَيَوَانِ أَصْلُهُ الطَّهَارَةُ فَاسْتُصْحِبَ وَالْوَارِدُ عَلَى بَاطِنِهِ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنَّجَاسَةِ قَبْلَ أَنْ يَرِدَ فَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِ النَّجَاسَةَ فَاسْتُصْحِبَتْ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ بَاطِنُ الْحَيَوَانِ مِنْ الرُّطُوبَاتِ كَالدَّمِ وَالْمَذْيِ وَالْمَنِيِّ وَالْبَوْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ أَثْفَالُ الْغِذَاءِ وَالْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ الدَّمُ وَالصَّفْرَاءُ وَالسَّوْدَاءُ وَالْبَلْغَمُ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ كُلُّهُ مَا دَامَ فِي الْبَاطِنِ بِنَجَاسَةٍ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ حَمَلَ حَيَوَانًا فِيهَا فَإِذَا انْفَصَلَتْ هَذِهِ الرُّطُوبَاتُ وَالْأَثْفَالُ مِنْ بَاطِنِ الْحَيَوَانِ قَبِلَتْ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهَا بِالنَّجَاسَةِ فَالدَّمُ وَالسَّوْدَاءُ

لَمْ يَقْضِ أَحَدٌ بِطَهَارَتِهِمَا وَقَضَى بِنَجَاسَةِ الْبَوْلِ وَالْعُذْرَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَمِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ يَحْرُمُ أَكْلُهُ وَبِطَهَارَتِهِمَا مِمَّا يُبَاحُ أَكْلُهُ كَالنَّعَمِ عِنْدَ مَالِكٍ فَقَطْ خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ .
وَأَمَّا مِنْ مَكْرُوهِ الْأَكْلِ كَالسَّبُعِ وَالْهِرَّةِ فَقِيلَ مَكْرُوهَانِ كَاللَّحْمِ وَقِيلَ نَجَسَانِ تَغْلِيبًا لِلِاسْتِقْذَارِ وَبِطَهَارَةِ الْبَلْغَمِ وَالصَّفْرَاءِ مِنْ الْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَالْمَنِيِّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَقَطْ خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ وَبِنَجَاسَةِ الْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَبِطَهَارَةِ الْمَعِدَةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَبِنَجَاسَتِهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَعِنْدَهُ كُلُّ مَا يَصِلُ إلَيْهَا مِنْ الْأَغْذِيَةِ الطَّاهِرَةِ يَتَنَجَّسُ بِهَا وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا يَتَنَجَّسُ حَتَّى يَتَغَيَّرَ إلَى صِفَةِ الْعُذْرَةِ أَوْ يَخْتَلِطَ بِمَا فِي بَاطِنِ الْجَسَدِ مِنْ نَجَاسَةٍ وَكُلُّ مَا قَضَى عَلَيْهِ بِالتَّنْجِيسِ قَبْلَ وُرُودِهِ عَلَى بَاطِنِ الْحَيَوَانِ قَضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ بَعْدَ وُرُودِهِ عَلَيْهِ إذْ لَا فَرْقَ حِينَئِذٍ بَيْنَهُ فِي ظَاهِرِ الْجَسَدِ وَفِي بَاطِنِهِ فَإِنْ حَدَثَ عَنْ ذَلِكَ عَرَقٌ فَفِي نَجَاسَةِ ذَلِكَ الْعَرَقِ وَطَهَارَتِهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي رَمَادِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ الَّتِي طَرَأَتْ عَلَيْهَا التَّغَيُّرَاتُ وَالِاسْتِحَالَاتُ .
وَأَمَّا إذَا صَارَ مَا وَرَدَ عَلَى بَاطِنِ الْحَيَوَانِ غِذَاءً مِنْ النَّجَاسَةِ لَحْمًا وَعَظْمًا وَغَيْرَهُمَا مِنْ الْأَعْضَاءِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ طَاهِرًا يَبْعُدُ الِاسْتِحَالَةُ كَمَا أَنَّ الدَّمَ إذَا صَارَ مَنِيًّا ثُمَّ آدَمِيًّا فَإِنَّهُ يَكُونُ يَبْعُدُ هَذِهِ الِاسْتِحَالَةُ ظَاهِرًا وَكَذَا مَا تَغَذَّتْ بِهِ الْبَقَرَةُ الْجَلَّالَةُ مِنْ النَّجَاسَةِ وَلَبَنِ الْخِنْزِيرِ تَشْرَبُهُ الشَّاةُ يَطْهُرُ إذَا بَعُدَتْ الِاسْتِحَالَةُ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَقَوْلُ الْأَصْلِ بِبُطْلَانِ صَلَاةِ مَنْ فِي جَوْفِهِ نَجَاسَةٌ وَرَدَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ اسْتِحَالَتِهَا لَحْمًا وَعَظْمًا لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ وَلَا أَرَاهُ صَحِيحًا .
قَالَ وَقَوْلُهُ إنَّ

الرُّومَ لَا يُذَكُّونَ فَيَنْجُسُ جُبْنُهُمْ وَيَحْرُمُ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ بِالْإِنْفَحَةِ كَمَا قَالَهُ مُحَقِّقُو الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الَّذِي رَأَيْت عَلَيْهِ فَتَاوَى الْعُلَمَاءِ فِي الْعَصْرِ غَيْرَ ظَاهِرٍ عَلَى إطْلَاقِهِ فَقَدْ حَكَى بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُذَكِّي وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُمْ لَا يُذَكُّونَ لَيْسَتْ الْإِنْفَحَة مُتَعَيِّنَةً لِعَقْدِ الْجُبْنِ فَإِنَّهُ قَدْ يُعْقَدُ بِغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ طَاهِرٌ كَبَعْضِ الْأَعْشَابِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَظْهَرُ مَا ارْتَضَاهُ وَحَكَاهُ بِلَا شَكٍّ إلَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّ الطَّائِفَةَ الَّذِينَ يَكُونُ الْجُبْنُ الْمُعَيَّنُ جُبْنَهُمْ لَا يُذَكُّونَ وَإِنَّهُمْ لَا يَعْقِدُونَ بِغَيْرِ الْإِنْفَحَةِ أَمَّا إذَا لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَوَقَعَ الِاحْتِمَالُ فَهُوَ مَوْضِعُ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَالْأَقْوَى نَقْلًا وَنَظَرًا الْجَوَازُ وَعَدَمُ التَّنْجِيسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالثَّمَانُونَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَنْدُوبِ الَّذِي لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ وَقَاعِدَةِ الْمَنْدُوبِ الَّذِي يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ ) اعْلَمْ أَنَّ الْقَاعِدَةَ وَالْغَالِبَ أَنَّ الْوَاجِبَ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الْمَنْدُوبِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ تَعَالَى { مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا } الْحَدِيثُ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ قَدْ صَرَّحَ الْحَدِيثُ بِأَنَّ الْوَاجِبَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ وَمَتَى تَعَارَضَ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ قُدِّمَ الْوَاجِبُ عَلَى الْمَنْدُوبِ وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَرَدَ سُؤَالٌ مُشْكِلٌ وَهُوَ أَنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلظَّلَامِ وَالْمَطَرِ وَالطِّينِ وَهَذَا الْجَمْعُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَقْدِيمُ الْمَنْدُوبِ عَلَى الْوَاجِبِ وَذَلِكَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ يَلْحَقُهُمْ ضَرَرٌ بِخُرُوجِهِمْ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى بُيُوتِهِمْ وَعَوْدِهِمْ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ لَهُمْ أَقِيمُوا فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْعِشَاءِ حَتَّى تُصَلُّوهَا وَهَذَا الضَّرَرُ يَنْدَفِعُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا بِتَفْوِيتِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ بِأَنْ يَخْرُجُوا الْآنَ وَيُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ أَفْذَاذًا وَإِمَّا بِأَنْ يُصَلُّوا الْآنَ الصَّلَاتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ فَتَفُوتُ مَصْلَحَةُ الْوَقْتِ وَتَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إلَى وَقْتِهَا وَاجِبٌ فَضَاعَ الْوَاجِبُ بِالْجَمْعِ فَلَوْ حُفِظَ هَذَا الْوَاجِبُ ضَاعَ الْمَنْدُوبُ الَّذِي فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ فَقَدْ تَعَارَضَ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ فِي دَفْعِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ عَنْ الْمُكَلَّفِ فَقُدِّمَ الْمَنْدُوبُ عَلَى الْوَاجِبِ فَحَصَلَ وَتُرِكَ الْوَاجِبُ فَذَهَبَ وَهُوَ خِلَافُ الْقَاعِدَةِ وَالْمَعْهُودُ فِي الشَّرِيعَةِ دَفْعُ الضَّرَرِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ إذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِدَفْعِ

الضَّرَرِ كَالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ وَتَرْكِ رَكْعَتَيْنِ مِنْ الصَّلَاةِ لِدَفْعِ ضَرُورَةِ السَّفَرِ وَكَذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ الْمُحَرَّمُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِدَفْعِ ضَرَرِ التَّلَفِ وَتُسَاغُ الْغُصَّةُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ كَذَلِكَ وَذَلِكَ كُلُّهُ لِتَعَيُّنِ الْوَاجِبِ أَوْ الْمُحَرَّمِ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ أَمَّا إذَا أَمْكَنَ تَحْصِيلُ الْوَاجِبِ أَوْ تَرْكُ الْمُحَرَّمِ مَعَ دَفْعِ الضَّرَرِ بِطَرِيقٍ آخَرَ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ أَوْ الْمَكْرُوهَاتِ لَا يَتَعَيَّنُ تَرْكُ الْوَاجِبِ وَلَا فِعْلُ الْمُحَرَّمِ وَلِذَلِكَ لَا يُتْرَكُ الْغُسْلُ بِالْمَاءِ وَلَا الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا السُّجُودُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَالْأَلَمِ وَالْمَرَضِ إلَّا لِتَعَيُّنِهِ طَرِيقًا لِدَفْعِ ذَلِكَ الضَّرَرِ وَهَذَا كُلُّهُ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ وَقَدْ خُولِفَ هَذَا الْقِيَاسُ بِالْجَمْعِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ وَتَرْكُ الْوَاجِبِ وَفِعْلُ الْمَنْدُوبِ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بِعَرَفَةَ تُرِكَ فِيهِ وَاجِبَانِ أَحَدُهُمَا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا وَهِيَ الْعَصْرُ فَتُقَدَّمُ وَتُصَلَّى مَعَ الظُّهْرِ مَعَ إمْكَانِ الْجَمْعِ فِي تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الْوَقْتِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ وَثَانِيهِمَا تَرْكُ الْجُمُعَةِ إذَا جَاءَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ وَيُصَلَّى الظُّهْرُ أَرْبَعًا فَتُرِكَ الْوَاجِبُ أَيْضًا لَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ لِأَنَّهُ يَنْدَفِعُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْعَصْرِ وَالْجُمُعَةِ كَمَا يَنْدَفِعُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَلِذَلِكَ لَمَّا حَجَّ هَارُونُ الرَّشِيدُ وَمَعَهُ أَبُو يُوسُفَ وَاجْتَمَعَا بِمَالِكٍ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَقَعَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا اجْتَمَعَ الْجُمُعَةُ وَالظُّهْرُ يَوْمَ عَرَفَةَ قُدِّمَتْ الْجُمُعَةُ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ وَوَاجِبَةٌ قَبْلَ الظُّهْرِ مَعَ الْإِمْكَانِ قَالَ لَهُ مَالِكٌ إنَّ ذَلِكَ خِلَافَ السُّنَّةِ فَقَالَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ مِنْ أَيْنَ لَك ذَلِكَ وَأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَهُمَا خُطْبَةٌ

وَهَذِهِ هِيَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ جَهَرَ فِيهِمَا أَوْ أَسَرَّ فَسَكَتَ أَبُو يُوسُفَ فَظَهَرَتْ الْحُجَّةُ لِمَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ بِسَبَبِ الْإِسْرَارِ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ جَهْرِيَّةٌ فَلَمَّا صَلَّى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَكْعَتَيْنِ سِرًّا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ سَفَرِيَّةً وَتَرَكَ الْجُمُعَةَ وَالْخُطْبَةَ لِيَوْمِ عَرَفَةَ لَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ عَرَفَةَ إنَّمَا خُطْبَتُهُ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ مَنَاسِكَ الْحَجِّ كَانَتْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَمْ لَا وَالْجَوَابُ عَنْ الْجَمْعِ وَتَرْكِ الْجُمُعَةِ بِعَرَفَةَ أَيْسَرُ مِنْ الْجَوَابِ عَنْ الْجَمْعِ لَيْلَةَ الْمَطَرِ .
أَمَّا الْجَوَابُ عَنْ عَرَفَةَ وَتَرْكِ الْجُمُعَةِ فَلِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْحَجِيجِ السَّفَرُ وَفَرْضُ الْمُسَافِرِ الظُّهْرُ دُونَ الْجُمُعَةِ فَجُعِلَ النَّادِرُ تَبَعًا لِلْغَالِبِ فَمَنْ هُوَ مُقِيمٌ بِعَرَفَةَ أَوْ مَنْزِلُهُ قَرِيبٌ مِنْ عَرَفَةَ فَتَرْكُ الْجُمُعَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَيْسَ تَرْكَ الْوَاجِبِ .
وَأَمَّا تَرْكُ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ إلَى وَقْتِهَا وَهِيَ الْعَصْرُ فَلِضَرُورَةِ الْحُجَّاجِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِلْإِقْبَالِ عَلَى الدُّعَاءِ وَالِابْتِهَالِ وَالتَّقَرُّبِ اللَّائِقِ بِعَرَفَةَ وَهُوَ يَوْمٌ لَا يَكَادُ يَحْصُلُ فِي الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً بَعْدَ ضَنْكِ الْأَسْفَارِ وَقَطْعِ الْبَرَارِيِ وَالْقِفَارِ وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ مِنْ الْأَقْطَارِ الْبَعِيدَةِ وَالْأَوْطَانِ النَّائِيَةِ فَنَاسَبَ أَنْ يُقَدَّمَ هَذَا عَلَى مَصْلَحَةِ وَقْتِ الْعَصْرِ وَيَكُونُ هَذَا ضَرَرًا يُوجِبُ التَّقْدِيمَ كَمَا يُوجِبُ فَوَاتُ الزَّمَانِ التَّقْدِيمَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بَلْ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ فَوَاتِ الزَّمَانِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ لَا يُسَافِرَ أَوْ يُسَافِرَ مَعَهُ رُفْقَةٌ مُوَافِقِينَ عَلَى النُّزُولِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَهُوَ ضَرَرٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ أَمَّا مَصَالِحُ الْحَجِّ فَأَمْرٌ لَازِمٌ لِلْعَبْدِ وَلَا خُرُوجَ لَهُ عَنْهَا وَلَا يُمْكِنُ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا فَهَذَا

جَوَابٌ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي جَمْعِ عَرَفَةَ دُونَ جَمْعِ لَيْلَةِ الْمَطَرِ .
وَأَمَّا جَمْعُ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ إذَا خَافَ الْغَلَبَةَ عَلَى عَقْلِهِ آخِرَ الْوَقْتِ فَهُوَ مُتَعَيِّنٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ بِخِلَافِ جَمْعِ الْمَطَرِ لَمْ يَتَعَيَّنْ تَرْكُ الْوَاجِبِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَلَوْ لَمْ يَجْمَعْ الْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ ضَاعَ الْوَاجِبُ آخِرَ الْوَقْتِ وَهُوَ الصَّلَاةُ الْأَخِيرَةُ بِغَيْبَةِ الْعَقْلِ وَضَرُورَةِ الْمَرَضِ أَوْ دَخَلَ الضَّرَرُ بِفَوَاتِ الرِّفَاقِ وَالْجَمْعُ لَيْلَةَ الْمَطَرِ لَوْ تُرِكَ إنَّمَا يَفُوتُ الْمَنْدُوبُ الَّذِي هُوَ الْجَمَاعَةُ .
وَأَمَّا الصَّلَوَاتُ فَتُصَلَّى عَلَى أَفْضَلِ الْأَحْوَالِ فِي الْبُيُوتِ عِنْدَ دُخُولِ الْأَوْقَاتِ فَهَذَا جَمْعٌ يَخْتَصُّ بِهَذَا السُّؤَالِ الْقَوِيِّ وَالْجَوَابُ عَنْهُ إذَا حَصَلَ يُقَوِّي الْجَوَابَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَنَشْرَعُ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ فَإِنَّهُ مِنْ الْأَسْئِلَةِ الْمُشْكِلَةِ فَنَقُولُ إنَّ الْمَنْدُوبَاتِ قِسْمَانِ قِسْمٌ تَقْصُرُ مَصْلَحَتُهُ عَنْ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فَإِنَّ أَوَامِرَ الشَّرْعِ تَتْبَعُ الْمَصَالِحَ الْخَالِصَةَ أَوْ الرَّاجِحَةَ وَنَوَاهِيَهُ تَتْبَعُ الْمَفَاسِدَ الْخَالِصَةَ أَوْ الرَّاجِحَةَ حَتَّى يَكُونَ أَدْنَى الْمَصَالِحِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ ثُمَّ تَتَرَقَّى الْمَصْلَحَةُ وَالنَّدْبُ وَتَعْظُمُ رُتْبَتُهُ حَتَّى يَكُونَ أَعْلَى رُتَبِ الْمَنْدُوبَاتِ تَلِيهِ أَدْنَى رُتَبِ الْوَاجِبَاتِ وَأَدْنَى رُتَبِ الْمَفَاسِدِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَدْنَى رُتَبِ الْمَكْرُوهَاتِ ثُمَّ تَتَرَقَّى الْمَفَاسِدُ وَالْكَرَاهَةُ فِي الْعِظَمِ حَتَّى يَكُونَ أَعْلَى رُتَبِ الْمَكْرُوهَاتِ يَلِيهِ أَدْنَى رُتَبِ الْمُحَرَّمَاتِ هَذَا هُوَ الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ ثُمَّ إنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِي الشَّرِيعَةِ مَنْدُوبَاتٌ أَفْضَلُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَثَوَابُهَا أَعْظَمُ مِنْ ثَوَابِ الْوَاجِبَاتِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَصَالِحَهَا أَعْظَمُ مِنْ مَصَالِحِ الْوَاجِبَاتِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ وَقِلَّتِهِ كَثْرَةُ الْمَصَالِحِ وَقِلَّتُهَا أَلَا تَرَى أَنَّ ثَوَابَ التَّصَدُّقِ بِدِينَارٍ

أَعْظَمُ مِنْ ثَوَابِ التَّصَدُّقِ بِدِرْهَمٍ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَصْلَحَةً وَسَدُّ خَلَّةِ الْوَالِي الصَّالِحِ أَعْظَمُ مِنْ سَدِّ خَلَّةِ الْفَاسِقِ الطَّالِحِ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ بَقَاءِ الْوَلِيِّ وَالْعَالِمِ فِي الْوُجُودِ لِنَفْسِهِ وَلِلْخَلْقِ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْفَاسِقِ وَعَلَى هَذَا الْقَانُونِ هَذِهِ هِيَ الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي غَالِبِ مَوَارِدِ الشَّرِيعَةِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي الشَّرِيعَةِ مَوَاضِعُ مُسْتَوِيَةٌ فِي الْمَصْلَحَةِ وَأَحَدُهَا أَكْثَرُ ثَوَابًا كَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ دَاخِلَ الصَّلَاةِ أَكْثَرُ ثَوَابًا مِنْ قِرَاءَتِهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ لِوُجُوبِهَا دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَشَاةُ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ أَعْظَمُ ثَوَابًا مِنْ شَاةِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ مَعَ مُسَاوَاتِهَا لِنَفْسِهَا وَدِينَارُ الزَّكَاةِ أَكْثَرُ ثَوَابًا مِنْ دِينَارِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ .
وَهُوَ فِي الشَّرِيعَةِ قَلِيلٌ وَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُفَضِّلَ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِإِرَادَتِهِ مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ مَصْلَحَةٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَحَدٌ بِسَبَبِ قَصْدِ الْوُجُوبِ فِيهِ أَوْ وُقُوعِهِ فِي حَيِّزِ الْوَاجِبِ إذَا ظَهَرَ أَنَّ كَثْرَةَ الثَّوَابِ تَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْمَصْلَحَةِ غَالِبًا أَوْ مُطْلَقًا فَأَذْكُرُ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ الَّتِي فَضَّلَهَا الشَّرْعُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ سَبْعُ صُوَرٍ : الصُّورَةُ الْأُولَى إنْظَارُ الْمُعْسِرِ بِالدَّيْنِ وَاجِبٌ وَإِبْرَاؤُهُ مِنْهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَهُوَ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْإِنْظَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } فَجَعَلَهُ أَفْضَلَ مِنْ الْإِنْظَارِ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَصْلَحَتَهُ أَعْظَمُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الْإِنْظَارُ فَمَنْ أُبْرِئَ مِمَّا عَلَيْهِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْإِنْظَارُ وَهُوَ عَدَمُ الْمُطَالَبَةِ فِي الْحَالِ .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ { صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً } أَيْ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ مَثُوبَةً مِثْلَ مَثُوبَةِ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ كَذَلِكَ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ

وَهَذِهِ السَّبْعُ وَالْعِشْرُونَ مَثُوبَةً هِيَ مُضَافَةٌ لِوَصْفِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ خَاصَّةً أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ ثُمَّ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ حَصَلَتْ لَهُ مَعَ أَنَّ الْإِعَادَةَ فِي جَمَاعَةٍ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ فَصَارَ وَصْفُ الْجَمَاعَةِ الْمَنْدُوبُ أَكْثَرُ ثَوَابًا مِنْ ثَوَابِ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ فَضَلَ وَاجِبًا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَصْلَحَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَكْثَرُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ .
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ لِلصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ بِأَلْفِ مَثُوبَةٍ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَقَدْ فَضَلَ الْمَنْدُوبُ الَّذِي هُوَ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْمَكَانِ أَعْظَمُ مَصْلَحَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُ ذَلِكَ .
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ { الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ } كَمَا خَرَّجَهُ الثِّقَاتُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَقَدْ فَضَلَ الْمَنْدُوبُ الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَلَاةٌ .
الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ الصَّلَاةُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَقَدْ فَضَلَ الْمَنْدُوبُ الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الصَّلَاةِ .
الصُّورَةُ السَّادِسَةُ رُوِيَ أَنَّ { صَلَاةً بِسِوَاكٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةٍ بِغَيْرِ سِوَاكٍ } مَعَ أَنَّ وَصْفَ السِّوَاكِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَقَدْ فَضَلَ الْمَنْدُوبُ الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الصَّلَاةِ وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ } قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَصْلَحَتَهُ تَصْلُحُ لِلْإِيجَابِ وَلَكِنَّ تُرِكَ

الْإِيجَابُ رِفْقًا بِالْعِبَادِ .
الصُّورَةُ السَّابِعَةُ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لَا يَأْثَمُ تَارِكُهُ فَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا } وَرُوِيَ { وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا } قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إنَّمَا أَمَرَ بِعَدَمِ الْإِفْرَاطِ فِي السَّعْيِ لِأَنَّهُ إذَا قَدُمَ عَلَى الصَّلَاةِ عَقِيبَ شِدَّةِ السَّعْيِ يَكُونُ عِنْدَهُ انْبِهَارٌ وَقَلَقٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الْخُشُوعِ اللَّائِقِ بِالصَّلَاةِ فَأَمَرَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَاجْتِنَابِ مَا يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ الْخُشُوعِ وَإِنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَاتُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَصْلَحَةَ الْخُشُوعِ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ وَصْفِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ مَعَ أَنَّ الْجُمُعَةَ وَاجِبَةٌ فَقَدْ فَضَلَ الْمَنْدُوبُ الْوَاجِبَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَهِيَ عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهَا الَّتِي شَهِدَ لَهَا الْحَدِيثُ فِي قَوْله تَعَالَى { مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ } الْحَدِيثَ .
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَظَهَرَ أَنَّ بَعْضَ الْمَنْدُوبَاتِ قَدْ تَفْضُلُ الْوَاجِبَاتِ فِي الْمَصْلَحَةِ فَنَقُولُ إنَّا حَيْثُ قُلْنَا إنَّ الْوَاجِبَ يُقَدَّمُ عَلَى الْمَنْدُوبِ وَالْمَنْدُوبَ لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ حَيْثُ كَانَتْ مَصْلَحَةُ الْوَاجِبِ أَعْظَمَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْمَنْدُوبِ أَمَّا إذَا كَانَتْ مَصْلَحَةُ الْمَنْدُوبِ أَعْظَمَ ثَوَابًا فَإِنَّا نُقَدِّمُ الْمَنْدُوبَ عَلَى الْوَاجِبِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْخُشُوعِ وَغَيْرِهِ فَإِذَا وَجَدْنَا الشَّرْعَ قَدَّمَ مَنْدُوبًا عَلَى وَاجِبٍ فَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّ مَصْلَحَةَ ذَلِكَ الْمَنْدُوبِ أَكْثَرُ فَلَا كَلَامَ حِينَئِذٍ وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْهَا اسْتَدْلَلْنَا بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ وَقُلْنَا مَا قَدَّمَ

صَاحِبُ الشَّرْعِ هَذَا الْمَنْدُوبَ عَلَى هَذَا الْوَاجِبِ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ وَمَصْلَحَتُهُ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ لِأَنَّا اسْتَقْرَيْنَا الشَّرَائِعَ فَوَجَدْنَاهَا مَصَالِحَ عَلَى وَجْهِ التَّفَضُّلِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا إذَا سَمِعْتُمْ قِرَاءَةَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَاسْتَمِعُوا فَإِنَّهُ إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِخَيْرٍ وَيَنْهَاكُمْ عَنْ شَرٍّ فَحَيْثُ لَمْ نَعْلَمْ ذَلِكَ قُلْنَا هُوَ كَذَلِكَ طَرَدَ الْقَاعِدَةَ الشَّرْعُ فِي رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ وَلَمَّا وَرَدَتْ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَقُدِّمَ فِيهِ الْمَنْدُوبُ الَّذِي هُوَ وَصْفُ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الْوَقْتُ قُلْنَا هَذَا الْمَنْدُوبُ أَعْظَمُ مَصْلَحَةً مِنْ ذَلِكَ الْوَاجِبِ أَوْ مُسَاوٍ لِلْوَاجِبِ فَخَيَّرَ الشَّرْعُ بَيْنَهُمَا وَجَعَلَ لَهُ اخْتِيَارَ أَحَدِهِمَا فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ حِينَئِذٍ .

قَالَ ( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالثَّمَانُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَنْدُوبِ الَّذِي لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ وَقَاعِدَةِ الْمَنْدُوبِ الَّذِي يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ إلَى قَوْلِهِ فَتَفُوتُ مَصْلَحَةُ الْوَقْتِ ) قُلْتُ مَا ذَكَرَهُ وَقَرَّرَهُ هُنَا صَحِيحٌ كَمَا قَرَّرَ .
قَالَ ( وَتَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إلَى وَقْتِهَا وَاجِبٌ فَضَاعَ الْوَاجِبُ بِالْجَمْعِ فَلَوْ حَفِظَ هَذَا الْوَاجِبُ ضَاعَ الْمَنْدُوبُ الَّذِي هُوَ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ فَقَدْ تَعَارَضَ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ فِي دَفْعِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ عَنْ الْمُكَلَّفِ فَقُدِّمَ الْمَنْدُوبُ عَلَى الْوَاجِبِ فَحَصَلَ وَتُرِكَ الْوَاجِبُ فَذَهَبَ وَهُوَ خِلَافُ الْقَاعِدَةِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ هُنَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إلَى وَقْتِهَا فِي الْحَالِ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا الْجَمْعُ وَتَقْدِيمُ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ إلَى وَقْتِ الْأُولَى لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَصْلًا بَلْ هُوَ جَائِزٌ وَالتَّقْدِيمُ أَوْلَى لِتَحْصِيلِ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ فَلَمْ يَضِعْ وَاجِبٌ بِالْجَمْعِ وَلَا تَعَارَضَ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ وَلَا قُدِّمَ مَنْدُوبٌ عَلَى وَاجِبٍ وَلَا خُولِفْتُ فِي ذَلِكَ الْقَاعِدَةُ وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى مَا قَالَهُ ذَهَابُ وَهْمِهِ إلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إلَى وَقْتِهَا وَاجِبٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إلَى وَقْتِهَا لَيْسَ وَاجِبًا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ فِيمَا عَدَا الْحَالَ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا الْجَمْعُ فَإِنَّهُ لَيْسَ تَأْخِيرُهَا إلَى وَقْتِهَا مِنْ الْوَاجِبِ بَلْ هُوَ جَائِزٌ قَالَ ( وَالْمَعْهُودُ فِي الشَّرِيعَةِ دَفْعُ الضَّرَرِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ إذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ كَالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ وَتَرْكِ رَكْعَتَيْنِ مِنْ الصَّلَاةِ لِدَفْعِ ضَرُورَةِ السَّفَرِ ) قُلْتُ وَمَتَى كَانَ تَرْكُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ طَرِيقًا مُتَعَيِّنًا لِدَفْعِ ضَرَرِ السَّفَرِ فِي مَذْهَبِنَا وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ إمَامِنَا الصَّوْمُ وَالْفِطْرُ جَائِزٌ وَمَتَى كَانَ تَرْكُ الرَّكْعَتَيْنِ أَيْضًا طَرِيقًا مُتَعَيِّنًا وَالْإِتْمَامُ سَائِغٌ بَلْ ضَرَرُ السَّفَرِ جَائِزُ الدَّفْعِ

بِذَلِكَ وَإِذَا كَانَ الدَّفْعُ بِذَلِكَ جَائِزًا فَالْمُكَلَّفُ مُخَيَّرٌ فِي إيقَاعِ الصَّوْمِ فِي حَالِ السَّفَرِ وَتَأْخِيرُهُ إلَى وَقْتٍ آخَرَ مَعَ اخْتِيَارِ الصَّوْمِ وَكَذَلِكَ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ مَعَ اخْتِيَارِ الْقَصْرِ فَإِذَا أَفْطَرَ لَمْ يَتْرُكْ وَاجِبًا وَإِذَا قَصَرَ كَذَلِكَ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا أَفْطَرَ تَرَكَ وَاجِبًا لَزِمَهُ إنْكَارُ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا قَصَرَ تَرَكَ وَاجِبًا لَزِمَهُ إنْكَارُ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ الْمُحَرَّمُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِدَفْعِ ضَرَرِ التَّلَفِ وَتُسَاغُ الْغُصَّةُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ كَذَلِكَ وَذَلِكَ كُلُّهُ لِتَعَيُّنِ الْوَاجِبِ أَوْ الْمُحَرَّمِ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ ) قُلْتُ إذَا أَكَلَ الْمُضْطَرُّ الْمَيْتَةَ أَوْ شَرِبَ الْغَاصُّ الْخَمْرَ فَلَمْ يَفْعَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُحَرَّمًا بَلْ فَعَلَ وَاجِبًا وَمَا هَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ إلَّا كَلَامُ مَنْ ذَهَبَ وَهْمُهُ إلَى أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ وَصْفٌ حَقِيقِيٌّ فَالتَّحْرِيمُ لَا يُفَارِقُ الْمَيْتَةَ وَالْخَمْرَ بِحَالٍ وَذَلِكَ وَهْمٌ بَاطِلٌ وَغَلَطٌ وَاضِحٌ لَا شَكَّ فِيهِ .
قَالَ ( أَمَّا إذَا أَمْكَنَ تَحْصِيلُ الْوَاجِبِ أَوْ تَرْكُ الْمُحَرَّمِ مَعَ دَفْعِ الضَّرَرِ بِطَرِيقٍ آخَرَ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ أَوْ الْمَكْرُوهَاتِ لَا يَتَعَيَّنُ تَرْكُ الْوَاجِبِ وَلَا فِعْلُ الْمُحَرَّمِ ) قُلْتُ لَا يَتَعَيَّنُ تَرْكُ وَاجِبٍ وَلَا فِعْلُ مُحَرَّمٍ إلَّا بِمَعْنَى مَا كَانَ وَاجِبًا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالِ وَمُحَرَّمًا كَذَلِكَ ثُمَّ قَالَ ( وَلِذَلِكَ لَا يُتْرَكُ الْغُسْلُ بِالْمَاءِ وَلَا الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا السُّجُودُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَالْأَلَمِ وَالْمَرَضِ إلَّا لِتَعَيُّنِهِ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَهَذَا كُلُّهُ قِيَاسٌ مُطَّرَدٌ ) قُلْتُ إذَا تَعَيَّنَ تَرْكُ مَا ذَكَرَهُ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ صَارَتْ تِلْكَ الْوَاجِبَاتُ غَيْرَ وَاجِبَةٍ وَهَذَا كُلُّهُ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ قَالَ ( وَقَدْ خُولِفَ هَذَا الْقِيَاسُ بِالْجَمْعِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ وَتَرْكُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31