كتاب : أنوار البروق في أنواع الفروق
المؤلف : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ .
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَالِقِ الْإِصْبَاحِ وَفَارِقِ أَهْلِ الْغَيِّ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَسَائِقِ السَّحَابِ الثِّقَالِ بِهُبُوبِ الرِّيَاحِ وَمُنَزِّلِ الْفُرْقَانِ عَلَى عَبْدِهِ يَوْمَ الْكِفَاحِ بِبِيضِ الصِّفَاحِ مُحَذِّرًا مِنْ دَارِ الْبَوَارِ وَحَاثًّا عَلَى دَارِ الْفَلَاحِ الْمُنَزَّهِ فِي عَظِيمِ عَلَائِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْأَرْوَاحِ وَمُشَاكَلَةِ الْأَشْبَاحِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً زَاكِيَةَ الْأَرْبَاحِ يَوْمَ الْقَدَّاحِ .
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ وَالْحُرُمَاتُ تُسْتَبَاحُ وَحِزْبُ الْكُفْرِ قَدْ عَمَّ الْفِجَاجَ وَالْبِطَاحَ فَلَمْ يَزَلْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْشِدُ إلَى الْحَقِّ بِالْحِجَاجِ الْوِضَاحِ وَسَمْهَرِيَّةِ الرِّمَاحِ حَتَّى أَعْلَنَ مُنَادِيهِ فِي نَادِيهِ وَبَاحَ ، وَظَهَرَ دِينُ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ فَطَارَ فِي الْآفَاقِ بِقَادِمَةٍ كَقَادِمَةِ الْجَنَاحِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَمُحِبِّيهِ مَا أَزَالَ الظُّلَمَ الْحَنَادِسَ ضَوْءُ الصَّبَاحِ صَلَاةً نَحُوزُ بِهَا أَعْلَى رُتَبِ النَّجَاحِ وَنَخْلُصُ بِهَا مِنْ دَرَكَاتِ الْإِثْمِ وَالْجُنَاحِ .
( أَمَّا بَعْدُ ) فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ الْمُعَظَّمَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ زَادَ اللَّهُ تَعَالَى مَنَارَهَا شَرَفًا وَعُلُوًّا اشْتَمَلَتْ عَلَى أُصُولٍ وَفُرُوعٍ ، وَأُصُولُهَا قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا الْمُسَمَّى بِأُصُولِ الْفِقْهِ وَهُوَ فِي غَالِبِ أَمْرِهِ لَيْسَ فِيهِ إلَّا قَوَاعِدُ الْأَحْكَامِ النَّاشِئَةُ عَنْ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ خَاصَّةً وَمَا يَعْرِضُ لِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ مِنْ النَّسْخِ وَالتَّرْجِيحِ وَنَحْوَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَالنَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ وَالصِّيغَةِ الْخَاصَّةِ لِلْعُمُومِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذَا النَّمَطِ إلَّا كَوْنَ الْقِيَاسِ حُجَّةً وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَصِفَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي قَوَاعِدُ كُلِّيَّةٌ فِقْهِيَّةٌ جَلِيلَةٌ كَثِيرَةُ الْعَدَدِ عَظِيمَةُ

الْمَدَدِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَسْرَارِ الشَّرْعِ وَحِكَمِهِ ، لِكُلِّ قَاعِدَةٍ مِنْ الْفُرُوعِ فِي الشَّرِيعَةِ مَا لَا يُحْصَى وَلَمْ يُذْكَرْ مِنْهَا شَيْءٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَإِنْ اتَّفَقَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ هُنَالِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فَبَقِيَ تَفْصِيلُهُ لَمْ يَتَحَصَّلْ ، وَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ مُهِمَّةٌ فِي الْفِقْهِ عَظِيمَةُ النَّفْعِ وَبِقَدْرِ الْإِحَاطَةِ بِهَا يَعْظُمُ قَدْرُ الْفَقِيهِ ، وَيَشْرُفُ وَيَظْهَرُ رَوْنَقُ الْفِقْهِ وَيُعْرَفُ وَتَتَّضِحُ مَنَاهِجُ الْفَتَاوَى وَتُكْشَفُ ، فِيهَا تَنَافَسَ الْعُلَمَاءُ وَتَفَاضَلَ الْفُضَلَاءُ ، وَبَرَزَ الْقَارِحُ عَلَى الْجَذَعِ وَحَازَ قَصَبَ السَّبْقِ مَنْ فِيهَا بَرَعَ ، وَمَنْ جَعَلَ يُخْرِجُ الْفُرُوعَ بِالْمُنَاسَبَاتِ الْجُزْئِيَّةِ دُونَ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ تَنَاقَضَتْ عَلَيْهِ الْفُرُوعُ وَاخْتَلَفَتْ وَتَزَلْزَلَتْ خَوَاطِرُهُ فِيهَا وَاضْطَرَبَتْ ، وَضَاقَتْ نَفْسُهُ لِذَلِكَ وَقَنَطَتْ ، وَاحْتَاجَ إلَى حِفْظِ الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى وَانْتَهَى الْعُمْرُ وَلَمْ تَقْضِ نَفْسُهُ مِنْ طَلَبِ مُنَاهَا وَمَنْ ضَبَطَ الْفِقْهَ بِقَوَاعِدِهِ اسْتَغْنَى عَنْ حِفْظِ أَكْثَرِ الْجُزْئِيَّاتِ لِانْدِرَاجِهَا فِي الْكُلِّيَّاتِ ، وَاتَّحَدَ عِنْدَهُ مَا تَنَاقَضَ عِنْدَ غَيْرِهِ وَتَنَاسَبَ .
وَأَجَابَ الشَّاسِعَ الْبَعِيدَ وَتَقَارَبَ وَحَصَّلَ طِلْبَتَهُ فِي أَقْرَبِ الْأَزْمَانِ وَانْشَرَحَ صَدْرُهُ لِمَا أَشْرَقَ فِيهِ مِنْ الْبَيَانِ فَبَيْنَ الْمَقَامَيْنِ شَأْوٌ بَعِيدٌ وَبَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ تَفَاوُتٌ شَدِيدٌ ، وَقَدْ أَلْهَمَنِي اللَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ أَنْ وَضَعْتُ فِي أَثْنَاءِ كِتَابِ الذَّخِيرَةِ مِنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ شَيْئًا كَثِيرًا مُفَرَّقًا فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ كُلُّ قَاعِدَةٍ فِي بَابِهَا وَحَيْثُ تُبْنَى عَلَيْهَا فُرُوعُهَا .
ثُمَّ أَوْجَدَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَفْسِي أَنَّ تِلْكَ الْقَوَاعِدَ لَوْ اجْتَمَعَتْ فِي كِتَابٍ وَزِيدَ فِي تَلْخِيصِهَا وَبَيَانِهَا وَالْكَشْفِ عَنْ أَسْرَارِهَا وَحُكْمِهَا لَكَانَ ذَلِكَ أَظْهَرَ لِبَهْجَتِهَا وَرَوْنَقِهَا ، وَتَكَيَّفَتْ نَفْسُ الْوَاقِفِ عَلَيْهَا بِهَا مُجْتَمِعَةً أَكْثَرَ

مِمَّا إذَا رَآهَا مُفَرَّقَةً ، وَرُبَّمَا لَمْ يَقِفْ إلَّا عَلَى الْيَسِيرِ مِنْهَا هُنَالِكَ لِعَدَمِ اسْتِيعَابِهِ لِجَمِيعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ ، وَأَيْنَمَا يَقِفُ عَلَى قَاعِدَةٍ ذَهَبَ عَنْ خَاطِرِهِ مَا قَبْلَهَا بِخِلَافِ اجْتِمَاعِهَا وَتَظَافُرِهَا ، فَوَضَعْتُ هَذَا الْكِتَابَ لِلْقَوَاعِدِ خَاصَّةً وَزِدْتُ قَوَاعِدَ كَثِيرَةً لَيْسَتْ فِي الذَّخِيرَةِ وَزِدْتُ مَا وَقَعَ مِنْهَا فِي الذَّخِيرَةِ بَسْطًا وَإِيضَاحًا فَإِنِّي فِي الذَّخِيرَةِ رَغِبْتُ فِي كَثْرَةِ النَّقْلِ لِلْفُرُوعِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَصُّ بِكُتُبِ الْفُرُوعِ ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَجْمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ وَكَثْرَةِ الْبَسْطِ فِي الْمَبَاحِثِ وَالْقَوَاعِدِ فَيَخْرُجُ الْكِتَابُ إلَى حَدٍّ يَعْسَرُ عَلَى الطَّلَبَةِ تَحْصِيلُهُ أَمَّا هُنَا فَالْعُذْرُ زَائِلٌ وَالْمَانِعُ ذَاهِبٌ فَأَسْتَوْعِبُ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَجَعَلْتُ مَبَادِئَ الْمَبَاحِثِ فِي الْقَوَاعِدِ بِذِكْرِ الْفُرُوقِ وَالسُّؤَالِ عَنْهَا بَيْنَ فَرَعَيْنَ أَوْ قَاعِدَتَيْنِ فَإِنْ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْعَيْنِ فَبَيَانُهُ بِذِكْرِ قَاعِدَةٍ أَوْ قَاعِدَتَيْنِ يَحْصُلُ بِهِمَا الْفَرْقُ .
وَهُمَا الْمَقْصُودَتَانِ ، وَذِكْرُ الْفَرْقِ وَسِيلَةٌ لِتَحْصِيلِهِمَا وَإِنْ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ فَالْمَقْصُودُ تَحْقِيقُهُمَا ، وَيَكُونُ تَحْقِيقُهُمَا بِالسُّؤَالِ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَوْلَى مِنْ تَحْقِيقِهِمَا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ ضَمَّ الْقَاعِدَةِ إلَى مَا يُشَاكِلُهَا فِي الظَّاهِرِ وَيُضَادُّهَا فِي الْبَاطِنِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الضِّدَّ يُظْهِرُ حَسَنَةَ الضِّدِّ وَبِضِدِّهَا تَتَمَيَّزُ الْأَشْيَاءُ وَتَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا كِتَابٌ لِي سَمَّيْتُهُ كِتَابَ الْأَحْكَامِ فِي الْفَرْقِ بَيْن الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ وَتَصَرُّفِ الْقَاضِي وَالْإِمَامِ ذَكَرْتُ فِي هَذَا الْفَرْقِ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً جَامِعَةً لِأَسْرَارِ هَذِهِ الْفُرُوقِ وَهُوَ كِتَابٌ مُسْتَقِلٌّ يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ الْإِعَادَةِ هُنَا فَمَنْ شَاءَ طَالَعَ ذَلِكَ الْكِتَابَ فَهُوَ حَسَنٌ فِي بَابِهِ وَعَوَائِدُ الْفُضَلَاءِ وَضْعُ كُتُبِ الْفُرُوقِ

بَيْنَ الْفُرُوعِ ، وَهَذَا فِي الْفُرُوقِ بَيْنَ الْقَوَاعِدِ وَتَلْخِيصِهَا فَلَهُ مِنْ الشَّرَفِ عَلَى تِلْكَ الْكُتُبِ شَرَفُ الْأُصُولِ عَلَى الْفُرُوعِ وَسَمَّيْتُهُ لِذَلِكَ أَنْوَارَ الْبُرُوقِ فِي أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ وَلَكَ أَنْ تُسَمِّيَهُ كِتَابَ الْأَنْوَارِ وَالْأَنْوَاءِ أَوْ كِتَابَ الْأَنْوَارِ وَالْقَوَاعِدِ السَّنِيَّةِ فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ كُلُّ ذَلِكَ لَكَ وَجَمَعْتُ فِيهِ مِنْ الْقَوَاعِدِ خَمْسَمِائَةٍ وَثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ قَاعِدَةً أَوْضَحْتُ كُلَّ قَاعِدَةٍ بِمَا يُنَاسِبُهَا مِنْ الْفُرُوعِ حَتَّى يَزْدَادَ انْشِرَاحُ الْقَلْبِ لِغَيْرِهَا .
( فَائِدَةٌ ) سَمِعْتُ بَعْضَ مَشَايِخِي الْفُضَلَاءَ يَقُولُ فَرَّقَتْ الْعَرَبُ بَيْنَ فَرَقَ بِالتَّخْفِيفِ وَفَرَّقَ بِالتَّشْدِيدِ الْأَوَّلُ فِي الْمَعَانِي وَالثَّانِي فِي الْأَجْسَامِ ، وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِيهِ أَنَّ كَثْرَةَ الْحُرُوفِ عِنْدَ الْعَرَبِ تَقْتَضِي كَثْرَةَ الْمَعْنَى أَوْ زِيَادَتَهُ أَوْ قُوَّتَهُ ، وَالْمَعَانِي لَطِيفَةٌ وَالْأَجْسَامُ كَثِيفَةٌ فَنَاسَبَهَا التَّشْدِيدُ وَنَاسَبَ الْمَعَانِيَ التَّخْفِيفُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى خِلَافُ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ } فَخَفَّفَ فِي الْبَحْرِ وَهُوَ جِسْمٌ .
وَقَالَ تَعَالَى { فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } وَجَاءَ عَلَى الْقَاعِدَةِ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ } وقَوْله تَعَالَى { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } وَ { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } وَلَا نَكَادُ نَسْمَعُ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَّا قَوْلَهُمْ مَا الْفَارِقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ ، وَلَا يَقُولُونَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّشْدِيدِ ، وَمُقْتَضِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنْ يَقُولَ السَّائِلُ اُفْرُقْ لِي بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَلَا يَقُولُ فَرِّقْ لِي وَلَا بِأَيِّ شَيْءٍ تُفَرِّقُ مَعَ أَنَّ كَثِيرًا يَقُولُونَهُ فِي الْأَفْعَالِ دُونَ اسْمِ الْفَاعِلِ ، وَقَدْ آنَ الشُّرُوعُ فِي الْكِتَابِ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ تَعَالَى

عَلَى خُلُوصِ النِّيَّةِ وَحُصُولِ الْبُغْيَةِ وَأَسْأَلُهُ بِعَظِيمِ جَلَالِهِ وَكَمَالِ عَلَائِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ نَافِعًا لِي وَلِعِبَادِهِ ، وَأَنْ يُيَسِّرَ ذَلِكَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

قَالَ الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْعَلَّامَةُ الْمُتَكَلِّمُ الْأُسْتَاذُ الْأَوْحَدُ أَبُو الْقَاسِمِ قَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الشَّاطِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى آمِينَ .
( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُنْفَرِدِ بِالْجَلَالِ وَالْكَمَالِ الْمُنَزَّهِ عَنْ الْأَكْفَاءِ وَالنُّظَرَاءِ وَالْأَشْبَاهِ وَالْأَمْثَالِ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْأَتَمَّانِ الْأَكْمَلَانِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى مِنْ الْإِرْسَالِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ خَيْرِ صَحْبٍ وَخَيْرِ آلٍ .
( أَمَّا بَعْدُ ) فَإِنِّي لَمَّا طَالَعْتُ كِتَابَ الْإِمَامِ شِهَابِ الدِّينِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ إدْرِيسَ الْقَرَافِيِّ الْمَالِكِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسَمَّى بِأَنْوَارِ الْبُرُوقِ فِي أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ أَلْفَيْتُهُ قَدْ حَشَدَ فِيهِ وَحَشَرَ وَطَوَى وَنَشَرَ ، وَسَلَكَ السُّهُولَ وَالنُّجُودَ وَوَرَدَ الْبُحُورَ وَالثَّمُودَ ، خَلَا أَنَّهُ مَا اسْتَكْمَلَ التَّصْوِيبَ وَالتَّنْقِيبَ ، وَلَا اسْتَعْمَلَ التَّهْذِيبَ وَالتَّرْتِيبَ فَانْتَسَبَ بِسَبَبِ ذَيْنِكَ الْأَمْرَيْنِ إلَى الْإِخْلَالِ بِوَاجِبَيْنِ ، وَاحْتَجَبَ لَا مَعَ بُرُوقِهِ مِنْهَا بِحَاجِبَيْنِ ، وَلَمَّا كَانَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فِي مَرْتَبَةِ الضَّرُورِيَّاتِ ، وَالثَّانِي فِي دَرَجَةِ الْحَاجِيَّاتِ ، وَضَعْتُ كِتَابِي هَذَا لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّوَابِ مُصَحِّحًا ، وَلِمَا عَدَلَ بِهِ عَنْ صَوْبِهِ مُنَقِّحًا ، وَأَضْرَبْتُ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ مُؤْثِرًا لِلضَّرُورِيِّ عَلَى الْحَاجِيِّ وَمُرَجِّحًا ، وَلَمَّا شَرُفَتْ أَنْوَارُ هَذَا الْمَجْمُوعِ وَأَشْرَقَتْ ، فَلَاحَتْ كَالشَّمْسِ الْمُضْحِيَةِ فِي الْوُضُوحِ ، وَوَقَفَتْ أَمَامَهَا لَوَامِعُ الْخُلَّبِ مِنْ تِلْكَ الْبُرُوقِ ، لِمَا ضَمِنَهُ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ صَوْبِ الصَّوَابِ وَالْمُرُوقِ مَوْقِفَ الْمَفْضُوحِ سَمَّيْتُهُ بِكِتَابِ إدْرَارِ الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ لِيُوَافِقَ اللَّفْظُ الْمَعْنَى ، وَيُطَابِقَ الِاسْمُ الْمُسَمَّى ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَرْجُو أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ أَلِيمِ الْعِتَابِ يَوْمَ

الْحِسَابِ آمِنًا وَلِجَسِيمِ الثَّوَابِ عِنْدَ الْمَآبِ ضَامِنًا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) حَمْدًا لِمَنْ أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ سَيِّدِ وَلَدِ عَدْنَانَ فَارِقًا بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ الْمُوجِبِ لِلرِّضْوَانِ وَالْبَاطِلِ الْمُوجِبِ لِلْخُسْرَانِ ، وَلَمْ يَزَلْ يُرْشِدُ إلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ بِهِ وَبِمَا بَلَّغَهُ مِنْ وَاضِحِ الْبَرَاهِينِ حَتَّى ظَهَرَ دِينُ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الطَّاهِرِينَ وَأَصْحَابِهِ الْبَاذِلِينَ نُفُوسَهُمْ فِي تَشْيِيدِ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَمَعَالِمِ الْإِيمَانِ .
أَمَّا بَعْدُ فَيَقُولُ تُرَابُ أَقْدَامِ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ وَالْقَادَةِ النُّجَبَاءِ الْأَتْقِيَاءِ الْعَبْدُ الْحَقِيرُ الْمُعْتَرِفُ بِذَنْبِهِ الْمُفْتَقِرُ إلَى عَفْوِ رَبِّهِ مُحَمَّدٌ عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ الْمَكِّيُّ الْمَالِكِيُّ إنَّ كِتَابَ أَنْوَارِ الْبُرُوقِ فِي أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ لِلْعَلَّامَةِ شِهَابِ الدِّينِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ إدْرِيسَ الصِّنْهَاجِيِّ الْمَشْهُورِ بِالْقَرَافِيِّ بَيْنَ النَّاسِ لِمَا امْتَازَ بِوَضْعِهِ فِي الْفُرُوقِ بَيْنَ الْقَوَاعِدِ لَا فِي الْفُرُوقِ بَيْنَ الْفُرُوعِ كَمَا هُوَ عَادَةُ الْفُضَلَاءِ الْأَمَاجِدِ ، لِمَا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ شَرَفِ السَّمَاءِ مَا لِلْأُصُولِ عَلَى الْفُرُوعِ مِنْ شَرَفِ الِارْتِقَاءِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَكْمِلْ التَّصْوِيبَ وَالتَّنْقِيبَ ، وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ التَّهْذِيبَ وَالتَّرْتِيبَ فَوَفَّقَ اللَّهُ الْإِمَامَ الْعَلَّامَةَ أَبَا الْقَاسِمِ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الشَّاطِّ قَاسِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ الْحَقِيقَ بِالِاغْتِبَاطِ لِتَنْقِيحِ مَا عَدَلَ بِهِ عَنْ صَوْبِ الصَّوَابِ وَتَصْحِيحِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ صَوَابٍ فِي حَاشِيَةِ إدْرَارِ الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ عَنَّ لِي وَإِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَهْلًا لِذَلِكَ وَلَا مِنْ رِجَالِ هَذِهِ الْمَهَامِهِ وَالْمَسَالِكِ أَنْ أُلَخِّصَهُ مَعَ التَّهْذِيبِ وَالتَّرْتِيبِ وَالتَّوْضِيحِ مُرَاعِيًا مَا حَرَّرَهُ ذَلِكَ الْمِفْضَالُ مِنْ التَّصْحِيحِ وَالتَّنْقِيحِ لِقَوْلِ أَهْلِ التَّحَرِّي وَالِاحْتِيَاطِ عَلَيْكَ بِفُرُوقِ الْقَرَافِيِّ .
وَلَا

تَقْبَلْ مِنْهَا إلَّا مَا قَبِلَهُ ابْنُ الشَّاطِّ كَمَا فِي ضَوْءِ الشُّمُوعِ لِلْعَلَّامَةِ الْأَمِيرِ عَلَى شَرْحِهِ عَلَى الْمَجْمُوعِ مَعَ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ بِهِ عَلَيَّ مِمَّا تَتِمُّ بِهِ الْإِفَادَةُ مِنْ جَوَابِ إشْكَالٍ تَرَكَ جَوَابَهُ أَوْ زِيَادَةِ رَجَاءٍ مِنْ مَفِيضِ الْإِحْسَانِ أَنْ يَجْعَلَهُ سَبَبًا لِلْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ وَسَمَّيْتُهَا بِتَهْذِيبِ الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السُّنِّيَّةِ فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ وَرَتَّبْتُهُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَعَلَى فُرُوقٍ تَشْتَمِلُ عَلَى نَحْوِ خَمْسِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ قَاعِدَةً مُوَضَّحَةً بِمَا يُنَاسِبُهَا مِنْ الْفُرُوعِ لِيَزْدَادَ انْشِرَاحُ الْقَلْبِ لِغَيْرِهَا فَتَتِمُّ الْفَائِدَةُ ، وَتِلْكَ الْفُرُوقُ مِنْهَا مَا هُوَ وَاقِعٌ بَيْنَ فَرْعَيْنِ يَحْصُلُ بَيَانُهُ بِذِكْرِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَاعِدَةٍ أَوْ قَاعِدَتَيْنِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ وَاقِعٌ بَيْنَ قَاعِدَتَيْنِ مَقْصُودِ تَحْقِيقِهِمَا بِالسُّؤَالِ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا نَظَرًا لِكَوْنِ تَحْقِيقِهِمَا بِذَلِكَ أَوْلَى بِلَا إبَاءٍ مِنْ تَحْقِيقِهِمَا بِغَيْرِ ذَلِكَ لَدَى النُّبَلَاءِ لِأَنَّ لِضِدِّهِ الثَّنَاءَ وَبِضِدِّهَا تَتَمَيَّزُ الْأَشْيَاءُ .
( مُقَدِّمَةٌ ) فِي فَائِدَتَيْنِ : ( الْأُولَى ) اعْلَمْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْمُعَظَّمَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى أُصُولٍ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا الْمُسَمَّى بِأُصُولِ الْفِقْهِ وَهُوَ غَالِبُ أَمْرِهِ لَيْسَ فِيهِ إلَّا قَوَاعِدُ الْأَحْكَامِ النَّاشِئَةِ عَنْ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ خَاصَّةً ، وَمَا يَعْرِضُ لِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ مِنْ النَّسْخِ وَالتَّرْجِيحِ وَنَحْوِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَالنَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ وَالصِّيغَةِ الْخَاصَّةِ لِلْعُمُومِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذَا النَّمَطِ إلَّا كَوْنَ الْقِيَاسِ حُجَّةً وَخَبَرًا لِوَاحِدٍ وَصِفَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ كَمَا فِي الْأَصْلِ .
قُلْت وَتَوْضِيحُ ذَلِكَ أَنَّ الطُّرُقَ الَّتِي مِنْهَا تُلُقِّيَتْ الْأَحْكَامُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثَةً لَفْظًا وَفِعْلًا وَإِقْرَارًا إلَّا أَنَّ غَالِبَ قَوَاعِدِ أُصُولِ

الْفِقْهِ إنَّمَا نَشَأَتْ مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي تُتَلَقَّى مِنْهَا الْأَحْكَامُ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ ثَلَاثَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا الْأَوَّلُ لَفْظٌ عَامٌّ يُحْمَلُ عَلَى عُمُومِهِ ، أَوْ خَاصٌّ يُحْمَلُ عَلَى خُصُوصِهِ ، وَالثَّانِي لَفْظٌ عَامٌّ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ ، وَالثَّالِثُ لَفْظٌ خَاصٌّ يُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ وَفِي هَذَا يَدْخُلُ التَّنْبِيهُ بِالْمُسَاوِي عَلَى الْمُسَاوِي وَبِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى وَبِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } فَقَدْ فُهِمَ مِنْهُ تَحْرِيمُ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ .
وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ إمَّا أَنْ تَأْتِيَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ أَوْ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ يُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ فَتَسْتَدْعِي الْفِعْلَ وَفِي حَمْلِ هَذَا الِاسْتِدْعَاءِ عَلَى الْوُجُوبِ إنْ فُهِمَ مِنْهُ الْجَزْمُ وَتَعَلُّقُ الْعِقَابِ بِالتَّرْكِ أَوْ عَلَى النَّدْبِ إنْ فُهِمَ مِنْهُ الثَّوَابُ عَلَى الْفِعْلِ وَانْتِفَاءُ الْعِقَابِ مَعَ التَّرْكِ أَوْ يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَحَدِهِمَا خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَإِمَّا أَنْ تَأْتِيَ بِصِيغَةِ النَّهْيِ أَوْ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ يُرَادُ بِهِ النَّهْيُ فَتَسْتَدْعِي التَّرْكَ وَفِي حَمْلِ هَذَا الِاسْتِدْعَاءِ عَلَى التَّحْرِيمِ إنْ فُهِمَ مِنْهُ الْجَزْمُ وَتَعَلُّقُ الْعِقَابِ بِالْفِعْلِ أَوْ عَلَى الْكَرَاهَةِ إنْ فُهِمَ مِنْهُ الْحَثُّ عَلَى تَرْكِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقِ الْعِقَابِ بِفِعْلِهِ أَوْ يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَحَدِهِمَا خِلَافٌ كَذَلِكَ .
وَالْأَعْيَانُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحُكْمُ إمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهَا بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ فَقَطْ ، وَهُوَ الَّذِي يُعْرَفُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِالنَّصِّ وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ ، وَإِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهَا بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى وَاحِدٍ ، وَهَذَا إمَّا أَنْ تَكُونَ دَلَالَتُهُ عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي بِالسَّوَاءِ وَهُوَ الَّذِي يُعْرَفُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِالْمُجْمَلِ وَلَا خِلَافَ

فِي أَنَّهُ لَا يُوجِبُ حُكْمًا ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ دَلَالَتُهُ عَلَى بَعْضِ تِلْكَ الْمَعَانِي أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ وَيُسَمَّى بِالْإِضَافَةِ إلَى الْبَعْضِ الْأَكْثَرِ ظَاهِرًا وَإِلَى الْبَعْضِ الْأَقَلِّ مُحْتَمَلًا ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْبَعْضِ الْأَكْثَرِ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْبَعْضِ الْأَقَلِّ إلَّا بِدَلِيلٍ فَيَعْرِضُ حِينَئِذٍ خِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي أَقَاوِيلِ الشَّارِعِ مِنْ قِبَلِ ثَلَاثَةِ مَعَانٍ مِنْ قِبَلِ الِاشْتِرَاكِ فِي لَفْظِ الْعَيْنِ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الْحُكْمَ ، وَمِنْ قِبَلِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمَقْرُونَةِ بِجِنْسِ ذَلِكَ الْعَيْنِ هَلْ أُرِيدَ بِهَا الْكُلُّ أَوْ الْبَعْضُ ، وَمِنْ قِبَلِ الِاشْتِرَاكِ الَّذِي فِي أَلْفَاظِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ، وَصِنْفٌ رَابِعٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ إيجَابِ الْحُكْمِ لِشَيْءٍ مَا نَفَى ذَلِكَ عَمَّا عَدَا ذَلِكَ الشَّيْءَ ، وَمَنْ نَفَى الْحُكْمَ لِشَيْءٍ مَا إيجَابُهُ لِمَا عَدَا ذَلِكَ الشَّيْءَ الَّذِي نَفَى عَنْهُ .
وَهُوَ الَّذِي يُعْرَفُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ مِثْلَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ } فَإِنَّ قَوْمًا فَهِمُوا مِنْهُ أَنْ لَا زَكَاةَ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ ، أَوْ نَشَأَتْ مِمَّا يَعْرِضُ لِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ مِنْ النَّسْخِ أَيْ جَوَازِهِ ، وَكَوْنِهِ يَنْقَسِمُ إلَى أَقْسَامٍ أَحَدُهَا نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ كَحُكْمِ { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ } بِحُكْمِ { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } لِتَأَخُّرِهَا نُزُولًا وَإِنْ تَقَدَّمَتْ تِلَاوَةً ، وَثَانِيهَا نَسْخُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ كَحَدِيثِ { كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا } .
وَثَالِثُهَا السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ كَحُكْمِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الثَّابِتِ بِالسُّنَّةِ الْفِعْلِيَّةِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ الثَّابِتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ

الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ، وَرَابِعُهَا الْكِتَابُ بِالسُّنَّةِ وَلَوْ آحَادًا عَلَى الصَّحِيحِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَهُ إمَّا لِأَنَّ الْقَطْعِيَّ مَتْنُ الْقُرْآنِ لَا دَلَالَتُهُ ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ نَسْخِهِ بِالْآحَادِ وَإِنْ كَانَتْ دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةً كَآيَةِ الِاسْتِقْبَالِ نَعَمْ الْحَقُّ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ إلَّا بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ كَجَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِحَدِيثِ { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } وَيَنْقَسِمُ أَيْضًا إلَى مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَحُكْمُهُ جَمِيعًا نَحْوَ عَشْرَ رَضَعَاتٍ مُحَرِّمَاتٍ كَانَ مِمَّا يُتْلَى فَنُسِخَتْ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ وَمَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ دُونَ حُكْمِهِ نَحْوَ { الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ كَانَ مِمَّا يُتْلَى فَرَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحْصَنِينَ } وَمَا نُسِخَ حُكْمُهُ دُونَ تِلَاوَتِهِ كَآيَةِ { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا } الْآيَةَ نُسِخَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا .
وَيَنْقَسِمُ أَيْضًا إلَى النَّسْخِ إلَى بَدَلٍ كَمَا فِي آيَتَيْ الْأَنْفَالِ وَإِلَى غَيْرِ بَدَلٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجَوَاكُمْ صَدَقَةً } فَإِنَّ وُجُوبَ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِمَا تَيَسَّرَ عَلَى مُنَاجَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِيُطَهِّرَهُ حَتَّى يَكُونَ أَهْلًا لِمُنَاجَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَنُسِخَ بِلَا بَدَلٍ لِاسْتِلْزَامِهِ قِلَّةَ الْأَسْئِلَةِ فَإِنَّ فِي السُّكُوتِ رَحْمَةً كَمَا وَرَدَ { اُتْرُكُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ إنَّ اللَّهَ سَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ وَقَدْ شَدَّدَ بَنُو إسْرَائِيلَ فِي السُّؤَالِ عَنْ الْبَقَرَةِ فَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ بِضِيقِ صِفَاتِهَا حَتَّى غَلَتْ } .
وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ لَمْ يَقَعْ وِفَاقًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَالْبَدَلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ

الْجَوَازُ الْمُطْلَقُ الصَّادِقُ بِالْإِبَاحَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَمِمَّا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ التَّرْجِيحِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ الَّتِي تُخِلُّ بِالْفَهْمِ الْيَقِينِيِّ الْمَنْظُومَةِ مَعَ إضَافَةِ النَّسْخِ إلَيْهَا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ مُرَجِّحًا التَّجَوُّزَ عَلَى الْإِضْمَارِ عَلَى خِلَافِ الْأَصَحِّ مِنْ اسْتِوَائِهِمَا تَجَوُّزٌ ثُمَّ إضْمَارٌ ، وَبَعْدَهُمَا نَقْلٌ تَلَاهُ اشْتِرَاكٌ فَهُوَ يَخْلُفُهُ ، وَأَرْجَحُ الْكُلِّ تَخْصِيصٌ وَآخِرُهَا نَسْخٌ فَمَا بَعْدَهُ قِسْمٌ يَخْلُفُهُ وَلَوْ جَرَى عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ اسْتِوَاءِ التَّجَوُّزِ وَالْإِضْمَارِ لَقَالَ تَجُوزُ مِثْلُ إضْمَارٍ وَبَعْدَهُمَا إلَخْ ، وَيَتَحَصَّلُ فِي تَعَارُضِهَا عَشْرُ صُوَرٍ هِيَ تَعَارُضُ التَّخْصِيصِ وَالتَّجَوُّزِ ، تَعَارُضُ التَّخْصِيصِ وَالْإِضْمَارِ ، تَعَارُضُ التَّخْصِيصِ وَالنَّقْلِ ، تَعَارُضُ التَّخْصِيصِ وَالِاشْتِرَاكِ فَيُقَدَّمُ التَّخْصِيصُ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى تَعَارُضُ التَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ تَعَارُضُ الْإِضْمَارِ وَالِاشْتِرَاكِ تَعَارُضُ النَّقْلِ وَالِاشْتِرَاكِ ، فَيُقَدَّمُ كُلٌّ مِنْ التَّجَوُّزِ وَالْإِضْمَارِ وَالنَّقْلِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ ، تَعَارُضُ التَّجَوُّزِ وَالْإِضْمَارِ تَعَارُضُ التَّجَوُّزِ وَالنَّقْلِ تَعَارُضُ الْإِضْمَارِ وَالنَّقْلِ ، وَالْأَصَحُّ اسْتِوَاءُ التَّجَوُّزِ وَالْإِضْمَارِ وَتَقْدِيمُهُمَا عَلَى النَّقْلِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ ، وَأَمْثِلَتُهَا تُطْلَبُ مِنْ كُتُبِ الْأُصُولِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْقُولِ وَالْمُشْتَرَكِ مَعَ تَعَدُّدِ الْمَعْنَى وَالْوَضْعِ فِي كُلٍّ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ مَا وُضِعَ لِمَعْنَيَيْهِ مَثَلًا عَلَى السَّوَاءِ بِأَنْ وُضِعَ لِهَذَا كَمَا وُضِعَ لِذَاكَ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ النَّقْلِ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ ، وَفِي جَوَازِ حَمْلِهِ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَيُسَمَّى مُشْتَرَكًا مُطْلَقًا وَعَدَمِ جَوَازِهِ فَلَا يُسَمَّى مُشْتَرَكًا إلَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَيَيْنِ مَثَلًا .
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحَدِهِمَا فَيُسَمَّى مُجْمَلًا خِلَافٌ ، وَالْمَنْقُولُ مَا لَمْ يُوضَعْ لِمَعْنَيَيْهِ مَثَلًا

عَلَى السَّوَاءِ بَلْ وُضِعَ أَوَّلًا لِأَحَدِهِمَا ثُمَّ نُقِلَ إلَى الْآخَرِ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا مَعَ هَجْرِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ ، وَالْمُرَادُ بِالتَّجَوُّزِ التَّجَوُّزُ الِاصْطِلَاحِيُّ الَّذِي هُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ إلَخْ فَلَا يَشْمَلُ الْإِضْمَارَ ، وَجَعْلُ التَّخْصِيصِ مُقَابِلًا لِلتَّجَوُّزِ لَا نَوْعًا مِنْهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا اخْتَارَهُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ مِنْ أَنَّ الْعَامَّ إذَا خُصَّ يَكُونُ حَقِيقَةً فِي الْبَاقِي لَا عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ أَنَّهُ يَكُونُ مَجَازًا فِيهِ ، وَإِنَّمَا تَعَرَّضُوا لِتَعَارُضِ هَذِهِ الْخَمْسَةِ فَقَطْ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ عَوَارِضِ اللَّفْظِ دُونَ النَّسْخِ فَإِنَّهُ مِنْ عَوَارِضِ الْحُكْمِ ، وَأَيْضًا قَالَ الْعَطَّارُ عَلَى مَحَلِّي جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَلَهُمْ خَمْسَةٌ أُخْرَى تُخِلُّ بِالْفَهْمِ وَهِيَ النَّسْخُ وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ وَتَغَيُّرُ الْإِعْرَابِ وَالتَّصْرِيفُ وَالْمُعَارِضُ الْعَقْلِيُّ وَاقْتَصَرَ الشَّارِحُ كَالْمُصَنِّفِ عَلَى الْخَمْسَةِ الْأُولَى لِكَثْرَةِ وُقُوعِهَا وَلِقُوَّةِ الظَّنِّ مَعَ انْتِفَائِهَا .
ا هـ وَمِمَّا يَعْرِضُ لَهَا أَيْضًا مِنْ كَوْنِ الْمَعَانِي الْمُتَدَاوَلَةِ الْمُتَأَدِّيَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ اللَّفْظِيَّةِ إجْمَالًا ، إمَّا أَمْرٌ بِشَيْءٍ فَيَكُونُ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَإِمَّا نَهْيٌ عَنْ شَيْءٍ فَيَكُونُ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ لِلْكَرَاهَةِ عَلَى مَا مَرَّ أَيْضًا ، وَإِمَّا تَخْيِيرٌ فِيهِ وَهُوَ الْمُبَاحُ فَأَصْنَافُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُتَلَقَّاةُ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ اللَّفْظِيَّةِ خَمْسَةٌ ، وَمِنْ كَوْنِ أَسْبَابِ الِاخْتِلَافِ فِي تَأْدِيَةِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأَصْنَافِ اللَّفْظِيَّةِ سِتَّةٌ أَحَدُهَا تَرَدُّدُ الْأَلْفَاظِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ ، أَيْ كَوْنُ اللَّفْظِ عَامًّا يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ أَوْ خَاصًّا يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ ، أَوْ عَامًّا يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ أَوْ خَاصًّا يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ ، أَوْ يَكُونُ لَهُ دَلِيلُ الْخِطَابِ أَوْ لَا يَكُونُ لَهُ ، وَالثَّانِي الِاشْتِرَاكُ الْحَاصِلُ إمَّا فِي

اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ كَالْقُرْءِ يُطْلَقُ عَلَى الْأَطْهَارِ وَالْحَيْضِ ، وَالْأَمْرُ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ وَالنَّهْيُ يُحْمَلُ عَلَى التَّحْرِيمِ أَوْ الْكَرَاهَةِ .
وَأَمَّا فِي اللَّفْظِ الْمُرَكَّبِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا } يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْفَاسِقِ فَقَطْ أَوْ عَلَيْهِ وَعَلَى الشَّاهِدِ مَعًا فَتَكُونُ التَّوْبَةُ رَافِعَةً لِلْفِسْقِ وَمُجِيزَةً لِشَهَادَةِ الْقَاذِفِ ، وَالثَّالِثُ اخْتِلَافُ الْإِعْرَابِ ، وَالرَّابِعُ تَرَدُّدُ اللَّفْظِ بَيْنَ حَمْلِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الَّتِي هِيَ إمَّا الْحَذْفُ وَإِمَّا الزِّيَادَةُ وَإِمَّا التَّأْخِيرُ وَإِمَّا التَّقْدِيمُ وَإِمَّا تَرَدُّدُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ الِاسْتِعَارَةِ ، وَالْخَامِسُ إطْلَاقُ اللَّفْظِ تَارَةً وَتَقْيِيدُهُ تَارَةً مِثْلُ إطْلَاقِ الرَّقَبَةِ فِي الْعِتْقِ تَارَةً وَتَقْيِيدُهَا بِالْإِيمَانِ تَارَةً ، وَالسَّادِسُ التَّعَارُضُ فِي الشَّيْئَيْنِ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَتَلَقَّى مِنْهَا الشَّرْعُ الْأَحْكَامَ بَعْضَهَا مَعَ بَعْضٍ وَمِنْ كَوْنِ هَذِهِ الصِّيغَةِ الْخَاصَّةِ لِلْعُمُومِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذَا النَّمَطِ أَيْ عَنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الَّتِي طَرِيقُهَا اللَّفْظُ الْعَرَبِيُّ خَاصَّةً إلَّا كَوْنَ الْقِيَاسِ حُجَّةً فِيمَا سَكَتَ عَنْهُ الشَّارِعُ مِنْ الْأَحْكَامِ كَمَا لِلْجُمْهُورِ .
وَيَشْهَدُ لِثُبُوتِهِ دَلِيلُ الْعَقْلِ ، وَهُوَ أَنَّ الْوَقَائِعَ بَيْنَ أَشْخَاصِ الْأَنَاسِيِّ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ ، وَالنُّصُوصُ وَالْأَفْعَالُ وَالْإِقْرَارَاتُ مُتَنَاهِيَةٌ وَمُحَالٌ أَنْ يُقَابَلَ مَا لَا يَتَنَاهَى بِمَا يَتَنَاهَى فَسَقَطَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ : الْقِيَاسُ فِي الشَّرْعِ بَاطِلٌ ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ الشَّارِعُ فَلَا حُكْمَ لَهُ ، وَكَوْنُ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ إلْحَاقُ الْحُكْمِ الْوَاجِبِ لِشَيْءٍ مَا بِالشَّرْعِ بِالشَّيْءِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ لِشَبَهِهِ بِالشَّيْءِ الَّذِي أَوْجَبَ الشَّرْعُ لَهُ ذَلِكَ الْحُكْمَ ، أَوْ لِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا فَهُوَ نَوْعَانِ قِيَاسُ شَبَهٍ وَقِيَاسُ عِلَّةٍ ،

وَكَوْنُهُ وَإِنْ شَارَكَ اللَّفْظَ الْخَاصَّ يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ فِي إلْحَاقِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ يُفَارِقُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْإِلْحَاقَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الشَّبَهِ الَّذِي بَيْنَهُمَا لَا مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ ، وَفِي الْخَاصِّ يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ ، وَكَوْنُ تَعَارُضِهَا فِي أَنْفُسِهَا وَتَعَارُضِهَا مَعَ الطُّرُقِ الثَّلَاثِ أَعْنِي مُعَارَضَةَ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ أَوْ الْإِقْرَارِ لِلْقِيَاسِ تَكُونُ سَبَبًا لِلِاخْتِلَافِ فِي تَأْدِيَةِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ الْأَرْبَعِ .
وَكَوْنُ خَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ إلَّا إذَا اُشْتُهِرَ بِعَمَلٍ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ اشْتِهَارَ الْعَمَلِ فِيمَا نُقِلَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ وَبِخَاصَّةٍ فِي الْمَدِينَةِ كَمَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَبَيَانِ صِفَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ .
وَأَمَّا طَرِيقَا الْفِعْلِ وَالْإِقْرَارَاتِ فَلَا يَنْشَأُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَحْثَ عَنْ الْفِعْلِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ مِنْ الطُّرُقِ الَّتِي تُتَلَقَّى مِنْهَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ ، وَمِنْ حَيْثُ الْخِلَافُ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ هَلْ الْوُجُوبُ أَوْ النَّدْبُ ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ إنْ أَتَى بَيَانًا لِمُجْمَلٍ وَاجِبٍ دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ لِمُجْمَلٍ مَنْدُوبٍ دَلَّ عَلَى النَّدْبِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بَيَانًا لِمُجْمَلٍ فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْقُرْبَةِ دَلَّ عَلَى النَّدْبِ أَوْ مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحَاتِ دَلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ .
وَالْبَحْثُ عَنْ الْإِقْرَارَاتِ فِيهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّ مُعَارَضَةَ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ لَهُ كَمُعَارَضَتِهِ لِلْقِيَاسِ ، وَمُعَارَضَةُ الْقَوْلِ لِلْفِعْلِ تَكُونُ سَبَبًا لِلِاخْتِلَافِ فِي تَأْدِيَةِ الْأَحْكَامِ مِنْ الطُّرُقِ الْأَرْبَعِ الْمَذْكُورَةِ لِتَلَقِّيهَا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلَا يَكُونُ

إلَّا مُسْتَنِدًا لِأَحَدِ هَذِهِ الطُّرُقِ الْأَرْبَعِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَصْلًا مُسْتَقِلًّا لَاقْتَضَى إثْبَاتَ شَرْعٍ زَائِدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ ا هـ مُلَخَّصًا مِنْ بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ لِحَفِيدِ ابْنِ رُشْدٍ وَعَبْدِ السَّلَامِ وَالْأَمِيرِ عَلَى الْجَوْهَرَةِ وَرِسَالَةِ الصَّبَّانِ الْبَيَانِيَّةِ وَالْأُنْبَابِيُّ عَلَيْهَا .
( وَالْقِسْمُ الثَّانِي ) : قَوَاعِدُ كُلِّيَّةٌ فِقْهِيَّةٌ جَلِيلَةٌ كَثِيرَةُ الْعَدَدِ عَظِيمَةُ الْمَدَدِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَسْرَارِ الشَّرْعِ وَحِكَمِهِ ، لِكُلِّ قَاعِدَةٍ مِنْ الْفُرُوعِ مَا لَا يُحْصَى وَلَمْ يُذْكَرْ شَيْءٌ مِنْهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ ، وَإِنَّمَا أَتَّفَقَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ هُنَالِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ ، وَقَدْ وَضَعَ الْمُحَقِّقُونَ لِتَفْصِيلِهِ كُتُبَ الْقَوَاعِدِ مُهْتَمِّينَ بِتَحْصِيلِهِ اهْتِمَامَهُمْ بِتَحْصِيلِ الْأُصُولِ بَلْ هَذِهِ الْقَوَاعِدُ مُهِمَّةٌ عَظِيمَةُ النَّفْعِ فِي الْفِقْهِ بِقَدْرِ الْإِحَاطَةِ بِهَا يَعْظُمُ قَدْرُ الْفَقِيهِ ، وَيَظْهَرُ رَوْنَقُ الْفِقْهِ بِلَا تَمْوِيهٍ وَتَتَّضِحُ مَنَاهِجُ الْفَتَاوَى وَتَنْكَشِفُ ، وَيَحُوزُ قَصَبَ السَّبَقِ مَنْ بِالْبَرَاعَةِ فِيهَا يَتَّصِفُ نَعَمْ فِي حَاشِيَةِ الرَّهُونِيّ عَلَى شَرْحِ عبق عَلَى خَلِيلٍ أَنَّ صَاحِبَ الدِّيبَاجِ عِنْدَ تَرْجَمَةِ ابْنِ بَشِيرِ بْنِ الطَّاهِرِ إبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْد الصَّمَدِ قَالَ مَا نَصُّهُ : وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَنْبِطُ أَحْكَامَ الْفُرُوعِ مِنْ قَوَاعِدِ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَعَلَى هَذَا مَشَى فِي كِتَابَةِ التَّنْبِيهِ وَهِيَ طَرِيقَةٌ نَبَّهَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مُخَلِّصَةٍ ، وَالْفُرُوعُ لَا يَطَّرِدُ تَخْرِيجُهَا عَلَى الْقَوَاعِدِ الْأَصْلِيَّةِ ا هـ بِلَفْظِهِ فَتَنَبَّهْ .
( الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ ) الْغَالِبُ اسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ فَرَقَ بِالتَّخْفِيفِ فِي الْمَعَانِي وَفَرَّقَ بِالتَّشْدِيدِ فِي الْأَجْسَامِ نَظَرًا لِكَوْنِ كَثْرَةِ الْحُرُوفِ عِنْدَهُمْ تَقْتَضِي كَثْرَةَ الْمَعْنَى أَوْ زِيَادَتَهُ أَوْ

قُوَّتَهُ غَالِبًا ، وَالْمَعَانِي لَطِيفَةٌ يُنَاسِبُهَا التَّخْفِيفُ ، وَالْأَجْسَامُ كَثِيفَةٌ يُنَاسِبُهَا التَّشْدِيدُ فَمِنْ الْغَالِبِ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ } وقَوْله تَعَالَى { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } وقَوْله تَعَالَى { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } وَلَا تَكَادُ تَسْمَعُ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَّا قَوْلَهُمْ مَا الْفَارِقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ ، وَلَا يَقُولُونَ مَا الْمُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّشْدِيدِ وَمِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ قَوْله تَعَالَى { فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } وقَوْله تَعَالَى { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ } فَخَفَّفَ فِي الْأَجْسَامِ وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَفْعَالِ دُونَ اسْمِ الْفَاعِلِ : فَرِّقْ لِي بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ ، وَلَا يَقُولُونَ أَفْرِقْ لِي بَيْنَهُمَا ، وَيَقُولُونَ بِأَيِّ شَيْءٍ نُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّشْدِيدِ ، وَلَا يَقُولُونَ بِأَيِّ شَيْءٍ نَفْرُقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّخْفِيفِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْأَوَّلُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ ) ابْتَدَأْتُ بِهَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ لِأَنِّي أَقَمْتُ أَطْلُبُهُ نَحْوَ ثَمَانِ سِنِينَ فَلَمْ أَظْفَرْ بِهِ ، وَأَسْأَلُ الْفُضَلَاءَ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَتَحْقِيقِ مَاهِيَّةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا خَبَرٌ فَيَقُولُونَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَدُ وَالذُّكُورِيَّةُ وَالْحُرِّيَّةُ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ مِنْ الْوَاحِدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ فَأَقُولُ لَهُمْ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ فِيهَا فَرْعُ تَصَوُّرِهَا وَتَمْيِيزِهَا عَنْ الرِّوَايَةِ فَلَوْ عَرَفْتَ بِأَحْكَامِهَا وَآثَارِهَا الَّتِي لَا تُعْرَفُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا لَزِمَ الدَّوْرُ وَإِذَا وَقَعَتْ لَنَا حَادِثَةٌ غَيْرَ مَنْصُوصَةٍ مِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّهَا شَهَادَةٌ حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهَا ذَلِكَ فَلَعَلَّهَا مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ الَّتِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ذَلِكَ فَالضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ لِتَمْيِيزِهِمَا ، وَكَذَلِكَ إذَا رَأَيْنَا الْخِلَافَ فِي إثْبَاتِ شَهْرِ رَمَضَانَ هَلْ يُكْتَفَى فِيهِ بِشَاهِدٍ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ ، وَيَقُولُ الْفُقَهَاءُ فِي تَصَانِيفِهِمْ مَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ أَوْ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ .
وَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِعَدَدِ مَا صَلَّى قَالُوا ذَلِكَ بِعَيْنِهِ ، وَأَجْرَوْا الْخِلَافَ فِيهِمَا لَمْ تُتَصَوَّرْ حَقِيقَةُ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَتَمَيُّزُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَنْ الْأُخْرَى لَا يُعْلَمُ اجْتِمَاعُ الشَّائِبَتَيْنِ مِنْهُمَا فِي هَذِهِ الْفُرُوعِ ، وَلَا يُعْلَمُ أَيُّ الشَّائِبَتَيْنِ أَقْوَى حَتَّى يُرَجَّحَ مَذْهَبُ الْقَائِلِ بِتَرْجِيحِهَا ، وَلَعَلَّ أَحَدَ الْقَائِلِينَ لَيْسَ مُصِيبًا وَلَيْسَ فِي الْفُرُوعِ إلَّا إحْدَى الشَّائِبَتَيْنِ أَوْ أَحَدَ الشَّبَهَيْنِ وَالْآخَرُ مَنْفِيٌّ أَوْ الشَّبَهَانِ مَعًا مَنْفِيَّانِ ، وَالْقَوْلُ بِتَرَدُّدِ هَذِهِ الْفُرُوعِ بَيْنَهُمَا لَيْسَ صَوَابًا بَلْ يَكُونُ الْفَرْعُ مُخْرَجًا عَلَى قَاعِدَةٍ أُخْرَى غَيْرِ هَاتَيْنِ ، وَهَذَا

جَمِيعُهُ إنَّمَا يَتَلَخَّصُ إذَا عَلِمْتَ حَقِيقَةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ فَحِينَئِذٍ يُتَصَوَّرُ هُنَا اشْتِرَاطُ الْعَدَدِ ، وَلَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ الْفَرْعِ الْعَدْلُ الْوَاحِدُ وَيُعْتَقَدُ أَنَّهُ مُخَرَّجٌ عَلَى الشَّبَهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ أَرْجَحُ إمَّا مَعَ الْجَهْلِ بِحَقِيقَتِهِمَا فَلَا يَتَأَتَّى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَتَبْقَى هَذِهِ الْفُرُوعُ مُظْلِمَةً مُلْتَبِسَةً عَلَيْنَا ، وَلَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ كَثِيرَ الْقَلَقِ وَالتَّشَوُّفِ إلَى مَعْرِفَتِهِ ذَلِكَ حَتَّى طَالَعْتُ شَرْحَ الْبُرْهَانِ لِلْمَازِرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَجَدْتُهُ ذَكَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَحَقَّقَهَا وَمَيَّزَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ حَيْثُ هُمَا ، وَاتَّجَهَ تَخْرِيجُ تِلْكَ الْفُرُوعِ اتِّجَاهًا حَسَنًا .
وَظَهَرَ أَيُّ الشَّبَهَيْنِ أَقْوَى ، وَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ أَرْجَحُ ، وَأَمْكَنَنَا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِنَا إذَا وَجَدْنَا خِلَافًا مَحْكِيًّا وَلَمْ يُذْكَرْ سَبَبُ الْخِلَافِ فِيهِ أَنْ نُخَرِّجَهُ عَلَى وُجُودِ الشَّبَهَيْنِ فِيهِ إنْ وَجَدْنَاهُمَا وَنَشْتَرِطَ مَا نَشْتَرِطُهُ وَنُسْقِطَ مَا نُسْقِطُهُ ، وَنَحْنُ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ الشَّهَادَةُ وَالرِّوَايَةُ خَبَرَانِ غَيْرَ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ إنْ كَانَ أَمْرًا عَامًّا لَا يَخْتَصُّ بِمُعَيَّنٍ فَهُوَ الرِّوَايَةُ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } وَالشُّفْعَةُ فِيمَا لَا يُقْسَمُ لَا يَخْتَصُّ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بَلْ ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ بِخِلَافِ قَوْلِ الْعَدْلِ عِنْدَ الْحَاكِمِ لِهَذَا عِنْدَ هَذَا دِينَارٌ إلْزَامٌ لِمُعَيَّنٍ لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ فَهَذَا هُوَ الشَّهَادَةُ الْمَحْضَةُ ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَحْضَةُ ثُمَّ تَجْتَمِعُ الشَّوَائِبُ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ حِينَئِذٍ وَبَقِيَّةِ الشُّرُوطِ أَنَّ إلْزَامَ الْمُعَيَّنِ تُتَوَقَّعُ فِيهِ عَدَاوَةٌ بَاطِنِيَّةٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا الْحَاكِمُ فَتَبْعَثُ

الْعَدُوَّ عَلَى إلْزَامِ عَدُوِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ .
فَاحْتَاطَ الشَّارِعُ لِذَلِكَ وَاشْتَرَطَ مَعَهُ آخَرَ إبْعَادًا لِهَذَا الِاحْتِمَالِ ، فَإِذَا اتَّفَقَا فِي الْمَقَالِ قَرُبَ الصِّدْقُ جِدًّا بِخِلَافِ الْوَاحِدِ وَيُنَاسِبُ أَيْضًا اشْتِرَاطَ الذُّكُورِيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ إلْزَامَ الْمُعَيَّنِ سُلْطَانٌ وَغَلَبَةٌ وَقَهْرٌ وَاسْتِيلَاءٌ تَأْبَاهُ النُّفُوسُ الْأَبِيَّةُ وَتَمْنَعُهُ الْحَمِيَّةُ وَهُوَ مِنْ النِّسَاءِ أَشَدُّ نِكَايَةً لِنُقْصَانِهِنَّ فَإِنَّ اسْتِيلَاءَ النَّاقِصِ أَشَدُّ فِي ضَرَرِ الِاسْتِيلَاءِ فَخُفِّفَ ذَلِكَ عَنْ النُّفُوسِ بِدَفْعِ الْأُنُوثَةِ الثَّانِي أَنَّ النِّسَاءَ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ فَنَاسَبَ أَنْ لَا يُنَصَّبْنَ نَصْبًا عَامًّا فِي مَوَارِدِ الشَّهَادَاتِ لِئَلَّا يَعُمَّ ضَرَرُهُنَّ بِالنِّسْيَانِ وَالْغَلَطِ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ الْعَامَّةَ تَتَأَسَّى فِيهَا النُّفُوسُ وَيَتَسَلَّى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فَيَخِفُّ الْأَلَمُ وَتَقَعُ الْمُشَارَكَةُ غَالِبًا فِي الرِّوَايَةِ لِعُمُومِ التَّكْلِيفِ وَالْحَاجَةِ ، فَيُرْوَى مَعَ الْمَرْأَةِ غَيْرُهَا فَيَبْعُدُ احْتِمَالُ الْغَلَطِ وَيَطُولُ الزَّمَانُ فِي الْكَشْفِ عَنْ ذَلِكَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَيَظْهَرُ مَعَ طُولِ السِّنِينَ خَلَلٌ إنْ كَانَ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ تَنْقَضِي بِانْقِضَاءِ زَمَانِهَا ، وَتُنْسَى بِذَهَابِ أَوَانِهَا فَلَا يَطَّلِعُ عَلَى غَلَطِهَا وَنِسْيَانِهَا وَلَا يُتَّهَمُ أَحَدٌ فِي عَدَاوَةِ جَمِيعِ الْخَلْقِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى الِاسْتِظْهَارِ بِالْغَيْرِ فَيَكْفِي الْوَاحِدُ .
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِأَنَّ النُّفُوسَ الْأَبِيَّةَ تَأْبَى قَهْرَهَا بِالْعَبِيدِ الْأَدْنَى ، وَيَخِفُّ ذَلِكَ عَلَيْهَا بِالْأَحْرَارِ وَسَرَاةِ النَّاسِ ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ يُوجِبُ الضَّغَائِنَ وَالْأَحْقَادَ بِسَبَبِ مَا فَاتَ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ بِالْكَسْبِ وَالْمَنَافِعِ فَرُبَّمَا بَعَثَهُ ذَلِكَ عَلَى الْكَذِبِ عَلَى الْمُعَيَّنِ وَإِذَايَتِهِ ، وَذَلِكَ لِلْخَلَائِقِ يُبْعِدُ الْقَصْدَ إلَيْهِ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ فَهَذَا تَحْقِيقُ

الْبَابَيْنِ .
وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِي الِاشْتِرَاطِ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ وَحِينَئِذٍ نَقُولُ الْخَبَرُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ رِوَايَةٌ مَحْضَةٌ كَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ وَشَهَادَةٌ مَحْضَةٌ كَإِخْبَارِ الشُّهُودِ عَنْ الْحُقُوقِ عَلَى الْمُعَيَّنِينَ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَمُرَكَّبٌ مِنْ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَلَهُ صُوَرٌ أَحَدُهَا الْإِخْبَارُ عَنْ رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَخْتَصُّ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بَلْ عَامٌّ عَلَى جَمِيعِ الْمِصْرِ أَوْ أَهْلِ الْآفَاقِ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي كُلِّ قَوْمٍ رُؤْيَتُهُمْ أَمْ لَا فَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ رِوَايَةٌ لِعَدَمِ الِاخْتِصَاصِ بِمُعَيَّنٍ وَعُمُومِ الْحُكْمِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِهَذَا الْعَامِّ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ وَبِهَذَا الْقَرْنِ مِنْ النَّاسِ دُونَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ صَارَ فِيهِ خُصُوصٌ وَعَدَمُ عُمُومٍ فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ .
وَحَصَلَ الشَّبَهَانِ فَجَرَى الْخِلَافُ وَأَمْكَنَ تَرْجِيحُ أَحَدِ الشَّبَهَيْنِ عَلَى الْآخَرِ ، وَاتَّجَهَ الْفِقْهُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ فَإِنْ عَضَّدَ أَحَدَ الشَّبَهَيْنِ حَدِيثٌ أَوْ قِيَاسٌ تَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَثَانِيهَا الْقَائِفُ فِي إثْبَاتِ الْأَنْسَابِ بِالْخَلْقِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ أَمْ لَا قَوْلَانِ لِحُصُولِ الشَّبَهَيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُخْبِرُ أَنَّ زَيْدًا ابْنُ عُمَرَ وَلَيْسَ ابْنَ خَالِدٍ وَهُوَ حُكْمٌ جَرَى عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ فَيُشْتَرَطُ الْعَدَدُ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَائِفَ مُنْتَصِبٌ انْتِصَابًا عَامًّا لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ أَشْبَهَ الرِّوَايَةَ فَيَكْفِي الْوَاحِدُ غَيْرَ أَنَّ شَبَهَ الشَّهَادَةِ هُنَا أَقْوَى لِلْقَضَاءِ عَلَى الْمُعَيَّنِ وَتَوَقُّعِ الْعَدَاوَةِ وَالتُّهْمَةِ فِي الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ ، وَكَوْنُهُ مُنْتَصِبًا انْتِصَابًا عَامًّا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّاهِدِ فَإِنَّهُ مُنْتَصِبٌ لِكُلِّ مَنْ تَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ شَهَادَةٌ يُؤَدِّيهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ ، فَهَذَا الشَّبَهُ ضَعِيفٌ فَإِنْ قُلْت :

الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّاهِدِ أَنَّ الْقَائِفَ يَخْتَصُّ بِقَبِيلَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهُمْ بَنُو مُدْلِجٍ فَيُنَصِّبُ الْحَاكِمُ مِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ أَهْلًا لِذَلِكَ فَدُخُولُ نَصْبِ الْحَاكِمِ لِذَلِكَ وَاجْتِهَادِهِ وَتَوَسُّطِ نَظَرِهِ يُبْعِدُ احْتِمَالَ الْعَدَاوَةِ وَيُخَفِّفُ الضَّغِينَةَ فِي قَلْبِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الشَّاهِدِ فَإِنَّ مَنْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ شَهَادَةٌ أَدَّاهَا وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا عِنْدَ الْحَاكِمِ ، وَيَأْتِي مَنْ يُزَكِّيهِ وَيُنَفِّذُ الْحُكْمَ وَلَا يَتَوَسَّطُ نَظَرُ الْحَاكِمِ فَتَقْوَى دَاعِيَةُ الْعَدَاوَةِ وَتَنْفِرُ النُّفُوسُ مِنْ سَلْطَنَةِ الْمُخْبِرِ عَلَيْهَا بِالْإِلْزَامِ قُلْت هُوَ فَرْقٌ حَسَنٌ وَهُوَ الْمُسْتَنَدُ لِمُعْتَقِدِي تَرْجِيحَ شِبْهِ الرِّوَايَةِ غَيْرَ أَنَّ الْفَرْقَ قَدْ رَجَّحَ فِي النَّفْسِ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى الْمُشْتَرَكِ دُونَهُ لِقُوَّتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَائِفَ قَدْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ نَصْبِ الْإِمَامِ لِذَلِكَ الشَّخْصِ كَمَا { قَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ } وَلَمْ يُنْقَلْ لَنَا أَنَّهُ نَصَّبَهُ لِذَلِكَ ، وَلَوْ وُجِدَ مِنْ النَّاسِ أَوْ مِنْ الْقَبَائِلِ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ مَنْ يُودِعُهُ اللَّهُ تَعَالَى تِلْكَ الْخَاصِّيَّةَ الَّتِي أَوْدَعَهَا فِي بَنِي مُدْلِجٍ قُبِلَ قَوْلُهُ أَيْضًا فَعَلِمْنَا أَنَّ عِنْدَ كَثْرَةِ الْبَحْثِ وَالْكَشْفِ تَقْوَى شَائِبَةُ الشَّهَادَةِ ، وَهَذَا الْبَحْثُ كُلُّهُ وَهَذَا التَّرْجِيحُ إنَّمَا تَمَكَّنَّا مِنْهُ عِنْدَ مَعْرِفَتِنَا بِحَقِيقَةِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ مِنْ حَيْثُ هُمَا وَلَوْ لَمْ يَحْصُل كَلَامُ الْمَازِرِيِّ صَعُبَ عَلَيْنَا ذَلِكَ ، وَانْسَدَّ الْبَابُ وَانْحَسَمَ الْفِقْهُ وَرَجَعْنَا إلَى التَّقْلِيدِ الصِّرْفِ الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ وَثَالِثُهَا الْمُتَرْجِمُ لِلْفَتَاوَى وَالْخُطُوطِ .
قَالَ مَالِكٌ : يَكْفِي الْوَاحِدُ وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ حُصُولُ الشَّبَهَيْنِ أَمَّا شَبَهُ الرِّوَايَةِ فَلِأَنَّهُ نُصِبَ نَصْبًا عَامًّا لِلنَّاسِ

أَجْمَعِينَ لَا يَخْتَصُّ نَصْبُهُ بِمُعَيَّنٍ .
وَأَمَّا شَبَهُ الشَّهَادَةِ فَلِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ مُعَيَّنٍ مِنْ الْفَتَاوَى وَالْخُطُوطِ لَا يَتَعَدَّى إخْبَارُهُ ذَلِكَ الْخَطَّ الْمُعَيَّنَ أَوْ الْكَلَامَ الْمُعَيَّنَ وَيَأْتِي السُّؤَالُ بِالْفَارِقِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْبَحْثِ بِعَيْنِهِ فِي الْقَائِفِ ، وَرَابِعُهَا الْمُقَوِّمُ لِلسِّلَعِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَالسَّرِقَاتِ وَالْغُصُوبِ وَغَيْرِهَا .
قَالَ مَالِكٌ يَكْفِي الْوَاحِدُ فِي التَّقْوِيمِ إلَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْقِيَمِ حَدٌّ كَالسَّرِقَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ وَرُوِيَ لَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ حُصُولُ ثَلَاثَةِ أَشْبَاهٍ : شَبَهُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ إلْزَامٌ لِمُعَيَّنٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَشَبَهُ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُقَوِّمَ مُتَصَدٍّ لِمَا لَا يَتَنَاهَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُتَرْجِمِ وَالْقَائِفِ وَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ كَذَلِكَ وَشَبَهُ الْحَاكِمِ لِأَنَّ حُكْمَهُ يَنْفُذُ فِي الْقِيمَةِ ، وَالْحَاكِمُ يُنَفِّذُهُ وَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ شَبَهِ الرِّوَايَةِ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِإِخْبَارِهِ حَدٌّ تَعَيَّنَ مُرَاعَاةُ الشَّهَادَةِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا قُوَّةُ مَا يُفْضِي إلَيْهِ هَذَا الْإِخْبَارُ وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ إبَاحَةِ عُضْوِ آدَمِيٍّ مَعْصُومٍ ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْخِلَافَ فِي كَوْنِهِ رِوَايَةً أَوْ شَهَادَةً شُبْهَةٌ يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ ، وَخَامِسُهَا الْقَاسِمُ قَالَ مَالِكٌ يَكْفِي الْوَاحِدُ وَالْأَحْسَنُ اثْنَانِ .
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ التُّونُسِيُّ لَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ شَبَهُ الْحُكْمِ أَوْ الرِّوَايَةِ أَوْ الشَّهَادَةِ وَالْأَظْهَرُ شَبَهُ الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ اسْتَنَابَهُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا وَسَادِسُهَا إذَا أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِعَدَدِ مَا صَلَّى هَلْ يُكْتَفَى فِيهِ بِالْوَاحِدِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ وَشَبَهُ الْحَاكِمِ هُنَا مُنْتَفٍ فَإِنَّ قَضَايَا الْحَاكِمِ لَا تَدْخُلُ فِي الْعِبَادَاتِ بَلْ شَبَهُ الرِّوَايَةِ أَوْ الشَّهَادَةِ .
أَمَّا

الرِّوَايَةُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْهُ عَنْ إلْزَامِ حُكْمٍ لِمَخْلُوقٍ عَلَيْهِ بَلْ الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى فَأَشْبَهَ إخْبَارَهُ عَنْ السُّنَنِ وَالشَّرَائِعِ ، وَأَمَّا شَبَهُ الشَّهَادَةِ فَلِأَنَّهُ إلْزَامٌ لِمُعَيَّنٍ لَا يَتَعَدَّاهُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ ، وَسَابِعُهَا أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ الْقَوْلَ فِي الْمُخْبِرِ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ أَنَّهُ يَكْفِي فِيهِ الْوَاحِدُ ، وَكَذَلِكَ الْخَارِصُ وَقَالَ مَالِكٌ يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَاسِمِ بَيْنَ اثْنَيْنِ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَاسِمِ ؛ لِأَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَيُقَلَّدُ الْمُؤَذِّنُ الْوَاحِدُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الْوَقْتِ ، وَكَذَلِكَ الْمَلَّاحُ وَمَنْ صِنَاعَتُهُ فِي الصَّحْرَاءِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الْقِبْلَةِ إذَا كَانَ عَدْلًا يَغْلِبُ فِي هَذِهِ الْفُرُوعِ شَبَهُ الرِّوَايَةِ أَمَّا الْمُخْبِرُ عَنْ النَّجَاسَةِ فَلِشَبَهِهِ بِالْمُفْتِي وَالْمُفْتِي لَمْ أَعْلَمْ فِيهِ خِلَافًا أَنَّهُ يَكْفِي فِيهِ الْوَاحِدُ ؛ لِأَنَّهُ نَاقِلٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى لِخَلْقِهِ كَالرَّاوِي لِلسُّنَّةِ ، وَلِأَنَّهُ وَارِثٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْفِي وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ وَارِثُهُ فَالْمُخْبِرُ عَنْ النَّجَاسَةِ أَوْ الصَّلَاةِ كَذَلِكَ مُبَلِّغٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ أَنَّ هَاهُنَا فَرْقًا وَهُوَ أَنَّ الْمُفْتِيَ لَا يُخْبِرُ عَنْ وُقُوعِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ بَلْ عَنْ الْحُكْمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ حُكْمُ الَّذِي يَعُمُّ الْخَلَائِقَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَالْمُخْبِرُ عَنْ النَّجَاسَةِ أَوْ الصَّلَاةِ مُخْبِرٌ عَنْ وُقُوعِ سَبَبٍ جُزْئِيٍّ فِي شَخْصٍ جُزْئِيٍّ .
وَهَذَا شَبَهٌ شَدِيدٌ بِالشَّهَادَةِ أَمْكَنَ مُلَاحَظَتُهُ ، وَكَذَلِكَ الْخَارِصُ إنْ جُعِلَ حَاكِمًا يُتَّجَهُ لَا رَاوِيًا ، وَالْحَاكِمُ يَكْفِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ فِيهِ وَفِي السَّاعِي أَنَّ تَصَرُّفَهُمَا تَصَرُّفُ الْحَاكِمِ ، وَالْقَاسِمُ أَيْضًا كَذَلِكَ إنْ اسْتَنَابَهُ الْحَاكِمُ فَشَائِبَةُ الْحَاكِمِ ظَاهِرَةٌ وَإِنْ

انْتَدَبَهُ الشَّرِيكَانِ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مِنْ بَابِ التَّحْكِيمِ وَالْمُؤَذِّنُ مُخْبِرٌ عَنْ وُقُوعِ السَّبَبِ ، وَهُوَ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهَا أَسْبَابُهَا فَأَشْبَهَ الْمُخْبِرَ عَنْ وُقُوعِ سَبَبِ الْمِلْكِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَارَقَ الْمُفْتِيَ .
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ إلَّا اثْنَانِ ، وَيَغْلِبُ شَائِبَةُ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهَا إخْبَارٌ عَنْ سَبَبٍ جُزْئِيٍّ فِي وَقْتٍ جُزْئِيٍّ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَرَهُ مُشْتَرَطًا وَهُوَ حُجَّةٌ حَسَنَةٌ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الِاكْتِفَاءِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ بِالْوَاحِدِ فَإِنَّهَا إخْبَارٌ عَنْ سَبَبٍ جُزْئِيٍّ فِي وَقْتٍ جُزْئِيٍّ يَعُمَّانِ أَهْلَ الْبَلَدِ ، وَالْأَذَانُ لَا يَعُمُّ أَهْلَ الْأَقْطَارِ بَلْ لِكُلِّ قَوْمٍ زَوَالُهُمْ وَفَجْرُهُمْ وَغُرُوبُهُمْ وَهُوَ أَوْلَى بِاعْتِبَارِ شَائِبَةِ الشَّهَادَةِ بِخِلَافِ هِلَالِ رَمَضَانَ عَمَّمَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَمْ يَجْعَلُوا لِكُلِّ قَوْمٍ رُؤْيَتَهُمْ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ فَالْمُخْبِرُ عَنْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ عَلَى قَاعِدَةِ الْمَالِكِيَّةِ أَشْبَهُ بِالرِّوَايَةِ مِنْ الْمُؤَذِّنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ الْوَاحِدُ قِيَاسًا عَلَى الْمُؤَذِّنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِتَوَفُّرِ الْعُمُومِ فِي الْهِلَالِ ، وَهُنَا سُؤَالَانِ مُشْكِلَانِ عَلَى الْمَالِكِيَّةِ أَحَدُهُمَا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْمُؤَذِّنِ يُقْبَلُ فِيهِ الْوَاحِدُ وَبَيْنَ الْمُخْبِرِ عَنْ هِلَالِ رَمَضَانَ لَا يُقْبَلُ فِيهِ الْوَاحِدُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ وَثَانِيهِمَا حُصُولُ الْإِجْمَاعِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ عَلَى أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِأَقْطَارِهَا بِخِلَافِ الْأَهِلَّةِ مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَقْطَارِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِهَذَا الشَّأْنِ فَقَدْ يَطْلُعُ الْهِلَالُ فِي بَلَدٍ دُونَ غَيْرِهِ بِسَبَبِ الْبُعْدِ عَنْ الْمَشْرِقِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ فَإِنَّ الْبَلَدَ الْأَقْرَبَ إلَى الْمَشْرِقِ هُوَ بِصَدَدِ أَنْ لَا يُرَى فِيهِ الْهِلَالُ وَيُرَى فِي الْبَلَدِ الْغَرْبِيِّ بِسَبَبِ مَزِيدِ السَّيْرِ الْمُوجِبِ

لِتَخَلُّصِ الْهِلَالِ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ فَقَدْ لَا يَتَخَلَّصُ فِي الْبَلَدِ الشَّرْقِيِّ فَإِذَا كَثُرَ سَيْرُهُ ، وَوَصَلَ إلَى الْآفَاقِ الْغَرْبِيَّةِ تَخَلَّصَ فِيهِ فَيُرَى الْهِلَالُ فِي الْمَغْرِبِ دُونَ الْمَشْرِقِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ هَذَا الْعِلْمِ وَلِهَذَا مَا مِنْ زَوَالٍ لِقَوْمٍ إلَّا وَهُوَ غُرُوبٌ لِقَوْمٍ وَطُلُوعُ الشَّمْسِ عِنْدَ قَوْمٍ وَنِصْفُ اللَّيْلِ عِنْدَ قَوْمٍ ، وَكُلُّ دَرَجَةٍ تَكُونُ الشَّمْسُ فِيهَا فَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِجَمِيعِ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِأَقْطَارٍ مُخْتَلِفَةٍ فَإِذَا قَاسَتْ الشَّافِعِيَّةُ الْهِلَالَ عَلَى أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ اُتُّجِهَ الْقِيَاسُ وَعَسِرَ الْفَرْقُ وَهُوَ مُشْكِلٌ ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ لِكُلِّ قَوْمٍ رُؤْيَتُهُمْ وَهِلَالُهُمْ كَمَا يُعْتَبَرُ لِكُلِّ قَوْمٍ فَجْرُهُمْ وَزَوَالُهُمْ فَإِنْ قُلْتَ الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَعَانِيَ الْكُلِّيَّةَ قَدْ يُسْتَثْنَى مِنْهَا بَعْضُ أَفْرَادِهَا بِالسَّمْعِ ، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إذَا شَهِدَ عَدْلَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا وَانْسُكُوا } فَاشْتَرَطَ عَدْلَيْنِ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ وَمَعَ تَصْرِيحِ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِاشْتِرَاطِ عَدْلَيْنِ لَا يَلْزَمُنَا بِالْعَدْلِ الْوَاحِدِ شَيْءٌ وَلَا يُسْمَعُ الِاسْتِدْلَال بِالْمُنَاسَبَاتِ فِي إبْطَالِ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْأَذَانَ عُدِلَ بِهِ عَنْ صِيغَةِ الْخَبَرِ إلَى صِفَةِ الْعَلَامَةِ عَلَى الْوَقْتِ .
وَلِذَلِكَ كَانَ الْمُؤَذِّنُ لَا يَقُولُ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ بَلْ يَقُولُ كَلِمَاتٍ أُخَرَ جَعَلَهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ عَلَامَةً وَدَلِيلًا عَلَى دُخُولِ الْوَقْتِ ، فَأَشْبَهَتْ مَيْلَ الظِّلِّ وَزِيَادَتِهِ مِنْ دَلَالَتِهِمَا عَلَى دُخُولِ الْوَقْتِ فَكَمَا لَا يُشْتَرَطُ مَيَلَانٌ فِي الظِّلِّ وَلَا زِيَادَتَانِ لَا يُشْتَرَطُ عَدْلَانِ وَلَا مُؤَذِّنَانِ وَكَذَلِكَ آلَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ آلَاتِ الْأَوْقَاتِ تَكْفِي ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّهُ يُشْتَرَطُ أَسْطُرْلَابَانِ وَلَا مِيزَانَانِ لِلشَّمْسِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَامَةٌ مُفِيدَةٌ ، وَكَذَلِكَ الْأَذَانُ يَكْفِي فِيهِ

الْوَاحِدُ لِأَنَّهُ عَلَامَةٌ قُلْت هَذَا بَحْثٌ حَسَنٌ غَيْرَ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ لَا بِمَنْطُوقِهِ فَإِنَّ مَنْطُوقَهُ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ يَجِبُ عِنْدَهُمَا ، وَمَفْهُومَهُ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَكْفِي مِنْ جِهَةِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ وَإِذَا كَانَ الِاسْتِدْلَال بِهِ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ فَنَقُولُ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى مَنْطُوقِ اللَّفْظِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِمَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى الْمَفْهُومِ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ وَغَيْرَهُ يَقُولُ الْمَفْهُومُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا .
وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا فَلَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ يُشْكِلُ بِمَا إذَا قَالَ لَنَا الْمُؤَذِّنُ مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ طَلَعَ الْفَجْرُ فَإِنَّا نُقَلِّدُهُ وَهُوَ خَبَرٌ صِرْفٌ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْأَذَانِ : حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَعْنَاهُ أَقْبِلُوا إلَيْهَا فَهُوَ يَدُلُّ بِالِالْتِزَامِ عَلَى دُخُولِ وَقْتِهَا ، وَكَذَلِكَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ .
وَأَمَّا الْمُخْبِرُ بِالْقِبْلَةِ فَلَيْسَ مُخْبِرًا عَنْ وُقُوعِ سَبَبٍ بَلْ عَنْ حُكْمٍ مُتَأَبَّدٍ فَإِنَّ نَصْبَ جِهَةِ الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ قِيَامًا لِلنَّاسِ أَمْرٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ لَا يَخْتَلِفُ بِخِلَافِ الْمُؤَذِّنِ لَا يُتَعَدَّى حُكْمُهُ وَإِخْبَارُهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَالْمُخْبِرُ عَنْ الْقِبْلَةِ أَشْبَهُ بِالرِّوَايَةِ مِنْ الْمُؤَذِّنِ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْفُرُوقَ وَهَذِهِ التَّرْجِيحَاتِ فَهِيَ حَسَنَةٌ ، وَكُلُّهَا إنَّمَا ظَهَرَتْ بَعْدَ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ فَلَوْ خَفِيَتَا ذَهَبَتْ هَذِهِ الْمَبَاحِثُ جُمْلَتُهَا وَلَمْ يَظْهَرْ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْقَرِيبِ مِنْهَا لِلْقَوَاعِدِ وَالْبَعِيدِ وَثَامِنُهَا الْمُخْبِرُ عَنْ قِدَمِ الْعَيْبِ أَوْ حُدُوثِهِ فِي السِّلَعِ عِنْدَ التَّحَاكُمِ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ الْقَوْلَ فِيهِ أَنَّهُ شَهَادَةٌ ، وَأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ جُزْئِيٌّ عَلَى شَخْصٍ

مُعَيَّنٍ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ ، وَأَنَّهُ مُتَّجَهٌ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ يُعَكِّرُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْمُسْلِمُونَ قُبِلَ فِيهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْأَطِبَّاءِ وَنَحْوِهِمْ ، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَغَيْرُهُ قَالُوا لِأَنَّ هَذَا طَرِيقَهُ الْخَبَرُ فِيمَا يَنْفَرِدُونَ بِعِلْمِهِ .
وَهَذَا مُشْكِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْكُفَّارَ لَا مَدْخَلَ لَهُمْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى أُصُولِنَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ وَشَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَكَذَلِكَ لَا مَدْخَلَ لَهُمْ فِي الرِّوَايَةِ فَكَيْفَ يُصَرِّحُونَ بِالشَّهَادَةِ مَعَ قَبُولِ الْكَفَرَةِ فِيهَا ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ قَوْلَهُمْ إنَّ هَذَا أَمْرٌ يَنْفَرِدُونَ بِعِلْمِهِ لَا عُذْرَ فِيهِ حَاصِلٌ فَإِنَّ كُلَّ شَاهِدٍ إنَّمَا يُخْبِرُ عَمَّا عَلِمَهُ مَعَ إمْكَانِ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ لَهُ فِيهِ وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ يَعْلَمُونَ هَذِهِ الْأَمْرَاضَ مَعَ إمْكَانِ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِمْ مَعَهُمْ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ فَمَا أَدْرِي وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ قَبُولِ قَوْلِهِمْ وَبَيْنَ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ أَنَّ كُلَّ شَاهِدٍ كَذَلِكَ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ ، وَتَاسِعُهَا قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ قَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الصَّبِيِّ وَالْأُنْثَى وَالْكَافِرِ الْوَاحِدِ فِي الْهَدِيَّةِ وَالِاسْتِئْذَانِ مَعَ أَنَّهُ إخْبَارٌ يَتَعَلَّقُ بِجُزْئِيٍّ فِي الْهَدِيَّةِ وَالْمُهْدِي وَالْمُهْدَى إلَيْهِ فَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ ، وَوَقَعَ هَذَا الْفَرْعُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَخَرَّجُوهُ بِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ لَيْسَ هَذِهِ الْإِخْبَارَاتِ بِمُجَرَّدِهَا بَلْ هِيَ مَعَ مَا يَحْتَفُّ بِهَا مِنْ الْقَرَائِنِ ، وَلَرُبَّمَا وَصَلَتْ إلَى حَدِّ الْقَطْعِ وَهَذِهِ إشَارَةٌ مِنْهُمْ إلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ غَيْرَ أَنَّهُ اُسْتُثْنِيَ مِنْهَا لِوُجُودِ الْقَرَائِنِ الَّتِي تَنُوبُ مَنَابَ الْعُدُولِ مَعَ عُمُومِ الْبَلْوَى فِي ذَلِكَ ، وَدَعْوَى الضَّرُورَةِ إلَيْهِ فَلَوْ كَانَ أَحَدُنَا لَا يَدْخُلُ بَيْتَ صَدِيقِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِعَدْلَيْنِ يَشْهَدَانِ لَهُ بِإِذْنِهِ لَهُ

فِي ذَلِكَ أَوْ لَا يَبْعَثُ بِهَدِيَّتِهِ إلَّا مَعَ عَدْلَيْنِ لَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ وَلَا غَرْوَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْقَوَاعِدِ لِأَجْلِ الضَّرُورَاتِ ، وَعَاشِرُهَا نَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ لَهُ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي إهْدَاءِ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا لَيْلَةَ الْعُرْسِ مَعَ أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ تَعْيِينٍ مُبَاحٍ جُزْئِيٍّ لِجُزْئِيٍّ .
وَمُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يُقْبَلَ فِيهِ إلَّا رَجُلَانِ ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَبْدَانِ الَّتِي لَا يُقْبَلُ فِيهَا النِّسَاءُ إلَّا لِضَرُورَةٍ غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ اجْتَمَعَ فِيهَا قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ مِنْ اجْتِمَاعِ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ وَنُدْرَةِ التَّدْلِيسِ وَالْغَلَطِ فِي مِثْلِ هَذَا مَعَ شُهْرَتِهِ وَعَدَمِ الْمُسَامَحَةِ فِيهِ وَدَعْوَى ضَرُورَاتِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِئْذَانِ وَالْهَدِيَّةِ ، فَهَذِهِ عَشْرُ مَسَائِلَ تُحَرِّرُ قَاعِدَتَيْ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ بِوُجُودِ أَشْبَاهِهِمَا فِيهَا ، وَتُؤَكِّدُ ذَلِكَ تَأَكُّدًا وَاضِحًا فِي نَفْسِ الْفَقِيهِ بِحَيْثُ يَسْهُلُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ تَخْرِيجُ جَمِيعِ فُرُوعِ الْقَاعِدَتَيْنِ عَلَيْهِمَا ، وَمَعْرِفَةُ الْفَرْعِ الْقَرِيبِ مِنْ الْقَاعِدَةِ مِنْ الْبَعِيدِ عَنْهَا وَلْنَقْتَصِرْ عَلَى هَذِهِ الْعَشْرِ خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ .

.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( الْفَرْقُ الْأَوَّلُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ ) قَالَ حَاكِيًا عَنْ الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيِّ الشَّهَادَةُ وَالرِّوَايَةُ خَبَرَانِ غَيْرَ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ إنْ كَانَ أَمْرًا عَامًّا لَا يَخْتَصُّ بِمُعَيَّنٍ فَهُوَ الرِّوَايَةُ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } ، وَالشُّفْعَةُ فِيمَا لَا يُقْسَمُ لَا يَخْتَصُّ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بَلْ ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ بِخِلَافِ قَوْلِ الْعَدْلِ عِنْدَ الْحَاكِمِ : لِهَذَا عِنْدَ هَذَا دِينَارٌ إلْزَامٌ لِمُعَيَّنٍ لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ ، فَهَذَا هُوَ الشَّهَادَةُ الْمَحْضَةُ ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَحْضَةُ ثُمَّ تَجْتَمِعُ الشَّوَائِبُ بَعْدَ ذَلِكَ قُلْتُ لَمْ يَقْتَصِرْ الْإِمَامُ فِي مُفْتَتَحِ كَلَامِهِ الَّذِي نَقَلَ مِنْهُ الشِّهَابُ مَا نَقَلَ عَلَى الْفَرْقِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ مَعَ الْخُصُوصِ قَيْدًا آخَرَ ، وَهُوَ إمْكَانُ التَّرَافُعِ إلَى الْحُكَّامِ وَالتَّخَاصُمِ وَطَلَبِ فَصْلِ الْقَضَاءِ ثُمَّ اقْتَصَرَ فِي مُخْتَتَمِ كَلَامِهِ عَلَى الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ وَالْأَصَحُّ اعْتِبَارُ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ ، وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِتَقْسِيمِ حَاصِرٍ ، وَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ إمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ فَصْلُ قَضَاءٍ وَإِبْرَامُ حُكْمٍ وَإِمْضَاءٌ أَوْ لَا فَإِنْ قُصِدَ بِهِ ذَلِكَ فَهُوَ الشَّهَادَةُ .
وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ تَرَتُّبُ دَلِيلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَوْ لَا فَإِنْ قُصِدَ بِهِ ذَلِكَ فَهُوَ الرِّوَايَةُ وَإِلَّا فَهُوَ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْخَبَرِ ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى بَيَانِ تَفَاصِيلِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ مَا يَجُوزُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ وَاعْتِبَارَاتِهِمْ ، وَدَلِيلُ صِحَّةِ اعْتِبَارِ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْمُخْبِرَ بِأَنَّ لِزَيْدٍ قِبَلَ عَمْرٍو دِينَارًا غَيْرُ قَاصِدٍ بِذَلِكَ الْخَبَرَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ فَصْلُ قَضَاءٍ لَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ

وَالْأُصُولِيِّينَ شَاهِدًا عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ بَلْ يُسَمَّى مُخْبِرًا ، وَكَذَلِكَ الْمُخْبِرُ عَنْ الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي لَا يُسْتَفَادُ مِنْهَا تَعْرِيفُ دَلِيلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَا يُسَمَّى عِنْدَهُمْ عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ رَاوِيًا ، وَإِنْ سُمِّيَ كَمَا فِي الْأَقَاصِيصِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ مَجَازٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ لَا يَشْتَرِطُونَ فِيهِ مِنْ صِفَاتِ الرُّوَاةِ مَا يَشْتَرِطُونَ فِي رُوَاةِ تَعْرِيفِ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ مَا مَعْنَاهُ ( إنَّ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي الرِّوَايَةِ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَمَّا كَانَ مُقْتَضَاهَا إلْزَامًا لِمُعَيَّنٍ ، وَهُوَ رُبَّمَا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّاهِدِ عَدَاوَةٌ بَاطِنِيَّةٌ لَا يَطَّلِعُ الْحَاكِمُ عَلَيْهَا ، وَالْعَدَاوَةُ رُبَّمَا بَعَثَتْ عَلَى إلْزَامِ الْعَدُوِّ وَعَدُوِّهِ مَا لَا يَلْزَمُهُ ، احْتَاطَ الشَّارِعُ بِاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ إبْعَادًا لِهَذَا الِاحْتِمَالِ ) قُلْتُ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِمَّا يُؤَكِّدُهُ مَا قُلْتُهُ مِنْ لُزُومِ اعْتِبَارِ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَصْدُ بِالْإِخْبَارِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمٌ وَلَا فَصْلُ قَضَاءٍ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْعَدُوِّ فِي عَدُوِّهِ مِنْ إلْزَامِهِ مَا لَا يَلْزَمُهُ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( وَيُنَاسِبُ أَيْضًا اشْتِرَاطَ الذُّكُورِيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ إلْزَامَ الْمُعَيَّنِ سُلْطَانَ قَهْرٍ تَأْبَاهُ النُّفُوسُ الْأَبِيَّةُ ، وَهُوَ مِنْ النِّسَاءِ أَشَدُّ نِكَايَةً فَخُفِّفَ ذَلِكَ عَلَى النُّفُوسِ بِدَفْعِ الْأُنُوثَةِ ) قُلْت هَذَا مُنَاسِبٌ كَمَا قَالَ غَيْرَ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ النَّقْضُ بِشَهَادَةِ الْأُنْثَى فِي الْأَمْوَالِ وَفِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ فِيهَا اطِّلَاعُ الرِّجَالِ ، لَكِنَّهُ يُجَابُ عَنْهُ بِإِلْجَاءِ الضَّرُورَةِ إلَى ذَلِكَ ، وَالْقَوَاعِدُ يُسْتَثْنَى مِنْهَا مُحَالُ الضَّرُورَاتِ ، ثُمَّ إنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْمَرْأَةَ كَالرَّجُلِ فِي مَحَلِّ تَعَذُّرِ اطِّلَاعِهِ الْإِطْلَاقِيِّ ، وَجَعَلَهَا مِثْلَهُ بِشَرْطِ

الِاسْتِظْهَارِ بِأُخْرَى فِي مَحَلِّ تَعَذُّرِ اطِّلَاعِهِ الِاتِّفَاقِيِّ ؛ لِأَنَّ إذْعَانَ النُّفُوسِ لِمُقْتَضَى الضَّرُورَاتِ الْإِطْلَاقِيَّةِ أَشَدُّ مِنْ إذْعَانِهَا لِمُقْتَضَى الضَّرُورَاتِ الِاتِّفَاقِيَّةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( الثَّانِي أَنَّ النِّسَاءَ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ فَنَاسَبَ أَنْ لَا يُنَصَّبْنَ نَصْبًا عَامًّا فِي مَوَارِدِ الشَّهَادَاتِ لِئَلَّا يَعُمَّ ضَرَرُهُنَّ بِالنِّسْيَانِ وَالْغَلَطِ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ الْعَامَّةَ تَتَأَسَّى فِيهَا النُّفُوسُ وَيَتَسَلَّى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فَيَخِفُّ الْأَلَمُ ، وَتَقَعُ الْمُشَارَكَةُ غَالِبًا فِي الرِّوَايَةِ لِعُمُومِ التَّكْلِيفِ وَالْحَاجَةِ فَيَرْوِي مَعَ الْمَرْأَةِ غَيْرُهَا فَيَبْعُدُ احْتِمَالُ الْغَلَطِ وَيَطُولُ الزَّمَانُ فِي الْكَشْفِ عَنْ ذَلِكَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَيَظْهَرُ مَعَ طُولِ السَّبْرِ خَلَلٌ إنْ كَانَ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ تَنْقَضِي بِانْقِضَاءِ زَمَانِهَا ، وَتُنْسَى بِذَهَابِ أَوَانِهَا فَلَا يُطَّلَعُ عَلَى غَلَطِهَا وَنِسْيَانِهَا ) قُلْتُ كَلَامُهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ ضَعِيفٌ ، أَمَّا قَوْلُهُ فَنَاسَبَ أَنْ لَا يُنَصَّبْنَ نَصْبًا عَامًّا لِئَلَّا يَعُمَّ ضَرَرُهُنَّ بِالنِّسْيَانِ وَالْغَلَطِ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ نُقْصَانَ عَقْلِهِنَّ وَدِينِهِنَّ ثَابِتٌ لَهُنَّ فِي حَالِ الرِّوَايَةِ ، كَمَا أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي حَالِ الشَّهَادَةِ ، وَلَا يُفِيدُ قَوْلُهُ لِعُمُومِ التَّكْلِيفِ فَإِنَّ عُمُومَ التَّكْلِيفِ شَامِلٌ وَلَازِمٌ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا ، كَمَا أَنَّهُ شَامِلٌ وَلَازِمٌ فِي تَحَمُّلِ الرِّوَايَةِ وَأَدَائِهَا هَذَا إنْ أَرَادَ عُمُومَ التَّكْلِيفِ بِالرِّوَايَةِ نَفْسِهَا ، وَإِنْ أَرَادَ عُمُومَ مُقْتَضَاهَا دُونَ مُقْتَضَى الشَّهَادَةِ فَذَلِكَ مُتَّجَهٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَلَا يُفِيدُهُ .
قَوْلُهُ أَيْضًا : فَيَرْوِي مَعَ الْمَرْأَةِ غَيْرُهَا ، فَإِنَّهُ كَمَا يَرْوِي مَعَهَا غَيْرُهَا كَذَلِكَ يَشْهَدُ مَعَهَا غَيْرُهَا ، بَلْ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي الرِّوَايَةِ أَنْ يَرْوِيَ مَعَهَا

غَيْرُهَا ، وَلَازِمٌ فِي الشَّهَادَةِ أَنْ يَشْهَدَ مَعَهَا غَيْرُهَا ، وَلَا يُفِيدُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ لِطُولِ الزَّمَانِ ، فَإِنَّ اشْتِرَاطَ طُولِ الزَّمَانِ فِي الْعَمَلِ بِالرِّوَايَةِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَلَا أَعْلَمُهُ قَوْلًا لِأَحَدٍ ، بَلْ الرِّوَايَةُ كَالشَّهَادَةِ فِي الْعَمَلِ بِمُوجَبِهَا عِنْدَ تَوَفُّرِ الشُّرُوطِ ، هَذَا إنْ أَرَادَ اشْتِرَاطَ طُولِ الزَّمَانِ ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ فَلَا فَائِدَةَ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ بَعْدَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الرِّوَايَةِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ فَائِدَةٌ فِيمَا بَعْدُ فِي حَقِّ الْمُطَّلِعِ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( وَلَا يُتَّهَمُ أَحَدٌ فِي عَدَاوَةِ جَمِيعِ الْخَلْقِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى الِاسْتِظْهَارِ بِالْغَيْرِ فَيَكْفِي الْوَاحِدُ ) قُلْتُ : هَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ ، قَالَ شِهَابُ الدِّينِ وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِأَنَّ النُّفُوسَ الْأَبِيَّةَ تَأْبَى قَهْرَهَا بِالْعَبِيدِ الْأَدْنَى ، وَيُخَفَّفُ ذَلِكَ عَلَيْهَا بِالْأَحْرَارِ وَسَرَاةِ النَّاسِ ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ يُوجِبُ الضَّغَائِنَ وَالْأَحْقَادَ بِسَبَبِ مَا فَاتَ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ بِالْكَسْبِ وَالْمَنَافِعِ فَرُبَّمَا بَعَثَهُ ذَلِكَ عَلَى الْكَذِبِ عَلَى الْمُعَيَّنِ وَإِذَايَتِهِ ، وَذَلِكَ لِلْخَلَائِقِ يُبْعِدُ الْقَصْدَ إلَيْهِ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ قُلْت كَلَامُهُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ مُسْتَقِلٌّ بِالتَّعْلِيلِ كَمَا فِي الْمَرْأَةِ بَلْ أَوْلَى ، وَالثَّانِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا مُسْتَقِلًّا أَيْضًا لِعَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْعَبْدِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ احْتِمَالَ الْعَدَاوَةِ لَمْ يَثْبُتْ عِلَّةً فِي عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ فِي الْحُرِّ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فَرْقًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِي الْحُرِّ مُجَرَّدَ احْتِمَالِ الْعَدَاوَةِ وَفِي الْعَبْدِ تَحَقَّقَ سَبَبُ الْعَدَاوَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( الْخَبَرُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ إلَى قَوْلِهِ وَلَهُ صُوَرٌ أَحَدُهَا : الْإِخْبَارُ

عَنْ رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ ، ثُمَّ قَالَ مَا مَعْنَاهُ إنَّهُ رِوَايَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِمُعَيَّنٍ ، وَشَهَادَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ خَاصٌّ بِهَذَا الْعَامِ وَبِهَذَا الْقَرْنِ ) قُلْتُ أَمَّا قَوْلُهُ إنَّهُ رِوَايَةٌ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الرِّوَايَةِ فِي الِاكْتِفَاءِ فِيهِ بِالْوَاحِدِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ فَصَحِيحٌ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ رِوَايَةٌ حَقِيقَةً فَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَرَّرْ ذَلِكَ فِي إطْلَاقِ أَحَدٍ فِيمَا عَلِمْتُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّهُ شَهَادَةٌ فَإِنْ أَرَادَ أَيْضًا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ شَهَادَةٌ حَقِيقَةً فَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ لَفْظَ الشَّهَادَةِ إنَّمَا يُطْلَقُ حَقِيقَةً فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمٌ وَفَصْلُ قَضَاءٍ قُلْت وَاَلَّذِي يَقْوَى فِي النَّظَرِ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْهِلَالِ حُكْمُهَا حُكْمُ الرِّوَايَةِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْوَاحِدِ ، وَلَيْسَتْ رِوَايَةً حَقِيقَةً وَلَا شَهَادَةً أَيْضًا ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَبَرِ ، وَهُوَ الْخَبَرُ عَنْ وُجُودِ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّهُ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ مِنْ الِاحْتِمَالِ الْمُوجِبِ لِلْعَدَاوَةِ مَا يَتَطَرَّقُ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ الدُّنْيَوِيِّ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( وَثَانِيهَا الْقَائِفُ فِيهِ قَوْلَانِ ) قُلْتُ ذَكَرَ فِيهِ شِبْهَ الشَّهَادَةِ وَلَا خَفَاءَ عَلَى مَا تَقَرَّرَ قَبْلُ فِي أَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ ، وَذَكَرَ شِبْهَ الرِّوَايَةِ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا خَفَاءَ بِهِ ، وَذَكَرَ السُّؤَالَ الَّذِي أَوْرَدَهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا ، وَذَكَرَ الْجَوَابَ عَنْهُ وَهُوَ صَحِيحٌ لَا رَيْبَ فِيهِ قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( وَثَالِثُهَا الْمُتَرْجِمُ ) قُلْتُ لَمْ يُحَرَّرْ الْكَلَامُ فِي هَذَا الضَّرْبِ فَإِنَّهُ أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِيهِ ، وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ ، وَهُوَ أَنَّ التَّرْجَمَةَ

تَابِعَةٌ لِمَا هِيَ تَرْجَمَةٌ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ مِنْ نَوْعِ الرِّوَايَةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ ، فَكَذَلِكَ وَهَذَا وَاضِحٌ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَرَّرَ قَبْلُ ، وَمَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ شِبْهِ الرِّوَايَةِ لِنَصْبِهِ نَصْبًا عَامًّا فَضَعِيفٌ ، وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ شِبْهِ الشَّهَادَةِ بِكَوْنِهِ يُخْبِرُ عَنْ مُعَيَّنٍ مِنْ الْفَتَاوَى وَالْخُطُوطِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ وُرُودِ السُّؤَالِ وَالْبَحْثِ فِيهِ كَمَا فِي الْقَائِفِ صَحِيحٌ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( وَرَابِعُهَا الْمُقَوِّمُ ) ذَكَرَ فِيهِ شِبْهَ الرِّوَايَةِ وَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَ وَشِبْهَ الْحُكْمِ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ لِتَرَتُّبِ فَصْلِ الْقَضَاءِ بِإِلْزَامِ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ مِنْ الْعِوَضِ عَلَيْهِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ كَوْنِ الْخِلَافِ فِي كَوْنِهِ رِوَايَةً أَوْ شَهَادَةً فَشُبْهَةٌ يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ ضَعِيفٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ سَارِقًا ثَبَتَتْ سَرِقَتُهُ لِمَا قَوَّمَهُ عَدْلَانِ عَارِفَانِ بِرُبْعِ دِينَارٍ ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي مِثْلِ هَذَا الْفَرْضِ مُرْتَفِعٌ ، وَالْحَدَّ لَازِمٌ مَعَ أَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِ الْمُقَوِّمِ كَالرَّاوِي أَوْ كَالشَّاهِدِ فِي هَذَا الْفَرْضِ قَائِمٌ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( وَخَامِسُهَا الْقَاسِمُ ) وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ مَنْشَأَ الْخِلَافِ شِبْهُ الْحُكْمِ أَوْ الرِّوَايَةِ قُلْت : لَيْسَ ذَلِكَ عِنْدِي بِصَحِيحٍ بَلْ مَنْشَأُ الْخِلَافِ شِبْهُ الْحُكْمِ أَوْ التَّقْوِيمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ فَمَنْ نَظَرَ إلَى أَنَّ الْقَسْمَ مِنْ نَوْعِ الْحُكْمِ اكْتَفَى بِالْوَاحِدِ ، وَمَنْ نَظَرَ إلَى أَنَّهُ مِنْ نَوْعِ التَّقْوِيمِ وَبَنَى عَلَى الْأَصَحِّ اشْتَرَطَ الْعَدَدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( وَسَادِسُهَا مُخْبِرُ الْمُصَلِّي بِعَدَدِ مَا صَلَّى ) قُلْت ذَكَرَ أَنَّ شِبْهَ الْحُكْمِ فِيهِ مُنْتَفٍ ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ ، وَذَكَرَ شِبْهَ الرِّوَايَةِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ ، وَذَكَرَ شِبْهَ الشَّهَادَةِ وَقَالَ إنَّهُ الْأَظْهَرُ ، وَلَيْسَ مَا قَالَهُ

بِصَحِيحٍ بَلْ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَوْعِ الرِّوَايَةِ وَلَا مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ ، وَلَكِنَّهُ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْخَبَرِ وَشَبَهُهُ بِالرِّوَايَةِ ظَاهِرٌ غَيْرَ أَنَّهُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ مَا كُلِّفَ بِهِ إلَّا بِيَقِينٍ فَلَا يَكْفِي الْوَاحِدُ إلَّا مَعَ قَرَائِنَ تُوجِبُ الْقَطْعَ ، وَكَذَلِكَ فِي الِاثْنَيْنِ وَمَا فَوْقَهُمَا ، وَنَقُولُ طَلَبُ الْيَقِينِ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ مِمَّا يَشُقُّ وَيُحْرِجُ ، وَالْحَرَجُ مَرْفُوعٌ شَرْعًا وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( وَسَابِعُهَا الْمُخْبِرُ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ ، وَالْخَارِصُ وَذَكَرَ إطْلَاقَ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَكْفِي فِيهِمَا الْوَاحِدُ ، قَالَ وَقَالَ مَالِكٌ يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَاسِمِ بَيْنَ اثْنَيْنِ ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يُقْبَلُ ) قُلْتُ قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْقَاسِمِ ، وَأَمَّا الْمُخْبِرِ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ وَالْخَارِصُ فَالْأَوْلَى الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخَارِصَ فِي مَعْنَى الْقَاسِمِ ، وَالْمُخْبِرَ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ فِي مَعْنَى مُخْبِرِ الْمُصَلِّي .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ : ( أَوْ يُقَلِّدُ الْمُؤَذِّنَ الْوَاحِدَ وَالْمَلَّاحَ وَمَنْ صِنَاعَتُهُ فِي الصَّحْرَاءِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الْقِبْلَةِ يَغْلِبُ فِي هَذِهِ الْفُرُوعِ شِبْهُ الرِّوَايَةِ ) قُلْتُ : مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ يَغْلِبُ فِي هَذِهِ الْفُرُوعِ شِبْهُ الرِّوَايَةِ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُخْبِرِ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ وَالْخَارِصِ وَبَيْنَ الْمُؤَذِّنِ وَالْمُخْبِرِ عَنْ الْقِبْلَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْأَوَّلَيْنِ وَأَمَّا الْأَخِيرَانِ فَشَبَهُ الرِّوَايَةِ فِيهِمَا ظَاهِرٌ كَمَا قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( أَمَّا الْمُخْبِرُ عَنْ النَّجَاسَةِ فَلِشَبَهِهِ بِالْمُفْتِي إلَى قَوْلِهِ : وَكَذَلِكَ وَارِثُهُ ) قُلْت مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ ظَاهِرٌ صَحِيحٌ غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ شَبَهِ الْمُخْبِرِ عَنْ النَّجَاسَةِ بِالْمُفْتِي ، وَقَدْ عَطَفَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى ذِكْرِ الْفَرْقِ فَقَالَ غَيْرَ أَنَّ هَاهُنَا فَرْقًا ، وَهُوَ أَنَّ الْمُفْتِيَ

لَا يُخْبِرُ عَنْ وُقُوعِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ بَلْ عَنْ الْحُكْمِ ، وَالْمُخْبِرُ عَنْ النَّجَاسَةِ أَوْ الصَّلَاةِ مُخْبِرٌ عَنْ وُقُوعِ سَبَبٍ جُزْئِيٍّ فِي شَخْصٍ جُزْئِيٍّ ، وَهَذَا شَبَهٌ شَدِيدٌ بِالشَّهَادَةِ أَمْكَنَ مُلَاحَظَتُهُ قُلْت إضْرَابُهُ عَنْ مُرَاعَاةِ قَيْدِ فَصْلِ الْقَضَاءِ فِي الشَّهَادَةِ أَوْقَعَهُ فِي اعْتِقَادِ قُوَّةِ الشَّبَهِ هُنَا بِالشَّهَادَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مُخْبِرِ الْمُصَلِّي أَنَّ الْأَظْهَرَ شَبَهُ الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ مَا اخْتَارَهُ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ : ( وَكَذَلِكَ الْخَارِصُ إنْ جُعِلَ حَاكِمًا يَتَّجِهُ لَا رَاوِيًا ، وَالْحَاكِمُ يَكْفِي فِيهِ الْوَاحِدُ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ فِيهِ وَفِي السَّاعِي أَنَّ تَصَرُّفَهُمَا تَصَرُّفُ الْحَاكِمِ وَالْقَاسِمِ أَيْضًا كَذَلِكَ إنْ اسْتَنَابَهُ الْحَاكِمُ فَشَائِبَةُ الْحَاكِمِ ظَاهِرَةٌ وَإِنْ انْتَدَبَهُ الشَّرِيكَانِ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مِنْ بَابِ التَّحْكِيمِ ) قُلْتُ : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْقَسْمَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَوْعِ الْحُكْمِ وَمِنْ نَوْعِ التَّقْوِيمِ ، وَالْخَرْصُ فِي مَعْنَاهُ وَأَمَّا السَّاعِي فَهُوَ فِي مَعْنَى الْحَاكِمِ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( وَالْمُؤَذِّنُ مُخْبِرٌ عَنْ وُقُوعِ السَّبَبِ وَهُوَ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهَا أَسْبَابُهَا فَأَشْبَهَ الْمُخْبِرَ عَنْ وُقُوعِ سَبَبِ الْمِلْكِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَارَقَ الْمُفْتِيَ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ إلَّا اثْنَانِ ، وَيَغْلِبُ شَائِبَةُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا إخْبَارٌ عَنْ سَبَبٍ جُزْئِيٍّ فِي وَقْتٍ جُزْئِيٍّ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَرَهُ مُشْتَرَطًا ) قُلْت إضْرَابُهُ عَنْ مُرَاعَاةِ قَيْدِ فَصْلِ الْقَضَاءِ حَمَلَهُ عَلَى تَسْوِيَتِهِ بَيْنَ الْخَبَرِ عَنْ وُقُوعِ سَبَبِ الصَّلَاةِ ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَبَيْنَ الْخَبَرِ عَنْ وُقُوعِ سَبَبِ الْبَيْعِ ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَلَا خَفَاءَ بِالْفَرْقِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ مِنْ احْتِمَالِ قَصْدِ الْعَدُوِّ إلْزَامَ عَدُوِّهِ مَا لَا يَلْزَمُهُ وَالتَّشَفِّي مِنْهُ بِذَلِكَ مَا

يَتَطَرَّقُ إلَى الثَّانِي ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَوَّلَ فِي مَعْنَى الرِّوَايَةِ ، وَالثَّانِيَ مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ : ( وَهُوَ حُجَّةٌ حَسَنَةٌ لِلشَّافِعِيَّةِ إلَى قَوْلِهِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ لِكُلِّ قَوْمٍ رُؤْيَتُهُمْ وَهِلَالُهُمْ كَمَا يُعْتَبَرُ لِكُلِّ قَوْمٍ فَجْرُهُمْ وَزَوَالُهُمْ ) قُلْت : جَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقْتَضَى عِلْمٍ آخَرَ فَإِنْ صَحَّ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ اسْتِوَاءِ الْأَمْرِ فِي الْأَهِلَّةِ وَالْأَوْقَاتِ فَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ مِنْ اسْتِوَاءِ الْحُكْمِ صَحِيحٌ ، وَإِلَّا فَلَا .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ : ( فَإِنْ قُلْتَ الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ إلَى قَوْلِهِ وَلَمْ يَظْهَرْ التَّفَاوُتُ فِيهَا بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ ) قُلْتُ مِنْ مُضْمَنِ هَذَا الْفَصْلِ مُوَافَقَتُهُ لِمَوْرِدِ السُّؤَالِ عَلَى اسْتِوَاءِ الْأَذَانِ وَمَيْلِ الظِّلِّ وَزِيَادَتِهِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى دُخُولِ الْوَقْتِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ مَيْلَ الظِّلِّ دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةٌ وَالْأَذَانَ دَلَالَتُهُ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ وَلَا خَفَاءَ بِأَنَّ مَا دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةٌ لَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى الِاسْتِظْهَارِ بِخِلَافِ مَا دَلَالَتُهُ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ ، وَمِنْ مُضْمَنِهِ جَوَابُهُ عَنْ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ لَا بِمَنْطُوقِهِ .
وَمَا قَالَهُ فِي هَذَا الْجَوَابِ صَحِيحٌ وَمِنْ مُضْمَنِهِ جَوَابُهُ عَنْ الْجَوَابِ الثَّانِي بِأَنَّهُ يُشْكِلُ بِمَا إذَا قَالَ لَنَا الْمُؤَذِّنُ مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ طَلَعَ الْفَجْرُ فَإِنَّا نُقَلِّدُهُ وَهُوَ خَبَرٌ صِرْفٌ قُلْتُ قَوْلُهُ : فَإِنَّا نُقَلِّدُهُ إنْ أَرَادَ إنَّا نُقَلِّدُهُ بِاتِّفَاقٍ فَذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، فَإِنَّ الْخِلَافَ فِي التَّقْلِيدِ فِي الْأَوْقَاتِ مَعْرُوفٌ ، وَإِنْ أَرَادَ فَإِنَّا نُقَلِّدُهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ الْأَصَحُّ فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّمَا ثَبَتَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَصَحِيحِ النَّظَرِ تَقْلِيدُ الْمُؤَذِّنِ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ إذَا أَذَّنَ لَا إذَا أَخْبَرَ بِدُخُولِهِ مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ ،

وَالْأَصَحُّ عِنْدِي هَاهُنَا أَنْ لَا تَقْلِيدَ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَصَبَ دَلِيلًا مُعَيَّنًا فَلَا يُتَعَدَّى مَا نَصَبَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَمِنْ مُضْمَنِهِ قَوْلُهُ أَنَّ قَوْلَ الْمُؤَذِّنِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ يَدُلُّ بِالِالْتِزَامِ عَلَى دُخُولِ الْوَقْتِ قُلْت : ذَلِكَ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ أَغْفَلَ دَلَالَةَ الْأَذَانِ بِجُمْلَتِهِ عَلَى دُخُولِ الْوَقْتِ ، وَهِيَ دَلَالَةٌ عُرْفِيَّةٌ لِلشَّرْعِ بِالْمُطَابَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ لِذَلِكَ وَضَعَهُ الشَّارِعُ مَعَ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ دَالٌّ عَلَى مُقْتَضَاهُ دَلَالَةً لُغَوِيَّةً بِالْمُطَابَقَةِ أَيْضًا ، وَمِنْ مُضْمَنِهِ قَوْلُهُ إنَّ الْمُخْبِرَ عَنْ الْقِبْلَةِ مُخْبِرٌ عَنْ حُكْمٍ مُتَأَبَّدٍ ، وَأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالرِّوَايَةِ مِنْ الْمُؤَذِّنِ قُلْتُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُخْبِرَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ اجْتِهَادٍ فَإِنْ أَخْبَرَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ فَلَا فَرْقَ ، .
وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْفَرْقِ بِأَنَّ الْمُخْبِرَ عَنْ الْقِبْلَةِ مُخْبِرٌ بِحُكْمٍ مُتَأَبَّدٍ بِخِلَافِ الْمُؤَذِّنِ فَإِنَّهُ مُخْبِرٌ بِحُكْمٍ غَيْرِ مُتَأَبَّدٍ لَا يَصْلُحُ فَارِقًا ، وَإِنْ أَخْبَرَ عَنْ اجْتِهَادٍ فَالْفَرْقُ فِي ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ وَفِي الْوَقْتِ أَوْ عَدَمِ جَوَازِهِ أَوْ جَوَازِهِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، وَالْأَصَحُّ نَقْلًا وَنَظَرًا جَوَازُهُ فِيهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( وَثَامِنُهَا الْمُخْبِرُ عَنْ قِدَمِ الْعَيْبِ أَوْ حُدُوثِهِ إلَى قَوْلِهِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ ) .
قُلْتُ : مَا حَكَاهُ عَنْ الْأَصْحَابِ مِنْ أَنَّهُ شَهَادَةٌ صَحِيحٌ وَمَا اسْتَشْكَلَ مِنْ قَبُولِ بَعْضِهِمْ أَهْلَ الذِّمَّةِ مُشْكِلٌ كَمَا .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( وَتَاسِعُهَا قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ قَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الصَّبِيِّ وَالْأُنْثَى وَالْكَافِرِ فِي الْهَدِيَّةِ وَالِاسْتِئْذَانِ مَعَ أَنَّهُ إخْبَارٌ يَتَعَلَّقُ بِجُزْئِيٍّ إلَى قَوْلِهِ لِأَجْلِ الضَّرُورَاتِ ) قُلْتُ لَيْسَ هَذَا مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِ

فَصْلُ قَضَاءٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ الرِّوَايَةِ وَجُوِّزَ فِيهِ مَا لَا يَجُوزُ فِي الرِّوَايَةِ مِنْ قَبُولِ خَبَرِ الصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ لِإِلْجَاءِ الضَّرُورَةِ إلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ لُزُومِ الْمَشَقَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ التَّجْوِيزِ مَعَ نُدُورِ الْخُلُوِّ عَنْ قَرَائِنِ تَحَصُّلِ الظَّنِّ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( وَعَاشِرُهَا نَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ لَهُ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْمَرْأَةِ فِي إهْدَاءِ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا لَيْلَةَ الْعُرْسِ إلَى آخِرِ الْفَصْلِ ) قُلْت هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي مَعْنَى الَّتِي قَبْلَهَا كَمَا ذَكَرَ .

( الْفَرْقُ الْأَوَّلُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ ) بِبَيَانِ مَعْنَاهُمَا أَمَّا لُغَةً فَالشَّهَادَةُ مَصْدَرُ شَهِدَ وَلِشَهِدَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ : أَحَدُهَا حَضَرَ يُقَالُ شَهِدَ بَدْرًا وَشَهِدْنَا صَلَاةَ الْعِيدِ ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } مَنْ حَضَرَ مِنْكُمْ الْمِصْرَ فِي الشَّهْرِ فَلْيَصُمْهُ أَوْ مَنْ حَضَرَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فِي الْمِصْرِ فَلْيَصُمْهُ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَا يَلْزَمُ الْمُسَافِرَ ، فَالْمَقْصُودُ إنَّمَا هُوَ الْمُقِيمُ الْحَاضِرُ وَثَانِيهَا أَخْبَرَ ، يُقَالُ شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَيْ أَخْبَرَ فِيمَا يَعْتَقِدُهُ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ وَعَلَيْهِ ، وَثَالِثُهَا عَلِمَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أَيْ عَلِيمٌ وَوَقَعَ التَّرَدُّدُ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي كَوْنِ شَهِدَ فِي قَوْله تَعَالَى { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } بِمَعْنَى عَلِمَ لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ذَلِكَ أَوْ بِمَعْنَى أَخْبَرَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عِبَادَهُ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرَيْنِ ، وَالرِّوَايَةُ مَصْدَرُ رَوَى بِمَعْنَى حَمَلَ وَتَحَمَّلَ فَرَاوِي الْحَدِيثِ حَمَلَهُ وَتَحَمَّلَهُ عَنْ شَيْخِهِ ، فَلِذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ إنَّ إطْلَاقَ الرَّاوِيَةِ عَلَى الْمَزَادَةِ الَّتِي يُحْمَلُ فِيهَا الْمَاءُ عَلَى الْجَمَلِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ لِعَلَاقَةِ الْمُجَاوَرَةِ ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَةَ بِهَاءِ الْمُبَالَغَةِ اسْمٌ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِلْبَعِيرِ الَّذِي كَثُرَ حَمْلُ الْمَاءِ عَلَيْهِ فَفِي الْمِصْبَاحِ رَوَى الْبَعِيرُ الْمَاءَ يَرْوِيهِ مِنْ بَابِ رَمَى حَمَلَهُ فَهُوَ رَاوِيَةٌ الْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ ، ثُمَّ أُطْلِقَتْ الرَّاوِيَةُ عَلَى كُلِّ دَابَّةٍ يُسْتَقَى الْمَاءُ عَلَيْهَا ا هـ .
وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِكَوْنِ رَاوِيَةٍ إنَّمَا يَأْتِي مِنْ الثُّلَاثِيِّ قُلْت : وَفِي حَاشِيَةِ الْأُنْبَابِيِّ عَلَى بَيَانِيَّةِ الصَّبَّانِ ، وَمُفَادُ

قَوْلِ ابْنِ سِيدَهْ الرَّاوِيَةُ الْمَزَادُ فِيهَا الْمَاءُ ، وَيُسَمَّى الْبَعِيرُ رَاوِيَةً عَلَى تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ الشَّيْءِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ ا هـ .
إنَّ الرَّاوِيَةَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَزَادَةِ مَجَازٌ فِي الْبَعِيرِ لِعَلَاقَةِ الْمُجَاوَرَةِ فَهُوَ مِنْ بَابِ أَرْوَى الرُّبَاعِيِّ شُذُوذًا إذْ قِيَاسُ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ أَرْوَى مَرْوَ لَا رَاوِيَةٌ ، وَظَاهِرُ صَنِيعِ صَاحِبِ الْقَامُوسِ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِيهِمَا حَيْثُ قَالَ الرَّاوِيَةُ الْمَزَادَةُ فِيهَا الْمَاءُ وَالْبَعِيرُ وَالْبَغْلُ وَالْحِمَارُ يُسْتَسْقَى عَلَيْهِ الْمَاءُ ا هـ .
نَعَمْ مِنْ اصْطِلَاحَاتِهِ أَنَّهُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَلَعَلَّ أَقْوَالَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهَا ثَلَاثَةٌ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُ ابْنِ الطَّيِّبِ فِي حَوَاشِي الْقَامُوسِ .
وَأَمَّا اصْطِلَاحًا فَفِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ لِلْمَازِرِيِّ مَا يُفِيدُ أَنَّ الشَّهَادَةَ خَبَرٌ خَاصٌّ قُصِدَ بِهِ تَرْتِيبُ فَصْلِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ كَقَوْلِ الْعَدْلِ عِنْدَ الْحَاكِمِ لِهَذَا عِنْدَ هَذَا دِينَارٌ وَالرِّوَايَةُ خَبَرٌ عَامٌّ قُصِدَ بِهِ تَعْرِيفُ دَلِيلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } وَالشُّفْعَةُ فِيمَا لَا يُقْسَمُ فَلَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ قَوْلُ الْمُخْبِرِ لِزَيْدٍ قِبَلَ عَمْرٍو دِينَارٌ غَيْرَ قَاصِدٍ بِهِ أَنْ يَتَرَتَّبَ فَصْلُ قَضَاءٍ عَلَيْهِ شَهَادَةٌ ، وَلَا هُوَ شَاهِدٌ عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ بَلْ يُسَمَّى خَبَرًا وَقَائِلُهُ مُخْبِرًا .
وَكَذَلِكَ الْمُخْبِرُ عَنْ الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ لَا يُسَمَّى شَاهِدًا كَمَا لَا يُسَمَّى فِي عُرْفِهِمْ رَاوِيًا عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ وَإِنْ سُمِّيَ كَمَا فِي الْأَقَاصِيصِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ مَجَازٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُونَ فِيهِ مِنْ صِفَاتِ الرِّوَايَةِ مَا يَشْتَرِطُونَ فِي رُوَاةِ تَعْرِيفِ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ وَالشَّهَادَةِ بِالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالنَّسَبِ الْمُتَفَرِّعِ بَيْنَ الْأَنْسَابِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ

النَّظَائِرِ إنَّمَا جَاءَ الْعُمُومُ فِيهَا بِطَرِيقِ الْعَرْضِ .
وَالتَّبَعُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ فِيهَا جُزْئِيٌّ هُوَ فِي الْوَقْفِ الْوَاقِفِ وَإِثْبَاتِ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ عُمُومًا إذْ قَدْ يَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنٍ كَعَلَى وَلَدِهِ أَوْ عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لِغَيْرِهِ فَالْعُمُومُ أَمْرٌ عَارِضِيٌّ لَيْسَ مُتَقَرَّرًا شَرْعًا فِي أَصْلِ هَذَا ، وَهُوَ فِي النَّسَبِ الْإِلْحَاقُ بِالشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ أَوْ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ لِلشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ ، ثُمَّ تَفَرُّعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ التَّابِعَةِ لِلْمَقْصُودِ بِالشَّهَادَةِ كَمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ إذَا وَقَعَتْ بِأَنَّ هَذَا رَقِيقٌ لِزَيْدٍ قُبِلَ فِيهِ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ ، وَإِنْ تَبِعَ ذَلِكَ لُزُومُ الْقِيمَةِ لِمَنْ قَتَلَهُ دُونَ الدِّيَةِ وَسُقُوطِ الْعِبَادَاتِ عَنْهُ وَاسْتِحْقَاقِ أَكْسَابِهِ لِلسَّيِّدِ مَعَ أَنَّ الشَّاهِدَ لَمْ يَقْصِدْ سُقُوطَ الْعِبَادَاتِ عَنْهُ ، وَلَيْسَ سُقُوطُهَا مِمَّا تَدْخُلُ فِيهِ الشَّهَادَةُ فَضْلًا عَنْ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ بِتَزْوِيجِ زَيْدٍ الْمَرْأَةَ الْمُعَيَّنَةَ شَهَادَةٌ بِحُكْمٍ جُزْئِيٍّ عَلَى الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا الْمَشْهُودِ لَهُ ، وَهُوَ جُزْئِيٌّ وَإِنْ تَبِعَ ذَلِكَ تَحْرِيمُهَا عَلَى غَيْرِهِ وَإِبَاحَةُ وَطْئِهَا لَهُ مَعَ أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالْإِبَاحَةَ شَأْنُهَا الرِّوَايَةُ دُونَ الشَّهَادَةِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النَّظَائِرِ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْخَبَرُ إمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ فَصْلُ قَضَاءٍ وَإِلْزَامُ حُكْمٍ وَإِمْضَاءٍ أَوْ لَا فَإِنْ قُصِدَ بِهِ ذَلِكَ فَهُوَ الشَّهَادَةُ ، وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ تَعْرِيفُ دَلِيلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَوْ لَا فَإِنْ قُصِدَ بِهِ ذَلِكَ فَهُوَ الرِّوَايَةُ ، وَإِلَّا فَهُوَ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْخَبَرِ وَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى بَيَانِ تَفَاصِيلِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ مَا يَجُوزُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ

وَاعْتِبَارَاتِهِمْ .
( قُلْت ) وَقَدْ اشْتَرَطُوا فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ الْعَدَدَ وَالذُّكُورِيَّةَ وَالْحُرِّيَّةَ ، وَجَعَلُوا الْعَدَالَةَ الْمُتَضَمِّنَةَ الْإِسْلَامَ وَالْعَقْلَ وَالْبُلُوغَ شَرْطًا فِيهِمَا .
قَالَ التَّسَوُّلِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعَدَالَةَ تَتَضَمَّنُ الْإِسْلَامَ وَالْعَقْلَ وَالْبُلُوغَ إذْ كُلُّ عَدْلٍ مُطْلَقًا كَانَ عَدْلَ رِوَايَةٍ أَوْ شَهَادَةٍ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْهَا وَقْتَ الْأَدَاءِ وَالْإِخْبَارِ ا هـ .
وَقَبُولُ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ وَكَذَا رِوَايَةِ الْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ كَمَا سَيَأْتِي عَنْ ابْنِ الْقَصَّارِ عَنْ مَالِكٍ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِإِلْجَاءِ الضَّرُورَةِ إلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ لُزُومِ الْمَشَقَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ التَّجْوِيزِ ، وَالْقَوَاعِدُ يُسْتَثْنَى مِنْهَا مَحَالُّ الضَّرُورَاتِ كَمَا سَيَأْتِي عَلَى أَنَّهُ يَنْدُرُ الْخُلُوُّ عَنْ قَرَائِنَ تَحَصُّلِ الظَّنِّ فَافْهَمْ .
( وَالْمُنَاسَبَةُ ) فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ إلْزَامَ الْمُعَيَّنِ وَهُوَ الْغَالِبُ فِي الشَّهَادَةِ تُتَوَقَّعُ فِيهِ عَدَاوَةٌ بَاطِنِيَّةٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا الْحَاكِمُ ، فَيَنْبَعِثُ الْعَدُوُّ عَلَى إلْزَامِ عَدُوِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ فَاحْتَاطَ الشَّارِعُ لِذَلِكَ وَاشْتَرَطَ مَعَهُ آخَرَ إبْعَادًا لِهَذَا الِاحْتِمَالِ فَإِذَا اتَّفَقَا فِي الْمَقَالِ قَرُبَ الصِّدْقُ جِدًّا بِخِلَافِ الْوَاحِدِ ، وَالرِّوَايَةُ مِنْ حَيْثُ عُمُومُ مُقْتَضَاهَا غَالِبًا يَكْفِي فِيهَا الْوَاحِدُ إذْ لَا يُتَّهَمُ أَحَدٌ فِي عَدَاوَةِ جَمِيعِ الْخَلْقِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى الِاسْتِظْهَارِ بِالْغَيْرِ فَبَابُ الرِّوَايَةِ بَعِيدٌ عَنْ التُّهَمِ جِدًّا أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ الْعَدْلَ إذَا رَوَى حَدِيثًا يَتَضَمَّنُ عِتْقَهُ أَنَّهُ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ فِيهِ وَإِنْ تَضَمَّنَتْ نَفْعَهُ نَظَرًا لِكَوْنِ الْعُمُومِ مُوجِبًا لِعَدَمِ التُّهْمَةِ فِي الْخُصُوصِ مَعَ وَازِعِ الْعَدَالَةِ كَمَا رَآهُ بَعْضُ مَشَايِخِ الْقَرَافِيِّ الْمُعْتَبَرِينَ مَنْقُولًا .
( وَالْمُنَاسَبَةُ )

فِي اشْتِرَاطِ الذُّكُورِيَّةِ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ إلْزَامَ الْمُعَيَّنِ سُلْطَانٌ وَغَلَبَةٌ وَقَهْرٌ وَاسْتِيلَاءٌ تَأْبَاهُ النُّفُوسُ الْأَبِيَّةُ وَتَمْنَعُهُ الْحَمِيَّةُ ، وَهُوَ مِنْ النِّسَاءِ أَشَدُّ نِكَايَةً لِنُقْصَانِهِنَّ فَإِنَّ اسْتِيلَاءَ النَّاقِصِ أَشَدُّ فِي ضَرَرِ الِاسْتِيلَاءِ فَخَفَّفَ ذَلِكَ عَنْ النُّفُوسِ بِدَفْعِ الْأُنُوثَةِ وَقَبُولِ شَهَادَةِ الْأُنْثَى فِي الْأَمْوَالِ وَفِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ فِيهَا اطِّلَاعُ الرِّجَالِ إنَّمَا كَانَ لِإِلْجَاءِ الضَّرُورَةِ إلَى ذَلِكَ ، وَالْقَوَاعِدُ يُسْتَثْنَى مِنْهَا مَحَالُّ الضَّرُورَاتِ ، ثُمَّ إنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْمَرْأَةَ كَالرَّجُلِ فِي مَحَلِّ تَعَذُّرِ اطِّلَاعِهِ الْإِطْلَاقِيِّ ، وَجَعَلَهَا مِثْلَهُ بِشَرْطِ الِاسْتِظْهَارِ بِأُخْرَى فِي مَحَلِّ تَعَذُّرِ اطِّلَاعِهِ الِاتِّفَاقِيِّ ؛ لِأَنَّ إذْعَانَ النُّفُوسِ بِمُقْتَضَى الضَّرُورَاتِ الْإِطْلَاقِيَّةِ أَشَدُّ مِنْ إذْعَانِهَا بِمُقْتَضَى الضَّرُورَاتِ الِاتِّفَاقِيَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِي ) أَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ حَيْثُ خُصُوصُ مُقْتَضَاهَا وَالنِّسَاءُ نَاقِصَاتٌ عَقْلٍ وَدِينٍ نَاسَبَ أَنْ لَا يُنَصَّبْنَ نَصْبًا عَامًّا فِي مَوَارِدِهَا لِئَلَّا يَعُمَّ ضَرَرُهُنَّ بِالنِّسْيَانِ وَالْغَلَطِ بِخِلَافِ مُقْتَضَى الرِّوَايَةِ فَإِنَّهُ عَامٌّ ، وَالْأُمُورُ الْعَامَّةُ تَتَأَسَّى فِيهَا النُّفُوسُ وَيَتَسَلَّى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فَيَخِفُّ الْأَلَمُ ، وَأَيْضًا قَدْ مَرَّ أَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ أَحَدٌ فِي عَدَاوَةِ جَمِيعِ الْخَلْقِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَافْهَمْ .

( وَالْمُنَاسَبَةُ ) فِي اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَيْضًا ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ النُّفُوسَ الْأَبِيَّةَ تَأْبَى قَهْرَهَا بِالْعَبِيدِ الْأَدْنَى كَمَا تَأْبَاهُ بِالنِّسَاءِ بَلْ أَوْلَى وَيَخِفُّ ذَلِكَ عَلَيْهَا بِالْأَحْرَارِ وَسَرَاةِ النَّاسِ .
( الثَّانِي ) أَنَّ فِي الْعَبْدِ تَحَقُّقَ الْعَدَاوَةِ بِسَبَبِ مَا فَاتَهُ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ بِالْكَسْبِ وَالْمَنَافِعِ ، وَلَيْسَ فِي الْحُرِّ إلَّا مُجَرَّدُ احْتِمَالِ الْعَدَاوَةِ فَرُبَّمَا بَعَثَ الْعَبْدَ رِقُّهُ الْمُوجِبُ لِلضَّغَائِنِ وَالْأَحْقَادِ بِسَبَبِ مَا ذُكِرَ عَلَى الْكَذِبِ عَلَى الْمُعَيَّنِ وَإِذَايَتِهِ ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ الْخَلَائِقِ يَبْعُدُ الْقَصْدُ إلَيْهِ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ ( هَذَا وَقَدْ عَلِمْت ) مِمَّا مَرَّ أَنَّ الْخَبَرَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : ( أَحَدُهَا ) رِوَايَةٌ مَحْضَةٌ كَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ وَمِنْهُ الْخَبَرُ الْمُفْتِي ؛ لِأَنَّهُ نَاقِلٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى لِخَلْقِهِ كَالرَّاوِي لِلسُّنَّةِ وَلِأَنَّهُ وَارِثٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْفِي فِيهِ وَحْدَهُ فَكَذَلِكَ وَارِثُهُ فَلِذَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافٌ فِي أَنَّهُ يَكْفِي فِيهِ الْوَاحِدُ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ فِي السَّاعِي أَنَّهُ يَكْفِي فِيهِ الْوَاحِدُ أَيْضًا لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْحَاكِمِ .
( وَالثَّانِي ) شَهَادَةٌ مَحْضَةٌ كَإِخْبَارِ الشُّهُودِ عَنْ الْحُقُوقِ عَلَى الْمُعَيَّنِينَ عِنْدَ الْحَاكِمِ ، وَالثَّالِثُ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْخَبَرِ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا هُنَا مَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ فِي إعْطَائِهِ حُكْمَ الشَّهَادَةِ مِنْ اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ أَوْ حُكْمِ الرِّوَايَةِ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِالْوَاحِدِ نَظَرًا لِمَا فِيهِ مِنْ شَبَهِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارَيْنِ .
( وَلَهُ صُوَرٌ أَحَدُهَا ) الْقَائِفُ فِي إثْبَاتِ الْأَنْسَابِ بِالْخَلْقِ قِيلَ لَهُ حُكْمُ الرِّوَايَةِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْوَاحِدِ لِمَا فِيهِ مِنْ شَبَهِهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُنْتَصِبٌ

انْتِصَابًا عَامًّا لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، وَأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِقَبِيلَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهُمْ بَنُو مُدْلِجٍ فَيُنَصِّبُ الْحَاكِمُ مِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ أَهْلًا لِذَلِكَ ، وَدُخُولُ نَصْبِ الْحَاكِمِ لِذَلِكَ وَاجْتِهَادُهُ وَتَوَسُّطُ نَظَرِهِ يُبْعِدُ احْتِمَالَ الْعَدَاوَةِ وَيُخَفِّفُ الضَّغِينَةَ فِي قَلْبِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّاهِدِ فَإِنَّهُ مُنْتَصِبٌ لِكُلِّ مَنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ شَهَادَةٌ يُؤَدِّيهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ نَصْبِ الْإِمَامِ لِذَلِكَ الشَّخْصِ كَمَا قَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَلَمْ يُنْقَلْ لَنَا أَنَّهُ نَصَّبَهُ لِذَلِكَ ، وَلَوْ وُجِدَ مِنْ النَّاسِ أَوْ مِنْ الْقَبَائِلِ مَنْ يُودِعُهُ اللَّهُ تَعَالَى تِلْكَ الْخَاصِّيَّةَ الَّتِي أَوْدَعَهَا فِي بَنِي مُدْلِجٍ لَقَبِلَ قَوْلَهُ أَيْضًا ، وَالصَّحِيحُ بِلَا خَفَاءٍ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ أَنَّ زَيْدًا ابْنُ عَمْرٍو وَلَيْسَ ابْنَ خَالِدٍ وَهُوَ حُكْمٌ جُزْئِيٌّ عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ ، وَيَتَطَرَّقُ إلَيْهِ مِنْ الِاحْتِمَالِ الْمُوجِبِ لِلْعَدَاوَةِ مَا يَتَطَرَّقُ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ الدُّنْيَوِيِّ .
( وَثَانِيهَا ) الْمُتَرْجِمُ لِلْفَتَاوَى وَالْخُطُوطِ قَالَ مَالِكٌ يَكْفِي الْوَاحِدُ قِيلَ لِأَنَّ فِيهِ شِبْهَ الرِّوَايَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ نُصِّبَ نَصْبًا عَامًّا لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَخْتَصُّ نَصْبُهُ بِمُعَيَّنٍ ، وَأَنَّ تَرْجَمَةَ مَا ذَكَرَ إنَّمَا تَكُونُ بِنَصْبِ الْحَاكِمِ مَنْ يَرَاهُ أَهْلًا لِذَلِكَ إلَى آخِرِ مَا مَرَّ فِي الْقَائِفِ ، وَقَدْ عَلِمْت ضَعْفَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ اثْنَيْنِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ شِبْهَ الشَّهَادَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ مُعَيَّنٍ مِنْ الْفَتَاوَى وَالْخُطُوطِ لَا يَتَعَدَّى إخْبَارُهُ ذَلِكَ الْخَطَّ الْمُعَيَّنَ أَوْ الْكَلَامَ الْمُعَيَّنَ وَلَا خَفَاءَ فِي

ضَعْفِ هَذَا الشَّبَهِ أَيْضًا ، وَالصَّحِيحُ فِيهِ التَّفْصِيلُ وَهُوَ أَنَّ التَّرْجَمَةَ تَابِعَةٌ لِمَا هِيَ تَرْجَمَةٌ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ مِنْ نَوْعِ الرِّوَايَةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ فَكَذَلِكَ ( وَثَالِثُهَا ) الْمُقَوِّمُ لِلسِّلَعِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَالسَّرِقَاتِ وَالْغُصُوبِ وَغَيْرِهَا .
قَالَ مَالِكٌ يَكْفِي الْوَاحِدُ فِي التَّقْوِيمِ إلَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْقِيَمِ حَدٌّ كَالسَّرِقَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ قِيلَ لِمَا فِيهِ مِنْ شِبْهِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَدٍّ لِمَا لَا يَتَنَاهَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُتَرْجِمِ وَالْقَائِفِ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَضْعِيفَهُ وَمِنْ شِبْهِ الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ يَنْفُذُ فِي الْقِيمَةِ وَالْحَاكِمُ يُنَفِّذُهُ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَظْهَرَ مِنْ شِبْهِ الرِّوَايَةِ إلَّا أَنَّهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ شِبْهِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ إلْزَامٌ لِمُعَيَّنٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ فَيُرَاعَى فِيهِ شَبَهَا الرِّوَايَةِ وَالْحُكْمِ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِإِخْبَارِهِ حَدٌّ فَيَتَعَيَّنُ مُرَاعَاةُ الشَّهَادَةِ لِقُوَّةِ مَا يُفْضِي إلَيْهِ هَذَا الْإِخْبَارُ وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ إبَاحَةِ عُضْوِ آدَمِيٍّ مَعْصُومٍ ، وَرُوِيَ وَلَا بُدَّ فِي التَّقْوِيمِ مِنْ اثْنَيْنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ عَلَى الصَّحِيحِ لِتَرَتُّبِ فَصْلِ الْقَضَاءِ بِإِلْزَامِ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ مِنْ الْعِوَضِ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَرَابِعُهَا ) الْقَاسِمُ قَالَ مَالِكٌ يَكْفِي الْوَاحِدُ وَالْأَحْسَنُ اثْنَانِ ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ التُّونُسِيُّ لَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ وَمِثْلُهُ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَاسِمِ ؛ لِأَنَّهُ شَاهِدٌ وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ ، وَمَنْشَأُ ذَلِكَ حُصُولُ شِبْهِ الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ اسْتَنَابَهُ فِي ذَلِكَ فَيَكْفِي الْوَاحِدُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا أَوْ شِبْهِ التَّقْوِيمِ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ تَقْوِيمَ الْمُقَوِّمِ مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ عَلَى الصَّحِيحِ وَعَلَيْهِ فَيُشْتَرَطُ الْعَدَدُ وَفِي

مَعْنَى الْقَاسِمِ الْخَارِصُ ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ يَكْفِي فِيهِ الْوَاحِدُ .
( وَخَامِسُهَا ) مُخْبِرُ الْمُصَلِّي بِعَدَدِ مَا صَلَّى هَلْ يُكْتَفَى فِيهِ بِالْوَاحِدِ أَمْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ اثْنَيْنِ ، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْخَبَرِ ، وَشَبَهُهُ بِالرِّوَايَةِ ظَاهِرٌ نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ مَا كُلِّفَ بِهِ إلَّا بِتَعْيِينٍ فَلَا يَكْفِي الْوَاحِدُ إلَّا مَعَ قَرَائِنَ تُوجِبُ الْقَطْعَ ، وَكَذَلِكَ فِي الِاثْنَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا لَكِنْ نَقُولُ طَلَبُ الْيَقِينِ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ مِمَّا يَشُقُّ وَيُحْرِجُ ، وَالْحَرَجُ مَرْفُوعٌ شَرْعًا وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ وَفِي مَعْنَى مُخْبِرِ الْمُصَلِّي الْمُخْبِرُ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ يَكْفِي فِيهِ الْوَاحِدُ فَافْهَمْ .
( وَسَادِسُهَا ) الْإِخْبَارُ عَنْ رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ قِيلَ لَهُ حُكْمُ الشَّهَادَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ اثْنَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ شَبَهِهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِهَذَا الْعَامِ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ وَبِهَذَا الْقَرْنِ مِنْ النَّاسِ دُونَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ وَاَلَّذِي يَقْوَى فِي النَّظَرِ أَنَّ لَهُ حُكْمَ الرِّوَايَةِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِوَايَةً حَقِيقِيَّةً لِعَدَمِ تَعْرِيفِ دَلِيلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِهِ وَلَا شَهَادَةٍ حَقِيقَةٍ لِعَدَمِ تَرَتُّبِ حُكْمٍ وَفَصْلِ قَضَاءٍ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ نَوْعٌ آخَرُ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَبَرِ ، وَهُوَ الْخَبَرُ عَنْ وُجُودِ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّهُ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ مِنْ الِاحْتِمَالِ الْمُوجِبِ لِلْعَدَاوَةِ مَا يَتَطَرَّقُ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ الدُّنْيَوِيِّ مَعَ عَدَمِ الِاخْتِصَاصِ بِمُعَيَّنٍ لِعُمُومِ الْحُكْمِ فِيهِ جَمِيعَ الْحَضَرِ أَوْ أَهْلَ الْآفَاقِ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي كُلِّ قَوْمٍ رُؤْيَتُهُمْ أَوْ لَا .
( وَسَابِعُهَا ) الْمُؤَذِّنُ يُخْبِرُ عَنْ الْوَقْتِ ، وَالْمَلَّاحُ وَمَنْ

صِنَاعَتُهُ فِي الصَّحْرَاءِ يُخْبِرُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ الْقِبْلَةِ هَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ عَدْلٌ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ .
وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ نَقْلًا وَنَظَرًا ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَلِأَنَّ الْخَبَرَ عَنْ الْوَقْتِ وَعَنْ الْقِبْلَةِ وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ وُقُوعِ سَبَبِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ مِنْ احْتِمَالِ قَصْدِ الْعَدُوِّ إلْزَامَ عَدُوِّهِ مَا لَا يَلْزَمُهُ وَالتَّشَفِّي مِنْهُ بِذَلِكَ مَا يَتَطَرَّقُ إلَى خَبَرِ الْمُخْبِرِ عَنْ وُقُوعِ سَبَبِ الْمِلْكِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا حَتَّى يَكُونَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا اثْنَانِ لَا يُقَالُ قَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمُؤَذِّنِ وَالْمُخْبِرِ عَنْ الْقِبْلَةِ بِأَنَّ الثَّانِيَ مُخْبِرٌ بِحُكْمٍ مُتَأَبَّدٍ فَإِنَّ نَصْبَ جِهَةِ الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ قِيَامًا لِلنَّاسِ أَمْرٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ لَا يَخْتَلِفُ بِخِلَافِ الْمُؤَذِّنِ لَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ وَإِخْبَارُهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ أَشْبَهَ بِالرِّوَايَةِ مِنْ الثَّانِي ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا يَصْلُحُ مَا ذُكِرَ فَارِقًا بَلْ الْحَقُّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُخْبِرَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ اجْتِهَادٍ فَإِنْ أَخْبَرَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ فَلَا فَرْقَ ، وَإِنْ أَخْبَرَ عَنْ اجْتِهَادٍ فَالْفَرْقُ فِي ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ فِي الْوَقْتِ وَفِي الْقِبْلَةِ أَوْ عَدَمِ جَوَازِهِ فِيهِمَا أَوْ جَوَازِهِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَالْأَصَحُّ نَقْلًا وَنَظَرًا جَوَازُهُ فِيهِمَا ، وَهُنَا إشْكَالَانِ عَلَى الْمَالِكِيَّةِ ( أَحَدُهُمَا ) الْإِجْمَاعُ عَلَى اخْتِصَاصِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ بِأَقْطَارِهَا ، وَلَمْ يَجْعَلْ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِكُلِّ قَوْمٍ رُؤْيَتَهُمْ هِلَالَ رَمَضَانَ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ بَلْ عَمَّمُوا رُؤْيَتَهُ فِي قُطْرِ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَقْطَارِ عِنْدَ عُلَمَاءِ هَذَا الشَّأْنِ ، فَقَدْ يَطْلُعُ الْهِلَالُ فِي بَلَدٍ دُونَ

غَيْرِهِ بِسَبَبِ الْبُعْدِ عَنْ الْمَشْرِقِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ فَإِنَّ الْبَلَدَ الْأَقْرَبَ إلَى الْمَشْرِقِ هُوَ بِصَدَدِ أَنْ لَا يُرَى فِيهِ الْهِلَالُ ، وَيُرَى فِي الْبَلَدِ الْغَرْبِيِّ بِسَبَبِ مَزِيدِ السَّيْرِ الْمُوجِبِ لِتَخَلُّصِ الْهِلَالِ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبَلَدَ الْمَشْرِقِيَّةَ إذَا كَانَ الْهِلَالُ فِيهَا فِي الشُّعَاعِ وَبَقِيَتْ الشَّمْسُ تَتَحَرَّكُ مَعَ الْقَمَرِ إلَى الْجِهَةِ الْغَرْبِيَّةِ فَمَا تَصِلُ الشَّمْسُ إلَى أُفُقِ الْمَغْرِبِ إلَّا وَقَدْ خَرَجَ الْهِلَالُ مِنْ الشُّعَاعِ فَيَرَاهُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ وَلَا يَرَاهُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ هَذَا أَحَدُ أَسْبَابِ اخْتِلَافِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَلَهُ أَسْبَابٌ أُخَرُ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ لَا يَلِيقُ ذِكْرُهَا هُنَا ، وَلِهَذَا مَا مِنْ زَوَالٍ لِقَوْمٍ إلَّا وَهُوَ غُرُوبٌ لِقَوْمٍ وَطُلُوعٌ لِقَوْمٍ وَنِصْفُ اللَّيْلِ لِقَوْمٍ وَكُلُّ دَرَجَةٍ تَكُونُ الشَّمْسُ فِيهَا فَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِجَمِيعِ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِأَقْطَارٍ مُخْتَلِفَةٍ ، فَإِذَا قَاسَتْ الشَّافِعِيَّةُ الْهِلَالَ عَلَى أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ اُتُّجِهَ الْقِيَاسُ وَعَسِرَ الْفَرْقُ عَلَى الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَلَا يَنْفَعُ فِي دَفْعِهِ أَنَّ الْأَذَانَ عُدِلَ بِهِ عَنْ صِيغَةِ الْخَبَرِ إلَى صِيغَةِ الْعَلَامَةِ عَلَى الْوَقْتِ فَكَمَا كَفَى مَيْلٌ وَاحِدٌ لِلظِّلِّ وَزِيَادَةٌ وَاحِدَةٌ لَهُ وَآلَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ آلَاتِ الْأَوْقَاتِ كَالِاصْطَرْلَابِ وَالْمِيزَانِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَامَةٌ مُفِيدَةٌ كَذَلِكَ الْأَذَانُ يَكْفِي فِيهِ الْوَاحِدُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَامَةٌ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ دَلَالَةَ مَيْلِ الظِّلِّ وَزِيَادَتِهِ عَلَى دُخُولِ الْوَقْتِ قَطْعِيَّةٌ ، وَدَلَالَةَ الْأَذَانِ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ مَا دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةٌ لَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى الِاسْتِظْهَارِ بِخِلَافِ مَا دَلَالَتُهُ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ .
وَثَانِيهِمَا أَنَّ دَلَالَةَ الْأَذَانِ بِجُمْلَتِهِ دَلَالَةٌ عُرْفِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ بِالْمُطَابَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ لِذَلِكَ وَضَعَهُ الشَّارِعُ مَعَ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ

دَالٌّ عَلَى مُقْتَضَاهُ دَلَالَةً لُغَوِيَّةً بِالْمُطَابَقَةِ أَيْضًا وَمَعْنَى حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ وَكَذَا حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فِي اللُّغَةِ بِالْمُطَابَقَةِ أَقْبِلُوا إلَيْهَا ، وَهُوَ يَدُلُّ الْتِزَامًا عَلَى دُخُولِ وَقْتِهَا فَيَكُونُ تَقْلِيدُ الْمُؤَذِّنِ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ إذَا أَذَّنَ كَتَقْلِيدِهِ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَصَحِيحِ النَّظَرِ إذَا قَالَ لَنَا مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ طَلَعَ الْفَجْرُ ، وَهُوَ خَبَرٌ صِرْفٌ فَافْهَمْ نَعَمْ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّمَا ثَبَتَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَصَحِيحِ النَّظَرِ تَقْلِيدُ الْمُؤَذِّنِ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ إذَا أَذَّنَ أَمَّا إذَا أَخْبَرَ بِدُخُولِهِ مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ فَالصَّحِيحُ عِنْدِي هَهُنَا أَنْ لَا تَقْلِيدَ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَصَبَ دَلِيلًا مُعَيَّنًا فَلَا يُتَعَدَّى مَا نَصَبَ ا هـ .
فَتَأَمَّلْ قُلْت لَكِنْ يُؤْخَذُ دَفْعُ هَذَا الْإِشْكَالِ مِنْ قَوْلِ الْعَلَّامَةِ ابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ وَإِذَا قُلْنَا إنَّ الرُّؤْيَةَ تَثْبُتُ بِالْخَبَرِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَرَهُ فَهَلْ يُتَعَدَّى ذَلِكَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ بِأَنْ يَجِبَ عَلَى أَهْلِ بَلَدٍ لَمْ يَرَوْهُ أَنْ يَأْخُذُوا فِي ذَلِكَ بِرُؤْيَةِ بَلَدٍ آخَرَ وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَالْمِصْرِيُّونَ عَنْ مَالِكٍ أَمْ لِكُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْمَدَنِيُّونَ عَنْهُ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَالْمُغِيرَةُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَاعَى ذَلِكَ فِي الْبُلْدَانِ النَّائِيَةِ كَالْأَنْدَلُسِ وَالْحِجَازِ وَسَبَبُ هَذَا الْخِلَافِ تَعَارُضُ الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ فَرَوَى مُسْلِمٌ { عَنْ كُرَيْبٌ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ بَعَثَتْهُ إلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ فَقَالَ قَدِمْت الشَّامَ فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا وَاسْتَهَلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ فَرَأَيْتُ الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ فَقَالَ مَتَى

رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ فَقُلْتُ رَأَيْتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ أَنْتَ رَأَيْتَهُ فَقُلْتُ نَعَمْ وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ قَالَ لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَوْ نَرَاهُ فَقُلْت أَلَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَا هَكَذَا أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَظَاهِرُ هَذَا الْأَثَرِ يَقْتَضِي أَنَّ لِكُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتَهُ قَرُبَ أَوْ بَعُدَ وَالنَّظَرُ يُعْطِي الْفَرْقَ بَيْنَ الْبِلَادِ النَّائِيَةِ كَالْأَنْدَلُسِ وَالْحِجَازِ لَا يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ لِاخْتِلَافِ مَطَالِعِهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَبِخَاصَّةٍ مَا كَانَ نَأْيُهُ الْعَرْضَ كَثِيرًا ، وَبَيْنَ الْقَرِيبَةِ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ ؛ لِأَنَّهَا فِي قِيَاسِ الْأُفُقِ الْوَاحِدِ إذَا لَمْ تَخْتَلِفْ مَطَالِعُهَا كُلَّ الِاخْتِلَافِ .
ا هـ بِتَلْخِيصٍ وَتَصَرُّفٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لَمْ يُعَمِّمُوا رُؤْيَةَ الْهِلَالِ فِي قُطْرِ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ كَمَا زَعَمَ الْمُعْتَرِضُ بَلْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ رُؤْيَتَهُ فِي قُطْرٍ كَالْحِجَازِ لَا تُوجِبُ حُكْمًا عَلَى مَنْ لَمْ يَرَهُ بِقَطْرٍ نَاءٍ عَنْ الْحِجَازِ كَالْأَنْدَلُسِ لِاخْتِلَافِ الْمَطْلَعَيْنِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا بِحَيْثُ يَكُونُ الْغُرُوبُ فِي الْحِجَازِ زَوَالًا فِي الْأَنْدَلُسِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَالْمِصْرِيُّونَ عَنْ مَالِكٍ وُجُوبَ الْحُكْمِ بِرُؤْيَتِهِ فِي الْحِجَازِ عَلَى مَنْ لَمْ يَرَهُ بِقُطْرٍ غَيْرِ نَاءٍ كَالْمَدِينَةِ وَمِصْرَ بِحَيْثُ لَا يُخَالِفُ مَطْلَعُهُ مَطْلَعَ الْحِجَازِ كَثِيرًا بَلْ بِنَحْوِ الدَّرَجَةِ وَالدَّرَجَتَيْنِ ، وَعَدَمُ اعْتِبَارِ هَذَا الِاخْتِلَافِ الْيَسِيرِ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ وَاعْتِبَارُهُ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ نَظَرًا لِكَوْنِ اعْتِبَارِهِ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ يُؤَدِّي لِلصَّلَاةِ قَبْلَ الْوَقْتِ بِخِلَافِهِ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ بَلْ قَدْ اسْتَدَلَّ السَّادَةُ الْحَنَابِلَةُ عَلَى قَوْلِهِمْ بِأَنَّ رُؤْيَةَ

الْهِلَالِ بِمَكَانٍ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا إذَا ثَبَتَتْ لَزِمَ النَّاسَ كُلَّهُمْ الصَّوْمُ ، وَأَنَّ حُكْمَ مَنْ لَمْ يَرَهُ حُكْمُ مَنْ رَآهُ ، وَلَوْ اخْتَلَفَتْ الْمَطَالِعُ نَصًّا قَالَ أَحْمَدُ الزَّوَالُ فِي الدُّنْيَا وَاحِدٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ } وَهُوَ خِطَابٌ لِلْأُمَّةِ كَافَّةً ، وَبِأَنَّ الشَّهْرَ فِي الْحَقِيقَةِ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَكَذَا الصَّوْمُ ، وَلَوْ فُرِضَ الْخِطَابُ فِي الْخَبَرِ لِلَّذِينَ رَأَوْهُ فَالْغَرَضُ حَاصِلٌ ؛ لِأَنَّ مِنْ صُوَرِ الْمَسْأَلَةِ وَفَوَائِدِهَا مَا إذَا رَآهُ جَمَاعَةٌ بِبَلَدٍ ثُمَّ سَافَرُوا إلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ فَلَمْ يَرَ الْهِلَالَ بِهِ فِي آخِرِ الشَّهْرِ مَعَ غَيْمٍ أَوْ صَحْوٍ فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ الْفِطْرُ وَلَا لِأَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ عَنْ الْمُخَالِفِ وَعَنْ صُوَرِهَا مَا إذَا رَآهُ جَمَاعَةٌ ثُمَّ سَارَتْ بِهِمْ رِيحٌ فِي سَفِينَةٍ فَوَصَلُوا إلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ فِي آخِرِ اللَّيْلِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ الصَّوْمُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ، وَلَمْ يَحِلَّ لَهُمْ الْفِطْرُ فِي آخِرِهِ عِنْدَهُمْ ، وَهَذَا كُلُّهُ مُصَادِمٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ } وَأَجَابُوا عَنْ خَبَرِ كُرَيْبٌ الْمَذْكُورِ بِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُفْطِرُونَ بِقَوْلِ كُرَيْبٌ وَحْدَهُ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي وُجُوبِ قَضَاءِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ، وَلَيْسَ هُوَ فِي الْحَدِيثِ قَالُوا .
وَأَجَابَ الْقَاضِي عَنْ قَوْلِ الْمُخَالِفِ الْهِلَالُ يَجْرِي مَجْرَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لِكُلِّ بَلَدٍ حُكْمَ نَفْسِهِ فَكَذَا الْهِلَالُ بِأَنَّ الشَّمْسَ تَتَكَرَّرُ مُرَاعَاتُهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ فَيُؤَدِّي قَضَاءُ الْعِبَادَاتِ إلَى كَبِيرِ الْمَشَقَّةِ ، وَالْهِلَالُ فِي السَّنَةِ مَرَّةٌ فَلَيْسَ فِي قَضَاءِ يَوْمٍ كَبِيرُ مَشَقَّةٍ ، وَدَلِيلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْعُمُومِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ كَذَا فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ شَرْحِ الْإِقْنَاعِ مَعَ الْمَتْنِ بِتَصَرُّفٍ

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْإِشْكَالُ الثَّانِي التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْمُؤَذِّنِ يُقْبَلُ فِيهِ الْوَاحِدُ وَبَيْنَ الْمُخْبِرِ عَنْ هِلَالِ رَمَضَانَ لَا يُقْبَلُ فِيهِ الْوَاحِدُ مَعَ أَنَّ الْمُخْبِرَ عَنْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ عَلَى قَاعِدَةِ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ عُمُومِ رُؤْيَتِهِ فِي قُطْرِ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ خَبَرُهُ أَشْبَهُ بِالرِّوَايَةِ مِنْ الْمُؤَذِّنِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ الْوَاحِدُ قِيَاسًا عَلَى الْمُؤَذِّنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَلَا يَنْفَعُ فِي دَفْعِهِ أَنَّ الْمَعَانِيَ الْكُلِّيَّةَ قَدْ يُسْتَثْنَى مِنْهَا بَعْضُ أَفْرَادِهَا بِالسَّمْعِ .
وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا شَهِدَ عَدْلَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا وَانْسُكُوا } فَاشْتَرَطَ عَدْلَيْنِ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ وَمَعَ تَصْرِيحِ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِاشْتِرَاطِ عَدْلَيْنِ لَا يَلْزَمُنَا بِالْعَدْلِ الْوَاحِدِ شَيْءٌ ، وَلَا يُسْمَعُ الِاسْتِدْلَال بِالْمُنَاسَبَاتِ فِي إبْطَالِ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ يَدُلُّ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَدْلَيْنِ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ إنَّمَا يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ فَإِنَّ مَنْطُوقَهُ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ يَجِبُ عِنْدَهُمَا مَا ذُكِرَ وَمَفْهُومُهُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْطِ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَكْفِي ، وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى مَنْطُوقِ اللَّفْظِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِمَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى الْمَفْهُومِ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ وَغَيْرَهُ يَقُولُ الْمَفْهُومُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا فَلَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ ، وَثَامِنُهَا الْمُخْبِرُ عَنْ قِدَمِ الْعَيْبِ أَوْ حُدُوثِهِ فِي السِّلَعِ عِنْدَ التَّحَاكُمِ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ الْقَوْلَ فِيهِ أَنَّهُ شَهَادَةٌ ، وَأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ جُزْئِيٌّ عَلَى شَخْصٍ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ مُتَّجَهٌ إلَّا أَنَّهُ يُعَكِّرُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْمُسْلِمُونَ قُبِلَ فِيهِ

أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْأَطِبَّاءِ وَنَحْوِهِمْ قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَغَيْرُهُ وَنَصُّ خَلِيلٍ وَقُبِلَ لِلتَّعَذُّرِ غَيْرُ عُدُولٍ وَإِنْ مُشْرِكِينَ ا هـ .
قَالُوا وَيَكْفِي الْوَاحِدُ لِأَنَّ هَذَا طَرِيقُهُ الْخَبَرُ فِيمَا يَنْفَرِدُونَ بِعِلْمِهِ إذْ كَيْفَ يُصَرِّحُونَ بِالشَّهَادَةِ مَعَ قَبُولِ الْكَفَرَةِ فِيهَا ، وَالْكُفَّارُ لَا مَدْخَلَ لَهُمْ فِيهَا عَلَى أُصُولِنَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ وَشَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بَلْ لَا مَدْخَلَ لَهُمْ فِي الرِّوَايَةِ أَيْضًا ، وَلَا نُسَلِّمُ حُصُولَ الْعُذْرِ بِقَوْلِهِمْ إنَّ هَذَا أَمْرٌ يَنْفَرِدُونَ بِعِلْمِهِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ يَعْلَمُونَ هَذِهِ الْأَمْرَاضَ مَعَ إمْكَانِ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِمْ مَعَهُمْ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ كَمَا أَنَّ كُلَّ شَاهِدٍ إنَّمَا يُخْبِرُ عَمَّا عَلِمَهُ مَعَ إمْكَانِ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ لَهُ فِيهِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ .
وَتَاسِعُهَا خَبَرُ الْمُخْبِرِ فِي الْهَدِيَّةِ وَالِاسْتِئْذَانِ ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِجُزْئِيٍّ فِي الْهَدِيَّةِ وَالْإِذْنِ وَالْمُهْدِي وَالْآذِنِ وَالْمُهْدَى إلَيْهِ وَالْمَأْذُونِ لَهُ إلَّا أَنَّهُ فِي مَعْنَى الرِّوَايَةِ لَا الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِ فَصْلُ قَضَاءٍ ، وَإِنَّمَا جَوَّزَ فِيهِ مَالِكٌ مَا لَا يَجُوزُ فِي الرِّوَايَةِ مِنْ قَبُولِ خَبَرِ الصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ فِي قَوْلِ ابْنِ الْقَصَّارِ قَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الصَّبِيِّ وَالْأُنْثَى وَالْكَافِرِ الْوَاحِدِ فِي الْهَدِيَّةِ وَالِاسْتِئْذَانِ لِإِلْجَاءِ الضَّرُورَةِ إلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ لُزُومِ الْمَشَقَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ التَّجْوِيزِ ، إذْ لَوْ كَانَ أَحَدُنَا لَا يَدْخُلُ بَيْتَ صَدِيقِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِعَدْلٍ يَشْهَدُ لَهُ بِإِذْنِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ أَوْ لَا يَبْعَثُ بِهَدِيَّتِهِ إلَّا مَعَ عَدْلٍ لَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ مَعَ نُدُورِ الْخُلُوِّ عَنْ قَرَائِنِ تَحْصِيلِ الظَّنِّ ، وَالْقَوَاعِدُ يُسْتَثْنَى مِنْهَا مَحَالُّ الضَّرُورَاتِ كَمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ وَعَاشِرُهَا خَبَرُ الْمُخْبِرِ فِي إهْدَاءِ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا لَيْلَةَ الْعُرْسِ وَإِنْ كَانَ

إخْبَارًا عَنْ تَعْيِينٍ مُبَاحٍ جُزْئِيٍّ إلَّا أَنَّهُ فِي مَعْنَى الرِّوَايَةِ لَا الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِ فَصْلُ قَضَاءٍ فَمِنْ هُنَا نَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ لَهُ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِيهِ .
( قُلْت ) وَالظَّاهِرُ قَبُولُ خَبَرِ الصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ فِيهِ أَيْضًا لِإِلْجَاءِ ضَرُورَاتِ النَّاسِ إلَى تَجْوِيزِ ذَلِكَ مَعَ مَا اجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الضَّرُورَةِ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مِنْ اجْتِمَاعِ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ وَنُدْرَةِ التَّدْلِيسِ وَالْغَلَطِ فِي مِثْلِ هَذَا مَعَ شُهْرَتِهِ وَعَدَمِ الْمُسَامَحَةِ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ الِاسْتِئْذَانُ وَالْهَدِيَّةُ .
وَحَادِيَ عَشَرَهَا خَبَرُ الْقَصَّابِ فِي الذَّكَاةِ هُوَ فِي مَعْنَى الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِ فَصْلُ قَضَاءٍ ، وَإِنَّمَا جَوَّزَ فِيهِ مَالِكٌ قَبُولَ خَبَرِ الْكِتَابِيِّ فِي قَوْلِ ابْنِ الْقَصَّارِ قَالَ مَالِكٌ : يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَصَّابِ فِي الذَّكَاةِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا وَمَنْ مِثْلُهُ يَذْبَحُ ا هـ لِإِلْجَاءِ الضَّرُورَةِ إلَى ذَلِكَ لِلُزُومِ الْمَشَقَّةِ عِنْدَ عَدَمِ التَّجْوِيزِ مَعَ نُدُورِ الْخُلُوِّ عَنْ الْقَرَائِنِ الْمُحَصِّلَةِ لِلظَّنِّ كَمَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ قَبْلَهَا ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَرْكَ الْقَصَّابِ وَمَا يَدَّعِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مِلْكِ مَا تَحْتَ يَدِهِ حَتَّى تَكُونَ مِنْ قَبِيلِ قَاعِدَةِ : إنَّ كُلَّ أَحَدٍ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ فَإِذَا قَالَ الْكَافِرُ هَذَا مَالِي أَوْ هَذَا الْعَبْدُ رَقِيقٌ لِي صُدِّقَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا قَالَ هَذَا مِلْكِي أَوْ هَذِهِ أَمَتِي لَمْ نَعُدَّهُ رَاوِيًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ ، وَإِلَّا لَاشْتَرَطْنَا فِيهِ الْعَدَالَةَ وَلَا شَاهِدًا بَلْ نَقْبَلُهُ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ أَفْسَقَ النَّاسِ بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْهَا هَلْ يُسْتَبَاحُ أَكْلُهَا بِنَاءً عَلَى خَبَرِ الْقَصَّابِ بِتَذْكِيَتِهَا أَمْ لَا فَافْهَمْ قُلْت وَمِنْ قَبِيلِ قَوْلِ الْقَصَّابِ فِي الذَّكَاةِ قَوْلُ الْقُبْطَانِ وَنَحْوِهِ

بِالْوَابُورِ فِي مُحَاذَاةِ الْحُجَّاجِ لِلْمِيقَاتِ الشَّرْعِيِّ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِحْرَامُ بِقَوْلِهِ وَلَوْ كَافِرًا عِنْدَ تَعَذُّرِ غَيْرِهِ لِإِلْجَاءِ الضَّرُورَةِ إلَى ذَلِكَ إلَخْ ، وَإِنْ لَمْ أَرَ مَنْ نَصَّ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ فَانْظُرْهُ ، وَثَانِيَ عَشَرَهَا الْخَبَرُ بِكَوْنِ الْأَرْضِ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَحْكَامُ الصُّلْحِ أَوْ أَحْكَامُ الْعَنْوَةِ مِنْ كَوْنِهَا طَلْقًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ وَقْفًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ الظَّاهِرُ أَنَّ فِيهِ شِبْهَ الرِّوَايَةِ لَا شِبْهَ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْخَبَرِ عَنْ وُقُوعِ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَكْفِي فِيهِ الْوَاحِدُ .

( تَنْبِيهٌ ) : قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ قَالَ مَالِكٌ يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَصَّابِ فِي الذَّكَاةِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا وَمَنْ مِثْلُهُ يَذْبَحُ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ أَوْ الشَّهَادَةِ بَلْ الْقَاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ فَإِذَا قَالَ الْكَافِرُ هَذَا مَالِي أَوْ هَذَا الْعَبْدُ رَقِيقٌ لِي صُدِّقَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ هَذِهِ ذَكِيَّةٌ فَهُوَ مُؤْتَمَنٌ فِيهِ كَمَا لَوْ ادَّعَى أَيَّ سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُقَرِّرَةِ لِلْمِلْكِ مِنْ الْإِرْثِ وَالِاكْتِسَابِ بِالصِّنَاعَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ مُؤْتَمَنٌ إذْ كُلُّ أَحَدٍ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ مِمَّا هُوَ تَحْتَ يَدِهِ فِي أَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُ أَوْ مِلْكُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْوِي لَنَا دِينًا وَلَا يَشْهَدُ عِنْدَنَا فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ بَلْ هَذَا مِنْ بَابِ التَّأْمِينِ الْمُطْلَقِ كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا قَالَ هَذَا مِلْكِي أَوْ هَذِهِ أَمَتِي لَمْ نَعُدَّهُ رَاوِيًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ ، وَإِلَّا لَاشْتَرَطْنَا فِيهِ الْعَدَالَةَ وَلَا شَاهِدًا بَلْ نَقْبَلُهُ مِنْهُ .
وَإِنْ كَانَ أَفْسَقَ النَّاسِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْفُرُوعِ الْمُتَرَدِّدَةِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنْ قُلْتَ مَا قَرَّرْتَهُ مِنْ أَنَّ الشَّهَادَةَ حَقِيقَتُهَا التَّعَلُّقُ بِجُزْئِيٍّ ، وَالرِّوَايَةَ حَقِيقَتُهَا التَّعَلُّقُ بِكُلِّيٍّ لَا يَطَّرِدُ وَلَا يَنْعَكِسُ أَمَّا الشَّهَادَةُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اجْتِمَاعِ شَبَهِ الرِّوَايَةِ مَعَهَا فَقَدْ تَقَعُ فِي الْأَمْرِ الْكُلِّيِّ الْعَامِّ الَّذِي لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدٍ كَالشَّهَادَةِ بِالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالنَّسَبِ الْمُتَفَرِّعِ بَيْنَ الْأَنْسَابِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَكَوْنُ الْأَرْضِ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا يَنْبَنِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الصُّلْحِ أَوْ أَحْكَامُ الْعَنْوَةِ مِنْ كَوْنِهَا طَلْقًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ وَقْفًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النَّظَائِرِ كَمَا اخْتَصَّتْ

الشَّهَادَةُ بِجُزْئِيٍّ ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا فِي الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ النَّجَاسَةِ وَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَغَيْرِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَإِذَا وَقَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْجُزْئِيِّ وَالْكُلِّيِّ لَمْ تَكُنْ نِسْبَةُ أَحَدِهِمَا إلَى الْجُزْئِيِّ أَوْ الْكُلِّيِّ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ فَتَفْسُدُ الضَّوَابِطُ وَيَعُودُ اللَّبْسُ وَالسُّؤَالُ كَمَا تَقَدَّمَ قُلْت أَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ فُرُوعِ الشَّهَادَةِ فَالْعُمُومُ فِيهَا إنَّمَا جَاءَ بِطَرِيقِ الْعَرْضِ وَالتَّبَعِ وَمَقْصُودُهَا الْأَوَّلُ إنَّمَا هُوَ جُزْئِيٌّ أَمَّا الْوَقْفُ فَالْمَقْصُودُ بِالشَّهَادَةِ فِيهِ الْوَاقِفُ وَإِثْبَاتُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَهُوَ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ يُنْتَزَعُ مِنْهُ مَالٌ مُعَيَّنٌ فَكَانَ ذَلِكَ شَهَادَةً ثُمَّ اُتُّفِقَ أَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ فِيهِ عُمُومٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ الْوَقْفِ فَإِنَّ الْوَقْفَ قَدْ يَكُونُ عَلَى مُعَيَّنٍ كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ أَوْ زَيْدٍ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لِغَيْرِهِ فَالْعُمُومُ أَمْرٌ عَارِضٌ لَيْسَ مُتَقَرِّرًا شَرْعًا فِي أَصْلِ هَذَا الْحُكْمِ .
وَأَمَّا النَّسَبُ فَالْمَقْصُودُ بِهِ إنَّمَا هُوَ الْإِلْحَاقُ بِالشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ أَوْ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ لِلشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ ثُمَّ تَفَرُّعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ مَقْصُودَ الشَّهَادَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ التَّابِعَةِ لِلْمَقْصُودِ بِالشَّهَادَةِ كَمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ إذَا وَقَعَتْ بِأَنَّ هَذَا رَقِيقٌ لِزَيْدٍ قُبِلَ فِيهِ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ وَإِنْ تَبِعَ ذَلِكَ لُزُومَ الْقِيمَةِ لِمَنْ قَتَلَهُ دُونَ الدِّيَةِ وَسُقُوطِ الْعِبَادَاتِ عَنْهُ وَاسْتِحْقَاقِ إكْسَابِهِ لِلسَّيِّدِ مَعَ أَنَّ الشَّاهِدَ لَمْ يَقْصِدْ سُقُوطَ الْعِبَادَاتِ عَنْهُ ، وَلَيْسَ سُقُوطُ الْعِبَادَاتِ مِمَّا تَدْخُلُ فِيهِ الشَّهَادَاتُ فَضْلًا عَنْ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ بِتَزْوِيجِ زَيْدٍ الْمَرْأَةَ الْمُعَيَّنَةَ شَهَادَةٌ بِحُكْمٍ جُزْئِيٍّ عَلَى الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا الْمَشْهُودِ لَهُ وَهُوَ جُزْئِيٌّ ، وَإِنْ تَبِعَ ذَلِكَ

تَحْرِيمُهَا عَلَى غَيْرِهِ وَإِبَاحَةُ وَطْئِهَا لَهُ مَعَ أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالْإِبَاحَةَ شَأْنُهُمَا الرِّوَايَةُ دُونَ الشَّهَادَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النَّظَائِرِ فَقَدْ يَثْبُتُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ مَا لَا يَثْبُتُ مُتَأَصِّلًا فَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ فِي الضَّوَابِطِ الْمَذْكُورَةِ فِي الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ ، وَأَمَّا كَوْنُ الْأَرْضِ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا فَهَذَا لَمْ أَرَ لِأَصْحَابِنَا فِيهِ نَقْلًا فِيمَا أَظُنُّ .
وَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ إنَّهُ يَكْفِي فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ ، وَإِنَّهُ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ لِعَدَمِ الِاخْتِصَاصِ فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ، وَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ لِخُصُوصِ الْمَحْكُومِ فِيهِ وَهُوَ الْأَرْضُ فَإِنَّهَا جُزْئِيَّةٌ لَا يَتَعَدَّاهَا الْحُكْمُ إلَى غَيْرِهَا فَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهِمَا الشَّبَهَانِ ، وَأَمْكَنَ التَّرَدُّدُ وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْ النُّقُوضِ عَلَى الرِّوَايَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَخْرِيجُهَا وَالْجَوَابُ عَنْهَا .

قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( تَنْبِيهٌ : قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ قَالَ مَالِكٌ يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَصَّابِ إلَى قَوْلِهِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْفُرُوعِ الْمُتَرَدِّدَةِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ ) قُلْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ تَيْنِكَ الْقَاعِدَتَيْنِ فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْمَسْأَلَتَيْنِ قَبْلَهَا ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ مِنْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ مِمَّا هُوَ تَحْتَ يَدِهِ إنَّمَا الْمَعْنَى بِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ أَوْ مُصَدَّقٌ أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ بِرَفْعِ يَدِهِ عَنْهُ ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى بِذَلِكَ أَنَّهُ مُحِقٌّ عِنْدَنَا فِي دَعْوَاهُ ، وَمَسْأَلَةُ الْقَصَّابِ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بَلْ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْمَسْأَلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ تَرْكَهُ وَمَا يَدَّعِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مِلْكِ مَا تَحْتَ يَدِهِ ، بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْهَا هَلْ يُسْتَبَاحُ أَكْلُهَا بِنَاءً عَلَى خَبَرِهِ أَمْ لَا ، فَلَا أَعْلَمُ لِتَجْوِيزِ الِاسْتِبَاحَةِ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ إلَّا إلْجَاءَ الضَّرُورَةِ إلَى ذَلِكَ لِلُزُومِ الْمَشَقَّةِ عَنْ عَدَمِ التَّجْوِيزِ مَعَ نُدُورِ الْخُلُوِّ عَنْ الْقَرَائِنِ الْمُحَصِّلَةِ لِلظَّنِّ كَمَا سَبَقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( فَإِنْ قُلْتَ مَا قَرَّرْتَهُ مِنْ أَنَّ الشَّهَادَةَ حَقِيقَتُهَا التَّعَلُّقُ بِجُزْئِيٍّ ، وَالرِّوَايَةَ حَقِيقَتُهَا التَّعَلُّقُ بِكُلِّيٍّ لَا يَطَّرِدُ وَلَا يَنْعَكِسُ إلَى قَوْلِهِ وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْ النُّقُوضِ عَلَى الرِّوَايَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَخْرِيجُهَا وَالْجَوَابُ عَنْهَا ) قُلْت جَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ صَحِيحٌ غَيْرَ قَوْلِهِ فِي الْخَبَرِ بِالْعَنْوَةِ أَوْ الصُّلْحِ أَنَّ فِيهِ شِبْهَ الرِّوَايَةِ وَشِبْهَ الشَّهَادَةِ ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ فِيهِ شِبْهَ الرِّوَايَةِ دُونَ شِبْهِ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْخَبَرِ عَنْ وُقُوعِ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( مَسْأَلَةٌ ) : أَخْبَرَنِي بَعْضُ شُيُوخِي الْمُعْتَبَرِينَ أَنَّهُ رَأَى مَنْقُولًا أَنَّهُ إذَا رَوَى الْعَدْلُ الْعَبْدُ حَدِيثًا يَتَضَمَّنُ عِتْقَهُ أَنَّهُ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ فِيهِ وَإِنْ تَضَمَّنَتْ نَفْعُهُ ؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ مُوجِبٌ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ فِي الْخُصُوصِ مَعَ وَازِعِ الْعَدَالَةِ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُنَبِّهُ عَلَى أَنَّ بَابَ الرِّوَايَةِ بَعِيدٌ عَنْ التُّهَمِ جِدًّا ، وَأَنَّهُ سَبَبُ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي بَابِ الرِّوَايَةِ
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( مَسْأَلَةُ أَخْبَرَنِي بَعْضُ شُيُوخِي إلَخْ ) قُلْتُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ تَنْبِيهِهَا عَلَى أَنَّ بَابَ الرِّوَايَةِ تَبْعُدُ عَنْهُ التُّهَمُ صَحِيحٌ .

( مَسْأَلَةٌ ) : قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ إذَا تَعَارَضَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي الشَّهَادَةِ يُقْبَلُ التَّرْجِيحُ بِالْعَدَالَةِ وَهَلْ ذَلِكَ مُطْلَقًا أَوْ فِي أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ خَاصَّةً وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَوْ لَا يُقْضَى بِذَلِكَ مُطْلَقًا ثَلَاثُ أَقْوَالٍ ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحُكُومَاتِ إنَّمَا شُرِعَتْ لِدَرْءِ الْخُصُومَاتِ وَرَفْعِ التَّظَالُمِ وَالْمُنَازَعَاتِ ، فَلَوْ رَجَّحْنَا بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ لَأَمْكَنَ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ أَنَا أَزِيدُ فِي عَدَدِ بَيِّنَتِي فَنُمْهِلُهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِعَدَدٍ آخَرَ فَإِذَا أَتَى بِهِ قَالَ خَصْمُهُ : أَنَا أَزِيدُ فِي الْعَدَدِ الْأَوَّلِ فَنُمْهِلُهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِعَدَدٍ آخَرَ أَيْضًا فَيَطُولُ النِّزَاعُ ، وَيَنْتَشِرُ الشَّغَبُ وَيَبْطُلُ مَقْصُودُ الْحُكْمِ .
أَمَّا التَّرْجِيحُ بِالْأَعْدَلِيَّةِ فَلَا يُمَكِّنُ الْخَصْمَ أَنْ يَسْعَى فِي أَنْ تَصِيرَ بَيِّنَتُهُ أَعْدَلَ مِنْ بَيِّنَةِ خَصْمِهِ بِالدِّيَانَةِ وَالْعِلْمِ وَالْفَضِيلَةِ فَلَا تَنْتَشِرُ الْخُصُومَاتُ وَلَا يَطُولُ زَمَانُهَا لِانْسِدَادِ الْبَابِ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الْعَدَدُ فَلَيْسَ بَابُهُ مُنْسَدًّا فَيَقْدَرُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ وَلَوْ بِالزُّورِ وَالْحَاكِمُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ ، وَالْأَعْدَلِيَّةُ لَا تُسْتَفَادُ إلَّا مِنْ الْحَاكِمِ فَلَا تَسَلُّطَ لِلْخَصْمِ عَلَى زِيَادَتِهَا فَانْسَدَّ الْبَابُ .
( فَائِدَةٌ ) : الشَّهَادَةُ خَبَرٌ وَالرِّوَايَةُ خَبَرٌ وَالدَّعْوَى خَبَرٌ وَالْإِقْرَارُ خَبَرٌ وَالنَّتِيجَةُ خَبَرٌ وَالْمُقَدِّمَةُ خَبَرٌ وَالتَّصْدِيقُ خَبَرٌ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ وَبِأَيِّ شَيْءٍ تَتَمَيَّزُ مَعَ اشْتِرَاكِهَا كُلِّهَا فِي مُطْلَقِ الْخَبَرِيَّةِ .
وَالْجَوَابُ أَمَّا الشَّهَادَةُ وَالرِّوَايَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا ، وَإِمَّا الدَّعْوَى فَهِيَ خَبَرٌ عَنْ حَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُخْبِرِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَالْإِقْرَارُ خَبَرٌ عَنْ حَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُخْبِرِ وَيَضُرُّ بِهِ وَحْدَهُ عَكْسُ الدَّعْوَى الضَّارَّةِ لِغَيْرِهِ .
وَلِذَلِكَ أَنَّ

الْإِقْرَارَ مَتَى أَضَرَّ بِغَيْرِ الْمُخْبِرِ أَسْقَطْنَا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ كَإِقْرَارِهِ بِأَنَّ عَبْدَهُ وَعَبْدَ غَيْرِهِ حُرَّانِ ، وَيُسَمَّى الْإِقْرَارُ الْمُرَكَّبُ وَالنَّتِيجَةُ هِيَ خَبَرٌ نَشَأَ عَنْ دَلِيلٍ ، وَقَبْلَ أَنْ يَحْصُلَ عَلَيْهِ يُسَمَّى مَطْلُوبًا وَالْمُقَدِّمَةُ هِيَ خَبَرٌ هُوَ جُزْءُ دَلِيلٍ وَالتَّصْدِيقُ هُوَ الْقَدَرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ كُلِّهَا يُسَمَّى بِأَحْسَنِ عَارِضَيْهِ لَفْظًا ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ لِقَائِلِهِ صَدَقْتَ أَوْ كَذَبْتَ فَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُسَمَّى تَكْذِيبًا غَيْرَ أَنَّهُ سُمِّيَ بِأَحْسَنِ عَارِضَيْهِ لَفْظًا ( فَائِدَةٌ ) : مَعْنَى شَهِدَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ مُتَبَايِنَةٌ شَهِدَ بِمَعْنَى حَضَرَ وَمِنْهُ شَهِدَ بَدْرًا أَوْ شَهِدْنَا صَلَاةَ الْعِيدِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } قَالَ مَعْنَاهُ مَنْ حَضَرَ مِنْكُمْ الْمِصْرَ فِي الشَّهْرِ فَلْيَصُمْهُ ، أَوْ مَنْ حَضَرَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فِي الْمِصْرِ فَلْيَصُمْهُ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَا يَلْزَمُ الْمُسَافِرَ فَالْمَقْصُودُ إنَّمَا هُوَ الْحَاضِرُ الْمُقِيمُ فَهَذَا أَحَدُ مُسَمَّيَاتِ شَهِدَ ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي شَهِدَ بِمَعْنَى أَخْبَرَ وَمِنْهُ شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَيْ أَخْبَرَ بِمَا يَعْتَقِدُ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ وَعَلَيْهِ ، وَالْمَعْنَى الثَّالِثُ شَهِدَ بِمَعْنَى عَلِمَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أَيْ عَلِيمٌ وَوَقَعَ التَّرَدُّدُ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ذَلِكَ أَوْ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عِبَادَهُ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرَيْنِ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ مَعَانِي شَهِدَ .
( فَائِدَةٌ ) : مَعْنَى رَوَى حَمَلَ وَتَحَمَّلَ فَرَاوِي الْحَدِيثِ تَحَمَّلَهُ وَحَمَلَهُ عَنْ شَيْخِهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ إنَّ

إطْلَاقَ الرَّاوِيَةِ عَلَى الْمَزَادَةِ الَّتِي يُحْمَلُ فِيهَا الْمَاءُ عَلَى الْجَمَلِ مَجَازٌ مِنْ بَابِ مَجَازِ الْمُجَاوَرَةِ ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَةَ بِنَاءً مُبَالَغَةٌ لِمَنْ كَثُرَ مِنْهُ الْحَمْلُ وَاَلَّذِي يَحْمِلُ وَيَكْثُرُ مِنْهُ الْحَمْلُ إنَّمَا هُوَ الْجَمَلُ فَهَذَا الِاسْمُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ حَقِيقَةً وَلُغَةً الْجَمَلُ ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى الْمَزَادَةِ مَجَازٌ مِنْ بَابِ مَجَازِ الْمُجَاوَرَةِ لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجَمَلِ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ أَرْوَى الرُّبَاعِيِّ حَتَّى يَسْتَحِقَّهُ الْمَاءُ دُونَ الْجَمَلِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ مِنْهُ مَرْوَ لَا رَاوِيَةٌ ، وَإِنَّمَا يَأْتِي رَاوِيَةً مِنْ الثُّلَاثِيِّ فَهَذِهِ فَوَائِدُ لَفْظِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِلَفْظَيْ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ حَسُنَ ذِكْرُهَا بَعْدَ تَحْقِيقِ مَعْنَاهُمَا .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ : ( مَسْأَلَةُ قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ إذَا تَعَارَضَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي الشَّهَادَةِ يُقْبَلُ التَّرْجِيحُ بِالْعَدَالَةِ إلَى آخِرِ الْفَصْلِ ) قُلْت مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّرْجِيحِ بِالْعَدَالَةِ وَالتَّرْجِيحِ بِالْعَدَدِ ظَاهِرٌ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَذَكَرَ ثَلَاثَ فَوَائِدَ فِي اخْتِتَامِ هَذَا الْفَرْقِ وَمَا ذَكَرَهُ فِيهَا ظَاهِرٌ .

( تَتِمَّةٌ ) : فِي مُهِمَّيْنِ ( الْمُهِمُّ الْأَوَّلُ ) : إذَا تَعَارَضَتْ الْبَيِّنَاتُ فِي الشَّهَادَةِ فَفِي قَبُولِ التَّرْجِيحِ بِالْعَدَالَةِ مُطْلَقًا ثَالِثُهَا فِي أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ خَاصَّةً وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَقْوَالٌ لِأَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلَا تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ عَلَى الْمَشْهُورِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعَدَدَ لَيْسَ بَابُهُ مُنْسَدًّا فَيَقْدِرُ الْخَصْمُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ وَلَوْ بِالزُّورِ ، وَالْحَاكِمُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَلَوْ رَجَّحْنَا بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ لَطَالَ النِّزَاعُ وَانْتَشَرَ الشَّغَبُ وَبَطَلَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ بِشَرْعِ الْحُكُومَاتِ مِنْ دَرْءِ الْخُصُومَاتِ وَرَفْعِ الْمَظَالِمِ وَالْمُنَازَعَاتِ إذْ يُمْكِنُ لِلْخَصْمِ حِينَئِذٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا أَزِيدُ فِي عَدَدِ بَيِّنَتِي فَنُمْهِلُهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِعَدَدٍ آخَرَ فَإِذَا أَتَى بِهِ قَالَ خَصْمُهُ أَنَا أَزِيدُ فِي الْعَدَدِ الْأَوَّلِ فَنُمْهِلُهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِعَدَدٍ آخَرَ أَيْضًا ، وَهَكَذَا وَالْأَعْدَلِيَّةُ لَا تُسْتَفَادُ إلَّا مِنْ الْحَاكِمِ فَلَا تَسَلُّطَ لِلْخَصْمِ عَلَى زِيَادَتِهِ فَانْسَدَّ الْبَابُ ، وَلَمْ تَنْتَشِرْ الْخُصُومَاتُ وَلَمْ يَطُلْ زَمَانُهَا .
( الْمُهِمُّ الثَّانِي ) كَمَا أَنَّ كُلًّا مِنْ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ خَبَرٌ مُقَيَّدٌ بِمَا ذَكَرْنَا كَذَلِكَ الدَّعْوَى خَبَرٌ عَنْ حَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُخْبِرِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَالْإِقْرَارُ خَبَرٌ عَنْ حَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُخْبِرِ وَيُضَرُّ بِهِ وَحْدَهُ عَكْسُ الدَّعْوَى الضَّارَّةِ لِغَيْرِهِ وَلِذَلِكَ لَا نَعْتَبِرُ مِنْ الْإِقْرَارِ الْمُرَكَّبِ مِنْ إضْرَارِ الْمُخْبِرِ وَإِضْرَارِ غَيْرِهِ كَإِقْرَارِهِ بِأَنَّ عَبْدَهُ وَعَبْدَ غَيْرِهِ حُرَّانِ إلَّا الْوَجْهَ الْأَوَّلَ ، وَنُسْقِطُ مِنْهُ الْوَجْهَ الثَّانِيَ وَالنَّتِيجَةُ خَبَرٌ يَنْشَأُ عَنْ دَلِيلٍ وَقَبْلَ أَنْ يَنْشَأَ عَنْهُ يُسَمَّى مَطْلُوبًا وَالْمُقَدِّمَةُ خَبَرٌ هُوَ جُزْءُ دَلِيلٍ ، وَالتَّصْدِيقُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا ، وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُسَمَّى تَكْذِيبًا كَمَا يُسَمَّى تَصْدِيقًا ؛ لِأَنَّهُ

يُقَالُ لِقَائِلِهِ صَدَقْتَ أَوْ كَذَبْتَ إلَّا أَنَّهُ سُمِّيَ بِأَحْسَنِ عَارِضَيْهِ لَفْظًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّانِي بَيْنَ قَاعِدَتَيْ الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ ) الَّذِي هُوَ جِنْسُ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَالدَّعْوَى وَمَا ذَكَرَهَا مَعَهَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَمَّا الْخَبَرُ فَهُوَ الْمُحْتَمِلُ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ لِذَاتِهِ ، وَالتَّصْدِيقُ هُوَ قَوْلُنَا لَهُ صَدَقْتَ وَالتَّكْذِيبُ هُوَ قَوْلُنَا لَهُ كَذَبْتَ ، وَهُمَا غَيْرُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَإِنَّ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ هُوَ قَوْلٌ وُجُودِيٌّ مَسْمُوعٌ وَالصِّدْقُ يَرْجِعُ إلَى مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ ، وَالْكَذِبُ يَرْجِعُ إلَى عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ فَهُمَا نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ وَالنِّسَبُ وَالْإِضَافَاتُ عَدَمِيَّةٌ فَوَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ إنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ هُوَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ فِي التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ ؛ لِأَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ تَابِعٌ لِلْخَبَرِ وَالتَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ تَابِعٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَيَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَرْقَ مَا بَيْنَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَالْخَبَرِ وَالْمُتَعَلِّقِ وَالْمُتَعَلَّقِ بِهِ .
وَقَوْلُنَا لِذَاتِهِ احْتِرَازٌ مِنْ تَعَذُّرِ الصِّدْقِ أَوْ الْكَذِبِ فِيهِ لِأَجْلِ الْمُخْبَرِ بِهِ أَوْ الْمُخْبَرِ عَنْهُ ، فَالْأَوَّلُ كَخَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ خَبَرِ مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْكَذِبَ ، وَالثَّانِي كَقَوْلِنَا الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْكَذِبَ أَوْ الْوَاحِدُ نِصْفُ الْعَشَرَةِ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ الصِّدْقَ ، وَلَكِنْ جَمِيعُ هَذِهِ الْإِخْبَارَاتِ بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِهَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْمُخْبَرِ بِهِ أَوْ الْمُخْبَرِ عَنْهُ تَقْبَلُهُمَا مِنْ حَيْثُ هِيَ إخْبَارٌ ، فَهَذَا هُوَ حَدُّ الْخَبَرِ الضَّابِطِ لَهُ فَإِنْ قُلْتَ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ ضِدَّانِ وَالضِّدَّانِ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمَا فَلَا يَقْبَلُ مَحِلُّهُمَا إلَّا أَحَدَهُمَا أَمَّا هُمَا مَعًا فَلَا ، وَإِذَا كَانَ الْمَحِلُّ لَا يَقْبَلُ إلَّا أَحَدَهُمَا كَانَ الْمُتَعَيَّنُ فِي الْحَدِّ هُوَ صِيغَةُ أَوْ الَّتِي هِيَ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ دُونَ الْوَاوِ

الَّتِي هِيَ لِلشَّيْئَيْنِ مَعًا ، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ ، وَلِأَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ نَوْعَانِ لِلْخَبَرِ ، وَالنَّوْعُ لَا يُعْرَفُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْجِنْسِ فَلَوْ عُرِفَ الْجِنْسُ بِهِ لَزِمَ الدَّوْرُ .
قُلْت : الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صِيغَةِ الْوَاوِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَنَافِي الْمَقْبُولَيْنِ تَنَافِي الْقَبُولَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُمْكِنَ قَابِلٌ لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ لِذَاتِهِ ، وَهُمَا نَقِيضَانِ مُتَنَافِيَانِ وَالْقَبُولَانِ يَجِبُ اجْتِمَاعُهُمَا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ أَحَدُ الْقَبُولَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لَلَزِمَ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ الْقَبُولِ ثُبُوتُ اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ الْمَقْبُولِ الْآخَرِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُسْتَحِيلُ هُوَ الْوُجُودُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُمْكِنُ مُسْتَحِيلًا وَالْمُقَرَّرُ أَنَّهُ مُمْكِنٌ هَذَا خُلْفٌ .
وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحِيلُ هُوَ الْعَدَمُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُمْكِنُ وَاجِبَ الْوُجُودِ لَا مُمْكِنَ الْوُجُودِ هَذَا خُلْفٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِمْكَانُ إلَّا بِاجْتِمَاعِ الْقَبُولَيْنِ وَإِنْ تَنَافَى الْمَقْبُولَانِ فَتَتَعَيَّنُ الْوَاوُ ، وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ الَّتِي وَقَعَتْ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْتِبَاسُ الْقَبُولَيْنِ بِالْمَقْبُولَيْنِ ، وَأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَعَذُّرِ اجْتِمَاعِ الْمَقْبُولَيْنِ تَعَذُّرُ اجْتِمَاعِ الْقَبُولَيْنِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلِذَلِكَ نَقُولُ كُلُّ جِسْمٍ قَابِلٍ لِجَمِيعِ الْأَضْدَادِ وَقُبُولَاتُهُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةٌ لَهُ ، وَإِنَّمَا الْمُتَعَاقِبَةُ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ هِيَ الْمَقْبُولَاتُ لَا الْقُبُولَاتُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ ، وَيَتَقَوَّى ذَلِكَ وَيَتَّضِحُ بِأَنَّ الْإِمْكَانَ وَالْوُجُوبَ وَالِاسْتِحَالَةَ أَحْكَامٌ وَاجِبَةُ الثُّبُوتِ لِمَحَالِّهَا لَازِمَةٌ لَهَا ، وَالْإِلْزَامُ انْقِلَابُ الْمُمْكِنِ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحِيلًا وَبِالْعَكْسِ ، وَذَلِكَ مُحَالٌ وَإِذَا كَانَتْ لَازِمَةً لِمَحَالِّهَا وَاللَّازِمُ لَا يُفَارِقُ الْمَلْزُومَ

فَالْمَقْبُولَاتُ لَا تُفَارِقُهَا فَهِيَ مُجْتَمِعَةٌ فِيهَا وَالْجَوَابُ عَنْ الثَّانِي أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَدِّ إنَّمَا هُوَ شَرْحُ لَفْظِ الْمَحْدُودِ وَبَيَانُ نِسْبَتِهِ إلَيْهِ فَإِنَّ قَوْلَنَا الْإِنْسَانُ هُوَ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ حَدٌّ صَحِيحٌ مَعَ أَنَّ السَّامِعَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْحَيَوَانِ وَبِالنَّاطِقِ إلَّا لَكَانَ حَدُّنَا وَقَعَ بِالْمَجْهُولِ ، وَالتَّحْدِيدُ بِالْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ فَهُوَ حِينَئِذٍ عَالِمٌ بِالْحَيَوَانِ وَبِالنَّاطِقِ وَمَتَى كَانَ عَالِمًا بِهِمَا كَانَ عَالِمًا بِالْإِنْسَانِ ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْإِنْسَانِ إلَّا هُمَا ، وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْإِنْسَانِ تَعَيَّنَ انْصِرَافُ التَّعْرِيفِ وَالْحَدِّ إلَى بَيَانِ نِسْبَةِ اللَّفْظِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَمِعَ لَفْظَ الْإِنْسَانِ فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ مُسَمًّى مَا مُجْمَلًا لَمْ يَعْلَمْ تَفْصِيلَهُ فَبَسَطْنَا نَحْنُ ذَلِكَ الْمُسَمَّى أَوْ قُلْنَا لَهُ هُوَ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ الَّذِي أَنْتَ تَعْرِفُهُ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِالْحَدِّ إلَّا بَيَانُ نِسْبَةِ اللَّفْظِ وَخُرُوجُهُ مِنْ حَيِّزِ الْإِجْمَالِ إلَى حَيِّزِ التَّفْصِيلِ وَالْبَيَانِ كَذَلِكَ هَاهُنَا يَعْلَمُ السَّامِعُ مَعْنَى التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ ، وَلَا يَعْلَمُ مَدْلُولَ لَفْظِ الْخَبَرِ فَبَسَطْنَاهُ نَحْنُ لَهُ وَفَصَّلْنَاهُ وَقُلْنَا لَهُ مَدْلُولُ هَذَا اللَّفْظِ هُوَ الَّذِي يَدْخُلُهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ اللَّذَانِ تَعْرِفُهُمَا فَانْشَرَحَ لَهُ مَا كَانَ مُجْمَلًا .
وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي حَدِّ الْحَدِّ هُوَ الْقَوْلُ الشَّارِحُ وَعَلَى هَذَا يَزُولُ الدَّوْرُ عَنْ جَمِيعِ الْحُدُودِ إذَا كَانَ مُدْرَكُهَا هَذَا الْمُدْرَكَ نَحْوَ قَوْلِهِمْ الْعِلْمُ مَعْرِفَةُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ مَعَ تَوَقُّفِ الْمَعْلُومِ عَلَى الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْهُ ، وَالْأَمْرُ هُوَ الْقَوْلُ الْمُقْتَضِي طَاعَةَ الْمَأْمُورِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَعَ أَنَّ الْمَأْمُورَ وَالْمَأْمُورَ بِهِ مُشْتَقَّانِ مِنْ الْأَمْرِ فَهَذَا آخِرُ الْقَوْلِ فِي حَدِّ الْخَبَرِ .
وَأَمَّا حَدُّ الْإِنْشَاءِ وَبَيَانُ حَقِيقَتِهِ فَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي

بِحَيْثُ يُوجَدُ بِهِ مَدْلُولُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ مُتَعَلِّقُهُ فَقَوْلُنَا يُوجَدُ بِهِ مَدْلُولُهُ احْتِرَازٌ مِمَّا إذَا قَالَ قَائِلٌ السَّفَرُ عَلَيَّ وَاجِبٌ فَيُوجِبُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ عُقُوبَةً لَهُ فَإِنَّ الْوُجُوبَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا اللَّفْظِ بَلْ بِإِيجَابِ الشَّارِعِ بِخِلَافِ إزَالَةِ الْعِصْمَةِ بِالطَّلَاقِ وَالْمِلْكِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْإِنْشَاءِ فَإِنَّهَا تُوجِبُ مَدْلُولَاتِهَا .
وَإِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِهَا نِيَّةٌ وَلَا أَمْرٌ آخَرُ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ وَقَوْلُنَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي بِحَيْثُ يُوجَدُ ، وَلَمْ نَقُلْ يُوجَبُ احْتِرَازٌ مِنْ صِيَغِ الْإِنْشَاءِ إذَا صَدَرَتْ مِنْ سَفِيهٍ أَوْ فَاقِدِ الْأَهْلِيَّةِ فَإِنَّهَا فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَدْلُولُهَا ، وَلَا تُوجِبُ حُكْمًا وَلَكِنْ ذَلِكَ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهَا لَكِنَّهَا بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِهَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ تُوجَدُ مَدْلُولَاتُهَا فَلِذَلِكَ قُلْنَا بِحَيْثُ يُوجَدُ أَيْ شَأْنُهَا ذَلِكَ مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ أَوْ يُعَارِضُ مُعَارِضٌ وَقَوْلُنَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ احْتِرَازٌ مِنْ الْخَبَرِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ مَدْلُولَهُ فِي اعْتِقَادِ السَّامِعِ فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ قَامَ زَيْدٌ أَفَادَنَا هَذَا الْقَوْلُ اعْتِقَادَ أَنَّهُ قَامَ ، وَلَمْ يُفِدْ هَذَا الْقَوْلُ الْقِيَامَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِخِلَافِ صِيَغِ الْإِنْشَاءِ فَإِنَّهَا تُفِيدُ مَدْلُولَاتِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَفِي اعْتِقَادِ السَّامِعِ فَصَارَتْ خَصِيصَتُهَا هِيَ الْإِفَادَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَمَّا فِي اعْتِقَادِ السَّامِعِ فَهُوَ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخَبَرِ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ التَّمْيِيزُ ، وَقَوْلُنَا أَوْ مُتَعَلِّقُهُ لِتَنْدَرِجَ الْإِنْشَاءَاتُ بِكَلَامِ النَّفْسِ فَإِنَّ كَلَامَ النَّفْسِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ وَلَا مَدْلُولَ ، وَإِنَّمَا فِيهِ مُتَعَلِّقٌ وَمُتَعَلَّقٌ خَاصَّةً وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَسَائِلِ الْإِنْشَاءِ فَيَقَعُ الْفَرْقُ عَلَى هَذَا الْبَيَانِ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ .

وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ سَبَبٌ لِمَدْلُولِهِ وَالْخَبَرَ لَيْسَ سَبَبًا لِمَدْلُولِهِ فَإِنَّ الْعُقُودَ أَسْبَابٌ لِمَدْلُولَاتِهَا وَمُتَعَلِّقَاتهَا بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْإِنْشَاءَاتِ يَتْبَعُهَا مَدْلُولُهَا ، وَالْأَخْبَارُ تَتْبَعُ مَدْلُولَاتِهَا أَمَّا تَبَعِيَّةُ مَدْلُولِ الْإِنْشَاءَاتِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ وَالْمِلْكَ مَثَلًا إنَّمَا يَقَعَانِ بَعْدَ صُدُورِ صِيغَةِ الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ .
وَأَمَّا أَنَّ الْخَبَرَ تَابِعٌ لِمُخْبِرِهِ فَنَعْنِي بِالتَّبَعِيَّةِ أَنَّهُ تَابِعٌ لِتَقَرُّرِ مُخْبِرِهِ فِي زَمَانِهِ مَاضِيًا كَانَ أَوْ حَاضِرًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا فَقَوْلُنَا قَامَ زَيْدٌ تَبَعٌ لِقِيَامِهِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي ، وَقَوْلُنَا هُوَ قَائِمٌ تَبَعٌ لِقِيَامِهِ فِي الْحَالِ ، وَقَوْلُنَا سَيَقُومُ السَّاعَةَ تَبَعٌ لِتَقَرُّرِ قِيَامِهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّبَعِيَّةِ التَّبَعِيَّةَ فِي الْوُجُودِ ، وَإِلَّا لَمَا صُدِّقَ ذَلِكَ إلَّا فِي الْمَاضِي فَقَطْ فَإِنَّ الْحَاضِرَ مُقَارِنٌ فَلَا تَبَعِيَّةَ لِحُصُولِ الْمُسَاوَاةِ وَالْمُسْتَقْبَلُ وُجُودُهُ بَعْدَ الْخَبَرِ فَكَانَ مَتْبُوعًا لَا تَابِعًا فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ مَعْنَى قَوْلِ الْفُضَلَاءِ : الْخَبَرُ تَابِعٌ لِمُخْبِرِهِ ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ : الْعِلْمُ تَابِعٌ لِمَعْلُومِهِ أَيْ تَابِعٌ لِتَقَرُّرِهِ فِي زَمَانِهِ مَاضِيًا كَانَ الْمَعْلُومُ أَوْ حَاضِرًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا فَإِنَّا نَعْلَمُ الْحَاضِرَاتِ وَالْمُسْتَقْبِلَات كَمَا نَعْلَمُ الْمَاضِيَاتِ ، وَالْعِلْمُ فِي الْجَمِيعِ تَبَعٌ لِمَعْلُومِهِ فَالْعِلْمُ بِأَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ غَدًا فَرْعٌ وَتَابِعٌ لِتَقَرُّرِ طُلُوعِهَا فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْإِنْشَاءَ لَا يَقْبَلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا صَدَقَ وَلَا كَذَبَ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ طَلَاقِ امْرَأَتِهِ .
وَكَذَلِكَ لِمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْإِنْشَاءِ بِخِلَافِ الْخَبَرِ فَإِنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّصْدِيقِ

وَالتَّكْذِيبِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي حَدِّ الْخَبَرِ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ لَا يَقَعُ إلَّا مَنْقُولًا عَنْ أَصْلِ الْوَضْعِ فِي صِيَغِ الْعُقُودِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا ، وَقَدْ يَقَعُ إنْشَاءٌ فِي الْوَضْعِ الْأَوَّلِ كَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَإِنَّهَا تُنْشِئُ الطَّلَبَ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ الْأَوَّلِ ، وَالْخَبَرُ يَكْفِي فِيهِ الْوَضْعُ الْأَوَّلُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ فَقَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَا يُفِيدُ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ بَلْ أَصْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ طَلَاقِهَا ثَلَاثًا ، وَأَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ كَمَا يَتَّفِقُ لَهُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ إذَا سَأَلَتْهُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَيَقُولُ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إعْلَامًا لَهَا بِتَقَدُّمِ الطَّلَاقِ فَهَذَا هُوَ أَصْلُ الصِّيغَةِ ، وَإِنَّمَا صَارَتْ تُفِيدُ الطَّلَاقَ بِسَبَبِ النَّقْلِ الْعُرْفِيِّ عَنْ الْإِخْبَارِ إلَى الْإِنْشَاءِ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ هَذِهِ الصِّيَغِ ( تَنْبِيهٌ ) : اعْتَقَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ قَوْلَنَا فِي حَدِّ الْخَبَرِ أَنَّهُ الْمُحْتَمِلُ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ لَهُمَا اسْتَفَادَهُ الْخَبَرُ مِنْ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ ، وَأَنَّ الْوَضْعَ اقْتَضَى ذَلِكَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَا يَحْتَمِلُ الْخَبَرُ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ إلَّا الصِّدْقَ خَاصَّةً وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعَرَبَ إنَّمَا وَضَعَتْ الْخَبَرَ لِلصِّدْقِ دُونَ الْكَذِبِ لِإِجْمَاعِ النُّحَاةِ وَالْمُتَحَدَّثِينَ عَلَى اللِّسَانِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا قَامَ زَيْدٌ حُصُولُ الْقِيَامِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ مَعْنَاهُ صُدُورُ الْقِيَامِ أَوْ عَدَمُهُ بَلْ جَزَمَ الْجَمِيعُ بِالصُّدُورِ .
وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ الْمُسْتَقْبَلَةِ نَحْوَ قَوْلِنَا سَيَقُومُ زَيْدٌ مَعْنَاهُ صُدُورُ الْقِيَامِ عَنْهُ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ عَيْنًا لَا أَنَّ مَعْنَاهُ صُدُورُ الْقِيَامِ أَوْ عَدَمُهُ ، وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْفَاعِلِينَ وَالْمَفْعُولِينَ كَقَوْلِنَا

زَيْدٌ قَائِمٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْقِيَامِ عَيْنًا ، وَكَذَلِكَ الْمَجْرُورَاتُ نَحْوَ زَيْدٌ فِي الدَّارِ مَعْنَاهُ لُغَةً اسْتِقْرَارُهُ فِيهَا دُونَ عَدَمِ اسْتِقْرَارِهِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ اثْنَانِ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ فَعَلِمْنَا أَنَّ اللُّغَةَ إنَّمَا هِيَ الصِّدْقُ دُونَ الْكَذِبِ فَإِنْ قُلْتَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِكُمْ : إنَّهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ الَّذِي اقْتَضَى أَنَّ الصِّدْقَ مُتَعَيَّنٌ لَهُ فَلَا يَحْتَمِلُ إلَّا إيَّاهُ قُلْتُ : مَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ يَأْتِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَا مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يَسْتَعْمِلُهُ صِدْقًا عَلَى وَفْقِ الْوَضْعِ وَقَدْ يَسْتَعْمِلُهُ كَذِبًا عَلَى خِلَافِ مُطَابَقَةِ الْوَضْعِ ، وَقَوْلُنَا فِي الشَّيْءِ إنَّهُ يَحْتَمِلُ الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ يَحْتَمِلُهُ مِنْ جِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ مُعَيَّنَةٍ ، بَلْ إذَا احْتَمَلَهُ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ فَقَدْ احْتَمَلَهُ فَإِذَا احْتَمَلَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ فَقَدْ احْتَمَلَهُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ كَقَوْلِنَا فِي الْمُمْكِنِ إنَّهُ قَابِلٌ لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ لَا نُرِيدُ أَنَّهُ يَقْبَلُ الْوُجُودَ مِنْ سَبَبٍ مُعَيَّنٍ بَلْ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ وَأَيِّ سَبَبٍ كَانَ كَذَلِكَ هَاهُنَا ، وَنَظِيرُ قَوْلِنَا فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ قَوْلُنَا فِي الْكَلَامِ إنَّهُ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ ، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ لَيْسَ مِنْ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ ، وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ فَالْمَجَازُ وَالْكَذِبُ إنَّمَا يَأْتِيَانِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَا مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ ، وَاَلَّذِي لِلْوَضْعِ هُوَ الصِّدْقُ وَالْحَقِيقَةُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ .
( تَنْبِيهٌ ) : قَوْلُنَا فِي حَدِّ الْخَبَرِ إنَّهُ الْمُحْتَمِلُ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ لَا يَشْتَرِطُونَ فِي حَقِيقَةِ الْكَذِبِ الْقَصْدَ إلَيْهِ بَلْ يَكْتَفُونَ بِعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ .
وَقَالَ الْجَاحِظُ وَغَيْرُهُ يُشْتَرَطُ فِي

حَقِيقَةِ الْكَذِبِ الْقَصْدُ إلَيْهِ وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فَعَلَى رَأْيِ هَؤُلَاءِ يَنْقَسِمُ الْخَبَرُ إلَى صِدْقٍ وَهُوَ الْمُطَابِقُ وَكَذِبٍ وَهُوَ غَيْرُ الْمُطَابِقِ الَّذِي قُصِدَ إلَى عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ وَإِلَى مَا لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ وَهُوَ غَيْرُ الْمُطَابِقِ الَّذِي لَمْ يُقْصَدْ إلَى عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ فَهَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ لَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ صِدْقًا وَلَا كَذِبًا وَلَا يَحْتَمِلُهُمَا مَعَ أَنَّهُ خَبَرٌ فَيَصِيرُ الْحَدُّ غَيْرَ جَامِعٍ عِنْدَهُمْ فَيَكُونُ فَاسِدًا لَنَا .
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ } فَجَعَلَهُ إذَا حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَهُ كَاذِبًا ؛ لِأَنَّهُ فِيهِ غَيْرُ مُطَابِقٍ فِي الْغَالِبِ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْرِفْهُ حَتَّى يَقْصِدَ إلَيْهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْقَصْدِ فِي الْكَذِبِ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } مَفْهُومُهُ أَنَّ مَنْ كَذَبَ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ لَا يَسْتَحِقُّ النَّارَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَصَوُّرِ حَقِيقَةِ الْكَذِبِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهِ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ } فَقَسَّمَ الْكُفَّارُ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى الْكَذِبِ وَإِلَى الْجُنُونِ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ مَعَهُ الْقَصْدُ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ عَدَمَ الْمُطَابَقَةِ فِي الْقِسْمَيْنِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى كَذِبًا إلَّا إذَا قُصِدَ لِعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ .
وَالْجَوَابُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ قَسَّمُوا قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى مُطْلَقِ الْكَذِبِ وَالْجُنُونِ بَلْ إلَى الِافْتِرَاءِ وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الْكَذِبِ فَإِنَّ الْكَذِبَ قَدْ يَكُونُ مُخْتَرَعًا مِنْ جِهَةِ الْكَاذِبِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ غَيْرِهِ فَهَذَا هُوَ الِافْتِرَاءُ وَمَا تَبِعَ فِيهِ غَيْرَهُ لَا يُقَالُ لَهُ افْتِرَاءٌ فَهُمْ قَسَّمُوا الْكَذِبَ إلَى نَوْعَيْهِ الْمُفْتَرَى وَغَيْرِهِ لَا أَنَّهُمْ قَسَّمُوا الْكَلَامَ إلَى

الْكَذِبِ وَغَيْرِهِ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْخَصْمِ ، وَهَذَا كَقَوْلِنَا فِي زَيْدٍ هُوَ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ أَمْ لَمْ يَتَعَمَّدْهُ أَوْ نَقُولُ هُوَ ابْتَدَأَ هَذَا الْكَذِبَ وَتَعَمَّدَهُ أَوْ اتَّبَعَ فِيهِ غَيْرَهُ أَوْ نَطَقَ بِهِ غَفْلَةً مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا صَرَّحَ بِمِثْلِ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَصْدِ فِي حَقِيقَةِ الْكَذِبِ .
.

قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( الْفَرْقُ الثَّانِي بَيْنَ قَاعِدَتَيْ الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ ، ثُمَّ قَالَ أَمَّا الْخَبَرُ فَهُوَ الْمُحْتَمِلُ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ لِذَاتِهِ ، وَالتَّصْدِيقُ هُوَ قَوْلُنَا صَدَقْتَ وَالتَّكْذِيبُ هُوَ قَوْلُنَا كَذَبْتَ ، وَهُمَا غَيْرُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَإِنَّ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ قَوْلٌ وُجُودِيٌّ مَسْمُوعٌ ، وَالصِّدْقُ يَرْجِعُ إلَى مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ ، وَالْكَذِبُ يَرْجِعُ إلَى عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ فَهُمَا نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ وَالنِّسَبُ وَالْإِضَافَاتُ عَدَمِيَّةٌ فَوَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالْوُجُودِ وَالْعَدَمِ .
وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ إنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ هُوَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ فِي التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ فَيَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَرْقَ مَا بَيْنَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَالْخَبَرِ وَالْمُتَعَلِّقِ وَالْمُتَعَلَّقِ بِهِ ، وَقَوْلُنَا لِذَاتِهِ احْتِرَازٌ مِنْ تَعَذُّرِ الصِّدْقِ أَوْ الْكَذِبِ فِيهِ لِأَجْلِ الْمُخْبَرِ بِهِ أَوْ الْمُخْبَرِ عَنْهُ ، فَالْأَوَّلُ كَخَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ خَبَرِ مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْكَذِبَ ، وَالثَّانِي كَقَوْلِنَا الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْكَذِبَ ، أَوْ الْوَاحِدُ نِصْفُ الْعَشَرَةِ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ الصِّدْقَ ، وَلَكِنْ جَمِيعُ هَذِهِ الْإِخْبَارَاتِ بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِهَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْمُخْبَرِ بِهِ أَوْ الْمُخْبَرِ عَنْهُ تَقْبَلُهُمَا مِنْ حَيْثُ هِيَ أَخْبَارٌ ، فَهَذَا هُوَ حَدُّ الْخَبَرِ الضَّابِطُ لَهُ ) قُلْتُ : تَفْرِيقُهُ بَيْنَ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ بِأَنَّ أَوَّلَهُمَا وُجُودِيٌّ وَالْآخَرَ عَدَمِيٌّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إضَافِيٌّ غَفْلَةٌ شَدِيدَةٌ ، وَهَلْ مَا يَلْحَقُ خَبَرَ الْمُخْبِرِ مِنْ تَصْدِيقِ الْمُصَدَّقِ أَوْ تَكْذِيبِ الْمُكَذَّبِ إلَّا أَمْرٌ إضَافِيٌّ ، وَهَلْ خَبَرُ الْمُخْبِرِ إلَّا مُتَعَلِّقٌ لِتَصْدِيقِ الْمُصَدَّقِ أَوْ تَكْذِيبِ الْمُكَذَّبِ وَمُتَعَلِّقَاتُ الْكَلَامِ بِأَسْرِهَا لَا يَلْحَقُهَا مِنْ الْكَلَامِ إلَّا أَمْرٌ إضَافِيٌّ ، فَقَدْ وَقَعَ

فِيمَا مِنْهُ فَرْقٌ ، وَقَوْلُهُ فَإِنَّ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ قَوْلٌ وُجُودِيٌّ مَسْمُوعٌ لَا يُفِيدُهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَوْجُودًا فِي خَبَرِ الْمُخْبِرِ فَيَكُونُ وَصْفًا حَقِيقِيًّا لِلْخَبَرِ بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي لِسَانِ الْمُصَدَّقِ وَالْمُكَذَّبِ .
وَمَا وُجُودُهُ فِي غَيْرِ الْمَحْدُودِ لَا يَصْلُحُ لِلتَّحْدِيدِ بِهِ ، بَلْ الصَّحِيحُ حَدُّ الْخَبَرِ أَوْ رَسْمُهُ بِأَنَّهُ قَوْلٌ يَلْزَمُهُ الصِّدْقُ أَوْ الْكَذِبُ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ ، وَقَدْ يَنْفَكُّ عَنْ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ الْمَسْمُوعَيْنِ لَنَا إمَّا لِلْغَفْلَةِ عَنْ سَمَاعِ الْخَبَرِ ، وَإِمَّا لِلْإِضْرَابِ عَنْ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ مَعَ سَمَاعِ الْخَبَرِ ، وَإِمَّا لِعَدَمِ الْمُوجِبِ لِرُجْحَانِ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ عِنْدَ السَّمَاعِ ، وَالْحَدُّ وَالرَّسْمُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِمَا هُوَ لَازِمٌ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ اللَّازِمُ وَصْفًا حَقِيقِيًّا ذَاتِيًّا فَالْقَوْلُ الْمُتَضَمِّنُ لَهُ حَدٌّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَاتِيًّا فَالْقَوْلُ الْمُتَضَمِّنُ لَهُ رَسْمٌ ، وَقَوْلُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ إنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ هُوَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ فِي التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ قُلْت فَإِذَا كَانَ صِدْقُ الْخَبَرِ أَوْ كَذِبُهُ مُتَعَلِّقُ التَّصْدِيقِ أَوْ التَّكْذِيبِ ، فَالصِّدْقُ وَالْكَذِبُ أَسْبَقُ لُحُوقًا بِالْخَبَرِ الْمُصَدَّقِ أَوْ الْمُكَذَّبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ كَوْنَهُ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا هُوَ السَّبَبُ فِي تَصْدِيقِهِ أَوْ تَكْذِيبِهِ ، فَقَدْ لَزِمَهُ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا الِاعْتِرَافُ بِأَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ أَوْلَى بِالْخَبَرِ وَأَحَقُّ مِنْ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ ، وَأَنَّ التَّصْدِيقَ أَوْ التَّكْذِيبَ إنَّمَا لَحِقَاهُ لِصِدْقِهِ أَوْ كَذِبِهِ ، وَقَدْ نَصَّ هُوَ بَعْدَ هَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَيَّلَ بِهَا الْكَلَامَ عَلَى الْخَبَرِ عَلَى أَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ خَصِيصَةٌ مِنْ خَصَائِصِ الْخَبَرِ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَكَلَامُهُ كُلُّهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ ضَعِيفٌ سَاقِطٌ وَاضِحُ الضَّعْفِ وَالسُّقُوطِ .
وَقَوْلُهُ وَقَوْلُنَا لِذَاتِهِ احْتِرَازٌ مِنْ

تَعَذُّرِ الصِّدْقِ أَوْ الْكَذِبِ فِيهِ لِأَجْلِ الْمُخْبَرِ بِهِ أَوْ الْمُخْبَرِ عَنْهُ إلَى آخِرِ الْفَصْلِ قُلْت قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَوْلَى الْحَدُّ أَوْ الرَّسْمُ بِأَنَّ الْخَبَرَ قَوْلٌ يَلْزَمُهُ الصِّدْقُ أَوْ الْكَذِبُ ، وَلُزُومُ أَحَدِهِمَا لَهُ لَا يُمْكِنُ سَوَاءً فَقَوْلُهُ لِذَاتِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ ، وَقَوْلُهُ احْتِرَازٌ مِنْ تَعَذُّرِ الصِّدْقِ أَوْ الْكَذِبِ فِيهِ لِأَجْلِ الْمُخْبَرِ بِهِ أَوْ الْمُخْبَرِ عَنْهُ قُلْت : إذَا حُدَّ أَوْ رُسِمَ بِلُزُومِ الصِّدْقِ أَوْ الْكَذِبِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى التَّحَرُّزِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَإِنَّمَا حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ حَدُّهُ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ الْقَوْلُ الْمُحْتَمِلُ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ ، وَقَوْلُهُ لَكِنْ جَمِيعُ هَذِهِ الْإِخْبَارَاتِ بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِهَا تَقْبَلُهُمَا مِنْ حَيْثُ هِيَ أَخْبَارٌ قُلْت هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ قَبُولِ الْخَبَرِ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَبَرٌ مُقْتَضَاهُ أَنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ هُوَ خَبَرٌ يَقْبَلُ الْكَذِبَ لِذَاتِهِ ، وَمَا هُوَ ذَاتِيٌّ لَا يَتَبَدَّلُ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ خَبَرُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقْبَلَ الْكَذِبَ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ : الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقْبَلَ الْكَذِبَ ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَبُولِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ كَالْجَوْهَرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَبُولِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَسَائِرِ الْأَلْوَانِ ، فَإِنَّ الْخَبَرَ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا يَعْرَى أَلْبَتَّةَ عَنْ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا فَمَا ثَبَتَ صِدْقُهُ لَا يَصِحُّ كَذِبُهُ بَعْدُ ، وَمَا ثَبَتَ كَذِبُهُ لَا يَصِحُّ صِدْقُهُ بَعْدُ لِاسْتِحَالَةِ ارْتِفَاعِ الْوَاقِعِ ، وَالْجَوْهَرُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عُرْوَةً جَائِزًا ، وَإِمَّا مُمْتَنِعًا وَإِمَّا مَشْكُوكًا عَلَى حَسَبِ اضْطِرَابِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ ، وَمَا ثَبَتَ سَوَادُهُ يَصِحُّ بَيَاضُهُ بَعْدُ ، وَمَا ثَبَتَ بَيَاضُهُ يَصِحُّ سَوَادُهُ بَعْدُ ، فَمَا قَالَهُ هُنَا لَيْسَ

بِصَحِيحٍ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ : ( فَإِنْ قُلْت الصِّدْقُ وَالْكَذِبَ ضِدَّانِ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمَا فَلَا يَقْبَلُ مَحِلُّهُمَا إلَّا أَحَدَهُمَا ، وَإِذَا كَانَ لَا يَقْبَلُ إلَّا أَحَدَهُمَا كَانَ الْمُتَعَيَّنُ فِي الْحَدِّ صِيغَةً ) أَوْ دُونَ الْوَاوِ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ ، وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ ، وَلِأَنَّ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ نَوْعَانِ لِلْخَبَرِ .
وَالنَّوْعُ لَا يُعْرَفُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْجِنْسِ فَلَوْ عُرِفَ الْجِنْسُ بِهِ لَزِمَ الدَّوْرُ .
قَالَ قُلْت الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي ؛ ( لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَنَافِي الْمَقْبُولَيْنِ تَنَافِي الْقَبُولَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُمْكِنَ قَابِلٌ لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ لِذَاتِهِ ، وَهُمَا نَقِيضَانِ مُتَنَافِيَانِ وَالْقَبُولَانِ يَجِبُ اجْتِمَاعُهُمَا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ أَحَدُ الْقَبُولَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لَلَزِمَ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ الْقَبُولِ ثُبُوتُ اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ الْمَقْبُولِ الْآخَرِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُسْتَحِيلُ هُوَ الْوُجُودُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُمْكِنُ مُسْتَحِيلًا ، وَالْمُقَرَّرُ أَنَّهُ مُمْكِنٌ هَذَا خُلْفٌ وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحِيلُ هُوَ الْعَدَمُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُمْكِنُ وَاجِبَ الْوُجُودِ لَا مُمْكِنَ الْوُجُودِ هَذَا خُلْفٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِمْكَانُ إلَّا بِاجْتِمَاعِ الْقَبُولَيْنِ وَإِنْ تَنَافَى الْمَقْبُولَانِ فَتَتَعَيَّنُ الْوَاوُ ، وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ الَّتِي وَقَعَتْ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْتِبَاسُ الْقَبُولَيْنِ بِالْمَقْبُولَيْنِ ، وَأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَعَذُّرِ اجْتِمَاعِ الْمَقْبُولَيْنِ تَعَذُّرُ اجْتِمَاعِ الْقَبُولَيْنِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلِذَلِكَ نَقُولُ كُلُّ جِسْمٍ قَابِلٌ لِجَمِيعِ الْأَضْدَادِ وَقُبُولَاتُهَا كُلُّهَا مُجْتَمِعَةٌ لَهُ ، وَإِنَّمَا الْمُتَعَاقِبَةُ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ هِيَ الْمَقْبُولَاتُ لَا الْقُبُولَاتُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ .
وَيَتَقَوَّى ذَلِكَ وَيَتَّضِحُ بِأَنَّ الْإِمْكَانَ وَالْوُجُوبَ وَالِاسْتِحَالَةَ أَحْكَامٌ وَاجِبَةُ الثُّبُوتِ لِمَحَالِّهَا لَازِمَةٌ

لَهَا ، وَإِلَّا لَزِمَ انْقِلَابُ الْمُمْكِنِ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحِيلًا وَبِالْعَكْسِ ، وَذَلِكَ مُحَالٌ وَإِذَا كَانَتْ لَازِمَةً لِمَحَالِّهَا ، وَاللَّازِمُ لَا يُفَارِقُ الْمَلْزُومَ فَالْقُبُولَاتُ لَا تُفَارِقُهَا فَهِيَ مُجْتَمِعَةٌ فِيهَا ) قُلْت قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا هُوَ صِدْقٌ لَا يَصِحُّ أَنْ يَصِيرَ كَذِبًا .
وَمَا هُوَ كَذِبٌ لَا يَصِحُّ أَنْ يَصِيرَ صِدْقًا فَلَيْسَ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَبَرِ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَوْهَرِ ، فَلَا يَصِحُّ فِي الْخَبَرِ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ قَابِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ كَمَا لَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي الْحَيَوَانِ ، فَيُقَالُ هُوَ قَابِلٌ لِلنُّطْقِ وَغَيْرِهِ بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا نَاطِقًا أَوْ غَيْرَ نَاطِقٍ ، وَمَا يَكُونُ نَاطِقًا لَا يَكُونُ غَيْرَ نَاطِقٍ ، وَمَا يَكُونُ غَيْرَ نَاطِقٍ لَا يَكُونُ نَاطِقًا ، وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي الشَّيْءِ أَنَّهُ قَابِلٌ أَوْ غَيْرُ قَابِلٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يَصِحُّ اتِّصَافُهُ بِهِ وَعَدَمُ اتِّصَافِهِ بِهِ ، وَيَصِحُّ فِيهِ تَبَدُّلُ ذَلِكَ الِاتِّصَافِ ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ كَذَلِكَ فَالصَّحِيحُ مَا اخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( وَالْجَوَابُ عَنْ الثَّانِي أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَدِّ إنَّمَا هُوَ شَرْحُ لَفْظِ الْمَحْدُودِ إلَى آخِرِ الْجَوَابِ ) قُلْت : هَذَا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا هُوَ شَرْحُ لَفْظِ الْمَحْدُودِ يَعْنِي اسْمَهُ هُوَ رَأْيُ الْإِمَامِ الْفَخْرِ وَقَدْ خُولِفَ فِي ذَلِكَ وَفِي الْمَسْأَلَةِ نَظَرٌ يَفْتَقِرُ إلَى بَسْطٍ يَطُولُ وَيَعْسُرُ ، وَصِحَّةُ الْجَوَابِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى ذَلِكَ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ : ( وَأَمَّا حَدُّ الْإِنْشَاءِ فَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي بِحَيْثُ يُوجَدُ مَدْلُولُهُ بِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ مُتَعَلِّقُهُ فَقَوْلُنَا يُوجَدُ مَدْلُولُهُ بِهِ احْتِرَازٌ مِمَّا إذَا قَالَ قَائِلٌ السَّفَرُ عَلَيَّ وَاجِبٌ فَيُوجِبُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ عُقُوبَةً لَهُ فَإِنَّ الْوُجُوبَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا اللَّفْظِ بَلْ بِإِيجَابِ الشَّارِعِ بِخِلَافِ

إزَالَةِ الْعِصْمَةِ بِالطَّلَاقِ وَالْمِلْكِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْإِنْشَاءِ فَإِنَّهَا تُوجِبُ مَدْلُولَاتِهَا وَإِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِهَا نِيَّةٌ وَلَا أَمْرٌ آخَرُ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ ) قُلْت .
أَمَّا قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِهَا نِيَّةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ ، وَإِلَّا فَقَوْلُ الْقَائِلِ لِزَوْجِهِ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى وَجْهِ الْغَلَطِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ لَهَا أَنْتِ حَائِضٌ لَا يَلْزَمُهُ بِهِ طَلَاقٌ فِي الْفَتْوَى ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ مُخْبِرًا بِأَنَّهَا طَالِقٌ فِي الْحَالِ إذَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ مِنْ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَا أَمْرَ آخَرَ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِذَلِكَ الْأَمْرَ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْتِزَامِ مُقْتَضَيَاتِهَا فَذَلِكَ صَحِيحٌ ، وَإِلَّا فَلَا أَدْرِي مَا أَرَادَ بِذَلِكَ ، قَالَ وَقَوْلُنَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي بِحَيْثُ يُوجَدُ وَلَمْ نَقُلْ يُوجَبُ احْتِرَازٌ مِنْ صِيَغِ الْإِنْشَاءِ إذَا صَدَرَتْ مِنْ سَفِيهٍ أَوْ فَاقِدِ الْأَهْلِيَّةِ فَإِنَّهَا فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَدْلُولُهَا ، وَلَا تُوجِبُ حُكْمًا وَلَكِنَّ ذَلِكَ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهَا ، لَكِنَّهَا بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِهَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ تُوجِبُ مَدْلُولَاتِهَا فَلِذَلِكَ قُلْنَا بِحَيْثُ يُوجَدُ أَيْ شَأْنُهَا ذَلِكَ مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ أَوْ يُعَارِضُ مُعَارِضٌ قُلْت تَضَمَّنَ كَلَامُهُ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ تُوجَدُ بِهَا مَدْلُولَاتُهَا لِذَاتِهَا مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ ، وَمَا هُوَ ذَاتِيٌّ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْنَعَهُ مَانِعٌ فَكَلَامُهُ هَذَا ضَعِيفٌ ، وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَتَحَرَّزَ بِذِكْرِ قَيْدِ صُدُورِ هَذِهِ الصِّيَغِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ قَالَ شِهَابُ الدِّينِ .
( وَقَوْلُنَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ احْتِرَازٌ مِنْ الْخَبَرِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ ذَلِكَ فِي اعْتِقَادِ السَّامِعِ فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ قَامَ زَيْدٌ أَفَادَنَا هَذَا الْقَوْلُ اعْتِقَادَ أَنَّهُ قَامَ ، وَلَمْ يُفِدْ هَذَا الْقَوْلُ الْقِيَامَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ

بِخِلَافِ صِيَغِ الْإِنْشَاءِ فَإِنَّهَا تُفِيدُ مَدْلُولَتِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَفِي اعْتِقَادِ السَّامِعِ فَصَارَتْ خَصِيصَتُهَا هِيَ الْإِفَادَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، أَمَّا فِي اعْتِقَادِ السَّامِعِ فَهُوَ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخَبَرِ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ التَّمْيِيزُ ) قُلْت هَذَا الِاحْتِرَازُ صَحِيحٌ وَمَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلُّهُ مُسْتَقِيمٌ غَيْرَ قَوْلِهِ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ يُوجِبُ مَدْلُولَهُ فِي اعْتِقَادِ السَّامِعِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِلَازِمٍ إلَّا عِنْدَ اعْتِقَادِ السَّامِعِ صِدْقَ الْمُخْبِرِ .
وَأَمَّا عِنْدَ اعْتِقَادِهِ كَذِبَهُ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ قَالَ ، وَقَوْلُنَا أَوْ مُتَعَلِّقَةِ لِتَنْدَرِجَ الْإِنْشَاءَاتُ بِكَلَامِ النَّفْسِ إلَى قَوْلِهِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَسَائِلِ الْإِنْشَاءِ قُلْت يَلْزَمُ عَنْ قَوْلِهِ هَذَا أَنَّهُ جَمَعَ فِي الْحَدِّ بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ ، وَهُمَا الْقَوْلُ اللِّسَانِيُّ وَالْقَوْلُ النَّفْسَانِيُّ ، وَذَلِكَ خَلَلٌ فِي الْحُدُودِ قَالَ ( فَيَقَعُ الْفَرْقُ عَلَى هَذَا الْبَيَانِ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ ) قُلْت كَلَامُهُ فِي هَذِهِ الْأَوْجُهِ ظَاهِرٌ مُسْتَقِيمٌ .
قَالَ : ( الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ لَا يَقَعُ إلَّا مَنْقُولًا عَنْ أَصْلِ الْوَضْعِ فِي صِيَغِ الْعُقُودِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا ، وَقَدْ يَقَعُ إنْشَاءٌ بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ كَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَإِنَّهَا تُنْشِئُ الطَّلَبَ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ الْأَوَّلِ ، وَالْخَبَرُ يَكْفِي فِيهِ الْوَضْعُ الْأَوَّلُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ فَقَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَا يُفِيدُ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ ، بَلْ أَصْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ طَلَاقِهَا ثَلَاثًا ، وَأَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ كَمَا يُتَّفَقُ لَهُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ إذَا سَأَلَتْهُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَيَقُولُ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إعْلَامًا لَهَا بِتَقَدُّمِ الطَّلَاقِ ) قُلْت لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ بَلْ يَقَعُ غَيْرَ

مَنْقُولٍ عَلَى وَجْهِ الِاشْتِرَاكِ لَكِنْ يَتَرَجَّحُ قَوْلُ الْمُؤَلِّفِ بِرُجْحَانِ الْمَجَازِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( تَنْبِيهٌ : اعْتَقَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ قَوْلَنَا فِي حَدِّ الْخَبَرِ أَنَّهُ الْمُحْتَمِلُ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ لَهُمَا اسْتِفَادَةُ الْخَبَرِ مِنْ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ ، وَأَنَّ الْوَضْعَ اقْتَضَى لَهُ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَا يَحْتَمِلُ الْخَبَرُ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ إلَّا الصِّدْقَ خَاصَّةً وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعَرَبَ إنَّمَا وَضَعَتْ الْخَبَرَ لِلصِّدْقِ دُونَ الْكَذِبِ لِإِجْمَاعِ النُّحَاةِ وَالْمُتَحَدَّثِينَ عَلَى اللِّسَانِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا قَامَ زَيْدٌ حُصُولُ الْقِيَامِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ مَعْنَاهُ صُدُورُ الْقِيَامِ أَوْ عَدَمُهُ بَلْ جَزَمَ الْجَمِيعُ بِالصُّدُورِ ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ الْمُسْتَقْبَلَةُ نَحْوَ قَوْلِنَا سَيَقُومُ زَيْدٌ مَعْنَاهُ صُدُورُ الْقِيَامِ عَنْهُ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ عَيْنًا لَا أَنَّ مَعْنَاهُ صُدُورُ الْقِيَامِ أَوْ عَدَمُهُ .
وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْفَاعِلِينَ وَالْمَفْعُولِينَ كَقَوْلِنَا زَيْدٌ قَائِمٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْقِيَامِ عَيْنًا ، وَكَذَلِكَ الْمَجْرُورَاتُ نَحْوَ زَيْدٌ فِي الدَّارِ مَعْنَاهُ لُغَةً اسْتِقْرَارُهُ فِيهَا دُونَ عَدَمِ اسْتِقْرَارِهِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ اثْنَانِ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ فَعَلِمْنَا أَنَّ اللُّغَةَ إنَّمَا هِيَ الصِّدْقُ دُونَ الْكَذِبِ ، فَإِنْ قُلْتَ : فَمَا مَعْنَى قَوْلِكُمْ إنَّهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ الَّذِي اقْتَضَى أَنَّ الصِّدْقَ مُتَعَيَّنٌ لَهُ فَلَا يَحْتَمِلُ إلَّا إيَّاهُ ؟ قُلْتُ مَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ يَأْتِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَا مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يَسْتَعْمِلُهُ صِدْقًا عَلَى وَفْقِ الْوَضْعِ ، وَقَدْ يَسْتَعْمِلُهُ كَذِبًا عَلَى خِلَافِ مُطَابَقَةِ الْوَضْعِ .
وَقَوْلُنَا فِي الشَّيْءِ إنَّهُ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَ الْفُلَانِيَّ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ يَحْتَمِلُهُ

مِنْ جِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ مُعَيَّنَةٍ ، بَلْ إذَا احْتَمَلَهُ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ فَقَدْ احْتَمَلَهُ فَإِذَا احْتَمَلَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ فَقَدْ احْتَمَلَهُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ كَقَوْلِنَا فِي الْمُمْكِنِ إنَّهُ الْقَابِلُ لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ لَا نُرِيدُ أَنَّهُ يَقْبَلُ الْوُجُودَ مِنْ سَبَبٍ مُعَيَّنٍ بَلْ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ وَأَيِّ سَبَبٍ كَانَ كَذَلِكَ هُنَا ، وَنَظِيرُ قَوْلِنَا فِي الْخَبَرِ إنَّهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ قَوْلُنَا إنَّهُ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ .
وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ لَيْسَ مِنْ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ ، وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ فَالْمَجَازُ وَالْكَذِبُ إنَّمَا يَأْتِيَانِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَا مِنْ الْوَضْعِ وَاَلَّذِي لِلْوَضْعِ هُوَ الصِّدْقُ وَالْحَقِيقَةُ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي هَذَا التَّنْبِيهِ خَطَأٌ فَاحِشٌ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ مُنْتَحِلِي شَيْءٍ مِنْ عُلُومِ اللِّسَانِ ذَهَبَ إلَيْهِ وَلَا قَالَ أَحَدٌ قَطُّ إنَّ كُلَّ كَاذِبٍ مُتَجَوِّزٌ فِي إطْلَاقِهِ لَفْظَهُ عَلَى مَعْنَاهُ وَمَا بَنَاهُ عَلَى قَوْلِهِ هَذَا مِنْ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ بِنَاءً عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ ، وَمَا اغْتَرَّ بِهِ مِنْ كَوْنِ لَفْظَةِ قَامَ وُضِعَتْ لِلْإِخْبَارِ عَنْ وُقُوعِ الْقِيَامِ مِمَّنْ أُسْنِدَ إلَيْهِ لَا يَغْتَرُّ بِهِ إلَّا مَنْ قَصُرَ فَهْمُهُ وَقَلَّ عِلْمُهُ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( تَنْبِيهٌ ) : قَوْلُنَا فِي حَدِّ الْخَبَرِ أَنَّهُ الْمُحْتَمِلُ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ لَا يَشْتَرِطُونَ فِي حَقِيقَةِ الْكَذِبِ الْقَصْدَ إلَيْهِ بَلْ يَكْتَفُونَ بِعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ .
وَقَالَ الْجَاحِظُ وَغَيْرُهُ يُشْتَرَطُ فِي حَقِيقَةِ الْكَذِبِ الْقَصْدُ إلَى الْكَذِبِ وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فَعَلَى رَأْيِ هَؤُلَاءِ يَنْقَسِمُ الْخَبَرُ إلَى صِدْقٍ وَهُوَ الْمُطَابِقُ وَكَذِبٍ وَهُوَ غَيْرُ الْمُطَابِقِ الَّذِي قُصِدَ إلَى عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ وَإِلَى مَا لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ ، وَهُوَ غَيْرُ الْمُطَابِقِ الَّذِي لَمْ يُقْصَدْ .
( فَهَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ لَا

يَكُونُ عِنْدَهُمْ صِدْقًا وَلَا كَذِبًا وَلَا يَحْتَمِلُهُمَا مَعَ أَنَّهُ خَبَرٌ فَيَصِيرُ الْحَدُّ غَيْرَ جَامِعٍ عِنْدَهُمْ لَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ } فَجَعَلَهُ إذَا حَدَّثَ بِمَا سَمِعَهُ كَاذِبًا ؛ لِأَنَّهُ فِيهِ غَيْرُ مُطَابِقٍ فِي الْغَالِبِ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْرِفْهُ حَتَّى يَقْصِدَ إلَيْهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْقَصْدِ فِي الْكَذِبِ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } مَفْهُومُهُ أَنَّ مَنْ كَذَبَ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ لَا يَسْتَحِقُّ النَّارَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَصَوُّرِ حَقِيقَةِ الْكَذِبِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهِ .
وَهُوَ الْمَطْلُوبُ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ } فَقَسَّمَ الْكُفَّارُ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْكَذِبِ وَإِلَى الْجُنُونِ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ مَعَهُ الْقَصْدُ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ عَدَمَ الْمُطَابَقَةِ فِي الْقِسْمَيْنِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى كَذِبًا إلَّا إذَا قُصِدَ لِعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ .
وَالْجَوَابُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ قَسَّمُوا كَلَامَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى مُطْلَقِ الْكَذِبِ وَالْجُنُونِ بَلْ إلَى الِافْتِرَاءِ ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الْكَذِبِ فَإِنَّ الْكَذِبَ قَدْ يَكُونُ مُخْتَرَعًا مِنْ جِهَةِ الْكَاذِبِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ غَيْرِهِ فَهَذَا هُوَ الِافْتِرَاءُ ، وَمَا يَتْبَعُ غَيْرَهُ فِيهِ فَلَا يُقَالُ لَهُ افْتِرَاءٌ فَهُمْ قَسَّمُوا الْكَذِبَ إلَى نَوْعَيْهِ الْمُفْتَرَى وَغَيْرِهِ لَا أَنَّهُمْ قَسَّمُوا الْكَلَامَ إلَى الْكَذِبِ وَغَيْرِهِ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْخَصْمِ ، وَهَذَا كَقَوْلِنَا فِي زَيْدٍ هُوَ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ أَمْ لَمْ يَتَعَمَّدْهُ أَوْ نَقُولُ هُوَ افْتَرَى هَذَا الْكَذِبَ وَاخْتَرَعَهُ ، أَوْ اتَّبَعَ فِيهِ غَيْرَهُ أَوْ نَطَقَ بِهِ غَفْلَةً مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا صَرَّحَ بِمِثْلِ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَصْدِ فِي حَقِيقَةِ الْكَذِبِ )

قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ حَدَّ الْخَبَرِ بِالْمُحْتَمِلِ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ يَصِحُّ عَلَى كُلِّ مَذْهَبٍ عَلَى تَسْلِيمِ صِحَّةِ حَدِّهِ فَإِنَّ خَبَرَ الْمُخْبِرِ غَيْرِ الْقَاصِدِ لِلْكَذِبِ قَابِلٌ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ كَمَا أَنَّ خَبَرَ الْمُخْبِرِ الْقَاصِدِ لِلْكَذِبِ قَابِلٌ لِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِيمَا قَالَهُ ذَهَابُ وَهْمِهِ إلَى الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ عِوَضُ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ ، وَهُوَ قَدْ أَبَى الْحَدَّ بِهِمَا وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْكَذِبِ وَالتَّكْذِيبِ فَقَدْ يُصَدِّقُ الْكَاذِبَ وَيُكَذِّبُ الصَّادِقَ مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِالْغَيْبِ ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يُكَذِّبَ مَنْ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إلَّا مَنْ قَصَدَ الْكَذِبَ ، وَمِنْ أَيْنَ يَطَّلِعُ عَلَى قَصْدِهِ لِذَلِكَ .
وَاسْتِدْلَالُهُ بِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ صَحِيحٌ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمَرَامَ فِي الْمَسْأَلَةِ الظَّنُّ .
وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمَرَامَ فِيهَا الْقَطْعُ فَلَا ، وَمَا أَجَابَ بِهِ عَنْ احْتِجَاجِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ } حَيْثُ قَالَ فَهُمْ قَسَّمُوا الْكَذِبَ إلَى نَوْعَيْهِ الْمُفْتَرَى وَغَيْرِهِ لَا أَنَّهُمْ قَسَّمُوا الْكَلَامَ إلَى الْكَذِبِ وَغَيْرِهِ لَا يَصِحُّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمَرَامَ الظَّنُّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَا قَالُوهُ هُوَ الظَّاهِرُ دُونَ مَا قَالَهُ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَرَامُ الْقَطْعَ فَقَدْ يَصِحُّ عَلَى بُعْدِ احْتِمَالِ مَا قَالَهُ فَإِنَّ نِسْبَةَ الْجُنُونِ إلَى مَنْ اتَّبَعَ غَيْرَهُ فِي قَوْلِهِ : الْكَاذِبِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّانِي بَيْنَ قَاعِدَتَيْ الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ ) الَّذِي هُوَ جِنْسُ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَالدَّعْوَى وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا ، أَمَّا الْخَبَرُ فَمَجَازٌ فِي الْإِشَارَاتِ الْحَالِيَّةِ وَالدَّلَائِلِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ عَيْنَاكَ تُخْبِرُنِي بِكَذَا ، وَالْغُرَابُ يُخْبِرُ بِكَذَا وَحَقِيقَتُهُ قَوْلٌ يَلْزَمُهُ الصِّدْقُ أَوْ الْكَذِبُ .
( قُلْتُ ) قَالَ الْآمِدِيُّ وَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْقَوْلَ فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةٌ فِي الصِّيغَةِ كَقَوْلِك : قَامَ زَيْدٌ وَقَعَدَ عُمَرُ وَلِتَبَادُرِهَا إلَى الْفَهْمِ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الْخَبَرِ وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالصِّيغَةِ وَالصِّدْقُ وَالْكَذِبُ مَعْلُومٌ لَنَا بِالضَّرُورَةِ فَلَا يُفْتَقَرُ إلَى الْخَبَرِ عَلَى أَنَّ الصِّدْقَ هُوَ مُطَابَقَةُ النِّسْبَةِ الْكَلَامِيَّةِ لِلْخَارِجِيَّةِ .
وَالْكَذِبَ عَدَمُهَا وَلَيْسَ الصِّدْقُ الْخَبَرَ الْمُطَابِقَ لِلْوَاقِعِ وَلَا الْكَذِبُ الْخَبَرَ الْغَيْرَ الْمُطَابِقِ لَهُ حَتَّى يَلْزَمَ الدَّوْرُ وَالْحُكْمُ فِي الْحَدِّ الْمَذْكُورِ بِلُزُومِ الْخَبَرِ لِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ جَازِمٍ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ وَهُوَ الْمَأْخُوذُ فِي التَّحْدِيدِ ، وَإِنَّمَا التَّرَدُّدُ فِي اتِّصَافِ الْخَبَرِ بِلُزُومِ أَحَدِهِمَا عَيْنًا وَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْحَدِّ فَافْهَمْ ا هـ .
بِتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ فَالْقَوْلُ جِنْسٌ قَرِيبٌ يَشْمَلُ الْقَوْلَ التَّامَّ وَهُوَ مَا يُفِيدُ الْمُخَاطَبَ فَائِدَةً يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهَا خَبَرًا كَانَ أَوْ إنْشَاءً وَالنَّاقِصُ وَهُوَ مَا لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ إضَافِيًّا كَانَ كَغُلَامِ زَيْدٍ أَوْ تَقْيِيدِيًّا كَالْحَيَوَانِ الصَّاهِلِ أَوْ لَا وَلَا كَمَجْمُوعِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ ، وَقَيْدٌ يَلْزَمُهُ الصِّدْقُ أَوْ الْكَذِبُ فَصْلٌ يَخْرُجُ الْقَوْلُ النَّاقِصُ وَالْإِنْشَاءَاتُ نَعَمْ الظَّاهِرُ احْتِيَاجُ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ لِزِيَادَةِ قَيْدٍ لِذَاتِهِ لِيَخْرُجَ مَا يَلْزَمُهُ الصِّدْقُ أَوْ الْكَذِبُ لَا لِذَاتِهِ بَلْ لِلَازِمِهِ نَحْوَ غُلَامُ زَيْدٍ الْمُسْتَلْزِمُ لِذَاتِهِ خَبَرًا وَهُوَ زَيْدٌ

لَهُ غُلَامٌ وَنَحْوَ اسْقِنِي الْمَاءَ الْمُسْتَلْزِمَ لِذَاتِهِ خَبَرًا وَهُوَ أَنَا طَالِبٌ لِلْمَاءِ أَوْ الْمُخَاطَبُ مَطْلُوبٌ مِنْهُ الْمَاءُ أَوْ الْمَاءُ مَطْلُوبٌ ، وَكَذَا مَا لَا يَلْزَمُهُ صِدْقٌ وَلَا كَذِبٌ بِالنَّظَرِ لِعَدَمِ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ إخْبَارَ أَحَدٍ كَصِيغَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ إذَا جُعِلَتْ بَاقِيَةً عَلَى خَبَرِيَّتِهَا وَلَمْ يُقْصَدْ بِهَا إلَّا تَحْصِيلَ الْحَمْدِ كَبَقِيَّةِ صِيَغِ الْأَذْكَارِ وَالتَّنْزِيهَاتِ فَلَا يَرِدُ حِينَئِذٍ مَا نَقَلَهُ يَاسِينُ فِي حَوَاشِي الصُّغْرَى عَنْ الْعَلَّامَةِ عَلَاءِ الدِّينِ النَّجَّارِيِّ مِنْ أَنَّ الْجُمَلَ الْخَبَرِيَّةَ لَا يَلْزَمُهَا الْإِخْبَارُ أَيْ احْتِمَالُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ بَلْ قَدْ تَكُونُ لِلتَّحَسُّرِ وَالتَّحَزُّنِ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الْعَطَّارِ عَلَى مَحَلِّي جَمْعِ الْجَوَامِعِ فَافْهَمْ ( وَأَمَّا الْإِنْشَاءُ ) فَفِي اللُّغَةِ الْخَلْقُ وَالِابْتِدَاءُ وَوَضْعُ الْحَدِيثِ فَفِي الْمِصْبَاحِ أَنْشَأَهُ اللَّهُ خَلَقَهُ وَأَنْشَأَ يَفْعَلُ كَذَا أَيْ ابْتَدَأَ وَفُلَانٌ يُنْشِئُ الْأَحَادِيثَ أَيْ يَصِفُهَا .
ا هـ الْمُرَادُ وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَوْلٌ بِحَيْثُ يُوجِبُ بِهِ مَدْلُولَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إذَا صَدَرَ قَصْدًا مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ .
فَالْقَوْلُ جِنْسٌ قَرِيبٌ ، وَقَيْدُ ( بِحَيْثُ يُوجِبُ بِهِ مَدْلُولَهُ ) فَصْلٌ أَوَّلُ مُخْرِجٌ لِقَوْلِ الْقَائِلِ : السَّفَرُ عَلَيَّ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِيهِ لَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا اللَّفْظِ بَلْ بِإِيجَابِ الشَّارِعِ عَلَيْهِ عُقُوبَةً عَلَيْهِ ، وَقَيْدُ ( فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ) فَصْلٌ ثَانٍ مُخْرِجٌ لِلْخَبَرِ كَقَامَ زَيْدٌ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ مَدْلُولَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ وَلَا فِي اعْتِقَادِ السَّامِعِ إلَّا عِنْدَ اعْتِقَادِهِ صِدْقَ الْمُخْبِرِ وَقَيْدُ ( إذَا صَدَرَ قَصْدًا ) أَيْ مَقْصُودًا إنْشَاءُ لَفْظِهِ فَصْلٌ ثَالِثٌ مُخْرِجٌ لِنَحْوِ قَوْلِ الْقَائِلِ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى وَجْهِ الْغَلَطِ مُرِيدًا أَنْتِ حَائِضٌ فَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ طَلَاقٌ فِي الْفَتْوَى ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِمَنْ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا فِي الْعِدَّةِ أَنْتِ طَالِقٌ مُخْبِرًا

بِأَنَّهَا طَالِقٌ فِي الْحَالِ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ إذَا قَصَدَ الْإِنْشَاءَ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْتِزَامِ مُقْتَضَيَاتِهَا وَفِيهِ ( مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ ) فَصْلٌ رَابِعٌ مُخْرِجٌ لِصِيَغِ الْإِنْشَاءِ إذَا صَدَرَتْ مِنْ سَفِيهٍ أَوْ فَاقِدِ الْأَهْلِيَّةِ لِعَدَمِ تَرَتُّبِ مَدْلُولِهَا عَلَيْهَا حِينَئِذٍ ، وَزِيَادَةٍ أَوْ مُتَعَلِّقَةٍ فِي الْحَدِّ عَطْفًا عَلَى مَدْلُولِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ لِأَجْلِ أَنْ تَنْدَرِجَ فِيهِ الْإِنْشَاءَاتُ بِكَلَامِ النَّفْسِ فَإِنَّ كَلَامَ النَّفْسِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ وَلَا مَدْلُولَ ، وَإِنَّمَا فِيهِ مُتَعَلِّقٌ وَمُتَعَلَّقٌ خَاصَّةً وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَسَائِلِ الْإِنْشَاءِ إلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ الْجَمْعُ فِي الْحَدِّ بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَهُمَا الْقَوْلُ اللِّسَانِيُّ وَالْقَوْلُ النَّفْسَانِيُّ ، وَذَلِكَ خَلَلٌ فِي الْحَدِّ كَمَا بَيَّنَ فِي مَحِلِّهِ ، فَافْهَمْ .
وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى : الْكَلَامُ إنْ كَانَ لِلنِّسْبَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْهُ الْحَاصِلَةِ فِي الذِّهْنِ خَارِجٌ عَنْ مَدْلُولِهِ ؛ أَيْ حَاصِلٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ ، وَالْفَهْمُ مِنْهُ مُحْتَمِلٌ لَأَنْ تُطَابِقَهُ النِّسْبَةُ أَوْ لَا تُطَابِقَهُ فَخَبَرٌ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ خَارِجٌ أَصْلًا كَأَقْسَامِ الطَّلَبِ فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى صِفَاتٍ نَفْسِيَّةٍ قَائِمَةٍ بِالنَّفْسِ قِيَامَ الْعَرْضِ بِالْمَحَلِّ لَيْسَ لَهَا مُتَعَلِّقٌ خَارِجِيٌّ ، أَوْ يَكُونَ لَهُ خَارِجٌ لَكِنْ لَا يَحْتَمِلُ الْمُطَابَقَةَ واللَّامُطَابَقَة كَصِيَغِ الْعُقُودِ فَإِنَّ لَهَا نِسَبًا خَارِجِيَّةً تُوجَدُ بِهَذِهِ الصِّيَغِ ، وَلَيْسَتْ لَهَا نِسْبَةٌ مُحْتَمِلَةٌ لَأَنْ تُطَابِقَهَا النِّسْبَةُ الْمَدْلُولَةُ أَوْ لَا تُطَابِقَهَا ؛ لِأَنَّهَا لِحُصُولِهَا بِهَا مُطَابِقَةً قَطْعًا فَإِنْشَاءً ، وَهَذَا أَقْرَبُ الْحُدُودِ وَأَخْصَرُهَا كَمَا فِي تَقْرِيرَاتِ الشِّرْبِينِيِّ عَلَى حَوَاشِي مَحَلِّي جَمْعِ الْجَوَامِعِ فَعَلَى هَذَا الْبَيَانِ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ مِنْ

أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ سَبَبٌ لِمَدْلُولِهِ بِخِلَافِ الْخَبَرِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْإِنْشَاءَاتِ يَتْبَعُهَا مَدْلُولُهَا فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْمِلْكُ إلَّا بَعْدَ صُدُورِ صِيغَةِ الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ ، وَالْأَخْبَارُ تَتْبَعُ مَدْلُولَاتِهَا بِمَعْنَى أَنَّ الْخَبَرَ تَابِعٌ لِتَقْرِيرِ مُخْبِرِهِ فِي زَمَانِهِ مَاضِيًا كَانَ أَوْ حَاضِرًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا فَقَوْلُنَا قَامَ زَيْدٌ تَبَعٌ لِقِيَامِهِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي ، وَلَوْ قُلْنَا هُوَ قَائِمٌ تَبَعٌ لِقِيَامِهِ فِي الْحَالِ وَقَوْلُنَا سَيَقُومُ السَّاعَةَ تَبَعٌ لِتَقْرِيرِ قِيَامِهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ تَابِعٌ لِمُخْبِرِهِ فِي الْوُجُودِ ، وَإِلَّا لَمَا صَدَقَ ذَلِكَ إلَّا فِي الْمَاضِي فَقَطْ فَإِنَّ الْحَاضِرَ مُقَارِنٌ فَلَا تَبَعِيَّةَ لِحُصُولِ الْمُسَاوَاةِ .
وَوُجُودُ الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ الْخَبَرِ فَهُوَ مَتْبُوعٌ لَا تَابِعٌ ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ : الْعِلْمُ تَابِعٌ لِمَعْلُومِهِ أَنَّهُ تَابِعٌ لِتَقَرُّرِهِ فِي زَمَانِهِ مَاضِيًا كَانَ الْمَعْلُومُ أَوْ حَاضِرًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا فَإِنَّا نَعْلَمُ الْحَاضِرَاتِ وَالْمُسْتَقْبِلَات كَمَا نَعْلَمُ الْمَاضِيَاتِ ، وَالْعِلْمُ فِي الْجَمِيعِ تَبَعٌ لِمَعْلُومِهِ فَالْعِلْمُ بِأَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ غَدًا فَرْعٌ وَتَابِعٌ لِتَقَرُّرِ طُلُوعِهَا فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ لَا يَلْزَمُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ لِذَاتِهِ وَإِنْ لَزِمَهُ لِلَازِمِهِ كَمَا عَرَفْتَ فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا صِدْقٌ وَلَا كَذِبٌ إلَّا إذَا أَرَادَ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ طَلَاقِ امْرَأَتِهِ بِخِلَافِ الْخَبَرِ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّ الْخَبَرَ يَكْفِي فِيهِ الْوَضْعُ الْأَوَّلُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ ، وَالْإِنْشَاءُ لَا يَقَعُ إلَّا مَنْقُولًا عَنْ أَصْلِ الْوَضْعِ فِي صِيَغِ الْعُقُودِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا فَقَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يُفِيدُ طَلَاقَهَا بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ ، وَإِنَّمَا

صَارَ يُفِيدُ الطَّلَاقَ بِسَبَبِ النَّقْلِ الْعُرْفِيِّ لِلْإِنْشَاءِ عَنْ الْإِخْبَارِ عَنْ طَلَاقِهَا ثَلَاثًا كَمَا يُتَّفَقُ لَهُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ إذَا سَأَلَتْهُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَيَقُولُ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إعْلَامًا لَهَا بِتَقَدُّمِ الطَّلَاقِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُفِيدُ كُلًّا مِنْ الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ يُضْعِفُهُ رُجْحَانُ الْمَجَازِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ ، وَقَدْ يَقَعُ الْإِنْشَاءُ لِإِنْشَاءِ الطَّلَبِ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ الْأَوَّلِ كَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي .

( فَصْلٌ ) : الْإِنْشَاءُ يَنْقَسِمُ إلَى مَا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَإِلَى مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَالْمُجْمَعُ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) الْقَسَمُ نَحْوُ قَوْلِنَا أُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَقَدْ قَامَ زَيْدٌ وَنَحْوُهُ فَإِنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الصِّيغَةِ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْهُ قَسَمٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَلْزَمَهُ كَفَّارَةٌ بِهَذَا الْقَوْلِ ؛ لِأَنَّهُ وَعْدٌ بِالْقَسَمِ لَا قَسَمٌ كَقَوْلِ الْقَائِلِ أُعْطِيكَ دِرْهَمًا فَإِنَّهُ وَعَدَ بِالْإِعْطَاءِ لَكِنْ لَمَّا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ أَقْسَمَ ، وَأَنَّ مُوجَبَ الْقَسَمِ يَلْزَمُهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَنْشَأَ بِهِ الْقَسَمَ لَا أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ عَنْ وُقُوعِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَهَذَا أَمْرٌ اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ وَالْإِسْلَامُ ، وَلِذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ وَجَمِيعُ لَوَازِمِ الْإِنْشَاءِ مَوْجُودَةٌ فِيهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إنْشَاءٌ ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ فِيهِ مَنْ أَحَاطَ بِذَلِكَ مِنْ فُضَلَاءِ النُّحَاةِ الْقَسَمُ جُمْلَةٌ إنْشَائِيَّةٌ يُؤَكِّدُ بِهَا جُمْلَةً خَبَرِيَّةً .
( الْقِسْمُ الثَّانِي ) الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي إنْشَاءٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ افْعَلْ لَا تَفْعَلْ يَتْبَعُهُ إلْزَامُ الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَلَا يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ وَلَا يَقْبَلُ لَوَازِمَ الْخَبَرِ ، وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ لَوَازِمِ الْإِنْشَاءِ فَيَكُونُ إنْشَاءً .
( الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) التَّرَجِّي نَحْوَ لَعَلَّ اللَّهَ يَأْتِينَا بِخَيْرٍ وَالتَّمَنِّي نَحْوَ لَيْتَ لِي مَالًا فَأُنْفِقَ مِنْهُ ، وَالْعَرْضُ نَحْوَ أَلَا تَنْزِلُ عِنْدَنَا فَتُصِيبَ خَيْرًا ، وَالتَّحْضِيضُ وَصِيَغُهُ أَرْبَعٌ وَهِيَ أَلَا وَهَلَّا وَلَوْ مَا وَلَوْلَا نَحْوَ أَلَا تَشْتَغِلُ بِالْعِلْمِ وَهَلَّا اشْتَغَلْتَ بِهِ وَلَوْ مَا اشْتَغَلْتَ بِهِ فَإِنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ كُلَّهَا لِلطَّلَبِ وَيَتْبَعُهَا الطَّلَبُ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا

وَلَا تَقْبَلُ التَّصْدِيقَ وَلَا التَّكْذِيبَ فَهِيَ كَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي إنْشَاءٌ كَمَا تَقَدَّمَ .
( الْقِسْمُ الرَّابِعُ ) النِّدَاءُ نَحْوَ يَا زَيْدُ اخْتَلَفَ فِيهِ النُّحَاةُ هَلْ فِيهِ فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ أُنَادِي زَيْدًا أَوْ الْحَرْفُ وَحْدَهُ مُفِيدٌ لِلنِّدَاءِ ؟ فَقِيلَ عَلَى الْأَوَّلِ لَوْ كَانَ الْفِعْلُ مُضْمَرًا وَالتَّقْدِيرُ أُنَادِي زَيْدًا لَقَبِلَ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ ، أَجَابَ الْمُبَرِّدُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْفِعْلَ مُضْمَرٌ وَلَا يَلْزَمُ قَبُولُهُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ ؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ وَالْإِنْشَاءُ لَا يَقْبَلُهُمَا وَيُؤَكِّدُ الْإِنْشَاءَ فِي النِّدَاءِ أَنَّهُ طَلَبٌ لِحُضُورِ الْمُنَادَى ، وَالطَّلَبُ إنْشَاءٌ نَحْوَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَهُوَ مِمَّا اُتُّفِقَ عَلَى أَنَّهُ إنْشَاءٌ لَكِنْ الْخِلَافُ فِي الْإِضْمَارِ وَعَدَمِهِ فَقَطْ فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ .
( وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ ) هَلْ هُوَ إنْشَاءٌ أَوْ خَبَرٌ فَهِيَ صِيَغُ الْعُقُودِ نَحْوَ بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ وَأَنْتَ حُرٌّ وَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ .
قَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ إنَّهَا إخْبَارَاتٌ عَلَى أَصْلِهَا اللُّغَوِيِّ ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ إنَّهَا إنْشَاءَاتٌ مَنْقُولَةٌ عَنْ الْخَبَرِ إلَيْهِ احْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِأُمُورٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ إخْبَارًا لَكَانَتْ كَاذِبَةً ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبِعْ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَمْ يُطَلِّقْ ، وَالْكَذِبُ لَا عِبْرَةَ بِهِ لَكِنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ إخْبَارًا بَلْ إنْشَاءٌ لِحُصُولِ لَوَازِمِ الْإِنْشَاءِ فِيهَا مِنْ اسْتِتْبَاعَاتِهِ لِمَدْلُولَاتِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ اللَّوَازِمِ .
( وَثَانِيهَا ) أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ إخْبَارًا لَكَانَتْ إمَّا كَاذِبَةً وَلَا عِبْرَةَ بِهَا أَوْ صَادِقَةً فَتَكُونُ مُتَوَقِّفَةً عَلَى تَقَدُّمِ أَحْكَامِهَا فَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ تَتَوَقَّفَ عَلَيْهَا أَيْضًا فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ أَوْ لَا تَتَوَقَّفَ عَلَيْهَا فَيَلْزَمُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ أَوْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ ، وَهُوَ سَاكِتٌ وَذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ .
(

وَثَالِثُهَا ) أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ إخْبَارًا فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ خَبَرًا عَنْ الْمَاضِي أَوْ الْحَاضِرِ وَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ تَعْلِيقُهَا عَلَى الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الشَّرْطِ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ إلَّا بِمُسْتَقْبَلٍ أَوْ خَبَرٍ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ وَحِينَئِذٍ لَا يَزِيدُ عَلَى التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ ، وَهُوَ لَوْ صَرَّحَ وَقَالَ لِامْرَأَتِهِ سَتَصِيرِينَ طَالِقًا لَمْ تَطْلُقْ بِهَذَا اللَّفْظِ ، وَكَذَلِكَ مَا فِي مَعْنَاهُ .
( وَرَابِعُهَا ) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ أَنْتِ طَالِقٌ لَزِمَهُ طَلْقَةٌ أُخْرَى مَعَ أَنَّ إخْبَارَهُ صَادِقٌ بِاعْتِبَارِ الطَّلْقَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى طَلْقَةٍ أُخْرَى لَكِنْ لَمَّا لَزِمَهُ طَلْقَةٌ أُخْرَى دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ مُنْشِئَةٌ لِلطَّلَاقِ .
( وَخَامِسُهَا ) قَوْله تَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وَالْأَمْرُ بِالطَّلَاقِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى التَّحْرِيمِ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامُهُ النَّفْسَانِيُّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَسْبٌ وَلَا اخْتِرَاعٌ فَتَعْيِينُ صَرْفِهِ لِأَمْرٍ آخَرَ يَقْتَضِيهِ وَيَسْتَلْزِمُهُ تَوْفِيَةً بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الطَّلَبِ ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا قَوْلُ الْقَائِلِ أَنْتِ طَالِقٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا التَّحْرِيمُ وَلَا نَعْنِي بِكَوْنِهَا إنْشَاءً إلَّا ذَلِكَ .
( وَسَادِسُهَا ) أَنَّ الْإِنْشَاءَ هُوَ الْمُتَبَادَرُ فِي الْعُرْفِ إلَى الْفَهْمِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا إلَيْهِ كَسَائِرِ الْمَنْقُولَاتِ ، وَالْجَوَابُ قَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا أَنْ لَوْ لَمْ يُقَدِّرْ فِيهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ تَقَدُّمَ مَدْلُولَاتِهَا قَبْلَ النُّطْقِ بِهَا بِالزَّمَنِ الْفَرْدِ لِضَرُورَةِ تَصْدِيقِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا لَكِنْ الْإِضْمَارُ أَوْلَى مِنْ النَّقْلِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، وَلِأَنَّ جَوَازَ الْإِضْمَارِ فِي الْكَلَامِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَالنَّقْلَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَالْمُجْمَعُ عَلَيْهِ أَوْلَى

وَمَتَى كَانَ الْمَدْلُولُ مُقَدَّرًا قَبْلَ الْخَبَرِ كَانَ الْخَبَرُ صَادِقًا ، فَلَا يَلْزَمُ الْكَذِبُ وَلَا النَّقْلُ لِلْإِنْشَاءِ ، وَبَقِيَتْ إخْبَارَاتٌ عَلَى مَوْضُوعَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ وَعَمِلْنَا بِالْأَصْلِ فِي عَدَمِ النَّقْلِ وَأَنْتُمْ خَالَفْتُمُوهُ .
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الدَّوْرَ غَيْرُ لَازِمٍ ؛ لِأَنَّ النُّطْقَ بِاللَّفْظِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى شَيْءٍ ، وَبَعْدَهُ يُقَدَّرُ تَقَدُّمُ الْمَدْلُولِ وَبَعْدَ تَقْدِيرِ الْمَدْلُولِ يَحْصُلُ الصِّدْقُ وَيَلْزَمُ الْحُكْمُ ، فَالصِّدْقُ مُتَوَقِّفٌ مُطْلَقًا وَاللَّفْظُ مُتَوَقِّفٌ عَلَيْهِ مُطْلَقًا ، وَالتَّقْدِيرُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى النُّطْقِ وَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الصِّدْقُ فَهَهُنَا ثَلَاثَةُ أُمُورٍ مُتَرَتِّبَةٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ قَبْلَ الْآخَرِ وَبَعْدَهُ حَتَّى يَلْزَمَ الدَّوْرُ بَلْ هِيَ كَالِابْنِ وَالْأَبِ وَالْجَدِّ فِي التَّرْتِيبِ وَالتَّوَقُّفِ فَانْدَفَعَ الدَّوْرُ .
وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّا نَلْتَزِمُ أَنَّهَا إخْبَارَاتٌ عَنْ الْمَاضِي ، وَلَا يَتَعَذَّرُ التَّعْلِيقُ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمَاضِيَ لَهُ تَفْسِيرٌ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَاضٍ تَقَدَّمَ مَدْلُولُهُ قَبْلَ النُّطْقِ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ فَهَذَا يَتَعَذَّرُ تَعْلِيقُهُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعْلِيقِ تَوْقِيفُ أَمْرٍ فِي دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ عَلَى دُخُولِ أَمْرٍ آخَرَ فِي الْوُجُودِ ، وَهُوَ الشَّرْطُ وَمَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ وَتَحَقَّقَ لَا يُمْكِنُ تَوْقِيفُ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ عَلَى غَيْرِهِ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ تَعَذَّرَ تَعْلِيقُ الْمَاضِي الْمُحَقَّقِ ، وَثَانِيهِمَا مَاضٍ بِالتَّقْدِيرِ لَا بِالتَّحْقِيقِ فَهَذَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ وَتَقْدِيرُهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ ارْتِبَاطِ طَلَاقِ امْرَأَتِهِ بِدُخُولِ الدَّارِ فَيُقَدِّرُ صَاحِبُ الشَّرْعِ هَذَا الِارْتِبَاطَ قَبْلَ نُطْقِهِ بِهِ بِالزَّمَنِ الْفَرْدِ لِضَرُورَةِ تَصْدِيقِهِ ، وَإِذَا قُدِّرَ الِارْتِبَاطُ قَبْلَ النُّطْقِ صَارَ الْإِخْبَارُ عَنْ الِارْتِبَاطِ مَاضِيًا ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَاضِي هُوَ الَّذِي مُخْبِرُهُ قُبِلَ خَبَرُهُ ،

وَهَذَا كَذَلِكَ بِالتَّقْدِيرِ فَيَكُونُ مَاضِيًا مَعَ التَّعْلِيقِ فَقَدْ اجْتَمَعَ الْمُضِيُّ وَالتَّعْلِيقُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ ، وَلَمْ يُنَافِ الْمُضِيُّ التَّعْلِيقَ فَتَأَمَّلْهُ فَهُوَ دَقِيقٌ فِي بَابِ التَّقْدِيرَاتِ ، وَعَنْ الرَّابِعِ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ عَنْ الطَّلْقَةِ الْمَاضِيَةِ لَمْ تَلْزَمْهُ طَلْقَةٌ ثَانِيَةٌ .
وَإِنْ لَزِمَ الْإِخْبَارُ عَنْ طَلْقَةٍ ثَانِيَةٍ فَهُوَ إخْبَارٌ كَاذِبٌ لِعَدَمِ تَقَدُّمِ وُقُوعِ ثَانِيَةٍ فَيَحْتَاجُ لِلتَّقْدِيرِ لِضَرُورَةِ التَّصْدِيقِ فَتَلْزَمُهُ الثَّانِيَةُ بِالتَّقْدِيرِ كَالْأُولَى فَقَوْلُكُمْ إنَّ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ تَسْتَغْنِي عَنْ التَّقْدِيرِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلْ هِيَ وَغَيْرُهَا سَوَاءٌ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا إذَا كَانَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ إخْبَارًا عَنْ الطَّلْقَةِ الْأُولَى ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَعَنْ الْخَامِسِ أَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَنَا مُتَعَلِّقٌ بِإِيجَادِ خَبَرٍ يُقَدِّرُ الشَّرْعُ قِبَلَهُ الطَّلَاقَ فَيَلْزَمُ الطَّلَاقُ لَا إنْشَاءُ الطَّلَاقِ حَتَّى يَكُونَ اللَّفْظُ سَبَبًا كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ بَلْ خَبَرًا صِرْفًا مَعَ التَّقْدِيرِ ، وَهَذَا أَمْرٌ مُمْكِنٌ مُتَصَوَّرٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ بِالنَّقْلِ وَالْعُدُولِ عَنْ اللُّغَةِ الصَّرِيحَةِ فَهَذِهِ أَجْوِبَةٌ حَسَنَةٌ لِلْحَنَفِيَّةِ ( وَأَمَّا الْوَجْهُ السَّادِسُ ) فَلَا يَتَأَتَّى الْجَوَابُ عَنْهُ إلَّا بِالْمُكَابَرَةِ فَإِنَّ الْمُبَادَرَةَ لِلْإِنْشَاءِ وَالْعُدُولُ عَنْ الْخَبَرِ مُدْرَكٌ لَنَا بِالْعُقُولِ بِالضَّرُورَةِ وَلَا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا أَنَّ الْقَائِلَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ يَحْسُنُ تَصْدِيقُهُ وَتَكْذِيبُهُ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ التَّقْدِيرِ وَالْبَحْثُ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَعْتَمِدُ التَّنَاصُفَ فِي الْوِجْدَانِ ، فَمَنْ لَمْ يُنْصِفْ يَقُلْ مَا شَاءَ .
وَأَمَّا الْأَجْوِبَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَنْ بَقِيَّةِ الْوُجُوهِ فَمُتَّجِهَةٌ صَحِيحَةٌ ، وَالسَّادِسُ هُوَ الْعُمْدَةُ الْمُحَقَّقَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَهَذَا تَلْخِيصُ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ

مِنْ الْجِهَتَيْنِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ وَلَمْ أَرَهَا لِأَحَدٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَلَا غَيْرِهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى .

قَالَ شِهَابُ الدِّينِ فَصْلٌ الْإِنْشَاءُ يَنْقَسِمُ إلَى مَا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَيْهِ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ ) قُلْت جَمِيعُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ صَحِيحٌ غَيْرَ قَوْلِهِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الصِّيغَةِ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْهُ قِسْمٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ مَعَ تَسْلِيمِ مَا حَكَاهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ أَنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنْشَأَ الْقِسْمَ ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ عِنْدَهُمْ وَهُمْ جَمِيعُ أَهْلِ اللِّسَانِ فَكَوْنُ تِلْكَ الصِّيغَةِ مُقْتَضَاهَا الْإِخْبَارُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِ اللِّسَانِ وَلَا اعْتِبَارَ بِهِمْ وَلَا حُجَّةَ فِيهِمْ .
قَالَ ( وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ هَلْ هُوَ إنْشَاءٌ أَوْ خَبَرٌ فَهِيَ صِيَغُ الْعُقُودِ نَحْوَ بِعْت وَاشْتَرَيْت وَأَنْتَ حُرٌّ وَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ إنَّهَا إخْبَارَاتٌ عَلَى أَصْلِهَا اللُّغَوِيِّ .
وَقَالَ غَيْرُهُمْ إنَّهَا إنْشَاءَاتٌ مَنْقُولَةٌ عَنْ الْخَبَرِ إلَيْهِ احْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِأُمُورٍ أَحَدُهَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ إخْبَارًا لَكَانَتْ كَاذِبَةً ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبِعْ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَمْ يُطَلِّقْ .
وَالْكَذِبُ لَا عِبْرَةَ بِهِ لَكِنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ إخْبَارًا بَلْ إنْشَاءٌ لِحُصُولِ لَوَازِمِ الْإِنْشَاءِ فِيهَا مِنْ اسْتِتْبَاعِهَا لِمَدْلُولَاتِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ اللَّوَازِمِ وَثَانِيهَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ إخْبَارًا لَكَانَتْ إمَّا كَاذِبَةً وَلَا عِبْرَةَ بِهَا أَوْ صَادِقَةً فَتَكُونُ مُتَوَقِّفَةً عَلَى تَقَدُّمِ أَحْكَامِهَا ، وَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ تَتَوَقَّفَ عَلَيْهَا أَيْضًا فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ أَوْ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا فَيَلْزَمُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ أَوْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ .
وَهُوَ سَاكِتٌ وَذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ ، وَثَالِثُهَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ إخْبَارًا فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ خَبَرًا عَنْ الْمَاضِي أَوْ الْحَاضِرِ ، وَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ تَعْلِيقُهَا عَلَى الشَّرْطِ

؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الشَّرْطِ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ إلَّا بِمُسْتَقْبَلٍ أَوْ خَبَرٍ عَنْ مُسْتَقْبَلٍ ، وَحِينَئِذٍ لَا يَزِيدُ عَلَى التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ وَهُوَ لَوْ صَرَّحَ وَقَالَ لِامْرَأَتِهِ سَتَصِيرِينَ طَالِقًا لَمْ تَطْلُقْ بِهَذَا اللَّفْظِ .
وَكَذَلِكَ مَا فِي مَعْنَاهُ وَرَابِعُهَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ أَنْتِ طَالِقٌ لَزِمَهُ طَلْقَةٌ أُخْرَى مَعَ أَنَّ إخْبَارَهُ صَادِقٌ بِاعْتِبَارِ الطَّلْقَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى طَلْقَةٍ أُخْرَى لَكِنْ لَمَّا لَزِمَهُ طَلْقَةٌ أُخْرَى دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ مُنْشِئَةٌ لِلطَّلَاقِ ، وَخَامِسُهَا قَوْله تَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعَدَّتِهِنَّ } وَالْأَمْرُ بِالطَّلَاقِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى التَّحْرِيمِ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامُهُ النَّفْسَانِيُّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَسْبٌ وَلَا اخْتِرَاعٌ فَتَعَيَّنَ صَرْفُهُ لِأَمْرٍ آخَرَ يَقْتَضِيهِ وَيَسْتَلْزِمُهُ تَوْفِيَةً بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الطَّلَبِ ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا قَوْلُ الْقَائِلِ أَنْتِ طَالِقٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا التَّحْرِيمُ .
وَلَا نَعْنِي بِكَوْنِهَا إنْشَاءً إلَّا ذَلِكَ ، وَسَادِسُهَا أَنَّ الْإِنْشَاءَ هُوَ الْمُتَبَادِرُ فِي الْعُرْفِ إلَى الْفَهْمِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا إلَيْهِ كَسَائِرِ الْمَنْقُولَاتِ .
وَالْجَوَابُ قَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا إنْ لَوْ لَمْ يُقَدِّرْ فِيهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ تَقَدُّمَ مَدْلُولَاتِهَا قَبْلَ النُّطْقِ بِهَا بِالزَّمَنِ الْفَرْدِ لِضَرُورَةِ تَصْدِيقِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا لَكِنْ الْإِضْمَارُ أَوْلَى مِنْ النَّقْلِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، وَلِأَنَّ جَوَازَ الْإِضْمَارِ فِي الْكَلَامِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَالنَّقْلَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَالْمُجْمَعُ عَلَيْهِ أَوْلَى .
وَمَتَى كَانَ الْمَدْلُولُ مُقَدَّرًا قَبْلَ الْخَبَرِ كَانَ الْخَبَرُ صَادِقًا فَلَا يَلْزَمُ الْكَذِبُ وَلَا النَّقْلُ لِلْإِنْشَاءِ وَبَقِيَتْ إخْبَارَاتٌ عَلَى

مَوْضُوعَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ وَعَمِلْنَا بِالْأَصْلِ فِي عَدَمِ النَّقْلِ ، وَأَنْتُمْ خَالَفْتُمُوهُ وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الدَّوْرَ غَيْرُ لَازِمٍ ؛ لِأَنَّ النُّطْقَ بِاللَّفْظِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى شَيْءٍ وَبَعْدَهُ يُقَدَّرُ تَقَدُّمُ الْمَدْلُولِ وَبَعْدَ تَقْدِيرِ الْمَدْلُولِ يَحْصُلُ الصِّدْقُ ، وَيَلْزَمُ الْحُكْمُ فَالصِّدْقُ مُتَوَقِّفٌ مُطْلَقًا وَاللَّفْظُ مُتَوَقِّفٌ عَلَيْهِ مُطْلَقًا ، وَالتَّقْدِيرُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى النُّطْقِ وَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الصِّدْقُ فَهَهُنَا ثَلَاثَةُ أُمُورٍ مُتَرَتِّبَةٌ بَعْضُهَا بَعْدَ بَعْضٍ ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ قَبْلَ الْآخَرِ وَبَعْدَهُ حَتَّى يَلْزَمَ الدَّوْرُ بَلْ هِيَ كَالِابْنِ وَالْأَبِ وَالْجَدِّ فِي التَّرْتِيبِ وَالتَّوَقُّفِ فَانْدَفَعَ الدَّوْرُ ، وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّا نَلْتَزِمُ أَنَّهَا إخْبَارَاتٌ عَنْ الْمَاضِي وَلَا يَتَعَذَّرُ التَّعْلِيقُ ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمَاضِيَ لَهُ تَفْسِيرٌ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَاضٍ تَقَدَّمَ مَدْلُولُهُ قَبْلَ النُّطْقِ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ فَهَذَا يَتَعَذَّرُ تَعْلِيقُهُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعْلِيقِ تَوْقِيفُ أَمْرٍ فِي دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ عَلَى دُخُولِ أَمْرٍ آخَرَ فِي الْوُجُودِ ، وَهُوَ الشَّرْطُ وَمَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ وَتَحَقَّقَ لَا يُمْكِنُ تَوْقِيفُ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ عَلَى غَيْرِهِ فَلِذَلِكَ تَعَذَّرَ تَعْلِيقُ الْمَاضِي الْمُحَقَّقِ ، وَثَانِيهِمَا مَاضٍ بِالتَّقْدِيرِ لَا بِالتَّحْقِيقِ فَهَذَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ .
وَتَقْدِيرُهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ ارْتِبَاطِ طَلَاقِ امْرَأَتِهِ بِدُخُولِ الدَّارِ فَيُقَدِّرُ صَاحِبُ الشَّرْعِ هَذَا الِارْتِبَاطَ قَبْلَ نُطْقِهِ بِالزَّمَنِ الْفَرْدِ لِضَرُورَةِ تَصْدِيقِهِ وَإِذَا قُدِّرَ الِارْتِبَاطُ قَبْلَ النُّطْقِ صَارَ الْإِخْبَارُ عَنْ الِارْتِبَاطِ مَاضِيًا ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَاضِي هُوَ الَّذِي مُخْبَرُهُ قَبِلَ خَبَرَهُ ، وَهَذَا كَذَلِكَ بِالتَّقْدِيرِ فَيَكُونُ مَاضِيًا مَعَ التَّعْلِيقِ فَقَدْ اجْتَمَعَ التَّعْلِيقُ وَالْمُضِيُّ بِهَذَا التَّفْسِيرِ وَلَمْ يُنَافِ الْمُضِيُّ التَّعْلِيقَ

فَتَأَمَّلْهُ وَعَنْ الرَّابِعِ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ عَنْ الطَّلْقَةِ الْمَاضِيَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ طَلْقَةٌ ثَانِيَةٌ ، وَإِنْ قَصَدَ الْإِخْبَارَ عَنْ طَلْقَةٍ ثَانِيَةٍ فَهُوَ إخْبَارٌ كَاذِبٌ لِعَدَمِ تَقَدُّمِ وُقُوعِ ثَانِيَةٍ فَيَحْتَاجُ لِلتَّقْدِيرِ لِضَرُورَةِ التَّصْدِيقِ فَتَلْزَمُهُ الثَّانِيَةُ بِالتَّقْدِيرِ كَالْأُولَى ، فَقَوْلُكُمْ إنَّ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ تَسْتَغْنِي عَنْ التَّقْدِيرِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلْ هِيَ وَغَيْرُهَا سَوَاءٌ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا إذَا كَانَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ إخْبَارًا عَنْ الطَّلْقَةِ الْأُولَى ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَعَنْ الْخَامِسِ أَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَنَا مُتَعَلِّقٌ بِإِيجَادِ خَبَرٍ يُقَدِّرُ الشَّرْعُ قِبَلَهُ الطَّلَاقَ فَيَلْزَمُ الطَّلَاقُ لَا إنْشَاءُ الطَّلَاقِ حَتَّى يَكُونَ اللَّفْظُ سَبَبًا كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ بَلْ خَبَرًا صِرْفًا مَعَ التَّقْدِيرِ .
وَهَذَا أَمْرٌ مُمْكِنٌ مُتَصَوَّرٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ بِالنَّقْلِ وَالْعُدُولِ عَنْ اللُّغَةِ الصَّرِيحَةِ فَهَذِهِ أَجْوِبَةٌ حَسَنَةٌ لِلْحَنَفِيَّةِ وَأَمَّا الْوَجْهُ السَّادِسُ فَلَا يَتَأَتَّى الْجَوَابُ عَنْهُ إلَّا بِالْمُكَابَرَةِ فَإِنَّ الْمُبَادَرَةَ لِلْإِنْشَاءِ وَالْعُدُولِ عَنْ الْخَبَرِ مُدْرَكٌ لَنَا بِالْعُقُولِ بِالضَّرُورَةِ وَلَا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا أَنَّ الْقَائِلَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ يَحْسُنُ تَصْدِيقُهُ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ التَّقْدِيرِ .
وَالْبَحْثُ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَعْتَمِدُ التَّنَاصُفَ فِي الْوِجْدَانِ فَمَنْ لَمْ يُنْصِفْ يَقُلْ مَا شَاءَ ) قُلْت أَمَّا احْتِجَاجَاتُ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فَصَحِيحَةٌ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمَرَامَ الظَّنُّ حَاشَا الْأَخِيرِ مِنْهَا فَهُوَ قَوِيٌّ يُمْكِنُ فِيهِ ادِّعَاءُ الْقَطْعِ ، وَأَمَّا جَوَابَاتُ الْحَنَفِيَّةِ فَضَعِيفَةٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَبْنِيٌّ عَلَى إلْجَاءِ ضَرُورَةِ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا إلَى تَقْدِيرِ تَقَدُّمِ مَدْلُولَاتِهَا ، وَصِدْقُ الْمُتَكَلِّمِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ خَبَرٌ وَهُوَ مَحَلُّ

النِّزَاعِ وَقَوْلُهُمْ فِي هَذَا الْجَوَابِ ، وَلِأَنَّ جَوَازَ الْإِضْمَارِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالنَّقْلَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، وَالْمُجْمَعُ عَلَيْهِ أَوْلَى مُسَلَّمٌ لَكِنْ لَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مُفْتَقِرًا إلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ مَا لَمْ يَقَعْ ثُمَّ إضْمَارِهِ أَوْ إلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِهِ دُونَ إضْمَارِهِ ، وَتَقْدِيرُ وُقُوعِ مَا لَمْ يَقَعْ لَيْسَ هُوَ الْإِضْمَارُ فَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْإِضْمَارِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي فَقَوْلُهُمْ فِيهِ وَبَعْدَ تَقْدِيرِ الْمَدْلُولِ يَحْصُلُ الصِّدْقُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ لَا يَحْصُلُ إلَّا تَقْدِيرُ الصِّدْقِ .
وَأَمَّا الصِّدْقُ فَلَا وَكَيْفَ تَحْصُلُ حَقِيقَةُ الصِّدْقِ بِنَاءً عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ مَا لَمْ يَقَعْ ، هَذَا وَاضِحُ السُّقُوطِ وَالْبُطْلَانِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّالِثُ فَمَبْنِيٌّ عَلَى ضَرُورَةِ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ ، وَضَرُورَةُ الصِّدْقِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى كَوْنِ كَلَامِهِ خَبَرًا ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْجَوَابِ الْأَوَّلِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ الرَّابِعُ فَمَبْنِيٌّ أَيْضًا عَلَى ضَرُورَةِ الصِّدْقِ وَفِيهِ مَا فِي الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ الْخَامِسُ فَهُوَ أَشْبَهُ أَجْوِبَتِهِمْ وَمُقْتَضَاهُ إبْدَاءُ احْتِمَالٍ فِي مُتَعَلِّقِ الْأَمْرِ ، وَهُوَ غَيْرُ مَدْفُوعٍ لَكِنَّهُ مَرْجُوحٌ بِصِحَّةِ الِاحْتِجَاجَاتِ السَّابِقَةِ ، وَمَتْرُوكٌ بِالِاحْتِجَاجِ السَّادِسِ إنْ صَحَّ قَاطِعًا ، وَأَمَّا السَّادِسُ مِنْ الِاحْتِجَاجَاتِ فَلَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ عَنْهُ جَوَابًا فَكَفَى فِيهِ الْمُؤْنَةُ .
وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا الِاحْتِجَاجِ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالْمُكَابَرَةِ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
.

( فَصْلٌ ) يَنْقَسِمُ الْإِنْشَاءُ إلَى مُجْمَعٍ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَمُخْتَلَفٍ فِيهِ ، وَالْمُجْمَعُ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : ( الْأَوَّلُ ) الْقَسَمُ كَقَوْلِنَا أُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَقَدْ قَامَ زَيْدٌ اتَّفَقَ أَهْلُ اللِّسَانِ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ قَائِلَهُ أَنْشَأَ بِهِ الْقَسَمَ لَا أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ عَنْ وُقُوعٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَجَمِيعُ لَوَازِمِ الْإِنْشَاءِ مَوْجُودَةٌ فِيهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الصِّدْقُ وَلَا الْكَذِبُ فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ فُضَلَاءِ النُّحَاةِ الْقَسَمُ جُمْلَةٌ إنْشَائِيَّةٌ يُؤَكِّدُ بِهَا جُمْلَةً خَبَرِيَّةً .
( الْقِسْمُ الثَّانِي ) الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي نَحْوَ قَوْلِنَا : افْعَلْ لَا تَفْعَلْ اتَّفَقَ الْجَاهِلِيَّةُ وَالْإِسْلَامُ عَلَى أَنَّهُ إنْشَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُهُ إلْزَامُ الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ لَوَازِمِ الْإِنْشَاءِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الصِّدْقُ وَلَا الْكَذِبُ .
( الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) التَّرَجِّي نَحْوَ لَعَلَّ اللَّهَ يَأْتِينَا بِخَيْرٍ ، وَالتَّمَنِّي نَحْوَ لَيْتَ لِي مَالًا فَأُنْفِقُ مِنْهُ ، وَالْعَرْضُ نَحْوَ أَلَا تَنْزِلُ عِنْدَنَا فَتُصِيبَ خَيْرًا .
وَالتَّحْضِيضُ وَصِيَغُهُ أَرْبَعٌ : وَهِيَ أَلَّا بِالتَّشْدِيدِ نَحْوَ أَلَّا تَشْتَغِلُ بِالْعِلْمِ ، وَهَلَّا وَلَوْ مَا وَلَوْلَا ، نَحْوَ هَلَّا أَوْ لَوْ مَا أَوْ لَوْلَا اشْتَغَلْتَ بِهِ فَإِنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ كُلَّهَا إمَّا لِلطَّلَبِ أَوْ يَتْبَعُهَا الطَّلَبُ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا وَلَا يَلْزَمُهَا صِدْقٌ وَلَا كَذِبٌ فَهِيَ كَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي إنْشَاءً .
( الْقِسْمُ الرَّابِعُ ) النِّدَاءُ نَحْوَ يَا زَيْدُ اُتُّفِقَ أَنَّهُ إنْشَاءٌ لِأَنَّهُ طَلَبٌ لِحُضُورِ الْمُنَادَى ، وَالطَّلَبُ إنْشَاءٌ نَحْوَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي أَنَّ الْمُفِيدَ لِلنِّدَاءِ الْحَرْفُ وَحْدَهُ أَوْ فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ أُنَادِي زَيْدًا .
قَالَ الْمُبَرِّدُ وَهَذَا الْفِعْلُ الْمُضْمَرُ لَا يَلْزَمُهُ الصِّدْقُ وَلَا الْكَذِبُ حَتَّى يَكُونَ خَبَرًا فَهُوَ إنْشَاءٌ لِطَلَبِ حُضُورِ

الْمُنَادَى ( وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ ) قِسْمَانِ : أَحَدُهُمَا صِيَغُ الْعُقُودِ كَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ وَأَنْتَ حُرٌّ وَامْرَأَتِي طَالِقٌ .
قَالَتْ الْأَحْنَافُ إنَّهَا إخْبَارَاتٌ عَلَى أَصْلِهَا اللُّغَوِيِّ ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ إنَّهَا إنْشَاءَاتٌ مَنْقُولَةٌ عَنْ الْخَبَرِ إلَيْهِ مُحْتَجِّينَ أَوَّلًا بِأَمْرٍ يُمْكِنُ فِيهِ ادِّعَاءُ الْقَطْعِ وَلَا يَتَأَتَّى لِلْأَحْنَافِ الْجَوَابُ عَنْهُ إلَّا بِالْمُكَابَرَةِ ، وَهُوَ أَنَّ الْإِنْشَاءَ هُوَ الْمُتَبَادِرُ فِي الْعُرْفِ إلَى الْفَهْمِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا إلَيْهِ كَسَائِرِ الْمَنْقُولَاتِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُبَادَرَةَ لِلْإِنْشَاءِ وَالْعُدُولَ إلَى الْخَبَرِ مُدْرَكٌ لَنَا بِالْعُقُولِ بِالضَّرُورَةِ ، وَلَا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا أَنَّ الْقَائِلَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ يَحْسُنُ تَصْدِيقُهُ أَوْ تَكْذِيبُهُ وَالْمُصَنِّفُ يَعْتَمِدُ الْوِجْدَانَ وَمَنْ لَمْ يُنْصِفْ يَقُلْ مَا شَاءَ ، وَثَانِيًا بِخَمْسَةِ أُمُورٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ الظَّنُّ لَا الْقَطْعُ .
أَحَدُهَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ إخْبَارًا لَكَانَتْ كَاذِبَةً لِأَنَّهُ لَمْ يَبِعْ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَمْ يُطَلِّقْ وَالْكَذِبُ لَا عِبْرَةَ بِهِ لَكِنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ إخْبَارًا بَلْ إنْشَاءً لِحُصُولِ لُزُومِ الْإِنْشَاءِ فِيهَا مِنْ اسْتِتْبَاعَاتِهِ لِمَدْلُولَاتِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَأَجَابَ الْأَحْنَافُ بِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَدَّرَ فِي هَذِهِ الصِّيَغِ تَقَدُّمَ مَدْلُولَاتِهَا قَبْلَ النُّطْقِ بِهَا بِالزَّمَنِ الْفَرْدِ لِضَرُورَةِ تَصْدِيقِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا ، وَالْإِضْمَارُ أَوْلَى مِنْ النَّقْلِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، وَلِأَنَّ جَوَازَ الْإِضْمَارِ فِي الْكَلَامِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَالنَّقْلَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَالْمُجْمَعُ عَلَيْهِ أَوْلَى وَمَتَى كَانَ الْمَدْلُولُ مُقَدَّرًا قَبْلَ الْخَبَرِ كَانَ الْخَبَرُ صَادِقًا فَلَا يَلْزَمُ الْكَذِبُ وَلَا النَّقْلُ لِلْإِنْشَاءِ ، وَبَقِيَتْ إخْبَارَاتٌ عَلَى مَوْضُوعَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ وَعَمِلْنَا بِالْأَصْلِ فِي عَدَمِ النَّقْلِ ، وَأَنْتُمْ خَالَفْتُمُوهُ

وَفِيهِ نَظَرٌ بِوَجْهَيْنِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ بِنَاءَهُ عَلَى إلْجَاءِ ضَرُورَةِ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا إلَى تَقْدِيرِ تَقَدُّمِ مَدْلُولَاتِهَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ صِدْقَ الْمُتَكَلِّمِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ خَبَرٌ وَهُوَ مَحِلُّ النِّزَاعِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْإِضْمَارِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ضَرُورَةً أَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ مَا لَمْ يَقَعْ ، ثُمَّ إضْمَارِهِ أَوْ إلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِهِ دُونَ إضْمَارِهِ ، وَتَقْدِيرُ وُقُوعِ مَا لَمْ يَقَعْ لَيْسَ هُوَ الْإِضْمَارُ وَثَانِيهَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ إخْبَارًا لَكَانَتْ إمَّا كَاذِبَةً وَلَا عِبْرَةَ بِهَا أَوْ صَادِقَةً فَتَكُونُ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى تَقَدُّمِ أَحْكَامِهَا فَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ تَتَوَقَّفَ عَلَيْهَا أَيْضًا فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ أَوْ لَا تَتَوَقَّفَ عَلَيْهَا فَيَلْزَمُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ أَوْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ ، وَهُوَ سَاكِتٌ وَذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ .
وَأَجَابَ الْأَحْنَافُ بِأَنَّ الدَّوْرَ غَيْرُ لَازِمٍ ؛ لِأَنَّ النُّطْقَ بِاللَّفْظِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى شَيْءٍ وَبَعْدَهُ يُقَدَّرُ تَقَدُّمُ الْمَدْلُولِ وَبَعْدَ تَقْدِيرِ الْمَدْلُولِ يَحْصُلُ الصِّدْقُ وَيَلْزَمُ الْحُكْمُ فَالصِّدْقُ مُتَوَقِّفٌ مُطْلَقًا عَلَى التَّقْدِيرِ وَالْمُتَوَقِّفُ عَلَيْهِ التَّقْدِيرُ مُطْلَقًا اللَّفْظُ ، فَالثَّلَاثَةُ أُمُورٌ مُتَرَتِّبَةٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ تَرَتُّبَ الِابْنِ وَالْأَبِ وَالْجَدِّ ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ قَبْلَ الْآخَرِ وَبَعْدَهُ وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بَعْدَ تَقْدِيرِ الْمَدْلُولِ إلَّا تَقْدِيرُ الصِّدْقِ إذْ كَيْفَ تَحْصُلُ حَقِيقَةُ الصِّدْقِ بِنَاءً عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ مَا لَمْ يَقَعْ .
وَثَالِثُهَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ إخْبَارًا فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ خَبَرًا عَنْ الْمَاضِي أَوْ الْحَاضِرِ فَيَتَعَذَّرُ تَعْلِيقُهَا عَنْ الشَّرْطِ حِينَئِذٍ إذْ مِنْ شَرْطِ الشَّرْطِ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِمُسْتَقْبَلٍ أَوْ تَكُونُ خَبَرًا عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ فَيَصِحُّ تَعْلِيقُهَا عَلَى الشَّرْطِ لَكِنْ لَا يَزِيدُ عَلَى التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ حِينَئِذٍ ، وَهُوَ لَوْ

صَرَّحَ وَقَالَ لِامْرَأَتِهِ سَتَصِيرِينَ طَالِقًا لَمْ تَطْلُقُ بِهَذَا اللَّفْظِ ، وَكَذَلِكَ مَا فِي مَعْنَاهُ .
وَأَجَابَ الْأَحْنَافُ بِالْتِزَامِ أَنَّهَا إخْبَارَاتٌ عَنْ الْمَاضِي وَمُنِعَ تَعَذُّرُ التَّعْلِيقِ عَنْ الْمَاضِي مُطْلَقًا بَلْ عَلَى خُصُوصِ الْمَاضِي الْمُحَقَّقِ لَا الْمُقَدَّرِ كَمَا هُنَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعْلِيقِ تَوْقِيفُ أَمْرٍ فِي دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ عَلَى دُخُولِ أَمْرٍ آخَرَ فِي الْوُجُودِ وَهُوَ الشَّرْطُ ، وَمَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ وَتَحَقَّقَ لَا يُمْكِنُ تَوْقِيفُ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ عَلَى غَيْرِهِ بِخِلَافِ مَا كَانَ دُخُولُهُ فِي الْوُجُودِ غَيْرَ مُحَقَّقٍ بَلْ مُقَدَّرٌ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَوْقِيفُ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ عَلَى غَيْرِهِ فَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ ارْتِبَاطِ طَلَاقِ امْرَأَتِهِ بِدُخُولِ الدَّارِ فَيُقَدِّرُ صَاحِبُ الشَّرْعِ هَذَا الِارْتِبَاطَ قَبْلَ نُطْقِهِ بِهِ بِالزَّمَنِ الْفَرْدِ لِضَرُورَةِ تَصْدِيقِهِ ، وَإِذَا قُدِّرَ الِارْتِبَاطُ قَبْلَ النُّطْقِ صَارَ الْإِخْبَارُ عَنْ الِارْتِبَاطِ مَاضِيًا ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَاضِي هُوَ الَّذِي مُخْبَرُهُ قَبِلَ خَبَرَهُ ، وَهَذَا كَذَلِكَ بِالتَّقْدِيرِ فَيَكُونُ مَاضِيًا مَعَ التَّعْلِيقِ فَقَدْ اجْتَمَعَ الْمُضِيُّ وَالتَّعْلِيقُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ ، وَلَمْ يُنَافِ الْمُضِيُّ التَّعْلِيقَ فَتَأَمَّلْهُ فَهُوَ دَقِيقٌ فِي بَابِ التَّقْدِيرَاتِ ، وَفِيهِ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى ضَرُورَةِ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ ، وَضَرُورَةُ الصِّدْقِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى كَوْنِ كَلَامِهِ خَبَرًا ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْجَوَابِ عَنْ الِاحْتِجَاجِ الْأَوَّلِ .
وَرَابِعُهَا : أَنَّ لُزُومَ طَلْقَةٍ أُخْرَى لِمَنْ قَالَ لِمُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ أَنْتِ طَالِقٌ بِلَا خِلَافٍ مَعَ أَنَّ إخْبَارَهُ صَادِقٌ بِاعْتِبَارِ الطَّلْقَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ مُنْشِئَةٌ لِلطَّلَاقِ .
وَأَجَابَ الْأَحْنَافُ بِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ لِمُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ إنْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ عَنْ الطَّلْقَةِ الْمَاضِيَةِ لَمْ تَلْزَمْهُ طَلْقَةٌ

ثَانِيَةٌ ، وَإِنْ قَصَدَ الْإِخْبَارَ عَنْ طَلْقَةٍ ثَانِيَةٍ فَهُوَ إخْبَارٌ كَاذِبٌ لِعَدَمِ تَقَدُّمِ وُقُوعِ ثَانِيَةٍ فَيَحْتَاجُ لِلتَّقْدِيرِ لِضَرُورَةِ التَّصْدِيقِ فَيَلْزَمُهُ الثَّانِيَةُ بِالتَّقْدِيرِ كَالْأُولَى ، فَالْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ وَغَيْرُهَا سَوَاءٌ فِي عَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ التَّقْدِيرِ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْفَرْقُ بَيْنَهَا إذَا كَانَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ إخْبَارًا عَنْ الطَّلْقَةِ الْأُولَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَهَذَا الْجَوَابُ أَيْضًا مَبْنِيٌّ عَلَى ضَرُورَةِ الصِّدْقِ وَفِيهِ مَا فِي الْجَوَابَيْنِ عَنْ الِاحْتِجَاجِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ فَلَا تَغْفُلْ .
وَخَامِسُهَا قَوْله تَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أَمْرٌ بِالطَّلَاقِ ، وَالْأَمْرُ بِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى التَّحْرِيمِ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامُهُ النَّفْسَانِيُّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَسْبٌ وَلَا اخْتِرَاعٌ فَتَعَيَّنَ صَرْفُهُ لِأَمْرٍ آخَرَ يَسْتَلْزِمُهُ تَوْفِيَتُهُ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الطَّلَبِ وَمَا ذَلِكَ الْأَمْرُ إلَّا قَوْلُ الْقَائِلِ أَنْتِ طَالِقٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا التَّحْرِيمُ وَلَا نَعْنِي بِكَوْنِهَا إنْشَاءً إلَّا ذَلِكَ .
وَأَجَابَ الْأَحْنَافُ بِأَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَنَا مُتَعَلِّقٌ بِإِيجَادِ خَبَرٍ يُقَدِّرُ الشَّرْعُ قِبَلَهُ الطَّلَاقَ فَيَلْزَمُ الطَّلَاقُ لَا بِإِيجَادِ إنْشَاءِ الطَّلَاقِ حَتَّى يَكُونَ اللَّفْظُ سَبَبًا كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ بَلْ خَبَرًا صِرْفًا مَعَ التَّقْدِيرِ ، وَهَذَا أَمْرٌ مُمْكِنٌ مُتَصَوَّرٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ بِالنَّقْلِ وَالْعُدُولِ عَنْ اللُّغَةِ الصَّرِيحَةِ ، وَمُقْتَضَى هَذَا الْجَوَابِ إبْدَاءُ احْتِمَالٍ فِي مُتَعَلِّقِ الْأَمْرِ ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَشْبَهَ أَجْوِبَتِهِمْ وَغَيْرَ مَدْفُوعٍ إلَّا أَنَّهُ مَرْجُوحٌ بِصِحَّةِ الِاحْتِجَاجَاتِ الْخَمْسَةِ السَّابِقَةِ ، وَمَتْرُوكٌ بِالِاحْتِجَاجِ الَّذِي قَبْلَ الْخَمْسَةِ إنْ صَحَّ قَاطِعًا إذْ يَكْفِي فِي مُتُونَتِهِ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ لَهُمْ عَنْهُ جَوَابٌ وَأَنَّ

صِحَّةَ الْجَوَابِ عَنْهُ لَا تَتَأَتَّى إلَّا بِالْمُكَابَرَةِ فَافْهَمْ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي صِيَغُ الْحَمْدِ وَالذِّكْرِ وَالتَّنْزِيهِ وَنَحْوِهَا قَالَ الْعَلَّامَةُ الشِّرْبِينِيُّ رَأَيْتُ عَنْ بَعْضِهِمْ فِيهَا حِكَايَةَ قَوْلَيْنِ : لُزُومُ الْقَصْدِ أَيْ قَصْدِ الْإِنْشَاءِ وَعَدَمُهُ ، وَلَعَلَّ الْأَوَّلَ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ تَسْلِيمِ النَّقْلِ فِيهَا بِنَاءً عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضٌ إنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ كَصِيَغِ الْعُقُودِ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ صِيَغَ الْعُقُودِ نَقَلَهَا الشَّرْعُ إلَى الْإِنْشَاءِ لِمَصْلَحَةِ الْأَحْكَامِ وَإِثْبَاتِ النَّقْلِ لِمَا نَحْنُ فِيهِ أَيْ مِنْ نَحْوِ صِيَغِ الْحَمْدِ بِلَا ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ مُشْكِلٌ جِدًّا فَالْحَقُّ أَنَّهَا أَخْبَارٌ اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْإِنْشَاءِ مَجَازًا ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْإِخْبَارِ بِهَا بَعِيدٌ ا هـ .
وَالْمَجَازُ إمَّا مُرْسَلٌ بِنَقْلِ لَفْظِ الْجُمْلَةِ مِنْ الْإِثْبَاتِ عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ إلَى مُطْلَقِ الْإِثْبَاتِ ثُمَّ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى وَجْهِ الْإِنْشَاءِ إمَّا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ فَرْدًا فَيَكُونُ بِمَرْتَبَةٍ لِلتَّقْيِيدِ أَوْ مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهِ فَيَكُونُ بِمَرْتَبَتَيْنِ أَيْ نَقْلَتَيْنِ لِلتَّقْيِيدِ ، ثُمَّ الْإِطْلَاقُ أَوْ بِالِاسْتِعَارَةِ الْمُرَكَّبَةِ الْغَيْرِ التَّمْثِيلِيَّةِ بِتَشْبِيهِ الْإِنْشَاءِ بِالْخَبَرِ إمَّا بِنَاءً عَلَى التَّضَادِّ الْمُنَزَّلِ مَنْزِلَةَ التَّنَاسُبِ ، وَإِمَّا فِي تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ حَتَّى كَأَنَّهُ وَاقِعٌ وَيَسْتَحِقُّ الْإِخْبَارَ عَنْهُ لِمَا لِلْعِصَامِ مِنْ أَنَّ التَّجَوُّزَ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْهَيْئَةِ التَّرْكِيبِيَّةِ وَفِي التَّمْثِيلِيَّةِ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ مَادَّةِ الْمُرَكَّبِ الْمَوْضُوعِ لِلْهَيْئَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ اجْتِمَاعِ مَعَانِي مُفْرَدَاتِهِ فِي الذِّهْنِ .
قَالَ الْعَطَّارُ وَعَلَى تَقْدِيرِ خَبَرِيَّتِهَا أَيْ صِيغَةِ الْحَمْدِ يُقَالُ : إنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا إخْبَارُ أَحَدٍ بَلْ قُصِدَ بِهَا تَحْصِيلُ الْحَمْدِ كَبَقِيَّةِ صِيَغِ الْأَذْكَارِ وَالتَّنْزِيهَاتِ ،

وَكَيْفَ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ وَمَنْ الَّذِي قَصَدَ إخْبَارَهُ حَتَّى تَكُونَ الْإِفَادَةُ لَهُ وَلَوْ فُرِضَ مُخَاطَبٌ قُصِدَ إخْبَارُهُ لَكَانَ الْإِخْبَارُ بِهِ كَالْإِخْبَارِ بِقَوْلِنَا السَّمَاءُ فَوْقَنَا وَقَدْ مَرَّ عَنْ عَلَاءِ الدِّينِ النَّجَّارِيِّ أَنَّ الْجُمَلَ الْخَبَرِيَّةَ لَا يَلْزَمُهَا الْإِخْبَارُ بَلْ قَدْ تَكُونُ لِلتَّحَسُّرِ وَالتَّحَزُّنِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ وَالتَّحْمِيدُ فَيَكُونُ قَائِلُهَا حَامِدًا كَمَا كَانَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ مُتَحَسِّرَةً وَلَا تَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهَا مُحْتَمِلَةً لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ ؛ لِأَنَّهَا إذَا نُظِرَ لِمُجَرَّدِ مَفْهُومِهَا تَحْتَمِلُهَا وَهَذَا هُوَ الْفَاصِلُ لِلْخَبَرِ عَنْ الْإِنْشَاءِ .
ا هـ بِتَغْيِيرٍ وَتَصَرُّفٍ ( قُلْت ) وَعَلَى هَذَا فَصِيغَةُ الْحَمْدِ وَالذِّكْرِ وَالتَّنْزِيهِ وَنَحْوِهَا مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ إمَّا بِمَعْنَى اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ لِمُلَاحَظَةِ عَلَاقَتِهِ مَعَ جَوَازِ إرَادَتِهِ مَعَهُ ، أَوْ بِمَعْنَى اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ لَكِنْ لَا لِيَكُونَ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ بَلْ لِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إلَى لَازِمِهِ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْعَلَاقَةِ عَلَى الطَّرِيقَتَيْنِ فِيهَا مِنْ كَوْنِهِ وَاسِطَةً بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَوْ حَقِيقَةً كَمَا فِي رِسَالَةِ الصَّبَّانِ الْبَيَانِيَّةِ وَفِي حَاشِيَةِ الْأُنْبَابِيِّ عَلَيْهَا مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْخَبَرِيَّةَ كَثِيرًا مَا تُورَدُ مُرَادًا بِهَا مَعْنَاهَا أَيْ مَفْهُومَهَا الْمُحْتَمِلُ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لِأَغْرَاضٍ أُخَرَ سِوَى إفَادَةِ الْحُكْمِ أَيْ الْإِعْلَامِ بِمَضْمُونِهَا أَوْ لَازِمِهِ أَيْ كَوْنُ الْمُتَكَلِّمِ عَالِمًا بِهِ كَالتَّحَسُّرِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمَعَانِي الْإِنْشَائِيَّةِ بِدُونِ اسْتِعْمَالِهَا فِي ذَلِكَ الْغَرَضِ بَلْ يُرَادُ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ فِيمَا فِيهِ عَلَاقَتُهَا مِنْ اللُّزُومِ الْخَاصِّ أَوْ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ فِي غَيْرِهِ أَيْ فَهِيَ حِينَئِذٍ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ خَارِجَةٌ عَنْ الْأَصْلِ فِي الْخَبَرِ

مِنْ الْإِعْلَامِ بِمَضْمُونِهِ يُقَالُ لِلْمُتَكَلِّمِ بِهَا مُخْبِرٌ لَا مُعْلِمٌ ؛ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ فِي الْعُرْفِ التَّلَفُّظُ بِالْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ مُرَادًا بِهَا مَعْنَاهُ ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِهَا الْعِلْمُ وَلِذَا يُعْتَقُ الْكُلُّ فِيمَا إذَا قَالَ مَنْ أَخْبَرَنِي بِقُدُومِ زَيْدٍ فَهُوَ حُرٌّ ، وَأَخْبَرُوهُ عَلَى التَّعَاقُبِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ السَّعْدُ فِي شَرْحِ الْكَشَّافِ

ثُمَّ أُوَشِّحُ مَا تَقَدَّمَ بِمَسَائِلَ جَلِيلَةٍ وَمَبَاحِثَ جَمِيلَةٍ وَهِيَ سِتٌّ : ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) مِمَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ إنْشَاءٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَهُوَ الظِّهَارُ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي يَعْتَقِدُ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ إنْشَاءٌ لِلظِّهَارِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْشَاءٌ لِلطَّلَاقِ فَإِنَّ الْبَابَيْنِ فِي الْإِنْشَاءِ سَوَاءٌ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ خَصَائِصِ الْإِنْشَاءِ عَدَمَ قَبُولِهِ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا } فَكَذَّبَهُمْ اللَّهُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } فَنَفَى تَعَالَى مَا أَثْبَتُوهُ وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لَهُ مَا هِيَ مُطَلَّقَةٌ ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ ذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ عَنْ تَقَدُّمِ طَلَاقِهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا طَلَاقٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْمُظَاهِرِ خَبَرٌ لَا إنْشَاءٌ ، وَالْمَوْطِنُ الثَّانِي فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ } وَالْإِنْشَاءُ لِلتَّحْرِيمِ لَا يَكُونُ مُنْكَرًا بِدَلِيلِ الطَّلَاقِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُنْكَرًا إذَا جَعَلْنَاهُ خَبَرًا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ كَذِبٌ وَالْكَذِبُ مُنْكَرٌ وَالْمَوْطِنُ الثَّالِثُ قَوْله تَعَالَى وَزُورًا وَالزُّورُ هُوَ الْخَبَرُ الْكَذِبُ فَيَكُونُ قَوْلُهُمْ كَذِبًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ، وَإِذَا كَذَّبَهُمْ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ خَبَرٌ لَا إنْشَاءٌ .
( وَثَانِيهَا ) أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ مُحَرَّمٌ ، وَلَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ مُدْرَكٌ إلَّا أَنَّهُ كَذِبٌ وَالْكَذِبُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْخَبَرِ فَيَكُونُ خَبَرًا فَإِنْ قُلْت الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ إنْشَاءٌ وَهُوَ مُحَرَّمٌ فَلَا يُسْتَدَلُّ بِالتَّحْرِيمِ عَلَى

الْخَبَرِ قُلْتُ : الطَّلَاقُ مُحَرَّمٌ لَا لِلَفْظِهِ بَلْ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ، وَأَمَّا تَحْرِيمُ الظِّهَارِ فَلِأَجْلِ اللَّفْظِ وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ إلَّا كَوْنُهُ كَذِبًا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ غَيْرِهِ ، وَمَتَى كَانَ كَذِبًا كَانَ خَبَرًا ؛ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ مِنْ خَصَائِصِ الْخَبَرِ .
( وَثَالِثُهَا ) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَّعَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ ، وَأَصْلُ الْكَفَّارَةِ أَنْ تَكُونَ زَاجِرَةً مَاحِيَةً لِلذَّنْبِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى التَّحْرِيمِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ إذَا كَانَ كَذِبًا كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ بَقِيَّةِ التَّقْرِيرِ .
( وَرَابِعُهَا ) قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ { ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ } وَالْوَعْظُ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِذَا جُعِلَتْ الْكَفَّارَةُ وَعْظًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا زَاجِرَةٌ لَا سَاتِرَةٌ ، وَأَنَّهُ حَصَلَ هُنَالِكَ مَا يَقْتَضِي الْوَعْظَ وَمَا ذَلِكَ إلَّا الظِّهَارُ الْمُحَرَّمُ فَيَكُونُ مُحَرَّمًا لِكَوْنِهِ كَذِبًا فَيَكُونُ خَبَرًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّقْرِيرِ .
( وَخَامِسُهَا ) قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَةِ { وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } وَالْعَفْوُ وَالْمَغْفِرَةُ إنَّمَا يَكُونَانِ فِي الْمَعَاصِي فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَلَا مُدْرَكَ لِلْمَعْصِيَةِ إلَّا كَوْنُهُ كَذِبًا وَالْكَذِبُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْخَبَرِ فَيَكُونُ خَبَرًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
( فَإِنْ قُلْتَ ) بَلْ هُوَ إنْشَاءٌ مِنْ وُجُوهٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّ كُتُبَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ مُتَظَافِرَةٌ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِسْلَامِ تَحْرِيمًا تُحِلُّهُ الْكَفَّارَةُ كَمَا تُحِلُّ الرَّجْعَةُ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ وَالْحَدِيثُ فِي أَبِي دَاوُد وَرَدَ فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ { أَنَّ خُوَيْلَةَ بِنْتَ مَالِكٍ قَالَتْ ظَاهَرَ مِنِّي زَوْجِي أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْكُو إلَيْهِ وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُجَادِلُنِي فِيهِ وَيَقُولُ اتَّقِي اللَّهَ

فَإِنَّهُ ابْنُ عَمِّك فَمَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } الْآيَةَ فَقَالَ لِيُعْتِقْ رَقَبَةً قَالَتْ لَا يَجِدُ قَالَ فَيَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ قَالَ فَيُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَتْ مَا عِنْدَهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَصَدَّقُ بِهِ قَالَ فَإِنِّي سَأُعِينُهُ بِفَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا سَأُعِينُهُ بِفَرَقٍ آخَرَ قَالَ قَدْ أَحْسَنْتِ فَاذْهَبِي وَأَطْعِمِي عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَارْجِعِي إلَى ابْنِ عَمِّكِ } وَرُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا قَالَتْ { إنَّهُ قَدْ أَكَلَ شَبَابِي وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي فَلَمَّا كَبِرَتْ سِنِّي ظَاهَرَ مِنِّي وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ إنْ ضَمَّهُمْ إلَيْهِ ضَاعُوا وَإِنْ ضَمَمْتُهُمْ إلَيَّ جَاعُوا } قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَطْعِمِي وَارْجِعِي إلَى ابْنِ عَمِّكِ } يَقْتَضِي أَنَّهُ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَ الْحَالُ يَقْتَضِي أَنَّهَا لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ بِطَرِيقٍ مِنْ الطُّرُقِ وَهَذَا هُوَ الطَّلَاقُ الْمُؤَبَّدُ .
وَالطَّلَاقُ إنْشَاءٌ فَيَكُونُ الظِّهَارُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ طَلَاقًا وَالْأَصْلُ عَدَمُ النَّقْلِ وَالتَّغْيِيرِ وَمَنْ ادَّعَاهُ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ .
( وَثَانِيهَا ) أَنَّهُ مُنْدَرِجٌ فِي حَدِّ الْإِنْشَاءِ فَيَكُونُ إنْشَاءً ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّحْرِيمُ فَيَكُونُ سَبَبًا لَهُ وَالْإِنْشَاءُ مِنْ خَصَائِصِهِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِمَدْلُولِهِ وَثُبُوتُ خَصِيصِيَّةِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ فَيَكُونُ إنْشَاءً كَالطَّلَاقِ .
( وَثَالِثُهَا ) أَنَّهُ لَفْظٌ يَسْتَتْبِعُ أَحْكَامًا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ التَّحْرِيمِ وَالْكَفَّارَةِ وَغَيْرِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إنْشَاءً كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْإِنْشَاءِ فَإِنَّ خُرُوجَ هَذَا اللَّفْظِ عَنْ بَابِ الْإِنْشَاءِ بَعِيدٌ جِدًّا لَا سِيَّمَا وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لَهُ صَرِيحًا وَكِنَايَةً كَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ .
( وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ ) أَنَّ

قَوْلَهُمْ أَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْشِئُونَ الطَّلَاقَ بَلْ يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِصْمَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَزُولُ عِنْدَ النُّطْقِ بِهِ فَمَجَازٌ أَنْ يَكُونَ زَوَالُهَا ؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ كَمَا قُلْتُمْ أَوْ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَجَرَتْ عَادَتُهُمْ أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ بِهَذَا الْخَبَرِ الْكَذِبِ لَا تَبْقَى امْرَأَتُهُ فِي عِصْمَتِهِ مَتَى الْتَزَمَ بِجَاهِلِيَّتِهِمْ ، وَلَيْسَ فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا يَأْبَى ذَلِكَ بَلْ لَعِبُهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ الْتَزَمُوا أَنَّ النَّاقَةَ إذَا جَاءَتْ بِعَشَرَةٍ مِنْ الْوَلَدِ تَصِيرُ سَائِبَةً ، فَمَجَازٌ أَنْ يَلْتَزِمُوا ذَهَابَ الْعِصْمَةِ عِنْدَ كَذِبٍ خَاصٍّ ، وَيُقَوِّي هَذَا الِاحْتِمَالَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ } الْآيَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ التَّكْذِيبَ مِنْ خَصَائِصِ الْخَبَرِ فَيَكُونُ ظِهَارُهُمْ خَبَرًا كَذِبًا الْتَزَمُوا عَقِيبَهُ ذَهَابَ الْعِصْمَةِ كَسَائِرِ مُلْتَزَمَاتِهِمْ الْبَاطِلَةِ ، وَقَدْ عَدَّهَا الْعُلَمَاءُ نَحْوَ عِشْرِينَ نَوْعًا مِنْ التَّحْرِيمَاتِ الْتَزَمُوهَا بِغَيْرِ سَبَبٍ يَقْتَضِيهَا مِنْ جِهَةِ الشَّرَائِعِ .
وَذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ ( فَإِنْ قُلْت ) الْآيَةُ لَا تُؤَكِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ فَإِنَّ الْفِعْلَ فِيهَا مُضَارِعٌ لَا مَاضٍ ، فَقَالَ يُظَاهِرُونَ وَلَمْ يَقُلْ ظَاهَرُوا بِصِيغَةِ الْمَاضِي حَتَّى يَتَنَاوَلَ الْجَاهِلِيَّةَ بَلْ هُوَ خَاصٌّ بِمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ أَوْ حَالَ نُزُولِهَا .
( قُلْت ) بَلْ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِمَ ذَلِكَ وَأَدْخَلَ الْمَظَاهِرَ الْمَاضِيَةِ فِي عُمُومِ الْآيَةِ مِنْ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِقَوْلِ الْعُلَمَاءِ إنَّهُ كَانَ طَلَاقًا فَأَقَرَّ تَحْرِيمًا تُحِلُّهُ الْكَفَّارَةُ وَعَلَى مَا يَقُولُهُ السَّائِلُ يَكُونُ بَابًا آخَرَ

تَجَدَّدَ فِي الشَّرِيعَةِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَالْعَرَبُ قَدْ تَسْتَعْمِلُ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ لِلْحَالَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ كَقَوْلِهِمْ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَصِلُ وَيَقْطَعُ تُرِيدُ هَذَا شَأْنُهُ أَبَدًا فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ ، وَمِنْهُ { قَوْلُ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ لَنْ يُخْزِيَك أَبَدًا إنَّك لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ } أَيْ هَذَا شَأْنُكَ وَسَجِيَّتُكَ فِي جَمِيعِ عُمُرِكَ ، وَعَلَى هَذَا تَنْتَظِمُ الْآيَةُ عَلَى الْجَمِيعِ .
( وَعَنْ الثَّانِي ) أَنَّ تَرَتُّبَ التَّحْرِيمِ عَلَى الظِّهَارِ مَمْنُوعٌ بَلْ الَّذِي فِي الْآيَةِ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْوَطْءِ كَتَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ عَلَى الصَّلَاةِ فَإِذَا قَالَ الشَّارِعُ تَطَهَّرْ قَبْلَ أَنْ تُصَلِّيَ لَا يُقَالُ الصَّلَاةُ مُحَرَّمَةٌ بَلْ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ التَّرْتِيبِ كَتَقْدِيمِ الْإِيمَانِ عَلَى الْفُرُوعِ وَتَقْدِيمِ الْإِيمَانِ بِالصَّانِعِ عَلَى تَصْدِيقِ الرُّسُلِ سَلَّمْنَا أَنَّ الظِّهَارَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَحْرِيمٌ لَكِنْ التَّحْرِيمُ عَقِيبَ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ اقْتَضَاهُ بِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ كَالطَّلَاقِ مَعَ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ ، وَهَذَا هُوَ الْإِنْشَاءُ وَقَدْ يَكُونُ تَرَتُّبُ التَّحْرِيمِ عَقِبَ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ لَا بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ بَلْ عُقُوبَةً كَمَا تَرَتَّبَ تَحْرِيمُ الْإِرْثِ عَلَى الْقَاتِلِ عَمْدًا أَوْ لَيْسَ الْقَتْلُ إنْشَاءً لِتَحْرِيمِ الْإِرْثِ وَتَرَتُّبِ التَّعْزِيرِ عَلَى الْخَبَرِ الْكَذِبِ وَإِسْقَاطِ الْعَدَالَةِ وَالْعَزْلِ مِنْ الْوِلَايَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ فَهَذَا التَّرْتِيبُ كُلُّهُ بِالْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ لَا بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ ، وَالْإِنْشَاءُ إنَّمَا هُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اللَّفْظُ وُضِعَ لِذَلِكَ التَّحْرِيمِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ كَصِيَغِ الْعُقُودِ فَسَبَبِيَّةُ الْقَوْلِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ سَبَبًا بِالْإِنْشَاءِ فَكُلُّ إنْشَاءٍ سَبَبٌ وَلَيْسَ كُلُّ سَبَبٍ مِنْ

الْقَوْلِ إنْشَاءً بِدَلِيلِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِخْبَارَاتِ الْكَاذِبَةِ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَقَدْ نَصَبَ الشَّارِعُ تِلْكَ الْإِخْبَارَاتِ أَسْبَابًا لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ وَإِذَا كَانَتْ السَّبَبِيَّةُ أَعَمَّ لَا يُسْتَدَلُّ بِمُطْلَقِ السَّبَبِيَّةِ عَلَى الْإِنْشَاءِ فَإِنَّ الْأَعَمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ تَرَتُّبِ التَّحْرِيمِ عَلَى الطَّلَاقِ وَبَيْنَ تَرَتُّبِهِ عَلَى الظِّهَارِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ .
فَإِنَّ الْجِهَاتِ مُخْتَلِفَةٌ جِدًّا وَنَحْنُ نَقُولُ التَّحْرِيمُ وَالْكَفَّارَةُ الْكُلُّ عُقُوبَةٌ عَلَى الْكَذِبِ فِي الظِّهَارِ ( وَعَنْ الثَّالِثِ ) أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي الْأَسْبَابِ فَلَا يَصِحُّ سَلَّمْنَا صِحَّتَهُ لَكِنَّهُ قِيَاسٌ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ الصَّرِيحِ مِنْ الْقُرْآنِ الْمُخْبِرِ عَنْ كَوْنِهِ كَذِبًا ، وَالْكَذِبُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَكُونُ فِي الْإِنْشَاءِ وَإِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ نَصِّ الْقُرْآنِ لَا يُسْمَعُ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ لَهُ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ كَمَا قَالُوهُ فِي الطَّلَاقِ فَذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى تَفَاوُتِ مَرَاتِبِ الْكَذِبِ فَالصَّرِيحُ مِنْهُ أَقْبَحُ وَأَشْنَعُ فَيَكُونُ أَوْلَى بِتَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ تَفْرِقَتِهِمْ بَيْنَ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ فِي الطَّلَاقِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى تَفَاوُتِ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ فَالْبَابَانِ مُخْتَلِفَانِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ .
( فَإِنْ قُلْت ) فَقَدْ قَالُوا إنَّ صَرِيحَ الظِّهَارِ وَكِنَايَتَهُ يَنْصَرِفُ لِلطَّلَاقِ بِخِلَافِ صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَكِنَايَتِهِ لَا يَنْصَرِفُ لِلظِّهَارِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ثَمَّ أَصْلًا يُنْصَرَفُ عَنْهُ إلَى الطَّلَاقِ ، وَمَا ذَلِكَ الْأَصْلُ إلَّا النَّقْلُ الْعُرْفِيُّ الَّذِي نَقَلَ الظِّهَارَ مِنْ الْإِخْبَارِ إلَى الْإِنْشَاءِ ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِمْ يُفْهَمُ عَنْهُمْ ذَلِكَ فِي الظِّهَارِ كَمَا يُفْهَمُ فِي الطَّلَاقِ .
( قُلْت ) النَّقْلُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُخْتَلِفٌ ، قَالَ ابْنُ يُونُسَ : إذَا نَوَى بِالظِّهَارِ الطَّلَاقَ فَهُوَ ظِهَارٌ دُونَ الطَّلَاقِ وَقَدْ قَصَدَ النَّاسُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ

الطَّلَاقَ فَصَرَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى الظِّهَارِ بِإِنْزَالِ الْآيَةِ قَالَ مُحَمَّدٌ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ سَمَّى الظَّهْرَ عِنْدَ مَالِكٍ وَإِلَّا فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَى وَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَظِهَارٌ وَلَا يَنْوِي عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ شَبَهٍ بِالْأَجْنَبِيَّةِ .
وَإِنْ نَوَى الظِّهَارَ ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ تَحْرِيمُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ مُتَأَبَّدٌ فَلَا يَكُونُ التَّشْبِيهُ بِهِ أَضْعَفَ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ ، وَقَالَ أَبُو الطَّاهِرِ إنْ عَرِيَ لَفْظُ الظِّهَارِ عَنْ النِّيَّةِ جَرَى عَلَى الْخِلَافِ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ ، أَمَّا إنْ شَبَّهَ بِمُحَرَّمَةٍ لَا عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَذَكَرَ الظَّهْرَ فَهَلْ يَكُونُ طَلَاقًا قَصْرًا لِلظِّهَارِ عَلَى مَوْرِدِهِ أَوْ ظِهَارًا قِيَاسًا عَلَى ذَوَاتِ الْأَرْحَامِ قَوْلَانِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الظَّهْرَ فَأَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ ظِهَارٌ وَإِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ وَعَكْسَهُ وَظِهَارٌ إلَّا أَنْ يُرِيدَ الطَّلَاقَ فَيَكُونُ طَلَاقًا وَعَكْسَهُ وَفِي الْجَوَاهِرِ إنْ نَوَى بِالصَّرِيحِ الطَّلَاقَ فَعَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ يَكُونُ طَلَاقًا ثَلَاثًا وَلَا يَنْوِي فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَالَ سَحْنُونٌ يَنْوِي وَأَمَّا الْكِنَايَةُ الظَّاهِرَةُ فَظِهَارٌ إلَّا أَنْ يُرِيدَ التَّحْرِيمَ فَتَحْرِيمٌ ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لَمْ أُرِدْ ظِهَارًا وَلَا طَلَاقًا لِأَجْلِ الظُّهُورِ ، وَالْكِنَايَةُ الْخَفِيَّةُ ظِهَارٌ إنْ أَرَادَهُ وَإِلَّا فَلَا قَالَ ابْنُ يُونُسَ قَالَ مَالِكٌ إنْ نَوَى بِقَوْلِهِ أَنْتِ كَأُمِّي أَوْ مِثْلُ أُمِّي أَوْ أَنْتِ أُمِّي الطَّلَاقُ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْبَتَّةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَظِهَارٌ ، وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ كِنَايَاتُ الظِّهَارِ تَنْصَرِفُ لِلطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْهُ وَكِنَايَاتُ الطَّلَاقِ لَا تَنْصَرِفُ لِلظِّهَارِ لِضَعْفِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ يَنْحَلُّ بِالْكَفَّارَةِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَنْصَرِفُ الظِّهَارُ فِي الْأَمَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَنْصَرِفُ فِي الزَّوْجَةِ إلَى الطَّلَاقِ ، وَقَالَ فِي الْجَلَّابِ لَا يَنْصَرِفُ صَرِيحُ الطَّلَاقِ وَكِنَايَاتُهُ بِالنِّيَّةِ إلَى الظِّهَارِ ، وَلَا يَنْصَرِفُ صَرِيحُ

الظِّهَارِ بِالنِّيَّةِ إلَى الطَّلَاقِ وَتَنْصَرِفُ كِنَايَاتُ الظِّهَارِ بِالنِّيَّةِ إلَى الطَّلَاقِ فَهَذِهِ نُصُوصُ الْقَوْمِ كَمَا تَرَى ، أَمَّا قَوْلُ ابْنِ يُونُسَ إذَا نَوَى بِالظِّهَارِ الطَّلَاقَ يَكُونُ ظِهَارًا فَهُوَ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةٍ ، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي بَابٍ لَا يَنْصَرِفُ إلَى غَيْرِهِ بِالنِّيَّةِ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ أَثَرُهَا إنَّمَا هُوَ تَخْصِيصُ الْعُمُومَاتِ أَوْ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقَاتِ فَهِيَ إنَّمَا تَدْخُلُ فِي الْمُحْتَمَلَاتِ ، وَإِذَا نَقَلْت صَرِيحًا عَنْ بَابِهِ فَهُوَ نَسْخٌ وَإِبْطَالٌ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَالنَّسْخُ لَا يَكُونُ بِالنِّيَّةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ قَدْ قَصَدَ النَّاسُ بِالظِّهَارِ الطَّلَاقَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فَجَعَلَهُ اللَّهُ ظِهَارًا فَغَيْرُ مُتَّجَهٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ابْتِدَاءً شُرِعَ وَلَمْ يَكُنْ تَصَرُّفًا فِي مَشْرُوعٍ .
وَالْمُتَقَدِّمُ لَيْسَ شَرْعًا إنَّمَا هُوَ اعْتِقَادُ الْجَاهِلِيَّةِ وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ فِي صَرِيحٍ شَرْعِيٍّ يُصْرَفُ عَنْ بَابِهِ بَعْدَ مَشْرُوعِيَّتِهِ ، وَلَمَّا قَصَدَ أُولَئِكَ الطَّلَاقَ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِمَشْرُوعٍ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ بِنُزُولِ الْآيَةِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ هَذَا الْبَابِ .
وَقَوْلُ أَبِي الطَّاهِرِ إنْ عَرِيَ لَفْظُ الظِّهَارِ مِنْ النِّيَّةِ جَرَى عَلَى الْخِلَافِ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ يُرِيدُ بِالنِّيَّةِ هُنَا الْكَلَامَ النَّفْسَانِيَّ أَيْ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِهِ النَّفْسَانِيِّ فِي نَفْسِهِ كَمَا يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إنْ لَمْ يَذْكُرْ الظَّهْرَ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ فَأَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّهُ ظِهَارٌ وَإِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ وَعَكْسَهُ فَهُمَا بِنَاءً عَلَى قُرْبِهِ مِنْ الصَّرَاحَةِ فَلَا يَنْصَرِفُ لِلطَّلَاقِ أَوْ طَلَاقٌ ؛ لِأَنَّهُ شَأْنُ الْأَجْنَبِيَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَحْرُمُ إلَّا بِالطَّلَاقِ وَهَذِهِ الْمُلَاحَظَةُ هِيَ الَّتِي تُوجِبُ الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ غَيْرَ أَنَّهُ قَدَّمَ النِّيَّةَ عَلَى اللَّفْظِ لِضَعْفِ اللَّفْظِ بِعَدَمِ ذِكْرِ الظَّهْرِ فَعُدِمَتْ الصَّرَاحَةُ فَعَمِلَتْ النِّيَّةُ .
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ

الْقَاسِمِ يَنْوِي فِي الصَّرِيحِ وَيَكُونُ طَلَاقًا ثَلَاثًا فَبِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ تَحْرِيمٌ وَمِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عِنْدَهُ أَنْتِ حَرَامٌ وَهُوَ عِنْدَهُ يَلْزَمُ بِهِ الثَّلَاثُ وَلَا يَنْوِي فِيهِ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عَلَى مَا يَأْتِي تَقْرِيرُهُ ، وَهَذَا أَشَدُّ مِنْهُ ضَعْفًا لِأَنَّ الْمُدْرَكَ هُنَالِكَ إنَّمَا هُوَ الْوَضْعُ الْعُرْفِيُّ ، وَإِنَّ الْعَادَةَ اقْتَضَتْ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَ الْحَرَامَ فِي الثَّلَاثِ .
وَأَمَّا هَاهُنَا فَلَيْسَ ثَمَّ عَادَةٌ فِي اسْتِعْمَالِ الظِّهَارِ فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَإِذَا انْتَفَى الْوَضْعُ الْعَادِيُّ انْتَفَتْ الصَّرَاحَةُ الْمَانِعَةُ مِنْ إعْمَالِ النِّيَّةِ فَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ بَاطِلَةٌ ، وَالصَّوَابُ قَوْلُ سَحْنُونٍ وَتُقْبَلُ نِيَّتُهُ فِيمَا أَرَادَهُ مِنْ الطَّلَاقِ وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ خِلَافُ الْمَذْهَبِ الَّذِي عَلَيْهِ الْفُتْيَا وَمَشْهُورُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَالْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ لِلطَّلَاقِ بِالنِّيَّةِ شَيْءٌ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ إنْ نَوَى بِقَوْلِهِ أَنْتِ كَأُمِّي الطَّلَاقَ وَاحِدَةً فَهِيَ الْبَتَّةُ يُرِيدُ الثَّلَاثَ فَبِنَاءً عَلَى لَفْظِ التَّحْرِيمِ ، وَأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلثَّلَاثِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَعْفُهُ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْأَبْهَرِيِّ وَابْنِ الْجَلَّابِ أَنَّ كِنَايَةَ الْأَضْعَفِ تَنْصَرِفُ لِلْأَقْوَى مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ فَضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ تُنْقَلَ لِلْأَقْوَى بَلْ مِنْ شَأْنِهَا النَّقْلُ لِلْأَضْعَفِ وَالْأَقْوَى ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُخَصِّصُ الْعُمُومَ وَثُبُوتُهُ أَقْوَى لِعُمُومِ الْحِنْثِ فَلَا يَصِيرُ يَحْنَثُ إلَّا بِالْبَعْضِ .
وَهَذِهِ تَوْسِعَةٌ وَتَخْفِيفٌ ، وَكَذَلِكَ نُقَيِّدُ الْمُطْلَقَ فَإِذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَلْبِسُ ثَوْبًا وَنَوَى كَتَّانًا لَا يَبَرُّ بِهِ وَقَدْ كَانَ قَبْلَ النِّيَّةِ يَبَرُّ بِغَيْرِهِ وَهُوَ تَضْيِيقٌ وَمُقْتَضَى الْفِقْهِ اعْتِبَارُ النِّيَّةِ فِي الْأَقْوَى وَالْأَضْعَفِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ

بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْأَقْوَى وَغَيْرِهِ فَهُوَ لَوْ نَوَى بِالصَّرِيحِ مِنْ الطَّلَاقِ طَلَّقَ الْوَلَدَ أَوْ مِنْ الْوَثَاقِ أَفَادَتْهُ نِيَّتُهُ فِي الْفَتْوَى مُطْلَقًا ، وَفِي الْقَضَاءِ إنْ صَدَّقَتْهُ الْقَرِينَةُ مَعَ أَنَّ طَلَّقَ الْوَلَدَ أَسْقَطَ عَنْهُ الْحُكْمَ بِالْكُلِّيَّةِ وَالْإِسْقَاطُ بِالْكُلِّيَّةِ أَخَفُّ مِنْ النَّقْلِ عَنْ الطَّلَاقِ إلَى الظِّهَارِ فَقَدْ نُقِلَتْ النِّيَّةُ إلَى الْأَخَفِّ .
وَعَدَمُ الْحُكْمِ بِالْكُلِّيَّةِ إذَا تَقَرَّرَتْ الْأَقْوَالُ وَالْقَرِيبُ مِنْهَا لِلْفِقْهِ وَالْبَعِيدُ مِنْهُ ، فَأَقُولُ لَيْسَ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ الظِّهَارَ لَهُ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ أَنَّهُ إنْشَاءٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَذْفَ فِيهِ الصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ مَعَ أَنَّ صَرِيحَ الْقَذْفِ إنَّمَا هُوَ خَبَرٌ صِرْفٌ إجْمَاعًا فَإِنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ زَنَيْت بِفُلَانَةَ لَيْسَ إنْشَاءً لِلزِّنَى بَلْ إخْبَارًا عَنْهُ إمَّا كَاذِبٌ أَوْ صَادِقٌ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ صَرِيحٌ ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لَفْظُ الظِّهَارِ خَبَرٌ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ التَّشْبِيهِ الَّذِي نَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجَعَلَهُ كَذِبًا وَزُورًا ، وَمِنْ اللَّفْظِ مَا يُشِيرُ إلَى هَذَا التَّشْبِيهِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ فَهُوَ الْكِنَايَةُ كَالتَّعْرِيضِ فِي الْقَذْفِ مِثْلَ قَوْلِهِ : مَا أَنَا بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ .
فَهَذَا آخِرُ الْبَحْثِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا فِي الْمَذْهَبِ تَعَرَّضَ لَهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الظِّهَارَ إنْشَاءٌ كَالطَّلَاقِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِمْ غَيْرَ أَنَّ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْقَوَاعِدُ أَوْضَحْتُهُ لَكَ غَايَةَ الْإِيضَاحِ .

قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مِمَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ إنْشَاءٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَهُوَ الظِّهَارُ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي يَعْتَقِدُ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ إنْشَاءٌ لِلظِّهَارِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْشَاءً لِلطَّلَاقِ فَإِنَّ الْبَابَيْنِ فِي الْإِنْشَاءِ سَوَاءٌ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ خَصَائِصِ الْإِنْشَاءِ عَدَمُ قَبُولِهِ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا } فَكَذَّبَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { مَا هُنَّ أُمَّهَاتُهُمْ } فَنَفَى تَعَالَى مَا أَثْبَتُوهُ وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لَهُ مَا هِيَ مُطَلَّقَةٌ ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ ذَلِكَ إذَا أَخْبَرَهُ عَنْ تَقَدُّمِ طَلَاقِهَا ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا طَلَاقٌ فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْمُظَاهِرِ خَبَرًا لَا إنْشَاءً ، وَالْمَوْطِنُ الثَّانِي فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ } وَالْإِنْشَاءُ لِلتَّحْرِيمِ لَا يَكُونُ مُنْكَرًا بِدَلِيلِ الطَّلَاقِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُنْكَرًا إذَا جَعَلْنَاهُ خَبَرًا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ كَذِبٌ وَالْكَذِبُ مُنْكَرٌ .
وَالْمَوْطِنُ الثَّالِثُ قَوْله تَعَالَى وَزُورًا وَالزُّورُ هُوَ الْخَبَرُ الْكَذِبُ فَيَكُونُ قَوْلُهُمْ كَذِبًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَإِذَا كَذَّبَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ دَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ خَبَرٌ لَا إنْشَاءٌ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ ظَاهِرٌ مُتَّجَهٌ قَالَ وَثَانِيهَا أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ مُحَرَّمٌ وَلَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ مُدْرَكٌ إلَّا أَنَّهُ كَذِبٌ ، وَالْكَذِبُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْخَبَرِ فَيَكُونُ خَبَرًا قُلْت لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ مُدْرَكٌ إلَّا أَنَّهُ كَذِبٌ بَلْ لَهُ مُدْرَكٌ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31