كتاب : أنوار البروق في أنواع الفروق
المؤلف : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي

السَّلَامُ وَظَاهِرُ الْآيَةِ خِلَافُهُ وَهُوَ مَوْضِعٌ مُشْكِلٌ يَحْتَاجُ لِلْكَشْفِ وَالنَّظَرِ حَتَّى يُفْهَمَ الْمَعْنَى فِيهِ .
وَوَجْهُ الْجَوَابِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَتَمَّ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الزَّمَانِ بِأَنْ تَكُونَ مَصْلَحَةُ زَمَانِهِمْ كَانَتْ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَخْرُجَ عَيْنُ مَالِ الْإِنْسَانِ مِنْ يَدِهِ إمَّا لِقِلَّةِ الْأَعْيَانِ وَإِمَّا لِعَدَمِ ضَرَرِ الْحَاجَةِ أَوْ لِعِظَمِ الزَّكَاةِ لِلْفُقَرَاءِ بِأَنْ تُقَدَّمَ لِلنَّارِ الَّتِي تَأْكُلُ الْقُرْبَانَ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ وَتَكُونُ الْمَصْلَحَةُ الْأُخْرَى بِاعْتِبَارِ زَمَانِنَا أَتَمَّ فَيَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ كَمَا أَنَّ النَّسْخَ حَسَنٌ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ فِي الْأَزْمِنَةِ فَقَاعِدَةُ النَّسْخِ تَشْهَدُ لِهَذَا الْجَوَابِ .
( سُؤَالٌ ) فِي قَوْله تَعَالَى { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } الْمُرَادُ بِالشَّهَادَةِ هَاهُنَا الْعِلْمُ فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِهِ ، وَالتَّمَدُّحُ بِهِ هَاهُنَا بَعِيدٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمْتَدِحُ بِالْعِلْمِ الْجُزْئِيِّ ، وَلَيْسَ السِّيَاقُ سِيَاقَ تَهْدِيدٍ أَوْ تَرْغِيبٍ حَتَّى يَكُونَ الْمُرَادُ الْمُكَافَأَةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ } { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } وَنَحْوِهِ جَوَابُهُ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَصَ إنَّمَا وَرَدَتْ لِتَقْرِيرِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صَدْرِ السُّورَةِ حِكَايَةً عَنْ الْكُفَّارِ { هَلْ هَذَا إلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ } فَبَسَطَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ لِيُبَيِّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَيْسَ بِدُعَاءٍ مِنْ الرُّسُلِ ، وَأَنَّهُ يُفَضِّلُ مَنْ شَاءَ مِنْ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِ ، وَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ حُكْمِهِ ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ غَفْلَةً بَلْ عَنْ عِلْمٍ وَلِذَلِكَ فَهْمُ سُلَيْمَانَ دُونَ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ عَنْ غَفْلَةٍ بَلْ نَحْنُ عَالِمُونَ فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى ضَبْطِ التَّصَرُّفِ ،

وَإِحْكَامِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ الْعَظِيمُ أَعْرَضْتُ عَنْ زَيْدٍ ، وَأَنَا عَالِمٌ بِحُضُورِهِ ، وَلَيْسَ مَقْصُودُهُ التَّمَدُّحَ بِالْعِلْمِ بَلْ بِإِحْكَامِ التَّصَرُّفِ فِي مُلْكِهِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا .

( مَسْأَلَةٌ ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقَضَاءِ فِيمَا أَفْسَدَتْهُ الْمَوَاشِي وَالدَّوَابُّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ .
( الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ) لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى أَرْبَابِ الْبَهَائِمِ فِيمَا أَفْسَدَتْهُ إنْ أُرْسِلَتْ بِاللَّيْلِ لِلرَّعْيِ كَمَا لَوْ كَانَ صَاحِبُهَا مَعَهَا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهَا فَلَمْ يَمْنَعْهَا ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِيمَا أَفْسَدَتْهُ إنْ أُرْسِلَتْ لِذَلِكَ بِالنَّهَارِ كَمَا لَوْ انْفَلَتَتْ فَأَتْلَفَتْ قَالَ فِي التَّبْصِرَةِ وَالْقَوْلُ بِنَفْيِ الضَّمَانِ فِيمَا أَفْسَدَتْهُ نَهَارًا مُقَيَّدٌ بِقَيْدَيْنِ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا رَاعٍ لَا يُضَيِّعُ وَلَا يُفَرِّطُ ، الثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ إلَّا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يَغِيبُ أَهْلُهَا عَنْهَا فَإِنْ انْتَفَى قَيْدٌ مِنْهَا فَرَبُّهَا ضَامِنٌ لِمَا أَفْسَدَتْ ، وَإِذَا سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي فِيمَا رَعَتْهُ نَهَارًا فَضَمَانُ ذَلِكَ عَلَى الرَّاعِي إنْ فَرَّطَ فَإِنْ شَذَّ مِنْهَا شَيْءٌ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَلَا ضَمَانَ .
ا هـ مُلَخَّصًا .
( الْقَوْلِ الثَّانِي ) لِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ كُلَّ دَابَّةٍ مُرْسَلَةٍ فَصَاحِبُهَا لَا يَضْمَنُ مَا أَفْسَدَتْهُ قَالَ الطَّحَاوِيُّ وَتَحْقِيقُ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ إذَا أَرْسَلَهَا مَحْفُوظَةً فَأَمَّا إذَا لَمْ يُرْسِلْهَا مَحْفُوظَةً فَيَضْمَنُ وَعُمْدَةُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وُجُوهٌ .
( الْأَوَّلُ ) قَوْله تَعَالَى : { وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ } الْآيَةَ ، وَالنَّفْشُ رَعْيُ اللَّيْلِ وَالْهَمْلُ رَعْيُ النَّهَارِ وَوَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ قَضَى بِتَسْلِيمِ الْغَنَمِ لِأَرْبَابِ الزَّرْعِ قُبَالَةَ زَرْعِهِمْ وَقَضَى سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَفْعِهَا لَهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِدَرِّهَا وَنَسْلِهَا وَخَرَاجِهَا حَتَّى يَخْلُفَ الزَّرْعُ وَيَنْبُتَ زَرْعُ الْآخَرِ قَالَ حَفِيدُ ابْنِ رُشْدٍ فِي بِدَايَتِهِ وَهَذَا الِاحْتِجَاجُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّا مُخَاطَبُونَ

بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا .
ا هـ .
( الثَّانِي ) أَنَّهُ فَرَّطَ فَيَضْمَنُ كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا .
( الثَّالِثُ ) الْمُرْسَلُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ { نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطَ قَوْمٍ فَأَفْسَدَتْ فِيهِ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ بِالنَّهَارِ حِفْظَهَا ، وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتْهُ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا } أَيْ مَضْمُونٌ وَجْهُهُ أَنَّهُ بِالنَّهَارِ يُمْكِنُ التَّحَفُّظُ دُونَ اللَّيْلِ .
( الرَّابِعُ ) أَنَّكُمْ قَدْ اعْتَبَرْتُمْ ذَلِكَ فِي قَوْلِكُمْ إنْ رَمَتْ الدَّابَّةُ حَصَاةً كَبِيرَةً أَصَابَتْ إنْسَانًا ضَمِنَ الرَّاكِبُ بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَفُّظُ مِنْهَا وَالتَّحَفُّظُ مِنْ الْكَبِيرِ بِالتَّنْكِيبِ عَنْهُ وَقُلْتُمْ يَضْمَنُ مَا نَفَحَتْ بِيَدِهَا ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ رَدُّهَا بِلِجَامِهَا ، وَلَا يَضْمَنُ مَا أَفْسَدَتْ بِرِجْلِهَا وَذَنَبِهَا .
وَعُمْدَةُ أَبِي حَنِيفَةَ وُجُوهٌ .
( الْأَوَّلُ ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ } وَجَوَابُهُ أَنَّ الْجُرْحَ عِنْدَنَا جُبَارٌ إنَّمَا النِّزَاعُ فِي غَيْرِ الْجُرْحِ وَاتَّفَقْنَا عَلَى تَضْمِينِ السَّائِقِ وَالرَّاكِبِ وَالْقَائِدِ .
( الثَّانِي ) الْقِيَاسُ عَلَى النَّهَارِ ، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الْفَرْقِ بِالْحِرَاسَةِ بِالنَّهَارِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ حَفِظَ مَالَهُ فَأَتْلَفَهُ إنْسَانٌ أَوْ أَهْمَلَهُ فَأَتْلَفَهُ أَنَّهُ يَضْمَنُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى النَّهَارِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ بُطْلَانَ الْفَرْقِ الْمُتَقَدِّمِ بِالْحِرَاسَةِ بِالنَّهَارِ ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الْمَالِ هَاهُنَا كَمَنْ تَرَكَ غُلَامَهُ يَصُولُ فَيَقْتُلُ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ بِسَبَبِ الْمَالِكِ ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ .
( الثَّالِثُ ) الْقِيَاسُ عَلَى جِنَايَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَمَالِهِ وَجِنَايَةُ مَالِهِ عَلَيْهِ وَجِنَايَتُهُ عَلَى مَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَيْهِ وَعَكْسُهُ جِنَايَةُ صَاحِبِ الْبَهِيمَةِ

وَجَوَابُهُ أَنَّهُ قِيَاسٌ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ ؛ لِأَنَّهُ بِاللَّيْلِ مُفَرِّطٌ وَبِالنَّهَارِ لَيْسَ بِمُفَرِّطٍ عَلَى أَنَّ تِلْكَ النُّقُوضَ لَا يُمْكِنُ فِيهَا التَّضْمِينُ ؛ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الضَّمَانِ وَهَاهُنَا أَمْكَنَ التَّضْمِينُ .
( الْقَوْلُ الثَّالِثُ ) لِلَّيْثِ أَنَّ كُلَّ دَابَّةٍ مُرْسَلَةٍ فَصَاحِبُهَا ضَامِنٌ وَعُمْدَتُهُ أَنَّهُ تَعَدٍّ مِنْ الْمُرْسِلِ ، وَالْأُصُولُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمُتَعَدِّي الضَّمَانَ وَجَوَابُهُ أَنَّ مَحَلَّ كَوْنِهِ تَعَدِّيًا مِنْ الْمُرْسِلِ إذَا لَمْ يَتَسَبَّبْ الْمَالِكُ فِي الْإِتْلَافِ ، وَإِلَّا فَالتَّعَدِّي مِنْ الْمَالِكِ لَا مِنْ الْمُرْسِلِ كَمَا يُؤْخَذُ مِمَّا تَقَدَّمَ فَافْهَمْ .
( الْقَوْلُ الرَّابِعُ ) وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وُجُوبُ الضَّمَانِ فِي غَيْرِ الْمُنْفَلِتِ ، وَلَا ضَمَانَ فِي الْمُنْفَلِتِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْلَكُ قَالَ فِي الْبِدَايَةِ فَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي هَذَا الْبَابِ مُعَارَضَةُ الْأَصْلِ لِلسَّمْعِ وَمُعَارَضَةُ السَّمَاعِ بَعْضُهُ لِبَعْضٍ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ يُعَارِضُ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ } وَيُعَارِضُ أَيْضًا التَّفْرِقَةَ الَّتِي فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ وَكَذَلِكَ التَّفْرِقَةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ تُعَارِضُ أَيْضًا قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جُرْحُ إلَخْ .
ا هـ .
فَافْهَمْ .
( تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ ) أَنَّ قَوْله تَعَالَى { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } وَإِنْ اقْتَضَى ظَاهِرُهُ أَنَّ حُكْمَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَقْرَبَ لِلصَّوَابِ مِنْ حُكْمِ دَاوُد وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقْتَضِيهِ أُصُولُ شَرِيعَتِنَا مِنْ أَنَّ حُكْمَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إيجَابٌ لِقِيمَةٍ مُؤَجَّلَةٍ ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ صَاحِبَ الْحَرْثِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقِيَمِ الْحُلُولُ إذَا وَجَبَتْ فِي الْإِتْلَافَاتِ ؛ وَلِأَنَّهُ إحَالَةٌ عَلَى أَعْيَانٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا ، وَمَا لَا يُبَاعُ لَا يُعَارَضُ بِهِ فِي الْقِيَمِ فَلِذَا لَوْ وَقَعَ حُكْمُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي شَرْعِنَا مِنْ بَعْضِ الْقُضَاةِ مَا أَمْضَيْنَاهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَعَ

حُكْمُ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي شَرْعِنَا فَإِنَّنَا نُمْضِيهِ ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الزَّرْعِ يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ فِيهَا غَنَمٌ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا مُفْلِسٌ مَثَلًا أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَمُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ تَكُونَ شَرِيعَتُنَا أَتَمَّ فِي الْمَصَالِحِ ، وَأَكْمَلَ الشَّرَائِعِ أَوْ يَكُونَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهِمَ دُونَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْآيَةِ إلَّا أَنَّا إذَا قُلْنَا أَنَّ اخْتِلَافَ الْمَصَالِحِ فِي الْأَزْمِنَةِ كَمَا اقْتَضَى اعْتِبَارُهُ حُسْنَ النَّسْخِ كَذَلِكَ يَقْتَضِيهِ هَاهُنَا فَيَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَتَمَّ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الزَّمَانِ بِأَنْ تَكُونَ مَصْلَحَةُ زَمَانِهِمْ كَانَتْ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَخْرُجَ عَيْنُ مَالِ الْإِنْسَانِ مِنْ يَدِهِ إمَّا لِقِلَّةِ الْأَعْيَانِ ، وَإِمَّا لِعَدَمِ ضَرَرِ الْحَاجَةِ أَوْ لِعَدَمِ الزَّكَاةِ لِلْفُقَرَاءِ بِأَنْ تُقَدَّمَ لِلنَّارِ الَّتِي تَأْكُلُ الْقُرْبَانِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ وَتَكُونُ الْمَصْلَحَةُ الْأُخْرَى بِاعْتِبَارِ زَمَانِنَا أَتَمَّ فَيَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِتَغَيُّرِ الْمَصْلَحَةِ .
( التَّنْبِيهُ الثَّانِي ) الْمُرَادُ بِالشَّهَادَةِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } الْعِلْمُ لَا بِمَعْنَى الْمُكَافَأَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ } { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } وَنَحْوَهُ ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ لَيْسَ سِيَاقَ تَهْدِيدٍ أَوْ تَرْغِيبٍ حَتَّى يَكُونَ الْمُرَادُ ذَلِكَ بَلْ بِمَعْنَاهُ وَفَائِدَةُ ذِكْرِهِ لَا التَّمَدُّحُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَتَمَدَّحُ بِالْعِلْمِ الْجُزْئِيِّ بَلْ الْفَائِدَةُ التَّمَدُّحُ بِأَحْكَامِ التَّصَرُّفِ فِي مُلْكِهِ وَضَبْطِهِ وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَصَ إنَّمَا وَرَدَتْ لِتَقْرِيرِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صَدْرِ السُّورَةِ حِكَايَةً عَنْ الْكُفَّارِ { هَلْ هَذَا إلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ

السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ } فَبَسَطَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ لِيُبَيِّنَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ لَيْسَ بِدُعَاءٍ مِنْ الرُّسُلِ وَأَنَّهُ يُفَضِّلُ مَنْ شَاءَ مِنْ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِ ، وَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ حُكْمِهِ ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ غَفْلَةً بَلْ عَنْ عِلْمٍ وَكَذَلِكَ فَهْمُ سُلَيْمَانَ دُونَ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ غَفْلَةً بَلْ نَحْنُ عَالِمُونَ فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى ضَبْطِ التَّصَرُّفِ وَإِحْكَامِهِ فَكَمَا أَنَّ الْمَلِكَ الْعَظِيمَ إذَا قَالَ عَرَضْتُ عَنْ زَيْدٍ ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِحُضُورِهِ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ التَّمَدُّحَ بِأَعْلَمُ بَلْ بِإِحْكَامِ التَّصَرُّفِ فِي مُلْكِهِ كَذَلِكَ هَهُنَا ، هَذَا تَهْذِيبُ مَا فِي الْأَصْلِ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مَعَ زِيَادَةٍ مِنْ الْبِدَايَةِ وَالتَّبْصِرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا خَرَجَ عَنْ الْمُسَاوَاةِ وَالْمُمَاثَلَةِ فِي الْقِصَاصِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا بَقِيَ عَلَى الْمُسَاوَاةِ ) .
اعْلَمْ أَنَّ الْقِصَاصَ أَصْلُهُ مِنْ الْقَصِّ الَّذِي هُوَ الْمُسَاوَاةُ ؛ لِأَنَّ مَنْ قَصَّ شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ بَقِيَ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَهُوَ شَرْطٌ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى تَعْطِيلِ الْقِصَاصِ قَطْعًا أَوْ غَالِبًا ، وَلَهُ مُثُلٌ أَحَدُهَا التَّسَاوِي فِي أَجْزَاءِ الْأَعْضَاءِ وَسُمْكِ اللَّحْمِ فِي الْجَانِي لَوْ اُشْتُرِطَ لَمَا حَصَلَ إلَّا نَادِرًا بِخِلَافِ الْجِرَاحَاتِ فِي الْجَسَدِ وَثَانِيهِمَا التَّسَاوِي فِي مَنَافِعِ الْأَعْضَاءِ وَثَالِثُهَا الْعُقُولُ وَرَابِعُهَا الْحَوَاسُّ وَخَامِسُهَا قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ وَقَطْعُ الْأَيْدِي بِالْيَدِ لَوْ اُشْتُرِطَتْ الْوَاحِدَةُ لِتَسَاوِي الْأَعْدَادِ بِبَعْضِهِمْ وَسَقَطَ الْقِصَاصُ ، السَّادِسُ الْحَيَاةُ الْيَسِيرَةُ كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ مَعَ الشَّابِّ ، وَمَنْفُوذُ الْمَقَاتِلِ عَلَى الْخِلَافِ ، السَّابِعُ تَفَاوُتُ الصَّنَائِعِ وَالْمَهَارَةِ فِيهَا .
وَهَاهُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ .
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) : قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ إذَا قَتَلُوهُ عَمْدًا وَتَعَاوَنُوا عَلَى قَتْلِهِ بِالْحِرَابَةِ أَوْ غَيْرِهَا حَتَّى يُقْتَلَ عِنْدَنَا النَّاظُورُ وَوَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَشْهُورُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَعَنْ أَحْمَدَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَالصَّحَابَةِ أَنَّ عَلَيْهِمْ الدِّيَةَ وَعَنْ الزُّهْرِيِّ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُ يُقْتَلُ مِنْهُمْ وَاحِدٌ وَعَلَى الْبَاقِي حِصَصُهُمْ مِنْ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُكَافِئٌ لَهُ فَلَا يَسْتَوِي إبْدَالٌ فِي مُبْدَلٍ مِنْهُ وَاحِدٌ كَمَا لَا تَجِبُ دِيَاتٌ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { الْحُرُّ بِالْحُرِّ } وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } ؛ وَلِأَنَّ تَفَاوُتَ الْأَوْصَافِ يُمْنَعُ كَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ فَالْعَدَدُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ لَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى قَتْلِ عُمَرَ سَبْعَةً مِنْ أَهْلِ

صَنْعَاءَ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ وَقَالَ لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ وَقَتَلَ عَلِيٌّ ثَلَاثَةً وَهُوَ كَثِيرٌ ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ؛ وَلِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ كَحَدِّ الْقَذْفِ وَتُفَارِقُ الدِّيَةَ فَإِنَّهَا تَتَبَعَّضُ دُونَ الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَوْ أَسْقَطَتْ الْقِصَاصَ كَانَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً لِلْقَتْلِ .

( الْفَرْقُ الْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا خَرَجَ عَنْ الْمُسَاوَاةِ وَالْمُمَاثَلَةِ فِي الْقِصَاصِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا بَقِيَ عَلَى الْمُسَاوَاةِ ) وَهُوَ أَنَّ مَا خَرَجَ الْقِصَاصُ عَنْ الْمُسَاوَاةِ وَالْمُمَاثَلَةِ فِيهِ هُوَ مَا يُؤَدِّي اشْتِرَاطُ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ إلَى تَعْطِيلِ الْقِصَاصِ قَطْعًا أَوْ غَالِبًا ، وَلَهُ مُثُلٌ أَحَدُهَا أَجْزَاءُ الْأَعْضَاءِ وَسُمْكُ اللَّحْمِ فِي الْجَانِي إذْ لَوْ اُشْتُرِطَ التَّسَاوِي فِيهَا لَمَا حَصَلَ الْقِصَاصُ إلَّا نَادِرًا وَثَانِيهَا مَنَافِعُ الْأَعْضَاءِ وَثَالِثُهَا الْعُقُولُ وَرَابِعُهَا قُلْتُ إذْ لَوْ اُشْتُرِطَ التَّسَاوِي فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَمَا حَصَلَ الْقِصَاصُ أَصْلًا أَوْ لَمَا حَصَلَ إلَّا نَادِرًا وَخَامِسُهَا قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ وَقَطْعُ الْأَيْدِي بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ إذْ لَوْ اُشْتُرِطَتْ الْوَاحِدَةُ لِتَسَاوِي الْأَعْدَاءُ بِبَعْضِهِمْ وَسَقَطَ الْقِصَاصُ وَسَادِسُهَا الْحَيَاةُ الْيَسِيرَةُ كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ مَعَ الشَّابِّ ، وَمَنْفُوذُ الْمَقَاتِلِ عَلَى الْخِلَافِ وَسَابِعُهَا تَفَاوُتُ الصَّنَائِعِ وَالْمَهَارَةِ فِيهَا .
قُلْتُ إذْ لَوْ اُشْتُرِطَ التَّسَاوِي فِي هَذَيْنِ لَمَا حَصَلَ الْقِصَاصُ أَصْلًا أَوْ لَمَا حَصَلَ إلَّا نَادِرًا ، وَمَا بَقِيَ الْقِصَاصُ فِيهِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ وَالْمُمَاثَلَةِ هُوَ مَا لَا يُؤَدِّي اشْتِرَاطُ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ إلَى ذَلِكَ كَالْجِرَاحَاتِ فِي الْجَسَدِ فَيَجْرِي عَلَى الْأَصْلِ فِي الْقِصَاصِ فَإِنَّ أَصْلَهُ مِنْ الْقَصِّ الَّذِي هُوَ الْمُسَاوَاةُ ؛ لِأَنَّ مَنْ قَصَّ شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ بَقِيَ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَمِنْ ثَمَّ قَالَ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ فِي تَعْرِيفَاتِهِ الْقِصَاصُ هُوَ أَنْ يَفْعَلَ بِالْفَاعِلِ مِثْلَ مَا فَعَلَ ا هـ .
وَهَاهُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ .
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) فِي قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَتْلُهُمْ بِهِ إذَا قَتَلُوهُ عَمْدًا أَوْ تَعَاوَنُوا عَلَى قَتْلِهِ بِالْحِرَابَةِ وَغَيْرِهَا حَتَّى

يُقْتَلَ النَّاظُورُ .
وَعُمْدَتُهُمْ أُمُورٌ : الْأَوَّلُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى قَتْلِ عُمَرَ سَبْعَةً مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ وَقَالَ لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ وَقَتَلَ عَلِيٌّ ثَلَاثَةً ، وَهُوَ كَثِيرٌ ، وَلَمْ يُعْرَفْ مُخَالِفٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الثَّانِي أَنَّهَا عُقُوبَةٌ تَجِبُ لِلْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ كَمَا تَجِبُ لَهُ عَلَى الْوَاحِدِ كَحَدِّ الْقَذْفِ وَتُفَارِقُ الدِّيَةَ فَإِنَّهَا تَتَبَعَّضُ دُونَ الْقِصَاصِ وَالثَّالِثُ أَنَّ الشَّرِكَةَ لَوْ أَسْقَطَتْ الْقِصَاصَ كَانَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً لِلْقَتْلِ ، الْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ مَشْهُورُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَتْلُهُمْ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَفِي الْإِقْنَاعِ وَتُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ إذَا كَانَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَالِحًا لِلْقَتْلِ بِهِ ، وَإِلَّا فَلَا ، مَا لَمْ يَتَوَاطَئُوا عَلَى ذَلِكَ أَيْ الْفِعْلِ لِيَقْتُلُوهُ بِهِ فَعَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إلَى دَرْءِ الْقِصَاصِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُشْرَعْ فِي الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ لَبَطَلَتْ حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهِ الَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } بِزِيَادَةٍ مِنْ كَشَّافِ قِنَاعِهِ .
الْقَوْلُ الثَّالِثُ لِأَحْمَدَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ عَلَيْهِمْ الدِّيَةَ ، الْقَوْلُ الرَّابِعُ لِلزُّهْرِيِّ وَجَمَاعَةٍ يُقْتَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَعَلَى الْبَاقِي حِصَصُهُمْ مِنْ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُكَافِئٌ لَهُ فَلَا يَسْتَوِي إبْدَالٌ فِي مُبْدَلٍ مِنْهُ وَاحِدٍ كَمَا لَا تَجِبُ دِيَاتٌ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { الْحُرُّ بِالْحُرِّ } وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } وَلِأَنَّ تَفَاوُتَ الْأَوْصَافِ يَمْنَعُ كَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ فَالْعَدَدُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ .

( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) وَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِذِمِّيٍّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ لَنَا مَا فِي الْبُخَارِيِّ { لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ } احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } وَهَذَا قُتِلَ مَظْلُومًا فَيَكُونُ لِوَلِيِّهِ سُلْطَانٌ الثَّانِي قَوْله تَعَالَى { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } وَسَائِرُ الْعُمُومَاتِ ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ وَمَا بَعْدَهُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا خَاصٌّ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْعُمُومَاتِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) فِي قَتْلِ مُسْلِمٍ بِذِمِّيٍّ قَوْلَانِ لِلْأَئِمَّةِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ لَا يُقْتَلُ بِهِ لِمَا فِي الْبُخَارِيِّ { لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ } الْقَوْلُ الثَّانِي لِأَبِي حَنِيفَةَ يُقْتَلُ بِهِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } وَهَذَا قُتِلَ مَظْلُومًا فَيَكُونُ لِوَلِيِّهِ سُلْطَانٌ وَعُمُومُ قَوْله تَعَالَى { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } وَكَذَا سَائِرُ الْعُمُومَاتِ وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا خَاصٌّ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْعُمُومَاتِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .

( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) خَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي قَتْلِ الْمُمْسِكِ وَقَالَا يُقْتَلُ الْقَاتِلُ وَحْدَهُ .
لَنَا الْعُمُومَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَقَوْلُ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمُ وَقِيَاسًا عَلَى الْمُمْسِكِ لِلصَّيْدِ الْمُحَرَّمِ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ وَعَلَى الْمُكْرَهِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) فِي قَتْلِ مُمْسِكِ الْمَقْتُولِ لِلْقَاتِلِ مَعَ الْقَاتِلِ أَوْ لَا بَلْ الْقَاتِلُ وَحْدَهُ قَوْلَانِ لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْأَوَّلُ لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْعُمُومَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلِقَوْلِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ وَلِلْقِيَاسِ عَلَى الْمُمْسِكِ لِلصَّيْدِ الْمُحَرَّمِ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ وَعَلَى الْمُكْرَهِ قُلْتُ وَبِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَفِي الْإِقْنَاعِ وَكَشَّافِ قِنَاعِهِ ، وَإِنْ أَكْرَهَ مُكَلَّفٌ مُكَلَّفًا عَلَى قَتْلِ مُعَيَّنٍ فَقَتَلَهُ فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ تَسَبَّبَ إلَى قَتْلِهِ بِمَا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا وَفِيهِمَا أَيْضًا ، وَإِنْ أَكْرَهَ سَعْدٌ زَيْدًا عَلَى أَنْ يُكْرِهَ عَمْرًا عَلَى قَتْلِ بَكْرٍ فَقَتَلَهُ قُتِلَ الثَّلَاثَةُ جَزَمَ بِهِ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى ، وَمَعْنَاهُ فِي الْمُنْتَهَى الْمُبَاشِرُ لِمُبَاشَرَتِهِ الْقَتْلَ ظُلْمًا وَالْآخَرَانِ لِتَسَبُّبِهِمَا إلَى الْقَتْلِ لِمَا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا .
ا هـ الْمُرَادُ فَافْهَمْ .
وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا تَهْذِيبُ مَا فِي الْأَصْلِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مَعَ زِيَادَةٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْعَيْنِ وَقَاعِدَةِ كُلِّ اثْنَيْنِ مِنْ الْجَسَدِ فِيهِمَا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ كَالْأُذُنَيْنِ وَنَحْوِهِمَا ) .
أَنَّهُ إذَا ذَهَبَ سَمْعُ أَحَدِ أُذُنَيْهِ بِضَرْبَةِ رَجُلٍ ثُمَّ أَذْهَبَ سَمْعَ الْأُخْرَى فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ الدِّيَةُ كَامِلَةً وَوَافَقَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ نِصْفُ الدِّيَةِ .
لَنَا وُجُوهٌ ( الْأَوَّلُ ) أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَابْنَ عُمَرَ قَضَوْا بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُخَالِفٍ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا .
( الثَّانِي ) أَنَّ الْعَيْنَ الذَّاهِبَةَ يَرْجِعُ ضَوْءُهَا لِلْبَاقِيَةِ ؛ لِأَنَّ مَجْرَاهَا فِي النُّورِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْإِبْصَارُ وَاحِدٌ كَمَا شَهِدَ بِهِ عِلْمُ التَّشْرِيحِ وَلِذَلِكَ أَنَّ الصَّحِيحَ إذَا غَمَّضَ إحْدَى عَيْنَيْهِ اتَّسَعَ ثُقْبُ الْأُخْرَى بِسَبَبِ مَا انْدَفَعَ لَهَا مِنْ الْأُخْرَى وَقَوِيَ إبْصَارُهَا ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي إحْدَى الْأُذُنَيْنِ إذَا سُدَّتْ الْأُخْرَى أَوْ إحْدَى الْيَدَيْنِ إذَا ذَهَبَتْ الْأُخْرَى أَوْ قُطِعَتْ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ إلَّا الْعَيْنَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ اتِّحَادِ الْمَجْرَى فَكَانَتْ الْعَيْنُ الْبَاقِيَةُ فِي مَعْنَى الْعَيْنَيْنِ فَوَجَبَ فِيهَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ .
احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ مِنْ الْإِبِلِ } الثَّانِي قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ } وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ دِيَةٌ إلَّا إذَا قَلَعَ عَيْنَيْنِ وَهَذَا لَمْ يَقْلَعْ عَيْنَيْنِ .
الثَّالِثِ أَنَّ مَا ضُمِنَ بِنِصْفِ الدِّيَةِ ، وَمَعَهُ نَظِيرُهُ ضُمِنَ بِنِصْفِهَا مُنْفَرِدًا كَالْأُذُنِ وَالْيَدِ .
الرَّابِعُ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الْقَوْلُ بِانْتِقَالِ النُّورِ الْبَاصِرِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ نِصْفُ الْمَنْفَعَةِ ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَيْنِ غَيْرِ الْعَوْرَاءِ لِأَنَّهُمَا عُمُومَانِ مُطْلَقَانِ فِي الْأَحْوَالِ

فَيُقَيَّدَانِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَعَنْ الثَّالِثِ الْفَرْقُ بِانْتِقَالِ قُوَّةِ الْعَيْنِ الْأُولَى بِخِلَافِ الْأُذُنِ وَالْيَدِ ، وَلَوْ انْتَقَلَ الْتَزَمْنَاهُ وَعَنْ الرَّابِعِ لَا يَلْزَمُ إطْرَاحُ الْأَوَّلِ إذْ لَوْ جَنَى عَلَيْهِمَا فَاحْوَلَّتَا أَوْ عَمَشَتَا أَوْ نَقَصَ ضَوْءُهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَقْلُ لِمَا نَقَصَ ، وَلَا تَنْقُصُ الدِّيَةُ عَمَّنْ جَنَى ثَانِيًا عَلَى قَوْلٍ عِنْدَنَا ، وَهَذَا السُّوَالُ قَوِيٌّ عَلَيْنَا ، وَكَانَ يَلْزَمُنَا أَنْ نَقْلَعَ بِعَيْنَيْهِ عَيْنَيْنِ اثْنَيْنِ مِنْ الْجَانِي .
( تَفْرِيعٌ ) قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ فِيهَا أَلْفٌ وَإِنْ أَخَذَ فِي الْأُولَى دِيَتَهَا قَالَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ ، وَقَالَ أَشْهَبُ : يُسْأَلُ عَنْ السَّمْعِ فَإِنْ كَانَ يَنْتَقِلُ فَكَالْعَيْنَيْنِ ، وَإِلَّا فَكَالْيَدِ ، وَإِنْ أُصِيبَ مِنْ كُلِّ عَيْنٍ نِصْفُ بَصَرِهَا ثُمَّ أُصِيبَ بَاقِيهِمَا فِي ضَرْبَةٍ فَنِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ بِهِمَا نِصْفَ نَظَرِهِمَا فَإِنْ أُصِيبَ بَاقِي إحْدَاهُمَا فَرُبُعُ الدِّيَةِ فَإِنْ أُصِيبَ بَعْدَ ذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأُخْرَى فَنِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ أُقِيمَ مَقَامَ نِصْفِ جَمِيعِ بَصَرِهِ فَإِنْ أَخَذَ صَحِيحٌ نِصْفَ دِيَةِ أَحَدِهِمَا ثُمَّ أُصِيبَ بِنِصْفِ الصَّحِيحَةِ فَثُلُثُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَذْهَبَ مِنْ جَمِيعِ بَقِيَّةِ بَصَرِهِ ثُلُثَهُ وَإِنْ أُصِيبَ بِبَقِيَّةِ الْمُصَابَةِ فَقَطْ فَرُبُعُ الدِّيَةِ فَإِنْ ذَهَبَ بَاقِيهَا وَالصَّحِيحَةُ بِضَرْبَةٍ فَالدِّيَةُ كَامِلَةٌ أَوْ الصَّحِيحَةُ وَحْدَهَا فَثُلُثَا الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهَا ثُلُثَا بَصَرِهِ فَإِنْ أُصِيبَ بَقِيَّةُ الْمُصَابَةِ فَنِصْفُ الدِّيَةِ بِخِلَافِ لَوْ أُصِيبَتْ وَالصَّحِيحَةُ بَاقِيَةٌ قَالَهُ أَشْهَبُ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : لَيْسَ فِيمَا يُصَابُ مِنْ الصَّحِيحَةِ إذَا بَقِيَ مِنْ الْأُولَى شَيْءٌ إلَّا مِنْ حِسَابِ نِصْفِ الدِّيَةِ .

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْعَيْنَيْنِ وَقَاعِدَةِ كُلِّ اثْنَيْنِ مِنْ الْجَسَدِ كَالْأُذُنَيْنِ وَنَحْوِهِمَا ) مِنْ حَيْثُ إنَّ فِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ الدِّيَةَ كَامِلَةً عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَإِنْ أَخَذَ فِي الْأُولَى نِصْفَ الدِّيَةِ ، وَأَمَّا إذَا أَذْهَبَ رَجِلٌ بِضَرْبَةٍ سَمْعَ الْأُذُنِ الْأُخْرَى مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ بِأَحَدِ أُذُنَيْهِ مَثَلًا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَيْنِ الْأَعْوَرِ وَنَحْوِ أُذُنِ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِأَحَدِ أُذُنَيْهِ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ .
لَنَا أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَابْنَ عُمَرَ قَضَوْا بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُخَالِفٍ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْعَيْنَ الذَّاهِبَةَ يَرْجِعُ ضَوْءُهَا لِلْبَاقِيَةِ لِأَنَّ مَجْرَاهُمَا فِي النُّورِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْإِبْصَارُ وَاحِدٌ كَمَا شَهِدَ بِهِ عِلْمُ التَّشْرِيحِ ؛ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الصَّحِيحَ إذَا غَمَّضَ إحْدَى عَيْنَيْهِ اتَّسَعَ ثُقْبُ الْأُخْرَى بِسَبَبِ مَا انْدَفَعَ لَهَا مِنْ الْأُخْرَى وَقَوِيَ إبْصَارُهَا ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي إحْدَى الْأُذُنَيْنِ إذَا سُدَّتْ الْأُخْرَى أَوْ إحْدَى الْيَدَيْنِ إذَا ذَهَبَتْ الْأُخْرَى أَوْ قُطِعَتْ ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ إلَّا الْعَيْنَ لِمَا تَقَدَّرَ مِنْ اتِّحَادِ الْمَجْرَى فَكَانَتْ الْعَيْنُ الْبَاقِيَةُ فِي مَعْنَى الْعَيْنَيْنِ فَوَجَبَ فِيهَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ مِنْ الْإِبِلِ } وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ } فَجَوَابُهُ حَمْلُ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى الْعَيْنِ غَيْرِ الْعَوْرَاءِ ؛ لِأَنَّهُمَا عُمُومَانِ مُطْلَقَانِ فِي الْأَحْوَالِ فَيُقَيَّدَانِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ ، وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِأَنَّ مَا ضُمِنَ بِنِصْفِ الدِّيَةِ وَمَعَهُ نَظِيرُهُ ضُمِنَ بِنِصْفِهَا مُنْفَرِدًا كَالْأُذُنِ وَالْيَدِ فَجَوَابُهُ الْفَرْقُ الْمُتَقَدِّمُ

بِانْتِقَالِ قُوَّةِ الْعَيْنِ الْأُولَى بِخِلَافِ الْأُذُنِ وَالْيَدِ ، وَلَوْ انْتَقَلَتْ الْقُوَّةُ فِيهِمَا أَيْضًا الْتَزَمْنَاهُ ، وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ الْقَوْلُ بِانْتِقَالِ النُّورِ الْبَاصِرِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْهِبْ نِصْفَ الْمَنْفَعَةِ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ اطِّرَاحُ الْأَوَّلِ إذْ لَوْ جَنَى عَلَيْهَا فَاحْوَلَّتَا أَوْ عَمِشَتَا أَوْ نَقَصَ ضَوْءُهُمَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَقْلُ لِمَا نَقَصَ وَلَا تَنْقُصُ الدِّيَةُ عَمَّنْ جَنَى ثَانِيًا عَلَى قَوْلٍ عِنْدَنَا ، وَهَذَا السُّؤَالُ قَوِيٌّ عَلَيْنَا وَكَانَ يَلْزَمُنَا أَنْ نَقْلَعَ بِعَيْنِ الْأَعْوَرِ عَيْنَيْنِ اثْنَيْنِ مِنْ الْجَانِي .
( تَفْرِيعٌ ) قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ : فِيهَا أَيْ فِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ أَلْفٌ وَإِنْ أَخَذَ فِي الْأُولَى دِيَتَهَا قَالَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ ، وَقَالَ أَشْهَبُ : يُسْأَلُ عَنْ السَّمْعِ فَإِنْ كَانَ يَنْتَقِلُ فَكَالْعَيْنَيْنِ وَإِلَّا فَكَالْيَدِ وَإِنْ أُصِيبَ مِنْ كُلٍّ نِصْفُ بَصَرِهَا ثُمَّ أُصِيبَ بَاقِيهِمَا فِي ضَرْبَةٍ فَنِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ بِهِمَا نِصْفَ نَظَرِهِمَا فَإِنْ أُصِيبَ بَاقِي إحْدَاهُمَا فَرُبْعُ الدِّيَةِ فَإِنْ أُصِيبَ بَعْدَ ذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأُخْرَى فَنِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ أُقِيمَ مَقَامَ نِصْفِ جَمِيعِ بَصَرِهِ فَإِنْ أَخَذَ صَحِيحٌ نِصْفَ دِيَةِ إحْدَاهُمَا ثُمَّ أُصِيبَ بِنِصْفِ الصَّحِيحَةِ فَثُلُثُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَذْهَبَ مِنْ جَمِيعِ بَقِيَّةِ بَصَرِهِ ثُلُثَهُ وَإِنْ أُصِيبَ بِبَقِيَّةِ الْمُصَابَةِ فَقَطْ فَرُبْعُ الدِّيَةِ فَإِنْ ذَهَبَ بَاقِيهَا وَالصَّحِيحَةُ بِضَرْبَةٍ فَالدِّيَةُ كَامِلَةً أَوْ الصَّحِيحَةُ وَحْدَهَا فَثُلُثَا الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهَا ثُلُثَا بَصَرِهِ فَإِنْ أُصِيبَ بَقِيَّةُ الْمُصَابَةِ فَنِصْفُ الدِّيَةِ بِخِلَافِ لَوْ أُصِيبَتْ وَالصَّحِيحَةُ بَاقِيَةٌ قَالَهُ أَشْهَبُ ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : لَيْسَ فِيمَا يُصَابُ مِنْ الصَّحِيحَةِ إذَا بَقِيَ مِنْ الْأُولَى شَيْءٌ إلَّا مِنْ حِسَابِ نِصْفِ الدِّيَةِ ا هـ .

( الْفَرْقُ الْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَسْبَابِ التَّوَارُثِ وَأَجْزَاءِ أَسْبَابِهَا الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ ) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ غَرِيبٌ عَجِيبٌ نَادِرٌ بِسَبَبِ أَنَّ كُتُبَ الْفَرَائِضِ عَلَى الْعُمُومِ فِيمَا رَأَيْت لَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ اثْنَانِ فِي أَنَّ أَسْبَابَ التَّوَارُثِ ثَلَاثَةٌ نَسَبٌ وَوَلَاءٌ وَنِكَاحٌ ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّلَاثَةِ إمَّا الْأَسْبَابُ التَّامَّةُ ، وَإِمَّا أَجْزَاءُ الْأَسْبَابِ ، وَالْكُلُّ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَحَدَ الْأَسْبَابِ الْقَرَابَةَ ، وَالْأُمُّ لَمْ تَرِثْ الثُّلُثَ فِي حَالَةٍ وَالسُّدُسَ فِي أُخْرَى بِمُطْلَقِ الْقَرَابَةِ ، وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا لِلِابْنِ أَوْ الْبِنْتِ لِوُجُودِ مُطْلَقِ الْقَرَابَةِ فِيهِمَا بَلْ بِخُصُوصِ كَوْنِهَا أُمًّا مَعَ مُطْلَقِ الْقَرَابَةِ ، وَكَذَلِكَ الْبِنْتُ تَرِثُ النِّصْفَ لَيْسَ بِمُطْلَقِ الْقَرَابَةِ ، وَإِلَّا لَثَبَتَ ذَلِكَ لِلْجَدِّ أَوْ الْأُخْتِ لِلْأُمِّ بَلْ لِخُصُوصِ كَوْنِهَا بِنْتًا مَعَ مُطْلَقِ الْقَرَابَةِ فَحِينَئِذٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ سَبَبٌ تَامٌّ يَخُصُّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ جُزْأَيْنِ مِنْ خُصُوصِ كَوْنِهَا بِنْتًا أَوْ غَيْرَهُ وَعُمُومُ الْقَرَابَةِ وَكَذَلِكَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ لَيْسَ لِمُطْلَقِ النِّكَاحِ ، وَإِلَّا لَكَانَ لِلزَّوْجَةِ النِّصْفُ لِوُجُودِ مُطْلَقِ النِّكَاحِ فِيهَا بَلْ لِخُصُوصِ كَوْنِهِ زَوْجًا مَعَ عُمُومِ النِّكَاحِ كَمَا تَقَدَّمَ فَسَبَبُهُ مُرَكَّبٌ ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ إذَا ظَهَرَ هَذَا فَإِنْ أَرَادُوا حَصْرَ الْأَسْبَابِ التَّامَّةِ فِي ثَلَاثَةٍ فَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةٍ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا تَقَدَّمَ أَوْ النَّاقِصَةِ الَّتِي هِيَ أَجْزَاءُ أَسْبَابٍ فَالْخُصُوصَاتُ كَمَا رَأَيْت كَثِيرَةٌ فَلَا يَسْتَقِيمُ الْحَصْرُ مُطْلَقًا لَا فِي التَّامِّ ، وَلَا فِي النَّاقِصِ فَتَنَبَّهْ لِهَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ حَسَنٌ لَمْ أَرَ أَحَدًا تَعَرَّضَ لَهُ ، وَلَا لَخَّصَهُ ، وَحِينَئِذٍ أَقُولُ : إنَّ أَسْبَابَ الْقَرَابَةِ ، وَإِنْ كَثُرَتْ فَنَحْنُ لَا نُرِيدُهَا ، وَلَا نُرِيدُ التَّامَّةَ

الَّتِي هِيَ الْخُصُوصَاتُ بَلْ النَّاقِصَةَ الَّتِي هِيَ الْمُشْتَرَكَاتُ ، وَهِيَ مُطْلَقُ الْقَرَابَةِ وَمُطْلَقُ النِّكَاحِ وَمُطْلَقُ الْوَلَاءِ وَالدَّلِيلُ عَلَى حَصْرِ غَيْرِ التَّامَّةِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ أَنَّ الْأَمْرَ الْعَامَّ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ التَّامَّةِ إمَّا أَنْ يُمْكِنَ إبْطَالُهُ أَوْ لَا فَإِنْ أَمْكَنَ فَهُوَ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالطَّلَاقِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إبْطَالُهُ فَإِمَّا أَنْ يَقْتَضِيَ التَّوَارُثَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ غَالِبًا أَوْ لَا فَإِنْ اقْتَضَى التَّوَارُثَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ غَالِبًا فَهُوَ الْقَرَابَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَضِهِ إلَّا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَهُوَ الْوَلَاءُ ؛ لِأَنَّهُ يَرِثُ الْمَوْلَى الْأَعْلَى الْأَسْفَلَ ، وَلَا يَرِثُ الْأَسْفَلُ الْأَعْلَى وَقَوْلُنَا غَالِبًا احْتِرَازٌ مِنْ الْعَمَّةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ يَرِثُهَا ابْنُ أَخِيهَا وَلَا تَرِثُهُ

قَالَ ( الْفَرْقُ الْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَسْبَابِ التَّوَارُثِ وَأَجْزَاءِ أَسْبَابِهَا الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ ) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ غَرِيبٌ عَجِيبٌ نَادِرٌ بِسَبَبِ أَنَّ كُتُبَ الْفَرَائِضِ عَلَى الْعُمُومِ فِيمَا رَأَيْت لَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ اثْنَانِ فِي أَنَّ أَسْبَابَ التَّوَارُثِ ثَلَاثَةٌ نَسَبٌ وَوَلَاءٌ وَنِكَاحٌ ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّلَاثَةِ إمَّا الْأَسْبَابُ التَّامَّةُ ، أَوْ أَجْزَاءُ الْأَسْبَابِ وَالْكُلُّ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَحَدَ الْأَسْبَابِ الْقَرَابَةَ ، وَالْأُمُّ لَمْ تَرِثْ الثُّلُثَ فِي حَالَةٍ ، وَالسُّدُسَ فِي أُخْرَى بِمُطْلَقِ الْقَرَابَةِ ، وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا لِلِابْنِ أَوْ الْبِنْتِ لِوُجُودِ مُطْلَقِ الْقَرَابَةِ فِيهِمَا قُلْت : هَذَا الْفَرْقُ لَيْسَ بِغَرِيبٍ ، وَلَا عَجِيبٍ كَمَا زَعَمَ وَمَا تَوَهَّمَهُ مِنْ الْإِشْكَالِ فِي كَلَامِ الْفَرْضِيِّينَ لَيْسَ كَمَا تَوَهَّمَ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا تَعْبِيرُهُمْ عَنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ ، وَثَانِيهِمَا : التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِلَفْظِ التَّعْرِيفِ فَمَنْ عَبَّرَ مِنْهُمْ بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ لَمْ يُرِدْ كُلَّ نَسَبٍ ، وَلَا كُلَّ نِكَاحٍ ، وَلَا كُلَّ وَلَاءٍ بَلْ أَرَادَ نَسَبًا خَاصًّا وَوَلَاءً خَاصًّا وَنِكَاحًا خَاصًّا ، وَلَا نُكْرَ فِي التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ النَّكِرَةِ عَنْ مَخْصُوصٍ ، فَإِنَّ اللَّفْظَ عَلَيْهِ صَادِقٌ وَلَهُ صَالِحٌ ، وَمَنْ عَبَّرَ مِنْهُمْ بِلَفْظِ التَّعْرِيفِ لَمْ يُرِدْ أَيْضًا كُلَّ نَسَبٍ ، وَلَا كُلَّ نِكَاحٍ ، وَلَا كُلَّ وَلَاءٍ بَلْ أَرَادَ مَا أَرَادَهُ الْأَوَّلُ ، وَأَحَالَ الْأَوَّلَ فِي تَقْيِيدِ ذَلِكَ الْمُطْلَقِ عَلَى تَعْيِينِ أَصْنَافِ الْوَارِثِينَ وَالْوَارِثَاتِ ، وَأَحَالَ الثَّانِيَ فِي بَيَانِ الْمَعْهُودِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَى مَا أَحَالَهُ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ ( بَلْ بِخُصُوصِ كَوْنِهَا أُمًّا مَعَ مُطْلَقِ الْقَرَابَةِ ، وَكَذَلِكَ الْبِنْتُ تَرِثُ النِّصْفَ لَيْسَ بِمُطْلَقِ الْقَرَابَةِ ، وَإِلَّا لَثَبَتَ

ذَلِكَ لِلْجَدِّ أَوْ لِلْأُخْتِ لِلْأُمِّ بَلْ لِخُصُوصِ كَوْنِهَا بِنْتًا مَعَ مُطْلَقِ الْقَرَابَةِ فَحِينَئِذٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ سَبَبٌ تَامٌّ يَخُصُّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ جُزْأَيْنِ مِنْ خُصُوصِ كَوْنِهَا بِنْتًا أَوْ غَيْرَهُ ، وَعُمُومِ الْقَرَابَةِ ، وَكَذَلِكَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ لَيْسَ لِمُطْلَقِ النِّكَاحِ ، وَإِلَّا لَكَانَ لِلزَّوْجَةِ النِّصْفُ لِوُجُودِ مُطْلَقِ النِّكَاحِ فِيهَا بَلْ لِخُصُوصِ كَوْنِهِ زَوْجًا مَعَ عُمُومِ النِّكَاحِ كَمَا تَقَدَّمَ فَسَبَبُهُ مُرَكَّبٌ ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ ) قُلْت : إذَا كَانَ سَبَبُ الْإِرْثِ الْخَاصُّ الْوَصْفَ الْخَاصَّ فَلَا مَعْنَى لِذِكْرِ الْوَصْفِ الْعَامِّ مَعَهُ فَقَوْلُهُ : مَعَ مُطْلَقِ الْقَرَابَةِ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَصْفَ الْعَامَّ صَادِقٌ عَلَى الْخَاصِّ لَكِنَّهُ لَيْسَ الْعَامُّ سَبَبًا مِنْ حَيْثُ عُمُومُهُ بَلْ مِنْ حَيْثُ اشْتَمَلَ عَلَى الْخَاصِّ ، وَالْخَاصُّ سَبَبٌ ، فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ : مَا سَبَبُ وِرَاثَةِ الْبِنْتِ النِّصْفَ قِيلَ : كَوْنُهَا بِنْتًا ، وَهُوَ جَوَابٌ مُسْتَقِيمٌ صَادِقٌ ، وَإِنْ قِيلَ : كَوْنُهَا قَرِيبَةً لَمْ يَكُنْ جَوَابًا مُسْتَقِيمًا ، وَلَا صَحِيحًا وَإِذَا قِيلَ : مَا سَبَبُ وِرَاثَةِ الْبِنْتِ فَقِيلَ كَوْنُهَا بِنْتًا كَانَ جَوَابًا مُسْتَقِيمًا وَصَحِيحًا أَيْضًا ، وَإِنْ قِيلَ : كَوْنُهَا قَرِيبَةً لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِالْبِنْتِ فَالصَّحِيحُ أَنَّ سَبَبَ مِيرَاثِ الْبِنْتِ النِّصْفَ كَوْنُهَا بِنْتًا عَلَى الْخُصُوصِ ، وَكَذَلِكَ سَبَبُ مِيرَاثِ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الْوَارِثِينَ وَالْوَارِثَاتِ أَسْبَابُ مِيرَاثِهِمْ خَاصَّةٌ لَا عَامَّةٌ ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ السَّبَبَ مَرْكَبٌ لَا مَعْنَى لَهُ عِنْدَ النَّظَرِ إلَى خُصُوصِ الْمِيرَاثِ كَالنِّصْفِ وَشِبْهِهِ ، وَلَا عِنْدَ النَّظَرِ إلَى عُمُومِ الْمِيرَاثِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعُمُومَ مُطْلَقَ الْقَرَابَةِ ، وَلَيْسَ مُطْلَقُ الْقَرَابَةِ سَبَبًا لِمُطْلَقِ الْمِيرَاثِ عِنْدَنَا نَعَمْ هُوَ سَبَبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ ( إذَا ظَهَرَ هَذَا فَإِنْ أَرَادُوا حَصْرَ الْأَسْبَابِ التَّامَّةِ

فِي ثَلَاثَةٍ فَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةٍ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا تَقَدَّمَ ، أَوْ النَّاقِصَةَ الَّتِي هِيَ أَجْزَاءُ الْأَسْبَابِ فَالْخُصُوصَاتُ كَمَا رَأَيْت كَثِيرَةٌ فَلَا يَسْتَقِيمُ الْحَصْرُ مُطْلَقًا لَا فِي التَّامِّ ، وَلَا فِي النَّاقِصِ ) قُلْت : قَوْلُهُ : هِيَ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةٍ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا يَخُصُّ كُلَّ صِنْفٍ مِنْ الْوَارِثِينَ وَالْوَارِثَاتِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَكْثَرِ الْفَرْضِيِّينَ فِي عَدِّهِمْ أَصْنَافَ الْوَارِثِينَ عَشَرَةً وَأَصْنَافَ الْوَارِثَاتِ سَبْعَةً فَذَلِكَ صَحِيحٌ ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا يَخُصُّ كُلَّ صِنْفٍ عَلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ قَوْلُهُ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ لَا أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةٍ ، وَقَوْلُهُ : بِالْإِجْمَاعِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَأَيُّ إجْمَاعٍ فِي ذَلِكَ مَعَ تَوْرِيثِ الْحَنَفِيَّةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَقَوْلُهُ : أَوْ النَّاقِصَةُ الَّتِي هِيَ أَجْزَاءُ الْأَسْبَابِ فَالْخُصُوصَاتُ كَمَا رَأَيْت كَثِيرَةٌ إنْ أَرَادَ بِالْخُصُوصَاتِ مُطْلَقَ الْقَرَابَةِ الَّتِي كُلُّ خُصُوصٍ مِنْهَا أَعَمُّ مِنْ الْخُصُوصِ الَّذِي تَحْتَهُ مِنْ الْخُصُوصَاتِ الَّتِي عَدَّهَا الْفَرَضِيُّونَ فَذَلِكَ صَحِيحٌ ، وَإِلَّا فَلَا أَدْرِي مَا أَرَادَ قَالَ ( فَتَنَبَّهْ لِهَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ حَسَنٌ لَمْ أَرَ أَحَدًا تَعَرَّضَ لَهُ وَلَا لَخَّصَهُ وَحِينَئِذٍ أَقُولُ إنَّ أَسْبَابَ الْقَرَابَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ فَنَحْنُ لَا نُرِيدُهَا ، وَلَا نُرِيدُ التَّامَّةَ الَّتِي هِيَ الْخُصُوصَاتُ بَلْ النَّاقِصَةُ الَّتِي هِيَ الْمُشْتَرَكَاتُ ، وَهِيَ مُطْلَقُ الْقَرَابَةِ وَمُطْلَقُ النِّكَاحِ وَمُطْلَقُ الْوَلَاءِ ) قُلْت : هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مُنَاقِضٌ فِي ظَاهِرِهِ لِقَوْلِهِ إنَّ أَسْبَابَ الْقَرَابَةِ ، وَإِنْ كَثُرَتْ فَنَحْنُ لَا نُرِيدُهَا لَكِنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ لَا نُرِيدُ مُطْلَقَ الْقَرَابَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ الْقَرَابَةُ لَا خُصُوصَ كَوْنِ الْقَرَابَةِ بُنُوَّةً مَثَلًا ، وَلَكِنْ نُرِيدُ مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَأَعَمُّ مِنْ الثَّانِي ، وَهُوَ قَرَابَةُ مَاءٍ ، وَنِكَاحُ مَاءٍ ، وَوَلَاءُ مَاءٍ ثُمَّ بَيَّنَ

ذَلِكَ بِمَا قَرَّرَهُ ضَابِطًا بَعْدَ هَذَا قَالَ ( وَالدَّلِيلُ عَلَى حَصْرِ غَيْرِ التَّامَّةِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْأَمْرَ الْعَامَّ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ التَّامَّةِ إمَّا أَنْ يُمْكِنَ إبْطَالُهُ أَوْ لَا فَإِنْ أَمْكَنَ فَهُوَ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالطَّلَاقِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إبْطَالُهُ ، فَإِمَّا أَنْ يَقْتَضِيَ التَّوَارُثَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ غَالِبًا ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ أَوْ لَا يَقْتَضِيَ إلَّا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَهُوَ الْوَلَاءُ ؛ لِأَنَّهُ يَرِثُ الْمَوْلَى الْأَعْلَى الْأَسْفَلَ ، وَلَا يَرِثُ الْأَسْفَلُ الْأَعْلَى وَقَوْلُنَا : غَالِبًا احْتِرَازٌ مِنْ الْعَمَّةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ يَرِثُهَا ابْنُ أَخِيهَا ، وَلَا تَرِثُهُ ) قُلْت : مَا ذَكَرَهُ مِنْ سَبَبِ الْحَصْرِ لِلْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ فِي ثَلَاثَةٍ ، وَإِنْ كَانَ مُفِيدًا لِلْحَصْرِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي النِّكَاحِ ، وَهُوَ كَوْنُهُ يُمْكِنُ إبْطَالُهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ كَوْنِ النِّكَاحِ سَبَبَ الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ اللَّاحِقُ بِهِ الْإِبْطَالُ سَبَبًا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ سَبَبًا النِّكَاحُ الَّذِي لَمْ يَلْحَقْهُ إبْطَالٌ فَإِذَا ثَبَتَتْ سَبَبِيَّتُهُ لَمْ تَرْتَفِعْ لِاسْتِحَالَةِ رَفْعِ الْوَاقِعِ ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْقَرَابَةِ أَمْرٌ ثَانٍ عَنْ كَوْنِ سَبَبِ الْإِرْثِ لَيْسَ مُطْلَقَ الْقَرَابَةِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبِيَّةَ ثَابِتَةٌ عَنْهُ مَعَ عَدَمِ اطِّرَادِهِ ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْوَلَاءِ كَذَلِكَ أَمْرٌ ثَانٍ عَنْ كَوْنِ سَبَبِيَّتِهِ لَيْسَتْ مُطْلَقَةً ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : إنَّهُمْ مَا حَصَرُوهَا فِي ثَلَاثَةٍ إلَّا لِكَوْنِهَا أُمُورًا مُخْتَلِفَةً ثُمَّ لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الْمِيرَاثِ سِوَاهَا ثُمَّ إنَّهَا لَيْسَتْ أَسْبَابًا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ مُقَيَّدَةٌ بِتَعْيِينِ مَنْ يَرِثُ بِهَا

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَسْبَابِ التَّوَارُثِ وَأَجْزَاءِ أَسْبَابِهَا الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ ) وَهُوَ أَنَّ أَسْبَابَ التَّوَارُثِ التَّامَّةِ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ مَاهِيَّةِ كُلٍّ مِنْ الْقَرَابَةِ وَالْوَلَاءِ وَالنِّكَاحِ بِشَرْطِ شَيْءٍ أَعْنِي خُصُوصَ كَوْنِ الْقَرَابَةِ بُنُوَّةً مَثَلًا وَخُصُوصَ كَوْنِ الْوَلَاءِ عَلَوِيًّا وَخُصُوصَ كَوْنِ النِّكَاحِ زَوْجَةً أَوْ زَوْجًا ، وَأَجْزَاؤُهَا الْعَامَّةُ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ مَاهِيَّةِ كُلٍّ مِنْ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ بِشَرْطِ لَا شَيْءَ أَعْنِي مُطْلَقَ الْقَرَابَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُطْلَقُ الْقَرَابَةِ ، وَمُطْلَقُ الْوَلَاءِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُطْلَقُ الْوَلَاءِ ، وَمُطْلَقُ النِّكَاحِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُطْلَقُ النِّكَاحِ ، وَأَجْزَاؤُهَا الْخَاصَّةُ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ مَاهِيَّةِ كُلٍّ مِنْ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا بِشَرْطِ شَيْءٍ أَيْ مِنْ إطْلَاقٍ أَوْ خُصُوصٍ ، وَهِيَ الْمُشْتَرَكَاتُ أَعْنِي قَرَابَةً مَا وَوَلَاءً مَا وَنِكَاحًا مَا ، وَهَذِهِ أَخَصُّ مِنْ الْأَجْزَاءِ الْعَامَّةِ ، وَأَعَمُّ مِنْ التَّامَّةِ وَهِيَ مُرَادُ الْفَرْضِيِّينَ بِقَوْلِهِمْ : إنَّ أَسْبَابَ التَّوَارُثِ ثَلَاثَةٌ نَسَبٌ وَوَلَاءٌ وَنِكَاحٌ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَمَا تَوَهَّمَهُ الشِّهَابُ مِنْ الْإِشْكَالِ فِي كَلَامِهِمْ هَذَا لَيْسَ كَمَا تَوَهَّمَ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) تَعْبِيرُهُمْ عَنْ الْأَسْبَابِ بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ ( وَثَانِيهِمَا ) : التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِلَفْظِ التَّعْرِيفِ فَمَنْ عَبَّرَ مِنْهُمْ بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ لَمْ يُرِدْ كُلَّ نَسَبٍ ، وَلَا كُلَّ وَلَاءٍ ، وَلَا كُلَّ نِكَاحٍ بَلْ أَرَادَ نَسَبًا خَاصًّا وَوَلَاءً خَاصًّا وَنِكَاحًا خَاصًّا ، وَلَا نُكْرَ فِي التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ النَّكِرَةِ عَنْ مَخْصُوصٍ فَإِنَّ اللَّفْظَ عَلَيْهِ صَادِقٌ وَلَهُ صَالِحٌ وَمَنْ عَبَّرَ مِنْهُمْ بِلَفْظِ التَّعْرِيفِ لَمْ يُرِدْ أَيْضًا كُلَّ نَسَبٍ ، وَلَا كُلَّ وَلَاءٍ ، وَلَا كُلَّ نِكَاحٍ بَلْ أَرَادَ مَا أَرَادَهُ الْأَوَّلُ وَأَحَالَ الْأَوَّلَ فِي تَقْيِيدِ ذَلِكَ الْمُطْلَقِ عَلَى تَعْيِينِ أَصْنَافِ

الْوَارِثِينَ وَالْوَارِثَاتِ وَأَحَالَ الثَّانِي فِي بَيَانِ الْمَعْهُودِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَى مَا أَحَالَ عَلَيْهِ الْأَوَّلَ وَذَلِكَ أَنَّ أَسْبَابَ التَّوَارُثِ التَّامَّةِ إجْمَالًا سَبْعَةَ عَشَرَ وَتَفْصِيلًا ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ ؛ لِأَنَّ ذُكُورَ مَنْ ثَبَتَ لَهُ الْمِيرَاثُ عَشَرَةٌ وَيَتَفَرَّعُونَ إلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَإِنَاثُ مَنْ ثَبَتَ لَهُ الْمِيرَاثُ سَبْعٌ وَيَتَفَرَّعْنَ أَيْضًا إلَى عَشَرَةٍ نَعَمْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ ، وَأَجْزَاءُ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ كُلِّيَّةٌ لَا تَحَقُّقَ لَهَا إلَّا فِي الذِّهْنِ قَطْعًا فَلَا أَقْسَامَ لَهَا بِخُصُوصِهَا فَإِنَّمَا أَقْسَامُهَا مَا تَحْتَهَا مِنْ الْأَسْبَابِ التَّامَّةِ ، وَأَجْزَاؤُهَا الْخَاصَّةُ وَأَقْسَامُهُمَا فَافْهَمْ قَالَ الْأَصْلُ وَالدَّلِيلُ عَلَى حَصْرِ الْأَسْبَابِ غَيْرِ التَّامَّةِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ أَنَّ الْأَمْرَ الْعَامَّ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ إمَّا أَنْ يُمْكِنَ إبْطَالُهُ أَوْ لَا فَإِنْ أَمْكَنَ إبْطَالُهُ فَهُوَ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالطَّلَاقِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إبْطَالُهُ فَإِمَّا أَنْ يَقْتَضِيَ التَّوَارُثَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ غَالِبًا أَوْ لَا فَإِنْ اقْتَضَى التَّوَارُثَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ غَالِبًا فَهُوَ الْقَرَابَةُ وَالِاحْتِرَازُ بِ غَالِبًا مِنْ الْعَمَّةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ يَرِثُهَا ابْنُ أَخِيهَا ، وَلَا تَرِثُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَضِهِ إلَّا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَهُوَ الْوَلَاءُ ؛ لِأَنَّهُ يَرِثُ الْمَوْلَى الْأَعْلَى الْأَسْفَلَ ، وَلَا يَرِثُ الْأَسْفَلُ الْأَعْلَى .
ا هـ .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَمَا ذَكَرَهُ ، وَإِنْ كَانَ مُفِيدًا لِلْحَصْرِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي النِّكَاحِ مِنْ كَوْنِهِ يُمْكِنُ إبْطَالُهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ كَوْنِ النِّكَاحِ سَبَبَ الْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ سَبَبًا النِّكَاحُ الَّذِي لَمْ يَلْحَقْهُ إبْطَالٌ أَمَّا اللَّاحِقُ بِهِ الْإِبْطَالُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا ، وَمَا ثَبَتَتْ سَبَبِيَّتُهُ لَمْ تُرْفَعْ لِاسْتِحَالَةِ رَفْعِ الْوَاقِعِ ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْقَرَابَةِ أَمْرٌ ثَانٍ عَنْ كَوْنِ سَبَبِ

الْإِرْثِ لَيْسَ مُطْلَقَ الْقَرَابَةِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبِيَّةَ ثَابِتَةٌ عَنْهُ مَعَ عَدَمِ اطِّرَادِهِ وَمَا ذُكِرَ فِي الْوَلَاءِ ، وَكَذَلِكَ أَمْرٌ ثَانٍ عَنْ كَوْنِ سَبَبِيَّتِهِ لَيْسَتْ مُطْلَقَةً ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : إنَّهُمْ مَا حَصَرُوهَا فِي ثَلَاثَةٍ إلَّا لِكَوْنِهَا أُمُورًا مُخْتَلِفَةً ثُمَّ لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الْمِيرَاثِ سِوَاهَا ثُمَّ إنَّهَا لَيْسَتْ أَسْبَابًا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ مُقَيَّدَةً بِتَعْيِينِ مَنْ يَرِثُ .
ا هـ .
بَلْ قَالَ ابْنُ عَاصِمٍ جَمِيعُهَا أَرْكَانُهُ ثَلَاثَهْ مَالٌ وَمِقْدَارٌ وَذُو الْوِرَاثَهْ قَالَ التَّسَوُّلِيُّ أَيْ لَا يَصِحُّ الْإِرْثُ بِالْعِصْمَةِ أَوْ الْوَلَاءِ أَوْ النَّسَبِ إلَّا بِاجْتِمَاعِ هَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ أَيْ مَعْرِفَةِ مَالٍ مَتْرُوكٍ عَنْ الْمَيِّتِ وَمِقْدَارِ مَا يَرِثُهُ كُلُّ وَارِثٍ وَمَنْ يَرِثُ مِمَّنْ لَا يَرِثُ وَمَهْمَا اخْتَلَّ وَاحِدٌ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ .
ا هـ .
قَالَ التَّاوَدِيُّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ : وَبَقِيَ عَلَيْهِ أَسْبَابُ الْمِلْكِ وَالْإِسْلَامِ خَلِيلٌ وَلِسَيِّدِ الْمُعْتَقِ بَعْضُهُ جَمِيعُ إرْثِهِ ، وَفِي الزَّرْقَانِيِّ أَنَّ تَسْمِيَتَهُ إرْثًا مَجَازٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْمِلْكِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الثَّانِيَ لَا يَرِدُ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ : وَبَيْتُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَقِلُّ الْبَيْتُ .
ا هـ .
وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَسْبَابِ التَّوَارُثِ وَقَاعِدَةِ شُرُوطِهِ وَمَوَانِعِهِ ) لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ الْفَرْضِيِّينَ يَذْكُرُ إلَّا أَسْبَابَ التَّوَارُثِ وَمَوَانِعَهُ وَلَا يَذْكُرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ شُرُوطَهُ قَطُّ وَلَهُ شُرُوطٌ قَطْعًا كَسَائِرِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ فَإِنْ كَانُوا قَدْ تَرَكُوهَا ؛ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ فَأَسْبَابُ التَّوَارُثِ مَعْلُومَةٌ أَيْضًا فَالصَّوَابُ اسْتِيعَابُ الثَّلَاثَةِ كَسَائِرِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ ، وَإِنْ قَالُوا لَا شُرُوطَ لِلتَّوَارُثِ بَلْ أَسْبَابٌ وَمَوَانِعُ فَقَطْ فَضَوَابِطُ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ قَالَ الْفُضَلَاءُ : إذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الْحَقَائِقِ فَحَكِّمُوا الْحُدُودَ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْكِتَابِ فِي الْفُرُوقِ أَنَّ السَّبَبَ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ وَالشَّرْطُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ وَالْمَانِعُ مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْعَدَمُ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ وُجُودٌ ، وَلَا عَدَمٌ فَبِهَذِهِ الْحُدُودِ وَالضَّوَابِطِ يَظْهَرُ أَنَّ لِلتَّوَارُثِ شُرُوطًا وَهَا أَنَا أَذْكُرُهَا عَلَى هَذَا الضَّابِطِ فَأَقُولُ : شُرُوطُ التَّوَارُثِ ثَلَاثَةٌ كَالْأَسْبَابِ تَقَدُّمُ مَوْتِ الْمَوْرُوثِ عَلَى الْوَارِثِ ، وَاسْتِقْرَارُ حَيَاةِ الْوَارِثِ بَعْدَهُ كَالْجَنِينِ وَالْعِلْمُ بِالْقُرْبِ وَالدَّرَجَةِ الَّتِي اجْتَمَعَا فِيهَا احْتِرَازًا مِنْ مَوْتِ رَجُلٍ مِنْ مَضْرَ أَوْ قُرَيْشٍ لَا يُعْلَمُ لَهُ قَرِيبٌ فَإِنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ مَعَ أَنَّ كُلَّ قُرَشِيٍّ ابْنُ عَمِّهِ ، وَلَا مِيرَاثَ لِبَيْتِ الْمَالِ مَعَ ابْنِ عَمٍّ لَكِنَّهُ فَاتَ شَرْطُهُ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ بِدَرَجَتِهِ مِنْهُ فَمَا مِنْ قُرَشِيٍّ إلَّا لَعَلَّ غَيْرَهُ أَقْرَبُ مِنْهُ فَهَذِهِ شُرُوطٌ لَا يُؤَثِّرُ وُجُودُهَا إلَّا فِي نُهُوضِ الْأَسْبَابِ لِتَرَتُّبِ مُسَبِّبَاتِهَا عَلَيْهَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهَا الْعَدَمُ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ ، بَلْ الْوُجُودُ إنْ

وَقَعَ فَهُوَ لِوُجُودِ الْأَسْبَابِ لَا لَهَا ، وَإِنْ وَقَعَ الْعَدَمُ عِنْدَ وُجُودِهَا فَلِعَدَمِ السَّبَبِ أَوْ لِوُجُودِ الْمَانِعِ فَهَذِهِ حَقِيقَةُ الشَّرْطِ قَدْ وُجِدَتْ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَتَكُونُ شُرُوطًا وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا أَوَّلَ الْكِتَابِ أَنَّ الشَّرْطَ إذَا شُكَّ فِيهِ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَمُ ، وَكَذَلِكَ السَّبَبُ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الشَّكِّ فِي الْمَانِعِ الْعَدَمُ بَلْ يَتَرَتَّبُ الثُّبُوتُ بِنَاءً عَلَى السَّبَبِ ، وَهَذَا أَيْضًا يُوَضِّحُ لَك شَرْطِيَّةَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوهَا فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرُوهَا ، وَلَا فِي الْمَوَانِعِ بَلْ أُهْمِلَتْ وَذِكْرُهَا مُتَعَيِّنٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَسْبَابِ وَأَمَّا الْمَوَانِعُ فَأَقْصَى مَا ذُكِرَ فِيهَا أَنَّهَا خَمْسَةٌ وَغَالِبُ النَّاسِ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثَةٌ الْكُفْرُ وَالْقَتْلُ وَالرِّقُّ وَزَادَ بَعْضُهُمْ الشَّكَّ احْتِرَازًا مِنْ أَهْلِ السَّفِينَةِ أَوْ الرَّدْمِ فَإِنَّهُ لَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمْ ، وَاللِّعَانَ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ إرْثِ الْأَبِ وَالْإِرْثِ مِنْهُ فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوَاعِدِ الثَّلَاثَةِ ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ

قَالَ ( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَسْبَابِ التَّوَارُثِ وَقَاعِدَةِ شُرُوطِهِ وَمَوَانِعِهِ ) قُلْت : مَا قَالَهُ فِي صَدْرِ هَذَا الْفَرْقِ صَحِيحٌ ثُمَّ قَالَ ( وَهَا أَنَا أَذْكُرُهَا عَلَى هَذَا الضَّابِطِ فَأَقُولُ : شُرُوطُ التَّوَارُثِ ثَلَاثَةٌ كَالْأَسْبَابِ تَقَدُّمُ مَوْتِ الْمَوْرُوثِ عَلَى الْوَارِثِ ، وَاسْتِقْرَارُ حَيَاةِ الْوَارِثِ بَعْدَهُ كَالْجَنِينِ ) قُلْت : لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الْمَوْرُوثِ وَجَعْلِهِ شَرْطًا ، وَحَيَاةُ الْوَارِثِ بَعْدَهُ شَرْطًا آخَرَ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَوْتُ الْمَوْرُوثِ بِنَفْسِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْوَارِثِ شَرْطًا لِامْتِنَاعِ تَوْرِيثِ مَنْ يَتَعَذَّرُ الْعِلْمُ فِيهِمَا بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ وَلِصِحَّةِ التَّوْرِيثِ بِالتَّعْمِيرِ فِي الْمَفْقُودِ بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّ شَرْطَ الْإِرْثِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْعِلْمُ أَوْ الْحُكْمُ بِحَيَاةِ الْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْرُوثِ وَبِنِسْبَتِهِ وَرُتْبَتِهِ مِنْهُ قَالَ ( وَالْعِلْمُ بِالْقُرْبِ وَبِالدَّرَجَةِ الَّتِي اجْتَمَعَا فِيهَا احْتِرَازًا مِنْ مَوْتِ رَجُلٍ مِنْ مُضَرَ أَوْ مِنْ قُرَيْشٍ لَا يُعْلَمُ لَهُ قَرِيبٌ ، فَإِنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ مَعَ أَنَّ كُلَّ قُرَشِيٍّ ابْنُ عَمِّهِ ، وَلَا مِيرَاثَ لِبَيْتِ الْمَالِ مَعَ ابْنِ عَمٍّ لَكِنَّهُ فَاتَ شَرْطُهُ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ بِدَرَجَتِهِ مِنْهُ فَمَا مِنْ قُرَشِيٍّ إلَّا لَعَلَّ غَيْرَهُ أَقْرَبُ مِنْهُ ) قُلْت : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ غَيْرَ أَنَّهُ نَقَصَهُ الْحُكْمُ بِالْقُرْبِ وَالدَّرَجَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْلُومًا وَلَكِنَّهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ قَالَ : ( فَهَذِهِ شُرُوطٌ لَا يُؤَثِّرُ وُجُودُهَا إلَّا فِي نُهُوضِ الْأَسْبَابِ لِتَرَتُّبِ مُسَبَّبَاتِهَا عَلَيْهَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهَا الْعَدَمُ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُودٌ ، وَلَا عَدَمٌ بَلْ الْوُجُودُ إنْ وَقَعَ فَهُوَ لِوُجُودِ الْأَسْبَابِ لَا لَهَا ، وَإِنْ وَقَعَ الْعَدَمُ عِنْدَ وُجُودِهَا فَلِعَدَمِ السَّبَبِ أَوْ لِوُجُودِ الْمَانِعِ فَهَذِهِ حَقِيقَةُ الشَّرْطِ قَدْ وُجِدَتْ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَتَكُونُ

شُرُوطًا ) قُلْت : قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ شَرْطٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعِلْمُ بِحَيَاةِ الْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ وَبِقَرَابَتِهِ وَرُتْبَتِهِ مِنْهُ أَوْ الْحُكْمُ بِذَلِكَ قَالَ ( وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا أَوَّلَ الْكِتَابِ أَنَّ الشَّرْطَ إذَا شُكَّ فِيهِ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَمُ ، وَكَذَلِكَ السَّبَبُ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الشَّكِّ فِي الْمَانِعِ الْعَدَمُ بَلْ يَتَرَتَّبُ الثُّبُوتُ بِنَاءً عَلَى السَّبَبِ وَهَذَا أَيْضًا يُوَضِّحُ لَك شَرْطِيَّةَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوهَا فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرُوهَا ، وَلَا فِي الْمَوَانِعِ بَلْ أُهْمِلَتْ وَذِكْرُهَا مُتَعَيِّنٌ ) قُلْت : قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ ثَلَاثَةً بَلْ شَرْطٌ وَاحِدٌ فَقَطْ قَالَ ( وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَسْبَابِ وَأَمَّا الْمَوَانِعُ فَأَقْصَى مَا ذُكِرَ فِيهَا أَنَّهَا خَمْسَةٌ وَغَالِبُ النَّاسِ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثَةٌ الْكُفْرُ وَالْقَتْلُ وَالرِّقُّ وَزَادَ بَعْضُهُمْ الشَّكَّ احْتِرَازًا مِنْ أَهْلِ السَّفِينَةِ أَوْ الرَّدْمِ فَإِنَّهُ لَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمْ وَاللِّعَانَ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ إرْثِ الْأَبِ وَالْإِرْثِ مِنْهُ فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوَاعِدِ الثَّلَاثَةِ ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ ) قُلْت : لَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَوَانِعَ خَمْسَةٌ بَلْ هِيَ ثَلَاثَةٌ فَقَطْ فَإِنَّ الشَّكَّ فِي أَهْلِ السَّفِينَةِ وَالرَّدْمِ إنَّمَا مَنَعَ مِنْ الْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فِقْدَانِ الشَّرْطِ ، وَهُوَ الْعِلْمُ أَوْ الْحُكْمُ بِتَقَدُّمِ مَوْتِ الْمَوْرُوثِ ، وَكَذَلِكَ اللِّعَانُ لَيْسَ بِمَانِعٍ بَلْ هُوَ سَبَبٌ فِي فِقْدَانِ السَّبَبِ ، وَهُوَ النَّسَبُ وَلَيْتَ شِعْرِي لِمَ لَمْ يُحَكِّمْ هُنَا الْحُدُودَ كَمَا ذَكَرَهُ قَبْلُ عَنْ الْفُضَلَاءِ وَجَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْفَرْقَيْنِ بَعْدَ هَذَا صَحِيحٌ ، وَكَذَلِكَ مَا قَالَ فِي الْفَرْقِ بَعْدَهُمَا ، وَهُوَ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ إلَّا قَوْلَهُ : وَقِيلَ بِالْعَكْسِ فَإِنِّي لَا أَدْرِي الْآنَ مُرَادَهُ بِذَلِكَ

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَسْبَابِ التَّوَارُثِ ، وَقَاعِدَةِ شُرُوطِهِ وَمَوَانِعِهِ ) وَهُوَ أَنَّ أَسْبَابَ التَّوَارُثِ هِيَ الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَعْنِي الْقَرَابَةَ وَالْوَلَاءَ وَالنِّكَاحَ بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ بَيَانُهُ لِمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْكِتَابِ فِي الْفُرُوقِ أَنَّ ضَابِطَ السَّبَبِ مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهِ - وَلَوْ شَكًّا - الْعَدَمُ ، وَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ قَدْ وُجِدَتْ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَسْبَابِ ، وَأَمَّا مَوَانِعُهُ فَغَالِبُ النَّاسِ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثَةٌ الْكُفْرُ وَالْقَتْلُ وَالرِّقُّ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا مِنْ أَنَّ ضَابِطَ الْمَانِعِ مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ - أَيْ يَقِينًا - الْعَدَمُ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ الشَّكِّ فِي وُجُودِهِ الْعَدَمُ بَلْ يَتَرَتَّبُ الثُّبُوتُ بِنَاءً عَلَى السَّبَبِ ، وَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ قَدْ وُجِدَتْ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْمَوَانِعِ ، وَأَمَّا مَا زَادَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الثَّلَاثَةِ الْمَوَانِعِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ الشَّكِّ فِي أَهْلِ السَّفِينَةِ وَالرَّدْمِ ، وَاللِّعَانِ ، وَجَعْلِ الْمَوَانِعِ خَمْسَةً فَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ الْمَذْكُورَ إنَّمَا مَنَعَ مِنْ الْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فِقْدَانِ الشَّرْطِ ، وَهُوَ الْعِلْمُ أَوْ الْحُكْمُ بِتَقَدُّمِ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ ، وَكَذَلِكَ اللِّعَانُ لَيْسَ بِمَانِعٍ بَلْ هُوَ سَبَبٌ فِي فِقْدَانِ السَّبَبِ ، وَهُوَ النَّسَبُ ، وَقَدْ قَالَ الْفُضَلَاءُ إذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الْحَقَائِقِ فَحَكِّمُوا الْحُدُودَ .
وَقَدْ حَكَّمْنَا حَدَّ الْمَانِعِ الْمُتَقَدِّمِ فَلَمْ نَجِدْهُ مُنْطَبِقًا عَلَى هَذَيْنِ كَمَا عَلِمْت ، وَأَمَّا شُرُوطُهُ فَذَكَرَ الْأَصْلُ أَنَّهَا ثَلَاثَةٌ أَيْضًا : تَقَدُّمُ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ عَلَى الْوَارِثِ ، وَاسْتِقْرَارُ حَيَاةِ الْوَارِثِ بَعْدَهُ كَالْجَنِينِ ، وَالْعِلْمُ بِالْقُرْبِ وَالدَّرَجَةِ قَالَ : وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا أَحَدٌ مِنْ الْفَرْضِيِّينَ فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرُوهَا ، وَلَا فِي

الْمَوَانِعِ الَّتِي ذَكَرُوهَا بَلْ أَهْمَلُوهَا بِالْكُلِّيَّةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ شُرُوطَ التَّوَارُثِ قَطُّ مَعَ أَنَّ لَهُ شُرُوطًا قَطْعًا كَسَائِرِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ فَإِنْ كَانُوا قَدْ تَرَكُوهَا ؛ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ ، وَرَدَ عَلَيْهِمْ أَنَّ أَسْبَابَ التَّوَارُثِ كَذَلِكَ فَالصَّوَابُ اسْتِيعَابُ الثَّلَاثَةِ كَسَائِرِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ ، وَإِنْ قَالُوا : لَا شُرُوطَ لِلتَّوَارُثِ بَلْ أَسْبَابٌ وَمَوَانِعُ فَقَطْ وَرَدَ عَلَيْهِمْ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إنَّمَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا ضَابِطُ الشَّرْطِ الَّذِي تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْكِتَابِ فِي الْفُرُوقِ مِنْ أَنَّهُ مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ - وَلَوْ شَكًّا - الْعَدَمُ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ ، وَلَا عَدَمٌ فَبِتَحْكِيمِ الْحُدُودِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْفُضَلَاءِ يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ شُرُوطٌ لِلتَّوَارُثِ لَا أَسْبَابٌ وَلَا مَوَانِعُ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْقُرْبِ وَالدَّرَجَةِ أَيْ الَّتِي اجْتَمَعَا فِيهَا مَثَلًا احْتِرَازٌ مِنْ مَوْتِ رَجُلٍ مِنْ مُضَرَ أَوْ قُرَيْشٍ لَا يُعْلَمُ لَهُ قَرِيبٌ فَإِنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ مَعَ أَنَّ كُلَّ قُرَشِيٍّ ابْنُ عَمِّهِ ، وَلَا مِيرَاثَ لِبَيْتِ الْمَالِ مَعَ ابْنِ عَمٍّ لَكِنَّهُ لَمَّا فَقَدَ شَرْطَ إرْثِهِ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ بِدَرَجَتِهِ مِنْهُ ؛ إذْ مَا مِنْ قُرَشِيٍّ إلَّا لَعَلَّ غَيْرَهُ أَقْرَبُ مِنْهُ جُعِلَ الْمِيرَاثُ لِبَيْتِ الْمَالِ دُونَهُ ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ لَا يُؤَثِّرُ وُجُودُهَا إلَّا فِي نُهُوضِ الْأَسْبَابِ لِتَرَتُّبِ مُسَبَّبَاتِهَا عَلَيْهَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهَا الْعَدَمُ .
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُودٌ ، وَلَا عَدَمٌ بَلْ الْوُجُودُ إنْ وَقَعَ فَهُوَ لِوُجُودِ الْأَسْبَابِ لَا لَهَا ، وَإِنْ وَقَعَ الْعَدَمُ عِنْدَ وُجُودِهَا فَلِعَدَمِ السَّبَبِ أَوْ لِوُجُودِ الْمَانِعِ فَهَذِهِ حَقِيقَةُ الشَّرْطِ قَدْ وُجِدَتْ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَتَكُونُ شُرُوطًا .
ا هـ .
بِتَهْذِيبٍ ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الشَّاطِّ أَوَّلًا بِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ شَرْطَ الْإِرْثِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْعِلْمُ أَوْ الْحُكْمُ بِحَيَاةِ

الْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْرُوثِ وَبِنِسْبَتِهِ وَرُتْبَتِهِ مِنْهُ لِوَجْهَيْنِ ( الْأَوَّلُ ) : أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ تَقَدُّمِ مَوْتِ الْمَوْرُوثِ وَجَعْلِهِ شَرْطًا ، وَحَيَاةِ الْوَارِثِ بَعْدَهُ شَرْطًا آخَرَ ( الثَّانِي ) : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَوْتُ الْمَوْرُوثِ بِنَفْسِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْوَارِثِ شَرْطًا لِأَمْرَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) امْتِنَاعُ تَوْرِيثِ مَنْ يَتَعَذَّرُ الْعِلْمُ فِيهِمَا بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ ( وَثَانِيهِمَا ) : صِحَّةُ التَّوْرِيثِ بِالتَّعْمِيرِ فِي الْمَفْقُودِ وَثَانِيًا بِأَنَّ جَعْلَهُ الْعِلْمَ بِالْقُرْبِ وَالدَّرَجَةِ الَّتِي اجْتَمَعَا فِيهَا احْتِرَازٌ مِنْ مَوْتِ رَجُلٍ إلَخْ صَحِيحٌ غَيْرَ أَنَّهُ نَقَضَهُ الْحُكْمُ بِالْقُرْبِ وَالدَّرَجَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْلُومًا ، وَلَكِنَّهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ .
ا هـ .
وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْبِدَعِ وَيُنْهَى عَنْهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُنْهَى عَنْهُ مِنْهَا ) اعْلَمْ أَنَّ الْأَصْحَابَ - فِيمَا رَأَيْت - مُتَّفِقُونَ عَلَى إنْكَارِ الْبِدَعِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ وَغَيْرُهُ وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ ، وَأَنَّهَا خَمْسَةُ أَقْسَامٍ ( قِسْمٌ ) وَاجِبٌ ، وَهُوَ مَا تَتَنَاوَلُهُ قَوَاعِدُ الْوُجُوبِ وَأَدِلَّتُهُ مِنْ الشَّرْعِ كَتَدْوِينِ الْقُرْآنِ وَالشَّرَائِعِ إذَا خِيفَ عَلَيْهَا الضَّيَاعُ فَإِنَّ التَّبْلِيغَ لِمَنْ بَعْدَنَا مِنْ الْقُرُونِ وَاجِبٌ إجْمَاعًا ، وَإِهْمَالُ ذَلِكَ حَرَامٌ إجْمَاعًا فَمِثْلُ هَذَا النَّوْعِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي وُجُوبِهِ ( الْقِسْمُ الثَّانِي ) : مُحَرَّمٌ ، وَهُوَ بِدْعَةٌ تَنَاوَلَتْهَا قَوَاعِدُ التَّحْرِيمِ وَأَدِلَّتُهُ مِنْ الشَّرِيعَةِ كَالْمُكُوسِ وَالْمُحْدَثَاتِ مِنْ الْمَظَالِمِ الْمُنَافِيَةِ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ كَتَقْدِيمِ الْجُهَّالِ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَتَوْلِيَةِ الْمَنَاصِبِ الشَّرْعِيَّةِ مَنْ لَا يَصْلُحُ لَهَا بِطَرِيقِ التَّوَارُثِ وَجَعْلِ الْمُسْتَنَدِ لِذَلِكَ كَوْنُ الْمَنْصِبِ كَانَ لِأَبِيهِ ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِأَهْلٍ ( الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) مِنْ الْبِدَعِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، وَهُوَ مَا تَنَاوَلَتْهُ قَوَاعِدُ النَّدْبِ وَأَدِلَّتُهُ مِنْ الشَّرِيعَةِ كَصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَإِقَامَةِ صُوَرِ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الصَّحَابَةِ بِسَبَبِ أَنَّ الْمَصَالِحَ وَالْمَقَاصِدَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِعَظَمَةِ الْوُلَاةِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ ، وَكَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ مُعْظَمُ تَعْظِيمِهِمْ إنَّمَا هُوَ بِالدِّينِ وَسَابِقِ الْهِجْرَةِ ثُمَّ اخْتَلَّ النِّظَامُ وَذَهَبَ ذَلِكَ الْقَرْنُ وَحَدَثَ قَرْنٌ آخَرُ لَا يُعَظِّمُونَ إلَّا بِالصُّوَرِ فَيَتَعَيَّنُ تَفْخِيمُ الصُّوَرِ حَتَّى تَحْصُلَ الْمَصَالِحُ ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ وَالْمِلْحَ وَيَفْرِضُ لِعَامِلِهِ نِصْفَ شَاةٍ كُلَّ يَوْمٍ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي هُوَ

عَلَيْهَا لَوْ عَمِلَهَا غَيْرُهُ لَهَانَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ ، وَلَمْ يَحْتَرِمُوهُ وَتَجَاسَرُوا عَلَيْهِ بِالْمُخَالَفَةِ فَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يَضَعَ غَيْرَهُ فِي صُورَةٍ أُخْرَى لِحِفْظِ النِّظَامِ ؛ وَلِذَلِكَ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ وَوَجَدَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ اتَّخَذَ الْحُجَّابَ وَأَرْخَى الْحِجَابَ ، وَاِتَّخَذَ الْمَرَاكِبَ النَّفِيسَةَ وَالثِّيَابَ الْهَائِلَةَ الْعَلِيَّةَ ، وَسَلَكَ مَا يَسْلُكُهُ الْمُلُوكُ ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : إنَّا بِأَرْضٍ نَحْنُ فِيهَا مُحْتَاجُونَ لِهَذَا فَقَالَ لَهُ لَا آمُرُك ، وَلَا أَنْهَاك وَمَعْنَاهُ أَنْتَ أَعْلَمُ بِحَالِك هَلْ أَنْتَ مُحْتَاجٌ إلَى هَذَا فَيَكُونُ حَسَنًا أَوْ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَ الْأَئِمَّةِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ وَالْقُرُونِ وَالْأَحْوَالِ فَلِذَلِكَ يَحْتَاجُونَ إلَى تَجْدِيدِ زَخَارِفَ وَسِيَاسَاتٍ لَمْ تَكُنْ قَدِيمًا وَرُبَّمَا وَجَبَتْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ ( الْقِسْمُ الرَّابِعُ ) بِدَعٌ مَكْرُوهَةٌ ، وَهِيَ مَا تَنَاوَلَتْهُ أَدِلَّةُ الْكَرَاهَةِ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدُهَا كَتَخْصِيصِ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ أَوْ غَيْرِهَا بِنَوْعٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَمِنْ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ مَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ تَخْصِيصِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ أَوْ لَيْلَتِهِ } بِقِيَامٍ ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الزِّيَادَةُ فِي الْمَنْدُوبَاتِ الْمَحْدُودَاتِ كَمَا وَرَدَ فِي التَّسْبِيحِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ فَيُفْعَلُ مِائَةٌ وَوَرَدَ صَاعٌ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ فَيُجْعَلُ عَشَرَةُ آصُعٍ بِسَبَبِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا إظْهَارُ الِاسْتِظْهَارِ عَلَى الشَّارِعِ ، وَقِلَّةُ أَدَبٍ مَعَهُ بَلْ شَأْنُ الْعُظَمَاءِ إذَا حَدَّدُوا شَيْئًا وُقِفَ عِنْدَهُ ، وَالْخُرُوجُ عَنْهُ قِلَّةُ أَدَبٍ وَالزِّيَادَةُ فِي الْوَاجِبِ أَوْ عَلَيْهِ أَشَدُّ فِي الْمَنْعِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْأَصْلُ ، وَالْمَزِيدُ عَلَيْهِ ؛

وَلِذَلِكَ نَهَى مَالِكٌ عَنْ إيصَالِ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ لِئَلَّا يُعْتَقَدَ أَنَّهَا مِنْ رَمَضَانَ وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ { أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ إلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فَصَلَّى الْفَرْضَ وَقَامَ لِيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : اجْلِسْ حَتَّى تَفْصِلَ بَيْنَ فَرْضِك وَنَفْلِك فَبِهَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَصَابَ اللَّهُ بِك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ } يُرِيدُ عُمَرُ أَنَّ مَنْ قَبْلَنَا وَصَلُوا النَّوَافِلَ بِالْفَرَائِضِ فَاعْتَقَدُوا الْجَمِيعَ وَاجِبًا ، وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِلشَّرَائِعِ ، وَهُوَ حَرَامٌ إجْمَاعًا ( الْقِسْمُ الْخَامِسُ ) الْبِدَعُ الْمُبَاحَةُ ، وَهِيَ مَا تَنَاوَلْته أَدِلَّةُ الْإِبَاحَةِ وَقَوَاعِدُهَا مِنْ الشَّرِيعَةِ كَاِتِّخَاذِ الْمَنَاخِلِ لِلدَّقِيقِ فَفِي الْآثَارِ أَوَّلُ شَيْءٍ أَحْدَثَهُ النَّاسُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتِّخَاذُ الْمَنَاخِلِ لِلدَّقِيقِ ؛ لِأَنَّ تَلْيِينَ الْعَيْشِ وَإِصْلَاحَهُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ فَوَسَائِلُهُ مُبَاحَةُ فَالْبِدْعَةُ إذَا عَرَضَتْ تُعْرَضُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَأَدِلَّتِهَا فَأَيُّ شَيْءٍ تَنَاوَلَهَا مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالْقَوَاعِدِ أُلْحِقَتْ بِهِ مِنْ إيجَابٍ أَوْ تَحْرِيمٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ، وَإِنْ نَظَرَ إلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهَا بِدْعَةً مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا يَتَقَاضَاهَا كُرِهَتْ فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الِاتِّبَاعِ ، وَالشَّرَّ كُلَّهُ فِي الِابْتِدَاعِ وَلِبَعْضِ السَّلَفِ الصَّالِحِ يُسَمَّى أَبَا الْعَبَّاسِ الْأَبْيَانِيَّ مِنْ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ ثَلَاثٌ لَوْ كُتِبْنَ فِي ظُفْرٍ لَوَسِعَهُنَّ ، وَفِيهِنَّ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اتَّبِعْ ، وَلَا تَبْتَدِعْ اتَّضِعْ ، وَلَا تَرْتَفِعْ مَنْ تَوَرَّعَ لَا يَتَّسِعُ

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْبِدَعِ وَيُنْهَى عَنْهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُنْهَى عَنْهُ مِنْهَا ) وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَتَيْنِ فِي الْبِدَعِ اللَّتَيْنِ فِي قَوْلِ الْأَصْلِ : الْأَصْحَابُ - فِيمَا رَأَيْت - مُتَّفِقُونَ عَلَى إنْكَارِ الْبِدَعِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ وَغَيْرُهُ ، وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ ، وَأَنَّهَا خَمْسَةُ أَقْسَامٍ ( الْأَوَّلُ ) : وَاجِبٌ ، وَهُوَ مَا تَنَاوَلَتْهُ قَوَاعِدُ الْوُجُوبِ وَأَدِلَّتُهُ مِنْ الشَّرْعِ كَتَدْوِينِ الْقُرْآنِ وَالشَّرَائِعِ إذَا خِيفَ عَلَيْهَا الضَّيَاعُ فَإِنَّ التَّبْلِيغَ لِمَنْ بَعْدَنَا مِنْ الْقُرُونِ وَاجِبٌ إجْمَاعًا .
وَإِهْمَالُهُ حَرَامٌ إجْمَاعًا ( الثَّانِي ) : مُحَرَّمٌ ، وَهُوَ مَا تَنَاوَلَتْهَا قَوَاعِدُ التَّحْرِيمِ ، وَأَدِلَّتُهُ مِنْ الشَّرْعِ كَالْمُكُوسِ وَالْمُحْدَثَاتِ مِنْ الْمَظَالِمِ الْمُنَافِيَةِ لِقَوَاعِد الشَّرِيعَةِ كَتَقْدِيمِ الْجُهَّالِ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَتَوْلِيَةِ الْمَنَاصِبِ الشَّرْعِيَّةِ مَنْ لَا يَصْلُحُ لَهَا بِطَرِيقِ التَّوَارُثِ نَظَرًا لِكَوْنِ الْمَنْصِبِ كَانَ لِأَبِيهِ ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِأَهْلٍ ( الثَّالِثُ ) مَنْدُوبٌ ، وَهُوَ مَا تَنَاوَلَتْهُ قَوَاعِدُ النَّدْبِ وَأَدِلَّتُهُ مِنْ الشَّرْعِ كَصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ أَيْ الَّذِي عَمِلَ بِهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فِي رَمَضَانَ ، وَقَالَ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، وَهُمْ يُصَلُّونَ : نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا سَمَّاهَا بِدْعَةً بِاعْتِبَارٍ مَا وَإِلَّا فَقِيَامُ الْإِمَامِ بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ سُنَّةٌ عَمِلَ بِهَا صَاحِبُ السُّنَّةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا تَرَكَهَا خَوْفًا مِنْ الِافْتِرَاضِ فَلَمَّا انْقَضَى زَمَنُ الْوَحْيِ زَالَتْ الْعِلَّةُ فَعَادَ الْعَمَلُ بِهَا إلَى نِصَابِهِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَتَأَتَّ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَمَانَ خِلَافَتِهِ لِمُعَارَضَةِ مَا هُوَ أَوْلَى بِالنَّظَرِ

فِيهِ ، وَكَذَلِكَ صَدْرُ خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى تَأَنَّى النَّظَرَ فَوَقَعَ مِنْهُ لَكِنَّهُ صَارَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ كَأَنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَجْرِ بِهِ عَمَلُ مَنْ تَقَدَّمَهُ دَائِمًا فَسَمَّاهُ بِذَلِكَ الِاسْمِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ عَلَى خِلَافِ مَا ثَبَتَ مِنْ السُّنَّةِ كَمَا فِي الِاعْتِصَامِ لِأَبِي إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيِّ قُلْت : وَقَدْ جَرَى عَلَى مَا عَمِلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ بِإِمَامٍ وَاحِدٍ فِي الْمَسْجِدِ عَمَلُ الْأَعْصَارِ إلَى عَصْرِنَا فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ مَا عَدَا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ فَإِنَّهُمَا قَدْ اُبْتُدِعَ فِيهِمَا شَرَّفَهُمَا اللَّهُ - تَعَالَى - تَعَدُّدُ الْجَمَاعَاتِ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ أَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يُوَفِّقَ أَهْلَهَا لِلْعَمَلِ فِيهَا بِالسُّنَّةِ كَسَائِرِ الْأَمْصَارِ قَالَ الْأَصْلُ : وَكَإِقَامَةِ صُورِ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الصَّحَابَةِ بِسَبَبِ أَنَّ الْمَصَالِحَ وَالْمَقَاصِدَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِعَظَمَةِ الْوُلَاةِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ وَكَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ مُعْظَمُ تَعْظِيمِهِمْ إنَّمَا هُوَ بِالدِّينِ وَسَابِقِ الْهِجْرَةِ ثُمَّ اخْتَلَّ النِّظَامُ وَذَهَبَ ذَلِكَ الْقَرْنُ وَحَدَثَ قَرْنٌ آخَرُ لَا يُعَظِّمُونَ إلَّا بِالصُّوَرِ فَتَعَيَّنَ تَفْخِيمُ الصُّوَرِ حَتَّى تَحْصُلَ الْمَصَالِحُ ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ وَالْمِلْحِ وَيَفْرِضُ لِعَامِلِهِ نِصْفَ شَاةٍ كُلَّ يَوْمٍ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا لَوْ عَمِلَهَا غَيْرُهُ لَهَانَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ ، وَلَمْ يَحْتَرِمُوهُ وَتَجَاسَرُوا عَلَيْهِ بِالْمُخَالَفَةِ فَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يَضَعَ غَيْرَهُ فِي صُورَةٍ أُخْرَى لِحِفْظِ النِّظَامِ وَلِذَلِكَ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ وَوَجَدَ مُعَاوِيَةُ قَدْ اتَّخَذَ الْحُجَّابَ وَأَرْخَى الْحِجَابَ وَاِتَّخَذَ الْمَرَاكِبَ النَّفِيسَةَ وَالثِّيَابَ الْهَائِلَةَ الْعَلِيَّةَ ، وَسَلَكَ مَا يَسْلُكُهُ الْمُلُوكُ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : إنَّا بِأَرْضٍ نَحْنُ فِيهَا

مُحْتَاجُونَ لِهَذَا فَقَالَ لَهُ لَا آمُرُك ، وَلَا أَنْهَاك وَمَعْنَاهُ أَنْتَ أَعْلَمُ بِحَالِك هَلْ أَنْتَ مُحْتَاجٌ إلَى هَذَا فَيَكُونُ حَسَنًا أَوْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَ الْأَئِمَّةِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ وَالْقُرُونِ وَالْأَحْوَالِ ؛ فَلِذَلِكَ يَحْتَاجُونَ إلَى تَجْدِيدِ زَخَارِفَ وَسِيَاسَاتٍ لَمْ تَكُنْ قَدِيمًا ، وَرُبَّمَا وَجَبَتْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ ( الرَّابِعُ ) مَكْرُوهٌ ، وَهُوَ مَا تَنَاوَلَتْهُ قَوَاعِدُ الْكَرَاهَةِ ، وَأَدِلَّتُهَا مِنْ الشَّرْعِ كَتَخْصِيصِ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ وَغَيْرِهَا بِنَوْعٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ { لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَخْصِيصِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ أَوْ لَيْلَتِهِ بِقِيَامٍ } كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَكَالزِّيَادَةِ فِي الْمَنْدُوبَاتِ الْمَحْدُودَاتِ بِأَنْ يُجْعَلَ التَّسْبِيحُ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ مِائَةً ، وَالْوَارِدُ فِيهِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَالصَّاعُ الْوَاحِدُ الْوَارِدُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ عَشَرَةُ آصُعٍ بِسَبَبِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا إظْهَارُ الِاسْتِظْهَارِ عَلَى الشَّارِعِ ، وَهُوَ قِلَّةُ أَدَبٍ مَعَهُ ؛ لِأَنَّ شَأْنَ الْعُظَمَاءِ إذَا حَدَّدُوا شَيْئًا وَقَفَ عِنْدَهُ ، وَعُدَّ الْخُرُوجُ عَنْهُ قِلَّةَ أَدَبٍ ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي الْوَاجِبِ أَوْ عَلَيْهِ فَهُوَ حَرَامٌ لَا مَكْرُوهٌ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْأَصْلُ وَالْمَزِيدُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِلشَّرَائِعِ ، وَهُوَ حَرَامٌ إجْمَاعًا ؛ وَلِذَلِكَ نَهَى مَالِكٌ عَنْ إيصَالِ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ لِئَلَّا يُعْتَقَدَ أَنَّهَا مِنْ رَمَضَانَ وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ { أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ إلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى الْفَرْضَ وَقَامَ لِيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ اجْلِسْ حَتَّى تَفْصِلَ بَيْنَ فَرْضِك وَنَفْلِك فَبِهَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصَابَ اللَّهُ بِك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ } يُرِيدُ عُمَرُ

أَنَّ مَنْ قَبْلَنَا وَصَلُوا النَّوَافِلَ بِالْفَرَائِضِ فَاعْتَقَدُوا الْجَمِيعَ وَاجِبًا فَهَلَكُوا بِتَغْيِيرِهِمْ لِلشَّرَائِعِ ( الْخَامِسُ ) : مُبَاحٌ ، وَهُوَ مَا تَنَاوَلَتْهُ قَوَاعِدُ الْمُبَاحِ وَأَدِلَّتُهُ مِنْ الشَّرْعِ كَاِتِّخَاذِ الْمَنَاخِلِ لِلدَّقِيقِ ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ شَيْءٍ أَحْدَثُهُ النَّاسُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الْآثَارِ وَتَلْيِينُ الْعَيْشِ وَإِصْلَاحُهُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ فَوَسَائِلِهِ كَذَلِكَ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْبِدْعَةُ إنَّمَا تَنْقَسِمُ لِهَذِهِ الْأَقْسَامِ إذَا نُظِرَ إلَيْهَا بِاعْتِبَارِ مَا يَتَقَاضَاهَا وَيَتَنَاوَلُهَا مِنْ الْقَوَاعِدِ وَالْأَدِلَّةِ فَأُلْحِقَتْ بِمَا تَنَاوَلَهَا مِنْ قَوَاعِدِ وَأَدِلَّةِ الْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ أَوْ النَّدْبِ أَوْ الْكَرَاهَةِ أَوْ الْإِبَاحَةِ ، وَأَمَّا إنْ قُطِعَ النَّظَرُ عَنْ ذَلِكَ وَنُظِرَ إلَى كَوْنِهَا بِدْعَةً مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَمْ تَكُنْ إلَّا مَكْرُوهَةً أَيْ إمَّا تَنْزِيهًا ، وَإِمَّا تَحْرِيمًا فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الِاتِّبَاعِ ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ فِي الِابْتِدَاعِ وَلِبَعْضِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَيُسَمَّى أَبَا الْعَبَّاسِ الْأَبْيَانِيَّ مِنْ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ ثَلَاثٌ لَوْ كُتِبْنَ فِي ظُفْرٍ لَوَسِعَهُنَّ ، وَفِيهِنَّ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اتَّبِعْ وَلَا تَبْتَدِعْ اتَّضِعْ وَلَا تَرْتَفِعْ مَنْ تَوَرَّعَ لَا يَتَّسِعُ .
ا هـ .
كَلَامُ الْأَصْلِ بِتَهْذِيبٍ وَزِيَادَةٍ فَقَوْلُهُ : وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ إلَخْ هِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ ، وَإِلَيْهَا ذَهَبَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ غَيْرُ وَاحِدٍ كَالْإِمَامِ مُحَمَّدٍ الزَّرْقَانِيِّ فَقَالَ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمُوَطَّإِ : وَتَنْقَسِمُ الْبِدْعَةُ إلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ وَحَدِيثُ كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ عَامٌّ مَخْصُوصٌ قَالَ : وَالْبِدْعَةُ لُغَةً مَا أُحْدِثَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ وَتُطْلَقُ شَرْعًا عَلَى مُقَابِلِ السُّنَّةِ ، وَهِيَ مَا لَمْ تَكُنْ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ا هـ وَغَيْرُ وَاحِدٍ

مِنْ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُمْ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ شَيْخُ الْأَصْلِ فَفِي الْعَزِيزِيِّ عَلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ الْعَلْقَمِيِّ قَالَ النَّوَوِيُّ : الْبِدْعَةُ بِكَسْرِ الْبَاءِ فِي الشَّرْعِ هِيَ إحْدَاثُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إلَى حَسَنَةٍ وَقَبِيحَةٍ ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي آخِرِ الْقَوَاعِدِ الْبِدْعَةُ مُنْقَسِمَةٌ إلَى وَاجِبَةٍ وَمُحَرَّمَةٍ وَمَنْدُوبَةٍ وَمَكْرُوهَةٍ وَمُبَاحَةٍ قَالَ : وَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ تُعْرَضَ الْبِدْعَةُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ ، فَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ الْإِيجَابِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ ، أَوْ فِي قَوَاعِدِ التَّحْرِيمِ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ ، أَوْ النَّدْبِ فَمَنْدُوبَةٌ ، أَوْ الْمَكْرُوهِ فَمَكْرُوهَةٌ ، أَوْ الْمُبَاحِ فَمُبَاحَةٌ وَلِلْوَاجِبَةِ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا الِاشْتِغَالُ بِعِلْمِ النَّحْوِ الَّذِي يُفْهِمُ كَلَامَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَكَلَامَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَا حِفْظُ غَرِيبِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ اللُّغَةِ ، وَمِنْهَا تَدْرِيسُ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَمِنْهَا الْكَلَامُ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَتَمْيِيزِ الصَّحِيحِ مِنْ السَّقِيمِ ، وَمِنْهَا الرَّدُّ عَلَى مَذَاهِبِ نَحْوِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ ؛ إذْ لَا يَتَأَتَّى حِفْظُ الشَّرِيعَةِ إلَّا بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَقَدْ دَلَّتْ قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمُتَعَيِّنِ ، وَلِلْمُحَرَّمَةِ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا مَذَاهِبُ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ ، وَلِلْمَنْدُوبَةِ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا التَّرَاوِيحُ ، وَالْكَلَامُ فِي دَقَائِقِ التَّصَوُّفِ ، وَفِي الْجَدَلِ .
وَمِنْهَا جَمْعُ الْمَحَافِلِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَسَائِلِ إنْ يُقْصَدْ بِذَلِكَ وَجْهُ اللَّهِ ، وَالْمَكْرُوهَةُ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ وَتَزْوِيقُ الْمَصَاحِفِ ، وَلِلْمُبَاحَةِ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا الْمُصَافَحَةُ عَقِبَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَمِنْهَا

التَّوَسُّعُ فِي اللَّذِيذِ مِنْ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَلُبْسِ الطَّيَالِسَةِ وَتَوْسِيعِ الْأَكْمَامِ ، وَقَدْ نَخْتَلِفُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ فَيَجْعَلُهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ وَيَجْعَلُهُ آخَرُونَ مِنْ السُّنَنِ الْمَفْعُولَةِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا بَعْدَهُ وَذَلِكَ كَالِاسْتِعَاذَةِ وَالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ .
ا هـ .
بِتَصَرُّفٍ فَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ كَرَاهَتُهُمَا فِي الْفَرِيضَةِ دُونَ النَّافِلَةِ إذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ بِتَرْكِهِمَا ، وَلَمْ يَقْصِدْ الْخُرُوجَ مِنْ خِلَافِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ ، وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ سُنِّيَّتُهُمَا فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا ، وَمِثْلُهُمَا فِي كَوْنِهِ بِدْعَةً مَكْرُوهَةً ، أَوْ سُنَّةً سُجُودُ الشُّكْرِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ مَفْعُولَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى كَرَاهَتِهِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ : وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الرَّجُلِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ يُحِبُّهُ فَيَسْجُدُ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - شُكْرًا فَقَالَ : لَا يَفْعَلُ هَذَا مِمَّا مَضَى مِنْ أَمْرِ النَّاسِ ، قِيلَ لَهُ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا يَذْكُرُونَ سَجَدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شُكْرًا لِلَّهِ أَفَسَمِعْت ذَلِكَ قَالَ مَا سَمِعْت ذَلِكَ ، وَأَنَا أَرَى أَنْ قَدْ كَذَبُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ ، وَهَذَا مِنْ الضَّلَالِ أَنْ يَسْمَعَ الْمَرْءُ الشَّيْءَ فَيَقُولَ : هَذَا لَمْ تَسْمَعْهُ مِنِّي قَدْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ أَفَسَمِعْت أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا إذْ مَا قَدْ كَانَ فِي النَّاسِ وَجَرَى عَلَى أَيْدِيهِمْ سُمِعَ عَنْهُمْ فِيهِ شَيْءٌ فَعَلَيْك بِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَذُكِرَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الَّذِي قَدْ كَانَ فِيهِمْ فَهَلْ سَمِعْت أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ سَجَدَ فَهَذَا إجْمَاعٌ .
وَإِذَا جَاءَك أَمْرٌ لَا تَعْرِفْهُ فَدَعْهُ .
ا هـ .

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : الْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِمَّا شُرِعَ فِي الدِّينِ يَعْنِي سُجُودَ الشُّكْرِ فَرْضًا ، وَلَا نَفْلًا إذْ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا فَعَلَهُ ، وَلَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اخْتِيَارِ فِعْلِهِ ، وَالشَّرَائِعُ لَا تَثْبُتُ إلَّا مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ قَالَ : وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ، وَلَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ بِأَنَّ فِي ذَلِكَ لَوْ كَانَ النَّقْلُ صَحِيحًا ؛ إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَتَوَفَّرَ الدَّوَاعِي عَلَى تَرْكِ نَقْلِ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ ، وَقَدْ أُمِرُوا بِالتَّبْلِيغِ قَالَ : وَهَذَا أَصْلٌ مِنْ الْأُصُولِ ، وَعَلَيْهِ يَأْتِي إسْقَاطُ الزَّكَاةِ مِنْ الْخُضَرِ وَالْبُقُولِ مَعَ وُجُودِ الزَّكَاةِ فِيهَا لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ وَالْبَعْلُ الْعُشْرُ ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ } ؛ لِأَنَّا نَزَّلْنَا تَرْكَ نَقْلِ أَخْذِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ مِنْهَا كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ فِي أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهَا فَكَذَلِكَ نَزَلَ تَرْكُ نَقْلِ السُّجُودِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشُّكْرِ كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ فِي أَنْ لَا سُجُودَ فِيهَا ثُمَّ حُكِيَ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ تَوْجِيهُ مَالِكٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا بِدْعَةٌ لَا تَوْجِيهُ أَنَّهَا بِدْعَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَفَادَهُ الشَّاطِبِيُّ فِي الِاعْتِصَامِ وَحَاصِلُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ هُوَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْعَلَّامَةُ الْحِفْنِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ أَنَّ الْبِدْعَةَ بِمَعْنَى مَا لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْعَانِ حَقِيقِيَّةٌ وَمُشْتَبِهَاتٌ فَالْحَقِيقِيَّةُ هِيَ الْمُقَابِلَةُ لِلسُّنَّةِ فَالسُّنَّةُ مَا فُعِلَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ، وَشَهِدَ لَهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ ، وَالْبِدْعَةُ الْحَقِيقِيَّةُ مَا أُحْدِثَ

بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ، وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ ، قَالَ : زَادَ الشَّارِحُ فِي الْكَبِيرِ وَغَلَبَتْ عَلَى مَا خَالَفَ أُصُولَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْعَقَائِدِ .
وَهِيَ الْبِدْعَةُ الْمُحَرَّمَةُ سَوَاءٌ كَفَرَ بِهَا كَإِنْكَارِ عِلْمِهِ - تَعَالَى بِالْجُزْئِيَّاتِ أَوْ لَا كَالْمُجَسِّمَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ عَلَى الرَّاجِحِ إنْ لَمْ تَقُلْ الْأُولَى كَالْأَجْسَامِ ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِالْبِدْعَةِ مَتَى أُطْلِقَتْ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ تُطْلَقُ عَلَى الْمُحَرَّمَةِ وَغَيْرِهَا ، فَهِيَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي السُّنَّةِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَبَى اللَّهُ أَنْ يَقْبَلَ عَمَلَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ حَتَّى يَدَعَ بِدْعَتَهُ لِإِيرَادِهِ فِي حَيِّزِ التَّحْذِيرِ مِنْهَا وَالذَّمِّ لَهَا وَالتَّوْبِيخِ عَلَيْهَا ، فَنَفْيُ قَبُولِ الْعَمَلِ بِمَعْنَى إبْطَالِهِ وَرَدِّهِ إنْ كَانَتْ الْبِدْعَةُ مُكَفِّرَةً لَهُ ، وَبِمَعْنَى نَفْيِ الثَّوَابِ إنْ كَانَتْ لَا تُكَفِّرُهُ مِثْلَ مَا وَرَدَ أَنَّ الشَّخْصَ إذَا لَبِسَ ثَوْبًا بِدَرَاهِمَ مِنْهَا دِرْهَمٌ حَرَامٌ ، وَصَلَّى فِيهِ لَمْ تُقْبَلْ صَلَاتُهُ أَيْ لَمْ يُثَبْ عَلَيْهَا ، وَالْمُشْتَبِهَاتُ تُعْرَضُ عَلَى أُصُولِ الشَّرْعِ فَإِنْ وَافَقَتْ الْوَاجِبَ كَانَتْ وَاجِبَةً أَوْ الْمَنْدُوبَ كَانَتْ مَنْدُوبَةً أَوْ الْمَكْرُوهَ كَانَتْ مَكْرُوهَةً أَوْ الْمُبَاحَ كَانَتْ مُبَاحَةً ، وَبِالْجُمْلَةِ فَتَقْسِيمُ الْبِدْعَةِ مَعَ السُّنَّةِ عَلَى نَحْوِ تَقْسِيمِ النَّحْوِيِّينَ حَرْفَ الْجَرِّ الْأَصْلِيِّ مَعَ الزَّائِدِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَصْلِيٌّ ، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ وَاحْتَاجَ لِمُتَعَلَّقٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ وَزَائِدٌ ، وَهُوَ مَا لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ ، وَلَا يَحْتَاجُ لِمُتَعَلَّقٍ وَشَبِيهٌ بِهِمَا ، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ ، وَلَمْ يَحْتَجْ لِمُتَعَلَّقٍ فَكَمَا انْقَسَمَ حَرْفُ الْجَرِّ إلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ كَذَلِكَ الْبِدْعَةُ مَعَ السُّنَّةِ تَنْقَسِمُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إلَى ثَلَاثَةٍ : سُنَّةٌ ، وَهِيَ مَا فُعِلَ فِي الصَّدْرِ

الْأَوَّلِ ، وَشَهِدَ لَهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ ، وَبِدْعَةٌ ، وَهُوَ مَا لَمْ يُفْعَلْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ، وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُ الْأَصْلُ .
وَمُشْتَبِهَاتٌ ، وَهُوَ مَا لَمْ يُفْعَلْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَشَهِدَ لَهُ الْأَصْلُ وَتَوْضِيحُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنَّ مَا يَحْرُمُ وَيُنْهَى عَنْهُ مِنْ الْبِدَعِ هُوَ الْمُرَادُ بِالْبِدْعَةِ الْقَبِيحَةِ فِي كَلَامِ النَّوَوِيِّ الصَّادِقَةِ عَلَى الْمُحَرَّمَةِ وَعَلَى الْمَكْرُوهَةِ وَأَنَّ مَا لَا يُنْهَى عَنْهُ مِنْهَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْبِدْعَةِ الْحَسَنَةِ الصَّادِقَةِ عَلَى الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ وَالْمُبَاحَةِ وَقَوْلُ الْأَصْلِ : وَالْأَصْحَابُ - فِيمَا رَأَيْت - مُتَّفِقُونَ عَلَى إنْكَارِ الْبِدَعِ إلَخْ هُوَ طَرِيقَةُ نَفْيِ التَّفْصِيلِ فِي الْبِدَعِ ، وَأَنَّهَا لَا تَكُونُ وَاجِبَةً ، وَلَا مَنْدُوبَةً ، وَلَا مُبَاحَةً بَلْ إنَّمَا تَكُونُ قَبِيحَةً مَنْهِيًّا عَنْهَا فَالْكَلَامُ عَلَيْهَا مِنْ جِهَتَيْنِ ( الْجِهَةُ الْأُولَى ) أَنَّ أَمْثِلَةَ الْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ وَالْمُبَاحَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْقَرَافِيُّ وَشَيْخُهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا مِمَّا لَهُ أَصْلٌ فِي الدِّينِ ، وَمِنْ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ ، وَعَنْ كَوْنِهَا مِنْ الْعَادِيَّاتِ ، وَمَا كَانَ مِمَّا لَهُ أَصْلٌ فِي الدِّينِ ، وَمِنْ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ لَا يُعَدُّ مِنْ الْبِدَعِ ؛ لِأَنَّ خَاصَّةَ الْبِدْعَةِ أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَمَّا رَسَمَهُ الشَّارِعُ ؛ إذْ هِيَ طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ اُبْتُدِعَتْ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ تَقَدَّمَهَا تُضَاهِي الشَّرِيعَةَ يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ فَانْفَصَلَتْ بِهَذَا الْقَيْدِ عَنْ كُلِّ مَا ظَهَرَ لِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّهُ مُخْتَرِعٌ مِمَّا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالدِّينِ كَعِلْمِ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ وَمُفْرَدَاتِ اللُّغَةِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الْخَادِمَةِ لِلشَّرِيعَةِ فَإِنَّهَا .
وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ فَأُصُولُهَا مَوْجُودَةٌ فِي الشَّرْعِ ؛ إذْ الْأَمْرُ

بِإِعْرَابِ الْقُرْآنِ مَنْقُولٌ ، وَعُلُومُ اللِّسَانِ هَادِيَةٌ لِلصَّوَابِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَحَقِيقَتُهَا إذًا أَنَّهَا فِقْهُ التَّعَبُّدِ بِالْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا كَيْفَ تُؤْخَذُ وَتُؤَدَّى ، وَأُصُولُ الْفِقْهِ إنَّمَا مَعْنَاهَا اسْتِقْرَاءُ كُلِّيَّاتِ الْأَدِلَّةِ حَتَّى تَكُونَ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ نَصْبَ عَيْنٍ ، وَعِنْدَ الطَّالِبِ سَهْلَةَ الْمُلْتَمَسِ ، وَكَذَلِكَ أُصُولُ الدِّينِ ، وَهُوَ عِلْمُ الْكَلَامِ إنَّمَا حَاصِلُهُ تَقْرِيرٌ لِأَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَوْ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا فِي التَّوْحِيدِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَمَا كَانَ الْفِقْهُ تَقْرِيرَ الْأَدِلَّةِ فِي الْفُرُوعِ الْعَبَّادِيَّةِ ، وَتَصْنِيفُهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَرَعًا إلَّا أَنَّ لَهُ أَصْلًا فِي الشَّرْعِ فَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِ فَالشَّرْعُ بِجُمْلَتِهِ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِهِ ، وَهُوَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ قَاعِدَةِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُهَا فَعَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِهَا أَصْلًا شَرْعِيًّا لَا إشْكَالَ فِي أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ خَادِمٌ لِلشَّرِيعَةِ دَاخِلٌ تَحْتَ أَدِلَّتِهَا الَّتِي لَيْسَتْ بِمَأْخُوذَةٍ مِنْ جُزْءٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ أَلْبَتَّةَ وَعَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِهَا لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْعُلُومُ مُبْتَدَعَاتٍ ، وَإِذَا دَخَلَتْ فِي عِلْمِ الْبِدَعِ كَانَتْ قَبِيحَةً ؛ لِأَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ مِنْ غَيْرِ إشْكَالٍ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَتْبُ الْمُصْحَفِ ، وَجَمْعُ الْقُرْآنِ قَبِيحًا ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ ، فَلَيْسَ إذًا بِبِدْعَةٍ وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ وَلَيْسَ إلَّا هَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ ، وَهُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ ، وَإِذَا ثَبَتَ جُزْءٌ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ ثَبَتَ مُطْلَقُ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ فَعَلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى عِلْمُ النَّحْوِ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ عُلُومِ اللِّسَانِ

، أَوْ عِلْمُ الْأُصُولِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْعُلُومِ الْخَادِمَةِ لِلشَّرِيعَةِ بِدْعَةً أَصْلًا وَمَنْ سَمَّاهُ بِدْعَةً فَإِمَّا عَلَى الْمَجَازِ كَمَا سَمَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيَامَ النَّاسِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ بِدْعَةً ، وَإِمَّا جَهْلًا بِمَوَاقِعِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُعْتَدًّا بِهِ ، وَلَا مُعْتَمَدًا عَلَيْهِ ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ الْعَادِيَّاتِ كَإِقَامَةِ صُوَرِ الْأَئِمَّةِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ وَالْقُضَاةِ وَاِتِّخَاذِ الْمَنَاخِلِ وَغَسْلِ الْيَدَيْنِ بِالْأُشْنَانِ وَلُبْسِ الطَّيَالِسِ وَتَوْسِيعِ الْأَكْمَامِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي الزَّمَنِ الْفَاضِلِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ فَالتَّمْثِيلُ بِهَا لِمَنْدُوبَاتِ الْبِدَعِ وَمُبَاحَاتِهَا ، وَكَذَا بِالْمُكُوسِ وَالْمُحْدَثَاتِ مِنْ الْمَظَالِمِ .
وَتَقْدِيمُ الْجُهَّالِ عَلَى الْعُلَمَاءِ فِي الْوِلَايَاتِ الْعِلْمِيَّةِ ، وَتَوْلِيَةُ الْمَنَاصِبِ الشَّرِيفَةِ مَنْ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ لِمُحَرَّمَاتِ الْبِدَعِ مَبْنِيٌّ عَلَى إحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ فِي الْعَادِيَّاتِ ، وَهِيَ الَّتِي مَال إلَيْهَا الْقَرَافِيُّ وَشَيْخُهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَذَهَبَ إلَيْهَا بَعْضُ السَّلَفِ كَمُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ مِنْ أَنَّ الْمُخْتَرَعَاتِ مِنْهَا تَلْحَقُ بِالْبِدَعِ ، وَتَصِيرُ كَالْعِبَادَاتِ الْمُخْتَرَعَةِ الْجَارِيَةِ فِي الْأُمَّةِ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ ( الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ) : أَنَّهَا أُمُورٌ جَرَتْ فِي النَّاسِ وَكَثُرَ الْعَمَلُ بِهَا وَشَاعَتْ وَذَاعَتْ ( وَالْوَجْهُ الثَّانِي ) : أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِبَادَاتِ ؛ إذْ الْأُمُورُ الْمَشْرُوعَةُ تَارَةً تَكُونُ عِبَادِيَّةً ، وَتَارَةً تَكُونُ عَادِيَّةً فَكِلَاهُمَا مَشْرُوعٌ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ فَكَمَا تَقَعُ الْمُخَالَفَةُ بِالِابْتِدَاعِ فِي أَحَدِهِمَا تَقَعُ فِي الْآخَرِ ( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) : أَنَّ الشَّرْعَ جَاءَ بِالْوَعْدِ بِأَشْيَاءَ تَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ هِيَ خَارِجَةٌ عَنْ سُنَّتِهِ فَتَدْخُلُ فِيمَا تَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ ؛ لِأَنَّهَا

مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا قَالَ فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَدُّوا إلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا حَقَّكُمْ } وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً } وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا { إذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرُوا السَّاعَةَ } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ وَيُلْقَى وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّمَا هُوَ قَالَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ } وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ بَيْنَ يَدَيَّ لَأَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ وَيَرْتَفِعُ فِيهَا الْعِلْمُ وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ } وَالْهَرَجُ الْقَتْلُ وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ رَأَيْت أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا ثُمَّ قَالَ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِك فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ ، وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ .
وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ ، فَيُقَالُ : إنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا ، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا

أَجْلَدَهُ ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ } الْحَدِيثَ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ ، وَحَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ كُلُّهُمْ زَعَمَ أَنَّهُ رَسُولٌ وَحَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ ثُمَّ قَالَ وَحَتَّى يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِي الْبُنْيَانِ } إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَقُولُونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ } ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ { بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا فَيَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضِ الدُّنْيَا } وَفَسَّرَ ذَلِكَ الْحَسَنُ قَالَ يُصْبِحُ مُحَرِّمًا لِدَمِ أَخِيهِ وَعِرْضِهِ وَمَالِهِ وَيُمْسِي مُسْتَحِلًّا لَهُ كَأَنَّهُ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ { لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَفْشُوَ الزِّنَا وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً قَيِّمٌ وَاحِدٌ } .
وَمِنْ غَرِيبِ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً حَلَّ بِهَا الْبَلَاءُ قِيلَ : وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إذَا صَارَ

الْمَغْنَمُ دُوَلًا ، وَالْأَمَانَةُ مَغْنَمًا وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا ، وَأَطَاعَ الرَّجُلُ زَوْجَهُ ، وَعَقَّ أُمَّهُ ، وَبَرَّ صَدِيقَهُ وَجَفَا أَبَاهُ وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ ، وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ وَلُبِسَ الْحَرِيرُ وَاُتُّخِذَتْ الْقِيَانُ وَالْمَعَازِفُ ، وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ وَزَلْزَلَةً وَخَسْفًا أَوْ مَسْخًا وَقَذْفًا } .
وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرِيبُ هَذَا وَفِيهِ { سَادَ الْقَبِيلَةَ فَاسِقُهُمْ ، وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ وَفِيهِ وَظَهَرَتْ الْقِيَانُ وَالْمَعَازِفُ ، وَفِي آخِرِهِ فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ وَزَلْزَلَةً وَخَسْفًا وَآيَاتٍ تَتَابَعُ كَنِظَامٍ بَالٍ قُطِعَ سِلْكُهُ فَتَتَابَعَ } .
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ إنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَبْدِيلُ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانُوا أَحَقَّ بِالْعَمَلِ بِهَا فَلَمَّا عَوَّضُوا مِنْهَا غَيْرَهَا وَفَشَا فِيهَا كَأَنَّهُ مِنْ الْمَعْمُولِ بِهِ تَشْرِيعًا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْحَوَادِثِ الطَّارِئَةِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَ فِي الْعِبَادَاتِ .

( وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ ) وَعَلَيْهَا الْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْعَادِيَّاتِ إنْ كَانَتْ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالشِّرَاءِ وَالطَّلَاقِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْجِنَايَاتِ مِمَّا لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ التَّعَبُّدَاتِ لِكَوْنِهَا مُقَيَّدَةً بِأُمُورٍ شَرْعِيَّةٍ لَا خِيرَةَ لِلْمُكَلَّفِ فِيهَا كَانَتْ اقْتِضَاءً أَوْ تَخْيِيرًا فَإِنَّ التَّخْيِيرَ فِي التَّعَبُّدَاتِ إلْزَامٌ كَمَا أَنَّ الِاقْتِضَاءَ إلْزَامٌ حَسْبَمَا تُقِرُّ ، وَبُرْهَانُهُ فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ صَحَّ دُخُولُ الِابْتِدَاعِ فِيهَا كَالْعِبَادَاتِ .
وَإِلَّا فَلَا وَهَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا حُكْمُ الْبَابِ وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِالْأَمْثِلَةِ فَمَا أَتَى بِهِ الْقَرَافِيُّ مِثَالًا لِلْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ وَضْعِ الْمُكُوسِ فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى قَصْدِ حَجْرِ التَّصَرُّفَاتِ وَقْتًا مَا أَوْ فِي حَالَةٍ مَا لِنَيْلِ حُطَامِ الدُّنْيَا عَلَى هَيْئَةِ غَصْبِ الْغَاصِبِ وَسَرِقَةِ السَّارِقِ وَقَطْعِ الْقَاطِعِ لِلطَّرِيقِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أَوْ يَكُونُ عَلَى قَصْدِ وَضْعِهِ عَلَى النَّاسِ كَالدَّيْنِ الْمَوْضُوعِ وَالْأَمْرِ الْمَحْتُومِ عَلَيْهِمْ دَائِمًا أَوْ فِي أَوْقَاتٍ مَحْدُودَةٍ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ مَضْرُوبَةٍ بِحَيْثُ تُضَاهِي الْمَشْرُوعَ الدَّائِمَ الَّذِي يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْعَامَّةُ وَيُؤْخَذُونَ بِهِ وَتُوَجَّهُ عَلَى الْمُمْتَنِعِ مِنْهُ الْعُقُوبَةُ كَمَا فِي أَخْذِ زَكَاةِ الْمَوَاشِي وَالْحَرْثِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَمِنْ الْفَرْضِ الثَّانِي يَصِيرُ تَشْرِيعًا زَائِدًا وَبِدْعَةً بِلَا شَكٍّ ، وَيَصِيرُ لِلْمُكُوسِ عَلَى هَذَا الْفَرْضِ نَظَرَانِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عَلَى الْفَاعِلِ أَنْ يَفْعَلَهَا كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ ، وَنَظَرٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا اخْتِرَاعًا لِتَشْرِيعٍ يُؤْخَذُ بِهِ النَّاسُ إلَى الْمَوْتِ كَمَا يُؤْخَذُونَ بِسَائِرِ التَّكَالِيفِ فَاجْتَمَعَ فِيهَا نَهْيَانِ نَهْيٌ عَنْ الْمَعْصِيَةِ ، وَنَهْيٌ عَنْ الْبِدْعَةِ ، وَمِنْ الْفَرْضِ الْأَوَّلِ إنَّمَا يُوجَدُ بِهَا النَّهْيُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا تَشْرِيعًا مَوْضُوعًا عَلَى النَّاسِ

أَمْرَ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ ؛ إذْ لَيْسَ فِيهَا جِهَةٌ أُخْرَى يَكُونُ بِهَا مَعْصِيَةٌ بَلْ نَفْسُ التَّشْرِيعِ هُوَ نَفْسُ الْمَمْنُوعِ ، وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ الْجُهَّالِ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَتَوْلِيَةُ الْمَنَاصِبِ الشَّرِيفَةِ مَنْ لَا يُصْلَحُ لَهَا بِطَرِيقِ التَّوْرِيثِ فَإِنْ جُعِلَ الْجَاهِلُ فِي مَوْضِعِ الْعَالِمِ حَتَّى يَصِيرَ مُفْتِيًا فِي الدِّينِ وَمَعْمُولًا بِقَوْلِهِ فِي الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَبْضَاعِ وَغَيْرِهَا مُحَرَّمٌ فِي الدِّينِ فَقَطْ .
وَأَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ يُتَّخَذُ دَيْدَنًا حَتَّى يَصِيرَ الِابْنُ مُسْتَحِقًّا لِرُتْبَةِ الْأَبِ .
وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الْأَبِ فِي ذَلِكَ الْمَنْصِبِ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَشِيعُ هَذَا الْعَمَلُ وَيَطَّرِدُ وَيَرِدُهُ النَّاسُ كَالشَّرْعِ الَّذِي لَا يُخَالَفُ بِأَنْ يُعَبِّرُوا عَنْهُ كَمَا يُعَبَّرُ عَنْ الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ مَنْ مَاتَ عَنْ شَيْءٍ فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ فَفِيهِ جِهَتَانِ جِهَةُ كَوْنِهِ بِدْعَةً بِلَا إشْكَالٍ ، وَجِهَةُ كَوْنِهِ قَوْلًا بِالرَّأْيِ غَيْرِ الْجَارِي عَلَى الْعِلْمِ هُوَ الَّذِي بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ { حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا } وَإِنَّمَا ضَلُّوا وَأَضَلُّوا ؛ لِأَنَّهُمْ أَفْتَوْا بِالرَّأْيِ ؛ إذْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ ، وَهُوَ بِدْعَةٌ أَوْ سَبَبُ الْبِدْعَةِ ، وَمَا أَتَى بِهِ الْقَرَافِيُّ مَثَلًا لِلْبِدْعَةِ الْمَنْدُوبَةِ مِنْ إقَامَةِ صُوَرِ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَوُلَاةِ الْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ فَإِنَّ الْبِدْعَةَ لَا تُتَصَوَّرُ فِيهِ إلَّا بِمَا فِيهِ بُعْدٌ جِدًّا مِنْ تَكَلُّفِ فَرْضِ أَنْ يُعْتَقَدَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ أَنَّهُ مِمَّا يُطْلَبُ بِهِ الْأَئِمَّةُ عَلَى الْخُصُوصِ تَشْرِيعًا خَارِجًا عَنْ قَبِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ بِحَيْثُ يُعَدُّ مِنْ الدِّينِ الَّذِي يَدِينُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْمَطْلُوبُونَ بِهِ ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ خَاصًّا بِالْأَئِمَّةِ دُونَ غَيْرِهِمْ كَمَا

يَزْعُمُ بَعْضُهُمْ أَنَّ خَاتَمَ الذَّهَبِ جَائِزٌ لِذَوِي السُّلْطَانِ ، أَوْ يَقُولُ : إنَّ الْحَرِيرَ جَائِزٌ لَهُمْ لُبْسُهُ دُونَ غَيْرِهِمْ .
وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ الْأَوَّلِ فِي تَصَوُّرِ الْبِدْعَةِ فِي حَقِّ هَذَا الْقِسْمِ وَيُشْبِهُهُ عَلَى قُرْبٍ زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ ؛ إذْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ تَرْفِيعِ بُيُوتِ اللَّهِ ، وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُ الثُّرَيَّاتِ الْخَطِيرَةِ الْأَثْمَانِ حَتَّى يَعُدَّ الْإِنْفَاقَ فِي ذَلِكَ إنْفَاقًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا اعْتَقَدَ فِي زَخَارِفِ الْمُلُوكِ .
وَإِقَامَةِ صُوَرِهِمْ أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ تَرْفِيعِ الْإِسْلَامِ وَإِظْهَارِ مَعَالِمِهِ وَشَعَائِرِهِ أَوْ قَصَدَ ذَلِكَ فِي فِعْلِهِ أَوْ لَا أَنَّهُ تَرْفِيعٌ لِلْإِسْلَامِ لِمَا لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهِ .
وَمَا حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ هَذِهِ الزَّخَارِفِ بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْمُعْتَادِ فِي اللِّبَاسِ وَالِاحْتِيَاطِ فِي الْحِجَابِ مَخَافَةً مِنْ انْخِرَاقِ خَرْقٍ يَتَّسِعُ فَلَا يُرَقَّعُ هَذَا إنْ صَحَّ مَا قَالَ ، وَإِلَّا فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى نَقْلِ الْمُؤَرِّخِينَ وَمَنْ لَا يُعْتَبَرُ مِنْ الْمُؤَلَّفِينَ وَأَحْرَى فِي أَنْ يَنْبَنِيَ عَلَيْهِ حُكْمٌ ، وَمَا أَتَى بِهِ الْقَرَافِيُّ مِثَالًا لِلْبِدْعَةِ الْمُبَاحَةِ مِنْ اتِّخَاذِ الْمَنَاخِلِ لِلدَّقِيقِ فَالْمُعْتَادُ فِيهِ أَنْ لَا يُلْحِقَهُ أَحَدٌ بِالدِّينِ ، وَلَا بِتَدْبِيرِ الدُّنْيَا بِحَيْثُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ كَالتَّشْرِيعِ فَلَا نُطَوِّلُ بِهِ ، وَعَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ يُنْظَرُ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ فَتَبَيَّنَ مَجَالُ الْبِدْعَةِ فِي الْعَادِيَّاتِ مِنْ مَجَالِ غَيْرِهَا وَقَدْ يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي تَعْرِيفِ الْبِدْعَةِ الْمُتَقَدِّمِ ظَاهِرُ الْمَعْنَى عَلَى طَرِيقَةِ الْأَكْثَرِينَ فِي الْعَادِيَّاتِ وَأَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الْقَرَافِيِّ وَشَيْخِهِ وَبَعْضِ السَّلَفِ فِيهَا فَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ إنَّمَا جَاءَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي عَاجِلَتِهِمْ وَآجِلَتِهِمْ لِتَأْتِيَهُمْ فِي

الدَّارَيْنِ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا فَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْمُبْتَدِعُ بِبِدْعَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ إمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْعَادَاتِ أَوْ الْعِبَادَاتِ فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعِبَادَاتِ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَا أَنْ يَأْتِيَ تَعَبُّدُهُ عَلَى أَبْلَغِ مَا يَكُونُ فِي زَعْمِهِ لِيَفُوزَ بِأَتَمِّ الْمَرَاتِبِ فِي الْآخِرَةِ فِي ظَنِّهِ ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعَادَاتِ فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَضَعَهَا لِتَأْتِيَ أُمُورُ دُنْيَاهُ عَلَى تَمَامِ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا فَمَنْ يَجْعَلْ الْمَنَاخِلَ فِي قِسْمِ الْبِدَعِ فَظَاهِرٌ أَنَّ التَّمَتُّعَ عِنْدَهُ بِلَذَّةِ الدَّقِيقِ الْمَنْخُولِ أَتَمُّ مِنْهُ بِغَيْرِ الْمَنْخُولِ .
وَكَذَلِكَ الْبِنَاءَاتُ الْمُشَيَّدَةُ التَّمَتُّعُ بِهَا أَبْلَغُ مِنْهُ بِالْحُشُوشِ وَالْخِرَبِ وَمِثْلُهُ الْمُصَادَرَاتُ فِي الْأَمْوَالِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أُولِي الْأَمْرِ .
وَقَدْ أَبَاحَتْ الشَّرِيعَةُ التَّوَسُّعَ فِي التَّصَرُّفَاتِ فَيُعَدُّ الْمُبْتَدِعُ هَذَا مِنْ ذَلِكَ ( الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ ) : أَنَّ الْبِدَعَ عَلَى أَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ قَبِيحَةً مَنْهِيًّا عَنْهَا هَلْ لَهَا حُكْمٌ وَاحِدٌ أَمْ مُتَعَدِّدٌ طَرِيقَتَانِ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى الْأُولَى ، وَأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا كَبَائِرَ وَأَيَّدَهَا بِأَنَّ الصَّغِيرَةَ فَضْلًا عَنْ الْكَرَاهَةِ وَإِنْ ظَهَرَتْ فِي الْمَعَاصِي غَيْرِ الْبِدَعِ لَا تَظْهَرُ فِي الْبِدَعِ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْبِدَعَ ثَبَتَ لَهَا أَمْرَانِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهَا مُضَادَّةٌ لِلشَّارِعِ وَمُرَاغَمَةٌ لَهُ حَيْثُ نَصَّبَ الْمُبْتَدِعُ نَفْسَهُ نَصْبَ الْمُسْتَدْرِكِ عَلَى الشَّرِيعَةِ لَا نَصْبَ الْمُكْتَفِي بِمَا حُدَّ لَهُ ( وَالثَّانِي ) : أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ - وَإِنْ قَلَّتْ - تَشْرِيعٌ زَائِدٌ أَوْ نَاقِصٌ أَوْ تَغْيِيرٌ لِلْأَصْلِ الصَّحِيحِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ عَلَى الِانْفِرَادُ ، وَقَدْ يَكُونُ مُلْحَقًا بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فَيَكُونُ قَادِحًا فِي الْمَشْرُوعِ ، وَلَوْ فَعَلَ أَحَدٌ مِثْلَ هَذَا فِي نَفْسِ الشَّرِيعَةِ عَدَا الْكُفْرَ ؛ إذْ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِيهَا أَوْ التَّغْيِيرُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ كُفْرٌ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا

قَلَّ مِنْهُ ، وَمَا كَثُرَ فَمَنْ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ أَوْ بِرَأْيٍ غَالِطٍ رَآهُ وَأَلْحَقَهُ بِالْمَشْرُوعِ ، فَإِذَا لَمْ نُكَفِّرْهُ لَمْ يَكُنْ فِي حُكْمِهِ فَرْقٌ بَيْنَ مَا قَلَّ مِنْهُ وَمَا كَثُرَ ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ لَا تَحْمِلُهَا الشَّرِيعَةُ لَا بِقَلِيلٍ ، وَلَا بِكَثِيرٍ لَا سِيَّمَا .
وَعُمُومُ الْأَدِلَّةِ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ ، وَكَلَامُ السَّلَفِ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الذَّمِّ فِيهَا فَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ : كُلُّ بِدْعَةٍ كَبِيرَةٌ عَظِيمَةٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى مُجَاوَزَةِ حُدُودِ اللَّهِ بِالتَّشْرِيعِ إلَّا أَنَّهَا .
وَإِنْ عَظُمَتْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ تَتَفَاوَتُ رُتَبُهَا إذَا نُسِبَ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فَيَكُونُ مِنْهَا صِغَارٌ وَكِبَارٌ أَمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ بَعْضَهَا أَشَدُّ عِقَابًا مِنْ بَعْضٍ فَالْأَشَدُّ عِقَابًا أَكْبَرُ مِمَّا دُونَهُ .
وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ فَوْتِ الْمَطْلُوبِ فِي الْمَفْسَدَةِ فَكَمَا انْقَسَمَتْ الطَّاعَةُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ إلَى الْفَاضِلِ وَالْأَفْضَلِ لِانْقِسَامِ مَصَالِحِهَا إلَى الْكَامِلِ وَالْأَكْمَلِ انْقَسَمَتْ الْبِدَعُ لِانْقِسَامِ مَفَاسِدِهَا إلَى الرَّذْلِ وَالْأَرْذَلِ إلَى الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ مِنْ بَابِ النَّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ كَبِيرًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ صَغِيرٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ فَلَا يُنْظَرُ إلَى خِفَّةِ الْأَمْرِ فِي الْبِدْعَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى صُورَتِهَا ، وَإِنْ دَقَّتْ بَلْ يُنْظَرُ إلَى مُصَادَمَتِهَا لِلشَّرِيعَةِ وَرَمْيِهَا لَهَا بِالنَّقْصِ وَالِاسْتِدْرَاكِ وَأَنَّهَا لَمْ تَكْمُلْ بَعْدُ حَتَّى يُوضَعَ فِيهَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي فَإِنَّهَا لَا تَعُودُ عَلَى الشَّرِيعَةِ بِتَنْقِيصٍ ، وَلَا غَضٍّ مِنْ جَانِبِهَا بَلْ صَاحِبُ الْمَعْصِيَةِ يَتَنَصَّلُ مِنْهَا مُقِرًّا لِلَّهِ بِمُخَالَفَتِهِ لِحُكْمِهَا فَحَاصِلُ الْمَعْصِيَةِ أَنَّهَا مُخَالَفَةٌ فِي فِعْلِ الْمُكَلَّفِ لِمَا يُعْتَقَدُ صِحَّتُهُ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَحَاصِلُ الْبِدْعَةِ مُخَالَفَةٌ فِي اعْتِقَادِ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مَنْ أَحْدَثَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ

شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ خَانَ الرِّسَالَةَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ { الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دِينَكُمْ } إلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ وَمِثْلُهَا جَوَابُهُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمَدِينَةِ .
وَقَالَ : أَيُّ فِتْنَةٍ فِيهَا إنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا ، فَقَالَ : وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَظُنَّ أَنَّك فَعَلْت فِعْلًا قَصَرَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ فَإِذًا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي الْبِدَعِ مَا هُوَ صَغِيرَةٌ بَلْ صَارَ اعْتِقَادُ الصَّغَائِرِ فِيهَا يَكَادُ يَكُونُ مِنْ الْمُتَشَابِهَاتِ كَمَا صَارَ اعْتِقَادُ نَفْيِ الْكَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهَ عَنْهَا مِنْ الْوَاضِحَاتِ ، وَإِلَى الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ أَعْنِي تَعَدُّدَ حُكْمِ الْبِدَعِ مَالَ الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ الِاعْتِصَامِ : إنَّ الْبِدَعَ .
وَإِنْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهَا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَنِسْبَتُهُ إلَى الضَّلَالَةِ وَاحِدَةٌ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ } ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ بِدْعَةٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : إنَّهَا عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ هُوَ التَّحْرِيمُ فَقَطْ ، أَوْ الْكَرَاهَةُ فَقَطْ لِوُجُوهٍ ( الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ) : أَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ جِنْسِ الْمَنْهِيَّاتِ ، وَهِيَ لَا تُعَدُّ وَالْكَرَاهَةُ وَالتَّحْرِيمُ فَالْبِدَعُ كَذَلِكَ ( وَالْوَجْهُ الثَّانِي ) أَنَّ الْبِدَعَ إذَا تُؤُمِّلَ مَعْقُولُهَا وُجِدَتْ مُتَفَاوِتَةً فَمِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ صُرَاحٌ كَبِدْعَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ بِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا } الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى { وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ } وقَوْله

تَعَالَى { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بِحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ } وَكَذَلِكَ بِدْعَةُ الْمُنَافِقِينَ حَيْثُ اتَّخَذُوا الدِّينَ ذَرِيعَةً لِحِفْظِ النَّفْسِ وَالْمَالِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُشَكُّ أَنَّهُ كُفْرٌ صُرَاحٌ .
وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنْ الْمَعَاصِي الَّتِي لَيْسَتْ بِكُفْرٍ أَوْ يُخْتَلَفُ هَلْ هِيَ كُفْرٌ أَمْ لَا كَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ وَيُتَّفَقُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِكُفْرٍ كَبِدْعَةِ التَّبَتُّلِ وَالصِّيَامِ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ وَالْخِصَاءِ بِقَصْدِ قَطْعِ شَهْوَةِ النِّكَاحِ وَالْجِمَاعِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ كَمَا يَقُولُ مَالِكٌ فِي إتْبَاعِ رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالَ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْإِدَارَةِ وَالِاجْتِمَاعِ لِلدُّعَاءِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَذِكْرِ السَّلَاطِينِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالشَّافِعِيُّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ( وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ ) : أَنَّ الْمَعَاصِيَ مِنْهَا صَغَائِرُ ، وَمِنْهَا كَبَائِرُ ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِكَوْنِهَا وَاقِعَةً فِي الضَّرُورِيَّاتِ أَوْ الْحَاجِيَّاتِ أَوْ التَّكْمِيلِيَّاتِ فَإِنَّ مَا كَانَتْ فِي الضَّرُورِيَّاتِ أَعْظَمُ الْكَبَائِرِ ، وَمَا كَانَتْ فِي التَّحْسِينَاتِ فَأَدْنَى رُتْبَةً بِلَا إشْكَالٍ ، وَمَا وَقَعَتْ فِي الْحَاجِيَّاتِ فَمُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ ثُمَّ إنَّ كُلَّ رُتْبَةٍ مِنْ هَذِهِ الرُّتَبِ لَهَا مُكَمِّلٌ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي رُتْبَةِ الْمُكَمِّلِ فَإِنَّ الْمُكَمَّلَ مَعَ الْمُكَمِّلِ فِي نِسْبَةِ الْوَسِيلَةِ مَعَ الْمَقْصِدِ ، وَلَا تَبْلُغُ الْوَسِيلَةُ رُتْبَةَ الْمَقْصِدِ ، وَأَيْضًا الضَّرُورِيَّاتُ إذَا تُؤُمِّلَتْ وُجِدَتْ عَلَى مَرَاتِبَ فِي التَّأْكِيدِ وَعَدَمِهِ فَإِنَّ مَرْتَبَةَ النَّفْسِ لَيْسَتْ كَمَرْتَبَةِ الدِّينِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ لِلدَّمِ وَأَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الدِّينِ تُبِيحُ تَعْرِيضَ النَّفْسِ لِلْقَتْلِ وَالْإِتْلَافِ فِي الْأَمْرِ بِمُجَاهَدَةِ الْكُفَّارِ وَالْمَارِقِينَ عَنْ الدِّينِ

، وَمَرْتَبَةُ الْعَقْلِ وَالْمَالِ لَيْسَتْ كَمَرْتَبَةِ النَّفْسِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ مُبِيحٌ لِلْقِصَاصِ ، فَالْقَتْلُ بِخِلَافِ الْعَقْلِ وَالْمَالِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا بَقِيَ ، وَإِذَا نَظَرْت فِي مَرْتَبَةِ النَّفْسِ وَجَدْتهَا مُتَبَايِنَةَ الْمَرَاتِبِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَطْعَ الْعُضْوِ لَيْسَ كَالذَّبْحِ ، وَأَنَّ الْخَدْشَ لَيْسَ كَقَطْعِ الْعُضْوِ .
وَهَذَا كُلُّهُ مَحَلُّ بَيَانِهِ الْأُصُولُ فَقَدْ ظَهَرَ تَفَاوُتُ رُتَبِ الْمَعَاصِي وَالْبِدَعِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَاصِي فَيُتَصَوَّرُ فِيهَا التَّفَاوُتُ أَيْضًا فَمِنْهَا مَا يَقَعُ فِي الضَّرُورِيَّاتِ إخْلَالًا بِهَا وَمِنْهَا مَا يَقَعُ فِي الْحَاجِيَاتِ إخْلَالًا بِهَا وَمِنْهَا مَا يَقَعُ فِي التَّحْسِينَاتِ إخْلَالًا بِهَا وَمَا يَقَعُ فِي رُتْبَةِ الضَّرُورِيَّاتِ ، وَمِنْهُ مَا يَقَعُ فِي الدِّينِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي اخْتِرَاعِ الْكُفَّارِ وَتَغْيِيرِهِمْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمِنْهُ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ كَنِحَلِ الْهِنْدِ فِي تَعْذِيبِهَا أَنْفُسَهَا بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ الشَّنِيعِ وَالتَّمْثِيلِ الْفَظِيعِ وَالْقَتْلِ بِالْأَصْنَافِ الَّتِي تَفْزَعُ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَتَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ اسْتِعْجَالِ الْمَوْتِ لِنَيْلِ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي زَعْمِهِمْ وَالْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ الْأَكْمَلِ بَعْدَ الْخُرُوجِ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ الْعَاجِلَةِ ، وَمَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولٍ لَهُمْ فَاسِدَةٍ اعْتَقَدُوهَا وَبَنَوْا عَلَيْهَا أَعْمَالَهُمْ ، وَمِنْهُ مَا يَقَعُ فِي النَّسْلِ كَمَا فِي أَنْكِحَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا فِي شَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلَا غَيْرِهِ بَلْ كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ مَا اخْتَرَعُوا وَابْتَدَعُوا وَهِيَ أَنْوَاعٌ مِنْهَا نِكَاحُ الِاسْتِبْضَاعِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ : إذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا أَرْسِلِي إلَى فُلَانٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ ، وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا ، وَلَا يَمَسُّهَا أَبَدًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي يُسْتَبْضَعُ مِنْهُ ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلَهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا إذَا أَحَبَّ

، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ ، وَمِنْهُ مَا يَقَعُ فِي الْعَقْلِ كَزَعْمِ بَعْضِ الْفِرَقِ أَنَّ الْعَقْلَ لَهُ مَجَالٌ فِي التَّشْرِيعِ ، وَأَنَّهُ مُحَسَّنٌ وَمُقَبَّحٌ فَابْتَدَعُوا فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَيْسَ فِيهِ ، وَمِنْهُ مَا يَقَعُ فِي الْمَالِ كَاحْتِجَاجِ الْكُفَّارِ عَلَى اسْتِحْلَالِ الْعَمَلِ بِالرِّبَا بِقِيَاسٍ فَاسِدٍ كَذَّبَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ وَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } قَالَ : وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ فِي تَوْجِيهِ طَرِيقَةِ اتِّحَادِ حُكْمِ الْبِدَعِ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ يَكُونُ عَالِمًا بِكَوْنِهَا بِدْعَةً وَيُقِرُّ بِالْخِلَافِ لِلسُّنَّةِ بَحْتًا أَمَّا فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا ، وَشَأْنُ كُلِّ مَنْ حَكَمْنَا لَهُ بِحُكْمِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يُقِرَّ بِالْخِلَافِ لِلسُّنَّةِ بَحْتًا بَلْ يَكُونُ غَيْرَ عَالِمٍ بِأَنَّ مَا عَمِلَهُ بِدْعَةٌ ؛ إذْ لَا يَرْضَى مُنْتَمٍ إلَى الْإِسْلَامِ بِإِبْدَاءِ صَفْحَةِ الْخِلَافِ لِلسُّنَّةِ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهُ مُصَادِمٌ لِلشَّارِعِ مُرَاغِمٌ لِلشَّرْعِ بِالزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ وَالتَّحْرِيفِ لَهُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَأْوِيلٍ فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فَفِي اسْتِنْبَاطِهَا وَتَشْرِيعِهَا كَقَوْلِهِ : هِيَ بِدْعَةٌ ، وَلَكِنَّهَا مُسْتَحْسَنَةٌ وَكَفِعْلِهِ لَهَا مُقِرًّا بِكَوْنِهَا بِدْعَةً لِأَجْلِ حَظٍّ عَاجِلٍ كَفَاعِلِ الذَّنْبِ لِقَضَاءِ حَظِّهِ الْعَاجِلِ خَوْفًا عَلَى حَظِّهِ أَوْ فِرَارًا مِنْ خَوْفٍ عَلَى حَظِّهِ أَوْ فِرَارًا مِنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ الْيَوْمَ فِي كَثِيرٍ مِمَّنْ يُشَارُ إلَيْهِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا فَفِي تَقْلِيدِهِ كَقَوْلِهِ : إنَّهَا بِدْعَةٌ ، وَلَكِنَّنِي رَأَيْت فُلَانًا الْفَاضِلَ يَعْمَلُ بِهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُ مَالِكٍ : مَنْ أَحْدَثَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ وَقَوْلُهُ : لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمَدِينَةِ أَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَظُنَّ أَنَّك سَبَقْت إلَى فَضِيلَةٍ قَصَرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ أَنَّهَا إلْزَامٌ لِلْخَصْمِ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ النَّظَرِ كَأَنَّهُ يَقُولُ : يَلْزَمُك فِي هَذَا الْقَوْلِ كَذَا لَا أَنَّهُ يَقُولُ : قَصَدْت إلَيْهِ قَصْدًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ إلَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ وَلَازِمُ الْمَذْهَبِ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِيهِ هَلْ هُوَ مَذْهَبٌ أَمْ لَا إلَّا أَنَّ شُيُوخَنَا الْبَجَائِيِّينَ وَالْمَغْرِبِيِّينَ كَانُوا يَقُولُونَ : إنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ ، وَيُرْوَى أَنَّهُ رَأْيُ الْمُحَقِّقِينَ أَيْضًا ؛ فَلِذَلِكَ إذَا قُرِّرَ عَلَى الْخَصْمِ أَنْكَرَهُ غَايَةَ الْإِنْكَارِ فَاعْتِبَارُ ذَلِكَ الْمَعْنَى عَلَى التَّحْقِيقِ لَا يَنْهَضُ إذًا ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَسْتَوِي الْبِدْعَةُ مَعَ الْمَعْصِيَةِ .

فَكَمَا تَنْقَسِمُ الْمَعْصِيَةُ إلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ كَذَلِكَ تَنْقَسِمُ الْبِدَعُ إلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ نَعَمْ لَا تَكُونُ الْبِدْعَةُ صَغِيرَةً إلَّا بِشُرُوطٍ ( أَحَدُهَا ) : أَنْ لَا يُدَاوِمَ عَلَيْهَا كَمَا أَنَّ الصَّغِيرَةَ مِنْ الْمَعَاصِي كَذَلِكَ ؛ فَلِذَلِكَ قَالُوا : لَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ إلَّا أَنَّ الْمَعَاصِيَ مِنْ شَأْنِهَا فِي الْوَاقِعِ أَنَّهَا قَدْ يُصَرُّ عَلَيْهَا ، وَقَدْ لَا يُصَرُّ عَلَيْهَا وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَنِي طَرْحُ الشَّهَادَةِ ، وَسَخْطَةُ الشَّاهِدِ بِهَا ، وَعَدَمُهُ بِخِلَافِ الْبِدْعَةِ فَإِنَّ شَأْنَهَا فِي الْوَاقِعِ الْمُدَاوَمَةُ وَالْحِرْصُ عَلَى أَنْ لَا تَزُولَ مِنْ مَوْضِعِهَا ، وَأَنْ تَقُومَ عَلَى تَارِكِهَا الْقِيَامَةُ وَتَنْطَلِقَ عَلَيْهِ أَلْسِنَةُ الْمَلَامَةِ وَيُرْمَى بِالتَّسْفِيهِ وَالتَّجْهِيلِ وَيُنْبَزَ بِالتَّبْدِيعِ وَالتَّضْلِيلِ ضِدُّ مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَالْمُقْتَدَى بِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَوَّلًا الِاعْتِبَارُ ، فَإِنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ الْقِيَامُ بِالنَّكِيرِ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ إنْ كَانَ لَهُمْ عُصْبَةٌ أَوْ لَصِقُوا بِسُلْطَانٍ تَجْرِي أَحْكَامُهُ فِي النَّاسِ ، وَتَنْفُذُ أَوَامِرُهُ فِي الْأَقْطَارِ ، وَمَنْ طَالَعَ سِيَرَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَخْفَى وَثَانِيًا : النَّقْلُ فَقَدْ ذَكَرَ السَّلَفُ أَنَّ الْبِدْعَةَ إذَا أُحْدِثَتْ لَا تَزِيدُ إلَّا مُضِيًّا ، وَالْمَعَاصِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَقَدْ يَتُوبُ صَاحِبُهَا وَيُنِيبُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بَلْ قَدْ جَاءَ مَا يَشُدُّ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْفِرَقِ فَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ تَتَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ لِصَاحِبِهِ ، وَمِنْ هُنَا جَزَمَ السَّلَفُ بِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ لَا تَوْبَةَ لَهُ مِنْهَا ( وَالشَّرْطُ الثَّانِي ) : أَنْ لَا يَدْعُوَ إلَيْهَا فَإِنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ صَغِيرَةً بِالْإِضَافَةِ ثُمَّ يَدْعُو مُبْتَدِعُهَا إلَى الْقَوْلِ بِهَا وَالْعَمَلِ عَلَى مُقْتَضَاهَا فَيَكُونُ إثْمُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ الَّذِي

أَثَارَهَا ، وَسَبَبُ كَثْرَةِ وُقُوعِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا فَقَدْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّ كُلَّ { مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا } لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا ، وَالصَّغِيرَةُ إنَّمَا تُفَاوِتُ الْكَبِيرَةَ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْإِثْمِ وَقِلَّتِهِ فَرُبَّمَا تُسَاوِي الصَّغِيرَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْكَبِيرَةَ أَوْ تُرْبَى عَنْهَا ( وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ ) أَنْ لَا تُفْعَلَ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي هِيَ مُجْتَمَعَاتُ النَّاسِ ، أَوْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا السُّنَنُ ، وَتَظْهَرُ فِيهَا أَعْلَامُ الشَّرِيعَةِ فَأَمَّا إظْهَارُهَا فِي الْمُجْتَمَعَاتِ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ أَوْ مِمَّنْ يُحْسَنُ الظَّنُّ بِهِ فَذَلِكَ مِنْ أَضَرِّ الْأَشْيَاءِ عَلَى سُنَّةِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهَا لَا تَعْدُو أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يُقْتَدَى بِصَاحِبِهَا فِيهَا فَإِنَّ الْعَوَامَّ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ لَا سِيَّمَا الْبِدَعُ الَّتِي وُكِّلَ الشَّيْطَانُ بِتَحْسِينِهَا لِلنَّاسِ ، وَاَلَّتِي لِلنُّفُوسِ فِي تَحْسِينِهَا هَوًى ، وَعَلَى حَسَبِ كَثْرَةِ الْإِتْبَاعِ يَعْظُمُ عَلَيْهِ الْوِزْرُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَمَّا اتِّخَاذُهَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا السُّنَنُ فَهُوَ كَالدُّعَاءِ إلَيْهَا بِالتَّصْرِيحِ ؛ لِأَنَّ عَمَلَ إظْهَارِ الشَّرَائِعِ الْإِسْلَامِيَّةِ تَوَهُّمُ أَنَّ كُلَّ مَا ظَهَرَ فِيهَا فَهُوَ مِنْ الشَّعَائِرِ فَكَانَ الْمُظْهِرُ لَهَا يَقُولُ : هَذِهِ سُنَّةٌ فَاتَّبِعُوهَا ( وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ ) أَنْ لَا يَسْتَصْغِرَهَا ، وَلَا يَسْتَحْقِرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ ، وَإِنْ فَرَضْنَاهَا صَغِيرَةً اسْتِهَانَةٌ بِهَا ، وَالِاسْتِهَانَةُ بِالذَّنْبِ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِعِظَمِ مَا هُوَ صَغِيرٌ ، وَكَذَلِكَ مَعْنَى الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ أَنَّهَا أَدْنَى رُتْبَةً فِي الذَّمِّ مِنْ رُتْبَةِ الصَّغِيرَةِ ، وَلَيْسَ مَعْنَاهَا التَّنْزِيهَ الَّذِي هُوَ نَفْيُ إثْمِ فَاعِلِهَا ، وَرَفْعُ الْحَرَجِ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يُوجَدُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنْ الشَّرْعِ ، وَلَا مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ عَلَى

الْخُصُوصِ أَمَّا الشَّرْعُ فَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ مَنْ قَالَ : أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ اللَّيْلَ ، وَلَا أَنَامُ ، وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَنْكِحُ النِّسَاءَ إلَى آخِرِ مَا قَالُوا رَدَّ عَلَيْهِمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ ، وَقَالَ { مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ أَشَدُّ شَيْءٍ فِي الْإِنْكَارِ مَعَ أَنَّ مَا الْتَزَمُوا لَمْ يَكُنْ إلَّا فِعْلَ مَنْدُوبٍ آخَرَ ، وَكَذَلِكَ مَا فِي الْحَدِيثِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ : مَا بَالُ هَذَا ؟ قَالُوا : نَذَرَ أَنْ لَا يَسْتَظِلَّ ، وَلَا يَتَكَلَّمَ ، وَلَا يَجْلِسَ ، وَيَصُومَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْهُ فَلْيَجْلِسْ وَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ } قَالَ مَالِكٌ : أَمَرَهُ أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ طَاعَةٌ ، وَيَتْرُكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ مَعْصِيَةٌ فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ مَالِكٌ الْقِيَامَ لِلشَّمْسِ وَتَرْكَ الْكَلَامِ وَالْجُلُوسِ مَعَاصِيَ حَتَّى فَسَّرَ بِهَا الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ مَعَ أَنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا أَشْيَاءُ مُبَاحَاتٌ لَكِنَّهُ لَمَّا أَجْرَاهَا مَجْرَى مَا يُتَشَرَّعُ بِهِ ، وَيُدَانُ لِلَّهِ بِهِ صَارَتْ عِنْدَ مَالِكٍ مَعَاصِيَ لِلَّهِ وَكُلِّيَّةً قَوْلُهُ : { كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } شَاهِدَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى وَالْجَمِيعُ يَقْتَضِي التَّأْثِيمَ وَالتَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ .
وَهِيَ خَاصِّيَّةُ الْمُحَرَّمِ ، قَالَ : وَأَمَّا كَلَامُ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ ، وَإِنْ أَطْلَقُوا الْكَرَاهِيَةَ فِي الْأُمُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لَا يَعْنُونَ بِهَا كَرَاهِيَةَ التَّنْزِيهِ فَقَطْ ، وَإِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحٌ لِلْمُتَأَخِّرِينَ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقَبِيلَيْنِ فَيُطْلِقُونَ لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ فَقَطْ وَيَخُصُّونَ كَرَاهِيَةَ التَّحْرِيمِ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ وَالْمَنْعِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ السَّلَفِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ مِنْ

شَأْنِهِمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ صَرِيحًا أَنْ يَقُولُوا : هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ ، وَيَتَحَامَوْنَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ خَوْفًا مِمَّا فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } وَحَكَى مَالِكٌ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ هَذَا الْمَعْنَى ، فَإِذَا وَجَدْت فِي كَلَامِهِمْ فِي الْبِدْعَةِ أَوْ غَيْرِهَا أَكْرَهُ هَذَا ، وَلَا أُحِبُّ هَذَا وَهَذَا مَكْرُوهٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا تَقْطَعَنَّ عَلَى أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ التَّنْزِيهَ فَقَطْ فَإِنَّهُ إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ فِي جَمِيعِ الْبِدَعِ عَلَى أَنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ يَعُدُّ فِيهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهِيَةَ التَّنْزِيهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُطْلِقُوا لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى مَا يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ ، وَلَكِنْ يُعَارِضُهُ أَمْرٌ آخَرُ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ فَيُكْرَهُ لِأَجْلِهِ لَا ؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ .
ا هـ .
مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْ كَلَامِ الشَّاطِبِيِّ فِي الِاعْتِصَامِ قُلْت : وَحَاصِلُ طَرِيقَتَيْ عَدَمِ التَّفْصِيلِ فِي الْبِدَعِ أَنَّهَا عَلَى الْأُولَى لَا تَكُونُ إلَّا كَبَائِرَ .
وَإِنْ تَفَاوَتَتْ أَفْرَادُهَا بِكَثْرَةِ الْعِقَابِ وَعَدَمِ كَثْرَتِهِ وَأَنَّهَا عَلَى الثَّانِيَةِ تَكُونُ كَبَائِرَ أَوْ صَغَائِرَ أَوْ مَكْرُوهَةً إلَّا أَنَّ صَغَائِرَهَا وَإِنْ كَانَتْ كَصَغَائِرِ غَيْرِهَا مِنْ الْمَعَاصِي لَا يَتَحَقَّقُ صِغَرُهَا إلَّا بِالشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَكِنْ تَحَقُّقُ الشُّرُوطِ فِي صَغَائِرِهَا بَعِيدٌ جِدًّا وَمَكْرُوهُهَا لَيْسَ مَعْنَاهُ التَّنْزِيهَ وَعَدَمَ الْعِقَابِ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ عِقَابَهُ أَقَلُّ مِنْ عِقَابِ الصَّغِيرَةِ فَافْهَمْ ، وَاَلَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ أَنَّ طَرِيقَةَ أَصْحَابِ مَالِكٍ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى الْأَصْلِ ، وَاخْتَارَهَا الشَّاطِبِيُّ وَبَنَى عَلَيْهَا كِتَابَهُ الِاعْتِصَامَ مِنْ أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَكُونُ إلَّا قَبِيحَةً مَنْهِيًّا عَنْهَا مَبْنِيَّةً عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ : الْأَوَّلُ أَنَّ الْبِدْعَةَ

حَقِيقَةٌ فِيمَا لَمْ يُفْعَلْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ ، وَمَجَازٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْأَمْرُ الثَّانِي أَنَّ جَمِيعَ مَا وَرَدَ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ الْأَمْرُ الثَّالِثُ : الْقَوْلُ بِأَنَّ الْبِدَعَ لَا تَدْخُلُ إلَّا فِي الْعَادِيَّاتِ الَّتِي لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ التَّعَبُّدِ ، وَأَنَّ طَرِيقَةَ انْقِسَامِ الْبِدَعِ إلَى قَبِيحَةٍ وَحَسَنَةٍ وَالْقَبِيحَةِ إلَى حَرَامٍ وَاصِلٍ إلَى حَدِّ الْكُفْرِ أَوْ إلَى حَدِّ الْكَبِيرَةِ أَوَّلًا وَإِلَى مَكْرُوهٍ تَنْزِيهًا وَالْحَسَنَةِ إلَى وَاجِبَةٍ وَمَنْدُوبَةٍ وَمُبَاحَةٍ الَّتِي اخْتَارَهُ الْأَصْلُ وَابْنُ الشَّاطِّ وَمُحَمَّدٌ الزَّرْقَانِيُّ بَلْ جَرَى عَلَيْهَا عَمَلُ أَصْحَابِ مَالِكٍ الْمُتَأَخِّرِينَ كَالزَّقَّاقِ وَغَيْرِهِ وَبَنَى عَلَيْهَا الْأَصْلُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَإِلَيْهَا ذَهَبَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ وَالْإِمَامُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ شَيْخُ الشَّيْخِ الْقَرَافِيِّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَبْنِيَّةً عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ أَيْضًا : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْبِدْعَةَ حَقِيقَةٌ فِيمَا لَمْ يُفْعَلْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ كَانَ لَهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ أَمْ لَا الْأَمْرُ الثَّانِي : أَنَّ جَمِيعَ مَا وَرَدَ فِي الْبِدَعِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } عَامٌّ مَخْصُوصٌ الْأَمْرُ الثَّالِثُ : الْقَوْلُ بِأَنَّ جَمِيعَ الْمُخْتَرَعَاتِ مِنْ الْعَادِيَّاتِ ، وَلَوْ لَمْ يَلْحَقْهَا شَائِبَةُ تَعَبُّدٍ تَلْحَقُ بِالْبِدَعِ وَتَصِيرُ كَالْعِبَادَاتِ الْمُخْتَرَعَةِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَقَاعِدَةِ الْغِيبَةِ الَّتِي لَا تَحْرُمُ ) قَالَ تَعَالَى { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْغِيبَةُ أَنْ تَذْكُرَ فِي الْمَرْءِ مَا يَكْرَهُ إنْ سَمِعَ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا قَالَ إنْ قُلْت : بَاطِلًا فَذَلِكَ الْبُهْتَانُ } فَدَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّ الْغِيبَةَ مَا يَكْرَهُهُ الْإِنْسَانُ إذَا سَمِعَهُ وَأَنَّهُ لَا يُسَمَّى غِيبَةً إلَّا إذَا كَانَ غَائِبًا لِقَوْلِهِ إنْ سَمِعَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَاضِرٍ ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّ مَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَقَاعِدَةِ الْغِيبَةِ الَّتِي لَا تَحْرُمُ ) وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْغِيبَةِ الْحُرْمَةُ لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } أَيْ لَا يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ مِنْكُمْ فِي حَقِّ أَحَدٍ فِي غَيْبَتِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ فَفِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَطُرُقُهُ كَثِيرَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ : ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ } كَمَا فِي الزَّوَاجِرِ وَفِي الْأَصْلِ أَنْ تَذْكُرَ فِي الْمَرْءِ مَا يَكْرَهُ إنْ سَمِعَ قِيلَ أَفَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ قَالَ إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْته ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ قَالَ الْأَصْلُ فَدَلَّ قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ سَمِعَ نَصًّا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى مَا يَكْرَهُهُ الْإِنْسَانُ إذَا سَمِعَهُ غِيبَةً إلَّا إذَا كَانَ غَائِبًا ، وَلَيْسَ بِحَاضِرٍ أَيْ سَوَاءٌ كَانَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا ، قَالَ : وَلَفْظُ مَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَتَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا يَكْرَهُ .
ا هـ .
أَيْ سَوَاءٌ كَانَ فِي بَدَنِهِ كَأَحْوَلَ أَوْ قَصِيرٍ أَوْ أَسْوَدَ أَوْ ضِدِّهَا أَوْ فِي نَسَبِهِ كَأَبُوهُ هِنْدِيٌّ أَوْ إسْكَافٌ أَوْ نَحْوُهُمَا مِمَّا يَكْرَهُهُ كَيْفَ كَانَ أَوْ فِي خَلْقِهِ كَسَيِّئِ الْخَلْقِ عَاجِزٍ ضَعِيفٍ أَوْ فِي فِعْلِهِ الدِّينِيِّ كَكَذَّابٍ أَوْ مُتَهَاوِنٍ بِالصَّلَاةِ أَوْ لَا يُحْسِنُهَا أَوْ عَاقٍّ لِوَالِدَيْهِ أَوْ لَا يُعْطِي الزَّكَاةَ أَوْ لَا يُؤَدِّيهَا لِمُسْتَحِقِّيهَا أَوْ فِي فِعْلِهِ الدُّنْيَوِيِّ كَقَلِيلِ الْأَدَبِ ، أَوْ لَا يَرَى لِأَحَدٍ حَقًّا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ كَثِيرِ الْأَكْلِ أَوْ النَّوْمِ أَوْ فِي ثَوْبِهِ كَطَوِيلِ الذَّيْلِ أَوْ قَصِيرِهِ وَسِخِهِ أَوْ فِي دَارِهِ كَقَلِيلَةِ الْمَرَافِقِ

أَوْ فِي دَابَّتِهِ كَجَمُوحٍ أَوْ فِي وَلَدِهِ كَقَلِيلِ التَّرْبِيَةِ ، أَوْ فِي زَوْجَتِهِ كَكَثِيرَةِ الْخُرُوجِ أَوْ عَجُوزٍ أَوْ تَحْكُمُ عَلَيْهِ ، أَوْ قَلِيلَةِ النَّظَافَةِ ، أَوْ فِي خَادِمِهِ كَآبِقٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكْرَهُهُ لَوْ بَلَغَهُ ، وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِهَا مَعَ أَنَّهَا صِدْقٌ الْمُبَالَغَةُ فِي حِفْظِ عِرْضِ الْمُؤْمِنِ ، وَالْإِشَارَةُ إلَى عَظِيمِ تَأَكُّدِ حُرْمَتِهِ وَحُقُوقِهِ .
وَزَادَ - تَعَالَى - ذَلِكَ تَأْكِيدًا وَتَحْقِيقًا بِتَشْبِيهِ عِرْضِهِ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ مَعَ الْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا بِالتَّعْبِيرِ فِيهِ بِالْأَحَبِّ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا } وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَأَلَّمُ قَلْبُهُ مِنْ قَرْضِ عِرْضِهِ كَمَا يَتَأَلَّمُ بَدَنُهُ مِنْ قَطْعِ لَحْمِهِ لِأَكْلِهِ بَلْ أَبْلَغُ ؛ لِأَنَّ عِرْضَ الْعَاقِلِ عِنْدَهُ أَشْرَفُ مِنْ لَحْمِهِ وَدَمِهِ ، وَكَمَا أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ مِنْ عَاقِلٍ أَكْلُ لُحُومِ النَّاسِ لَا يَحْسُنُ مِنْهُ قَرْضُ عِرْضِهِمْ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَلَمٌ ، وَوَجْهُ الْآكَدِيَّةِ فِي لَحْمِ أَخِيهِ أَنَّ الْأَخَ لَا يُمْكِنُهُ مَضْغُ لَحْمِ أَخِيهِ فَضْلًا عَنْ أَكْلِهِ بِخِلَافِ الْعَدُوِّ ، فَإِنَّهُ يَأْكُلُ لَحْمَ عَدُوِّهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ مِنْهُ فِي ذَلِكَ ، وَانْدَفَعَ بِمَيْتًا - الْوَاقِعِ حَالًا إمَّا مِنْ لَحْمِ أَخِيهِ أَوْ أَخِيهِ - مَا قَدْ يُقَالُ : إنَّمَا تَحْرُمُ الْغِيبَةُ فِي الْوَجْهِ ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي تُؤْلِمُ حِينَئِذٍ بِخِلَافِهَا فِي الْغِيبَةِ ، فَإِنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لِلْمُغْتَابِ عَلَيْهَا ، وَوَجْهُ انْدِفَاعِ هَذَا أَنَّ أَكْلَ لَحْمِ الْأَخِ ، وَهُوَ مَيِّتٌ لَا يُؤْلِمُ أَيْضًا ، وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ كَمَا أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ الِاطِّلَاعُ لَتَأَلَّمَ بِهِ فَإِنَّ الْمَيِّتَ لَوْ أَحَسَّ بِأَكْلِ لَحْمِهِ لَآلَمَهُ فَكَذَا الْغِيبَةُ تَحْرُمُ فِي الْغَيْبَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُغْتَابَ لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهَا لَتَأَلَّمَ ، وَأَيْضًا فَفِي الْعِرْضِ حَقٌّ مُؤَكَّدٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ

الْغِيبَةَ وَقَعَتْ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْمُغْتَابَ الْعِلْمُ بِهَا حَرُمَتْ أَيْضًا رِعَايَةً لِحَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - وَفَطْمًا لِلنَّاسِ عَنْ الْأَعْرَاضِ وَالْخَوْضِ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ اللَّهُمَّ إلَّا لِلْأَسْبَابِ الْآتِيَةِ ؛ لِأَنَّهَا مَحَلُّ ضَرُورَةٍ فَتُبَاحُ حِينَئِذٍ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ كَمَا أَشَارَتْ الْآيَةُ إلَى ذَلِكَ أَيْضًا بِذِكْرِ " مَيْتًا " إذْ لَحْمُ الْمَيِّتِ إنَّمَا يَحِلُّ لِلضَّرُورَةِ الْحَاقَّةِ حَتَّى لَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً أُخْرَى مَعَ مَيْتَةِ الْآدَمِيِّ لَمْ تَحِلَّ لَهُ مَيْتَةُ الْآدَمِيِّ بِخِلَافِ مَا لَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا مَيْتَةَ الْآدَمِيِّ ، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْفَرْضُ الصَّحِيحُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْغِيبَةِ خَرَجَتْ عَنْ أَصْلِهَا مِنْ الْحُرْمَةِ وَحِينَئِذٍ فَتَجِبُ أَوْ تُبَاحُ .

( تَنْبِيهٌ ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ اُسْتُثْنِيَ مِنْ الْغِيبَةِ سِتُّ صُوَرٍ ( الْأُولَى ) النَّصِيحَةُ { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ حِينَ شَاوَرَتْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبُو جَهْمٍ أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَرَجُلٌ صُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ الْعَصَا عَنْ عَاتِقِهِ } فَذَكَرَ عَيْبَيْنِ فِيهِمَا مَا يَكْرَهَانِهِ لَوْ سَمِعَاهُ وَأُبِيحَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ النَّصِيحَةِ وَيُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَنْ تَكُونَ الْحَاجَةُ مَاسَّةً لِذَلِكَ وَأَنْ يَقْتَصِرَ النَّاصِحُ مِنْ الْعُيُوبِ عَلَى مَا يُخِلُّ بِتِلْكَ الْمَصْلَحَةِ خَاصَّةً الَّتِي حَصَلَتْ الْمُشَاوَرَةُ فِيهَا ، أَوْ الَّتِي يَعْتَقِدُ النَّاصِحُ أَنَّ الْمَنْصُوحَ شَرَعَ فِيهَا أَوْ هُوَ عَلَى عَزْمِ ذَلِكَ فَيَنْصَحُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَشِرْهُ فَإِنَّ حِفْظَ مَالِ الْإِنْسَانِ وَعِرْضِهِ وَدَمِهِ عَلَيْك وَاجِبٌ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِضْ لَك بِذَلِكَ فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ احْتِرَازٌ مِنْ ذِكْرِ عُيُوبِ النَّاسِ مُطْلَقًا لِجَوَازِ أَنْ يَقَعَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُخَالَطَةِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ فَهَذَا حَرَامٌ بَلْ لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبِيحَتْ الْغِيبَةُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ قَائِمٌ فِي الْكُلِّ ، وَالشَّرْطُ الثَّانِي احْتِرَازٌ مِنْ أَنْ يُسْتَشَارَ فِي أَمْرِ الزَّوَاجِ فَيَذْكُرَ الْعُيُوبَ الْمُخِلَّةَ بِمَصْلَحَةِ الزَّوَاجِ وَالْعُيُوبَ الْمُخِلَّةَ بِالشَّرِكَةِ أَوْ الْمُسَاقَاةِ أَوْ يُسْتَشَارَ فِي السَّفَرِ مَعَهُ فَتُذْكَرَ الْعُيُوبُ الْمُخِلَّةُ بِمَصْلَحَةِ السَّفَرِ ، وَالْعُيُوبُ الْمُخِلَّةُ بِالزَّوَاجِ فَالزِّيَادَةُ عَلَى الْعُيُوبِ الْمُخِلَّةِ بِمَا اُسْتُشِرْت فِيهِ حَرَامٌ بَلْ تَقْتَصِرُ عَلَى عَيْنِ مَا عُيِّنَ أَوْ تَعَيَّنَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ

وَتَنْحَصِرُ الَّتِي لَا تَحْرُمُ لِلْغَرَضِ الصَّحِيحِ الشَّرْعِيِّ فِي سِتَّةِ أَبْوَابٍ نَظَمَهَا الْكَمَالُ بِقَوْلِهِ الْقَدْحُ لَيْسَ بِغِيبَةٍ فِي سِتَّةٍ مُتَظَلِّمٍ وَمُعَرِّفٍ وَمُحَذِّرِ وَلِمُظْهِرٍ فِسْقًا وَمُسْتَفْتٍ وَمَنْ طَلَبَ الْإِعَانَةَ فِي إزَالَةِ مُنْكَرِ كَمَا فِي حَاشِيَةَ الْعَطَّارِ عَلَى مُحَلَّى جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَبَيَانُهَا كَمَا فِي الزَّوَاجِرِ ( الْأَوَّلُ ) الْمُتَظَلِّمُ فَلِمَنْ ظُلِمَ أَنْ يَشْكُوَ لِمَنْ يَظُنُّ أَنَّ لَهُ قُدْرَةً عَلَى إزَالَةِ ظُلْمِهِ أَوْ تَخْفِيفِهِ كَأَنْ يَقُولَ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ : إنَّ فُلَانًا أَخَذَ مَالِي وَغَصَبَنِي أَوْ ثَلَمَ عِرْضِي إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَوَادِحِ الْمَكْرُوهَةِ لِضَرُورَةِ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُ الثَّانِي الِاسْتِعَانَةُ عَلَى تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِذِكْرِهِ لِمَنْ يَظُنُّ قُدْرَتَهُ عَلَى إزَالَتِهِ بِنَحْوِ فُلَانٌ يَعْمَلُ كَذَا فَازْجُرْهُ عَنْهُ بِقَصْدِ التَّوَصُّلِ إلَى إزَالَةِ الْمُنْكَرِ ، وَإِلَّا كَانَ غِيبَةً مُحَرَّمَةً مَا لَمْ يَكُنْ الْفَاعِلُ مُجَاهِرًا لِمَا يَأْتِي ( الثَّالِثُ ) الِاسْتِفْتَاءُ بِأَنْ يَقُولَ لِمُفْتٍ ظَلَمَنِي بِكَذَا فُلَانٌ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ وَمَا طَرِيقِي فِي خَلَاصِي مِنْهُ أَوْ تَحْصِيلِ حَقِّي أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُبْهِمَهُ فَيَقُولُ : مَا تَقُولُ فِي شَخْصٍ أَوْ زَوْجٍ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا لِحُصُولِ الْغَرَضِ بِهِ وَإِنَّمَا جَازَ التَّصْرِيحُ بِاسْمِهِ مَعَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُفْتِيَ قَدْ يُدْرِكُ مِنْ تَعْيِينِهِ مَعْنًى لَا يُدْرِكُهُ مَعَ إبْهَامِهِ فَكَانَ فِي التَّعْيِينِ نَوْعُ مَصْلَحَةٍ ؛ لِأَنَّ هِنْدَ امْرَأَةَ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إلَّا مَا أَخَذْت مِنْهُ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ قَالَ : خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ( الرَّابِعُ ) تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الشَّرِّ وَنَصِيحَتِهِمْ كَجَرْحِ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ وَالْمُصَنَّفِينَ وَالْمُتَصَدِّينَ لِإِفْتَاءٍ أَوْ إقْرَاءٍ مَعَ

عَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ أَوْ مَعَ نَحْوِ فِسْقٍ أَوْ بِدْعَةٍ ، وَهُمْ دُعَاةٌ إلَيْهَا وَلَوْ سِرًّا فَيَجُوزُ إجْمَاعًا بَلْ يَجِبُ وَكَانَ يُذْكَرُ لِمَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى عَزْلِ ذِي الْوِلَايَةِ وَتَوْلِيَةِ غَيْرِهِ أَوْ عَلَى نُصْحِهِ وَحَثِّهِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ مَا يَعْلَمُهُ مِنْهُ قَادِحًا فِيهَا كَفِسْقٍ أَوْ تَغَفُّلٍ لِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَكَانَ يُشِيرُ وَلَوْ إنْ لَمْ يَسْتَشِرْ عَلَى مُرِيدِ تَزْوِيجٍ أَوْ مُخَالَطَةٍ لِغَيْرِهِ فِي أَمْرٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ ، وَقَدْ عَلِمَ فِي ذَلِكَ الْغَيْرُ قَبِيحًا مُنَفِّرًا كَفِسْقٍ أَوْ بِدْعَةٍ أَوْ طَمَعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَفَقْرٍ فِي الزَّوْجِ { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ حِينَ شَاوَرَتْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبُو جَهْمٍ أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَرَجُلٌ صُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ الْعَصَا عَنْ عَاتِقِهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَأَمَّا أَبُو الْجَهْمِ فَضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ وَبِهِ يُرَدُّ تَفْسِيرُ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ أَسْفَارِهِ فَذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمَا مَا يَكْرَهَانِهِ لَوْ سَمِعَاهُ وَأُبِيحَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ النَّصِيحَةِ وَيُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ تَكُونَ الْحَاجَةُ مَاسَّةً لِذَلِكَ وَأَنْ يَقْتَصِرَ النَّاصِحُ مِنْ الْعُيُوبِ عَلَى مَا يُخِلُّ بِتِلْكَ الْمَصْلَحَةِ خَاصَّةً الَّتِي حَصَلَتْ الْمُشَاوَرَةُ فِيهَا أَوْ الَّتِي يَعْتَقِدُ النَّاصِحُ أَنَّ الْمَنْصُوحَ شَرَعَ فِيهَا أَوْ هُوَ عَلَى عَزْمِ ذَلِكَ فَيَنْصَحُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَشِرْهُ فَإِنَّ حِفْظَ مَالَ الْإِنْسَانِ وَعِرْضَهُ وَدَمَهُ عَلَيْك وَاجِبٌ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِضْ لَك بِذَلِكَ فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ احْتِرَازٌ مِنْ ذِكْرِ عُيُوبِ النَّاسِ مُطْلَقًا لِجَوَازِ أَنْ يَقَعَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُخَالَطَةِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ فَهَذَا حَرَامٌ لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبِيحَتْ الْغِيبَةُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ قَائِمٌ فِي الْكُلِّ ، وَالشَّرْطُ الثَّانِي احْتِرَازٌ

مِنْ أَنْ يُسْتَشَارَ فِي أَمْرِ الزَّوْجِ فَيَذْكُرَ الْعُيُوبَ الْمُخِلَّةَ بِمَصْلَحَةِ الزَّوَاجِ ، وَالْعُيُوبَ الْمُخِلَّةَ بِالشَّرِكَةِ وَالْمُسَاقَاةِ أَوْ يُسْتَشَارَ فِي السَّفَرِ مَعَهُ فَيَذْكُرَ الْعُيُوبَ الْمُخِلَّةَ بِمَصْلَحَةِ السَّفَرِ وَالْعُيُوبَ الْمُخِلَّةَ بِالزَّوَاجِ فَالزِّيَادَةُ عَلَى الْعُيُوبِ الْمُخِلَّةِ بِمَا اُسْتُشِيرَ فِيهِ حَرَامٌ مَثَلًا إنْ كَفَى نَحْوُ لَا يَصْلُحُ لَك لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ ، وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى ذِكْرِ عَيْبٍ ذَكَرَهُ ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ أَوْ عَيْبَيْنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا وَهَكَذَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ فَلَا يَجُوزُ تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ بَذْلَ النَّصِيحَةِ لِوَجْهِ اللَّهِ - تَعَالَى - دُونَ حَظٍّ آخَرَ وَكَثِيرًا مَا يَغْفُلُ الْإِنْسَانُ عَنْ ذَلِكَ فَيُلَبِّسُ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَيَحْمِلُهُ عَلَى التَّكَلُّمِ بِهِ حِينَئِذٍ لَا نُصْحًا وَيُزَيِّنُ لَهُ أَنَّهُ نُصْحٌ وَخَيْرٌ ( الْخَامِسُ ) أَنْ يَتَجَاهَرَ بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ كَالْمَكَّاسِينَ وَشَرَبَةِ الْخَمْرِ ظَاهِرًا وَذَوِي الْوِلَايَاتِ الْبَاطِلَةِ ، وَكَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ ( فَمِثْلُك حُبْلَى قَدْ طَرَقْت وَمُرْضِعٍ بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدُّخُولِ فَحَوْمَلِ ) فَذِكْرُ مِثْلِ هَذَا عَنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ لَا يَحْرُمُ فَإِنَّهُمْ لَا يَتَأَذَّوْنَ بِذَلِكَ بَلْ يُسَرُّونَ ؛ وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ فِي الَّذِي اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي جَوَازِ غِيبَةِ أَهْلِ الْفَسَادِ وَأَهْلِ الرَّيْبِ وَرَوَى خَبَرًا مَا أَظُنُّ فُلَانًا وَفُلَانًا يَعْرِفَانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئًا قَالَ اللَّيْثُ : كَانَا مُنَافِقَيْنِ هُمَا مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِيُّ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيّ لَكِنْ بِشَرْطِ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَا تُجَاهِرُوا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَيَحْرُمُ ذِكْرُهُمْ بِعَيْبٍ آخَرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِسَبَبٍ آخَرَ مِمَّا مَرَّ فَمِنْ هُنَا قَالَ

الْأَصْلُ : سَأَلْت جَمَاعَةً مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ عَمَّنْ يَرْوِي قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا غِيبَةَ فِي فَاسِقٍ } فَقَالُوا لِي : لَمْ يَصِحَّ ، وَلَا يَجُوزُ التَّفَكُّهُ بِعِرْضِ الْفَاسِقِ فَاعْلَمْ ذَلِكَ ، وَنُقِلَ فِي الزَّوَاجِرِ عَنْ الْخَادِمِ أَنَّهُ وُجِدَ بِخَطِّ الْإِمَامِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّ الْقَفَّالَ فِي فَتَاوِيهِ خَصَّصَ الْغِيبَةَ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَا تُذَمُّ شَرْعًا بِخِلَافِ نَحْوِ الزِّنَا فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اُذْكُرُوا الْفَاسِقَ بِمَا فِيهِ تَحْذَرْهُ النَّاسُ } غَيْرَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ السِّتْرُ حَيْثُ لَا غَرَضَ ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ غَرَضٌ كَتَجْرِيحِهِ أَوْ إخْبَارِ مُخَالَطَةٍ فَيَلْزَمُ بَيَانُهُ .
ا هـ .
قَالَ الْخَادِمُ : وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْجَوَازِ فِي الْأَوَّلِ لَا لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ ضَعِيفٌ لَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ ضَعِيفٌ وَقَالَ أَحْمَدُ مُنْكَرٌ ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنْ صَحَّ حُمِلَ عَلَى فَاجِرٍ مُعْلِنٍ بِفُجُورِهِ أَوْ يَأْتِي بِشَهَادَةٍ أَوْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فَيُحْتَاجُ إلَى بَيَانِ حَالِهِ لِئَلَّا يَقَعَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ .
ا هـ .
وَهَذَا الَّذِي حَمَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَلَيْهِ مُتَعَيِّنٌ ، وَنُقِلَ عَنْ شَيْخِهِ الْحَاكِمِ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَأَوْرَدَهُ بِلَفْظِ لَيْسَ لِلْفَاسِقِ غِيبَةٌ ، وَيُقْتَضَى عَلَيْهِ عُمُومُ خَبَرِ مُسْلِمٍ الَّذِي فِيهِ حَدَّا الْغِيبَةِ بِأَنَّهَا ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ وَعَلَيْهِ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ ، وَهَذَا كُلُّهُ يَرُدُّ مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ .
ا هـ .
الْمُرَادُ ( السَّادِسُ ) : التَّعْرِيفُ بِنَحْوِ لَقَبٍ كَالْأَعْوَرِ وَالْأَعْمَشِ وَالْأَصَمِّ وَالْأَقْرَعِ فَيَجُوزُ وَإِنْ أَمْكَنَ تَعْرِيفُهُ بِغَيْرِهِ نَعَمْ إنْ سَهُلَ تَعْرِيفُهُ بِغَيْرِهِ فَهُوَ أَوْلَى ، وَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ نَحْوِ الْأَعْوَرِ عَلَى جِهَةِ التَّعْرِيفِ لَا التَّنْقِيصِ ، وَإِلَّا حَرُمَ فَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ السِّتَّةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَيَدُلُّ لَهَا مِنْ

السُّنَّةِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ مَشْهُورَةٌ .
ا هـ .
أَيْ كَاَلَّذِي تَقَدَّمَ الِاسْتِدْلَال بِهَا ، وَزَادَ الْأَصْلُ ( سَابِعًا ) : وَهُوَ مَا إذَا كُنْت وَالْمُغْتَابَ عِنْدَهُ قَدْ سَبَقَ لَكُمَا الْعِلْمُ بِالْمُغْتَابِ بِهِ ، قَالَ : فَإِنَّ ذِكْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَحُطُّ قَدْرَ الْمُغْتَابِ عِنْدَهُ لِتَقَدُّمِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : لَا يَعْرَى هَذَا الْقِسْمُ عَنْ نَهْيٍ ؛ لِأَنَّكُمَا إذَا تَرَكْتُمَا الْحَدِيثَ فِيهِ رُبَّمَا نُسِيَ فَاسْتَرَاحَ الرَّجُلُ الْمَغِيبُ بِذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ حَالِهِ وَإِذَا تَعَاهَدْتُمَاهُ أَدَّى ذَلِكَ إلَى عَدَمِ نِسْيَانِهِ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْأَصْلُ فِي تَلْخِيصِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْغِيبَةِ ، وَمَا لَا يَحْرُمُ مِنْهَا ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مَعَ زِيَادَةٍ مِنْ كِتَابِ الزَّوَاجِرِ لِابْنِ حَجَرٍ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( الثَّانِيَةُ ) التَّجْرِيحُ وَالتَّعْدِيلُ فِي الشُّهُودِ عِنْدَ الْحَاكِمِ عِنْدَ تَوَقُّعِ الْحُكْمِ بِقَوْلِ الْمُجَرِّحِ وَلَوْ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ أَمَّا عِنْدَ غَيْرِ الْحَاكِمِ فَيَحْرُمُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ لِذَلِكَ وَالتَّفَكُّهُ بِأَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ حَرَامٌ وَالْأَصْلُ فِيهَا الْعِصْمَةُ ، وَكَذَلِكَ رُوَاةُ الْحَدِيثِ يَجُوزُ وَضْعُ الْكُتُبِ فِي جَرْحِ الْمَجْرُوحِ مِنْهُمْ وَالْإِخْبَارُ بِذَلِكَ لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ الْحَامِلِينَ لِذَلِكَ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ وَهَذَا الْبَابُ أَوْسَعُ مِنْ أَمْرِ الشُّهُودِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِحُكَّامٍ بَلْ يَجُوزُ وَضْعُ ذَلِكَ لِمَنْ يَضْبِطْهُ وَيَنْقُلُهُ ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ عَيْنُ النَّاقِلِ ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى ضَبْطِ السُّنَّةِ وَالْأَحَادِيثِ ، وَطَالِبُ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ ، وَيُشْتَرَطُ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ فِيهِ خَالِصَةً لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي نَصِيحَةِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ حُكَّامِهِمْ ، وَفِي ضَبْطِ شَرَائِعِهِمْ أَمَّا مَتَى كَانَ لِأَجْلِ عَدَاوَةٍ أَوْ تَفَكُّهٍ بِالْأَعْرَاضِ وَجَرْيًا مَعَ الْهَوَى فَذَلِكَ حَرَامٌ ، وَإِنْ حَصَلَتْ بِهِ الْمَصَالِحُ عِنْدَ الْحُكَّامِ وَالرُّوَاةِ فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ قَدْ تَجُرُّ لِلْمَصْلَحَةِ كَمَنْ قَتَلَ كَافِرًا يَظُنُّهُ مُسْلِمًا فَإِنَّهُ عَاصٍ بِظَنِّهِ ، وَإِنْ حَصَلَتْ الْمَصْلَحَةُ بِقَتْلِ الْكَافِرِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ يُرِيقُ خَمْرًا وَيَظُنُّهُ خَلًّا انْدَفَعَتْ الْمَفْسَدَةُ بِفِعْلِهِ ، وَاشْتُرِطَ أَيْضًا فِي هَذَا الْقِسْمِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْقَوَادِحِ الْمُخِلَّةِ بِالشَّهَادَةِ أَوْ الرِّوَايَةِ فَلَا يَقُولُ هُوَ ابْنُ زِنًا ، وَلَا أَبُوهُ لَاعَنَ مِنْهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُؤْلِمَاتِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ

( الثَّالِثَةُ ) الْمُعْلِنُ بِالْفُسُوقِ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ فَمِثْلُك حُبْلَى قَدْ طَرَقْت وَمُرْضِعٌ فَيَفْتَخِرُ بِالزِّنَا فِي شِعْرِهِ فَلَا يَضُرُّ أَنْ يُحْكَى ذَلِكَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَلَّمُ إذَا سَمِعَهُ بَلْ قَدْ يُسَرُّ بِتِلْكَ الْمَخَازِي فَإِنَّ الْغِيبَةَ إنَّمَا حُرِّمَتْ لِحَقِّ الْمُغْتَابِ وَتَأَلُّمِهِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَعْلَنَ بِالْمَكْسِ وَتَظَاهَرَ بِطَلَبِهِ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ وَفَعَلَهُ وَنَازَعَ فِيهِ أَبْنَاءَ الدُّنْيَا وَأَبْنَاءَ جِنْسِهِ كَثِيرٌ مِنْ اللُّصُوصِ يَفْتَخِرُ بِالسَّرِقَةِ وَالِاقْتِدَارِ عَلَى التَّسَوُّرِ عَلَى الدُّورِ الْعِظَامِ وَالْحُصُونِ الْكِبَارِ فَذِكْرُ مِثْلِ هَذَا عَنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ لَا يَحْرُمُ فَإِنَّهُمْ لَا يَتَأَذَّوْنَ بِسَمَاعِهِ بَلْ يُسَرُّونَ

( الرَّابِعَةُ ) أَرْبَابُ الْبِدَعِ وَالتَّصَانِيفِ الْمُضِلَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يُشْهِرَ النَّاسُ فَسَادَهَا وَعَيْبَهَا وَأَنَّهُمْ عَلَى غَيْرِ الصَّوَابِ لِيَحْذَرَهَا النَّاسُ الضُّعَفَاءُ فَلَا يَقَعُوا فِيهَا ، وَيُنَفَّرُ عَنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ مَا أَمْكَنَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُتَعَدَّى فِيهَا الصِّدْقُ وَلَا يُفْتَرَى عَلَى أَهْلِهَا مِنْ الْفُسُوقِ وَالْفَوَاحِشِ مَا لَمْ يَفْعَلُوهُ بَلْ يُقْتَصَرُ عَلَى مَا فِيهِمْ مِنْ الْمُنَفِّرَاتِ خَاصَّةً فَلَا يُقَالُ عَلَى الْمُبْتَدِعِ إنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ ، وَلَا أَنَّهُ يَزْنِي وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ ، وَهَذَا الْقِسْمُ دَاخِلٌ فِي النَّصِيحَةِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمُشَاوَرَةِ ، وَلَا مُقَارَنَةِ الْوُقُوعِ فِي الْمَفْسَدَةِ وَمَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ وَلَمْ يَتْرُكْ شِيعَةً تُعَظِّمُهُ ، وَلَا كُتُبًا تُقْرَأُ ، وَلَا سَبَبًا يُخْشَى مِنْهُ إفْسَادٌ لِغَيْرِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَرَ بِسِتْرِ اللَّهِ - تَعَالَى ، وَلَا يُذْكَرَ لَهُ عَيْبٌ أَلْبَتَّةَ ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { اُذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ } فَالْأَصْلُ اتِّبَاعُ هَذَا إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ ( الْخَامِسَةُ ) إذَا كُنْت أَنْتَ وَالْمُغْتَابَ عِنْدَهُ قَدْ سَبَقَ لَكُمَا الْعِلْمُ بِالْمُغْتَابِ بِهِ فَإِنَّ ذِكْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَحُطُّ قَدْرَ الْمُغْتَابِ عِنْدَ الْمُغْتَابِ عِنْدَهُ لِتَقَدُّمِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : لَا يَعْرَى هَذَا الْقِسْمُ عَنْ نَهْيٍ ؛ لِأَنَّكُمَا إذَا تَرَكْتُمَا الْحَدِيثَ فِيهِ رُبَّمَا نَسِيَ فَاسْتَرَاحَ الرَّجُلُ الْمَعِيبُ بِذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ حَالِهِ ، وَإِذَا تَعَاهَدْتُمَاهُ أَدَّى ذَلِكَ إلَى عَدَمِ نِسْيَانِهِ

( السَّادِسَةُ ) الدَّعْوَى عِنْدَ وُلَاةِ الْأُمُورِ فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : إنَّ فُلَانًا أَخَذَ مَالِي وَغَصَبَنِي وَثَلَمَ عِرْضِي إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَوَادِحِ الْمَكْرُوهَةِ لِضَرُورَةِ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْك

( تَنْبِيهٌ ) سَأَلْت جَمَاعَةً مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ عَمَّنْ يَرْوِي قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا غِيبَةَ فِي فَاسِقٍ } فَقَالُوا لِي : لَمْ يَصِحَّ ، وَلَا يَجُوزُ التَّفَكُّهُ بِعِرْضِ الْفَاسِقِ فَاعْلَمْ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ تَلْخِيصُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْغِيبَةِ وَمَا لَا يَحْرُمُ

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْغِيبَةِ وَقَاعِدَةِ النَّمِيمَةِ وَالْهَمْزِ وَاللَّمْزِ ) أَمَّا الْغِيبَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا وَإِنَّمَا حَرُمَتْ لِمَا فِيهَا مِنْ مَفْسَدَةِ إفْسَادِ الْأَعْرَاضِ ، وَالنَّمِيمَةُ أَنْ يَنْقُلَ إلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ يَتَعَرَّضُ لِأَذَاهُ فَحَرُمَتْ لِمَا فِيهَا مِنْ مَفْسَدَةِ إلْقَاءِ الْبِغْضَةِ بَيْنَ النَّاسِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهَا النَّصِيحَةُ فَيَقُولُ لَهُ إنْ فُلَانًا يَقْصِدُ قَتْلَك وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْغِيبَةِ وَالْهَمْزُ تَعْيِيبُ الْإِنْسَانِ بِحُضُورِهِ وَاللَّمْزُ هُوَ تَعْيِيبُهُ بِغَيْبَتِهِ فَتَكُونُ هِيَ الْغِيبَةُ وَقِيلَ : بِالْعَكْسِ

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْغِيبَةِ وَقَاعِدَةِ النَّمِيمَةِ وَالْهَمْزِ وَاللَّمْزِ ) ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ تَعْرِيفُ الْغِيبَةِ بِأَنَّهَا ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ إنْ سَمِعَهُ وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا إنَّمَا حَرُمَتْ لِمَا فِيهَا مِنْ مَفْسَدَةِ إفْسَادِ الْعِرْضِ وَعَرَّفُوا النَّمِيمَةَ بِأَنَّهَا نَقْلُ كَلَامِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ عَلَى وَجْهِ الْإِفْسَادِ بَيْنَهُمْ فَحَرُمَتْ لِمَا فِيهَا مِنْ مَفْسَدَةِ إلْقَاءِ الْبِغْضَةِ بَيْنَ النَّاسِ وَيُسْتَثْنَى مِنْهَا مَا كَانَ النَّقْلُ فِيهَا عَلَى جِهَةِ النَّصِيحَةِ كَأَنْ يَقُولَ لَهُ : إنَّ فُلَانًا يَقْصِدُ قَتْلَك وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْغِيبَةِ قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ : وَمَا ذُكِرَ فِي تَعْرِيفِ النَّمِيمَةِ هُوَ الْأَكْثَرُ ، وَلَا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ بَلْ هِيَ كَشْفُ مَا يُكْرَهُ كَشْفُهُ سَوَاءٌ أَكَرِهَهُ الْمَنْقُولُ عَنْهُ أَوْ إلَيْهِ أَوْ ثَالِثٌ ، وَسَوَاءٌ كَانَ كَشْفُهُ بِقَوْلٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ رَمْزٍ أَوْ إيمَاءٍ ، وَسَوَاءٌ فِي الْمَنْقُولِ كَوْنُهُ فِعْلًا ، أَوْ قَوْلًا عَيْبًا أَوْ نَقْصًا فِي الْمَنْقُولِ عَنْهُ ، أَوْ غَيْرِهِ فَحَقِيقَةُ النَّمِيمَةِ إفْشَاءُ السِّرِّ ، وَهَتْكُ السِّتْرِ عَمَّا يُكْرَهُ كَشْفُهُ ، وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي السُّكُوتُ عَنْ حِكَايَةِ كُلِّ شَيْءٍ شُوهِدَ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ إلَّا مَا فِي حِكَايَتِهِ نَفْعٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ دَفْعُ ضُرٍّ كَمَا لَوْ رَأَى مَنْ يَتَنَاوَلُ مَالَ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ رَأَى مَنْ يُخْفِي مَالَ نَفْسِهِ فَذَكَرَهُ فَهُوَ نَمِيمَةٌ وَإِفْشَاءٌ لِلسِّرِّ .
فَإِنْ كَانَ مَا يَنُمُّ بِهِ نَقْصًا أَوْ عَيْبًا فِي الْمَحْكِيِّ عَنْهُ فَهُوَ غِيبَةٌ وَنَمِيمَةٌ .
ا هـ .
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الزَّوَاجِرِ : وَمَا ذَكَرَهُ إنْ أَرَادَ بِكَوْنِهِ نَمِيمَةً أَنَّهُ كَبِيرَةٌ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ الَّتِي ذَكَرَهَا فَفِيهِ بِإِطْلَاقِهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ مَا فَسَّرُوا بِهِ النَّمِيمَةَ لَا يَخْفَى أَنَّ وَجْهَ كَوْنِهِ كَبِيرَةً مَا فِيهِ مِنْ الْإِفْسَادِ

الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ مِنْ الْمَضَارِّ وَالْمَفَاسِدِ مَا لَا يَخْفَى ، وَالْحُكْمُ عَلَى مَا هُوَ كَذَلِكَ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَاهُ بَلْ وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ مُجَرَّدُ الْإِخْبَارِ بِشَيْءٍ عَمَّنْ يَكْرَهُ كَشْفُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ ، وَلَا هُوَ عَيْبٌ ، وَلَا نَقْصٌ فَاَلَّذِي يُتَّجَهُ فِي هَذَا أَنَّهُ ، وَإِنْ سُلِّمَ لِلْغَزَالِيِّ تَسْمِيَتُهُ نَمِيمَةً لَا يَكُونُ كَبِيرَةً ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ نَفْسَهُ شَرَطَ فِي كَوْنِهِ غِيبَةً كَوْنَهُ عَيْبًا وَنَقْصًا حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ كَانَ مَا يَنُمُّ بِهِ نَقْصًا إلَخْ فَإِذَنْ لَمْ تُوجَدْ الْغِيبَةُ إلَّا مَعَ كَوْنِهِ نَقْصًا فَالنَّمِيمَةُ الْأَقْبَحُ مِنْ الْغِيبَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُوجَدَ بِوَصْفِ كَوْنِهَا كَبِيرَةً إلَّا إذَا كَانَ فِيمَا يَنُمُّ بِهِ مَفْسَدَةٌ تُقَارِبُ مَفْسَدَةَ الْإِفْسَادِ الَّتِي صَرَّحُوا بِهِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَنْقُلُونَ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ ، وَلَا يَتَعَرَّضُونَ لِمَا فِيهِ مِمَّا نَبَّهْت عَلَيْهِ نَعَمْ مَنْ قَالَ : إنَّ الْغِيبَةَ كَبِيرَةٌ مُطْلَقًا يَنْبَغِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي النَّمِيمَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَفْسَدَةٌ كَمَفْسَدَةِ الْغِيبَةِ ، وَإِنْ لَمْ تَصِلْ إلَى مَفْسَدَةِ الْإِفْسَادِ بَيْنَ النَّاسِ قَالَ : وَالْبَاعِثُ عَلَى النَّمِيمَةِ مِنْهُ إرَادَةُ السُّوءِ بِالْمَحْكِيِّ عَلَيْهِ أَوْ الْحُبِّ لِلْمَحْكِيِّ لَهُ أَوْ الْفَرَحِ بِالْخَوْضِ فِي الْفُضُولِ ، وَعِلَاجُ النَّمِيمَةِ هُوَ نَحْوُ مَا قَالُوهُ فِي عِلَاجِ الْغِيبَةِ .
وَهُوَ إمَّا إجْمَالِيٌّ بِأَنْ تَعْلَمَ أَنَّك قَدْ تَعَرَّضْت بِهَا لِسَخَطِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَعُقُوبَتِهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْأَخْبَارُ الَّتِي وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهَا تُحْبِطُ حَسَنَاتِك لِمَا فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ فِي الْمُفْلِسِ مِنْ أَنَّهُ تُؤْخَذُ حَسَنَاتُهُ إلَى أَنْ تَفْنَى فَإِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وُضِعَ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ خَصْمِهِ ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ سَيِّئَاتُهُ كَانَ مِنْ

أَهْلِ النَّارِ فَإِنْ اسْتَوَيَا فَمِنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ فَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ الْغِيبَةُ سَبَبًا لِفَنَاءِ حَسَنَاتِك وَزِيَادَةِ سَيِّئَاتِك فَتَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْغِيبَةَ وَالنَّمِيمَةَ تَحُتَّانِ الْإِيمَانَ كَمَا يُعَضِّدُ الرَّاعِي الشَّجَرَةَ وَمِمَّا يَنْفَعُك أَيْضًا أَنَّك تَتَدَبَّرُ فِي عُيُوبِك ، وَتَجْتَهِدُ فِي الطَّهَارَةِ مِنْهَا وَتَسْتَحْيِي مِنْ أَنْ تَذُمَّ غَيْرَك بِمَا أَنْتَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ ، أَوْ بِنَظِيرِهِ فَإِنْ كَانَ أَمْرًا خِلْقِيًّا فَالذَّمُّ لَهُ ذَمٌّ لِلْخَالِقِ إذْ مَنْ ذَمَّ صَنْعَةً ذَمَّ صَانِعَهَا فَإِنْ لَمْ تَجِدْ لَك عَيْبًا ، وَهُوَ بَعِيدٌ فَاشْكُرْ اللَّهَ ؛ إذْ تَفَضَّلَ عَلَيْك بِالنَّزَاهَةِ عَنْ الْعُيُوبِ وَيَنْفَعُك أَيْضًا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ تَأَذِّي غَيْرِك بِالْغِيبَةِ كَتَأَذِّيك بِهَا فَكَيْفَ تَرْضَى لِغَيْرِك مَا تَتَأَذَّى بِهِ ، وَإِمَّا تَفْصِيلِيٌّ بِأَنْ تَنْظُرَ فِي بَاعِثِهَا فَتَقْطَعَهُ مِنْ أَصْلِهِ ؛ إذْ عِلَاجُ الْعِلَّةِ إنَّمَا يَكُونُ بِقَطْعِ سَبَبِهَا ، وَإِذَا اسْتَحْضَرْت الْبَوَاعِثَ عَلَيْهَا ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ مِنْهَا الْغَضَبُ وَالْحِقْدُ وَتَشَفِّي الْغَيْظِ بِذِكْرِ مَسَاوِئِ مَنْ أَغْضَبَك ، وَمِنْهَا مُوَافَقَةُ الْإِخْوَانِ وَمُجَامَلَتُهُمْ بِالِاسْتِرْسَالِ مَعَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ ، أَوْ إبْدَاءُ نَظِيرِ مَا أَبْدَوْهُ خَشْيَةَ أَنَّهُ لَوْ سَكَتَ أَوْ أَنْكَرَ اسْتَثْقَلُوهُ .
وَمِنْهَا الْحَسَد لِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَمَحَبَّتِهِمْ لَهُ ، وَمِنْهَا قَصْدُ الْمُبَاهَاةِ وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ ، وَمِنْهَا السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِ تَحْقِيرًا لَهُ ظَهَرَ لَك السَّعْيُ فِي قَطْعِهَا كَأَنْ تَسْتَحْضِرَ فِي الْغَضَبِ أَنَّك إنْ أَمْضَيْت غَضَبَك فِيهِ بِغِيبَةٍ أَمْضَى اللَّهُ غَضَبَهُ فِيك لِاسْتِخْفَافِك بِنَهْيِهِ وَجَرَاءَتِك عَلَى وَعِيدِهِ ، وَفِي حَدِيثٍ أَنَّ { لِجَهَنَّمَ بَابًا لَا يَدْخُلُهُ إلَّا مَنْ شَفَى غَيْظَهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - } وَفِي الْمُوَافَقَةِ أَنَّك إذَا أَرْضَيْت الْمَخَالِيقَ بِغَضَبِ اللَّهِ عَاجَلَك بِعُقُوبَتِهِ ؛ إذْ لَا أَغْيَرَ مِنْ اللَّهِ -

تَعَالَى - وَفِي الْحَسَدِ أَنَّك جَمَعْت بَيْنَ خَسَارِ الدُّنْيَا بِحَسَدِك لَهُ عَلَى نِعْمَتِهِ وَكَوْنِهِ مُعَذَّبًا بِالْحَسَدِ وَخَسَارَةِ الْآخِرَةِ ؛ لِأَنَّك نَصَرْته بِإِهْدَاءِ حَسَنَاتِك إلَيْهِ أَوْ طَرْحِ سَيِّئَاتِهِ عَلَيْك فَصِرْت صَدِيقَهُ وَعَدُوَّ نَفْسِك فَجَمَعْت إلَى خُبْثِ حَسَدِك جَهْلَ حَمَاقَتِك ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْك سَبَبَ انْتِشَارِ فَضْلِهِ كَمَا قِيلَ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ نَشْرَ فَضِيلَةٍ طُوِيَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِ وَفِي قَصْدِ الْمُبَاهَاةِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ أَنَّك بِمَا ذَكَرْته فِيهِ أَبْطَلْت فَضْلَك عِنْدَ اللَّهِ وَأَنْتَ لَسْت عَلَى ثِقَةٍ مِنْ اعْتِقَادِ النَّاسِ فِيك بَلْ رُبَّمَا مَقَتُوك إذَا عَرَفُوك بِثَلْبِ الْأَعْرَاضِ وَقُبْحِ الْأَغْرَاضِ فَقَدْ بِعْت مَا عِنْدَ اللَّهِ يَقِينًا بِمَا عِنْدَ الْمَخْلُوقِ الْعَاجِزِ وَهْمًا ، وَفِي الِاسْتِهْزَاءِ أَنَّك إذَا أَخْزَيْت غَيْرَك عِنْدَ النَّاسِ فَقَدْ أَخْزَيْت نَفْسَك عِنْدَ اللَّهِ ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا ، وَعِلَاجُ بَقِيَّةِ الْبَوَاعِثِ ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَرَّرَ فَلَا حَاجَةَ لِلْإِطَالَةِ بِهِ .
ا هـ .
قَالَ الْأَصْلُ : وَالْهَمْزُ تَعْيِيبُ الْإِنْسَانِ بِحُضُورِهِ ، وَاللَّمْزُ تَعْيِيبُهُ بِغَيْبَتِهِ فَتَكُونُ هِيَ الْغِيبَةَ وَقِيلَ : بِالْعَكْسِ .
ا هـ .
أَيْ أَنَّ اللَّمْزَ تَعْيِيبُهُ بِحُضُورِهِ وَالْهَمْزُ تَعْيِيبُهُ بِغَيْبَتِهِ فَتَكُونُ هِيَ الْغِيبَةَ عَلَى مَا لِلْأَصْلِ نَظَرًا لِزِيَادَةِ إنْ سَمِعَ فِي حَدِيثِ تَفْسِيرِ الْغِيبَةِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَوَافَقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ كَالسَّيِّدِ الْجُرْجَانِيِّ فَقَالَ فِي تَعْرِيفَاتِهِ : الْغِيبَةَ ذِكْرُ مَسَاوِئِ الْإِنْسَانِ فِي غِيبَتِهِ ، وَهِيَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ فَهِيَ بُهْتَانٌ ، وَإِنْ وَاجَهَهُ بِهَا فَهُوَ شَتْمٌ .
ا هـ .
بِلَفْظِهِ .
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الزَّوَاجِرِ : عُلِمَ مِنْ خَبَرِ مُسْلِمٍ السَّابِقِ أَيْ فِي تَفْسِيرِ الْغِيبَةِ بِدُونِ الزِّيَادَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْأَصْلُ فِيهِ مَعَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْأَئِمَّةُ أَنَّ الْغِيبَةَ أَنْ تَذْكُرَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا عَلَى الْوَجْهِ بَلْ

الصَّوَابُ مُعَيَّنًا لِلسَّامِعِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا بِمَا يَكْرَهُ أَنْ يُذْكَرَ بِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ بِحَضْرَتِهِ أَوْ غَيْبَتِهِ ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْأَخِ فِي الْخَبَرِ كَالْآيَةِ لِلْعَطْفِ ، وَالتَّذْكِيرُ بِالسَّبَبِ الْبَاعِثِ عَلَى أَنَّ التَّرْكَ مُتَأَكِّدٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ أَكْثَرَ ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ وَأَعْظَمُ حُرْمَةً قَالَ : وَعَدَمُ الْفَرْقِ فِي الْغِيبَةِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ فِي غِيبَةِ الْمُغْتَابِ أَوْ بِحَضْرَتِهِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَفِي الْخَادِمِ : وَمِنْ الْمُهْتَمِّ بِهِ ضَابِطُ الْغِيبَةِ هَلْ هِيَ ذِكْرُ الْمَسَاوِئِ فِي الْغِيبَةِ كَمَا يَقْتَضِيهِ اسْمُهَا ، أَوْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْغِيبَةِ وَالْحُضُورِ ، وَقَدْ دَارَ هَذَا السُّؤَالُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ ثُمَّ رَأَيْت ابْنَ فُورَكٍ ذَكَرَ فِي مُشْكِلِ الْقُرْآنِ فِي تَفْسِيرِ الْحُجُرَاتِ ضَابِطًا حَسَنًا فَقَالَ : الْغِيبَةُ ذِكْرُ الْغَيْرِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ وَكَذَا قَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيّ فِي تَفْسِيرِ الْغِيبَةِ : أَنْ تَذْكُرَ الْإِنْسَانَ مِنْ خَلْفِهِ بِسُوءٍ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ وَفِي الْمُحْكَمِ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْضًا : وَاللَّمْزُ بِالْقَوْلِ وَغَيْرِهِ ، وَالْهَمْزُ بِالْقَوْلِ فَقَطْ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ الْهَمْزَ بِالْعَيْنِ وَالشِّدْقِ وَالْيَدِ ، وَاللَّمْزُ بِاللِّسَانِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَبَلَغَنِي عَنْ اللَّيْثِ أَنَّهُ قَالَ اللُّمَزَةُ الَّذِي يَعِيبُك فِي وَجْهِك ، وَالْهُمَزَةُ الَّذِي يَعِيبُك بِالْغَيْبِ وَفِي الْإِحْيَاءِ قَالَ مُجَاهِدٌ : وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الْهُمَزَةُ الطَّعَّانُ فِي النَّاسِ وَاللُّمَزَةُ الَّذِي يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ .
ا هـ .
الْمُرَادُ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الزُّهْدِ وَقَاعِدَةِ ذَاتِ الْيَدِ ) اعْلَمْ أَنَّ الزُّهْدَ لَيْسَ عَدَمَ الْمَالِ بَلْ عَدَمُ احْتِفَالِ الْقَلْبِ بِالدُّنْيَا وَالْأَمْوَالِ فَإِنْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ فَقَدْ يَكُونُ الزَّاهِدُ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ ، وَهُوَ زَاهِدٌ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَفِلٍ بِمَا فِي يَدِهِ ، وَبَذْلُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ بَذْلِ الْفَلْسِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ الشَّدِيدُ الْفَقْرِ غَيْرَ زَاهِدٍ بَلْ فِي غَايَةِ الْحِرْصِ لِأَجْلِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ مِنْ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا ، وَالزُّهْدُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَاجِبٌ ، وَفِي الْوَاجِبَاتِ حَرَامٌ ، وَفِي الْمَنْدُوبَاتِ مَكْرُوهٌ ، وَفِي الْمُبَاحَاتِ مَنْدُوبٌ ، وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً ؛ لِأَنَّ الْمَيْلَ إلَيْهَا يُفْضِي لِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ فَتَرْكُهَا مِنْ بَابِ الْوَسَائِلِ الْمَنْدُوبَةِ
وَمَا قَالَ فِي الْفَرْقِ الْخَامِسِ وَالْخَمْسِينَ وَالْمِائَتَيْنِ صَحِيحٌ

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الزُّهْدِ وَقَاعِدَةِ ذَاتِ الْيَدِ ) الزُّهْدُ فِي اللُّغَةِ قَالَ فِي الْمُخْتَارِ ضِدُّ الرَّغْبَةِ تَقُولُ زَهِدَ فِيهِ وَزَهِدَ عَنْهُ مِنْ بَابِ سَلِمَ وَزَهِدَ أَيْضًا وَزَهَدَ يَزْهَدُ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا زُهْدًا وَزَهَادَةً بِالْفَتْحِ لُغَةٌ فِيهِ ، وَالتَّزَهُّدُ التَّعَبُّدُ وَالتَّزْهِيدُ ضِدُّ التَّرْغِيبِ ، وَالْمُزْهِدُ بِوَزْنِ الْمُرْشِدِ الْقَلِيلُ الْمُحَالُ ، وَفِي الْحَدِيثِ { : أَفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ مُزْهِدٌ } وَفِي تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ الزُّهْدُ لُغَةً تَرْكُ الْمَيْلِ إلَى الشَّيْءِ ، وَفِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْحَقِّ هُوَ بُغْضُ الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا وَقِيلَ : هُوَ تَرْكُ رَاحَةِ الدُّنْيَا طَلَبًا لِرَاحَةِ الْآخِرَةِ وَقِيلَ : هُوَ أَنْ يَخْلُوَ قَلْبُك مِمَّا خَلَتْ مِنْهُ يَدُك .
ا هـ .
وَقَالَ الْأَصْلُ : هُوَ عَدَمُ الِاحْتِفَالِ بِالدُّنْيَا وَالْأَمْوَالِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ لَا عَدَمُ الْمَالِ .
ا هـ .
قُلْت : وَتَعْرِيفُهُ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ عَدَمِيًّا عَيْنُ التَّعْرِيفِ الْأَوَّلِ لَهُ فِي كَلَامِ الْجُرْجَانِيِّ ، وَإِنْ كَانَ وُجُودِيًّا ، وَقَرِيبٌ مِنْهُمَا التَّعْرِيفُ الثَّانِي فِي كَلَامِ الْجُرْجَانِيِّ وَذَاتُ الْيَدِ الْغَنِيُّ وَلَوْ لَمْ يَزْهَدْ عَمَّا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ فَبَيْنَ الزُّهْدِ عَلَى تَعْرِيفِ الْأَصْلِ وَالْأَوَّلِ وَالثَّانِي مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ وَبَيْنَ ذَاتِ الْيَدِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْوَجْهِيُّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الزَّاهِدُ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ ، وَهُوَ زَاهِدٌ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَفِلٍ بِمَا فِي يَدِهِ ، وَبَذْلُهُ الْأَمْوَالَ الْعَظِيمَةَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ بَذْلِ الْفَلْسِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ فَقِيرًا كَمَا أَنَّ ذَا الْيَدِ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ زَاهِدٍ ، وَقَدْ يَكُونُ زَاهِدًا وَكَذَا بَيْنَ الزُّهْدِ وَبَيْنَ الْفَقْرِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْوَجْهِيُّ ؛ لِأَنَّ الشَّدِيدَ الْفَقْرِ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ زَاهِدٍ بَلْ فِي غَايَةِ الْحِرْصِ لِأَجْلِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ مِنْ الرَّغْبَةِ فِي

الدُّنْيَا وَبَيْنَ الزُّهْدِ بِالتَّعْرِيفِ الثَّالِثِ مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ وَبَيْنَ ذَاتِ الْيَدِ التَّبَايُنُ الْكُلِّيُّ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَقْرِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ كَمَا لَا يَخْفَى فَافْهَمْ قَالَ الْأَصْلُ : وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ : وَالزُّهْدُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَاجِبٌ وَفِي الْوَاجِبَاتِ حَرَامٌ ، وَفِي الْمَنْدُوبَاتِ مَكْرُوهٌ وَفِي الْمُبَاحَاتِ مَنْدُوبٌ ، وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً ؛ لِأَنَّ الْمَيْلَ إلَيْهَا يُفْضِي إلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ فَتَرْكُهَا مِنْ بَابِ الْوَسَائِلِ الْمَنْدُوبَةِ .
ا هـ .
وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الزُّهْدِ وَقَاعِدَةِ الْوَرَعِ ) فَالزُّهْدُ هَيْئَةٌ فِي الْقَلْبِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَالْوَرَعُ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ ، وَهُوَ تَرْكُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ الْبَأْسُ وَأَصْلُهُ قَوْلُهُ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ سَلِمَ } ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمِنْهُ الْخُرُوجُ عَنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَإِنْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فِعْلٍ هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ حَرَامٌ فَالْوَرَعُ التَّرْكُ أَوْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ مَعَ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ حَتَّى يُجْزِئَ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ حَرَامٌ فَالْوَرَعُ التَّرْكُ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ حَذَرًا مِنْ الْعِقَابِ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ ، وَفِعْلُ الْمَكْرُوهِ لَا يَضُرُّهُ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ أَمْ لَا فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ ؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ مُثْبِتٌ لِأَمْرٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ النَّافِي ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ ، وَذَلِكَ كَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَمَالِكٌ يَقُولُ لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ هِيَ مَشْرُوعَةٌ أَوْ وَاجِبَةٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ لِتَيَقُّنِ الْخُلُوصِ مِنْ إثْمِ تَرْكِ الْوَاجِبِ عَلَى مَذْهَبِهِ وَكَالْبَسْمَلَةِ قَالَ مَالِكٌ : هِيَ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهَةٌ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هِيَ وَاجِبَةٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ لِلْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ تَرْكِ الْوَاجِبِ فَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْعِقَابُ مُتَوَقَّعٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا وَرَعَ إلَّا أَنْ نَقُولَ إنَّ الْمُحَرَّمَ إذَا عَارَضَهُ الْوَاجِبُ قُدِّمَ عَلَى الْوَاجِبِ ؛ لِأَنَّ رِعَايَةَ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ حُصُولِ الْمَصَالِحِ ، وَهُوَ الْأَنْظَرُ

فَيُقَدَّمُ الْمُحَرَّمُ هَا هُنَا فَيَكُونُ الْوَرَعُ التَّرْكَ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ مَكْرُوهٌ فَلَا وَرَعَ لِتَسَاوِي الْجِهَتَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ وَالْوَاجِبِ وَيُمْكِنُ تَرْجِيحُ الْمَكْرُوهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ تَجْرِي قَاعِدَةُ الْوَرَعِ وَهَذَا مَعَ تَقَارُبِ الْأَدِلَّةِ أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الْمَذْهَبَيْنِ ضَعِيفَ الدَّلِيلِ جِدًّا بِحَيْثُ لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَنَقَضْنَاهُ لَمْ يَحْسُنْ الْوَرَعُ فِي مِثْلِهِ ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ إذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ شَرِيعَةً الدَّالُّ عَلَى دُخُولِ الْوَرَعِ فِي ذَلِكَ هَذَا أَمْرٌ لَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا غَيْرَ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ تَوَقُّعِ الْإِثْمِ وَالْعِقَابِ ، وَذَلِكَ مُنْتَفٍ بِالدَّلِيلِ الْإِجْمَاعِيِّ الْقَطْعِيِّ ، وَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } فَأَطْلَقَ الْقَوْلَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ ، وَلَا تَفْصِيلٍ ، وَلَا تَنْبِيهٍ عَلَى وَجْهِ الْوَرَعِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ لَمْ يُحْفَظْ التَّنْبِيهُ فِي ذَلِكَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَلَا غَيْرِهِمْ مِنْ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِ ثُمَّ الْخُرُوجُ عَنْ الْخِلَافِ لَا يَتَأَتَّى فِي مِثْلِ مَا مُثِّلَ بِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَالِانْكِفَافِ عَنْهُ فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ الْمُكَلَّفُ فَقَدْ وَافَقَ مَذْهَبَ الْمُحَلِّلِ وَإِنْ انْكَفَّ عَنْهُ فَقَدْ وَافَقَ مَذْهَبَ الْمُحَرِّمِ فَأَيْنَ الْخُرُوجُ عَنْ الْخِلَافِ إنَّمَا ذَلِكَ عَمَلٌ عَلَى وَفْقِ أَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ لَا خُرُوجٌ عَنْ الْمَذْهَبَيْنِ ، وَمِثَالُهُ أَكْلُ لُحُومِ الْخَيْلِ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَمْنُوعٌ أَوْ مَكْرُوهٌ عِنْدَ مَالِكٍ فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى الْأَكْلِ ، فَذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَإِنْ انْكَفَّ فَذَلِكَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَمَا قَالَهُ فِيمَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ وَعَدَمِهَا

مِنْ أَنَّ الْقَائِلَ بِهَا مُثْبِتٌ لِأَمْرٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ النَّافِي ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَإِنَّهُ إنْ عَنَى بِتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ كَمَا إذَا قَالَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ لِزَيْدٍ عِنْدَ عَمْرٍو دِينَارٌ ، وَقَالَتْ الْأُخْرَى : لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلَا تَعَارُضَ ؛ لِأَنَّ النَّافِيَةَ مَعْنَى نَفْيِهَا أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ أَنَّ لَهُ عِنْدَهُ شَيْئًا أَوْ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلَا تَعَارُضَ ، وَلَيْسَ مَعْنَى نَفْيِهَا أَنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ يَتَعَذَّرُ

قَالَ ( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الزُّهْدِ وَقَاعِدَةِ الْوَرَعِ فَالزُّهْدُ هُوَ هَيْئَةٌ فِي الْقَلْبِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَالْوَرَعُ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ ، وَهُوَ تَرْكُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ وَأَصْلُهُ قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ } ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ) قُلْت : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ قَالَ ( وَمِنْهُ الْخُرُوجُ عَنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَإِنْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فِعْلٍ هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ حَرَامٌ فَالْوَرَعُ التَّرْكُ أَوْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ مَعَ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ حَتَّى يُجْزِئَ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ حَرَامٌ فَالْوَرَعُ التَّرْكُ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ حَذَرًا مِنْ الْعِقَابِ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ وَفِعْلُ الْمَكْرُوهِ لَا يَضُرُّهُ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ أَمْ لَا فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ ؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ مُثْبِتٌ لِأَمْرٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ النَّافِي وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ وَذَلِكَ كَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَمَالِكٌ يَقُولُ : لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ : هِيَ مَشْرُوعَةٌ وَوَاجِبَةٌ ، فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ لِتَيَقُّنِ الْخُلُوصِ مِنْ إثْمِ تَرْكِ الْوَاجِبِ عَلَى مَذْهَبِهِ وَكَالْبَسْمَلَةِ قَالَ مَالِكٌ هِيَ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهَةٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هِيَ وَاجِبَةٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ لِلْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ تَرْكِ الْوَاجِبِ فَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْعِقَابُ مُتَوَقَّعٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا وَرَعَ إلَّا أَنَّ الْمُحَرَّمَ إذَا عَارَضَهُ الْوَاجِبُ قُدِّمَ عَلَى الْوَاجِبِ ؛ لِأَنَّ رِعَايَةَ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ

حُصُولِ الْمَصَالِحِ ، وَهُوَ الْأَنْظَرُ فَيُقَدَّمُ الْمُحَرَّمُ هَا هُنَا فَيَكُونُ الْوَرَعُ التَّرْكَ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ مَكْرُوهٌ فَلَا وَرَعَ لِتَسَاوِي الْجِهَتَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ وَالْوَاجِبِ يُمْكِنُ تَرْجِيحُ الْمَكْرُوهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ ، وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ تَجْرِي قَاعِدَةُ الْوَرَعِ ، وَهَذَا مَعَ تَقَارُبِ الْأَدِلَّةِ أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الْمَذْهَبَيْنِ ضَعِيفَ الدَّلِيلِ جِدًّا بِحَيْثُ لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَنَقَضْنَاهُ لَمْ يَحْسُنْ الْوَرَعُ فِي مِثْلِهِ ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ إذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ شَرِيعَةً ) قُلْت : لَا يَصِحُّ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ الْخِلَافِ يَكُونُ وَرَعًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَرَعَ فِي ذَلِكَ لِتَوَقُّعِ الْعِقَابِ وَأَيُّ عِقَابٍ يُتَوَقَّعُ فِي ذَلِكَ أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ لَا إشْكَالَ فِيهِ .
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْوِيبِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْأَقْوَالِ دُونَ غَيْرِهِ فَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى عَدَمِ تَأْثِيمِ الْمُخْطِئِ وَعَدَمِ تَعْيِينِهِ فَلَا يَصِحُّ دُخُولُ الْوَرَعِ فِي خِلَافِ الْعُلَمَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَأَمَّا الدَّلِيلُ الْعِلْمُ بِهِ عَادَةً ، وَإِنْ عَنَى كَمَا إذَا قَالَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ رَأَيْنَاهُ يَوْمَ عَرَفَةَ مِنْ عَامِ سَبْعِمِائَةٍ بِمَكَّةَ ، وَقَالَتْ الْأُخْرَى : رَأَيْنَاهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ بِالْمَدِينَةِ فَهَذَا تَعَارُضٌ ، وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيمُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى إلَّا بِالتَّرْجِيحِ ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ الَّتِي تُشْبِهُ مَسْأَلَةَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا الصُّورَةُ الْأُولَى فَإِذَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي مِثْلِ هَذَا الِاجْتِهَادِ ثَبَتَ الْخِلَافُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ لِأَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إلَّا عِنْدَ مَنْ رَجَحَ عِنْدَهُ كَالْمُجْتَهَدِينَ ، وَكُلُّ مَنْ رَجَحَ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْمَذْهَبُ لَا يَسُوغُ لَهُ تَرْكُهُ ، وَكُلُّ مَنْ رَجَحَ عِنْدَهُ الْمَذْهَبُ الْآخَرُ لَا يَسُوغُ لَهُ تَرْكُهُ فَلَا وَرَعَ بِاعْتِبَارِ الْمُجْتَهِدِينَ ،

وَلَا بُدَّ لِمَنْ حُكْمُهُ التَّقْلِيدُ أَنْ يَعْمَلَ بِالتَّقْلِيدِ ، فَإِذَا قَلَّدَ أَحَدَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا يَتَمَكَّنُ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ ، وَفِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ أَنْ يُقَلِّدَ الْآخَرَ ، وَلَا أَنْ يَنْظُرَ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ ، وَالْمُكَلَّفُونَ كُلُّهُمْ دَائِرُونَ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ ، وَالْمُجْتَهِدُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْأَخْذِ بِغَيْرِ مَا اقْتَضَاهُ نَظَرُهُ فَلَا يَصِحُّ الْوَرَعُ الَّذِي يَقْتَضِي خِلَافَ مَذْهَبِ مُقَلِّدِهِ فِي حَقِّهِ ، وَإِذَا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْوَرَعِ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَلَا فِي حَقِّ الْمُقَلِّدِينَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا ثَالِثَ يَصِحُّ ذَلِكَ الْوَرَعُ فِي حَقِّهِ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الزُّهْدِ وَقَاعِدَةِ الْوَرَعِ ) وَهُوَ أَنَّ الزُّهْدَ عَلَى تَعْرِيفِ الْأَصْلِ وَالْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ الْمُتَقَدِّمَةِ هَيْئَةٌ فِي الْقَلْبِ ، وَعَلَى الثَّانِي مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ ، وَأَمَّا الْوَرَعُ فَفِي الْأَصْلِ هُوَ تَرْكُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ الْبَأْسُ ، وَفِي تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ هُوَ اجْتِنَابُ الشُّبُهَاتِ خَوْفًا مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ ، وَقِيلَ : هِيَ مُلَازَمَةُ الْأَعْمَالِ الْجَمِيلَةِ .
ا هـ .
قُلْت : وَمَآلُ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْوَرَعَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ ، وَأَصْلُهَا قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ } أَيْ سَلِمَ دِينُهُ وَعِرْضُهُ ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الزُّهْدِ عَلَى تَعْرِيفِ الْأَصْلِ وَالْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ الْمُتَقَدِّمَةِ التَّبَايُنُ الْكُلِّيُّ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الزُّهْدِ عَلَى الثَّانِي مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ الْمُتَقَدِّمِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ وَالزُّهْدُ هُوَ الْأَعَمُّ فَلْيُتَأَمَّلْ بِإِمْعَانٍ وَفِي الْعَزِيزِيِّ بَعْدَ مَا رَوَاهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَمَّا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إذَا أُعْطِيت شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُسْأَلَ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ } قَالَ الْمُنَاوِيُّ إرْشَادٌ يَعْنِي انْتَفِعْ بِهِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْمَبْذُولِ عِلْمُ حِلِّهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْعَلْقَمِيِّ أَنَّهُ إنْ عَلِمَ حِلَّهُ اُسْتُحِبَّ الْقَبُولُ وَإِنْ عَلِمَ حُرْمَتَهُ حَرُمَ الْقَبُولُ ، وَإِنْ شَكَّ فَالِاحْتِيَاطُ رَدُّهُ ، وَهُوَ الْوَرَعُ .
ا هـ .
قَالَ الْحِفْنِيُّ : أَوْ مِنْ الشُّبْهَةِ لَكِنْ

مَحِلُّهُ إنْ لَمْ يُعَارِضْهُ حُبُّ الثَّنَاءِ كَأَنْ يُقَالَ : فُلَانٌ زَاهِدٌ لَا يَقْبَلُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ يَرُدُّ مَا فِيهِ شُبْهَةٌ حِينَئِذٍ أَخَّرَ مِنْ قَبُولِهِ ا هـ وَفِي الْعَزِيزِيِّ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ قَرْضًا فَأَهْدَى إلَيْهِ طَبَقًا فَلَا يَقْبَلُهُ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى دَابَّتِهِ فَلَا يَرْكَبُهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ } الْمُرَادُ أَهْدَى إلَيْهِ شَيْئًا أَوْ أَرَادَ أَنْ يُرْكِبَهُ دَابَّتَهُ أَوْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا مَتَاعًا لَهُ فَلَا يَرْكَبُهَا أَيْ لَا يَسْتَعْمِلُهَا بِرُكُوبٍ وَلَا غَيْرِهِ قَالَ الْعَلْقَمِيُّ : هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنَزُّهِ وَالْوَرَعِ أَيْ فَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ ( وَصْلٌ ) فِي ثَلَاثِ مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَرْقِ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) اخْتَلَفَ الْأَصْلُ وَابْنُ الشَّاطِّ فِي أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ هَلْ يُعَدُّ مِنْ الْوَرَعِ أَوْ لَا يُعَدُّ مِنْهُ فَذَهَبَ الْأَصْلُ إلَى أَنَّهُ يُعَدُّ مِنْهُ ، وَقَالَ : فَإِنْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فِعْلٍ هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ حَرَامٌ فَالْوَرَعُ التَّرْكُ ، أَوْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ مَعَ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ حَتَّى يُجْزِئَ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ حَرَامٌ فَالْوَرَعُ التَّرْكُ ، أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ حَذَرًا مِنْ الْعِقَابِ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ ، وَفِعْلُ الْمَكْرُوهِ لَا يَضُرُّهُ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ أَمْ لَا فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ ؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ مُثْبِتٌ لِأَمْرٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ النَّافِي ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ ، وَذَلِكَ كَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَمَالِكٌ يَقُولُ : لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ

، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ : هِيَ مَشْرُوعَةٌ وَاجِبَةٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ لِتَيَقُّنِ الْخُلُوصِ مِنْ إثْمِ تَرْكِ الْوَاجِبِ عَلَى مَذْهَبِهِ وَكَالْبَسْمَلَةِ قَالَ مَالِكٌ : هِيَ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهَةٌ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هِيَ وَاجِبَةٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ لِلْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ تَرْكِ الْوَاجِبِ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْعِقَابُ مُتَوَقَّعٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا وَرَعَ إلَّا أَنْ تَقُولَ : إنَّ الْمُحَرَّمَ إذَا عَارَضَهُ الْوَاجِبُ قُدِّمَ عَلَى الْوَاجِبِ ؛ لِأَنَّ رِعَايَةَ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ حُصُولِ الْمَصَالِحِ ، وَهُوَ الْأَنْظَرُ فَيُقَدَّمُ الْمُحَرَّمُ هَا هُنَا فَيَكُونُ الْوَرَعُ التَّرْكَ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ مَكْرُوهٌ فَلَا وَرَعَ لِتَسَاوِي الْجِهَتَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ وَالْوَاجِبِ ، وَيُمْكِنُ تَرْجِيحُ الْمَكْرُوهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ ، وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ تَجْرِي قَاعِدَةُ الْوَرَعِ ، وَهَذَا مَعَ تَقَارُبُ الْأَدِلَّةِ أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الْمَذْهَبَيْنِ ضَعِيفَ الدَّلِيلِ جِدًّا بِحَيْثُ لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَنَقَضْنَاهُ لَمْ يَحْسُنْ الْوَرَعُ فِي مِثْلِهِ ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ إذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ شَرِيعَةً .
ا هـ .
وَذَهَبَ الْإِمَامُ ابْنُ الشَّاطِّ إلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ لَا يُعَدُّ مِنْ الْوَرَعِ ، وَقَالَ : لَا يَصِحُّ مَا قَالَهُ الشِّهَابُ لِوُجُوهٍ ( الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ) : أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْوَرَعَ فِي ذَلِكَ تَوَقُّعُ الْعِقَابِ ، وَأَيُّ عِقَابٍ يُتَوَقَّعُ فِي ذَلِكَ أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ لَا إشْكَالَ فِيهِ ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْوِيبِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْأَقْوَالِ دُونَ غَيْرِهِ فَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى عَدَمِ تَأْثِيمِ الْمُخْطِئِ وَعَدَمِ تَعْيِينِهِ فَلَا يَصِحُّ دُخُولُ الْوَرَعِ فِي خِلَافِ الْعُلَمَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) : أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى دُخُولِ الْوَرَعِ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَا

يُتَوَهَّمُ مِنْ تَوَقُّعِ الْإِثْمِ وَالْعِقَابِ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ بِالدَّلِيلِ الْإِجْمَاعِيِّ الْقَطْعِيِّ ( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) : كَيْفَ يَصِحُّ دُخُولُ الْوَرَعِ فِي ذَلِكَ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } فَأَطْلَقَ الْقَوْلَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ ، وَلَا تَفْصِيلٍ ، وَلَا تَنْبِيهٍ عَلَى وَجْهِ الْوَرَعِ فِي ذَلِكَ ( الْوَجْهُ الرَّابِعُ ) أَنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ التَّنْبِيهُ فِي ذَلِكَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَعْنِي الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَا غَيْرَهُمْ مِنْ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِ ( الْوَجْهُ الْخَامِسُ ) أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ الْخِلَافِ لَا يَتَأَتَّى فِي مِثْلِ مَا مَثَّلَ بِهِ الشِّهَابُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَالِانْكِفَافِ عَنْهُ ، فَإِنْ أَقْدَمَ الْمُكَلَّفُ فَقَدْ وَافَقَ مَذْهَبَ الْمُحَلِّلِ ، وَإِنْ انْكَفَّ عَنْهُ فَقَدْ وَافَقَ مَذْهَبَ الْمُحَرِّمِ ، فَأَيْنَ الْخُرُوجُ عَنْ الْخِلَافِ إنَّمَا ذَلِكَ عَمَلٌ عَلَى وَفْقِ أَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ لَا خُرُوجٌ عَنْ الْمَذْهَبَيْنِ ، وَمِثَالُهُ أَكْلُ لُحُومِ الْخَيْلِ ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَمْنُوعٌ ، أَوْ مَكْرُوهٌ عِنْدَ مَالِكٍ فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى الْأَكْلِ فَذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ انْكَفَّ فَذَلِكَ مَذْهَبُ مَالِكٍ قَالَ : وَمَا قَالَهُ فِيمَا إذَا اخْتَلَفُوا لَنَا فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ وَعَدَمِهَا مِنْ أَنَّ الْقَائِلَ بِهَا مُثْبِتٌ لِأَمْرٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ الثَّانِي ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَإِنَّهُ إنْ عَنَى بِتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ كَمَا إذَا قَالَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ لِزَيْدٍ عِنْدَ عَمْرٍو دَيْنًا وَقَالَتْ الْأُخْرَى : لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلَا تَعَارُضَ ؛ لِأَنَّ النَّافِيَةَ مَعْنَى نَفْيِهَا أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ أَنَّ لَهُ عِنْدَهُ شَيْئًا أَوْ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلَا تَعَارُضَ .
وَلَيْسَ نَفْيُهَا

أَنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ يَتَعَذَّرُ الْعِلْمُ بِهِ عَادَةً ، وَإِنْ عَنَى كَمَا إذَا قَالَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ رَأَيْنَاهُ يَوْمَ عَرَفَةَ مِنْ عَامِ سَبْعِمِائَةٍ بِمَكَّةَ وَقَالَتْ الْأُخْرَى : رَأَيْنَاهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ بِالْمَدِينَةِ فَهَذَا تَعَارُضٌ ، وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيمُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى إلَّا بِالتَّرْجِيحِ ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ الَّتِي تُشْبِهُ مَسْأَلَةَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا الصُّورَةُ الْأُولَى ، فَإِذَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي مِثْلِ هَذَا الِاجْتِهَادِ ثَبَتَ الْخِلَافُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ لِأَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إلَّا عِنْدَ مَنْ رَجَحَ عِنْدَهُ كَالْمُجْتَهِدِينَ ، وَكُلُّ مَنْ رَجَحَ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْمَذْهَبُ لَا يَسُوغُ لَهُ تَرْكُهُ فَلَا وَرَعَ بِاعْتِبَارِ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَلَا بُدَّ لِمَنْ حُكْمُهُ التَّقْلِيدُ أَنْ يَعْمَلَ بِالتَّقْلِيدِ ، فَإِذَا قَلَّدَ أَحَدَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا يَتَمَكَّنُ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ ، وَفِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ أَنْ يُقَلِّدَ الْآخَرَ ، وَلَا أَنْ يَنْظُرَ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْمُكَلَّفُونَ كُلُّهُمْ دَائِرُونَ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ ، وَالْمُجْتَهِدُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْأَخْذِ بِغَيْرِ مَا اقْتَضَاهُ نَظَرُهُ ، وَالْمُقَلِّدُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْأَخْذِ بِاَلَّذِي يَقْتَضِي خِلَافَ مَذْهَبِ مُقَلِّدِهِ فِي حَقِّهِ فَلَا يَصِحُّ الْوَرَعُ الَّذِي يَقْتَضِي خِلَافَ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ فِي حَقِّهِ وَخِلَافَ مَذْهَبِ الْمُقَلِّدِ فِي حَقِّ الْمُقَلِّدِ ، وَإِذَا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْوَرَعِ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَلَا فِي حَقِّ الْمُقَلِّدِينَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا ثَالِثَ يَصِحُّ ذَلِكَ الْوَرَعُ فِي حَقِّهِ قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فَلُزُومُ عَمَلِ الْمُجْتَهِدِ ، وَمُقَلِّدِهِ عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَى اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ كَمَا يَمْنَعُ حُصُولُ الْوَرَعِ فِي اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ ؛ إذْ يَتَعَيَّنُ الْفِعْلُ فِي الْأَوَّلِ .
وَالتَّرْكُ فِي الثَّانِي كَذَلِكَ يَمْنَعُ حُصُولُهُ

فِي اخْتِلَافِهَا بِالْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ وَالتَّحْلِيلِ أَوْ بِالتَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ حَتَّى عِنْدَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ مُشْتَرَكَةٌ فِي جَوَازِ الْفِعْلِ وَالِاثْنَانِ مُشْتَرَكَانِ فِي رُجْحَانِ التَّرْكِ وَأَنَّ تَوَهُّمَ صِحَّةِ ذَلِكَ ضَرُورَةَ أَنَّ اللُّزُومَ الْمَذْكُورَ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ فِي الْمُقَلِّدِ : إنَّهُ يَسُوغُ لَهُ تَقْلِيدُ أَحَدِ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ مَثَلًا لَا بِعَيْنِهِ ، وَيَفْعَلُ الْفِعْلَ بِنِيَّةِ التَّفْوِيضِ لَكِنْ لَا أَعْرِفُهُ لِأَحَدٍ ، وَلَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا قَالَ : وَمَا وَجَّهَ بِهِ الشِّهَابُ تَسْوِيغَ تَقْلِيدِ أَحَدِ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ مَثَلًا مِنْ أَنَّ مُقَلِّدَ الشَّافِعِيِّ يَعْتَقِدُ فِي مَسْحِ رَأْسِهِ كُلِّهِ النَّدْبَ عَلَى رَأْيِ الشَّافِعِيِّ وَالْوُجُوبَ عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ ، وَإِنْ كَانَ النَّدْبُ وَالْوُجُوبُ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ أَضْدَادًا لَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ إنَّمَا يَمْتَنِعُ إذَا اتَّحَدَ الْمُتَعَلَّقُ ، وَالْإِضَافَةُ مَعَ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ أَمَّا اتِّحَادُ الْمَحَلِّ فَقَطْ مَعَ اخْتِلَافِ الْإِضَافَةِ كَمَا هُنَا فَإِنَّهُ كَمَا عَلِمْت اعْتَقَدَ مَسْحَ الرَّأْسِ وَاجِبًا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَمَنْدُوبًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَلَا يُمْنَعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي ذِهْنِهِ بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ وَالْإِضَافَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ زَيْدًا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَبٌ لِعَمْرٍو ، وَلَيْسَ أَبًا لِخَالِدٍ فَيَجْتَمِعُ فِيهِ النَّقِيضَانِ بِاعْتِبَارِ إضَافَتَيْنِ .
ا هـ .
فَهُوَ وَإِنْ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ التَّنَاقُضَ وَالتَّضَادَّ لَا يَتَحَقَّقَانِ إلَّا بِشَرْطِ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ ، وَالْمُتَعَلَّقِ وَالْإِضَافَةِ لَا صِحَّةَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ اشْتِرَاطُ تِلْكَ الشُّرُوطِ فِي التَّنَاقُضِ وَالتَّضَادِّ صَحِيحًا ، وَذَلِكَ لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ وَمُقَلِّدَهُ مُوَافَقَةُ اجْتِهَادِهِ فِي عَمَلِهِ وَاعْتِقَادِهِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ ، وَعَلَى مُقَلِّدِهِ مُخَالَفَتُهُ فَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ

الْفُقَهَاءِ مِنْ أَنَّ الْوَرَعَ لَا يُدْخِلُ فِي مَسْحِ الشَّافِعِيِّ مَثَلًا جَمِيعَ رَأْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ فَقَدْ تَرَكَ النَّدْبَ فَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ بَلْ هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ فَقَطْ .
وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ الْوُجُوبَ لَمْ يُجْزِهِ الْمَسْحُ إلَّا بِنِيَّةِ النَّدْبِ فَمَا حَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ ، وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيُّ إذَا بَسْمَلَ وَكُلُّ مَوْضِعٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ .
ا هـ .
وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَهَا هُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ دُخُولَ الْوَرَعِ فِي مَسْحِ الشَّافِعِيِّ مَثَلًا جَمِيعَ رَأْسِهِ قَالُوا : لِأَنَّهُ إنْ اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ فَقَدْ تَرَكَ النَّدْبَ فَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ ، بَلْ هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ فَقَطْ ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ الْوُجُوبَ لَمْ يُجْزِهِ الْمَسْحُ إلَّا بِنِيَّةِ النَّدْبِ فَمَا حَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ ، وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيُّ إذَا بَسْمَلَ ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ يُورِدُونَ فِيهِ هَذَا السُّؤَالَ ، وَلَيْسَ بِوَارِدٍ بِسَبَبِ أَنَّا نَقُولُ : يُعْتَقَدُ فِي مَسْحِ رَأْسِهِ كُلِّهِ النَّدْبُ عَلَى رَأْيِ الشَّافِعِيِّ وَالْوُجُوبُ عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ فَإِنَّ النَّدْبَ وَالْوُجُوبَ وَالْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ أَضْدَادٌ لَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ إنَّمَا يَمْتَنِعُ إذَا اتَّحَدَ الْمُتَعَلِّقُ مَعَ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ أَمَّا اتِّحَادُ الْمَحَلِّ فَقَطْ فَلَا يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَةَ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ ، وَالْبِغْضَةُ ضِدُّ الْمَحَبَّةِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْقَلْبِ الْعَدَاوَةُ لِلْكَافِرِينَ ، وَالصَّدَاقَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمَحَبَّةُ لِلصَّالِحِينَ ، وَالْبِغْضَةُ لِلطَّالِحِينَ بِسَبَبِ أَنَّ مُتَعَلَّقَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ غَيْرُ مُتَعَلَّقِ الْآخَرِ كَذَلِكَ هَا هُنَا اخْتَلَفَتْ الْإِضَافَةُ فَنَقُولُ : اعْتَقَدَ هَذَا الْفِعْلَ وَاجِبًا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ ، وَمَنْدُوبًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَيَجْمَعُهُمَا فِي ذِهْنِهِ بِاعْتِبَارِ جِهَتَيْنِ وَإِضَافَتَيْنِ كَمَا يَصْدُقُ أَنَّ زَيْدًا أَبٌ لِعَمْرٍو لَيْسَ أَبًا لِخَالِدٍ فَاجْتَمَعَ فِيهِ النَّقِيضَانِ بِاعْتِبَارِ إضَافَتَيْنِ ، وَقَدْ أَجْمَعَ أَرْبَابُ الْمَعْقُولِ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ التَّنَاقُضِ وَالتَّضَادِّ اتِّحَادَ الْإِضَافَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِثَالُهُ فِي الْأُبُوَّةِ ، فَإِذَا تَعَدَّدَتْ الْإِضَافَةُ اجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ وَالضِّدَّانِ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَجْتَمِعُ فِي الذِّهْنِ الْوَاحِدِ فِي

الزَّمَنِ الْوَاحِدِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ وَالْكَرَاهَةُ وَالنَّدْبُ وَالْإِبَاحَةُ بِاعْتِبَارِ خَمْسَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْقَائِلِينَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَصَوَّرْنَا الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ الْإِجْزَاءُ وَالِاسْتِيفَاءُ لِلْمَقَاصِدِ وَالْوَرَعُ وَالْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ مِنْ غَيْرِ تَنَاقُضٍ فَتَأَمَّلْهُ فَقَدْ نَازَعَنِي فِيهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ الْفُضَلَاءِ

قَالَ ( وَهَا هُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ دُخُولَ الْوَرَعِ فِي مَسْحِ الشَّافِعِيِّ مَثَلًا جَمِيعَ رَأْسِهِ قَالُوا : لِأَنَّهُ إنْ اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ فَقَدْ تَرَكَ النَّدْبَ فَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ بَلْ هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ فَقَطْ ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ الْوُجُوبَ لَمْ يُجْزِهِ الْمَسْحُ إلَّا بِنِيَّةِ النَّدْبِ فَمَا حَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ ، وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيُّ إذَا بَسْمَلَ ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ يُورِدُونَ فِيهِ هَذَا السُّؤَالَ ، وَلَيْسَ بِوَارِدٍ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : يُعْتَقَدُ فِي مَسْحِ رَأْسِهِ كُلِّهِ النَّدْبُ عَلَى رَأْيِ الشَّافِعِيِّ وَالْوُجُوبُ عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ النَّدْبِ وَالْوُجُوبِ فَإِنَّ النَّدْبَ وَالْوُجُوبَ وَالْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ أَضْدَادٌ وَلَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ إنَّمَا يَمْتَنِعُ إذَا اتَّحَدَ الْمُتَعَلَّقُ مَعَ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ أَمَّا اتِّحَادُ الْمَحَلِّ فَقَطْ فَلَا يَمْتَنِعُ ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَةَ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ ، وَالْبِغْضَةُ ضِدُّ الْمَحَبَّةِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْقَلْبِ الْعَدَاوَةُ لِلْكَافِرِينَ وَالصَّدَاقَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمَحَبَّةُ لِلصَّالِحِينَ ، وَالْبِغْضَةُ لِلطَّالِحِينَ بِسَبَبِ أَنَّ مُتَعَلَّقَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ غَيْرُ مُتَعَلَّقِ الْآخَرِ كَذَلِكَ هَا هُنَا اخْتَلَفَتْ الْإِضَافَةُ فَنَقُولُ : اعْتِقَادُ هَذَا الْفِعْلِ وَاجِبًا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ ، وَمَنْدُوبًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَيَجْمَعُهَا فِي ذِهْنِهِ بِاعْتِبَارِ جِهَتَيْنِ وَإِضَافَتَيْنِ كَمَا يَصْدُقُ أَنَّ زَيْدًا أَبٌ لِعَمْرٍو ، وَلَيْسَ أَبًا لِخَالِدٍ فَاجْتَمَعَ فِيهِ النَّقِيضَانِ بِاعْتِبَارِ إضَافَتَيْنِ ، وَقَدْ أَجْمَعَ أَرْبَابُ الْمَعْقُولِ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ التَّنَاقُضِ وَالتَّضَادِّ اتِّحَادَ الْإِضَافَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِثَالُهُ فِي الْأُبُوَّةِ ، فَإِذَا تَعَدَّدَتْ الْإِضَافَةُ اجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ وَالضِّدَّانِ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَجْتَمِعُ فِي الذِّهْنِ

الْوَاحِدِ فِي الزَّمَنِ الْوَاحِدِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ وَالْكَرَاهَةُ وَالنَّدْبُ وَالْإِبَاحَةُ بِاعْتِبَارِ خَمْسَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْقَائِلِينَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَصَوَّرْنَا الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ الْإِجْزَاءُ وَالِاسْتِيفَاءُ لِلْمَقَاصِدِ وَالْوَرَعُ وَالْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ مِنْ غَيْرِ تَنَاقُضٍ فَتَأَمَّلْهُ فَقَدْ نَازَعَنِي فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الْفُضَلَاءِ ) قُلْت : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَرَعَ لَا يَحْصُلُ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ لِلُزُومِ الْمَذْهَبِ لِلْمُجْتَهِدِ وَالْمُقَلِّدِ جَمِيعًا لَا سِيَّمَا عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ ؛ إذْ يَتَعَيَّنُ الْفِعْلُ فِي الْأَوَّلِ ، وَالتَّرْكُ فِي الثَّانِي ، وَأَمَّا فِي الْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ وَالتَّحْلِيلِ أَوْ فِي التَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ فَقَدْ يَتَوَهَّمُ صِحَّةَ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ مُشْتَرَكَةٌ فِي جَوَازِ الْفِعْلِ ، وَالِاثْنَانِ مُشْتَرِكَانِ فِي رُجْحَانِ التَّرْكِ لَكِنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ ذَلِكَ لُزُومُ عَمَلِ الْمُجْتَهِدِ ، وَمُقَلِّدُهُ عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَى اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ إلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ فِي الْمُقَلِّدِ : إنَّهُ يَسُوغُ لَهُ تَقْلِيدُ أَحَدِ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ مَثَلًا لَا بِعَيْنِهِ وَيَفْعَلُ الْفِعْلَ بِنِيَّةِ التَّفْوِيضِ لَكِنْ لَا أَعْرِفُهُ لِأَحَدٍ ، وَلَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا ، وَمَا وَجْهُ الشِّهَابِ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّنَاقُضَ وَالتَّضَادَّ إنَّمَا يَتَحَقَّقَانِ بِشَرْطِ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ ، وَالْمُتَعَلَّقُ وَالْإِضَافَةُ لَا يَصِحُّ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ اشْتِرَاطُ تِلْكَ الشُّرُوطِ فِي التَّنَاقُضِ وَالتَّضَادِّ صَحِيحًا ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ وَمُقَلِّدَهُ مُوَافَقَةُ اجْتِهَادِهِ فِي عَمَلِهِ وَاعْتِقَادِهِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ وَعَلَى مُقَلِّدِهِ مُخَالَفَتُهُ فَظَهَرَ أَنَّ الْقَوْلَ الصَّحِيحَ هُوَ قَوْلُ مُنَازِعِي الشِّهَابِ فِي ذَلِكَ - وَاَللَّهُ تَعَالَى - أَعْلَمُ

( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْمَالِكِيَّ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إذَا لَمْ يَتَدَلَّك فِي غُسْلِهِ أَوْ يَمْسَحْ جَمِيعَ رَأْسِهِ وَنَحْوَهُ ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاةِ الْمَالِكِيِّ إذَا لَمْ يُبَسْمِلْ ، وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ وَالْوَرَعَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِصَوْنِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا عَنْ الْبُطْلَانِ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَالْوَرَعُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ لِتَحْصِيلِ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ بَلْ عِبَادَةُ كُلِّ مُقَلِّدٍ لِإِمَامٍ مُعْتَبَرٍ صَحِيحَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَأَجْمَعَ كُلُّ فَرِيقٍ مَعَ خَصْمِهِ عَلَى صِحَّةِ تَصَرُّفَاتِهِ وَعِبَادَاتِهِ عَلَى وَجْهِ التَّقْلِيدِ الْمُعْتَبَرِ فَإِنْ قُلْت : فَإِذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ الْوَاقِعَةُ صَحِيحَةً بِالْإِجْمَاعِ فَمَا فَائِدَةُ الْوَرَعِ وَكَيْفَ يُشْرَعُ الْوَرَعُ بَعْدَ ذَلِكَ قُلْت : فَائِدَةُ الْوَرَعِ وَسَبَبُ مَشْرُوعِيَّتِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ أَدِلَّةِ الْمُخْتَلِفِينَ وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَى كُلِّ دَلِيلٍ فَلَا يَبْقَى فِي النُّفُوسِ تَوَهُّمٌ أَنَّهُ قَدْ أَهْمَلَ دَلِيلًا لَعَلَّ مُقْتَضَاهُ هُوَ الصَّحِيحُ فَبِالْجَمْعِ يَنْتَفِي ذَلِكَ ، فَأَثَرُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي جَمِيعِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَدِلَّةِ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ وَالتَّصَرُّفِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ الْمَالِكِيُّ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاةِ الشَّافِعِيِّ وَبِالْعَكْسِ لَكَانَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ عِنْدَ الْأُخْرَى مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ فِسْقًا لِتَرْكِهَا الصَّلَاةَ طُولَ عُمْرِهَا ، وَلَا تُقْبَلُ لَهَا شَهَادَةٌ ، وَتَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْفُسَّاقِ أَبَدَ الدَّهْرِ ، وَيَطَّرِدُ ذَلِكَ فِي الْفِرَقِ كُلِّهَا مِنْ جِهَةِ مُخَالِفِهَا ، وَهَذَا فَسَادٌ عَظِيمٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ بَلْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمِيعُ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَعْدَلِ النَّاسِ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ ، وَلَا يَقُولُ بِفِسْقِ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا مُنَافِقٌ مَارِقٌ مِنْ الدِّينِ

قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَالِكِيَّ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إذَا لَمْ يَتَدَلَّك فِي غُسْلِهِ ، أَوْ يَمْسَحْ جَمِيعَ رَأْسِهِ وَنَحْوُهُ وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاةِ الْمَالِكِيِّ إذَا لَمْ يُبَسْمِلْ وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ وَالْوَرَعَ إنَّمَا هُوَ لِصَوْنِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا عَنْ الْبُطْلَانِ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَالْوَرَعُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ لِتَحْصِيلِ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ بَلْ عِبَادَةُ كُلِّ مُقَلِّدٍ لِإِمَامٍ مُعْتَبَرٍ صَحِيحَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَأَجْمَعَ كُلُّ فَرِيقٍ مَعَ خَصْمِهِ عَلَى صِحَّةِ تَصَرُّفَاتِهِ وَعِبَادَتِهِ الْوَاقِعَةِ عَلَى وَجْهِ التَّقْلِيدِ الْمُعْتَبَرِ ، فَإِنْ قُلْت : إذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ صَحِيحَةً بِالْإِجْمَاعِ ، فَمَا فَائِدَةُ الْوَرَعِ ، وَكَيْفَ يُشْرَعُ الْوَرَعُ بَعْدَ ذَلِكَ ) قُلْت : السُّؤَالُ وَارِدٌ قَالَ ( قُلْت : فَائِدَةُ الْوَرَعِ وَسَبَبُ مَشْرُوعِيَّتِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ أَدِلَّةِ الْمُخْتَلِفِينَ وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَى كُلِّ دَلِيلٍ فَلَا يَبْقَى فِي النَّفْسِ تَوَهُّمٌ أَنَّهُ قَدْ أَهْمَلَ دَلِيلًا لَعَلَّ مُقْتَضَاهُ هُوَ الصَّحِيحُ فَبِالْجَمْعِ يَنْتَفِي ذَلِكَ فَأَثَرُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي جَمِيعِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَدِلَّةِ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ وَالتَّصَرُّفِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ ) قُلْت : قَدْ تَأَمَّلْت ذَلِكَ فَلَمْ أَجِدْهُ صَحِيحًا وَكَيْفَ يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَ مُقْتَضَى دَلِيلَيْنِ مُوجِبٍ وَمُحَرِّمٍ ، وَأَحَدُهُمَا يَقْتَضِي لُزُومَ الْفِعْلِ ، وَالثَّانِي يَقْتَضِيَ لُزُومَ التَّرْكِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَمْرِ الْوَاحِدِ مُحَالٌ ، وَلَا يُغْنِي فِي ذَلِكَ اعْتِقَادُ اخْتِلَافِ الْإِضَافَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِمَامَيْنِ وَمَا قَالَهُ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ صَحِيحٌ .

( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) قَالَ الْأَصْلُ الْوَرَعُ فِي تَقْلِيدِ الشَّافِعِيِّ مَثَلًا مَالِكًا فِي تَدَلُّكِهِ فِي غُسْلِهِ ، وَفِي مَسْحِهِ جَمِيعَ رَأْسِهِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ صِحَّةَ الْعِبَادَةِ ، وَإِنْ اعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمَالِكِيَّ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إذَا لَمْ يَتَدَلَّك فِي غُسْلِهِ أَوْ لَمْ يَمْسَحْ جَمِيعَ رَأْسِهِ وَنَحْوِهِ ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ مَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ إذَا لَمْ يُبَسْمِلْ ، وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ وَالْوَرَعَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِصَوْنِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا عَنْ الْبُطْلَانِ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ بَلْ عِبَادَةُ كُلِّ مُقَلِّدٍ لِإِمَامٍ مُعْتَبَرٍ صَحِيحَةٌ بِالْإِجْمَاعِ ؛ إذْ لَوْ لَمْ يُجْمِعْ كُلُّ فَرِيقٍ مَعَ خَصْمِهِ عَلَى صِحَّةِ تَصَرُّفَاتِهِ وَعِبَادَتِهِ عَلَى وَجْهِ التَّقْلِيدِ الْمُعْتَبَرِ بَلْ كَانَ الْمَالِكِيُّ مَثَلًا يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاةِ الشَّافِعِيِّ وَبِالْعَكْسِ لَكَانَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ عِنْدَ الْأُخْرَى مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ فِسْقًا لِتَرْكِهَا الصَّلَاةَ طُولَ عُمْرِهَا وَلَا تَقْبَلُ لَهَا شَهَادَةً وَتُجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامَ الْفُسَّاقِ أَبَدَ الدَّهْرِ وَيَطَّرِدُ ذَلِكَ فِي الْفِرَقِ كُلِّهَا مِنْ جِهَةِ مُخَالِفِهَا ، وَهَذَا فَسَادٌ عَظِيمٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ بَلْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمِيعُ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَعْدَلِ النَّاسِ ، وَلَا يَقُولُ بِفِسْقِ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا مُنَافِقٌ مَارِقٌ مِنْ الدِّينِ .
ا هـ .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ : وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّهُ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْوَرَعَ مَا فَائِدَتُهُ وَكَيْفَ يُشْرَعُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ الْعِبَادَةُ الْوَاقِعَةُ صَحِيحَةً .
وَلَا يَصِحُّ دَفْعُ الشِّهَابُ لَهُ بِأَنَّ فَائِدَةَ الْوَرَعِ وَسَبَبَ مَشْرُوعِيَّتِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ أَدِلَّةِ الْمُخْتَلِفِينَ ، وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَى كُلِّ دَلِيلٍ فَلَا يَبْقَى فِي النُّفُوسِ تَوَهُّمٌ أَنَّهُ قَدْ أَهْمَلَ دَلِيلًا لَعَلَّ مُقْتَضَاهُ هُوَ الصَّحِيحُ فَبِالْجَمْعِ يَنْتَفِي ذَلِكَ فَأَثَرُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي جَمِيعِ مُقْتَضَيَاتِ

الْأَدِلَّةِ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ وَالتَّصَرُّفِ .
ا هـ .
إذْ كَيْفَ يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَ مُقْتَضَى دَلِيلَيْنِ مُوجِبٌ وَمُحَرِّمٌ ، وَأَحَدُهُمَا يَقْتَضِي لُزُومَ الْفِعْلِ ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي لُزُومَ التَّرْكِ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَمْرِ الْوَاحِدِ مُحَالٌ ، وَلَا يُغْنِي فِي ذَلِكَ اعْتِقَادُ اخْتِلَافِ الْإِضَافَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِمَامَيْنِ ا هـ .

( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَوَّلِ الْعَصْرِ الَّذِي أَدْرَكْته هَلْ يَدْخُلُ الْوَرَعُ وَالزُّهْدُ فِي الْمُبَاحَاتِ أَمْ لَا فَادَّعَى ذَلِكَ بَعْضُهُمْ ، وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ ، وَضَيَّقَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَأَكْثَرُوا التَّشْنِيعَ فَقَالَ الْأَبْيَانِيُّ فِي مُصَنَّفِهِ : لَا يَدْخُلُ الْوَرَعُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - سَوَّى بَيْنَ طَرَفَيْهَا ، وَالْوَرَعُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، وَالنَّدْبُ مَعَ التَّسْوِيَةِ مُتَعَذِّرٌ ، وَقَالَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ الْحِمْيَرِيُّ : يَدْخُلُ الْوَرَعُ فِي الْمُبَاحَاتِ ، وَمَا زَالَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَى الزُّهْدِ فِي الْمُبَاحَاتِ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا } وَغَيْرُهُ مِنْ النُّصُوصِ ، وَكُلٌّ مِنْ الشَّيْخَيْنِ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ ؛ إذْ لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي الْكَلَامِ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُبَاحَاتِ لَا زُهْدَ فِيهَا ، وَلَا وَرَعَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مُبَاحَاتٌ ، وَفِيهَا الزُّهْدُ وَالْوَرَعُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الِاسْتِكْثَارَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ يَحُوجُ إلَى كَثْرَةِ الِاكْتِسَابِ الْمُوقِعِ فِي الشُّبُهَاتِ ، وَقَدْ يُوقِعُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ ، وَكَثْرَةُ الْمُبَاحَاتِ أَيْضًا تُفْضِي إلَى بَطَرِ النُّفُوسِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْعَبِيدِ وَالْخَيْلِ وَالْخَوَلِ وَالْمَسَاكِنِ الْعَلِيَّةِ وَالْمَآكِلِ الشَّهِيَّةِ وَالْمَلَابِسِ اللَّيِّنَةِ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ صَاحِبُهَا مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ مَوَاقِفِ الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّضَرُّعِ لِعِزِّ الرُّبُوبِيَّةِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْفُقَرَاءُ أَهْلُ الْحَاجَاتِ وَالْفَاقَاتِ وَالضَّرُورَاتِ ، وَمَا يَلْزَمُ قُلُوبَهُمْ مِنْ الْخُضُوعِ وَالذِّلَّةِ لِذِي الْجَلَالِ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ مِنْ نَوَالِهِ وَفَضْلِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ؛ لِأَنَّ أَنْوَاعَ الضَّرُورَاتِ تَبْعَثُ عَلَى ذَلِكَ قَهْرًا ، وَالْأَغْنِيَاءُ بَعِيدُونَ عَنْ هَذِهِ الْخُطَّةِ فَكَانَ الزُّهْدُ وَالْوَرَعُ فِي الْمُبَاحَاتِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مُبَاحَاتٌ ، وَيَدُلُّ عَلَى

اعْتِبَارِ مَا تَقَدَّمَ قَوْله تَعَالَى { كَلًّا إنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } وقَوْله تَعَالَى { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } أَيْ مِنْ أَجْلِ أَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ فَلَوْ كَانَ النُّمْرُودُ فَقِيرًا حَقِيرًا مُبْتَلًى بِالْحَاجَاتِ وَالضَّرُورَاتِ لَمْ تَحْتَدَّ نَفْسُهُ إلَى مُنَازَعَةِ إبْرَاهِيمَ وَدَعْوَاهُ الْإِحْيَاءَ أَوْ الْإِمَاتَةَ ، وَتَعَرُّضِهِ لِإِحْرَاقِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنِّيرَانِ ، وَإِنَّمَا وَصَلَ إلَى هَذِهِ الْمَعَاطِبِ وَالْمَهَالِكِ بِسَبَبِ أَنَّهُ مَلِكٌ ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ الْكُفَّارِ { قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَك وَاتَّبَعَك الْأَرْذَلُونَ } وَفِي الْأَنْبِيَاءِ الْآيَةُ الْأُخْرَى { وَمَا نَرَاك اتَّبَعَك إلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اتِّبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُبَادِرِينَ إلَى تَصْدِيقِهِمْ إنَّمَا هُمْ الْفُقَرَاءُ وَالضُّعَفَاءُ ، وَأَعْدَاءُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمُعَانِدُوهُمْ هُمْ الْأَغْنِيَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ } وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى { إلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا } وَلَمْ يَقُلْ إلَّا قَالَ فُقَرَاؤُهَا فَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ فِي هَذِهِ الدَّارِ هُمْ الْأَقَلُّونَ فِي تِلْكَ الدَّارِ ، وَالْأَقَلُّونَ فِي هَذِهِ الدَّارِ هُمْ الْأَكْثَرُونَ فِي تِلْكَ الدَّارِ فَهَذَا وَجْهُ مَا كَانَ السَّلَفُ يَعْتَمِدُونَهُ مِنْ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ فِي الْمُبَاحَاتِ ، وَهُوَ وَجْهُ لُزُومِ الذَّمِّ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا } فَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ
، وَكَذَلِكَ مَا قَالَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ وَجَمِيعُ مَا قَالَ فِي الْفُرُوقِ الْخَمْسَةِ بَعْدَ هَذَا الْفَرْقِ صَحِيحٌ .

( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) قَالَ الْأَصْلُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ فِي دُخُولِ الْوَرَعِ وَالزُّهْدِ فِي الْمُبَاحَاتِ وَعَدَمِ دُخُولِهَا فِيهَا خِلَافٌ وَقَعَ فِي أَوَّلِ الْعَصْرِ الَّذِي أَدْرَكْته يَعْنِي أَوَائِلَ الْقَرْنِ السَّابِعِ فَادَّعَى ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ ، وَضَيَّقَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَأَكْثَرُوا التَّشْنِيعَ فَقَالَ الْأَبْيَانِيُّ فِي مُصَنَّفِهِ : لَا يَدْخُلُ الْوَرَعُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سَوَّى بَيْنَ طَرَفَيْهَا ، وَالْوَرَعُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، وَالنَّدْبُ مَعَ التَّسْوِيَةِ مُتَعَذِّرٌ ، وَقَالَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ الْحِمْيَرِيُّ : يَدْخُلُ الْوَرَعُ فِي الْمُبَاحَاتِ ، وَمَا زَالَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَى الزُّهْدِ فِي الْمُبَاحَاتِ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا } وَغَيْرُهُ مِنْ النُّصُوصِ وَكُلٌّ مِنْ الشَّيْخَيْنِ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ ؛ إذْ لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي الْكَلَامِ .
وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُبَاحَاتِ لَا زُهْدَ فِيهَا ، وَلَا وَرَعَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مُبَاحَاتٌ ، وَفِيهَا الزُّهْدُ وَالْوَرَعُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الِاسْتِكْثَارَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ يَحُوجُ إلَى كَثْرَةِ الِاكْتِسَابِ الْمُوقِعِ فِي الشُّبُهَاتِ بَلْ قَدْ يُوقِعُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَكَثْرَةُ الْمُبَاحَاتِ أَيْضًا تَقْضِي إلَى بَطَرِ النُّفُوسِ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْعَبِيدِ وَالْخَيْلِ وَالْخَوَلِ وَالْمَسَاكِنِ الْعَلِيَّةِ وَالْمَآكِلِ الشَّهِيَّةِ وَالْمَلَابِسِ اللَّيِّنَةِ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ صَاحِبُهَا مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ مَوْقِفِ الْعُبُودِيَّةِ ، وَعَنْ التَّضَرُّعِ لِعِزِّ الرُّبُوبِيَّةِ ، كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْفُقَرَاءُ أَهْلُ الْحَاجَاتِ وَالْفَاقَاتِ وَالضَّرُورَاتِ ، وَمَا يَلْزَمُ قُلُوبَهُمْ مِنْ الْخُضُوعِ وَالذِّلَّةِ لِذِي الْجَلَالِ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ مِنْ نَوَالِهِ وَفَضْلِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ؛ لِأَنَّ أَنْوَاعَ الضَّرُورَاتِ تَبْعَثُ عَلَى ذَلِكَ قَهْرًا ، وَالْأَغْنِيَاءُ بَعِيدُونَ عَنْ هَذِهِ الْخُطَّةِ فَدُخُولُ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ فِي

الْمُبَاحَاتِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مُبَاحَاتٌ ، وَيَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْجِهَةِ الْأُولَى فِيهَا قَوْله تَعَالَى { كَلًّا إنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } وقَوْله تَعَالَى { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } أَيْ مِنْ أَجْلِ أَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ فَلَوْ كَانَ النُّمْرُودُ فَقِيرًا حَقِيرًا مُبْتَلًى بِالْحَاجَاتِ وَالضَّرُورَاتِ لَمْ يَحْتَدَّ نَفْسَهُ إلَى مُنَازَعَةِ إبْرَاهِيمَ وَدَعْوَاهُ الْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ وَتَعَرُّضِهِ لِإِحْرَاقِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنِّيرَانِ ، وَإِنَّمَا وَصَلَ إلَى هَذِهِ الْمَعَاطِبِ وَالْمَهَالِكِ بِسَبَبِ أَنَّهُ مَلِكٌ ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ الْكُفَّارِ { قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَك وَاتَّبَعَك الْأَرْذَلُونَ } وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى { وَمَا نَرَاك اتَّبَعَك إلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اتِّبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُبَادِرِينَ إلَى تَصْدِيقِهِمْ إنَّمَا هُمْ الْفُقَرَاءُ وَالضُّعَفَاءُ وَأَنَّ أَعْدَاءَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمُعَانِدَيْهِمْ إنَّمَا هُمْ الْأَغْنِيَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ } .
وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى { إلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا } وَلَمْ يَقُلْ إلَّا قَالَ فُقَرَاؤُهَا فَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ فِي هَذِهِ الدَّارِ هُمْ الْأَقَلُّونَ فِي تِلْكَ الدَّارِ ، وَأَنَّ الْأَقَلِّينَ فِي هَذِهِ الدَّارِ هُمْ الْأَكْثَرُونَ فِي تِلْكَ الدَّارِ فَهَذَا وَجْهُ مَا كَانَ السَّلَفُ يَعْتَمِدُونَهُ فِي دُخُولِ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ فِي الْمُبَاحَاتِ ، وَهُوَ وَجْهُ لُزُومِ الذَّمِّ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْله تَعَالَى { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا } وَبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ .
ا هـ .
وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّوَكُّلِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَرْكِ الْأَسْبَابِ ) اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ الْتَبَسَ هَاتَانِ الْقَاعِدَتَانِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ فِي عِلْمِ الرَّقَائِقِ فَقَالَ قَوْمٌ : لَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ إلَّا مَعَ تَرْكِ الْأَسْبَابِ ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ وَغَيْرِهِ وَقَالَ آخَرُونَ : لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ التَّوَكُّلِ وَتَرْكِ الْأَسْبَابِ ، وَلَا هُوَ هُوَ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ التَّوَكُّلَ هُوَ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فِيمَا يَجْلِبُهُ مِنْ خَيْرٍ ، أَوْ يَدْفَعُهُ مِنْ ضُرٍّ ، قَالَ الْمُحَقِّقُونَ : وَالْأَحْسَنُ مُلَابَسَةُ الْأَسْبَابِ مَعَ التَّوَكُّلِ لِلْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ ، أَمَّا الْمَنْقُولُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } فَأَمَرَ بِالِاسْتِعْدَادِ مَعَ الْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ } وقَوْله تَعَالَى { إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاِتَّخَذُوهُ عَدُوًّا } أَيْ تَحَرَّزُوا مِنْهُ فَقَدْ أَمَرَ بِاكْتِسَابِ التَّحَرُّزِ مِنْ الشَّيْطَانِ كَمَا يُتَحَرَّزُ مِنْ الْكُفَّارِ ، وَأَمَرَ - تَعَالَى - بِمُلَابَسَةِ أَسْبَابِ الِاحْتِيَاطِ وَالْحَذَرِ مِنْ الْكُفَّارِ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ وَكَانَ يَطُوفُ عَلَى الْقَبَائِلِ وَيَقُولُ مَنْ يَعْصِمُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي .
وَكَانَ لَهُ جَمَاعَةٌ يَحْرُسُونَهُ مِنْ الْعَدُوِّ حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّهُ يَعْصِمُك مِنْ النَّاسِ } وَدَخَلَ مَكَّةَ مُظَاهِرًا بَيْنَ دِرْعَيْنِ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ مِنْ الْحَدِيدِ ، وَكَانَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَأَكْمَلِ أَحْوَالِهِ مَعَ رَبِّهِ - تَعَالَى - يَدَّخِرُ قُوتَ سَنَةٍ لِعِيَالِهِ ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْمَلِكَ الْعَظِيمَ إذَا كَانَتْ لَهُ جَمَاعَةٌ ، وَلَهُمْ

عَوَائِدُ فِي أَيَّامٍ لَا يَحْسُنُ إلَّا فِيهَا أَوْ أَبْوَابٌ لَا تَخْرُجُ إلَّا مِنْهَا ، أَوْ أَمْكِنَةٌ لَا يُدْفَعُ إلَّا فِيهَا فَالْأَدَبُ مَعَهُ أَنْ لَا يُطْلَبَ مِنْهُ فِعْلٌ إلَّا حَيْثُ عَوَّدَهُ ، وَأَنْ لَا يُخَالِفَ عَوَائِدَهُ بَلْ يَجْرِي عَلَيْهَا ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - مَلِكُ الْمُلُوكِ وَأَعْظَمُ الْعُظَمَاءِ بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ رَتَّبَ مُلْكَهُ عَلَى عَوَائِدَ أَرَادَهَا ، وَأَسْبَابٍ قَدَّرَهَا ، وَرَبَطَ بِهَا آثَارَ قُدْرَتِهِ ، وَلَوْ شَاءَ لَمْ يَرْبِطْهَا فَجَعَلَ الرَّيَّ بِالشُّرْبِ ، وَالشِّبَعَ بِالْأَكْلِ ، وَالِاحْتِرَاقَ بِالنَّارِ وَالْحَيَاةَ بِالتَّنَفُّسِ فِي الْهَوَاءِ فَمَنْ طَلَبَ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - حُصُولَ هَذِهِ الْآثَارِ بِدُونِ أَسْبَابِهَا فَقَدْ أَسَاءَ الْأَدَبَ مَعَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بَلْ يَلْتَمِسُ فَضْلَهُ فِي عَوَائِدِهِ ، وَقَدْ انْقَسَمَتْ الْخَلَائِقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ قِسْمٌ عَامَلُوا اللَّهَ - تَعَالَى - بِاعْتِمَادِ قُلُوبِهِمْ عَلَى قُدْرَتِهِ - تَعَالَى - مَعَ إهْمَالِ الْأَسْبَابِ وَالْعَوَائِدِ فَلَجَّجُوا فِي الْبِحَارِ فِي زَمَنِ الْهَوْلِ وَسَلَكُوا الْقِفَارَ الْعَظِيمَةَ الْمُهْلِكَةَ بِغَيْرِ زَادٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ ، فَهَؤُلَاءِ حَصَلَ لَهُمْ التَّوَكُّلُ وَفَاتَهُمْ الْأَدَبُ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعِبَادِ أَحْوَالُهُمْ مَسْطُورَةٌ فِي الْكُتُبِ فِي الرَّقَائِقِ ، وَقِسْمٌ لَاحَظُوا الْأَسْبَابَ ، وَأَعْرَضُوا عَنْ التَّوَكُّلِ ، وَهُمْ عَامَّةُ الْخَلْقِ وَشَرُّ الْأَقْسَامِ ، وَرُبَّمَا وَصَلُوا بِمُلَاحَظَةِ الْأَسْبَابِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمُسَبِّبِ إلَى الْكُفْرِ ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ اعْتَمَدَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - طَلَبُوا فَضْلَهُ فِي عَوَائِدِهِ مُلَاحِظِينَ فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ مُسَبِّبَهَا وَمُيَسِّرَهَا فَجَمَعُوا بَيْنَ التَّوَكُّلِ وَالْأَدَبِ وَهَؤُلَاءِ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ ، وَخَاصَّةُ عِبَادِ اللَّهِ - تَعَالَى .
وَالْعَارِفُونَ بِمُعَامَلَتِهِ جَعَلَنَا اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ فَهَؤُلَاءِ

هُمْ خَيْرُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ ، وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يُهْمِلُ الْأَسْبَابَ وَيُفَرِّطُ فِي التَّوَكُّلِ بِحَيْثُ يَجْعَلُهُ عَدَمَ الْأَسْبَابِ أَوْ مِنْ شَرْطِهِ عَدَمُ الْأَسْبَابِ إذَا قِيلَ : الْإِيمَانُ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالْكُفْرُ سَبَبٌ لِدُخُولِ النَّارِ بِالْجَعْلِ الشَّرْعِيِّ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ فَهَلْ هُوَ تَارِكٌ هَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ أَوْ مُعْتَبِرُهُمَا فَإِنْ تَرَكَ اعْتِبَارَهُمَا خَسِرَ الدُّنْيَا ، وَإِنْ اعْتَبَرَهُمَا فَقَالَ : لَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ ، وَتَرَكَ الْكُفْرَ فَيُقَالُ لَهُ : مَا بَالُ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَسْبَابِ إنْ كَانَ هَذَانِ لَا يُنَافِيَانِ التَّوَكُّلَ فَغَيْرُهُمَا كَذَلِكَ نَعَمْ مِنْ الْأَسْبَابِ مَا هُوَ مُطَّرِدٌ فِي مَجْرَى عَوَائِدِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْغِذَاءِ وَالتَّنَفُّسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَكْثَرِيٌّ غَيْرُ مُطَّرِدٍ لَكِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَجْرَى فِيهِ عَادَةً مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ كَالْأَدْوِيَةِ وَأَنْوَاعِ الْأَسْفَارِ لِلْأَرْبَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْأَدَبُ فِي الْجَمِيعِ الْتِمَاسُ فَضْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي عَوَائِدِهِ وَلِذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِالدَّوَاءِ وَالْحِمْيَةِ وَاسْتِعْمَالِ الْأَدْوِيَةِ حَتَّى الْكَيِّ بِالنَّارِ { فَأَمَرَ بِكَيِّ سَعْدٍ } ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ ، وَالْحِمْيَةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ ، وَصَلَاحُ كُلِّ جِسْمٍ مَا اعْتَادَ } وَإِذَا كَانَ حَالُهُ فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي لَيْسَتْ مُطَّرِدَةً مِنْ الْحِمْيَةِ وَإِصْلَاحِ الْبَدَنِ بِمُوَاظَبَةِ عَادَتِهِ فَمَا ظَنُّك بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعَوَائِدِ ، فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْأَبْلَجُ ، وَالطَّرِيقُ الْأَنْهَجُ

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّوَكُّلِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَرْكِ الْأَسْبَابِ ) ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِكَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ فِي عِلْمِ الرَّقَائِقِ وَهُمَا هَلْ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ تَلَازُمٌ بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ إلَّا مَعَ تَرْكِ الْأَسْبَابِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ وَغَيْرُهُ وَعَلَيْهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَوْ أَنَّهُ مَا بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْمَشْرُوطِ أَوْ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ التَّوَكُّلِ وَتَرْكِ الْأَسْبَابِ ، وَلَا هُوَ هُوَ أَيْ بَلْ التَّوَكُّلُ أَعَمُّ مُطْلَقًا مِنْ تَرْكِ الْأَسْبَابِ فَافْهَمْ .
وَهَذَا قَوْلُ آخَرِينَ قَالَ الْأَصْلُ : وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ التَّوَكُّلَ هُوَ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فِيمَا يَجْلِبُهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ يَدْفَعُهُ مِنْ ضُرٍّ أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ مُلَابَسَةِ الْأَسْبَابِ أَوْ مَعَ عَدَمِ مُلَابَسَتِهَا نَعَمْ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ ، وَالْأَحْسَنُ مُلَابَسَةُ الْأَسْبَابِ مَعَ التَّوَكُّلِ لِلْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا الْمَنْقُولُ فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَدْ أَمَرَ بِمُلَابَسَةِ أَسْبَابٍ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْحَذَرِ مِنْ الْكُفَّارِ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } فَأَمَرَ بِالِاسْتِعْدَادِ وَقَدْ أَمَرَ بِاكْتِسَابِ التَّحَرُّزِ مِنْ الشَّيْطَانِ كَمَا يُتَحَرَّزُ مِنْ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : { إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاِتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } أَيْ تَحَرَّزُوا مِنْهُ مَعَ الْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ } وَقَدْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ يَطُوفُ عَلَى الْقَبَائِلِ .
وَيَقُولُ مَنْ يَعْصِمُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي } وَكَانَ لَهُ جَمَاعَةٌ يَحْرُسُونَهُ مِنْ الْعَدُوِّ حَتَّى نَزَلَ

قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّهُ يَعْصِمُك مِنْ النَّاسِ } وَدَخَلَ مَكَّةَ مُظَاهِرًا بَيْنَ دِرْعَيْنِ مِنْ الْحَدِيدِ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ وَكَانَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَأَكْمَلِ أَحْوَالِهِ مَعَ رَبِّهِ - تَعَالَى - يَدَّخِرُ قُوتَ سَنَةٍ لِعِيَالِهِ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ } أَيْ شُدَّ رُكْبَةَ نَاقَتِك مَعَ ذِرَاعِهَا بِحَبْلٍ وَاعْتَمِدْ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِنَّ عَقْلَهَا لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ قَالَ الْعَزِيزِيُّ عَلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَسَبَبُهُ كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُ نَاقَتِي وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ } فَذَكَرَهُ .
ا هـ .
قَالَ الْأَصْلُ : وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْمَلِكَ الْعَظِيمَ إذَا كَانَتْ لَهُ جَمَاعَةٌ عَوَّدَهُمْ بِأَيَّامٍ لَا يَحْسُنُ إلَّا فِيهَا وَبِأَمْكِنَةٍ لَا يَدْفَعُ إلَّا فِيهَا وَبِأَبْوَابٍ لَا يَخْرُجُ إلَّا مِنْهَا فَالْأَدَبُ مَعَهُ أَنْ لَا يُطْلَبَ مِنْهُ فِعْلٌ إلَّا حَيْثُ جَرَتْ عَادَتُهُ بِإِجْرَائِهِ فِيهِ ، وَأَنْ لَا يُخَالِفَ عَوَائِدَهُ بَلْ يَجْرِي عَلَيْهَا ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - مَلِكُ الْمُلُوكِ ، وَأَعْظَمُ الْعُظَمَاءِ بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ رَتَّبَ مُلْكَهُ عَلَى عَوَائِدَ أَرَادَهَا وَأَسْبَابٍ قَدَّرَهَا وَرَبَطَ بِهَا آثَارَ قُدْرَتِهِ ، وَلَوْ شَاءَ لَمْ يَرْبِطْهَا فَجَعَلَ الرَّيَّ بِالشُّرْبِ ، وَالشِّبَعَ بِالْأَكْلِ ، وَالِاحْتِرَاقَ بِالنَّارِ ، وَالْحَيَاةَ بِالتَّنَفُّسِ فِي الْهَوَاءِ فَمَنْ طَلَبَ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - حُصُولَ هَذِهِ الْآثَارِ بِدُونِ أَسْبَابِهَا فَقَدْ أَسَاءَ الْأَدَبَ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى - بَلْ يَلْتَمِسُ فَضْلَهُ فِي عَوَائِدِهِ وَالْخَلَائِقُ قَدْ انْقَسَمُوا فِي مَقَامِ طَلَبِهِمْ مِنْهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - هَذِهِ الْآثَارَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) عَامَلُوا اللَّهَ - تَعَالَى - بِاعْتِمَادِ قُلُوبِهِمْ عَلَى قُدْرَتِهِ - تَعَالَى - مَعَ إهْمَالِ الْأَسْبَابِ وَالْعَوَائِدِ فَلَجَّجُوا فِي الْبِحَارِ

فِي زَمَنِ الْهَوْلِ وَسَلَكُوا الْقِفَارَ الْعَظِيمَةَ الْمُهْلِكَةَ بِغَيْرِ زَادٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَهَؤُلَاءِ حَصَلَ لَهُمْ التَّوَكُّلُ ، وَفَاتَهُمْ الْأَدَبُ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعِبَادِ أَحْوَالُهُمْ مَسْطُورَةٌ فِي كُتُبِ الرَّقَائِقِ ( وَالْقِسْمُ الثَّانِي ) : لَاحَظُوا الْأَسْبَابَ وَأَعْرَضُوا عَنْ التَّوَكُّلِ وَهُمْ عَامَّةُ الْخَلْقِ ، وَشَرُّ الْأَقْسَامِ فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا وَصَلُوا بِمُلَاحَظَةِ الْأَسْبَابِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمُسَبِّبِ إلَى الْكُفْرِ ( وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ ) : عَامَلُوا اللَّه - تَعَالَى - بِاعْتِمَادِ قُلُوبِهِمْ عَلَى قُدْرَتِهِ - تَعَالَى - مَعَ عَدَمِ إهْمَالِ الْأَسْبَابِ وَالْعَوَائِدِ بَلْ طَلَبُوا فَضْلَهُ فِي عَوَائِدِهِ مُلَاحِظِينَ فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ مُسَبِّبَهَا وَمُيَسِّرَهَا فَجَمَعُوا بَيْنَ التَّوَكُّلِ وَالْأَدَبِ ، وَهُمْ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَخَاصَّةُ عِبَادِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْعَارِفُونَ بِمُعَامَلَتِهِ .
وَهُمْ خَيْرُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ جَعَلَنَا اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ قَالَ : وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يُهْمِلُ الْأَسْبَابَ وَيُفَرِّطُ فِي التَّوَكُّلِ بِحَيْثُ يَجْعَلُ التَّوَكُّلَ عَدَمَ الْأَسْبَابِ ، أَوْ مِنْ شَرْطِهِ عَدَمُ الْأَسْبَابِ أَنَّهُ إذَا قِيلَ : الْإِيمَانُ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالْكُفْرُ سَبَبٌ لِدُخُولِ النَّارِ بِالْجَعْلِ الشَّرْعِيِّ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ فَهَلْ هُوَ تَارِكٌ هَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ أَوْ مُعْتَبِرُهُمَا فَإِنْ تَرَكَ اعْتِبَارَهُمَا خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَإِنْ اعْتَبَرَهُمَا فَقَالَ : لَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ وَتَرَكَ الْكُفْرَ قِيلَ لَهُ : مَا بَالُ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَسْبَابِ ، فَإِنَّ هَذَيْنِ إنْ كَانَا لَا يُنَافِيَانِ التَّوَكُّلَ فَغَيْرُهُمَا كَذَلِكَ نَعَمْ الْأَسْبَابُ نَوْعَانِ نَوْعٌ مُطَّرِدٌ فِي مَجْرَى عَوَائِدِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْغِذَاءِ وَالتَّنَفُّسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَنَوْعٌ أَكْثَرِيٌّ غَيْرُ مُطَّرِدٍ أَجْرَى اللَّهُ فِيهِ عَادَةً مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ كَالْأَدْوِيَةِ

وَأَنْوَاعِ الْأَسْفَارِ لِلْأَرْبَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّ الْأَدَبَ فِي الْجَمِيعِ الْتِمَاسُ فَضْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي عَوَائِدِهِ ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِالدَّوَاءِ وَالْحِمْيَةِ وَاسْتِعْمَالِ الْأَدْوِيَةِ حَتَّى الْكَيِّ بِالنَّارِ { فَأَمَرَ بِكَيِّ سَعْدٍ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ وَالْحِمْيَةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ وَصَلَاحُ كُلِّ جِسْمٍ مَا اعْتَادَ } وَإِذَا كَانَ حَالُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي لَيْسَتْ مُطَّرِدَةً مِنْ الْحِمْيَةِ وَإِصْلَاحِ الْبَدَنِ بِمُوَاظَبَةِ عَادَتِهِ فَمَا ظَنُّك بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعَوَائِدِ فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْأَبْلَجُ وَالطَّرِيقُ الْأَنْهَجُ ا هـ كَلَامُ الْأَصْلِ بِتَهْذِيبٍ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ .
قُلْت : وَتَعْرِيفُهُ التَّوَكُّلُ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَارَهُ بِقَوْلِهِ : هُوَ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ إلَخْ هُوَ بِمَعْنَى قَوْلِ السَّيِّدِ الْجُرْجَانِيِّ فِي تَعْرِيفَاتِهِ : هُوَ الثِّقَةُ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ ، وَالْيَأْسُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ ا هـ وَقَوْلُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ الشَّيْخِ زَكَرِيَّا هُوَ الِاعْتِمَادُ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَقَطْعُ النَّظَرِ عَنْ الْأَسْبَابِ مَعَ تَهْيِئَتِهَا ، وَقَوْلُهُ : وَيُقَالُ هُوَ تَرْكُ السَّعْيِ فِيمَا لَا تَسَعُهُ قُوَّةُ الْبَشَرِ ، وَأَمَّا قَوْلُ الْأَصْلِ عَلَى مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ وَغَيْرُهُ بِحَيْثُ يَجْعَلُ التَّوَكُّلَ عَدَمَ الْأَسْبَابِ أَوْ مِنْ شَرْطِهِ عَدَمُ الْأَسْبَابِ فَعَلَى الثَّانِي يُعْرَفُ قَوْلُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا وَيُقَالُ : هُوَ كِلَةُ الْأَمْرِ كُلِّهِ إلَى مَالِكِهِ ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يُعْرَفُ بِقَوْلِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَيْضًا أَوْ يُقَالُ هُوَ تَرْكُ الْكَسْبِ ، وَإِخْلَاءُ الْيَدِ مِنْ الْمَالِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا : وَرُدَّ بِأَنَّ هَذَا تَوَاكُلٌ لَا تَوَكُّلٌ أَفَادَهُ الْعَزِيزِيُّ عَلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ الْعَلْقَمِيِّ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْحَسَدِ وَقَاعِدِ الْغِبْطَةِ ) اشْتَرَكَتْ الْقَاعِدَتَانِ فِي أَنَّهُمَا طَلَبٌ مِنْ الْقَلْبِ غَيْرَ أَنَّ الْحَسَدَ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ الْغَيْرِ ، وَالْغِبْطَةُ تَمَنِّي حُصُولِ مِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِطَلَبِ زَوَالِهَا عَنْ صَاحِبِهَا ثُمَّ الْحَسَدُ حَسَدَانِ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ وَحُصُولِهَا لِلْحَاسِدِ وَتَمَنِّي زَوَالِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْلُبَ حُصُولَهَا لِلْحَاسِدِ ، وَهُوَ شَرُّ الْحَاسِدِينَ ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ الْمَفْسَدَةَ الصِّرْفَةَ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ عَادِيٍّ أَوْ طَبِيعِيٍّ ثُمَّ حُكْمُ الْحَسَدِ فِي الشَّرِيعَةِ التَّحْرِيمُ ، وَحُكْمُ الْغِبْطَةِ الْإِبَاحَةُ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِمَفْسَدَةٍ أَلْبَتَّةَ ، وَدَلِيلُ تَحْرِيمِ الْحَسَدِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فَالْكِتَابُ قَوْله تَعَالَى { وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ } أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وقَوْله تَعَالَى { ، وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } أَيْ لَا تَتَمَنَّوْا زَوَالَهُ ؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ النَّهْيِ دَالَّةٌ عَلَى هَذَا الْحَذْفِ ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } أَيْ لَا غِبْطَةَ إلَّا فِي هَاتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا } وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْ الْغِبْطَةِ بِلَفْظِ الْحَسَدِ كَالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَيُقَالُ : إنَّ الْحَسَدَ أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهَا فِي الْأَرْضِ حَسَدَ إبْلِيسُ آدَمَ فَلَمْ يَسْجُدْ لَهُ

( الْفَرْقُ السِّتُّونَ وَالْمِائَتَيْنِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْحَسَدِ وَقَاعِدَةِ الْغِبْطَةِ ) وَهُوَ أَنَّ الْقَاعِدَتَيْنِ وَإِنْ اشْتَرَكَتَا فِي أَنَّهُمَا طَلَبٌ مِنْ الْقَلْبِ إلَّا أَنَّ الْحَسَدَ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ الْغَيْرِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الزَّوَاجِرِ وَيَكُونُ حَرَامًا وَفُسُوقًا إنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا نِعْمَةً أَمَّا إنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا آلَةَ الْفَسَادِ وَالْإِيذَاءِ كَمَا فِي نِعْمَةِ الْفَاجِرِ فَلَا حُرْمَةَ ا هـ قَالَ الْأَصْلُ كَانَ الْمُتَمَنِّي زَوَالَهَا عَنْهُ تَمَنَّى حُصُولَهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لَا فَالْحَسَدُ نَوْعَانِ ، وَالثَّانِي أَشَرُّهُمَا ؛ لِأَنَّهُ طَلَبُ الْمَفْسَدَةِ الصِّرْفَةِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ عَادِيٍّ أَوْ طَبِيعِيٍّ قَالَ : وَدَلِيلُ تَحْرِيمِ الْحَسَدِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ ( فَأَمَّا الْكِتَابُ ) فَقَوْلُهُ - تَعَالَى - : { وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ } وقَوْله تَعَالَى : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } ، وقَوْله تَعَالَى - : { وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } أَيْ لَا تَتَمَنَّوْا زَوَالَهُ بِقَرِينَةِ النَّهْيِ ( وَأَمَّا السُّنَّةُ ) فَقَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تَحَاسَدُوا ، وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا وَفِي الزَّوَاجِرِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّهْيِ عَنْ الْحَسَدِ وَأَسْبَابِهِ وَثَمَرَاتِهِ لَا تَبَاغَضُوا ، وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا ، وَلَا تَقَاطَعُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةٍ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ ا هـ قَالَ الْأَصْلُ : وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ فَقَدْ انْعَقَدَ مِنْ الْأُمَّةِ الْمَعْصُومَةِ قَالَ : وَيُقَالُ : إنَّ الْحَسَدَ أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهَا فِي الْأَرْضِ حَسَدَ إبْلِيسُ آدَمَ فَلَمْ يَسْجُدْ لَهُ .
ا هـ .
وَفِي الزَّوَاجِرِ وَمِنْ آفَاتِ الْحَسَدِ أَنَّ فِيهِ سَخَطًا لِقَضَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - إذَا أَنْعَمَ عَلَى الْغَيْرِ بِمَا لَا مَضَرَّةَ عَلَيْك فِيهِ وَشَمَاتَةً بِأَخِيك

الْمُسْلِمِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } ا هـ وَالْغِبْطَةُ تَمَنِّي حُصُولِ مِثْلِ نِعْمَةِ الْغَيْرِ لِنَفْسِك مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِطَلَبِ زَوَالِهَا عَنْ صَاحِبِهَا بَلْ تَشْتَهِي مِثْلَهَا لِنَفْسِك مَعَ بَقَائِهَا لِذَوِيهَا ، وَقَدْ تُخَصُّ بِاسْمِ الْمُنَافَسَةِ .
وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِلَفْظِ الْحَسَدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } أَيْ لَا غِبْطَةَ إلَّا فِي هَاتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ ، وَفِي الزَّوَاجِرِ : وَلَيْسَتْ الْغِبْطَةُ وَالْمُنَافَسَةُ بِحَرَامٍ أَيْ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهَا بِمَفْسَدَةٍ أَلْبَتَّةَ بَلْ هِيَ إمَّا وَاجِبَةٌ ، وَإِمَّا مَنْدُوبَةٌ ، وَإِمَّا مُبَاحَةٌ قَالَ - تَعَالَى - { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } { سَابِقُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } وَالْمُسَابَقَةُ تَقْتَضِي خَوْفَ الْفَوْتِ فَالْوَاجِبَةُ تَكُونُ فِي النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ الْوَاجِبَةِ كَنِعْمَةِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَالزَّكَاةِ فَيَجِبُ أَنْ تُحِبَّ أَنْ تَكُونَ مِثْلَ الْقَائِمِ بِذَلِكَ ، وَإِلَّا كُنْت رَاضِيًا بِالْمَعْصِيَةِ ، وَالرِّضَا بِهَا حَرَامٌ ( وَالْمَنْدُوبَةُ ) تَكُونُ فِي الْفَضَائِلِ وَالْعُلُومِ وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِي الْمِيرَاثِ .
وَالْمُبَاحَةُ تَكُونُ فِي النِّعَمِ الْمُبَاحَةِ كَالنِّكَاحِ ، وَالْمُنَافَسَةُ فِي الْمُبَاحَاتِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا إثْمٌ لَكِنَّهَا تَنْقُصُ مِنْ الْفَضَائِلِ ، وَتُنَاقِضُ الزُّهْدَ وَالرِّضَا بِالْمَقْضِيِّ وَالتَّوَكُّلِ ، وَتُحْجَبُ عَنْ

الْمَقَامَاتِ الرَّفِيعَةِ نَعَمْ هُنَا دَقِيقَةٌ يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ لَهَا ، وَإِلَّا وَقَعَ الْإِنْسَانُ فِي الْحَسَدِ الْحَرَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْعُرَ ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ أَيِسَ أَنْ يَنَالَ مِثْلَ نِعْمَةِ الْغَيْرِ فَبِالضَّرُورَةِ أَنَّ نَفْسَهُ تَعْتَقِدُ أَنَّهُ نَاقِصٌ عَنْ صَاحِبِ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَأَنَّهَا تُحِبُّ زَوَالَ نَقْصِهَا ، وَزَوَالُهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِمُسَاوَاةِ ذِي النِّعْمَةِ أَوْ بِزَوَالِهَا عَنْهُ ، وَقَدْ فَرَضَ يَأْسُهُ عَنْ مُسَاوَاتِهِ فِيهَا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مَحَبَّتُهُ لِزَوَالِهَا عَنْ الْغَيْرِ الْمُتَمَيِّزِ بِهَا عَنْهُ ؛ إذْ بِزَوَالِهَا يَزُولُ تَخَلُّفُهُ .
وَتَقَدُّمُ غَيْرِهِ بِهَا ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ قَدَرَ عَلَى زَوَالِهَا عَنْ الْغَيْرِ أَزَالَهَا فَهُوَ حَسُودٌ حَسَدًا مَذْمُومًا ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ التَّقْوَى مَا يَمْنَعُهُ عَنْ إزَالَتِهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا ، وَعَنْ مَحَبَّةِ زَوَالِهَا عَنْ الْغَيْرِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ جِبِلِّيٌّ لَا تَنْفَكُّ النَّفْسُ عَنْهُ ، وَلَعَلَّهُ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ ابْنِ آدَمَ حَسُودٌ } وَفِي رِوَايَةٍ { ثَلَاثَةٌ لَا يَنْفَكُّ الْمُسْلِمُ عَنْهُنَّ الْحَسَدُ وَالظَّنُّ وَالطِّيَرَةُ ، وَلَهُ مِنْهُنَّ مَخْرَجٌ إذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ } أَيْ إنْ وَجَدْتَ فِي قَلْبِك شَيْئًا فَلَا تَعْمَلْ بِهِ ، وَيَبْعُدُ مِمَّنْ يُرِيدُ مُسَاوَاةَ غَيْرِهِ فِي النِّعْمَةِ فَيَعْجِزُ عَنْهَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مِنْ أَقْرَانِهِ أَنْ يَنْفَكَّ عَنْ الْمَيْلِ إلَى زَوَالِهَا فَهَذَا الْحَدُّ مِنْ الْمُنَافَسَةِ يُشْبِهُ الْحَسَدَ الْحَرَامَ فَيَنْبَغِي الِاحْتِيَاطُ التَّامُّ فَإِنَّهُ مَتَى صَفَّى إلَى مَحَبَّةِ نَفْسِهِ وَمَالَ لِاخْتِيَارِهِ إلَى مُسَاوَاتِهِ لِذِي النِّعْمَةِ بِمَحَبَّةِ زَوَالِهَا عَنْهُ فَهُوَ مُرْتَبِكٌ فِي الْحَسَدِ الْحَرَامِ .
وَلَا يَتَخَلَّصُ مِنْهُ إلَّا إنْ قَوِيَ إيمَانُهُ وَرَسَخَ قَدَمُهُ فِي التَّقْوَى ، وَمَهْمَا حَرَّكَهُ خَوْفَ نَقْصِهِ عَنْ غَيْرِهِ جَرَّهُ إلَى الْحَسَدِ الْمَحْظُورِ ، وَإِلَى مَيْلِ الطَّبْعِ إلَى زَوَالِ نِعْمَةِ الْغَيْرِ حَتَّى

يَنْزِلَ لِمُسَاوَاتِهِ ، وَهَذَا لَا رُخْصَةَ فِيهِ بِوَجْهٍ سَوَاءٌ أَكَانَ فِي مَقَاصِدِ الدِّينِ أَمْ الدُّنْيَا قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَلَكِنَّ ذَلِكَ يُعْفَى عَنْهُ مَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى ، وَتَكُونُ كَرَاهَتُهُ لِذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ كَفَّارَةٌ لَهُ ا هـ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْكِبْرِ وَقَاعِدَةِ التَّجَمُّلِ بِالْمَلَابِسِ وَالْمَرَاكِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ) اعْلَمْ أَنَّ الْكِبْرَ لِلَّهِ - تَعَالَى - عَلَى أَعْدَائِهِ حَسَنٌ ، وَعَلَى عِبَادِهِ وَشَرَائِعِهِ حَرَامٌ وَكَبِيرَةٌ ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الْكِبْرِ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَحَدَنَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً فَقَالَ إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ وَلَكِنَّ الْكِبْرَ بَطَرُ الْحَقِّ ، وَغَمْصُ النَّاسِ } خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ قَالَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : بَطَرُ الْحَقِّ رَدُّهُ عَلَى قَائِلِهِ وَغَمْصُ النَّاسِ احْتِقَارُهُمْ ، وَقَوْلُهُ : عَلَيْهِ السَّلَامُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَعِيدٌ عَظِيمٌ يَقْتَضِي أَنَّ الْكِبْرَ مِنْ الْكَبَائِرِ ، وَعَدَمَ دُخُولِهِ الْجَنَّةَ مُطْلَقًا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ عِنْدَهُمْ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ كَالْكَافِرِ ، وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ مَعْنَاهُ لَا يَدْخُلُ فِي وَقْتٍ يَدْخُلُهَا غَيْرُ الْمُتَكَبِّرِينَ أَيْ فِي الْمَبْدَأِ ، وَالنَّفْيُ الْعَامُّ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ إذَا اقْتَضَتْهُ النُّصُوصُ أَوْ الْقَوَاعِدُ وَالْكِبْرُ مِنْ أَعْظَمِ ذُنُوبِ الْقَلْبِ نَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - الْعَافِيَةَ حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : كُلُّ ذُنُوبِ الْقَلْبِ يَكُونُ مَعَهُ الْفَتْحُ إلَّا الْكِبْرَ ، وَأَمَّا التَّجَمُّلُ فَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا فِي وُلَاةِ الْأُمُورِ وَغَيْرِهِمْ إذَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ تَنْفِيذُ الْوَاجِبِ فَإِنَّ الْهَيْئَاتِ الرَّثَّةَ لَا تَحْصُلُ مَعَهَا مَصَالِحُ الْعَامَّةِ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا إلَيْهَا فِي الصَّلَوَاتِ وَالْجَمَاعَاتِ وَفِي الْحُرُوبِ لِرَهْبَةِ الْعَدُوِّ وَالْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا ، وَفِي الْعُلَمَاءِ لِتَعْظِيمِ الْعِلْمِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ أُحِبُّ أَنْ أَنْظُرَ إلَى قَارِئِ الْقُرْآنِ أَبْيَضَ الثِّيَابِ وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا إذَا كَانَ وَسِيلَةً لِمُحَرَّمٍ كَمَنْ

يَتَزَيَّنُ لِلنِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ لِيَزْنِيَ بِهِنَّ ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا إذَا عَرِيَ عَنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ وَانْقَسَمَ التَّجَمُّلُ إلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ ، وَكَذَلِكَ الْكِبْرُ أَيْضًا قَدْ يَجِبُ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْحُرُوبِ وَغَيْرِهَا ، وَقَدْ يُنْدَبُ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ تَقْلِيلًا لِلْبِدْعَةِ ، وَقَدْ يَحْرُمُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ، وَالْإِبَاحَةُ فِيهِ بَعِيدَةٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّجَمُّلِ فِي تَصَوُّرِ الْإِبَاحَةِ فِيهِ أَنَّ أَصْلَ التَّجَمُّلِ الْإِبَاحَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ } فَإِذَا عُدِمَ الْمُعَارِضُ النَّاقِلُ عَنْ الْإِبَاحَةِ بَقِيَتْ الْإِبَاحَةُ ، وَأَصْلُ الْكِبْرِ التَّحْرِيمُ ، فَإِذَا عُدِمَ الْمُعَارِضُ النَّاقِلُ عَنْ التَّحْرِيمِ اُسْتُصْحِبَ فِيهِ التَّحْرِيمُ فَهَذَا فَرْقٌ ، وَفَرْقٌ آخَرَ أَنَّ الْكِبْرَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ ، وَالتَّجَمُّلُ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَسَنُ دُونَ الْكِبْرِ

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْكِبْرِ وَقَاعِدَةِ التَّجَمُّلِ بِالْمُلَابِسِ وَالْمَرَاكِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ) وَهُوَ مِنْ جِهَتَيْنِ ( الْجِهَةُ الْأُولَى ) : أَنَّ الْكِبْرَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُسْنُ وَأَمَّا التَّجَمُّلُ فَمِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُسْنُ ( وَالْجِهَةُ الثَّانِيَةُ ) : أَنَّ أَصْلَ التَّجَمُّلِ الْإِبَاحَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ } ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يَنْقُلُهُ عَنْ الْإِبَاحَةِ إمَّا إلَى الْوُجُوبِ كَتَوَقُّفِ تَنْفِيذِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي نَحْوِ وُلَاةِ الْأُمُورِ فَإِنَّ الْهَيْئَاتِ الرَّثَّةَ لَا تَحْصُلُ مَعَهَا مَصَالِحُ الْعَامَّةِ مِنْهُمْ ، وَإِمَّا إلَى النَّدْبِ كَتَوَقُّفِ الْمَنْدُوبِ عَلَيْهِ كَمَا فِي الصَّلَوَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } أَيْ صَلَاةٍ ، وَفِي الْجَمَاعَاتِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ } بِبِنَاءِ يُرَى لِلْمَجْهُولِ ، وَقَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ سَيَأْتِي وَفِي الْحُرُوبِ لِرَهْبَةِ الْعَدُوِّ ، وَفِي الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا ، وَفِي الْعُلَمَاءِ لِتَعْظِيمِ الْعِلْمِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ أُحِبُّ أَنْ أَنْظُرَ إلَى قَارِئِ الْقُرْآنِ أَبْيَضَ الثِّيَابِ .
وَقَدْ أَنْشَدَ الْإِمَامُ مَالِكٌ لَمَّا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ مُعَاصِرِيهِ فِي التَّجَمُّلِ بِالثِّيَابِ الثَّمِينَةِ حَسِّنْ ثِيَابَك مَا اسْتَطَعْت فَإِنَّهَا زَيْنُ الرِّجَالِ بِهَا تُعَزُّ وَتُكْرَمُ وَدَعْ التَّوَاضُعَ فِي اللِّبَاسِ تَخَشُّنًا فَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّ وَتُعْلِنُ فَرَثِيثُ ثَوْبِك لَا يَزِيدُك رِفْعَةً عِنْدَ الْإِلَهِ وَأَنْتَ عَبْدٌ مُجْرِمُ وَجَدِيدُ ثَوْبِك لَا يَضُرُّك بَعْدَمَا تَخْشَى الْإِلَهَ وَتَتَّقِي مَا يَحْرُمُ وَإِمَّا إلَى التَّحْرِيمِ كَكَوْنِهِ وَسِيلَةً

لِمُحَرَّمٍ كَمَنْ يَتَزَيَّنُ لِلنِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ لِيَزْنِيَ بِهِنَّ فَإِذَا عُدِمَ الْمُعَارِضُ النَّاقِلُ لَهُ عَنْ الْإِبَاحَةِ وَعَرِيَ عَنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ بَقِيَتْ الْإِبَاحَةُ ، وَأَصْلُ الْكِبْرِ التَّحْرِيمُ .
وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يَنْقُلُهُ عَنْ التَّحْرِيمِ إمَّا إلَى الْوُجُوبِ كَمَا فِي الْكِبْرِ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْحُرُوبِ وَغَيْرِهَا ، وَإِمَّا إلَى النَّدْبِ كَمَا فِي الْكِبْرِ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ تَقْلِيلًا لِلْبِدْعَةِ ، وَالْإِبَاحَةُ فِيهِ بَعِيدَةٌ فَإِذَا عُدِمَ الْمُعَارِضُ النَّاقِلُ عَنْ التَّحْرِيمِ اُسْتُصْحِبَ فِيهِ التَّحْرِيمُ ، وَهُوَ إمَّا كِبْرٌ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - ، وَهُوَ أَفْحَشُ أَنْوَاعِهِ كَكِبْرِ فِرْعَوْنَ وَنَمْرُودَ حَيْثُ اسْتَنْكَفَا أَنْ يَكُونَا عَبْدَيْنِ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَادَّعَيَا الرُّبُوبِيَّةَ قَالَ - تَعَالَى - { إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخَلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } أَيْ صَاغِرِينَ { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ } الْآيَةَ وَإِمَّا عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الِانْقِيَادِ لَهُ تَكَبُّرًا جَهْلًا وَعِنَادًا كَمَا حَكَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ كُفَّارِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ وَإِمَّا عَلَى عِبَادِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِأَنْ يَسْتَعْظِمَ نَفْسَهُ وَيَحْتَقِرَ غَيْرَهُ وَيَزْدَرِيَهُ فَيَأْبَى عَلَى الِانْقِيَادِ لَهُ أَوْ يَتَرَفَّعَ عَلَيْهِ ، وَيَأْنَفَ مِنْ مُسَاوَاتِهِ وَهَذَا .
وَإِنْ كَانَ دُونَ الْأَوَّلَيْنِ إلَّا أَنَّهُ عَظِيمٌ اسْمُهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْكِبْرِيَاءَ وَالْعَظَمَةَ إنَّمَا يَلِيقَانِ بِالْمَلِكِ الْقَادِرِ الْقَوِيِّ الْمَتِينِ دُونَ الْعَبْدِ الْعَاجِزِ الضَّعِيفِ فَتَكَبُّرُهُ فِيهِ مُنَازَعَةٌ لِلَّهِ فِي صِفَةٍ لَا تَلِيقُ إلَّا بِجَلَالِهِ ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي الْحَدِيثِ { إنَّ مَنْ نَازَعَهُ الْعَظَمَةَ وَالْكِبْرِيَاءَ أَهْلَكَهُ } وَلِأَنَّ التَّكَبُّرَ عَلَى عِبَادِهِ لَا يَلِيقُ إلَّا بِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَيْهِمْ فَقَدْ جَنَى عَلَيْهِ ؛ إذْ مَنْ اسْتَذَلَّ خَوَاصَّ غِلْمَانِ الْمَلِكِ مُنَازِعٌ لَهُ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ

فَيَسْتَحِقُّ مَقْتَهُ ، وَمِنْ لَازِمِ هَذَا الْكِبْرِ بِنَوْعَيْهِ مُخَالَفَةُ أَوَامِرِ الْحَقِّ ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَبِّرَ .
وَمِنْهُ الْمُتَجَادِلُونَ فِي مَسَائِلِ الدِّينِ بِالْهَوَى وَالتَّعَصُّبِ تَأْبَى نَفْسُهُ مِنْ قَبُولِ مَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ اتَّضَحَ سَبِيلُهُ بَلْ يَدْعُوهُ كِبْرُهُ إلَى الْمُبَالَغَةِ فِي تَزْيِيفِهِ وَإِظْهَارِ إبْطَالِهِ فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْله تَعَالَى { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادِ } وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَفَى بِالرَّجُلِ إثْمًا إذَا قِيلَ لَهُ : اتَّقِ اللَّهَ أَنْ يَقُولَ : عَلَيْك بِنَفْسِك { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ : كُلْ بِيَمِينِك فَقَالَ مُتَكَبِّرًا لَا أَسْتَطِيعُ فَشُلَّتْ يَدُهُ فَلَمْ يَرْفَعْهَا بَعْدُ } فَإِذَنْ التَّكَبُّرُ عَلَى الْخَلْقِ يَدْعُو إلَى التَّكَبُّرِ عَلَى الْخَالِقِ أَلَا تَرَى أَنَّ إبْلِيسَ لَمَّا تَكَبَّرَ عَلَى آدَمَ وَحَسَدَهُ بِقَوْلِهِ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ جَرَّهُ ذَلِكَ إلَى التَّكَبُّرِ عَلَى اللَّهِ لِمُخَالَفَتِهِ أَمْرَهُ فَهَلَكَ هَلَاكًا مُؤَبَّدًا .
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الْكِبْرِ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَحَدَنَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ، وَلَكِنَّ الْكِبْرَ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْصُ النَّاسِ } خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ قَالَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : بَطَرُ الْحَقِّ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ رَدُّهُ وَدَفْعُهُ عَلَى قَائِلِهِ ، وَغَمْصُ النَّاسِ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَبِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ ، وَكَذَا عَمْصُهُمْ بِالْمُهْمَلَةِ ، وَقَوْلُهُ : عَلَيْهِ السَّلَامُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَعِيدٌ عَظِيمٌ يَقْتَضِي أَنَّ الْكِبْرَ مِنْ الْكَبَائِرِ ، وَعَدَمُ دُخُولِ صَاحِبِهِ

الْجَنَّةَ مُطْلَقًا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ عِنْدَهُمْ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ كَالْكَافِرِ ، وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ مَعْنَاهُ لَا يَدْخُلُهَا وَقْتَ يَدْخُلُهَا غَيْرُ الْمُتَكَبِّرِينَ أَيْ فِي الْمَبْدَأِ ، وَالنَّفْيُ الْعَامُّ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ إذَا اقْتَضَتْهُ النُّصُوصُ أَوْ الْقَوَاعِدُ قَالَ الْأَصْلُ : وَالْكِبْرُ مِنْ أَعْظَمِ ذُنُوبِ الْقَلْبِ نَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - الْعَافِيَةَ حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : كُلُّ ذُنُوبِ الْقَلْبِ يَكُونُ مَعَهُ الْفَتْحُ إلَّا الْكِبْرَ .
ا هـ .
هَذَا تَهْذِيبُ مَا فِي الْأَصْلِ وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مَعَ زِيَادَةٍ مِنْ الزَّوَاجِرِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْكِبْرِ وَقَاعِدَةِ الْعُجْبِ ) قَدْ تَقَدَّمَتْ حَقِيقَةُ الْكِبْرِ ، وَأَنَّهُ فِي الْقَلْبِ وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } فَجَعَلَ مَحَلَّهُ الْقَلْبَ وَالصُّدُورَ وَأَمَّا الْعُجْبُ فَهُوَ رُؤْيَةُ الْعِبَادَةِ ، وَاسْتِعْظَامُهَا مِنْ الْعَبْدِ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ تَكُونُ بَعْدَ الْعِبَادَةِ وَمُتَعَلِّقَةً بِهَا هَذَا التَّعَلُّقَ الْخَاصَّ كَمَا يَتَعَجَّبُ الْعَابِدُ بِعِبَادَتِهِ ، وَالْعَالِمُ بِعِلْمِهِ ، وَكُلُّ مُطِيعٍ بِطَاعَتِهِ هَذَا حَرَامٌ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلطَّاعَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ بَعْدَهَا بِخِلَافِ الرِّيَاءِ فَإِنَّهُ يَقَعُ مَعَهَا فَيُفْسِدَهَا ، وَسِرُّ تَحْرِيمِ الْعُجْبِ أَنَّهُ سُوءُ أَدَبٍ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَعْظِمَ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى سَيِّدِهِ بَلْ يَسْتَصْغِرُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَظَمَةِ سَيِّدِهِ لَا سِيَّمَا عَظَمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } أَيْ مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ فَمَنْ أُعْجِبَ بِنَفْسِهِ وَعِبَادَتِهِ فَقَدْ هَلَكَ مَعَ رَبِّهِ ، وَهُوَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِمَقْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَخَطِهِ وَنَبَّهَ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } مَعْنَاهُ يَفْعَلُونَ مِنْ الطَّاعَاتِ مَا يَفْعَلُونَ وَهُمْ خَائِفُونَ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِتِلْكَ الطَّاعَةِ احْتِقَارًا لَهَا ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهَا فَالْكِبْرُ رَاجِعٌ لِلْخَلْقِ وَالْعِبَادِ ، وَالْعَجَبُ رَاجِعٌ لِلْعِبَادَةِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31