كتاب : أنوار البروق في أنواع الفروق
المؤلف : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي

الْقِيَاسُ عَلَى الرِّوَايَةِ ، وَجَوَابُهُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الرِّوَايَةَ تَثْبُتُ حُكْمًا عَامًّا فِي الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ لَا عَلَى مُعَيَّنٍ فَلَيْسَتْ مَظِنَّةَ الْعَدَاوَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَدُ فَتُقْبَلُ الْوَاحِدَةُ فِي الرِّوَايَةِ ، وَلَا تُقْبَلُ فِي الشَّهَادَةِ اتِّفَاقًا .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ لَا يُقْبَلُ النِّسَاءُ فِي أَحْكَامِ الْأَبْدَانِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُقْبَلُ فِي أَحْكَامِ الْأَبْدَانِ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ إلَّا فِي الْجِرَاحِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَوَدِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ لَنَا وُجُوهٌ : ( الْأَوَّلُ ) قَوْله تَعَالَى فِي مَسَائِلِ الْمُدَايَنَاتِ { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } فَكَانَ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ مِثْلُهُ ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ فَلَا تَجُوزُ فِي أَحْكَامِ الْأَبْدَانِ ( الثَّانِي ) قَوْله تَعَالَى فِي الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } الْآيَةَ ، وَهُوَ حُكْمٌ بَدَنِيٌّ فَكَانَتْ الْأَحْكَامُ الْبَدَنِيَّةُ كُلُّهَا كَذَلِكَ إلَّا مَوْضِعٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ لِلضَّرُورَةِ فِي ذَلِكَ ( الثَّالِثُ ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ } ، وَهُوَ حُكْمٌ بَدَنِيٌّ فَكَانَتْ الْأَحْكَامُ الْبَدَنِيَّةُ كُلُّهَا كَذَلِكَ ، وَأَمَّا الْوُجُوهُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا فَثَمَانِيَةٌ ( الْأَوَّلُ ) قَوْله تَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } الْآيَةَ فَأَقَامَ الْمَرْأَتَيْنِ وَالرَّجُلَ مُقَامَ الرَّجُلَيْنِ فِي ذَلِكَ مُطْلَقًا لَا عِنْدَ عَدَمِ الشَّاهِدَيْنِ فَقَطْ إذْ لَا يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَيْهِ لِجَوَازِهِمَا مَعَ وُجُودِ الشَّاهِدَيْنِ إجْمَاعًا فَتَعَيَّنَ أَنَّهُمَا يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا فَيَكُونَانِ مُرَادَيْنِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ لِوُجُودِ الِاسْمِ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمَا يَقُومَانِ مَقَامَ الرَّجُلِ فِي الْحُكْمِ بِدَلِيلِ الرَّفْعِ فِي لَفْظِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، وَلَيْسَ

مَعْنَاهَا مَا ذَكَرْتُمْ ، وَإِلَّا لَقَالَ فَرَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ بِالنَّصْبِ لِأَنَّهُ خَبَرُ كَانَ وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الشَّاهِدَانِ رَجُلَيْنِ يَكُونَا رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ فَلَمَّا رُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ كَانَ تَقْدِيرُهُ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ يَقُومَانِ مَقَامَ الشَّاهِدَيْنِ بِحَذْفِ الْخَبَرِ ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) قَوْله تَعَالَى { فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } أَطْلَقَ ، وَمَا خَصَّ مَوْضِعًا فَيَعُمُّ جَوَابُهُ أَنَّ آخِرَ الْآيَةِ مُرْتَبِطٌ بِأَوَّلِهَا ، وَأَوَّلُهَا { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ } عَلَى أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا الْعُمُومَ خَصَّصْنَاهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى جِرَاحِ الْقَوَدِ بِجَامِعِ عَدَمِ قَبُولِهِنَّ مُنْفَرِدَاتٍ ، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ أَعْلَاهَا الزِّنَا ، وَأَدْنَاهَا السَّرِقَةُ ، وَلَمْ يُقْبَلْ فِي أَحَدِهِمَا مَا يُقْبَلُ فِي الْآخَرِ فَكَذَلِكَ الْأَبْدَانُ أَعْلَى مِنْ الْأَمْوَالِ فَلَا يُقْبَلُ فِيهَا مَا يُقْبَلُ فِي الْأَمْوَالِ ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ وَحَدُّ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ وَحَدُّ الْخَمْرِ لَيْسَ ثَبْتًا بِالنَّصِّ ، وَلَا بِالْقِيَاسِ عَلَى الزِّنَا لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ أَرْبَعَةٍ فِيهِ ، وَلَا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ بِالنِّسَاءِ فَتَعَيَّنَ قِيَاسُهَا عَلَى الطَّلَاقِ ( وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ ) أَنَّهَا أُمُورٌ لَا تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ فَتُقْبَلُ فِيهَا النِّسَاءُ كَالْأَمْوَالِ ، وَجَوَابُهُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ أَحْكَامَ الْأَبْدَانِ أَعْظَمُ رُتْبَةً لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَنَحْوَهُ لَا يُقْبَلْنَ فِيهِ مُنْفَرِدَاتٍ فَلَا يُقْبَلْنَ فِيهِ مُطْلَقًا كَالْقِصَاصِ ، وَلِأَنَّا وَجَدْنَا النِّكَاحَ آكَدُ مِنْ الْأَمْوَالِ لِاشْتِرَاطِ الْوِلَايَةِ فِيهِ ، وَلَمْ يَدْخُلْهُ الْأَجَلُ وَالْخِيَارُ وَالْهِبَةُ ( وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ ) أَنَّ النِّكَاحَ وَالرَّجْعَةَ عَقْدُ مَنَافِعَ فَيُقْبَلُ فِيهِمَا النِّسَاءُ كَالْإِجَارَاتِ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِجَارَةِ الْمَالُ ( وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ ) أَنَّ الْخِيَارَ وَالْآجَالَ

لَيْسَتْ أَمْوَالًا ، وَيُقْبَلُ فِيهِمَا النِّسَاءُ فَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ صُوَرِ النِّزَاعِ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمَا أَيْضًا الْمَالُ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَجَلَ وَالْخِيَارَ لَا يَثْبُتَانِ إلَّا فِي مَوْضِعٍ فِيهِ الْمَالِ ( وَالْوَجْهُ السَّادِسُ ) أَنَّ الطَّلَاقَ رَافِعٌ لِعَقْدٍ سَابِقٍ فَأَشْبَهَ الْإِقَالَةَ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ مَقْصُودَ الطَّلَاقِ غَيْرُ الْمَالِ ، وَمَقْصُودُ الْإِقَالَةِ الْمَالُ عَلَى أَنَّ حِلَّ عَقْدٍ لَا يَثْبُتُ بِالنِّسَاءِ ، وَالنُّكُولِ ( وَالْوَجْهُ السَّابِعُ ) أَنَّهُ أَيْ الطَّلَاقَ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ كَالرَّضَاعِ ( وَالْوَجْهُ الثَّامِنُ ) أَنَّ الْعِتْقَ إزَالَةُ مِلْكٍ كَالْبَيْعِ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الرَّضَاعَ يَثْبُتُ بِالنِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ ، وَأَيْضًا مَآلُ الْعِتْقِ إلَى غَيْرِ مِلْكٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ ا هـ كَلَامُ الْأَصْلِ ، وَسَلَّمَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( الْحُجَّةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) الْيَمِينُ الْوَاحِدَةُ إذَا تَنَازَعَا دَارًا لَيْسَتْ فِي أَيْدِيهِمَا أَوْ فِي أَيْدِيهِمَا قُسِّمَتْ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَيْمَانِهِمَا فَيَقْضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ بِمُجَرَّدِ يَمِينِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهِيَ أَقَلُّ حُجَّةٍ فِي الشَّرِيعَةِ بِسَبَبِ أَنَّا لَمْ نَجِدْ مُرَجِّحًا عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ إلَّا الْيَمِينَ ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَوَتْ الْبَيِّنَتَانِ ، وَالْأَيْدِي أَوْ الْبَيِّنَتَانِ مِنْ غَيْرِ يَدٍ بَلْ هِيَ فِي يَدِ ثَالِثٍ قُسِّمَتْ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَيْمَانِهِمَا لِوُجُودِ التَّرْجِيحِ بِالْيَمِينِ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أُمِرْت أَنْ أَقْضِيَ بِالظَّاهِرِ ، وَاَللَّهُ مُتَوَلِّي السَّرَائِرِ } ، وَهَذَا قَدْ صَارَ ظَاهِرًا بِالْيَمِينِ فَيَقْضِي بِهِ لِصَاحِبِهِ ، وَلِأَنَّهُمَا إنْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا فَكُلُّ وَاحِدٍ يَدُهُ عَلَى النِّصْفِ فَدَفَعَ عَنْهُ يَمِينَهُ كَسَائِرِ مَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ ثَالِثٍ فَأَقَرَّ لَهُمَا عَلَى نِسْبَةٍ اتَّفَقَا عَلَيْهَا قَسَّمَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ يَمِينٍ ، وَإِنْ تَنَازَعَا ، وَالثَّالِثُ يَقُولُ هِيَ لَا تَعْدُوهُمَا فَهِيَ كَمَا لَوْ كَانَتْ بِأَيْدِيهِمَا بِسَبَبِ إقْرَارِهِ لَهُمَا ، وَإِنْ قَالَ الثَّالِثُ لَا أَعْلَمُ هِيَ لَهُمَا أَمْ لِغَيْرِهِمَا فَهُوَ مَوْضِعُ نَظَرٍ وَتَوَقُّفٍ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ الْأَيْمَانَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ دَافِعَةً لَا جَالِبَةً ، وَلَا يَقْضِي فِيهَا بِمِلْكٍ بَلْ بِالدَّفْعِ كَمَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ فَأَنْكَرَ ، وَحَلَفَ ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا جَالِبَةٌ ، وَأَنَّهَا تَقْضِي بِالْمِلْكِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا تَنْدَرِجُ هَذِهِ الْيَمِينُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ } لِأَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْيَمِينُ الدَّافِعَةُ ، وَهِيَ هَذِهِ بِعَيْنِهَا فَتَنْدَرِجُ .

( الْبَابُ الْحَادِيَ عَشَرَ ) فِي بَيَانِ مَا تَكُونُ فِيهِ الْحُجَّةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ وَكَوْنُهَا دَافِعَةً أَوْ جَالِبَةً ، وَدَلِيلُ قَبُولِهَا ، وَفِيهِ وَصْلَانِ : ( الْوَصْلُ الْأَوَّلُ ) فِي تَبْصِرَةِ ابْنِ فَرْحُونٍ الْقَضَاءُ بِالتَّحَالُفِ مِنْ الْجِهَتَيْنِ فَيَقْضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِيَمِينِهِ ، وَيَنْقَسِمُ الْمُدَّعَى فِيهِ بَيْنَهُمَا أَوْ يَفْسَخُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَزِمَهُ بِمُوجِبِ الْعَقْدِ بِيَمِينِهِ ، وَالْحُكْمُ بِالْفَسْخِ بَيْنَهُمَا يَدْخُلُ فِي أَبْوَابٍ كَثِيرَةٍ مِنْهُمَا اخْتِلَافُ الْمُتَبَايِعَيْنِ ، وَاخْتِلَافُهُمَا يَرْجِعُ إلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ نَوْعًا يَقَعُ التَّحَالُفُ فِي أَحَدَ عَشَرَ نَوْعًا : ( النَّوْعُ الْأَوَّلُ ) أَنْ يَخْتَلِفَا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا هَذِهِ دَنَانِيرُ ، وَيَقُولُ الْآخَرُ ثَوْبٌ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ إذْ لَيْسَ تَصْدِيقُ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، وَيَرُدُّ الْمُبْتَاعُ قِيمَةَ السِّلْعَةِ عِنْدَ الْفَوَاتِ نَعَمْ فِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ الْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَعَلَى الْآخَرِ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ هِيَ الْأَثْمَانُ ، وَبِهَا يَقَعُ الْبَيْعُ ( النَّوْعُ الثَّانِي ) أَنْ يَخْتَلِفَا فِي نَوْعِ الثَّمَنِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا هُوَ قَمْحٌ ، وَيَقُولُ الْآخَرُ هُوَ شَعِيرٌ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ ، وَيَتَفَاسَخَا ( النَّوْعُ الثَّالِثُ ) أَنْ يَخْتَلِفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا بِعِشْرِينَ ، وَيَقُولُ الْآخَرُ بِعَشَرَةٍ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ ، وَيَتَفَاسَخَانِ مَا لَمْ يَقْبِضْ الْمُشْتَرِي السِّلْعَةَ إذْ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَإِذَا تَرَجَّحَتْ دَعْوَى الْمُشْتَرِي بِقَبْضِ السِّلْعَةِ فَفِيهَا أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُصَدَّقُ فِي الثَّمَنِ مَعَ يَمِينِهِ لِقُوَّةِ الْيَدِ ( الثَّانِيَةُ ) أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ ، وَيَتَفَاسَخَانِ ، وَأَنْ قَبْضَهُمَا مَا لَمْ يَبْنِ بِهَا ، وَيُصَدَّقُ حِينَئِذٍ بِالْبَيْنُونَةِ ، وَالرِّوَايَتَانِ

لِابْنِ وَهْبٍ ( الثَّالِثَةُ ) أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ ، وَيَتَفَاسَخَانِ ، وَإِنْ قَبَضَهَا ، وَبَانَ بِهَا مَا لَمْ تَفُتْ بِتَغَيُّرِ سُوقٍ أَوْ بَدَنٍ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ ، وَبِهَا أَخَذَ ( الرَّابِعَةُ ) أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ ، وَيَتَفَاسَخَانِ ، وَإِنْ فَاتَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، وَيَرُدُّ الْقِيمَةَ بَدَلَ الْعَيْنِ ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَشْهَبَ ، وَبِهَا أَخَذَ .
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ كَانَ يُفْتِي شَيْخُنَا ، وَأَنَا أُفْتِي بِهِ أَيْضًا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ ، وَإِنَّمَا يَرُدُّ الْقِيمَةَ مَا لَمْ تَكُنْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ ، وَحَيْثُ قُلْنَا بِالتَّحَالُفِ فَالْبُدَاءَةُ بِالْبَائِعِ ، وَقِيلَ بِالْمُشْتَرِي ، وَقِيلَ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَلَوْ تَنَاكَلَا فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يُفْسَخُ كَمَا إذَا تَحَالَفَا .
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ يَمْضِي الْعَقْدُ بِمَا قَالَ الْبَائِعُ ، وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فَهَلْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُلْزِمَ صَاحِبَهُ الْبَيْعَ بِمَا ذَكَرَ ؟ قَوْلَانِ ، وَإِذْ قُلْنَا بِقَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ فَهَلْ يَفْتَقِرُ الْبَائِعُ إلَى يَمِينٍ أَمْ لَا ؟ قَوْلَانِ ، وَهَلْ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِتَمَامِ التَّحَالُفِ أَوْ يَفْتَقِرُ إلَى الْحُكْمِ ؟ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ قَوْلُ سَحْنُونٍ ، وَالثَّانِي قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ ، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ إنْ رَضِيَ أَحَدُهُمَا بِقَوْلِ الْآخَرِ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ لَهُ ذَلِكَ ، وَعَلَى قَوْلِ سَحْنُونٍ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، وَقَالَ بَعْضُ الْقَرَوِيِّينَ إنْ تَحَالَفَا بِأَمْرِ الْقَاضِي فَلَا بُدَّ مِنْ الْحُكْمِ ، وَإِلَّا انْفَسَخَ بِتَمَامِ التَّحَالُفِ ( النَّوْعُ الرَّابِعُ ) إذَا اخْتَلَفَا فِي تَعْجِيلِ الثَّمَنِ ، وَتَأْجِيلِهِ فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْت بِنَقْدٍ ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي بَلْ بِنَسِيئَةٍ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ ادَّعَى الْعُرْفَ مَعَ يَمِينٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِتِلْكَ السِّلْعَةِ عُرْفٌ فَقَالَ الْقَاسِمُ يَتَحَالَفَانِ ، وَيَتَفَاسَخَانِ ، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ إنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ بِيَدِ الْبَائِعِ فَهُوَ

مُصَدَّقٌ مَعَ يَمِينٍ ، وَإِنْ قَبَضَهَا الْمُبْتَاعُ صُدِّقَ مَعَ يَمِينٍ ، وَإِنْ ادَّعَى مَا يُشْبِهُ ، وَقِيلَ إنْ ادَّعَى الْمُبْتَاعُ أَجَلًا قَرِيبًا يَتَحَالَفَانِ ، وَيَتَفَاسَخَانِ إنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ قَائِمَةً ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مَعَ الْفَوَاتِ ، وَإِنْ ادَّعَى أَجَلًا بَعِيدًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْأَجَلِ ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُبْتَاعِ مَعَ الْفَوَاتِ ، وَيَتَحَالَفَانِ ، وَيَتَفَاسَخَانِ إنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ قَائِمَةً ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْأَجَلِ ، وَاخْتَلَفَا فِي انْقِضَائِهِ فَالْأَصْلُ عَدَمُ الِانْقِضَاءِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مُدَّعِيهِ مَعَ يَمِينٍ ( النَّوْعُ الْخَامِسُ ) إذَا اخْتَلَفَا فِي الْخِيَارِ ، وَالْبَتِّ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي الْبَتُّ مَعَ يَمِينٍ ، وَقَالَ أَشْهَبُ الْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْخِيَارِ ، وَقِيلَ يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي تَقَدَّمَ اخْتِلَافُهُمَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ دُونَ الْآخَرِ فَاخْتَلَفَ هَلْ يَتَحَالَفَانِ ، وَيَتَفَاسَخَانِ أَوْ يَتَحَالَفَانِ ، وَيَثْبُتُ الْبَيْعُ ؟ قَوْلَانِ لِابْنِ الْقَاسِمِ ( النَّوْعُ السَّادِسُ ) اخْتِلَافُهُمَا فِي الرَّهْنِ ، وَالْحَمِيلِ ، وَذَلِكَ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَزِيدُ مَعَ نَقْدِهِمَا فَيَنْقُصُ مَعَ وُجُودِهِمَا ( النَّوْعُ السَّابِعُ ) إذَا اخْتَلَفَا فِي عَيْنِ الْمَبِيعِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَخْتَلِفَا فِي ذَلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْت مِنْك هَذَا الثَّوْبَ ، وَقَالَ الْمُبْتَاعُ بَلْ هَذَا ؛ تَحَالَفَا وَتَفَاسَخَا ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِيهِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينٍ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ رَدَدْته عَلَيْك بَعْدَ التَّحَالُفِ وَالتَّفَاسُخِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْمُبْتَاعِ فَلَا يَزَالُ فِي ضَمَانِهِ حَتَّى يُقِرَّ لَهُ الْبَائِعُ بِالْقَبْضِ أَوْ تَقُومُ لَهُ الْبَيِّنَةُ (

النَّوْعُ الثَّامِنُ ) إذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَثْمُونِ فِي بَيْعِ النَّقْدِ ، وَفِيهِ الْأَقْوَالُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي اخْتِلَافِهِمَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ ذَكَرَهُ الْمَازِرِيُّ ( النَّوْعُ التَّاسِعُ ) إذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَحَكَى ابْنُ يُونُسَ عَنْ ابْنِ الْمَوَّازِ أَنَّهُمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْقَدْرِ بِالْقُرْبِ مِنْ عَقْدِ السَّلَمِ تَحَالَفَا ، وَتَفَاسَخَا ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ إنْ أَتَى بِمَا لَا يُشْبِهُ ، وَإِنْ أَتَى بِمَا لَا يُشْبِهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فِيمَا يُشْبِهُ قَالَ مُحَمَّدٌ فَإِنْ أَتَيَا بِمَا لَا يُشْبِهُ حَمْلًا عَلَى الْوَسَطِ مِمَّا يُشْبِهُ مِنْ سَلَمِ النَّاسِ ( النَّوْعُ الْعَاشِرُ ) إذَا اخْتَلَفَا فِي الْجَوْدَةِ فَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ سَمْرَاءُ ، وَقَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مَحْمُولَةٌ فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ، وَقَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ يَتَحَالَفَانِ ، وَيَتَفَاسَخَانِ ( النَّوْعُ الْحَادِي عَشَرَ ) إذَا اخْتَلَفَا فِي مَوْضِعِ الْقَضَاءِ صُدِّقَ مُدَّعِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ فَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَإِنْ تَبَاعَدَ قَوْلُهُمَا ، وَأَتَيَا بِمَا لَا يُشْبِهُ تَحَالَفَا ، وَتَفَاسَخَا ، وَذَلِكَ إذَا تَبَاعَدَتْ الْمَوَاضِعُ جِدًّا حَتَّى لَا يُشْبِهُ قَوْلَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَمِمَّا يَجْرِي فِيهِ التَّحَالُفُ ، وَالتَّفَاسُخُ اخْتِلَافُ الْمُتَكَارِيَيْنِ فِي الدُّورِ وَالْأَرَضِينَ وَالدَّوَابِّ فِي مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ أَوْ فِي جِنْسِهَا أَوْ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ كَاخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي التَّحَالُفِ وَالتَّفَاسُخِ ، وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافُ رَبِّ الْحَائِطِ وَعَامِلِ الْمُسَاقَاتِ فِي غِلْمَانِ الْحَائِطِ ، وَالدَّوَابِّ فَقَالَ الْعَامِلُ كَانُوا فِيهِ ، وَأَنْكَرَ رَبُّ الْحَائِطِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ ، وَيَتَفَاسَخَانِ وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَا فِي جُزْءِ الْمُسَاقَاةِ قَبْلَ الْعَمَلِ تَحَالَفَا ، وَتَفَاسَخَا ( وَمِنْ ذَلِكَ ) أَيْضًا

اخْتِلَافُ الدَّائِنِ ، وَالْمَدِينِ الَّذِي عَلَيْهِ دَيْنَانِ أَحَدُهُمَا بِرَهْنٍ ، وَالْآخَرُ بِغَيْرِ رَهْنٍ فَقَضَى أَحَدُهُمَا فِي أَنَّ الَّذِي قَضَاهُ أَيْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَقَالَ رَبُّ الدَّيْنِ هُوَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ رَهْنٌ ، وَقَالَ الْمَطْلُوبُ هُوَ الَّذِي فِيهِ الرَّهْنُ تَحَالَفَا ، وَقُسِّمَ ذَلِكَ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ ، وَهَذَا إذَا ادَّعَيَا أَنَّهُمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ عِنْدَ دَفْعِ الْحَقِّ ، وَأَمَّا لَوْ دَفَعَهُ الْمَطْلُوبُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَنَّهُ يُقَسِّمُ إذَا كَانَا حَالَّيْنِ أَوْ مُؤَجَّلَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا ، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ ادَّعَى أَنَّهُ مِنْ الْحَالِ ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي نَوْعِ الصَّدَاقِ وَعَدَدِهِ قَبْلَ الْبِنَاءِ مِنْ غَيْرِ مَوْتٍ وَلَا طَلَاقٍ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ ، وَيَتَفَاسَخَانِ ، وَوَجَبَ صَدَاقُ الْمِثْلِ ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا إذَا تَنَازَعَا دَارًا لَيْسَتْ فِي أَيْدِهِمَا قُسِّمَتْ بَيْنَهُمَا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ا هـ كَلَامُ ابْنِ فَرْحُونٍ بِتَصَرُّفٍ .
وَقَوْلُهُ لَيْسَتْ فِي أَيْدِيهِمَا أَيْ بِأَنْ كَانَتْ فِي يَدِ ثَالِثٍ قَالَ هِيَ لَا تَعُدُّوهُمَا ، وَقَوْلُهُ قُسِّمَتْ بَيْنَهُمَا بَعْدَ إيمَانِهِمَا أَيْ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ بِسَبَبِ إقْرَارِ الثَّالِثِ لَهُمَا سَوَاءٌ كَانَتْ دَعْوَى كُلٍّ مِنْهُمَا مُجَرَّدَةً عَنْ الْبَيِّنَاتِ أَوْ مَعَ الْبَيِّنَاتِ الْمُسْتَوِيَةِ وَكَذَا إذَا كَانَتْ بِأَيْدِيهِمَا كَانَتْ دَعْوَى كُلٍّ مُجَرَّدَةً أَوْ مَعَ الْبَيِّنَاتِ الْمُسْتَوِيَةِ فَفِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ الْأَرْبَعِ يَقْضِي لِكُلٍّ بِمُجَرَّدِ يَمِينِهِ لِوُجُودِ التَّرْجِيحِ بِالْيَمِينِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ فِي يَدِ ثَالِثٍ لَمْ يَقُلْ مَا ذُكِرَ فَإِنْ أَقَرَّ لَهُمَا عَلَى نِسْبَةٍ اتَّفَقَا عَلَيْهَا قُسِّمَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ يَمِينٍ ، وَإِنْ قَالَ لَا أَعْلَمُ هِيَ لَهُمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا فَهُوَ مَوْضِعُ نَظَرٍ وَتَوَقُّفٍ كَمَا فِي الْأَصْلِ .
وَقَالَهُ ابْنُ الشَّاطِّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ( الْوَصْلُ الثَّانِي ) فِي الْأَصْلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ

الْحُجَّةُ أَقَلُّ حُجَّةً فِي الشَّرِيعَةِ بِسَبَبِ أَنَّا لَمْ نَجِدْ مُرَجِّحًا عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ إلَّا الْيَمِينَ فَقُلْنَا بِالتَّرْجِيحِ بِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أُمِرْتُ أَنْ أَقْضِيَ بِالظَّاهِرِ ، وَاَللَّهُ مُتَوَلِّي السَّرَائِرِ } ، وَهَذَا قَدْ صَارَ ظَاهِرًا بِالْيَمِينِ فَيُقْضَى بِهِ لِصَاحِبِهِ قَالَ الْأَصْلُ ، وَلِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا أَوْ أَقَرَّ الثَّالِثُ بِأَنَّهَا لَا تَعْدُوهُمَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَهُ عَلَى النِّصْفِ أَوْ لَهُ النِّصْفُ بِإِقْرَارِ الثَّالِثِ فَتُدْفَعُ عَنْهُ بِيَمِينِهِ كَمَا تُدْفَعُ يَمِينُ سَائِرِ مَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ فَتَنْدَرِجُ هَذِهِ الْيَمِينُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ } لِأَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْيَمِينُ الدَّافِعَةُ ، وَهِيَ هَذِهِ بِعَيْنِهَا ، وَلَيْسَتْ هِيَ الْجَالِبَةُ الَّتِي تَقْضِي بِالْمِلْكِ كَمَا اعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ ا هـ كَلَامُ الْأَصْلِ ، وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ ، وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ وَالْأَصْلُ فِي جَرَيَانِ التَّحَالُفِ وَالتَّفَاسُخِ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ حَدِيثُ إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا ، وَتَفَاسَخَا ا هـ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ عَشْرَةَ ) الْإِقْرَارُ مَنْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِحَقٍّ أَوْ عَيْنٍ قَضَى عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ كَانَ الْمُقِرُّ بَرًّا أَوْ فَاجِرًا فَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ بِهِ فِي الذِّمَّةِ كَالدَّيْنِ أَوْ عَيْنًا أَقَرَّ بِهَا مَنْ سَلَّمَ أُخِذَتْ مِنْهُ ، وَقَضَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بِالْمِلْكِ لِلْمُقِرِّ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ بِهِ عَيْنًا قَضَى عَلَى الْمُقِرِّ بِتَسْلِيمِهَا لِلْمُقِرِّ لَهُ إنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُقِرِّ ، وَلَا يَقْضِي بِالْمِلْكِ بَلْ بِإِلْزَامِ التَّسْلِيمِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِثَالِثٍ ، وَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ بِهِ بِيَدِ الْغَيْرِ لَمْ يَقْضِ بِهِ ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ الْإِقْرَارُ فِيمَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ أَوْ يَنْتَقِلُ بِيَدِهِ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ فَيَقْضِي عَلَيْهِ حِينَئِذٍ بِمُوجَبِ إقْرَارِهِ .

( الْبَابُ الثَّانِي عَشَرَ ) فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْإِقْرَارِ وَحُكْمِهِ وَأَرْكَانِهِ فِي تَبْصِرَةِ ابْنِ فَرْحُونٍ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ حَقِيقَةُ الْإِقْرَارِ الْإِخْبَارُ عَنْ أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ وَحُكْمُهُ اللُّزُومُ ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ الشَّهَادَةِ قَالَ أَشْهَبُ قَوْلُ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْجَبُ مِنْ دَعْوَاهُ عَلَى غَيْرِهِ .
وَمَنْ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ صَغِيرٍ ، وَشَبَهِهِ لَمْ يَجُزْ شَهَادَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَلِلْأَوَّلِ أَرْكَانٌ أَرْبَعَةٌ الصِّيغَةُ وَالْمُقِرُّ وَالْمُقِرُّ لَهُ ، وَالْمُقِرُّ بِهِ فَالرُّكْنُ الْأَوَّلُ ، وَهِيَ الصِّيغَةُ نَوْعَانِ : ( الْأَوَّلُ ) لَفْظٌ يَدُلُّ بِلَا خَفَاءٍ عَلَى تَوَجُّهِ الْحَقِّ قَبْلَ الْمُقِرِّ ( وَالنَّوْعُ الثَّانِي ) مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ الْإِشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالسُّكُوتِ فَأَمَّا الْإِشَارَةُ فَمِنْ الْأَبْكَمِ ، وَمِنْ الْمَرِيضِ فَإِذَا قِيلَ لِلْمَرِيضِ لِفُلَانٍ عِنْدَك كَذَا فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ فَهَذَا إقْرَارٌ إذَا فُهِمَ عَنْهُ مُرَادُهُ ، وَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَهِيَ مِثْلُ أَنْ يَكْتُبَ بِمَحْضَرِ قَوْمٍ ، وَيَقُولَ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ فَذَلِكَ لَازِمٌ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْهُ عَلَيْهِمْ أَوْ يَكْتُبَ أَوْ عَلَى رِسَالَةٍ لِرَجُلٍ غَائِبٍ بِطَلَاقٍ وَغَيْرُهُ كَذَلِكَ عَلَى كَذَا ، وَيَعْتَرِفُ أَوْ تَقُومُ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَتَبَهُ أَوْ أَمْلَاهُ فَيَلْزَمُهُ كُلُّ مَا فِيهِ مِنْ طَلَاقٍ وَغَيْرِهِ خَلَا الْحُدُودِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ الْحَدِّ نَعَمْ يُؤْخَذُ بِغُرْمِ السَّرِقَةِ ، وَلَا يُحَدُّ أَوْ يَكْتُبَ فِي الْأَرْضِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا ، وَيَقُولُ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِهَذَا فَيَلْزَمُهُ فَإِنْ لَمْ يَقُلْ اشْهَدُوا لَمْ يَلْزَمْهُ فِي هَذَا ، وَيَلْزَمُهُ مُطْلَقًا إذَا كَتَبَ ذَلِكَ فِي صَحِيفَةٍ أَوْ لَوْحٍ أَوْ خِرْقَةٍ إنْ شَهِدَ أَنَّهُ خَطُّهُ ، وَأَمَّا السُّكُوتُ فَكَالْمَيِّتِ تُبَاعُ تَرِكَتُهُ ، وَتُقَسَّمُ ، وَغَرِيمُهُ حَاضِرٌ سَاكِتٌ لَمْ يَقُمْ فَلَا قِيَامَ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَكَمَنْ أَتَى إلَى قَوْمٍ فَقَالَ

اشْهَدُوا أَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا عَلَى هَذَا الرَّجُلِ ، وَالرَّجُلُ سَاكِتٌ ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ الشُّهُودُ عَنْ شَيْءٍ فَلَمَّا طُولِبَ أَنْكَرَ قَالَ بَلْ يَلْزَمُهُ سُكُوتُهُ .
وَأَمَّا مَنْ سُئِلَ عِنْدَ مَوْتِهِ هَلْ لِأَحَدٍ عِنْدَك شَيْءٌ فَقَالَ لَا قِيلَ لَهُ ، وَلَا لِامْرَأَتِك فَقَالَ لَا ، وَالْمَرْأَةُ سَاكِتَةٌ ، وَهِيَ تَسْمَعُ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إنَّهَا تَحْلِفُ أَنَّ حَقَّهَا عَلَيْهِ تُرِيدُ إلَى الْآنَ ، وَتَأْخُذُهُ إنْ قَامَتْ لَهَا بِهِ بَيِّنَةٌ ، وَلَا يَضُرُّهَا سُكُوتُهَا مِنْ الْمَذْهَبِ لِابْنِ رُشْدٍ وَكَذَا مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ فُلَانٌ السَّاكِنُ فِي مَنْزِلِك لِمَ أَسْكَنْته ؟ فَقَالَ أَسْكَنْته بِلَا كِرَاءٍ ، وَالسَّاكِنُ يَسْمَعُ ، وَلَا يُنْكِرُ ، وَلَا يُغَيِّرُ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ الْمَنْزِلَ لَهُ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَقْطَعُ بِسُكُوتِهِ دَعْوَاهُ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمَنْزِلَ لَهُ ، وَيُحَلَّفُ لِأَنَّهُ يَقُولُ ظَنَنْته يُدَاعِبُهُ ( فَرْعَانِ الْأَوَّلُ ) فِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُقِرُّ لِقَوْمٍ أَنَّ أَبَاهُمْ أَسْلَفَهُ مَالًا ، وَأَنَّهُ قَدْ قَضَاهُ إيَّاهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ أَمَدُ ذَلِكَ قَرِيبًا ، وَالزَّمَنُ غَيْرُ مُتَطَاوِلٍ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عَلَى الْقَضَاءِ ، وَإِنْ تَطَاوَلَ زَمَانُ ذَلِكَ حَلَفَ الْمُقِرُّ وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَلَمْ يُحَدَّ الطُّولُ فَانْظُرْهُ ( الْفَرْعُ الثَّانِي ) وَثَائِقُ أَبِي إِسْحَاقَ الْغَرْنَاطِيِّ مَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ عَلَيْهِ بَرِئَ مِنْ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ مِنْ الضَّمَانَاتِ وَالدُّيُونِ ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ عِنْدَهُ أَوْ قِبَلَهُ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانَاتِ ، وَالْأَمَانَاتِ ( وَالرُّكْنُ الثَّانِي ) ، وَهُوَ الْمُقِرُّ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ ( الْحَالَةُ الْأُولَى ) أَنْ يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ ، وَهُوَ رَشِيدٌ طَائِعٌ فَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ أَوْ بِقِصَاصٍ لَزِمَهُ ، وَلَا يَنْفَعُهُ الرُّجُوعُ ، وَإِنْ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ فَلَهُ الرُّجُوعُ لَكِنْ يَلْزَمُهُ الصَّدَاقُ وَالْمَالُ فَلَوْ كَانَ مُكْرَهًا لَمْ

يَلْزَمْهُ ، وَلَوْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ لِحَقِّ نَفْسِهِ كَالْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الصَّغِيرُ أَنَّهُ احْتَلَمَ فِي وَقْتِ إمْكَانِهِ إذْ لَا يُعْرَفْ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ .
وَإِنْ كَانَ لِحَقِّ غَيْرٍ كَالْمُفْلِسِ ، وَالْعَبْدِ ، وَالْمَرِيضِ فَأَحْكَامُ إقْرَارِهِمْ مَشْهُورَةٌ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ ( الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ ) أَنْ يُقِرَّ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ مِنْهُ كَقَتْلِ الْخَطَأِ ، وَجِرَاحِ الْخَطَأِ الَّتِي فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ فَإِقْرَارُهُ غَيْرُ لَازِمٍ أَمَّا مَا فِيهَا دُونَ ثُلُثِهَا فَتَلْزَمُهُ فِي مَا لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ مِنْهُ كَإِقْرَارِهِ فِي عَبْدِ زَيْدٍ أَنَّهُ لِعَمْرٍو فَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ ( الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ ) أَنْ يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ فَيُقْبَلُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَيَكُونُ شَاهِدًا لِغَيْرِهِ فَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ ، وَعَلَى فُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ النِّصْفُ ، وَيَحْلِفُ الطَّالِبُ مَعَهُ فَإِنْ نَكَلَ أَوْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ فَلَا شَيْءَ لِلطَّالِبِ غَيْرُ النِّصْفِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَصْلُ إلَّا الْحَالَةَ الْأُولَى ، وَالثَّانِيَةَ ، وَقَسَّمَ الْأُولَى إلَى مَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِقْرَارُ ، وَيَقْضِي فِيهِ بِالْمِلْكِ ، وَمَا يُؤَثِّرُ ، وَلَا يَقْضِي فِيهِ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ فَقَالَ مَنْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِحَقٍّ أَوْ عَيْنٍ قَضَى عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ كَانَ الْمُقِرُّ بَرًّا أَوْ فَاجِرًا فَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ بِهِ فِي الذِّمَّةِ كَالدَّيْنِ أَوْ عَيْنًا أَقَرَّ بِهَا مِنْ سَلَمٍ أُخِذَتْ مِنْهُ ، وَقَضَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بِالْمِلْكِ لِلْمُقِرِّ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ بِهِ عَيْنًا قَضَى عَلَى الْمُقِرِّ بِتَسْلِيمِهَا لِلْمُقِرِّ لَهُ إنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُقِرِّ ، وَلَا يُقْضَى بِالْمِلْكِ بَلْ بِإِلْزَامِ التَّسْلِيمِ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الثَّالِثَ ، وَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ بِهِ بِيَدِ الْغَيْرِ لَمْ يَقْضِ بِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُؤَثِّرُ الْإِقْرَارُ فِيمَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ ، وَيَنْتَقِلُ بِيَدِهِ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ فَيُقْضَى عَلَيْهِ

حِينَئِذٍ بِمُوجَبِ إقْرَارِهِ ا هـ ، وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ ( الرُّكْنُ الثَّالِثُ ) وَهُوَ الْمُقِرُّ لَهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لِلْجَمَادِ ، وَالْحَيَوَانِ ، وَثَانِيهِمَا أَنْ لَا يَكْذِبَ الْمُقِرُّ ، وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ ، وَلَوْ رَجَعَ عَنْ تَكْذِيبِهِ لَمْ يُفِدْهُ رُجُوعُهُ إلَّا أَنْ يَرْجِعَ الْمُقِرُّ إلَى الْإِقْرَارِ ( وَالرُّكْنُ الرَّابِعُ ) وَهُوَ الْمُقِرُّ بِهِ ضَرْبَانِ نَسَبٌ ، وَمَالٌ ( فَالْأَوَّلُ ) هُوَ الِاسْتِلْحَاقُ ، وَمَسَائِلُهُ مَشْهُورَةٌ ( وَالثَّانِي ) مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ فَالْمُطْلَقُ مَا صَدَرَ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِمَا يُقَيِّدُهُ أَوْ يَرْفَعُ حُكْمَهُ أَوْ حُكْمَ بَعْضِهِ ، وَالْمُقَيَّدُ عَشَرَةُ أَنْوَاعٍ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُقَيَّدَ بِالْمَحَلِّ أَوْ بِالْعِلْمِ أَوْ بِالْغَايَةِ أَوْ بِالْخِيَارِ أَوْ بِالشَّرْطِ أَوْ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَوْ بِكَوْنِهِ عَلَى جِهَةِ الشُّكْرِ أَوْ الذَّمِّ أَوْ الِاعْتِذَارِ أَوْ بِتَعْقِيبِهِ بِمَا يُبْطِلُهُ فَالْمَحَلُّ كَقَوْلِهِ غَصَبْت فُلَانًا ثَوْبًا فِي مِنْدِيلٍ فَقَالَ سَحْنُونٌ يُؤْخَذُ بِالثَّوْبِ ، وَالْمِنْدِيلِ ، وَيُصَدَّقُ فِي صِفَتِهِمَا ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ لَا يَلْزَمُهُ الْمِنْدِيلُ ، وَالْعِلْمُ كَقَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِيمَا أَعْلَمُ أَوْ فِيمَا أَظُنُّ أَوْ فِيمَا حَسِبْت أَوْ فِيمَا رَأَيْت فَقَالَ سَحْنُونٌ هُوَ إقْرَارٌ ، وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ إذَا قَالَ فِيمَا أَعْلَمُ أَوْ فِي عِلْمِي أَوْ فِيمَا يَحْضُرُنِي فَهُوَ شَكٌّ لَا يَلْزَمُ ، وَالْغَايَةُ كَقَوْلِهِ عَلَيَّ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَيَلْزَمُهُ مِائَةٌ ، وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَكَقَوْلِهِ عَلَى مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إلَى عَشْرٍ فَيَلْزَمُهُ تِسْعَةٌ .
وَقِيلَ يَلْزَمُهُ عَشَرَةٌ أَيْ بِنَاءً عَلَى دُخُولِ الْغَايَةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى ثَلَاثَةٍ فَيَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ ، وَالْخِيَارُ كَقَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَقِيلَ يَلْزَمُهُ ، وَيَكُونُ

الْخِيَارُ كَالْأَجَلِ ، وَقِيلَ الْخِيَارُ بَاطِلٌ ، وَالشَّرْطُ كَقَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ إنْ حَلَفَ أَوْ إذَا حَلَفَ أَوْ مَتَى حَلَفَ فَقَالَ الْمُقِرُّ مَا ظَنَنْت أَنَّهُ يَحْلِفُ لَمْ يَلْزَمْهُ إقْرَارُهُ إجْمَاعًا ، وَالِاسْتِثْنَاءُ لِقَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَزِمَهُ ، وَلَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ مَا يُوجِبُ الشَّكَّ وَكَذَا يَلْزَمُهُ إنْ قَالَ إنْ قَضَى اللَّهُ ذَلِكَ قَالَ سَحْنُونٌ ، وَقَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ لَا يَلْزَمُهُ ، وَلَوْ قَالَ إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِي أَوْ إلَّا أَنْ أَرَى غَيْرَ ذَلِكَ لَزِمَهُ .
وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ إلَّا شَيْئًا لَزِمَهُ أَحَدٌ وَتِسْعُونَ ، وَمَسَائِلُ هَذَا النَّوْعِ مَذْكُورَةٌ فِي مَحَلِّهَا فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِهَا .
وَالشُّكْرُ مِثْلُ قَوْلِهِ اشْهَدُوا أَنِّي قَبَضْت مِنْ فُلَانٍ مِائَةَ دِينَارٍ كَانَتْ لِي عَلَيْهِ ، وَأَحْسَنَ قَضَائِي جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا فَقَالَ الدَّافِعُ إنَّمَا أَسْلَفْتهَا لَهُ فَاَلَّذِي قَالَ أَسْلَفْتهَا لَهُ مُصَدَّقٌ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ الْآخَرُ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ كَانَ يَتَقَاضَاهُ فِي دَيْنِهِ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَقِيلَ هُوَ أَيْ الْآخَرُ مُصَدَّقٌ ، وَإِنْ كَانَ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ لِقَوْمٍ صُدُقٍ قَالَ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ فِي الْإِقْرَارِ بِالسَّلَفِ وَقَضَائِهِ عَلَى وَجْهِ الشُّكْرِ ، وَالثَّنَاءِ لَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ ، وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا طَالَ زَمَانُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا وَقْتُهُ قَرِيبٌ أَخَذَ بِإِقْرَارِهِ .
وَقَالَ مُطَرِّفُ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ كُلُّ مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ عِنْدَ قَوْمٍ فِي مَسَاقِ حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُمْ أَوْ شُكْرٍ شَكَرَ بِهِ أَحَدًا فَأَثْنَى عَلَيْهِ بِهِ لِمَا قَدَّمَ مِنْ سَلَفٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْحُقُوقِ ثُمَّ ادَّعَى الْمُقِرُّ لَهُ ذَلِكَ ، وَقَالَ قَدْ أَسْلَفْته كَمَا ذَكَرَ وَلَمْ أَقْبِضْ ، وَقَالَ الْآخَرُ قَدْ قَضَيْته ، وَإِنَّمَا ذَكَرْت

إحْسَانَهُ إلَيَّ ، وَأَثْنَيْت عَلَيْهِ بِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ الْمُقِرُّ بِهِ إذَا كَانَ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَوْمِ أَنْ يَشْهَدُوا بِذَلِكَ فَإِنْ جَهِلُوا وَشَهِدُوا بِذَلِكَ عَلَى جِهَتِهِ وَكَانَ سَاقَهُ لَمْ يَجُزْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ ، وَهَكَذَا سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ وَجَمِيعُ أَصْحَابِنَا ، وَالذَّمُّ كَقَوْلِهِ كَانَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِينَارٌ فَأَسَاءَ تَقَاضِي ذَلِكَ لَا جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا ، وَقَدْ دَفَعْته لَهُ فَقَالَ الْآخَرُ مَا تَقَاضَيْت مِنْك شَيْئًا فَإِنَّ الْمُقِرَّ يَغْرَمُ الدِّينَارَ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَلَيْسَ هَذَا عِنْدِي كَالْمُقِرِّ عَلَى الشُّكْرِ .
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِيمَنْ قَالَ لِقَوْمٍ أَسْلَفَنِي فُلَانٌ مِائَةَ دِينَارٍ ، وَقَضَيْته إيَّاهَا أَنَّهُ مُصَدَّقٌ ، وَلَوْ قَالَهَا عِنْدَ سُلْطَانٍ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ إنَّ مَا كَانَ مِنْ أَمْرٍ جَرَّهُ الْحَدِيثُ ، وَالْإِخْبَارُ عَنْ حَالِ الشُّكْرِ ، وَالذَّمِّ فَلَا يَأْخُذُ بِهِ أَحَدٌ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فِي مَوْضِعِ الْقَضَاءِ ، وَالِاعْتِذَارُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِلسُّلْطَانِ فِي الْجَارِيَةِ وَلَدْت مِنِّي أَوْ الْعَبْدُ مُدَبَّرٌ لِئَلَّا يَأْخُذَهُمَا مِنْهُ فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَوْ سَأَلَهُ ابْنُ عَمِّهِ مَنْزِلًا فَقَالَ هُوَ لِزَوْجَتِي ثُمَّ سَأَلَهُ فِيهِ ثَانٍ ، وَثَالِثٌ مَنْ بَنِي عَمِّهِ ، وَهُوَ يَقُولُ ذَلِكَ فَقَامَتْ امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ فَقَالَ إنَّمَا قُلْته اعْتِذَارٌ قَالَ مَالِكٌ لَا شَيْءَ لَهَا .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ فِيمَنْ سُئِلَ أَنْ يَكْرِيَ مَنْزِلَهُ فَقَالَ وَهُوَ لِابْنَتِي حَتَّى أُشَاوِرَهَا ثُمَّ مَاتَ فَقَامَتْ الِابْنَةُ فِيهِ قَالَ لَا يَنْفَعُهَا ذَلِكَ إلَّا أَنْ تَكُونَ حَازَتْ ذَلِكَ ، وَلَهَا عَلَى الصَّدَقَةِ ، وَالْحِيَازَةِ بَيِّنَةٌ قِيلَ لَهُ ، وَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً قَالَ لَيْسَ لَهَا شَيْءٌ قَدْ يَتَعَذَّرُ بِهَذَا يُرِيدُ مَنْعُهُ ، وَفِي وَثَائِقِ الْغَرْنَاطِيِّ ، وَمَنْ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ هُوَ لِفُلَانٍ لَمْ يَلْزَمْهُ هَذَا الْإِقْرَارُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ وَهَبْته أَوْ بِعْته مِنْ

فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ ، وَالرَّافِعُ مِثْلُ أَنْ يُقِرَّ بِشَيْءٍ ثُمَّ يَعْقُبُهُ بِمَا يُبْطِلُهُ ، وَيَرْفَعُ حُكْمَهُ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ إلَّا أَنْ يُخَالِفَهُ الْمُقِرُّ لَهُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لَهُ عِنْدِي أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ قَالَ ابْنُ شَاسٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَقُولَ الْمُقِرُّ لَهُ بَلْ هِيَ ثَمَنُ بُرٍّ فَيَلْزَمُ يَمِينُ الطَّالِبِ ا هـ كَلَامُ ابْنِ فَرْحُونٍ بِتَصَرُّفٍ ، وَزِيَادَةٌ مِنْ الْأَصْلِ .

( الْحُجَّةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ خَاصَّةً ، وَلِقَبُولِهَا عَشَرَةُ شُرُوطٍ : ( الْأَوَّلُ ) الْعَقْلُ لِيَفْهَمُوا مَا رَأَوْا ( الثَّانِي ) الذُّكُورِيَّةُ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَحْصُلُ فِي اجْتِمَاعِ الْإِنَاثِ ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ اعْتِبَارًا لَهُنَّ بِالْبَالِغَاتِ لَوْثًا فِي الْقَسَامَةِ .
( الثَّالِثُ ) الْحُرِّيَّةُ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَشْهَدُ .
( الرَّابِعُ ) الْإِسْلَامُ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُقْبَلُ فِي قِتَالٍ ، وَلَا جِرَاحٍ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ إنَّمَا دَعَتْ لِاجْتِمَاعِ الصِّبْيَانِ لِأَجْلِ الْكُفَّارِ ، وَقِيلَ تُقْبَلُ فِي الْجِرَاحِ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ ضَعِيفَةٌ فَاقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى أَضْعَفِ الْأَمْرَيْنِ ( الْخَامِسُ ) أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ لِعَدَمِ ضَرُورَةِ مُخَالَطَةِ الْكَبِيرِ لَهُمْ ( السَّادِسُ ) أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَبْلَ التَّفَرُّقِ لِئَلَّا يُلَقِّنُوا الْكَذِبَ ( السَّابِعُ ) اتِّفَاقُ أَقْوَالِهِمْ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ يُخِلُّ بِالثِّقَةِ ( الثَّامِنُ ) أَنْ يَكُونُوا اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا لِأَنَّهُمْ لَا يَكُونُ حَالُهُمْ أَتَمَّ مِنْ الْكِبَارِ هَذَا هُوَ نَقْلُ الْقَاضِي فِي الْمَعُونَةِ ، وَزَادَ ابْنُ يُونُسَ ( التَّاسِعُ ) أَنْ لَا يَحْضُرَ كِبَارٌ فَمَتَى حَضَرَ كِبَارٌ فَشَهِدُوا سَقَطَ اعْتِبَارُ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ كَانَ الْكِبَارُ رِجَالًا أَوْ نِسَاءً لِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ تَجُوزُ فِي الْخَطَأِ ، وَعَمْدُ الصَّبِيِّ كَالْخَطَأِ .
( الْعَاشِرُ ) رَأَيْت بَعْضَ الْمُعْتَبَرِينَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ يَقُولُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ الْجَسَدِ الْمَشْهُودِ بِقَتْلِهِ ، وَإِلَّا فَلَا تُسْمَعُ ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَصْحَابِ قَالُوا لَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ الْعُدُولِ عَلَى رُؤْيَةِ الْبَدَنِ مَقْتُولًا تَحْقِيقًا لِلْقَتْلِ ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَشْهَبُ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ ، وَقَالَ بِقَبُولِهَا عَلِيٌّ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعُمَرُ بْنُ

الْخَطَّابِ وَمُعَاوِيَةُ ، وَخَالَفَهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ لَنَا قَوْله تَعَالَى { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } وَاجْتِمَاعُ الصِّبْيَانِ لِلتَّدْرِيبِ عَلَى الْحَرْبِ مِنْ أَعْظَمِ الِاسْتِعْدَادِ لِيَكُونُوا كِبَارًا أَهْلًا لِذَلِكَ ، وَيَحْتَاجُونَ فِي ذَلِكَ لِحَمْلِ السِّلَاحِ حَيْثُ لَا يَكُونُ مَعَهُمْ كَبِيرٌ فَلَا يَجُوزُ هَدْرُ دِمَائِهِمْ فَتَدْعُو الضَّرُورَةُ لِقَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَالْغَالِبُ مَعَ تِلْكَ الشُّرُوطِ الصِّدْقُ ، وَنُدْرَةُ الْكَذِبِ فَتُقَدَّمُ الْمَصْلَحَةُ الْغَالِبَةُ عَلَى الْمَفْسَدَةِ النَّادِرَةِ لِأَنَّهُ دَأْبُ صَاحِبِ الشَّرْعِ كَمَا جَوَّزَ الشَّرْعُ شَهَادَةَ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ فِي الْوَضْعِ الَّذِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ لِلضَّرُورَةِ ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ : ( الْأَوَّلُ ) قَوْله تَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } وَهُوَ يَمْنَعُ شَهَادَةَ غَيْرِ الْبَالِغِ ( الثَّانِي ) قَوْله تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَالصَّبِيُّ لَيْسَ بِعَدْلٍ ( الثَّالِثُ ) قَوْله تَعَالَى { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } ، وَهُوَ نَهْيٌ ، وَلَا يَتَنَاوَلُ النَّهْيُ الصَّبِيَّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الشُّهَدَاءِ ( الرَّابِعُ ) أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ فَلَا تُعْتَبَرُ شَهَادَتُهُ كَالْمَجْنُونِ ( الْخَامِسُ ) أَنَّ الْإِقْرَارَ أَوْسَعُ مِنْ الشَّهَادَةِ لِقَبُولِهِ مِنْ الْبَرِّ ، وَالْفَاجِرِ فَإِذَا كَانَ لَا يُقْبَلُ فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ ( السَّادِسُ ) الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِ الْجِرَاحِ ( السَّابِعُ ) لَوْ قُبِلَتْ لَقُبِلَتْ إذَا افْتَرَقُوا كَالْكِبَارِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثَّامِنُ أَنَّهَا لَوْ قُبِلَتْ لَقُبِلَتْ فِي تَخْرِيقِ ثِيَابِهِمْ فِي الْخَلَوَاتِ أَوْ لَجَازَتْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ بَعْضُهُنَّ عَلَى بَعْضٍ فِي الْجِرَاحِ ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ إنَّمَا نَمْنَعُ الْإِنَاثَ لِانْدِرَاجِ الصِّبْيَانِ مَعَ الرِّجَالِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } ، وَلِأَنَّ

الْأَمْرَ بِالِاسْتِشْهَادِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُمْكِنُ إنْشَاءُ الشَّهَادَةِ فِيهَا اخْتِيَارًا لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ النَّهْيِ الْإِمْكَانَ ، وَهَذَا مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ تَقَعُ فِيهِ الشَّهَادَةُ بَغْتَةً فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْأَمْرُ فَيَكُونُ مَسْكُوتًا عَنْهُ .
وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ ، وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الْآيَةُ الثَّالِثَةُ فِي الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ اُسْتُشْهِدُوا اخْتِيَارًا مَعَ أَنَّ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ عَامَّةٌ ، وَدَلِيلُنَا خَاصٌّ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهَا ، وَعَنْ الرَّابِعِ أَنَّ إقْرَارَ الصَّبِيِّ إنْ كَانَ فِي الْمَالِ فَنَحْنُ نُسَوِّيهِ بِالشَّهَادَةِ فَإِنَّهُمَا لَا يُقْبَلَانِ فِي الْمَالِ أَوْ فِي الدِّمَاءِ إنْ كَانَتْ عَمْدًا خَطَأً فَيَئُولُ إلَى الدِّيَةِ فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يُقْبَلُ كَالْبَالِغِ ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ الْخَامِسِ ، وَعَنْ السَّادِسِ أَنَّ الْفَرْقَ تَعْظِيمُ حُرْمَةِ الدِّمَاءِ بِدَلِيلِ قَبُولِ الْقَسَامَةِ ، وَلَا يُقَسَّمُ عَلَى دِرْهَمٍ ، وَعَنْ السَّابِعِ أَنَّ الِافْتِرَاقَ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيمَ وَالتَّغْيِيرَ وَالصَّغِيرَ إذَا خُلِّيَ ، وَسَجِيَّتَهُ الْأُولَى لَا يَكَادُ يَكْذِبُ ، وَالرِّجَالُ لَهُمْ وَازِعٌ شَرْعِيٌّ إذَا افْتَرَقُوا بِخِلَافِ الصِّبْيَانِ ، وَعَنْ الثَّامِنِ التَّفْرِيقُ لِعِظَمٍ حُرِّمَتْ الدِّمَاءُ ، وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ لَيْسَ لِتَخْرِيقِ ثِيَابِهِمْ بِخِلَافِ الضَّرْبِ وَالْجِرَاحِ ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَا يَجْتَمِعْنَ لِلْقِتَالِ ، وَلَا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنْهُنَّ .

( الْبَابُ الثَّالِثَ عَشَرَ ) فِي بَيَانِ مَا تَكُونُ فِيهِ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ ، وَالْخِلَافُ فِي قَبُولِهَا ، وَدَلِيلُهُ ، وَفِيهِ وَصْلَانِ .
( الْوَصْلُ الْأَوَّلُ ) فِي تَبْصِرَةِ ابْنِ فَرْحُونٍ ، وَفِي قَبُولِ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ فِي الْجِرَاحِ ، وَالْقَتْلُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْجَوَازُ لِمَالِكٍ ، وَالْمَنْعُ لِابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ ، وَالْجَوَازُ فِي الْجِرَاحِ دُونَ الْقَتْلِ قَالَهُ أَشْهَبُ ، وَعَلَى الْجَوَازِ فَإِنَّمَا تَجُوزُ بِأَحَدَ عَشَرَ شَرْطًا ( الْأَوَّلُ ) أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَعْقِلُ الشَّهَادَةَ ( الثَّانِي ) أَنْ يَكُونَا حُرَّيْنِ قَالَ مَالِكٌ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ الْمَمَالِيكِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ جِنْسِ مَنْ يَشْهَدُ .
( الثَّالِثُ ) أَنْ يَكُونَا ذَكَرَيْنِ نَعَمْ قَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ جَوَازُ قَبُولِ شَهَادَةِ إنَاثِ الْأَحْرَارِ اعْتِبَارًا بِالْبَالِغَاتِ فِي كَوْنِهَا لَوْثًا فِي الْقَسَامَةِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ( الرَّابِعُ ) أَنْ يَكُونَ مَحْكُومًا لَهُمَا بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُقْبَلُ فِي قِتَالٍ ، وَلَا فِي جِرَاحٍ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ إنَّمَا دَعَتْ لِإِجْمَاعِ الصِّبْيَانِ لِأَجْلِ الْكُفَّارِ نَعَمْ قِيلَ تُقْبَلُ فِي الْجِرَاحِ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ ضَعِيفَةٌ فَاقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى أَضْعَفِ الْأَمْرَيْنِ ( الْخَامِسُ ) أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الصِّبْيَانِ لَا لِكَبِيرٍ عَلَى صَغِيرٍ ، وَلَا صَغِيرٍ عَلَى كَبِيرٍ ( السَّادِسُ ) أَنْ يَكُونَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا لِأَنَّهُمْ لَا يَكُونُ حَالُهُمْ أَتَمَّ مِنْ الْكِبَارِ ( السَّابِعُ ) أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ قَبْلَ تُفَرِّقْهُمْ لِئَلَّا يُلَقِّنَ الْكَذِبَ ( الثَّامِنُ ) أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ مُتَّفِقَةً غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ ( التَّاسِعُ ) أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ فِي قَتْلٍ أَوْ جَرْحٍ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ لَا فِي الْأَمْوَالِ ( الْعَاشِرُ ) أَنْ لَا يَحْضُرَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْكِبَارِ فَمَتَى حَضَرَ كِبَارٌ فَشَهِدُوا سَقَطَ اعْتِبَارُ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ كَانَ الْكِبَارُ رِجَالًا أَوْ نِسَاءً لِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ

تَجُوزُ فِي الْخَطَأِ ، وَعَمْدُ الصَّبِيِّ كَالْخَطَأِ ( الْحَادِي عَشَرَ ) قَالَ الْقَرَافِيُّ رَأَيْت بَعْضَ الْمُعْتَبَرِينَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ يَقُولُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ الْجَسَدِ الْمَشْهُودِ بِقَتْلِهِ ، وَإِلَّا فَلَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ ، وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عَطَاءِ اللَّهِ مُؤَلِّفُ الْبَيَانِ ، وَالْقَرِيبُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ الْعُدُولِ عَلَى رُؤْيَةِ الْجَسَدِ الْمَقْتُولِ ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى رُجُوعِهِ عَنْ شَهَادَتِهِ بَلْ ، وَلَوْ بَلَغُوا ، وَشَكُّوا أُخِذَ بِقَوْلِهِمْ الْأَوَّلِ نَعَمْ إنْ قَالُوا لَمْ تَكُنْ عَلَى وَجْهِهَا ، وَلَمْ تَكُنْ قَضَى بِهَا لَمْ يَقْضِ بِهَا ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الصِّبْيَانِ الْعَدَالَةُ وَالْجَرْحُ ، وَاخْتُلِفَ فِي اعْتِبَارِ الْقَرَابَةِ وَالْعَدَالَةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَرِيبِ لِقَرِيبِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ وَعَلَى مَذْهَبِهِ فَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَرِيبِ الْعَدُوِّ وَأَجَازَهَا عَبْدُ الْمَلِكِ ، وَعَلَى مَذْهَبِهِ فَيَجُوزُ مَعَ الْقَرَابَةِ ( مَسْأَلَتَانِ الْأُولَى ) سِتَّةٌ صِبْيَةٌ فِي الْبَحْرِ غَرِقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَشَهِدَ ثَلَاثَةٌ عَلَى اثْنَيْنِ ، وَاثْنَانِ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَنَّهُمْ غَرَّقُوهُ قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْعَقْلُ عَلَيْهِمْ كُلُّهُمْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَدْرَأُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فَلَزِمَتْ الدِّيَةُ عَوَاقِلَهُمْ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) إذَا تَعَارَضَ بَيِّنَتَانِ مِنْ الصِّبْيَانِ فِي شَجَّةٍ هَلْ شَجَّهَا فُلَانٌ أَوْ فُلَانٌ سَقَطَتَا لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَنْفِي مَا يُثْبِتُهُ الْآخَرُ ، وَأَرْشُ الشَّجَّةِ عَلَى جَمَاعَةِ الصِّبْيَانِ ا هـ بِتَصَرُّفٍ ، وَزِيَادَةٌ مِنْ الْأَصْلِ ( الْوَصْلُ الثَّانِي ) فِي التَّبْصِرَةِ ، وَفِي الْأَصْلِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ هُوَ الْأَصْلُ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَالْجَوَازُ لِعِلَّةِ الِاضْطِرَارِ إذْ لَوْ أَهْمَلُوا الْأَذَى

ذَلِكَ إلَى ضَرَرٍ كَبِيرٍ ، وَهَدَرِ جِنَايَاتٍ تَعْظُمُ ، وَدَلِيلُهُ وَجْهَانِ ( الْأَوَّلُ ) قَوْله تَعَالَى { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } وَاجْتِمَاعُ الصِّبْيَان لِلتَّدْرِيبِ عَلَى الْحَرْبِ مِنْ أَعْظَمِ الِاسْتِعْدَادِ لِيَكُونُوا كِبَارًا أَهْلًا لِذَلِكَ ، وَيَحْتَاجُونَ فِي ذَلِكَ لِحَمْلِ السِّلَاحِ حَيْثُ لَا يَكُونُ مَعَهُمْ كَبِيرٌ ، وَهَدَرُ دِمَائِهِمْ لَا يَجُوزُ فَتَدْعُو الضَّرُورَةُ لِقَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَالْغَالِبُ مَعَ تِلْكَ الشُّرُوطِ الصِّدْقُ ، وَنُدْرَةُ الْكَذِبِ فَتُقَدَّمُ الْمَصْلَحَةُ الْغَالِبَةُ عَلَى الْمَفْسَدَةِ النَّادِرَةِ لِأَنَّهُ دَأْبُ صَاحِبِ الشَّرْعِ كَمَا جَوَّزَ الشَّرْعُ شَهَادَةَ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ ضَرُورَةً ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) إنَّهُ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعُرْوَةُ وَرَبِيعَةُ وَمُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ، وَأَمَّا الْوُجُوهُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَلَى الْمَنْعِ فَثَمَانِيَةٌ ( الْأَوَّلُ ) قَوْله تَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } وَهُوَ يَمْنَعُ شَهَادَةَ غَيْرِ الْبَالِغِ ( وَالثَّانِي ) قَوْله تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَالصَّبِيُّ لَيْسَ بِعَدْلٍ ( الثَّالِثُ ) قَوْله تَعَالَى { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } وَهُوَ نَهْيٌ ، وَلَا يَتَنَاوَلُ النَّهْيُ الصَّبِيَّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الشُّهَدَاءِ ، وَالْجَوَابُ عَنْ الثَّلَاثَةِ أَنَّ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ عَامَّةٌ ، وَدَلِيلُنَا خَاصٌّ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِشْهَادِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى ، وَالثَّانِيَةِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُمْكِنُ إنْشَاءُ الشَّهَادَةِ فِيهَا اخْتِيَارًا لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ النَّهْيِ الْإِمْكَانَ ، وَهَذَا مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ تَقَعُ فِيهِ الشَّهَادَةُ بَغْتَةً فَلَا يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ فَيَكُونُ مَسْكُوتًا عَنْهُ عَلَى أَنْ نَمْنَعَ عَدَمَ انْدِرَاجِ الصِّبْيَانِ مَعَ

الرِّجَالِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى لِانْدِرَاجِهِمْ مَعَهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } ( وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ ) أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ فَلَا تُعْتَبَرُ شَهَادَتُهُ ( وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ ) أَنَّ الْإِقْرَارَ أَوْسَعُ مِنْ الشَّهَادَةِ لِقَبُولِهِ مِنْ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ فَإِذَا كَانَ لَا يُقْبَلُ فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ وَالْجَوَابُ عَنْهُمَا أَنَّ إقْرَارَ الصَّبِيِّ إنْ كَانَ فِي الْمَالِ فَنَحْنُ نُسَوِّيهِ بِالشَّهَادَةِ فَإِنَّهُمَا لَا يُقْبَلَانِ فِي الْمَالِ أَوْ فِي الدِّمَاءِ إنْ كَانَتْ عَمْدًا أَوْ عَمْدُ الصَّبِيِّ خَطَأً فَيَئُولُ إلَى الدِّيَةِ فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يُقْبَلُ كَالْبَالِغِ .
( وَالْوَجْهُ السَّادِسُ ) الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِ الْجِرَاحِ ، وَجَوَابُهُ الْفَرْقُ بِتَعْظِيمِ حُرْمَةِ الدِّمَاءِ بِدَلِيلِ قَبُولِ الْقَسَامَةِ ، وَلَا يُقَسَّمُ عَلَى دِرْهَمٍ ( وَالْوَجْهُ السَّابِعُ ) أَنَّهَا لَوْ قُبِلَتْ لَقُبِلَتْ إذَا افْتَرَقُوا كَالْكِبَارِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الِافْتِرَاقَ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيمَ وَالتَّغْيِيرَ ، وَالصَّغِيرُ إذَا خُلِّيَ ، وَسَجِيَّتَهُ لَا يَكَادُ يَكْذِبُ ، وَالرِّجَالُ لَهُمْ وَازِعٌ شَرْعِيٌّ إذَا افْتَرَقُوا بِخِلَافِ الصِّبْيَانِ ( وَالْوَجْهُ الثَّامِنُ ) أَنَّهَا لَوْ قُبِلَتْ لَقُبِلَتْ فِي تَخْرِيقِ ثِيَابِهِمْ فِي الْخَلَوَاتِ أَوْ لَجَازَتْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ بَعْضُهُنَّ عَلَى بَعْضٍ فِي الْجِرَاحِ ، وَجَوَابُهُ الْفَرْقُ بِتَعْظِيمِ حُرْمَةِ الدِّمَاءِ ، وَبِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ لَيْسَ لِتَخْرِيقِ ثِيَابِهِمْ بِخِلَافِ الضَّرْبِ وَالْجِرَاحِ ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَا يَجْتَمِعْنَ لِلْقِتَالِ ، وَلَا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنْهُنَّ ا هـ كَلَامُ ابْنِ فَرْحُونٍ ، وَالْأَصْلُ الَّذِي سَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ

( الْحُجَّةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) الْقَافَةُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ عِنْدَنَا فِي الْقَضَاءِ بِثُبُوتِ الْأَنْسَابِ ، وَوَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْحُكْمُ بِالْقَافَةِ بَاطِلٌ قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ ، وَإِنَّمَا يُجِيزُهُ مَالِكٌ فِي وَلَدِ الْأَمَةِ يَطَؤُهَا رَجُلَانِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ ، وَتَأْتِي بِوَلَدٍ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا ، وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ قَبُولِهِ فِي وَلَدِ الزَّوْجَةِ ، وَعَنْهُ قَبُولُهُ ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ فِيهِمَا لَنَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَقَالَ أَلَمْ تَرَيْ إلَى مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ نَظَرَ إلَى أُسَامَةَ وَزَيْدٍ عَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا ، وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فَقَالَ إنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ } ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ، وَكَانَ أَبْيَضَ وَابْنُهُ أُسَامَةُ أَسْوَدُ فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِهِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُكَانَتِهِ مِنْهُ فَلَمَّا قَالَ مُجَزِّزٌ ذَلِكَ سُرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَدْسُ بَاطِلًا شَرْعًا لَمَا سُرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُسَرُّ بِالْبَاطِلِ .
وَثَانِيهَا أَنَّ إقْرَارَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الشَّيْءِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْمَشْرُوعِيَّةِ ، وَقَدْ أَقَرَّ مُجَزِّزًا عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ حَقًّا مَشْرُوعًا لَا يُقَالُ النِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي إلْحَاقِ الْوَلَدِ ، وَهَذَا كَانَ مُلْحَقًا بِأَبِيهِ فِي الْفِرَاشِ فَمَا تَعَيَّنَ مَحَلُّ النِّزَاعِ ، وَأَيْضًا سُرُورُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِتَكْذِيبِ الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ صِحَّةَ الْقِيَافَةِ ، وَتَكْذِيبُ الْمُنَافِقِينَ سَارٌّ

بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ لِيُؤَيِّدَ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ } فَقَدْ يُفْضِي الْبَاطِلُ لِلْخَيْرِ وَالْمَصْلَحَةِ .
وَأَمَّا عَدَمُ إنْكَارِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلِأَنَّ مُجَزِّزًا لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ لِأَجْلِ الْقِيَافَةِ فَلَعَلَّهُ أَخْبَرَ بِهِ بِنَاءً عَلَى الْقَرَائِنِ لِأَنَّهُ يَكُونُ رَآهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ مُرَادُنَا هَاهُنَا لَيْسَ أَنَّهُ ثَبَتَ النَّسَبُ بِمُجَزِّزٍ إنَّمَا مَقْصُودُنَا أَنَّ الشَّبَهَ الْخَاصَّ مُعْتَبَرٌ ، وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا سُرُورُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتَكْذِيبِ الْمُنَافِقِينَ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ السُّرُورُ مَعَ بُطْلَانِ مُسْتَنَدِ التَّكْذِيبِ كَمَا لَوْ أَخْبَرَ عَنْ كَذِبِهِمْ رَجُلٌ كَاذِبٌ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ كَذِبُهُمْ إذَا كَانَ الْمُسْتَنَدُ حَقًّا فَيَكُونُ الشَّبَهُ حَقًّا ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ قَوْلُكُمْ إنَّ الْبَاطِلَ قَدْ يَأْتِي بِالْحَسَنِ وَالْمَصْلَحَةِ فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مَا أَتَى بِشَيْءٍ .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ أَخْبَرَ بِهِ لِرُؤْيَةٍ سَابِقَةٍ لِأَجْلِ الْفِرَاشِ فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يُشَارِكُونَهُ فِي ذَلِكَ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي اخْتِصَاصِ السُّرُورِ بِقَوْلِهِ لَوْلَا أَنَّهُ حَكَمَ بِشَيْءٍ غَيْرِ الَّذِي كَانَ طَعْنُ الْمُشْرِكِينَ ثَابِتًا مَعَهُ ، وَلَا كَانَ لِذِكْرِ الْأَقْدَامِ فَائِدَةٌ ، وَحَدِيثُ الْعَجْلَانِيُّ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى نَعْتِ كَذَا ، وَكَذَا فَأَرَاهُ قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا وَإِنْ أَتَتْ بِهِ عَلَى نَعْتِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِشَرِيكٍ فَلَمَّا أَتَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ } فَصَرَّحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ وُجُودَ صِفَاتِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا مِنْ نَسَبٍ وَاحِدٍ ، وَلَا يُقَالُ إنَّ إخْبَارَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ لِأَنَّ الْقِيَافَةَ لَيْسَتْ فِي بَنِي هَاشِمٍ إنَّمَا هِيَ فِي بَنِي مُدْلِجٍ ،

وَلَا قَالَ أَحَدٌ إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَائِفًا ، وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ لِشَرِيكٍ ، وَأَنْتُمْ تُوجِبُونَ الْحُكْمَ بِمَا أَشْبَهَ أَيْضًا لَمْ تُحَدَّ الْمَرْأَةُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الشَّبَهِ لِأَنَّا نَقُولُ إنْ جَاءَ الْوَحْيُ بِأَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ يُشْبِهُهُ فَهُوَ مُؤَسِّسٌ لِمَا يَقُولُهُ ، وَصَارَ الْحُكْمُ بِالشَّبَهِ أَوْلَى مِنْ الْحُكْمِ فِي الْفِرَاشِ لِأَنَّ الْفِرَاشَ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ ظَاهِرِ الْحَالِ ، وَالشَّبَهَ يَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَأَمَّا كَوْنُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُعْطَ عِلْمَ الْقِيَافَةِ فَمَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُعْطِيَ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ سَلَّمْنَاهُ لَكِنْ أَخْبَرَ عَنْ ضَابِطِ الْقَائِفِينَ أَنَّ الشَّبَهَ مَتَى كَانَ كَذَا فَهُمْ يَحْكُمُونَ بِكَذَا إلَّا أَنَّهُ ادَّعَى عِلْمَ الْقِيَافَةِ كَمَا نَقُولُ يَقُولُ الْإِنْسَانُ الْأَطِبَّاءُ يُدَاوُونَ الْمَحْمُومَ بِكَذَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَبِيبًا ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِالْوَلَدِ لِشَرِيكٍ لِأَنَّهُ زَانٍ ، وَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِالْوَلَدِ فِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ ، وَإِنَّمَا وَطِئَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي الْأَمَةَ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ ، وَأَمَّا عَدَمُ الْحَدِّ فَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ جِهَتِهَا شُبْهَةً أَوْ مُكْرَهَةً أَوْ لِأَنَّ اللِّعَانَ يُسْقِطُ الْحَدَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ } الْآيَةَ أَوْ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَحَدِيثُ الْمُدْلِجِيِّ يَدُلُّ دَلَالَةً قَوِيَّةً عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَدَلَّ بِالشَّبَهِ عَلَى النَّسَبِ ، وَلَوْ كَانَ بِالْوَحْيِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ تَرْدِيدٌ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ بَلْ كَانَ يَقُولُ هِيَ تَأْتِي بِهِ عَلَى نَعْتِ كَذَا ، وَهُوَ لِفُلَانٍ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّرْدِيدِ الَّذِي لَا يَحْسُنُ إلَّا فِي مَوَاطِنِ الشَّكِّ ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ هَذَا بِالْوَحْيِ إذَا كَانَ لِتَأْسِيسِ قَاعِدَةِ الْقِيَافَةِ

وَبَسْطِ صُوَرِهَا بِالْأَشْبَاهِ ، وَذَلِكَ مَطْلُوبُنَا فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سُرَّ إلَّا بِسَبَبٍ حَقٍّ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ فِي الْحَدِيثِ { تَرِبَتْ يَدَاك ، وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ } فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَنِيَّ يُوجِبُ الشَّبَهَ فَيَكُونُ دَلِيلَ النَّسَبِ ، وَلَنَا أَيْضًا أَنَّ رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا وَلَدًا فَاخْتَصَمَا لِعُمَرَ فَاسْتَدْعَى لَهُ الْقَافَةَ فَأَلْحَقُوهُ بِهِمَا فَعَلَاهُمَا بِالدِّرَّةِ ، وَاسْتَدْعَى حَرَائِرَ مِنْ قُرَيْشٍ فَقُلْنَ خُلِقَ مِنْ مَاءِ الْأَوَّلِ ، وَحَاضَتْ عَلَى الْحَمْلِ فَاسْتَخْشَفَ الْحَمْلُ فَلَمَّا وَطِئَهَا الثَّانِي انْتَعَشَ بِمَائِهِ فَأَخَذَ شَبَهًا مِنْهَا فَقَالَ عُمَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْأَوَّلِ ، وَلِأَنَّهُ عِلْمٌ عِنْدَ الْقَافَةِ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ فَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ كَالتَّقْوِيمِ فِي الْمُتْلَفَاتِ وَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَخَرْصِ الثِّمَارِ فِي الزَّكَوَاتِ وَتَحْرِيرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ فِي الصَّلَوَاتِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَخْمِينٌ وَتَقْرِيبٌ .
وَلَمَّا لَمْ يَعْتَبِرْ أَبُو حَنِيفَةَ الشَّبَهَ أَلْحَقَ الْوَلَدَ بِجَمِيعِ الْمُتَنَازِعِينَ ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى } فَالْأَبُ وَاحِدٌ وقَوْله تَعَالَى { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ } فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ آبَاءً .
وَعَارَضَ أَبُو حَنِيفَةَ حَدِيثَ الْعَجْلَانِيُّ بِوُجُوهٍ : ( الْأَوَّلُ ) بِمَا فِي الصِّحَاحِ { أَنَّ رَجُلًا حَضَرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَادَّعَى أَنَّ امْرَأَتَهُ وَلَدَتْ وَلَدًا أَسْوَدَ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ فِي إبِلِك مِنْ أَوْرَقَ فَقَالَ لَهُ نَعَمْ قَالَ لَهُ مَا أَلْوَانُهَا قَالَ سُودٌ فَقَالَ مَا السَّبَبُ فَقَالَ الرَّجُلُ لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَ } فَلَمْ يَعْتَبِرْ الشَّبَهُ .
( الثَّانِي ) بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ } ، وَلَمْ يُفَرِّقْ .
( الثَّالِثُ ) أَنَّ خَلْقَ الْوَلَدِ مُغَيَّبٌ

عَنَّا فَجَازَ أَنْ يُخْلَقَ مِنْ رَجُلَيْنِ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ بُقْرَاطُ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ الْحَمْلُ عَلَى الْحَمْلِ .
( الرَّابِعُ ) وَلِأَنَّ الشَّبَهَ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِنْ الْوَلَدِ وَجَمَاعَةٍ لَوَجَبَ إلْحَاقُهُ بِهِمْ بِسَبَبِ الشَّبَهِ ، وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ .
( الْخَامِسُ ) وَلِأَنَّ الشَّبَهَ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَبَطَلَتْ مَشْرُوعِيَّةُ اللِّعَانِ ، وَاكْتُفِيَ بِهِ .
( السَّادِسُ ) أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ مَعَ الْفِرَاشِ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا عِنْدَ عَدَمِهِ كَغَيْرِهِ .
( السَّابِعُ ) أَنَّ الْقِيَافَةَ لَوْ كَانَتْ عِلْمًا لَأَمْكَنَ اكْتِسَابُهُ كَسَائِرِ الْعُلُومِ وَالصَّنَائِعِ .
( الثَّامِنُ ) أَنَّهُ حَزْرٌ وَتَخْمِينٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَأَحْكَامِ النُّجُومِ ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ لَيْسَتْ صُورَةَ النِّزَاعِ لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ ، وَإِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ اخْتِلَافِ اللَّوْنِ فَعَرَّفَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ السَّبَبَ ، وَلِأَنَّا لَا نَقُولُ إنَّ الْقِيَافَةَ هِيَ اعْتِبَارُ الشَّبَهِ كَيْفَمَا كَانَ ، وَالْمُنَاسَبَةُ كَيْفَ كَانَتْ بَلْ شَبَهٌ خَاصٌّ ، وَلِذَلِكَ أَلْحَقُوا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مَعَ سَوَادِهِ بِأَبِيهِ الشَّدِيدِ الْبَيَاضِ بَلْ حَقِيقَتُهَا شَبَهٌ خَاصٌّ ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْأَلْوَانِ وَغَيْرِهَا ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَرِّجْ مُجَزِّزٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ ، وَهَذَا الرَّجُلُ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا مُجَرَّدَ اللَّوْنِ فَلَيْسَ فِيهِ شَرْطُ الْقِيَافَةِ حَتَّى يَدُلَّ إلْغَاؤُهُ عَلَى إلْغَاءِ الْقِيَافَةِ ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَادَةِ وَالْغَالِبِ ، وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّهُ خِلَافُ الْعَوَائِدِ ، وَظَوَاهِرُ النُّصُوصِ الْمُتَقَدِّمَةُ تَأْبَاهُ ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا يَبْنِي أَحْكَامَهُ عَلَى الْغَالِبِ ، وَبُقْرَاطُ تَكَلَّمَ عَلَى النَّادِرِ فَلَا تَعَارُضَ ، وَعَنْ الرَّابِعِ أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مُضَافًا لِمَا يُشَاهَدُ مِنْ شَبَهِ الْإِنْسَانِ لِجَمِيعِ النَّاسِ ، وَإِنَّمَا يُضَافُ لِشَبَهٍ خَاصٍّ يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْقِيَافَةِ ، وَعَنْ الْخَامِسِ أَنَّ الْقِيَافَةَ إنَّمَا

تَكُونُ مِنْ حَيْثُ يَسْتَوِي الْفِرَاشَانِ ، وَاللِّعَانُ يَكُونُ لِمَا يُشَاهِدُ الزَّوْجُ فَهُمَا بَابَانِ مُتَبَايِنَانِ لَا يَسُدُّ أَحَدُهُمَا مَسَدَ الْآخَرِ ، وَعَنْ السَّادِسِ الْفَرْقُ بِأَنَّ وُجُودَ الْفِرَاشِ وَحْدَهُ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ يَقْتَضِي اسْتِقْلَالَهُ بِخِلَافِ تَعَارُضِ الْفِرَاشَيْنِ ، وَعَنْ السَّابِعِ أَنَّهُ قُوَّةٌ فِي النَّفْسِ ، وَقُوَى النَّفْسِ وَخَوَاصُّهَا لَا يُمْكِنُ اكْتِسَابُهَا كَالْعَيْنِ الَّتِي يُصَابُ بِهَا فَتُدْخِلُ الْجَمَلَ الْقِدْرَ ، وَالرَّجُلَ الْقَبْرَ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا دَلَّ الْوُجُودُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَوَاصِّ فَالْقِيَافَةُ كَذَلِكَ حَتَّى يَتَعَذَّرَ اكْتِسَابُهَا .
وَعَنْ الثَّامِنِ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَتْ أَحْكَامُ النُّجُومِ كَمَا ثَبَتَتْ الْقِيَافَةُ ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَبَطَ بِهَا أَحْكَامًا لَاعْتُبِرَتْ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْمُرْتَبِطَةِ بِهَا كَمَا اُعْتُبِرَتْ الشَّمْسُ فِي الْفُصُولِ وَنُضْجِ الثِّمَارِ وَتَجْفِيفِ الْحُبُوبِ وَالْكُسُوفَاتِ وَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُعْتَبَرٌ مِنْ أَحْكَامِ النُّجُومِ ، وَإِنَّمَا أُلْغِيَ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رَبْطِ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ وَالْأَمَانَةِ وَالْإِحْيَاءِ بِمُثَلَّثِهَا وَتَرْبِيعِهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَصِحَّ فِيهَا ، وَلَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِهِ ، وَالْقِيَافَةُ صَحَّتْ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ .

( الْبَابُ الرَّابِعَ عَشَرَ ) فِي بَيَانِ مَا تَكُونُ فِيهِ حُجَّةُ الْقَافَةِ ، وَالْخِلَافُ فِي قَبُولِهَا ، وَدَلِيلُهُ ، وَفِيهِ وَصْلَانِ ( الْوَصْلُ الْأَوَّلُ ) فِي الْأَصْلِ الْقَافَةُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ عِنْدَنَا فِي الْقَضَاءِ بِثُبُوتِ الْأَنْسَابِ ، وَوَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ وَإِنَّمَا يُجِيزُهُ مَالِكٌ فِي وَلَدِ الْأَمَةِ يَطَؤُهَا رَجُلَانِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ ، وَتَأْتِي بِوَلَدٍ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا ، وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ قَبُولِهِ فِي وَلَدِ الزَّوْجَةِ ، وَعَنْهُ قَبُولُهُ ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ فِيهِمَا ا هـ .
وَفِي التَّبْصِرَةِ ، وَلَا تَعْتَمِدُ الْقَافَةُ إلَّا عَلَى أَبٍ مَوْجُودٍ بِالْحَيَاةِ قَالَ بَعْضُهُمْ أَوْ مَاتَ ، وَلَمْ يُدْفَنْ قِيلَ ، وَتَعْتَمِدُ عَلَى الْعَصَبَةِ قَالَ وَلَا يُحْكَمُ بِقَوْلِ الْقَائِفِ إلَّا فِي أَوْلَادِ الْإِمَاءِ مِنْ وَطْءِ سَيِّدَيْنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ دُونَ أَوْلَادِ الْحَرَائِرِ عَلَى الْمَشْهُورِ ، وَقِيلَ يُقْبَلُ فِي أَوْلَادِ الْحَرَائِرِ قَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ ، وَاخْتَارَهُ اللَّخْمِيُّ قَالَ ابْنُ يُونُسُ ، وَهُوَ أَقْيَسُ ، وَالْفَرْقُ عَلَى الْمَشْهُورِ بَيْنَ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عِمْرَانَ قَالَ إنَّمَا خُصَّتْ الْقَافَةُ بِالْإِمَاءِ لِأَنَّ الْأَمَةَ قَدْ تَكُونُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ فَيَطَئُونَهَا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَقَالَ تَسَاوَوْا فِي الْمِلْكِ وَالْوَطْءِ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَقْوَى مِنْ الْأُخْرَى فِرَاشًا فَالْفِرَاشَانِ مُسْتَوِيَانِ وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا ابْتَاعَهَا رَجُلٌ ، وَقَدْ وَطِئَهَا الْبَائِعُ وَوَطِئَهَا الْمُبْتَاعُ فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْمِلْكِ ، وَأَمَّا الْحُرَّةُ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ زَوْجًا لِرَجُلَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَصِحُّ فِيهَا فِرَاشَانِ مُسْتَوِيَانِ ، وَأَيْضًا فَوَلَدُ الْحُرَّةِ لَا يَنْتَفِي إلَّا بِاللِّعَانِ ، وَوَلَدُ الْأَمَةِ يَنْتَفِي بِغَيْرِ اللِّعَانِ ، وَالنَّفْيُ بِالْقَافَةِ إنَّمَا هُوَ ضَرْبٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فَلَا يُنْقَلُ وَلَدُ الْحُرَّةِ مِنْ يَقِينٍ إلَى الِاجْتِهَادِ ، وَلَمَّا جَازَ

نَفْيُ وَلَدِ الْأَمَةِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى جَازَ نَفْيُهُ بِالْقَافَةِ ا هـ بِلَفْظِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ( الْوَصْلُ الثَّانِي ) خَالَفَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي قَبُولِ الْقَافَةِ فِي الْقَضَاءِ بِثُبُوتِ الْأَنْسَابِ فَقَالَ الْحُكْمُ بِالْقَافَةِ بَاطِلٌ قَالَ الْأَصْلُ لَنَا خَمْسَةُ وُجُوهٍ ( الْأَوَّلُ ) مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَقَالَ أَلَمْ تَرَيْ إلَى مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ نَظَرَ إلَى أُسَامَةَ وَزَيْدٍ عَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا ، وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فَقَالَ إنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ } وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَكَانَ أَبْيَضَ ، وَابْنُهُ أُسَامَةُ أَسْوَدَ فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِهِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَانَتِهِ مِنْهُ فَلَمَّا قَالَ مُجَزِّزٌ ذَلِكَ سُرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَدْسُ بَاطِلًا شَرْعًا لَمَا سُرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُسَرُّ بِالْبَاطِلِ ( وَثَانِيهِمَا ) أَنَّ إقْرَارَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الشَّيْءِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْمَشْرُوعِيَّةِ ، وَقَدْ أَقَرَّ مُجَزِّزًا عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ حَقًّا مَشْرُوعًا لَا يُقَالُ النِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ إلْحَاقُ الْوَلَدِ ، وَهَذَا كَانَ مُلْحَقًا بِأَبِيهِ فِي الْفِرَاشِ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَحَلُّ النِّزَاعِ لِأَنَّا نَقُولُ مُرَادُنَا هَاهُنَا أَنَّ الشَّبَهَ الْخَاصَّ مُعْتَبَرٌ ، وَلَيْسَ مُرَادُنَا أَنَّ النَّسَبَ ثَبَتَ بِمُجَزِّزٍ ، وَلَا يُقَالُ أَيْضًا أَنَّ سُرُورَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِتَكْذِيبِ الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ صِحَّةَ الْقِيَافَةِ ، وَتَكْذِيبُ الْمُنَافِقِينَ حَاصِلٌ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ {

إنَّ اللَّهَ لِيُؤَيِّدَ هَذَا الدَّيْنَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ } فَقَدْ يُفْضِي الْبَاطِلُ لِلْخَيْرِ وَالْمَصْلَحَةِ ، وَعَدَمُ إنْكَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْبَاطِلَ ، وَهُوَ لَا يُقِرُّهُ لِأَنَّ مُجَزِّزًا لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ لِأَجْلِ الْقِيَافَةِ فَلَعَلَّهُ أَخْبَرَ بِهِ بِنَاءً عَلَى الْقَرَائِنِ إذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَآهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ ( لِأَنَّا نَقُولُ ) كَيْفَ يَسْتَقِيمُ السُّرُورُ مَعَ بُطْلَانِ مُسْتَنَدِ التَّكْذِيبِ كَمَا لَوْ أَخْبَرَ عَنْ كَذِبِهِمْ رَجُلٌ كَاذِبٌ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ كَذِبُهُمْ إذَا كَانَ الْمُسْتَنَدُ حَقًّا فَيَكُونُ الشَّبَهُ حَقًّا ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فَانْدَفَعَ بِهَذَا قَوْلُكُمْ أَنَّ الْبَاطِلَ قَدْ يَأْتِي بِالْخَيْرِ ، وَالْمَصْلَحَةُ فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ مَا أَتَى بِشَيْءٍ ، وَقَوْلُكُمْ أَخْبَرَ بِهِ لِرُؤْيَةٍ سَابِقَةٍ لِأَجْلِ الْقَرَائِنِ يَقْتَضِي أَمْرَيْنِ : ( الْأَوَّلَ ) نَفْيُ فَائِدَةِ اخْتِصَاصِ السُّرُورِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يُشْرِكُونَهُ فِي ذَلِكَ حِينَئِذٍ ( الثَّانِيَ ) نَفْيُ فَائِدَةِ ذِكْرِ الْأَقْدَامِ إذْ أَنَّهُ حَكَمَ بِشَيْءٍ غَيْرِ الَّذِي كَانَ طَعْنُ الْمُشْرِكِينَ ثَابِتًا مَعَهُ لَمَّا كَانَ لِكُلٍّ مِنْ اخْتِصَاصِ السُّرُورِ ، وَبِقَوْلِهِ ، وَذِكْرُ الْأَقْدَامِ فَائِدَةٌ .
( وَالْوَجْهُ الثَّانِي ) قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْعَجْلَانِيُّ { إنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى نَعْتِ كَذَا وَكَذَا فَأَرَاهُ قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ أَتَتْ بِهِ عَلَى نَعْتِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِشَرِيكٍ فَلَمَّا أَتَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ } فَصَرَّحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ وُجُودَ صِفَاتِ أَحَدِهِمَا أَيْ الْوَالِدِ فِي الْآخَرِ أَيْ الْوَلَدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا مِنْ نَسَبٍ وَاحِدٍ ، وَمَجِيءُ الْوَحْيِ بِأَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ يُشْبِهُهُ مُؤَسِّسٌ لِمَا يَقُولُهُ ، وَالْحُكْمُ بِالشَّبَهِ أَوْلَى مِنْ الْحُكْمِ بِكَوْنِهِ فِي الْفِرَاشِ لِأَنَّ الْفِرَاشَ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ

ظَاهِرِ الْحَالِ ، وَالشَّبَهُ يَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَكَوْنُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُعْطَ عِلْمَ الْقِيَافَةِ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُعْطِيَ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ سَلَّمْنَا لَكِنْ عَنْ ضَابِطِ الْقَائِفِينَ أَنَّ الشَّبَهَ مَتَى كَانَ كَذَا فَهُمْ يَحْكُمُونَ بِكَذَا لَا أَنَّهُ ادَّعَى عِلْمَ الْقِيَافَةِ بَلْ كَمَا يَقُولُ يَقُولُ الْإِنْسَانُ : الْأَطِبَّاءُ يُدَاوُونَ الْمَحْمُومَ بِكَذَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَبِيبًا ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْكُمْ بِالْوَلَدِ لِشَرِيكٍ لِأَنَّهُ زَانٍ ، وَالْوَلَدُ إنَّمَا يُحْكَمُ بِهِ فِي وَطْءِ الْبَائِعِ ، وَالْمُشْتَرِي الْأَمَةَ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ كُلًّا وَطْءُ شُبْهَةٍ ، وَأَمَّا عَدَمُ الْحَدِّ فَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ جِهَتِهَا شُبْهَةً أَوْ تَكُونُ مُكْرَهَةً أَوْ لِأَنَّ اللِّعَانَ يُسْقِطُ الْحَدَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ } الْآيَةَ أَوْ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فَانْدَفَعَ مَا أَوْرَدُوهُ مِنْ أَنَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الشُّبْهَةِ فِي حَدِيثِ الْمُدْلِجِيِّ أَوْ لِأَنَّ أَخْبَارَهُ عَلَيْهِ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ لَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَافَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي بَنِي هَاشِمٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي بَنِي مُدْلِجٍ ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَائِلَهَا ، وَثَانِيًا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ لِشَرِيكٍ ، وَأَنْتُمْ تُوجِبُونَ الْحُكْمَ بِمَا أَشْبَهَ ، وَثَالِثًا أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تُحَدَّ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَحَدِيثُ الْمُدْلِجِيِّ يَدُلُّ دَلَالَةً قَوِيَّةً عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَدَلَّ بِالشَّبَهِ عَلَى النَّسَبِ ، وَلَوْ كَانَ بِالْوَحْيِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ تَرْدِيدٌ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ بَلْ كَانَ يَقُولُ هِيَ تَأْتِي بِهِ عَلَى نَعْتِ كَذَا ، وَهُوَ لِفُلَانٍ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّرْدِيدِ الَّذِي لَا يَحْسُنُ إلَّا فِي مَوَاطِنِ الشَّكِّ ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ هَذَا بِالْوَحْيِ

إذَا كَانَ لِتَأْسِيسِ قَاعِدَةِ الْقِيَافَةِ ، وَبَسْطِ صُوَرِهَا بِالْأَشْبَاهِ ، وَذَلِكَ مَطْلُوبُنَا فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سُرَّ إلَّا بِسَبَبٍ حَقٍّ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَائِشَةَ فِي الْحَدِيثِ تَرِبَتْ يَدَاك ، وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَنِيَّ يُوجِبُ الشَّبَهَ فَيَكُونُ دَلِيلَ النَّسَبِ ( وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ ) أَنَّ رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا وَلَدًا فَاخْتَصَمَا لِعُمَرَ فَاسْتَدْعَى لَهُ الْقَافَةَ فَأَلْحَقُوهُ بِهِمَا فَعَلَاهُمَا بِالدِّرَّةِ ، وَاسْتَدْعَى حَرَائِرَ مِنْ قُرَيْشٍ فَقُلْنَ خُلِقَ مِنْ مَاءِ الْأَوَّلِ ، وَحَاضَتْ عَلَى الْحَمْلِ فَاسْتُحْشِفَ الْحَمْلُ فَلَمَّا وَطِئَهَا الثَّانِي انْتَعَشَ بِمَائِهِ فَأَخَذَ شَبَهًا مِنْهُمَا فَقَالَ عُمَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْأَوَّلِ ( وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ ) أَنَّ الشَّبَهَ عِلْمٌ عِنْدَ الْقَافَةِ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ فَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ كَالتَّقْوِيمِ فِي الْمُتْلِفَاتِ ، وَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ ، وَخَرْصِ الثِّمَارِ فِي الزَّكَوَاتِ ، وَتَحْرِيرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ فِي الصَّلَوَاتِ ، وَالْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ مِنْ النِّعَمِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَخْمِينٌ وَتَقْرِيبٌ ( وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ ) أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْتَبَرْ الشَّبَهُ لَمْ يَكُنْ إلَّا إلْحَاقِ الْوَلَدِ بِجَمِيعِ الْمُتَنَازِعِينَ كَمَا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لِلْوَلَدِ آبَاءً بَلْ أَبًا وَاحِدًا فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى } وقَوْله تَعَالَى { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ } .
وَأَمَّا الْوُجُوهُ الثَّمَانِيَةُ الَّتِي عَارَضَ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ حَدِيثَ الْعَجْلَانِيُّ : ( فَالْأَوَّلُ ) مَا فِي الصِّحَاحِ { أَنَّ رَجُلًا حَضَرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادَّعَى أَنَّ امْرَأَتَهُ وَلَدَتْ وَلَدًا أَسْوَدَ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي إبِلِك مِنْ أَوْرَقَ ؟ فَقَالَ لَهُ نَعَمْ قَالَ لَهُ مَا أَلْوَانُهَا ؟ قَالَ سُودٌ فَقَالَ مَا السَّبَبُ ؟

فَقَالَ الرَّجُلُ لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَ } فَلَمْ يَعْتَبِرْ الشَّبَهَ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ لَيْسَتْ صُورَةَ النِّزَاعِ لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ ، وَإِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ اخْتِلَافِ اللَّوْنِ فَعَرَّفَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ السَّبَبُ ، وَنَحْوَ لَا نَقُولُ الْقِيَافَةُ هِيَ اعْتِبَارُ الشَّبَهِ كَيْفَ كَانَ ، وَالْمُنَاسَبَةُ كَيْفَ كَانَتْ بَلْ نَقُولُ هِيَ شَبَهٌ خَاصٌّ ، وَلِذَلِكَ أَلْحَقَ مُجَزِّزٌ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مَعَ سَوَادِهِ بِأَبِيهِ الشَّدِيدِ الْبَيَاضِ ، وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ إذْ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا ، وَهَذَا الرَّجُلُ لَمْ يَذْكُرْ مُجَرَّدَ اللَّوْنِ فَلَيْسَ فِيهِ شَرْطُ الْقِيَافَةِ حَتَّى يَدُلَّ إلْغَاؤُهُ عَلَى إلْغَاءِ الْقَافَةِ ( وَالْوَجْهُ الثَّانِي ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ } ، وَلَمْ يُفَرِّقْ ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ وَالْعَادَةِ ( وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ ) إنَّ خَلْقَ الْوَلَدِ مُغَيَّبٌ عَنَّا فَجَازَ أَنْ يُخْلَقَ مِنْ رَجُلَيْنِ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ بُقْرَاطُ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ الْحَمْلُ عَلَى الْحَمْلِ ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ خِلَافُ الْعَوَائِدِ ، وَظَوَاهِرُ النُّصُوصِ الْمُتَقَدِّمَةِ تَأْبَاهُ ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا يَعْنِي أَحْكَامَهُ عَلَى الْغَالِبِ ، وَبُقْرَاطُ تَكَلَّمَ عَلَى النَّادِرِ فَلَا تَعَارُضَ ( وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ ) أَنَّ الشَّبَهَ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ مِنْ الْوَلَدِ ، وَجَمَاعَةٍ لَوَجَبَ إلْحَاقُهُ بِهِمْ بِسَبَبِ الشَّبَهِ ، وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مُضَافًا لِمَا يُشَاهَدُ مِنْ شَبَهِ الْإِنْسَانِ لِجَمِيعِ النَّاسِ ، وَإِنَّمَا يُضَافُ لِشَبَهٍ خَاصٍّ يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْقِيَافَةِ ( وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ ) أَنَّ الشَّبَهَ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَبَطَلَتْ مَشْرُوعِيَّةُ اللِّعَانِ ، وَاكْتَفَى بِهِ وُجُوبُهُ أَنَّ الْقِيَافَةَ إنَّمَا تَكُونُ حَيْثُ يَسْتَوِي الْفِرَاشَانِ وَاللِّعَانُ يَكُونُ لِمَا يُشَاهِدُهُ الزَّوْجُ فَهُمَا بَابَانِ مُتَبَايِنَانِ لَا يَسُدُّ أَحَدُهُمَا مَسَدَّ الْآخِرِ ( وَالْوَجْهُ

السَّادِسُ ) أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ مَعَ الْفِرَاشِ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا مَعَ عَدَمِهِ كَغَيْرِهِ ، وَجَوَابُهُ الْفَرْقُ بِأَنَّ وُجُودَ الْفِرَاشِ وَحْدَهُ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ يَقْتَضِي اسْتِقْلَالَهُ بِخِلَافِ تَعَارُضِ الْفِرَاشَيْنِ .
( الْوَجْهُ السَّابِعُ ) أَنَّ الْقِيَافَةَ لَوْ كَانَتْ عِلْمًا لَأَمْكَنَ اكْتِسَابُهُ كَسَائِرِ الْعُلُومِ وَالصَّنَائِعِ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ قُوَّةً فِي النَّفْسِ وَقُوَى النَّفْسِ خَوَاصُّهَا لَا يُمْكِنُ اكْتِسَابُهَا كَالْعَيْنِ الَّتِي يُصَابُ بِهَا فَتُدْخِلُ الْجَمَلَ الْقِدْرَ وَالرَّجُلَ الْقَبْرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا دَلَّ الْوُجُودُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَوَاصِّ فَالْقِيَافَةُ كَذَلِكَ فَيَتَعَذَّرُ اكْتِسَابُهَا ( وَالْوَجْهُ الثَّامِنُ ) أَنَّهُ حَزْرٌ وَتَخْمِينٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَأَحْكَامِ النُّجُومِ ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَتْ أَحْكَامُ النُّجُومِ كَمَا ثَبَتَتْ الْقِيَافَةُ ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَبَطَ بِهَا أَحْكَامًا لَاعْتُبِرَتْ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْمُرْتَبِطَةِ بِهَا كَمَا اُعْتُبِرَتْ الشَّمْسُ فِي الْفُصُولِ ، وَنُضْجِ الثِّمَارِ وَتَجْفِيفِ الْحُبُوبِ وَالْكُسُوفَاتِ ، وَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُعْتَبَرٌ مِنْ أَحْكَامِ النُّجُومِ ، وَإِنَّمَا أُلْغِيَ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رَبْطِ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ ، وَالْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ بِتَثْلِيثِهَا أَوْ تَرْبِيعِهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَصِحَّ فِيهَا ، وَلَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِهِ ، وَالْقِيَافَةُ صَحَّتْ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ فَافْتَرَقَا ا هـ كَلَامُ الْأَصْلِ بِتَهْذِيبٍ ، وَسَلَّمَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( الْحُجَّةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) الْقُمُطُ وَشَوَاهِدُ الْحِيطَانِ قَالَ بِهَا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ قَالَ أَشْهَبُ إذَا تَدَاعَيَا جِدَارًا مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا ، وَعَلَيْهِ جُذُوعٌ لِلْآخَرِ فَهُوَ لِمَنْ اتَّصَلَ بِبِنَائِهِ .
وَلِصَاحِبِ الْجُذُوعِ مَوْضِعُ جُذُوعِهِ لِأَنَّهُ جَوَّزَهُ ، وَيَقْضِي بِالْجِدَارِ لِمَنْ إلَيْهِ عُقُودُ الْأَرْبِطَةِ ، وَلِلْآخَرِ مَوْضِعُ جُذُوعِهِ ، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ عَشْرُ خَشَبَاتٍ ، وَلِلْآخَرِ خَمْسُ خَشَبَاتٍ وَلَا رَبْطَ ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لَا عَلَى عَدَدِ الْخُشُبِ ، وَبَقِيَتْ خَشَبَاتُهُمَا بِحَالِهَا ، وَإِذَا انْكَسَرَتْ خُشُبُ أَحَدِهِمَا رَدَّ مِثْلَ مَا كَانَ ، وَلَا يُجْعَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَا تَحْتَ خُشُبِهِ مِنْهُ ، وَلَوْ كَانَ عَقَدَهُ لِأَحَدِهِمَا مِنْ ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ ، وَلِلْآخَرِ مِنْ مَوْضِعٍ قُسِّمَ بَيْنَهُمَا عَلَى عَدَدِ الْعُقُودِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْقِدْ لِوَاحِدٍ ، وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ خُشُبٌ مَعْقُودَةٌ بِعَقْدِ الْبِنَاءِ أَوْ مَثْقُوبَةٌ فَعَقْدُ الْبِنَاءِ يُوجِبُ مِلْكَ الْحَائِطِ لِأَنَّهُ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمَالِكِ ، وَقِيلَ لَا يُوجِبُهُ ، وَقَالَ فِي الْمَثْقُوبَةِ نَظَرٌ لِأَنَّهَا طَارِئَةٌ عَلَى الْحَائِطِ ، وَالْكُوَى كَعَقْدِ الْبِنَاءِ تُوجِبُ الْمِلْكَ ، وَكُوَى الضَّوْءِ الْمَنْفُوذَةُ لَا دَلِيلَ فِيهَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا عَقْدٌ ، وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ خُشُبٌ ، وَلَوْ وَاحِدَةً فَهُوَ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا كُوًى غَيْرَ مَنْفُوذَةٍ أَوْجَبَتْ الْمِلْكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَخَصُّ الْقَصَبُ لِأَحَدِهِمَا ، وَالْقَصَبُ وَالطُّوبُ سَوَاهُ قُلْت الْمُدْرَكُ فِي هَذِهِ الْفَتَاوَى كُلِّهَا شَوَاهِدُ الْعَادَاتِ فَمَنْ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ عَادَةٌ قَضَى بِهَا ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْعَوَائِدُ فِي الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ وَجَبَ اخْتِلَافُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُجْمَعَ

عَلَيْهَا أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ مَبْنِيٍّ عَلَى عَادَةٍ إذَا تَغَيَّرَتْ الْعَادَةُ تَغَيَّرَ كَالنُّقُودِ وَمَنَافِعِ الْأَعْيَانِ وَغَيْرِهِمَا ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إذَا تَنَازَعَا حَائِطًا مُبَيَّضًا هَلْ هُوَ مُنْعَطِفٌ لِدَارِك أَوْ لِدَارِهِ فَأَمَرَ الْحَاكِمُ بِكَشْفِ الْبَيَاضِ لِيُنْظَرَ إنْ جُعِلَتْ الْأُجْرَةُ فِي الْكَشْفِ عَلَيْهِ فَمُشْكِلٌ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَكُونُ لِخَصْمِك ، وَالْأُجْرَةُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَلَى مَنْ يَقَعُ لَهُ الْعَمَلُ وَنَفْعُهُ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَقَعَ الْإِجَارَةُ عَلَى مَنْ يُثْبِتُ لَهُ الْمِلْكَ لِأَنَّكُمَا جَزَمْتُمَا بِالْمِلْكِيَّةِ فَمَا وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ إلَّا جَازِمَةً .
وَكَذَلِكَ الْقَائِفُ لَوْ امْتَنَعَ إلَّا بِأَجْرٍ قَالَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ يَلْزَمُ الْحَاكِمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاسْتِجَارَةٍ ، وَيَلْزَمُ الْأُجْرَةَ فِي الْأَخِيرِ لِمَنْ يَثْبُتُ لَهُ ذَلِكَ الْحَقُّ كَمَا يَحْلِفُ فِي اللِّعَانِ ، وَغَيْرِهِ ، وَأَحَدُهُمَا كَاذِبٌ

( الْبَابُ الْخَامِسَ عَشَرَ ) فِي بَيَانِ مَا تَكُونُ فِيهِ حُجَّةُ الْقِمْطِ وَشَوَاهِدُ الْحِيطَانِ ، وَالْخِلَافُ فِي قَبُولِهَا ، وَدَلِيلُهُ ، وَفِيهِ وَصْلَانِ ( الْوَصْلُ الْأَوَّلُ ) هَذِهِ الْحُجَّةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ الَّتِي يَحْتَجْ بِهَا مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَرَى الْحُكْمَ بِهَا فِيمَا لَا تَحْضُرُهُ الْبَيِّنَاتُ كَمَا سَيَأْتِي عَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَعَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَلْحَظَ الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ إذَا تَعَارَضَتْ فَمَا تَرَجَّحَ مِنْهَا قُضِيَ بِجَانِبِ التَّرْجِيحِ ، وَهُوَ قُوَّةُ التُّهْمَةِ ، وَلَا خِلَافَ فِي الْحُكْمِ بِهَا ، وَقَدْ جَاءَ بِهَا فِي مَسَائِلَ اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الطَّوَائِفُ الْأَرْبَعَةُ ، وَبَعْضُهَا قَالَ بِهَا الْمَالِكِيَّةُ خَاصَّةً ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي فَصْلِ بَيَانِ عَمَلِ فُقَهَاءِ الطَّوَائِفِ الْأَرْبَعَةِ بِالْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ مِنْ تَبْصِرَتِهِ خَمْسِينَ مَسْأَلَةً مِنْهَا أَنَّ الْفُقَهَاءَ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ بِجَوَازِ وَطْءِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إذَا أُهْدِيَتْ إلَيْهِ لَيْلَةَ الزِّفَافِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَهُ عَدْلَانِ مِنْ الرِّجَالِ أَنَّ هَذِهِ فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ الَّتِي عَقَدْت عَلَيْهَا ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَنْطِقْ النِّسَاءَ أَنَّ هَذِهِ امْرَأَتُهُ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ الْمُنَزَّلَةِ مَنْزِلَةَ الشَّهَادَةِ وَمِنْهَا أَنَّ النَّاسَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا لَمْ يَزَالُوا يَعْتَمِدُونَ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالْإِمَاءِ الْمُرْسَلِ مَعَهُمْ الْهَدَايَا ، وَأَنَّهُ مُرْسَلَةٌ إلَيْهِمْ فَيَقْبَلُونَ أَقْوَالَهُمْ ، وَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ الْمُرْسَلَ بِهِ ، وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ خَبَرَ الْكَافِرِ فِي ذَلِكَ كَافٍ ، وَقَالَ وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ فِي الرِّكَازِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ سُمِّيَ كَنْزًا ، وَهُوَ كَاللُّقَطَةِ .
وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ شَكْلُ الصَّلِيبِ أَوْ الصُّوَرِ أَوْ اسْمِ مِلْكٍ مِنْ مُلُوكِ الرُّومِ فَهُوَ رِكَازٌ فَهَذَا عَمَلٌ بِالْعَلَامَاتِ قَالَ وَمِنْهَا جَوَازُ دَفْعِ اللُّقَطَةِ لِوَاصِفِ عِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا

اعْتِمَادًا عَلَى مُجَرَّدِ الْقَرِينَةِ قَالَ ابْنُ الْغَرْسِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْوَدِيعَةِ وَالسَّرِقَةِ وَشَبَهِهَا إذَا جَهِلَ صَاحِبُهَا هَلْ تُقْبَلُ فِي ذَلِكَ الصِّفَةُ كَاللُّقَطَةِ أَمْ لَا وَمِنْهَا إذَا تَنَازَعَا جِدَارًا حَكَمَ بِهِ لِصَاحِبِ الْوَجْهِ وَمَعَاقِدِ الْقِمْطِ وَالطَّاقَاتِ وَالْجُذُوعِ ، وَذَلِكَ حُكْمٌ بِالْأَمَارَاتِ ا هـ الْمُرَادُ فَانْظُرْ التَّبْصِرَةَ .
وَفِي الْأَصْلِ قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ قَالَ أَشْهَبُ إذَا تَدَاعَيَا جِدَارًا مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا ، وَعَلَيْهِ جُذُوعٌ لِلْآخَرِ فَهُوَ لِمَنْ اتَّصَلَ بِبُنْيَانِهِ ، وَلِصَاحِبِ الْجُذُوعِ مَوْضِعُ جُذُوعِهِ لِأَنَّهُ حَوْزُهُ ، وَيُقْضَى بِالْجِدَارِ لِمَنْ إلَيْهِ عُقُودُ الْأَرْبِطَةِ ، وَلِلْآخَرِ مَوْضِعُ جُذُوعِهِ وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ عَشْرُ خَشَبَاتٍ ، وَلِلْآخَرِ خَمْسُ خَشَبَاتٍ ، وَلَا رَبْطَ لَا غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لَا عَلَى عَدَدِ الْخَشَبِ ، وَبَقِيَتْ خَشَبَاتُهُمَا بِحَالِهَا ، وَإِذَا انْكَسَرَتْ خَشَبُ أَحَدِهِمَا رُدَّ مِثْلُ مَا كَانَ ، وَلَا يُجْعَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَا تَحْتَ خَشَبِهِ مِنْهُ أَيْ مِنْ الْجِدَارِ ، وَلَوْ كَانَ عَقَدَهُ لِأَحَدِهِمَا مِنْ ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ ، وَلِلْآخَرِ مِنْ مَوْضِعٍ قُسِّمَ بَيْنَهُمَا عَلَى عَدَدِ الْعُقُودِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْقِدْ لِوَاحِدٍ ، وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ خَشَبٌ مَعْقُودَةٌ بِعَقْدِ الْبِنَاءِ مُتَقَوِّيَةٌ فَعَقْدُ الْبِنَاءِ يُوجِبُ مِلْكَ الْحَائِطِ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمَالِكِ ، وَقِيلَ لَا يُوجِبُهُ ، وَقَالَ فِي الْمُتَقَوِّيَةِ نَظَرٌ لِأَنَّهَا طَارِئَةٌ عَلَى الْحَائِطِ ، وَالْكُوَّةُ كَعَقْدِ الْبِنَاءِ تُوجِبُ الْمِلْكَ ، وَكُوَى الضَّوْءِ الْمَنْفُوذَةُ لَا دَلِيلَ فِيهَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا عَقْدٌ ، وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ خَشَبٌ ، وَلَوْ وَاحِدَةً فَهُوَ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا كُوًى غَيْرِ مَنْفُوذَةٍ أَوْجَبَتْ الْمِلْكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَخَصُّ الْقَصَبَ لِأَحَدِهِمَا ، وَالْقَصَبُ وَالطُّوبُ سَوَاءٌ ا هـ .
قَالَ الْأَصْلُ الْمُدْرَكُ فِي هَذِهِ

الْفَتَاوَى كُلُّهَا شَوَاهِدُ الْعَادَاتِ فَمَنْ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ عَادَةٌ قَضَى بِهَا ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْعَوَائِدُ فِي الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ وَجَبَ اخْتِلَافُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ مَبْنِيٌّ عَلَى عَادَةٍ إذَا تَغَيَّرَتْ الْعَادَةُ تَغَيَّرَ كَالنُّقُودِ ، وَمَنَافِعِ الْأَعْيَانِ وَغَيْرِهَا ( مَسْأَلَةٌ ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إذَا تَنَازَعَا حَائِطًا مُبَيَّضًا هَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ لِدَارِك أَوْ لِدَارِهِ فَأَمَرَ الْحَاكِمَ بِكَشْفِ الْبَيَاضِ لِيُنْظَرَ إنْ جُعِلَتْ الْأُجْرَةُ فِي الْكَشْفِ عَلَيْهِ فَمُشْكَلٌ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَكُونُ لِخَصْمِك ، وَالْأُجْرَةُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَلَى مَنْ يَقَعُ لَهُ الْعَمَلُ ، وَيَنْفَعُهُ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَقَعَ الْإِجَارَةُ عَلَى مَنْ يَثْبُتُ لَهُ مِلْكٌ لِأَنَّكُمَا جَزَمْتُمَا بِالْمِلْكِيَّةِ فَمَا وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ إلَّا جَازِمَةً وَكَذَلِكَ الْقَائِفُ لَوْ امْتَنَعَ إلَّا بِأَجْرٍ قَالَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ يَلْزَمُ الْحَاكِمَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِاسْتِجَارَةٍ ، وَيَلْزَمُ الْأُجْرَةَ فِي الْأَخِيرِ لِمَنْ يَثْبُتُ لَهُ ذَلِكَ الْحَقُّ كَمَا يَحْلِفُ فِي اللِّعَانِ وَغَيْرِهِ ، وَأَحَدُهُمَا كَاذِبٌ ا هـ .
كَلَامُ الْأَصْلِ ، وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ( الْوَصْلُ الثَّانِي ) فِي الْأَصْلِ قَالَ بِالْقِمْطِ وَشَوَاهِدِ الْحِيطَانِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ا هـ .
وَفِي التَّبْصِرَةِ وَدَلِيلُ الْقَضَاءِ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ ، وَالْأَمَارَاتِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْله تَعَالَى { تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السِّيمَاءَ الْمُرَادُ بِهَا حَالٌ يَظْهَرُ عَلَى الشَّخْصِ حَتَّى إذَا رَأَيْنَاهُ مَيِّتًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَعَلَيْهِ زُنَّارٌ ، وَهُوَ غَيْرُ مَخْتُونٍ لَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيُقَدَّمُ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ الدَّارِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمَذْهَبِ إنْ وُجِدَ هَذَا الْمَذْكُورُ مَخْنُونًا فَفِي

كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّصَارَى يُخْتَتَنُونَ .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ يُصَلَّى عَلَيْهِ وقَوْله تَعَالَى { وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } الْآيَةَ ، وَقَالَ عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ الْغَرْسِ رُوِيَ أَنَّ إخْوَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَتَوْا بِقَمِيصِ يُوسُفَ إلَى أَبِيهِمْ يَعْقُوبَ تَأَمَّلَهُ فَلَمْ يَرَ فِيهِ خَرْقًا وَلَا أَثَرَ نَابٍ فَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى كَذِبِهِمْ وَقَالَ لَهُمْ مَتَى كَانَ الذِّئْبُ حَلِيمًا يَأْكُلُ يُوسُفَ ، وَلَا يَخْرِقُ قَمِيصَهُ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا الدَّمَ عَلَامَةَ صِدْقِهِمْ قَرَنَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْعَلَامَةِ تَعَارُضَهَا ، وَهِيَ سَلَامَةُ الْقَمِيصِ مِنْ التَّمْزِيقِ إذْ لَا يُمْكِنُ افْتِرَاسُ الذِّئْبِ لِيُوسُفَ ، وَهُوَ لَابِسُ الْقَمِيصِ ، وَيَسْلَمُ الْقَمِيصُ .
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَدَلَّ عَلَى كَذِبِهِمْ بِصِحَّةِ الْقَمِيصِ فَاسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إعْمَالِ الْأَمَارَاتِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْفِقْهِ وقَوْله تَعَالَى { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ إنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } .
قَالَ ابْنُ الْغَرْسِ هَذِهِ الْآيَةُ يَحْتَجُّ بِهَا مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَرَى الْحُكْمَ بِالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ فِيمَا لَا يَحْضُرُهُ الْبَيِّنَاتُ .
وَكَوْنُ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ لَا تَلْزَمُنَا لَا يَسْلَمُ لِأَنَّ كُلَّ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَإِنَّمَا أَنْزَلَهُ لِفَائِدَةٍ فِيهِ وَمَنْفَعَةٍ لَنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ } فَآيَةُ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مُقْتَدًى بِهَا مَعْمُولٌ عَلَيْهَا .
وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فَمَوَاضِعُ مِنْهَا أَنَّهُ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِمُوجِبِ اللَّوْثِ فِي الْقَسَامَةِ ، وَجَوَّزَ لِلْمُدَّعِينَ أَنْ يَحْلِفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَيَسْتَحِقُّوا دَمَ الْقَتِيلِ فِي حَدِيثِ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ ، وَالْحَدِيثُ فِيهِ ذِكْرُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ ، وَأَنَّهُ قُتِلَ فِي بَلَدِهِمْ ، وَلَيْسَ فِيهَا غَيْرُ الْيَهُودِ أَوْ أَنَّهُ قَدْ قَامَ مِنْ الْقَرَائِنِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلُوهُ ، وَلَكِنْ جَهِلُوا عَيْنَ الْقَاتِلِ ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَبْعُدُ إثْبَاتُهُ لَوْثًا فَلِذَلِكَ جَرَى حُكْمُ الْقَسَامَةِ فِيهِ وَمِنْهَا مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي قِصَّةِ الْأَسْرَى مِنْ قُرَيْظَةَ لَمَّا حَكَمَ فِيهِمْ سَعْدٌ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَتُسْبَى الذُّرِّيَّةُ فَكَانَ بَعْضُهُمْ عُدْمَ الْبُلُوغِ فَكَانَ الصَّحَابَةُ يَكْشِفُونَ عَنْ مُؤْتَزِرِهِمْ فَيَعْلَمُونَ بِذَلِكَ الْبَالِغَ مِنْ غَيْرِهِ .
وَذَلِكَ مِنْ الْحُكْمِ بِالْأَمَارَاتِ وَمِنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْمُلْتَقِطَ أَنْ يَدْفَعَ اللُّقَطَةَ إلَى وَاصِفِهَا ، وَجَعَلَ وَصْفَهُ لِعِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا قَائِمًا مَقَامَ الْبَيِّنَةِ وَمِنْهَا حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ بِالْقَافَةِ ، وَجَعْلُهَا دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ .
وَلَيْسَ فِيهَا إلَّا مُجَرَّدُ الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ وَمِنْهَا أَنَّ ابْنَا عَفْرَاءَ تَدَاعَيَا قَتْلَ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا قَالَا لَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرِيَانِي سَيْفَيْكُمَا فَلَمَّا نَظَرَ فِيهِمَا قَالَ لِأَحَدِهِمَا هَذَا قَتَلَهُ ، وَقَضَى لَهُ بِسَلَبِهِ وَمِنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الزُّبَيْرَ بِعُقُوبَةِ الَّذِي اتَّهَمَهُ بِإِخْفَاءِ كَنْزِ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ فَلَمَّا ادَّعَى أَنَّ النَّفَقَةَ وَالْحُرُوبَ أَذْهَبَتْهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَهْدُ قَرِيبٌ ، وَالْمَالُ أَكْثَرُ وَمِنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ

بِالْعُرَنِيِّينَ مَا فَعَلَ بِنَاءً عَلَى شَاهِدِ الْحَالِ ، وَلَمْ يَطْلُبْ بَيِّنَةً بِمَا فَعَلُوا ، وَلَا وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى إقْرَارِهِمْ ، وَمِنْهُ حُكْمُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَالصَّحَابَةُ مَعَهُ مُتَوَفِّرُونَ بِرَجْمِ الْمَرْأَةِ إذَا ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ ، وَلَا زَوْجَ لَهَا ، وَقَالَ بِذَلِكَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ { عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَرَدْت السَّفَرَ إلَى خَيْبَرَ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا جِئْت وَكِيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا فَإِذَا طَلَبَ مِنْك آيَةً فَضَعْ يَدَك عَلَى تَرْقُوَتِهِ } فَأَقَامَ الْعَلَامَةَ مُقَامَ الشَّهَادَةِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيَهَا ، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا ، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا } فَجَعَلَ صُمَاتَهَا قَرِينَةً عَلَى الرِّضَا ، وَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا رَضِيَتْ .
وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ وَمِنْهَا حُكْمُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ، وَلَا يُعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفٌ بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْ فِيهِ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ قَاءَهَا اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ا هـ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْحُجَّةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) الْيَدُ ، وَهِيَ يُرَجَّحُ بِهَا ، وَيَبْقَى الْمُدَّعِي بِهِ لِصَاحِبِهَا ، وَلَا يُقْضَى لَهُ بِمِلْكٍ بَلْ يُرَجَّحُ التَّعَدِّي فَقَطْ ، وَتُرَجَّحُ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْحِجَاجِ ، وَهِيَ لِلتَّرْجِيحِ لَا لِلْقَضَاءِ بِالْمِلْكِ فَهَذِهِ هِيَ الْحِجَجُ الَّتِي يَقْضِي بِهَا الْحَاكِمُ ، وَمَا عَدَاهَا لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِهِ فِي الْقَضَاءِ .

( الْبَابُ السَّادِسَ عَشَرَ ) فِي بَيَانِ الْحُجَّةِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ الَّتِي هِيَ الْيَدُ قَالَ الْأَصْلُ وَلَيْسَ هِيَ لِلْقَضَاءِ بِالْمِلْكِ بَلْ لِلتَّرْجِيحِ فَيُرَجَّحُ بِهَا إمَّا أَحَدُ الدَّعْوَتَيْنِ الْمُتَسَاوِيَتَيْنِ مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ كُلُّ وَاحِدٍ جَمِيعَ الْمُدَّعَى بِهِ ، وَهُوَ بِيَدِ أَحَدِهِمَا ، وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَبْقَى الْمُدَّعَى بِهِ لِصَاحِبِ الْيَدِ مِنْهُمَا ، وَلَا يَقْضِي لَهُ بِمِلْكٍ بَلْ يُرَجِّحُ التَّعَدِّيَ فَقَطْ ، وَأَمَّا إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْحِجَاجِ كَمَا إذَا كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بَيِّنَةً ، وَتَسَاوَيَتَا فِي الْعَدَالَةِ رَجَّحَ جَانِبَ الَّذِي بِيَدِهِ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ حَائِزًا فَيَحْكُمُ لَهُ بِهِ مَعَ الْيَمِينِ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ عِنْدَ التَّكَافُؤِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لَا يَنْتَفِعُ الْحَائِرُ بِبَيِّنَتِهِ ، وَلَا بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي أَوْلَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي } فَإِنْ نَكَلَ الْحَائِزُ حَلَفَ الْمُدَّعِي ، وَحَكَمَ لَهُ بِهِ فَإِنْ نَكَلَ أَقَرَّ عَلَى يَدِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ .
وَعَلَى الْمَشْهُورِ فَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَرْجَحَ قُدِّمَتْ لِأَنَّ الْيَدَ لَا اعْتِبَارَ لَهَا مَعَ الْحُجَّةِ الضَّعِيفَةِ ثُمَّ هَلْ يَحْلِفُ الْخَارِجُ لِأَجْلِ اقْتِرَانِ الْيَدِ بِالْبَيِّنَةِ ؟ قَوْلَانِ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ غَيْرِ مُضَافٍ إلَى سَبَبٍ أَوْ فِي مِلْكٍ غَيْرِ مُطْلَقٍ ، وَهُوَ الْمُضَافُ إلَى سَبَبٍ يَتَكَرَّرُ أَوْ لَا يَتَكَرَّرُ فَالْمُطْلَقُ أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً بِأَنَّ هَذَا الشَّيْءَ لَهُ مِلْكًا مُطْلَقًا ، وَغَيْرَ مُطْلَقٍ هُوَ الْمُضَافُ إلَى سَبَبٍ ، وَهُوَ أَنْ يُبَيِّنَ سَبَبَ الْمِلْكِ مِثْلَ أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً بِأَنَّ هَذَا الْعَبْدَ مِلْكُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ ، وَأَنَّ هَذِهِ الدَّابَّةَ نَتَجَتْ فِي مِلْكِهِ ، وَأَنَّ هَذَا الثَّوْبَ مِلْكُهُ نَسَجَ فِي

مِلْكِهِ ثُمَّ هَذَا السَّبَبُ عَلَى ضَرْبَيْنِ مِنْهُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَكَرَّرَ فِي الْمِلْكِ مِثْلَ الْغِرَاسِ إذَا قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَرَسْته فِي مِلْكِي فَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَكَرَّرَ بِأَنْ يَغْرِسَ دَفْعَتَيْنِ ، وَهَكَذَا نَسْجُ الثَّوْبِ الْخَزِّ عَلَى مَا يَقُولُهُ أَهْلُ صَنَعْته يُمْكِنُ أَنْ يَنْسِجَ دَفْعَتَيْنِ ، وَمِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُ تَكْرَارُهُ كَالْوِدَّةِ وَالنِّتَاجِ وَنَسْجِ ثَوْبِ الْقُطْنِ ا هـ كَلَامُ الْأَصْلِ بِتَوْضِيحٍ مِنْ تَبْصِرَةِ ابْنِ فَرْحُونٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ فِي الْفَرْقِ السَّادِسِ وَالثَّلَاثِينَ وَالْمِائَتَيْنِ بَيْنَ الْيَدِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمُرَجِّحَةِ لِقَوْلِ صَاحِبِهَا ، وَالْيَدِ الَّتِي لَا تُعْتَبَرُ فَلَا تُغْفَلُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا اُعْتُبِرَ مِنْ الْغَالِبِ وَبَيْنَ مَا أُلْغِيَ مِنْ الْغَالِبِ ) : وَقَدْ يُعْتَبَرُ النَّادِرُ مَعَهُ ، وَقَدْ يُلْغَيَانِ مَعًا اعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ الْغَالِبِ ، وَتَقْدِيمُهُ عَلَى النَّادِرِ ، وَهُوَ شَأْنُ الشَّرِيعَةِ كَمَا يُقَدَّمُ الْغَالِبُ فِي طَهَارَةِ الْمِيَاهِ وَعُقُودِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَقْصِرُ فِي السَّفَرِ ، وَيُفْطِرُ بِنَاءً عَلَى غَالِبِ الْحَالِ ، وَهُوَ الْمَشَقَّةُ ، وَيَمْنَعُ شَهَادَةَ الْأَعْدَاءِ وَالْخُصُومِ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُمْ الْحَيْفُ ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ لَا يُحْصَى كَثْرَةً ، وَقَدْ يُلْغِي الشَّرْعُ الْغَالِبَ رَحْمَةً بِالْعِبَادِ ، وَتَقْدِيمُهُ قِسْمَانِ قِسْمٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ النَّادِرُ ، وَقِسْمٌ يُلْغَيَانِ فِيهِ مَعًا .
وَأَنَا أَذْكُرُ مِنْ كُلِّ قِسْمٍ مَثَلًا لِيَتَهَذَّبَ بِهَا الْفَقِيهُ ، وَيَتَنَبَّهُ إلَى وُقُوعِهَا فِي الشَّرِيعَةِ فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يَخْطُرُ ذَلِكَ بِالْبَالِ ، وَلَا سِيَّمَا تَقْدِيمُ النَّادِرِ عَلَى الْغَالِبِ ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) مَا أُلْغِيَ فِيهِ الْغَالِبُ ، وَقُدِّمَ النَّادِرُ عَلَيْهِ ، وَأَثْبَتَ حُكْمَهُ دُونَهُ رَحْمَةً بِالْعِبَادِ ، وَأَنَا أَذْكُرُ مِنْهُ عِشْرِينَ مِثَالًا : ( الْأَوَّلُ ) غَالِبُ الْوَلَدِ أَنْ يُوضَعَ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ فَإِذَا جَاءَ بَعْدَ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ امْرَأَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا دَارَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ زِنًى وَهُوَ الْغَالِبُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ تَأَخَّرَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَهُوَ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى وُقُوعِ الزِّنَا فِي الْوُجُودِ أَلْغَى الشَّارِعُ الْغَالِبَ ، وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ ، وَهُوَ تَأَخُّرُ الْحَمْلِ رَحْمَةً بِالْعِبَادِ لِحُصُولِ السَّتْرِ عَلَيْهِمْ ، وَصَوْنِ أَعْرَاضِهِمْ عَنْ الْهَتْكِ .
( الثَّانِي ) إذَا تَزَوَّجَتْ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءٍ قَبْلَ الْعَقْدِ ، وَهُوَ الْغَالِبُ أَوْ مِنْ وَطْءٍ بَعْدَهُ ، وَهُوَ النَّادِرُ فَإِنَّ غَالِبَ الْأَجِنَّةِ لَا تُوضَعُ إلَّا لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ ، وَإِنَّمَا يُوضَعُ فِي السِّتَّةِ سِقْطًا فِي

الْغَالِبِ أَلْغَى الشَّرْعُ حُكْمَ الْغَالِبِ ، وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ ، وَجَعَلَهُ مِنْ الْوَطْءِ بَعْدَ الْعَقْدِ لُطْفًا بِالْعِبَادِ لِحُصُولِ السَّتْرِ عَلَيْهِمْ وَصَوْنِ أَعْرَاضِهِمْ .
( الثَّالِثُ ) نَدَبَ الشَّرْعُ النِّكَاحَ لِحُصُولِ الذُّرِّيَّةِ مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْأَوْلَادِ الْجَهْلُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْمَعَاصِي ، وَعَلَى رَأْيِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ اللَّهَ تَعَالَى بِالْبُرْهَانِ فَهُوَ كَافِرٌ ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذَا إلَّا أَهْلُ الظَّاهِرِ كَمَا حَكَاهُ الْإِمَامُ فِي الشَّامِلِ وَالْإسْفَرايِينِيّ ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يُنْهَى مِنْ الذُّرِّيَّةِ لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ عَلَيْهِمْ فَأَلْغَى الشَّرْعُ حُكْمَ الْغَالِبِ ، وَاعْتَبَرَ حُكْمَ النَّادِرِ تَرْجِيحًا لِقَلِيلِ الْإِيمَانِ عَلَى كَثِيرِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي تَعْظِيمًا لِحَسَنَاتِ الْخَلْقِ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ رَحْمَةً بِهِمْ .
( الرَّابِعُ ) طِينُ الْمَطَرِ الْوَاقِعُ فِي الطَّرَقَاتِ وَمَمَرِّ الدَّوَابِّ وَالْمَشْيِ بِالْأَمْدِسَةِ الَّتِي يُجْلَسُ بِهَا فِي الْمَرَاحِيضِ الْغَالِبُ عَلَيْهَا وُجُودُ النَّجَاسَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ، وَإِنْ كُنَّا لَا نُشَاهِدُ عَيْنَهَا ، وَالنَّادِرُ سَلَامَتُهَا مِنْهَا ، وَمَعَ ذَلِكَ أَلْغَى الشَّارِعُ حُكْمَ الْغَالِبِ ، وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ تَوْسِعَةً وَرَحْمَةً بِالْعِبَادِ فَيُصَلِّي بِهِ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ .
( الْخَامِسُ ) النِّعَالُ الْغَالِبُ عَلَيْهَا مُصَادَفَةُ النَّجَاسَاتِ لَا سِيَّمَا نَعْلٌ مَشَى بِهَا سَنَةً ، وَجَلَسَ بِهَا فِي مَوَاضِعِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ سَنَةً ، وَنَحْوَهَا فَالْغَالِبُ النَّجَاسَةُ وَالنَّادِرُ سَلَامَتُهَا مِنْ النَّجَاسَةِ ، وَمَعَ ذَلِكَ أَلْغَى الشَّرْعُ حُكْمَ الْغَالِبِ ، وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ فَجَاءَتْ السُّنَّةُ بِالصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ قَلْعَ النِّعَالِ فِي الصَّلَاةِ بِدْعَةٌ كُلُّ ذَلِكَ رَحْمَةٌ وَتَوْسِعَةٌ عَلَى الْعِبَادِ .
( السَّادِسُ ) الْغَالِبُ عَلَى ثِيَابِ الصِّبْيَانِ النَّجَاسَةُ لَا سِيَّمَا مَعَ طُولِ لُبْسِهِمْ لَهَا ، وَالنَّادِرُ سَلَامَتُهَا ، وَقَدْ جَاءَتْ

السُّنَّةُ بِصَلَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأُمَامَةَ يَحْمِلُهَا فِي الصَّلَاةِ إلْغَاءً لِحُكْمِ الْغَالِبِ وَإِثْبَاتًا لِحُكْمِ النَّادِرِ لُطْفًا بِالْعِبَادِ .
( السَّابِعُ ) ثِيَابُ الْكُفَّارِ الَّتِي يَنْسِجُونَهَا بِأَيْدِيهِمْ مَعَ عَدَمِ تَحَرُّزِهِمْ مِنْ النَّجَاسَاتِ فَالْغَالِبُ نَجَاسَةُ أَيْدِيهِمْ لِمَا يُبَاشِرُونَهُ عِنْدَ قَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، وَمُبَاشَرَتِهِمْ الْخُمُورَ وَالْخَنَازِيرَ ، وَلُحُومَ الْمَيْتَاتِ ، وَجَمِيعُ أَوَانِيهِمْ نَجِسَةٌ بِمُلَابَسَةِ ذَلِكَ ، وَيُبَاشِرُونَ النَّسْجَ وَالْعَمَلَ مَعَ بِلَّةِ أَيْدِيهِمْ ، وَعَرَقِهَا حَالَةَ الْعَمَلِ ، وَيَبُلُّونَ تِلْكَ الْأَمْتِعَةَ بِالنَّشَا وَغَيْرِهِ مِمَّا يُقَوِّي لَهُمْ الْخُيُوطَ وَيُعِينُهُمْ عَلَى النَّسْجِ فَالْغَالِبُ نَجَاسَةُ هَذَا الْقُمَاشِ ، وَالنَّادِرُ سَلَامَتُهُ عَنْ النَّجَاسَةِ ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ مَالِكٌ فَقَالَ مَا أَدْرَكْت أَحَدًا يَتَحَرَّزُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي مِثْلِ هَذَا فَأَثْبَتَ الشَّارِعُ حُكْمَ النَّادِرِ ، وَأَلْغَى حُكْمَ الْغَالِبِ ، وَجَوَّزَ لُبْسَهُ تَوْسِعَةً عَلَى الْعِبَادِ .
( الثَّامِنُ ) مَا يَصْنَعُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ فِي أَوَانِيهِمْ ، وَبِأَيْدِيهِمْ الْغَالِبُ نَجَاسَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ ، وَالنَّادِرُ طَهَارَتُهُ ، وَمَعَ ذَلِكَ أَثْبَتَ الشَّرْعُ حُكْمَ النَّادِرِ ، وَأَلْغَى حُكْمَ الْغَالِبِ ، وَجَوَّزَ أَكْلَهُ تَوْسِعَةً عَلَى الْعِبَادِ .
( التَّاسِعُ ) مَا يَصْنَعُهُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ ، وَلَا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ ، وَلَا يَتَحَرَّزُونَ مِنْ النَّجَاسَاتِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ الْغَالِبُ نَجَاسَتُهَا ، وَالنَّادِرُ سَلَامَتُهَا فَأَلْغَى الشَّارِعُ حُكْمَ الْغَالِبِ ، وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ ، وَجَوَّزَ أَكْلَهَا تَوْسِعَةً وَرَحْمَةً عَلَى الْعِبَادِ .
( الْعَاشِرُ ) مَا يَنْسِجُهُ الْمُسْلِمُونَ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ الْغَالِبُ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ ، وَقَدْ أَثْبَتَ الشَّرْعُ حُكْمَ النَّادِرِ ، وَأَلْغَى حُكْمَ الْغَالِبِ ، وَجَوَّزَ الصَّلَاةَ فِيهِ لُطْفًا بِالْعِبَادِ ( الْحَادِيَ عَشَرَ ) مَا يَصْبُغُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ الْغَالِبُ نَجَاسَتُهُ ،

وَهُوَ أَشَدُّ مِمَّا يَنْسِجُونَهُ لِكَثْرَةِ الرُّطُوبَاتِ النَّاقِلَةِ لِلنَّجَاسَةِ ، وَأَلْغَى الشَّارِعُ حُكْمَ الْغَالِبِ ، وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ رِفْقًا بِالْعِبَادِ فَجَوَّزَ الصَّلَاةَ فِيهَا .
( الثَّانِي عَشَرَ ) مَا يَصْنَعُهُ الْعَوَامُّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ ، وَلَا يَتَحَرَّزُونَ مِنْ النَّجَاسَاتِ الْغَالِبِ نَجَاسَتُهُ ، وَالنَّادِرُ سَلَامَتُهُ فَجَوَّزَ الشَّرْعُ الصَّلَاةَ فِيهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ النَّادِرِ عَلَى الْغَالِبِ تَوْسِعَةً وَلُطْفًا بِالْعِبَادِ ( الثَّالِثَ عَشَرَ ) مَا يَلْبَسُهُ النَّاسُ ، وَيُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَلَا يُعْلَمُ لَابِسُهُ كَافِرٌ أَوْ مُسْلِمٌ يُحْتَاطُ وَيُتَحَرَّزُ مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَهْلِ الْبِلَادِ الْعَوَامُّ وَالْفَسَقَةُ وَتُرَّاكُ الصَّلَاةِ فِيهَا ، وَمَنْ لَا يَتَحَرَّزُ مِنْ النَّجَاسَاتِ فَالْغَالِبُ نَجَاسَةُ هَذَا الْمَلْبُوسِ ، وَالنَّادِرُ سَلَامَتُهُ فَأَثْبَتَ الشَّارِعُ حُكْمَ النَّادِرِ ، وَأَلْغَى حُكْمَ الْغَالِبِ لُطْفًا بِالْعِبَادِ .
( الرَّابِعَ عَشَرَ ) الْحُصْرُ وَالْبُسُطُ الَّتِي قَدْ اسْوَدَّتْ مِنْ طُولِ مَا قَدْ لُبِسَتْ يَمْشِي عَلَيْهَا الْحُفَاةُ وَالصِّبْيَانُ ، وَمَنْ يُصَلِّي ، وَمَنْ لَا يُصَلِّي الْغَالِبُ مُصَادَفَتُهَا لِلنَّجَاسَةِ ، وَالنَّادِرُ سَلَامَتُهَا ، وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّى عَلَى حَصِيرٍ قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ بَعْدَ أَنْ نَضَحَهُ بِمَاءٍ ، وَالنَّضْحُ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ بَلْ يَنْشُرُهَا فَقَدَّمَ الشَّرْعُ حُكْمَ النَّادِرِ عَلَى حُكْمِ الْغَالِبِ .
( الْخَامِسَ عَشَرَ ) الْحُفَاةُ الْغَالِبُ مُصَادَفَتُهُمْ النَّجَاسَةَ ، وَلَوْ فِي الطَّرَقَاتِ وَمَوَاضِعِ قَضَاءِ الْحَاجَاتِ ، وَالنَّادِرُ سَلَامَتُهُمْ ، وَمَعَ ذَلِكَ جَوَّزَ الشَّرْعُ صَلَاةَ الْحَافِي كَمَا جَوَّزَ لَهُ الصَّلَاةَ بِنَعْلِهِ مِنْ غَيْرِ غَسْلِ رِجْلَيْهِ ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَمْشِي حَافِيًا ، وَلَا يَعِيبُ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ لِأَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي

بِنَعْلِهِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَفَاءَ أَخَفُّ مِنْ تَحَمُّلِ النَّجَاسَةِ مِنْ النِّعَالِ فَقَدَّمَ الشَّارِعُ حُكْمَ النَّادِرِ عَلَى الْغَالِبِ تَوْسِعَةً عَلَى الْعِبَادِ ( السَّادِسَ عَشَرَ ) دَعْوَى الصَّالِحِ الْوَلِيِّ التَّقِيِّ عَلَى الْفَاجِرِ الشَّقِيِّ الْغَاصِبِ الظَّالِمِ دِرْهَمًا الْغَالِبُ صِدْقُهُ ، وَالنَّادِرُ كَذِبُهُ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدَّمَ الشَّرْعُ حُكْمَ النَّادِرِ عَلَى الْغَالِبِ ، وَجَعَلَ الشَّرْعُ الْقَوْلَ قَوْلُ الْفَاجِرِ لُطْفًا بِالْعِبَادِ بِإِسْقَاطِ الدَّعَاوَى عَنْهُمْ ، وَانْدِرَاجُ الصَّالِحِ مَعَ غَيْرِهِ سَدًّا لِبَابِ الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ بِالدَّعَاوَى الْكَاذِبَةِ .
( السَّابِعَ عَشَرَ ) عَقْدُ الْجِزْيَةِ لِتَوَقُّعِ إسْلَامِ بَعْضِهِمْ ، وَهُوَ نَادِرٌ ، وَالْغَالِبُ اسْتِمْرَارُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَمَوْتُهُمْ عَلَيْهِ بَعْدَ الِاسْتِمْرَارِ فَأَلْغَى الشَّارِعُ حُكْمَ الْغَالِبِ ، وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ رَحْمَةً بِالْعِبَادِ فِي عَدَمِ تَعْجِيلِ الْقَتْلِ وَحَسْمِ مَادَّةِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ .
( الثَّامِنَ عَشَرُ ) الِاشْتِغَالُ بِالْعِلْمِ مَأْمُورٌ بِهِ مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى النَّاسِ الرِّيَاءُ ، وَعَدَمُ الْإِخْلَاصِ ، وَالنَّادِرُ الْإِخْلَاصُ ، وَمُقْتَضَى الْغَالِبِ النَّهْيُ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لِلرِّيَاءِ ، وَوَسِيلَةُ الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ فَلَمْ يَعْتَبِرْهُ الشَّارِعُ ، وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ ( التَّاسِعَ عَشَرَ ) الْمُتَدَاعِيَانِ أَحَدُهُمَا كَاذِبٌ قَطْعًا ، وَالْغَالِبُ أَنَّ أَحَدَهُمَا يَعْلَمُ بِكَذِبِهِ ، وَالنَّادِرُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَعَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شُبْهَةٌ ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ تَحْلِيفُهُ سَعْيًا فِي وُقُوعِ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ الْمُحَرَّمَةِ فَيَكُونُ حَرَامًا غَايَتُهُ أَنَّهُ يُعَارِضُهُ أَخْذُ الْحَقِّ ، وَإِلْجَاؤُهُ إلَيْهِ ، وَذَلِكَ إمَّا مُبَاحٌ أَوْ وَاجِبٌ ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْمُحَرَّمُ ، وَالْوَاجِبُ قُدِّمَ الْمُحَرَّمُ ، وَمَعَ ذَلِكَ أَلْغَى الشَّارِعُ حُكْمَ الْغَالِبِ ، وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ لُطْفًا بِالْعِبَادِ عَلَى تَخْلِيصِ حُقُوقِهِمْ ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ

فِي اللِّعَانِ الْغَالِبِ أَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ يُعْلَمُ كَذِبُهُ ، وَمَعَ ذَلِكَ يُشْرَعُ اللِّعَانُ .
( الْعِشْرُونَ ) غَالِبُ الْمَوْتِ فِي الشَّبَابِ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ ، وَلِذَلِكَ الشُّيُوخُ أَقَلُّ يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ الشُّبَّانُ يَعِيشُونَ لَصَارُوا شُيُوخًا فَتَكْثُرُ الشُّيُوخُ فَلَمَّا كَانَ الشُّيُوخُ فِي الْوُجُودِ أَقَلَّ كَانَ مَوْتُ الْإِنْسَانِ شَابًّا أَكْثَرَ ، وَحَيَاتُهُ لِلشَّيْخُوخَةِ نَادِرًا ، وَمَعَ ذَلِكَ شَرَعَ صَاحِبُ الشَّرْعِ التَّعْمِيرَ فِي الْغَائِبِينَ إلَى سَبْعِينَ سَنَةً إلْغَاءً لِحُكْمِ الْغَالِبِ وَإِثْبَاتًا لِحُكْمِ النَّادِرِ لُطْفًا بِالْعِبَادِ فِي إبْقَاءِ مَصَالِحِهِمْ عَلَيْهِمْ ، وَنَظَائِرُ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَأَمَّلَ وَتَعْلَمَ فَقَدْ غَفَلَ عَنْهَا قَوْمٌ فِي الطِّهَارَاتِ فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ الْوَسْوَاسُ ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى قَاعِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَهِيَ الْحُكْمُ بِالْغَالِبِ فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى النَّاسِ وَالْأَوَانِي وَالْكُتُبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُلَابِسُونَهُ النَّجَاسَةُ فَيَغْسِلُونَ ثِيَابَهُمْ ، وَأَنْفُسَهُمْ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ ، وَهُوَ غَالِبٌ كَمَا قَالُوا ، وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ النَّادِرَ الْمُوَافِقَ لِلْأَصْلِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا فِي النَّفْسِ ، وَظَنُّهُ مَعْدُومُ النِّسْبَةِ لِلظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْ الْغَالِبِ لَكِنْ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ أَنْ يَضَعَ فِي شَرْعِهِ مَا شَاءَ ، وَيَسْتَثْنِي مِنْ قَوَاعِدِهِ مَا شَاءَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَصَالِح عِبَادِهِ فَيَنْبَغِي لِمَنْ قَصَدَ إثْبَاتَ حُكْمِ الْغَالِبِ دُونَ النَّادِرِ أَنْ يَنْظُرَ هَلْ ذَلِكَ الْغَالِبُ مِمَّا أَلْغَاهُ الشَّرْعُ أَمْ لَا ، وَحِينَئِذٍ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا مُطْلَقُ الْغَالِبِ كَيْفَ كَانَ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ فَخِلَافُ الْإِجْمَاعِ .
( تَنْبِيهٌ ) لَيْسَ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ النَّادِرِ عَلَى الْغَالِبِ حَمَلَ اللَّفْظَ عَلَى حَقِيقَتِهِ دُونَ مَجَازِهِ ، وَعَلَى الْعُمُومِ دُونَ الْخُصُوصِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مِنْهُ لِغَلَبَةِ الْمَجَازِ عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ

حَتَّى قَالَ ابْنُ جِنِّي كَلَامُ الْعَرَبِ كُلُّهُ مَجَازٌ ، وَغَلَبَةُ الْخُصُوصَاتِ عَلَى الْعُمُومَاتِ حَتَّى رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ مَا مِنْ عَامٍّ إلَّا ، وَقَدْ خُصَّ إلَّا قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وَإِذَا غَلَبَ الْمَجَازُ وَالتَّخْصِيصُ فَيَنْبَغِي إذَا ظَفِرْنَا بِلَفْظٍ ابْتِدَاءً أَنْ نَحْمِلَهُ عَلَى مَجَازِهِ تَغْلِيبًا لِلْغَالِبِ عَلَى النَّادِرِ ، وَلَا نَحْمِلْهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّهُ النَّادِرُ ، وَنَحْمِلُ الْعُمُومَ ابْتِدَاءً عَلَى التَّخْصِيصِ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ ، وَلَا نَحْمِلُهُ عَلَى الْعُمُومِ لِأَنَّهُ نَادِرٌ فَحَيْثُ عَكَسْنَا كَانَ ذَلِكَ تَغْلِيبًا لِلنَّادِرِ عَلَى الْغَالِبِ ( وَالْجَوَابُ ) عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَسَبَبُهُ أَنَّ شَرْطَ الْفَرْدِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ النَّادِرِ وَالْغَالِبِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْغَالِبِ ، وَإِلَّا فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ بَيَانُهُ بِالْمِثَالِ أَنَّ الشُّقَّةَ إذَا جَاءَتْ مِنْ الْقَصَّارِ جَازَ أَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً ، وَهُوَ الْغَالِبُ أَوْ نَجِسَةً ، وَهُوَ النَّادِرُ أَنْ يُصِيبَهَا بَوْلُ فَأْرٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ فَإِنَّا نَحْكُمُ بِطَهَارَتِهَا بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ لِأَنَّ حُكْمَنَا بِطَهَارَةِ الثِّيَابِ الْمَقْصُورَةِ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ الْقِصَارَةِ ، وَهَذَا الثَّوْبُ الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ النَّادِرِ وَالْغَالِبِ خَرَجَ مِنْ الْقِصَارَةِ فَكَانَ مِنْ جِنْسِ الْغَالِبِ الَّذِي قَضَيْنَا بِطَهَارَتِهِ فَيُلْحَقُ بِهِ أَمَّا لَوْ كُنَّا لَا نَقْضِي بِطَهَارَةِ الثِّيَابِ الْمَقْصُورَةِ لِكَوْنِهَا خَرَجَتْ مِنْ الْقِصَارَةِ بَلْ لِأَنَّهَا تُغْسَلُ بَعْد ذَلِكَ ، وَهَذَا الثَّوْبُ الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ النَّادِرِ وَالْغَالِبِ لَمْ يُغْسَلْ فَإِنَّا هُنَا لَا نَقْضِي بِطَهَارَتِهِ لِأَجْلِ عَدَمِ الْغُسْلِ بَعْدَ الْقِصَارَةِ الَّذِي لِأَجْلِهِ حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهِ فَهُوَ حِينَئِذٍ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْغَالِبِ الَّذِي قَضَيْنَا بِطَهَارَتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَغْسُولٌ بَعْدَ الْقِصَارَةِ ، وَهَذَا الثَّوْبُ غَيْرُ مَغْسُولٍ كَذَلِكَ فِي الْأَلْفَاظِ

فَإِذَا لَمْ نَقْضِ عَلَى لَفْظٍ بِأَنَّهُ مَجَازٌ أَوْ مَخْصُوصٌ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ لَفْظًا بَلْ لِأَجْلِ اقْتِرَانِهِ بِالْقَرِينَةِ الصَّادِرَةِ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ ، وَاقْتِرَانُ الْمُخَصِّصِ الصَّارِفِ عَنْ الْعُمُومِ لِلتَّخْصِيصِ ، وَهَذَا اللَّفْظُ الْوَارِدُ ابْتِدَاءً الَّذِي حَمَلْنَاهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ دُونَ مَجَازِهِ ، وَالْعُمُومُ دُونَ الْخُصُوصِ لَيْسَ مَعَهُ صَارِفٌ مِنْ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عَنْ الْحَقِيقَةِ ، وَلَا مُخَصِّصٌ صَارِفٌ عَنْ الْعُمُومِ فَهُوَ حِينَئِذٍ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الْغَالِبِ فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمَجَازِ أَوْ التَّخْصِيصِ لَحَمَلْنَاهُ عَلَى غَيْرِ غَالِبٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لَفْظٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَفْظٌ حُمِلَ عَلَى الْمَجَازِ ، وَلَا عَلَى الْخُصُوصِ أَلْبَتَّةَ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ غَالِبًا بَلْ هَذَا اللَّفْظُ قَاعِدَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا لَيْسَ فِيهَا غَالِبٌ ، وَنَادِرٌ بَلْ شَيْءٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْحَقِيقَةُ مُطْلَقًا ، وَالْعُمُومُ مُطْلَقًا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهُوَ شَرْطٌ خَفِيٌّ فِي حَمْلِ الشَّيْءِ عَلَى غَالِبِهِ دُونَ نَادِرِهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ بِالْمِثَالِ فَظَهَرَ أَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ دُونَ مَجَازِهِ ابْتِدَاءً ، وَالْعُمُومُ دُونَ الْخُصُوصِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْحَمْلِ عَلَى النَّادِرِ دُونَ الْغَالِبِ ، وَلَقَدْ أَوْرَدْت هَذَا السُّؤَالَ عَلَى جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فَلَمْ يَحْصُلْ عَنْهُ جَوَابٌ ، وَهُوَ سُؤَالٌ حَسَنٌ ، وَجَوَابُهُ حَسَنٌ جِدًّا .
( الْقِسْمُ الثَّانِي ) مَا أَلْغَى الشَّارِعُ الْغَالِبَ وَالنَّادِرَ مَعًا فِيهِ ، وَأَنَا أَذْكُرُ مِنْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عِشْرِينَ مِثَالًا ( الْأَوَّلُ ) شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ فِي الْأَمْوَالِ إذَا كَثُرَ عَدَدُهُمْ جِدًّا الْغَالِبُ صِدْقُهُمْ ، وَالنَّادِرُ كَذِبُهُمْ ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ الشَّرْعُ صِدْقَهُمْ ، وَلَا قَضَى بِكَذِبِهِمْ بَلْ أَهْمَلَهُمْ رَحْمَةً بِالْعِبَادِ ، وَرَحْمَةً بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَأَمَّا فِي الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ فَقَبِلَهُمْ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ كَمَا

تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
( الثَّانِي ) شَهَادَةُ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنْ جَمَاعَةِ النِّسْوَانِ فِي أَحْكَامِ الْأَبْدَانِ الْغَالِبُ صِدْقُهُنَّ ، وَالنَّادِرُ كَذِبُهُنَّ لَا سِيَّمَا مَعَ الْعَدَالَةِ ، وَقَدْ أَلْغَى صَاحِبُ الشَّرْعِ صِدْقُهُنَّ فَلَمْ يَحْكُمْ بِهِ ، وَلَا حَكَمَ بِكَذِبِهِنَّ لُطْفًا بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ .
( الثَّالِثُ ) الْجَمْعُ الْكَثِيرُ مِنْ الْكُفَّارِ وَالرُّهْبَانِ وَالْأَحْبَارِ إذَا شَهِدُوا الْغَالِبُ صِدْقُهُمْ ، وَالنَّادِرُ كَذِبُهُمْ فَأَلْغَى صَاحِبُ الشَّرْعِ صِدْقَهُمْ لُطْفًا بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِكَذِبِهِمْ .
( الرَّابِعُ ) شَهَادَةُ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنْ الْفَسَقَةِ الْغَالِبُ صِدْقُهُمْ ، وَلَمْ يَحْكُمْ الشَّرْعُ بِهِ لُطْفًا بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِكَذِبِهِمْ ( الْخَامِسُ ) شَهَادَةُ ثَلَاثَةِ عُدُولٍ فِي الزِّنَا الْغَالِبُ صِدْقُهُمْ ، وَلَمْ يَحْكُمْ الشَّرْعُ بِهِ سَتْرًا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِكَذِبِهِمْ بَلْ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ قَذَفُوهُ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ شُهُودُ زُورٍ ( السَّادِسُ ) شَهَادَةُ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ فِي أَحْكَامِ الْأَبْدَانِ الْغَالِبُ صِدْقُهُ ، وَالنَّادِرُ كَذِبُهُ ، وَلَمْ يَحْكُمْ الشَّرْعُ بِصِدْقِهِ لُطْفًا بِالْعِبَادِ ، وَلُطْفًا بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُكَذِّبْهُ .
( السَّابِعُ ) حَلَّفَ الْمُدَّعِي الطَّالِبَ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ الْغَالِبُ صِدْقُهُ ، وَالنَّادِرُ كَذِبُهُ ، وَلَمْ يَقْضِ الشَّارِعُ بِصِدْقِهِ فَيَحْكُمُ لَهُ بِيَمِينِهِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِكَذِبِهِ لُطْفًا بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ .
( الثَّامِنُ ) رِوَايَةُ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ لِخَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ الْمُتَدَيِّنِينَ الْمُعْتَقِدِينَ لِتَحْرِيمِ الْكَذِبِ فِي دِينِهِمْ الْغَالِبِ صِدْقُهُمْ وَالنَّادِرُ كَذِبُهُمْ ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ الشَّرْعُ صِدْقَهُمْ لُطْفًا بِالْعِبَادِ وَسَدًّا لِذَرِيعَةِ أَنْ يَدْخُلَ فِي دِينِهِمْ مَا لَيْسَ مِنْهُ .
( التَّاسِعُ ) رِوَايَةُ الْجَمْعِ

الْكَثِيرِ مِنْ الْفَسَقَةِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ ، وَهُمْ رُؤَسَاءُ عُظَمَاءُ فِي الْوُجُودِ كَالْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ الْغَالِبُ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الرِّوَايَةِ الْوَاحِدَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِدْقُهُمْ فَإِنْ أَتَاهُمْ وَازِعٌ طَبِيعِيٌّ يَمْنَعُهُمْ الْكَذِبَ ، وَغَيْرَهُ لَا تَدَيُّنًا ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ صَوْنًا لِلْعِبَادِ عَنْ أَنْ يَدْخُلَ فِي دِينِهِمْ مَا لَيْسَ مِنْهُ بَلْ جَعَلَ الضَّابِطَ الْعَدَالَةَ ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِكَذِبِ هَؤُلَاءِ ( الْعَاشِرُ ) رِوَايَةُ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنْ الْجَاهِلِينَ لِلْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الْغَالِبُ صِدْقُهُمْ ، وَالنَّادِرُ كَذِبُهُمْ وَلَمْ يَحْكُمْ الشَّرْعُ بِصِدْقِهِمْ وَلَا بِكَذِبِهِمْ .
( الْحَادِيَ عَشَرَ ) أَخْذُ السُّرَّاقِ الْمُتَّهَمِينَ بِالتُّهَمِ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهِمْ كَمَا يَفْعَلُهُ الْأُمَرَاءُ الْيَوْمَ دُونَ الْإِقْرَارِ الصَّحِيحِ وَالْبَيِّنَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ الْغَالِبُ مُصَادَفَتُهُ لِلصَّوَابِ ، وَالنَّادِرُ خَطَؤُهُ ، وَمَعَ ذَلِكَ أَلْغَاهُ الشَّرْعُ صَوْنًا لِلْأَعْرَاضِ وَالْأَطْرَافِ عَنْ الْقَطْعِ ( الثَّانِيَ عَشَرَ ) أَخْذُ الْحَاكِمُ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مِنْ التَّظَلُّمِ وَكَثْرَةِ الشَّكْوَى وَالْبُكَاءِ مَعَ كَوْنِ الْخَصْمِ مَشْهُورًا بِالْفَسَادِ وَالْعِنَادِ الْغَالِبُ مُصَادَفَتُهُ لِلْحَقِّ ، وَالنَّادِرُ خَطَؤُهُ ، وَمَعَ ذَلِكَ مَنَعَهُ الشَّارِعُ مِنْهُ وَحَرَّمَهُ ، وَلَا يَضُرُّ الْحَاكِمَ ضَيَاعُ حَقٍّ لَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ .
( الثَّالِثَ عَشَرَ ) الْغَالِبُ عَلَى مَنْ وُجِدَ بَيْنَ فَخِذَيْ امْرَأَةِ ، وَهُوَ مُتَحَرِّكٌ حَرَكَةَ الْوَاطِئِ ، وَطَالَ الزَّمَانُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ أَوْلَجَ ، وَالنَّادِرُ عَدَمُ ذَلِكَ فَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَلْغَى الشَّارِعُ هَذَا الْغَالِبَ سَتْرًا عَلَى عِبَادِهِ ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِوَطْئِهِ ، وَلَا بِعَدَمِهِ ( الرَّابِعَ عَشَرَ ) شَهَادَةُ الْعَدْلِ الْمُبَرَّزِ لِوَلَدِهِ الْغَالِبُ صِدْقُهُ ، وَالنَّادِرُ كَذِبُهُ ، وَقَدْ أَلْغَاهُ الشَّارِعُ ، وَأَلْغَى كَذِبَهُ ، وَلَمْ يَحْكُمْ

بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا .
( الْخَامِسَ عَشَرَ ) شَهَادَةُ الْعَدْلِ الْمُبَرَّزِ لِوَالِدِهِ الْغَالِبُ صِدْقُهُ ، وَلَمْ يَحْكُمْ الشَّرْعُ بِصِدْقِهِ وَلَا بِكَذِبِهِ بَلْ أَلْغَاهُمَا جُمْلَةً .
( السَّادِسَ عَشَرَ ) شَهَادَةُ الْعَدْلِ الْمُبَرَّزِ عَلَى خَصْمِهِ الْغَالِبُ صِدْقُهُ ، وَقَدْ أَلْغَى الشَّارِعُ صِدْقَهُ وَكَذِبَهُ .
( السَّابِعَ عَشَرَ ) شَهَادَةُ الْحَاكِمِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ إذَا عُزِلَ ، وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ مُطْلَقًا إذَا وَقَعَتْ مِنْ الْعَدْلِ الْمُبَرَّزِ الْغَالِبُ صِدْقُهُ ، وَقَدْ أَلْغَاهُ الشَّارِعُ فِي صِدْقِهِ وَكَذِبِهِ ( الثَّامِنَ عَشَرَ ) حُكْمُ الْقَاضِي لِنَفْسِهِ ، وَهُوَ عَدْلٌ مُبْرِزٌ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى وَالْوَرَعِ الْغَالِبُ أَنَّهُ إنَّمَا حَكَمَ بِالْحَقِّ ، وَالنَّادِرُ خِلَافُهُ ، وَقَدْ أَلْغَى الشَّرْعُ ذَلِكَ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِهِ وَصِحَّتِهِ مَعًا ( التَّاسِعَ عَشَرَ ) الْقُرْءُ الْوَاحِدُ فِي الْعَدَدِ الْغَالِبُ مَعَهُ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ ، وَالنَّادِرُ شَغْلُهُ ، وَلَمْ يَحْكُمْ الشَّارِعُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَنْضَافَ إلَيْهِ قُرْءَانِ آخَرَانِ .
( الْعِشْرُونَ ) مَنْ غَابَ عَنْ امْرَأَتِهِ سِنِينَ ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا الْغَالِبُ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا ، وَالنَّادِرُ شُغْلُهُ بِالْوَلَدِ ، وَقَدْ أَلْغَاهُمَا صَاحِبُ الشَّرْعِ مَعًا ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهَا اسْتِئْنَافَ الْعِدَّةِ بَعْدَ الْوَفَاءِ أَوْ الطَّلَاقِ لِأَنَّ وُقُوعَ الْحُكْمِ قَبْلَ سَبَبِهِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ ، وَنَظَائِرُ فِي الشَّرْعِ كَثِيرَةٌ مِنْ الْغَالِبِ أَلْغَاهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ ، وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ ، وَتَارَةً بَالَغَ فِي إلْغَائِهِ فَاعْتُبِرَ نَادِرُهُ دُونَهُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَهَذِهِ أَرْبَعُونَ مِثَالًا قَدْ سَرَدْتهَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَرْبَعِينَ جِنْسًا فَهِيَ أَرْبَعُونَ جِنْسًا قَدْ أُلْغِيَتْ ( فَإِنْ قُلْت ) أَنْتَ تَعَرَّضْت لِلْفَرْقِ بَيْنَ مَا أُلْغِيَ مِنْهُ ، وَمَا لَمْ يَلْغُ ، وَلَمْ تَذْكُرْهُ بَلْ ذَكَرْت أَجْنَاسًا أُلْغِيَتْ خَاصَّةً فَمَا الْفَرْقُ ، وَكَيْفَ الِاعْتِمَادُ فِي ذَلِكَ ( قُلْت ) الْفَرْقُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامُ لَا يَتَيَسَّرُ عَلَى

الْمُبْتَدَئِينَ ، وَلَا عَلَى ضَعَفَةِ الْفُقَهَاءِ ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ الْغَالِبِ ، وَهَذِهِ الْأَجْنَاسُ الَّتِي ذَكَرْت اسْتِثْنَاؤُهَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ، وَإِذَا وَقَعَ لَك غَالِبٌ ، وَلَا تَدْرِي هَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا أُلْغِيَ أَوْ مِنْ قَبِيلِ مَا اُعْتُبِرَ فَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَسْتَقْرِيَ مَوَارِدَ النُّصُوصِ ، وَالْفَتَاوَى اسْتِقْرَاءً حَسَنًا مَعَ أَنَّك تَكُونُ حِينَئِذٍ وَاسِعَ الْحِفْظِ جَيِّدَ الْفَهْمِ فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ لَك إلْغَاؤُهُ فَاعْتَقِدْ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ ، وَهَذَا الْفَرْقُ لَا يَحْصُلُ إلَّا لِمُتَّسِعٍ فِي الْفِقْهِيَّاتِ وَالْمَوَارِدِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَإِنَّمَا أَوْرَدْت هَذِهِ الْأَجْنَاسَ حَتَّى تَعْتَقِدَ أَنَّ الْغَالِبَ وَقَعَ مُعْتَبَرًا شَرْعًا ، وَنَجْزِمُ أَيْضًا بِشَيْئَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ إذَا دَارَ الشَّيْءُ بَيْنَ النَّادِرِ وَالْغَالِبِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُ بِالْغَالِبِ ( ثَانِيهِمَا ) قَوْلُ الْفُقَهَاءِ إذَا اجْتَمَعَ الْأَصْلُ ، وَالْغَالِبُ فَهَلْ يَغْلِبُ الْأَصْلُ عَلَى الْغَالِبِ أَوْ الْغَالِبُ عَلَى الْأَصْلِ قَوْلَانِ فَقَدْ ظَهَرَ لَك أَجْنَاسٌ كَثِيرَةٌ اتَّفَقَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقَلِّ ، وَأَلْغَاهُ الْغَالِبُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي اعْتَبَرْنَا رَدَّهُ فَلَا تَكُونُ تِلْكَ الدَّعْوَى عَلَى عُمُومِهَا ، وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ أَيْضًا عَلَى تَقْدِيمِ الْغَالِبِ عَلَى الْأَوَّلِ فِي أَمْرِ الْبَيِّنَةِ فَإِنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهَا ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ، وَمَعَ ذَلِكَ تَقَدُّمُ الْبَيِّنَةِ إجْمَاعًا فَهُوَ أَيْضًا تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ تِلْكَ الدَّعْوَى فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ بَيَانِ هَذَا الْفَرْقِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاطِنِ .

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا اُعْتُبِرَ مِنْ الْغَالِبِ وَبَيْنَ مَا أُلْغِيَ مِنْ الْغَالِبِ أَمَّا مَعَ اعْتِبَارِ النَّادِرِ أَوْ مَعَ إلْغَائِهِ أَيْضًا ) : وَذَلِكَ كَمَا فِي الْأَصْلِ ، وَسَلَّمَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا لَا يَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُبْتَدَئِينَ ، وَلَا عَلَى ضَعْفَةِ الْفُقَهَاءِ بَلْ لَا يَحْصُلُ إلَّا لِمُتَّسِعٍ فِي الْفَقِيهَاتِ ، وَالْمَوَارِدِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ الْغَالِبِ ، وَتَقْدِيمُهُ عَلَى النَّادِرِ ، وَهُوَ شَأْنُ الشَّرِيعَةِ ، وَأَمْثِلَتُهُ لَا تُحْصَى كَثْرَةً مِنْهَا تَقْدِيمُ طَهَارَةِ الْمِيَاهِ ، وَعُقُودِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ وَمِنْهَا أَنَّهُ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ ، وَيُفْطِرُ بِنَاءً عَلَى غَالِبِ الْحَالِ ، وَهُوَ الْمَشَقَّةُ وَمِنْهَا أَنَّهُ يَمْنَعُ شَهَادَةَ الْأَعْدَاءِ ، وَالْخُصُومِ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُمْ الْحَيْفُ ، وَلَكِنْ جَرَى عَلَى خِلَافِ هَذَا الْأَصْلِ أَجْنَاسُ كَثِيرَةٌ اُسْتُثْنِيَتْ مِنْهُ سَتَتَّضِحُ لَك فَإِذَا وَقَعَ لَك غَالِبٌ ، وَلَا تَدْرِي هَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا أُلْغِيَ أَوْ مِنْ قَبِيلِ مَا اُعْتُبِرَ فَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَسْتَقْرِيَ مَوَارِدَ النُّصُوصِ ، وَالْفَتَاوَى اسْتِقْرَاءً حَسَنًا ، وَلَا يَتَأَتَّى لَك ذَلِكَ إلَّا إذَا كُنْت حِينَئِذٍ وَاسِعَ الْحِفْظِ جَيِّدَ الْفَهْمِ فَإِذَا تَحَقَّقَتْ بِذَلِكَ إلْغَاؤُهُ فَذَاكَ ظَاهِرٌ ، وَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ لَك إلْغَاؤُهُ فَاعْتَقِدْ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ ، وَالْأَجْنَاسُ الْمُسْتَثْنَاةُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ عَلَى قِسْمَيْنِ ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) مَا أَلْغَى الشَّرْعُ فِيهِ الْغَالِبَ ، وَقَدَّمَ النَّادِرَ عَلَيْهِ أَيْ أَثْبَتَ الشَّرْعُ فِيهِ حُكْمَ النَّادِرِ دُونَ حُكْمِ الْغَالِبِ رَحْمَةً بِالْعِبَادِ ( وَالْقِسْمُ الثَّانِي ) مَا أَلْغَى الشَّرْعُ فِيهِ الْغَالِبَ ، وَالنَّادِرَ مَعًا رِعَايَةً لِلضَّرُورَةِ وَرَحْمَةً بِالْعِبَادِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِسْمَيْنِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ تَفْتَقِرُ عَلَى التَّمْثِيلِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِعِشْرِينَ

مِثَالًا فِي الْوَصْلَيْنِ الِاثْنَيْنِ لِتَجْزِمَ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ إذَا دَارَ الشَّيْءُ بَيْنَ النَّادِرِ وَالْغَالِبِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُ بِالْغَالِبِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ قُلْت بَلْ مُقَيَّدٌ بِثَلَاثَةِ قُيُودٍ : ( الْأَوَّلِ ) أَنْ يَطَّرِدَ الْغَالِبُ بِمُخَالَفَةِ الْأَصْلِ الثَّانِي أَنْ تَكْثُرَ أَسْبَابُهُ الثَّالِثِ أَنْ لَا يَكُونَ مَعَ النَّادِرِ مَا يَعْتَضِدُ بِهِ ، وَإِلَّا قُدِّمَ عَلَى الْغَالِبِ عَمَلًا بِالتَّرْجِيحِ لِتَعَيُّنِهِ كَمَا يُؤْخَذُ مِمَّا نَقَلَهُ الْعَطَّارُ عَلَى مَحَلِّيٍّ جَمْعِ الْجَوَامِعِ عَنْ قَوَاعِدِ الزَّرْكَشِيّ ( الثَّانِي ) أَنَّ قَوْلَ الْفُقَهَاءِ إذَا اجْتَمَعَ الْأَصْلُ ، وَالْغَالِبُ فَهَلْ يُغَلَّبُ الْأَصْلُ عَلَى الْغَالِبِ أَوْ الْغَالِبُ عَلَى الْأَصْلِ قَوْلَانِ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَفِي الْعَطَّارِ عَلَى مَحَلِّيٍّ جَمْعِ الْجَوَامِعِ عَنْ قَوَاعِدِ الزَّرْكَشِيّ بَلْ لِجَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ الْأَوَّلُ أَنْ لَا تَطَّرِدَ الْعَادَةُ بِمُخَالَفَةِ الْأَصْلِ ، وَإِلَّا قُدِّمَ حُكْمُ الْعَادَةِ ، وَالْغَالِبُ قَطْعًا ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَاءُ الْهَارِبُ فِي الْحَمَّامِ لِاطِّرَادِ الْعَادَةِ بِالْبَوْلِ فِيهِ ( الثَّانِي ) أَنْ تَكْثُرَ أَسْبَابُ الظَّاهِرِ ، وَالْغَالِبِ فَإِنْ نَدَرَتْ لَمْ يَنْظُرْ إلَيْهِ قَطْعًا ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا إذَا تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْحَدَثُ اتَّفَقَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ لَهُ الْأَخْذَ بِالْوُضُوءِ ، وَلَمْ يُجْرُوا فِيهِ الْقَوْلَيْنِ كَمَا أَجْرَوْهُمَا فِيمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ نَجَاسَتُهُ هَلْ يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ ، وَفَرَّقَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ الْأَسْبَابَ الَّتِي تَظْهَرُ بِالنَّجَاسَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا ، وَهِيَ قَلِيلَةٌ فِي الْأَحْدَاثِ ، وَلَا أَثَرَ لِلنَّادِرِ ، وَالتَّمَسُّكُ بِاسْتِصْحَابِ الْيَقِينِ أَوْلَى ( الثَّالِثُ ) أَنْ لَا يَكُونَ مَعَ أَحَدِهِمَا مَا يَعْتَضِدُ بِهِ ، وَإِلَّا فَالْعَمَلُ بِالتَّرْجِيحِ مُتَعَيَّنٌ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فَإِذَا جَزَمَتْ بِذَلِكَ عَلِمْت أَنَّ الضَّابِطَ فِيمَا يَجْرِي قَوْلَانِ فِيهِ ، وَمَا لَا

يَجْرِيَانِ فِيهِ هُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الظَّاهِرُ ، وَالْغَالِبُ حُجَّةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا شَرْعًا كَالشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَالْأَخْبَارِ فَهُوَ مُقَدَّمُ الْأَصْلِ قَطْعًا ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الظَّاهِرَ ، وَالْغَالِبُ حُجَّةٌ بَلْ كَانَ سَنَدُهُ الْعُرْفَ أَوْ الْقَرَائِنَ أَوْ غَلَبَةَ الظَّنِّ فَهَذِهِ يَتَفَاوَتُ أَمْرُهَا فَتَارَةً يُعْمَلُ بِالْأَصْلِ قَطْعًا ، وَتَارَةً يُعْمَلُ بِالظَّاهِرِ ، وَالْغَالِبُ قَطْعًا ، وَتَارَةً يَخْرُجُ الْخِلَافُ هَلْ يُقَدَّمُ الْأَصْلُ عَلَى الصَّحِيحِ أَوْ لَا أَوْ الظَّاهِرُ ، وَالْغَالِبُ عَلَى الصَّحِيحِ أَوَّلًا فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ ( الْأَوَّلُ ) مَا قَطَعُوا فِيهِ بِالظَّاهِرِ كَالْبَيِّنَةِ فَإِنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَمَعَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ الْمَالُ الْمَشْهُودُ بِهِ قَطْعًا لِأَنَّ الْغَالِبَ صِدْقُ الْبَيِّنَةِ ، وَهِيَ حُجَّةٌ وَكَالْيَدِ فِي الدَّعْوَى فَإِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمِلْكِ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ الْيَدِ الْمِلْكُ ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ ( الثَّانِي ) مَا قَطَعُوا فِيهِ بِالْأَصْلِ وَإِلْغَاءِ الْقَرَائِنِ الظَّاهِرَةِ كَمَا لَوْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ ، وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ أَوْ ظَنَّهُ فَإِنَّهُ يُبْنَى عَلَى تَيَقُّنِ الطَّهَارَةِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ أَوْ شَكَّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْأَكْلُ حَتَّى يَتَيَقَّنَ طُلُوعَهُ أَوْ اخْتَلَطَ الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ وَكَانَ الْحَرَامُ مَغْمُورًا أَوْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مُحَرَّمُهُ بِنِسْوَةِ قَرْيَةٍ كَبِيرَةٍ فَإِنَّ لَهُ نِكَاحَ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ فَإِنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ ، وَأَشْبَهَتْ مَيِّتَةٌ بِمُذَكَّاةِ بَلَدٍ أَوْ إنَاءُ بَوْلٍ بِأَوَانِي بَلَدٍ فَلَهُ أَخْذُ بَعْضِهَا بِالِاجْتِهَادِ قَطْعًا ( الثَّالِثُ ) مَا فِيهِ خِلَافٌ ، وَالْأَصَحُّ تَقْدِيمُ الظَّاهِرِ كَمَا لَوْ شَكَّ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي تَرْكِ فَرْضٍ مِنْهَا فَلَا يُؤَثِّرُ عَلَى الْمَشْهُورِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ جَرَيَانُهَا عَلَى الصِّحَّةِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ إتْيَانِهِ بِهِ وَكَذَا حُكْمُ غَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ كَالْوُضُوءِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ

وَكَاخْتِلَافِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ فَالْقَوْلُ لِمُدَّعِي الصِّحَّةِ عَلَى الْأَظْهَرِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْعُقُودِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الصِّحَّةُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَهَا ، وَكَمَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ ، وَلَمْ يَقْصِدْ تَأْكِيدًا ، وَلَا اسْتِئْنَافًا بَلْ أَطْلَقَ فَالْأَظْهَرُ يَقَعُ ثَلَاثٌ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْإِيقَاعِ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ ، وَلِهَذَا يُقَالُ إذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ التَّأْسِيسِ وَالتَّوْكِيدِ فَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى ، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ ، وَوَجْهُ مُقَابِلِهِ أَنَّ الْأَصْلَ الْمُتَيَقَّنَ عَدَمُ ذَلِكَ ( الرَّابِعُ ) مَا فِيهِ خِلَافٌ ، وَالْأَصَحُّ تَقْدِيمُ الْأَصْلِ ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا لَوْ شَكَّ فِي صَلَاةِ يَوْمٍ مِنْ الْأَيَّامِ الْمَاضِيَةِ هَلْ صَلَّاهَا أَمْ لَا قَالَ الرُّويَانِيُّ إنْ كَانَ مَعَ بُعْدِ الزَّمَانِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى ضَبْطِ مَا يَقَعُ مِنْهُ فِي الْمَاضِي ، وَيَغِيبُ عَلَيْهِ تَذَكُّرُهُ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ قُرْبِ الزَّمَانِ كَمَنْ شَكَّ فِي آخِرِ الْأُسْبُوعِ فِي صَلَاةِ يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِهِ وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ قَالَ بَعْضُهُمْ : وَيَنْبَغِي حَمْلُ كَلَامِ الرُّويَانِيِّ عَلَى مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ مُوَاظَبَةَ الصَّلَاةِ أَمَّا مَنْ اعْتَادَ تَرْكَهَا أَوْ بَعْضَهَا فَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا مُتَعَيَّنٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَمِنْهَا ثِيَابُ مُدْمِنِي النَّجَاسَةِ وَطِينِ الشَّارِعِ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ اخْتِلَاطُهُ بِالنَّجَاسَةِ ، وَالْمَقَابِرُ الَّتِي يَغْلِبُ نَبْشُهَا فَالْأَصَحُّ الطَّهَارَةُ ، وَلِطِينِ الشَّارِعِ أُصُولٌ يُبْنَى عَلَيْهَا ( أَحَدُهُمَا ) مَا ذُكِرَ مِنْ تَعَرُّضِ الْأَصْلِ ، وَالظَّاهِرُ ، وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ ( ثَانِيهُمَا ) طَهَارَةُ الْأَرْضِ بِالْجَفَافِ وَالرِّيحِ وَالشَّمْسِ عَلَى الْقَدِيمِ ( ثَالِثُهَا ) طَهَارَةُ النَّجَاسَةِ بِالِاسْتِحَالَةِ إذَا اُسْتُهْلِكَتْ فِيهَا عَيْنُ النَّجَاسَةِ ، وَصَارَتْ طِينًا ، وَأَمَّا الَّذِي يُظَنُّ نَجَاسَةً ، وَلَا نَتَيَقَّنُ

طَهَارَتُهُ فَقَالَ الْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، وَخَالَفَهُمَا النَّوَوِيُّ فَقَالَ الْمُخْتَارُ الْجَزْمُ بِطَهَارَتِهِ وَمِنْهَا مَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي وَلَدِ الْأَمَةِ الْمَبِيعَةِ فَقَالَ الْبَائِعُ وَضَعْته قَبْلَ الْعَقْدِ ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي بَلْ بَعْدَهُ قَالَ الْإِمَامُ فِي آخِرِ النِّهَايَةِ كَتَبَ الْحَلِيمِيُّ إلَى الشَّيْخِ أَبُو زَيْدٍ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَجَابَ بِأَنَّ قَوْلَ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مِلْكِهِ ، وَحَكَى الدَّارِمِيُّ فِيهَا وَجْهَيْنِ ا هـ مَا نَقَلَهُ الْعَطَّارُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى مَحَلِّيٍّ جَمْعِ الْجَوَامِعِ عَنْ قَوَاعِدِ الزَّرْكَشِيّ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْوَصْلُ الْأَوَّلُ ) فِي عِشْرِينَ مِثَالًا مِنْ أَمْثِلَةِ مَا أُلْغِيَ فِيهِ الْغَالِبُ ، وَقُدِّمَ عَلَيْهِ النَّادِرُ ( الْمِثَالُ الْأَوَّلُ ) غَالِبُ الْوَلَدِ أَنْ يُوضَعُ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ فَإِذَا جَاءَ بَعْدَ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ امْرَأَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا دَارَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ زِنًا ، وَهُوَ الْغَالِبُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ تَأَخَّرَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ، وَهُوَ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى وُقُوعِ الزِّنَا فِي الْوُجُودِ فَأَلْغَى الشَّارِعُ الْغَالِبَ ، وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ ، وَهُوَ تَأَخُّرُ الْحَمْلِ رَحْمَةً بِالْعِبَادِ لِحُصُولِ السِّتْرِ عَلَيْهِمْ ، وَصَوْنِ أَعْرَاضِهِمْ عَنْ الْهَتْكِ ( الْمِثَالُ الثَّانِي ) إذَا تَزَوَّجَتْ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءٍ قَبْلَ الْعَقْدِ ، وَهُوَ الْغَالِبُ أَوْ مِنْ وَطْءٍ بَعْدَهُ ، وَهُوَ النَّادِرُ فَإِنَّ غَالِبَ الْأَجِنَّةُ لَا تُوضَعُ إلَّا لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ ، وَإِنَّمَا يُوضَعُ فِي السَّنَةِ سِقْطًا فِي الْغَالِبِ فَأَلْغَى الشَّارِعُ عَلَى حُكْمِ الْغَالِبِ ، وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ ، وَجَعَلَهُ مِنْ الْوَطْءِ بَعْدَ الْعَقْدِ لُطْفًا بِالْعِبَادِ لِحُصُولِ السِّتْرِ عَلَيْهِمْ وَصَوْنِ أَعْرَاضِهِمْ ( الْمِثَالُ الثَّالِثُ ) نَدَبَ الشَّرْعُ لِلنِّكَاحِ لِحُصُولِ الذُّرِّيَّةِ مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْأَوْلَادِ الْجَهْلُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْمَعَاصِي ، وَعَلَى رَأْيِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ اللَّهَ تَعَالَى بِالْبُرْهَانِ فَهُوَ كَافِرٌ لَمْ يُخَالِفْ فِي هَذَا إلَّا أَهْلُ الظَّاهِرِ كَمَا حَكَاهُ الْإِمَامُ فِي الشَّامِلِ وَالْإسْفَرايِينِيّ ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَنْهَى عَنْ الذُّرِّيَّةِ لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ عَلَيْهِمْ فَأَلْغَى الشَّرْعُ حُكْمَ الْغَالِبِ ، وَاعْتَبَرَ حُكْمَ النَّادِرِ تَرْجِيحًا لِقَلِيلِ الْإِيمَانِ عَلَى كَثِيرِ الْكُفْرِ ، وَالْمَعَاصِي تَعْظِيمًا لِحَسَنَاتِ الْخَلْقِ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ رَحْمَةً بِهِمْ ( الْمِثَالُ الرَّابِعُ ) طِينُ الْمَطَرِ الْوَاقِعُ فِي الطَّرَقَاتِ ، وَمَمَرِّ الدَّوَابِّ وَالْمَشْيِ بِالْأَمْدِسَةِ الَّتِي يُجْلَسُ بِهَا فِي

الْمَرَاحِيضِ الْغَالِبُ عَلَيْهَا وُجُودُ النَّجَاسَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ ، وَإِنْ كُنَّا لَا نُشَاهِدُ عَيْنَهَا ، وَالنَّادِرُ سَلَامَتُهَا مِنْهَا ، وَمَعَ ذَلِكَ أَلْغَى الشَّرْعُ حُكْمَ الْغَالِبِ ، وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ تَوْسِعَةً وَرَحْمَةً بِالْعِبَادِ فَيُصَلِّي بِهِ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ ( الْمِثَالُ الْخَامِسُ ) النِّعَالُ الْغَالِبُ عَلَيْهَا مُصَادَفَةُ النَّجَاسَاتِ لَا سِيَّمَا نَعْلٌ مَشَى بِهَا سَنَةً ، وَجَلَسَ بِهَا فِي مَوْضِعِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ سَنَةً وَنَحْوَهَا فَالْغَالِبُ عَلَيْهَا النَّجَاسَةُ وَالنَّادِرُ سَلَامَتُهَا مِنْ النَّجَاسَةِ ، وَمَعَ ذَلِكَ أَلْغَى الشَّرْعُ حُكْمَ الْغَالِبِ ، وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ فَجَاءَتْ السُّنَّةُ بِالصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ قَلْعَ النِّعَالِ فِي الصَّلَاةِ بِدْعَةٌ ذَلِكَ رَحْمَةٌ وَتَوْسِعَةٌ عَلَى الْعِبَادِ ( الْمِثَالُ السَّادِسُ ) الْغَالِبُ عَلَى ثِيَابِ الصِّبْيَانِ النَّجَاسَةُ لَا سِيَّمَا مَعَ طُولِ لُبْسِهِمْ لَهَا ، وَالنَّادِرُ سَلَامَتُهَا ، وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِصَلَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأُمَامَةَ يَحْمِلُهَا فِي الصَّلَاةِ إلْغَاءً لِحُكْمِ الْغَالِبِ ، وَإِثْبَاتًا لِحُكْمِ النَّادِرِ لُطْفًا بِالْعِبَادِ ( الْمِثَالُ السَّابِعُ ) ثِيَابُ الْكُفَّارِ الَّتِي يَنْسِجُونَهَا بِأَيْدِيهِمْ مَعَ عَدَمِ تَحَرُّزِهِمْ مِنْ النَّجَاسَاتِ بَلْ الْغَالِبُ نَجَاسَةُ أَيْدِيهِمْ لِمَا يُبَاشِرُونَهُ عِنْدَ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، وَمُبَاشَرَتُهُمْ الْخُمُورَ وَالْخَنَازِيرَ وَلُحُومَ الْمَيْتَاتِ ، وَجَمِيعُ أَوَانِيهِمْ نَجِسَةٌ بِمُلَابَسَةِ ذَلِكَ ، وَيُبَاشِرُونَ النَّسْجَ وَالْعَمَلَ مَعَ بِلَّةِ أَيْدِيهِمْ وَعَرَقِهَا حَالَةَ الْعَمَلِ ، وَيَبُلُّونَ تِلْكَ الْأَمْتِعَةَ بِالنَّشَاءِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُقَوِّي لَهُمْ الْخُيُوطَ ، وَيُعِينُهُمْ عَلَى النَّسْجِ فَالْغَالِبُ نَجَاسَةُ هَذَا الْقُمَاشِ ، وَالنَّادِرُ سَلَامَتُهُ مِنْ النَّجَاسَةِ ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ مَالِكٌ فَقَالَ مَا أَدْرَكْت أَحَدًا يَتَحَرَّزُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي مِثْلِ هَذَا فَأَثْبَتَ الشَّارِعُ حُكْمَ النَّادِرِ ، وَأَلْغَى حُكْمَ الْغَالِبِ ، وَجَوَّزَ

لُبْسَهُ تَوْسِعَةً عَلَى الْعِبَادِ ( الْمِثَالُ الثَّامِنُ ) مَا يَصْنَعُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ فِي أَوَانِيهِمْ ، وَبِأَيْدِيهِمْ فَالْغَالِبُ نَجَاسَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ ، وَالنَّادِرُ طَهَارَتُهُ ، وَمَعَ ذَلِكَ أَثْبَتَ الشَّرْعُ حُكْمَ النَّادِرِ ، وَأَلْغَى حُكْمَ الْغَالِبِ فَجَوَّزَا كُلَّهُ تَوْسِعَةً عَلَى الْعِبَادِ ( الْمِثَالُ التَّاسِعُ ) الْغَالِبُ عَلَى مَا يَصْنَعُهُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ ، وَلَا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ ، وَلَا يَتَحَرَّزُونَ مِنْ النَّجَاسَاتِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ نَجَاسَتُهَا ، وَالنَّادِرُ سَلَامَتُهَا فَأَلْغَى الشَّارِعُ حُكْمَ الْغَالِبِ ، وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ ، وَجَوَّزَ أَكْلَهَا تَوْسِعَةً وَرَحْمَةً لِلْعِبَادِ ( الْمِثَالُ الْعَاشِرُ ) الْغَالِبُ عَلَى مَا يَنْسِجُهُ الْمُسْلِمُونَ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ النَّجَاسَةُ ، وَقَدْ أَثْبَتَ الشَّرْعُ حُكْمَ النَّادِرِ ، وَأَلْغَى حُكْمَ الْغَائِبِ فَجَوَّزَ الصَّلَاةَ فِيهِ لُطْفًا بِالْعِبَادِ ( الْمِثَالُ الْحَادِي عَشَرَ ) الْغَالِبُ نَجَاسَتُهُ مَا يَصْبُغُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ بَلْ هُوَ أَشَدُّ مِمَّا يَنْسِجُونَهُ لِكَثْرَةِ الرُّطُوبَاتِ النَّاقِلَةِ لِلنَّجَاسَةِ ، وَمَعَ ذَلِكَ أَلْغَى الشَّرْعُ حُكْمَ الْغَالِبِ وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ رِفْقًا بِالْعِبَادِ فَجَوَّزَ الصَّلَاةَ فِيهَا ( الْمِثَالُ الثَّانِي عَشَرَ ) الْغَالِبُ نَجَاسَةُ مَا يَصْنَعُهُ عَوَامُّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ ، وَلَا يَتَحَرَّزُونَ مِنْ النَّجَاسَاتِ ، وَالنَّادِرُ سَلَامَتُهُ فَجَوَّزَ الشَّرْعُ الصَّلَاةَ فِيهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ النَّادِرِ عَلَى الْغَالِبِ تَوْسِعَةً وَلُطْفًا بِالْعِبَادِ ( الْمِثَالُ الثَّالِثَ عَشَرَ ) الْغَالِبُ نَجَاسَةُ مَا يَلْبَسُهُ النَّاسُ ، وَيُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَلَا يُعْلَمُ كَوْنُ لَابِسِهِ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا يَحْتَاطُ وَيَتَحَرَّزُ أَوْ لَا ؟ ، وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الْبِلَادِ فَإِنَّ غَالِبَهُمْ عَوَامُّ وَفَسَقَةٌ ، وَتُرَّاكُ صَلَاةٍ ، وَمَنْ لَا يَتَحَرَّزُ مِنْ النَّجَاسَاتِ ، وَالنَّادِرُ سَلَامَتُهُ فَأَلْغَى الشَّرْعُ حُكْمَ الْغَالِبِ ، وَأَثْبَتَ حُكْمَ

النَّادِرِ لُطْفًا بِالْعِبَادِ ( الْمِثَالُ الرَّابِعَ عَشَرَ ) الْغَالِبُ مُصَادَفَةُ الْحُصْرِ وَالْبُسُطِ الَّتِي قَدْ اسْوَدَّتْ مِنْ طُولِ مَا قَدْ لُبِسَتْ يَمْشِي عَلَيْهَا الْحُفَاةُ ، وَالصِّبْيَانُ ، وَمَنْ يُصَلِّي ، وَمَنْ لَا يُصَلِّي ، وَالنَّادِرُ سَلَامَتُهَا ، وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّى عَلَى حَصِيرٍ قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ بَعْدَ أَنْ نَضَحَهُ بِمَاءٍ ، وَالنَّضْحُ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ بَلْ يَنْشُرُهَا فَقَدَّمَ الشَّرْعُ حُكْمَ النَّادِرِ عَلَى حُكْمِ الْغَالِبِ ( الْمِثَالُ الْخَامِسَ عَشَرَ ) الْغَالِبُ مُصَادَفَةُ الْحُفَاةِ النَّجَاسَةَ لَا سِيَّمَا فِي الطَّرَقَاتِ وَمَوَاضِعِ قَضَاءِ الْحَاجَاتِ ، وَالنَّادِرُ سَلَامَتُهُمْ ، وَمَعَ ذَلِكَ جَوَّزَ الشَّرْعُ صَلَاةَ الْحَافِي مِنْ غَيْرِ غَسْلِ رِجْلَيْهِ كَمَا جَوَّزَ الصَّلَاةَ بِالنَّعْلِ فَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَمْشِي حَافِيًا ، وَلَا يَعِيبُ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ لِأَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِنَعْلِهِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَفَاءَ أَخَفُّ مِنْ تَحَمُّلِ النَّجَاسَةِ مِنْ النَّعْلِ فَقَدَّمَ الشَّارِعُ حُكْمَ النَّادِرِ عَلَى حُكْمِ الْغَالِبِ تَوْسِعَةً عَلَى الْعِبَادِ ( الْمِثَالُ السَّادِسَ عَشَرَ ) الْغَالِبُ صِدْقُ الصَّالِحِ الْوَلِيِّ التَّقِيِّ فِي دَعْوَاهُ عَلَى الْفَاجِرِ الشَّقِيِّ الظَّالِمِ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْهُ دِرْهَمًا ، وَالنَّادِرُ كَذِبُهُ ، وَمَعَ ذَلِكَ جَعَلَ الشَّرْعُ الْقَوْلَ قَوْلَ الْفَاجِرِ فَقَدَّمَ حُكْمَ النَّادِرِ عَلَى الْغَالِبِ لُطْفًا بِالْعِبَادِ بِإِسْقَاطِ الدَّعَاوَى عَنْهُمْ ، وَانْدِرَاجِ الصَّالِحِ مَعَ غَيْرِهِ سَدًّا لِبَابِ الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ بِالدَّعَاوَى الْكَاذِبَةِ ( الْمِثَالُ السَّابِعَ عَشَرَ ) الْغَالِبُ اسْتِمْرَارُ الْكُفَّارِ عَلَى الْكُفْرِ ، وَمَوْتُهُمْ عَلَيْهِ بَعْدَ الِاسْتِمْرَارِ فَأَلْغَى الشَّارِعُ حُكْمَهُ ، وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ وَهُوَ تَوَقُّعُ إسْلَامِ بَعْضِهِمْ فَعَقَدَ الْجِزْيَةَ لِذَلِكَ التَّوَقُّعِ النَّادِرِ رَحْمَةً

بِالْعِبَادِ فِي عَدَمِ تَعْجِيلِ الْقَتْلِ وَحَسْمِ مَادَّةِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ ( الْمِثَالُ الثَّامِنَ عَشَرَ ) الْغَالِبُ فِي إشْغَالِ النَّاسِ بِالْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ وَسِيلَةً لِلرِّيَاءِ وَعَدَمِ الْإِخْلَاصِ ، وَالنَّادِرُ أَنْ يَكُونَ وَسِيلَةً لِلْإِخْلَاصِ فَلَمْ يَعْتَبِرْ الشَّارِعُ حُكْمَ الْغَالِبِ الَّذِي هُوَ النَّهْيُ عَنْهُ لِأَنَّ وَسِيلَةَ الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ ، وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ فَرَغِبَ فِي الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ رَحْمَةً بِالْعِبَادِ ( الْمِثَالُ التَّاسِعَ عَشَرَ ) أَحَدُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ وَالْمُتَلَاعِنِينَ كَاذِبٌ قَطْعًا ، وَالْغَالِبُ أَنْ يَعْلَمَ الْكَاذِبُ مِنْهُمَا بِكَذِبِهِ فَيَكُونُ تَحْلِيفُهُ سَعْيًا فِي وُقُوعِ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ الْمُحَرَّمَةِ فَيَكُونُ حَرَامًا غَايَتُهُ أَنَّهُ يُعَارِضُهُ أَخْذُ الْحَقِّ ، وَإِلْجَاؤُهُ إلَيْهِ ، وَذَلِكَ إمَّا مُبَاحٌ أَوْ وَاجِبٌ ، .
وَإِذَا تَعَارَضَ الْوَاجِبُ وَالْمُحَرَّمُ قُدِّمَ الْمُحَرَّمُ ، وَمَعَ ذَلِكَ أَلْغَى الشَّارِعُ حُكْمَ الْغَالِبِ ، وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ الَّذِي هُوَ وُقُوعُ شُبْهَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَدَاعِيَيْنِ أَوْ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لُطْفًا بِالْعِبَادِ عَلَى تَخْلِيصِ حُقُوقِهِمْ وَالسَّتْرِ عَلَيْهِمْ .
( الْمِثَالُ الْعِشْرُونَ ) غَالِبُ الْمَوْتِ فِي الشَّبَابِ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ ، وَلِذَلِكَ الشُّيُوخُ أَقَلُّ يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ الشَّبَابُ يَعِيشُونَ لَصَارُوا شُيُوخًا فَتَكْثُرُ الشُّيُوخُ فَلَمَّا كَانَ الشُّيُوخُ فِي الْوُجُودِ أَقَلَّ كَانَ مَوْتُ الْإِنْسَانِ شَابًّا أَكْثَرَ ، وَحَيَاتُهُ لِلشَّيْخُوخَةِ نَادِرًا ، وَمَعَ ذَلِكَ شَرَعَ صَاحِبُ الشَّرْعِ التَّعْمِيرَ فِي الْغَائِبِينَ إلَى سَبْعِينَ سَنَةً إلْغَاءً لِحُكْمِ الْغَالِبِ وَإِثْبَاتًا لِحُكْمِ النَّادِرِ لُطْفًا بِالْعِبَادِ فِي إبْقَاءِ مَصَالِحِهِمْ عَلَيْهِمْ قَالَ الْأَصْلُ وَنَظَائِرُ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُتَأَمَّلَ وَتُعْلَمَ فَقَدْ غَفَلَ قَوْمٌ فِي الطِّهَارَاتِ فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ الْوَسْوَاسُ ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى قَاعِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ هِيَ الْحُكْمُ

بِالْغَالِبِ نَعَمْ هُوَ غَالِبُ كَمَا قَالُوا مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى النَّاسِ وَالْأَوَانِي وَالْكُتُبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُلَابِسُونَهُ النَّجَاسَةُ فَيَغْسِلُونَ ثِيَابَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَهِيَ الْحُكْمُ بِالْغَالِبِ ، وَلَمْ يَفْهَمُوا بِأَنَّ هَذَا ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْغَالِبُ كَمَا قَالُوا لَكِنَّ الشَّارِعَ أَلْغَى حُكْمَهُ ، وَقَدَّمَ عَلَيْهِ حُكْمَ النَّادِرِ ، وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا فِي النَّفْسِ ، وَظَنُّهُ مَعْدُومٌ بِالنِّسْبَةِ لِلظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْ الْغَالِبِ إذْ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ أَنْ يَصْنَعَ فِي شَرْعِهِ مَا شَاءَ ، وَيَسْتَثْنِي مِنْ قَوَاعِدِهِ مَا يَشَاءُ هُوَ الْأَعْلَمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ فَيَنْبَغِي لِمَنْ قَصَدَ إثْبَاتَ حُكْمِ الْغَالِبِ دُونَ النَّادِرِ أَنْ لَا يَعْتَمِدَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا كَيْفَ كَانَ بَلْ حَتَّى يَنْظُرَ هَلْ ذَلِكَ الْغَالِبُ مِمَّا أَلْغَاهُ الشَّرْعُ أَمْ لَا إذْ الِاعْتِمَادُ عَلَى مُطْلَقِ الْغَالِبِ كَيْفَ كَانَ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ ا هـ ، وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ .

( تَنْبِيهٌ ) قَالَ الْأَصْلُ وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ دُونَ مَجَازِهِ ، وَعَلَى الْعُمُومِ دُونَ الْخُصُوصِ ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ النَّادِرِ عَلَى الْغَالِبِ نَظَرًا لِغَلَبَةِ الْمَجَازِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَتَّى قَالَ ابْنُ جِنِّي : كَلَامُ الْعَرَبِ كُلُّهُ مَجَازٌ ، وَغَلَبَةُ الْخُصُوصَاتِ عَلَى الْعُمُومَاتِ حَتَّى رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ مَا مِنْ عَامٍّ إلَّا وَقَدْ خُصَّ إلَّا قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وَحِينَئِذٍ فَيَنْبَغِي إذَا ظَفِرْنَا بِلَفْظٍ ابْتِدَاءً أَنْ نَحْمِلَهُ عَلَى مَجَازِهِ تَغْلِيبًا لِلْغَالِبِ عَلَى النَّادِرِ ، وَأَنْ نَحْمِلَ الْعُمُومَ ابْتِدَاءً عَلَى التَّخْصِيصِ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ فَحَيْثُ عَكَسْنَا وَحَمَلْنَا اللَّفْظَ ابْتِدَاءً عَلَى حَقِيقَتِهِ ، وَالْعُمُومَ ابْتِدَاءً عَلَى الْعُمُومِ كَانَ ذَلِكَ تَغْلِيبًا لِلنَّادِرِ عَلَى الْغَالِبِ إلَّا أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ شَرْطَ الْفَرْدِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ النَّادِرِ وَالْغَالِبِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْغَالِبِ ، وَإِلَّا فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ .
وَبَيَانُهُ بِالْمِثَالِ أَنَّ الشُّقَّةَ إذَا جَاءَتْ مِنْ الْقَصَّارِ جَازَ أَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً وَهُوَ الْغَالِبُ أَوْ نَجِسَةً بِأَنْ يُصِيبَهَا بَوْلُ فَأْرٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَهُوَ النَّادِرُ فَإِنَّا لَوْ كُنَّا نَحْكُمُ بِطَهَارَتِهَا بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ لِأَنَّا قَدْ حَكَمْنَا بِطَهَارَةِ الثِّيَابِ الْمَقْصُورَةِ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ الْقِصَارَةِ لَكَانَ هَذَا الثَّوْبُ الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ النَّادِرِ وَالْغَالِبِ الَّذِي خَرَجَ مِنْ الْقِصَارَةِ مِنْ جِنْسِ الْغَالِبِ الَّذِي قَضَيْنَا بِطَهَارَتِهِ فَيُحْكَمُ بِهِ .
وَأَمَّا لَوْ كُنَّا لَا نَقْضِي بِطَهَارَةِ الثِّيَابِ الْمَقْصُورَةِ لِكَوْنِهَا خَرَجَتْ مِنْ الْقِصَارَةِ بَلْ نَقْضِي بِطَهَارَتِهَا لِأَنَّهَا تُغْسَلُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا الثَّوْبُ الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ النَّادِرِ ،

وَالْغَالِبُ الَّذِي لَمْ يُغْسَلْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الْغَالِبِ الَّذِي قَضَيْنَا بِطَهَارَتِهِ فَلَا نَقْضِي بِطَهَارَتِهِ لِأَجْلِ عَدَمِ الْغُسْلِ بَعْدَ الْقِصَارَةِ الَّذِي لِأَجْلِهِ حَكَمْنَا بِالطَّهَارَةِ وَكَذَا يُقَالُ فِي الْأَلْفَاظِ فَإِذَا لَمْ نَقْضِ عَلَى لَفْظٍ بِأَنَّهُ مَجَازٌ أَوْ مَخْصُوصٌ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ لَفْظًا بَلْ نَقْضِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لِأَجْلِ اقْتِرَانِهِ بِالْقَرِينَةِ الصَّادِقَةِ مِنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ وَاقْتِرَانُهُ بِالْمُخَصِّصِ الصَّارِفِ عَنْ الْعُمُومِ لِلتَّخْصِيصِ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ الْوَارِدُ ابْتِدَاءً الَّذِي حَمَلْنَاهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ دُونَ مَجَازِهِ ، وَالْعُمُومُ دُونَ الْخُصُوصِ لَيْسَ مَعَهُ صَارِفٌ مِنْ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عَنْ الْحَقِيقَةِ .
وَلَا مُخَصِّصَ صَارِفٌ عَنْ الْعُمُومِ فَهُوَ حِينَئِذٍ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ الْغَالِبِ فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمَجَازِ أَوْ التَّخْصِيصِ لَحَمَلْنَاهُ عَلَى غَيْرِ غَالِبٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لَفْظٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَفْظٌ حُمِلَ عَلَى الْمَجَازِ ، وَلَا عَلَى الْخُصُوصِ أَلْبَتَّةَ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ غَالِبًا بَلْ هُوَ اللَّفْظُ قَاعِدَةً مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا لَيْسَ فِيهَا غَالِبٌ وَنَادِرٌ بَلْ شَيْءٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْحَقِيقَةُ مُطْلَقًا ، وَالْعُمُومُ مُطْلَقًا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهُوَ شَرْطٌ خَفِيٌّ فِي حَمْلِ الشَّيْءِ عَلَى غَالِبِهِ دُونَ نَادِرِهِ لِيَظْهَرَ لَك جَلِيًّا أَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَةِ دُونَ مَجَازٍ ابْتِدَاءً ، وَالْعُمُومِ دُونَ الْخُصُوصِ ابْتِدَاءً لَيْسَ مِنْ بَابِ الْحَمْلِ عَلَى النَّادِرِ دُونَ الْغَالِبِ فَهَذَا سُؤَالٌ حَسَنٌ لَقَدْ أَوْرَدْته عَلَى جَمْعِ كَثِيرٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فَلَمْ يَحْصُلْ عَنْهُ جَوَابٌ ، وَهَذَا جَوَابُهُ حَسَنٌ جِدًّا ا هـ .

( الْوَصْلُ الثَّانِي ) فِيهِ عِشْرِينَ مِثَالًا مِنْ أَمْثِلَةِ مَا أَلْغَى الشَّارِعُ فِيهِ الْغَالِبَ وَالنَّادِرَ مَعًا ( الْمِثَالُ الْأَوَّلُ ) الْغَالِبُ صِدْقُ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ فِي الْأَمْوَالِ إذَا كَثُرَ عَدَدُهُمْ جِدًّا ، وَالنَّادِرُ كَذِبُهُمْ فَأَهْمَلَهُمْ الشَّرْعُ ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ صِدْقَهُمْ ، وَلَا قَضَى بِكَذِبِهِمْ رَحْمَةً بِالْعِبَادِ وَلُطْفًا بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَأَمَّا فِي الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ فَقَبِلَهُمْ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ لِلضَّرُورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ( الْمِثَالُ الثَّانِي ) الْغَالِبُ صِدْقُ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنْ جَمَاعَةِ النِّسْوَانِ فِي أَحْكَامِ الْأَبْدَانِ ، وَالنَّادِرُ كَذِبُهُمْ لَا سِيَّمَا مَعَ الْعَادِلَةِ فَأَلْغَى صَاحِبُ الشَّرْعِ صِدْقَهُنَّ ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِهِ ، وَلَا حَكَمَ بِكَذِبِهِنَّ لُطْفًا بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( الْمِثَالُ الثَّالِثُ ) الْغَالِبُ صِدْقُ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنْ الْكُفَّارِ وَالرُّهْبَانِ وَالْأَحْبَارِ إذَا شَهِدُوا ، وَالنَّادِرُ كَذِبُهُمْ فَأَلْغَى صَاحِبُ الشَّرْعِ صِدْقَهُمْ لُطْفًا بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِكَذِبِهِمْ ( الْمِثَالُ الرَّابِعُ ) الْغَالِبُ صِدْقُ شَهَادَةِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنْ الْفَسَقَةِ ، وَالنَّادِرُ كَذِبُهُمْ فَلَمْ يَحْكُمْ الشَّرْعُ بِصِدْقِهِمْ لُطْفًا بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِكَذِبِهِمْ ( الْمِثَالُ الْخَامِسُ ) الْغَالِبُ صِدْقُ شَهَادَةِ ثَلَاثَةِ عُدُولٍ فِي الزِّنَا فَلَمْ يَحْكُمْ الشَّرْعُ بِهِ سِتْرًا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِكَذِبِهِمْ بَلْ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ قَذَفُوهُ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ شُهُودُ زُورٍ ( الْمِثَالُ السَّادِسُ ) الْغَالِبُ صِدْقُ شَهَادَةِ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ فِي أَحْكَامِ الْأَبْدَانِ ، وَالنَّادِرُ كَذِبُهُ فَلَمْ يَحْكُمْ الشَّرْعُ بِصِدْقِهِ لُطْفًا بِالْعِبَادِ وَرَحْمَةً بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُكَذِّبْهُ ( الْمِثَالُ السَّابِعُ ) الْغَالِبُ صِدْقُ حَلِفِ الْمُدَّعِي الطَّالِبِ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ ، وَالنَّادِرُ كَذِبُهُ فَلَمْ يَقْضِ الشَّارِعُ بِصِدْقِهِ فَيَحْكُمُ

لَهُ بِيَمِينِهِ بَلْ اشْتَرَطَ فِي الْحُكْمِ لَهُ الْبَيِّنَةَ ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِكَذِبِهِ لُطْفًا بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( الْمِثَالُ الثَّامِنُ ) الْغَالِبُ صِدْقُ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ فِي الرِّوَايَةِ بِخَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ الْمُتَدَيِّنِينَ الْمُعْتَقِدِينَ لِتَحْرِيمِ الْكَذِبِ فِي دِينِهِمْ ، وَالنَّادِرُ كَذِبُهُمْ فَلَمْ يَعْتَبِرْ الشَّرْعُ صِدْقَهُمْ لُطْفًا بِالْعِبَادِ وَسَدًّا لِذَرِيعَةِ أَنْ يَدْخُلَ فِي دِينِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ ( الْمِثَالُ التَّاسِعُ ) الْغَالِبُ صِدْقُ رِوَايَةِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنْ الْفَسَقَةِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَنُهْبَةِ الْأَمْوَالِ ، وَهُمْ رُؤَسَاءُ عُظَمَاءُ فِي الْوُجُودِ إذَا اجْتَمَعُوا عَلَى الرِّوَايَةِ الْوَاحِدَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا سِيَّمَا إنْ مَنَعُوا مِنْ الْكَذِبِ لِوَازِعٍ طَبِيعِيٍّ لَا تَدَيُّنًا لَمْ يَقْبَلْ الشَّرْعُ رِوَايَتَهُمْ صَوْنًا لِلْعِبَادِ عَنْ أَنْ يُدْخِلَ فِي دِينِهِمْ مَا لَيْسَ مِنْهُ بَلْ جَعَلَ الضَّابِطَ الْعَدَالَةَ ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِكَذِبِهِمْ ( الْمِثَالُ الْعَاشِرُ ) الْغَالِبُ صِدْقُ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنْ الْجَاهِلِينَ فِي رِوَايَتِهِمْ لِلْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ ، وَالنَّادِرُ كَذِبُهُمْ فَلَمْ يَحْكُمْ الشَّرْعُ بِصِدْقِهِمْ وَلَا بِكَذِبِهِمْ لُطْفًا بِالْعِبَادِ ( الْمِثَالُ الْحَادِي عَشَرَ ) الْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ أَخْذُ السُّرَّاقِ الْمُتَّهَمِينَ بِالتُّهَمِ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهِمْ كَمَا يَفْعَلُهُ الْأُمَرَاءُ الْيَوْمَ دُونَ الْإِقْرَارِ الصَّحِيحِ وَالْبَيِّنَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ مُصَادِفًا لِلصَّوَابِ ، وَالنَّادِرُ خَطَؤُهُمْ ، وَمَعَ ذَلِكَ أَلْغَاهُ الشَّرْعُ صَوْنًا لِلْأَعْرَاضِ وَالْأَطْرَافِ عَنْ الْقَطْعِ ( الْمِثَالُ الثَّانِي عَشَرَ ) الْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ أَخْذُ الْحَاكِمِ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مِنْ التَّظَلُّمِ وَكَثْرَةِ الشَّكْوَى وَالْبُكَاءِ مَعَ كَوْنِ الْخَصْمِ مَشْهُورًا بِالْفَسَادِ وَالْعِنَادِ مُصَادِفًا لِلْحَقِّ ، وَالنَّادِرُ خَطَؤُهُ ، وَمَعَ ذَلِكَ مَنَعَهُ الشَّارِعُ مِنْهُ وَحَرَّمَهُ إذْ لَا

يَضُرُّ الْحَاكِمَ ضَيَاعُ حَقٍّ لَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ ( الْمِثَالُ الثَّالِثَ عَشَرَ ) الْغَالِبُ عَلَى مَنْ وُجِدَ بَيْنَ فَخِذَيْ امْرَأَةٍ ، وَهُوَ مُتَحَرِّكٌ حَرَكَةَ الْوَاطِئِ وَطَالَ الزَّمَانُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ أَوْلَجَ ، وَالنَّادِرُ عَدَمُ ذَلِكَ فَلَمْ يَحْكُمْ الشَّارِعُ بِوَطْئِهِ وَلَا بِعَدَمِهِ إذَا شُهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ، وَأَلْغَى هَذَا الْغَالِبَ سَتْرًا عَلَى الْعِبَادِ ( الْمِثَالُ الرَّابِعَ عَشَرَ ) الْغَالِبُ صِدْقُ شَهَادَةِ الْعَدْلِ الْمُبَرَّزِ لِوَلَدِهِ ، وَالنَّادِرُ كَذِبُهُ فَلَمْ يَحْكُمُ الشَّرْعُ بِصِدْقِهِ ، وَلَا بِكَذِبِهِ بَلْ أَلْغَاهَا جُمْلَةً ( الْمِثَالُ السَّادِسَ عَشَرَ ) الْغَالِبُ صِدْقُ شَهَادَةِ الْعَدْلِ الْمُبَرَّزِ عَلَى خَصْمِهِ ، وَالنَّادِرُ كَذِبُهُ فَأَلْغَى الشَّارِعُ صِدْقَهُ وَكَذِبَهُ ( الْمِثَالُ السَّابِعَ عَشَرَ ) الْغَالِبُ صِدْقُ شَهَادَةِ الْحَاكِمِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ إذَا عُزِلَ ، وَصِدْقُ شَهَادَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ مُطْلَقًا إذَا وَقَعَتْ مِنْ الْعَدْلِ الْمُبَرَّزِ ، وَالنَّادِرُ كَذِبُهُ فِيهَا فَأَلْغَى الشَّارِعُ صِدْقَهُ وَكَذِبَهُ ( الْمِثَالُ الثَّامِنَ عَشَرَ ) الْغَالِبُ أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي لِنَفْسِهِ وَهُوَ عَدْلٌ مُبَرَّزٌ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى وَالْوَرَعِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْحَقِّ ، وَالنَّادِرُ أَنْ يَكُونَ بِخِلَافِهِ فَأَلْغَى الشَّرْعُ اعْتِبَارَ صِحَّةِ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَبُطْلَانِهِ مَعًا ( الْمِثَالُ التَّاسِعَ عَشَرَ ) الْغَالِبُ الْقُرْءُ الْوَاحِدُ فِي الْعَدَدِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ ، وَالنَّادِرُ شَغْلُهُ مَعَهُ فَأَلْغَى الشَّارِعُ اعْتِبَارَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ مَعَهُ حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ قُرْءَانِ آخَرَانِ ( الْمِثَالُ الْعِشْرُونَ ) الْغَالِبُ بَرَاءَةُ رَحِمِ مَنْ غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا سِنِينَ ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا ، وَالنَّادِرُ شَغْلُهُ بِالْوَلَدِ فَأَلْغَى الشَّرْعُ اعْتِبَارَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهَا اسْتِئْنَافَ الْعِدَّةِ بَعْدَ الْوَفَاةِ أَوْ الطَّلَاقِ لِأَنَّ وُقُوعَ الْحُكْمِ قَبْلَ سَبَبِهِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ قَالَ وَنَظَائِرُ هَذَا الْغَالِبِ الَّذِي

أَلْغَاهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ ، وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ - إمَّا مَعَ الْمُبَالَغَةِ فِي إلْغَائِهِ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ نَادِرِهِ أَيْضًا كَمَا هُنَا ، وَإِمَّا مَعَ الْمُبَالَغَةِ فِي إلْغَائِهِ بِاعْتِبَارِ نَادِرِهِ دُونَهُ كَمَا تَقَدَّمَ - كَثِيرَةٌ فِي الشَّرْعِ ، وَهَذِهِ أَرْبَعُونَ مِثَالًا قَدْ سُرِدَتْ فِي ذَلِكَ مِنْ أَرْبَعِينَ جِنْسًا فَهِيَ أَرْبَعُونَ جِنْسًا أُلْغِيَتْ ا هـ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَصِحُّ الْإِقْرَاعُ فِيهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَصِحُّ الْإِقْرَاعُ فِيهِ ) اعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى تَعَيَّنَتْ الْمَصْلَحَةُ أَوْ الْحَقُّ فِي جِهَةٍ لَا يَجُوزُ الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لِأَنَّ فِي الْقُرْعَةِ ضَيَاعَ ذَلِكَ الْحَقِّ الْمُتَعَيَّنِ أَوْ الْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَيِّنَةِ ، وَمَتَى تَسَاوَتْ الْحُقُوقُ أَوْ الْمَصَالِحُ فَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ الْقُرْعَةِ عِنْدَ التَّنَازُعِ دَفْعًا لِلضَّغَائِنِ وَالْأَحْقَادِ ، وَالرِّضَا بِمَا جَرَتْ بِهِ الْأَقْدَارُ ، وَقَضَى بِهِ الْمَلِكُ الْجَبَّارُ فَهِيَ مَشْرُوعَةٌ بَيْنَ الْخُلَفَاءِ إذَا اسْتَوَتْ فِيهِمْ الْأَهْلِيَّةُ لِلْوِلَايَةِ ، وَالْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ إذَا اسْتَوَوْا ، وَالتَّقَدُّمُ لِلصَّفِّ الْأَوَّلِ عِنْدَ الِازْدِحَامِ وَتَغْسِيلِ الْأَمْوَاتِ عِنْدَ تَزَاحُمِ الْأَوْلِيَاءِ ، وَتَسَاوِيهِمْ فِي الطَّبَقَاتِ وَبَيْنَ الْحَاضِنَاتِ وَالزَّوْجَاتِ فِي السَّفَرِ وَالْقِسْمَةِ وَالْخُصُومِ عِنْدَ الْحُكَّامِ ، وَفِي عِتْقِ الْعَبِيدِ إذَا أَوْصَى بِعِتْقِهِمْ أَوْ بِثُلُثِهِمْ فِي الْمَرَضِ ثُمَّ مَاتَ ، وَلَمْ يَحْمِلْهُمْ الثُّلُثُ عَتَقَ مَبْلَغُ الثُّلُثِ مِنْهُمْ بِالْقُرْعَةِ ، وَلَوْ لَمْ يَدَعْ غَيْرَهُمْ عَتَقَ ثُلُثُهُمْ أَيْضًا بِالْقُرْعَةِ ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا تَجُوزُ الْقُرْعَةُ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِهِمْ وَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُهُ ، وَيُسْتَسْعَى فِي بَاقِي قِيمَتِهِ لِلْوَرَثَةِ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا فَيَعْتَقَ ، لَنَا وُجُوهٌ : ( الْأَوَّلُ ) مَا فِي الْمُوَطَّإِ { أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبِيدًا لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَأَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَعْتَقَ ثُلُثَ الْعَبِيدِ } قَالَ مَالِكٌ ، وَبَلَغَنِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ الرَّجُلِ مَالٌ غَيْرَهُمْ ( الثَّانِي ) فِي الصِّحَاحِ أَنَّ { رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمَالِيكَ لَهُ فِي مَرَضِهِ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ فَدَعَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَزَّاهُمْ

فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَرَقَّ أَرْبَعَةً } ( الثَّالِثُ ) إجْمَاعُ التَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَالَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ وَابْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُمْ ، وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ مِنْ عَصْرِهِمْ أَحَدٌ ( الرَّابِعُ ) وَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِسْمَةِ الْأَرْضِ لِعَدَمِ الْمُرَجِّحِ ، وَذَلِكَ هُنَا مَوْجُودٌ فَثَبَتَ قِيَاسًا عَلَيْهِ ( الْخَامِسُ ) أَنَّ فِي الِاسْتِسْعَاءِ مَشَقَّةً وَضَرَرًا عَلَى الْعَبِيدِ بِالْإِلْزَامِ ، وَعَلَى الْوَرَثَةِ بِتَأْخِيرِ الْحَقِّ وَتَعْجِيلِ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ ، وَالْقَوَاعِدُ تَقْتَضِي تَقْدِيمَ حَقِّ الْوَارِثِ لِأَنَّ لَهُ الثُّلُثَيْنِ ( السَّادِسُ ) أَنَّ مَقْصُودَ الْوَصِيِّ كَمَالُ الْعِتْقِ فِي الْعَبْدِ لِيَتَفَرَّغَ لِلطَّاعَاتِ ، وَيَجُوزُ الِاكْتِسَابُ وَالْمَنَافِعُ مِنْ نَفْسِهِ ، وَتَجْزِئَةُ الْعِتْقِ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ لَا يَحْصُلُ الْكَمَالُ أَبَدًا احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ : ( الْأَوَّلُ ) قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا عِتْقَ إلَّا فِيمَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ } ، وَالْمَرِيضُ مَالِكُ الثُّلُثِ مِنْ كُلِّ عَبْدٍ فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ ، وَلِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ وَاقِعَةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ فِيهَا ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ اثْنَيْنِ يَحْتَمِلُ شَائِعَيْنِ لَا مُعَيَّنَيْنِ ، وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّ الْعَادَةَ تُحْصِي اخْتِلَافَ قِيَمِ الْعَبِيدِ فَيَتَعَذَّرُ أَنْ يَكُونَ اثْنَانِ مُعَيِّنَانِ ثُلُثِ مَالِهِ .
( الثَّانِي ) أَنَّ الْقُرْعَةَ عَلَى خِلَافِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا مِنْ الْمُيَسَّرِ ، وَعَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ لِأَنَّ فِيهِ نَقْلُ الْحُرِّيَّةِ بِالْقُرْعَةِ .
( الثَّالِثُ ) أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ كُلِّ وَاحِدٍ صَحَّ فَيَنْفُذُ هَاهُنَا قِيَاسًا عَلَى ذَلِكَ ، وَعَلَى حَالِ الصِّحَّةِ .
( الرَّابِعُ ) أَنَّهُ لَوْ بَاعَ ثُلُثَ كُلِّ عَبْدٍ جَازَ ، وَالْبَيْعُ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ ، وَالْعِتْقُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ فَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْقُرْعَةِ لِأَنَّ فِيهَا تَحْوِيلَ الْعِتْقِ .
( الْخَامِسُ ) أَنَّهُ لَوْ

كَانَ مَالِكًا لِثُلُثِهِمْ فَأَعْتَقَهُ لَمْ يَجْتَمِعْ ذَلِكَ فِي اثْنَيْنِ مِنْهُمْ ، وَالْمَرِيضُ لَمْ يَمْلِكْ غَيْرَ الثُّلُثِ فَلَا يَجْتَمِعُ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَدَمِ الْمَالِكِ ، وَالْمَنْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي نُفُوذِ الْعِتْقِ .
( السَّادِسُ ) أَنَّ الْقُرْعَةَ إنَّمَا تَدْخُلُ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ فِيمَا يَجُوزُ التَّرَاضِي عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَالَةَ الصِّحَّةِ لَمَّا لَمْ يَجُزْ التَّرَاضِي عَلَى انْتِفَاضِهَا لَمْ تَجُزْ الْقُرْعَةُ فِيهَا ، وَالْأَمْوَالُ يَجُوزُ التَّرَاضِي فِيهَا فَدَخَلَتْ الْقُرْعَةُ فِيهَا .
وَالْجَوَابُ ( عَنْ الْأَوَّلِ ) أَنَّ الْعِتْقَ إنَّمَا وَقَعَ فِيمَا يَمْلِكُ ، وَمَا قَالَ الْعِتْقُ فِي كُلِّ مَا يَمْلِكُ فَإِذَا نَفَذَ الْعِتْقُ فِي عَبْدَيْنِ وَقَعَ الْعِتْقُ فِيمَا يَمْلِكُ .
وَقَوْلُهُمْ إنَّهَا قَضِيَّةُ عَيْنٍ فَنَقُولُ هِيَ وَرَدَتْ فِي تَمْهِيدِ قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ كَالرَّجْمِ وَغَيْرِهِ فَتَعُمُّ ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ } ، وَقَوْلُهُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ شَائِعًا بَاطِلًا بِالْقُرْعَةِ لِأَنَّهَا لَا مَعْنَى لَهَا مَعَ الْإِشَاعَةِ ، وَاتِّفَاقُهُمْ فِي الْقِيمَةِ لَيْسَ مُتَعَذَّرًا عَادَةً لَا سِيَّمَا مَعَ الْجَلْبِ وَوَخْشِ الرَّقِيقِ ( وَعَنْ الثَّانِي ) أَنَّ الْمَيْسِرَ هُوَ الْقِمَارُ ، وَتَمْيِيزُ الْحُقُوقِ لَيْسَ قِمَارًا ، وَقَدْ أَقْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ وَغَيْرِهِمْ ، وَاسْتُعْمِلَتْ الْقُرْعَةُ فِي شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ } الْآيَةَ ، وَ { إذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } وَلَيْسَ فِيهَا نَقْلُ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ عِتْقَ الْمَرِيضِ لَمْ يَتَحَقَّقْ لِأَنَّهُ إنْ صَحَّ عَتَقَ الْجَمِيعُ ، وَإِنْ طَرَأَتْ دُيُونٌ بَطَلَ ، وَإِنْ مَاتَ ، وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ مِنْ الثُّلُثِ فَلَمْ يَقَعْ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْعِتْقِ إلَّا مَا أَخْرَجَتْهُ الْقُرْعَةُ ( وَعَنْ الثَّالِثِ ) أَنَّ مَقْصُودَ الْهِبَةِ

وَالْوَصِيَّةِ التَّمْلِيكُ ، وَهُوَ حَاصِلٌ فِي مِلْكِ الشَّائِعِ كَغَيْرِهِ ، وَمَقْصُودُ الْعِتْقِ التَّخْلِيصُ لِلطَّاعَاتِ .
وَالِاكْتِسَابُ ، وَلَا يَحْصُلُ مَعَ التَّبْعِيضِ ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ شَائِعًا لَا يُؤَخِّرُ حَقَّ الْوَارِثِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْوَصِيَّةِ ، وَهَاهُنَا يَتَأَخَّرُ بِالِاسْتِسْعَاءِ ( وَعَنْ الرَّابِعِ ) أَنَّ الْبَيْعَ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْوَارِثِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْوَصِيَّةِ ، وَلَا يَحْصُلُ تَحْوِيلُ الْعِتْقِ كَمَا تَقَدَّمَ ( وَعَنْ الْخَامِسِ ) أَنَّهُ إذَا مَلَكَ الثُّلُثَ فَقَطْ لَمْ يَحْصُلْ تَنَازُعُ الْعِتْقِ فِي ، وَلَا حِرْمَانَ مِنْ تَنَاوُلِهِ لَفْظَ الْعِتْقِ ( وَعَنْ السَّادِسِ ) أَنَّ الْوَارِثَ لَوْ رَضِيَ بِتَنْفِيذِ عِتْقِ الْجَمِيعِ لَصَحَّ فَهُوَ يَدْخُلُهُ الرِّضَا فَهَذِهِ الْمَبَاحِثُ ، وَهَذِهِ الِاخْتِلَافَاتُ وَالِاتِّفَاقَاتُ يَتَخَلَّصُ مِنْهَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَدْخُلُهُ الْقُرْعَةُ ، وَمَا لَا تَدْخُلُهُ الْقُرْعَةُ ، وَأَنَّ ضَابِطَهُ التَّسَاوِي مَعَ قَبُولِ الرِّضَا بِالنَّقْلِ ، وَمَا فُقِدَ فِيهِ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ تَعَذَّرَتْ فِيهِ الْقُرْعَةُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَصِحُّ الْإِقْرَاعُ فِيهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَصِحُّ الْإِقْرَاعُ فِيهِ ) وَضَابِطُهُ كَمَا فِي الْأَصْلِ ، وَسَلَّمَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ أَنَّ مَا تَحَقَّقَ فِيهِ شَرْطَانِ ( الْأَوَّلُ ) تَسَاوِي الْحُقُوقِ وَالْمَصَالِحِ ( وَالثَّانِي ) قَبُولُ الرِّضَا بِالنَّقْلِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْقُرْعَةِ عِنْدَ الشَّارِعِ دَفْعًا لِلضَّغَائِنِ وَالْأَحْقَادِ ، وَالرِّضَا بِمَا جَرَتْ بِهِ الْأَقْدَارُ ، وَمَا فُقِدَ فِيهِ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ تَعَذَّرَتْ فِيهِ الْقُرْعَةُ فَمَتَى تَعَيَّنَتْ الْمَصْلَحَةُ أَوْ الْحَقُّ فِي جِهَةٍ لَا يَجُوزُ الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لِأَنَّ فِي الْقُرْعَةِ ضَيَاعَ ذَلِكَ الْحَقِّ الْمُتَعَيَّنِ أَوْ الْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَيَّنَةِ وَمَتَى لَمْ يَقْبَلْ الشَّيْءُ الرِّضَا بِالنَّقْلِ كَحُرِّيَّةِ الرَّقِيقِ حَالَةَ الصِّحَّةِ لَا يَجُوزُ الْإِقْرَاعُ فِيهِ كَمَا سَيَتَّضِحُ مِنْ الْمَبَاحِثِ وَالِاخْتِلَافَاتِ وَالِاتِّفَاقَاتِ الْآتِيَةِ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ فِي مَوَاضِعَ : ( أَحَدِهِمَا ) بَيْنَ الْخُلَفَاءِ إذَا اسْتَوَتْ فِيهِمْ الْأَهْلِيَّةُ لِلْوِلَايَةِ ( ثَانِيهِمَا ) بَيْنَ الْأَئِمَّةِ لِلصَّلَاةِ إذَا اسْتَوَوْا ( ثَالِثِهَا ) بَيْنَ الْمُؤَذِّنِينَ فِي الْمَغْرِبِ مَعَ الِاسْتِوَاءِ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ شَاسٍ ( رَابِعِهَا ) فِي التَّقَدُّمِ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ عِنْدَ الزِّحَامِ ( خَامِسِهَا ) فِي تَغْسِيلِ الْأَمْوَاتِ عِنْدَ تَزَاحُمِ الْأَوْلِيَاءِ وَتَسَاوِيهِمْ فِي الطَّبَقَاتِ ( سَادِسِهَا ) فِي الْحَضَانَةِ فَفِي التَّوْضِيحِ ، وَتَدْخُلُ الْقُرْعَةُ بَيْنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ عِنْدَ إثْغَارِ الذَّكَرِ لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْقَصَّارِ وَابْنِ رُشْدٍ وَغَيْرِهِمَا اُنْظُرْهُ فِي قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَحَضَانَةُ الذَّكَرِ حَتَّى يَحْتَلِمَ ( سَابِعِهَا ) بَيْنَ الزَّوْجَاتِ عِنْدَ إرَادَةِ السَّفَرِ ( ثَامِنُهَا ) فِي بَابِ الْقِسْمَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ فِي الْأُصُولِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ وَالنُّقُودِ إذَا اسْتَوَى فِيهِ الْوَزْنُ

وَالْقِيمَةُ ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَاخْتِلَافٌ مَحَلُّهُ كُتُبُ الْفِقْهِ ( تَاسِعِهَا ) بَيْنَ الْخُصُومِ فِي التَّقَدُّمِ إلَى الْحَاكِمِ فِي الْحُكْمِ ( عَاشِرُهَا ) بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فَيَمِينٌ تَكُونُ مُحَاكَمَتُهَا عِنْدَهُ ( حَادِي عَشَرَتِهَا ) إذَا ازْدَحَمَ اثْنَانِ عَلَى اللَّقِيطِ فَالسَّابِقُ أَوْلَى ، وَإِلَّا فَالْقُرْعَةُ ( ثَانِي عَشَرَتِهَا ) إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَقُلْنَا أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ ، وَاخْتَلَفَا فِيمَنْ يَبْدَأُ بِالْيَمِينِ فَفِيهِ أَقْوَالٌ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَقْرَعُ بَيْنَهُمَا ، وَالْمَشْهُورُ تَقْدِمَةُ الْبَائِعِ ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَانِ يَخْتَلِفَانِ فِي قَدْرِ الصَّدَاقِ فَيَتَحَالَفَانِ ( ثَالِثِ عَشَرَتِهَا ) فِي الْمُتَيْطِيَّةِ أَنَّ كِتَابَةَ الْوَثَائِقِ وَالْمَكَاتِيبِ فَرْضٌ عَلَى مَنْ يَعْلَمْهَا إذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ سِوَاهُ ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً كَانَتْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ فَإِنْ قَامَ بِهَا أَحَدُهُمْ سَقَطَ الطَّلَبُ عَنْ الْبَاقِينَ ، وَإِنْ امْتَنَعُوا جَمِيعُهُمْ اقْتَرَعُوا فَمَنْ خَرَجَ اسْمُهُ كَتَبَ ( رَابِعَ عَشَرَتِهَا ) فِي شَرْعِ الْجَلَّابِ فِيمَنْ يَبْدَأُ بِهِ مِنْ الْوَصَايَا إذَا اجْتَمَعَ عِتْقُ الظِّهَارِ ، وَعِتْقُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، وَضَاقَ الثُّلُثُ فَأَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عِتْقُ بَعْضِ الرَّقَبَةِ فَيُقْرِعُ بَيْنَهُمَا فَيَصِحُّ الْعِتْقُ لِأَحَدِهِمَا ( خَامِسُ عَشَرَتِهَا ) إذَا انْكَسَرَتْ يَمِينٌ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا عَلَى أَكْثَرِهِمْ نَصِيبًا مِنْ الْأَيْمَانِ ، وَقِيلَ أَكْثَرُهُمْ نَصِيبًا مِنْ الْكَسْرِ ، وَقِيلَ يَقْرَعُ بَيْنَهُمْ عَلَيْهَا ( سَادِسِ عَشَرَتِهَا ) إذَا تَقَارَبَتْ الْأَنَادِرُ وَأَرَادُوا الذَّرْوَ وَكَانَ يَخْتَلِطُ نَبْتُهُمْ إذَا ذَرُّوا جَمِيعًا فَيُقَالُ اقْتَرِعُوا عَلَى الذَّرْوِ فَإِنْ أَبَوْا لَمْ يُجْبَرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى قَطْعِ أَنْدَرِهِ ، وَيُقَالُ لِمَنْ أَذْرَى عَلَى صَاحِبِهِ أَتْلَفْت نَبْتَك لَا شَيْءَ لَك مِنْ الطُّرَرِ ( سَابِعَ عَشَرَتِهَا ) إذَا زُفَّتْ إلَيْهِ امْرَأَتَانِ فِي

لَيْلَةٍ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَهُ يَخْتَارُ ( ثَامِنَ عَشَرَتِهَا ) يُقْرِعُ الْحَاكِمُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ إذَا تَنَازَعَا فِيمَنْ هُوَ الْمُدَّعِي مِنْهُمَا ، وَأَشْكَلَ عَلَى الْحَاكِمِ مَعْرِفَةُ الْمُدَّعِي ( تَاسِعَ عَشَرَتِهَا ) تَقْسِيمُ الْغَنِيمَةِ خَمْسَةَ أَخْمَاسٍ فَإِذَا اعْتَدَلَتْ ضَرَبَ عَلَيْهَا بِالْقُرْعَةِ فَإِذَا تَعَيَّنَ الْخُمُسُ أُفْرِدَ ثُمَّ جُمِعَتْ الْأَرْبَعَةُ فَبِيعَتْ ، وَقُسِّمَ ثَمَنُهَا أَوْ قُسِّمَتْ الْغَنِيمَةُ بِأَعْيَانِهَا بَيْنَ أَهْلِ الْجَيْشِ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْخِلَافِ فَانْظُرْ شَرْحَ الرِّسَالَةِ لِلتَّادَلِيِّ فِي بَابِ الْجِهَادِ ( الْمُوفِي عِشْرِينَ ) إذَا اجْتَمَعَتْ الْجَنَائِزُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، وَاسْتَوَتْ الْأَوْلِيَاءُ فِي الْفَضْلِ ، وَتَشَاحُّوا فِي التَّقَدُّمِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ ( الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ ) إذَا اجْتَمَعَ الْخُصُومُ عِنْدَ الْقَاضِي ، وَفِيهِمْ مُسَافِرُونَ وَمُقِيمُونَ ، وَخَافَ الْمُسَافِرُونَ فَوَاتَ الرُّفْقَةِ قُدِّمُوا إلَّا أَنْ يَكْثُرُوا كَثْرَةً يَلْحَقُ الْمُقِيمِينَ مِنْهَا ضَرَرٌ فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمْ ذَكَرَهُ الْمَازِرِيُّ ( الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ ) فِي عِتْقِ الْعَبِيدِ إذَا أَوْصَى بِعِتْقِهِمْ أَوْ بِثُلُثِهِمْ فِي الْمَرَضِ ثُمَّ مَاتَ ، وَلَمْ يَحْمِلْهُمْ الثُّلُثُ عَتَقَ مَبْلَغُ الثُّلُثِ مِنْهُمْ بِالْقُرْعَةِ ا هـ زَادَ الْأَصْلُ وَلَوْ لَمْ يَدَّعِ غَيْرُهُمْ عَتَقَ ثُلُثِهِمْ أَيْضًا بِالْقُرْعَةِ ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا تَجُوزُ الْقُرْعَةُ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِهِمْ ، وَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُهُ وَيُسْتَسْعَى فِي بَاقِي قِيمَتِهِ لِلْوَرَثَةِ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا فَيَعْتِقُ ، لَنَا سِتَّةٌ وُجُوهٍ ( الْأَوَّلُ ) مَا فِي الْمُوَطَّإِ { أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبِيدًا لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَأَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْتَقَ ثُلُثَ الْعَبِيدِ } قَالَ مَالِكٌ ، وَبَلَغَنِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ الرَّجُلِ مَالٌ غَيْرُهُمْ ( الثَّانِي ) مَا فِي الصِّحَاحِ { أَنَّ

رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمَالِيكَ لَهُ فِي مَرَضِهِ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ فَدَعَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَزَّأَهُمْ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ اثْنَيْنِ ، وَرَقَّ أَرْبَعَةً } ( الثَّالِثُ ) إجْمَاعُ التَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ وَابْنُ سِيرِينَ ، وَغَيْرُهُمْ ، وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ مِنْ مِصْرِهِمْ أَحَدٌ ( الرَّابِعُ ) الْقِيَاسُ عَلَى قِسْمَةِ الْأَرْضِ الَّتِي وَافَقْنَا فِيهَا أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذْ لَا مُرَجِّحَ ( الْخَامِسُ ) أَنَّ فِي الِاسْتِسْعَاءِ مَشَقَّةً وَضَرَرًا عَلَى الْعَبِيدِ بِالْإِلْزَامِ ، وَعَلَى الْوَرَثَةِ بِتَأْخِيرِ الْحَقِّ ، وَتَعْجِيلِ حَقِّ الْمُوصِي لَهُ ، وَالْقَوَاعِدُ تَقْتَضِي تَقْدِيمَ حَقِّ الْوَارِثِ لِأَنَّ لَهُ الثُّلُثَيْنِ ( السَّادِسُ ) أَنَّ مَقْصُودَ الْوَصِيِّ كَمَالُ الْعِتْقِ فِي الْعَبْدِ لِيَتَفَرَّغَ لِلطَّلَعَاتِ ، وَيَحُوزَ الِاكْتِسَابَ وَالْمَنَافِعَ مِنْ نَفْسِهِ ، وَتَجْزِئَةُ الْعِتْقِ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ لَا يَحْصُلُ الْكَمَالُ أَبَدًا ، وَأَمَّا الْأَوْجُهُ السِّتَّةُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا ( فَالْأَوَّلُ ) قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا عِتْقَ إلَّا فِيمَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ } ، وَالْمَرِيضُ مَالِكُ الثُّلُثِ مِنْ كُلِّ عَبْدٍ فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ ، وَلِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ وَاقِعَةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ فِيهَا ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ اثْنَيْنِ يَحْتَمِلُ شَائِعَيْنِ لَا مُعَيَّنَيْنِ ، وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّ الْعَادَةَ تَقْتَضِي اخْتِلَافَ قِيَمِ الْعَبِيدِ فَيَتَعَذَّرُ أَنْ يَكُونَ اثْنَانِ مُعَيَّنَانِ ثُلُثَ مَالِهِ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْعِتْقَ إنَّمَا وَقَعَ فِيمَا يَمْلِكُ وَمَا قَالَ الْعِتْقُ فِي كُلِّ مَا يَمْلِكُ فَإِذَا نَفَذَ الْعِتْقُ فِي عَبْدَيْنِ وَقَعَ الْعِتْقُ فِيمَا يَمْلِكُ ، وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ قَضِيَّةُ عَيْنٍ فَنَقُولُ هِيَ وَرَدَتْ فِي تَمْهِيدِ قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ كَالرَّجْمِ وَغَيْرِهِ فَتَعُمُّ ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى

الْجَمَاعَةِ } ، وَقَوْلُهُ إنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ شَائِعًا بَاطِلٌ بِالْقُرْعَةِ لِأَنَّهَا لَا مَعْنًى لَهَا مَعَ الْإِشَاعَةِ ، وَاتِّفَاقُهُمْ فِي الْقِيمَةِ لَيْسَ مُتَعَذِّرًا عَادَةً لَا سِيَّمَا مَعَ الْجَلْبِ وَوَخْشِ الرَّقِيقِ ( وَالْوَجْهُ الثَّانِي ) أَنَّ الْقُرْعَةَ عَلَى خِلَافِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا مِنْ الْمَيْسِرِ ، وَعَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ لِأَنَّ فِيهِ الْحُرِّيَّةَ بِالْقُرْعَةِ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَيْسِرَ هُوَ الْقِمَارُ ، وَتَمْيِيزُ الْحُقُوقِ لَيْسَ قِمَارًا ، وَقَدْ أَقْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ وَغَيْرِهِمْ ، وَاسْتُعْمِلَتْ الْقُرْعَةُ فِي شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ } الْآيَةَ و { إذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } وَلَيْسَ فِيهَا نَقْلُ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ عِتْقَ الْمَرِيضِ لَمْ يَتَحَقَّقْ لِأَنَّهُ إنْ صَحَّ عَتَقَ الْجَمِيعُ ، وَإِنْ طَرَأَتْ دُيُونٌ بَطَلَ ، وَإِنْ مَاتَ ، وَهُوَ يُخْرِجُ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ مِنْ الثُّلُثِ فَلَمْ يَقَعْ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْعِتْقِ إلَّا مَا أَخْرَجَتْهُ الْقُرْعَةُ ( وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ ) أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ كُلِّ وَاحِدٍ صَحَّ فَيَنْفُذُ هَاهُنَا قِيَاسًا عَلَى ذَلِكَ ، وَعَلَى حَالِ الصِّحَّةِ ( وَجَوَابُهُ ) أَنَّ مَقْصُودَ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالتَّمْلِيكِ ، وَهُوَ حَاصِلٌ فِي مِلْكِ الشَّائِعِ كَغَيْرِهِ ، وَمَقْصُودُ الْعِتْقِ التَّخْلِيصُ لِلطَّاعَاتِ وَالِاكْتِسَابِ ، وَلَا يَحْصُلُ مَعَ التَّبْعِيضِ ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ شَائِعًا لَا يُؤَخِّرُ حَقَّ الْوَارِثِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْوَصِيَّةِ ، وَهَاهُنَا يَتَأَخَّرُ بِالِاسْتِسْعَاءِ ( وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ ) أَنَّهُ لَوْ بَاعَ ثُلُثَ كُلِّ عَبْدٍ جَازَ ، وَالْبَيْعُ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ وَالْعِتْقُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ فَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْقُرْعَةِ لِأَنَّ فِيهَا تَحْوِيلَ الْعِتْقِ كَمَا تَقَدَّمَ ( وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ ) أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَالِكًا لِثُلُثِهِمْ فَأَعْتَقَهُ لَمْ يَجْتَمِعْ ذَلِكَ فِي اثْنَيْنِ مِنْهُمْ ، وَالْمَرِيضُ لَمْ

يَمْلِكْ غَيْرَ الثُّلُثِ فَلَا يَجْمَعُ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَدَمِ الْمِلْكِ ، وَالْمَنْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي نُفُوذِ الْعِتْقِ ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ إذَا مَلَكَ الثُّلُثَ فَقَطْ لَمْ يَحْصُلْ تَنَازُعٌ فِي الْعِتْقِ ، وَلَا حِرْمَانٌ مِنْ تَنَاوُلِهِ لَفْظَ الْعِتْقِ ( وَالْوَجْهُ السَّادِسُ ) أَنَّ الْقُرْعَةَ إنَّمَا تَدْخُلُ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ فِيمَا يَجُوزُ التَّرَاضِي عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَالَةَ الصِّحَّةِ لَمَّا لَمْ يَجُزْ التَّرَاضِي عَلَى انْتِقَاضِهَا لَمْ يَجُزْ الْقُرْعَةُ فِيهَا ، وَالْأَمْوَالُ يَجُوزُ التَّرَاضِي فِيهَا قَدْ خَلَتْ الْقُرْعَةُ فِيهَا ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْوَارِثَ لَوْ رَضِيَ تَنْفِيذَ عِتْقِ الْجَمِيعِ لَصَحَّ فَهُوَ يَدْخُلُهُ الرِّضَا ا هـ كَلَامُ الْأَصْلِ ، وَسَلَّمَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ .

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ كُفْرٌ وَقَاعِدَةِ مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ ) : اعْلَمْ أَنَّ النَّهْيَ يَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ كَمَا أَنَّ الْأَوَامِرَ تَعْتَمِدُ الْمَصَالِحَ فَأَعْلَى رُتَبِ الْمَفَاسِدِ الْكُفْرُ ، وَأَدْنَاهَا الصَّغَائِرُ وَالْكَبَائِرُ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ ، وَأَكْثَرُ الْتِبَاسِ الْكُفْرِ إنَّمَا هُوَ بِالْكَبَائِرِ فَأَعْلَى رُتَبِ الْكَبَائِرِ يَلِيهَا أَدْنَى رُتَبِ الْكُفْرِ ، وَأَدْنَى رُتَبِ الْكَبَائِرِ يَلِيهَا أَعْلَى رُتَبِ الصَّغَائِرِ وَأَصْلُ الْكُفْرِ إنَّمَا هُوَ انْتِهَاكٌ خَاصٌّ لِحُرْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ إمَّا بِالْجَهْلِ بِوُجُودِ الصَّانِعِ أَوْ صِفَاتِهِ الْعُلَى وَيَكُونُ الْكُفْرُ بِفِعْلٍ كَرَمْيِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ أَوْ السُّجُودِ لِلصَّنَمِ أَوْ التَّرَدُّدِ لِلْكَنَائِسِ فِي أَعْيَادِهِمْ بِزِيِّ النَّصَارَى ، وَمُبَاشَرَةِ أَحْوَالِهِمْ أَوْ جَحْدِ مَا عُلِمَ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَقَوْلُنَا انْتِهَاكٌ خَاصٌّ احْتِرَازٌ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ فَإِنَّهَا انْتِهَاكٌ ، وَلَيْسَتْ كُفْرًا وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا الْخُصُوصِ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَجَحْدُ مَا عُلِمَ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَجَحْدِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْقُرُبَاتِ بَلْ لَوْ جَحَدَ بَعْضَ الْإِبَاحَاتِ الْمَعْلُومَةِ بِالضَّرُورَةِ كَفَرَ كَمَا لَوْ قَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبِحْ التِّينَ ، وَلَا الْعِنَبَ ، وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّ جَاحِدَ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ يَكْفُرُ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ مُشْتَهِرًا فِي الدِّينِ حَتَّى صَارَ ضَرُورِيًّا فَكَمْ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا إجْمَاعًا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا خَوَاصُّ الْفُقَهَاءِ فَجَحْدُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَخْفَى الْإِجْمَاعُ فِيهَا لَيْسَ كُفْرًا بَلْ قَدْ جَحَدَ أَصْلَ الْإِجْمَاعِ جَمَاعَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ الرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ كَالنَّظَّامِ ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا قَالَ بِكُفْرِهِمْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ جَحَدُوا أَصْلَ الْإِجْمَاعِ

وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ بَذَلُوا جُهْدَهُمْ فِي أَدِلَّتِهِ فَمَا ظَفِرُوا بِهَا كَمَا ظَفِرَ بِهَا الْجُمْهُورُ فَكَانَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي حَقِّهِمْ .
كَمَا أَنَّ مُتَجَدِّدَ الْإِسْلَامِ إذَا قَدِمَ مِنْ أَرْضِ الْكُفْرِ وَجَحَدَ فِي مَبَادِئِ أَمْرِهِ بَعْضَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الْمَعْلُومَةِ لَنَا مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ لَا نُكَفِّرُهُ لِعُذْرِهِ بِعَدَمِ الِاطِّلَاعِ ، وَإِنْ كُنَّا نُكَفِّرُ بِذَلِكَ الْجَحْدِ غَيْرَهُ وَبِهَذَا التَّقْرِيبِ نُجِيبُ عَنْ سُؤَالِ السَّائِلِ كَيْفَ تُكَفِّرُونَ جَاحِدَ الْمَسَائِلِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا ، وَلَا تُكَفِّرُونَ جَاحِدَ أَصْلِ الْإِجْمَاعِ ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ الْفَرْعُ أَقْوَى مِنْ الْأَصْلِ ؟ .
وَالْجَوَابُ بِأَنْ نَقُولَ إنَّا لَمْ نُكَفِّرْ بِالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَلْ مِنْ حَيْثُ الشُّهْرَةُ الْمُحَصِّلَةُ لِلضَّرُورَةِ فَمَتَى انْضَافَتْ هَذِهِ الشُّهْرَةُ لِلْإِجْمَاعِ كَفَرَ جَاحِدُ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ ، وَإِذَا لَمْ تَنْضَفْ لَمْ نُكَفِّرْهُ وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ لَمْ يُجْعَلْ الْفَرْعُ أَقْوَى مِنْ الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَفَّرْنَا بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ مُشْتَهِرٌ فَمَنْ جَحَدَ إبَاحَةَ الْفَرَائِضِ لَا نُكَفِّرُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَإِنَّ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ فِيهِ إنَّمَا يَعْلَمُهُ خَوَاصُّ الْفُقَهَاءِ أَوْ الْفُقَهَاءُ دُونَ غَيْرِهِمْ ، وَأَلْحَقَ الْأَشْعَرِيُّ بِالْكُفْرِ إرَادَةَ الْكُفْرِ كَبِنَاءِ الْكَنَائِسِ لِيَكْفُرَ فِيهَا أَوْ قَتْلِ نَبِيٍّ مَعَ اعْتِقَادِهِ صِحَّةَ رِسَالَتِهِ لِيُمِيتَ شَرِيعَتَهُ ، وَمِنْهُ تَأْخِيرُ إسْلَامِ مَنْ أَتَى لِيُسْلِمَ عَلَى يَدَيْك فَتُشِيرُ عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ إرَادَةٌ لِبَقَاءِ الْكُفْرِ .
وَلَا يَنْدَرِجُ فِي إرَادَةِ الْكُفْرِ الدُّعَاءُ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ عَلَى مَنْ تُعَادِيهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إرَادَةُ الْكُفْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ إذَايَةُ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ مِنْهُ أَيْضًا اخْتِيَارُ الْإِمَامِ عَقْدَ الْجِزْيَةِ

عَلَى الْأُسَارَى عَلَى الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِمَحْوِ الْكُفْرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَفِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ إرَادَةُ اسْتِمْرَارِ الْكُفْرِ فِي قُلُوبِهِمْ فَهُوَ فِيهِ إرَادَةُ الْكُفْرِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَوَقُّعُ الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ إذَا بَقُوا أَحْيَاءَ وَفِي تَعْجِيلِ الْقَتْلِ عَلَيْهِمْ سَدُّ بَابِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ فَالْمَقْصُودُ تَوَقُّعُ الْإِيمَانِ وَحُصُولُ الْكُفْرِ وَقَعَ بِالْعَرَضِ فَهُوَ مَشْرُوعٌ مَأْمُورٌ بِهِ وَاجِبٌ عِنْدَ تَعْيِينِ مُقْتَضِيهِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ وَالْفَاعِلُ لَهُ بِخِلَافِ الدُّعَاءِ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَيَأْثَمُ قَائِلُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكْفُرْ بِذَلِكَ .
وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْفَرْقَ بَيْنَ السُّجُودِ لِلشَّجَرَةِ وَالسُّجُودِ لِلْوَالِدِ فِي أَنَّ الْأَوَّلَ كُفْرٌ دُونَ الثَّانِي ، وَإِنْ كَانَ السَّاجِدُ فِي الْحَالَتَيْنِ مُعْتَقِدًا مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَمَا يَسْتَحِيلُ ، وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ التَّشْرِيكَ فِي السُّجُودِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ بِذَلِكَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَعْتَقِدُهُ السَّاجِدُ لِلْوَالِدِ وَقَدْ قَالَتْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ { مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى } مَعَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْكَبِيرَةِ إنَّمَا هُوَ بِعِظَمِ الْمَفْسَدَةِ وَصِغَرِهَا لِاشْتِرَاكِ الْجَمِيعِ فِي الْمَفْسَدَةِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْرِيمِ ، وَمَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي نَعْلَمُهَا مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ فِي إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَسَجَدُوا لَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ قِبْلَةً عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَلْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّعْظِيمِ بِذَلِكَ السُّجُودِ ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ هُنَالِكَ بِمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْكُفْرِ ، وَلَا أَنَّهُ أَبَاحَ الْكُفْرَ لِأَجْلِ آدَمَ ، وَلَا أَنَّ فِي السُّجُودِ لِآدَمَ مَفْسَدَةً تَقْتَضِي كُفْرًا .
وَلَوْ فَعَلَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ رَبِّهِ ،

وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ عَنْهُمَا سَبَبَا الْمَفَاسِدِ وَالْمَصَالِحِ فَإِنْ نَهَى عَنْ السُّجُودِ كَانَ مَفْسَدَةً ، وَإِنْ أَمَرَ بِهِ كَانَ مَصْلَحَةً ؛ لِأَنَّ هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ الدَّوْرُ ؛ لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ تَكُونُ حِينَئِذٍ تَابِعَةً لِلنَّهْيِ مَعَ أَنَّ النَّهْيَ يَتْبَعُ الْمَفْسَدَةَ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَابِعًا لِصَاحِبِهِ فَيَلْزَمْ الدَّوْرَ بَلْ الْحَقُّ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ يَتْبَعُهَا النَّهْيُ ، وَمَا لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ لَا يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَاسْتِقْرَاءُ الشَّرَائِعِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ السَّرِقَةَ لَمَّا كَانَ فِيهَا ضَيَاعُ الْمَالِ نَهَى عَنْهَا ، وَلَمَّا كَانَ فِي الْقَتْلِ فَوَاتُ الْحَيَاةِ نَهَى عَنْهُ وَلَمَّا كَانَ فِي الزِّنَا مَفْسَدَةُ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ نَهَى عَنْهُ ، وَلَمَّا كَانَ فِي الْخَمْرِ ذَهَابُ الْعُقُولِ نَهَى عَنْهُ فَلَا جَرَمَ لَمَّا صَارَ الْخَمْرُ خَلًّا ذَهَبَ عَنْهُ النَّهْيُ وَلَمَّا كَانَ عَصِيرًا لَا يُفْسِدُ الْعَقْلَ لَمْ يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَالِاسْتِقْرَاءُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَفَاسِدَ وَالْمَصَالِحَ سَابِقَةٌ عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ، وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ تَابِعٌ لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَمَا فِيهِ مَفْسَدَةٌ يَنْهَى عَنْهُ فَإِذَا فَعَلَ حَصَلَ الْعِقَابُ ، وَمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَمَرَ بِهِ فَإِذَا فَعَلَ حَصَلَ الثَّوَابُ فَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى فَلَوْ عَلَّلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَزِمَ تَقَدُّمُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ بِرُتْبَتَيْنِ وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْأَغْبِيَاءُ مِنْ الطَّلَبَةِ مَصْلَحَةُ هَذَا الْأَمْرِ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ فَيُعَلِّلُونَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَهُوَ غَلَطٌ وَأَمَّا الْجَهْلُ بِاَللَّهِ تَعَالَى عَشَرَةُ أَقْسَامٍ ( أَحَدُهَا ) مَا لَمْ نُؤْمَرْ بِإِزَالَتِهِ أَصْلًا ، وَلَمْ نُؤَاخَذْ بِبَقَائِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ لَنَا لَا يُمْكِنُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ وَهُوَ جَلَالُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ الَّتِي لَمْ تَدُلَّ عَلَيْهَا الصَّنْعَةُ ، وَلَمْ يَقْدِرْ الْعَبْدُ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِالنَّظَرِ فَعَفَا عَنْهُ

لِعَجْزِنَا عَنْهُ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِك } وَقَوْلِ الصِّدِّيقِ الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إدْرَاكٌ وَقِسْمٌ ) أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ كُفْرٌ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ جَحَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ أَوْ مُتَكَلِّمٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ فَإِنْ جَهِلَ الصِّفَةَ ، وَلَمْ يَنْفِهَا كَفَّرَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ لَا يَكْفُرُ ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ الْأَشْعَرِيُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَمِّمْ عَلَى اعْتِقَادِ ذَلِكَ وَيَعْضُدُهُ حَدِيثُ الْقَائِلِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِّي الْحَدِيثَ .
وَحَدِيثُ { السَّوْدَاءِ لَمَّا قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ اللَّهُ قَالَتْ فِي السَّمَاءِ } قَالَ ، وَلَوْ كُوشِفَ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى الصِّفَاتِ لَمْ يَعْلَمْهَا ( قُلْتُ ) فَنَفْيُ الصِّفَاتِ وَالْجَزْمُ بِنَفْيِهَا هُوَ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ نَفْيَ الْعِلْمِ أَوْ الْكَلَامِ أَوْ الْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بَلْ الْعَالِمُ وَالْمُتَكَلِّمُ وَالْمُرِيدُ فَمَنْ نَفَى أَصْلَ الْمَعْنَى وَحُكْمَهُ هُوَ الْمُجْمَعُ عَلَى كُفْرِهِ وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالدَّهْرِيَّةِ دُونَ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ .

قَالَ ( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ كُفْرٌ وَقَاعِدَةِ مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ إلَى قَوْلِهِ وَالْكَبَائِرُ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ ) : قُلْتُ : إنْ أَرَادَ الْمَفَاسِدَ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْكُفْرَ أَعْظَمُ الْمَفَاسِدِ ، وَمَا عَدَاهُ تَتَفَاوَتْ رُتَبُهُ .
قَالَ : ( وَأَكْثَرُ الْتِبَاسِ الْكُفْرِ إنَّمَا هُوَ بِالْكَبَائِرِ إلَى قَوْلِهِ ، وَأَدْنَى رُتَبِ الْكَبَائِرِ يَلِيهَا أَعْلَى رُتَبِ الصَّغَائِرِ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ أَكْثَرَ الْتِبَاسِ الْكُفْرِ إنَّمَا هُوَ بِالْكَبَائِرِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَكَيْفَ يَلْتَبِسُ الْكُفْرُ بِالْكَبَائِرِ وَالْكُفْرُ أَمْرٌ اعْتِقَادِيٌّ وَالْكَبَائِرُ أَعْمَالٌ ، وَلَيْسَتْ بِاعْتِقَادٍ سَوَاءٌ كَانَتْ أَعْمَالًا قَلْبِيَّةً أَوْ بَدَنِيَّةً .
قَالَ : ( وَأَصْلُ الْكُفْرِ أَنَّهُ انْتِهَاكٌ خَاصٌّ لِحُرْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ ) قُلْتُ : لَيْسَ الْكُفْرُ انْتِهَاكَ حُرْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَلَكِنَّهُ الْجَهْلُ بِالرُّبُوبِيَّةِ فَلَا يَصْدُرُ عَادَةً مِمَّنْ يَدِينُ بِالرُّبُوبِيَّةِ .
قَالَ : ( أَمَّا الْجَهْلُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ أَوْ صِفَاتِهِ الْعُلَى ) قُلْتُ : الْجَهْلُ بِذَلِكَ هُوَ الْكُفْرُ خَاصَّةً عِنْدَ مَنْ لَا يُصَحِّحُ الْكُفْرَ عِنَادًا ، وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ يُصَحِّحُهُ فَالْكُفْرُ إمَّا الْجَهْلُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَإِمَّا جَحْدُهُ وَانْتِهَاكُ الْحُرْمَةِ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْجَهْلِ أَمَّا مَعَ الْعِلْمِ فَيَتَعَذَّرُ عَادَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَالَ : ( وَيَكُونُ الْكُفْرُ بِفِعْلٍ كَرَمْيِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ ) قُلْتُ : رَمْيُ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَعَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ مَعَ الْجَهْلِ بِهِ فَإِنْ كَانَ مَعَ الْجَهْلِ فَالْكُفْرُ هُوَ الْجَهْلُ لَا عَيْنُ رَمْيِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَعَ التَّكْذِيبِ بِهِ أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ مَعَ التَّكْذِيبِ بِهِ فَهُوَ كُفْرٌ ، وَإِلَّا فَهُوَ مَعْصِيَةٌ غَيْرُ كُفْرٍ .
قَالَ : ( وَالسُّجُودُ لِلصَّنَمِ ) قُلْتُ

: إنْ كَانَ السُّجُودُ لِلصَّنَمِ مَعَ اعْتِقَادِ كَوْنِهِ إلَهًا فَهُوَ كُفْرٌ ، وَإِلَّا فَلَا ، بَلْ يَكُونُ مَعْصِيَةً إنْ كَانَ لِغَيْرِهِ إكْرَاهٌ أَوْ جَائِزٌ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ قَالَ : ( أَوْ التَّرَدُّدُ إلَى الْكَنَائِسِ فِي أَعْيَادِهِمْ ، وَمُبَاشَرَةُ أَحْوَالِهِمْ ) قُلْتُ : هَذَا لَيْسَ بِكُفْرٍ إلَّا أَنْ يَعْتَقِدَ مُعْتَقَدَهُمْ .
قَالَ : ( أَوْ جَحَدَ مَا عُلِمَ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ ) قُلْتُ : هَذَا كُفْرٌ إنْ كَانَ جَحَدَهُ بَعْدَ عِلْمِهِ فَيَكُونُ تَكْذِيبًا ، وَإِلَّا فَهُوَ جَهْلٌ وَذَلِكَ الْجَهْلُ مَعْصِيَةٌ ؛ لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ بِإِزَالَةِ مِثْلِ هَذَا الْجَهْلِ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ .
قَالَ : ( فَقَوْلُنَا انْتِهَاكٌ خَاصٌّ احْتِرَازٌ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ فَإِنَّهَا انْتِهَاكٌ ، وَلَيْسَتْ كُفْرًا وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا الْخُصُوصِ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) قُلْتُ : لَيْسَتْ الْكَبَائِرُ وَالصَّغَائِرُ انْتِهَاكًا لِحُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا هِيَ جُرْأَةٌ عَلَى مُخَالَفَةٍ تُحْمَلُ عَلَيْهَا الْأَغْرَاضُ وَالشَّهَوَاتُ .
قَالَ : ( وَجَحْدُ مَا عُلِمَ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ إلَى قَوْلِهِ ، وَإِنْ كُنَّا نُكَفِّرُ بِذَلِكَ الْجَحْدِ غَيْرَهُ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ إلَّا كَوْنَهُ اقْتَصَرَ عَلَى اشْتِرَاطِ شُهْرَةِ ذَلِكَ الْأَمْرِ مِنْ الدِّينِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ اشْتِهَارِ ذَلِكَ مِنْ وُصُولِ ذَلِكَ إلَى هَذَا الشَّخْصِ وَعِلْمِهِ بِهِ فَيَكُونُ إذْ ذَاكَ مُكَذِّبًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ فَيَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ الْأَمْرَ ، وَكَانَ مِنْ مَعَالِمِ الدِّينِ الْمُشْتَهِرَةِ فَهُوَ عَاصٍ بِتَرْكِ التَّسَبُّبِ إلَى عِلْمِهِ لَيْسَ بِكَافِرٍ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ قَالَ : ( وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ نُجِيبُ عَلَى سُؤَالِ السَّائِلِ إلَى قَوْلِهِ الْإِجْمَاعُ فِيهِ إنَّمَا يَعْلَمُهُ خَوَاصُّ الْفُقَهَاءِ أَوْ الْفُقَهَاءُ دُونَ غَيْرِهِمْ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ إلَّا مَا نَقَضَهُ مِنْ شَرْطِ عِلْمِ هَذَا الشَّخْصِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُشْتَهَرِ .
قَالَ : ( وَأَلْحَقَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ

الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِالْكُفْرِ إرَادَةَ الْكُفْرَ كَبِنَاءِ الْكَنَائِسِ لِيَكْفُرَ فِيهَا ) قُلْتُ : إنْ كَانَ بَنَاهَا الشَّخْصُ لِاعْتِقَادِهِ رُجْحَانَ الْكُفْرِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَهُوَ كُفْرٌ لَا شَكَّ ، وَإِنْ كَانَ بَنَاهَا الْكَافِرُ إرَادَةَ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ وَالتَّوَدُّدِ لَهُ بِذَلِكَ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ لَا كُفْرٌ .
قَالَ : ( أَوْ قَتْلِ نَبِيٍّ مَعَ اعْتِقَادِهِ صِحَّةَ رِسَالَتِهِ لِيُمِيتَ شَرِيعَتَهُ ) قُلْتُ : ذَلِكَ كُفْرٌ ، وَلَكِنْ لَا يَتَأَتَّى فَرْضُهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ مِنْ يُجَوِّزُ الْكُفْرَ عِنَادًا .
قَالَ : ( وَمِنْهُ تَأْخِيرُ إسْلَامِ مَنْ أَتَى لِيُسْلِمَ عَلَى يَدَيْكَ فَتُشِيرُ عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ إرَادَةٌ لِبَقَاءِ الْكُفْرِ ) قُلْتُ : ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا إنْ كَانَ إنَّمَا أَشَارَ بِالتَّأْخِيرِ لِاعْتِقَادِهِ رُجْحَانَ الْكُفْرِ ، وَقَدْ لَا يَكُونُ كُفْرًا إنْ كَانَ إنَّمَا أَرَادَ بِالتَّأْخِيرِ لِكَوْنِهِ لَا يُرِيدُ لِهَذَا الْإِسْلَامِ لِحِقْدٍ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَعْتَقِدَ الْمُشِيرُ رُجْحَانَ الْكُفْرِ .
قَالَ : ( وَلَا يَنْدَرِجُ فِي إرَادَةِ الْكُفْرِ الدُّعَاءُ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ عَلَى مَنْ تُعَادِيهِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ إرَادَةُ الْكُفْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا فِيهِ انْتِهَاكَ حُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ إذَايَةَ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ ) قُلْتُ : هَذَا الَّذِي قَالَهُ هُنَا مُوَافِقٌ لِمَا قُلْتُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْإِشَارَةِ بِتَأْخِيرِ الْإِسْلَامِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يُشِرْ بِذَلِكَ عَلَيْهِ إلَّا بِقَصْدِ إذَايَتِهِ لَا لِاعْتِقَادِهِ رُجْحَانَ الْكُفْرِ .
قَالَ : ( وَلَيْسَ مِنْهُ أَيْضًا اخْتِيَارُ الْإِمَامِ عَقْدَ الْجِزْيَةِ عَلَى الْأُسَارَى عَلَى الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِمَحْوِ الْكُفْرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَفِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ إرَادَةُ اسْتِمْرَارِ الْكُفْرِ فِي قُلُوبِهِمْ فَهُوَ فِيهِ إرَادَةُ الْكُفْرِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَوَقُّعُ الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ إذَا بَقُوا أَحْيَاءَ وَفِي تَعْجِيلِ الْقَتْلِ عَلَيْهِمْ سَدُّ بَابِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ ، وَمِنْ

ذُرِّيَّتِهِمْ فَالْمَقْصُودُ تَوَقُّعُ الْإِيمَانِ ، وَحُصُولُ الْكُفْرِ وَقَعَ بِالْعَرَضِ ) قُلْتُ : مَا حَامَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلُّهُ صَحِيحٌ وَهُوَ أَنَّ اسْتِبْقَاءَ الْأُسَارَى وَضَرْبَ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ لَا يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ إيثَارٌ لِاسْتِمْرَارِ الْكُفْرِ ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كُفْرًا .
قَالَ : ( فَهُوَ مَشْرُوعٌ مَأْمُورٌ بِهِ وَاجِبٌ عِنْدَ تَعْيِينِ مُقْتَضِيهِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الْفَاعِلُ لَهُ بِخِلَافِ الدُّعَاءِ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَيَأْثَمُ قَائِلُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكْفُرْ بِذَلِكَ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ مَأْمُورٌ بِهِ عِنْدَ تَعَيُّنِ مُقْتَضِيهِ كَذَلِكَ يَكُونُ لَوْ تَعَيَّنَ الْمُقْتَضِي ، وَمَتَى يَتَعَيَّنُ الْمُقْتَضِي عِنْدَنَا وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ عَاقِبَةَ أَمْرِ الْأَسِيرِ ( وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْفَرْقَ بَيْنَ السُّجُودِ لِلشَّجَرَةِ وَالسُّجُودِ لِلْوَالِدِ : فِي الْأَوَّلِ كُفْرٌ دُونَ الثَّانِي ، وَإِنْ كَانَ السَّاجِدُ فِي الْحَالَتَيْنِ مُعْتَقِدًا مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى .
وَمَا يَسْتَحِيلُ ، وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ التَّشْرِيكَ فِي السُّجُودِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ بِذَلِكَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَعْتَقِدُهُ السَّاجِدُ لِلْوَالِدِ وَقَدْ قَالَتْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ { مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى } ) قُلْتُ السَّاجِدُ لِلشَّجَرَةِ وَالسَّاجِدُ لِلْوَالِدِ إنْ سَجَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ الْمَسْجُودَ لَهُ شَرِيكُ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كُفْرٌ ، وَإِنْ سَجَدَ لَا مَعَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ بَلْ تَعْظِيمًا عَارِيًّا عَنْ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ لَا كُفْرٌ ، وَإِنْ سَجَدَ السَّاجِدُ لِلشَّجَرَةِ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ شَرِيكٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَسَجَدَ السَّاجِدُ لِلْوَالِدِ لَا مَعَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ بَلْ تَعْظِيمًا فَالْأَوَّلُ كُفْرٌ وَالثَّانِي مَعْصِيَةٌ غَيْرُ كُفْرٍ أَوْ بِالْعَكْسِ إلَّا أَنْ نَقُولَ أَنَّ مُجَرَّدَ السُّجُودِ لِلشَّجَرَةِ كُفْرٌ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ عُبِدَتْ مُدَّةً

، وَمُجَرَّدُ السُّجُودِ لِلْوَالِدِ لَيْسَ بِكُفْرٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْبُدْ مُدَّةً فَيَفْتَقِرُ ذَلِكَ إلَى تَوْقِيفٍ .
قَالَ : ( مَعَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْكَبِيرَةِ إنَّمَا هُوَ بِعِظَمِ الْمَفْسَدَةِ وَصِغَرِهَا لِاشْتِرَاكِ الْجَمِيعِ فِي الْمَفْسَدَةِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْرِيمِ ، وَمَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي نَعْلَمُهَا مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ فِي إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَسَجَدُوا لَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ قِبْلَةً عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَلْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّعْظِيمِ بِذَلِكَ السُّجُودِ ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ هُنَالِكَ بِمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْكُفْرِ ، وَلَا أَنَّهُ أَبَاحَ الْكُفْرَ لِأَجْلِ آدَمَ ، وَلَا أَنَّ فِي السُّجُودِ لِآدَمَ مَفْسَدَةً تَقْتَضِي كُفْرًا لَوْ فَعَلَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ رَبِّهِ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ عَنْهُمَا سَبَبَا الْمَفَاسِدِ وَالْمَصَالِحِ فَإِنْ نَهَى عَنْ السُّجُودِ كَانَ مَفْسَدَةً ، وَإِنْ أَمَرَ بِهِ كَانَ مَصْلَحَةً ؛ لِأَنَّ هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ الدَّوْرُ ؛ لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ تَكُونُ حِينَئِذٍ تَابِعَةً لِلنَّهْيِ مَعَ أَنَّ النَّهْيَ يَتْبَعُ الْمَفْسَدَةَ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَابِعًا لِصَاحِبِهِ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ بَلْ الْحَقُّ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ يَتْبَعُهَا النَّهْيُ ، وَمَا لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ لَا يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَاسْتِقْرَاءُ الشَّرَائِعِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ السَّرِقَةَ لَمَّا كَانَ فِيهَا ضَيَاعُ الْمَالِ نَهَى عَنْهَا وَلَمَّا كَانَ فِي الْقَتْلِ فَوَاتُ الْحَيَاةِ نَهَى عَنْهُ وَلَمَّا كَانَ فِي الزِّنَا مَفْسَدَةُ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ نَهَى عَنْهُ وَلَمَّا كَانَ فِي الْخَمْرِ ذَهَابُ الْعُقُولِ نَهَى عَنْهُ فَلَا جَرَمَ لَمَّا صَارَ الْخَمْرُ خَلًّا ذَهَبَ النَّهْيُ عَنْهُ ، وَلَمَّا كَانَ عَصِيرًا لَا يُفْسِدُ الْعَقْلَ لَمْ يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَالِاسْتِقْرَاءُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَفَاسِدَ وَالْمَصَالِحَ سَابِقَةٌ عَلَى الْأَوَامِرِ

وَالنَّوَاهِي ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ تَابِعٌ لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَمَا فِيهِ مَفْسَدَةٌ نَهَى عَنْهُ فَإِذَا فَعَلَ حَصَلَ الْعِقَابُ ، وَمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَمَرَ بِهِ فَإِذَا فَعَلَ حَصَلَ الثَّوَابُ فَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فِي الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ ، وَالْمَفْسَدَةُ وَالْمَصْلَحَةُ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى فَلَوْ عَلَّلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَزِمَ تَقَدُّمُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ بِرُتْبَتَيْنِ وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْأَغْبِيَاءُ مِنْ الطَّلَبَةِ مَصْلَحَةُ هَذَا الْأَمْرِ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ فَيُعَلِّلُونَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَهُوَ غَلَطٌ ) .
قُلْتُ : تَبَعِيَّةُ الْأَمْرِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ الْوَاجِبِ مَثَلًا لِمَصْلَحَتِهِ إنَّمَا مَعْنَاهَا وَالْمُرَادُ بِهَا أَنَّهُ لَوْلَا الْقَصْدُ إلَى تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ مَا شُرِعَ وَتَبَعِيَّةُ الْمَصْلَحَةِ لِلْأَمْرِ إنَّمَا مَعْنَاهَا وَالْمُرَادُ بِهَا أَنَّهُ لَوْلَا شَرْعِيَّةُ الْأَمْرِ الْبَاعِثِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَا حَصَلَتْ فَالْمَأْمُورُ بِهِ تَابِعٌ لِلْمَصْلَحَةِ وُجُوبًا وَالْمَصْلَحَةُ تَابِعَةٌ لَهُ وُجُودًا ، وَلَا غَرْوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ تَابِعًا لِلثَّانِي مِنْ وَجْهٍ وَيَكُونَ الثَّانِي تَابِعًا لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَالشَّجَرَةِ وَالثَّمَرَةِ ، الشَّجَرَةُ تَابِعَةٌ لِلثَّمَرَةِ أَيْ لَوْلَا الْمَقْصِدُ إلَى تَحْصِيلِ الثَّمَرَةِ مَا زُرِعَتْ الشَّجَرَةُ وَالثَّمَرَةُ تَابِعَةٌ لِلشَّجَرَةِ أَيْ لَوْلَا زَرْعُ الشَّجَرَةِ مَا حَصَلَتْ الثَّمَرَةُ وَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْرِيرَيْنِ يَبْطُلُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الدَّوْرِ وَيَصِحُّ مَا قَالَهُ الْأَغْبِيَاءُ مِنْ أَنَّ الثَّوَابَ هِيَ الْمَصْلَحَةُ وَهِيَ تَابِعَةٌ وُجُودَ الْفِعْلِ الْوَاجِبِ وَفِعْلُ الْوَاجِبِ تَابِعٌ وُجُوبًا لِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ ، وَالْمُوجِبُ لِتَوَهُّمِهِ الدَّوْرُ الْمُمْتَنِعُ إنَّمَا هُوَ الْغَفْلَةُ عَنْ تَغَايُرِ جِهَتَيْ التَّبَعِيَّةِ ، وَقَدْ انْزَاحَ الْإِشْكَالُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الْمَنِّ وَالْإِفْضَالِ .
قَالَ ( وَأَمَّا الْجَهْلُ بِاَللَّهِ تَعَالَى

فَهُوَ عَشَرَةُ أَقْسَامٍ أَحَدُهُمَا مَا لَمْ نُؤْمَرُ بِإِزَالَتِهِ أَصْلًا ، وَلَمْ نُؤَاخَذْ بِبَقَائِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ لَنَا لَا يُمْكِنُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ وَهُوَ جَلَالُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ الَّتِي لَمْ تَدُلَّ عَلَيْهَا الصَّنْعَةُ ، وَلَمْ يَقْدِرْ الْعَبْدُ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِالنَّظَرِ فَعَفَا عَنْهُ لِعَجْزِنَا عَنْهُ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِك } وَقَوْلُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إدْرَاكٌ ) .
قُلْتُ كَلَامُهُ هَذَا يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِأَنَّ هُنَاكَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الصَّنْعَةُ لَكِنَّا لَا نَعْلَمُهَا فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا نَعْلَمُهَا لَا جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا فَقَدْ تَنَاقَضَ كَلَامُهُ إذْ مَسَاقُهُ يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِثُبُوتِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُهَا عَلَى التَّفْصِيلِ ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنَّا لَا نَعْلَمَهَا عَلَى التَّفْصِيلِ ، وَإِنْ عَلِمْنَاهَا عَلَى الْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ ذَلِكَ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَهَذَا الْمَقَامُ مِمَّا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَضِي كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا صِفَةَ وَرَاءَ مَا عَلِمْنَاهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَضِي كَلَامُهُ أَنَّ هُنَاكَ صِفَاتٌ لَا نَعْلَمُهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَضِي كَلَامُهُ الْوَقْفَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ لَا تَكْلِيفَ بِإِزَالَةِ هَذَا الْجَهْلِ ، وَلَا مُؤَاخَذَةَ بِبَقَائِهِ كَمَا قَالَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، وَلَا دَلِيلَ لَهُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ لَا أَسْتَطِيعُ الْمُدَاوَمَةَ وَالِاسْتِمْرَارَ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْكَ لِلْقَوَاطِعِ عَنْ ذَلِكَ كَالنَّوْمِ وَشَبَهِهِ ، وَلَا فِي كَلَامِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ : الْعَجْزُ عَنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى جَمِيعِ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ تَعَالَى اطِّلَاعٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْمَرْبُوبِ وَالْمَالِكِ

وَالْمَمْلُوكِ وَالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَذَلِكَ هُوَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ ، وَصَحِيحُ الْإِيقَانِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَالَ : ( وَقِسْمٌ أَجْمَعُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ كُفْرٌ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ جَحَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ أَوْ مُتَكَلِّمٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ فَإِنْ جَهِلَ الصِّفَةَ ، وَلَمْ يَنْفِهَا كَفَّرَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ لَا يَكْفُرُ ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ الْأَشْعَرِيُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَمِّمْ عَلَى اعْتِقَادِ ذَلِكَ وَيُعَضِّدُهُ حَدِيثُ الْقَائِلِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لِيُعَذِّبَنِّي ، الْحَدِيثَ .
وَحَدِيثُ { السَّوْدَاءِ لَمَّا قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ اللَّهُ فَقَالَتْ فِي السَّمَاءِ } قَالَ وَلَوْ كُوشِفَ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى الصِّفَاتِ لَمْ يَعْلَمْهَا قَالَ شِهَابُ الدِّينِ قُلْتُ : فَنَفْيُ الصِّفَاتِ وَالْجَزْمُ بِنَفْيِهَا هُوَ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ نَفْيَ الْعِلْمِ أَوْ الْكَلَامِ أَوْ الْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بَلْ الْعَالِمُ وَالْمُتَكَلِّمُ وَالْمُرِيدُ فَمَنْ نَفَى أَصْلَ الْمَعْنَى وَحُكْمَهُ هُوَ الْمُجْمَعُ عَلَى كُفْرِهِ وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالدَّهْرِيَّةِ دُونَ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ ) قُلْتُ : أَكْثَرُ ذَلِكَ كُلِّهِ نَقْلٌ لَا كَلَامَ فِيهِ إلَّا الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ فَإِنَّهُ مَوْضِعٌ لَا يَكْفِي فِي مِثْلِهِ الظَّوَاهِرُ مَعَ تَعَيُّنِ التَّأْوِيلِ فِي الْحَدِيثَيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ حَدِيثَ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ ظَاهِرُهُ يَنْفِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ وَاحْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ تَارَةً قَادِرًا وَتَارَةً غَيْرَ قَادِرٍ ، وَلَيْسَ ظَاهِرُهُ نَفْيَ أَنَّهُ قَادِرٌ بِقُدْرَةٍ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ السَّوْدَاءِ ظَاهِرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَقِرٌّ فِي السَّمَاءِ اسْتِقْرَارَ الْأَجْسَامِ وَهَذَا ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُجْمَعٍ عَلَى أَنَّهُ كُفْرٌ فَإِنَّهُ بَاطِلٌ قَطْعًا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ أَقَرَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ عَلَى بَاطِلٍ قَطْعًا فَتَعَيَّنَ التَّأْوِيلُ هُنَا ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْبَاطِلِ لَا يَجُوزُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ كُفْرٌ وَقَاعِدَةِ مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ ) : الِاحْتِيَاجُ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا لِلْأَصْلِ مِنْ الْتِبَاسِ الْكُفْرِ بِالْكَبَائِرِ نَظَرًا لِمَا ادَّعَاهُ مِنْ أَنَّ الْكُفْرَ يُشَارِكُ مُطْلَقَ الْمَعْصِيَةِ كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً فِي أَمْرَيْنِ .
( الْأَمْرِ الْأَوَّلِ ) فِي مُطْلَقِ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ .
( الْأَمْرِ الثَّانِي ) فِي مُطْلَقِ الْمَفْسَدَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَالنَّوَاهِي تَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ كَمَا أَنَّ الْأَوَامِرَ تَعْتَمِدُ الْمَصَالِحَ ، وَلَكِنَّ أَعْلَى رُتَبِ الْمَفَاسِدِ الْكُفْرُ ، وَأَدْنَاهَا الصَّغَائِرُ وَالْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ الْكَبَائِرُ فَأَعْلَى رُتَبِ الْكَبَائِرِ يَلِيهَا أَدْنَى رُتَبِ الْكُفْرِ ، وَأَدْنَى رُتَبِ الْكَبَائِرِ يَلِيهَا أَعْلَى رُتَبِ الصَّغَائِرِ وَحِينَئِذٍ فَأَكْثَرُ الْتِبَاسِ الْكُفْرِ إنَّمَا هُوَ بِالْكَبَائِرِ .
قَالَ مَا تَهْذِيبُهُ : وَالْمَجَالُ فِي تَحْرِيرِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا صَعْبٌ بَلْ التَّعَرُّضُ إلَى الْحَدِّ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ أَعْلَى رُتَبِ الْكَبَائِرِ مِنْ أَدْنَى رُتَبِ الْكُفْرِ عَسِيرٌ جِدًّا وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الْكُفْرِ إنَّمَا هُوَ انْتِهَاكٌ خَاصٌّ لِحُرْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ إمَّا بِالْجَهْلِ بِوُجُودِ الصَّانِعِ أَوْ صِفَاتِهِ تَعَالَى ، وَإِمَّا بِالْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِكَرَمْيِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ أَوْ السُّجُودِ لِلصَّنَمِ أَوْ التَّرَدُّدِ لِلْكَنَائِسِ فِي أَعْيَادِهِمْ بِزِيِّ النَّصَارَى ، وَمُبَاشَرَةِ أَحْوَالِهِمْ أَوْ جَحْدِ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ وَعُلِمَ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ ، فَجَحْدُ إبَاحَةِ اللَّهِ التِّينَ وَالْعِنَبَ كُفْرٌ كَجَحْدِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ، وَمَعْنَى عِلْمِهِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنْ يُشْتَهَرَ فِي الدِّينِ حَتَّى يَصِيرَ ضَرُورِيًّا فَجَحْدُ الْمَسَائِلِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا إجْمَاعًا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا خَوَاصُّ الْفُقَهَاءِ

بِحَيْثُ يَخْفَى الْإِجْمَاعُ فِيهَا لَيْسَ كُفْرًا ، قَالَ : بَلْ قَدْ جَحَدَ أَصْلَ الْإِجْمَاعِ جَمَاعَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ الرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ كَالنَّظَّامِ ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا قَالَ بِكُفْرِهِمْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ جَحَدُوا أَصْلَ الْإِجْمَاعِ .
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ بَذَلُوا جُهْدَهُمْ فِي أَدِلَّتِهِ فَمَا ظَفِرُوا بِهَا كَمَا ظَفِرَ بِهَا الْجُمْهُورُ فَكَانَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي حَقِّهِمْ كَمَا أَنَّ مُتَجَدِّدَ الْإِسْلَامِ إذَا قَدِمَ مِنْ أَرْضِ الْكُفْرِ وَجَحَدَ فِي مَبَادِئِ أَمْرِهِ مَعْنَى شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الْمَعْلُومَةِ لَنَا مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ لَا نُكَفِّرُهُ لِعُذْرِهِ بِعَدَمِ الِاطِّلَاعِ ، وَإِنْ كُنَّا نُكَفِّرُ بِذَلِكَ الْجَحْدِ غَيْرَهُ فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّا لَا نُكَفِّرُ بِالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ حَتَّى يُقَالَ كَيْفَ تُكَفِّرُونَ جَاحِدَ الْمَسَائِلِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا ، وَلَا تُكَفِّرُونَ جَاحِدَ أَصْلِ الْإِجْمَاعِ وَكَيْفَ يَكُونُ الْفَرْعُ أَقْوَى مِنْ الْأَصْلِ بَلْ نُكَفِّرُ بِهِ مِنْ حَيْثُ الشُّهْرَةُ الْمُحَصِّلَةُ لِلضَّرُورَةِ فَمَنْ جَحَدَ إبَاحَةَ الْقِرَاضِ لَا نُكَفِّرُهُ ، وَإِنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ فِيهِ إنَّمَا يَعْلَمُهُ خَوَاصُّ الْفُقَهَاءِ أَوْ الْفُقَهَاءُ دُونَ غَيْرِهِمْ فَلَمْ يُجْعَلْ الْفَرْعُ أَقْوَى مِنْ الْأَصْلِ فَافْهَمْ ، وَأَلْحَقَ الْأَشْعَرِيُّ بِالْكُفْرِ أَيَّ جُرْأَةٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إرَادَةَ الْكُفْرِ كَبِنَاءِ الْكَنَائِسِ لِيَكْفُرَ فِيهَا أَوْ قَتْلِ نَبِيٍّ مَعَ اعْتِقَادِهِ صِحَّةَ رِسَالَتِهِ لِيُمِيتَ شَرِيعَتَهُ ، وَمِنْهُ تَأْخِيرُ إسْلَامِ مَنْ أَتَى لِيُسْلِمَ عَلَى يَدَيْكَ فَتُشِيرُ عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ إرَادَةٌ لِبَقَاءِ الْكُفْرِ ، وَلَا يَنْدَرِجُ فِي إرَادَةِ الْكُفْرِ الدُّعَاءُ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ عَلَى مَنْ تُعَادِيهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إرَادَةُ الْكُفْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ اللَّهِ بَلْ إذَايَةُ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ .
وَلَيْسَ مِنْهُ أَيْضًا اخْتِيَارُ الْإِمَامِ عَقْدَ الْجِزْيَةِ عَلَى الْأُسَارَى

الْمُوجِبِ لِاسْتِمْرَارِ الْكُفْرِ فِي قُلُوبِهِمْ عَلَى قَتْلِهِمْ الْمُوجِبِ لِمَحْوِ الْكُفْرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَوَقُّعُ الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ إذَا بَقُوا أَحْيَاءً وَعَدَمُ سَدِّ بَابِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ بِقَتْلِهِمْ فَحُصُولُ الْكُفْرِ بِإِبْقَائِهِمْ أَحْيَاءَ وَقَعَ بِالْعَرَضِ فَهُوَ مَشْرُوعٌ مَأْمُورٌ بِهِ بَلْ وَاجِبٌ عِنْدَ تَعَيُّنِ مُقْتَضِيهِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الْفَاعِلُ بِخِلَافِ الدُّعَاءِ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَيَأْثَمُ قَائِلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكْفُرْ بِذَلِكَ .
قَالَ : وَالِانْتِهَاكُ الْخَاصُّ الْمُمَيِّزُ لِلْكُفْرِ عَنْ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ خُصُوصُهُ بِبَيَانِ أَقْسَامِ الْجَهْلِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا أَقْسَامُ الْجَهْلِ فَعَشَرَةٌ .
( أَحَدُهَا ) مَا لَمْ نُؤْمَرْ بِإِزَالَتِهِ أَصْلًا ، وَلَمْ نُؤَاخَذْ بِبَقَائِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ لَنَا لَا يُمْكِنُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ وَهُوَ جَلَالُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ الَّتِي لَمْ تَدُلَّ عَلَيْهَا الصَّنْعَةُ ، وَلَمْ يَقْدِرْ الْعَبْدُ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِالنَّظَرِ فَعَفَا عَنْهُ لِعَجْزِنَا عَنْهُ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك } وَقَوْلِ الصِّدِّيقِ الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إدْرَاكٌ .
( وَثَانِيهَا ) مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ كُفْرٌ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ جَحَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ أَوْ مُتَكَلِّمٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ فَإِنْ جَهِلَ الصِّفَةَ وَلَمْ يَنْفِهَا كَفَّرَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ لَا يَكْفُرُ ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ الْأَشْعَرِيُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَمِّمْ عَلَى اعْتِقَادِ ذَلِكَ ، وَيَعْضُدُهُ حَدِيثُ الْقَائِلِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لِيُعَذِّبَنِّي الْحَدِيثَ وَحَدِيثُ { السَّوْدَاءِ لَمَّا قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ اللَّهُ قَالَتْ فِي السَّمَاءِ } قَالَ ، وَلَوْ كُوشِفَ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى الصِّفَاتِ لَمْ يَعْلَمْهَا .
قَالَ الْأَصْلُ : فَنَفْيُ الصِّفَاتِ وَالْجَزْمُ بِنَفْيِهَا هُوَ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ نَفْيَ الْعِلْمِ أَوْ الْكَلَامِ أَوْ الْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بَلْ الْعَالِمُ وَالْمُتَكَلِّمُ وَالْمُرِيدُ فَالْمُجْمَعُ عَلَى كُفْرِهِ هُوَ مَنْ نَفَى أَصْلَ الْمَعْنَى وَحُكْمَهُ ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالدَّهْرِيَّةِ دُونَ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ .

الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) مَا اُخْتُلِفَ فِي التَّكْفِيرِ بِهِ وَهُوَ مَنْ أَثْبَتَ الْأَحْكَامَ دُونَ الصِّفَاتِ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَمُتَكَلِّمٌ بِغَيْرِ كَلَامٍ ، وَمُرِيدٌ بِغَيْرِ إرَادَةٍ وَحَيٌّ بِغَيْرِ حَيَاةٍ وَكَذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ فَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَلِلْأَشْعَرِيِّ ، وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْبَاقِلَّانِيّ فِي تَكْفِيرِهِمْ قَوْلَانِ .
( الْقِسْمُ الرَّابِعُ ) مَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْحَقِّ فِيهِ هَلْ هُوَ جَهْلٌ تَجِبُ إزَالَتُهُ أَمْ هُوَ حَقٌّ لَا تَجِبُ إزَالَتُهُ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هُوَ مَعْصِيَةٌ ، وَمَا رَأَيْتُ مَنْ يُكَفِّرُ بِهِ وَذَلِكَ كَالْقِدَمِ وَالْبَقَاءِ فَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَاقٍ بِبَقَاءٍ قَدِيمٍ وَيَعْصِي مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ أَوْ يَجِبُ أَنْ لَا يَعْتَقِدَ ذَلِكَ بَلْ اللَّهُ تَعَالَى بَاقٍ بِغَيْرِ بَقَاءٍ وَقَدِيمٌ بِغَيْرِ قِدَمٍ ، وَاعْتِقَادُ خِلَافِ ذَلِكَ جَهْلٌ حَرَامٌ عَكْسُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَقَاءِ وَالْقِدَمِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصِّفَاتِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ ، وَالصَّحِيحُ هُنَالِكَ أَنَّ الْبَقَاءَ وَالْقِدَمَ لَا وُجُودَ لَهُمَا فِي الْخَارِجِ بِخِلَافِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصِّفَاتِ السَّبْعَةِ الَّتِي هِيَ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْكَلَامُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ .
( الْقِسْمُ الْخَامِسُ ) جَهْلٌ يَتَعَلَّقُ بِالصِّفَاتِ لَا بِالذَّاتِ نَحْوَ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِأَفْعَالِ الْحَيَوَانَاتِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَتَعَلُّقِ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَخْصِيصِ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَوْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِأَفْعَالِ الْحَيَوَانَاتِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَفِي تَكْفِيرِهِمْ بِذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ ، وَالصَّحِيحُ عَدَمُ تَكْفِيرِهِمْ .
( الْقِسْمُ السَّادِسُ ) جَهْلٌ يَتَعَلَّقُ بِالذَّاتِ لَا بِصِفَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ

مَعَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُودِهَا كَالْجَهْلِ بِسَلْبِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْجِهَةِ وَالْمَكَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَشَوِيَّةِ ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ اسْتِحَالَةُ جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفِي تَكْفِيرِ الْحَشَوِيَّةِ بِذَلِكَ قَوْلَانِ وَالصَّحِيحُ عَدَمُ التَّكْفِيرِ وَأَمَّا سَلْبُ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ تَجْوِيزِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْتَحِيلَاتِ كَالْجِهَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ الَّذِي هُوَ الْجِسْمِيَّةُ وَنَحْوُهَا فِيهِ عُذْرٌ عَادِيٌّ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَنْشَأُ عُمُرَهُ كُلَّهُ وَهُوَ لَا يُدْرِكُ مَوْجُودًا إلَّا فِي جِهَةٍ وَهُوَ جِسْمٌ أَوْ قَائِمٌ بِجِسْمٍ فَكَانَ هَذَا عُذْرًا عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ ، وَلَمْ يُضْطَرَّ الْإِنْسَانُ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ إلَى الْبُنُوَّةِ وَالْأُبُوَّةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَنَحْوِهَا فَكَمْ مِنْ مَوْجُودٍ فِي الْعَالَمِ لَمْ يَلِدْ ، وَلَمْ يُولَدْ كَالْأَمْلَاكِ وَالْأَفْلَاكِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَالْبِحَارِ فَلَمَّا انْتَفَتْ الشُّبْهَةُ الْمُوجِبَةُ لِلضَّلَالِ انْتَفَى الْعُذْرُ فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى التَّكْفِيرِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ ، وَعَلَيْهِ تَدُورُ الْفَتَاوَى فَمَنْ جَوَّزَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا هُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ يَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ .

قَالَ : ( شِهَابُ الدِّينِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا اُخْتُلِفَ فِي التَّكْفِيرِ بِهِ وَهُوَ مَنْ أَثْبَتَ الْأَحْكَامَ دُونَ الصِّفَاتِ إلَى آخِرِهِ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ وَهُوَ نَقْلٌ لَا كَلَامَ فِيهِ ، وَمَا قَالَهُ فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ صَحِيحٌ غَيْرَ مَا فِي قَوْلِ بَاقٍ بِغَيْرِ بَقَاءٍ مِنْ إيهَامِ التَّنَاقُضِ ، وَمُرَادُ مَنْ عَبَّرَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لَيْسَ ظَاهِرُهَا بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ الْبَقَاءَ لَيْسَ بِصِفَةٍ ثُبُوتِيَّةٍ ، وَمَا قَالَهُ فِي الْقِسْمِ الْخَامِسِ صَحِيحٌ قَالَ ( الْقِسْمُ السَّادِسُ : جَهْلٌ يَتَعَلَّقُ بِالذَّاتِ لَا بِصِفَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُودِهَا كَالْجَهْلِ بِسَلْبِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْجِهَةِ وَالْمَكَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَشَوِيَّةِ ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ اسْتِحَالَةُ جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفِي تَكْفِيرِ الْحَشَوِيَّةِ بِذَلِكَ قَوْلَانِ وَالصَّحِيحُ عَدَمُ تَكْفِيرِهِمْ ) قُلْتُ : كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ جَهْلٌ بِالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ لَا جَهْلٌ يَتَعَلَّقُ بِالذَّاتِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَوْلِهِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُودِهَا فَإِنَّهُ فِي كَلَامِهِ كَالْمُتَنَاقِضِ مَعَ أَنَّ الْحَشَوِيَّةَ لَيْسَ مَذْهَبُهُمْ الْجَهْلَ بِسَلْبِ الْجِسْمِيَّةِ بَلْ مَذْهَبُهُمْ إثْبَاتُ الْجِسْمِيَّةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا إلَّا أَنْ يُطْلَقَ عَلَى كُلِّ مَذْهَبٍ بَاطِلٍ أَنَّهُ جَهْلٌ فَذَلِكَ لَهُ وَجْهٌ .
قَالَ : ( وَأَمَّا سَلْبُ الْبُنُوَّةِ وَالْأُبُوَّةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ تَجْوِيزِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْتَحِيلَاتِ كَالْجِهَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ الَّذِي هُوَ الْجِسْمِيَّةُ وَنَحْوُهَا فِيهِ عُذْرٌ عَادِيٌّ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَنْشَأُ عُمُرَهُ كُلَّهُ وَهُوَ لَا يُدْرِكُ مَوْجُودًا إلَّا فِي جِهَةٍ ، وَهُوَ جِسْمٌ أَوْ قَائِمٌ بِجِسْمٍ فَكَانَ عُذْرًا عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ ، وَلَمْ يُضْطَرَّ

الْإِنْسَانُ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ إلَى الْبُنُوَّةِ وَالْأُبُوَّةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَنَحْوِهَا فَكَمْ مِنْ مَوْجُودٍ فِي الْعَالَمِ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ كَالْأَمْلَاكِ وَالْأَفْلَاكِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَالْبِحَارِ فَلَمَّا انْتَفَتْ الشُّبْهَةُ الْمُوجِبَةُ لِلضَّلَالِ انْتَفَى الْعُذْرُ فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى التَّكْفِيرِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ وَعَلَيْهِ تَدُورُ الْفَتَاوَى فَمَنْ جَوَّزَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا هُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ يَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ وَتَوْجِيهٌ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .

( وَالثَّالِثُ ) مَا اُخْتُلِفَ فِي التَّكْفِيرِ بِهِ وَهُوَ مَنْ أَثْبَتَ الْأَحْكَامَ دُونَ الصِّفَاتِ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَمُتَكَلِّمٌ بِغَيْرِ كَلَامٍ ، وَمُرِيدٌ بِغَيْرِ إرَادَةٍ وَحَيٌّ بِغَيْرِ حَيَاةٍ وَهَكَذَا بَقِيَّةُ الصِّفَاتِ وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَلِلْأَشْعَرِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْبَاقِلَّانِيّ فِي تَكْفِيرِهِمْ قَوْلَانِ .
( وَالرَّابِعُ ) مَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْحَقِّ فِيهِ هَلْ هُوَ جَهْلٌ تَجِبُ إزَالَتُهُ أَمْ هُوَ حَقٌّ لَا تَجِبُ إزَالَتُهُ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هُوَ مَعْصِيَةٌ ، وَمَا رَأَيْتُ مَنْ يُكَفِّرُ بِهِ وَذَلِكَ كَالْقِدَمِ وَالْبَقَاء فَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَنْعَقِدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَاقٍ بِبَقَاءٍ قَدِيمٍ وَيَعْصِي مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ أَوْ يَجِبُ أَنْ لَا يَعْتَقِدَ ذَلِكَ بَلْ اللَّهُ تَعَالَى بَاقٍ بِغَيْرِ بَقَاءٍ وَقَدِيمٌ بِغَيْرِ قِدَمٍ ، وَاعْتِقَادُ خِلَافِ ذَلِكَ جَهْلٌ حَرَامٌ عَكْسُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَقَاءِ وَالْقِدَمِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصِّفَاتِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ أُصُول الدِّينِ .
وَالصَّحِيحُ هُنَالِكَ أَنَّ الْبَقَاءَ وَالْقِدَمَ لَا وُجُودَ لَهُمَا فِي الْخَارِجِ بِخِلَافِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي السَّبْعَةِ .
( وَالْخَامِسُ ) جَهْلٌ يَتَعَلَّقُ بِالصِّفَاتِ لَا بِالذَّاتِ نَحْوَ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِأَفْعَالِ الْحَيَوَانَاتِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَتَعَلُّقِ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَخْصِيصِ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَوْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِأَفْعَالِ الْحَيَوَانَاتِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَكْفِيرِهِمْ بِذَلِكَ قَوْلَانِ ، وَالصَّحِيحُ عَدَمُ تَكْفِيرِهِمْ .
( وَالسَّادِسُ ) جَهْلٌ يَتَعَلَّقُ بِالذَّاتِ لَا بِصِفَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُودِهَا كَالْجَهْلِ بِسَلْبِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْجِهَةِ وَالْمَكَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَشَوِيَّةِ

، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ اسْتِحَالَةُ جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفِي تَكْفِيرِ الْحَشَوِيَّةِ بِذَلِكَ قَوْلَانِ وَالصَّحِيحُ عَدَمُ التَّكْفِيرِ .
وَأَمَّا سَلْبُ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ تَجْوِيزِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْتَحِيلَاتِ كَالْجِهَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ الَّذِي هُوَ الْجِسْمِيَّةُ وَنَحْوُهَا فِيهِ عُذْرٌ عَادِيٌّ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَنْشَأُ عُمُرَهُ كُلَّهُ وَهُوَ لَا يُدْرِكُ مَوْجُودًا وَهُوَ جِسْمٌ أَوْ قَائِمٌ بِجِسْمٍ إلَّا فِي جِهَةٍ فَكَانَ هَذَا عُذْرًا عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ ، وَلَمْ يُضْطَرَّ الْإِنْسَانُ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ إلَى الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَنَحْوِهَا فَكَمْ مِنْ مَوْجُودٍ فِي الْعَالَمِ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ كَالْأَمْلَاكِ وَالْأَفْلَاكِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَالْبِحَارِ فَلَمَّا انْتَفَتْ الشُّبْهَةُ الْمُوجِبَةُ لِلضَّلَالِ انْتَفَى الْعُذْرُ فَلِذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى التَّكْفِيرِ فِي هَذَا الْقِسْمِ ، وَاخْتُلِفَ فِي التَّكْفِيرِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ .

( الْقِسْمُ السَّابِعُ ) الْجَهْلُ بِقِدَمِ الصِّفَاتِ لَا بِوُجُودِهَا وَتَعَلُّقِهَا كَقَوْلِ الْكَرَّامِيَّةِ بِحُدُوثِ الْإِرَادَةِ وَنَحْوِهَا ، وَفِي التَّكْفِيرِ بِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلَانِ الصَّحِيحُ عَدَمُ التَّكْفِيرِ .
( الْقِسْمُ الثَّامِنُ ) الْجَهْلُ بِمَا وَقَعَ أَوْ يَقَعُ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الصِّفَاتِ وَهُوَ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا كُفْرٌ إجْمَاعًا وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا كَالْجَهْلِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ بَعْثَةَ الرُّسُلِ ، وَأَرْسَلَهُمْ لِخَلْقِهِ بِالرَّسَائِلِ الرَّبَّانِيَّةِ وَكَالْجَهْلِ بِبَعْثَةِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَإِحْيَائِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَجَزَائِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ عَلَى التَّفْصِيلِ الْوَارِدِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَالْجَهْلُ بِهَذَا كُفْرٌ إجْمَاعًا ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْفَلَاسِفَةِ ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ .
( الْقِسْمُ التَّاسِعُ ) الْجَهْلُ بِمَا وَقَعَ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الصِّفَاتِ وَهُوَ تَعَلُّقُهَا بِإِيجَادِ مَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْخَلْقِ هَلْ يَجُوزُ هَذَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا فَأَهْلُ الْحَقِّ يُجَوِّزُونَهُ ، وَأَنْ يَفْعَلَ لِعِبَادِهِ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُمْ ، وَأَنْ لَا يَفْعَلَهُ كُلُّ ذَلِكَ لَهُ تَعَالَى فَكُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ وَالْخَلَائِقُ دَائِرُونَ بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ، وَفِي تَكْفِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ بِذَلِكَ قَوْلَانِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالصَّحِيحُ عَدَمُ تَكْفِيرِهِمْ .
( الْقِسْمُ الْعَاشِرُ ) مَا وَقَعَ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الصِّفَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ أَوْ يَقَعُ مِمَّا لَمْ يُكَلَّفْ بِهِ كَخَلْقِ حَيَوَانٍ فِي الْعَالَمِ أَوْ إجْرَاءِ نَهْرٍ أَوْ إمَاتَةِ حَيَوَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا الْقِسْمُ لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ وَهُوَ جَهْلٌ بَلْ قَدْ يُكَلَّفُ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الشَّرَائِعِ لِأَمْرٍ يَخُصُّ تِلْكَ الصُّورَةَ لَا ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِهِ فِي حَقِّ اللَّهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْقِسْمِ الثَّامِنِ فَهَذِهِ عَشَرَةُ أَقْسَامٍ فِي الْجَهْلِ

الْمُتَعَلِّقِ بِذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ الْعُلَى ، وَمُتَعَلَّقَاتِ الصِّفَاتِ وَبَيَانِ الْكُفْرِ فِيهَا مِنْ غَيْرِهِ وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مِنْهَا مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ مُفَصَّلًا ، وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ مَا هُوَ كُفْرٌ مِنْهَا مِمَّا لَيْسَ بِكُفْرٍ ، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَهْلِ ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الْمَجَالُ الصَّعْبُ فِي التَّحْرِيرِ وَذَلِكَ أَنَّ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ وَجَمِيعَ الْمَعَاصِي كُلَّهَا جُرْأَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَةَ أَمْرِ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ جَرَاءَةٌ عَلَيْهِ كَيْفَ كَانَ فَتَمْيِيزُ مَا هُوَ كُفْرٌ مِنْهَا مُبِيحٌ لِلدَّمِ مُوجِبٌ لِلْخُلُودِ هَذَا هُوَ الْمَكَانُ الْحَرِجُ فِي التَّحْرِيرِ وَالْفَتْوَى ، وَالتَّعَرُّضُ إلَى الْحَدِّ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ أَعْلَى رُتَبِ الْكَبَائِرِ مِنْ أَدْنَى رُتَبِ الْكُفْرِ عَسِيرٌ جِدًّا بَلْ الطَّرِيقُ الْمُحَصِّلُ لِذَلِكَ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ حِفْظِ فَتَاوَى الْمُتَقَدِّمِينَ الْمُقْتَدَى بِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ وَيَنْظُرَ مَا وَقَعَ لَهُ هَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا أَفْتَوْا فِيهِ بِالْكُفْرِ أَوْ مِنْ جِنْسِ مَا أَفْتَوْا فِيهِ بِعَدَمِ الْكُفْرِ فَيُلْحِقَهُ بَعْدَ إمْعَانِ النَّظَرِ وَجَوْدَةِ الْفِكْرِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ أَوْ وَقَعَتْ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ لِقُصُورِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوْفِيقُ ، وَلَا يُفْتِي بِشَيْءٍ فَهَذَا هُوَ الضَّابِطُ لِهَذَا الْبَابِ .
أَمَّا عِبَارَةٌ مَانِعَةٌ جَامِعَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى فَهِيَ مِنْ الْمُتَعَذِّرَاتِ عِنْدَ مَنْ عَرَفَ غَوْرَ هَذَا الْمَوْضِعِ

قَالَ : ( شِهَابُ الدِّينِ الْقِسْمُ السَّابِعُ الْجَهْلُ بِقِدَمِ الصِّفَاتِ لَا بِوُجُودِهَا وَتَعَلُّقِهَا كَقَوْلِ الْكَرَّامِيَّةِ بِحُدُوثِ الْإِرَادَةِ وَنَحْوِهَا ، وَفِي التَّكْفِيرِ بِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلَانِ الصَّحِيحُ عَدَمُ التَّكْفِيرِ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ نَقْلٌ وَتَرْجِيحٌ لَا كَلَامَ فِيهِ ، وَمَا قَالَهُ فِي الْقِسْمِ الثَّامِنِ صَحِيحٌ أَيْضًا لَكِنْ فِيهِ إطْلَاقُ لَفْظِ الْجَهْلِ عَلَى الْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ فَإِنَّ الْفَلَاسِفَةَ مَذْهَبُهُمْ الْجَزْمُ بِأَنَّ لَا بَعْثَةَ لِلْأَجْسَامِ ، وَمَا قَالَهُ فِي الْقِسْمِ التَّاسِعِ نَقْلٌ وَتَرْجِيحٌ قَالَ : ( الْقِسْمُ الْعَاشِرُ مَا وَقَعَ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الصِّفَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ أَوْ يَقَعُ مَا لَمْ يُكَلَّفْ بِهِ كَخَلْقِ حَيَوَانٍ فِي الْعَالَمِ أَوْ إجْرَاءِ نَهْرٍ أَوْ إمَاتَةِ حَيَوَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا الْقِسْمُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ وَهُوَ جَهْلٌ ) قُلْتُ : إنْ أَرَادَ الْجَهْلَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْمَوْجُودَاتِ الْمَعْلُومِ وُجُودُهَا فَذَلِكَ كُفْرٌ لَا شَكَّ فِيهِ ، وَإِنْ أَرَادَ الْجَهْلَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ حَيَوَانًا لَا يَعْلَمُ وُجُودَهُ فَذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْرٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَهْلَ لَيْسَ بِرَاجِعٍ إلَى الْجَهْلِ بِتَعَلُّقِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ بَلْ بِوُجُودِ هَذَا الْمُتَعَلِّقِ .
قَالَ : ( بَلْ قَدْ يُكَلَّفُ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الشَّرَائِعِ لِأَمْرٍ يَخُصُّ تِلْكَ الصُّورَةَ لَا لِأَنَّ الْجَهْلَ بِهِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَنْهِيٌّ عَنْهُ ) قُلْتُ : إنْ أَرَادَ مِثْلَ السِّحْرِ الَّذِي يَكْفُرُ بِهِ فَذَلِكَ ، وَإِلَّا فَلَا أَدْرِي مَا أَرَادَ .
قَالَ : ( وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي هُوَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْقِسْمِ الثَّامِنِ فَهَذِهِ عَشَرَةُ أَقْسَامٍ مِنْ الْجَهْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى وَمُتَعَلَّقَاتِ الصِّفَاتِ وَبَيَانِ الْكُفْرِ فِيهَا مِنْ غَيْرِهِ وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مِنْهَا مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ مُفَصَّلًا وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ مَا هُوَ كُفْرٌ مِنْهَا مِمَّا

لَيْسَ بِكُفْرٍ ) قُلْتُ : فِيمَا قَالَهُ إنْ أَرَادَ حَصْرَ الْكُفْرِ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ .
قَالَ : ( هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَهْلِ ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الْمَجَالُ الصَّعْبُ فِي التَّحْرِيرِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ وَجَمِيعَ الْمَعَاصِي كُلَّهَا جَرَاءَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَةَ أَمْرِ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ جَرَاءَةٌ عَلَيْهِ كَيْفَ كَانَ فَتَمْيِيزُ مَا هُوَ كُفْرٌ مِنْهَا مُبِيحٌ لِلدَّمِ مُوجِبٌ لِلْخُلُودِ هَذَا هُوَ الْمَكَانُ الْحَرِجُ فِي التَّحْرِيرِ وَالْفَتْوَى ، وَالتَّعَرُّضُ إلَى الْحُدُودِ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ أَعْلَى رُتَبِ الْكَبَائِرِ مِنْ أَدْنَى رُتَبِ الْكُفْرِ عَسِيرٌ جِدًّا بَلْ الطَّرِيقُ الْمُحَصِّلُ لِذَلِكَ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ حِفْظِ فَتَاوَى الْمُقْتَدَى بِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ وَيَنْظُرَ مَا وَقَعَ لَهُ هَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا أَفْتَوْا فِيهِ بِالْكُفْرِ أَوْ مِنْ جِنْسِ مَا أَفْتَوْا فِيهِ بِعَدَمِ الْكُفْرِ فَيُلْحِقَهُ بَعْدَ إمْعَانِ النَّظَرِ وَجَوْدَةِ الْفِكْرِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ أَوْ وَقَعَتْ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ لِقُصُورِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوَقُّفُ ، وَلَا يُفْتِي بِشَيْءٍ فَهَذَا هُوَ الضَّابِطُ لِهَذَا الْبَابِ .
أَمَّا عِبَارَةٌ جَامِعَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى فَهِيَ مِنْ الْمُتَعَذِّرَاتِ عِنْدَ مَنْ عَرَفَ غَوْرَ هَذَا الْمَوْضِعِ ) قُلْتُ : لَيْسَ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ التَّكْفِيرَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِقَاطِعٍ سَمْعِيٍّ وَمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا مُعَوَّلَ عَلَيْهِ ، وَلَا مُسْتَنَدَ فِيهِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( وَالسَّابِعُ ) الْجَهْلُ بِقِدَمِ الصِّفَاتِ لَا بِوُجُودِهَا وَتَعَلُّقِهَا كَقَوْلِ الْكَرَّامِيَّةِ بِحُدُوثِ الْإِرَادَةِ وَنَحْوِهَا وَفِي التَّكْفِيرِ بِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلَانِ الصَّحِيحُ عَدَمُ التَّكْفِيرِ .
( وَالثَّامِنُ وَالتَّاسِعُ ) الْجَهْلُ بِمَا وَقَعَ أَوْ يَقَعُ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الصِّفَاتِ وَهُوَ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا كُفْرٌ إجْمَاعًا وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا كَجَهْلِ الْفَلَاسِفَةِ ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ بِعْثَةَ الرُّسُلِ ، وَأَرْسَلَهُمْ لِخَلْقِهِ بِالرَّسَائِلِ الرَّبَّانِيَّةِ وَكَجَهْلِهِمْ بِبِعْثَةِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَإِحْيَائِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَجَزَائِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ عَلَى التَّفْصِيلِ الْوَارِدِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
( وَثَانِيهِمَا ) مَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ كَالْجَهْلِ بِخَلْقِ حَيَوَانٍ فِي الْعَالَمِ أَوْ إجْرَاءِ نَهْرٍ أَوْ إمَاتَةِ حَيَوَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ نَعَمْ قَدْ يُكَلِّفُ الشَّرْعُ بِمَعْرِفَةِ بَعْضِ الصُّوَرِ مِنْ ذَلِكَ لِأَمْرٍ يَخُصُّ تِلْكَ الصُّورَةَ لَا لِأَنَّ الْجَهْلَ بِهِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
( وَالْعَاشِرُ ) الْجَهْلُ بِمَا وَقَعَ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الصِّفَاتِ وَهُوَ تَعَلُّقُهَا بِإِيجَادِ مَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْخَلْقِ هَلْ يَجُوزُ هَذَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا فَأَهْلُ الْحَقِّ يُجَوِّزُونَهُ ، وَأَنْ يَفْعَلَ لِعِبَادِهِ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُمْ ، وَأَنْ لَا يَفْعَلَهُ كُلُّ ذَلِكَ لَهُ تَعَالَى فَكُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ وَالْخَلَائِقُ دَائِرُونَ بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } .
وَالْمُعْتَزِلَةُ لَا يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ وَيُوجِبُونَ عَلَيْهِ تَعَالَى الصَّلَاحَ وَالْأَصْلَحَ وَفِي تَكْفِيرِهِمْ بِذَلِكَ قَوْلَانِ وَالصَّحِيحُ عَدَمُ تَكْفِيرِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ وَبِتَفْصِيلِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ عَلَى مَا ذَكَرَ تَبَيَّنَ مَا هُوَ كُفْرٌ مِنْهَا مِمَّا لَيْسَ بِكُفْرٍ .
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الْمَجَالُ الصَّعْبُ فِي التَّحْرِيرِ ؛

لِأَنَّ مُخَالَفَةَ أَمْرِ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ فِي جَمِيعِ الْمَعَاصِي صَغَائِرِهَا وَكَبَائِرِهَا جُرْأَةٌ عَلَيْهِ كَيْفَ كَانَ فَتَمْيِيزُ مَا هُوَ كُفْرٌ مِنْهَا مُبِيحٌ لِلدَّمِ مُوجِبٌ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ هُوَ الْمَكَانُ الْحَرِجُ فِي التَّحْرِيرِ وَالْفَتْوَى فَمِنْ هُنَا اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْفَرْقَ بَيْنَ السُّجُودِ لِلشَّجَرَةِ وَالسُّجُودِ لِلْوَالِدِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ كَيْفَ يَكُونُ كُفْرًا دُونَ الثَّانِي ، وَالسَّاجِدُ فِي الْحَالَيْنِ يَعْتَقِدُ مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَا يَسْتَحِيلُ ، وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ التَّشْرِيكَ فِي السُّجُودِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ بِذَلِكَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَالَيْنِ وَقَدْ قَالَتْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ { مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى } .
وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْكَبِيرَةِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَفْسَدَةِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْرِيمِ إنَّمَا هُوَ بِعِظَمِ الْمَفْسَدَةِ وَصِغَرِهَا ، وَلَمْ يَظْهَرْ عِظَمُهَا هُنَا ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ عَنْ السُّجُودِ كَانَ مَفْسَدَةً ، وَإِنْ أَمَرَ بِهِ كَانَ مَصْلَحَةً ؛ لِأَنَّ هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ الدَّوْرُ ؛ لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ حِينَئِذٍ تَكُونُ تَابِعَةً لِلنَّهْيِ مَعَ أَنَّ النَّهْيَ يَتْبَعُ الْمَفْسَدَةَ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَابِعًا لِصَاحِبِهِ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ ، بَلْ الْحَقُّ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ يَتْبَعُهَا النَّهْيُ ، وَالنَّهْيَ يَتْبَعُهُ الْعِقَابُ ، وَمَا لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ لَا يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ ، وَلَا مُعَاقَبًا عَلَيْهِ وَاسْتِقْرَاءُ الشَّرَائِعِ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَمَّا فِيهِ مَفْسَدَةٌ وَعَدَمُ النَّهْيِ عَمَّا لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ السَّرِقَةَ لَمَّا كَانَ فِيهَا ضَيَاعُ الْمَالِ نَهَى عَنْهَا ، وَأَنَّ الْقَتْلَ لَمَّا كَانَ فِيهِ فَوَاتُ الْحَيَاةِ نَهَى عَنْهُ ، وَأَنَّ الزِّنَا لَمَّا كَانَ فِيهِ اخْتِلَاطُ الْأَنْسَابِ نَهَى عَنْهُ ، وَأَنَّ الْخَمْرَ لَمَّا كَانَ فِيهِ ذَهَابُ الْعُقُولِ نَهَى عَنْهُ وَأَنَّ الْعَصِيرَ

لَمَّا كَانَ لَا يُفْسِدُ الْعَقْلَ لَمْ يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهُ ، وَأَنَّ الْخَمْرَ إذَا صَارَ خَلًّا انْتَفَى عَنْهُ فَسَادُ الْعَقْلِ فَذَهَبَ عَنْهُ النَّهْيُ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَفَاسِدَ وَالْمَصَالِحَ سَابِقَةٌ عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ، وَأَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ تَابِعٌ لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَمَا فِيهِ مَفْسَدَةٌ يَنْهَى عَنْهُ فَإِذَا فَعَلَ حَصَلَ الْعِقَابُ وَمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَمَرَ بِهِ فَإِذَا فَعَلَ حَصَلَ الثَّوَابُ فَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فِي الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ ، وَالْمَفْسَدَةُ وَالْمَصْلَحَةُ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى فَلَوْ عَلَّلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَزِمَ تَقَدُّمُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ بِرُتْبَتَيْنِ فَقَوْلُ الْأَغْبِيَاءِ مِنْ الطَّلَبَةِ مَصْلَحَةُ هَذَا الْأَمْرِ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ غَلَطٌ .
وَحَيْثُ عَلِمْتَ ذَلِكَ فَالطَّرِيقُ الْمُحَصِّلُ لِلْحَدِّ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ أَعْلَى رُتَبِ الْكَبَائِرِ مِنْ أَدْنَى رُتَبِ الْكُفْرِ هُوَ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ حِفْظِ فَتَاوَى الْمُتَقَدِّمِينَ الْمُقْتَدَى بِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ وَيَنْظُرَ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ النَّوَازِلِ هَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا أَفْتَوْا فِيهِ بِالْكُفْرِ أَوْ مِنْ جِنْسِ مَا أَفْتَوْا فِيهِ بِعَدَمِ الْكُفْرِ فَيُلْحِقَهُ بَعْدَ إمْعَانِ النَّظَرِ وَجَوْدَةِ الْفِكْرِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ أَوْ وَقَعَتْ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ لِقُصُورِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوَقُّفُ ، وَلَا يُفْتِي بِشَيْءٍ فَهَذَا هُوَ الضَّابِطُ لِهَذَا الْبَابِ .
وَيُوَضِّحُهُ ثَلَاثُ مَسَائِلَ .
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) أَنَّ السُّجُودَ لِلشَّجَرَةِ إنَّمَا اقْتَضَى الْكُفْرَ دُونَ السُّجُودِ لِلْوَالِدِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي نَعْلَمُهَا مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ دُونَ السُّجُودِ لِلْوَالِدِ إذْ الشَّجَرَةُ لَيْسَتْ مِنْ الْمَقْصُودِ بِالتَّعْظِيمِ شَرْعًا وَقَدْ عُبِدَتْ مُدَّةً بِخِلَافِ الْوَالِدِ فَإِنَّهُ مِنْ

الْمَقْصُودِ بِالتَّعْظِيمِ شَرْعًا ، وَلَمْ يُعْبَدْ مُدَّةً وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَسَجَدُوا لَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ قِبْلَةً عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَلْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّعْظِيمِ بِذَلِكَ السُّجُودِ ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ هُنَالِكَ بِمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْكُفْرِ ، وَلَا أَنَّهُ أَبَاحَ الْكُفْرَ لِأَجْلِ آدَمَ ، وَلَا أَنَّ فِي السُّجُودِ لِآدَمَ مَفْسَدَةً تَقْتَضِي كُفْرًا ، لَوْ فَعَلَ مِنْ أَمْرِ غَيْرِ رَبِّهِ فَافْهَمْ .

مَسْأَلَةٌ ) .
اتَّفَقَ النَّاسُ فِيمَا عَلِمْتُ عَلَى تَكْفِيرِ إبْلِيسَ بِقَضِيَّتِهِ مَعَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلَيْسَ مُدْرَكُ الْكُفْرِ فِيهَا الِامْتِنَاعَ مِنْ السُّجُودِ ، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ مَنْ أُمِرَ بِالسُّجُودِ فَامْتَنَعَ مِنْهُ كَافِرًا ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، وَلَا كَانَ كُفْرُهُ لِكَوْنِهِ حَسَدَ آدَمَ عَلَى مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ حَاسِدٍ كَافِرًا ، وَلَا كَانَ كُفْرُهُ لِعِصْيَانِهِ وَفُسُوقِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عِصْيَانٌ وَفُسُوقٌ ، وَإِلَّا كَانَ كُلُّ عَاصٍ وَفَاسِقٍ كَافِرًا وَقَدْ أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ إبْلِيسَ إنَّمَا كَفَرَ بِنِسْبَةِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى الْجَوْرِ وَالتَّصَرُّفِ الَّذِي لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ فَحْوَى قَوْلِهِ { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } وَمُرَادٌ أَنَّ إلْزَامَ الْعَظِيمِ الْجَلِيلِ بِالسُّجُودِ لِلْحَقِيرِ مِنْ التَّصَرُّفِ الرَّدِيءِ وَالْجَوْرِ وَالظُّلْمِ فَهَذَا وَجْهُ كُفْرِهِ ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ نَسَبَ اللَّهَ تَعَالَى لِذَلِكَ فَقَدْ كَفَرَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْجُرْأَةِ الْعَظِيمَةِ .

قَالَ ( مَسْأَلَةٌ اتَّفَقَ النَّاسُ فِيمَا عَلِمْتُ عَلَى تَكْفِيرِ إبْلِيسَ بِقَضِيَّتِهِ مَعَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلَيْسَ مُدْرَكُ الْكُفْرِ فِيهَا الِامْتِنَاعَ مِنْ السُّجُودِ ، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ مَنْ أُمِرَ بِالسُّجُودِ فَامْتَنَعَ مِنْهُ كَافِرًا ، وَلَا بِحَسَدِهِ لِآدَمَ لِمَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ حَاسِدٍ كَافِرًا ، وَلَا كَانَ كُفْرُهُ لِعِصْيَانِهِ وَفُسُوقِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عِصْيَانٌ وَفُسُوقٌ ، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ عَاصٍ وَفَاسِقٍ كَافِرًا ) .
قُلْتُ : مَا قَالَهُ مِنْ لُزُومِ الْكُفْرِ لِكُلِّ مُمْتَنِعٍ مِنْ السُّجُودِ وَلِكُلِّ حَاسِدٍ وَلِكُلِّ عَاصٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى حَسَدًا مَا وَامْتِنَاعًا مَا وَعِصْيَانًا مَا دُونَ سَائِرِ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ كُفْرًا إذْ كَوْنُ أَمْرٍ مَا كُفْرًا أَوْ غَيْرَ كُفْرٍ أَمْرٌ وَضْعِيٌّ وَضَعَهُ الشَّارِعُ لِذَلِكَ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ كُفْرُهُ لِامْتِنَاعِهِ أَوْ لِحَسَدِهِ .
قَالَ : ( وَقَدْ أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ إبْلِيسَ إنَّمَا كَفَرَ بِنِسْبَةِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى الْجَوْرِ وَالتَّصَرُّفِ الَّذِي لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ ، ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ فَحْوَى قَوْلِهِ { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } وَمُرَادُهُ أَنَّ إلْزَامَ الْعَظِيمِ الْجَلِيلِ بِالسُّجُودِ لِلْحَقِيرِ مِنْ التَّصَرُّفِ الرَّدِيءِ وَالْجَوْرِ وَالظُّلْمِ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كُفْرُهُ لِامْتِنَاعِهِ أَوْ لِحَسَدِهِ أَوْ لَهُمَا مَعَ ذِكْرِهِ مِنْ التَّجْوِيرِ أَوْ التَّجْوِيرِ خَاصَّةً فَلَا مَانِعَ مِنْ عَقْلٍ وَلَا نَقْلٍ مِنْ ذَلِكَ .
قَالَ : ( فَهَذَا وَجْهُ كُفْرِهِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ نَسَبَ اللَّهَ تَعَالَى لِذَلِكَ فَقَدْ كَفَرَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْجُرْأَةِ الْعَظِيمَةِ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ صَحِيحٌ ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْجُرْأَةِ الْعَظِيمَةِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ إنَّمَا

كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ الْجَهْلِ الْعَظِيمِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ مِنْ التَّصَرُّفِ الرَّدِيءِ وَالْجَوْرِ وَالظُّلْمِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ عَقْلًا وَسَمْعًا ، وَمَا قَالَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ صَحِيحٌ إنْ كَانَ مَا بَنَى عَلَيْهِ كَلَامًا صَحِيحًا

( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) قَالَ الْأَصْلُ : اتَّفَقَ النَّاسُ فِيمَا عَلِمْتُ عَلَى تَكْفِيرِ إبْلِيسَ بِقَضِيَّتِهِ مَعَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلَيْسَ مُدْرَكُ الْكُفْرِ فِيهَا الِامْتِنَاعَ مِنْ السُّجُودِ ، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ مَنْ أُمِرَ بِالسُّجُودِ فَامْتَنَعَ مِنْهُ كَافِرًا ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، وَلَا كَانَ كُفْرُهُ لِكَوْنِهِ حَسَدَ آدَمَ عَلَى مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ حَاسِدٍ كَافِرًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَلَا كَانَ كُفْرُهُ لِعِصْيَانِهِ وَفُسُوقِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عِصْيَانٌ وَفُسُوقٌ ، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ عَاصٍ وَفَاسِقٍ كَافِرًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَقَدْ أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ مُدْرَكَ كُفْرِهِ فِيهَا إنَّمَا هُوَ بِنِسْبَةِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى الْجَوْرِ وَالتَّصَرُّفِ الَّذِي لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ كَمَا ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ فَحْوَى قَوْلِهِ { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } ، وَمُرَادُهُ أَنَّ إلْزَامَ الْعَظِيمِ الْجَلِيلِ بِالسُّجُودِ لِلْحَقِيرِ مِنْ التَّصَرُّفِ الرَّدِيءِ وَالْجَوْرِ وَالظُّلْمِ ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ نَسَبَ اللَّهَ تَعَالَى لِذَلِكَ فَقَدْ كَفَرَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْجُرْأَةِ الْعَظِيمَةِ .

( مَسْأَلَةٌ ) .
أَطْلَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُمْ الْكُفْرَ عَلَى السَّاحِرِ ، وَأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا قَرِيبٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ الْفُتْيَا فِي جُزْئِيَّاتِ الْوَقَائِعِ يَقَعُ فِيهِ الْغَلَطُ الْعَظِيمُ الْمُؤَدِّي إلَى هَلَاكِ الْمُفْتِي وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قِيلَ لِلْفَقِيهِ مَا هُوَ السِّحْرُ ، وَمَا حَقِيقَتُهُ ؟ حَتَّى يُقْضَى بِوُجُودِهِ عَلَى كُفْرِ فَاعِلِيهِ يَعْسُرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ جِدًّا فَإِنَّك إذَا قُلْتُ لَهُ : السِّحْرُ وَالرُّقَى وَالْخَوَاصُّ وَالسِّيمْيَا وَالْهِيمْيَا وَقُوَى النُّفُوسِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَكُلُّهَا سِحْرٌ أَوْ بَعْضُ هَذِهِ الْأُمُورِ سِحْرٌ وَبَعْضُهَا لَيْسَ بِسِحْرٍ فَإِنْ قَالَ الْكُلُّ سِحْرٌ يَلْزَمُهُ أَنَّ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ سِحْرٌ ؛ لِأَنَّهَا رُقْيَةٌ إجْمَاعًا ، وَإِنْ قَالَ بَلْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ خَاصِّيَّةٌ يَخْتَصُّ بِهَا فَيُقَالُ بَيِّنْ لَنَا خُصُوصَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ، وَمَا بِهِ تَمْتَازُ وَهَذَا لَا يَكَادُ يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُتَعَرِّضِينَ لِلْفُتْيَا ، وَأَنَا طُولَ عُمُرِي مَا رَأَيْتُ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ فَكَيْفَ يُفْتِي أَحَدٌ بَعْدَ هَذَا بِكُفْرِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ بِمُبَاشَرَةِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ سِحْرٌ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ السِّحْرَ مَا هُوَ ؟ ، وَلَقَدْ وُجِدَ فِي بَعْضِ الْمَدَارِسِ بَعْضُ الطَّلَبَةِ عِنْدَهُ كُرَّاسَةٌ فِيهَا آيَاتٌ لِلْمَحَبَّةِ وَالْبِغْضَةِ وَالتَّهْيِيجِ وَالنَّزِيفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تُسَمِّيهَا الْمَغَارِبَةُ عِلْمَ الْمِخْلَاةِ فَأَفْتَوْا بِكُفْرِهِ ، وَإِخْرَاجِهِ مِنْ الْمَدْرَسَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأُمُورَ سِحْرٌ ، وَأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ وَهَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ وَإِقْدَامٌ عَلَى شَرِيعَةِ اللَّهِ بِجَهْلٍ وَعَلَى عِبَادِهِ بِالْفَسَادِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَاحْذَرْ هَذِهِ الْخُطَّةَ الرَّدِيَّةَ الْمُهْلِكَةَ عِنْدَ اللَّهِ وَسَتَقِفُ فِي الْفَرْقِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا عَلَى الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) قَالَ الْأَصْلُ : أَطْلَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُمْ الْكُفْرَ عَلَى السَّاحِرِ وَأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا قَرِيبٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ الْفُتْيَا فِي جُزْئِيَّاتِ الْوَقَائِعِ يَقَعُ فِيهِ الْغَلَطُ الْعَظِيمُ الْمُؤَدِّي إلَى هَلَاكِ الْمُفْتِي ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قِيلَ لِلْفَقِيهِ مَا هُوَ السِّحْرُ ، وَمَا حَقِيقَتُهُ حَتَّى يُقْضَى بِوُجُودِهِ عَلَى كُفْرِ فَاعِلِيهِ يَعْسُرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ جِدًّا فَإِنَّكَ إذَا قُلْتُ : لَهُ السِّحْرُ وَالرُّقَى وَالْخَوَاصُّ وَالسِّيمْيَا وَالْهِيمْيَا وَقُوَى النُّفُوسِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَكُلُّهَا سِحْرٌ أَوْ بَعْضُ هَذِهِ الْأُمُورِ سِحْرٌ وَبَعْضُهَا لَيْسَ بِسِحْرٍ فَإِنْ قَالَ الْكُلُّ سِحْرٌ يَلْزَمُهُ أَنَّ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ سِحْرٌ ؛ لِأَنَّهَا رُقْيَةٌ إجْمَاعًا ، وَإِنْ قَالَ بَلْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ خَاصِّيَّةٌ تَخْتَصُّ بِهَا فَيُقَالُ بَيِّنْ لَنَا خُصُوصَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا ، وَمَا بِهِ تَمْتَازُ وَهَذَا لَا يَكَادُ يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُعْتَرِضِينَ لِلْفُتْيَا ، وَأَنَا طُولَ عُمُرِي مَا رَأَيْت مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ فَكَيْفَ يُفْتِي أَحَدٌ بَعْدَ هَذَا بِكُفْرِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ بِمُبَاشَرَةِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ سِحْرٌ ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ السِّحْرَ مَا هُوَ ، وَلَقَدْ وُجِدَ فِي بَعْضِ الْمَدَارِسِ عِنْدَ بَعْضِ الطَّلَبَةِ كُرَّاسَةٌ فِيهَا آيَاتٌ لِلْمَحَبَّةِ وَالْبُغْضِ وَالتَّهَيُّجِ وَالنَّزِيفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي تُسَمِّيهَا الْمَغَارِبَةُ عِلْمَ الْمُخِلَّاتِ فَأَفْتَوْا بِكُفْرِهِ ، وَإِخْرَاجِهِ مِنْ الْمَدْرَسَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ سِحْرٌ ، وَأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ وَهَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ ، وَإِقْدَامٌ عَلَى شَرِيعَةِ اللَّهِ بِجَهْلٍ وَعَلَى عِبَادِهِ بِالْفَسَادِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَاحْذَرْ هَذِهِ الْخُطَّةَ الرَّدِيئَةَ الْمُهْلِكَةَ عِنْدَ اللَّهِ وَسَتَقِفُ فِي الْفَرْقِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا عَلَى الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
ا هـ كَلَامُ الْأَصْلِ

وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ إلَى عَدَمِ صِحَّةِ قَوْلِهِ بِالْتِبَاسِ الْكُفْرِ بِالْكَبَائِرِ قَالَ فَإِنَّ قَوْلَهُ أَنَّ النَّهْيَ يَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ إنْ أَرَادَ الْمَفَاسِدَ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْكُفْرَ أَعْظَمُ الْمَفَاسِدِ ، وَمَا عَدَاهُ مِنْ الْمَعَاصِي تَتَفَاوَتُ رُتْبَتُهُ عَلَى أَنَّهُ كَيْفَ يَلْتَبِسُ بِهَا وَالْكُفْرُ أَمْرٌ اعْتِقَادِيٌّ وَالْكَبَائِرُ أَعْمَالٌ وَلَيْسَتْ بِاعْتِقَادٍ سَوَاءٌ كَانَتْ أَعْمَالٌ قَلْبِيَّةٌ أَوْ بَدَنِيَّةٌ ، قَالَ : وَلَيْسَ الْكُفْرُ انْتِهَاكَ حُرْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ إذْ لَا يَصْدُرُ عَادَةً مِمَّنْ يَدِينُ بِالرُّبُوبِيَّةِ بَلْ يَتَعَذَّرُ عَادَةً مَعَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْجَهْلِ بِهِ تَعَالَى فَالْكُفْرُ إمَّا الْجَهْلُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ أَوْ صِفَاتِهِ خَاصَّةً عِنْدَ مَنْ لَا يُصَحِّحُ الْكُفْرَ ، وَإِمَّا الْجَهْلُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ جَحْدُهُ عِنْدَ مَنْ يُصَحِّحُ الْكُفْرَ عِنَادًا قَالَ : وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُجَرَّدَ رَمْيِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ كُفْرٌ بَلْ رَمْيُهُ فِيهَا إنْ كَانَ مَعَ الْجَهْلِ فَالْكُفْرُ هُوَ الْجَهْلُ لَا عَيْنُ رَمْيِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ مَعَ التَّكْذِيبِ بِهِ هُوَ كُفْرٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ غَيْرُ كُفْرٍ .
وَلَا أَنَّ مُجَرَّدَ السُّجُودِ لِلصَّنَمِ كُفْرٌ بَلْ إنْ كَانَ مَعَ اعْتِقَادِ كَوْنِهِ إلَهًا فَهُوَ كُفْرٌ ، وَإِلَّا فَلَا بَلْ يَكُونُ مَعْصِيَةً إنْ كَانَ لِغَيْرِ إكْرَاهٍ وَجَائِزًا إنْ كَانَ لِلْإِكْرَاهِ وَلَا أَنَّ مُجَرَّدَ التَّرَدُّدِ إلَى الْكَنَائِسِ فِي أَعْيَادِهِمْ بِزِيِّ النَّصَارَى ، وَمُبَاشَرَةِ أَحْوَالِهِمْ كُفْرٌ بَلْ لَيْسَ هُوَ بِكُفْرٍ إلَّا أَنْ يَعْتَقِدَ مُعْتَقَدَهُمْ قَالَ وَجَحْدُ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ الْمَعْلُومِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كُفْرٌ إنْ كَانَ جَحَدَ بَعْدَ عِلْمِهِ فَيَكُونُ تَكْذِيبًا ، وَإِلَّا فَهُوَ جَهْلٌ وَذَلِكَ الْجَهْلُ مَعْصِيَةٌ ؛ لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ بِإِزَالَةِ مِثْلِ هَذَا الْجَهْلِ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكْفِي

الِاقْتِصَارُ عَلَى اشْتِرَاطِ شُهْرَةِ ذَلِكَ الْأَمْرِ مِنْ الدِّينِ بَلْ لَا بُدَّ مَعَ اشْتِهَارِ ذَلِكَ مِنْ وُصُولِ ذَلِكَ إلَى هَذَا الشَّخْصِ وَعِلْمِهِ بِهِ فَيَكُونُ إذْ ذَاكَ مُكَذِّبًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ فَيَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ الْأَمْرَ وَكَانَ مِنْ مَعَالِمِ الدِّينِ الْمُشْتَهِرَةِ فَهُوَ عَاصٍ بِتَرْكِ التَّسَبُّبِ إلَى عِلْمِهِ لَيْسَ بِكَافِرٍ بِذَلِكَ ، وَمَا يُفِيدُهُ كَلَامُ الشِّهَابِ مِنْ نَقْصِ شَرْطِ عِلْمِ الشَّخْصِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُشْتَهَرِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، قَالَ : وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ انْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا هِيَ جُرْأَةٌ عَلَى مُخَالَفَةٍ تُحْمَلُ عَلَيْهَا الْأَغْرَاضُ وَالشَّهَوَاتُ .
قَالَ وَبِنَاءُ الشَّخْصِ الْكَنَائِسَ لِيَكْفُرَ فِيهَا إنْ كَانَ الِاعْتِقَادُ رُجْحَانَ الْكُفْرِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَهُوَ كُفْرٌ لَا شَكَّ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ لِكَافِرٍ إرَادَةُ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ وَالتَّوَدُّدُ لَهُ بِذَلِكَ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ لَا كُفْرٌ وَقَتْلُ الشَّخْصِ نَبِيًّا مَعَ اعْتِقَادِهِ صِحَّةَ رِسَالَتِهِ لِيُمِيتَ شَرِيعَتَهُ لَا يَتَأَتَّى فَرْضُ كَوْنِهِ كُفْرًا إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ الْكُفْرَ عِنَادًا ، وَإِشَارَةُ الشَّخْصِ عَلَى مَنْ أَتَى لِيُسْلِمَ عَلَى يَدَيْهِ بِتَأْخِيرِ الْإِسْلَامِ لَا تَكُونُ كُفْرًا إلَّا إنْ كَانَتْ لِاعْتِقَادِهِ رُجْحَانَ الْكُفْرِ أَمَّا إنْ كَانَتْ لِكَوْنِهِ لَا يُرِيدُ لِهَذَا الشَّخْصِ الْإِسْلَامَ لِحِقْدٍ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَعْتَقِدَ الْمُشِيرُ رُجْحَانَ الْكُفْرِ فَلَا تَكُونُ كُفْرًا قَالَ وَيُوَافِقُ قَوْلُنَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِشَارَةِ بِتَأْخِيرِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِكُفْرٍ مِنْ أَنَّهُ جِهَةٌ لَمْ يُشِرْ بِذَلِكَ عَلَيْهِ إلَّا لِقَصْدِ إثْبَاتِهِ لَا لِاعْتِقَادِهِ رُجْحَانَ الْكُفْرِ قَوْلَ شِهَابِ الدِّينِ ، وَلَا يَنْدَرِجُ فِي إرَادَةِ الْكُفْرِ الدُّعَاءُ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ عَلَى مَنْ تُعَادِيهِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ إرَادَةُ الْكُفْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ

اللَّهِ تَعَالَى بَلْ إذَايَةُ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ : وَلَيْسَ مِنْهُ أَيْضًا اخْتِيَارُ الْإِمَامِ عَقْدَ الْجِزْيَةِ عَلَى الْأُسَارَى الْمُوجِبِ لِاسْتِمْرَارِ الْكُفْرِ فِي قُلُوبِهِمْ عَلَى الْقَتْلِ إلَى قَوْلِهِ وَقَعَ بِالْعَرَضِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ اسْتِبْقَاءَ الْأُسَارَى وَضَرْبَ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ لَا يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ إيثَارٌ لِاسْتِمْرَارِ الْكُفْرِ وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كُفْرًا وَأَمَّا مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ مَأْمُورٌ بِهِ عِنْدَ تَعَيُّنِ مُقْتَضِيهِ فَنَقُولُ كَذَلِكَ يَكُونُ لَوْ تَعَيَّنَ الْمُقْتَضِي ، وَمَتَى يَتَعَيَّنُ عِنْدَنَا وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ مَا عَاقِبَةُ أَمْرِ الْأَسِيرِ .
قَالَ : وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ السَّاجِدِ لِلشَّجَرَةِ وَالسَّاجِدِ لِلْوَالِدِ إنْ سَجَدَ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ الْمَسْجُودَ لَهُ شَرِيكٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كُفْرٌ ، وَإِنْ سَجَدَ لَا مَعَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ بَلْ تَعْظِيمًا عَارِيًّا عَنْ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ لَا كُفْرٌ ، وَإِنْ سَجَدَ السَّاجِدُ لِلشَّجَرَةِ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ شَرِيكٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَسَجَدَ السَّاجِدُ لِلْوَالِدِ لَا مَعَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ بَلْ تَعْظِيمًا فَالْأَوَّلُ كُفْرٌ وَالثَّانِي مَعْصِيَةٌ غَيْرُ كُفْرٍ أَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فَبِالْعَكْسِ .
وَأَمَّا إذَا قُلْنَا إنَّ مُجَرَّدَ السُّجُودِ لِلشَّجَرَةِ كُفْرٌ ؛ لِأَنَّهَا عُبِدَتْ مُدَّةً ، وَمُجَرَّدَ السُّجُودِ لِلْوَالِدِ لَيْسَ بِكُفْرٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْبَدْ مُدَّةً قَالَ : ذَلِكَ يَفْتَقِرُ إلَى تَوْقِيفٍ قَالَ ، وَمَعْنَى تَبَعِيَّةِ الْأَمْرِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ الْوَاجِبِ مَثَلًا لِمَصْلَحَتِهِ وَالْمُرَادُ بِهَا أَنَّهُ لَوْلَا الْقَصْدُ إلَى حُصُولِ الْمَصْلَحَةِ مَا شُرِعَ ، وَمَعْنَى تَبَعِيَّةِ الْمَصْلَحَةِ لِلْأَوَامِرِ وَالْمُرَادُ بِهَا أَنَّهُ لَوْلَا شَرْعِيَّةُ الْأَمْرِ الْبَاعِثِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَا حَصَلَتْ فَالْمَأْمُورُ بِهِ تَابِعٌ لِلْمَصْلَحَةِ وُجُوبًا ، وَالْمَصْلَحَةُ تَابِعَةٌ لَهُ وُجُودًا وَحِينَئِذٍ فَلَا غَرْوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ تَابِعًا لِلْآخَرِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31