كتاب : أنوار البروق في أنواع الفروق
المؤلف : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي

الْفِعْلُ كَمَنْ بَنَى فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَلِذَلِكَ ذَهَبَ أَثَرُهُ بِذَهَابِهِ ، وَالْإِقْطَاعُ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا قَوْلِيًّا وَارِدًا عَلَى مَمْلُوكٍ لِلْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّهُ بِدُونِ الْإِحْيَاءِ حُكْمٌ بِدُونِ سَبَبٍ أَوْ عِلَّةٍ فَلِذَا لَا يَمْلِكُ بَيْعُهُ فَهُوَ عَكْسُ النَّقِيضِ لِلَّذِي ادَّعَيْنَاهُ ، وَهُوَ إبْدَاءُ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْإِحْيَاءُ بِدُونِ حُكْمِهَا الَّذِي هُوَ اسْتِمْرَارُ الْمِلْكِ ، وَعَدَمُ قُصُورِهِ لِضَعْفِهَا ، وَعَدَمُ بُطْلَانِ مِلْكِ الْإِقْطَاعِ إذَا أَحْيَا فِيهِ بِبُطْلَانِ إحْيَائِهِ إنَّمَا هُوَ لِتَحَقُّقِ سَبَبٍ غَيْرِ الْإِحْيَاءِ حِينَئِذٍ ، وَهُوَ أَنَّ الْإِقْطَاعَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْأَئِمَّةِ فَلَا يُنْقَضُ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْأَئِمَّةِ تُصَانُ عَنْ النَّقْضِ ، وَالْمِلْكُ الَّذِي جَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُحْيِي بِقَوْلِهِ { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ } مُرَتَّبٌ عَلَى وَصْفِ الْإِحْيَاءِ ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْوَصْفُ لِذَلِكَ الْحُكْمِ فَيَكُونُ الْإِحْيَاءُ سَبَبَهُ وَعِلِّيَّتَهُ .
وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الْحُكْمَ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ وَسَبَبِهِ فَهَذَا الْحَدِيثُ لِهَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ إنَّمَا يَقْتَضِي الْمِلْكَ عِنْدَ ذَلِكَ كَمَا يَدَّعِي الْخَصْمُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ لَهُ لَفْظٌ يَقْتَضِي مُطْلَقَ الْمِلْكِ لِأَنَّ لَفْظَ لَهُ لَيْسَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ بَلْ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ ، وَلَا دَاعٍ فِي ثُبُوتِ مُطْلَقِ الْمِلْكِ بِالْإِحْيَاءِ بَلْ نَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ أَيْضًا ، وَلَا يَقْتَضِي الْمِلْكَ بِوَصْفِ الدَّوَامِ حَتَّى يَحْصُلَ بِهِ مَقْصُودُ الْخَصْمِ إذَا عَلِمْت هَذَا ظَهَرَ لَك انْدِفَاعُ الْإِشْكَالِ الْوَارِدِ عَلَى مَذْهَبِنَا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ ، وَأَنَّهُ فِقْهٌ حَسَنٌ عَلَى الْقَوَاعِدِ ، وَأَنَّ مُقَابِلَهُ لَمْ يَكُنْ أَقْوَى مِنْهُ إلَّا فِي بَادِئِ الرَّأْيِ فَتَأَمَّلْ كَذَا قَالَ الْأَصْلُ .
وَأَمَّا عَلَى مُقَابِلِ مَذْهَبِنَا ، وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ

اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يَزُولُ الْمِلْكُ بِزَوَالِ الْإِحْيَاءِ لِوُجُوهٍ : ( الْأَوَّلُ ) أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ الْمِلْكَ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ إبْطَالِهِ ، وَاسْتِصْحَابُهُ ( وَالثَّانِي ) قِيَاسُ الْإِحْيَاءِ عَلَى الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَسَائِرِ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ ( وَالثَّالِثُ ) الْقِيَاسُ عَلَى مَنْ تَمَلَّكَ لُقَطَةً ثُمَّ ضَاعَتْ مِنْهُ فَإِنَّ عَوْدَهَا إلَى حَالِ الِالْتِقَاطِ لَا يُسْقِطُ مِلْكَ مُتَمَلِّكِهَا فَلَا يُسَلَّمُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِحْيَاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الشَّاطِّ مَا خُلَاصَتُهُ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَقْوَى مِنْ مَذْهَبِنَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا فِي بَادِئِ الرَّأْيِ فَقَطْ كَمَا زَعَمَ الشِّهَابُ لِوَجْهَيْنِ ( الْأَوَّلُ ) أَنَّ مَا قَالَهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مُجَرَّدُ دَعْوَى يُقَابَلُ بِمِثْلِهَا بِأَنْ يُقَالَ إنَّ الْأَسْبَابَ الْقَوْلِيَّةَ هِيَ الضَّعِيفَةُ لِوُرُودِهَا عَلَى مِلْكٍ سَابِقٍ فَيَتَعَارَضُ الْمِلْكَانِ السَّابِقُ وَاللَّاحِقُ .
وَأَمَّا الْمَمْلُوكُ بِالْإِحْيَاءِ فَلَمْ يَسْبِقْهُ مَا يُعَارِضُهُ فَهُوَ أَقْوَى ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) أَنَّ مَا قَالَهُ فِي الْجَوَابِ عَنْ الْحَدِيثِ السَّابِقِ مِنْ أَنَّهُ يَدُلُّ بِسَبَبِ الْقَاعِدَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ عَلَى بُطْلَانِ الْمِلْكِ بِذَهَابِ الْإِحْيَاءِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّ الْقَاعِدَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتَا صَحِيحَتَيْنِ مُسَلَّمَتَيْنِ لَكِنْ لَا يَلْزَمُهُمَا مَا قَالَهُ مِنْ بُطْلَانِ هَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ قَدْ ثَبَتَ فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُسَبِّبُهُ ، وَلَمْ يَرْتَفِعْ الْإِحْيَاءُ بَلْ لَا يَصِحُّ ارْتِفَاعُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِارْتِفَاعِ الْوَاقِعِ وَهُوَ مُحَالٌ ، وَإِنَّمَا مَغْزَاهُ أَنَّ الْإِحْيَاءَ لَمْ يَسْتَمِرَّ ، وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي الْأَسْبَابِ كُلِّهَا فَإِنَّ الْمِلْكَ الْمُرَتَّبَ عَلَى الشِّرَاءِ أَوْ عَلَى الْإِرْثِ أَوْ عَلَى الْهِبَةِ لَمْ تَسْتَمِرَّ أَسْبَابُهُ فَكَانَ يَلْزَمُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ أَنَّهُ مَتَى غَفَلَ الْإِنْسَانُ عَنْ تَجْدِيدِ شِرَاءِ مُشْتَرَاهُ أَنْ

يَبْطُلَ مِلْكُهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَقْتَضِي الْمِلْكَ بِوَصْفِ الدَّوَامِ ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا إلَّا أَنَّ هُنَا قَاعِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ ، وَهِيَ أَنَّ الْمِلْكَ يَدُومُ بَعْدَ ثُبُوتِ سَبَبِهِ إلَّا أَنْ يَلْزَمَهُ مَا يُنَاقِضُهُ ا هـ .
فَتَأَمَّلْ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ

( الْفَرْقُ الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْكَذِبِ وَقَاعِدَةِ الْوَعْدِ وَمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مِنْهُ وَمَا لَا يَجِبُ ) قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } وَالْوَعْدُ إذَا أُخْلِفَ قَوْلٌ لَمْ يُفْعَلْ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا مُحَرَّمًا ، وَأَنْ يَحْرُمَ إخْلَافُ الْوَعْدِ مُطْلَقًا .
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ { عَلَامَةِ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ } فَذِكْرُهُ فِي سِيَاقِ الذَّمِّ دَلِيلٌ عَلَى التَّحْرِيمِ ، وَيُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ ، وَعْدُ الْمُؤْمِنِ وَاجِبٌ أَيْ وَعْدُهُ وَاجِبُ الْوَفَاءِ بِهِ وَفِي الْمُوَطَّإِ { قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْذِبُ لِامْرَأَتِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَأَعِدُهَا ، وَأَقُولُ لَهَا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا جُنَاحَ عَلَيْك } فَمَنَعَهُ مِنْ الْكَذِبِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّ رِضَى النِّسَاءِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِهِ ، وَنَفَى الْجُنَاحَ عَلَى الْوَعْدِ ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ إخْلَافَ الْوَعْدِ لَا يُسَمَّى كَذِبًا لِجَعْلِهِ قَسِيمَ الْكَذِبِ ( وَثَانِيهَا ) أَنَّ إخْلَافَ الْوَعْدِ لَا حَرَجَ فِيهِ وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْوَعْدَ الَّذِي يَفِي بِهِ لَمَا احْتَاجَ لِلسُّؤَالِ عَنْهُ ، وَلَمَا ذَكَرَهُ مَقْرُونًا بِالْكَذِبِ ، وَلَكِنْ قَصْدُهُ إصْلَاحُ حَالِ امْرَأَتِهِ بِمَا لَا يَفْعَلُهُ فَتَخَيَّلَ الْحَرَجَ فِي ذَلِكَ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ ، وَفِي أَبِي دَاوُد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إذَا وَعَدَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ ، وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ فَلَمْ يَفِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ } فَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ تَقْتَضِي عَدَمَ الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ ، وَالْكَذِبُ لَيْسَ بِمُبَاحٍ فَلَا يَكُونُ الْوَعْدُ يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ عَكْسُ الْأَدِلَّةِ

الْأُوَلِ ، وَاعْلَمْ أَنَّا إذَا فَسَّرْنَا الْكَذِبَ بِالْخَبَرِ الَّذِي لَا يُطَابِقُ لَزِمَ دُخُولُ الْكَذِبِ فِي الْوَعْدِ بِالضَّرُورَةِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ يَأْبَاهُ ، وَكَذَلِكَ التَّأْثِيمُ فَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ الْكَذِبُ يَخْتَصُّ بِالْمَاضِي وَالْحَاضِرَ ، وَالْوَعْدُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ ، وَسَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِسَبَبِ أَنَّ الْمُسْتَقْبَلَ زَمَانٌ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ ، وَلَمْ يَقَعْ فِيهِ بُعْدُ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ فَلَا يُوصَفُ الْخَبَرُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِعَدَمِ الْمُطَابَقَةِ ، وَلَا بِالْمُطَابَقَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ مَا يَقْتَضِي أَحَدَهُمَا ، وَحَيْثُ قُلْنَا الصِّدْقُ الْقَوْلُ الْمُطَابِقُ ، وَالْكَذِبُ الْقَوْلُ الَّذِي لَيْسَ بِمُطَابِقٍ ظَاهِرٌ فِي وُقُوعِ وَصْفِ الْمُطَابَقَةِ أَوْ عَدَمِهَا بِالْفِعْلِ ، وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْحَالِ وَالْمَاضِي .
وَأَمَّا الْمُسْتَقْبَلُ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا قَبُولُ الْمُطَابَقَةِ وَعَدَمِهَا ، وَنَحْنُ مَتَى حَدَّدْنَا بِوَصْفٍ نَحْوِ قَوْلِنَا فِي الْإِنْسَانِ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ أَوْ نَحْوُهُ إنَّمَا نُرِيدُ الْحَيَاةَ وَالنُّطْقَ بِالْفِعْلِ لَا بِالْقُوَّةِ ، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّهُ إنْسَانًا لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْحَيَاةِ ، وَالنُّطْقِ ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْكُلُّ يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ ، وَإِنَّمَا سُومِحَ فِي الْوَعْدِ تَكْثِيرًا لِلْعِدَةِ بِالْمَعْرُوفِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْكَذِبِ وَالْوَعْدِ ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي ظَهَرَ لِي لِعَدَمِ تَعَيُّنِ الْمُطَابَقَةِ وَعَدَمِهَا اللَّذَيْنِ هُمَا ضَابِطَا الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ ، وَعَلَى ذَلِكَ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَذِبِ وَبَيْنَ الصِّدْقِ فَلَا يُوصَفُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَيَخْتَصُّ بِالْمَاضِي وَالْحَاضِرِ فَإِنْ قُلْت يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي وَعْدِ الشَّرَائِعِ وَوَعِيدِهَا فَلَا يُوصَفَانِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَيْسَ

كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ } ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ } { هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى دُخُولِ الصِّدْقِ فِي وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَعِيدِهِ ، وَالْأَصْلُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ ( قُلْت ) اللَّهُ تَعَالَى يُخْبِرُ عَنْ مَعْلُومٍ ، وَكُلُّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْعِلْمُ تَجِبُ مُطَابَقَتُهُ بِخِلَافِ وَاحِدٍ مِنْ الْبَشَرِ إنَّمَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَأَنْ لَا يَقَعَ فَلَا تَكُونُ الْمُطَابَقَةُ وَعَدَمُهَا مَعْلُومَيْنِ ، وَلَا وَاقِعَيْنِ فَانْتَفَيَا بِالْكُلِّيَّةِ وَقْتَ الْإِخْبَارِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْوَعْدِ هَلْ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ شَرْعًا أَمْ لَا قَالَ مَالِكٌ إذَا سَأَلَك أَنْ تَهَبَ لَهُ دِينَارًا فَقُلْت نَعَمْ ثُمَّ بَدَا لَك لَا يَلْزَمُك ، وَلَوْ كَانَ افْتِرَاقُ الْغُرَمَاءِ عَنْ وَعْدٍ وَإِشْهَادٍ لِأَجْلِهِ لَزِمَك لِإِبْطَالِك مَغْرَمًا بِالتَّأْخِيرِ قَالَ سَحْنُونٌ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ الْوَعْدِ قَوْلُهُ اهْدِمْ دَارَك ، وَأَنَا أُسَلِّفُك مَا تَبْنِي بِهِ أَوْ اُخْرُجْ إلَى الْحَجِّ ، وَأَنَا أُسَلِّفُك أَوْ اشْتَرِ سِلْعَةً أَوْ تَزَوَّجْ امْرَأَةً ، وَأَنَا أُسَلِّفُك لِأَنَّك أَدْخَلْته بِوَعْدِك فِي ذَلِكَ أَمَّا مُجَرَّدُ الْوَعْدِ فَلَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ بَلْ الْوَفَاءُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ .
وَقَالَ أَصْبَغُ يُقْضَى عَلَيْك بِهِ تَزَوَّجَ الْمَوْعُودُ أَمْ لَا ، وَكَذَا أَسْلِفْنِي لِأَشْتَرِيَ سِلْعَةَ كَذَا لَزِمَك تَسَبَّبَ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا ، وَاَلَّذِي لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَعِدَهُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبٍ فَيَقُولَ لَك أَسْلِفْنِي كَذَا فَتَقُولَ نَعَمْ بِذَلِكَ قَضَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِنْ وَعَدْت غَرِيمَك بِتَأَخُّرِ الدَّيْنِ لَزِمَك لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لَازِمٌ لِلْحَقِّ سَوَاءٌ قُلْت لَهُ أُؤَخِّرُك أَوْ أَخَّرْتُك ، وَإِذَا أَسْلَفْته فَعَلَيْك

تَأْخِيرُهُ مُدَّةً تَصْلُحُ لِذَلِكَ ، وَحِينَئِذٍ نَقُولُ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي يَقْتَضِي بَعْضُهَا الْوَفَاءَ بِهِ ، وَبَعْضُهَا عَدَمَ الْوَفَاءِ بِهِ أَنَّهُ إنْ أَدْخَلَهُ فِي سَبَبٍ يَلْزَمُ بِوَعْدِهِ لَزِمَ كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٌ أَوْ وَعَدَهُ مَقْرُونًا بِذِكْرِ السَّبَبِ كَمَا قَالَهُ أَصْبَغُ لِتَأَكُّدِ الْعَزْمِ عَلَى الدَّفْعِ حِينَئِذٍ وَيُحْمَلُ عَدَمُ اللُّزُومِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ فِي الْآيَةِ إنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَقُولُونَ جَاهَدْنَا ، وَمَا جَاهَدُوا ، وَفَعَلْنَا أَنْوَاعًا مِنْ الْخَيْرَاتِ ، وَمَا فَعَلُوهَا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ لِأَنَّهُ كَذِبٌ ، وَلِأَنَّهُ تَسْمِيعٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَكِلَاهُمَا مُحَرَّمٌ وَمَعْصِيَةٌ اتِّفَاقًا .
وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ الْإِخْلَافِ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سَجِيَّةٌ لَهُ ، وَمُقْتَضَى حَالِهِ الْإِخْلَافُ ، وَمِثْلُ هَذِهِ السَّجِيَّةِ يَحْسُنُ الذَّمُّ بِهَا كَمَا يُقَالُ سَجِيَّتُهُ تَقْتَضِي الْبُخْلَ وَالْمَنْعَ فَمَنْ كَانَتْ صِفَاتُهُ تَحُثُّ عَلَى الْخَيْرِ مُدِحَ أَوْ تَحُثُّ عَلَى الشَّرِّ ذُمَّ شَرْعًا وَعُرْفًا ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي هَذَا الْفَرْقِ مِنْ مُخَالَفَةِ بَعْضِ الظَّوَاهِرِ إنْ جَعَلْنَا الْوَعْدَ يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ بَطَلَ { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلسَّائِلِ لَمَّا قَالَ لَهُ أَأَكْذِبُ لِامْرَأَتِي قَالَ لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ } ، وَأَبَاحَ لَهُ الْوَعْدَ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِكَذِبٍ ، وَلَا يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ ، وَلِأَنَّ الْكَذِبَ حَرَامٌ إجْمَاعًا فَيَلْزَمُ مَعْصِيَتُهُ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ نَفْيًا لِلْمَعْصِيَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَإِنْ قُلْنَا إنَّ الْكَذِبَ لَا يَدْخُلُهُ ، وَرُدَّ عَلَيْنَا ظَوَاهِرُ وَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ، وَمَا ذَكَرْته أَقْرَبُ الطُّرُقِ فِي ذَلِكَ .

( الْفَرْقُ الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْكَذِبِ وَقَاعِدَةِ الْوَعْدِ ، وَمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مِنْهُ ، وَمَا لَا يَجِبُ إلَى آخِرِ قَوْلِهِ ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { وَأْيُ الْمُؤْمِنِ وَاجِبٌ أَيْ وَعْدُهُ } وَاجِبُ الْوَفَاءِ بِهِ ) قُلْت مَا قَالَهُ صَحِيحٌ ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ قَالَ ( وَفِي الْمُوَطَّإِ { قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْذِبُ لِامْرَأَتِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعِدُهَا وَأَقُولُ لَهَا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا جُنَاحَ عَلَيْك } فَمَنَعَهُ مِنْ الْكَذِبِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّ رِضَى النِّسَاءِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِهِ ) قُلْت مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ مَنَعَهُ مِنْ الْكَذِبِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُسْتَقْبَلِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، وَهِيَ دَعْوَى لَمْ يَأْتِ عَلَيْهَا بِحُجَّةٍ ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْكَذِبِ لَهَا أَنْ يُخْبِرَهَا عَنْ فِعْلِهِ مَعَ غَيْرِهَا مِنْ النِّسَاءِ بِمَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ تَغْيِيظُهَا بِزَوْجَتِهِ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرَهُ كَيْفَ وَأَنَّ مَا ذَكَرَهُ هُوَ عَيْنُ الْوَعْدِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا يُخْبِرُهَا عَنْ وُقُوعِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُتَعَلِّقًا بِهَا ، وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ لَهَا هِيَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهَا .
وَمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ عِنْدِي إلَّا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَعَهُ مِنْ أَنْ يُخْبِرَهَا بِخَبَرٍ كَذِبٍ يَقْتَضِي تَغْيِيظَهَا بِهِ ، وَسَوَّغَ لَهُ الْوَعْدَ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْإِخْلَافُ لِاحْتِمَالِ الْوَفَاءِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ عَازِمًا عِنْدَ الْوَعْدِ عَلَى الْوَفَاءِ أَوْ عَلَى الْإِخْلَافِ أَوْ مُضْرِبًا عَنْهُمَا ، وَيَتَخَرَّجُ ذَلِكَ فِي قِسْمِ الْعَزْمِ عَلَى الْإِخْلَافِ عَلَى الرَّأْيِ الصَّحِيحِ الْمَنْصُورِ عِنْدِي مِنْ أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَا مُؤَاخَذَةَ بِهِ إذْ مُعْظَمُ دَلَائِلِ

الشَّرِيعَةِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ الْإِخْلَافِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَنَفْيُ الْجُنَاحِ عَنْ الْوَعْدِ ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ إخْلَافَ الْوَعْدِ لَا يُسَمَّى كَذِبًا لِجَعْلِهِ قَسِيمَ الْكَذِبِ ) قُلْت قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ قَسِيمَ الْكَذِبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذِبٌ ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ قَسِيمَ الْخَبَرِ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي هُوَ كَذِبٌ فَكَانَ قَسِيمُهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُسْتَقْبَلًا ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَقْبَلٍ أَوْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ قَدْ تَعَيَّنَ أَنَّهُ كَذِبٌ ، وَالْوَعْدُ لَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ كَذِبًا .
قَالَ ( وَثَانِيهِمَا أَنَّ إخْلَافَ الْوَعْدِ لَا حَرَجَ فِيهِ ) قُلْت بَلْ فِيهِ الْحَرَجُ بِمُقْتَضَى ظَوَاهِرِ الشَّرْعِ إلَّا حَيْثُ يَتَعَذَّرُ الْوَفَاءُ قَالَ ( وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْوَعْدَ الَّذِي يَفِي بِهِ لَمَّا احْتَاجَ لِلسُّؤَالِ عَنْهُ ، وَلَمَا ذَكَرَهُ مَقْرُونًا بِالْكَذِبِ ) قُلْت لَمْ يَقْصِدْ الْوَعْدَ الَّذِي يَفِي فِيهِ عَلَى التَّعْيِينِ ، وَمِنْ أَيْنَ لَهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْوَعْدَ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَسَأَلَ عَنْهُ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي عَدَمِ الْوَفَاءِ اضْطِرَارًا أَوْ اخْتِيَارًا قَائِمٌ ، وَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ الْجُنَاحَ لِاحْتِمَالِ الْوَفَاءِ ثُمَّ إنَّهُ إنْ وَفَّى فَلَا جُنَاحَ ، وَإِنْ لَمْ يَفِ مُضْطَرًّا فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَفِ مُخْتَارًا فَالظَّوَاهِرُ الْمُتَظَاهِرَةُ قَاضِيَةٌ بِالْحَرَجِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَلَكِنْ قَصْدُهُ إصْلَاحُ حَالِ امْرَأَتِهِ بِمَا لَا يَفْعَلُهُ فَتَخَيَّلَ الْحَرَجَ فِي ذَلِكَ فَاسْتَأْذَنَ فِي ذَلِكَ ) .
قُلْت مَا قَالَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَمِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ ، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الْوَعْدِ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ مِمَّا وَعَدَ بِهِ مِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ عَدَمَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَإِذَا تَعَذَّرَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُهُ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ الْوَفَاءِ أَوْ الْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ فَسَوَّغَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِأَنَّ عَدَمَ الْوَفَاءِ لَا يَتَعَيَّنُ أَوْ لِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ عَدَمَ الْوَفَاءِ مَعْصِيَةٌ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ .
قَالَ ( وَفِي أَبِي دَاوُد قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا وَعَدَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ ، وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ فَلَمْ يَفِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ } إلَى قَوْلِهِ عَكْسُ الْأَدِلَّةِ الْأُوَلُ ) قُلْت تُحْمَلُ هَذِهِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفِ مُضْطَرًّا جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ مَعَ بُعْدِ تَأْوِيلِ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ ، وَقُرْبِ تَأْوِيلِ هَذِهِ قَالَ ( وَاعْلَمْ أَنَّا إذَا فَسَّرْنَا الْكَذِبَ بِالْخَبْرِ الَّذِي لَا يُطَابِقُ لَزِمَ دُخُولُ الْكَذِبِ فِي الْوَعْدِ بِالضَّرُورَةِ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ ( مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ يَأْبَاهُ ، وَكَذَلِكَ عَدَمُ التَّأْثِيمِ ) قُلْت يَلْزَمُ تَأْوِيلُ ذَلِكَ قَالَ ( فَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ الْكَذِبُ يَخْتَصُّ بِالْمَاضِي وَالْحَاضِرِ ، وَالْوَعْدُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ ، وَسَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ ، وَنَحْوِهَا ) قُلْت قَوْلُهُمْ ذَلِكَ دَعْوَى يُكَذِّبُهَا دُخُولُ عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ فِي الْوَعْدِ وَفِي كُلِّ مُسْتَقْبَلٍ سِوَاهُ قَالَ ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِسَبَبِ أَنَّ الْمُسْتَقْبَلَ زَمَانٌ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ ، وَلَمْ يَقَعْ فِيهِ بَعْدُ وُجُودٌ ، وَلَا عَدَمٌ فَلَا يُوصَفُ الْخَبَرُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِعَدَمِ الْمُطَابَقَةِ ، وَلَا بِالْمُطَابَقَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بَعْدَمَا يَقْتَضِي أَحَدَهُمَا ، وَحَيْثُ قُلْنَا الصِّدْقُ الْقَوْلُ الْمُطَابِقُ ، وَالْكَذِبُ الْقَوْلُ الَّذِي لَيْسَ بِمُطَابِقٍ ظَاهِرٌ فِي وُقُوعِ وَصْفِ الْمُطَابَقَةِ أَوْ عَدَمِهَا بِالْفِعْلِ ، وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْحَالِ ، وَالْمَاضِي ، وَأَمَّا الْمُسْتَقْبَلُ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا قَبُولُ الْمُطَابَقَةِ وَعَدَمُهَا ) قُلْت هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يُخَالِفُوا الْأَوَّلَ فِي كَوْنِ الْكَذِبِ لَا يُدْخِلُ الْوَعْدَ ، وَلَكِنَّهُمْ عَيَّنُوا

السَّبَبَ فِي ذَلِكَ ، وَبَسَّطُوهُ ، وَمَسَاقُ الْمُؤَلِّفِ لِقَوْلِ هَؤُلَاءِ مَفْصُولًا عَنْ قَوْلِ أُولَئِكَ يُشْعِرُ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ قَوْلٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ قَالَ ( وَنَحْنُ مَتَى حَدَّدْنَا بِوَصْفٍ نَحْوُ قَوْلِنَا فِي الْإِنْسَانِ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ أَوْ نَحْوُهُ إنَّمَا نُرِيدُ الْحَيَاةَ ، وَالنُّطْقَ بِالْفِعْلِ لَا بِالْقُوَّةِ ، وَإِلَّا لَكَانَ الْجَمَادُ وَالنَّبَاتُ كُلُّهُ إنْسَانًا لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْحَيَاةِ وَالنُّطْقِ ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ ) قُلْت مَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ فِي حَدِّ الْإِنْسَانِ مُشْعِرٌ بِجَهْلِهِ بِالْحُدُودِ وَقَصْدِ أَرْبَابِهَا فَإِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ حُصُولَ الْوَصْفِ بِالْفِعْلِ فَإِنَّ الطِّفْلَ الرَّضِيعَ عِنْدَهُمْ إنْسَانٌ مَعَ أَنَّ النُّطْقَ الَّذِي هُوَ الْعَقْلُ فِيهِ مَفْقُودٌ فِيهِ بِالْفِعْلِ ، وَمَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ حَيْثُ قَالَ وَإِلَّا لَكَانَ الْجَمَادُ وَالنَّبَاتُ كُلُّهُ إنْسَانًا لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْحَيَاةِ مُشْعِرٌ بِجَهْلِهِ بِمَذْهَبِ أَرْبَابِ الْحُدُودِ ، وَهُمْ الْفَلَاسِفَةُ فِي الْحَقَائِقِ ، وَأَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ بِصِفَاتِهَا الذَّاتِيَّةِ فَلَا تَقْبَلُ حَقِيقَةٌ مِنْهَا صِفَةَ الْأُخْرَى فَالْحَيَوَانُ لَا يَقْبَلُ أَنْ يَكُونَ جَمَادًا ، وَالْجَمَادُ لَا يَقْبَلُ أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ ( هَذَا التَّعْلِيلَ يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ يُشْعِرُ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُمَا قَوْلَانِ ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ) قُلْت ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي الْحُدُودِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ الْأَوْصَافُ فِيهَا بِالْفِعْلِ بَطَلَ كُلُّ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنَّ الْوَعْدَ لَا يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ لِأَنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ ، وَصَحَّ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ يَدْخُلُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَابِلٌ لِذَلِكَ ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لَا يَصِحُّ سِوَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْكُلُّ يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ ، وَإِنَّمَا سُومِحَ فِي الْوَعْدِ تَكْثِيرًا لِلْعِدَةِ بِالْمَعْرُوفِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا فَرْقَ

بَيْنَ الْكَذِبِ وَالْوَعْدِ ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي ظَهَرَ لِي لِعَدَمِ تَعَيُّنِ الْمُطَابَقَةِ وَعَدَمِهَا اللَّذَيْنِ هُمَا ضَابِطَا الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ ، وَعَلَى ذَلِكَ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَذِبِ وَبَيْنَ الصِّدْقِ فَلَا يُوصَفُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَيَخْتَصُّ بِالْمَاضِي وَالْحَاضِرِ ) قُلْت الصَّحِيحُ نَقِيضُ مُخْتَارِهِ ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ هُنَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( فَإِنْ قُلْت يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي وَعْدِ الشَّرَائِعِ وَوَعِيدِهَا فَلَا يُوصَفَانِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إلَى قَوْلِهِ فَانْتَفَيَا بِالْكُلِّيَّةِ وَقْتَ الْإِخْبَارِ ) قُلْت السُّؤَالُ ، وَارِدٌ لَازِمٌ ، وَالْجَوَابُ سَاقِطٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحَقَائِقَ لَا تَتَغَيَّرُ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ الْمُخْبَرِ بِهَا عَنْهَا ، وَلَا بِحَسَبِ حَالٍ دُونَ حَالٍ فَالْخَبَرُ الْقَابِلُ لِلصِّدْقِ أَوْ الْكَذِبِ قَابِلٌ لَهُمَا ، وَالْخَبَرُ الْقَابِلُ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ كَذَلِكَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَاعْلَمْ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْوَعْدِ هَلْ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ شَرْعًا أَمْ لَا إلَى آخِرِ الْفَرْقِ ) قُلْت الصَّحِيحُ عِنْدِي الْقَوْلُ بِلُزُومِ الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ مُطْلَقًا فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى خِلَافِ الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُؤَلِّفُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، وَمَا قَالَهُ بَعْدَ هَذَا فِي الْفُرُوقِ التِّسْعَةِ صَحِيحٌ أَوْ نَقْلٌ ، وَتَرْجِيحٌ .

الْفَرْقُ الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْكَذِبِ ، وَقَاعِدَةِ الْوَعْدِ ، وَمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مِنْهُ وَمَا لَا يَجِبُ ) اعْلَمْ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى قِسْمَيْنِ ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) مَا ظَاهِرُهُ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْكَذِبِ وَقَاعِدَةِ الْوَعْدِ كَحَدِيثِ الْمُوَطَّإِ { قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَأَكْذِبُ لِامْرَأَتِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعِدُهَا وَأَقُولُ لَهَا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا جُنَاحَ عَلَيْك } ، وَحَدِيثُ أَبِي دَاوُد قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا وَعَدَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ فَلَمْ يَفِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ } وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي عَدَمَ الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ وَأَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ ، وَالْكَذِبُ لَيْسَ بِمُبَاحٍ فَلَا يَدْخُلُ الْكَذِبُ فِي الْوَعْدِ ( وَالْقِسْمُ الثَّانِي ) مَا ظَاهِرُهُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } فَإِنَّ الْوَعْدَ إذَا أُخْلِفَ قَوْلٌ لَمْ يُفْعَلْ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا مُحَرَّمًا ، وَأَنْ يَحْرُمَ إخْلَافُ الْوَعْدِ مُطْلَقًا .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مِنْ عَلَامَةِ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ } فَذِكْرُهُ فِي سِيَاقِ الذَّمِّ دَلِيلٌ عَلَى التَّحْرِيمِ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { وَأْيُ الْمُؤْمِنِ وَاجِبٌ أَيْ وَعْدُهُ } وَاجِبُ الْوَفَاءِ بِهِ فَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مُعَارِضًا لِظَاهِرِ الْقِسْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ بِحَيْثُ لَوْ أُخِذَ بِهِ ، وَقِيلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، وَأَنَّ الْوَعْدَ لَا يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ لَزِمَ مُخَالَفَةُ ظَاهِرِ الْقِسْمِ الثَّانِي بَلْ .
وقَوْله تَعَالَى { وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ }

وَصَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ } { هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى دُخُولِ الصِّدْقِ فِي وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَعِيدِهِ ، وَالْأَصْلُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ ، وَكَانَ ظَاهِرُ الثَّانِي كَذَلِكَ مُعَارِضًا لِظَاهِرِ الْأَوَّلِ حَتَّى صَارَ بِحَيْثُ لَوْ أُخِذَ بِهِ ، وَقِيلَ بِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ الْوَعْدَ يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ لَزِمَ مُخَالَفَةُ ظَاهِرِ الْأَوَّلِ ، وَتَعَيَّنَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ الْمُتَعَارِضَةِ ، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَقْرُبُ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ مِنْهُمَا ، وَمَا يُؤَوَّلُ عَلَى قَوْلَيْنِ ( الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ) تَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِظَاهِرِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، وَتَأْوِيلِ ظَاهِرِ الْقِسْمِ الثَّانِي ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَعِيدِهِ وَبَيْنَ وَعْدِ غَيْرِهِ تَعَالَى ، قَالَ الْكَذِبُ يَخْتَصُّ بِالْمَاضِي وَالْحَاضِرِ ، وَالْوَعْدُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَنَا الصِّدْقُ الْقَوْلُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ ، وَالْكَذِبُ الْقَوْلُ الَّذِي لَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ ظَاهِرٌ فِي وُقُوعِ وَصْفِ الْمُطَابَقَةِ ، وَعَدَمِهَا بِالْفِعْلِ ، وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْحَالِ وَالْمَاضِي .
وَأَمَّا الْمُسْتَقْبَلُ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا قَبُولُ الْمُطَابَقَةِ ، وَعَدَمُهَا أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّا إذَا حَدَّدْنَا بِوَصْفٍ بِأَنْ قُلْنَا فِي الْإِنْسَانِ مَثَلًا الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ إنَّمَا نُرِيدُ الْحَيَاةَ وَالنُّطْقَ بِالْفِعْلِ لَا بِالْقُوَّةِ ، وَإِلَّا كَانَ الْجَمَادُ وَالنَّبَاتُ كُلُّهُ إنْسَانًا لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْحَيَاةِ وَالنُّطْقِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ حَدِيثَ الْمُوَطَّإِ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ إخْلَافَ الْوَعْدِ لَا يُسَمَّى كَذِبًا لِجَعْلِهِ قَسِيمَ الْكَذِبِ ( وَثَانِيهِمَا ) أَنَّ إخْلَافَ الْوَعْدِ لَا حَرَجَ فِيهِ إذْ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْوَعْدُ الَّذِي يَفِي بِهِ لَمَا احْتَاجَ لِلسُّؤَالِ

عَنْهُ ، وَلَمَا ذَكَرَهُ مَقْرُونًا بِالْكَذِبِ ، وَلَكِنْ قَصْدُهُ إصْلَاحُ حَالِ امْرَأَتِهِ بِمَا لَا يَفْعَلُهُ فَتَخَيَّلَ الْحَرَجَ فِي ذَلِكَ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي دَاوُد يَقْتَضِي أَنَّ عَدَمَ الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ مُبَاحٌ عَكْسُ ظَاهِرِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَوَّلًا بِاخْتِصَاصِ الْوَعْدِ بِالْمُسْتَقْبَلِ وَالْكَذِبِ بِالْمَاضِي وَالْحَالِ .
وَثَانِيًا بِعَدَمِ التَّأْثِيمِ فِي الْأَوَّلِ وَالتَّأْثِيمِ فِي الثَّانِي كَمَا هُوَ ظَاهِرُ حَدِيثَيْ الْمُوَطَّإِ وَأَبِي دَاوُد السَّابِقَيْنِ ، وَالْجَوَابُ عَنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ مَحْمُولٌ إمَّا عَلَى أَنَّ الْمُوعِدَ أَدْخَلَ الْمَوْعُودَ فِي سَبَبٍ يُلْزِمُهُ بِوَعْدِهِ كَمَا لِمَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٍ أَمَّا مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ فَقَالَا إذَا سَأَلَك أَنْ تَهَبَ لَهُ دِينَارًا فَقُلْت نَعَمْ ثُمَّ بَدَا لَك لَا يَلْزَمُك ، وَلَوْ كَانَ افْتِرَاقُ الْغُرَمَاءِ عَنْ وَعْدٍ وَإِشْهَادٍ لِأَجْلِهِ لَزِمَك لِإِبْطَالِهِ مَغْرَمًا بِالتَّأْخِيرِ .
وَأَمَّا سَحْنُونٌ فَقَالَ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ الْوَعْدِ قَوْلُهُ اهْدِمْ دَارَك ، وَأَنَا أُسَلِّفُك مَا يُبْنَى بِهِ أَوْ اُخْرُجْ إلَى الْحَجِّ ، وَأَنَا أُسَلِّفُك أَوْ اشْتَرِ سِلْعَةً أَوْ تَزَوَّجْ امْرَأَةً ، وَأَنَا أُسَلِّفُك لِأَنَّك أَدْخَلْته بِوَعْدِك فِي ذَلِكَ أَمَّا مُجَرَّدُ الْوَعْدِ فَلَا يَلْزَمُك الْوَفَاءُ بِهِ بَلْ الْوَفَاءُ بِهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ا هـ .
وَأَمَّا عَلَى أَنَّهُ وَعَدَهُ مَقْرُونًا بِذِكْرِ السَّبَبِ كَمَا لِأَصْبَغَ حَيْثُ قَالَ يُقْضَى عَلَيْك بِهِ تَزَوَّجَ الْمَوْعُودُ أَمْ لَا ، وَكَذَا أَسْلِفْنِي لِأَشْتَرِيَ سِلْعَةَ كَذَا لَزِمَك تَسَبَّبَ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا ، وَاَلَّذِي لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَعِدَهُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبٍ فَيَقُولَ لَك أَسْلِفْنِي كَذَا فَتَقُولَ نَعَمْ بِذَلِكَ قَضَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِنْ وَعَدْت غَرِيمَك بِتَأْخِيرِ الدَّيْنِ لَزِمَك لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لَازِمٌ لِلْحَقِّ سَوَاءٌ قُلْت لَهُ أُؤَخِّرُك أَوْ أَخَّرْتُك ، وَإِذَا

أَسْلَفْته فَعَلَيْك تَأْخِيرُهُ مُدَّةً تَصْلُحُ لِذَلِكَ ا هـ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَقُولُونَ جَاهَدْنَا وَمَا جَاهَدُوا ، وَفَعَلْنَا أَنْوَاعًا مِنْ الْخَيْرَاتِ ، وَمَا فَعَلُوهُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ لِأَنَّهُ كَذِبٌ ، وَتَسْمِيعٌ بِطَاعَةٍ ، وَكِلَاهُمَا مُحَرَّمٌ وَمَعْصِيَةٌ اتِّفَاقًا ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْإِخْلَافِ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ سَجِيَّةٌ لَهُ ، وَمُقْتَضَى حَالِهِ الْإِخْلَافُ ، وَمِثْلُ هَذِهِ السَّجِيَّةِ يَحْسُنُ الذَّمُّ بِهَا كَمَا يُقَالُ سَجِيَّةٌ تَقْتَضِي الْبُخْلَ وَالْمَنْعَ فَمَنْ كَانَ صِفَتُهُ تَحُثُّ عَلَى الْخَيْرِ مُدِحَ أَوْ تَحُثُّ عَلَى الشَّرِّ ذُمَّ شَرْعًا وَعُرْفًا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَعِيدِهِ وَبَيْنَ وَعْدِ غَيْرِهِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخْبِرُ عَنْ مَعْلُومٍ ، وَكُلُّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْعِلْمُ تَجِبُ مُطَابَقَتُهُ بِخِلَافِ وَاحِدٍ مِنْ الْبَشَرِ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَأَنْ لَا يَقَعَ فَلَا تَكُونُ الْمُطَابَقَةُ وَعَدَمُهَا مَعْلُومَيْنِ ، وَلَا وَاقِعَيْنِ فَانْتَفَيَا بِالْكُلِّيَّةِ وَقْتَ الْإِخْبَارِ .
وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الْأَصْلُ فَقَالَ هَذَا هُوَ الَّذِي ظَهَرَ لِي لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الطُّرُقِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ الْمُتَعَارِضَةِ ( وَالْقَوْلُ الثَّانِي ) تَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِظَاهِرِ الْقِسْمِ الثَّانِي ، وَتَأْوِيلُ ظَاهِرِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ قَالَ يُفَسَّرُ الْكَذِبُ بِالْخَبَرِ الَّذِي لَا يُطَاقُ الْوَاقِعُ ، وَكُلٌّ مِنْ الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي وَالْحَالِ يَدْخُلُهُ وَصْفُ الْمُطَابَقَةِ وَعَدَمُهَا ، وَلَيْسَ الْوُقُوعُ بِالْفِعْلِ شَرْطًا فَيَدْخُلُ الْكَذِبُ فِي الْكُلِّ ، وَيَلْزَمُ دُخُولُ الْكَذِبِ فِي الْوَعْدِ بِالضَّرُورَةِ ، وَإِنَّمَا سُومِحَ فِي الْوَعْدِ تَكْثِيرًا لِلْعِدَةِ بِالْمَعْرُوفِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكَذِبِ ، وَالْوَعْدِ قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الشَّاطِّ مَا خُلَاصَتُهُ ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِوُجُوهٍ : ( الْوَجْهُ

الْأَوَّلُ ) أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُدُودَ تَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ الْأَوْصَافُ فِيهَا بِالْفِعْلِ إذْ لَوْ اسْتَلْزَمَتْ ذَلِكَ لَخَرَجَ الطِّفْلُ الرَّضِيعُ عَنْ الْإِنْسَانِ ضَرُورَةَ أَنَّ النُّطْقَ الَّذِي هُوَ الْعَقْلُ مَفْقُودٌ فِيهِ بِالْفِعْلِ مَعَ أَنَّهُ عِنْدَ أَرْبَابِ الْحُدُودِ ، وَهُمْ الْفَلَاسِفَةُ إنْسَانٌ ، وَدَعْوَى أَنَّهُ إذَا لَمْ تَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ كَانَ الْجَمَادُ وَالنَّبَاتُ كُلُّهُ إنْسَانًا لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْحَيَاةِ وَالنُّطْقِ جَهْلٌ بِمَذْهَبِ أَرْبَابِ الْحُدُودِ ، وَهُمْ الْفَلَاسِفَةُ فِي الْحَقَائِقِ ، وَأَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ بِصِفَاتِهَا الذَّاتِيَّةِ فَلَا تَقْبَلُ حَقِيقَةٌ مِنْهَا صِفَةَ الْأُخْرَى فَالْحَيَوَانُ لَا يَقْبَلُ أَنْ يَكُونَ جَمَادًا ، وَالْجَمَادُ لَا يَقْبَلُ أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي الْحُدُودِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ الْأَوْصَافُ فِيهَا بِالْفِعْلِ بَطَلَ كُلُّ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنَّ الْوَعْدَ لَا يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ لِأَنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ ، وَصَحَّ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ يَدْخُلُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَابِلٌ لِذَلِكَ ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لَا يَصِحُّ سِوَاهُ .
( الْوَجْهُ الثَّانِي ) أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِحَدِيثِ الْمُوَطَّإِ عِنْدِي إلَّا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَعَ السَّائِلَ لَهُ مِنْ أَنْ يُخْبِرَ زَوْجَتَهُ بِخَبَرٍ يَقْتَضِي تَغَيُّظَهَا بِهِ كَأَنْ يُخْبِرَهَا عَنْ فِعْلِهِ مَعَ غَيْرِهَا مِنْ النِّسَاءِ بِمَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ تَغَيُّظًا بِزَوْجَتِهِ ، وَسُوِّغَ لَهُ الْوَعْدُ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْإِخْلَافُ لِاحْتِمَالِ الْوَفَاءِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ عَازِمًا عِنْدَ الْوَعْدِ عَلَى الْوَفَاءِ أَوْ عَلَى الْإِخْلَافِ أَوْ مُضْرِبًا عَنْهُمَا ، وَيَتَخَرَّجُ ذَلِكَ فِي قِسْمِ الْعَزْمِ عَلَى الْإِخْلَافِ عَلَى الرَّأْيِ الصَّحِيحِ الْمُتَصَوَّرِ عِنْدِي مِنْ أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَا مُؤَاخَذَةَ بِهِ إذْ مُعْظَمُ دَلَائِلِ الشَّرِيعَةِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ الْإِخْلَافِ ، وَأَنَّ السَّائِلَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا

قَصَدَ الْوَعْدَ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَسَأَلَ عَنْهُ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي عَدَمِ الْوَفَاءِ إضْرَارًا أَوْ اخْتِيَارًا قَائِمٌ ، وَرَفَعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ الْجُنَاحَ لِاحْتِمَالِ الْوَفَاءِ ثُمَّ إنَّهُ إنْ وَفَى فَلَا جُنَاحَ ، وَإِنْ لَمْ يَفِ مُضْطَرًّا فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَفِ مُخْتَارًا فَالظَّوَاهِرُ الْمُتَضَافِرَةُ قَاضِيَةٌ بِالْحَرَجِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْعَلْ الْوَعْدَ قَسِيمًا لِلْكَذِبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذِبٌ ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ قَسِيمًا لِلْخَبَرِ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي هُوَ كَذِبٌ فَكَانَ قَسِيمَهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُسْتَقْبَلًا ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَقْبَلٍ أَوْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ قَدْ تَعَيَّنَ أَنَّهُ كَذِبٌ ، وَالْوَعْدُ لَا يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ كَذِبٌ .
وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَعَ السَّائِلَ مِنْ الْكَذِبِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَمُجَرَّدُ دَعْوَى لَمْ تَقُمْ عَلَيْهَا حُجَّةٌ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا قَالَهُ كَيْفَ ، وَأَنَّ مَا قَالَهُ هُوَ عَيْنُ الْوَعْدِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا يُخْبِرُهَا عَنْ وُقُوعِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُتَعَلِّقًا بِهَا ، وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ لَهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهَا ، وَمَا قِيلَ إنَّ السَّائِلَ لَمْ يَقْصِدْ الْوَعْدَ الَّذِي نَفَى بِهِ بَلْ قَصَدَ الْوَعْدَ الَّذِي لَا نَفْيَ فِيهِ عَلَى التَّعْيِينِ فَمُجَرَّدُ دَعْوَى كَذَلِكَ إذْ مِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ ، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الْوَعْدِ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ مِمَّا وَعَدَ بِهِ مِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ عَدَمَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَإِذَا تَعَذَّرَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ سِوَاهُ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ الْوَفَاءِ أَوْ الْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ فَسُوِّغَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ ، وَأَنَّ عَدَمَ الْوَفَاءِ لَا يَتَعَيَّنُ أَوْ لِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ عَدَمَ الْوَفَاءِ مَعْصِيَةٌ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ .
( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) أَنَّ فِي حَمْلِ حَدِيثِ

الْمُوَطَّإِ عَلَى مَا ذُكِرَ ، وَحَمْلِ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفِ مُضْطَرًّا قُرْبًا ، وَفِي حَمْلِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا عَلَى مَا قَالَهُ الشِّهَابُ بُعْدًا أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى دُخُولِ الصِّدْقِ فِي وَعْدِهِ تَعَالَى وَوَعِيدِهِ ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ وَارِدٌ لَازِمٌ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الشِّهَابُ ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ سَاقِطٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحَقَائِقَ لَا تَتَغَيَّرُ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ الْمُخْبَرِ بِهَا عَنْهَا ، وَلَا بِحَسَبِ حَالٍ دُونَ حَالٍ فَالْخَبَرُ الْقَابِلُ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ قَابِلٌ لَهُمَا ، وَالْخَبَرُ الْقَابِلُ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ كَذَلِكَ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدِي الْقَوْلُ بِلُزُومِ الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ مُطْلَقًا أَيْ ، وَلَوْ لَمْ يُدْخِلْهُ فِي سَبَبٍ يَلْزَمُ بِوَعْدِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْرُونًا بِذِكْرِ السَّبَبِ فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى خِلَافِ الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَارَهُ الشِّهَابُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ا هـ .
قُلْت وَفِي قَوْلِ الْعَلَّامَةِ ابْنِ الشَّاطِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذْ لَوْ اسْتَلْزَمَتْ ذَلِكَ لَخَرَجَ ذَلِكَ الطِّفْلُ الرَّضِيعُ عَنْ حَدِّ الْإِنْسَانِ ضَرُورَةً إلَخْ نَظَرٌ إذْ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ النُّطْقِ هُوَ الْعَقْلُ دُخُولُ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ فِي حَدِّ الْإِنْسَانِ لِقَوْلِهِمْ الْعُقَلَاءُ ثَلَاثَةٌ الْإِنْسَانُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ فَيَكُونُ غَيْرَ مَانِعٍ ، وَالْحَقُّ كَمَا فِي شَرْحِ الزُّلْفَى وَغَيْرِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاطِقِ فِي حَدِّ الْإِنْسَانِ مَا هُوَ مَبْدَأُ النُّطْقِ ، وَالتَّكَلُّمِ أَوْ الْإِدْرَاكُ الْمَخْصُوصُ الَّذِي هُوَ الصُّورَةُ النَّوْعِيَّةُ الْإِنْسَانِيَّةُ ا هـ .
وَهَذِهِ الصُّورَةُ جَوْهَرٌ عِنْدَ الْمَشَّائِينَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي مَرْتَبَةٍ لَا يُشْتَرَطُ شَيْءٌ عَلَى مَا حُقِّقَ فِي مَحِلِّهِ ، وَلَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ الْإِنْسَانِ كَمَا فِي رِسَالَتِي السَّوَانِحِ الْجَازِمَةِ فِي التَّعَارِيفِ اللَّازِمَةِ ، وَحِينَئِذٍ فَالصَّوَابُ أَنْ

يَقُولَ إذْ لَوْ اسْتَلْزَمَتْ ذَلِكَ لَخَرَجَ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهِ النُّطْقُ بِمَعْنَى الصُّورَةِ النَّوْعِيَّةِ بِالْفِعْلِ مِنْ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ الَّتِي لَمْ تُوجَدْ مَعَ أَنَّ مَنْ شَرَطَ عِنْدَ أَرْبَابِ عِلْمِ الْمَنْطِقِ ، وَهُمْ الْحُكَمَاءُ لِأَنَّهُ إمَّا جُزْءٌ مِنْ الْحِكْمَةِ أَوْ مُقَدِّمَةٌ لَهَا كَمَا قَالُوا أَنْ يَكُونَ جَامِعًا لِجَمِيعِ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ مَا تَحَقَّقَ مِنْهَا فِي الْخَارِجِ ، وَمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فَمَنْ تَرَاهُمْ بَعْدَ تَعْرِيفِهِمْ الْكُلِّيِّ بِمَا يَمْنَعُ نَفْسَ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُتَصَوَّرُ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ بِحَيْثُ يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ يَقُولُونَ سَوَاءٌ وُجِدَتْ أَفْرَادُهُ فِي الْخَارِجِ ، وَتَنَاهَتْ كَالْكَوْكَبِ فَإِنَّ أَفْرَادَهُ السَّيَّارَةُ وَالثَّوَابِتُ وَالسَّيَّارَةُ سَبْعَةٌ مَجْمُوعَةٌ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ : زُحَلُ شَرُّ مِرِّيخِهِ مِنْ شَمْسِهِ فَتَزَاهَرَتْ لِعُطَارِدٍ الْأَقْمَارُ وَعَدَدُ الْمَرْصُودِ مِنْ الثَّوَابِتِ ذُكِرَ فِي الْهَيْئَةِ ، وَالسَّيَّارَةُ كُلُّ وَاحِدٍ فِي تِلْكَ ، وَالثَّوَابِتُ كُلُّهَا فِي الْفَلَكِ الثَّامِنِ كَمَا حُقِّقَ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ أَمْ وُجِدَتْ فِيهِ ، وَلَمْ تَتَنَاهَ كَكَمَالِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ أَفْرَادَهُ مَوْجُودَةٌ قَدِيمَةٌ لَا تَتَنَاهَى ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحَالَةِ عَدَمِ التَّنَاهِي فِي الْقَدِيمِ أَمْ لَمْ تُوجَدْ فِيهِ أَمَّا مَعَ امْتِنَاعِهَا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ .
وَأَمَّا مَعَ إمْكَانِهَا كَجَبَلٍ مِنْ يَاقُوتٍ وَبَحْرٍ مِنْ زِئْبَقٍ أَمْ وُجِدَ مِنْهَا فَرْدٌ وَاحِدٌ فَقَطْ أَمَّا مَعَ امْتِنَاعِ وُجُودِ غَيْرِهِ كَالْإِلَهِ عِنْدَ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالْمَعْبُودِ بِحَقٍّ ، وَأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ ثُمَّ غَلَبَتْ عَلَيْهَا الْعِلْمِيَّةُ إذْ الدَّلِيلُ الْخَارِجِيُّ قَطَعَ عَنْهُ عِرْقَ الشَّرِيكِ لَكِنَّهُ عِنْدَ الْعَقْلِ لَمْ يَمْتَنِعْ صِدْقُهُ عَلَى كَثِيرِينَ ، وَإِلَّا لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى دَلِيلِ الْوَحْدَانِيَّةِ ، وَأَمَّا مَعَ إمْكَانِ وُجُودِ غَيْرِهِ كَالشَّمْسِ أَيْ الْكَوْكَبِ النَّهَارِيِّ الْمُضِيءِ مِنْهَا

وَاحِدٌ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ مِنْهَا شُمُوسٌ كَثِيرَةٌ كَمَا فِي شَرْحِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ عَلَى أيسا غوجي الْمَنْطِق وَحَاشِيَةِ الْعَطَّارِ عَلَيْهِ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ ، وَلَا تَأْخُذَ الْحَقَّ بِالرِّجَالِ بَلْ الرِّجَالَ بِالْحَقِّ كَمَا هُوَ أَدَبُ أَهْلِ الْكَمَالِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يَقْبَلُهَا ) الَّذِي يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ مَا عُرِّيَ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ الْغَرَرُ كَمَشْرُوعِيَّةِ الْقُرْعَةِ فِي الْمُخْتَلِفَاتِ فَإِنَّ الْغَرَرَ يَعْظُمُ ، الثَّانِي الرِّبَا كَقِسْمَةِ الثِّمَارِ بِشَرْطِ التَّأْخِيرِ إلَى الطِّيبِ بِمَا يَدْخُلُهُ مِنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ غَيْرِ مَعْلُومِ التَّمَاثُلِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ فَإِنْ تَبَايَنَ الْجِنْسُ الْوَاحِدُ بِالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فَفِي جَوَازِهِ بِالْقُرْعَةِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا اللَّخْمِيُّ الثَّالِثُ إضَاعَةُ الْمَالِ كَالْيَاقُوتَةِ .
الرَّابِعُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ كَقَسْمِ الدَّارِ اللَّطِيفَةِ وَالْحَمَّامِ وَالْخَشَبَةِ وَالثَّوْبِ وَالْمِصْرَاعَيْنِ ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ هَذَا الْقَسْمُ بِالتَّرَاضِي لِأَنَّ لِلْآدَمِيِّ إسْقَاطَ حَقِّهِ بِخِلَافِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي إضَاعَةِ الْمَالِ وَغَيْرِهِ ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَسْمَ مَا فِيهِ ضَرَرٌ أَوْ تَغْيِيرُ نَوْعِ الْمَقْسُومِ .
وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ قَسْمَ الرَّقِيقِ ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ مَنَافِعَهُ مُخْتَلِفَةٌ بِالْعَقْلِ وَالشَّجَاعَةِ وَغَيْرِهِمَا فَلَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّعْدِيلُ ، وَجَوَابُهُ لَوْ امْتَنَعَ تَعْدِيلُهُ لَامْتَنَعَ بَيْعُهُ وَتَقْوِيمُهُ لِأَنَّهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْقِيَمِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ دَارَيْنِ فِي الْقَسْمِ ، وَإِنْ تَقَارَبَتَا لِأَنَّ الشُّفْعَةَ تَكُونُ فِي إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَكَذَلِكَ تَكُونُ الْقِسْمَةُ ، وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يُفْضِي إلَى كَثْرَةِ الْغَرَرِ لِأَنَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الدَّارَيْنِ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الشَّرِكَةَ إذَا عَمَّتْ فِيهِمَا ، وَالْبَيْعُ عَمَّتْ الشُّفْعَةُ فَنَقِيسُ الْقَسْمَ عَلَى الشُّفْعَةِ فَيَنْقَلِبُ الدَّلِيلُ عَلَيْكُمْ ، وَلِأَنَّ

اسْتِقْلَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِحْدَاهُمَا أَتَمُّ فِي الِانْتِفَاعِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِبَعْضِ دَارٍ ، وَعَنْ الثَّانِي الْمُعَارَضَةُ ، وَالنَّقْضُ بِالِاخْتِلَافِ فِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ بَلْ هَا هُنَا أَوْلَى لِأَنَّا إنَّمَا نَجْمَعُ الْمُتَقَارِبَ ، وَهُنَالِكَ نَجْمَعُ الْمُخْتَلِفَ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يَقْبَلُهَا ) الْقِسْمَةُ قَالَ التَّسَوُّلِيُّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ تَصْيِيرُ مَشَاعٍ مَمْلُوكٍ لِمَالِكَيْنِ فَأَكْثَرَ مُعَيَّنًا بِقُرْعَةٍ أَوْ تَرَاضٍ بَلْ وَلَوْ بِاخْتِصَاصِ تَصَرُّفٍ فِيهِ وَقَوْلُهُ مُعَيَّنًا مَفْعُولٌ ثَانٍ لِتَصْيِيرٍ ، وَقَوْلُهُ بِقُرْعَةٍ أَوْ تَرَاضٍ مُتَعَلِّقٌ بِهِ ، وَقَوْلُهُ بَلْ وَلَوْ بِاخْتِصَاصٍ إلَخْ مُبَالَغَةٌ عَلَيْهِ يَعْنِي هِيَ أَنْ يَصِيرَ الْقَاسِمُ الْمَشَاعُ الْمَمْلُوكُ لِمَالِكَيْنِ فَأَكْثَرَ مُعَيَّنًا بِاخْتِصَاصٍ فِي الرِّقَابِ بِقُرْعَةٍ أَوْ تَرَاضٍ بَلْ وَلَوْ كَانَ التَّعْيِينُ بِاخْتِصَاصٍ فِي الْمَنَافِعِ فَقَطْ أَيْ بِقُرْعَةٍ أَوْ تَرَاضٍ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ مَشَاعًا كَسُكْنَى دَارٍ وَخِدْمَةِ عَبْدٍ هَذَا شَهْرًا وَهَذَا شَهْرًا .
قَالَ ثُمَّ هِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ ( الْأَوَّلُ ) قِسْمَةُ قُرْعَةٍ بَعْدَ تَعْدِيلٍ وَتَقْوِيمٍ وَهِيَ بَيْعٌ عِنْدَ مَالِكٍ ، وَصَوَّبَهُ اللَّخْمِيُّ ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ عِيَاضٍ وَابْنِ رُشْدٍ أَنَّهَا تَمْيِيزُ حَقٍّ ، وَعَلَيْهِ عَوَّلَ خَلِيلٌ إذْ قَالَ فِي مُخْتَصَرِهِ ، وَهِيَ تَمْيِيزُ حَقٍّ ( النَّوْعُ الثَّانِي ) قِسْمَةُ مُرَاضَاةٍ بَعْدَ تَعْدِيلٍ وَتَقْوِيمٍ كَذَلِكَ ، وَهِيَ بَيْعٌ عَلَى الْمَشْهُورِ ( النَّوْعُ الثَّالِثُ ) قِسْمَةُ مُرَاضَاةٍ مِنْ غَيْرِ تَعْدِيلٍ ، وَلَا تَقْوِيمٍ ، وَهِيَ بَيْعٌ بِلَا خِلَافٍ ا هـ .
الْمُرَادُ بِتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ ، وَفِي شَرْحِ عَبْدِ الْبَاقِي عَلَى مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ عِنْدَ قَوْلِهِ ، وَمُرَاضَاةٍ فَكَالْبَيْعِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ قَوْلَهُ فَكَالْبَيْعِ أَفَادَ أَمْرَيْنِ ( الْأَوَّلُ ) أَنَّهُ يَجُوزُ هُنَا بِالتَّرَاضِي مَا لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ ، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ مِنْهَا مَا عَارَضَ بِهِ ابْنُ رُشْدٍ قَوْلَهُمْ إنَّهَا بَيْعٌ ، وَسَلَّمَهُ فِي التَّوْضِيحِ مِنْ مَسْأَلَةِ ، وَفِي قَفِيزٍ أَخَذَ أَحَدُهُمَا ثُلُثَهُ ، وَالْآخَرُ ثُلُثَيْهِ نَعَمْ قَالَ الرَّمَاصِيُّ إنَّ مَسْأَلَةَ الْقَفِيزِ صُبْرَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَقَدْ قَالُوا إنَّ قِسْمَةَ الصُّبْرَةِ الْوَاحِدَةِ لَيْسَتْ حَقِيقَةً

لِاتِّحَادِ الصِّفَةِ وَالْقَدْرِ اُنْظُرْهُ ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَجُوزُ قِسْمَةُ مَا أَصْلُهُ أَنْ يُبَاعَ مَكِيلًا مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ مَعَ مَا أَصْلُهُ أَنْ يُبَاعَ جُزَافًا مَعَ خُرُوجِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ أَصْلِهِ كَأَنْ يَقْتَسِمَا فَدَّانًا مِنْ الزَّعْفَرَانِ مُزَارَعَةً مَا فِيهِ مِنْ الزَّعْفَرَانِ فَقَدْ قُسِمَ الزَّعْفَرَانُ جُزَافًا ، وَأَصْلُهُ الْوَزْنُ ، وَالْأَرْضُ كَيْلًا وَأَصْلُهَا الْجُزَافُ ، وَلَا يَجُوزُ جَمْعُهُمَا فِي الْبَيْعِ ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَجُوزُ قَسْمُ مَا زَادَ غَلَّتُهُ عَلَى الثُّلُثِ ، وَلَمْ يُجِيزُوا بَيْعَهُ .
( الْأَمْرُ الثَّانِي ) أَنَّهُ يَجُوزُ بِالتَّرَاضِي مَا لَا يَجُوزُ ، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ مِنْهَا أَنَّ قِسْمَةَ التَّرَاضِي تَكُونُ فِيهَا تَمَاثُلٌ أَوْ اخْتِلَافُ جِنْسٍ ، وَمِنْهَا أَنَّهَا تَكُونُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَفِي غَيْرِهِ ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يُقَامُ فِيهَا بِالْغَبْنِ حَيْثُ لَمْ يُدْخِلَا مُقَوَّمًا ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يُجْبِرُ عَلَيْهَا أَبَاهُ ، وَمِنْهَا أَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ لِتَعْدِيلٍ وَتَقْوِيمٍ ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يُجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ حَظِّ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ بِخِلَافِ الْقُرْعَةِ فِي الْجَمِيعِ عَلَى خِلَافِ مَنَافِعَ فِي الْبَعْضِ كَمَا سَيَأْتِي ا هـ .
بِبَعْضِ إصْلَاحٍ مِنْ الْبُنَانِيِّ فَالْمَقْسُومُ نَوْعَانِ : ( الْأَوَّلُ ) رِقَابُ الْأَمْوَالِ ( وَالثَّانِي ) الرِّقَابُ ، وَهُمَا إمَّا قَابِلَانِ لِلْقِسْمَةِ بِالْقُرْعَةِ ، وَإِمَّا غَيْرُ قَابِلَيْنِ لَهَا فَمَا لَا يَقْبَلُهَا أَحَدٌ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ ( الْأَوَّلُ ) مَا فِي قِسْمَةِ الْغَرَرِ كَمَشْرُوعِيَّةِ الْقُرْعَةِ فِي الْمُخْتَلِفَاتِ فَإِنَّ الْغَرَرَ يَعْظُمُ ، وَالْمُخْتَلِفَاتُ إمَّا مِنْ الرِّبَاعِ ، وَإِمَّا مِنْ الْعُرُوضِ ، وَإِمَّا مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الرِّبَاعِ فَقَالَ حَفِيدٌ ابْنُ رُشْدٍ فِي بِدَايَتِهِ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ أَنْوَاعِ الرِّبَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا دُورٌ ، وَمِنْهَا حَوَائِطُ ، وَمِنْهَا أَرْضٌ فِي الْقِسْمَةِ بِالسُّهْمَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْعُرُوضِ فَقَالَ التَّسَوُّلِيُّ

عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْبَقَرَ مَثَلًا فِي نَاحِيَةِ الْعَقَارِ أَوْ الْإِبِلِ الَّتِي تُعَادِلُهَا فِي الْقِيمَةِ فِي نَاحِيَةٍ ، وَيَقْتَرِعُونَ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لَا يُجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ جِنْسَيْنِ ، وَلَا بَيْنَ نَوْعَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَرَرِ ا هـ .
مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ ، وَقَالَ حَفِيدٌ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْبِدَايَةِ ، وَإِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قِسْمَتِهَا عَلَى التَّرَاضِي ، وَاخْتَلَفُوا فِي قِسْمَتِهَا بِالتَّعْدِيلِ وَالسُّهْمَةِ فَمَنَعَهَا مَالِكٌ فِي غَيْرِ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ ، وَذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ إلَّا أَنَّهُ يُجْمَعُ فِي الْقِسْمَةِ مَا تَقَارَبَ مِنْ الصِّنْفَيْنِ مِثْلُ الْقَزِّ وَالْحَرِيرِ وَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ ، وَأَجَازَ أَشْهَبُ جَمْعَ صِنْفَيْنِ فِي الْقِسْمَةِ بِالسُّهْمَةِ مَعَ التَّرَاضِي ، وَذَلِكَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْغَرَرَ لَا يَجُوزُ بِالتَّرَاضِي ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَقَالَ الْحَفِيدُ أَيْضًا أَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا صُبْرَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ فَعَلَى جِهَةِ الْجَمْعِ لَا تَجُوزُ قِسْمَتُهَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ إلَّا بِالْكَيْلِ الْمَعْلُومِ فِيمَا يُكَالُ ، وَبِالْوَزْنِ بِالصَّنْجَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِيمَا يُوزَنُ لِأَنَّ أَصْلَ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِي الصِّنْفَيْنِ إذَا تَقَارَبَتْ مَنَافِعُهَا مِثْلُ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ ، وَإِذَا كَانَتْ بِمِكْيَالٍ مَجْهُولٍ لَمْ يَدْرِ كَمْ يَحْصُلْ فِيهِ مِنْ الْكَيْلِ الْمَعْلُومِ مِنْ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مِنْهُمَا .
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ فَعَلَى جِهَةِ الْجَمْعِ تَجُوزُ قِسْمَتُهَا عَلَى الِاعْتِدَالِ وَالتَّفَاضُلِ الْبَيِّنِ الْمَعْرُوفِ بِالْكَيْلِ الْمَعْلُومِ أَوْ الصَّنْجَةِ الْمَعْرُوفَةِ ، وَهَذَا الْجَوَازُ كُلُّهُ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى جِهَةِ الرِّضَاءِ .
وَأَمَّا فِي وَاجِبِ الْحُكْمِ فَلَا تَنْقَسِمُ كُلُّ صُبْرَةٍ إلَّا عَلَى حِدَةٍ بِالْمِكْيَالِ الْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ ا هـ بِتَلْخِيصٍ وَإِصْلَاحٍ .
( الْأَمْرُ الثَّانِي

) مَا فِي قِسْمَةِ الرِّبَا كَقَسْمِ الثِّمَارِ بِشَرْطِ التَّأْخِيرِ إلَى الطِّيبِ بِمَا يَدْخُلُهُ مِنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ غَيْرِ مَعْلُومِ التَّمَاثُلِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إمَّا بَيْعٌ بِاتِّفَاقٍ أَوْ عَلَى الْخِلَافِ كَمَا عَلِمْت فَإِنْ تَبَايَنَ الْجِنْسُ الْوَاحِدُ بِالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فَفِي جَوَازِهِ بِالْقُرْعَةِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا اللَّخْمِيُّ كَمَا فِي الْأَصْلِ ، وَفِي بِدَايَةِ حَفِيدِ ابْنِ رُشْدٍ لَا تَجُوزُ الْقُرْعَةُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِاتِّفَاقٍ إلَّا مَا حَكَى اللَّخْمِيُّ ا هـ .
فَمُفَادُ الْأَصْلِ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ بِجَوَازِ الْقُرْعَةِ وَمَنْعِهَا حَكَاهُمَا اللَّخْمِيُّ عَنْ الْمَذْهَبِ فِي خُصُوصِ مَا إذَا تَبَايَنَ الْجِنْسُ الْوَاحِدُ بِالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ بِلَا تَرْجِيحٍ لِأَحَدِهِمَا ، وَمَفَادُ الْحَفِيدِ أَنَّ الْقَوْلَ بِمَنْعِهَا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مُطْلَقًا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَذْهَبِ ، وَأَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِهَا فِي ذَلِكَ ضَعِيفٌ حَكَاهُ اللَّخْمِيُّ مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِهِمْ ، وَسَيَأْتِي عَنْ الْبُنَانِيِّ عَلَى عبق مَا سَلَّمَ لَهُ الرَّهُونِيُّ وَكَنُونِ مِنْ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مُطْلَقًا بِلَا تَرْجِيحٍ لِأَحَدِهِمَا ، وَأَنَّ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ أَخَذَهُ اللَّخْمِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ مِنْ كَلَامِ الْمُدَوَّنَةِ مُقَيَّدًا بِمَا إذَا اسْتَوَى الْوَزْنُ وَالْقِيمَةُ فَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْقِيمَةُ مُنِعَتْ الْقُرْعَةُ فَانْظُرْ ذَلِكَ ( الْأَمْرُ الثَّالِثُ ) مَا كَانَ فِي قَسْمِهِ إضَاعَةُ الْمَالِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَقَسْمِ الْيَاقُوتِيَّةِ ( الْأَمْرُ الرَّابِعُ ) مَا كَانَ فِي قَسْمِهِ إضَاعَةُ الْمَالِ لِحَقٍّ آدَمِيٍّ كَقَسْمِ الدَّارِ اللَّطِيفَةِ وَالْحَمَّامِ وَالْخَشَبَةِ وَالثَّوْبِ وَالْمِصْرَاعَيْنِ قَالَ الْأَصْلُ : وَلِكَوْنِ إضَاعَةِ الْمَالِ فِي هَذَا الْأَمْرِ لِحَقٍّ آدَمِيٍّ يَجُوزُ عِنْدَنَا قَسْمُهُ بِالتَّرَاضِي لِأَنَّ لِلْآدَمِيِّ إسْقَاطُ حَقِّهِ بِخِلَافِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي إضَاعَةِ الْمَالِ وَغَيْرِهِ وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَسْمَ مَا فِيهِ

ضَرَرٌ أَوْ تَغَيُّرُ نَوْعِ الْمَقْسُومِ ا هـ .
بِتَوْضِيحٍ مَا ، وَفِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ لِحَفِيدِ ابْنِ رُشْدٍ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قِسْمَةُ وَاحِدٍ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ لِلْفَسَادِ الدَّاخِلِ فِي ذَلِكَ ا هـ .
وَظَاهِرُهُ أَنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى مَنْعِ قِسْمَةِ ذَلِكَ لِمُطْلَقِ الْفَسَادِ كَانَ لِحَقِّ اللَّهِ أَوْ لِحَقٍّ آدَمِيٍّ ، وَلَكِنْ الْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْفَسَادِ لِحَقِّ اللَّهِ فَقَطْ كَمَا فِي الْأَصْلِ فَافْهَمْ قَالَ الْحَفِيدُ ، وَاخْتَلَفُوا إذَا تَشَاحَّ الشَّرِيكَانِ فِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ مِنْهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا بِالِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى الشِّيَاعِ ، وَأَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَبِيعَ صَاحِبُهُ مَعَهُ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَ أَحَدَهُمَا أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْقِيمَةِ الَّتِي أَعْطَى فِيهَا أَخَذَهُ .
وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ لَا يُجْبَرُ لِأَنَّ الْأُصُولَ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَخْرُجَ مِلْكُ أَحَدٍ مِنْ يَدِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ ، وَحُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّ فِي تَرْكِ الْإِجْبَارِ ضَرَرًا ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ الْمُرْسَلِ ، وَقَدْ قُلْنَا فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إلَّا مَالِكٍ ، وَلَكِنَّهُ كَالضَّرُورِيِّ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ ا هـ .
قُلْت ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ بِالْقِيَاسِ الْمُرْسَلِ الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ ، وَقَدْ حَقَّقْت فِي رِسَالَتِي انْتِصَارِ الِاعْتِصَامِ وَجْهَهَا ، وَأَنَّ مَالِكًا لَمْ يَخْتَصَّ بِالْقَوْلِ بِهَا فَانْظُرْهَا إنْ شِئْت .
وَأَمَّا مَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ بِالْقُرْعَةِ فَهُوَ مَا عُرِّيَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ ( وَتَوْضِيحُ الْكَلَامِ ) فِيهِ أَنَّ الْمَقْسُومَ كَمَا مَرَّ إمَّا رِقَابُ أَمْوَالٍ ، وَإِمَّا مَنَافِعُ الرِّقَابِ ، وَأَقْسَامُ الرِّقَابِ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّهَا إمَّا أَنْ تُنْقَلَ وَتُحَوَّلَ أَمْ لَا ، وَالثَّانِي هُوَ الرِّبَاعُ ، وَالْأُصُولُ وَالْأَوَّلُ إمَّا مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ ، وَإِمَّا غَيْرُ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ ، وَهُوَ الْحَيَوَانُ وَالْعُرُوضُ أَمَّا

الْحَيَوَانُ وَالْعُرُوضُ فَقَالَ حَفِيدُ ابْنِ رُشْدٍ فِي بِدَايَتِهِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ قِسْمَةِ الْمُتَعَدِّدِ مِنْهُمَا عَلَى التَّرَاضِي ، وَاخْتَلَفُوا فِي قِسْمَتِهِ بِالتَّعْدِيلِ وَالسُّهْمَةِ فَأَجَازَهَا مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي تَمْيِيزِ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ الَّذِي تَجُوزُ فِيهِ السُّهْمَةُ مِنْ الَّذِي لَا تَجُوزُ فِيهِ فَاعْتَبَرَ أَشْهَبُ بِمَا لَا يَجُوزُ تَسْلِيمُ بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ .
وَأَمَّا ابْنُ الْقَاسِمِ فَاضْطَرَبَ فَمَرَّةً أَجَازَ الْقَسْمَ بِالسُّهْمَةِ فِيمَا لَا يَجُوزُ تَسْلِيمُ بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ فَجَعَلَ الْقِسْمَةَ أَخَفَّ مِنْ السَّلَمِ ، وَمَرَّةً مَنَعَ الْقِسْمَةَ فِيمَا مَنَعَ فِيهِ السَّلَمُ ، وَقَدْ قِيلَ إنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْقِسْمَةَ فِي ذَلِكَ أَخَفُّ ، وَأَنَّ مَسَائِلَهُ الَّتِي يُظَنُّ مِنْ قِبَلِهَا أَنَّ الْقِسْمَةَ عِنْدَهُ أَشَدُّ مِنْ السَّلَمِ تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ عَلَى أَصْلِهِ الثَّانِي ا هـ .
مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ ، وَقَالَ التَّسَوُّلِيُّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ ، وَلَا بُدَّ فِيمَا تَفَاوَتَتْ أَجْزَاؤُهُ مِنْ التَّقْوِيمِ فَتُجْمَعُ الدُّورُ عَلَى حِدَتِهَا ، وَالْأَقْرِحَةُ أَيْ الْفَدَّادِينَ عَلَى حِدَتِهَا وَالْأَجِنَاتُ عَلَى حِدَتِهَا ، وَالْبَقَرُ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا عَلَى حِدَتِهَا وَالْإِبِلُ كَذَلِكَ عَلَى حِدَتِهَا ، وَالرَّقِيقُ كَذَلِكَ عَلَى حِدَتِهَا ، وَالْحَمِيرُ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا عَلَى حِدَتِهِ ، وَالْبِغَالُ كَذَلِكَ ، وَهَكَذَا ثُمَّ يُجَزَّأُ الْمَقْسُومُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِالْقِسْمَةِ عَلَى أَقَلِّهِمْ نَصِيبًا ، وَيَقْتَرِعُونَ ا هـ .
بِلَفْظِهِ ، وَقَالَ الْأَصْلُ مَنْعُ أَبُو حَنِيفَةَ قَسْمَ الرَّقِيقِ ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيِّ ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنَافِعَهُ مُخْتَلِفَةٌ بِالْعَقْلِ وَالشَّجَاعَةِ وَغَيْرِهِمَا فَلَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّعْدِيلُ ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ تَعْدِيلُهُ لَامْتَنَعَ بَيْعُهُ وَتَقْوِيمُهُ لِأَنَّهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ ، وَلَيْسَ

كَذَلِكَ ا هـ .
( وَأَمَّا ) الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ قَسْمُهُمَا بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ الْمَعْلُومِ أَوْ الْمَجْهُولِ أَوْ جُزَافًا بِلَا تَحَرٍّ أَوْ بِتَحَرٍّ فَمَا وَقَعَ بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ الْمَعْلُومِ أَوْ الْمَجْهُولِ يَجُوزُ بِالتَّرَاضِي بِلَا خِلَافٍ كَانَا مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ أَمْ لَا قَالَ الرَّمَاصِيُّ ، وَمَا فِي الْحَطَّابِ مَنْ مَنَعَ الْمُرَاضَاةَ فِيمَا فِيهِ التَّفَاضُلُ مَحْمُولٌ عَلَى قَسْمِ مَا لَيْسَ صُبْرَةً وَاحِدَةً كَقَمْحٍ وَشَعِيرٍ أَوْ مَحْمُولَةٍ وَسَمْرَاءَ أَوْ مَغْلُوتٍ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةٌ ا هـ .
وَفِي جَوَازِهِ بِالْقُرْعَةِ وَمَنْعِهِ بِهَا قَوْلَانِ الْأَوَّلُ لِلَّخْمِيِّ فِي قَوْلِ الْمُدَوَّنَةِ ، وَمَنْ هَلَكَ ، وَتَرَكَ مَتَاعًا وَحُلِيًّا قُسِّمَ الْمَتَاعُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ بِالْقِيمَةِ ، وَالْحُلِيُّ بِالْوَزْنِ فَإِنَّهُ قَالَ يُرِيدُ أَوْ يَتَرَاضَيَانِ أَحَدُهُمَا هَذَا ، وَالْآخَرُ هَذَا أَوْ بِالْقُرْعَةِ إذَا اسْتَوَى الْوَزْنُ ، وَالْقِيمَةُ فَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْقِيمَةُ لَمْ يَجُزْ بِالْقُرْعَةِ ا هـ .
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَقِبَ كَلَامِ الْمُدَوَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ يَقُومُ مِنْهُ جَوَازُ الْقُرْعَةِ فِي الْوَدِيعَةِ إذَا اسْتَوَتْ فِي الْوَزْنِ وَالْقِيمَةِ ، وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمُدَّخَرَاتِ ا هـ .
وَالثَّانِي لِابْنِ رُشْدٍ وَالْبَاجِيِّ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ قَالَ ، وَعَزَاهُ ابْنُ زَرْقُونٍ لِسَحْنُونٍ ا هـ .
عَلَيْهِ اقْتَصَرَ صَاحِبُ الْمُعِينِ وَصَاحِبُ التُّحْفَةِ ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّهُ إذَا كِيلَ أَوْ وُزِنَ فَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْ الْقُرْعَةِ فَلَا مَعْنَى لِدُخُولِهَا ، وَمَا وَقَعَ جُزَافًا بِلَا تَحَرٍّ قَالَ فِي الْبِدَايَةِ لَا يَجُوزُ يَعْنِي كَانَ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِالْقُرْعَةِ كَمَا يُفِيدُهُ تَفْصِيلُ ابْنِ رُشْدٍ الْآتِي فَتَنَبَّهْ ، وَمَا وَقَعَ بِالتَّحَرِّي قَدْ تَقَدَّمَ عَنْ عَبْدِ الْبَاقِي مَا يُفِيدُ جَوَازَهُ بِالتَّرَاضِي فَلَا تَغْفُلْ ، وَقَدْ حَكَى الْبُنَانِيُّ عَلَى عبق فِي جَوَازِهِ بِالْقُرْعَةِ أَقْوَالًا الْجَوَازُ مُطْلَقًا عَنْ الْبَاجِيَّ قَالَ فَقَدْ سُئِلَ سَيِّدِي عِيسَى بْنُ

عَلَّالٍ عَنْ صِفَةِ قِسْمَةِ الْوَزِيعَةِ بِالْقُرْعَةِ الَّتِي جَرَى بِهَا الْعُرْفُ عِنْدَنَا فَقَالَ كَانَ شَيْخُنَا سَيِّدِي مُوسَى الْعَبْدُوسِيُّ يَقُولُ إنْ قُسِمَتْ وَزْنًا فَإِنْ شَاءُوا اقْتَرَعُوا أَوْ تَرَكُوا عَلَى مَا قَالَهُ اللَّخْمِيُّ فِي قِسْمَةِ الْحُلِيِّ ، وَإِنْ قُسِمَتْ تَحَرَّيَا فَهَذَا مَوْضِعُ الْقُرْعَةِ ثُمَّ قَالَ قَالَ الْبَاجِيَّ فِي قِسْمَةِ الثِّمَارِ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ بِالتَّحَرِّي عِنْدِي أَنَّهَا لَا تَجُوزُ إلَّا بِالْقُرْعَةِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّهَا تَمْيِيزُ حَقٍّ ا هـ .
وَالْمَنْعُ مُطْلَقًا عَنْ ابْنِ زَرْقُونٍ فَقَدْ قَالَ وَمِثْلُ مَا قُسِمَ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فِي مَنْعِ الْقُرْعَةِ عِنْدِي مَا قُسِمَ بِالتَّحَرِّي لِأَنَّ مَا يَتَسَاوَى فِي الْجِنْسَيْنِ وَالْجُودَةِ وَالْقَدْرِ لَا يَحْتَاجُ إلَى سَهْمٍ كَالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ ا هـ .
قَالَ الْعَبْدُوسِيُّ ، وَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ الْبَاجِيَّ ، وَالْوَزِيعَةُ تَجْرِي عَلَيْهِ ا هـ .
نَقَلَهُ فِي تَكْمِيلِ التَّقْيِيدِ ، وَعَنْ ابْنِ رُشْدٍ الْقَوْلُ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ الْقَسْمِ بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ فَيَجُوزُ التَّفَاضُلُ أَوْ بِالتَّحَرِّي فَيَجُوزُ أَيْ التَّفَاضُلُ فِي الْمَوْزُونِ دُونَ الْمَكِيلِ أَوْ بِدُونِهِمَا فَيَمْتَنِعُ مُطْلَقًا لِلْمُزَابَنَةِ قَالَ وَذَلِكَ التَّفْصِيلُ إنَّمَا هُوَ فِي الصُّبْرَةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ رُشْدٍ لِأَنَّ قَسْمَ الصُّبْرَةِ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ لِاتِّحَادِ الصِّفَةِ وَالْقَدْرِ ا هـ .
بِتَلْخِيصٍ ، وَسَلَّمَهُ الرَّهُونِيُّ ، وَأَنَّ مَا وكنو الرِّبَاع وَالْأُصُول فَقَالَ حَفِيدُ ابْنُ رُشْدٍ فِي بِدَايَتِهِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ اتِّفَاقًا مُجْمَلًا عَلَى جَوَازِ قِسْمَةِ الرِّبَاعِ وَالْأُصُولِ بِالتَّرَاضِي سَوَاءٌ كَانَتْ بَعْدَ تَقْوِيمٍ وَتَعْدِيلٍ أَوْ بِدُونِ ذَلِكَ كَانَتْ الرِّقَابُ مُتَّفِقَةً أَوْ مُخْتَلِفَةً لِأَنَّهَا بَيْعٌ مِنْ الْبُيُوعِ فَلَا يَحْرُمُ فِيهَا إلَّا مَا يَحْرُمُ فِيهَا فِي الْبُيُوعِ ، وَكَذَا عَلَى جَوَازِهَا بِالسُّهْمَةِ إذَا عُدِّلَتْ بِالْقِيمَةِ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّ ذَلِكَ وَشُرُوطِهِ

فَأَمَّا بَيَانُهُ فِي مَحَلِّهِ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ أَوْ فِي مَحَالَّ كَثِيرَةٍ فَإِذَا كَانَتْ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَإِنْ انْقَسَمَتْ إلَى أَجْزَاءَ مُتَسَاوِيَةٍ بِالصِّفَةِ ، وَلَمْ تَنْقُصْ بِالِانْقِسَامِ مَنْفَعَةُ الْأَجْزَاءِ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهَا ، وَيُجْبَرُ الشَّرِيكَانِ عَلَى ذَلِكَ .
وَإِنْ انْقَسَمَتْ عَلَى مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ فَقَالَ مَالِكٌ إنَّهَا تُقْسَمُ بَيْنَهُمْ إذَا دَعَا أَحَدُهُمَا لِذَلِكَ ، وَلَوْ لَمْ يَصِرْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ مِثْلُ قَدْرِ الْقَدَمِ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ كِنَانَةَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَطْ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ، وَعُمْدَتُهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يُقْسَمُ إلَّا أَنْ يَصِيرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي حَظِّهِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ دَاخِلَةٍ عَلَيْهِ فِي الِانْتِفَاعِ مِنْ قِبَلِ الْقِسْمَةِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُرَاعِي فِي ذَلِكَ نُقْصَانَ الثَّمَنِ ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ يُقْسَمُ إذَا صَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الِاشْتِرَاكِ أَوْ كَانَتْ أَقَلَّ .
وَقَالَ مُطَرِّفٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إنْ لَمْ يَصِرْ فِي حَظِّ كُلِّ وَاحِدٍ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ لَمْ يُقْسَمْ ، وَإِنْ صَارَ فِي حَظِّ بَعْضِهِمْ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ ، وَفِي حَظِّ بَعْضِهِمْ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ قُسِمَ ، وَجُبِرُوا عَلَى ذَلِكَ سَوَاءٌ دَعَا إلَى ذَلِكَ صَاحِبُ النَّصِيبِ الْقَلِيلِ أَوْ الْكَثِيرِ ، وَقِيلَ يُجْبَرُ إنْ دَعَا صَاحِبُ النَّصِيبِ الْقَلِيلِ ، وَلَا يُجْبَرُ إنْ دَعَا صَاحِبُ النَّصِيبِ الْكَثِيرِ ، وَقِيلَ بِعَكْسِ هَذَا ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، هَذَا وَبَقِيَ مَا إذَا انْتَقَلَتْ مَنْفَعَةُ الْمَقْسُومِ إلَى مَنْفَعَةٍ أُخْرَى مِثْلُ الْحَمَّامِ فَقَالَ مَالِكٌ يُقْسَمُ إذَا طُلِبَ كَأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ ، وَعُمْدَتُهُمَا ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } .

وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يُقْسَمُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَعُمْدَتُهُمَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا ضَرَرَ ، وَلَا ضِرَارَ } ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ لَا تَعْضِيَةَ عَلَى أَهْلِ الْمِيرَاثِ إلَّا مَا حَمَلَ الْقَسْمَ ، وَالتَّعْضِيَةُ التَّفْرِقَةُ يَقُولُ لَا قِسْمَةَ بَيْنَهُمْ .
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَإِنْ كَانَتْ الْمَحَالُّ مُخْتَلِفَةَ الْأَنْوَاعِ كَأَنْ يَكُونَ مِنْهَا دُورٌ ، وَمِنْهَا حَوَائِطُ ، وَمِنْهَا أَرْضٌ فَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَّفِقَةَ الْأَنْوَاعِ قُسِمَتْ بِالتَّقْوِيمِ وَالتَّعْدِيلِ وَالسُّهْمَةِ عِنْدَ مَالِكٍ لِأَنَّهُ أَقَلُّ لِلضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَى الشُّرَكَاءِ مِنْ الْقِسْمَةِ ، نَعَمْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ الْأَنْوَاعُ الْمُتَّفِقَةُ فِي النَّفَاقِ ، وَإِنْ تَبَاعَدَتْ مَوَاضِعُهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ بَلْ يُقْسَمُ كُلُّ عَقَارٍ عَلَى حِدَةٍ لِأَنَّ كُلَّ عَقَارٍ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ تَتَعَلَّقُ بِهِ الشُّفْعَةُ ا هـ .
كَلَامُ الْحَفِيدِ فِي الْبِدَايَةِ بِتَصَرُّفٍ ، وَفِي الْأَصْلِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ دَارَيْنِ فِي الْقَسْمِ وَإِنْ تَقَارَبَتَا لِأَمْرَيْنِ ( الْأَوَّلُ ) أَنَّ الشُّفْعَةَ تَكُونُ فِي إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَكَذَلِكَ تَكُونُ الْقِسْمَةُ ( الثَّانِي ) أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يُفْضِي إلَى كَثْرَةِ الْغَرَرِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الدَّارَيْنِ بِغَيْرِ رِضَاهُ .
وَالْجَوَابُ ( عَنْ الْأَوَّلِ ) أَنَّ الشَّرِكَةَ إذَا عَمَّتْ فِيهِمَا ، وَالْبَيْعُ عَمَّتْ الشُّفْعَةُ فَنَقِيسُ الْقَسْمَ عَلَى الشُّفْعَةِ فَيَنْقَلِبُ الدَّلِيلُ عَلَيْكُمْ ، وَلِأَنَّ اسْتِقْلَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِحْدَاهُمَا أَتَمُّ فِي الِانْتِفَاعِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِبَعْضِ دَارٍ ( وَعَنْ الثَّانِي ) الْمُعَارَضَةُ ، وَالنَّقْضُ بِالِاخْتِلَافِ فِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ بَلْ هَا هُنَا أَوْلَى لِأَنَّا إنَّمَا نَجْمَعُ

الْمُتَقَارِبَ ، وَهُنَالِكَ نَجْمَعُ الْمُخْتَلِفَ ا هـ .
وَأَمَّا بَيَانُ الْخِلَافِ فِي الشُّرُوطِ فَهُوَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ قِسْمَةِ الْحَوَائِطِ الْمُثْمِرَةِ أَنْ لَا تُقْسَمَ مَعَ الثَّمَرَةِ إذَا بَدَا صَلَاحٌ بِاتِّفَاقٍ فِي الْمَذْهَبِ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَيْعُ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرِ ، وَذَلِكَ مُزَابَنَةٌ .
وَأَمَّا قِسْمَتُهَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فَاخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ فَابْنُ الْقَاسِمِ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِبَّانِ بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ ، وَيُعْتَلُّ لِذَلِكَ بِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى بَيْعِ طَعَامٍ بِطَعَامٍ مُتَفَاضِلًا ، وَلِذَلِكَ زَعَمَ أَنَّ مَالِكًا لَمْ يُجِزْ شِرَاءَ الثَّمَرِ الَّذِي لَمْ يَطِبْ بِالطَّعَامِ لَا نَسِيئَةً ، وَلَا نَقْدًا .
وَأَمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِبَّانِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ الثَّمَرِ فِي نَصِيبِهِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي نَصِيبِهِ ، وَمَا لَمْ يَدْخُلْ فَهُوَ فِيهِ عَلَى الشَّرِكَةِ وَالْعِلَّةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْمُشْتَرِي الثَّمَرَ بَعْدَ الْإِبَّانِ ، وَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الْإِبَّانِ فَكَانَ أَحَدُهُمَا اشْتَرَطَ حَظَّ صَاحِبِهِ مِنْ جَمِيعِ الثَّمَرَاتِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي الْقِسْمَةِ بِحَظِّهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ الَّتِي وَقَعَتْ لِشَرِيكِهِ ، وَاشْتَرَطَ الثَّمَرَ ، وَصِفَةُ الْقَسَمِ بِالْقُرْعَةِ أَنْ تُقْسَمَ الْفَرِيضَةُ وَتُحَقَّقَ وَتُضْرَبَ إنْ كَانَ فِي سِهَامِهَا كَسْرٌ إلَى أَنْ تَصِحَّ السِّهَامُ ثُمَّ يُقَوِّمُ كُلَّ مَوْضِعٍ مِنْهَا ، وَكُلَّ نَوْعٍ مِنْ غِرَاسَاتِهَا ثُمَّ يُعَدِّلُ عَلَى أَقَلِّ السِّهَامِ بِالْقِيمَةِ فَرُبَّمَا عُدِّلَ جُزْءٌ مِنْ مَوْضِعِ ثَلَاثِ أَجْزَاءٍ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى قِيَمِ الْأَرْضِينَ وَمَوَاضِعُهَا فَإِذَا قُسِمَتْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ ، وَعُدِّلَتْ كُتِبَتْ فِي بَطَائِقَ أَسْمَاءُ الِاشْتِرَاكِ ، وَأَسْمَاءُ الْجِهَاتِ فَمَنْ خَرَجَ اسْمُهُ عَلَى جِهَةٍ أَخَذَ مِنْهَا فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ السَّهْمِ ضُوعِفَ لَهُ حَتَّى يَتِمَّ حَظُّهُ فَهَذِهِ هِيَ حَالُ قُرْعَةِ

السُّهْمَةِ فِي الرِّقَابِ كَمَا فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ لِحَفِيدٍ ابْنِ رُشْدٍ ( وَأَمَّا قِسْمَةُ ) مَنَافِعِ الرِّقَابِ فَقَالَ الْحَفِيدُ أَيْضًا هِيَ عِنْدَ الْجَمِيعِ بِالْمُهَايَأَةِ ، وَالْمُهَايَأَةُ إمَّا أَنْ تَكُونَ بِالْأَزْمَانِ بِأَنْ يَنْتَفِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعَيْنِ مُدَّةً مُسَاوِيَةً لِمُدَّةِ انْتِفَاعِ صَاحِبِهِ ، وَتَجُوزُ فِيمَا لَا يُنْقَلُ ، وَلَا يُحَوَّلُ فِي الْمُدَّةِ الْبَعِيدَةِ وَالْأَجَلِ الْبَعِيدِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ ، وَلَا تَجُوزُ فِيمَا يَنْتَقِلُ ، وَيُحَوَّلُ إلَّا فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ ، وَاخْتُلِفَ فِيهَا أَمَّا فِي الِاغْتِلَالِ فَقِيلَ الْيَوْمُ الْوَاحِدُ ، وَنَحْوُهُ ، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الدَّابَّةِ وَالْعَبْدِ .
وَأَمَّا فِي الِانْتِفَاعِ فَقِيلَ مِثْلُ الْخَمْسَةِ أَيَّامٍ ، وَقِيلَ الشَّهْرُ ، وَأَكْثَرُ مِنْ الشَّهْرِ قَلِيلًا ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِالْأَعْيَانِ بِأَنْ يَسْتَعْمِلَ هَذَا دَارًا مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ ، وَهَذَا دَارًا تِلْكَ الْمُدَّةَ بِعَيْنِهَا فَقِيلَ تَجُوزُ فِي سُكْنَى الدَّارِ وَزِرَاعَةِ الْأَرْضِينَ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْغَلَّةِ وَالْكِرَاءِ ، وَقِيلَ يَجُوزُ عَلَى قِيَاسِ التَّهَايُؤِ بِالْأَزْمَانِ ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي اسْتِخْدَامِ الْعَبْدِ وَالدَّوَابِّ يَجْرِي عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي قِسْمَتِهَا بِالزَّمَانِ ا هـ .
مُلَخَّصًا ، وَفِي شَرْحِ عَبْدِ الْبَاقِي عَلَى مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ عِنْدَ قَوْلِهِ الْقِسْمَةُ تَهَايُؤٌ كَخِدْمَةِ عَبْدٍ شَهْرًا ، وَسُكْنَى دَارٍ سِنِينَ كَالْإِجَارَةِ مَا نَصُّهُ فُهِمَ مِنْ التَّشْبِيهِ أَيْ بِالْإِجَارَةِ أَنَّ الْمُهَايَأَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِتَرَاضٍ ، وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ كَالْبَيْعِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا مَنْ أَبَاهَا ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ جَعْلُ الْمُصَنِّفِ قِسْمَةَ الْمُرَاضَاةِ قَسِيمًا لَهَا لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِمِلْكِ الذَّاتِ ، وَالْمُهَايَأَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمِلْكِ الْمَنَافِعِ مَعَ بَقَاءِ الذَّاتِ بَيْنَهُمَا ا هـ .
بِلَفْظِهِ ، وَفِي الرَّهُونِيِّ وَكَنُونِ ، وَقَسِيمُ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ هُوَ قِسْمَةُ الذَّوَاتِ ، وَأَمَّا

الْمُرَاضَاتُ وَالْقُرْعَةُ فَتَكُونَانِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ا هـ .
مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُمَا بِلَفْظِهِمَا .
( فَائِدَةٌ ) فِي بِدَايَةِ حَفِيدِ ابْنِ رُشْدٍ إنَّمَا جَعَلَ الْفُقَهَاءُ السُّهْمَةَ فِي الْقِسْمَةِ تَطْيِيبًا لِنُفُوسِ الْمُتَقَاسِمِينَ ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الشَّرْعِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ } وقَوْله تَعَالَى { وَمَا كُنْت لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } وَمِنْ ذَلِكَ الْأَثَرُ الثَّابِتُ الَّذِي جَاءَ فِيهِ أَنَّ { رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ عِنْدَ مَوْتِهِ فَأَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ ثُلُثَ ذَلِكَ الرَّقِيقِ } ا هـ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّادِسَ عَشَرَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ ) اعْلَمْ أَنَّ الْأَفْعَالَ قِسْمَانِ مِنْهَا مَا لَا تَحْصُلُ مَصْلَحَتُهُ إلَّا لِلْمُبَاشِرِ فَلَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهَا لِفَوَاتِ الْمَصْلَحَةِ بِالتَّوْكِيلِ كَالْعِبَادَةِ فَإِنَّ مَصْلَحَتَهَا الْخُضُوعُ ، وَإِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَلْزَمُ مِنْ خُضُوعِ الْوَكِيلِ خُضُوعُ الْمُوَكِّلِ فَتَفُوتُ الْمَصْلَحَةُ ، وَمَصْلَحَةُ الْوَطْءِ وَالْإِعْفَافِ وَتَحْصِيلِ وَلَدٍ يُنْسَبُ إلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ لِلْمُوَكِّلِ بِخِلَافِ عَقْدِ النِّكَاحِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَحْقِيقُ سَبَبِ الْإِبَاحَةِ ، وَهُوَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْوَكِيلِ ، وَمَقْصُودُ الْأَيْمَانِ كُلِّهَا وَاللِّعَانِ إظْهَارُ الصِّدْقِ فِيمَا ادَّعَى ، وَحَلِفُ زَيْدٍ لَيْسَ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ عَمْرٍو ، وَكَذَلِكَ الشَّهَادَاتُ مَقْصُودُهَا الْوُثُوقُ بِعَدَالَةِ الْمُتَحَمِّلِ ، وَذَلِكَ فَائِتٌ إذَا أَدَّى غَيْرُهُ ، وَمَقْصُودُ الْمَعَاصِي إعْدَامُهَا فَلَا يُشْرَعُ التَّوْكِيلُ فِيهَا لِأَنَّ شُرُوعَ التَّوْكِيلِ فِيهَا فَرْعُ تَقْرِيرِهَا شَرْعًا فَضَابِطُ الْفَرْقِ أَنَّ مَقْصُودَ الْفِعْلِ مَتَى كَانَ يَحْصُلُ مِنْ الْوَكِيلِ كَمَا يَحْصُلُ مِنْ الْمُوَكِّلِ ، وَهُوَ مِمَّا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ جَازَتْ الْوَكَالَةُ فِيهِ ، وَإِلَّا فَلَا .

( الْفَرْقُ السَّادِسَ عَشَرَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ مِنْهَا ) كَتَبَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الشَّاطِّ فِيمَا مَرَّ عِنْدَ قَوْلِ الْأَصْلِ الْفَرْقُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَةُ إلَخْ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ قَرِيبٌ مِنْ الْفَرْقِ الْعَاشِرِ وَالْمِائَةِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ .
وَقَاعِدَةُ مَا لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ أَوْ هُوَ هُوَ ا هـ قُلْت ، وَأَوْفَى كَلَامُهُ لِحِكَايَةِ الْخِلَافِ فَفِي شَرْحِ عبق عَلَى خَلِيلٍ وَالْبَنَّانِيِّ عَلَيْهِ مَا خُلَاصَتُهُ وَسَلَّمَهُ الرَّهُونِيُّ وَكَنُونِ أَنَّ قَوْلَ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ صَحَّتْ الْوَكَالَةُ فِي قَابِلِ النِّيَابَةِ إلَخْ أَيْ شَرْعًا ، وَهُوَ مَا لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْمُبَاشَرَةُ أَيْ مَا تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ تَصِحُّ فِيهِ الْوَكَالَةُ ، وَمَا لَا تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ لَا تَصِحُّ فِيهِ الْوَكَالَةُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا لِابْنِ رُشْدٍ وَعِيَاضٍ مِنْ مُسَاوَاةِ النِّيَابَةِ لِلْوَكَالَةِ كَمَا نَقَلَ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْهُمَا مِنْ جَعْلِهِمَا نِيَابَةَ الْأُمَرَاءِ وَكَالَةً لَا عَلَى أَنَّ النِّيَابَةَ أَعَمُّ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى تَعْرِيفِ ابْنِ عَرَفَةَ لِلْوَكَالَةِ بِقَوْلِهِ نِيَابَةُ ذِي حَقٍّ غَيْرِ ذِي إمْرَةٍ ، وَلَا عِبَادَةٍ لِغَيْرِهِ فِيهِ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ بِمَوْتِهِ فَتَخْرُجُ نِيَابَةُ إمَامِ الطَّاعَةِ أَمِيرًا أَوْ قَاضِيًا أَوْ صَاحِبَ شُرْطَةٍ ، أَوْ إمَامَ الصَّلَاةِ وَالْوَصِيَّ ا هـ .
قَالَ الْبُنَانِيُّ وَلَوْ أَسْقَطَ ذِي مِنْ قَوْلِهِ ذِي إمْرَةٍ ، وَجَعَلَ غَيْرَ نَعْتًا لِحَقٍّ لَكَانَ تَعْرِيفُهُ شَامِلًا لِتَوْكِيلِ الْإِمَامِ فِي حَقٍّ لَهُ قِبَلَ شَخْصٍ تَأَمَّلْ ا هـ .
قَالَ : وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ هُنَا أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ شَرْطَ النِّيَابَةِ بِمُقْتَضَى دَلَالَةِ الِاسْتِقْرَاءِ وَالِاسْتِعْمَالِ اسْتِحْقَاقُ جَاعِلِهَا فِعْلَ مَا وَقَعَتْ النِّيَابَةُ فِيهِ قَالَ فَإِذَا جَعَلَ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ فَاعِلًا أَمْرًا فَإِنْ كَانَ يَمْتَنِعُ

أَنْ يُبَاشِرَهُ أَوْ لَا حَقَّ لَهُ فِي مُبَاشَرَتِهِ فَهُوَ أَمْرٌ ، وَإِنْ صَحَّتْ مُبَاشَرَتُهُ ، وَكَانَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ فَهُوَ نِيَابَةٌ فَجَعْلُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ يَقْتُلُ رَجُلًا عَمْدًا عُدْوَانًا هُوَ أَمْرٌ لَا نِيَابَةٌ ، وَجَعْلُهُ يَقْتُلُهُ قِصَاصًا نِيَابَةً ، وَوَكَالَةً ا هـ .
وَرُدَّ بِهَذَا عَلَى ابْنِ هَارُونَ الَّذِي أَبْطَلَ طَرْدَ تَعْرِيفِ ابْنِ الْحَاجِبِ الْوَكَالَةَ بِأَنَّهَا نِيَابَةٌ فِيمَا لَا تَتَعَيَّنُ الْمُبَاشَرَةُ بِالنِّيَابَةِ فِي الْمَعَاصِي كَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ وَقَتْلِ الْعُدْوَانِ ثُمَّ نَاقَضَ ابْنُ عَرَفَةَ كَلَامَهُ بِمَا ذَكَرَهُ بَعْدُ مِنْ أَنَّ الْوَكَالَةَ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنْ النِّيَابَةِ تُعْرَضُ لَهَا الْحُرْمَةُ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقِهَا ، وَمِثْلُ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ الْحَرَامِ ، وَهُوَ مَمْنُوعُ الْمُبَاشَرَةِ فَتَأَمَّلْهُ قَالَهُ الشَّيْخُ الْمُنَاوِيُّ ا هـ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ الْعَاشِرِ وَالْمِائَةِ تَوْضِيحُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ وَبَيْنَ مَا لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ ، وَفِي الْفَرْقِ الْحَادِي وَالسَّبْعِينَ وَالْمِائَةِ مَا يُوَضِّحُهُ مِنْ الْمَسَائِلِ ، وَبَقِيَ هُنَا مَسْأَلَةٌ ، وَهِيَ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ الْعِبَادَةِ كَالصَّلَاةِ الْعَيْنِيَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَصْلَحَتَهَا الْخُضُوعُ ، وَالْخُشُوعُ ، وَإِجْلَالُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَإِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ لَهُ لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا لِذَاتِهَا فَرْضًا أَوْ سُنَّةً أَوْ رَغِيبَةً أَوْ مَنْدُوبَةً لِعَدَمِ سُقُوطِهَا عَنْ الْمُسْتَنِيبِ إذَا فَعَلَهَا النَّائِبُ عَنْهُ لِفَوَاتِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي طَلَبَهَا الشَّارِعُ حِينَئِذٍ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ خُضُوعِ الْوَكِيلِ خُضُوعُ الْمُوَكِّلِ ، وَقَالَ عبق عَلَى خَلِيلٍ ، وَأَمَّا النِّيَابَةُ عَلَى إيقَاعِهَا بِمَكَانٍ وَزَمَنٍ مَخْصُوصَيْنِ فَتَصِحُّ كَالْقَارِئِ مُطْلَقًا ، وَكَنِيَابَةٍ فِي أَذَانٍ وَإِمَامَةٍ ، وَنَحْوِهِمَا كَقِرَاءَةٍ بِمُصْحَفٍ بِمَكَانٍ مَخْصُوصٍ لِضَرُورَةٍ ا هـ .
الْمُرَادُ قَالَ الْبُنَانِيُّ ، وَفِي التَّوْضِيحِ فِي بَابِ الْحَجِّ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ أَجِيرَ

الْحَجِّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ مَا أَخَذَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ إلَّا فِي الْحَجِّ ، وَلَا يَقْضِي بِهَا دَيْنَهُ ، وَيَسْأَلُ النَّاسَ ، وَأَنَّ ذَلِكَ جِنَايَةٌ مِنْهُ لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ غَرَضِ الْمَيِّتِ الْمُوصِي كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ ، وَجَنَى إنْ وَفَى دَيْنَهُ ، وَمَشَى مَا نَصُّهُ ، وَكَانَ شَيْخُنَا يَعْنِي الْمَنُوفِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ ، وَمِثْلُ هَذَا الْمَسَاجِدُ وَنَحْوُهَا يَأْخُذُهَا الْوَجِيهُ بِوَجَاهَتِهِ ثُمَّ يَدْفَعُ مِنْ مُرَتَّبَاتِهَا شَيْئًا قَلِيلًا لِمَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فَأَرَى أَنَّ الَّذِي أَبْقَاهُ لِنَفْسِهِ حَرَامٌ لِأَنَّهُ اتَّخَذَ عِبَادَةَ اللَّهِ مَتْجَرًا ، وَلَمْ يُوفِ بِقَصْدِ صَاحِبِهَا إذْ مُرَادُهُ التَّوْسِعَةُ لِيَأْتِيَ الْأَجِيرُ بِذَلِكَ مَشْرُوحَ الصَّدْرِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا إنْ اُضْطُرَّ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْإِجَارَةِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنِّي أَعْذُرُهُ لِضَرُورَتِهِ ا هـ .
فَكَلَامُ الْمَنُوفِيِّ هَذَا صَرِيحٌ فِي أَمْرَيْنِ : ( الْأَوَّلُ ) أَنَّ النَّائِبَ مَعَ الضَّرُورَةِ لَيْسَ لَهُ إلَّا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ مَعَ الْمَنُوبِ عَنْهُ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ .
( الثَّانِي ) أَنَّ النَّائِبَ مَعَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ مُسْتَحِقٌّ لِجَمِيعِ الْخَرَاجِ ، وَصَرِيحُ كَلَامِ الْقَرَافِيِّ الْمُوَافَقَةُ لِلْمَنُوفِيِّ فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَمُخَالَفَتُهُ فِي الْأَمْرِ الثَّانِي ، وَأَنَّ الِاسْتِنَابَةَ إذَا وَقَعَتْ مَعَ عَدَمِ الْغَدْرِ لَمْ يَكُنْ لِلنَّائِبِ ، وَلَا لِلْمَنُوبِ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ خَرَاجِ الْوَقْفِ حَيْثُ قَالَ فِي الْفَرْقِ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالْمِائَةِ مَا نَصُّهُ إذَا وَقَفَ الْوَاقِفُ عَلَى مَنْ يَقُومُ بِوَظِيفَةِ الْإِمَامَةِ أَوْ الْأَذَانِ أَوْ الْخَطَابَةِ أَوْ التَّدْرِيسِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ رِيعِ ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا إذَا قَامَ بِذَلِكَ الشَّرْطِ عَلَى مُقْتَضَى مَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ فَإِنْ اسْتَنَابَ غَيْرَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَنْهُ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الْأَعْذَارِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا مِنْ رِيعِ ذَلِكَ الْوَقْفِ أَمَّا النَّائِبُ فَلِأَنَّ

مِنْ شَرْطِ اسْتِحْقَاقِهِ صِحَّةُ وِلَايَتِهِ ، وَهِيَ مَشْرُوطَةٌ بِأَنْ تَكُونَ مِمَّنْ لَهُ النَّظَرُ ، وَهَذَا الْمُسْتَنِيبُ لَيْسَ لَهُ نَظَرٌ إنَّمَا هُوَ إمَامٌ أَوْ مُؤَذِّنٌ أَوْ خَطِيبٌ أَوْ مُدَرِّسٌ فَلَا تَصِحُّ الْوِلَايَةُ الصَّادِرَةُ مِنْهُ ، وَأَمَّا الْمُسْتَنِيبُ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا أَيْضًا بِسَبَبِ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ فَإِنْ اسْتَنَابَ فِي أَيَّامِ الْأَعْذَارِ جَازَ لَهُ تَنَاوُلُ رِيعِ الْوَقْفِ ، وَأَنْ يُطْلِقَ لِنَائِبِهِ مَا أَحَبَّ مِنْ ذَلِكَ الرِّيعِ ا هـ .
وَسَلَّمَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُورِيُّ ا هـ .
كَلَامُ الْبُنَانِيِّ بِتَصَرُّفٍ ، وَفِي حَاشِيَةِ كنون قَالَ الشَّيْخُ الْمِسْنَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَيَبْقَى النَّظَرُ فِيمَا يُعَدُّ عُذْرًا ، وَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ شَرْعًا فَإِنَّ الْأَسْبَابَ الْعَارِضَةَ لِلْمَرْءِ مِنْهَا مَا تَتَعَذَّرُ مَعَهُ مُبَاشَرَةُ الْوَظِيفَةِ عَادَةً كَالْمَرَضِ الشَّدِيدِ وَالْحَبْسِ وَالْغَيْبَةِ الْجَبْرِيَّةِ ، وَمِنْهَا مَا تُمْكِنُ الْمُبَاشَرَةُ مَعَهُ بِتَرْكِ ذَلِكَ الْعَارِضِ غَيْرَ أَنَّ فِي تَرْكِهِ فَوَاتَ مَنْفَعَةٍ أَوْ تَرْتِيبَ مَضَرَّةٍ كَخُرُوجِ مَنْ لَا كَافِيَ لَهُ إلَى مُطَالَعَةِ ضَيْعَتِهِ أَوْ تَفَقُّدِ بَعْضِ شُئُونِهِ أَوْ شُهُودِ وَلِيمَةٍ دُعِيَ إلَيْهَا فِي وَقْتِ الْوَظِيفَةِ أَوْ تَشْيِيعِ جِنَازَةِ قَرِيبٍ أَوْ صِدِّيقٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، وَمِنْهَا مَا تُمْكِنُ مَعَهُ أَيْضًا مَعَ عَدَمِ تَرَتُّبِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَقَصْدِ الِاسْتِرَاحَةِ ، وَكَتَعَاطِي أَسْبَابِ غَيْرِ حَاجِيَّتِهِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ دُونَ الثَّالِثِ كَمَا يَدُلُّ لَهُ مَا نَقَلَهُ فِي آخِرِ نَوَازِلِ الصَّلَاةِ مِنْ الْمِعْيَارِ عَنْ إمَامَيْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَمُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ مِنْ قَوْلِ الْأَوَّلِ ، وَلَا يَسْتَنِيبُ إلَّا لِعُذْرٍ جَرَتْ الْعَادَةُ بِالِاسْتِنَابَةِ فِيهِ كَالْمَرَضِ وَالْحَبْسِ ، وَقَوْلُ الثَّانِي لِعُذْرٍ لَا يُعَدُّ بِسَبَبِهِ مُقَصِّرًا ، وَمَا نَقَلَهُ

أَيْضًا فِي أَثْنَاءِ نَوَازِلِ الْحَبْسِ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْدُوسِيِّ مِنْ تَمْثِيلِهِ لِلْعُذْرِ بِالْخُرُوجِ إلَى الضَّيْعَةِ ، وَانْظُرْ السَّفَرَ لِلزِّيَارَةِ هَلْ هُوَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّالِثِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ أَوْ مِنْ الثَّانِي لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ ا هـ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مُتَوَلِّيَ الْوَظِيفَةِ إذَا عَطَّلَهَا رَأْسًا بِأَنْ لَمْ يُبَاشِرْ الْقِيَامَ بِهَا بِنَفْسِهِ ، وَلَا اسْتَنَابَ فِيهَا مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِهِ ، وَفِي كُلٍّ إمَّا أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ كَثِيرَةً أَوْ يَسِيرَةً ، وَالْحُكْمُ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ الْمُرَتَّبُ الْمَجْعُولُ لِمُتَوَلِّيهَا إلَّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ قِيَامِهِ بِهَا لِعُذْرٍ لَا يُعَدُّ بِسَبَبِهِ مُقَصِّرًا عَادَةً ، وَالْمُدَّةُ مَعَ ذَلِكَ يَسِيرَةٌ عُرْفًا كَمَا أَفَادَهُ السَّيِّدُ عَبْدُ اللَّهِ الْعَبْدُوسِيُّ فِي جَوَابٍ لَهُ مَذْكُورٍ فِي الْمِعْيَارِ ، وَنَصُّهُ قَالَ عُلَمَاؤُنَا كُلُّ مَنْ جُعِلَ لَهُ مُرَتَّبٌ عَلَى قِرَاءَةٍ أَوْ غَيْرِهَا ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِذَلِكَ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ خَوْفٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الْمُرَتَّبَ كَالْأَجِيرِ عَلَى شَيْءٍ لَا يَقُومُ بِحَقِّ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا عَطَّلَ مُدَّةً يَسِيرَةً كَخُرُوجِهِ إلَى ضَيْعَتِهِ ، وَتَفَقُّدِ شُئُونِهِ أَوْ يَمْرَضُ الْمُدَّةَ الْيَسِيرَةَ فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ الْأُجْرَةُ ا هـ .
وَمَثَّلَ لِلْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ فِي جَوَابٍ لَهُ آخَرَ مَذْكُورٍ فِيهِ أَيْضًا بِالْجُمْلَةِ وَنَحْوِهَا ، وَكَذَا نَقَلَ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ ابْنِ فَتُّوحٍ اُنْظُرْ الْقَوْلَ الْكَاشِفَ ا هـ .
بِلَفْظِهَا ، وَقَدْ قَدَّمْت فِي الْفَرْقِ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالْمِائَةِ عَنْ الشَّيْخِ مَنْصُورٍ الْحَنْبَلِيِّ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْإِقْنَاعِ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ جَوَازُ اسْتِنَابَةِ الْأَجِيرِ فِي مِثْلِ تَدْرِيسٍ وَإِمَامَةٍ وَخَطَابَةٍ وَنَحْوِهَا جَائِزَةٌ ، وَلَوْ نَهَى الْوَاقِفُ عَنْ

ذَلِكَ إذَا كَانَ النَّائِبُ مِثْلَ مُسْتَنِيبِهِ فِي كَوْنِهِ أَهْلًا لِمَا اُسْتُنِيبَ فِيهِ فَلَا تَغْفُلْ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَائِدَةٌ ) فِي حَاشِيَةِ الرَّهُونِيِّ عَلَى عبق مَا نَصَّهُ ابْنُ يُونُسَ الْأَصْلُ فِي جَوَازِ الْوَكَالَةِ قَوْله تَعَالَى { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ } وَقَوْلُهُ { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } وَالْأَوْصِيَاءُ كَالْوُكَلَاءِ ، وَمِنْ السُّنَّةِ حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ حِينَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ، وَجَعَلَ وَكِيلُهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا ، وَأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً بِدِينَارٍ فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ بِدِينَارٍ فَبَاعَ وَاحِدَةً بِدِينَارٍ فَأَتَاهُ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَرَكَةِ } ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ لِلْمَرِيضِ وَالْغَائِبِ وَالْحَاضِرُ مِثْلُ ذَلِكَ ا هـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ ا هـ .

( الْفَرْقُ السَّابِعَ عَشَرَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُوجِبُهُ ) أَسْبَابُ الضَّمَانِ ثَلَاثَةٌ فَمَتَى وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْهَا وَجَبَ الضَّمَانُ ، وَمَتَى لَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهَا لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ .
( أَحَدُهَا ) التَّفْوِيتُ مُبَاشَرَةً كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ ، وَقَتْلِ الْحَيَوَانِ ، وَأَكْلِ الطَّعَامِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
( وَثَانِيهَا ) التَّسَبُّبُ لِلْإِتْلَافِ كَحَفْرِ بِئْرٍ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ ، وَوَضْعِ السَّمُومِ فِي الْأَطْعِمَةِ ، وَوُقُودِ النَّارِ بِقُرْبِ الزَّرْعِ أَوْ الْأَنْدَرِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا شَأْنُهُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يُفْضِيَ غَالِبًا لِلْإِتْلَافِ .
( وَثَالِثُهَا ) وَضْعُ الْيَدِ غَيْرِ الْمُؤْتَمَنَةِ فَيَنْدَرِجُ فِي غَيْرِ الْمُؤْتَمَنَةِ يَدُ الْغَاصِبِ ، وَالْبَائِعُ يَضْمَنُ الْمَبِيعَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ تَوْفِيَةِ الْقَبْضِ فَإِنَّ ضَمَانَ الْمَبِيعِ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ مِنْهُ لِأَنَّ يَدَهُ غَيْرُ مُؤْتَمَنَةٍ ، وَيَدُ الْمُتَعَدِّي بِالدَّابَّةِ فِي الْإِجَارَةِ ، وَنَحْوِهَا ، وَيَخْرُجُ بِهَذَا الْقَيْدِ يَدُ الْمُودَعِ ، وَعَامِلِ الْقِرَاضِ ، وَيَدُ الْمُسَاقِي ، وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّهُمْ أُمَنَاءُ فَلَا يَضْمَنُونَ ، وَإِنَّمَا يَنْدَرِجُ فِيهِ الْغَاصِبُ وَنَحْوُهُ ، وَحَدُّ السَّبَبِ مَا يُقَالُ عَادَةً حَصَلَ الْهَلَاكُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطٍ ، وَالتَّسَبُّبُ مَا يَحْصُلُ الْهَلَاكُ عِنْدَهُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى إذَا كَانَ السَّبَبُ هُوَ الْمُقْتَضِي لِوُقُوعِ الْفِعْلِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ فِي مَحَلٍّ عُدْوَانًا فَيَتَرَدَّى فِيهَا بَهِيمَةٌ أَوْ غَيْرُهَا فَإِنْ أَرَادَهَا غَيْرُ الْحَافِرِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الْحَافِرِ تَقْدِيمًا لِلْمُبَاشِرِ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ ، وَيَضْمَنُ الْمُكْرَهُ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ سَبَبٌ ، وَفَاتِحُ الْقَفَصِ بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّهِ فَيَطِيرُ مَا فِيهِ حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَيْهِ ، وَاَلَّذِي يَحِلُّ دَابَّةً مِنْ رِبَاطِهَا أَوْ عَبْدًا مُقَيَّدًا خَوْفَ الْهَرَبِ فَيَهْرُبُ لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ سَوَاءٌ كَانَ الطَّيَرَانُ أَوْ

الْهَرَبُ عَقِيبَ الْفَتْحِ وَالْحَلِّ أَمْ لَا ، وَكَذَلِكَ السَّارِقُ يَتْرُكُ الْبَابَ مَفْتُوحًا ، وَمَا فِي الدَّارِ أَحَدٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنْ طَارَ الْحَيَوَانُ عَقِيبَ الْفَتْحِ ضَمِنَ ، وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ الْحَيَوَانَ طَارَ حِينَئِذٍ بِإِدَارَتِهِ لَا بِالْفَتْحِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَضْمَنُ إلَّا فِي الرِّقِّ إذَا حَلَّهُ فَيَتَبَدَّدُ مَا فِيهِ لَنَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ سَبَبُ الْإِتْلَافِ عَادَةً فَتُوجِبُ بِالضَّمَانِ كَسَائِرِ صُوَرِ التَّسَبُّبِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } سَقَطَ خُصُوصُ التَّسَبُّبِ بَقِيَ الْغُرْمُ ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا إذَا فَتَحَ مَرَاحَهُ فَخَرَجَتْ مَاشِيَتُهُ فَأَفْسَدَتْ الزَّرْعَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ احْتَجُّوا بِأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ التَّسَبُّبُ وَالْمُبَاشَرَةُ اُعْتُبِرَتْ الْمُبَاشَرَةُ دُونَهُ ، وَالطَّيْرُ مُبَاشِرٌ بِاخْتِيَارِهِ لِحَرَكَةِ نَفْسِهِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا عُدْوَانًا فَأَرْدَى فِيهَا غَيْرُهُ إنْسَانًا فَإِنَّ الْمُرْدِيَ يَضْمَنُ دُونَ الْأَوَّلِ ، وَالْحَيَوَانُ قَصْدُهُ مُعْتَبَرٌ بِدَلِيلِ جَوَارِحِ الصَّيْدِ إنْ أَمْسَكَتْ لِأَنْفُسِهَا لَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ أَوْ لِلصَّائِدِ أَكَلَ ، وَالْجَوَابُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الطَّائِرَ كَانَ مُخْتَارًا لِلطَّيَرَانِ ، وَلَعَلَّهُ كَانَ مُخْتَارًا لِلْإِقَامَةِ لِانْتِظَارِ الْعَلَفِ أَوْ خَوْفِ الْجَوَارِحِ الْكَوَاسِرِ ، وَإِنَّمَا طَارَ خَوْفًا مِنْ الْفَاتِحِ وَإِذَا احْتَمَلَ ، وَاحْتَمَلَ وَالسَّبَبُ مَعْلُومٌ فَيُضَافُ الضَّمَانُ إلَيْهِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ يَقَعُ فِيهَا حَيَوَانٌ مَعَ إمْكَانِ اخْتِيَارِهِ لِنُزُولِهَا لِفَزَعٍ خَلْفَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الصَّيْدَ لَا يُؤْكَلُ إذَا أَكَلَ مِنْهُ الْجَارِحُ سَلَّمْنَاهُ لَكِنْ الضَّمَانُ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّبَبِ الَّذِي تَوَصَّلَ بِهِ الطَّائِرُ لِمَقْصِدِهِ كَمَنْ أَرْسَلَ بَازِيًا عَلَى طَائِرِ غَيْرِهِ فَقَتَلَهُ الْبَازِي بِاخْتِيَارِهِ فَإِنَّ الْمُرْسِلَ يَضْمَنُ .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ

تَقْتَضِي اخْتِيَارَ الْحَيَوَانِ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْفَتْحَ سَبَبٌ مُجَرَّدٌ بَلْ هُوَ فِي مَعْنَى الْمُبَاشَرَةِ لِمَا فِي طَبْعِ الطَّائِرِ مِنْ النُّفُورِ مِنْ الْآدَمِيِّ ، وَأَمَّا إلْقَاءُ غَيْرِ الْحَافِرِ لِلْبِئْرِ إنْسَانًا ، وَإِلْقَاؤُهُ هُوَ نَفْسُهُ فِي الْبِئْرِ فَالْفَرْقُ أَنَّ قَصْدَ الطَّائِرِ وَنَحْوِهِ ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ } ، وَالْآدَمِيُّ يَضْمَنُ قَصَدَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ فَهَذَا هُوَ تَقْرِيرُ قَاعِدَةِ مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُوجِبُهُ ، وَهَاهُنَا مَسْأَلَتَانِ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) إذَا قُلْنَا بِالضَّمَانِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ يَوْمَ الْغَصْبِ دُونَ مَا بَعْدَهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تُعْتَبَرُ الْأَحْوَالُ كُلُّهَا فَيُضَمِّنُهُ أَعْلَى الْقِيَمِ ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ إذَا غَصَبَهَا ضَعِيفَةً مُشَوَّهَةً مَعِيبَةً بِأَنْوَاعٍ مِنْ الْعُيُوبِ فَزَالَتْ تِلْكَ الْعُيُوبُ عِنْدَهُ فَعِنْدَنَا الْقِيمَةُ وَعِنْدَهُ الثَّانِيَةُ لِأَنَّهَا أَعْلَى ، وَكَذَلِكَ خَالَفْنَا فِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ فَعِنْدَنَا أَوَّلَ يَوْمِ الشُّبْهَةِ وَعِنْدَهُ يُعْتَبَرُ أَعْلَى الرُّتَبِ فَيُوجِبُ لَهَا صَدَاقَ الْمِثْلِ فِي أَشْرَفِ أَحْوَالِهَا كَمَا يُوجِبُ أَعْلَى الْقِيَمِ فِي الْغَصْبِ .
لَنَا قَاعِدَةٌ أُصُولِيَّةٌ ، وَهِيَ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى عِلِّيَّةِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَتَّبَ الضَّمَانَ عَلَى الْأَخْذِ بِالْيَدِ فَيَكُونُ الْأَخْذُ بِالْيَدِ هُوَ سَبَبُ الضَّمَانِ فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ غَيْرَهُ سَبَبٌ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ سَبَبِيَّةِ غَيْرِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ } فَهَذِهِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى سَبَبِيَّةِ الْأَخْذِ كَقَوْلِنَا عَلَى الزَّانِي الرَّجْمُ .
وَعَلَى السَّارِقِ الْقَطْعُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى سَبَبِيَّةِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ ، وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ الْغَصْبِ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ

أَخَذَ الْآنَ بَلْ أَخَذَ فِيمَا مَضَى فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ السَّبَبُ بِمَا مَضَى ، وَفِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ أَوْ لِأَنَّ الصَّدَاقَ تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ بِالْوَطْأَةِ الْأُولَى .
وَالْأَصْلُ عَدَمُ انْتِقَالِهِ ، وَمَا قَالَهُ أَحَدٌ بِوُجُوبِ صَدَاقَيْنِ أَوْ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْغَصْبِ ، وَلَنَا قَاعِدَةٌ أُخْرَى أُصُولِيَّةٌ فِقْهِيَّةٌ ، وَهِيَ أَنَّ الْأَصْلَ تَرَتُّبُ الْمُسَبِّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ فَيَتَرَتَّبُ الضَّمَانُ حِينَ وَضْعِ الْيَدِ لَا مَا بَعْدَ ذَلِكَ ، وَالْمَضْمُونُ لَا يُضْمَنُ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ ، وَقِيَاسًا عَلَى حَوَالَةِ الْأَسْوَاقِ فَإِنَّهَا لَا تُضْمَنُ عِنْدَهُمْ ، وَقَدْ حَكَى اللَّخْمِيُّ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ ، وَحُكِيَ عَنْ أَشْهَبَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ أَخْذُ أَرْفَعِ الْقِيَمِ إذَا حَالَتْ الْأَسْوَاقُ ، وَالْفَرْقُ لِلْكُلِّ أَنَّ حَوَالَةَ الْأَسْوَاقِ رَغَبَاتُ النَّاسِ ، وَهِيَ بَيْنَ النَّاسِ خَارِجَةٌ عَنْ السِّلَعِ فَلَا تُضْمَنُ بِخِلَافِ زِيَادَةِ صِفَاتِهَا ، وَوَافَقَ الشَّافِعِيَّ فِي تَضْمِينِ أَعْلَى الْقِيَمِ أَحْمَدُ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَوَافَقَ مَشْهُورَنَا أَبُو حَنِيفَةَ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ تَعَلَّمَ الْعَبْدُ صَنْعَةً ثُمَّ نَسِيَهَا ضَمِنَهَا الْغَاصِبُ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ ( الْأَوَّلُ ) بِأَنَّ الْغَاصِبَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَأْمُورٌ بِالرَّدِّ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِرَدِّ الزِّيَادَةِ ، وَمَا رَدَّهَا فَيَكُونُ غَاصِبًا لَهَا فَيَضْمَنُهَا .
( الثَّانِي ) أَنَّ الزِّيَادَةَ نَشَأَتْ عَنْ مِلْكِهِ ، وَفِي مِلْكِهِ فَتَكُونُ مِلْكَهُ ، وَيَدُ الْعُدْوَانِ عَلَيْهَا فَتَكُونُ مَغْصُوبَةً فَيَضْمَنُ كَالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ ، وَلِأَنَّهُ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ ظَالِمٌ ، وَالظُّلْمُ عِلَّةُ الضَّمَانِ فَيَضْمَنُ ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ أَنَّهَا مُسَلَّمَةٌ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا سَبَبُ الضَّمَانِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْأَمْرِ وَلَا مِنْ الظُّلْمِ ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِمَا الضَّمَانُ فَإِنَّ الْأَسْبَابَ الشَّرْعِيَّةَ

تَفْتَقِرُ إلَى نَصْبٍ شَرْعِيٍّ ، وَلَفْظُ صَاحِبِ الشَّرْعِ اقْتَضَى سَبَبِيَّةَ وَضْعِ الْيَدِ ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ فَلَا بُدَّ لِسَبَبِيَّةِ غَيْرِهِ مِنْ دَلِيلٍ .
وَلَمْ يُوجَدْ وَضْعُ الْيَدِ فِي أَثْنَاءِ الْغَصْبِ بَلْ اسْتِصْحَابُهَا وَاسْتِصْحَابُ الشَّيْءِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ بِدَلِيلِ أَنَّ اسْتِصْحَابَ النِّكَاحِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ لِصِحَّتِهِ مَعَ الِاسْتِبْرَاءِ ، وَالْعَقْدُ لَا يَصِحُّ مَعَ الِاسْتِبْرَاءِ ، وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ يُوجِبُ تَرَتُّبَ الْعِدَّةِ عَقِيبَهُ .
وَاسْتِصْحَابُهُ لَا يُوجِبُ عِدَّةً ، وَوَضْعُ الْيَدِ عُدْوَانًا يُوجِبُ التَّنْسِيقَ وَالتَّأْثِيمَ ، وَلَوْ جُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَهِيَ تَحْتَ يَدِهِ لَمْ يَأْثَمْ حِينَئِذٍ ، وَلَمْ يَفْسُقْ ، وَابْتِدَاءُ الْعِبَادَاتِ يُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّاتُ ، وَغَيْرُهَا مِنْ التَّكْبِيرِ وَنَحْوِهِ ، وَدَوَامُهَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ فَعَلِمْنَا أَنَّ اسْتِصْحَابَ الشَّيْءِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ لَا سِيَّمَا ، وَسَبَبُ الضَّمَانِ هُوَ الْأَخْذُ عُدْوَانًا ، وَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ بَعْدَ زَمَنِ الْأَخْذِ أَنَّهُ أَخَذَ الْآنَ إلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْأَخْذِ تَجْرِي مَجْرَى الْمُنَاوَلَةِ ، وَالْحَرَكَاتُ الْخَاصَّةُ لَا يَصْدُقُ شَيْءٌ مِنْهَا مَعَ الِاسْتِصْحَابِ فَعُلِمَ أَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ مَنْفِيٌّ فِي زَمَنِ الِاسْتِصْحَابِ قَطْعًا .
وَنَحْنُ إنَّمَا نُضَمِّنُهُ الْآنَ بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ لَا بِمَا هُوَ حَاصِلٌ الْآنَ فَانْدَفَعَ مَا ذَكَرُوهُ ، وَأَنَّ الْقِيمَةَ إنَّمَا هُوَ يَوْمَ الْغَصْبِ زَادَتْ الْعَيْنُ أَوْ نَقَصَتْ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) إذَا ذَهَبَتْ جُلُّ مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ كَقَطْعِ ذَنَبِ بَغْلَةِ الْقَاضِي ، وَنَحْوُ ذَلِكَ فَعِنْدَنَا يَضْمَنُ الْجَمِيعَ ، وَهُوَ فَرْعٌ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْمَذَاهِبُ ، وَتَشَعَّبَتْ فِيهِ الْآرَاءُ ، وَطُرُقُ الِاجْتِهَادِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْعَبْدِ ، وَالثَّوْبِ كَقَوْلِنَا فِي الْأَكْثَرِ فَإِذَا ذَهَبَ النِّصْفُ أَوْ الْأَقَلُّ بِاعْتِبَارِ الْمَنْفَعَةِ عَادَةً

فَلَيْسَ لَهُ إلَّا مَا نَقَصَ فَإِنْ قَلَعَ عَيْنَ الْبَهِيمَةِ فَرُبْعُ الْقِيمَةِ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ عِنْدَهُمْ أَنْ لَا يَضْمَنَ إلَّا النَّقْصَ ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيلِ هَذَا الْقَوْلِ فَقِيلَ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِالْأَكْلِ وَالرُّكُوبِ فَعَلَى هَذَا يَتَعَدَّى الْحُكْمُ لِلْإِبِلِ وَالْبَقَرِ دُونَ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الرُّكُوبُ فَقَطْ فَيَتَعَدَّى الْحُكْمُ لِلْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ فَيَضْمَنُ أَيْضًا رُبْعَ الْقِيمَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْسَ لَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا مَا نَقَصَ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ فَإِنْ قَطَعَ يَدَيْ الْعَبْدِ أَوْ رِجْلَيْهِ فَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي تَخْيِيرِ السَّيِّدِ تَسْلِيمَ الْعَبْدِ ، وَأَخْذَ الْقِيمَةِ كَامِلَةً وَبَيْنَ إمْسَاكِهِ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَتَعَيَّنُ الْقِيمَةُ كَامِلَةً ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الْعَبْدِ خِلَافَ قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، وَأَصْلُ هَذَا الْفِقْهِ أَنَّ الضَّمَانَ الَّذِي سَبَبُهُ عُدْوَانٌ لَا يُوجِبُ مِلْكًا لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلتَّغْلِيطِ لَا سَبَبُ لِلرِّفْقِ وَعِنْدَنَا الْمِلْكُ مُضَافٌ لِلضَّمَانِ لَا لِسَبَبِهِ ، وَهُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْعُدْوَانِ ، وَغَيْرِهِ ، وَبَسْطُ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَنَا وُجُوهٌ ( الْأَوَّلُ ) أَنْ تَقُولَ إنَّهُ أَتْلَفَ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ فَيَضْمَنُ كَمَا لَوْ قَتَلَهَا أَمَّا إنَّهُ أَتْلَفَ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ فَلِأَنَّ ذَا الْهَيْئَةِ إذَا قَطَعَ ذَنَبَ بَغْلَتِهِ لَا يَرْكَبُهَا بَعْدُ ، وَالرُّكُوبُ هُوَ الْمَقْصُودُ .
وَأَمَّا قِيَاسُ ذَلِكَ عَلَى قَتْلِهَا فَلِأَنَّ إذَا قَتَلَهَا ضَمِنَهَا اتِّفَاقًا مَعَ بَقَاءِ انْتِفَاعِهِ بِإِطْعَامِهَا لِكِلَابِهِ ، وَبُزَاتِهِ ، وَبِدَبْغِ جِلْدِهَا فَيَنْتَفِعُ بِهِ أَوْ بِغَيْرِ دِبَاغٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَنَافِعِ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ عَادَةً ، وَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ الضَّمَانِ عَلِمْنَا أَنَّ الضَّمَانَ مُضَافٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا مِنْهَا

، وَهُوَ ذَهَابُ الْمَقْصُودِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْحُكْمِ عَمَلًا بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُوجِبِ .
( الثَّانِي ) أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ عَسَلًا وَشَيْرَجًا وَنَشًا فَعَقَدَ الْجَمِيعَ فَالُوذَجًا ضَمِنَ عِنْدَهُمْ مَعَ بَقَاءِ مَنَافِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْمَالِيَّةِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا ( وَثَالِثُهَا ) أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ عَبْدًا فَأَبَقَ أَوْ حِنْطَةً فَبَلَّهَا بَلَلًا فَاحِشًا ضَمِنَ عِنْدَهُمْ مَعَ بَقَاءِ التَّقَرُّبِ فِي الْأَوَّلِ بِالْعِتْقِ وَبَقَاءِ الْمَالِيَّةِ فِي الثَّانِي لَكِنْ جُلُّ الْمَقْصُودِ ذَهَبَ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا ، وَلَا يُقَالُ فِي الْآبِقِ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمِيعِ الْعَيْنِ ، وَفِي الْحِنْطَةِ بِتَدَاعِي الْفَسَادِ إلَيْهَا بِالْبَلَلِ لِأَنَّا نَقُولُ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَقْصُودِهِ ، وَأَفْسَدَهُ عَلَيْهِ نَاجِزًا مَعَ إمْكَانِ تَجْفِيفِ الْحِنْطَةِ ، وَعَمَلِهَا سَوِيقًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَنَافِعِ ، وَاحْتَجُّوا بِأَمْرَيْنِ ( الْأَوَّلُ ) قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتُدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَالِاعْتِدَاءُ حَصَلَ فِي الْبَعْضِ فَتَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْبَعْضِ ( وَثَانِيهِمَا ) أَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ لَوْ حَصَلَتْ فِي غَيْرِ بَغْلَةِ الْقَاضِي أَوْ الْأَمِيرِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْقِيمَةُ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى عَبْدِهِ أَوْ دَارِهِ لِأَنَّ تَقْوِيمَ الْمُتْلَفَاتِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ إنَّمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ وَالْأَزْمَانِ ، وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ ذَنَبَ حِمَارِ التُّرَابِ أَوْ خَرَقَ ثَوْبَ الْحَطَّابِ لَمْ يَلْزَمْهُ جَمِيعُ الْقِيمَةِ مَعَ تَعَذُّرِ بَيْعِهِ مِنْ الْأَمِيرِ ، وَالْقَاضِي لِأَنَّهُمَا لَا يَلْبَسَانِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقَطْعِ الْيَسِيرِ ، وَلَوْ قَطَعَ أُذُنَ الْأَمِيرِ نَفْسِهِ أَوْ أَنْفَ الْقَاضِي لَمَا اخْتَلَفَتْ الْجِنَايَةُ فَكَيْفَ بِدَابَّتِهِ مَعَ أَنَّ شَيْنَ الْقَاضِي بِقَطْعِ أَنْفِهِ أَشَدُّ ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ لِاقْتِضَائِهِ أَنْ يَعْوَرَّ فَرَسُ الْجَانِي كَمَا عَوِرَ فَرَسُهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ

إجْمَاعًا ، وَقِيلَ إنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي الدِّمَاءِ لَا فِي الْأَمْوَالِ ، وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { عَلَيْكُمْ } أَيْ أَنْفُسَكُمْ إنَّمَا تَنَاوَلَ أَنْفُسَنَا لِأَنَّهُ ضَمِيرُ الْأَنْفُسِ ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الدَّارَ جُلُّ مَقْصُودِهَا حَاصِلٌ بِخِلَافِ الْفَرَسِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَا يَخْتَلِفُ التَّقْوِيمُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ بَلْ يَخْتَلِفُ فَإِنَّ الدَّابَّةَ الصَّالِحَةَ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ كَالْقُضَاةِ وَالْخُطَبَاءِ أَنْفَسُ قِيمَةً لِعُمُومِ الْأَغْرَاضِ فِيهَا ، وَلِتَوَقُّعِ الْمُنَافَسَةِ فِي الْمُزَايَدَةِ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ ، وَأَمَّا أُذُنُ الْأَمِيرِ وَأَنْفُ الْقَاضِي فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ مَزَايَا الرِّجَالِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي بَابِ الدِّمَاءِ وَمَزَايَا الْأَمْوَالِ مُتَغَيِّرَةٌ فَدِيَةُ أَشْجَعِ النَّاسِ ، وَأَعْلَمِهِمْ كَدِيَةِ أَجْبَنِ النَّاسِ وَأَجْهَلِهِمْ فَأَيْنَ أَحَدُ الْبَابَيْنِ مِنْ الْآخَرِ .
( تَمْهِيدٌ ) تَحَصَّلَ أَنَّ النَّقْصَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ تَارَةً تَذْهَبُ الْعَيْنُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَهُ طَلَبُ الْقِيمَةِ اتِّفَاقًا ، وَتَارَةً يَكُونُ النَّقْصُ يَسِيرًا فَلَيْسَ لَهُ إلْزَامُ الْقِيمَةِ اتِّفَاقًا ، وَتَارَةً يَكُونُ الذَّاهِبُ مُخِلًّا بِالْمَقْصُودِ فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ فِي مَذْهَبِنَا إنَّ التَّعَدِّيَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ يَسِيرٌ لَا يُبْطِلُ الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ بِهِ ، وَيَسِيرٌ يُبْطِلُهُ ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ لَا يُبْطِلُ الْمَقْصُودَ مِنْهُ ، وَكَثِيرٌ يُبْطِلُهُ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ مُتَقَابِلَةٍ : أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ الْيَسِيرُ الَّذِي لَا يُبْطِلُ الْمَقْصُودَ لَا يَضْمَنُ الْعَيْنَ ، وَكَذَلِكَ الْكَثِيرُ الَّذِي لَا يُبْطِلُ الْمَقْصُودَ ، وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فَيُخَيَّرُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِتَضْمِينِهِ الْقِيمَةَ لَوْ أَرَادَ رَبُّهُ أَخْذَهُ ، وَمَا نَقَصَهُ فَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا

شَيْءَ لَهُ لِأَنَّهُ مَلَكَ أَنْ يَتَضَمَّنَهُ فَامْتَنَعَ فَذَلِكَ رِضًى .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي ، وَهُوَ الْيَسِيرُ الَّذِي يُبْطِلُ الْمَقْصُودَ فَقَاعِدَةُ مَالِكٍ تَقْتَضِي تَضْمِينَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي ذَنَبِ بَغْلَةِ الْقَاضِي قَالَ ، وَتَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمَرْكُوبَاتُ وَالْمَلْبُوسَاتُ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ ، وَعَنْ مَالِكٍ لَا يَضْمَنُهُ بِذَلِكَ ، وَفَرَّقَ ابْنُ حَبِيبٍ بَيْنَ الذَّنَبِ فَيَضْمَنُ ، وَالْأُذُنِ فَلَا يَضْمَنُ لِاخْتِلَافِ الشَّيْنِ فِيهِمَا ، وَاتَّفَقُوا فِي حَوَالَةِ الْأَسْوَاقِ عَلَى عَدَمِ التَّضْمِينِ لِأَنَّهَا رَغَبَاتُ النَّاسِ فَالنَّقْصُ فِي رَغَبَاتِ النَّاسِ لَا فِي الْمَغْصُوبِ

( الْفَرْقُ السَّابِعَ عَشَرَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُوجِبُهُ ) أَقُولُ هَذَا الْفَرْقُ مُكَرَّرٌ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفَرْقِ الْحَادِي عَشَرَ وَالْمِائَةِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُضْمَنُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُضْمَنُ .
وَقَدْ وَضَّحْته هُنَاكَ أَتَمَّ تَوْضِيحٍ ، وَضَمَمْت مَا زَادَهُ هَذَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ مَعَ زِيَادَةٍ مِنْ بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ ، وَغَيْرِهِ لَكِنَّهُ ذَكَرَ هُنَا مَسْأَلَتَيْنِ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَرْقِ ، وَلَمْ أَذْكُرْهَا هُنَاكَ .
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) مَشْهُورُ مَذْهَبِنَا الَّذِي حَكَاهُ اللَّخْمِيُّ عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ يَوْمَ الْغَصْبِ دُونَ مَا بَعْدَهُ ، وَأَنَّ صَدَاقَ الْمِثْلِ يَجِبُ لِلْمَوْطُوءَةِ فِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ أَوَّلَ يَوْمِ الشُّبْهَةِ دُونَ مَا بَعْدَهُ ، وَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ ، وَحُجَّتُنَا فِي الْغَصْبِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ : ( الْأَمْرُ الْأَوَّلُ ) الْقَاعِدَةُ الْأُصُولِيَّةُ ، وَهِيَ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى عِلِّيَّةِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ } قَدْ رَتَّبَ الضَّمَانَ عَلَى الْأَخْذِ بِالْيَدِ فَيَكُونُ الْأَخْذُ بِالْيَدِ هُوَ سَبَبُ الضَّمَانِ .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَخَذَتْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا يَدُلُّ قَوْلُنَا : عَلَى الزَّانِي الرَّجْمُ ، وَعَلَى السَّارِقِ الْقَطْعُ عَلَى سَبَبِيَّةِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ غَيْرَ الْأَخْذِ بِالْيَدِ سَبَبًا بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ سَبَبِيَّةِ غَيْرِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ذُكِرَ .
( الْأَمْرُ الثَّانِي ) الْقَاعِدَةُ الْأُصُولِيَّةُ الْفِقْهِيَّةُ ، وَهِيَ أَنَّ الْأَصْلَ تَرَتُّبُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ فَيَتَرَتَّبُ حِينَ وَضْعِ الْيَدِ لَا مَا بَعْدَ ذَلِكَ ، وَالْمَضْمُونُ لَا يُضْمَنُ لِأَنَّهُ

تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ .
( الْأَمْرُ الثَّالِثُ ) الْقِيَاسُ عَلَى حَوَالَةِ الْأَسْوَاقِ فَإِنَّهَا كَمَا لَا تُضْمَنُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ لَا يُضْمَنُ الْمَغْصُوبُ بَعْدَ يَوْمِ الْغَصْبِ ، وَحُجَّتُنَا فِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ إمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الْغَصْبِ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، وَإِمَّا لِأَنَّ الصَّدَاقَ تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ بِالْوَطْأَةِ الْأُولَى .
وَالْأَصْلُ عَدَمُ انْتِقَالِهِ ، وَمَا قَالَ أَحَدٌ بِوُجُوبِ صَدَاقَيْنِ ، وَخَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ فِيهِمَا فَقَالَ تُعْتَبَرُ فِي الْمَغْصُوبِ الْأَحْوَالُ كُلُّهَا ، وَيَضْمَنُ الْغَاصِبُ أَعْلَى الْقِيَمِ ، وَيُعْتَبَرُ فِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ أَعْلَى الرُّتَبِ فَيَجِبُ لَهَا صَدَاقُ الْمِثْلِ فِي أَشْرَفِ أَحْوَالِهَا كَمَا يَجِبُ أَعْلَى الْقِيَمِ فِي الْغَصْبِ ، وَوَافَقَهُ فِي تَضْمِينِ أَعْلَى الْقِيَمِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَّا أَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ الْأَصْحَابِ اعْتَبَرُوا الْأَخْذَ بِأَرْفَعِ الْقِيَمِ فِي حَوَالَةِ الْأَسْوَاقِ حَكَى اللَّخْمِيُّ عَنْ أَشْهَبَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ أَخْذَ أَرْفَعِ الْقِيَمِ إذَا حَالَتْ الْأَسْوَاقُ وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يَعْتَبِرْ التَّضْمِينَ بِحَوَالَةِ الْأَسْوَاقِ كَمَا عَلِمْت ، وَقَدْ يُفَرَّقُ لَهُ بَيْنَ حَوَالَةِ الْأَسْوَاقِ وَزِيَادَةُ صِفَاتِ السِّلَعِ بِأَنَّ الْحَوَالَةَ وَالْأَسْوَاقَ رَغَبَاتُ النَّاسِ ، وَهِيَ بَيْنَ النَّاسِ خَارِجَةٌ عَنْ السِّلَعِ فَلَا تُضْمَنُ بِخِلَافِ زِيَادَةِ صِفَاتِهَا ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي مَسَائِلَ : ( مِنْهَا ) مَا إذَا غَصَبَهَا ضَعِيفَةً مُشَوَّهَةً مَعِيبَةً بِأَنْوَاعٍ مِنْ الْعُيُوبِ فَزَالَتْ تِلْكَ الْعُيُوبُ عِنْدَهُ فَعِنْدَنَا الْقِيمَةُ الْأُولَى ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الثَّانِيَةُ لِأَنَّهَا أَعْلَى ، وَعَلَى مَذْهَبِهِ لَوْ تَعَلَّمَ الْعَبْدُ صَنْعَةً ثُمَّ نَسِيَهَا ضَمِنَهَا الْغَاصِبُ ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ بِوُجُوهٍ : ( الْأَوَّلُ ) بِأَنَّ الْغَاصِبَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَأْمُورٌ بِالرَّدِّ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِرَدِّ الزِّيَادَةِ فَمَا لَمْ يَرُدَّهَا يَكُونُ غَاصِبًا لَهَا فَيَضْمَنُهَا .
(

الثَّانِي ) أَنَّ الزِّيَادَةَ نَشَأَتْ عَنْ مِلْكِهِ ، وَفِي مِلْكِهِ فَتَكُونُ مِلْكَهُ ، وَيَدُ الْعُدْوَانِ عَلَيْهَا فَتَكُونُ مَغْصُوبَةً فَيَضْمَنُ كَالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ .
( الثَّالِثُ ) أَنَّهُ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ ظَالِمٌ ، وَالظُّلْمُ عِلَّةُ الضَّمَانِ فَيَضْمَنُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ ، وَإِنْ كَانَتْ مُسَلَّمَةً إلَّا أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا سَبَبُ الضَّمَانِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْأَمْرِ ، وَلَا مِنْ الظُّلْمِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمَا الضَّمَانُ لِعَدَمِ نَصْبِهَا شَرْعًا سَبَبًا لَهُ ، وَالْأَسْبَابُ الشَّرْعِيَّةُ تَفْتَقِرُ إلَى نَصْبٍ شَرْعِيٍّ ، وَلَفْظُ صَاحِبِ الشَّرْعِ إنَّمَا اقْتَضَى سَبَبِيَّةَ وَضْعِ الْيَدِ ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ فَلَا بُدَّ لِسَبَبِيَّةِ غَيْرِهِ مِنْ دَلِيلٍ ، وَلَمْ يُوجَدْ وَضْعُ الْيَدِ فِي أَثْنَاءِ الْغَصْبِ بَلْ اسْتِصْحَابُهَا ، وَاسْتِصْحَابُ الشَّيْءِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ بِدَلِيلِ نَظَائِرَ : ( مِنْهَا ) أَنَّ اسْتِصْحَابَ النِّكَاحِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ لِصِحَّتِهِ مَعَ الِاسْتِبْرَاءِ ، وَالْعَقْدُ لَا يَصِحُّ مَعَ الِاسْتِبْرَاءِ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ الطَّلَاقَ يُوجِبُ تَرَتُّبَ الْعِدَّةِ عَقِيبَهُ ، وَاسْتِصْحَابُهُ لَا يُوجِبُ عِدَّةً .
( وَمِنْهَا ) وَضْعُ الْيَدِ عُدْوَانًا يُوجِبُ التَّفْسِيقَ ، وَالتَّأْثِيمَ ، وَلَوْ جُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَهِيَ تَحْتَ يَدِهِ لَمْ يَأْثَمْ حِينَئِذٍ ، وَلَمْ يَفْسُقْ .
( وَمِنْهَا ) ابْتِدَاءُ الْعِبَادَةِ يُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّاتُ ، وَغَيْرُهَا مِنْ التَّكْبِيرِ وَنَحْوِهِ ، وَدَوَامُهَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ فَعَلِمْنَا أَنَّ اسْتِصْحَابَ الشَّيْءِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ لَا سِيَّمَا ، وَسَبَبُ الضَّمَانِ هُوَ الْأَخْذُ عُدْوَانًا ، وَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ بَعْد زَمَن الْأَخْذِ أَنَّهُ أَخَذَ الْآنَ إلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْأَخْذِ تَجْرِي مَجْرَى الْمُنَاوَلَةِ ، وَالْحَرَكَاتُ الْخَاصَّةِ لَا يَصْدُقُ شَيْءٌ مِنْهَا مَعَ الِاسْتِصْحَابِ فَعُلِمَ أَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ مَنْفِيٌّ فِي زَمَنِ الِاسْتِصْحَابِ قَطْعًا ،

وَنَحْنُ إنَّمَا نَضْمَنُهُ الْآنَ بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ لَا بِمَا هُوَ حَاصِلٌ الْآنَ فَانْدَفَعَ مَا ذَكَرُوهُ ، وَأَنَّ الْقِيمَةَ إنَّمَا هِيَ يَوْمَ الْغَصْبِ زَادَتْ الْعَيْنُ أَوْ نَقَصَتْ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) اخْتَلَفَتْ الْمَذَاهِبُ وَتَشَعَّبَتْ الْآرَاءُ ، وَطُرُقُ الِاجْتِهَادِ فِيمَا إذَا ذَهَبَ جُلُّ مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ كَقَطْعِ ذَنَبِ بَغْلَةِ الْقَاضِي ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعِنْدَنَا يَضْمَنُ الْجَمِيعَ فِي جَمِيعِ صُوَرِ ذَلِكَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْسَ لَهُ فِي جَمِيعِ صُوَرِ ذَلِكَ إلَّا مَا نَقَصَ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْعَبْدِ ، وَالثَّوْبِ كَقَوْلِنَا فِي الْأَكْثَرِ فِي أَنَّهُ إذَا ذَهَبَ النِّصْفُ أَوْ الْأَقَلُّ بِاعْتِبَارِ الْمَنْفَعَةِ عَادَةً فَلَيْسَ لَهُ إلَّا مَا نَقَصَ ، وَقَالَ فَإِنْ قَلَعَ عَيْنَ الْبَهِيمَةِ فَرُبْعُ الْقِيمَةِ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ عِنْدَهُمْ أَنْ لَا يَضْمَنَ إلَّا النَّقْصَ ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيلِ هَذَا الْقَوْلِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِالْأَكْلِ وَالرُّكُوبِ مَعًا ، وَعَلَيْهِ فَيَتَعَدَّى الْحُكْمُ لِلْإِبِلِ وَالْبَقَرِ دُونَ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالرُّكُوبِ فَقَطْ ، وَعَلَيْهِ فَيَتَعَدَّى الْحُكْمُ لِلْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ أَيْضًا فَيَضْمَنُ رُبْعَ الْقِيمَةِ فَإِذَا قَطَعَ يَدَيْ الْعَبْدِ أَوْ رِجْلَيْهِ فَأَبُو حَنِيفَةَ يُوَافِقُنَا فِي تَخْيِيرِ السَّيِّدِ بَيْنَ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ ، وَأَخْذِ الْقِيمَةِ كَامِلَةً وَبَيْنَ إمْسَاكِهِ ، وَلَا شَيْءَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَتَعَيَّنُ الْقِيمَةُ كَامِلَةً ، وَلَا يَلْزَمُ تَسْلِيمُ الْعَبْدِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَعْنِي مَسْأَلَةَ قَطْعِ ذَنَبِ بَغْلَةِ الْقَاضِي ، وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ خِلَافُهُمْ فِي الْمِلْكِ هَلْ يُضَافُ لِلضَّمَانِ وَسَبَبِهِ مَعًا ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُخَالِفِ فَلِذَا قَالَ الضَّمَانُ الَّذِي سَبَبُهُ عُدْوَانٌ لَا يُوجِبُ مِلْكًا لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلتَّغْلِيطِ لَا سَبَبٌ

لِلرِّفْقِ أَوْ يُضَافُ لِلضَّمَانِ فَقَطْ لَا لِسَبَبِهِ ، وَهُوَ قَوْلُنَا وَعَلَيْهِ فَالضَّمَانُ قَدْرٌ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْعُدْوَانِ وَغَيْرِهِ ، وَبَسْطُ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَنَا وُجُوهٌ ( الْأَوَّلُ ) أَنْ نَقُولَ إنَّهُ أَتْلَفَ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ فَيَضْمَنُ كَمَا لَوْ قَتَلَهَا أَمَّا أَنَّهُ أَتْلَفَ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ فَلِأَنَّ ذَا الْهَيْئَةِ إذَا قُطِعَ ذَنَبُ بَغْلَتِهِ لَا يَرْكَبُهَا بَعْدُ ، وَالرُّكُوبُ هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَأَمَّا قِيَاسُ ذَلِكَ عَلَى قَتْلِهَا فَلِأَنَّهُ إذَا قَتَلَهَا ضَمِنَهَا اتِّفَاقًا مَعَ بَقَاءِ انْتِفَاعِهِ بِإِطْعَامِهَا لِكِلَابِهِ وَبُزَاتِهِ ، وَبِدَبْغِ جِلْدِهَا فَيَنْتَفِعُ بِهِ أَوْ بِغَيْرِ دِبَاغٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَنَافِعِ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ عَادَةً فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ الضَّمَانِ عَلِمْنَا أَنَّ الضَّمَانَ مُضَافٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا مِنْهَا ، وَهُوَ ذَهَابُ الْمَقْصُودِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْحُكْمِ عَمَلًا بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُوجِبِ .
( الْوَجْهُ الثَّانِي ) أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ عَسَلًا وَشَيْرَجًا وَنَشًا فَعَقَدَ الْجَمِيعُ فَالُوذَجًا ضَمِنَ عِنْدَهُمْ مَعَ بَقَاءِ مَنَافِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْمَالِيَّةِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا .
( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ عَبْدًا فَأَبَقَ أَوْ حِنْطَةً فَبَلَّهَا بَلَلًا فَاحِشًا ضَمِنَ عِنْدَهُمْ مَعَ بَقَاءِ التَّقَرُّبِ فِي الْأَوَّلِ بِالْعِتْقِ وَبَقَاءِ الْمَالِيَّةِ فِي الثَّانِي لَكِنْ جُلُّ الْمَقْصُودِ ذَهَبَ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا ، وَكَمَا أَنَّهُ فِي الْآبِقِ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمِيعِ الْعَيْنِ ، وَفِي الْحِنْطَةِ أَفْسَدَهَا عَلَيْهِ نَاجِزًا بِالْبَلَلِ لِتَدَاعِي الْفَسَادِ إلَيْهَا بِهِ كَذَلِكَ صُورَةُ النِّزَاعِ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَقْصُودِهِ ، وَأَفْسَدَهُ عَلَيْهِ نَاجِزًا مَعَ إمْكَانِ تَجْفِيفِ الْحِنْطَةِ ، وَعَمَلِهَا سَوِيقًا ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَنَافِعِ ، وَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ الْأَمْرَيْنِ : ( الْأَوَّلُ ) قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ }

وَالِاعْتِدَاءُ حَصَلَ فِي الْبَعْضِ فَتَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْبَعْضِ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّ مُقْتَضَى أَنَّ تَقْوِيمَ الْمُتْلَفَاتِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ بَلْ إنَّمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ وَالْأَزْمَانِ أَنْ تَكُونَ الْجَنَابَةُ فِي بَغْلَةِ الْقَاضِي أَوْ الْأَمِيرِ مِثْلُهَا فِي غَيْرِهَا كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى عَبْدِهِ أَوْ دَارِهِ فِي عَدَمِ لُزُومِ قِيمَةِ الْجَمِيعِ بَلْ الْبَعْضِ ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ ذَنَبَ حِمَارِ التَّرَّابِ أَوْ خَرَقَ ثَوْبَ الْحَطَّابِ لَمْ يَلْزَمْهُ جَمِيعُ الْقِيمَةِ مَعَ تَعَذُّرِ بَيْعِ ذَلِكَ مِنْ الْأَمِيرِ وَالْقَاضِي فَإِنَّهُمَا لَا يَلْبَسَانِ ذَلِكَ الثَّوْبَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقَطْعِ الْيَسِيرِ ، وَأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ أُذُنَ الْأَمِيرِ نَفْسِهِ أَوْ أَنْفَ الْقَاضِي لَمَا اخْتَلَفَتْ الْجِنَايَةُ فَكَيْفَ بِدَابَّتِهِ مَعَ أَنَّ شَيْنَ الْقَاضِي بِقَطْعِ أَنْفِهِ أَشَدُّ فَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ : ( الْأَوَّلُ ) أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَعْوَرَّ فَرَسُ الْجَانِي كَمَا عَوِرَ فَرَسُهُ ، وَهَذَا الظَّاهِرُ مَتْرُوكٌ إجْمَاعًا .
( الثَّانِي ) أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي الدِّمَاءِ لَا فِي الْأَمْوَالِ .
( الثَّالِثُ ) أَنَّ قَوْله تَعَالَى { عَلَيْكُمْ } أَيْ أَنْفُسَكُمْ إنَّمَا تَنَاوَلَ أَنْفُسَنَا لِأَنَّهُ ضَمِيرُ الْأَنْفُسِ ، وَعَنْ الثَّانِي بِثَلَاثَةِ وُجُوهٍ : ( الْأَوَّلُ ) أَنَّ الدَّارَ جُلُّ مَقْصُودِهَا حَاصِلٌ بِخِلَافِ الْفَرَسِ .
( الثَّانِي ) أَنَّا لَا نُسَلِّمُ قَوْلَهُمْ لَا يَخْتَلِفُ التَّقْوِيمُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ بَلْ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ وَالْأَزْمَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّابَّةَ الصَّالِحَةَ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ كَالْقُضَاةِ وَالْخُطَبَاءِ أَنْفَسُ قِيمَةً لِعُمُومِ الْأَغْرَاضِ فِيهَا ، وَلِتَوَقُّعِ الْمُنَافِسَةِ فِي الْمُزَايَدَةِ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ .
( الثَّالِثُ ) أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى أُذُنِ الْأَمِيرِ وَأَنْفِ الْقَاضِي بَاطِلٌ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي بَابِ الدِّمَاءِ مَزَايَا الْأَمْوَالِ لَا مَزَايَا الرِّجَالِ

فَإِنَّ دِيَةَ أَشْجَعِ النَّاسِ وَأَعْلَمِهِمْ كَدِيَةِ أَجْبَنِ النَّاسِ وَأَجْهَلِهِمْ فَأَيْنَ أَحَدُ الْبَابَيْنِ مِنْ الْآخَرِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَالنَّقْصُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : ( الْأَوَّلُ ) مَا تَذْهَبُ بِهِ الْعَيْنُ بِالْكُلِّيَّةِ فَيُوجِبُ طَلَبَ الْقِيمَةِ اتِّفَاقًا .
( وَالثَّانِي ) مَا لَا يُبْطِلُ الْمَقْصُودَ فَلَا تَلْزَمُ بِهِ الْقِيمَةُ اتِّفَاقًا .
( وَالثَّالِثُ ) مَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ فِي مَذْهَبِنَا إنَّ التَّعَدِّيَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ يَسِيرٌ لَا يُبْطِلُ الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ بِهِ ، وَيَسِيرٌ يُبْطِلُهُ ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ لَا يُبْطِلُ الْمَقْصُودَ ، وَكَثِيرٌ يُبْطِلُهُ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ مُتَقَابِلَةٍ ( أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) وَهُوَ الْيَسِيرُ الَّذِي لَا يُبْطِلُ الْمَقْصُودَ فَلَا يَضْمَنُ الْعَيْنَ ، وَكَذَلِكَ الْكَثِيرُ الَّذِي لَا يُبْطِلُ الْمَقْصُودَ ، وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ ، وَأَمَّا الْقِسْمُ ( الرَّابِعُ ) وَهُوَ الْكَثِيرُ الَّذِي يُبْطِلُ الْمَقْصُودَ فَيُخَيَّرُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِتَضْمِينِهِ الْقِيمَةَ لَوْ أَرَادَ بِهِ أَخْذَهُ ، وَمَا نَقَصَهُ فَذَلِكَ لَهُ عِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا شَيْءَ لَهُ لِأَنَّهُ مَلَكَ أَنْ يَضْمَنَهُ فَامْتَنَعَ فَذَلِكَ رِضًى بِنَقْصِهِ ( وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي ) وَهُوَ الْيَسِيرُ الَّذِي يُبْطِلُ الْمَقْصُودَ فَقَاعِدَةُ مَالِكٍ تَقْتَضِي تَضْمِينَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي ذَنَبِ بَغْلَةِ الْقَاضِي قَالَ وَتَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمَرْكُوبَاتُ وَالْمَلْبُوسَاتُ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ ، وَعَنْ مَالِكٍ لَا يَضْمَنُهُ بِذَلِكَ ، وَفَرَّقَ ابْنُ حَبِيبٍ بَيْنَ الذَّنَبِ فَيَضْمَنُ وَبَيْنَ الْأُذُنِ فَلَا يَضْمَنُ لِاخْتِلَافِ الشَّيْنِ فِيهِمَا ، وَاتَّفَقُوا فِي حَوَالَةِ الْأَسْوَاقِ عَلَى عَدَمِ التَّضْمِينِ لِأَنَّهَا رَغَبَاتُ النَّاسِ فَالنَّقْصُ فِي رَغَبَاتِ النَّاسِ لَا فِي الْمَغْصُوبِ هَذَا تَهْذِيبُ مَا فِي الْأَصْلِ ، وَسَلَّمَهُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ

الشَّاطِّ ، وَفِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ لِحَفِيدِ ابْنِ رُشْدٍ ، وَالنُّقْصَانُ الطَّارِئُ عَلَى الْمَغْصُوبِ إمَّا مِنْ قِبَلِ الْمَخْلُوقِ ، وَإِمَّا مِنْ قِبَلِ الْخَالِقِ كَأَنْ يَكُونَ بِأَمْرٍ مِنْ السَّمَاءِ ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الثَّانِي إلَّا أَنْ يَأْخُذَهُ نَاقِصًا أَوْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ ، وَقِيلَ إنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ ، وَيَضْمَنَ الْغَاصِبُ قِيمَةَ الْعَيْبِ .
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِجِنَايَةِ الْغَاصِبِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَالْمَغْصُوبُ فِي الْأَوَّلِ مُخَيَّرٌ فِي الْمَذْهَبِ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ يَوْمَ الْغَصْبِ أَوْ يَأْخُذَهُ ، وَمَا نَقَصَتْهُ الْجِنَايَةُ يَوْمَ الْجِنَايَةَ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ ، وَعِنْدَ سَحْنُونٍ مَا نَقَصَتْهُ الْجِنَايَةُ يَوْمَ الْغَصْبِ ، وَذَهَبَ أَشْهَبُ إلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ أَوْ يَأْخُذَهُ نَاقِصًا ، وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْجِنَايَةِ كَاَلَّذِي يُصَابُ بِأَمْرٍ مِنْ السَّمَاءِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْمَوَّازِ ، وَسَبَبٍ إلَّا فِي اخْتِلَافِ الْخِلَافِ جَعْلِ مَا حَصَلَ فِي الْمَغْصُوبِ مِنْ نَمَاءٍ وَنُقْصَانٍ كَأَنَّهُ حَدَثَ فِي مِلْكٍ صَحِيحٍ فَتَجِبُ لِلْغَاصِبِ الْغَلَّةُ .
وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي النُّقْصَانِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ سَبَبِهِ أَوْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ مَنْ يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ فَقَطْ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَسَحْنُونٍ أَوْ جَعْلِ الْمَغْصُوبِ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَشْهَبَ وَابْنِ الْمَوَّازِ أَوْ أَنَّهُ إنْ كَانَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ أَخَذَهُ بِأَرْفَعِ الْقِيَمِ ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ رَدَّ الْغَلَّةِ ، وَضَمَانَ النُّقْصَانِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ فِعْلِهِ أَوْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَوْ قِيَاسُ قَوْلِهِ أَوْ أَنَّ جِنَايَةَ الْغَاصِبِ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي غَصَبَهُ هُوَ غَصْبٌ ثَانٍ مُتَكَرِّرٌ مِنْهُ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ ، وَهُوَ فِي مِلْكِ صَاحِبِهِ ، وَهُوَ قِيَاسُ الشَّبَهِ الَّذِي هُوَ عُمْدَةُ مَشْهُورِ مَذْهَبِ مَالِكٍ مِنْ

التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْجِنَايَةِ الَّتِي تَكُونُ مِنْ الْغَاصِبِ وَبَيْنَ الْجِنَايَةِ الَّتِي تَكُونُ بِأَمْرٍ مِنْ السَّمَاءِ ، وَالْمَغْصُوبُ فِي الثَّانِي ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَ نَقْصُ الشَّيْءِ الَّذِي غُصِبَ مِنْهُ بِجِنَايَةِ غَيْرِ الْغَاصِبِ عَلَيْهِ وَهُوَ عِنْدَ الْغَاصِبِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ الْقِيمَةَ يَوْمَ الْغَصْبِ ، وَيَتْبَعُ الْغَاصِبُ الْجَانِيَ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ الْغَاصِبَ ، وَيَتْبَعَ الْجَانِيَ بِحُكْمِ الْجِنَايَاتِ فَهَذَا حُكْمُ الْجِنَايَاتِ عَلَى الْعَيْنِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ .
وَأَمَّا الْجِنَايَاتُ عَلَى الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْصِبَهَا غَاصِبٌ فَإِنَّهَا تَنْقَسِمُ عِنْدَ مَالِكٍ إلَى قِسْمَيْنِ جِنَايَةٌ تُبْطِلُ يَسِيرًا مِنْ الْمَنْفَعَةِ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الشَّيْءِ بَاقٍ فَهَذَا يَجِبُ فِيهِ مَا نَقَصَ يَوْمَ الْجِنَايَةِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَوَّمَ صَحِيحًا ، وَيُقَوَّمَ بِالْجِنَايَةِ فَيُعْطِي مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ ، وَجِنَايَةٌ تُبْطِلُ الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ فَصَاحِبُهُ يَكُونُ مُخَيَّرًا إنْ شَاءَ أَسْلَمَهُ لِلْجَانِي ، وَأَخَذَ قِيمَتَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الْجِنَايَةِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُ إلَّا قِيمَةُ الْجِنَايَةِ ، وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ الِالْتِفَاتُ إلَى الْحَمْلِ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَتَشْبِيهُ إتْلَافِ أَكْثَرِ الْمَنْفَعَةِ بِإِتْلَافِ الْعَيْنِ ا هـ .
بِتَخْلِيصٍ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّامِنَ عَشَرَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقُ بَعْضِهِ إبْطَالَ الْعَقْدِ فِي الْكُلِّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَقْتَضِي إبْطَالَ الْعَقْدِ فِي الْكُلِّ ) إذَا اُسْتُحِقَّ بَعْضُ مَا اشْتَرَيْتَهُ أَوْ صَالَحْتَ عَلَيْهِ أَوْ وَجَدْتَ بِهِ عَيْبًا فَلَهُ أَحْوَالٌ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلِيًّا أَوْ مُقَوَّمًا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا أَوْ شَائِعًا فَأَمَّا الْمِثْلِيُّ فَهُوَ الْمَكِيلُ ، وَالْمَوْزُونُ فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ مِنْهُ قَلِيلَهُ لَزِمَك بَاقِيهِ لِأَنَّ الْقَلِيلَ لَا يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ ، وَالْأَصْلُ لُزُومُ الْعَقْدِ لَك ، وَإِنْ اسْتَحَقَّ كَثِيرَهُ فَإِنَّك تُخَيَّرُ بَيْنَ حَبْسِ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ حَقُّك فِي الْعَقْدِ وَبَيْنَ رَدِّهِ لِذَهَابِ الْمَقْصُودِ ، وَهُوَ جُلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَقَدْ ذَهَبَ مَقْصُودُ الْعَقْدِ فِي الْمَعْنَى .
وَأَمَّا الْمُقَوَّمُ غَيْرُ الْمِثْلِيِّ إنْ اُسْتُحِقَّ أَقَلُّهَا إنْ كَانَتْ ثِيَابًا وَنَحْوَهَا رَجَعَتْ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ لِبَقَاءِ جُلِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَخْتَلَّ مَقْصُودُ الْعَقْدِ ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّ وَجْهُ الصَّفْقَةِ انْتَقَصَتْ كُلُّهَا ، وَيُرَدُّ بَاقِيهَا لِفَوَاتِ مَقْصُودِ الْعَقْدِ ، وَيَحْرُمُ التَّمَسُّكُ بِمَا بَقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ لِأَنَّ حِصَّتَهُ لَا تُعْرَفُ حَتَّى تُقَوَّمَ فَهُوَ بَيْعٌ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ هَذَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُعَيَّنِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَيْبِ إذَا وَجَدْته بِهَا ، وَأَمَّا الْجُزْءُ الشَّائِعُ إذَا اسْتَحَقَّ مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ فَيُخَيَّرُ فِي التَّمَسُّكِ بِالْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ لِأَنَّ حِصَّتَهُ مَعْلُومَةٌ بِغَيْرِ تَقْوِيمٍ فَاسْتُصْحِبَ الْعَقْدُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَحْوَالٍ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قَدْ ظَهَرَ

( الْفَرْقُ الثَّامِنَ عَشَرَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقُ بَعْضِهِ إبْطَالَ الْعَقْدِ فِي الْكُلِّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَقْتَضِي إبْطَالَ الْعَقْدِ فِي الْكُلِّ ) وَهُوَ أَنَّ مَا اشْتَرَيْته أَوْ صَالَحْت عَلَيْهِ إذَا اُسْتُحِقَّ بَعْضُهُ أَوْ ، وَجَدْت بِهِ عَيْبًا فَلَهُ سِتَّةُ أَحْوَالٍ تَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) مَا يَقْتَضِي فِيهِ ذَلِكَ تَخْيِيرُك فِي التَّمَاسُكِ وَالرُّجُوعِ بِحِصَّةِ الْبَعْضِ الْمُسْتَحَقِّ أَوْ الْمَعِيبِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَفِي رَدِّهِ ، وَذَلِكَ فِي ثَلَاثِ حَالَاتٍ : ( الْحَالَةُ الْأُولَى ) أَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ الْمُسْتَحَقُّ أَوْ الْمَعِيبُ شَائِعًا مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ ، وَلَيْسَ مِنْ رِبَاعِ الْغَلَّةِ فَيُخَيَّرُ فِيمَا ذُكِرَ لِأَنَّ حِصَّةَ ذَلِكَ الْبَعْضِ مَعْلُومَةٌ بِغَيْرِ تَقْوِيمٍ فَيُسْتَصْحَبُ الْعَقْدُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ، وَلِضَرَرِ الشَّرِكَةِ سَوَاءٌ اُسْتُحِقَّ الْأَقَلُّ أَوْ الْأَكْثَرُ .
( الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ ) أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مُعَيَّنًا مِثْلِيًّا ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ فَتُخُيِّرَ فِيمَا ذُكِرَ لِذَهَابِ مَقْصُودِ الْعَقْدِ فِي الْمَعْنَى .
( الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ ) أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَعْضُ شَائِعًا مِمَّا يَنْقَسِمُ أَوْ مِنْ الْمُتَّخَذِ لِلْغَلَّةِ ، وَهُوَ الثُّلُثُ فَتُخُيِّرَ فِيمَا ذُكِرَ أَيْضًا لِأَنَّ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ مَعْلُومَةٌ قَبْلَ الرِّضَا بِهِ .
( الْقِسْمُ الثَّانِي ) مَا لَا يَقْتَضِي فِيهِ ذَلِكَ إبْطَالَ الْعَقْدِ فِي الْكُلِّ بَلْ لُزُومُ التَّمَسُّكِ بِالْبَاقِي ، وَذَلِكَ فِي حَالَتَيْنِ : ( الْحَالَةُ الْأُولَى ) أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَعْضُ شَائِعًا مِمَّا يَنْقَسِمُ أَوْ مُتَّخَذًا لِغَلَّةٍ ، وَهُوَ دُونَ الثُّلُثِ فَيَجِبُ التَّمَسُّكُ ، وَالرُّجُوعُ بِحِصَّةِ ذَلِكَ الْبَعْضِ مِنْ الثَّمَنِ .
( الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ ) أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مُعَيَّنًا ، وَهُوَ الْأَقَلُّ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ مُقَوَّمٍ كَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ أَوْ مِنْ مِثْلِيٍّ أَيْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ فَيَجِبُ التَّمَسُّكُ وَالرُّجُوعُ فِي الْمُقَوَّمِ بِحِصَّةِ ذَلِكَ الْبَعْضِ

بِالْقِيمَةِ لَا بِالْقِسْمَةِ ، وَفِي الْمِثْلِيِّ بِحِصَّةِ ذَلِكَ الْبَعْضِ مِنْ الثَّمَنِ قَالَ الْأَصْلُ لِأَنَّ الْقَلِيلَ لَا يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ لِبَقَاءِ جُلِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَالْأَصْلُ لُزُومُ الْعَقْدِ لَك .
( الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) مَا يَقْتَضِي تَعَيُّنَ رَدِّ الْبَاقِي ، وَذَلِكَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مُعَيَّنًا مِنْ الْمُقَوَّمِ ، وَهُوَ وَجْهُ الصَّفْقَةِ فَيَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ إبْطَالُ الْعَقْدِ فِي الْكُلِّ ، وَيُرَدُّ الْبَاقِي لِفَوَاتِ مَقْصُودِ الْعَقْدِ ، وَيَحْرُمُ التَّمَسُّكُ بِمَا بَقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ لِأَنَّ حِصَّتَهُ لَا تُعْرَفُ حَتَّى تُقَوَّمَ فَهُوَ بَيْعٌ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ فَفِي حَاشِيَةِ الْبُنَانِيِّ عَلَى عبق عِنْدَ قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ مِنْ فَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّ بَعْضٌ فَكَالْبَيْعِ أَيْ الْمَعِيبِ مَا نَصُّهُ حَاصِلُ اسْتِحْقَاقِ الْبَعْضِ أَنْ تَقُولَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ شَائِعًا أَوْ مُعَيَّنًا فَإِنْ كَانَ شَائِعًا مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ ، وَلَيْسَ مِنْ رِبَاعِ الْغَلَّةِ خُيِّرَ الْمُشْتَرِي فِي التَّمَاسُكِ وَالرُّجُوعِ بِحِصَّةِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ الثَّمَنِ ، وَفِي رَدِّهِ لِضَرَرِ الشَّرِكَةِ سَوَاءٌ اُسْتُحِقَّ الْأَقَلُّ أَوْ الْأَكْثَرُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْقَسِمُ أَوْ كَانَ مُتَّخَذًا لِغَلَّةٍ خُيِّرَ فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثِ ، وَوَجَبَ التَّمَسُّكُ فِيمَا دُونَهُ ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّ جُزْءٌ مُعَيَّنٌ فَإِنْ كَانَ خُصُوصًا كَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ رَجَعَ بِحِصَّةِ الْبَعْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْقِيمَةِ لَا بِالتَّسْمِيَةِ ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّ وَجْهُ الصَّفْقَةِ تَعَيَّنَ رَدُّ الْبُنَانِيُّ .
وَلَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِالْأَقَلِّ ، وَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا فَإِنْ اُسْتُحِقَّ الْأَقَلُّ رَجَعَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّ الْأَكْثَرُ خُيِّرَ فِي التَّمَسُّكِ وَالرُّجُوعِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَفِي الرَّدِّ ، وَكَذَلِكَ يُخَيَّرُ فِي التَّمَسُّكِ وَالرَّدِّ فِي جُزْءٍ شَائِعٍ مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ لِأَنَّ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ مَعْلُومَةٌ قَبْلَ الرِّضَا بِهِ

اُنْظُرْ الْحَطَّابَ ا هـ .
كَلَامُ الْبُنَانِيِّ بِلَفْظِهِ ، وَسَلَّمَهُ الرَّهُونِيُّ وَكَنُونِ ، وَهُوَ عَيْنُ مَا فِي الْأَصْلِ ، وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ إلَّا أَنَّهُ زَادَ عَلَى مَا فِي الْأَصْلِ بَيَانَ حُكْمِ حَالَتَيْ الْبَعْضِ الشَّائِعِ إنْ كَانَ مِمَّا يَنْقَسِمُ أَوْ كَانَ مُتَّخَذًا لِغَلَّةٍ ، وَهُوَ ثُلُثٌ أَوْ دُونَهُ فَلِذَا عَوَّلْت عَلَيْهِ فِي بَيَانِ الْفَرْقِ لَا عَلَى مَا فِي الْأَصْلِ فَتَنَبَّهْ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ التَّاسِعَ عَشَرَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَجِبُ الْتِقَاطُهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَجِبُ الْتِقَاطُهُ ) قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ الِالْتِقَاطُ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا وَمُسْتَحَبًّا وَمُحَرَّمًا وَمَكْرُوهًا بِحَسَبِ حَالِ الْمُلْتَقِطِ وَحَالِ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ وَأَهْلِهِ ، وَمِقْدَارِ اللُّقَطَةِ فَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مَأْمُونًا ، وَلَا يَخْشَى السُّلْطَانُ إذَا أَشْهَرَهَا ، وَهِيَ بَيْنَ قَوْمٍ أُمَنَاءَ لَا يُخْشَى عَلَيْهَا مِنْهُمْ ، وَلَهَا قَدْرٌ فَأَخْذُهَا وَتَعْرِيفُهَا مُسْتَحَبٌّ ، وَهَذِهِ صُورَةُ السَّائِلِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ خُذْهَا ، وَلِأَنَّهُ أَحْوَطُ لِصَاحِبِهَا خَوْفَ أَنْ يَأْخُذَهَا مَنْ لَيْسَ بِمَأْمُونٍ ، وَلَا يَنْتَهِي إلَى الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ بَيْنَ قَوْمٍ أُمَنَاءَ وَبَيْنَ غَيْرِ الْأُمَنَاءِ يَجِبُ الِالْتِقَاطُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ وَلِنَهْيِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ غَيْرَ مَأْمُونٍ إذَا أَشْهَرَهَا أَخَذَهَا ، أَوْ الْوَاجِدُ غَيْرُ أَمِينٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُهَا لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ لِضَيَاعِ مَالِ الْمُسْلِمِ ، وَإِنْ كَانَتْ حَقِيرَةً كُرِهَ أَخْذُهَا لِأَنَّ الْغَالِبَ عَدَمُ الْمُبَالَغَةِ فِي تَعْرِيفِ الْحَقِيرِ وَعَدَمُ الِاحْتِفَالِ بِهِ ، وَالْحَقِيرُ كَالدِّرْهَمِ ، وَنَحْوِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْوَلِيدِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ فِي لُقَطَةِ الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْأَفْضَلُ تَرْكُهَا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَمُرُّ بِاللُّقَطَةِ فَلَا يَأْخُذُهَا ، وَالْأَفْضَلُ أَخْذُهَا لِأَنَّ فِيهِ صَوْنَ مَالِ الْغَيْرِ الثَّالِثُ أَخْذُ الْجَلِيلِ أَفْضَلُ ، وَتَرْكُ الْحَقِيرِ أَفْضَلُ ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَوْمٍ مَأْمُونِينَ ، وَإِمَامٍ عَدْلٍ أَمَّا بَيْنَ الْخَوَنَةِ ، وَلَا يُخْشَى السُّلْطَانُ إذَا عُرِّفَتْ فَالْأَخْذُ وَاجِبٌ اتِّفَاقًا وَبَيْنَ خَوَنَةٍ ، وَيَخْشَى مِنْ الْإِمَامِ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَخْذِهَا ، وَتَرْكِهَا بِحَسَبِ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَيُّ الْخَوْفَيْنِ أَشَدُّ ، وَيُسْتَثْنَى

لُقَطَةُ الْحَاجِّ فَلَا يَجْرِي فِيهَا هَذَا الْخِلَافُ كُلُّهُ لِأَنَّهَا بِالتَّرْكِ أَوْلَى لِأَنَّ مُلْتَقِطَهَا يَرْحَلُ إلَى قُطْرِهِ ، وَهُوَ بَعِيدٌ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ التَّعْرِيفِ .
( قَاعِدَةٌ ) خَمْسٌ اجْتَمَعَتْ الْأُمَمُ مَعَ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلَيْهَا ، وَهِيَ وُجُوبُ حِفْظِ النُّفُوسِ وَالْعُقُولِ فَتَحْرُمُ الْمُسْكِرَاتُ بِإِجْمَاعِ الشَّرَائِعِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ فِي شُرْبِ الْقَدْرِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ فَحَرُمَ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ تَحْرِيمَ الْوَسَائِلِ ، وَسَدُّ الذَّرِيعَةِ بِتَنَاوُلِ الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ ، وَأُبِيحَ فِي غَيْرِهَا مِنْ الشَّرَائِعِ لِعَدَمِ الْمَفْسَدَةِ ، وَحِفْظِ الْأَعْرَاضِ فَيَحْرُمُ الْقَذْفُ ، وَسَائِرُ السِّبَابِ ، وَيَجِبُ حِفْظُ الْأَنْسَابِ فَيَحْرُمُ الزِّنَى فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ ، وَالْأَمْوَالُ يَجِبُ حِفْظُهَا فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ فَتَحْرُمُ السَّرِقَةُ ، وَنَحْوُهَا ، وَيَجِبُ حِفْظُ اللُّقَطَةِ عَنْ الضَّيَاعِ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ قَاعِدَةِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَفَرْضِ الْأَعْيَانِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ مَا لَا تَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ بِتَكَرُّرِهِ كَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ فَتَكْرِيرُ فِعْلِ النُّزُولِ بَعْدَ شَيْلِ الْغَرِيقِ لَا يُحَصِّلُ مَصْلَحَةً بَعْدَ ذَلِكَ ، وَفَرْضُ الْأَعْيَانِ هُوَ مَا تَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ بِتَكَرُّرِهِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مَصْلَحَتُهَا الْإِجْلَالُ وَالتَّعْظِيمُ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ يَتَكَرَّرُ حُصُولُهُ بِتَكَرُّرِ الصَّلَاةِ ، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّ أَخْذَ اللُّقَطَةِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ كَمَا قَالَ بِهِمَا مَالِكٌ قِيَاسًا عَلَى الْوَدِيعَةِ بِجَامِعِ حِفْظِ الْمَالِ فَيَلْزَمُ النَّدْبُ أَوْ قِيَاسًا عَلَى إنْقَاذِ الْمَالِ الْهَالِكِ فَيَلْزَمُ الْوُجُوبُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَخْذُهَا مَنْدُوبٌ إلَّا عِنْدَ خَوْفِ الضَّيَاعِ فَيَجِبُ وَعِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْكَرَاهَةُ لِمَا فِي الِالْتِقَاطِ مِنْ تَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِأَكْلِ الْحَرَامِ ، وَتَضْيِيعِ

الْوَاجِبِ مِنْ التَّعْرِيفِ فَكَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى كَتَوَلِّي مَالِ الْيَتِيمِ وَتَخْلِيلِ الْخَمْرِ ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الدُّخُولَ فِي التَّكَالِيفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } أَيْ ظَلُومًا لِنَفْسِهِ بِتَوْرِيطِهَا وَتَعْرِيضِهَا لِلْعِقَابِ وَجَهُولًا بِالْعَوَاقِبِ وَالْحَزْمِ فِيهَا ، وَالْأَمَانَةُ قَالَ الْعُلَمَاءُ هِيَ هَا هُنَا التَّكَالِيفُ ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا فَصَّلَ وَقَسَّمَ أَخْذَ اللُّقَطَةِ إلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ إلَّا أَصْحَابَنَا بَلْ كُلُّهُمْ أَطْلَقُوا .

( الْفَرْقُ التَّاسِعَ عَشَرَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَجِبُ الْتِقَاطُهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَجِبُ الْتِقَاطُهُ ) وَهُوَ أَنَّ الِالْتِقَاطَ بِحَسَبِ حَالِ الْمُلْتَقِطِ بِكَسْرِ الْقَافِ وَحَالِ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ ، وَأَهْلِهِ يَنْقَسِمُ كَمَا فِي التَّوْضِيحِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ إجْمَالًا وَأَرْبَعَةً تَفْصِيلًا : ( الْأَوَّلُ ) أَنْ يَعْلَمَ مِنْ نَفْسِهِ الْخِيَانَةَ فَيَحْرُمُ الْتِقَاطُهَا .
( الثَّانِي ) أَنْ يَخَافَ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ أَيْ بِأَنْ يَشُكَّ فَيُكْرَهُ .
( الثَّالِثُ ) أَنْ يَتَيَقَّنَ أَمَانَةَ نَفْسِهِ ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ إمَّا أَنْ يَخَافَ عَلَيْهَا الْخَوَنَةَ أَمْ لَا فَإِنْ خَافَ وَجَبَ عَلَيْهِ الِالْتِقَاطُ ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِمَالِكٍ الِاسْتِحْبَابُ وَالْكَرَاهَةُ وَالِاسْتِحْبَابُ فِيمَا لَهُ بَالٌ ، وَالتَّرْكُ لِغَيْرِهِ أَفْضَلُ ا هـ .
بِاخْتِصَارٍ أَفَادَهُ الْبُنَانِيُّ عَلَى عبق يَعْنِي أَنَّ التَّرْكَ لِغَيْرِ مَا لَهُ بَالٌ أَفْضَلُ مِنْ الِالْتِقَاطِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَدَمُ الْمُبَالَغَةِ فِي تَعْرِيفِ الْحَقِيرِ وَعَدَمُ الِاحْتِفَالِ بِهِ ، وَالْحَقِيرُ كَالدِّرْهَمِ ، وَنَحْوِهِ كَمَا سَيَأْتِي عَنْ اللَّخْمِيِّ قَالَ الْبُنَانِيُّ ، وَاخْتَارَ التُّونُسِيُّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْكَرَاهَةَ أَيْ مُطْلَقًا كَمَا فِي الْجَوَاهِرِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ يَعْنِي الشَّيْخَ خَلِيلًا بِقَوْلِهِ الْخِيَانَةَ فِيمَا إذَا عَلِمَ خِيَانَةً عَلَى الْأَحْسَنِ ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وُجُوبَ الِالْتِقَاطِ عَلَيْهِ ، وَتَرَكَهُ نَفْسُهُ أَيْ وَهُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ الَّذِي قَالَ فِي التَّوْضِيحِ فِيهِ بِحُرْمَةِ الْتِقَاطِهَا ، وَفِيمَا إذَا شَكَّ فِيهَا أَنَّهُ هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي الَّذِي قَالَ فِي التَّوْضِيحِ فِيهِ بِكَرَاهَتِهِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا يُسْقِطُ عَنْهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِ مَالِ الْغَيْرِ قَالَ الْحَطَّابُ ، وَمَا قَالَهُ حَسَنٌ ا هـ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ا هـ .
كَلَامُ الْبُنَانِيِّ ، وَسَلَّمَهُ الرَّهُونِيُّ وَكَنُونِ ، وَيَتَحَصَّلُ مِنْ هَذَا أَنَّ وُجُوبَ الِالْتِقَاطِ

عَلَى كَلَامِ التَّوْضِيحِ فِي قِسْمٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ ، وَهُوَ مَا تَحَقَّقَ فِيهِ أَمْرَانِ الْأَوَّلُ أَنْ يَتَيَقَّنَ أَمَانَةَ نَفْسِهِ ، وَالثَّانِي أَنْ يَخَافَ عَلَى اللُّقَطَةِ الْخَوَنَةَ ، وَأَنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ فِيمَا عَدَاهُ فَيَحْرُمُ فِي قِسْمٍ ، وَهُوَ مَا إذَا عَلِمَ خِيَانَةَ نَفْسِهِ ، وَيُكْرَهُ جَزْمًا فِي قِسْمٍ ، وَهُوَ مَا إذَا شَكَّ فِي خِيَانَةِ نَفْسِهِ ، وَيُكْرَهُ عَلَى الْأَحْسَنِ مِنْ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي قِسْمٍ ، وَهُوَ مَا تَحَقَّقَ فِيهِ أَمْرَانِ الْأَوَّلُ أَنْ يَتَيَقَّنَ أَمَانَةَ نَفْسِهِ ، وَالثَّانِي أَنْ لَا يَخَافَ عَلَى اللُّقَطَةِ الْخَوَنَةَ .
وَأَمَّا وُجُوبُ الِالْتِقَاطِ عَلَى مَا اسْتَظْهَرَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْحَطَّابُ فَفِي ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ الْأَوَّلُ مَا تَحَقَّقَ فِيهِ أَمْرَانِ تَيَقُّنُ أَمَانَةِ نَفْسِهِ ، وَخَوْفُ الْخَوَنَةِ عَلَى اللُّقَطَةِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ مَا إذَا عَلِمَ خِيَانَةَ نَفْسِهِ أَوْ شَكَّ فِيهَا ، وَلَا يَكُونُ عِلْمُ الْخِيَانَةِ أَوْ الشَّكِّ فِيهَا عُذْرًا بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُهَا وَعَدَمُ وُجُوبِ الِالْتِقَاطِ فِي قِسْمٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ مَا تَحَقَّقَ فِيهِ أَمْرَانِ تَيَقُّنُ أَمَانَةِ نَفْسِهِ وَعَدَمُ خَوْفِ الْخَوَنَةِ عَلَى اللُّقَطَةِ فَفِي كَرَاهَتِهِ ثَالِثُهَا إنْ كَانَتْ حَقِيرَةً كَالدِّرْهَمِ وَنَحْوِهِ ، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ .
وَانْظُرْ وَجْهَ عَدَمِ اسْتِحْسَانِهِ وُجُوبُ الِالْتِقَاطِ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ حَتَّى فِيمَا إذَا كَانَتْ حَقِيرَةً ضَرُورَةَ أَنَّ كَوْنَ الْغَالِبِ عَدَمُ الْمُبَالَغَةِ فِي تَعْرِيفِ الْحَقِيرِ وَعَدَمُ الِاحْتِفَالِ بِهِ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ تَيَقُّنِ خِيَانَةِ نَفْسِهِ الَّتِي أَوْجَبَ عَلَيْهِ تَرْكَهَا فَلْيُتَأَمَّلْ بِإِمْعَانٍ ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ إنَّمَا يَجْرِي عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّيْخُ أَبُو الْوَلِيدِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ حَيْثُ قَالَ فِي الْأَصْلِ فِي لُقَطَةِ الْمَالِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ الْأَفْضَلُ تَرْكُهَا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَمُرُّ بِاللُّقَطَةِ

فَلَا يَأْخُذُهَا ، وَالْأَفْضَلُ أَخْذُهَا لِأَنَّ فِيهِ صَوْنُ مَالِ الْغَيْرِ الثَّالِثُ أَخْذُ الْجَلِيلِ أَفْضَلُ وَتَرْكُ الْحَقِيرِ أَفْضَلُ ، وَهَذَا إذَا كَانَ بَيْنَ قَوْمٍ مَأْمُونِينَ ، وَالْإِمَامُ عَدْلٌ أَمَّا بَيْنَ الْخَوَنَةِ ، وَلَا يَخْشَى السُّلْطَانَ إذَا عُرِّفَتْ فَالْأَخْذُ وَاجِبٌ اتِّفَاقًا وَبَيْنَ خَوَنَةٍ ، وَيَخْشَى مِنْ الْإِمَامِ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَخْذِهَا وَتَرْكِهَا بِحَسَبِ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَيُّ الْخَوْفَيْنِ أَشَدُّ ، وَيُسْتَثْنَى لُقَطَةُ الْحَاجِّ فَلَا يَجْرِي فِيهَا هَذَا الْخِلَافُ كُلُّهُ لِأَنَّهَا بِالتَّرْكِ أَوْلَى لِأَنَّ مُلْتَقِطَهَا يَرْحَلُ إلَى قُطْرِهِ ، وَهُوَ بَعِيدٌ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ التَّعْرِيفِ ا هـ .
بِلَفْظِهِ نَعَمْ التَّفْصِيلُ فِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ فِي كَلَامِ أَبِي الْوَلِيدِ غَيْرُهُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ التَّوْضِيحِ ، وَإِنَّمَا يُقَرَّرُ مِنْهُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ التَّوْضِيحِ التَّفْصِيلُ فِي قَوْلِ اللَّخْمِيِّ الِالْتِقَاطُ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا وَمُسْتَحَبًّا وَمُحَرَّمًا وَمَكْرُوهًا بِحَسَبِ حَالِ الْمُلْتَقِطِ وَحَالِ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ وَأَهْلِهِ ، وَمِقْدَارَ اللُّقْطَةِ فَإِنْ كَانَ الْوَاجِدُ مَأْمُونًا ، وَلَا يَخْشَى السُّلْطَانَ إذَا أَشْهَرَهَا ، وَهِيَ بَيْنَ قَوْمٍ أُمَنَاءَ لَا يُخْشَى عَلَيْهَا مِنْهُمْ ، وَلَهَا قَدْرٌ فَأَخْذُهَا وَتَعْرِيفُهَا مُسْتَحَبٌّ ، وَهَذِهِ صُورَةُ السَّائِلِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ خُذْهَا وَلِأَنَّهُ أَحْوَطُ لِصَاحِبِهَا خَوْفَ أَنْ يَأْخُذَهَا مَنْ لَيْسَ بِمَأْمُونٍ ، وَلَا يَنْتَهِي إلَى الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ بَيْنَ قَوْمٍ أُمَنَاءَ وَبَيْنَ غَيْرِ الْأُمَنَاءِ يَجِبُ الِالْتِقَاطُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ ، وَلِنَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ غَيْرَ مَأْمُونٍ إذَا أَشْهَرَهَا أَخَذَهَا أَوْ الْوَاجِدُ غَيْرَ أَمِينٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُهَا لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ لِضَيَاعِ مَالِ الْمُسْلِمِ ، وَإِنْ كَانَتْ حَقِيرَةً كُرِهَ أَخْذُهَا لِأَنَّ الْغَالِبَ عَدَمُ الْمُبَالَغَةِ فِي تَعْرِيفِ الْحَقِيرِ

وَعَدَمُ الِاحْتِفَالِ بِهِ ، وَالْحَقِيرُ كَالدِّرْهَمِ ، وَنَحْوِهِ كَمَا فِي الْأَصْلِ .
( تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ ) قَالَ الْأَصْلُ وَلَمْ أَرَ أَحَدًا فَصَّلَ ، وَقَسَّمَ أَخَذَ اللُّقَطَةَ إلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ إلَّا أَصْحَابَنَا بَلْ كُلُّهُمْ أَطْلَقُوا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ كَمَا قَالَ بِهِمَا مَالِكٌ قِيَاسًا عَلَى الْوَدِيعَةِ بِجَامِعِ حِفْظِ الْمَالِ فَيَلْزَمُ النَّدْبُ أَوْ قِيَاسًا عَلَى إنْقَاذِ الْمَالِ الْهَالِكِ فَيَلْزَمُ الْوُجُوبُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَخْذُهَا مَنْدُوبٌ إلَّا عِنْدَ خَوْفِ الضِّيَاعِ فَيَجِبُ ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْكَرَاهَةُ لِمَا فِي الِالْتِقَاطِ مِنْ تَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِأَكْلِ الْحَرَامِ وَتَضْيِيعِ الْوَاجِبِ مِنْ التَّعْرِيفِ فَكَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى كَتَوَلِّي مَالِ الْيَتِيمِ ، وَتَخْلِيلِ الْخَمْرِ ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الدُّخُولَ فِي التَّكَالِيفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } أَيْ ظَلُومًا لِنَفْسِهِ بِتَوْرِيطِهَا وَتَعْرِيضِهَا لِلْعِقَابِ ، وَجَهُولًا بِالْعَوَاقِبِ وَالْحَزْمِ فِيهَا ، وَالْأَمَانَةُ قَالَ الْعُلَمَاءُ هِيَ هَا هُنَا التَّكَالِيفُ ا هـ .
( التَّنْبِيهُ الثَّانِي ) قَالَ الْأَصْلُ أَيْضًا وُجُوبُ حِفْظِ اللُّقَطَةِ عَنْ الضَّيَاعِ لِقَاعِدَةِ أَنَّ خَمْسًا أَجْمَعَتْ الْأُمَمُ مَعَ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلَيْهَا ، وَهِيَ وُجُوبُ حِفْظِ النُّفُوسِ فَيَحْرُمُ الْقَتْلُ بِإِجْمَاعِ الشَّرَائِعِ ، وَيَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ ، وَوُجُوبُ حِفْظِ الْعُقُولِ فَتَحْرُمُ الْمُسْكِرَاتُ بِإِجْمَاعِ الشَّرَائِعِ ، وَيَجِبُ فِيهَا الْحَدُّ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ فِي شُرْبِ الْقَدْرِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ فَحُرِّمَ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ تَحْرِيمَ الْوَسَائِلِ ، وَسَدُّ الذَّرِيعَةِ بِتَنَاوُلِ الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ ، وَأُبِيحَ فِي غَيْرِهَا مِنْ الشَّرَائِعِ لِعَدَمِ الْمَفْسَدَةِ فِيهِ ، وَوُجُوبُ حِفْظِ الْأَعْرَاضِ

فَيَحْرُمُ الْقَذْفُ ، وَسَائِرُ السِّبَابِ ، وَيَجِبُ فِي ذَلِكَ الْحَدُّ أَوْ التَّعْذِيرُ ، وَوُجُوبُ حِفْظِ الْأَنْسَابِ فَيَحْرُمُ الزِّنَا فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ ، وَيَجِبُ فِيهِ إمَّا الرَّجْمُ أَوْ الْحَدُّ ، وَوُجُوبُ حِفْظِ الْأَمْوَالِ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ فَتَحْرُمُ السَّرِقَةُ ، وَيَجِبُ فِيهَا الْقَطْعُ أَوْ التَّعْزِيرُ ، وَكَذَا نَحْوُهَا ا هـ بِزِيَادَةٍ مِنْ مُحَلَّى جَمْعِ الْجَوَامِعِ ، وَزَادَ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ سَادِسًا ، وَهُوَ وُجُوبُ حِفْظِ الدِّينِ الْمَشْرُوعِ لَهُ قَتْلُ الْكُفَّارِ ، وَعُقُوبَةُ الدَّاعِينَ إلَى الْبِدَعِ ا هـ .
مَعَ شَرْحِ الْمُحَلَّى فَافْهَمْ .
( التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ ) قَالَ الْأَصْلُ أَيْضًا أَنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَفَرْضِ الْعَيْنِ بِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ مَا لَا يَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ بِتَكَرُّرِهِ كَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ فَإِنَّ تَكْرِيرَ فِعْلِ النُّزُولِ بَعْدَ شَيْلِ الْغَرِيقِ لَا يُحَصِّلُ مَصْلَحَةً بَعْدَ ذَلِكَ ، وَفَرْضُ الْأَعْيَانِ مَا تَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ بِتَكَرُّرِهِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَإِنَّ مَصْلَحَتَهَا الْإِجْلَالُ ، وَالتَّعْظِيمُ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ يَتَكَرَّرُ حُصُولُهُ بِتَكَرُّرِ الصَّلَاةِ وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ أَخْذَ اللُّقَطَةِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ ا هـ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ ) قَدْ تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْمَصَالِحَ إمَّا فِي مَحَلِّ الضَّرُورِيَّاتِ أَوْ فِي مَحَلِّ الْحَاجِيَّاتِ أَوْ فِي مَحَلِّ التَّتِمَّاتِ ، وَإِمَّا مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ إمَّا لِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ ، وَإِمَّا لِقِيَامِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ ، وَالْفَرْقُ هَا هُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَإِنَّ اشْتِرَاطَ الْعَدَالَةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ مَصْلَحَةٌ لِحُصُولِ الضَّبْطِ بِهَا وَعَدَمِ الِانْضِبَاطِ مَعَ الْفَسَقَةِ ، وَمَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ فَاشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ إمَّا فِي مَحَلِّ الضَّرُورَاتِ كَالشَّهَادَاتِ فَإِنَّ الضَّرُورَةَ تَدْعُو لِحِفْظِ دِمَاءِ النَّاسِ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَبْضَاعِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ عَنْ الضَّيَاعِ فَلَوْ قُبِلَ فِيهَا قَوْلُ الْفَسَقَةِ ، وَمَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ لَضَاعَتْ .
وَكَذَلِكَ الْوِلَايَاتُ كَالْإِمَامَةِ وَالْقَضَاءِ وَأَمَانَةِ الْحُكْمِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوِلَايَاتِ مِمَّا فِي مَعْنَى هَذِهِ لَوْ فُوِّضَتْ لِمَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ لَحَكَمَ بِالْجَوْرِ ، وَانْتَشَرَ الظُّلْمُ ، وَضَاعَتْ الْمَصَالِحُ ، وَكَثُرَتْ الْمَفَاسِدُ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ بَعْضُهُمْ فِي الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى الْعَدَالَةَ لِغَلَبَةِ الْفُسُوقِ عَلَى وُلَاتِهَا فَلَوْ اُشْتُرِطَتْ لَتَعَطَّلَتْ التَّصَرُّفَاتُ الْمُوَافِقَةُ لِلْحَقِّ فِي تَوْلِيَةِ مَنْ يُوثَقُ بِهِ مِنْ الْقُضَاةِ وَالسُّعَاةِ ، وَأَخْذِ مَا يَأْخُذُونَهُ ، وَبَذْلِ مَا يَبْذُلُونَهُ ، وَفِي هَذَا ضَرَرٌ عَظِيمٌ أَقْبَحُ مِنْ فَوَاتِ عَدَالَةِ السُّلْطَانِ ، وَلَمَّا كَانَ تَصَرُّفُ الْقُضَاةِ أَعَمَّ مِنْ تَصَرُّفِ الْأَوْصِيَاءِ ، وَأَخَصَّ مِنْ تَصَرُّفِ الْأَئِمَّةِ اُخْتُلِفَ فِي إلْحَاقِهِمْ بِهِمْ أَوْ بِالْأَوْصِيَاءِ عَلَى الْخِلَافِ فِي عَدَالَةِ الْوَصِيِّ ، وَإِذَا نُفِّذَتْ تَصَرُّفَاتُ الْبُغَاةِ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ الْقَطْعِ بِعَدَمِ وِلَايَتِهِمْ فَأَوْلَى نُفُوذُ تَصَرُّفَاتِ الْوُلَاةِ وَالْأَئِمَّةِ مَعَ غَلَبَةِ الْفُجُورِ عَلَيْهِمْ مَعَ قُدْرَةِ الْبُغَاةِ

وَعُمُومِ الضَّرُورَةِ لِلْوُلَاةِ ، وَأَمَّا مَحَلُّ الْحَاجَاتِ كَإِمَامَةِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ شُفَعَاءُ .
وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ لِإِصْلَاحِ حَالِ الشَّفِيعِ عِنْدَ الْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ ، وَإِلَّا لَا تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ فَيُشْتَرَطُ فِيهِمْ الْعَدَالَةُ ، وَكَذَلِكَ الْمُؤَذِّنُونَ الَّذِينَ يُعْتَمَدُ عَلَى أَقْوَالِهِمْ فِي دُخُولِ الْأَوْقَاتِ وَإِيقَاعِ الصَّلَوَاتِ أَمَّا مَنْ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَى قَوْلِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَالَةٌ كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فَيَصِحُّ جَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ ، وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ لِأَجْلِ الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِهِ فَقَطْ ، وَلَمْ أَرَ فِي هَذَا الْقِسْمِ خِلَافًا بِخِلَافِ الْإِمَامَةِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِيهَا فَاشْتَرَطَهَا مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْهَا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالصَّلَاةُ مَقْصِدٌ وَالْأَذَانُ وَسِيلَةٌ وَالْعِنَايَةُ بِالْمَقَاصِدِ أَوْلَى مِنْ الْوَسَائِلِ غَيْرَ أَنَّ الْفَرْقَ عِنْدَهُ أَنَّ الْفَاسِقَ تَصِحُّ صَلَاتُهُ فِي نَفْسِهِ إجْمَاعًا ، وَكُلُّ مُصَلٍّ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلَمْ تَدْعُهُ حَاجَةٌ لِصَلَاحِ حَالِ الْإِمَامِ وَمَالِكٌ يَرَى أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ مُرْتَبِطَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ ، وَأَنَّ فِسْقَهُ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الرَّبْطِ فَهَذَا مَنْشَأُ الْخِلَافِ .
وَأَمَّا الْأَذَانُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُؤَذِّنِ غَيْرَ مَوْثُوقٍ بِهِ حَتَّى يُؤَذِّنَ قَبْلَ الْوَقْتِ تَعَدَّى خَلَلُهُ لِلصَّلَاةِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ قَبْلَ وَقْتِهَا بَاطِلَةٌ ، وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ الْفَاسِقُ غَيْرَ مُتَطَهِّرٍ أَوْ أَخَلَّ بِشَرْطٍ بَاطِنٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْمَأْمُومُ لَمْ يَقْدَحْ عِنْدَهُ فِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ حَصَّلَ ذَلِكَ الشَّرْطَ فَلَا يَقْدَحُ عِنْدَهُ تَضْيِيعُ غَيْرِهِ لَهُ .
وَإِنْ أَخَلَّ بِرُكْنٍ ظَاهِرٍ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، وَنَحْوِهِمَا فَالِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ ضَرُورِيٌّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْعَدَالَةِ فِيهِ لِأَنَّ الْعِلْمَ

الظَّاهِرَ نَابَ عَنْ الْعَدَالَةِ فِي ضَبْطِ الْمَصْلَحَةِ فَاسْتَغْنَى عَنْهَا فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ ، وَأَمَّا مَحَلُّ التَّتِمَّاتِ فَكَالْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهَا تَتِمَّةٌ ، وَلَيْسَتْ بِحَاجِيَّةٍ بِسَبَبِ أَنَّ الْوَازِعَ الطَّبِيعِيَّ فِي الشَّفَقَةِ عَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهَا يَمْنَعُ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْعَارِ ، وَالسَّعْيِ فِي الْإِضْرَارِ فَقَرَّبَ عَدَمَ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ كَالْإِقْرَارَاتِ لِقِيَامِ الْوَازِعِ الطَّبِيعِيِّ فِيهَا غَيْرَ أَنَّ الْفَاسِقَ قَدْ يُوَالِي أَهْلَ شِيعَتِهِ فَيُؤْثِرُهُمْ بِوِلَايَتِهِ كَأُخْتِهِ وَابْنَتِهِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَحْصُلُ لَهَا الْمَفْسَدَةُ الْعَظِيمَةُ فَاشْتُرِطَتْ الْعَدَالَةُ ، وَكَانَ اشْتِرَاطُهَا تَتِمَّةً لِأَجْلِ تَعَارُضِ هَاتَيْنِ الشَّائِبَتَيْنِ ، وَهَذَا التَّعَارُضُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الشَّائِبَتَيْنِ هُوَ سَبَبُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ ، وَهَلْ تَصِحُّ وِلَايَةُ الْفَاسِقِ أَمْ لَا ، وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ قَوْلَانِ ، وَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ فِي الْأَوْصِيَاءِ تَتِمَّةٌ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنَّهُ لَا يُوصِي عَلَى ذُرِّيَّتِهِ إلَّا مَنْ يَثِقُ بِشَفَقَتِهِ فَوَازِعُهُ الطَّبِيعِيُّ يُحَصِّلُ مَصْلَحَةَ الْوَصِيَّةِ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ يُوَالِي أَهْلَ شِيعَتِهِ مِنْ الْفَسَقَةِ فَتَحْصُلُ الْمَفَاسِدُ مِنْ وِلَايَتِهِمْ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالتَّزْوِيجِ فَكَانَ الِاشْتِرَاطُ تَتِمَّةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ ، وَتَعَارُضُ الشَّائِبَتَيْنِ هُوَ سَبَبُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الْأَوْصِيَاءِ .
وَأَمَّا مَا خَرَجَ عَنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الضَّرُورَةُ وَالْحَاجَةُ وَالتَّتِمَّةُ فَالْإِقْرَارُ يَصِحُّ مِنْ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ إجْمَاعًا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ عَلَى خِلَافِ الْوَازِعِ الطَّبِيعِيِّ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَالِهِ أَوْ نَفْسِهِ أَوْ أَعْضَائِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَالطَّبْعُ يَمْنَعُ مِنْ الْمُسَامَحَةِ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ

يَقْتَضِيهِ بَلْ هُوَ مَعَ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لَهُ شَأْنُ الطِّبَاعِ جَحْدُهُ فَلَا يُعَارِضُ الطَّبْعَ هُنَا احْتِمَالُ مُوَالَاتِهِ لِأَهْلِ شِيعَةٍ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَطْبُوعٌ عَلَى تَقْدِيمِ نَفْسِهِ عَلَى غَيْرِهِ كَانَ مِنْ أَهْلِ شِيعَتِهِ وَأَصْدِقَائِهِ أَمْ لَا هَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَوِلَايَةِ النِّكَاحِ وَالْوَصِيَّةُ أَنَّ الْوَالِيَ وَالْوَصِيَّ يَتَصَرَّفَانِ لِغَيْرِهِمَا فَأَمْكَنَ مُرَاعَاةُ الْأَصْدِقَاءِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ لِأَحَدِ الْغِيَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ ، وَأَمَّا هَا هُنَا فَهُوَ يَنْصَرِفُ فِي الْإِقْرَارِ لِنَفْسِهِ فَلَا يُقَدِّمُ عَلَيْهِ أَحَدًا ، وَهُوَ سَبَبُ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فِي الْإِقْرَارِ دُونَهُمَا ، وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ الدَّعَاوَى تَصِحُّ مِنْ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى وَفْقِ الطَّبْعِ فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ إنَّمَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ فَدَعْوَاهُ عَلَى وَفْقِ طَبْعِهِ عَكْسُ الْأَقَارِيرِ غَيْرَ أَنَّ هَا هُنَا فِي الدَّعَاوَى مَا يُغْنِي عَنْ الْعَدَالَةِ ، وَيَقُومُ مَقَامَهَا فِي حَقِّ الْمُدَّعِي ، وَهُوَ إلْزَامُهُ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ أَوْ الْيَمِينِ مَعَ شَاهِدٍ أَوْ مَعَ نُكُولٍ عَلَى الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَالنُّكُولِ لِأَنَّهُمَا يُبْعِدَانِ التُّهْمَةَ مِنْ الدَّعْوَى ، وَبِقُرْبَانِهَا مِنْ الصِّحَّةِ فَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ الْعَدَالَةِ لِرُجْحَانِ الصِّدْقِ عَلَى الْكَذِبِ حِينَئِذٍ كَمَا تُرَجَّحُ بِالْعَدَالَةِ .
وَقِسْ عَلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ فَيَحْصُلُ لَك الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ وَبَيْنَ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ

( الْفَرْقُ الْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ ) وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ ، وَهِيَ أَنَّ الْمَصَالِحَ الَّتِي مِنْهَا اشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ لِحُصُولِ الضَّبْطِ بِهَا ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا انْضِبَاطَ مَعَ الْفَسَقَةِ ، وَمَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ الضَّرُورِيَّاتِ فَيَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ اشْتِرَاطُهَا فِيهِ ، وَلِهَذَا هُنَا نَظَائِرُ ( مِنْهَا ) الشَّهَادَاتُ فَإِنَّ الضَّرُورَةَ تَدْعُو لِحِفْظِ دِمَاءِ النَّاسِ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَبْضَاعِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ عَنْ الضَّيَاعِ فَلَوْ قُبِلَ فِيهَا قَوْلُ الْفَسَقَةِ وَمَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ لَضَاعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا مِمَّا أَجْمَعَتْ الْأُمَمُ مَعَ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلَى وُجُوبِ حِفْظِهِ ( وَمِنْهَا ) الْوِلَايَاتُ كَالْإِمَامَةِ وَالْقَضَاءِ وَأَمَانَةِ الْحُكْمِ فَإِنَّ هَذِهِ الْوِلَايَاتِ وَغَيْرَهَا مِمَّا فِي مَعْنَى هَذِهِ لَوْ فُوِّضَتْ لِمَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ لَحُكِمَ بِالْجَوْرِ ، وَانْتَشَرَ الظُّلْمُ ، وَضَاعَتْ الْمَصَالِحُ ، وَكَثُرَتْ الْمَفَاسِدُ ، نَعَمْ لَمْ يَشْتَرِطْ بَعْضُهُمْ فِي الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى الْعَدَالَةَ لِغَلَبَةِ الْفُسُوقِ عَلَى وُلَاتِهَا فَلَوْ اُشْتُرِطَتْ لَتَعَطَّلَتْ التَّصَرُّفَاتُ الْمُوَافِقَةُ لِلْحَقِّ فِي تَوْلِيَةِ مَنْ يُوثَقُ بِهِ مِنْ الْقُضَاةِ وَالسُّعَاةِ ، وَأَخْذِ مَا يَأْخُذُونَهُ ، وَبَذْلِ مَا يَبْذُلُونَهُ ، وَفِي هَذَا ضَرَرٌ عَظِيمٌ فَلِذَا أُفْسِحَ مِنْ فَوَاتِ عَدَالَةِ السُّلْطَانِ ، وَلَمَّا كَانَ تَصَرُّفُ الْقُضَاةِ أَعَمُّ مِنْ تَصَرُّفِ الْأَوْصِيَاءِ ، وَأَخَصُّ مِنْ تَصَرُّفِ الْأَئِمَّةِ اُخْتُلِفَ فِي إلْحَاقِهِمْ بِالْأَئِمَّةِ أَوْ بِالْأَوْصِيَاءِ فَيَجْرِي فِيهِمْ الْخِلَافُ فِي عَدَالَةِ الْوَصِيِّ ، وَإِذَا نَفَذَتْ تَصَرُّفَاتُ الْقُضَاةِ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ الْقَطْعِ بِعَدَمِ وِلَايَتِهِمْ فَأَوْلَى نُفُوذُ تَصَرُّفَاتِ الْوُلَاةِ وَالْأَئِمَّةِ مَعَ غَلَبَةِ الْفُجُورِ

عَلَيْهِمْ ، وَمَعَ قُدْرَةِ الْبُغَاةِ وَعُمُومِ الضَّرُورَةِ لِلْوُلَاةِ .
( الْقِسْمُ الثَّانِي ) أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ الْحَاجِيَّاتِ فَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي اشْتِرَاطِهَا نَظَرًا لِدَاعِيَةِ الْحَاجَةِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهَا نَظَرًا لِمَا يُعَارِضُ دَاعِيَتَهَا إنْ كَانَ ، وَلِهَذَا هُنَا نَظَائِرُ مِنْهَا إمَامَةُ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ شُفَعَاءُ ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ لِإِصْلَاحِ حَالِ الشَّفِيعِ عِنْدَ الْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ ، وَإِلَّا لَا تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ فَيُشْتَرَطُ فِيهِمْ الْعَدَالَةُ لَكِنْ عِنْدَ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مَعَهُ نَظَرًا لِمَا ذُكِرَ ، وَأَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ مُرْتَبِطَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ ، وَأَنَّ فِسْقَهُ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الرَّبْطِ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْهَا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْفَاسِقَ تَصِحُّ صَلَاتُهُ فِي نَفْسِهِ إجْمَاعًا ، وَكُلُّ مُصَلٍّ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ عِنْدَهُ فَلَمْ تَدْعُهُ حَاجَةٌ لِصَلَاحِ حَالِ الْإِمَامِ .
( وَمِنْهَا ) الْمُؤَذِّنُونَ الَّذِينَ يُعْتَمَدُ عَلَى أَقْوَالِهِمْ فِي دُخُولِ الْأَوْقَاتِ وَإِيقَاعِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّ حَاجَةَ الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ فَقَطْ تَدْعُو إلَى اشْتِرَاطِ عَدَالَتِهِ إذْ لَوْ كَانَ الْمُؤَذِّنُ غَيْرَ مَوْثُوقٍ بِهِ حَتَّى يُؤَذِّنَ قَبْلَ الْوَقْتِ لَتَعَدَّى خَلَلُهُ لِلصَّلَاةِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ قَبْلَ وَقْتِهَا بَاطِلَةٌ فَلِذَا لَمْ يَخْتَلِفْ الْعُلَمَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الْأَذَانِ ، وَهُوَ وَسِيلَةٌ ، وَاخْتَلَفُوا فِي إمَامَةِ الصَّلَاةِ ، وَهِيَ مَقْصِدٌ ، وَالْعِنَايَةُ بِالْمَقَاصِدِ أَوْلَى مِنْ الْوَسَائِلِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِمَامُ الْفَاسِقُ غَيْرَ مُتَطَهِّرٍ ، وَأَخَلَّ بِشَرْطٍ بَاطِنٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْمَأْمُومُ لَمْ يَقْدَحْ عِنْدَهُ فِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ حَصَّلَ ذَلِكَ الشَّرْطَ فَلَا يَقْدَحُ عِنْدَهُ تَضْيِيعُ غَيْرِهِ لَهُ ، وَإِنْ أَخَلَّ بِرُكْنٍ ظَاهِرٍ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، وَنَحْوِهِمَا فَالِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ ضَرُورِيٌّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْعَدَالَةِ فِيهِ لِأَنَّ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ نَابَ عَنْ الْعَدَالَةِ فِي

ضَبْطِ الْمَصْلَحَةِ فَاسْتَغْنَى عَنْهَا فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ ، وَأَمَّا مَنْ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَى قَوْلِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَالَةٌ كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يَصِحُّ مِنْ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ .
( الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ التَّتِمَّاتِ فَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي اشْتِرَاطِهَا وَعَدَمِ اشْتِرَاطِهَا لِتَعَارُضِ شَائِبَتَيْنِ فِيهِ ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ هُنَا أَيْضًا مِنْهَا الْوِلَايَةُ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهَا تَتِمَّةٌ ، وَلَيْسَتْ بِحَاجِيَّةٍ بِسَبَبِ أَنَّ الْوَازِعَ الطَّبِيعِيَّ فِي الشَّفَقَةِ عَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهَا يَمْنَعُ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْعَارِ ، وَمِنْ السَّعْيِ فِي الْإِضْرَارِ فَقَرَّبَ ذَلِكَ عَدَمَ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِيهَا كَالْإِقْرَارَاتِ لِقِيَامِ الْوَازِعِ الطَّبِيعِيِّ فِيهَا إلَّا أَنَّ الْفَاسِقَ لَمَّا كَانَ قَدْ يُوَالِي أَهْلَ شِيعَتِهِ فَيُؤْثِرُهُمْ بِتَوْلِيَتِهِ كَأُخْتِهِ وَابْنَتِهِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَحْصُلُ لَهَا الْمَفْسَدَةُ الْعَظِيمَةُ فَاشْتُرِطَتْ الْعَدَالَةُ تَتِمَّةً لِأَجْلِ تَعَارُضِ هَاتَيْنِ الشَّائِبَتَيْنِ ، وَلِهَذَا التَّعَارُضِ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ ، وَهَلْ تَصِحُّ وِلَايَةُ الْفَاسِقِ أَمْ لَا ، وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ قَوْلَانِ ، وَمِنْهَا الْأَوْصِيَاءُ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنَّهُ لَا يُوصِي عَلَى ذُرِّيَّتِهِ إلَّا مَنْ يَثِقُ بِشَفَقَتِهِ فَوَازِعُهُ الطَّبِيعِيُّ يُحَصِّلُ مَصْلَحَةَ الْوَصِيَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَدْ يُوَلِّي أَهْلَ شِيعَتِهِ مِنْ الْفَسَقَةِ فَتَحْصُلُ الْمَفَاسِدُ مِنْ وِلَايَتِهِمْ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالتَّزْوِيجِ تَعَارَضَتْ هَاتَانِ الشَّائِبَتَانِ فَكَانَ تَعَارُضُهُمَا سَبَبًا فِي كَوْنِ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الْأَوْصِيَاءِ تَتِمَّةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ ، وَفِي الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الْأَوْصِيَاءِ ( الْقِسْمُ الرَّابِعُ ) أَنْ تَكُونَ فِيمَا خَرَجَ عَنْ

الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الضَّرُورَةُ ، وَالْحَاجَةُ وَالتَّتِمَّةُ فَيَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهَا فِيهِ ، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ هُنَا ( مِنْهَا ) الْإِقْرَارُ لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْوَازِعِ الطَّبِيعِيِّ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَالِهِ أَوْ نَفْسِهِ أَوْ أَعْضَائِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، وَالطَّبْعُ يَمْنَعُ مِنْ الْمُسَامَحَةِ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يَقْتَضِيهِ بَلْ هُوَ مَعَ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لَهُ شَأْنُ الطِّبَاعِ جَحْدُهُ فَلَا يُعَارِضُ الطَّبْعَ هُنَا مُوَالَاتُهُ لِأَهْلِ شِيعَتِهِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَطْبُوعٌ عَلَى تَقْدِيمِ نَفْسِهِ عَلَى غَيْرِهِ كَانَ مِنْ أَهْلِ شِيعَتِهِ وَأَصْدِقَائِهِ أَمْ لَا فَلِذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهَا فِيهِ ، وَلَمْ يَنْعَقِدْ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ وَالْوَصِيَّةِ لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ الْوَلِيَّ وَالْوَصِيَّ يَتَصَرَّفَانِ لِغَيْرِهِمَا فَيُمْكِنُ فِيهِمَا مُرَاعَاةُ الْأَصْدِقَاءِ فِي ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ لِأَحَدِ الْغَيْرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ .
( وَمِنْهَا ) الدَّعَاوَى فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ فَدَعْوَاهُ عَلَى ، وَفْقِ طَبْعِهِ عَكْسُ الْأَقَارِيرِ إلَّا أَنَّ إلْزَامَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ أَوْ الْيَمِينَ مَعَ شَاهِدٍ أَوْ مَعَ نُكُولٍ عَلَى الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ مَعَ الْيَمِينِ أَوْ النُّكُولِ لِأَنَّهُمَا يُبْعِدَانِ التُّهْمَةَ عَنْ الدَّعْوَى ، وَيُقِرُّ بِأَنَّهَا مِنْ الصِّحَّةِ قَائِمٌ مَقَامَ الْعَدَالَةِ لِرُجْحَانِ الصِّدْقِ عَلَى الْكَذِبِ حِينَئِذٍ كَمَا تُرَجَّحُ بِالْعَدَالَةِ ، وَقِسْ عَلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا فَيَحْصُلُ لَك الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ إجْمَاعًا إذَا كَانَ مِنْ الضَّرُورَةِ أَوْ عَلَى الْخِلَافِ إذَا كَانَ مِنْ الْحَاجَةِ وَثَمَّ مُعَارِضٌ ، وَإِلَّا فَلَا خِلَافَ أَوْ كَانَ مِنْ التَّتِمَّةِ لِتَعَارُضِ الشَّائِبَيْنِ فِيهِ وَبَيْنَ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ إذَا كَانَ مِمَّا خَرَجَ عَنْ الثَّلَاثَةِ

كَمَا فِي الْأَصْلِ ، وَسَلَّمَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنِ الشَّاطِّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ ) قَالَ الْعَلَّامَةُ الشِّرْبِينِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ ، وَلَيْسَ مِنْهُ أَيْ مِنْ الْمُرْسَلِ أَيْ الْمُطْلَقِ عَنْ الِاعْتِبَارِ وَالْإِلْغَاءِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ مَصْلَحَةٌ ضَرُورِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ قَطْعِيَّةٌ لِأَنَّهَا مِمَّا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِهَا فَهِيَ حَقٌّ قَطْعًا ، وَاشْتَرَطَهَا الْغَزَالِيُّ لِلْقَطْعِ بِالْقَوْلِ بِهِ لَا لِأَصْلِ الْقَوْلِ بِهِ قَالَ ، وَالظَّنُّ الْقَرِيبُ مِنْ الْقَطْعِ كَالْقَطْعِ ا هـ .
مَا خُلَاصَتُهُ نَقْلًا عَنْ السَّعْدِ فِي التَّلْوِيحِ أَنَّ الْإِمَامَ الْغَزَالِيَّ قَسَمَ الْمَصَالِحَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهِ ، وَهِيَ أَصْلٌ فِي الْقِيَاسِ وَحُجَّةٌ ، وَهِيَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْخَمْسَةِ الضَّرُورِيَّةِ أَيْ الَّتِي هِيَ حِفْظُ الدِّينِ وَالنَّفْسِ وَالْعَقْلِ وَالنَّسَبِ وَالْمَالِ فَكُلُّ مَا يَتَضَمَّنُ حِفْظَ هَذِهِ الْخَمْسَةِ الضَّرُورِيَّةِ ، وَكُلُّ مَا يُقَوِّيهَا فَهِيَ مَصْلَحَةٌ ، وَدَفْعُهَا مَفْسَدَةٌ ، وَإِذَا أَطْلَقْنَا الْمُعَيَّنَ الْمُخَيَّلَ ، وَالْمُنَاسِبَ فِي بَابِ الْقِيَاسِ أَرَدْنَا بِهِ هَذَا الْجِنْسَ .
( الْقِسْمُ الثَّانِي ) مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِبُطْلَانِهِ كَنَفْيِ الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْمَلِكِ أَيْ السُّلْطَانِ .
( الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) مَا لَمْ يَشْهَدْ لَهُ الشَّرْعُ بِالِاعْتِبَارِ وَلَا بِالْبُطْلَانِ ، وَهَذَا فِي مَحَلِّ النَّظَرِ ، وَهِيَ الْمَصَالِحُ الْحَاجِيَّةُ وَالتَّحْسِينِيَّة فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِمُجَرَّدِهَا مَا لَمْ تُعَضَّدْ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى وَضْعِ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ ، وَإِذَا اعْتَضَدَ بِأَصْلٍ فَهُوَ قِيَاسٌ ا هـ .
وَمَا مَشْي عَلَيْهِ فِي هَذَا الْقِسْمِ الْمُسَمَّى بِالْمُرْسَلِ ، وَبِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ هُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ ذَكَرَهَا الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ فِي كِتَابِهِ الِاعْتِصَامِ ، وَعَزَى هَذَا

الْقَوْلَ إلَى الْقَاضِي وَطَائِفَةٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ .
( وَالثَّانِي ) وَهُوَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ وَبِنَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِمَالِكٍ ( وَالثَّالِثُ ) وَهُوَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ بِشَرْطِ قُرْبِهِ مِنْ مَعَانِي الْأُصُولِ لِلشَّافِعِيِّ ، وَمُعْظَمِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ هَذَا مَا حَكَى الْإِمَامُ الْجُوَيْنِيُّ ا هـ .
وَمِنْ نَظَائِرِ هَذَا الْقِسْمِ رَمْيُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ السَّفِينَةِ فِي الْبَحْرِ لِنَجَاةِ الْبَاقِينَ فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الْحُرِّ وَالرَّقِيقِ لِأَجْلِ نَجَاةِ الْبَاقِينَ لَكِنْ بَعْدَ رَمْيِ الْأَمْوَالِ غَيْرِ الرَّقِيقِ ، وَقَالَ الْمَحَلِّيُّ لَا يَجُوزُ رَمْيُ الْبَعْضِ بِالْقُرْعَةِ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ نَجَاةَ الْبَاقِينَ لَيْسَ كُلِّيًّا أَيْ مُتَعَلِّقًا بِكُلِّ الْأُمَّةِ ا هـ .
وَفِي الْعَطَّارِ عَلَيْهِ ذَكَرَ الصَّلَاحُ الصَّفَدِيُّ أَنَّ مَرْكَبًا كَانَ فِي الْبَحْرِ وَفِيهِ مُسْلِمُونَ وَكُفَّارٌ فَأَشْرَفُوا عَلَى الْغَرَقِ ، وَأَرَادُوا لِيَرْمُوا بَعْضَهُمْ إلَى الْبَحْرِ لِتَخِفَّ الْمَرْكَبُ ، وَيَنْجُوَ الْبَاقِي فَقَالُوا نَقْتَرِعُ ، وَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ أَلْقَيْنَاهُ فَقَالَ الرَّيِّسُ نَعُدُّ الْجَمَاعَةَ فَكُلُّ مَنْ كَانَ تَاسِعًا فِي الْعَدَدِ أَلْقَيْنَاهُ فَارْتَضَوْا بِذَلِكَ فَلَمْ يَزَلْ يَعُدُّهُمْ ، وَيُلْقِي التَّاسِعَ فَالتَّاسِعَ إلَى أَنْ أَلْقَى الْكُفَّارَ أَجْمَعِينَ ، وَسَلِمَ الْمُسْلِمُونَ ، وَكَانَ وَضَعَهُمْ عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ بِأَنْ وَضَعَ أَرْبَعَةً مُسْلِمِينَ ، وَخَمْسَةً كُفَّارًا ثُمَّ مُسْلِمَيْنِ ثُمَّ كَافِرًا إلَى آخِرِ ذَلِكَ ، وَوَضَعَ لَهُمْ ضَابِطًا ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ : اللَّهُ يَقْضِي بِكُلِّ يُسْرٍ وَيَرْزُقُ الضَّعِيفَ حَيْثُ كَانَا فَمُهْمَلُ الْحُرُوفِ لِلْمُسْلِمِينَ وَمُعْجَمُهَا لِلْكُفَّارِ ، وَالِابْتِدَاءُ بِالْمُسْلِمِينَ ، وَالسَّيْرُ إلَى جِهَةِ الشِّمَالِ بِالْعَدَدِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ ، وَفِيهِ أَيْضًا قَبْلَ ذَلِكَ عَنْ اللُّغْزِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْمُرْسَلِ فِي الشَّرْعِ لَا

يُتَصَوَّرُ حَتَّى يُتَكَلَّمَ فِيهِ بِنَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ إذْ الْوَقَائِعُ لَا حَصْرَ لَهَا ، وَكَذَا الْمَصَالِحُ ، وَمَا مِنْ مَسْأَلَةٍ تَعْرِضُ إلَّا وَفِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ عَلَيْهَا إمَّا بِالْقَبُولِ أَوْ بِالرَّدِّ فَإِنَّا نَعْتَقِدُ اسْتِحَالَةَ خُلُوِّ وَاقِعَةٍ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الدِّينَ قَدْ كَمُلَ .
وَقَدْ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِرَسُولِهِ ، وَانْقَطَعَ الْوَحْيُ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ كَمَالِ الدِّينِ قَالَ تَعَالَى { الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دِينَكُمْ } وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَصَوُّرِهِ أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ تَنْقَسِمُ إلَى مَوَاقِعِ التَّعَبُّدَاتِ ، وَالْمُتَّبَعُ فِيهَا النُّصُوصُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَمَا لَمْ تُرْشِدْ النُّصُوصُ إلَيْهِ فَلَا تَعَبُّدَ بِهِ .
وَإِلَى مَا لَيْسَ مِنْ التَّعَبُّدَاتِ ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَلْفَاظِ كَالْأَيْمَانِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالطَّلَاقِ ؛ وَقَدْ أَحَالَهَا الشَّرْعُ فِي مُوجِبَاتِهَا إلَى قَضَايَا الْعُرْفِ فِيهَا بِنَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَالِاكْتِفَاءِ بِالْعِثْكَالِ الَّذِي عَلَيْهِ مِائَةُ شُمْرُوخٍ إذَا حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ مِائَةً لِمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يُنْسَخْ فِي شَرْعِنَا ، وَإِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ الْأَلْفَاظِ ، وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إلَى مَا يَنْضَبِطُ فِي نَفْسِهِ كَالنَّجَاسَاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ وَطُرُقِ تَلَقِّي الْمِلْكِ فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ مُنْضَبِطَةٌ ، وَمُسْتَنَدَاتُهَا مَعْلُومَةٌ ، وَإِلَى مَا لَا يَنْضَبِطُ إلَّا بِالضَّبْطِ فِي مُقَابِلِهِ كَالْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ ، وَالْأَفْعَالُ الْمُبَاحَةُ تَنْضَبِطُ بِضَبْطِ النَّجَاسَةِ وَالْحَظْرِ ، وَكَذَلِكَ الْأَمْلَاكُ مُنْتَشِرَةٌ تَنْضَبِطُ بِضَبْطِ طُرُقِ النَّقْلِ ، وَالْإِيذَاءُ مُحَرَّمٌ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ مِنْ غَيْرِ ضَبْطٍ ، وَيَنْضَبِطُ بِضَبْطِ مَا اسْتَثْنَى الشَّرْعُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَالْوَقَائِعُ إنْ وَقَعَتْ فِي جَانِبِ الضَّبْطِ أُلْحِقَتْ بِهِ وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ أُلْحِقَتْ بِهِ ، وَإِنْ تَرَدَّدَتْ بَيْنَهُمَا ،

وَتَجَاذَبَهَا الطَّرَفَانِ أُلْحِقَتْ بِأَقْرَبِهِمَا ، وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَلُوحَ التَّرْجِيحُ لَا مَحَالَةَ فَخَرَجَ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ مَصْلَحَةٍ تُتَخَيَّلُ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ مَحْبُوسَةٍ بِالْأُصُولِ الْمُتَعَارِضَةِ لَا بُدَّ أَنْ تَشْهَدَ الْأُصُولُ بِرَدِّهَا أَوْ قَبُولِهَا ا هـ .
وَفِي التَّلْوِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ الضَّرُورِيَّةُ فَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهَا رَأْيُ مُجْتَهِدٍ ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ ، وَلَهَا نَظَائِرُ مِنْهَا رَمْيُ الْكُفَّارِ الْمُتَتَرِّسِينَ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ الْمُؤَدِّي إلَى قَتْلِ التُّرْسِ مَعَهُمْ إذَا قُطِعَ أَوْ ظَنَّ ظَنًّا قَرِيبًا مِنْ الْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ إنْ لَمْ يَرْمُوا اسْتَأْصَلُوا الْمُسْلِمِينَ بِالْقَتْلِ التُّرْسَ ، وَغَيْرَهُ ، وَإِنْ رَمَوْا سَلِمَ غَيْرُ التُّرْسِ فَيَجُوزُ رَمْيُهُمْ لِحِفْظِ بَاقِي الْأُمَّةِ فَإِنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا بِأَدِلَّةٍ خَارِجَةٍ عَنْ الْحَصْرِ أَنَّ تَعْلِيلَ الْقَتْلِ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ كَمَنْعِهِ بِالْكُلِّيَّةِ لَكِنْ قَتْلُ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ غَرِيبٌ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ مَعَنَا ، وَنَحْنُ إنَّمَا نُجَوِّزُ عِنْدَ الْقَطْعِ أَوْ ظَنٍّ قَرِيبٍ مِنْ الْقَطْعِ ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَخَصَّصَ الْحُكْمُ مِنْ الْعُمَومَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَنْعِ عَنْ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ لِمَا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الشَّرْعَ يُؤْثِرُ الْحُكْمَ الْكُلِّيَّ عَلَى الْجُزْئِيِّ ، وَأَنَّ حِفْظَ أَصْلِ الْإِسْلَامِ أَهَمُّ مِنْ حِفْظِ دَمِ مُسْلِمٍ وَاحِدٍ ، وَهَذَا ، وَإِنْ سَمَّيْنَاهُ مَصْلَحَةً مُرْسَلَةً لَكِنَّهَا رَاجِعَةٌ إلَى الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ مُرَجِّحَ الْمَصْلَحَةِ إلَى حِفْظِ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ الْمَعْلُومَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ، وَلِأَنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي عُرِفَتْ لَا بِدَلِيلٍ وَاحِدٍ بَلْ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ لَا حَصْرَ لَهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ وَتَفَارِيقِ الْأَمَارَاتِ سَمَّيْنَاهَا مَصْلَحَةً مُرْسَلَةً لَا قِيَاسًا إذْ الْقِيَاسُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ .
ا هـ بِتَوْضِيحٍ مِنْ الْمَحَلِّيّ قَالَ

الشِّرْبِينِيُّ فَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ : وَنَحْنُ إنَّمَا نُجَوِّزُهُ إلَخْ أَنَّهُ هُوَ لَا يَقُولُ بِهِ أَيْ الْمُرْسَلِ عِنْدَ فَقْدِ الشُّرُوطِ أَمَّا غَيْرُهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ بِهِ عِنْدَ الْفَقْدِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهَا رَأْيُ مُجْتَهِدٍ ، وَمِنْ قَوْلِهِ ، وَلِأَنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي إلَخْ أَنَّهُ إنَّمَا جَعَلَ هَذِهِ مِنْ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ الدَّلِيلِ ، وَإِنْ رَجَعَتْ إلَى الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ لَا لِعَدَمِ الدَّلِيلِ كَمَا فِي غَيْرِهِمَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ فَإِطْلَاقُ الْمُرْسَلِ عَلَيْهَا بِطَرِيقِ الْمُشَابَهَةِ فِي عَدَمِ تَعَيُّنِ الدَّلِيلِ ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا لَا لِعَدَمِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ ا هـ .
وَفِي حَاشِيَةِ الْعَطَّارِ عَنْهُ فِي الْمَنْخُولِ أَنَّهُ ذَكَرَ مِنْ نَظَائِرِهَا أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا انْقِلَابَ أَمْوَالِ الْعَالَمِ بِجُمْلَتِهَا مُحَرَّمَةً لِكَثْرَةِ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ وَاشْتِبَاهِ الْغُصُوبِ بِغَيْرِهَا عَسِرَ الْوُصُولُ إلَى الْحَلَالِ الْمَحْضِ .
وَقَدْ وَقَعَ فَنُبِيحُ لِكُلِّ مُحْتَاجٍ أَنْ يَأْخُذَ مِقْدَارَ كِفَايَتِهِ مِنْ كُلِّ مَالٍ لِأَنَّ تَحْرِيمَ التَّنَاوُلِ يُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ ، وَتَخْصِيصُهُ بِمِقْدَارِ سَدِّ الرَّمَقِ يُكَفُّ النَّاسَ عَنْ مُعَامَلَاتِهِمْ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ ، وَيَتَدَاعَى ذَلِكَ إلَى فَسَادِ الدُّنْيَا وَخَرَابِ الْعَالَمِ فَلَا يَتَفَرَّغُونَ ، وَهُمْ عَلَى حَالَتِهِمْ مُشْرِفُونَ عَلَى الْمَوْتِ إلَى صِنَاعَتِهِمْ ، وَأَشْغَالِهِمْ ، وَالشَّرْعُ لَا يَرْضَى بِمِثْلِهِ قَطْعًا فَنُبِيحُ لِكُلِّ غَنِيٍّ مِنْ مَالِهِ مِقْدَارَ كِفَايَتِهِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا اقْتِصَارٍ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ ، وَنُبِيحُ لِكُلِّ مُقَتِّرٍ فِي مَالِ مَنْ فَضَلَ مِنْهُ هَذَا الْقَدْرَ مِثْلَهُ ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَاعِدَةٌ ، وَهُوَ أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ إذَا اُضْطُرَّ إلَى طَعَامِ غَيْرِهِ أَوْ إلَى مَيْتَةٍ يُبَاحُ لَهُ مِقْدَارُ الِاسْتِقْلَالِ مُحَافَظَةً عَلَى الرُّوحِ فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْأَرْوَاحِ أَوْلَى وَأَحَقُّ ا هـ .
قَالَ الْعَطَّارُ .

وَقَوْلُ الْغَزَالِيِّ ، وَقَدْ وَقَعَ أَيْ هَذَا حَصَلَ فِي عَصْرِهِ ، وَأَمَّا الْعَصْرُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ الْآنَ فَالْحَالُ أَقْوَى وَأَشَدُّ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ وَالسَّلَامَةَ فَالتَّمَسُّكُ بِمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِيهِ أَحْرَى سِيَّمَا وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فِي كِتَابِهِ تَوْشِيحُ التَّرْشِيحِ كَلَامًا يَقْرُبُ مِمَّا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ حَيْثُ نَقَلَ عَنْ وَالِدِهِ الْإِمَامِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ فِي ذِكْرِ الْمَسَائِلِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا ، وَاسْتَخْرَجَهَا قَالَ : مَنْ جَاءَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُشْرِفٍ ، وَلَا سَائِلٍ يَأْخُذُهُ حَرَامًا كَانَ أَمْ حَلَالًا ثُمَّ إنْ كَانَ حَلَالًا لَا تَبِعَةَ فِيهِ تَمَوَّلَهُ ، وَإِلَّا رَدَّهُ فِي مَرَدِّهِ إنْ عَرَفَ مُسْتَحِقَّهُ ، وَإِلَّا فَهُوَ كَالْمَالِ الضَّائِعِ قَالَ وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ ، وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ ، وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ ، وَإِلَّا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ } قَالَ ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا مَا يَدْفَعُ مَا نَقُولُهُ لِأَنَّا عَلَى الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْنِ خُصُوصَ ذَلِكَ الْمَالِ الَّذِي دَفَعَهُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَعَمُّ مِنْهُ مِنْ كُلِّ حَلَالٍ أَوْ الْأَعَمُّ مُطْلَقًا مِنْ كُلِّ مَالٍ قَالَ وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ الْمُتَبَادَرُ إلَى الذِّهْنِ ا هـ .
الْمُرَادُ ، وَفِي حَاشِيَةِ كنون عَلَى عبق وَبَنَان أَوَّلَ بَابِ الْبُيُوعِ قَالَ الْقَلْشَانِيُّ اُخْتُلِفَ فِي تَعْرِيفِ الْحَلَالِ فَقِيلَ هُوَ مَا لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ حَرَامٌ ، وَقِيلَ مَا عُرِفَ أَصْلُهُ ، وَالْأَوَّلُ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ وَعِنْدِي فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّ مَنْ أَخَذَ قَدْرَ الضَّرُورَةِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ ، وَلَا زِيَادَةٍ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَمْ يَأْكُلْ حَرَامًا ، وَلَا شُبْهَةً ، وَقَدْ قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا حَرَامًا لَمَا كَانَ لَك بُدٌّ

مِنْ الْعَيْشِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَمَالِ الْغَيْرِ لِلْمُضْطَرِّ فَمَا ظَنُّك بِمَا ظَاهِرُهُ الْإِبَاحَةُ هَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يُخْتَلَفُ فِيهِ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُطْلَبُ الْأَشْبَهُ فَالْأَشْبَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ا هـ .
وَمُرَادُهُ بِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ الْفَاكِهَانِيِّ كَمَا فِي ابْنِ نَاجِي ا هـ .
الْمُرَادُ وَفِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ فَانْظُرْهُ ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ ، وَهُوَ مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِبُطْلَانِهِ فَهُوَ الْغَرِيبُ لِبُعْدِهِ عَنْ الِاعْتِبَارِ كَمَا فِي الْمَحَلِّيّ ، وَإِلَى تَمْثِيلِ الْغَزَالِيِّ لَهُ بِقَوْلِهِ كَنَفْيِ الصَّوْمِ إلَخْ يُشِيرُ إلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيِّ فِي كِتَابِهِ الِاعْتِصَامِ حَكَى ابْنُ بَشْكُوَالَ أَنَّ الْحَكَمَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرْسَلَ فِي الْفُقَهَاءِ ، وَشَاوَرَهُمْ فِي مَسْأَلَةٍ نَزَلَتْ بِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ عَمَدَ إلَى إحْدَى كَرَائِمِهِ أَيْ عَقَائِلِ نِسَائِهِ الْحَرَائِرِ وَوَطِئَهَا فِي رَمَضَانَ فَأَفْتَوْا بِالْإِطْعَامِ وَإِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ سَاكِنٌ فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَا يَقُولُ الشَّيْخُ فِي فَتْوَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُ لَا أَقُولُ بِقَوْلِهِمْ ، وَأَقُولُ بِالصِّيَامِ فَقِيلَ لَهُ أَلَيْسَ مَذْهَبُ مَالِكٍ الْإِطْعَامَ فَقَالَ لَهُمْ تَحْفَظُونَ مَذْهَبَهُ إلَّا أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُصَانَعَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إنَّمَا أَمَرَ مَالِكٌ بِالْإِطْعَامِ لِمَنْ لَهُ مَالٌ ، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَا مَالَ لَهُ إنَّمَا هُوَ بَيْتُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَشَكَرَ لَهُ عَلَيْهِ ا هـ وَهُوَ صَحِيحٌ ا هـ .
أَيْ لِأَنَّ إفْتَاءَهُ بِغَيْرِ الصَّوْمِ مَعَ ذَلِكَ مِمَّا شَهِدَ الشَّرْعُ بِبُطْلَانِهِ كَمَا أَنَّ إفْتَاءَهُ بِالصَّوْمِ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ يَرْتَدِعُ بِهِ إذْ يَسْهُلُ بَذْلُ الْمَالِ فِي شَهْوَةِ الْفَرْجِ كَذَلِكَ مِمَّا شَهِدَ الشَّرْعُ بِبُطْلَانِهِ كَمَا فِي الْمَحَلِّيّ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ أَيْضًا حَكَى ابْنُ بَشْكُوَالَ أَنَّهُ اتَّفَقَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ مِثْلُ هَذَا

فِي رَمَضَانَ فَسَأَلَ الْفُقَهَاءَ عَنْ تَوْبَتِهِ مِنْ ذَلِكَ وَكَفَّارَتِهِ فَقَالَ يَحْيَى أَيْ ابْنُ يَحْيَى الْمَغْرِبِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ تَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، وَلَمَّا سُئِلَ عَنْ حِكْمَةِ مُخَالَفَتِهِ لِإِمَامِ مَذْهَبِهِ الْإِمَامِ مَالِكٍ ، وَهُوَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ فَقَالَ لَوْ فَتَحْنَا لَهُ هَذَا الْبَابَ سَهُلَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَ كُلَّ يَوْمٍ ، وَيُعْتِقَ فَحَمَلْته عَلَى أَصْعَبِ الْأُمُورِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الصَّوْمُ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ فَإِنْ صَحَّ هَذَا عَنْ يَحْيَى رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَكَانَ كَلَامُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ ا هـ .
نَعَمْ قَالَ الْقَرَافِيُّ إفْتَاءُ يَحْيَى لَهُ بِالصَّوْمِ هُوَ الْأَوْفَقُ بِكَوْنِ مَشْرُوعِيَّةِ الْكَفَّارَاتِ لِلزَّجْرِ ، وَلَمْ يُفْتِهِ يَحْيَى عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ ا هـ .
أَيْ حَتَّى يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ فَاحْتُفِظَ عَلَى هَذَا التَّحْقِيقِ .
( التَّنْبِيهُ الثَّانِي ) نَظَمَ الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ الرِّيَاحِيُّ التُّونُسِيُّ نَظَائِرَ الصَّلَاةِ الَّتِي تَفْسُدُ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الْمَأْمُومِ بِقَوْلِهِ : وَأَيُّ صَلَاةٍ لِلْإِمَامِ فَسَادُهَا تَبَيَّنَ فَالْمَأْمُومُ فِي ذَاكَ تَابِعُ سِوَى عِدَّةٍ سَاوَتْ كَوَاكِبَ يُوسُفَ وَهَا أَنَا مُبْدِيهَا إلَيْك وَجَامِعُ فَفِي حَدَثٍ يُنْسِي الْإِمَامَ وَسَبْقِهِ وَقَهْقَهَةٍ وَالْخَوْفِ فِي الْعَدِّ رَابِعُ وَإِعْلَامُ مَأْمُومٍ يَفُوزُ إمَامُهُ بِتَنْجِيسِهِ وَالْبَعْضُ فِيهِ مُنَازِعُ وَقَطْعُ إمَامٍ حِينَ كَشْفٍ لِعَوْرَةٍ عَلَى مَا لِسَحْنُونٍ وَقَدْ قِيلَ وَاسِعُ وَمُسْتَخْلِفٌ لَفْظًا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ لِأَجْلِ رُعَافٍ وَهِيَ فِي الْعَدِّ سَابِعُ وَمُسْتَخْلَفٌ بِالْفَتْحِ لَمْ يَنْوِ ثُمَّ مَنْ بِتَسْلِيمِهِ فَاتَ التَّدَارُكُ تَابِعُ وَتَارِكٌ قِبْلِيَّ الثَّلَاثِ وَطَالَ إنْ هُمُو فَعَلُوا لَكِنْ بِهِ الْخُلْفُ وَاقِعُ وَمُنْحَرِفٌ لَا يُسْتَجَازُ انْحِرَافُهُ وَهَذَا غَرِيبٌ بِالتَّمْتَمَةِ طَالِعُ وَذَا فِي صَلَاةٍ مَا الْجَمَاعَةُ شَرَطَهَا وَإِلَّا فَبُطْلَانٌ عَلَى الْكُلِّ شَائِعُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اجْتِمَاعُ الشُّرُوطِ وَالْأَسْبَابِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مُقَارَنَةُ شُرُوطِهِ وَأَسْبَابِهِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ ) : اعْلَمْ أَنَّ الْإِنْشَاءَاتِ كُلَّهَا كَالْبِيَاعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَجَمِيعُ مَا يَنْشَأُ مِنْ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِيهِ حَالَةُ إنْشَائِهِنَّ مُقَارَنَةُ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِيهِ حَالَةَ الْإِنْشَاءِ فَهَذِهِ شَأْنُ الْإِنْشَاءَاتِ كُلِّهَا بِخِلَافِ الْإِقْرَارَاتِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا حُضُورُ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي المقربة حَالَةَ الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَيْسَ سَبَبًا فِي نَفْسِهِ بَلْ هُوَ دَلِيلُ السَّبَبِ لِاسْتِحْقَاقِ المقربة فِي زَمَنٍ سَابِقٍ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ مَعَ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِيهِ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ الشَّرْعِيِّ فَمَنْ قَالَ هُوَ يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ دِينَارًا مِنْ ثَمَنِ دَابَّةٍ حَمَلْنَا هَذَا الْإِقْرَارَ عَلَى تَقَدُّمِ بَيْعٍ صَحِيحٍ عَلَى الْأَوْضَاعِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَاتٍ تَقْبَلُ الْبَيْعَ لَا خَمْرٍ ، وَلَا خِنْزِيرٍ عَلَى مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْبَيْعِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا إذَا بَاعَهُ بِدِينَارٍ ، وَفِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةُ السِّكَّةِ تَعَيَّنَ الْغَالِبُ مِنْهَا هُنَا لِأَنَّ التَّصَرُّفَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ ، وَلَوْ أَقَرَّ بِدِينَارٍ فِي بَلَدٍ ، وَفِيهَا نَقْدٌ غَالِبٌ لَا يَتَعَيَّنُ الْغَالِبُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ السَّبَبِ لِاسْتِحْقَاقِ الدِّينَارِ فَلَعَلَّ السَّبَبَ وَقَعَ فِي بَلَدٍ آخَرَ وَزَمَانٍ مُتَقَدِّمٍ تَقَدُّمًا كَثِيرًا يَكُونُ الْوَاقِعُ حِينَئِذٍ سِكَّةً غَيْرَ هَذَا الْغَالِبِ ، وَتَكُونُ هِيَ الْغَالِبَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَفِي ذَلِكَ الْبَلَدِ ، وَالِاسْتِحْقَاقُ يَتْبَعُ زَمَنَ وُقُوعِ السَّبَبِ لَا زَمَنَ الْإِقْرَارِ بِهِ .
وَيَكُونُ هَذَا الْغَالِبُ مُتَجَدِّدًا بَعْدَ تَجَدُّدِ ذَلِكَ الْغَالِبِ ، وَنَاسِخًا لَهُ فَمَا تَعَيَّنَ هَذَا الْغَالِبُ

الْحَاضِرُ الْآنَ فَيُحْمَلُ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ كَمَا تَعَيَّنَ الْغَالِبُ الْمَوْجُودُ حَالَةَ الْإِقْرَارِ فَيُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ فِي إقْرَارِهِ بِأَيِّ سِكَّةٍ ذَلِكَ الدِّينَارُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الْمَجْنُونُ الْآنَ أَوْ سَكْرَانُ أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ بِدِينَارٍ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ قَبْلَ إقْرَارِهِ ، وَحُمِلَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْبَيْعَ وَقَعَ مِنْ الْمَجْنُونِ حَالَةَ عَقْلِهِ ، وَمِنْ السَّكْرَانِ حَالَةَ صَحْوِهِ ، وَمِنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ حَالَةَ إفَاقَتِهِ ، وَأَنَّ شُرُوطَ الْبَيْعِ الْآنَ مَفْقُودَةٌ فِي حَقِّهِمْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ ثَمَنَ بَيْعِ هَذِهِ الدَّارِ الْمَوْقُوفَةِ الْآنَ صَحَّ إقْرَارُهُ ، وَحُمِلَ عَلَى حَالَةٍ تَكُونُ فِيهَا هَذِهِ الدَّارُ طَلْقًا ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ هَذِهِ النَّظَائِرِ الَّتِي تَكُونُ الشُّرُوطُ فِيهَا فَائِتَةً حَالَةَ الْإِقْرَارِ ، وَيُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي أَمَّا لَوْ عُلِمَ التَّعَذُّرُ فِي الْمَاضِي ، وَالْحَاضِرِ بَطَلَ الْإِقْرَارُ كَمَا لَوْ قَالَ مِنْ ثَمَنِ هَذَا الْخِنْزِيرِ فَإِنَّ الْخِنْزِيرَ لَا يَكُونُ فِي الْمَاضِي غَيْرَ خِنْزِيرٍ ، وَالْوَقْفُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ طَلْقًا ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ النَّظَائِرِ تَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ ، وَمُقْتَضَى هَذَا الْفَرْقِ ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنْ تُشْتَرَطَ الْمُقَارَنَةُ إذَا أَوْصَى لِجَنِينٍ أَوْ مَلَّكَهُ ، وَيُشْتَرَطُ التَّقَدُّمُ فِيمَا إذَا أَقَرَّ لَهُ لِتَقَدُّمِ السَّبَبِ عَلَى الْإِقْرَارِ فَإِنْ حَصَلَ الشَّكُّ فِي تَقَدُّمِ الْجَنِينِ لَمْ يَلْزَمْ الْإِقْرَارُ لِأَنَّا شَكَكْنَا فِي الْمَحَلِّ الْقَابِلِ لِلْمِلْكِ ، وَهُوَ شَرْطٌ ، وَالشَّكُّ فِي الشَّرْطِ يَمْنَعُ تَرَتُّبَ الْمَشْرُوطِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفُرُوقِ .

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اجْتِمَاعُ الشُّرُوطِ وَالْأَسْبَابِ وَانْتِفَاءُ الْمَوَانِعِ وَقَاعِدَةُ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مُقَارَنَةُ شُرُوطِهِ وَأَسْبَابِهِ وَانْتِفَاءُ مَوَانِعِهِ ) وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ سَبَبًا فِي مُعَامَلَةٍ يُشْتَرَطُ حَالَ وُقُوعِهِ مُقَارَنَةُ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِيمَا يَنْشَأُ مِنْهُ مِنْ اجْتِمَاعِ الشُّرُوطِ وَالْأَسْبَابِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ ، وَمَا كَانَ دَلِيلُ تَقَدُّمِ سَبَبٍ لِمُعَامَلَةٍ لَا يُشْتَرَطُ حَالَ وُقُوعِهِ مُقَارَنَةُ شُرُوطِ ذَلِكَ الْمُسَبِّبِ وَأَسْبَابِهِ وَانْتِفَاءُ مَوَانِعِهِ ( وَالْأَوَّلُ ) هُوَ الْإِنْشَاءَاتُ كُلُّهَا كَالْبِيَاعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فَشَأْنُ الْإِنْشَاءَاتِ كُلِّهَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي جَمِيعِ مَا يَنْشَأُ مِنْهَا مُقَارَنَةُ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِيهِ حَالَةَ الْإِنْشَاءِ .
( وَالثَّانِي ) هُوَ الْإِقْرَارَاتُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا حُضُورُ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْمُقَرِّ بِهِ حَالَةَ الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَيْسَ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْمُقَرِّ بِهِ بَلْ هُوَ دَلِيلُ تَقَدُّمِ السَّبَبِ لِاسْتِحْقَاقِهِ فِي زَمَنٍ سَابِقٍ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ مَعَ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِيهِ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ الشَّرْعِيِّ فَمَنْ قَالَ هُوَ يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ دِينَارًا مِنْ ثَمَنِ دَابَّةٍ حَمَلْنَا هَذَا الْإِقْرَارَ عَلَى تَقَدُّمِ بَيْعٍ صَحِيحٍ عَلَى الْأَوْضَاعِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَاتٍ تَقْبَلُ الْبَيْعَ لَا خَمْرٍ وَلَا خِنْزِيرٍ عَلَى مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ ، وَعَلَى مُقْتَضَى هَذَا الْفَرْقِ تَتَفَرَّعُ مَسْأَلَتَانِ .
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) قَالَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إذَا بَاعَهُ بِدِينَارٍ ، وَفِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةُ السِّكَّةِ تَعَيَّنَ الْغَالِبُ مِنْهَا هُنَا لِأَنَّ التَّصَرُّفَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ ، وَلَوْ أَقَرَّ بِدِينَارٍ فِي بَلَدٍ ، وَفِيهَا نَقْدٌ غَالِبٌ لَا يَتَعَيَّنُ الْغَالِبُ بَلْ يُقْبَلُ

تَفْسِيرُهُ فِي إقْرَارِهِ بِأَيِّ سِكَّةٍ ذَلِكَ الدِّينَارُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدَّمَ السَّبَبُ لِاسْتِحْقَاقِ الدِّينَارِ فَلَعَلَّ السَّبَبَ وَاقِعٌ فِي بَلَدٍ آخَرَ فِي زَمَانٍ مُتَقَدِّمٍ تَقَدُّمًا كَثِيرًا ، وَالْغَالِبُ حِينَئِذٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَفِي ذَلِكَ الْبَلَدِ سِكَّةُ غَيْرِ هَذَا الْغَالِبِ الْمُتَجَدِّدِ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْغَالِبِ الْوَاقِعِ قَبْلَهُ ، وَالِاسْتِحْقَاقُ يَتْبَعُ زَمَنَ وُقُوعِ السَّبَبِ لَا زَمَنَ الْإِقْرَارِ بِهِ ، وَهَكَذَا جَمِيعُ النَّظَائِرِ الَّتِي تَكُونُ الشُّرُوطُ فِيهَا فَائِتَةً حَالَةَ الْإِقْرَارِ ، وَيُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي الَّذِي هُوَ زَمَنُ وُقُوعِ السَّبَبِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ الْمَجْنُونُ الْآنَ أَوْ سَكْرَانُ الْآنَ أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ الْآنَ بِدِينَارٍ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ قَبْلَ إقْرَارِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْبَيْعَ وَقَعَ مِنْ الْمَجْنُونِ حَالَةَ عَقْلِهِ ، وَمِنْ السَّكْرَانِ حَالَةَ صَحْوِهِ ، وَمِنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ حَالَةَ إفَاقَتِهِ ، وَأَنَّ شُرُوطَ الْبَيْعِ الْآنَ مَفْقُودَةٌ فِي حَقِّهِمْ ، وَكَمَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ ثَمَنَ بَيْعِ هَذِهِ الدَّارِ الْمَوْقُوفَةِ الْآنَ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ ، وَيُحْمَلُ عَلَى حَالَةٍ تَكُونُ فِيهِ هَذِهِ الدَّارُ طَلْقًا ، وَأَمَّا النَّظَائِرُ الَّتِي تَتَعَذَّرُ فِيهَا الشُّرُوطُ فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدِينَارٍ مِنْ ثَمَنِ هَذَا الْخِنْزِيرِ فَإِنَّ الْخِنْزِيرَ لَا يَكُونُ فِي الْمَاضِي غَيْرَ خِنْزِيرٍ فَيَبْطُلُ الْإِقْرَارُ فِي ذَلِكَ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) إذَا أَوْصَى لِجَنِينٍ أَوْ مَلَّكَهُ فَالشَّرْطُ الْمُقَارَنَةُ ، وَإِذَا أَقَرَّ لَهُ فَالشَّرْطُ تَقَدُّمُ السَّبَبِ عَلَى الْإِقْرَارِ فَإِنْ حَصَلَ الشَّكُّ فِي تَقَدُّمِ الْجَنِينِ لَمْ يَلْزَمْ الْإِقْرَارُ لِأَنَّا شَكَكْنَا فِي الْمَحَلِّ الْقَابِلِ لِلْمِلْكِ ، وَهُوَ شَرْطٌ ، وَالشَّكُّ فِي الشَّرْطِ يَمْنَعُ تَرَتُّبَ الْمَشْرُوطِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفُرُوقِ أَفَادَهُ الْأَصْلُ ، وَسَلَّمَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنِ الشَّاطِّ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ

وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِقْرَارِ الَّذِي يَقْبَلُ الرُّجُوعَ عَنْهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِقْرَارِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الرُّجُوعَ عَنْهُ ) : الْأَصْلُ فِي الْإِقْرَارِ اللُّزُومُ مِنْ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الطَّبْعِ كَمَا تَقَدَّمَ فَضَابِطُ مَا لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ مِنْ الْإِقْرَارِ هُوَ الرُّجُوعُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِيهِ عُذْرٌ عَادِيٌّ ، وَضَابِطُ مَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الرُّجُوعِ عَنْهُ عُذْرٌ عَادِيٌّ ، وَفِي الْفَرْقِ مَسَائِلُ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) إذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ لِلْوَرَثَةِ أَنَّ مَا تَرَكَهُ أَبُوهُ مِيرَاثٌ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا عُهِدَ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَمَا تُحْمَلُ عَلَيْهِ الدِّيَانَةُ ثُمَّ جَاءَ شُهُودٌ أَخْبَرُوهُ أَنَّ أَبَاهُ أَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ بِهَذِهِ الدَّارِ ، وَحَازَهَا لَهُ أَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ مَلَّكَهَا عَلَيْهِ بِوَجْهٍ شَرْعِيٍّ فَإِنَّهُ إذَا رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ بِأَنَّ التَّرِكَةَ مُوَرَّثَةٌ إلَّا هَذِهِ الدَّارَ الْمَشْهُودَ بِهَا لَهُ دُونَ الْوَرَثَةِ ، وَاعْتَذَرَ بِإِخْبَارِ الْبَيِّنَةِ لَهُ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ بَلْ أَقَرَّ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ ، وَمُقْتَضَى ظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ فَإِنَّهُ يُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَعُذْرُهُ ، وَيُقِيمُ بَيِّنَتَهُ ، وَلَا يَكُونُ إقْرَارُهُ السَّابِقُ مُكَذِّبًا لِلْبَيِّنَةِ ، وَقَادِحًا فِيهَا لِأَنَّ هَذَا عُذْرٌ عَادِيٌّ تُسْمَعُ مِثْلُهُ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) فِي الْجَوَاهِرِ إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إنْ حَلَفَ أَوْ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ مَعَ يَمِينِهِ فَحَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ فَنَكَلَ الْمُقِرُّ ، وَقَالَ مَا ظَنَنْت أَنَّهُ يَحْلِفُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِأَنَّ هَذَا الِاشْتِرَاطَ يَقْضِي عَدَمَ اعْتِقَادِ لُزُومِ مَا أَقَرَّ بِهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ إنْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ إنْ حَلَفَ أَوْ ادَّعَاهَا أَوْ مَهْمَا حَلَفَ بِالْعِتْقِ أَوْ إنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ أَوْ إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَهُ أَوْ إنْ أَعَارَنِي دَارِهِ

فَأَعَارَهُ أَوْ إنْ شَهِدَ عَلَيْهَا فُلَانٌ فَشَهِدَ عَلَيْهِ بِهَا لَا يَلْزَمُهُ فِي هَذَا كُلِّهِ شَيْءٌ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِقْرَارٍ فَإِنْ قَالَ إنْ حَكَمَ بِهَا عَلَى فُلَانٍ فَحَكَمَ بِهَا عَلَيْهِ لَزِمَتْهُ لِأَنَّ الْحُكْمَ سَبَبٌ فَيَلْزَمُهُ عِنْدَ سَبَبِهَا ، وَالْأَوَّلُ كُلُّهُ شُرُوطٌ لَا أَسْبَابٌ بَلْ اسْتِبْعَادَاتٌ مَحْضَةٌ مُخِلَّةٌ بِالْإِقْرَارِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) إذَا أَقَرَّ فَقَالَ لَهُ عِنْدِي مِائَةٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ مَيْتَةٍ ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ بِآخِرِهِ ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ إذَا اتَّصَلَ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ صَيَّرَهُ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ وَقَوْلُهُ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ الْأَوَّلُ الْمُسْتَقِلُّ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ ، وَكَذَلِكَ الصِّفَةُ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ وَالْغَايَةُ وَالشُّرُوطُ وَنَحْوُهَا

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِقْرَارِ الَّذِي يُقْبَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِقْرَارِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ ) وَهُوَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ فِي الْإِقْرَارِ اللُّزُومَ مِنْ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الطَّبْعِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ : الْإِقْرَارُ خَبَرٌ يُوجِبُ حُكْمَ صِدْقِهِ عَلَى قَائِلِهِ فَقَطْ بِلَفْظِهِ أَوْ لَفْظِ نَائِبِهِ لَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْمُقِرِّ فِي الرُّجُوعِ عَنْهُ عُذْرٌ عَادِيٌّ ، وَقَدْ لَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ انْقَسَمَ قِسْمَيْنِ : ( الْأَوَّلُ ) مَا لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ ، وَضَابِطُهُ مَا لَيْسَ لِلْمُقِرِّ فِي رُجُوعِهِ عَنْهُ عُذْرٌ عَادِيٌّ ، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ إلَّا أَنَّ فِي نُفُوذِهِ تَفْصِيلًا أَشَارَ لَهُ ابْنُ عَاصِمٍ بِقَوْلِهِ : وَمَالِكٌ لِأَمْرِهِ أَقَرَّ فِي صِحَّتِهِ لِأَجْنَبِيٍّ اُقْتُفِيَ وَمَا لِوَارِثٍ فَفِيهِ اُخْتُلِفَا وَمَنْفَذٌ لَهُ لِتُهْمَةٍ نَفَى وَرَأْسُ مَتْرُوكِ الْمُقِرِّ أُلْزِمَا وَهُوَ بِهِ فِي فَلَسٍ كَالْغُرَمَا وَإِنْ يَكُنْ لِأَجْنَبِيٍّ فِي الْمَرَضْ غَيْرَ صَدِيقٍ فَهُوَ نَافِذُ الْغَرَضْ وَلِصَدِيقٍ أَوْ قَرِيبٍ لَا يَرِثْ يَبْطُلُ مِمَّنْ بِكَلَالَةٍ وَرِثْ وَقِيلَ بَلْ يَمْضِي بِكُلِّ حَالِ وَعِنْدَمَا يُؤْخَذُ بِالْإِبْطَالِ قِيلَ بِإِطْلَاقٍ وَلِابْنِ الْقَاسِمِ يَمْضِي مِنْ الثُّلْثِ بِحُكْمٍ جَازِمِ إلَخْ ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ الْمَالِكَ لِأَمْرِهِ تَارَةً يُقِرُّ فِي صِحَّتِهِ ، وَتَارَةً فِي مَرَضِهِ ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ لَهُ وَارِثًا أَوْ أَجْنَبِيًّا اُنْظُرْ شُرُوحَ الْعَاصِمِيَّةِ ( وَالْقِسْمُ الثَّانِي ) مَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ ، وَضَابِطُهُ مَا لِلْمُقِرِّ عُذْرٌ عَادِيٌّ فِي رُجُوعِهِ عَنْهُ ، وَمَثَّلَ لَهُ الْأَصْلُ بِثَلَاثِ مَسَائِلَ فَقَالَ .
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) إذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ لِلْوَرَثَةِ أَنَّ مَا تَرَكَهُ أَبُوهُ مِيرَاثٌ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا عُهِدَ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَمَا تُحْمَلُ عَلَيْهِ الدِّيَانَةُ ثُمَّ جَاءَ شُهُودٌ أَخْبَرُوهُ أَنَّ أَبَاهُ

أَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ بِهَذِهِ الدَّارِ ، وَحَازَهَا لَهُ أَوْ أَنَّ وَالِدَهُ أَقَرَّ أَنَّهُ مَلَّكَهَا عَلَيْهِ بِوَجْهٍ شَرْعِيٍّ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْ إقْرَارِهِ ، وَأَنَّهُ كَانَ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ ، وَمُقْتَضَى ظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ ، وَعُذْرُهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَا أَخْبَرَتْهُ الْبَيِّنَةُ بِهِ مِنْ أَنَّ التَّرِكَةَ كُلَّهَا مَوْرُوثَةٌ إلَّا هَذِهِ الدَّارَ الْمَشْهُودَ بِهَا لَهُ دُونَ الْوَرَثَةِ لِأَنَّهُ عُذْرٌ عَادِيٌّ يُسْمَعُ مِثْلُهُ فَيُقِيمُ بَيِّنَتَهُ ، وَلَا يَكُونُ إقْرَارُهُ السَّابِقُ مُكَذِّبًا لِلْبَيِّنَةِ وَقَادِحًا فِيهَا ا هـ .
وَسَلَّمَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنِ الشَّاطِّ ، وَفِي شَرْحِ التَّسَوُّلِيِّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ مَا نَصُّهُ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَلَوِيُّ اعْتَمَدَ مَا لِلْقَرَافِيِّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفَّاظِ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ مِنْهُمْ أَبُو سَالِمٍ إبْرَاهِيمُ الْيَزَنَاسَنِيُّ ا هـ .
وَبِهِ يُعْلَمُ ضَعْفُ مَا فِي الْحَطَّابِ عَنْ سَحْنُونٍ مِنْ أَنَّ إقْرَارَهُ الْأَوَّلَ مُكَذِّبٌ لِلْبَيِّنَةِ فَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا نَقَلَهُ فِي بَابَيْ الْإِقْرَارِ وَالْقِسْمَةِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ عَنْ الْمَازِرِيِّ أَنَّهُ أَفْتَى بِمِثْلِ مَا لِلْقَرَافِيِّ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُعْتَمَدُ مَا لِلْقَرَافِيِّ ، وَبِهِ كُنْت أَفْتَيْت اُنْظُرْ شَرْحَنَا لِلشَّامِلِ ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا مَرَّ أَوَّلَ الِاسْتِحْقَاقِ ا هـ .
بِلَفْظِهِ ، وَمَا مَرَّ أَوَّلَ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ مَا نَقَلَهُ عَنْ ابْنِ عَرَفَةَ مِنْ أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِحْقَاقِ الْوُجُوبُ عِنْدَ تَيَسُّرِ أَسْبَابِهِ فِي الرَّبْعِ وَالْعَقَارِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ يَمِينِ مُسْتَحِقِّهِ ، وَعَلَى يَمِينِهِ هُوَ مُبَاحٌ كَغَيْرِ الْعَقَارِ وَالرَّبْعِ لِأَنَّ الْحَلِفَ مَشَقَّةٌ ا هـ .
قَالَ وَمُرَادُ ابْنِ عَرَفَةَ إذَا لَمْ تَسْمَحْ نَفْسُهُ بِذَلِكَ لِمَا فِيهِ حِينَئِذٍ مِنْ إطْعَامِ الْحَرَامِ لِغَيْرِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مَنْعِهِ مِنْهُ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ } .
وَقَالَ {

اُنْصُرْ أَخَاك وَإِنْ ظَالِمًا ، وَنَصْرُهُ أَنْ تَمْنَعَهُ عَنْ ظُلْمِهِ } فَالْمُسْتَحِقُّ حِينَئِذٍ آثِمٌ بِعَدَمِ قِيَامِهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَهُوَ رَاجِعٌ إلَى تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، وَالْمُسْتَحِقُّ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ ، وَهَذَا عَامٌّ سَوَاءٌ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ مِنْ ذِي الشُّبْهَةِ أَوْ مِنْ غَاصِبٍ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَ ذَا الشُّبْهَةِ بِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ تَسْمَحْ نَفْسُهُ بِهِ ، وَيُطْلِعُهُ عَلَى بَيَانِ مِلْكِهِ لِلشَّيْءِ الْمُسْتَحَقِّ ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْهُ كَانَ قَدْ تَرَكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ آثِمًا بِذَلِكَ ، وَهُوَ مَعْنَى وُجُوبِ قِيَامِهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ خِلَافًا لِمَا لِلشَّيْخِ الرَّهُونِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ وُجُوبُهُ بِالنِّسْبَةِ لِذِي الشُّبْهَةِ ا هـ انْتَهَى الْمُرَادُ بِلَفْظِهِ وَقَالَ الْأَصْلُ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) فِي الْجَوَاهِرِ إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إنْ حَلَفَ أَوْ إذَا حَلَفَ أَوْ مَتَى حَلَفَ أَوْ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ مَعَ يَمِينِهِ أَوْ بَعْدَ يَمِينِهِ فَحَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ فَنَكَلَ الْمُقِرُّ ، وَقَالَ مَا ظَنَنْت أَنَّهُ يَحْلِفُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِأَنَّ هَذَا الِاشْتِرَاطَ يَقْتَضِي عَدَمَ اعْتِقَادِ لُزُومِ مَا أَقَرَّ لَهُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ إنْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ إنْ حَلَفَ أَوْ دَعَاهَا أَوْ مَهْمَا حَلَفَ بِالْعِتْقِ أَوْ إنْ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ أَوْ إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَهُ أَوْ إنْ أَعَارَنِي دَارِهِ فَأَعَارَهُ أَوْ إنْ شَهِدَ عَلَيَّ بِهَا فُلَانٌ فَشَهِدَ عَلَيْهِ بِهَا لَا يَلْزَمُهُ فِي هَذَا كُلِّهِ شَيْءٌ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِقْرَارِهِ فَإِنْ قَالَ إنْ حَكَمَ بِهَا عَلَى فُلَانٍ فَحَكَمَ بِهَا عَلَيْهِ لَزِمَتْهُ لِأَنَّ الْحُكْمَ سَبَبٌ فَيَلْزَمُهُ عِنْدَ سَبَبِهَا ، وَالْأَوَّلُ كُلُّهُ شُرُوطٌ لَا أَسْبَابٌ بَلْ اسْتِبْعَادَاتٌ مَحْضَةٌ مُخِلَّةٌ بِالْإِقْرَارِ ا هـ .
( الْمَسْأَلَةُ

الثَّالِثَةُ ) إذَا أَقَرَّ فَقَالَ لَهُ عِنْدِي مِائَةٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ مَيْتَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ بِآخِرِهِ ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ إذَا اتَّصَلَ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ صَيَّرَهُ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ ، وَقَوْلُهُ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ الْأَوَّلُ الْمُسْتَقِلُّ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ ، وَكَذَلِكَ الصِّفَةُ وَالِاسْتِثْنَاءُ وَالْغَايَةُ وَالشَّرْطُ وَنَحْوُهَا مِمَّا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ ا هـ .
كَلَامُ الْأَصْلِ ، وَسَلَّمَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَائِدَةٌ ) قَالَ التَّسَوُّلِيُّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ ، وَالْمُرَادُ بِالْكَلَالَةِ هُنَا الْفَرِيضَةُ الَّتِي لَا ، وَلَدَ فِيهَا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، وَإِنْ سَفَلَ بِأَنْ كَانَ فِيهَا أَبَوَانِ أَوْ زَوْجَةٌ أَوْ عُصْبَةٌ ، وَأَمَّا الْكَلَالَةُ فِي بَابِ الْمِيرَاثِ فَهِيَ الْفَرِيضَةُ الَّتِي لَا وَلَدَ وَلَا وَالِدَ ، وَفِيهَا يَقُولُ الْقَائِلُ : وَيُسْئِلُونَك عَنْ الْكَلَالَهْ هِيَ انْقِطَاعُ النَّسْلِ لَا مَحَالَّهْ لَا وَالِدٌ يَبْقَى وَلَا مَوْلُودُ فَانْقَطَعَ الْأَبْنَاءُ وَالْجُدُودُ ا هـ بِلَفْظِهِ .

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُنَفَّذُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُنَفَّذُ مِنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ ) ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) مَا لَمْ تَتَنَاوَلْهُ الْوِلَايَةُ بِالْأَصَالَةِ اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَلِيَ وِلَايَةَ الْخِلَافَةِ فَمَا دُونَهَا إلَى الْوَصِيَّةِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ إلَّا بِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءِ مَفْسَدَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِ أُمَّتِي شَيْئًا ثُمَّ لَمْ يَجْتَهِدْ لَهُمْ ، وَلَمْ يَنْصَحْ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ } فَيَكُونُ الْأَئِمَّةُ وَالْوُلَاةُ مَعْزُولِينَ عَمَّا لَيْسَ فِيهِ بَذْلُ الْجَهْدِ ، وَالْمَرْجُوحُ أَبَدًا لَيْسَ بِالْأَحْسَنِ بَلْ الْأَحْسَنُ ضِدُّهُ ، وَلَيْسَ الْأَخْذُ بِهِ بَذْلًا لِلِاجْتِهَادِ بَلْ الْأَخْذُ بِضِدِّهِ فَقَدْ حَجَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَوْصِيَاءِ التَّصَرُّفَ فِيمَا هُوَ لَيْسَ بِأَحْسَنَ مَعَ قِلَّةِ الْفَائِتِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي وِلَايَتِهِمْ لِخِسَّتِهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ فَأَوْلَى أَنْ يَحْجُرَ عَلَى الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ فِي ذَلِكَ ، وَمُقْتَضَى هَذِهِ النُّصُوصِ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مَعْزُولِينَ عَنْ الْمَفْسَدَةِ الرَّاجِحَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الْمَرْجُوحَةِ وَالْمُسَاوِيَةِ ، وَمَا لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ ، وَلَا مَصْلَحَةَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الْأَرْبَعَةَ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ مَا هُوَ أَحْسَنُ ، وَتَكُونُ الْوِلَايَةُ إنَّمَا تَتَنَاوَلُ جَلْبَ الْمَصْلَحَةِ الْخَالِصَةِ أَوْ الرَّاجِحَةِ ، وَدَرْءُ الْمَفْسَدَةِ الْخَالِصَةِ أَوْ الرَّاجِحَةِ فَأَرْبَعَةٌ مُعْتَبَرَةٌ ، وَأَرْبَعَةٌ سَاقِطَةٌ ، وَلِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَبِيعُ الْوَصِيُّ صَاعًا بِصَاعٍ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يَفْعَلُ الْخَلِيفَةُ ذَلِكَ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ عَزْلُ الْحَاكِمِ إذَا ارْتَابَ فِيهِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الرِّيبَةِ عَنْ

الْمُسْلِمِينَ .
وَيُعْزَلُ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ وُجُودِ الرَّاجِحِ تَحْصِيلًا لِمَزِيدِ الْمَصْلَحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَاخْتُلِفَ فِي عَزْلِ أَحَدِ الْمُسَاوِيَيْنِ بِالْآخَرِ فَقِيلَ يَمْتَنِعُ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَصْلَحَ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَلِأَنَّهُ يُؤْذِي الْمَعْزُولَ بِالْعَزْلِ وَالتُّهَمِ مِنْ النَّاسِ ، وَلِأَنَّ تَرْكَ الْفَسَادِ أَوْلَى مِنْ تَحْصِيلِ الصَّلَاحِ لِلْمُتَوَلَّى .
وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ حَصَلَتْ مَصْلَحَةٌ أَمْ لَا فَلِلْإِنْسَانِ أَنْ يَبِيعَ صَاعًا بِصَاعٍ ، وَمَا يُسَاوِي أَلْفًا بِمِائَةٍ فَإِنْ قُلْت تَجْوِيزُ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَلْتَبِسَ مَنْ يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِمَنْ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ ، وَيَلْتَبِسُ الرَّشِيدُ بِالسَّفِيهِ لِأَنَّ السَّفِيهَ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ ذَلِكَ قُلْت لَا نُسَلِّمُ أَنَّا نَحْجُرُ عَلَى مَنْ يُفَوِّتُ الْمَصْلَحَةَ كَيْفَ كَانَتْ بَلْ ضَابِطُ مَا يُحْجَرُ بِهِ أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ ، وَلَمْ يَسْتَجْلِبْ بِهِ حَمْدًا شَرْعِيًّا ، وَقَدْ تَكَرَّرَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُحْجَرُ بِهِ ، وَالْقَيْدُ الثَّانِي احْتِرَازٌ مِنْ اسْتِجْلَابِ حَمْدِ الشُّرَّابِ وَالْمَسَاخِرِ ، وَالثَّالِثُ احْتِرَازٌ عَنْ رَمْيِ دِرْهَمٍ فِي الْبَحْرِ فَإِنَّهُ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ تَكَرُّرًا يَدُلُّ عَلَى سَفَهِهِ وَعَدَمِ اكْتِرَائِهِ بِالْمَالِ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْقِسْمُ الَّذِي لَا يَنْفُذُ لِعَدَمِ تَنَاوُلِ الْوِلَايَةِ لَهُ فَيَلْحَقُ بِهِ الْقَضَاءُ مِنْ الْقَاضِي بِغَيْرِ عَمَلِهِ فَإِنَّهُ لَا تَتَنَاوَلُهُ الْوِلَايَةُ لِأَنَّ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ إنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْ عَقْدِ الْوِلَايَةِ ، وَعَقْدُ الْوِلَايَةِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْصِبًا مُعَيَّنًا ، وَبَلَدًا مُعَيَّنًا فَكَانَ مَعْزُولًا عَمَّا عَدَاهُ لَا يَنْفُذُ فِيهِ حُكْمُهُ ، وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَمَا عَلِمْت فِيهِ خِلَافًا ، وَفِي الْجَوَاهِرِ إنْ شَافَهَ قَاضٍ قَاضِيًا لَمْ يَكْفِ فِي ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا بِغَيْرِ عَمَلِهِ فَلَا يُؤَثِّرُ

إسْمَاعُهُ وَسَمَاعُهُ إلَّا إذَا كَانَا قَاضِيَيْنِ بِبَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ تَجَاذَبَا فِي ذَلِكَ فِي طَرَفَيْ وِلَايَتِهِمَا فَيَكُونُ ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي فَيُعْتَمَدُ ، وَفِي هَذَا الْقِسْمِ فُرُوعٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَنْفُذُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْوُلَاتِ وَالْقُضَاةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَنْفُذُ مِنْ ذَلِكَ ) وَهُوَ أَنَّ مَا نَفَذَ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا يُنْقَضُ هُوَ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ خَمْسَةُ أُمُورٍ : ( الْأَوَّلُ ) مَا تَتَنَاوَلُهُ الْوِلَايَةُ بِالْأَصَالَةِ مِمَّا دَلَّ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا ثُمَّ لَمْ يَجْتَهِدْ لَهُمْ ، وَلَمْ يَنْصَحْ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ } عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ وَلِيَ وِلَايَةَ الْخِلَافَةِ فَمَا دُونَهَا إلَى الْوَصِيَّةِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ إلَّا بِمَا هُوَ أَحْسَنُ أَوْ مَا فِيهِ بَذْلُ الْجَهْدِ ، وَعَلَى أَنَّ قَاعِدَةَ الْوِلَايَةِ أَنَّهَا إنَّمَا تَتَنَاوَلُ وَاحِدًا مِنْ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ هِيَ جَلْبُ الْمَصْلَحَةِ الْخَالِصَةِ أَوْ الرَّاجِحَةِ ، وَدَرْءُ الْمَفْسَدَةِ الْخَالِصَةِ أَوْ الرَّاجِحَةِ .
( وَالثَّانِي ) الْمُوَافَقَةُ لِدَلِيلِ الْحُكْمِ ( وَالثَّالِثُ ) الْمُوَافَقَةُ لِسَبَبِهِ وَحُجَّتِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَسْبَابِ وَالْأَدِلَّةِ وَالْحِجَاجِ ، وَأَنَّ الْقُضَاةَ يَعْتَمِدُونَ الْحِجَاجَ ، وَالْمُجْتَهِدِينَ يَعْتَمِدُونَ الْأَدِلَّةَ ، وَأَنَّ الْمُكَلَّفِينَ يَعْتَمِدُونَ الْأَسْبَابَ ( وَالرَّابِعُ ) انْتِفَاءُ التُّهْمَةِ فِيهِ ( وَالْخَامِسُ ) وُقُوعُهُ عَلَى الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ كَانَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ ، وَأَمَّا مَا لَا يَنْفُذُ مِنْ ذَلِكَ ، وَيُنْقَضُ فَهُوَ مَا انْتَفَى فِيهِ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ فَلِذَا انْقَسَمَ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ : ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) مَا لَا تَتَنَاوَلُهُ الْوِلَايَةُ بِالْأَصَالَةِ ، وَهُوَ نَوْعَانِ ( النَّوْعُ الْأَوَّلُ ) مَا دَلَّتْ النُّصُوصُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ وَلِيَ وِلَايَةَ الْخِلَافَةِ فَمَا دُونَهَا إلَى الْوَصِيَّةِ يَكُونُ مَعْزُولًا عَنْهَا إذَا أَجْرَاهُ فِي وِلَايَتِهِ ، وَذَلِكَ كُلُّ مَا لَيْسَ هُوَ بِأَحْسَنَ ،

وَلَيْسَ فِيهِ بَذْلُ الْجَهْدِ مِمَّا خَرَجَ عَنْ قَاعِدَةِ الْوِلَايَةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَصَارَ وَاحِدًا مِنْ الْأَرْبَعَةِ السَّاقِطَةِ الَّتِي هِيَ الْمَفْسَدَةُ الرَّاجِحَةُ ، وَالْمَصْلَحَةُ الْمَرْجُوحَةُ وَالْمُسَاوِيَةُ ، وَمَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ ، وَلَا مَفْسَدَةَ فَمِنْ هُنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَبِيعُ الْوَصِيُّ صَاعًا بِصَاعٍ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يَفْعَلُ الْخَلِيفَةُ ذَلِكَ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ عَزْلُ الْحَاكِمِ إذَا ارْتَابَ فِيهِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الرِّيبَةِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَيُعْزَلُ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ وُجُودِ الرَّاجِحِ تَحْصِيلًا لِمَزِيدِ الْمَصْلَحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ .
وَاخْتُلِفَ فِي عَزْلِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ بِالْآخَرِ فَقِيلَ يَمْتَنِعُ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَصْلَحَ لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ يُؤْذِي الْمَعْزُولَ بِالْعَزْلِ وَالتُّهَمِ مِنْ النَّاسِ ، وَلِأَنَّ تَرْكَ الْفَسَادِ أَوْلَى مِنْ تَحْصِيلِ الصَّلَاحِ لِلْمُتَوَلَّى .
وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ أَيْ بَيْعُ صَاعٍ بِصَاعٍ ، وَمَا يُسَاوِي أَلْفًا بِمِائَةٍ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ حَصَلَتْ مَصْلَحَةٌ أَمْ لَا ، وَضَابِطُ مَا يُحْجَرُ بِهِ أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ ، وَلَمْ يَسْتَجْلِبْ بِهِ الْمُتَصَرِّفُ حَمْدًا شَرْعِيًّا ، وَقَدْ تَكَرَّرَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُحْجَرُ بِهِ فَخَرَجَ بِالْقَيْدِ الْأَوَّلِ مَا فَوَّتَ مَصْلَحَةً لَمْ تَخْرُجْ عَنْ الْعَادَةِ كَمَا هُنَا ، وَبِالثَّانِي مَا اسْتَجْلَبَ بِهِ حَمْدَ الشَّرَابِ وَالْمَسَاخِرِ ، وَبِالثَّالِثِ مَا لَمْ يَتَكَرَّرْ كَمَنْ رَمَى دِرْهَمًا فِي الْبَحْرِ فَإِنَّهُ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ تَكَرُّرًا يَدُلُّ عَلَى سَفَهِهِ وَعَدَمِ اكْتِرَاثه بِالْمَالِ ( النَّوْعُ الثَّانِي ) الْقَضَاءُ مِنْ الْقَاضِي بِغَيْرِ عَمَلِهِ فَإِنَّهُ لَا تَتَنَاوَلُهُ الْوِلَايَةُ لِأَنَّ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ إنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْ عَقْدِ الْوِلَايَةِ ، وَعَقْدُ الْوِلَايَةِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْصِبًا مُعَيَّنًا فَكَانَ مَعْزُولًا عَمَّا عَدَاهُ لَا يَنْفُذُ فِيهِ حُكْمُهُ ،

وَعَلَى هَذَا أَصْحَابُنَا فَفِي الْجَوَاهِرِ إنْ شَافَهَ قَاضٍ قَاضِيًا لَمْ يَكْفِ فِي ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا بِغَيْرِ عَمَلِهِ فَلَا يُؤَثِّرُ إسْمَاعُهُ وَسَمَاعُهُ إلَّا إذَا كَانَا قَاضِيَيْنِ بِبَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ تَجَاذَبَا فِي ذَلِكَ فِي طَرَفَيْ وِلَايَتِهِمَا فَيَكُونُ ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي فَيُعْتَمَدُ ا هـ .
وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ الْأَصْلُ ، وَمَا عَلِمْت فِيهِ خِلَافًا ، وَفِي هَذَا الْقِسْمِ فُرُوعٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .

( الْقِسْمُ الثَّانِي ) مَا تَتَنَاوَلُهُ الْآيَةُ لَكِنْ حَكَمَ فِيهِ بِمُسْتَنَدٍ بَاطِلٍ فَهَذَا يُنْقَضُ لِفَسَادِ الْمُدْرَكِ لَا لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ فِيهِ ، وَهُوَ الْحُكْمُ الَّذِي خَالَفَ أَحَدَ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ إذَا حَكَمَ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ يُنْقَضُ قَضَاؤُهُ أَوْ خِلَافِ النَّصِّ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ أَوْ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ أَوْ قَاعِدَةٍ مِنْ الْقَوَاعِدِ السَّالِمَةِ عَنْ الْمُعَارِضِ ، وَلَا بُدَّ فِي الْجَمِيعِ مِنْ اشْتِرَاطِ السَّلَامَةِ عَنْ الْمُعَارِضِ أَيْ الْمُعَارِضِ وَالرَّاجِحِ فَإِنَّهُ لَوْ قُضِيَ فِي عَقْدِ الرِّبَا بِالْفَسْخِ لَمْ يُنْقَضْ قَضَاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ قَضَاؤُهُ عَلَى خِلَافِ قَوْله تَعَالَى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } لِأَنَّهُ عُورِضَ بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ قُضِيَ فِي لَبَنِ الْمُصَرَّاةِ بِالثَّمَنِ لَمْ يُنْقَضْ قَضَاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ قَاعِدَةِ إتْلَافِ الْمِثْلِيَّاتِ أَنْ يَجِبَ جِنْسُهَا لِأَجْلِ وُرُودِ النَّصِّ فِي ذَلِكَ نَعَمْ لَوْ قَضَى بِصِحَّةِ نِكَاحٍ بِغَيْرِ وَلِيٍّ فَسَخْنَاهُ لِكَوْنِهِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ } ، وَلَوْ قَضَى بِاسْتِمْرَارِ عِصْمَةِ مَنْ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ بِنَاءً عَلَى الْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ نَقَضْنَاهُ لِكَوْنِهِ عَلَى خِلَافِ قَاعِدَةِ أَنَّ الشَّرْطَ قَاعِدَتُهُ صِحَّةُ اجْتِمَاعِهِ مَعَ الْمَشْرُوطِ ، وَشَرْطُ السُّرَيْجِيَّةِ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ مَشْرُوطِهِ أَبَدًا فَإِنْ تَقَدَّمَ الثَّلَاثِ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ لُزُومِ الطَّلَاقِ بَعْدَهَا ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَكَمَ حَدْسًا ، وَتَخْمِينًا مِنْ غَيْرِ مُدْرَكٍ شَرْعِيٍّ يُنْقَضُ إجْمَاعًا ، وَهُوَ فِسْقٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ قَالَهُ ابْنُ مُحْرِزٍ مِنْ أَصْحَابِنَا .
وَنَقَلَ ابْنُ يُونُسَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ قَالَ يُنْتَقَضُ عِنْدَ مَالِكٍ قَضَاءُ الْقَاضِي لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ كَالْقَضَاءِ بِاسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ لِعِتْقِ بَعْضِهِ فَإِنَّ الْحَدِيثَ

وَرَدَ بِأَنَّهُ لَا يُسْتَسْعَى ، وَكَالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ } أَوْ يُحْكَمُ بِشَهَادَةِ النَّصْرَانِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } أَوْ بِمِيرَاثِ الْعَمَّةِ ، وَالْخَالَةِ ، وَالْمَوْلَى الْأَسْفَلِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتْ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ } ، وَكُلُّ مَا هُوَ عَلَى خِلَافِ عَمَلِ الْمَدِينَةِ ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ إلَّا شُذُوذُ الْعُلَمَاءِ ، وَخَالَفَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ .
وَقَالَ لَا تُنْقَضُ شُفْعَةُ الْجَارِ ، وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ مِنْ الْفُرُوعِ لِضَعْفِ مُوجِبِ النَّقْصِ عِنْدَهُ ، وَجُمْهُورُ الْأَصْحَابِ عَلَى خِلَافِهِ ، وَفِي النَّوَادِرِ لِأَبِي مُحَمَّدٍ قَالَ مُحَمَّدٌ مِمَّا يُنْقَضُ نَقَضُ مَا لَا يُنْقَضُ فَإِذَا قَضَى قَاضٍ بِأَنْ يُنْقَضَ حُكْمُ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُنْقَضُ نَقَضَ الثَّالِثُ حُكْمَ الثَّانِي لِأَنَّ نَقْضَهُ خَطَأٌ ، وَيُقِرُّ الْأَوَّلَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَصَرَّفَ السَّفِيهُ الَّذِي تَحْتَ حَجْرِ الْقَاضِي بِالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا فَرَدَّهُ فَجَاءَ قَاضٍ ثَانٍ فَأَنْفَذَهُ نَقَضَ الثَّالِثُ هَذَا التَّنْفِيذَ ، وَأَقَرَّ الْأَوَّلَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَسَخَ الثَّانِي الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ ، وَالْيَمِينِ رَدَّهُ الثَّالِثُ لِأَنَّ النَّقْضَ فِي مَوَاطِنِ الِاجْتِهَادِ خَطَأٌ ، وَنَقْضُ الْخَطَأِ مُتَعَيِّنٌ .

( الْقِسْمُ الثَّانِي ) مَا تَتَنَاوَلُهُ الْوِلَايَةُ لَكِنْ حَكَمَ بِمُسْتَنَدٍ بَاطِلٍ بِأَنْ حَكَمَ فِيهِ عَلَى خِلَافِ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ الْإِجْمَاعِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ ، وَالنَّصِّ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ ، وَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ .
وَقَاعِدَةِ مِنْ الْقَوَاعِدِ السَّالِمَةِ عَنْ الْمُعَارِضِ فَلَا بُدَّ فِي نَقْضِ الْحُكْمِ الْمُخَالِفِ لِوَاحِدٍ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ اشْتِرَاطِ السَّلَامَةِ عَنْ الْمُعَارِضِ أَيْ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ فَإِنْ خَالَفَهُ ، وَثَمَّ مُعَارِضٌ أَرْجَحُ لَمْ يُنْقَضْ قَضَاؤُهُ ( وَلِكُلٍّ ) مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِوَاحِدٍ مِنْهَا مَعَ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ أَوْ مَعَ عَدَمِهِ نَظَائِرُ .
( أَمَّا الْأَوَّلُ ) فَمِنْ نَظَائِرِهِ أَنَّهُ لَوْ قَضَى فِي عَقْدِ الرِّبَا بِالْفَسْخِ لَمْ يُنْقَضْ قَضَاؤُهُ عَلَى خِلَافِ قَوْله تَعَالَى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } لِأَنَّهُ عُورِضَ بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا ( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ لَوْ قَضَى فِي لَبَنِ الْمُصَرَّاةِ بِالثَّمَنِ لَمْ يُنْقَضْ قَضَاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ قَاعِدَةِ إتْلَافِ الْمِثْلِيَّاتِ أَنَّهُ يَجِبُ جِنْسُهَا لِأَجْلِ وُرُودِ النَّصِّ فِي ذَلِكَ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ : ( الْأَوَّلُ ) مَا قَضَى فِيهِ بِمُدْرَكٍ شَاذٍّ مُخَالِفٍ لِمُدْرَكِ إمَامِهِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ لَهُ مُعَارِضٌ رَاجِحٌ ، وَمِنْ نَظَائِرِهِ أَنَّهُ لَوْ قَضَى بِصِحَّةِ نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ فَسَخْنَاهُ لِكَوْنِهِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ } ( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ لَوْ قَضَى بِاسْتِمْرَارِ عِصْمَةِ مَنْ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ أَيْ الثَّلَاثَةُ بِنَاءً عَلَى الْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ نَقَضْنَاهُ لِكَوْنِ شَرْطِ السُّرَيْجِيَّةِ لَمْ يَجْتَمِعْ مَعَ مَشْرُوطِهِ أَبَدًا فَإِنْ تَقَدَّمَ الثَّلَاثُ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ لُزُومِ الطَّلَاقِ بَعْدَهَا فَكَانَ عَلَى خِلَافِ قَاعِدَةِ صِحَّةِ اجْتِمَاعِ الشَّرْطِ

مَعَ مَشْرُوطِهِ .
( وَالنَّوْعُ الثَّانِي ) مَا قَضَى فِيهِ بِالشَّاذِّ الْمُخَالِفِ لِمُدْرَكِ إمَامِهِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ لَهُ مُعَارِضٌ رَاجِحٌ ، وَمِنْ نَظَائِرِهِ مَا نَقَلَهُ ابْنُ يُونُسَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ قَالَ يُنْقَضُ عِنْدَ مَالِكٍ قَضَاءُ الْقَاضِي لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ كَالْقَضَاءِ بِاسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ لِعِتْقِ بَعْضِهِ فَإِنَّ الْحَدِيثَ ، وَرَدَ بِأَنَّهُ لَا يُسْتَسْعَى ، وَكَالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ أَوْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ } أَوْ يُحْكَمْ بِشَهَادَةِ النَّصْرَانِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } أَوْ بِمِيرَاثِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَالْمَوْلَى الْأَسْفَلِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتْ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ } ، وَكُلُّ مَا هُوَ عَلَى خِلَافِ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ إلَّا شُذُوذُ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْأَصْحَابِ عَلَى نَقْضِهِ ، وَخَالَفَهُمْ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ .
وَقَالَ لَا تُنْقَضُ شُفْعَةُ الْجَارِ ، وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ مِنْ الْفُرُوعِ لِضَعْفِ مُوجِبِ النَّقْضِ عِنْدَهُ .
( وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ ) مَا قُضِيَ فِيهِ بِنَقْضِ مَا لَمْ يُنْقَضْ فَفِي النَّوَادِرِ لِأَبِي مُحَمَّدٍ قَالَ مُحَمَّدٌ مِمَّا يُنْقَضُ نَقْضُ مَا لَا يُنْقَضُ فَإِذَا قَضَى قَاضٍ بِأَنْ يُنْقَضَ حُكْمُ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُنْقَضُ نَقَضَ الثَّالِثُ حُكْمَ الثَّانِي لِأَنَّ نَقْضَهُ خَطَأٌ وَيُقِرُّ الْأَوَّلَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَصَرَّفَ السَّفِيهُ الَّذِي تَحْتَ حَجْرِ الْقَاضِي بِالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا فَرَدُّهُ فَجَاءَ قَاضٍ ثَانٍ فَأَنْفَذَهُ نَقَضَ الثَّالِثُ هَذَا التَّنْفِيذَ ، وَأَقَرَّ الْأَوَّلَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَسَخَ الثَّانِي الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ رَدَّهُ الثَّالِثُ لِأَنَّ النَّقْضَ فِي مَوَاطِنِ الِاجْتِهَادِ خَطَأٌ ، وَنَقْضُ الْخَطَأِ مُتَعَيِّنٌ ( وَالنَّوْعُ الرَّابِعُ ) مَا لَوْ حَكَمَ حَدْسًا وَتَخْمِينًا مِنْ غَيْرِ مُدْرَكٍ شَرْعِيٍّ فَإِنَّهُ يُنْقَضُ إجْمَاعًا ،

وَهُوَ فِسْقٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ قَالَهُ ابْنُ مُحْرِزٍ مِنْ أَصْحَابِنَا .

( الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) مَا حَكَمَ بِهِ عَلَى خِلَافِ السَّبَبِ : وَالْقِسْمُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَسْبَابِ ، وَالْأَدِلَّةِ وَالْحِجَاجِ ، وَأَنَّ الْقُضَاةَ يَعْتَمِدُونَ الْحِجَاجَ ، وَالْمُجْتَهِدِينَ يَعْتَمِدُونَ الْأَدِلَّةَ ، وَأَنَّ الْمُكَلَّفِينَ يَعْتَمِدُونَ الْأَسْبَابَ فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْقَتْلِ عَلَى مَنْ لَمْ يَقْتُلْ أَوْ لِلْبَيْعِ عَلَى مَنْ لَمْ يَبِعْ أَوْ الطَّلَاقِ عَلَى مَنْ لَمْ يُطَلِّقْ أَوْ الدَّيْنِ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَدِنْ فَهَذَا قَضَاءٌ عَلَى خِلَافِ الْأَسْبَابِ فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ نَقْضُهُ عِنْدَ الْكُلِّ إلَّا قِسْمًا مِنْهُ خَالَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُوَ مَا كَانَ فِيهِ عَقْدٌ ، وَفُسِخَ فَيُجْعَلُ حُكْمُ الْحَاكِمِ كَالْعَقْدِ فِيمَا لَا عَقْدَ فِيهِ أَوْ كَالْفَسْخِ فِيمَا لَا فَسْخَ فِيهِ فَإِذَا شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَا زُورٍ بِطَلَاقِ امْرَأَةٍ فَحَكَمَ بِطَلَاقِهَا جَازَ لِذَلِكَ الشَّاهِدِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِكَذِبِ نَفْسِهِ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فَسْخٌ لِذَلِكَ النِّكَاحِ ، وَكَذَلِكَ إذَا شُهِدَ عِنْدَهُ بِبَيْعِ جَارِيَةٍ فَحَكَمَ بِبَيْعِهَا جَازَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْبَيِّنَةِ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِمَّنْ حَكَمَ لَهُ بِهَا ، وَيَطَأَهَا هَذَا الشَّاهِدُ مَعَ عِلْمِهِ بِكَذِبِ نَفْسِهِ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ تَنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الْبَيْعِ لِمَنْ حُكِمَ لَهُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا فِيهِ عَقْدٌ أَوْ فَسْخٌ .
وَأَمَّا الدُّيُونُ ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا مِمَّا لَا عَقْدَ فِيهِ ، وَلَا فَسْخَ فَيُوَافِقُنَا فِيهِ ، وَأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْحُكْمِ ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ، وَالْحَنَابِلَةِ حُكْمُ الْحَاكِمِ لَا يُحِلُّ حَرَامًا ، وَلَا يُحَرِّمُ حَلَالًا فِي نَفْسٍ الْأَمْرِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ أَيْضًا فِيمَا إذَا قَضَى بِنِكَاحِ أُخْتِ الْمَقْضِيِّ لَهُ أَوْ ذَاتِ مَحْرَمٍ فَإِنَّهُ لَا تَحِلُّ لَهُ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ

فَفَاتَ قَبُولُ الْمَحِلِّ .
وَكَذَلِكَ وَافَقَنَا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ وَالْحُكْمُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ، وَفُرِّقَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطٌ ، وَلَمْ تُوجَدْ فِي الْأَمْوَالِ ، وَلَمْ يَحْكُمْ الْحَاكِمُ بِالْمِلْكِ بَلْ بِالتَّسْلِيمِ ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ ، وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْتَطِعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } ، وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ ، وَقِيَاسًا عَلَى الْأَمْوَالِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْأَمْوَالَ أَضْعَفُ فَإِذَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا فَأَوْلَى الْفُرُوجُ احْتَجُّوا بِقَضِيَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حِينَ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ بِاللِّعَانِ قَالَ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَةِ كَذَا فَهُوَ لِشَرِيكٍ فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ } ، وَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ هِلَالٌ ، وَأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَفْسَخْ تِلْكَ الْفُرْقَةَ .
وَأَمْضَاهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يَقُومُ مَقَامَ الْفَسْخِ وَالْعَقْدِ ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ادَّعَى عِنْدَهُ رَجُلٌ نِكَاحَ امْرَأَةٍ ، وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ فَقَضَى بَيْنَهُمَا بِالزَّوْجِيَّةِ فَقَالَتْ ، وَاَللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَزَوَّجْت فَاعْقِدْ بَيْنَنَا عَقْدًا حَتَّى أَحِلَّ لَهُ فَقَالَ شَاهِدَاك زَوَّجَاك فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ ثَبَتَ بِحُكْمِهِ ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ يُفْسَخُ بِهِ النِّكَاحُ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا فَالْحُكْمُ أَوْلَى لِأَنَّ لِلْحَاكِمِ وِلَايَةً عَامَّةً عَلَى النَّاسِ فِي الْعُقُودِ ، وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْعَقْدِ وَالْفَسْخِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَوْقَعَ الْعَقْدَ عَلَى وَجْهِ لَوْ فَعَلَهُ الْمَالِكُ نَفَذَ ، وَلِأَنَّ

الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْمُخَالَفَةُ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ فَصَارَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ .
وَإِنْ عَلِمَ خِلَافَهُ فَكَذَلِكَ غَيْرُهُ قِيَاسًا عَلَيْهِ ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْفُرْقَةَ فِي اللِّعَانِ لَيْسَتْ بِسَبَبِ صِدْقِ الزَّوْجِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِصِدْقِهِ لَمْ تَعُدْ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ بِسَبَبِ أَنَّهُمَا وَصَلَا إلَى أَسْوَأِ الْأَحْوَالِ فِي الْمُقَابَحَةِ بِالتَّلَاعُنِ فَلَمْ يَرَ الشَّارِعُ اجْتِمَاعَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ مَبْنَاهَا السُّكُونُ وَالْمَوَدَّةُ ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ اللِّعَانِ يَمْنَعُ ذَلِكَ فَعَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَذِبَ ، وَكَالْبَيِّنَةِ إذَا قَامَتْ ، وَعَنْ الثَّانِي إنْ صَحَّ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَضَافَ التَّزَوُّجَ لِلشُّهُودِ لَا لِحُكْمِهِ ، وَمَنَعَهَا مِنْ الْعَقْدِ لِمَا فِيهِ مِنْ الطَّعْنِ عَلَى الشُّهُودِ فَأَخْبَرَهَا بِأَنَّهُ زَوْجُهَا ظَاهِرًا ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْفُتْيَا ، وَمَا النِّزَاعُ إلَّا فِيهَا ( وَعَنْ الثَّالِثِ ) أَنَّ كَذِبَ أَحَدِهِمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ بِاللِّعَانِ وَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِ أَمَّا عَدَمُ تَعْيِينِهِ فَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُسْتَنَدُهُ فِي اللِّعَانِ كَوْنَهُ لَمْ يَطَأْهَا بَعْدَ حَيْضَتِهَا مَعَ أَنَّ الْحَامِلَ قَدْ تَحِيضُ أَوْ قَرَائِنُ حَالِيَّةٌ مِثْلُ كَوْنِهِ رَأَى رَجُلًا بَيْنَ فَخِذَيْهَا ، وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ لَمْ يُولِجْ أَوْ أَوْلَجَ ، وَمَا أَنْزَلَ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَرَائِنُ قَدْ تَكْذِبُ .
وَأَمَّا عَدَمُ اخْتِصَاصِهِ بِاللِّعَانِ فَلِأَنَّ الْمُتَدَاعِيَيْنِ فِي النِّكَاحِ أَوْ غَيْرِهِ قَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا فَاجِرًا يَطْلُبُ مَا يَعْلَمُ خِلَافَهُ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ يَقُومُ مَقَامَ الْفَسْخِ وَالْعَقْدِ بَلْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّلَاعُنَ يَمْنَعُ الزَّوْجِيَّةَ .
( وَعَنْ الرَّابِعِ ) أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ إنَّمَا جَعَلَ لِلْحَاكِمِ الْعَقْدَ لِلْغَائِبِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ وَنَحْوِهِمْ بِطَرِيقِ

الْوَكَالَةِ لِتَعَذُّرِ الْمُبَاشَرَةِ مِنْهُمْ ، وَهَا هُنَا لَا ضَرُورَةَ لِذَلِكَ ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَلِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مَصَالِحَ نَفْسِهِ فَلَا يُتْرَكُ الْأَصْلُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ .
( وَعَنْ الْخَامِسِ ) أَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ إنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْمُخَالَفَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَفْسَدَةِ مَشَاقَّةِ الْحُكَّامِ وَانْخِرَامِ النِّظَامِ وَتَشْوِيشِ نُفُوذِ الْمَصَالِحِ ، وَإِمَّا مُخَالَفَةٌ بِحَيْثُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ حَاكِمٌ ، وَلَا غَيْرُهُ فَجَائِزَةٌ ( الْقِسْمُ الرَّابِعُ ) مَا تَتَنَاوَلُهُ الْوِلَايَةُ ، وَصَادَفَ فِيهِ الْحُجَّةُ ، وَالدَّلِيلُ وَالسَّبَبُ غَيْرَ أَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِيهِ كَقَضَائِهِ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ التُّهْمَةَ تَقْدَحُ فِي التَّصَرُّفَاتِ إجْمَاعًا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةُ الْمَرَاتِبِ فَأَعْلَى رُتَبِ التُّهْمَةِ مُعْتَبَرٌ إجْمَاعًا كَقَضَائِهِ لِنَفْسِهِ ، وَأَدْنَى رُتَبِ التُّهَمِ مَرْدُودٌ إجْمَاعًا كَقَضَائِهِ لِجِيرَانِهِ وَأَهْلِ صَقْعِهِ وَقَبِيلَتِهِ ، وَالْمُتَوَسِّطُ مِنْ التُّهَمِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ هَلْ يَلْحَقُ بِالْأَوَّلِ أَوْ بِالثَّانِي وَأَصْلِهَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ } أَيْ مُتَّهَمٍ قَالَ ابْنُ يُونُسَ فِي الْمَوَّازِيَّةِ كُلُّ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ لَهُ .
وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَازِمٌ لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فَهُوَ أَوْلَى بِالرَّدِّ مِنْ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ فَوْقَ الشَّاهِدِ مَنْ يَنْظُرُ عَلَيْهِ فَيَضْعُفُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْبَاطِلِ فَتَضْعُفُ التُّهْمَةُ قَالَ وَلَا يَحْكُمُ لِعَمِّهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُبَرِّزًا وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لَا يَحْكُمُ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ يَتِيمِهِ أَوْ امْرَأَتِهِ ، وَيَجُوزُ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ كَالْأَبِ وَالِابْنِ الْكَبِيرِ ، وَإِنْ امْتَنَعَتْ الشَّهَادَةُ

فَإِنَّ مُنَصَّبَ الْقَضَاءِ أَبْعَدُ عَنْ التُّهَمِ لِوُفُورِ جَلَالَةِ الْقَاضِي دُونَ الشَّاهِدِ .
وَقَالَ أَصْبَغُ فَإِنْ قَالَ ثَبَتَ عِنْدِي ، وَلَا نَعْلَمُ أَثَبَتَ أَمْ لَا ، وَلَمْ يَحْضُرْهُ الشُّهُودُ ، لَمْ يَنْفُذْ فَإِنْ حَضَرَ الشُّهُودُ ، وَكَانَتْ شَهَادَةً ظَاهِرَةً بِحَقٍّ بَيِّنٍ جَازَ فِيمَا عَدَا الثَّلَاثَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ هَذِهِ الْأُمُورِ تُضْعِفُ التُّهْمَةَ ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ ، وَعَنْ أَصْبَغَ الْجَوَازُ فِي الْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ وَالْأَخِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمِدْيَانِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِيَامِ بِالْحَقِّ ، وَصَحَّ الْحُكْمُ ، وَقَدْ يَحْكُمُ لِلْخَلِيفَةِ ، وَهُوَ فَوْقَهُ ، وَتُهْمَتُهُ أَقْوَى ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ الْقَضَاءُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ وَخَصْمِهِ ، وَإِنْ رَضِيَ الْخَصْمُ بِخِلَافِ رَجُلَيْنِ رَضِيَا بِحُكْمِ رَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ فَيَنْفُذُ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا ، وَلَا يَقْضِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ، وَإِنْ رَضِيَ الْخَصْمُ بِذَلِكَ فَإِنْ فَعَلَ فَيُشْهِدُ عَلَى رِضَاهُ ، وَيَجْتَهِدُ فِي الْحَقِّ فَإِنْ قَضَى لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَنْ يَمْتَنِعُ قَضَاؤُهُ فَلْيَذْكُرْ الْقِصَّةَ كُلَّهَا ، وَرِضَى خَصْمِهِ ، وَشَهَادَةَ مَنْ شَهِدَ بِرِضَى الْخَصْمِ .
وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي مَوَاطِنِ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ ، وَرَأَى أَفْضَلَ مِنْهُ فَالْأَحْسَنُ فَسْخُهُ فَإِنْ مَاتَ أَوْ عُزِلَ فَلَا يَفْسَخُهُ غَيْرُهُ إلَّا فِي الْخَطَأِ الْبَيِّنِ فَإِنْ اجْتَمَعَ فِي الْقَضِيَّةِ حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَالسَّرِقَةِ قَالَ مُحَمَّدٌ يَقْطَعُهُ ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ يَرْفَعُهُ لِمَنْ فَوْقَهُ ، وَأَمَّا مَا لَهُ فَلَا يَحْكُمُ لَهُ

( الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) مَا حُكِمَ بِهِ عَلَى خِلَافِ السَّبَبِ فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْقَتْلِ عَلَى مَنْ لَمْ يَقْتُلْ أَوْ بِالْبَيْعِ عَلَى مَنْ لَمْ يَبِعْ أَوْ الطَّلَاقِ عَلَى مَنْ لَمْ يُطَلِّقْ أَوْ الدَّيْنِ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَدِنْ كَانَ قَضَاءً عَلَى خِلَافِ الْأَسْبَابِ فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَجَبَ نَقْضُهُ عِنْدَ الْكُلِّ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَالَفَ فِي قِسْمٍ مِنْهُ ، وَهُوَ مَا كَانَ فِيهِ عَقْدٌ أَوْ فَسْخٌ فَيُجْعَلُ حُكْمُ الْحَاكِمِ كَالْعَقْدِ فِيمَا لَا عَقْدَ فِيهِ أَوْ كَالْفَسْخِ فِيمَا لَا فَسْخَ فِيهِ فَإِذَا شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَا زُورٍ بِطَلَاقِ امْرَأَةٍ فَحَكَمَ بِطَلَاقِهَا جَازَ لِذَلِكَ الشَّاهِدِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِكَذِبِ نَفْسِهِ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فَسْخٌ لِذَلِكَ النِّكَاحِ ، وَإِذَا شَهِدَا عِنْدَهُ بِبَيْعِ جَارِيَةٍ فَحَكَمَ بِبَيْعِهَا جَازَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِمَّنْ حُكِمَ لَهُ بِهَا ، وَيَطَأَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِكَذِبِ نَفْسِهِ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ تَنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الْبَيْعِ لِمَنْ حُكِمَ لَهُ ، وَهَكَذَا كُلُّ مَا فِيهِ عَقْدٌ أَوْ فَسْخٌ ، وَوَافَقْنَا فِيمَا لَا عَقْدَ فِيهِ ، وَلَا فَسْخَ مِنْ الدُّيُونِ ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا فَقَالَ إنَّهُ بَاقٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْحُكْمِ .
وَقَالَ إذَا قَضَى بِنِكَاحِ أُخْتِ الْمَقْضِيِّ لَهُ أَوْ ذَاتِ مَحْرَمٍ فَلَا تَحِلُّ لَهُ لِفَوَاتِ قَبُولِ الْمَحَلِّ لِلنِّكَاحِ بِالْمَحْرَمِيَّةِ .
وَقَالَ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ ، وَالْحُكْمُ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ لَمْ يُنَزَّلْ حُكْمُهُ مَنْزِلَةَ الْعَقْدِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ هُنَا شَرْطٌ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ ، وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ لَمْ يَحْكُمْ بِالْمِلْكِ بَلْ بِالتَّسْلِيمِ ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ حُكْمُ الْحَاكِمِ لَا يُحِلُّ حَرَامًا ، وَلَا يُحَرِّمُ حَلَالًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَحُجَّتُنَا أَمْرَانِ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ

وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْتَطِعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } ، وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ .
( وَالثَّانِي ) الْقِيَاسُ عَلَى الْأَمْوَالِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْأَمْوَالَ أَضْعَفُ فَإِذَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا فَأَوْلَى الْفُرُوجُ ( وَحُجَّتُهُمْ ) خَمْسَةُ أُمُورٍ الْأَوَّلُ { قَضِيَّةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ بِاللِّعَانِ قَالَ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَةِ كَذَا فَهُوَ لِشَرِيكٍ فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ } ، وَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ هِلَالٌ ، وَأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَفْسَخْ تِلْكَ الْفُرْقَةَ ، وَأَمْضَاهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يَقُومُ مَقَامَ الْفَسْخِ وَالْعَقْدِ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْفُرْقَةَ فِي اللِّعَانِ لَيْسَتْ بِسَبَبِ صِدْقِ الزَّوْجِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِصِدْقِهِ لَمْ تَعُدْ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ بِسَبَبِ أَنَّهُمَا وَصَلَا إلَى أَسْوَأِ الْأَحْوَالِ فِي الْمُقَابَحَةِ بِالتَّلَاعُنِ فَلَمْ يَرَ الشَّارِعُ اجْتِمَاعَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ مَبْنَاهَا السُّكُونُ وَالْمَوَدَّةُ ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ اللِّعَانِ يَمْنَعُ ذَلِكَ فَعَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَذِبِ كَالْبَيِّنَةِ إذَا قَامَتْ ( وَالثَّانِي ) مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ادَّعَى عِنْدَهُ رَجُلٌ نِكَاحَ امْرَأَةٍ ، وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ فَقَضَى بَيْنَهُمَا بِالزَّوْجِيَّةِ فَقَالَتْ : وَاَللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَزَوَّجَنِي فَاعْقِدْ بَيْنَنَا عَقْدًا حَتَّى أَحِلَّ لَهُ فَقَالَ شَاهِدَاك زَوَّجَاك فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ ثَبَتَ بِحُكْمِهِ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ وَإِنْ صَحَّ فَلَا حُجَّةَ لَهُ لِأَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَضَافَ

التَّزَوُّجَ لِلشُّهُودِ لَا لِحُكْمِهَا ، وَمَنَعَهَا مِنْ الْعَقْدِ لِمَا فِيهِ مِنْ الطَّعْنِ عَلَى الشُّهُودِ فَأَخْبَرَهَا بِأَنَّهُ زَوْجُهَا ظَاهِرًا ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْفُتْيَا ، وَمَا النِّزَاعُ إلَّا فِيهَا .
( وَالثَّالِثُ ) الْقِيَاسُ عَلَى اللِّعَانِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ بِهِ النِّكَاحُ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا فَالْحُكْمُ أَوْلَى لِأَنَّ لِلْحَاكِمِ وِلَايَةً عَامَّةً عَلَى النَّاسِ فِي الْعُقُودِ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ كَذِبَ أَحَدِهِمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ بِاللِّعَانِ ، وَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِ أَمَّا عَدَمُ تَعْيِينِهِ فَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُسْتَنَدُهُ فِي اللِّعَانِ كَوْنَهُ لَمْ يَطَأْهَا بَعْدَ حَيْضَتِهَا مَعَ أَنَّ الْحَامِلَ قَدْ تَحِيضُ أَوْ قَرَائِنَ حَالِيَّةً مِثْلُ كَوْنِهِ رَأَى رَجُلًا بَيْنَ فَخِذَيْهَا مَعَ أَنَّ الْقَرَائِنَ قَدْ تَكْذِبُ كَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرَّجُلُ لَمْ يُولِجْ أَوْ أَوْلَجَ ، وَمَا أَنْزَلَ ، وَأَمَّا عَدَمُ اخْتِصَاصِهِ بِاللِّعَانِ فَلِأَنَّ الْمُتَدَاعِيَيْنِ فِي النِّكَاحِ أَوْ غَيْرِهِ قَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا فَاجِرًا يَطْلُبُ مَا يَعْلَمُ خِلَافَهُ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ يَقُومُ مَقَامَ الْفَسْخِ وَالْعَقْدِ بَلْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّلَاعُنَ يَمْنَعُ الزَّوْجِيَّةَ ( وَالرَّابِعُ ) أَنَّ الْحَاكِمَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْعَقْدِ وَالْفَسْخِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَوْقَعَ الْعَقْدَ عَلَى وَجْهٍ لَوْ فَعَلَهُ الْمَالِكُ نَفَذَ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ إنَّمَا جَعَلَ لِلْحَاكِمِ الْعَقْدَ لِلْغَائِبِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ وَنَحْوِهِمْ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ لِتَعَذُّرِ الْمُبَاشَرَةِ مِنْهُمْ ، وَهَا هُنَا لَا ضَرُورَةَ لِذَلِكَ ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَلِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مَصَالِحَ نَفْسِهِ ، وَلَا يَتْرُكُ الْأَصْلَ عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ ( وَالْخَامِسُ ) أَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْمُخَالَفَةُ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ فَصَارَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ مَا حَكَمَ لَهُ الْحَاكِمُ ، وَإِنْ عَلِمَ خِلَافَهُ فَكَذَلِكَ غَيْرُهُ قِيَاسًا عَلَيْهِ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ إنَّمَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ

الْمُخَالَفَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَفْسَدَةِ مُشَاقَةِ الْحُكَّامِ وَانْخِرَامِ النِّظَامِ وَتَشْوِيشِ نُفُوذِ الْمَصَالِحِ ، وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ بِحَيْثُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ حَاكِمٌ وَلَا غَيْرُهُ فَجَائِزَةٌ .

( الْقِسْمُ الرَّابِعُ ) مَا تَتَنَاوَلُهُ الْوِلَايَةُ ، وَصَادَفَ فِيهِ الْحُجَّةَ وَالدَّلِيلَ وَالسَّبَبَ غَيْرَ أَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِيهِ كَقَضَائِهِ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ التُّهْمَةَ تَقْدَحُ فِي التَّصَرُّفَاتِ إجْمَاعًا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ، وَإِلَّا فَالتُّهْمَةُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ أَعْلَاهَا كَقَضَائِهِ لِنَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ إجْمَاعًا وَأَدْنَاهَا كَقَضَائِهِ لِجِيرَانِهِ وَأَهْلِ صَقْعِهِ وَقَبِيلَتِهِ مَرْدُودٌ إجْمَاعًا ، وَالْمُتَوَسِّطُ مِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ هَلْ يَلْحَقُ بِالْأَوَّلِ أَوْ بِالثَّانِي ، وَأَصْلُهَا أَيْ الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ } أَيْ مُتَّهَمٍ قَالَ ابْنُ يُونُسَ فِي الْمَوَّازِيَّةِ كُلُّ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ لَهُ .
وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَازِمٌ لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فَهُوَ أَوْلَى بِالرَّدِّ مِنْ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ فَوْقَ الشَّاهِدِ مَنْ يَنْظُرُ عَلَيْهِ فَيَضْعُفُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْبَاطِلِ فَتَضْعُفُ التُّهْمَةُ قَالَ وَلَا يُحْكَمُ لِعَمِّهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُبَرِّزًا وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لَا يُحْكَمُ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ يَتِيمِهِ أَوْ امْرَأَتِهِ ، وَيَجُوزُ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ كَالْأَبِ وَالِابْنِ الْكَبِيرِ ، وَإِنْ امْتَنَعَتْ الشَّهَادَةُ فَإِنَّ مَنْصِبَ الْقَضَاءِ أَبْعَدُ عَنْ التُّهَمِ لِوُفُورِ جَلَالَةِ الْقَاضِي دُونَ الشَّاهِدِ .
وَقَالَ أَصْبَغُ إنْ قَالَ ثَبَتَ عِنْدِي ، وَلَا نَعْلَمُ أَثْبَتَ أَمْ لَا ، وَلَمْ يَحْضُرْهُ الشُّهُودُ لَمْ يَنْفُذْ فَإِنْ حَضَرَ الشُّهُودُ ، وَكَانَتْ شَهَادَةً ظَاهِرَةً بِحَقٍّ بَيِّنٍ جَازَ فِيمَا عَدَا الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَعْنِي حُكْمَهُ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ يَتِيمِهِ أَوْ امْرَأَتِهِ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ هَذِهِ الْأُمُورِ أَيْ حُضُورَ الشُّهُودِ ، وَكَوْنَ

الشَّهَادَةِ ظَاهِرَةً ، وَبِحَقٍّ بَيِّنٍ تَضْعُفُ التُّهْمَةُ ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ ، وَعَنْ أَصْبَغَ الْجَوَازُ فِي الْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ وَالْأَخِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمِدْيَانِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِيَامِ بِالْحَقِّ ، وَصَحَّ الْحُكْمُ ، وَقَدْ يَحْكُمُ لِلْخَلِيفَةِ ، وَهُوَ فَوْقَهُ ، وَتُهْمَتُهُ أَقْوَى ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ الْقَضَاءُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ وَخَصْمِهِ ، وَإِنْ رَضِيَ الْخَصْمُ بِخِلَافِ رَجُلَيْنِ رَضِيَا بِحُكْمِ رَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ فَيَنْفُذُ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا ، وَلَا يَقْضِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ، وَإِنْ رَضِيَ الْخَصْمُ بِذَلِكَ فَإِنْ فَعَلَ فَيُشْهِدُ عَلَى رِضَاهُ ، وَيَجْتَهِدُ فِي الْحَقِّ فَإِنْ قَضَى لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَنْ يَمْتَنِعُ قَضَاؤُهُ لَهُ فَلْيَذْكُرْ الْقِصَّةَ كُلَّهَا ، وَرَضِيَ خَصْمِهِ ، وَشَهَادَةَ مَنْ شَهِدَ بِرِضَى الْخَصْمِ .
وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي مَوَاطِنِ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ ، وَرَأَى أَفْضَلَ مِنْهُ فَالْأَحْسَنُ فَسْخُهُ فَإِنْ مَاتَ أَوْ عُزِلَ فَلَا يَفْسَخُهُ غَيْرُهُ إلَّا فِي الْخَطَأِ الْبَيِّنِ فَإِنْ اجْتَمَعَ فِي الْقَضِيَّةِ حَقُّهُ ، وَحَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَالسَّرِقَةِ قَالَ مُحَمَّدٌ يَقْطَعُهُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ يَرْفَعُهُ لِمَنْ فَوْقَهُ ، وَأَمَّا مَا لَهُ فَلَا يَحْكُمُ لَهُ .

( الْقِسْمُ الْخَامِسُ ) مَا اجْتَمَعَ فِيهِ أَنَّهُ تَنَاوَلَتْهُ الْوِلَايَةُ ، وَصَادَفَ السَّبَبَ وَالدَّلِيلَ وَالْحُجَّةَ ، وَانْتَفَتْ التُّهْمَةُ فِيهِ غَيْرَ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْحُجَّةِ هَلْ هِيَ حُجَّةٌ أَمْ لَا ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) الْقَضَاءُ بِعِلْمِ الْحَاكِمِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ ابْنِ حَنْبَلٍ يَمْتَنِعُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَحْكُمُ فِي الْحُدُودِ بِمَا شَاهَدَهُ مِنْ أَسْبَابِهَا إلَّا فِي الْقَذْفِ ، وَلَا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِيمَا عَلِمَهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَوَازُ الْحُكْمِ فِي الْجَمِيعِ ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى جَوَازِ حُكْمِهِ بِعِلْمِهِ فِي التَّجْرِيحِ وَالتَّعْدِيلِ لَنَا وُجُوهٌ : ( الْأَوَّلُ ) قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ } الْحَدِيثَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ بِحَسَبِ الْمَسْمُوعِ لَا بِحَسَبِ الْمَعْلُومِ .
( الثَّانِي ) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ لَيْسَ لَك إلَّا ذَلِكَ } فَحَصَرَ الْحُجَّةَ فِي الْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينَ دُونَ عِلْمِ الْحَاكِمِ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ( الثَّالِثُ ) رَوَى أَبُو دَاوُد أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا جَهْمٍ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَاحَاهُ رَجُلٌ فِي فَرِيضَةٍ فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا شِجَاجٌ فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ الْأَرْشَ ثُمَّ قَالَ أَفَأَخْطُبُ النَّاسَ فَأُعْلِمَهُمْ بِرِضَاكُمْ قَالُوا نَعَمْ فَخَطَبَ فَأَعْلَمَ فَقَالُوا مَا رَضِينَا فَأَرَادَهُمْ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا وَنَزَلَ فَجَلَسُوا إلَيْهِ فَأَرْضَاهُمْ فَقَالَ أَأَخْطُبُ النَّاسَ فَأُعْلِمُهُمْ بِرِضَاكُمْ قَالُوا نَعَمْ فَخَطَبَ فَأَعْلَمَ النَّاسَ فَقَالُوا رَضِينَا } ، وَهُوَ نَصٌّ فِي عَدَمِ الْحُكْمِ

بِالْعِلْمِ .
( الرَّابِعُ ) جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي قِصَّةِ هِلَالٍ وَشَرِيكٍ إنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا فَهُوَ لِهِلَالٍ يَعْنِيَ الزَّوْجَ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ يَعْنِي الْمَقْذُوفَ فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ كُنْت رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتهَا } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْضِي فِي الْحُدُودِ بِعِلْمِهِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا ، وَقَدْ وَقَعَ مَا قَالَ فَيَكُونُ الْعِلْمُ حَاصِلًا لَهُ ، وَمَعَ ذَلِكَ مَا رَجَمَ ، وَعَلَّلَ بِعَدَمِ الْبَيِّنَةِ .
( الْخَامِسُ ) قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } فَأَمَرَ بِجَلْدِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ ، وَإِنْ عَلِمَ صِدْقَهُمْ .
( السَّادِسُ ) أَنَّ الْحَاكِمَ غَيْرُ مَعْصُومٍ فَيُتَّهَمُ بِالْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ فَلَعَلَّ الْمَحْكُومَ لَهُ وَلِيٌّ أَوْ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ صَدِيقٌ ، وَلَا نَعْلَمُ نَحْنُ ذَلِكَ فَحَسَمْنَا الْمَادَّةَ صَوْنًا لِمَنْصِبِ الْقَضَاءِ عَنْ التُّهَمِ .
( السَّابِعُ ) قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِذْكَارِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَتَلَ أَخَاهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ قَاتِلٌ أَنَّهُ كَالْقَتْلِ عَمْدًا لَا يَرِثُ مِنْهُ شَيْئًا لِلتُّهْمَةِ فِي الْمِيرَاثِ فَنَقِيسُ عَلَيْهِ بَقِيَّةَ الصُّوَرِ بِجَامِعِ التُّهْمَةِ ، احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ ( أَحَدُهَا ) مَا فِي مُسْلِمٍ أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى عَلَى أَبِي سُفْيَانَ بِالنَّفَقَةِ بِعِلْمِهِ فَقَالَ لِهِنْدَ خُذِي لَك ، وَلِوَلَدِك مَا يَكْفِيك بِالْمَعْرُوفِ } ، وَلَمْ يُكَلِّفْهَا الْبَيِّنَةَ ( وَثَانِيهَا ) مَا رَوَاهُ صَاحِبُ الِاسْتِذْكَارِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ ادَّعَى عَلَى أَبِي سُفْيَانَ عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ظَلَمَهُ حَدًّا فِي مَوْضِعٍ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنِّي لَأَعْلَمُ النَّاسِ بِذَلِكَ فَقَالَ عُمَرُ انْهَضْ إلَى

الْمَوْضِعِ فَنَظَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى الْمَوْضِعِ فَقَالَ يَا أَبَا سُفْيَانَ خُذْ هَذَا الْحَجَرَ مِنْ هَا هُنَا فَضَعْهُ هَا هُنَا فَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ فَقَالَ وَاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ فَقَالَ لَا أَفْعَلُ فَعَلَاهُ عُمَرُ بِالدِّرَةِ ، وَقَالَ خُذْهُ لَا أُمَّ لَك وَضَعْهُ هُنَا فَإِنَّك مَا عَلِمْت قَدِيمَ الظُّلْمِ فَأَخَذَهُ فَوَضَعَهُ حَيْثُ قَالَ فَاسْتَقْبَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْقِبْلَةَ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ إذْ لَمْ تُمِتْنِي حَتَّى غَلَبْتُ أَبَا سُفْيَانَ عَلَى رَأْيِهِ ، وَأَذْلَلْتَهُ لِي بِالْإِسْلَامِ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ إذْ لَمْ تُمِتْنِي حَتَّى جَعَلْت فِي قَلْبِي مَا ذَلَلْتُ لِعُمَرَ ( وَثَالِثُهَا ) قَوْله تَعَالَى { كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ } وَقَدْ عَلِمَ الْقِسْطُ فَيُقَوِّمُ بِهِ ( وَرَابِعُهَا ) أَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِالظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْ قَوْلِ الْبَيِّنَةِ فَالْعِلْمُ أَوْلَى ، وَمِنْ الْعَجَبِ جَعْلُ الظَّنِّ خَيْرًا مِنْ الْعِلْمِ .
( وَخَامِسُهَا ) أَنَّ التُّهْمَةَ قَدْ تَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْبَيِّنَةِ فَيَقْبَلُ قَوْلَ مَنْ لَا يُقْبَلُ ( سَادِسُهَا ) أَنَّ الْعَمَلَ وَاجِبٌ بِمَا نَقَلَتْهُ الرُّوَاةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا سَمِعَهُ الْمُكَلَّفُ أَوْلَى أَنْ يَعْمَلَ بِهِ ، وَيَحْكُمَ بِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْفُتْيَا تُثْبِتُ شَرْعًا عَامًّا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَالْقَضَاءُ فِي فَرْدٍ لَا يَتَعَدَّى لِغَيْرِهِ فَخَطَرُهُ أَقَلُّ .
( وَسَابِعُهَا ) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَحْكُمْ بِعِلْمِهِ لَفَسَقَ فِي صُوَرٍ مِنْهَا أَنْ يَعْلَمَ وِلَادَةَ امْرَأَةٍ عَلَى فِرَاشِ رَجُلٍ فَيَشْهَدَ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ فَإِنْ قَبِلَ الْبَيِّنَةَ مَكَّنَهُ مِنْ وَطْئِهَا ، وَهِيَ ابْنَتُهُ ، وَهُوَ فِسْقٌ ، وَإِلَّا حَكَمَ بِعِلْمِهِ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ، وَمِنْهَا أَنْ يَعْلَمَ قَتْلَ زَيْدٍ لِعَمْرٍو فَتَشْهَدُ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّ الْقَاتِلَ غَيْرُهُ فَإِنْ قَتَلَهُ قَتَلَ الْبَرِيءَ ، وَهُوَ فِسْقٌ ، وَإِلَّا حَكَمَ بِعِلْمِهِ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ،

وَمِنْهَا لَوْ سَمِعَهُ يُطَلِّقُ ثَلَاثًا فَأَنْكَرَ فَشَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِوَاحِدَةٍ إنْ قَبِلَ الْبَيِّنَةَ مَكَّنَ مِنْ الْحَرَامِ ، وَإِلَّا حَكَمَ بِعِلْمِهِ ( وَثَامِنُهَا ) { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى فَرَسًا فَجَحَدَهُ الْبَائِعُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ يَشْهَدُ لِي فَقَالَ خُزَيْمَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَشْهَدُ لَك فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ تَشْهَدُ ، وَلَا حَضَرْت فَقَالَ خُزَيْمَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْبِرُنَا عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ فَنُصَدِّقُك أَفَلَا نُصَدِّقُك فِي هَذَا فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَا الشَّهَادَتَيْنِ } فَهَذَا ، وَإِنْ اسْتَدَلَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى عَدَمِ الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ فَهُوَ يَدُلُّ لَنَا مِنْ جِهَةِ حُكْمِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِنَفْسِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لِغَيْرِهِ بِعِلْمِهِ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ فِي التُّهْمَةِ مِنْ الْقَضَاءِ لِنَفْسِهِ بِالْإِجْمَاعِ ( وَتَاسِعُهَا ) الْقِيَاسُ عَلَى التَّجْرِيحِ وَالتَّعْدِيلِ ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ قِصَّةَ هِنْدَ فُتْيَا لَا حُكْمٌ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالتَّبْلِيغُ فُتْيَا لَا حُكْمٌ وَالتَّصَرُّفُ بِغَيْرِهَا قَلِيلٌ فَيُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ ، وَلِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَى حَاضِرٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّهُ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْمُنْكَرِ الَّذِي يَحْسُنُ مِنْ آحَادِ النَّاسِ لَا مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ غَيْرَ مُتَرَدِّدَةٍ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَتَكُونُ مُجْمَلَةً فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهَا ، وَعَنْ الثَّالِثِ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّ الْحُكْمَ بِالْعِلْمِ مِنْ الْقِسْطِ بَلْ هُوَ عِنْدَنَا مُحَرَّمٌ ، وَعَنْ الرَّابِعِ أَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ مِنْ الظَّنِّ إلَّا أَنَّ اسْتِلْزَامَهُ لِلتُّهْمَةِ وَفَسَادِ مَنْصِبِ الْقَضَاءِ أَوْجَبَ

مَرْجُوحِيَّتَهُ لِأَنَّ الظَّنَّ فِي الْقَضَاءِ يَخْرِقُ الْأُبَّهَةَ ، وَيَمْنَعُ مِنْ نُفُوذِ الْمَصَالِحِ ، وَعَنْ الْخَامِسِ أَنَّ التُّهْمَةَ مَعَ مُشَارَكَةِ الْغَيْرِ أَضْعَفُ بِخِلَافِ مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التُّهَمَ كُلَّهَا لَيْسَتْ مُعْتَبَرَةً بَلْ بَعْضُهَا ، وَعَنْ السَّادِسِ أَنَّ الرِّوَايَةَ وَالسَّمَاعَ وَالرُّؤْيَةَ اسْتَوَى الْجَمِيعُ لِعَدَمِ الْمُعَارِضِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْعِلْمِ بِخِلَافِ الْحُكْمِ ، وَعَنْ السَّابِعِ أَنَّ تِلْكَ الصُّوَرِ لَمْ يَحْكُمْ فِيهَا بِعِلْمِهِ بَلْ تَرَكَ الْحُكْمَ ، وَتَرْكُهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ لَيْسَ فِسْقًا ، وَتَرْكُ الْحُكْمِ لَيْسَ بِحُكْمٍ ، وَعَنْ الثَّامِنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا حَكَمَ لِنَفْسِهِ ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَخَذَ الْفَرَسَ قَهْرًا مِنْ الْأَعْرَابِيِّ فَقَدْ اُخْتُلِفَ هَلْ حَكَمَ أَمْ لَا ، وَهَلْ جَعْلَ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بِشَهَادَتَيْنِ حَقِيقَةً أَوْ مُبَالَغَةً فَمَا تَعَيَّنَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا سُمِّيَ خُزَيْمَةُ ذَا الشَّهَادَتَيْنِ مُبَالَغَةً لَا حَقِيقَةً ، وَعَنْ التَّاسِعِ أَنَّهُ يَحْكُمُ فِيهِ بِالْعِلْمِ نَفْيًا لِلتَّسَلْسُلِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِالْجَرْحِ أَوْ التَّعْدِيلِ ، وَتَحْتَاجُ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةً أُخْرَى إلَّا أَنْ يُقْبَلَ بِعِلْمِهِ بِخِلَافِ صُورَةِ النِّزَاعِ مَعَ أَنَّ الْقَاضِيَ قَالَ فِي الْمَعُونَةِ قَدْ قِيلَ هَذَا لَيْسَ حُكْمًا ، وَإِلَّا يَتَمَكَّنُ غَيْرُهُ مِنْ نَقْضِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ تَرَكَ شَهَادَتَهُ وَتَفْسِيقَهُ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حُكْمًا لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) وَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى الْأُولَى قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ إذَا حَكَمَ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ أَوْ بَعْدَهَا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكُومَةِ أَوْ فِيهِ فَلِلْقَاضِي الثَّانِي نَقْضُهُ فَإِنْ أَقَرَّ الْخَصْمُ بَعْدَ جُلُوسِهِمَا لِلْحُكُومَةِ ثُمَّ أَنْكَرَ فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ لَا يُحْكَمُ بِهِ .

وَقَالَ سَحْنُونٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ يُحْكَمُ بِهِ فَلَوْ جَحَدَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَقَرَّ فِي مَوْضِعٍ يَقْبَلُ مَا رَجَعَ إلَيْهِ مِنْ حُجَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا بَعْدَ الْجُحُودِ عِنْدَ مَالِكٍ ، وَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَسَحْنُونٍ قَالَ اللَّخْمِيُّ ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ ، وَلَا أَرَى أَنْ يُبَاحَ هَذَا الْيَوْمُ لِأَحَدٍ مِنْ الْقُضَاةِ ، وَاخْتَلَفَ إذَا حَكَمَ فَقَالَ مُحَمَّدٌ أَرَى أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَهُ هُوَ نَفْسُهُ مَا كَانَ قَاضِيًا لَمْ يُعْزَلْ فَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْقُضَاةِ فَلَا أُحِبُّ لَهُ نَقْضَهُ قَالَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ يَنْقُضُهُ هُوَ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ رَأْيِهِ ، وَقِيلَ لَا يَنْقُضُهُ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ رَأْيٍ إلَى رَأْيٍ فَإِنْ كَانَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ الْأَوَّلُ شَيْئًا ، وَيَنْظُرُ إلَى مَنْ يُقَلِّدُهُ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرَى الْحُكْمَ بِمِثْلِ الْأَوَّلِ لَمْ يَنْقُضْهُ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يُؤَدِّي مَعَ فَسَادِ حَالِ الْقَضَاءِ الْيَوْمَ إلَى الْقَضَاءِ بِالْبَاطِلِ لِأَنَّ كُلَّهُمْ حِينَئِذٍ يَدَّعِي الْعَدَالَةَ فَيَنْقُضُهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الذَّرِيعَةِ فَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ قُلْت فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعِلْمِ يُنْقَضُ .
وَإِنْ كَانَ مُدْرَكًا مُخْتَلَفًا فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْمُدْرَكُ فِي النَّقْضِ كَوْنَهُ مُدْرَكًا مُخْتَلَفًا فِيهِ فَاَلَّذِي يُنْقَضُ بِهِ لَا يَعْتَقِدُهُ فَالْحُكْمُ وَقَعَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ مُدْرَكٍ ، وَالْحُكْمُ بِغَيْرِ مُدْرَكٍ يُنْقَضُ فَيَنْقُضُهُ لِذَلِكَ فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا نَقْضُ الْحُكْمِ إذَا وَقَعَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى نَقْضِهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَالَ هُوَ بِدْعَةٌ أَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهِ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ بَلْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَضَاءِ بِهِ ، وَكَذَلِكَ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يُجِيزُ الْحُكْمَ إلَّا بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ ، وَالْحُكْمُ الْوَاقِعُ بِشَهَادَةِ الصِّبْيَانِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31