كتاب : أنوار البروق في أنواع الفروق
المؤلف : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الطَّلَاقِ مِنْ النِّيَّةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُشْتَرَطُ ) لِلنِّيَّةِ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَالْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ ثَلَاثُ إطْلَاقَاتٍ ( الْإِطْلَاقُ الْأَوَّلُ ) بِمَعْنَى الْقَصْدِ لِإِنْشَاءِ الصِّيغَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي الصَّرِيحِ إجْمَاعًا احْتِرَازًا مِنْ سَبْقِ اللِّسَانِ لِمَا لَمْ يُقْصَدْ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ اسْمُهَا طَارِقًا فَيُنَادِيهَا فَيَسْبِقُ لِسَانُهُ فَيَقُولُ لَهَا يَا طَالِقُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ اللَّفْظَ وَمِثْلُ الصَّرِيحِ الْكِنَايَاتُ الظَّاهِرَةُ فَفِي الْخَرَشِيِّ وَحَاشِيَةِ الْعَدَوِيِّ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ فِي الْمُخْتَصَرِ وَرُكْنُهُ أَهْلٌ وَقَصْدٌ إلَخْ الْمُرَادُ بِالْقَصْدِ قَصْدُ النُّطْقِ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَيْهِ فِي الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ مَدْلُولَهُ وَهُوَ حَلُّ الْعِصْمَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَلَزِمَ ، وَلَوْ هَزَلَ وَقَصَدَ حَلَّهَا فِي الْكِنَايَةِ الْخَفِيَّةِ ا هـ ( الْإِطْلَاقُ الثَّانِي ) بِمَعْنَى الْقَصْدِ لِاسْتِعْمَالِ الصِّيغَةِ فِي قَوْلِهِمْ النِّيَّةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الصَّرِيحِ إجْمَاعًا وَمِثْلُهُ الْكِنَايَةُ الظَّاهِرَةُ كَمَا عَلِمْت فَقَوْلُ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا مِنْ خَصَائِصِ الْكِنَايَاتِ أَنْ يَقْصِدَ بِهَا مَعْنَى الطَّلَاقِ أَيْ وَهُوَ حَلُّ الْعِصْمَةِ يُرِيدُ الْخَفِيَّةَ لَا الظَّاهِرَةَ ( الْإِطْلَاقُ الثَّالِثُ ) بِمَعْنَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ فِي قَوْلِهِمْ فِي لُزُومِ الطَّلَاقِ بِالنِّيَّةِ قَوْلَانِ فَأَطْلَقُوا النِّيَّةَ هَا هُنَا عَلَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ يُرِيدُونَ هَلْ يَلْزَمُ إذَا أَنْشَأَ طَلَاقَهَا بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ كَمَا يُنْشِئُهُ بِكَلَامِهِ اللِّسَانِيِّ أَمْ لَا يَلْزَمُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْوَلِيدِ قَوْلَانِ فَيُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالنِّيَّةِ وَإِلَّا فَمَنْ قَصَدَ وَعَزَمَ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَتِهِ ، ثُمَّ بَدَا لَهُ عَدَمُهُ لَا يَلْزَمُهُ بِذَلِكَ طَلَاقٌ إجْمَاعًا ، وَقَدْ عَبَّرَ ابْنُ الْجَلَّابِ عَنْ

الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ بِالِاعْتِقَادِ بِقَلْبِهِ فَقَالَ ، وَمَنْ اعْتَقَدَ الطَّلَاقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَلْفِظْ بِلِسَانِهِ فَفِي لُزُومِ الطَّلَاقِ لَهُ قَوْلَانِ وَلَمْ يَرِدْ حَقِيقَةُ الِاعْتِقَادِ إذْ لَا يَلْزَمُ بِهِ طَلَاقٌ إجْمَاعًا فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بُطْلَانُ اعْتِقَادِهِ بَقِيَتْ لَهُ زَوْجَةً اتِّفَاقًا فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ فِي كَلَامِهِمْ وَأَنَّهَا أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ هَكَذَا يَنْبَغِي تَقْرِيرُ هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْأَصْلِ فِي الْإِطْلَاقِ الثَّالِثِ وَحَيْثُ قَالُوا فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الصَّرِيحِ قَوْلَانِ فَيُرِيدُونَ بِالنِّيَّةِ هَا هُنَا الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ وَأَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ النِّيَّةَ هَا هُنَا وَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ إذَا أَنْشَأَ طَلَاقَهَا بِكَلَامِهِ اللِّسَانِيِّ فَفِي اشْتِرَاطِ إنْشَائِهِ أَيْضًا بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ قَوْلَانِ وَالْمَشْهُورُ اشْتِرَاطُهُ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْوَلِيدِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَأَنَّهُ إذَا طَلَّقَ بِلِسَانِهِ لَا بُدَّ أَنْ يُطَلِّقَ بِقَلْبِهِ ا هـ بِتَوْضِيحٍ لِلْمُرَادِ فَقَدْ نَظَرَ فِيهِ ابْنُ الشَّاطِّ بِقَوْلِهِ مَا قَالَهُ فِي الْإِنْشَاءَاتِ فِيهِ نَظَرٌ ا هـ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ إنَّمَا هُمَا فِي لُزُومِ الطَّلَاقِ إذَا أَنْشَأَهُ بِكَلَامِهِ اللِّسَانِيِّ فَقَطْ وَعَدَمِ لُزُومِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْوَلِيدِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَهُوَ خِلَافُ مَا صَرَّحُوا بِهِ مِنْ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ إنَّمَا هُمَا فِي لُزُومِهِ إذَا أَنْشَأَهُ بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ فَقَطْ وَعَدَمِ لُزُومِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْوَلِيدِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ فَفِي مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ وَفِي لُزُومِهِ بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ خِلَافٌ قَالَ الْبُنَانِيُّ ( تَوْضِيحُ ) الْخِلَافِ إنَّمَا هُوَ إذَا أَنْشَأَ الطَّلَاقَ بِقَلْبِهِ بِكَلَامِهِ النَّفْسَانِيِّ وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ اللُّزُومِ لِمَالِكٍ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَهُوَ الَّذِي يَنْصُرُهُ أَهْلُ الْمَذْهَبِ الْقَرَافِيُّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَالْقَوْلُ

بِاللُّزُومِ لِمَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ قَالَ فِي الْبَيَانِ وَالْمُقَدِّمَاتِ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَهُوَ الْأَشْهَرُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ حَلَّ الْعِصْمَةَ الْمُنْعَقِدَةَ بِالنِّيَّةِ وَالْقَوْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَلُّهَا كَذَلِكَ إنَّمَا يَكْفِي بِالنِّيَّةِ فِي التَّكَالِيفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّيَّةِ لَا فِيمَا بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ ا هـ انْتَهَى كَلَامُ الْبُنَانِيِّ بِلَفْظِهِ ، بَلْ يُشْعِرُ بِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ الْأَصْلِ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ إذَا أَنْشَأَ طَلَاقَهَا بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ كَمَا يُنْشِئُهُ بِكَلَامِهِ اللِّسَانِيِّ فَيُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالنِّيَّةِ وَعَبَّرَ عَنْهُ ابْنُ الْجَلَّابِ بِالِاعْتِقَادِ بِقَلْبِهِ فَقَالَ ، وَمَنْ اعْتَقَدَ عَلَى أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ إنْشَاءَ الطَّلَاقِ بِالْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ فَقَطْ لَا يَتَأَتَّى كَمَا يَشْهَدُ لَهُ أَوَّلًا قَوْلُ الْأَخْطَلِ : إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلًا بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَثَانِيًا تَعْلِيلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَظَهْرِيَّةَ الْقَوْلِ بِعَدَمِ لُزُومِهِ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ فَقَطْ بِمَا تَقَدَّمَ فِي عِبَارَةِ الْبُنَانِيِّ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ هُوَ مَنْشَأُ تَعْبِيرِ الْأَصْلِ فِي الْإِطْلَاقِ الثَّالِثِ بِمَا ذَكَرَ أَوْ يَقُولُ سَيَأْتِي لِلْأَصْلِ نَقْلُهُ عَلَى أَنَّ إلْزَامَ الطَّلَاقِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ إنَّمَا هُوَ إذَا نَطَقَ بِلِسَانِهِ غَيْرَ مُطَلِّقٍ بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ كَمَا قَالَ أَيْ مَالِكٌ فِي مَسْأَلَةِ الْبَتَّةِ أَيْ الْآتِيَةِ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ ( وَصْلٌ ) فِي تَوْضِيحِ هَذَا الْفَرْقِ وَاَلَّذِي قِيلَ بِمَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَوْ أَرَادَ التَّلَفُّظَ بِالطَّلَاقِ فَقَالَ اشْرَبِي أَوْ نَحْوَهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْوِيَ طَلَاقَهَا بِمَا تَلَفَّظَ بِهِ فَيَجْتَمِعُ اللَّفْظُ وَالنِّيَّةُ ا هـ يَعْنِي أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَصَدَ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ فَسَبَقَ لِسَانُهُ

بِلَفْظٍ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ بِأَنْ قَالَ اسْقِنِي الْمَاءَ أَوْ اُدْخُلِي أَوْ اُخْرُجِي فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوقِعْ الطَّلَاقَ بِلَفْظٍ يُرَادُ الطَّلَاقُ بِهِ وَهُوَ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَا بِنِيَّةِ اسْقِنِي أَيْ بِاسْقِنِي الْمُصَاحِبِ لِنِيَّةِ حُصُولِ الطَّلَاقِ حَتَّى يَلْزَمَ الطَّلَاقُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْلُولُهُ الِالْتِزَامِيُّ الطَّلَاقَ وَالْكِنَايَةَ اصْطِلَاحًا اُسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الطَّلَاقِ بِالنِّيَّةِ وَاللَّفْظِ مَعًا لَا مِنْ بَابِ الطَّلَاقِ بِالنِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ اللَّفْظِ حَتَّى يُقَالَ لَا يَلْزَمُ بِهَا طَلَاقٌ إجْمَاعًا ا هـ .
خَرَشِيٌّ بِتَوْضِيحٍ عَلَى أَنَّهُ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِنَايَةِ اللُّغَوِيَّةِ وَهِيَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَعْنًى غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ ، فَلَيْسَتْ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا وَلَا كِنَايَةً فَافْهَمْ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) قَالَ مَالِكٌ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ وَنِيَّتُهُ وَاحِدَةٌ فَسَبَقَ لِسَانُهُ لِلْبَتَّةِ لَزِمَهُ الثَّلَاثُ قَالَ سَحْنُونٌ إذَا كَانَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْوِهِ قَالَ الْأَصْلُ يُرِيدُ أَيْ سَحْنُونٌ أَنَّ اللَّفْظَ وَحْدَهُ لَا يَلْزَمُ بِهِ الطَّلَاقُ وَهُوَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ نِيَّةٌ مَعَ لَفْظِ الثَّلَاثِ فَلِذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ ثَلَاثٌ فِي الْفُتْيَا وَيَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ فِي الْقَضَاءِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ .

( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى مِنْ وَثَاقِ وِلَايَتِهِ وَجَاءَ مُسْتَفْتِيًا طَلُقَتْ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ بَرِيَّةٌ وَلَمْ يَنْوِ بِهِ طَلَاقًا وَيُؤْخَذُ النَّاسُ بِأَلْفَاظِهِمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ نِيَّتُهُمْ إلَّا أَنْ تَكُونَ قَرِينَةٌ مُصَدِّقَةٌ قَالَ صَاحِبُ التَّنْبِيهَاتِ فِي التَّحَدُّثِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قِيلَ يُدَيَّنُ ، وَقِيلَ لَا إلَّا أَنْ يَكُونَ جَوَابًا وَهُوَ مَذْهَبُ الْكِتَابِ قَالَ وَيَتَخَرَّجُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلْزَامُ الطَّلَاقِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَمِنْ قَوْلِهِ فِي الَّذِي أَرَادَ وَاحِدَةً فَسَبَقَ لِسَانُهُ لِلْبَتَّةِ وَمِنْ هَزْلِ الطَّلَاقِ أَيْضًا وَيُؤْخَذُ اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ مَعَ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ فِي الْكِتَابِ يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَأَرَادَ تَعْلِيقَهُ .
ثُمَّ بَدَا لَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الْمَذْهَبِ وَوَافَقَ صَاحِبُ التَّنْبِيهَاتِ اللَّخْمِيَّ عَلَى أَنَّ مَسْأَلَةَ الْوَثَاقِ طَلَاقٌ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ ، وَإِلْزَامُ الطَّلَاقِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ إنَّمَا هُوَ إذَا طَلَّقَ بِلِسَانِهِ غَيْرَ مُطَلِّقٍ بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ كَمَا قَالَ فِي مَسْأَلَةِ أَلْبَتَّةَ أَمَّا إذَا صَرَفَ اللَّفْظَ بِقَصْدِهِ عَنْ إزَالَةِ الْعِصْمَةِ إلَى غَيْرِهِ نَحْوَ مَسْأَلَةِ الْوَثَاقِ فَإِلْزَامُ الطَّلَاقِ بِهِ لَوْ قِيلَ إنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ لَمْ يَبْعُدْ ؛ لِأَنَّهُ نَظِيرُ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقِيلَ لَهُ مَا صَنَعْت فَقَالَ هِيَ طَالِقٌ وَأَرَادَ الْإِخْبَارَ قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ لَا يَلْزَمُهُ فِي الْفُتْيَا إجْمَاعًا وَنَظِيرُهُ أَيْضًا مَنْ لَهُ أَمَةٌ وَزَوْجَةٌ اسْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حِكْمَةُ ، وَقَالَ حِكْمَةُ طَالِقٌ ، وَقَالَ نَوَيْت الْأَمَةَ لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ فِي الْفُتْيَا اتِّفَاقًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ فِي مَسْأَلَةِ الْوَثَاقِ عَلَى اللُّزُومِ فِي الْقَضَاءِ دُونَ الْفُتْيَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَجَاءَ مُسْتَفْتِيًا وَإِنْ أَوْهَمَ اللُّزُومَ فِي الْفُتْيَا فَمُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ يُؤْخَذُ النَّاسُ بِأَلْفَاظِهِمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ نِيَّتُهُمْ وَالْأَخْذُ

إنَّمَا يَكُونُ لِلْحَاكِمِ دُونَ الْمُفْتِي ، وَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُهُ الْقَرِينَةَ فَإِنَّ الْمُفْتِي يَتْبَعُ الْأَسْبَابَ وَالْمَقَاصِدَ دُونَ الْقَرَائِنِ وَإِلَّا فَيَلْزَمُ مُخَالَفَةُ الْقَوَاعِدِ وَيَتَعَذَّرُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا ذَكَرَ مِنْ النَّظَائِرِ .

( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) قَالَ صَاحِبُ التَّنْبِيهَاتِ يُؤْخَذُ اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ مَعَ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ فِي الْكِتَابِ أَيْ الْمُدَوَّنَةِ مِنْ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَأَرَادَ تَعْلِيقَهُ ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَيْ عَدَمُ التَّعْلِيقِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَهُ نَظَائِرُ قَالَ وَيَتَخَرَّجُ مِنْ قَوْلِهِ أَيْ مَالِكٍ فِي الَّذِي أَرَادَ وَاحِدَةً فَسَبَقَ لِسَانُهُ لِلْبَتَّةِ وَمِنْ هَزْلِ الطَّلَاقِ أَيْضًا إلْزَامُ الطَّلَاقِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ ، وَكَذَا مَسْأَلَةُ مَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى مِنْ وَثَاقِ وِلَايَتِهِ وَجَاءَ مُسْتَفْتِيًا طَلُقَتْ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ بَرِّيَّةٌ وَلَمْ يَنْوِ بِهِ طَلَاقًا وَلَا يُدَيِّنُ إذْ يُؤْخَذُ النَّاسُ بِأَلْفَاظِهِمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ نِيَّتُهُمْ إلَّا أَنْ تَكُونَ قَرِينَةٌ مُصَدَّقَةٌ كَأَنْ يَكُونَ جَوَابًا ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْكِتَابِ ، وَقِيلَ يُدَيِّنُ مُطْلَقًا ا هـ بِتَصَرُّفٍ .
قَالَ الْأَصْلُ وَوَافَقَ صَاحِبَ التَّنْبِيهَاتِ عَلَى أَنَّ مَسْأَلَةَ الْوَثَاقِ طَلَاقٌ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ اللَّخْمِيُّ مَعَ أَنَّ إلْزَامَ الطَّلَاقِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ إنَّمَا هُوَ إذَا نَطَقَ بِلِسَانِهِ غَيْرَ مُطَلِّقٍ بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ كَمَا قَالَ أَيْ مَالِكٌ فِي مَسْأَلَةِ الْبَتَّةِ أَمَّا إذَا صُرِفَ اللَّفْظُ بِقَصْدِهِ عَنْ إزَالَةِ الْعِصْمَةِ إلَى غَيْرِهِ نَحْوُ مَسْأَلَةِ الْوَثَاقِ فَإِلْزَامُ الطَّلَاقِ بِهِ لَوْ قِيلَ إنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ لَمْ يَبْعُدْ ؛ لِأَنَّهُ نَظِيرُ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقِيلَ لَهُ : مَا صَنَعْت فَقَالَ هِيَ طَالِقٌ وَأَرَادَ الْإِخْبَارَ ، وَقَدْ قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ لَا يَلْزَمُهُ فِي الْفُتْيَا إجْمَاعًا وَنَظِيرُهُ أَيْضًا مَنْ لَهُ أَمَةٌ وَزَوْجَةٌ اسْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حِكْمَةُ ، وَقَالَ حِكْمَةُ طَالِقٌ ، وَقَالَ نَوَيْت الْأَمَةَ لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ فِي الْفُتْيَا اتِّفَاقًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ فِي مَسْأَلَةِ الْوَثَاقِ عَلَى اللُّزُومِ فِي الْقَضَاءِ دُونَ الْفُتْيَا ، وَقَوْلُهُ وَجَاءَ مُسْتَفْتِيًا وَإِنْ أَوْهَمَ اللُّزُومَ فِي الْفُتْيَا مُعَارَضٌ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ يُؤْخَذُ

النَّاسُ بِأَلْفَاظِهِمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ نِيَّتُهُمْ إذْ الْأَخْذُ إنَّمَا يَكُونُ لِلْحَاكِمِ دُونَ الْمُفْتِي وَثَانِيًا بِاشْتِرَاطِهِ الْقَرِينَةَ فَإِنَّ الْمُفْتِيَ يَتْبَعُ الْأَسْبَابَ وَالْمَقَاصِدَ دُونَ الْقَرَائِنِ وَإِلَّا فَيَلْزَمُ مُخَالَفَةُ الْقَوَاعِدِ وَيَتَعَذَّرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ أَيْ مَسْأَلَةِ الْوَثَاقِ وَبَيْنَ مَا ذَكَرَ مِنْ النَّظَائِرِ فَافْهَمْ

( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ طَلَّقْتُك وَنَوَى عَدَدًا لَزِمَهُ وَوَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إذَا نَوَى الثَّلَاثَ لَزِمَهُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَا يُفِيدُ إلَّا أَصْلَ الْمَعْنَى فَالزَّائِدُ يَكُونُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَالنِّيَّةُ لَا تُوجِبُ طَلَاقًا وَجَوَابُهُ أَنَّ لَفْظَ ثَلَاثًا إذَا لَفَظَ بِهَا تَبَيَّنَ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ نَحْوُ قَوْلِهِ قَبَضْت عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَقَوْلُهُ دِرْهَمًا يُفِيدُ اخْتِصَاصَ الْعَدَدِ بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ كَانَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لُغَةً فَكَذَلِكَ ثَلَاثًا يُخَصِّصُ اللَّفْظَ بِالْبَيْنُونَةِ وَكُلُّ مَا كَانَ يَحْصُلُ مَعَ الْمُفَسِّرِ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُفَسَّرَ إنَّمَا جُعِلَ لِفَهْمِ السَّامِعِ لَا لِثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أُقِيمُوا الصَّلَاةَ الشَّرْعِيَّةَ لَكِنْ لَمَّا وَرَدَ الْبَيَانُ مِنْ السُّنَّةِ فِي خُصُوصِيَّاتِهَا وَهَيْئَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا عُدَّ ذَلِكَ ثَابِتًا بِلَفْظِ الْقُرْآنِ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ مَشْرُوعَةٌ بِالْقُرْآنِ وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ بَيَانٍ لِمُجْمَلٍ يُعَدُّ مَنْطُوقًا بِهِ فِي ذَلِكَ الْمُجْمَلِ كَذَلِكَ هَاهُنَا وَإِنْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَافَقَنَا عَلَى قَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ وَأَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا وَطَلَّقْتُك وَطَلِّقِي نَفْسَك أَنَّهُ إذَا نَوَى بِهَا الثَّلَاثَ لَزِمَتْهُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ حَكَى صَاحِبُ كِتَابِ مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الرَّشِيدَ كَتَبَ إلَى قَاضِيهِ أَبِي يُوسُفَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ وَبَعَثَ بِهَا إلَيْهِ يَمْتَحِنُهُ بِهَا : فَإِنْ تَرْفُقِي يَا هِنْدُ فَالرِّفْقُ أَيْمَنُ وَإِنْ تَخْرِقِي يَا هِنْدُ فَالْخَرْقُ أَشْأَمُ فَأَنْتَ طَالِقٌ وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ ثَلَاثًا وَمَنْ يَخْرِقْ أَعَقُّ وَأَظْلَمُ فَبِينِي بِهَا أَنْ كُنْتِ غَيْرَ رَفِيقَةٍ وَمَا لِامْرِئٍ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ مُقَدَّمُ .
وَقَالَ لَهُ إذَا نَصَبْنَا ثَلَاثًا كَمْ يَلْزَمُهُ ، وَإِذَا رَفَعْنَا كَمْ

يَلْزَمُهُ فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَحَمَلَ الرُّقْعَةَ لِلْكِسَائِيِّ وَكَانَ مَعَهُ فِي الدَّرْبِ فَقَالَ لَهُ الْكِسَائِيُّ اُكْتُبْ لَهُ فِي الْجَوَابِ يَلْزَمُهُ بِالرَّفْعِ وَاحِدَةٌ وَبِالنَّصْبِ ثَلَاثٌ يَعْنِي أَنَّ الرَّفْعَ يَقْتَضِي أَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ الطَّلَاقُ الثَّانِي وَيَكُونُ مُنْقَطِعًا عَنْ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ فَتَلْزَمُهُ وَاحِدَةٌ وَبِالنَّصْبِ يَكُونُ تَمْيِيزًا لِقَوْلِهِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَيَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ فَإِنْ ، قُلْت إذَا نَصَبْنَاهُ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ تَمْيِيزًا عَنْ الْأَوَّلِ كَمَا ، قُلْت وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنْ الثَّانِي أَيْ الطَّلَاقُ مَعْزُومٌ عَلَيْهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ ثَلَاثًا أَوْ تَمْيِيزًا لَهُ فَلِمَ خَصَصْته بِالْأَوَّلِ ، قُلْت : الطَّلَاقُ الْأَوَّلُ مُنَكَّرٌ يَحْتَمِلُ بِسَبَبِ تَنْكِيرِهِ جَمِيعَ مَرَاتِبِ الْجِنْسِ وَأَعْدَادِهِ وَأَنْوَاعِهِ مِنْ غَيْرِ تَنْصِيصٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ التَّنْكِيرِ فَاحْتَاجَ لِلتَّمْيِيزِ لِيَحْصُلَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْمُنَكَّرِ الْمَجْهُولِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَمُعَرِّفُهَا اسْتَغْنَى بِتَعْرِيفِهِ وَاسْتِغْرَاقِهِ النَّاشِئِ عَنْ لَامِ التَّعْرِيفِ عَنْ الْبَيَانِ فَهَذَا هُوَ الْمُرَجَّحُ وَيُحْكَى أَنَّ الرَّشِيدَ بَعَثَ لَهُ بِهَذِهِ الرُّقْعَةِ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَبَعَثَ أَبُو يُوسُفَ الْجَوَابَ بِهَا أَوَّلَ اللَّيْلِ عَلَى حَالِهِ وَجَاءَهُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ بِغَالٌ مُوسَقَةٌ قُمَاشًا وَتُحَفًا جَائِزَةً عَلَى جَوَابِهِ فَبَعَثَ بِهَا أَبُو يُوسُفَ إلَى الْكِسَائِيّ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا بِسَبَبِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَعَانَهُ عَلَى الْجَوَابِ فِيهَا .

( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) ذَهَبَ إمَامُنَا وَالشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ طَلَّقْتُك وَنَوَى عَدَدًا لَزِمَهُ مَا نَوَاهُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا نَوَى الثَّلَاثَ لَزِمَهُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ مُحْتَجًّا بِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَا يُفِيدُ إلَّا أَصْلَ الْمَعْنَى فَالزَّائِدُ يَكُونُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَالنِّيَّةُ لَا تُوجِبُ طَلَاقًا وَاحْتِجَاجُهُ هَذَا مَدْفُوعٌ بِوَجْهَيْنِ ( الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ) أَنَّ لَفْظَ ثَلَاثًا مَعَ صَرِيحِ الطَّلَاقِ كَلَفْظِ دِرْهَمًا مَعَ نَحْوِ عِشْرِينَ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَدَدِ ، فَكَمَا أَنَّ لَفْظَ دِرْهَمًا فِي نَحْوِ قَوْلِهِ عِنْدِي عِشْرِينَ دِرْهَمًا يُفِيدُ اخْتِصَاصَ الْعَدَدِ بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ كَانَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لُغَةً كَذَلِكَ لَفْظُ ثَلَاثًا فِي نَحْوِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يُخَصَّصُ اللَّفْظُ بِالْبَيْنُونَةِ وَكُلُّ مَا كَانَ يَحْصُلُ مَعَ الْمُفَسَّرِ كَتَخْصِيصِ صَرِيحِ الطَّلَاقِ بِالْبَيْنُونَةِ مَعَ لَفْظِ ثَلَاثًا وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُفَسَّرَ إنَّمَا جُعِلَ لِفَهْمِ السَّامِعِ لَا لِثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَوَجَبَ أَنْ يُعَدَّ مَنْطُوقًا بِهِ فِيهِ إذْ الْقَاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ بَيَانٍ لِمُجْمَلٍ يُعَدُّ مَنْطُوقًا بِهِ فِي ذَلِكَ الْمُجْمَلِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } لَا يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ الصَّلَوَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لَكِنْ لَمَّا وَرَدَ الْبَيَانُ مِنْ السُّنَّةِ فِي خُصُوصِيَّاتِهَا وَهَيْئَتِهَا وَأَحْوَالِهَا عُدَّ ذَلِكَ ثَابِتًا بِلَفْظِ الْقُرْآنِ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مَشْرُوعَةٌ بِالْقُرْآنِ ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَافَقْنَا عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا أَوْ طَلَّقْتُك أَوْ طَلِّقِي نَفْسَك وَنَوَى الثَّلَاثَ لَزِمَتْهُ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا وَإِلَّا فَمَا الْفَارِقُ ( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) حَكَى صَاحِبُ كِتَابِ مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ وَصَاحِبُ الْمُغْنِي أَنَّ الرَّشِيدَ كَتَبَ لَيْلَةً إلَى قَاضِيهِ أَبِي يُوسُفَ يَسْأَلُهُ

عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ : فَإِنْ تَرْفُقِي يَا هِنْدُ فَالرِّفْقُ أَيْمَنُ وَإِنْ تَخْرِقِي يَا هِنْدُ فَالْخَرْقُ أَشْأَمُ فَأَنْتِ طَلَاقٌ وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ ثَلَاثًا وَمَنْ يَخْرِقْ أَعَقُّ وَأَظْلَمُ فَبِينِي بِهَا أَنْ كُنْتِ غَيْرَ رَفِيقَةٍ وَمَا لِامْرِئٍ بَعْدَ الثَّلَاثِ مُقَدَّمُ فَقَالَ مَاذَا يَلْزَمُهُ إذَا رَفَعَ الثَّلَاثَ ، وَإِذَا نَصَبَهَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فَقُلْت هَذِهِ مَسْأَلَةٌ نَحْوِيَّةٌ فِقْهِيَّةٌ وَلَا آمَنُ الْخَطَأَ فِيهَا إنْ قُلْت فِيهَا بِرَأْيِي فَأَتَيْت الْكِسَائِيَّ وَهُوَ فِي فِرَاشِهِ فَسَأَلْته فَقَالَ إنْ رَفَعَ ثَلَاثٌ طَلُقَتْ وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَلَاقٌ وَأَخْبَرَ أَنَّ الطَّلَاقَ التَّامَّ ثَلَاثٌ وَإِنْ نَصْبَهَا طَلُقَتْ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَمَا بَيْنَهُمَا جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ فَكَتَبْت بِذَلِكَ إلَى الرَّشِيدِ أَوَّلَ اللَّيْلِ إثْرَ إرْسَالِهِ بِالسُّؤَالِ فَأَرْسَلَ إلَيَّ آخِرَ اللَّيْلِ بِغَالًا مُوسَقَةً قُمَاشًا وَتُحَفًا جَائِزَةً عَلَى الْجَوَابِ فَوَجَّهْت بِهَا إلَى الْكِسَائِيّ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَعَانَنِي عَلَى الْجَوَابِ ا هـ .
قَالَ الْأَمِيرُ عَلَى الْمُغْنِي وَالْأَبْيَارِيُّ عَلَيْهِ تَخْرِقِي مِنْ بَابِ فَتَحَ وَكَرَمَ وَأَيْمَنَ تَفْضِيلٌ مِنْ الْيُمْنِ الْبَرَكَةِ ضِدَّ أَشْأَمَ وَالْخَرْقُ الْعُنْفُ وَزْنًا وَمَعْنًى هُنَا اسْمٌ لَا غَيْرُ وَبِفَتْحِ الْخَاءِ وَالرَّاءِ مَصْدَرٌ وَاسْمٌ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ الْقَامُوسِ وَيَأْتِي بِمَعْنَى الدَّهْشِ لِخَوْفٍ أَوْ حَيَاءٍ وَعَدَمِ إتْقَانِ الْعَمَلِ بِالْيَدِ أَيْضًا ، وَمَنْ يَخْرِقْ جَعَلَهَا ابْنُ يَعِيشَ شَرْطِيَّةً حَذَفَ صَدْرَ جَوَابِهَا أَيْ فَهُوَ أَعَقُّ ، وَقَالَ الدَّمَامِينِيُّ مَوْصُولَةٌ خَبَرُهَا أَعَقُّ وَتَسْكِينُ يَخْرِقْ لِلتَّخْفِيفِ كَقِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو فِي نَحْوِ يَأْمُرْكُمْ فَأَصْلُهُ الرَّفْعُ ، وَقَوْلُهُ أَنْ كُنْت بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَلَامُ الْعِلَّةِ مُقَدَّرَةٌ مَعَهَا فَالْمَعْنَى بِينِي أَيْ ابْعَدِي عَنِّي وَفَارِقِينِي بِهَذِهِ التَّطْلِيقَاتِ لِأَجْلِ أَنْ كُنْت غَيْرَ رَفِيقَةٍ أَيْ لَمْ يَكُنْ فِيك رِفْقٌ وَلِينٌ ، بَلْ شُؤْمٌ وَعُنْفٌ وَمُقَدَّمُ

اسْمُ مَفْعُولٍ بِمَعْنَى التَّقَدُّمِ أَيْ الْمَصْدَرِ فَهُوَ مِنْ قَدَّمَ بِمَعْنَى تَقَدَّمَ فَالْمَعْنَى لَيْسَ لِأَحَدٍ تَقَدُّمٌ إلَى الْخَمْسَةِ مَثَلًا بَعْدَ إيقَاعِ الثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّهَا نِهَايَةُ الطَّلَاقِ ا هـ وَبُحِثَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِوُجُوهٍ ( الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ) لِصَاحِبِ الْمُغْنِي أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُنْظَرَ لِمَا أَرَادَهُ هَذَا الشَّاعِرُ الْمُعَيَّنُ فَيُقَالُ هُوَ إنَّمَا أَرَادَ الثَّلَاثَ لِقَوْلِهِ بَعْدُ فَبِينِي بِهَا ، الْبَيْتَ ، وَإِمَّا أَنْ يُنْظَرَ إلَى مَا يَقْتَضِيهِ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ شَيْءٍ آخَرَ مِنْ قَوَاعِدِ الْفُقَهَاءِ وَاسْتِحْسَانَاته م فَيُقَالُ الصَّوَابُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ مُحْتَمِلٌ لِوُقُوعِ الثَّلَاثِ وَلِوُقُوعِ الْوَاحِدَةِ أَمَّا الرَّفْعُ فَلِأَنَّ " الـ " فِي الطَّلَاقِ إمَّا لِمَجَازِ الْجِنْسِ كَمَا تَقُولُ الرَّجُلُ الْمُعْتَدُّ بِهِ وَإِمَّا لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ مِثْلُهَا فِي { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } أَيْ ، وَهَذَا الطَّلَاقُ الْمَذْكُورُ عَزِيمَةً ثَلَاثٌ وَلَا تَكُونُ لِلْجِنْسِ الْحَقِيقِيِّ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْإِخْبَارُ عَنْ الْعَامِّ بِالْخَاصِّ كَمَا يُقَالُ الْحَيَوَانُ إنْسَانٌ وَذَلِكَ بَاطِلٌ إذْ لَيْسَ كُلُّ حَيَوَانٍ إنْسَانٌ وَلَا كُلُّ طَلَاقٍ عَزِيمَةٌ وَلَا ثَلَاثٌ فَعَلَى الْجِنْسِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ تَقَعُ وَاحِدَةٌ كَمَا قَالَ الْكِسَائِيُّ وَعَلَى الْعَهْدِيَّةِ تَقَعُ الثَّلَاثُ ، وَهَذَا مِمَّا فَاتَ الْكِسَائَيَّ .
وَأَمَّا النَّصْبُ فَلِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لَأَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ فَيَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ حَيْثُ جُعِلَ مَعْمُولًا لِطَلَاقِ الْأَوَّلِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ إذْ الْمَعْنَى فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَاعْتُرِضَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ أَوْ جُعِلَ مَعْمُولًا لِلطَّلَاقِ الثَّانِي وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ أَمَّا إذَا جُعِلَ مَفْعُولًا لِطَلَاقِ الثَّانِي وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ فَلَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الثَّلَاثِ ، بَلْ وَاحِدَةٍ وَلَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي عَزِيمَةٍ ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ

مَصْدَرًا مُؤَوَّلَةٌ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ كَمَا أَنَّ طَلَاقَ مُؤَوَّلٌ بِطَالِقٍ فَلَا يَلْزَمُ وُقُوعُ الثَّلَاثِ وَإِنْ احْتَمَلَهَا بِجَعْلِ " الـ " لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى وَالطَّلَاقَ عَزِيمَةٌ إذَا كَانَ ثَلَاثًا بِمَعْنَى أَنَّ الْفِرَاقَ بِهِ حَالَ كَوْنِهِ ثَلَاثًا فَإِنَّمَا يَقَعُ مَا نَوَاهُ ا هـ بِتَصَرُّفٍ وَتَوْضِيحٍ قَالَ الْبُنَانِيُّ قَالَ ابْنُ غَازِيٍّ وَهُوَ تَحْرِيرٌ عَجِيبٌ ا هـ .
وَبَقِيَ أَنَّهُ إمَّا أَنْ يُنْظَرَ إلَى مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ مَعَ النَّظَرِ إلَى قَوَاعِدِ الْفُقَهَاءِ وَاسْتِحْسَانَاته م وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيُقَالُ إنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُولُ إذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ الْوَاحِدَةَ وَغَيْرَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا وَاحِدَةٌ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا وَاحِدَةٌ رَفَعَ أَوْ نَصَبَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِوُقُوعِ الثَّلَاثِ إذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ ذَلِكَ مُرَاعَاةً لِلِاحْتِيَاطِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا الثَّلَاثُ رَفَعَ أَوْ نَصَبَ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ حَوَاشِي الْمُغْنِي لِلْأَمِيرِ وَالْأَبْيَارِيِّ قَالَ عبق عَلَى خَلِيلٍ مُقْتَضَى مَذْهَبِنَا لُزُومُ الثَّلَاثِ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ احْتِيَاطًا ا هـ أَيْ وَلَا يُلْتَفَتُ لِمُطَابَقَةِ النَّحْوِ وَلِذَا قَالَ الشَّيْخُ الْعِمَادِيُّ مُجِيبًا لِلشَّيْخِ أَحْمَدَ الدَّمَنْهُورِيِّ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ هَذَا : وَمَذْهَبُنَا الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ مَالِكٍ وُقُوعُ ثَلَاثٍ مُطْلَقًا وَهُوَ أَسْلَمُ إلَى أَنْ قَالَ : ، وَقَدْ قَالَ فِي الْمُغْنِي خِلَافَ الَّذِي جَرَى كَمَا لِلدَّمَامِينِيِّ بِنَصٍّ يُتَرْجَمُ وَإِنْ انْتِصَابًا وَارْتِفَاعًا كِلَاهُمَا يُفِيدُ احْتِمَالَيْهِ بِذَلِكَ صَمَّمُوا فَيُحْتَمَلُ التَّوْحِيدُ دُونَ ثَلَاثَةٍ وَيُحْتَمَلُ التَّوْقِيفُ وَالْوَقْفُ أَفْخَمُ ا هـ كَنُونٍ .
وَأَجَابَ ابْنُ الصَّائِغُ عَنْ الِاحْتِمَالِ مَعَ الرَّفْعِ بِاخْتِيَارِ الشِّقِّ الْأَوَّلِ وَاعْتِمَادِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ الْوَاحِدَةَ وَغَيْرَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا وَاحِدَةٌ فَصَحَّ أَنَّهُ عَلَى الرَّفْعِ طَلُقَتْ وَاحِدَةٌ كَمَا فِي حَوَاشِي الْأَمِيرِ عَلَى الْمُغْنِي وَأَيَّدَهُ فِي الْقَصْرِ

بِأَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ اخْتِيَارَهُ الشِّقَّ الْأَوَّلَ دُونَ الثَّانِي كَمَا زَعَمَ الشُّمُنِّيُّ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ تَعْبِيرِ الْمُغْنِي بِالصَّوَابِ الْمُقْتَضِي أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْكِسَائِيُّ خَطَأٌ ، الثَّانِي أَنَّ السَّائِلَ لَهُ أَجَلُّ فَقِيهٍ فَلَا يَحْسُنُ قَطْعُ النَّظَرِ عَنْ قَوَاعِدِ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَابِهِ وَالْكِسَائِيُّ لَمْ يَكُنْ غَرًّا فِي تِلْكَ الْقَوَاعِدِ وَإِنَّمَا كَانَتْ الْعَرَبِيَّةُ وَالْقِرَاءَةُ أَغْلَبَ عَلَيْهِ ا هـ .
وَأَجَابَ الْأَصْلُ عَنْ الِاحْتِمَالِ مَعَ النَّصْبِ بِأَنَّ الْمُرَجِّحَ لِجَعْلِهِ مَعْمُولًا لِطَلَاقِ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَوْ تَمْيِيزٌ هُوَ أَنَّهُ مُنَكَّرٌ يَحْتَمِلُ سَبَبُ تَنَكُّرِهِ جَمِيعَ مَرَاتِبِ الْجِنْسِ وَأَعْدَادِهِ وَأَنْوَاعِهِ مِنْ غَيْرِ تَنْصِيصٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ التَّنْكِيرِ فَاحْتَاجَ لِلتَّمْيِيزِ لِيَحْصُلَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْمُنَكَّرِ الْمَجْهُولِ ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ الثَّانِي فَبِتَعْرِيفِهِ وَاسْتِغْرَاقِهِ النَّاشِئِ عَنْ لَامِ التَّعْرِيفِ يُسْتَغْنَى عَنْ الْبَيَانِ ا هـ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ الِاسْتِغْرَاقُ الْمَجَازِيُّ الْحَقِيقِيُّ لِمَا عَلِمْته فِي كَلَامِ الْمُغْنِي الْمُتَقَدِّمِ فَلَا تَغْفُلْ نَعَمْ قَالَ ابْنُ الضَّائِعِ يُمْكِنُ عَلَى إرَادَةِ الْكُلِّ الْمَجْمُوعِيِّ أَيْ لَا كُلُّ فَرْدٍ فَرْدٍ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى أَنَّ مَجْمُوعَ أَفْرَادِ الطَّلَاقِ ثَلَاثٌ وَالْمَجْمُوعُ خَاصٌّ ، فَيَكُونُ إخْبَارًا عَنْ خَاصٍّ بِخَاصٍّ وَرَدَّهُ الشُّمُنِّيُّ بِأَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ عِنْدَهُمْ مِنْ بَابِ الْكُلِّيَّةِ أَيْ الْحُكْمِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ وَلِهَذَا امْتَنَعَ وَصْفُ الْمُفْرَدِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ حَرْفُ الِاسْتِغْرَاقِ بِنَعْتِ الْجَمْعِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَإِنْ حَكَاهُ الْأَخْفَشُ فِي نَحْوِ الدِّينَارِ الصُّفْرِ وَالدَّرَاهِمِ الْبِيضِ أَمِيرٌ بِتَوْضِيحٍ ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) قَالَ الْأَمِيرُ فِي حَوَاشِي الْمُغْنِي شَنَّعَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ عَلَى الْمُصَنِّفِ يَعْنِي ابْنَ هِشَامٍ بِأَنَّهُ جَهِلَ بِمَقَامِ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَةَ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ

فَلَا يَحْتَاجُ أَبُو يُوسُفَ إلَى مُرَاجَعَةِ الْكِسَائِيُّ قُلْنَا أَيْ فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ هَذَا مِنْ تَعَاوُنِ الْعُلَمَاءِ وَمُشَارَكَتِهِمْ خُصُوصًا أَهْلَ دَوْلَةٍ وَاحِدَةٍ ، بَلْ هُوَ عَيْنُ إمَامِيَّةِ أَبِي يُوسُفَ وَكَمَالِهِ حَيْثُ لَمْ يَسْتَقِلَّ بِرَأْيِهِ مَعَ عَدَمِ احْتِيَاجِهِ وَهَكَذَا شَأْنُ السَّلَفِ وَلَعَمْرِي الْكِسَائِيّ أَحَدُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ وَإِمَامُ الْعَرَبِيَّةِ يَتَكَلَّمُ مَعَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ ا هـ بِلَفْظِ الْوَجْهِ الثَّالِثِ قَالَ الْأَمِيرُ أَيْضًا قِيلَ الصَّوَابُ أَنَّ السُّؤَالَ مِنْ الْكِسَائِيّ لِمُحَمَّدٍ قُلْنَا أَيْ فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ تَعَدُّدُ الْوَاقِعَةِ مُمْكِنٌ ا هـ بِلَفْظِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ ) فِي بِدَايَةِ ابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ مَالِكٍ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ دُونِ الثَّلَاثِ فِي الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ حَبْلُك عَلَى غَارِبِك وَمِثْلُ الْبَتَّةِ وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ أَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِيَّةٌ حَيْثُ قَالَ ذَلِكَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَهُ فِي الْخُلْعِ .
وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَيُصَدِّقُهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ دُونِ الثَّلَاثِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ طَلَاقَ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا بَائِنٌ وَيُقْبَلُ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ دُونِ الثَّلَاثِ فِيهَا مُطْلَقًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ بِالْكِنَايَاتِ كُلِّهَا مَعَ هَذِهِ الْقَرِينَةِ إلَّا بِأَرْبَعٍ حَبْلُك عَلَى غَارِبِك وَاعْتَدِّي وَاسْتَبْرِي وَتَقَنَّعِي ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ مِنْ الْمُحْتَمَلَةِ غَيْرِ الظَّاهِرَةِ وَالْمُحْتَمَلَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِمَا إنَّهُ يَعْتَبِرُ فِي الْمُحْتَمَلَةِ نِيَّةً ا هـ مُلَخَّصًا وَلَا يَخْفَاك أَنَّ إطْلَاقَهُ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ فِي تَقْسِيمِهَا مِنْ أَنَّ بَتَّةً وَحَبْلَك عَلَى غَارِبِك مِمَّا يَلْزَمُ بِهِ ثَلَاثٌ وَلَا يَنْوِي مُطْلَقًا مِثْلُ وَأَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِيَّةٌ مِمَّا يَلْزَمُ فِيهِ الثَّلَاثُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا كَغَيْرِهَا إنْ لَمْ يَنْوِ أَقَلَّ نَعَمْ قَدْ مَرَّ عَنْ الْأَصْلِ أَنَّ الْمَدَارَ فِي تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الْعُرْفُ فَلَعَلَّ مَا تَقَدَّمَ مَبْنِيٌّ عَلَى عُرْفٍ ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى عُرْفٍ آخَرَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ ) فِي حَاشِيَةِ الْعَطَّارِ عَلَى مُحَلَّى جَمْعِ الْجَوَامِعِ قَالَ الْقَرَافِيُّ ، قُلْت يَوْمًا لِلشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ إنَّ الْقُرَّاءَ الْتَزَمُوا قَاعِدَةَ أَنَّ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ لِلْعُمُومِ فِي الْأُصُولِ وَخَالَفُوهَا فِي الْفُرُوعِ حَيْثُ قَالُوا لَوْ قَالَ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَبَبُ الْمُخَالَفَةِ أَنَّ الْأَيْمَانَ تَتْبَعُ الْمَنْقُولَاتِ الْعُرْفِيَّةَ دُونَ الْأَوْضَاعِ اللُّغَوِيَّةِ إذَا تَعَارَضَا ، وَقَدْ انْتَقَلَ اللَّامُ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ لِحَقِيقَةِ الْجِنْسِ دُونَ اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ فَلِذَا كَانَ الْحَالِفُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا الْمَاهِيَّةُ الْمُشْتَرَكَةُ فَلَا تَزِيدُ اللَّامُ لَهُ عَلَى الْوَاحِدِ ا هـ مَحَلُّ الْحَاجَةِ قَالَ الشِّرْبِينِيُّ لَكِنَّهُمْ قَالُوا إنَّ الَّذِي يَتْبَعُ الْعُرْفَ مُطْلَقًا هُوَ الْحَلِفُ بِغَيْرِ الطَّلَاقِ أَمَّا بِهِ فَيَتْبَعُ اللُّغَةَ مَتَى اشْتَهَرَتْ وَإِنْ اشْتَهَرَ الْعُرْفُ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ هُنَا غَيْرُ مَشْهُورٍ ا هـ وَلَعَلَّ مُرَادَهُ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ وَإِلَّا فَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْحَلِفَ مُطْلَقًا يَتْبَعُ الْعُرْفَ مُطْلَقًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الذَّوَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الصِّفَاتِ ) اعْلَمْ أَنَّ الْبَابَيْنِ وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ غَيْرَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الصِّفَاتِ يَجُوزُ أَنْ يُؤْتَى فِيهِ بِلَفْظٍ دَالٍّ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ فِي الظَّاهِرِ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الذَّوَاتِ وَبَيَانُ ذَلِكَ بِمَسْأَلَتَيْنِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى نَقْلُ صَاحِبِ الْجَوَاهِرِ ، وَقَالَهُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ إنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً إنْ كَانَ مُسْتَفْتِيًا .
وَقَالَ نَوَيْت ذَلِكَ وَفِي مَوْضِعٍ لَوْ سَكَتَ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَيَخْتَلِفُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ آتٍ بِمَا لَا يُشْبِهُ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ شَاءَ هَذَا الْحَجَرُ ، وَيَخْتَلِفُ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ إلَّا وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَثْنِيًا لِلْأَوَّلِ وَإِنْ قَالَ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً وَأَعَادَ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الْوَاحِدَةِ يَقَعُ عَلَيْهِ اثْنَتَانِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ طَلْقَتَانِ إنْ أَعَادَهُ عَلَى طَلْقَةٍ أَوْ ثَلَاثٍ إنْ أَعَادَهُ عَلَى الْوَاحِدَةِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْمَسَائِلِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَتَقْرِيرُهَا وَإِيضَاحُهَا أَنْ تَقُولَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً مَعْنَاهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَالطَّلَاقُ مَصْدَرٌ قَدْ وَصَفَهُ بِالْوَحْدَةِ فَهَاهُنَا حِينَئِذٍ صِفَةٌ وَمَوْصُوفٌ فِي كَلَامِهِ فَإِنْ قَصَدَ رَفْعَ الصِّفَةِ دُونَ الْمَوْصُوفِ فَقَدْ رَفَعَ بَعْضَ مَا نَطَقَ بِهِ فَيَصِحُّ وَلَنَا قَاعِدَةٌ عَقْلِيَّةٌ أَنَّ كُلَّ ضِدَّيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا إذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ ثُبُوتُ الْآخَرِ كَقَوْلِك هَذَا الْعَدَدُ لَيْسَ بِزَوْجٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ فَرْدًا .
وَلَيْسَ بِفَرْدٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ زَوْجًا ؛ لِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ

بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْفَرْدِ فِي الْعَدَدِ ، وَكَذَلِكَ هَاهُنَا لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْوَحْدَةِ وَالْكَثْرَةِ فِي حَقِيقَةِ الْمَصْدَرِ فَإِذَا رَفَعَ الْوَحْدَةَ مِنْ مَصْدَرِ الطَّلَاقِ تَعَيَّنَ ضِدُّهَا وَهُوَ الْكَثْرَةُ وَأَقَلُّ مَرَاتِبِ الْكَثْرَةِ اثْنَانِ فَيَلْزَمُهُ طَلْقَتَانِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْ الزَّائِدِ عَلَيْهِمَا وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا سِتُّ حَالَاتٍ الْحَالَةُ الْأُولَى مَا تَقَدَّمَ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَقْصِدَ بِقَوْلِهِ وَاحِدَةً قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ الصِّفَةَ وَحْدَهَا .
ثُمَّ يَسْتَثْنِيَهَا فَاسْتِثْنَاؤُهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ جُمْلَةَ مَا وَضَعَهُ أَوَّلًا الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَقْصِدَ بِقَوْلِهِ وَاحِدَةً نَفْسَ الطَّلَاقِ مِنْ حَيْثُ هُوَ طَلَاقٌ وَلَا يَأْخُذُهُ بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ وَلَا بِقَيْدِ الْكَثْرَةِ ، ثُمَّ يُورِدُ الِاسْتِثْنَاءَ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ فَلَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ عَيْنَ مَا وَضَعَهُ ( الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ ) أَنْ يَقْصِدَ بِقَوْلِهِ أَوَّلًا الْمَصْدَرَ الْمَوْصُوفَ بِالْوَحْدَةِ وَيَقْصِدَ بِقَوْلِهِ إلَّا وَاحِدَةً الطَّلَاقَ الْمَوْصُوفَ بِالْوَحْدَةِ فَلَا يَنْفَعُهُ أَيْضًا اسْتِثْنَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ جُمْلَةَ مَا وَضَعَهُ ( الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ ) أَنْ يُرِيدَ بِلَفْظِ الْأَوَّلِ الطَّلَاقَ الْمَوْصُوفَ بِالْوَحْدَةِ وَيَقْصِدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمَوْصُوفِ وَهُوَ مَفْهُومُ الطَّلَاقِ دُونَ الْوَحْدَةِ فَهَذَا مُسْتَثْنًى لِبَعْضِ مَا نَطَقَ بِهِ مُطَابَقَةً غَيْرَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ أَصْلِ الطَّلَاقِ نَفْيُ صِفَاتِهِ مِنْ الْوَحْدَةِ وَالْكَثْرَةِ فَتَنْتَفِي الصِّفَةُ أَيْضًا مَعَ الْمَوْصُوفِ فَيَبْطُلُ اسْتِثْنَاؤُهُ وَيَلْزَمُهُ طَلْقَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ بِالْمُطَابَقَةِ وَالِالْتِزَامِ ( الْحَالَةُ السَّادِسَةُ ) أَنْ يَسْتَعْمِلَ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي الطَّلَاقِ بِوَصْفِ الثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ إطْلَاقُ الْجِنْسِ وَإِرَادَةُ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ مِنْهُ فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا وَاحِدَةً يُرِيدُ بِهَا بَعْضَ ذَلِكَ

الْعَدَدِ الَّذِي كَانَ يَقْصِدُهُ لَزِمَهُ طَلْقَتَانِ وَهُمَا اللَّتَانِ بَقِيَتَا فِي الْأُولَى وَخَرَجَتْ وَاحِدَةٌ مِنْ الثَّلَاثِ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبِهَا ظَهَرَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً كَيْف تَلْزَمُهُ اثْنَتَانِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً إنْ أَرَادَ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَحَدَ هَذِهِ الثَّلَاثِ لَزِمَهُ اثْنَتَانِ .
وَإِنْ أَرَادَ اسْتِثْنَاءَ الصِّفَةِ وَهِيَ الْوَحْدَةِ عَنْ طَلْقَةٍ مِنْ هَذِهِ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَلْزَمَهُ أَرْبَعُ تَطْلِيقَاتٍ لِأَنَّهُ رَفَعَ صِفَةَ الْوَحْدَةِ عَنْ طَلْقَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ فَيَقَعُ فِيهَا الْكَثْرَةُ فَتَصِيرُ تِلْكَ الطَّلْقَةُ طَلْقَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إلَى لُزُومِ أَرْبَعٍ بِالْإِجْمَاعِ اقْتَصَرْنَا عَلَى ثَلَاثٍ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَرْبَعَ تَطْلِيقَاتٍ وَمِنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الصِّفَاتِ قَوْلُ الشَّاعِرِ ( : قَاتَلَ ابْنَ الْبَتُولِ إلَّا عَلِيًّا ) قَالَ الْأُدَبَاءُ مَعْنَاهُ قَاتَلَ ابْنَ فَاطِمَةَ الْبَتُولِ أَيْ الْمُنْقَطِعَةِ عَنْ الْأَزْوَاجِ إلَّا عَنْ عَلِيٍّ فَاسْتَثْنَى مِنْ صِفَتِهَا وَلَمْ يَسْتَثْنِهَا غَيْرَ أَنَّهُ فِي هَذَا الْكَلَامِ لَمْ يَسْتَثْنِ جُمْلَةَ الصِّفَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ ، بَلْ مِنْ مُتَعَلِّقِهَا فَإِنَّ الِانْقِطَاعَ الَّذِي هُوَ التَّبَتُّلُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَنْ الْأَزْوَاجِ كُلِّهَا فَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى مِنْ مُتَعَلِّقِ التَّبَتُّلِ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنْ التَّبَتُّلِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا } أَيْ انْقَطِعْ إلَيْهِ انْقِطَاعًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى } فَهَذَا اسْتِثْنَاءُ نَوْعٍ مِنْ الصِّفَةِ وَهِيَ الْمُونَةُ الْأُولَى ، وَقَوْلُهُ بِمَيِّتِينَ لَفْظٌ يَشْمَلُهُمْ بِصِفَةِ الْمَوْتِ وَلَمْ يَسْتَثْنُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَحَدًا ، بَلْ بَعْضَ أَنْوَاعِ الصِّفَةِ فَصَارَ الِاسْتِثْنَاءُ تَارَةً

يُقْطَعُ فِي جُمْلَةِ الصِّفَةِ كَمَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ وَفِي بَعْضِ أَنْوَاعِهَا كَالْآيَةِ وَفِي بَعْضِ مُتَعَلِّقَاتِهَا كَالشِّعْرِ الْمُتَقَدِّمِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَقُولُ مَرَرْت بِالسَّاكِنِ إلَّا السَّاكِنَ فَتَسْتَثْنِي الصِّفَةَ مِنْ الصِّفَةِ وَهُوَ السُّكُونُ فَقَطْ وَتَتْرُكُ الْمَوْصُوفَ فَتَتَعَيَّنُ لَهُ الْحَرَكَةُ ، فَيَكُونُ مُرُورُك بِالْمُتَحَرِّكِ ، وَكَذَلِكَ مَرَرْت بِالْمُتَحَرِّكِ إلَّا الْمُتَحَرِّكَ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّك مَرَرْت بِالسَّاكِنِ كَمَا تَقَدَّمَ التَّقْرِيرُ ، وَقَدْ بَسَطْتُ هَذِهِ الْمَسَائِلَ فِي كِتَابِ الِاسْتِغْنَاءِ فِي أَحْكَامِ الِاسْتِثْنَاءِ .
وَهُوَ مُجَلَّدٌ كَبِيرٌ وَاحِدٌ وَخَمْسُونَ بَابًا وَأَرْبَعُمِائَةِ مَسْأَلَةٍ لَيْسَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا الِاسْتِثْنَاءُ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الصِّفَةِ مِنْ أَغْرَبِ أَبْوَابِهِ ، وَقَدْ بَسَطْته لَك هَاهُنَا بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ وَظَهَرَ لَك مَعْنَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي الطَّلَاقِ بِسَبَبِهِ ، وَلَوْلَاهُ لَمْ يُفْهَمْ أَصْلًا أَلْبَتَّةَ فَنَفَائِسُ الْقَوَاعِدِ لِنَوَادِرِ الْمَسَائِلِ وَجَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ هَدَانَا اللَّهُ سَوَاءَ السَّبِيلِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ .
قَالَ ( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الذَّوَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الصِّفَاتِ ) قُلْت هَذَا الْفَرْقُ يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ وَنَظَرٍ ، وَكَذَلِكَ الْفَرْقَانِ اللَّذَانِ بَعْدَهُ .

الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الذَّوَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الصِّفَاتِ ) وَذَلِكَ أَنَّ الْبَابَيْنِ وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَّا أَنَّهُمَا افْتَرَقَا فِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الذَّوَاتِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْتَى فِيهِ بِلَفْظٍ دَالٍّ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ بِأَنْ يَسْتَغْرِقَ الْمُسْتَثْنَى لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤْتَى فِيهِ بِلَفْظٍ دَالٍّ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ فِي الظَّاهِرِ وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الصِّفَاتِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَقَعَ فِي جُمْلَةِ الصِّفَةِ كَأَنْ تَقُولَ مَرَرْت بِالسَّاكِنِ إلَّا السَّاكِنَ أَوْ مَرَرْت بِالْمُتَحَرِّكِ إلَّا الْمُتَحَرِّكَ فَتَسْتَثْنِي الصِّفَةَ مِنْ الصِّفَةِ وَهُوَ السُّكُونُ فَقَطْ فِي الْأَوَّلِ وَالْحَرَكَةُ فَقَطْ فِي الثَّانِي وَتَتْرُكُ الْمَوْصُوفَ فَتَتَعَيَّنُ لَهُ الْحَرَكَةُ فِي الْأَوَّلِ ، فَيَكُونُ مُرُورُك بِالْمُتَحَرِّكِ وَيَتَعَيَّنُ السُّكُونُ فِي الثَّانِي ، فَيَكُونُ مُرُورُك بِالسَّاكِنِ وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ أَيْ الِاسْتِثْنَاءُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الصِّفَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى } فَقَوْلُهُ بِمَيِّتِينَ لَفْظٌ يَشْمَلُهُمْ بِصِفَةِ الْمَوْتِ وَلَمْ يَسْتَثْنُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَحَدًا ، بَلْ بَعْضَ أَنْوَاعِ الصِّفَةِ .
وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ أَيْ الِاسْتِثْنَاءُ فِي بَعْضِ مُتَعَلِّقَاتِ الصِّفَةِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ : قَاتَلَ ابْنَ الْبَتُولِ إلَّا عَلِيًّا فَمَعْنَاهُ كَمَا قَالَ الْأُدَبَاءُ قَاتَلَ ابْنَ فَاطِمَة الْبَتُول أَيْ الْمُنْقَطِعَةِ عَنْ الْأَزْوَاجِ إلَّا عَنْ عَلِيٍّ فَاسْتَثْنَى مِنْ صِفَتِهَا وَلَمْ يَسْتَثْنِهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِ جُمْلَةَ الصِّفَةِ وَلَا نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِهَا ، بَلْ اسْتَثْنَى مُتَعَلِّقًا مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهَا فَإِنَّ التَّبَتُّلَ الَّذِي هُوَ الِانْقِطَاعُ قَالَ تَعَالَى { وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا } أَيْ انْقَطِعْ عَلَيْهَا انْقِطَاعًا

لَمَّا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَنْ الْأَزْوَاجِ كُلِّهَا اسْتَثْنَى مِنْ مُتَعَلِّقِ التَّبَتُّلِ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مَا قَالَهُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ مِنْ أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً فَإِنْ كَانَ مُسْتَفْتِيًا ، وَقَالَ نَوَيْت ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ وَفِي مَوْضِعٍ لَوْ سَكَتَ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَيُخْتَلَفُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ آتٍ بِمَا لَا يُشْبِهُ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ شَاءَ هَذَا الْحَجَرُ وَيَخْتَلِفُ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ إلَّا وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَثْنِيًا لِلْأَوَّلِ وَإِنْ قَالَ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً وَأَعَادَ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الْوَاحِدَةِ يَقَعُ عَلَيْهِ اثْنَانِ .
وَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً لَزِمَهُ طَلْقَتَانِ أَيْضًا إنْ أَعَادَهُ عَلَى طَلْقَةٍ وَثَلَاثٌ إنْ أَعَادَهُ عَلَى الْوَاحِدَةِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْمَسَائِلِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَتَقْرِيرُهَا وَإِيضَاحُهَا أَنْ تَقُولَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً مَعْنَاهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَالطَّلَاقُ مَصْدَرٌ قَدْ وَصَفَهُ بِالْوَحْدَةِ فَصَارَ فِي كَلَامِهِ حِينَئِذٍ صِفَةٌ وَمَوْصُوفٌ فَإِذَا عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ إلَّا وَاحِدَةً كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمِلًا سِتَّ حَالَاتٍ ( الْحَالَةُ الْأُولَى ) أَنْ يَقْصِدَ بِقَوْلِهِ وَاحِدَةً الصِّفَةَ وَالْمَوْصُوفَ مَعًا ، ثُمَّ يَقْصِدَ رَفْعَ الصِّفَةِ دُونَ الْمَوْصُوفِ ، فَيَكُونُ قَدْ رَفَعَ مَصْدَرَ الطَّلَاقِ الْوَحْدَةِ فَيَتَعَيَّنُ ضِدُّهَا وَهُوَ الْكَثْرَةُ إذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا وَالْقَاعِدَةُ الْعَقْلِيَّةُ أَنَّ كُلَّ ضِدَّيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا إذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ ثُبُوتُ الْآخَرِ أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا الْعَدَدُ لَيْسَ بِزَوْجٍ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ فَرْدًا أَوْ لَيْسَ بِفَرْدٍ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ زَوْجًا ؛ لِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْفَرْدِ وَأَقَلُّ

مَرَاتِبِ الْكَثْرَةِ اثْنَانِ فَيَلْزَمُهُ طَلْقَتَانِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْ الزَّائِدِ ( الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ ) أَنْ يَقْصِدَ بِقَوْلِهِ وَاحِدَةً قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ الصِّفَةَ وَحْدَهَا ، ثُمَّ يَسْتَثْنِيهَا فَاسْتِثْنَاؤُهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ جُمْلَةَ مَا وَضَعَهُ أَوَّلًا ( الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ ) أَنْ يَقْصِدَ بِقَوْلِهِ وَاحِدَةً نَفْسَ الطَّلَاقِ مِنْ حَيْثُ هُوَ طَلَاقٌ وَلَا يَأْخُذُهُ بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ وَلَا بِقَيْدِ الْكَثْرَةِ ، ثُمَّ يُورِدَ الِاسْتِثْنَاءَ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ فَلَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ عَيْنَ مَا وَضَعَهُ ( الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ ) أَنْ يَقْصِدَ بِقَوْلِهِ أَوَّلًا الْمَصْدَرَ الْمَوْصُوفَ بِالْوَحْدَةِ وَيَقْصِدَ بِقَوْلِهِ إلَّا وَاحِدَةً الطَّلَاقَ الْمَوْصُوفَ بِالْوَحْدَةِ فَلَا يَنْفَعُهُ أَيْضًا اسْتِثْنَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ جُمْلَةَ مَا وَضَعَهُ ( الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ ) أَنْ يُرِيدَ بِلَفْظِ الْأَوَّلِ الطَّلَاقَ الْمَوْصُوفَ بِالْوَحْدَةِ وَيَقْصِدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمَوْصُوفَ وَهُوَ مَفْهُومُ الطَّلَاقِ دُونَ الْوَحْدَةِ فَهَذَا مُسْتَثْنًى لِبَعْضِ مَا نَطَقَ بِهِ مُطَابَقَةً غَيْرَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ أَصْلِ الطَّلَاقِ نَفْيُ صِفَاتِهِ مِنْ الْوَحْدَةِ وَالْكَثْرَةِ فَتَنْتَفِي الصِّفَةُ أَيْضًا مَعَ الْمَوْصُوفِ فَيَبْطُلُ اسْتِثْنَاؤُهُ وَيَلْزَمُهُ طَلْقَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ بِالْمُطَابَقَةِ وَالِالْتِزَامِ ( الْحَالَةُ السَّادِسَةُ ) أَنْ يَسْتَعْمِلَ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي الطَّلَاقِ بِوَصْفِ الثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ إطْلَاقُ الْجِنْسِ وَإِرَادَةُ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ مِنْهُ فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا وَاحِدَةً يُرِيدُ بِهَا بَعْضَ ذَلِكَ الْعَدَدِ الَّذِي كَانَ يَقْصِدُهُ لَزِمَهُ طَلْقَتَانِ وَهُمَا اللَّتَانِ بَقِيَتَا مِنْ الثَّلَاثِ الَّتِي أَرَادَهَا بِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ بَعْدَ إخْرَاجِ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ فَظَهَرَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ كَيْفَ تَلْزَمُهُ اثْنَتَانِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ وَاحِدَةً

وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً إنْ أَرَادَ بِالِاسْتِثْنَاءِ إحْدَى هَذِهِ الثَّلَاثِ لَزِمَهُ اثْنَتَانِ وَإِنْ أَرَادَ اسْتِثْنَاءَ الصِّفَةِ وَهِيَ الْوَحْدَةُ عَنْ طَلْقَةٍ مِنْ هَذِهِ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَلْزَمَهُ أَرْبَعُ تَطْلِيقَاتٍ ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ صِفَةَ الْوَحْدَةِ عَنْ طَلْقَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ فَيَقَعُ فِيهَا الْكَثْرَةُ فَتَصِيرُ تِلْكَ الطَّلْقَةُ طَلْقَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إلَى لُزُومِ أَرْبَعٍ بِالْإِجْمَاعِ اقْتَصَرْنَا عَلَى ثَلَاثٍ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَرْبَعَ تَطْلِيقَاتٍ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ كَذَا قَالَ الْأَصْلُ قَالَ ، وَقَدْ بَسَطْت هَذِهِ الْمَسَائِلَ فِي كِتَابِ الِاسْتِغْنَاءِ فِي أَحْكَامِ الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ مُجَلَّدٌ كَبِيرٌ أَحَدٌ وَخَمْسُونَ بَابًا وَأَرْبَعُمِائَةِ مَسْأَلَةٍ لَيْسَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا الِاسْتِثْنَاءُ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الصِّفَةِ مِنْ أَغْرَبِ أَبْوَابِهِ ، وَقَدْ بَسَطْته لَك هَا هُنَا بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ وَظَهَرَ لَك مَعْنَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي الطَّلَاقِ بِسَبَبِهِ ، وَلَوْلَاهُ لَمْ يُفْهَمْ أَصْلًا أَلْبَتَّةَ فَنَفَائِسُ الْقَوَاعِدِ لِنَوَادِرِ الْمَسَائِلِ وَجَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ هَدَانَا اللَّهُ سَوَاءَ السَّبِيلِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ ا هـ بِلَفْظِهِ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ هَذَا الْفَرْقُ يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ ا هـ بِلَفْظِهِ .
وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ مَسْأَلَةَ الطَّلَاقِ الَّتِي بَنَى هَذَا الْفَرْقَ عَلَيْهَا نَظِيرُ مَا نَقَلَهُ الْقَرَافِيُّ عَنْ الْمَدْخَلِ لِابْنِ طَلْحَةَ الْمَالِكِيِّ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ كَمَا فِي مُحَلَّى جَمْعِ الْجَوَامِعِ فِي اعْتِبَارِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُسْتَغْرِقِ ، وَقَدْ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَنَقَلَ هَذَا الْقَوْلَ الْقَرَافِيُّ وَأَنْكَرَهُ فَقَالَ الْأَقْرَبُ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا فِي الْعَطَّارِ عَلَى مُحَلَّى جَمْعِ الْجَوَامِعِ يَعْنِي الْإِجْمَاعَ

الَّذِي حَكَاهُ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَالْآمِدِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ كَالْقَرَافِيِّ عَلَى أَنَّهُ لَا أَثَرَ فِي الْحُكْمِ لِلِاسْتِثْنَاءِ الْمُسْتَغْرِقِ مُطْلَقًا كَانَ فِي الصِّفَاتِ أَوْ فِي الذَّوَاتِ فَلَوْ قَالَ لَهُ عَشَرَةٌ إلَّا عَشَرَةً لَزِمَهُ عَشَرَةٌ ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ إلَّا أَنْ يُعَقِّبَ بِاسْتِثْنَاءٍ آخَرَ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ نَحْوُ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا عَشَرَةً إلَّا أَرْبَعَةً فَفِي جَوَازِهِ وَأَنَّ لَهُ أَثَرًا فِي الْحُكْمِ إمَّا اعْتِبَارُ الِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي مِنْ الْأَوَّلِ فَيَلْزَمُهُ أَرْبَعَةٌ وَإِمَّا اعْتِبَارُ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَيَلْزَمُهُ سِتَّةٌ وَعَدَمُ جَوَازِهِ وَأَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ فَيَلْزَمُهُ عَشَرَةٌ لِبُطْلَانِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي خِلَافٌ كَمَا فِي مُحَلَّى جَمْعِ الْجَوَامِعِ نَعَمْ صَرَّحَ السُّيُوطِيّ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ بِأَنَّ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ أَثَرًا فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الرُّجُوعُ عَنْهَا فَلَوْ قَالَ أَوْصَيْت لَهُ بِعَشَرَةٍ إلَّا عَشَرَةً كَانَ رُجُوعًا عَنْ الْوَصِيَّةِ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الْعَطَّارِ عَلَى مُحَلَّى جَمْعِ الْجَوَامِعِ فَتَأَمَّلْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ اسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ اسْتِثْنَاءِ الْوَحَدَاتِ مِنْ الطَّلَاقِ ) اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَخَالِدٌ إلَّا خَالِدًا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ جُمْلَةٍ مَنْطُوقٍ بِهِ فِي الْمَعْطُوفِ وَالِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا جُعِلَ لِإِخْرَاجِ مَا كَانَ مُعَرِّضًا لِلنِّسْيَانِ فَيَنْدَرِجُ فِي الْكَلَامِ سَهْوًا فَيَخْرُجُ بِالِاسْتِثْنَاءِ ، وَإِذَا قَصَدَ إلَى شَيْءٍ فِي الْمَعْطُوفِ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْكَلَامِ الْمُسْتَقِلِّ الْمَقْصُودِ وَعَلَى سِيَاقِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَمْتَنِعُ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ جُمْلَةٍ مَنْطُوقٌ بِهِ وَهُوَ الْمَعْطُوفُ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ أَنَّ الْأَصْحَابَ جَوَّزُوهُ وَمَا عَلِمْت فِيهِ خِلَافًا وَيُعَلِّلُونَهُ بِأَنَّ الثَّلَاثَ لَهَا عِبَارَتَانِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً فَكَمَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الثَّلَاثِ يَصِحُّ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ الْأُخْرَى وَالْفَرْضُ أَيْضًا أَنَّ خُصُوصَ الْوَحَدَاتِ لَيْسَ مَقْصُودًا لِلْعُقَلَاءِ بِخِلَافِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خُصُوصٌ لَيْسَ لِلْآخَرِ .
وَأَمَّا الْوَحَدَاتُ فَمُسْتَوِيَةٌ مِنْ حَيْثُ هِيَ وَحَدَاتٌ فَصَارَ إجْمَالُهَا وَتَفْصِيلُهَا سَوَاءٌ وَيَلْزَمُ عَلَى سِيَاقِ هَذَا التَّعْلِيلِ إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ إلَّا دِرْهَمًا لَا يَلْزَمُهُ إلَّا دِرْهَمَانِ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عِنْدَهُمْ لَا تَتَعَيَّنُ وَإِنْ عُيِّنَتْ فَإِنَّ خُصُوصَ دِرْهَمٍ لَا مَزِيَّةَ لَهُ عَلَى خُصُوصِ دِرْهَمٍ آخَرَ وَلَمْ أَرَ لَهُمْ فِي هَذَا نَقْلًا فَإِنْ طَرَدُوا أَصْلَهُمْ فَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ .
وَإِنْ كَانَ الْعَطْفُ ظَاهِرًا فِي مَنْعِ الِاسْتِثْنَاءِ مُطْلَقًا وَحَكَى ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ الْمَنْعَ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا .

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ اسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ اسْتِثْنَاءِ الْوَحَدَاتِ مِنْ الطَّلَاقِ ) قَاعِدَةُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا جُعِلَ لِإِخْرَاجِ مَا كَانَ مُعَرَّضًا لِلنِّسْيَانِ فَيَنْدَرِجُ فِي الْكَلَامِ سَهْوًا فَيَخْرُجُ بِالِاسْتِثْنَاءِ تَقْتَضِي أَنَّ الْعَطْفَ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ظَاهِرٌ فِي مَنْعِ الِاسْتِثْنَاءِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ خُصُوصُ الْمَعْطُوفِ مَقْصُودًا لِلْعُقَلَاءِ نَحْوُ قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَخَالِدٌ إلَّا خَالِدًا أَوْ غَيْرَ مَقْصُودٍ لِلْعُقَلَاءِ نَحْوُ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً وَنَحْوُ لِلَّهِ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ إلَّا دِرْهَمًا ضَرُورَةَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي مُطْلَقِ الْقَصْدِ إلَى شَيْءٍ فِي الْمَعْطُوفِ ، وَإِذَا قَصَدَ إلَى شَيْءٍ فِي الْمَعْطُوفِ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْكَلَامِ الْمُسْتَقِلِّ الْمَقْصُودِ غَيْرَ أَنَّ الْأَصْحَابَ جَوَّزُوا أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً قَالَ الْأَصْلُ وَمَا عَلِمْت فِيهِ خِلَافًا وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ الثَّلَاثَ لَهَا عِبَارَتَانِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً فَكَمَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الثَّلَاثِ يَصِحُّ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ الْأُخْرَى وَالْفَرْضُ أَيْضًا أَنَّ خُصُوصَ الْوَحَدَاتِ لَيْسَ مَقْصُودًا لِلْعُقَلَاءِ بِخِلَافِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خُصُوصًا لَيْسَ لِلْآخَرِ ، وَالْوَحَدَاتُ مُسْتَوِيَةٌ مِنْ حَيْثُ هِيَ وَحَدَاتٌ فَصَارَ إجْمَالُهَا وَتَفْصِيلُهَا سَوَاءً لَكِنْ كَانَ مُقْتَضَى قَاعِدَةِ أَنَّ الْعِلَّةَ تَدُورُ مَعَ الْمَعْلُولِ وُجُودًا وَعَدَمًا أَنْ يَقُولُوا بِجَوَازِ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ إلَّا دِرْهَمًا وَأَنَّهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا دِرْهَمَانِ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عِنْدَهُمْ لَا تَتَعَيَّنُ وَإِنْ عُيِّنَتْ فَإِنَّ خُصُوصَ دِرْهَمٍ لَا مَزِيَّةَ لَهُ عَلَى خُصُوصِ دِرْهَمٍ آخَرَ قَالَ الْأَصْلُ وَلَمْ أَرَ

لَهُمْ فِي هَذَا أَيْ الْقَوْلِ بِجَوَازِ ذَلِكَ نَقْلًا ، بَلْ حَكَى ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ الْمَنْعَ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا .
ا هـ .
فَمِنْ هُنَا قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الشَّاطِّ هَذَا الْفَرْقُ يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ وَنَظَرٍ ا هـ وَفِي حَاشِيَةِ الْعَطَّارِ عَلَى مُحَلَّى جَمْعِ الْجَوَامِعِ قَالَ الْقَرَافِيُّ ، قُلْت يَوْمًا لِلشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ إنَّ الْفُقَهَاءَ الْتَزَمُوا فِي الْأُصُولِ قَاعِدَةَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَمِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَخَالَفُوهَا فِي الْفُرُوعِ حَيْثُ قَالُوا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا لَبِسْت ثَوْبًا إلَّا الْكَتَّانَ فَقَعَدَ عُرْيَانًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى قَاعِدَةِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ حَلَفَ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَا الْكَتَّانَ وَعَلَى لُبْسِ الْكَتَّانِ وَمَا لَبِسَ الْكَتَّانَ فَيَحْنَثُ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَبَبُ الْمُخَالَفَةِ أَنَّ الْأَيْمَانَ تَتْبَعُ الْمَنْقُولَاتِ الْعُرْفِيَّةَ دُونَ الْأَوْضَاعِ اللُّغَوِيَّةِ إذَا تَعَارَضَا ، وَقَدْ انْتَقَلَ إلَّا فِي الْحَلِفِ لِمَعْنَى الصِّفَةِ مِثْلُ سِوَى وَغَيْرِ فَمَعْنَى حَلِفِهِ وَاَللَّهِ لَا لَبِسْت ثَوْبًا سِوَى الْكَتَّانِ أَوْ غَيْرَ الْكَتَّانِ فَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ هُوَ الْمُغَايِرُ لِلْكَتَّانِ وَالْكَتَّانُ لَيْسَ مَحْلُوفًا عَلَيْهِ فَلَا يَضُرُّ لُبْسُهُ وَلَا تَرْكُهُ ، ثُمَّ تُوَفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاتَّفَقَ الْبَحْثُ مَعَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ فَالْتَزَمَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَحْنَثُ إذَا قَعَدَ عُرْيَانًا وَأَنَّ إلَّا عَلَى بَابِهَا وَالِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَمِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَأَرَانَا نَقْلًا فِي ذَلِكَ ا هـ كَلَامُ الْقَرَافِيِّ .
قَالَ سم مَا قَالَهُ تَاجُ الدِّينِ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ مَمْنُوعٌ مَعَ أَنَّا نُبْقِي إلَّا عَلَى بَابِهَا وَنَلْتَزِمُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِهَا فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ إثْبَاتٌ عَلَى الْقَاعِدَةِ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَنْعُ مَا ذَكَرَهُ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِثْبَاتَ بِحَسَبِ الْمَقْصُودِ مِنْ النَّفْيِ وَالْمَقْصُودُ هُنَا

مِنْ النَّفْيِ هُوَ مَنْعُ نَفْسِهِ مِنْ لُبْسِ الثِّيَابِ ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْإِثْبَاتِ هُوَ إبَاحَةُ لُبْسِ الْكَتَّانِ لَا الْتِزَامُ لُبْسِهِ فَلَا يَحْنَثُ بِالتَّرْكِ فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ حَسَنٌ دَقِيقٌ تَرَكَهُ الشَّيْخُ لَنَا ، ثُمَّ رَأَيْت فِي بَعْضِ حَوَاشِي التَّلْوِيحِ مَا يُوَافِقُ هَذَا الْجَوَابَ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ ا هـ قَالَ الْعَطَّارُ وَفِي التَّمْهِيد لِلْإِسْنَوِيِّ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُعْطِيك إلَّا دِرْهَمًا أَوْ لَا آكُلُ إلَّا هَذَا الرَّغِيفَ أَوْ لَا أَطَأُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَمْ يَفْعَلْ بِالْكُلِّيَّةِ فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْإِيلَاءِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ ، أَحَدُهُمَا نَعَمْ لِاقْتِضَاءِ اللَّفْظِ ذَلِكَ وَهُوَ كَوْنُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتًا ؛ وَالثَّانِي لَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَنْعُ الزِّيَادَةِ وَقِيَاسُ مَذْهَبِنَا هُوَ الْأَوَّلُ لَكِنْ صَحَّحَ النَّوَوِيُّ مِنْ زَوَائِدِهِ الثَّانِيَ ا هـ .
وَقَدْ سَنَحَ لِي مِنْ قَوْلِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ سَبَبُ الْمُخَالَفَةِ إلَخْ أَنَّهُ لَا مَانِعَ هُنَا مِنْ أَنْ يُقَالَ سَبَبُ مُخَالَفَةِ قَاعِدَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا فِي الْحَلِفِ دُونَ الِالْتِزَامِ أَنَّ الْأَيْمَانَ لَمَّا كَانَتْ تَتْبَعُ الْمَنْقُولَاتِ الْعُرْفِيَّةَ دُونَ الْأَوْضَاعِ اللُّغَوِيَّةِ إذَا تَعَارَضَا ، وَقَدْ نَقَلَ الْعُرْفُ الْمَعْطُوفَانِ فِي أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إلَى مَعْنَى أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا خَالَفُوا فِيهَا الْقَاعِدَةَ الْمَذْكُورَةَ فَأَعْطَوْهَا حُكْمَهُ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ وَأَنَّهُ إذَا قَالَ بَعْدَهَا إلَّا وَاحِدَةً يَلْزَمُهُ طَلْقَتَانِ كَمَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَالِالْتِزَامَاتُ لَمَّا كَانَتْ تَتْبَعُ الْأَوْضَاعَ اللُّغَوِيَّةَ لَمْ يُخَالِفُوا فِيهَا الْقَاعِدَةَ الْمَذْكُورَةَ فَلَمْ يُعْطُوا لِلَّهِ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ حُكْمَ لِلَّهِ عَلَيَّ دَرَاهِمُ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ وَأَنَّهُ إذَا قَالَ بَعْدَهُ إلَّا دِرْهَمًا يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ ،

وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَعْدُومِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَرَّرَ فِي الذِّمَّةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَعْدُومِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَرَّرَ فِي الذِّمَّةِ ) اعْلَمْ أَنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اتَّفَقَا عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيقِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ قَبْلَ الْمِلْكِ فَيَقُولُ لِلْأَجْنَبِيَّةِ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلِلْعَبْدِ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ فَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ إذَا تَزَوَّجَ وَاشْتَرَى ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَوَافَقَنَا عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ بِالنَّذْرِ قَبْلَ الْمِلْكِ فَيَقُولُ إنْ مَلَكْت دِينَارًا فَهُوَ صَدَقَةٌ ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ الْمُسْلِمُ فِي الذِّمَّةِ فِي بَابِ الْمُعَامَلَاتِ فَتَمَسُّكُ الْأَصْحَابِ بِوُجُوهٍ ( أَحَدُهَا ) الْقِيَاسُ عَلَى النَّذْرِ فِي غَيْرِ الْمَمْلُوكِ بِجَامِعِ الِالْتِزَامِ بِالْمَعْدُومِ ( وَثَانِيهَا ) قَوْله تَعَالَى { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ عَقْدَانِ عَقَدَهُمَا عَلَى نَفْسِهِ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِمَا ( وَثَالِثُهَا ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ } ، وَهَذَانِ شَرْطَانِ فَوَجَبَ الْوُقُوفُ مَعَهُمَا وَأَجَابَ الشَّافِعِيَّةُ ( عَنْ الْأَوَّلِ ) بِأَنَّ النَّقْدَيْنِ وَالْعُرُوضَ يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ فِي الذِّمَمِ فَوَقَعَ الِالْتِزَامُ بِنَاءً عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لَا يَثْبُتَانِ فِي الذِّمَمِ وَالتَّصَرُّفُ يَعْتَمِدُ الْمَوْجُودَ الْمُعَيَّنَ أَوْ مَا فِي الذِّمَّةِ ، وَإِذَا انْتَفَيَا مَعًا بَطَل التَّصَرُّفُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى مُعَيَّنٍ وَلَا فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ كَذَلِكَ هَاهُنَا ( وَعَنْ الثَّانِي ) أَنَّ قَوْله تَعَالَى { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } أَمْرٌ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْأَوَامِرُ لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِمَعْدُومٍ مُسْتَقْبَلٍ

وَالْعَقْدُ قَدْ وَقَعَ وَصَارَ مَاضِيًا فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ إلَّا بِالْوَفَاءِ بِهِ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْأَمْرَ مُتَعَلِّقٌ بِالْوَفَاءِ بِمُقْتَضَاهُ وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَوْفُوا بِمُقْتَضَيَاتِ الْعُقُودِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ وَيُوَفَّى بِمُقْتَضَاهُ وَلَكِنَّ النِّزَاعَ فِي مُقْتَضَاهُ مَا هُوَ هَلْ لُزُومُ الطَّلَاقِ أَمْ لَا فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْآيَةِ ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ فَإِنَّ الْكَوْنَ عِنْدَ الشُّرُوطِ إنَّمَا هُوَ الْوَفَاءُ بِمُقْتَضَاهَا وَكَوْنَ الطَّلَاقِ مِنْ مُقْتَضَاهَا هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ وَلِلْمَالِكِيَّةِ أَنْ يُجِيبُوا عَنْ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ بِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَمُقْتَضَى الشَّرْطِ هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لُغَةً ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَضَاهُ إجْمَاعًا .
وَأَمَّا الْمُقْتَضَى الشَّرْعِيُّ فَهُوَ صُورَةُ النِّزَاعِ وَنَحْنُ إنَّمَا نَتَمَسَّكُ بِالْمُقْتَضَى اللُّغَوِيِّ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُقْتَضَى اللُّغَوِيَّ فِي الْعَقْدِ وَالشَّرْطِ هُوَ لُزُومُ الطَّلَاقِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْمُقْتَضَى الشَّرْعِيِّ لَكَانَ التَّقْدِيرُ أَوْفُوا بِمَا يَجِبُ عَلَيْكُمْ شَرْعًا الْوَفَاءُ بِهِ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ الْوُجُوبَ إلَّا مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ لِتَوَقُّفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ أَمَّا إذَا حُمِلَ عَلَى الْمُقْتَضَى اللُّغَوِيِّ لَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ لِعَدَمِ تَوَقُّفِ اللُّغَةِ عَلَى الشَّرَائِعِ وَهَاهُنَا قَاعِدَةٌ يُشْكِلُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ بِاعْتِبَارِهَا وَهُوَ أَنَّ كُلَّ سَبَبٍ شَرَّعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِحِكْمَةٍ لَا يُشَرِّعُهُ عِنْدَ عَدَمِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ كَمَا شَرَّعَ التَّعْزِيرَاتِ وَالْحُدُودَ لِلزَّجْرِ وَلَمْ يُشَرِّعْهَا فِي حَقِّ الْمَجَانِينِ وَإِنْ تَقَدَّمَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهُمْ حَالَةَ التَّكْلِيفِ لِعَدَمِ شُعُورِهِمْ بِمَقَادِير انْخِرَاقِ الْحُرْمَةِ وَالذِّمَّةِ وَالْمَهَانَةِ فِي حَالَةِ الْغَفْلَةِ فَلَا يَحْصُلُ الزَّجْرُ وَشَرَّعَ الْبَيْعَ لِلِاخْتِصَاصِ بِالْمَنَافِعِ فِي الْغَرَضَيْنِ

وَلَمْ يُشَرِّعْهُ فِيمَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا فِيمَا كَثُرَ غَرَرُهُ أَوْ جَهَالَتُهُ لِعَدَمِ انْضِبَاطِ الِانْتِفَاعِ مَعَ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ الْمُخِلَّيْنِ بِالْأَرْبَاحِ وَحُصُولِ الْأَعْيَانِ وَشَرَّعَ اللِّعَانَ لِنَفْيِ النَّسَبِ وَلَمْ يُشَرِّعْهُ لِلْمَجْبُوبِ وَالْخَصِيِّ لِانْتِفَاءِ النَّسَبِ بِغَيْرِ لِعَانٍ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَضَابِطُهُ أَنَّ كُلَّ سَبَبٍ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ لَا يُشَرَّعُ وَالنِّكَاحُ سَبَبٌ شُرِّعَ لِلتَّنَاسُلِ وَالْمُكَارَمَةِ وَالْمَوَدَّةِ فَمَنْ قَالَ بِشَرْعِيَّتِهِ فِي صُورَةِ التَّعْلِيقِ قَبْلَ الْمِلْكِ فَقَدْ الْتَزَمَ شَرْعِيَّتَهُ مَعَ انْتِفَاءِ حِكْمَتِهِ فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ عَلَيْهَا الْعَقْدُ أَلْبَتَّةَ لَكِنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ إجْمَاعًا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الطَّلَاقِ تَحْصِيلًا لِحِكْمَةِ الْعَقْدِ .
وَأَمَّا وُجُوبُ نِصْفِ الصَّدَاقِ وَتَبْعِيضُ الطَّلَاقِ وَغَيْرُهُمَا مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا الْعَقْدِ فَأُمُورٌ تَابِعَةٌ لِمَقْصُودِ الْعَقْدِ لَا أَنَّهَا مَقْصُودُ الْعَقْدِ فَلَا يُشَرَّعُ الْعَقْدُ لِأَجْلِهَا فَحَيْثُ أَجْمَعْنَا عَلَى شَرْعِيَّتِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى بَقَاءِ حِكْمَتِهِ وَهُوَ بَقَاءُ النِّكَاحِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَقَاصِدِهِ ، وَهَذَا مَوْضِعٌ مُشْكِلٌ عَلَى أَصْحَابِنَا فَتَأَمَّلْهُ ، وَقَدْ ظَهَرَ لَك أَيْضًا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْبَحْثِ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَتَرَتَّبُ فِي الذِّمَمِ وَبَيْنَ مَا لَا يَتَرَتَّبُ ( وَأَمَّا ) تَهْوِيلُ الشَّافِعِيَّةِ بِقَوْلِهِمْ الطَّلَاقُ حِلٌّ وَالنِّكَاحُ عَقْدٌ وَالْحِلُّ لَا يَكُونُ قَبْلَ الْعَقْدِ وَبِمَا يَرْوُونَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ { لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ وَلَا طَلَاقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا عَتَاقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ } ( فَالْجَوَابُ ) أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ نَقُلْ بِهِ فِي غَيْرِ عَقْدٍ ؛ لِأَنَّا لَمْ نَقُلْ بِلُزُومِ الطَّلَاقِ إلَّا بَعْدَ حُصُولِ الْعَقْدِ لَا قَبْلَهُ فَمَا قُلْنَا بِالْحِلِّ إلَّا بَعْدَ الْعَقْدِ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ فَإِنَّ طَلَاقَ ابْنِ

آدَمَ وَعِتْقَهُ إنَّمَا وَقَعَا فِيمَا مَلَكَهُ وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ التَّعْلِيقُ وَرَبْطُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالْمِلْكِ لَا نَفْسُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَعْدُومِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَرَّرَ فِي الذِّمَّةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَعْدُومِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَرَّرَ فِي الذِّمَّةِ ) اتَّفَقَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ عَلَى أَنَّ النَّقْدَيْنِ وَالْعُرُوضُ قَبْلَ مِلْكِهَا هُوَ الْمَعْدُومُ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَرَّرَ فِي الذِّمَّةِ وَعَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهَا قَبْلَ الْمِلْكِ بِالنَّذْرِ بِأَنْ يَقُولَ إنْ مَلَكْت دِينَارًا فَهُوَ صَدَقَةٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ الْمُسْلِمُ فِي الذِّمَّةِ فِي بَابِ الْمُعَامَلَاتِ مِنْ النَّقْدَيْنِ وَالْعُرُوضِ وَاخْتَلَفُوا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ قَبْلَ الْمِلْكِ بِأَنْ تَقُولَ لِلْأَجْنَبِيَّةِ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ لِغَيْرِهِ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ هَلْ هُمَا مِنْ الْمَعْدُومِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَرَّرَ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِقَوْلِهِ لِلْأَجْنَبِيَّةِ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ لِغَيْرِهِ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ وَمِنْ الْمَعْدُومِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَرَّرَ فِي الذِّمَّةِ فَيَلْزَمُ الطَّلَاقُ لِمَنْ قَالَ لِلْأَجْنَبِيَّةِ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَالْعَتَاقُ لِمَنْ قَالَ لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ لِغَيْرِهِ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ قِيَاسًا عَلَى النَّذْرِ فِي غَيْرِ الْمَمْلُوكِ بِجَامِعِ الِالْتِزَامِ بِالْمَعْدُومِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَرَّرَ فِي الذِّمَّةِ ذَهَبَ إلَى الْأَوَّلِ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِلَى الثَّانِي مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسَبَبُ الْخِلَافِ قَالَ الْأَصْلُ هُوَ الْخِلَافُ فِي مُقْتَضَى الْعُقُودِ فِي قَوْله تَعَالَى { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } وَالشُّرُوطِ فِي .
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ } ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِمُقْتَضَيَاتِهَا ، ضَرُورَةَ أَنَّ

الْأَوَامِرَ لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِمَعْدُومٍ مُسْتَقْبَلٍ وَالْعَقْدُ قَدْ وَقَعَ وَصَارَ مَاضِيًا فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْأَمْرُ بِالْوَفَاءِ بِهِ ، وَكَذَلِكَ الْكَوْنُ عِنْدَ الشُّرُوطِ يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ هُوَ الْوَفَاءُ بِمُقْتَضَاهَا وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ عَقْدَانِ عَقَدَهُمَا عَلَى نَفْسِهِ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِمُقْتَضَاهُمَا وَالْوَفَاءُ بِمُقْتَضَى شُرُوطِهِمَا وَالنِّزَاعُ فِي مُقْتَضَاهُمَا مَا هُوَ هَلْ هُوَ لُزُومُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالْآيَةِ وَالْحَدِيثِ أَمْ لَا فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ تَمَسُّكًا بِأَمْرَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ حَلٌّ وَالنِّكَاحَ وَالشِّرَاءَ عَقْدٌ وَلَا يَكُونُ الْحَلُّ قَبْلَ الْعَقْدِ ( وَثَانِيهِمَا ) مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ وَلَا طَلَاقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا عَتَاقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ } وَذَهَبَ إلَى الْأَوَّلِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ تَمَسُّكًا بِأَمْرَيْنِ أَيْضًا ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الشَّرْطُ إجْمَاعًا هُوَ الْمُقْتَضَى اللُّغَوِيُّ فِيهَا ، وَأَمَّا الْمُقْتَضَى الشَّرْعِيُّ فَهُوَ صُورَةُ النِّزَاعِ وَالْمُقْتَضَى اللُّغَوِيُّ فِيهِمَا هُوَ لُزُومُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ مُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ( وَثَانِيهِمَا ) أَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْمُقْتَضَى الشَّرْعِيِّ لَكَانَ التَّقْدِيرُ أَوْفُوا بِمَا يَجِبُ عَلَيْكُمْ شَرْعًا الْوَفَاءُ بِهِ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ الْوُجُوبَ إلَّا مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ لِتَوَقُّفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَأَمَّا إذَا حُمِلَ عَلَى الْمُقْتَضَى اللُّغَوِيِّ فَلَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ لِعَدَمِ تَوَقُّفِ اللُّغَةِ عَلَى الشَّرَائِعِ وَالْجَوَابُ عَمَّا تَمَسَّكَا بِهِ مِنْ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ نَقُلْ بِهِ فِي غَيْرِ عَقْدٍ ، بَلْ إنَّمَا قُلْنَا بِلُزُومِهِ بَعْدَ حُصُولِ الْعَقْدِ لَا

قَبْلَهُ فَمَا قُلْنَا بِالْحَلِّ إلَّا بَعْدَ الْعَقْدِ فَطَلَاقُ ابْنِ آدَمَ وَعِتْقُهُ إنَّمَا وَقَعَا فِيمَا مَلَكَهُ وَالْمُتَقَدِّمُ إنَّمَا هُوَ التَّعْلِيقُ وَرَبْطُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالْمِلْكِ إلَّا نَفْسَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ا هـ .
وَقَالَ حَفِيدٌ ابْنُ رُشْدٍ فِي بِدَايَتِهِ سَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ مِنْ شَرْطِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَيْ وَالْعَتَاقِ وُجُودُ الْمِلْكِ مُتَقَدِّمًا بِالزَّمَانِ عَلَى الطَّلَاقِ أَيْ وَالْعَتَاقِ أَمْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِهِ فَمَنْ قَالَ هُوَ مِنْ شَرْطِهِ قَالَ لَا يَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ أَيْ وَلَا الْعَتَاقُ بِغَيْرِ الْمَمْلُوكِ بِالْفِعْلِ ، وَمَنْ قَالَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ إلَّا وُجُودُ الْمِلْكِ فَقَطْ قَالَ يَقَعُ أَيْ الطَّلَاقُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ أَيْ وَالْعَتَاقُ بِغَيْرِ الْمَمْلُوكِ ا هـ .
قَالَ الْأَصْلُ وَبِكَثْرَةِ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ قَاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ سَبَبٍ شَرَّعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِحِكْمَةٍ لَا يُشَرِّعُهُ عِنْدَ عَدَمِ الْحِكْمَةِ وَبِعِبَارَةِ أَنَّ كُلَّ سَبَبٍ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ لَا يُشَرَّعُ كَمَا شَرَّعَ التَّعْذِيرَاتِ وَالْحُدُودَ لِلزَّجْرِ وَلَمْ يُشَرِّعْهَا فِي حَقِّ الْمَجَانِينِ وَإِنْ تَقَدَّمَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهُمْ حَالَةَ التَّكْلِيفِ لِعَدَمِ شُعُورِهِمْ بِمَقَادِيرِ انْخِرَاقِ الْحُرْمَةِ وَالذِّلَّةِ وَالْمَهَانَةِ فِي حَالَةِ الْغَفْلَةِ فَلَا يَحْصُلُ الزَّجْرُ وَشَرَّعَ الْبَيْعَ لِلِاخْتِصَاصِ بِالْمَنَافِعِ فِي الْعِوَضَيْنِ وَلَمْ يُشَرِّعْهُ فِيمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا فِيمَا كَثُرَ غَرَرُهُ أَوْ جَهَالَتُهُ لِعَدَمِ انْضِبَاطِ الِانْتِفَاعِ مَعَ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ الْمُخِلَّيْنِ بِالْأَرْبَاحِ وَحُصُولِ الْأَعْيَانِ ، وَشَرَّعَ اللِّعَانَ لِنَفْيِ النَّسَبِ وَلَمْ يُشَرِّعْهُ لِلْمَجْبُوبِ وَالْخَصِيِّ لِانْتِفَاءِ النَّسَبِ بِغَيْرِ لِعَانٍ يُشْكِلُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ سَبَبٌ شُرِعَ لِلتَّنَاسُلِ وَالْمُكَارَمَةِ وَالْمَوَدَّةِ فَمَنْ قَالَ بِشَرْعِيَّتِهِ أَيْ النِّكَاحِ فِي صُورَةِ تَعْلِيقِ طَلَاقِ الْأَجْنَبِيَّةِ قَبْلَ الْمِلْكِ فَقَدْ الْتَزَمَ شَرْعِيَّتَهُ أَيْ

النِّكَاحِ مَعَ انْتِفَاءِ حِكْمَتِهِ إذْ لَا يَتَأَتَّى حُصُولُهَا مَعَ تَرَتُّبِ الطَّلَاقِ عَلَى حُصُولِ عَقْدِهِ صَحِيحًا شَرْعًا فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ عَلَى الْأَجْنَبِيَّةِ حِينَئِذٍ عَقْدُ نِكَاحٍ أَلْبَتَّةَ لَكِنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ إجْمَاعًا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الطَّلَاقِ تَحْصِيلًا لِحِكْمَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ .
وَلَيْسَ مِنْ الْمَقْصُودِ مِنْهُ وُجُوبُ نِصْفِ الصَّدَاقِ وَتَبْعِيضُ الطَّلَاقِ وَغَيْرُهُمَا مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا الْعَقْدِ ، بَلْ مِنْ الْأُمُورِ التَّابِعَةِ لِلْمَقْصُودِ مِنْهُ فَلَا يُشْرَعُ الْعَقْدُ لِأَجْلِهَا فَحَيْثُ أَجْمَعْنَا عَلَى شَرْعِيَّتِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى بَقَاءِ حِكْمَتِهِ وَهُوَ بَقَاءُ النِّكَاحِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَقَاصِدِهِ وَعَدَمُ لُزُومِ الطَّلَاقِ عَلَى وُقُوعِهِ صَحِيحًا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَلَعَلَّ الْإِمَامَ ابْنَ الشَّاطِّ لِهَذَا قَالَ وَيَكُونُ تَمَامُ الْفَرْقِ مُبَيَّنًا عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ هُوَ مُقْتَضَاهُمَا الشَّرْعِيُّ لَا اللُّغَوِيُّ ، وَقَدْ عَلِمْت مَا فِيهِ قَالَ هَذَا الْفَرْقُ يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ وَنَظَرٍ ا هـ بِلَفْظِهِ ( مَسْأَلَةٌ ) وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى الْأَجْنَبِيَّاتِ بِشَرْطِ التَّزْوِيجِ وَإِنْ وَافَقَ مَالِكٌ فِيهِ أَبَا حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ خَالَفَهُ فِيمَا إذَا عَمَّمَ الْمُطَلِّقُ جَمِيعَ النِّسَاءِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ، فَاسْتَحْسَنَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ حِينَئِذٍ بِنَاءً عَلَى الْمَصْلَحَةِ وَهِيَ أَنَّهُ إذَا عَمَّمَ فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ التَّعْمِيمَ لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إلَى النِّكَاحِ الْحَلَالِ فَكَانَ ذَلِكَ عَنَتًا بِهِ وَحَرَجًا وَكَأَنَّهُ مِنْ بَابِ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ فَقَالُوا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ مُطْلَقًا عَمَّمَ جَمِيعَ النِّسَاءِ أَوْ خَصَّصَ ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَوْ مِنْ بَلَدِ كَذَا أَوْ فِي وَقْتِ كَذَا فَهِيَ طَالِقٌ كَمَا فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ لِابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ وَاَللَّهُ

أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِيجَابَاتِ الَّتِي يَتَقَدَّمُهَا سَبَبٌ تَامٌّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِيجَابَاتِ الَّتِي هِيَ أَجْزَاءُ الْأَسْبَابِ ) اعْلَمْ أَنَّ الْإِيجَابَاتِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ قِسْمٌ اُتُّفِقَ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ التَّامَّ تَقَدَّمَهُ وَقِسْمٌ اُتُّفِقَ عَلَى أَنَّهُ جُزْءُ السَّبَبِ وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ هَلْ هُوَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَوْ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَهُ سَبَبٌ تَامٌّ فَيَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إجْمَاعًا عَنْ السَّبَبِ كَالْخِيَارِ فِي عُيُوبِ النِّكَاحِ وَعُيُوبِ السِّلَعِ فِي الْبَيْعِ وَمَضَاءِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَخِيَارِ الْأَمَةِ إذَا أُعْتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي الَّذِي هُوَ جُزْءُ السَّبَبِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ كَالْقَبُولِ بَعْدَ الْإِيجَابِ فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ هَذَا الْقِسْمِ إلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ مِنْهُمَا عَنْ الْعَقْدِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى التَّشَاجُرِ وَالْخُصُومَاتِ بِإِنْشَاءِ عَقْدٍ آخَرَ مَعَ شَخْصٍ آخَرَ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ الْجَوَابُ فِي التَّمْلِيكِ اخْتَلَفَ فِيهِ هَلْ هُوَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ التَّأَخُّرُ أَوْ مِنْ الثَّانِي فَيَقْدَحُ رِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ اللَّخْمِيُّ وَأَرَى إمْهَالَ الْمَرْأَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَالْمُصَرَّاةِ وَالشُّفْعَةِ لِمَا فِي الْفَرْقِ مِنْ الصُّعُوبَةِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ كَانَ مَالِكٌ يَقُولُ لِلْمُمَلَّكَةِ وَالْمُخَيَّرَةِ الْخِيَارُ فِي الْمَجْلِسِ فَقَطْ كَالْمُبَايَعَةِ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ لَهَا وَإِنْ افْتَرَقَا لِاحْتِيَاجِهَا لِلْمُشَاوَرَةِ ، وَهَذَا إذَا بَاشَرَهَا أَوْ وَكِيلُهُ فَإِنْ كَتَبَ إلَيْهَا أَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا أَوْ عَلَّقَ عَلَى شَرْطٍ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي تَمَادِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَطُلْ طُولًا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَى بِالْإِسْقَاطِ نَحْوَ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرَيْنِ ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الزَّوْجِ سُؤَالٌ يَتَّصِلُ بِهِ

جَوَابُهُ وَجَوَابُهُ لِلرِّسَالَةِ مَعَ مُرْسِلِهِ .
قَالَ ( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِيجَابَاتِ الَّتِي يَتَقَدَّمُهَا سَبَبٌ تَامٌّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِيجَابَاتِ الَّتِي هِيَ أَجْزَاءُ الْأَسْبَابِ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِيهِ صَحِيحٌ وَمَا قَالَهُ فِي الْفَرْقِ بَعْدَهُ فِيهِ نَظَرٌ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِيجَابَاتِ الَّتِي يَتَقَدَّمُهَا سَبَبٌ تَامٌّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِيجَابَاتِ الَّتِي هِيَ أَجْزَاءُ الْأَسْبَابِ ) هُوَ أَنَّ الْإِيجَابَاتِ ( الْأُولَى ) يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا إجْمَاعًا فَلَا يَقْدَحُ فِيهَا التَّأْخِيرُ كَالْخِيَارِ فِي عُيُوبِ النِّكَاحِ وَعُيُوبِ السِّلَعِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِيجَابَاتِ ( الثَّانِيَةُ ) لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا فَيَقْدَحُ فِيهَا التَّأْخِيرُ كَالْقَبُولِ بَعْدَ الْإِيجَابِ فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيجَابَاتِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) مَا اُتُّفِقَ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ التَّامَّ تَقَدَّمَهُ وَعَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ التَّأْخِيرُ كَخِيَارِ الْأَمَةِ إذَا أُعْتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ وَإِمْضَاءِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ وَغَيْرُهُ ( الْقِسْمُ الثَّانِي ) مَا اُتُّفِقَ عَلَى أَنَّهُ جُزْءُ السَّبَبِ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ فَيَقْدَحُ فِيهِ التَّأْخِيرُ كَالْقَبُولِ بَعْدَ الْإِيجَابِ فِي نَحْوِ النِّكَاحِ وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْبَيْعِ إلَخْ ( الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) مَا اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ التَّأْخِيرُ أَوْ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي فَيَقْدَحُ وَهُوَ الْجَوَابُ فِي التَّخْيِيرِ وَالتَّمْلِيكِ الْمُطْلَقَيْنِ فَفِيهِمَا عَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ كَانَ مَالِكٌ يَقُولُ لِلْمُمَلَّكَةِ وَالْمُخَيَّرَةِ الْخِيَارُ فِي الْمَجْلِسِ فَقَطْ كَالْمُبَايَعَةِ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ لَهَا وَإِنْ افْتَرَقَا لِاحْتِيَاجِهَا لِلْمُشَاوَرَةِ .
وَهَذَا إذَا بَاشَرَهَا أَوْ وَكِيلُهُ فَإِنْ كَتَبَ إلَيْهَا أَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا أَوْ عَلَّقَ عَلَى شَرْطٍ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي تَمَادِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَطُلْ طُولًا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالْإِسْقَاطِ بِأَنْ يَطُولَ نَحْوَ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرَيْنِ ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الزَّوْجِ سُؤَالٌ يَتَّصِلُ بِهِ جَوَابُهُ وَجَوَابُهُ لِلرِّسَالَةِ مَعَ مُرْسَلِهِ ، قَالَ

الْخَرَشِيُّ إذَا مَلَكَهَا تَمْلِيكًا مُطْلَقًا أَوْ خَيَّرَهَا تَخْيِيرًا مُطْلَقًا أَيْ عَارِيًّا عَنْ التَّقْيِيدِ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فَلِمَالِكٍ قَوْلَانِ مَرْوِيَّانِ عَنْهُ قَوْلٌ رَجَعَ إلَيْهِ أَنَّهُمَا بِيَدِهَا مَا لَمْ تُوقَفُ عِنْدَ حَاكِمٍ أَوْ تُوطَأُ أَيْ تُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ طَائِعَةً قَالَتْ فِي الْمَجْلِسِ قَبِلْت أَمْ لَا وَاَلَّذِي رَجَعَ عَنْهُ أَنَّهُمَا بِيَدِهَا فِي الْمَجْلِسِ فَقَطْ وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ إمْكَانِ الْقَضَاءِ فَلَا شَيْءَ لَهَا وَإِنْ وَثَبَ أَيْ قَامَ حِينَ مَلَكَهَا يُرِيدُ قَطْعَ ذَلِكَ عَنْهَا لَمْ يَنْفَعْهُ ، وَحَدُّ ذَلِكَ إذَا قَعَدَ مَعَهَا قَدْرَ مَا يَرَى النَّاسُ أَنَّهَا تَخْتَارُ فِي مِثْلِهِ وَلَمْ يَقُمْ فِرَارًا وَإِنْ ذَهَبَ عَامَّةُ النَّهَارِ وَعَلِمَ أَنَّهُمَا قَدْ تَرَكَا ذَلِكَ وَخَرَجَا إلَى غَيْرِهِ فَلَا خِيَارَ لَهَا وَالْمَدَارُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ وَأَخَذَ ابْنُ الْقَاسِمِ بِهَذَا الْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ عَنْهُ الْمُتَيْطِيُّ وَبِهِ الْعَمَلُ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا ، وَقَدْ رَجَعَ مَالِكٌ آخِرًا إلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ عَنْهُ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ إلَى أَنْ مَاتَ ا هـ بِتَصَرُّفٍ قَالَ اللَّخْمِيُّ وَأَرَى إمْهَالَ الْمَرْأَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَالْمُصَرَّاةِ وَالشُّفْعَةِ لِمَا فِي الْفِرَاقِ مِنْ الصُّعُوبَةِ وَسَيَأْتِي الْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْيِيرِ وَالتَّمْلِيكِ فَتَرَقَّبْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ خِيَارِ التَّمْلِيكِ فِي الزَّوْجَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَخْيِيرِ الْإِمَاءِ فِي الْعِتْقِ ) أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْأَوَّلِ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ إذَا غِبْت عَنْك فَأَمْرُك بِيَدِك فَتَقُولُ الْمَرْأَةُ مَتَى غِبْت عَنِّي فَقَدْ اخْتَرْت نَفْسِي فَإِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ بِخِلَافِ الْأَمَةِ يَحْلِفُ سَيِّدُهَا بِحُرِّيَّتِهَا فَتَقُولُ إنْ فَعَلْت فَقَدْ اخْتَرْت نَفْسِي فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ وَسَأَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ مَالِكًا عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ أَتَعْرِفُ دَارَ قُدَامَةَ وَدَارُ قُدَامَةَ يُلْعَبُ فِيهَا بِالْحَمَامِ بِالْمَدِينَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الزَّوْجَ أَذِنَ لِلْحُرَّةِ فِي الْقَضَاءِ الْآنَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ وَالْحَلِفُ بِحُرِّيَّةِ الْأَمَةِ لَمْ يَأْذَنْ وَإِنَّمَا قَصَدَ حَثَّ نَفْسِهِ بِالْيَمِينِ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ زَجْرَهَا عَنْهُ وَإِنَّمَا يَسْتَوِيَانِ إذَا قَالَتْ الْحُرَّةُ إنْ مَلَكْتنِي فَقَدْ اخْتَرْت نَفْسِي ( وَيُرَدُّ عَلَيْهِ ) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَذِنَ لِلْأَمَةِ فِي الْقَضَاءِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ وَهُوَ الْعِتْقُ كَمَا أَذِنَ لِلزَّوْجِ ( وَجَوَابُهُ ) إذْنُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى التَّقَادِيرِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ صِحَّةُ التَّصَرُّفِ قَبْلَ وُجُودِ التَّقَادِيرِ بِدَلِيلِ إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَالْإِذْنِ مِنْ الْوَارِثِ فِي التَّصَرُّفِ قَبْلَ مَرَضِ الْمَوْتِ وَصَرْفِ الزَّكَاةِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ وَالتَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ فَإِنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ حِينَئِذٍ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ وَإِنْ كَانَ الشَّارِعُ رَتَّبَهَا وَأَذِنَ فِيهَا عَلَى تِلْكَ التَّقَادِيرِ ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ وَقَعَ قَبْلَ سَبَبِهِ وَشَرْطِهِ لَا يَنْعَقِدُ إجْمَاعًا وَبَعْدَهُمَا يَنْعَقِدُ إجْمَاعًا وَبَيْنَهُمَا فِي النُّفُوذِ قَوْلَانِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَبْسُوطَةً فَالْحُرَّةُ وُجِدَ فِي حَقِّهَا سَبَبٌ وَهُوَ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ إذْنِ الشَّرْعِ

الْمُقَدَّرِ وَالْأَمَةُ انْفَرَدَ فِي حَقِّهَا الْإِذْنُ الْمُقَدَّرُ فَقَطْ ؛ وَلِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَيْضًا أَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ إنَّمَا تَسْقُطُ بِإِذْنِ الْعِبَادِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَيْضًا هَذِهِ الْقَاعِدَةُ وَنُظِرَتْ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ إذَا هَلَكَتْ بِإِذْنِ رَبِّهَا لَا يَضْمَنُ وَبِإِذْنِ صَاحِبِ الشَّرْعِ يَضْمَنُ وَمَسَائِلَ مَعَهَا قَالَ اللَّخْمِيُّ وَسَوَّى أَصْبَغُ الْإِمَاءَ بِالزَّوْجَاتِ وَسَوَّى أَشْهَبُ الزَّوْجَاتِ بِالْإِمَاءِ لِعَدَمِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْإِخْبَارُ .

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ خِيَارِ التَّمْلِيكِ فِي الزَّوْجَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَخْيِيرِ الْإِمَاءِ فِي الْعِتْقِ ) مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَجُوزُ فِي الْأَوَّلِ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ إذَا غِبْت عَنْك فَأَمْرُك بِيَدِك فَتَقُولُ الْمَرْأَةُ مَتَى غِبْت عَنِّي فَقَدْ اخْتَرْت نَفْسِي فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ فِي الثَّانِي أَنْ يَحْلِفَ سَيِّدُ الْأَمَةِ بِحُرِّيَّتِهَا بِأَنْ يَقُولَ إنْ لَمْ أَصُمْ فَأَنْتِ حُرَّةٌ أَوْ إنْ زَنَيْت فَتَقُولُ إنْ فَعَلْت فَقَدْ اخْتَرْت نَفْسِي فَإِذَا قَالَتْ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ مَبْسُوطَةٌ هِيَ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ وَقَعَ قَبْلَ سَبَبِهِ وَشَرْطِهِ لَا يَنْعَقِدُ إجْمَاعًا وَبَعْدَهُمَا يَنْعَقِدُ إجْمَاعًا وَبَيْنَهُمَا فِي النُّفُوذِ قَوْلَانِ وَالْحُرَّةُ وُجِدَ فِي حَقِّهَا سَبَبٌ وَهُوَ قَوْلُ الزَّوْجِ الْمُقْتَضِي إذْنَهَا فِي الْقَضَاءِ الْآنَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ مَعَ إذْنِ الشَّرْعِ الْمُقَدَّرِ فَلَمْ يَقَعْ قَضَاؤُهَا إلَّا بَعْدَ سَبَبِهِ وَشَرْطِهِ وَالْأَمَةُ انْفَرَدَ فِي حَقِّهَا الْإِذْنُ الْمُقَدَّرُ فَقَطْ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لَهَا فِي الْقَضَاءِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ وَهُوَ الْعِتْقُ الْمُتَوَقِّفُ عَلَى حُصُولِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَحْصُلْ فَوَقَعَ قَضَاؤُهَا بَعْدَ شَرْطِهِ وَقَبْلَ سَبَبِهِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْحَالِفَ بِحُرِّيَّتِهَا لَمْ يَأْذَنْ وَإِنَّمَا قَصَدَ حَثَّ نَفْسِهِ بِالْيَمِينِ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ زَجْرَهَا عَنْهُ .
وَأَمَّا الزَّوْجُ فَأَذِنَ لِلْحُرَّةِ الْقَضَاءَ الْآنَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ وَهُوَ غَيْبَتُهُ عَنْهَا وَالْقَاعِدَةُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ أَيْضًا أَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ إنَّمَا تَسْقُطُ بِإِذْنِ الْعِبَادِ فَلِذَا جَرَى الْخِلَافُ فِي نُفُوذِ قَضَائِهَا كَالزَّوْجَاتِ قَالَ اللَّخْمِيُّ وَسَوَّى أَصْبَغُ الْإِمَاءَ بِالزَّوْجَاتِ وَعَدَمُ نُفُوذِهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ الْفَرْقُ ، وَقَدْ سَأَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ مَالِكًا عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ أَتَعْرِفُ دَارَ

قُدَامَةَ ؟ وَدَارُ قُدَامَةَ يُلْعَبُ فِيهَا بِالْحَمَامِ بِالْمَدِينَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ نَعَمْ سَوَّى أَشْهَبُ الزَّوْجَاتِ بِالْإِمَاءِ لِعَدَمِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الِاخْتِيَارُ فَافْهَمْ وَلَا يَسْتَوِيَانِ عِنْدَ مَالِكٍ إلَّا إذَا قَالَتْ الْحُرَّةُ إنْ مَلَكْتنِي فَقَدْ اخْتَرْت نَفْسِي هَذَا تَهْذِيبُ مَا فِي الْأَصْلِ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَمَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ فِيهِ نَظَرٌ ا هـ .
وَوَجْهُهُ مَا عَلَّلَ بِهِ أَشْهَبُ قَوْلَهُ بِتَسْوِيَةِ الزَّوْجَاتِ بِالْإِمَاءِ فَافْهَمْ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّمْلِيكِ وَقَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ ) اعْلَمْ أَنَّ مَوْضُوعَ التَّمْلِيكِ عِنْدَ مَالِكٍ أَصْلُ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ إشْعَارٍ بِالْبَيْنُونَةِ وَلَا بِالْعَدَدِ فَلَهَا أَنْ تَقْضِيَ بِأَيِّ ذَلِكَ شَاءَتْ وَمَوْضُوعُ التَّخْيِيرِ عِنْدَنَا الثَّلَاثُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَبَعْدَهُ وَمَقْصُودَهُ الْبَيْنُونَةُ فَلِذَلِكَ تُقْبَلُ نِيَّةُ الزَّوْجِ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ قَبْلَ الْبِنَاءِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ بِالْوَاحِدَةِ حِينَئِذٍ دُونَ مَا بَعْدَ الْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْبَيْنُونَةِ لَا يَقْبَلُ الْمَجَازَ كَالثَّلَاثِ إذَا نُطِقَ بِهَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِ التَّنْبِيهَاتِ فِي التَّخْيِيرِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ الْمَشْهُورُ هُوَ الثَّلَاثُ نَوَتْهَا الْمَرْأَةُ أَمْ لَا فَإِنْ قَضَتْ بِدُونِهَا فَهَلْ يَسْقُطُ خِيَارُهَا خِلَافٌ وَالثَّلَاثُ .
وَإِنْ نَوَتْ دُونَهَا قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَلِلزَّوْجِ الْمُنَاكَرَةُ فِي الثَّلَاثِ وَطَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ ابْنِ الْجَهْمِ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَثَلَاثٌ إنْ قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي وَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا أَوْ رَدَّتْ الْخِيَارَ عَلَيْهِ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ وَطَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَأَسْقَطَ أَبُو حَنِيفَةَ حُكْمَهُ مُطْلَقًا وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ حَنْبَلٍ عَلَى أَنَّهُ كِنَايَةٌ لَا يَلْزَمُ بِهِ شَيْءٌ إلَّا بِالنِّيَّةِ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ التَّخْيِيرِ يَحْتَمِلُ التَّخْيِيرَ فِي الطَّلَاقِ وَغَيْرَهُ فَإِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ فَيَحْتَمِلُ الْوَحْدَةَ وَالْكَثْرَةَ وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْعِصْمَةِ حَتَّى يَنْوِيَ ، وَقَدْ اعْتَمَدَ الْأَصْحَابُ عَلَى مَدَارِكَ ( أَحَدُهَا ) قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } الْآيَةَ قَالُوا هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى الْبَيُونَةِ بِالثَّلَاثِ ، وَقَدْ أَجَابَ اللَّخْمِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْهَا بِأَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ ( أَحَدُهَا ) أَنَّهُ

عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ الْمُطَلِّقُ لَا النِّسَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } وَثَانِيهَا سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَزْوَاجَ كُنَّ اللَّائِي طُلِّقْنَ لَكِنَّ السَّرَاحَ لَا يُوجِبُ إلَّا وَاحِدَةً كَمَا لَوْ قَالَ سَرَّحْتُك ( وَثَالِثُهَا ) سَلَّمْنَا أَنَّهُ الثَّلَاثُ لَكِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مُعَلَّلٌ بِالنَّدَمِ وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمْلَكُ لِنَفْسِهِ مِنَّا ( وَرَابِعُهَا ) أَنَّ التَّخْيِيرَ إنَّمَا كَانَ بَيْنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالدَّارِ الْآخِرَةِ ( وَثَانِيهَا ) أَنَّ إحْدَى نِسَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَكَانَتْ أَلْبَتَّةَ فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي الْخِيَارِ قَالَ اللَّخْمِيُّ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَاَلَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ إنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ، ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُهُ مِثْلَ ذَلِكَ ( وَثَالِثُهَا ) أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ عَادَةً إنَّمَا هُوَ التَّخْيِيرُ فِي الْكَوْنِ فِي الْعِصْمَةِ أَوْ مُفَارَقَتِهَا هَذَا هُوَ السَّابِقُ لِلْفَهْمِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ لِزَوْجَتِهِ خَيَّرْتُك وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ يُنَازِعُونَ فِي أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ عَادَةً وَالصَّحِيحُ الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ قَوْلَ الْأَئِمَّةِ هُوَ مُقْتَضَى اللَّفْظِ لُغَةً لَا مِرْيَةَ فِي ذَلِكَ وَإِنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ أَفْتَى بِالثَّلَاثِ وَالْبَيُونَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بِنَاءً عَلَى عَادَةٍ كَانَتْ فِي زَمَانِهِ أَوْجَبَتْ نَقْلَ اللَّفْظِ عَنْ مُسَمَّاهُ اللُّغَوِيِّ إلَى هَذَا الْمَفْهُومِ فَصَارَ صَرِيحًا فِيهِ ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُتَّجَهُ وَهُوَ سِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ وَالتَّمْلِيكِ غَيْرَ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ قَدْ بَطَل وَتَغَيَّرَتْ الْفُتْيَا وَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى اللُّغَةِ كَمَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ وَتَصِيرُ كِنَايَةً مَحْضَةً بِسَبَبِ أَنَّ الْعُرْفَ قَدْ تَغَيَّرَ حَتَّى لَمْ يَصِرْ أَحَدٌ يَسْتَعْمِلُ هَذَا اللَّفْظَ إلَّا فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَضْلًا عَنْ

كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ الَّتِي تُصَيِّرُهُ مَنْقُولًا وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ اللَّفْظَ مَتَى كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ مُضَافًا لِنَقْلٍ عَادِيٍّ بَطَلَ ذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ بُطْلَانِ تِلْكَ الْعَادَةِ وَتَغَيَّرَ إلَى حُكْمٍ آخَرَ إنْ شَهِدَتْ لَهُ عَادَةٌ أُخْرَى فَهَذَا هُوَ الْفِقْهُ الْمُتَّجَهُ .
قَالَ ( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ بَعْدَ الْمِائَةِ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّمْلِيكِ وَقَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ ) قُلْت أَكْثَرُ مَا قَالَهُ فِيهِ حِكَايَةُ خِلَافٍ وَتَوْجِيهٍ وَلَا كَلَامَ فِي ذَلِكَ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ مَالِكًا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنَّمَا بَنَى عَلَى عُرْفِ زَمَانِهِ هُوَ الظَّاهِرُ وَمَا قَالَهُ مِنْ لُزُومِ تَغَيُّرِ الْفَتْوَى عِنْدَ تَغَيُّرِ الْعُرْفِ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّمْلِيكِ وَقَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ ) عَلَى مَشْهُورِ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنَّ التَّمْلِيكَ جَعْلُ الزَّوْجِ الْمُسْلِمِ الْمُكَلَّفِ إنْشَاءَ الطَّلَاقِ حَقًّا لِلزَّوْجَةِ ، وَكَذَا لِغَيْرِهَا رَاجِحًا فِي الثَّلَاثِ يَخُصُّ بِمَا دُونَهَا بِنِيَّةٍ وَالتَّخْيِيرُ جَعْلُهُ إنْشَاءَ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا حُكْمًا أَوْ نَصًّا عَلَيْهَا حَقًّا لَهَا ، وَكَذَا لِغَيْرِهَا كَمَا لِابْنِ عَرَفَةَ فَمَوْضُوعُ التَّمْلِيكِ عَلَى هَذَا أَصْلُ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ إشْعَارٍ بِالْبَيْنُونَةِ وَلَا بِالْعَدَدِ فَلَهَا أَنْ تَقْضِيَ بِأَيِّ ذَلِكَ شَاءَتْ وَمَوْضُوعُ التَّخْيِيرِ عَلَى هَذَا الثَّلَاثُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَبَعْدَهُ وَمَقْصُودُهُ الْبَيْنُونَةُ فَلِذَلِكَ تُقْبَلُ نِيَّةُ الزَّوْجِ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ قَبْلَ الْبِنَاءِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ بِالْوَاحِدَةِ حِينَئِذٍ دُونَ مَا بَعْدَ الْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّهُ أَيْ التَّخْيِيرَ حِينَئِذٍ صَرِيحٌ فِي الْبَيْنُونَةِ لَا يَقْبَلُ الْمَجَازَ كَالثَّلَاثِ إذَا نَطَقَ بِهَا ، وَلَيْسَ لَهُ عَزْلُهَا فِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهَا مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنْ الْعِصْمَةِ .
وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ قَالَ الْحَطَّابُ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَفْعَلُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوَكَالَةِ عَمَّنْ وَكَّلَهُ وَالْمُمَلَّكُ وَالْمُخَيَّرُ إنَّمَا يَفْعَلَانِ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا مَلَكَا مَا كَانَ يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ ا هـ .
قَالَ حَفِيدُ ابْنُ رُشْدٍ فِي بِدَايَتِهِ فَرَأْيُ مَالِكٍ أَنَّ قَوْلَهُ لَهَا اخْتَارِينِي أَوْ اخْتَارِي نَفْسَك أَنَّهُ ظَاهِرٌ بِعُرْفِ الشَّرْعِ فِي مَعْنَى الْبَيْنُونَةِ بِتَخْيِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ إنَّمَا كَانَ الْبَيْنُونَةَ وَرَأَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي التَّمْلِيكِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ طَلَاقًا إذَا زَعَمَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ ظَاهِرٌ فِي مَعْنَى جَعْلِ الطَّلَاقِ بِيَدِهَا قَالَ وَصَارَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ التَّخْيِيرَ

وَالتَّمْلِيكَ وَاحِدٌ فِي الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّ مِنْ عُرْفِ دَلَالَةِ اللُّغَةِ أَنَّ مَنْ مَلَّكَ إنْسَانًا أَمْرًا مِنْ الْأُمُورِ إنْ شَاءَ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ لَا يَفْعَلَهُ فَإِنَّهُ قَدْ خَيَّرَهُ ا هـ .
مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ وَاخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ الْوَاحِدِ الَّذِي وَقَعَ اشْتِرَاكُهُمَا فِيهِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ اخْتَارِي وَأَمْرُك بِيَدِك سَوَاءٌ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ طَلَاقًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ وَإِنْ نَوَاهُ فَهُوَ مَا أَرَادَ إنْ وَاحِدَةً فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَإِنْ ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ فَلَهُ عِنْدَهُ أَنْ يُنَاكِرَهَا فِي الطَّلَاقِ نَفْسِهِ وَفِي الْعَدَدِ فِي الْخِيَارِ أَوْ التَّمْلِيكِ نَعَمْ التَّمْلِيكُ عِنْدَهُ إذَا أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ كَالْوَكَالَةِ وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ مَتَى أَحَبَّ ذَلِكَ مَا لَمْ يُوقِعْ الطَّلَاقَ ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ الْخِيَارُ وَالتَّمْلِيكُ وَاحِدٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ( وَقَدْ قِيلَ ) الْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي أَعْدَادِ الطَّلَاقِ فِي التَّمْلِيكِ ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مُنَاكَرَتُهَا ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَعَطَاءٌ .
( وَقَدْ قِيلَ ) إنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ فِي التَّمْلِيكِ إلَّا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ ابْنَ مَسْعُودٍ رَجُلٌ فَقَالَ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ امْرَأَتِي بَعْضُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ فَقَالَتْ لَوْ أَنَّ الَّذِي بِيَدِك مِنْ أَمْرِي بِيَدِي لَعَلِمْتَ كَيْفَ أَصْنَعُ ، قَالَ فَإِنَّ الَّذِي بِيَدِي مِنْ أَمْرِك بِيَدِك ، قَالَتْ فَأَنْتَ طَالِقٌ ثَلَاثًا قَالَ أَرَاهَا وَاحِدَةً وَأَنْتَ أَحَقُّ بِهَا مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا وَسَأَلْقَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ ، ثُمَّ لَقِيَهُ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ صَنَعَ اللَّهُ بِالرِّجَالِ وَفَعَلَ يَعْمِدُونَ إلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي أَيْدِيهِمْ فَيَجْعَلُونَهُ بِأَيْدِي النِّسَاءِ بِفِيهَا التُّرَابُ مَاذَا قُلْت فِيهَا قَالَ ، قُلْت أَرَاهَا وَاحِدَةً وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا قَالَ وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ ،

وَلَوْ رَأَيْت غَيْرَ ذَلِكَ عَلِمْت أَنَّك لَمْ تُصِبْ ، وَقَدْ قِيلَ لَيْسَ التَّمْلِيكُ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ مَا جَعَلَ الشَّرْعُ بِيَدِ الرَّجُلِ لَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى يَدِ الْمَرْأَةِ بِجَعْلِ جَاعِلٍ ، وَكَذَلِكَ التَّخْيِيرُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ قَالَ وَمَعْنَى مَا ثَبَتَ مِنْ تَخْيِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ أَنَّهُنَّ لَوْ اخْتَرْنَ أَنْفُسَهُنَّ طَلَّقَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَنَّهُنَّ كُنَّ يُطَلَّقْنَ بِنَفْسِ اخْتِيَارِ الطَّلَاقِ كَمَا فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ لِحَفِيدِ ابْنِ رُشْدٍ ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي قِيلَ بِاشْتِرَاكِهِمَا فِيهِ ( إمَّا ) عَدَمُ لُزُومِ شَيْءٍ إلَّا مَا أَرَادَهُ إنْ وَاحِدَةً فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَإِنْ ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ فَلَهُ مُنَاكَرَتُهَا فِي الطَّلَاقِ نَفْسِهِ وَفِي الْعَدَدِ ( وَإِمَّا ) مَا قَالَتْهُ مِنْ الْعَدَدِ ، وَلَيْسَ لَهُ مُنَاكَرَتُهَا وَإِمَّا لُزُومُ طَلْقَةٍ رَجْعِيَّةٍ ، وَلَوْ أَوْقَعَتْ أَكْثَرَ ( وَإِمَّا ) أَنَّهُ لَغْوٌ لَا يَلْزَمُ بِهِ شَيْءٌ مُطْلَقًا وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ مَا فَرَّقَ بِهِ بَيْنَهُمَا مَشْهُورُ مَالِكٍ فَقَالُوا الْخِيَارُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ أَيْ لَا صَرِيحٍ وَلَا ظَاهِرٍ ، بَلْ كِنَايَةٍ خَفِيَّةٍ لَا يَلْزَمُ بِهِ شَيْءٌ إلَّا بِالنِّيَّةِ لِمَا سَيَأْتِي ، وَأَمَّا التَّمْلِيكُ فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً فَهِيَ بَائِنَةٌ كَمَا فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ وَفَرَّقَ ابْنُ حَنْبَلٍ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ مَا ذَكَرَ قَالَ الشَّيْخُ مَنْصُورُ بْنُ إدْرِيسَ الْحَنْبَلِيُّ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ عَلَى الْإِقْنَاعِ مَعَ الْمَتْنِ .
وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَمْرُك بِيَدِك فَهُوَ تَوْكِيلٌ مِنْهُ لَهَا فِي الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهَا فِيهِ وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِالْمَجْلِسِ ، بَلْ هُوَ عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ يَفْسَخْ أَوْ يَطَأْ لِقَوْلِ عَلِيٍّ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ فَكَانَ كَالْإِجْمَاعِ ؛ وَلِأَنَّهُ نَوْعُ تَمَلُّكٍ فِي الطَّلَاقِ ، فَمَلَكَهُ الْمُفَوَّضُ إلَيْهِ

فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ كَمَا لَوْ جَعَلَهُ لِأَجْنَبِيٍّ وَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا أَفْتَى بِهِ أَحْمَدُ مِرَارًا ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عُثْمَانَ .
وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَفَضَالَةُ وَنَضْرَةُ فِي الشَّرْحِ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هُوَ ثَلَاثٌ } قَالَ الْبُخَارِيُّ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ وَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي جَمِيعِ أَمْرِهَا ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ مُضَافٍ فَيَتَنَاوَلُ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثَ كَقَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَك مَا شِئْت وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَرَدْت وَاحِدَةً وَلَا يُدَيَّنُ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إنْ جَعَلَ أَمْرَهَا فِي يَدِ غَيْرِهَا أَيْ الزَّوْجَةِ بِأَنْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِ زَيْدٍ مَثَلًا فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا مَا لَمْ يَفْسَخْ أَوْ يَطَأْ .
( وَإِنْ ) قَالَ لَهَا اخْتَارِي نَفْسَك لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ وَتَقَعُ رَجْعِيَّةً حَكَاهُ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ ؛ وَلِأَنَّ اخْتَارِي تَفْوِيضٌ مُعَيَّنٌ فَيَتَنَاوَلُ أَقَلَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَهُوَ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ بِخِلَافِ أَمْرُك بِيَدِك فَإِنَّهُ أَمْرٌ مُضَافٌ فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَمْرِهَا إلَّا أَنْ يَجْعَلَ إلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَيْ مِنْ وَاحِدَةٍ سَوَاءٌ جَعَلَهُ بِلَفْظِهِ بِأَنْ يَقُولَ اخْتَارِي مَا شِئْت أَوْ اخْتَارِي الطَّلْقَاتِ إنْ شِئْت أَوْ جَعَلَهُ بِنِيَّةٍ بِأَنْ يَنْوِيَ بِقَوْلِهِ اخْتَارِي عَدَدًا اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ خَفِيَّةٌ فَيَرْجِعُ فِيمَا يَقَعُ بِهَا إلَى نِيَّتِهِ كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ الْخَفِيَّةِ وَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ ثَلَاثًا فَطَلُقَتْ أَقَلَّ مِنْهَا أَيْ مِنْ ثَلَاثٍ كَاثْنَيْنِ أَوْ وَاحِدَةٍ وَقَعَ مَا طَلَّقَتْهُ دُونَ مَا نَوَاهُ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ

وَإِنَّمَا يَقَعُ بِتَطْلِيقِهَا وَلِذَا لَوْ لَمْ تُطَلِّقْ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ ا هـ مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ عِنْدَنَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا مَا قَالَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ التَّفَرُّقِ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ التَّخْيِيرَ ثَلَاثٌ وَإِنْ نَوَتْ دُونَهَا وَثَانِيهِمَا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ التَّخْيِيرَ ثَلَاثٌ إنْ قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي وَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا أَوْ رَدَّتْ الْخِيَارَ عَلَيْهِ حَكَاهَا الْأَصْلُ عَنْ عِيَاضٍ فِي كِتَابِ التَّنْبِيهَاتِ ، وَأَمَّا التَّمْلِيكُ فَعَلَى مَا مَرَّ عَنْ مَالِكٍ فَالتَّشْهِيرُ فِيمَا تَقَدَّمَ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ التَّخْيِيرِ لَا التَّمْلِيكِ فَإِنَّ مَوْضُوعَهُ عِنْدَنَا أَصْلُ الطَّلَاقِ فَقَطْ كَمَا عَلِمْت فَهُوَ كِنَايَةٌ ظَاهِرَةٌ يَلْزَمُ بِهِ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ إنْ لَمْ تُوقِعْ أَكْثَرَ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ كِنَايَةٌ خَفِيَّةٌ كَالتَّخْيِيرِ يُرْجَعُ فِيمَا يَقَعُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا إلَى نِيَّةٍ ، وَقَدْ قِيلَ هُوَ عَلَى مَا تَقُولُهُ مِنْ إعْدَادِ الطَّلَاقِ ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مُنَاكَرَتُهَا كَالتَّخْيِيرِ ، وَقِيلَ هُوَ كَالتَّخْيِيرِ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ ، وَلَوْ أَوْقَعَتْ أَكْثَرَ ، وَقِيلَ هُوَ كَالتَّخْيِيرِ لَغْوًا لَا يَلْزَمُ بِهِ شَيْءٌ أَصْلًا .
وَقِيلَ هُوَ خِلَافُ التَّخْيِيرِ كِنَايَةٌ خَفِيَّةٌ لَا يَلْزَمُ بِهِ إلَّا مَا نَوَاهُ ، وَقِيلَ هُوَ غَيْرُ التَّخْيِيرِ يَلْزَمُ بِهِ مَا قَالَتْهُ مِنْ إعْدَادِ الطَّلَاقِ فَإِنْ أَوْقَعَتْ وَاحِدَةً فَبَائِنَةٌ فَالْأَقْوَالُ فِيهِ سَبْعَةٌ شَارَكَ التَّخْيِيرُ فِي أَرْبَعَةٍ وَخَالَفَهُ فِي ثَلَاثَةٍ وَحُكِيَ الْأَصْلُ فِي التَّخْيِيرِ عَنْ الْقَاضِي عِيَاضٍ فِي كِتَابِ التَّنْبِيهَاتِ سَبْعَةَ أَقْوَالٍ أَيْضًا ( الْأَوَّلُ ) وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا الثَّلَاثُ نَوَتْهَا الْمَرْأَةُ أَمْ لَا فَإِنْ قَضَتْ بِدُونِهَا فَهَلْ يَسْقُطُ خِيَارُهَا خِلَافٌ ( الْقَوْلُ الثَّانِي ) لِعَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثُ وَإِنْ نَوَتْ دُونَهَا ( الْقَوْلُ الثَّالِثُ ) وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ الثَّلَاثُ إنْ قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي

وَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا أَوْ أَرَادَتْ الْخِيَارَ عَلَيْهِ ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مُقَابِلَا الْمَشْهُورِ عِنْدَنَا وَعَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ التَّخْيِيرُ خِلَافُ التَّمْلِيكِ فَإِنَّ مَوْضُوعَ التَّمْلِيكِ أَصْلُ الطَّلَاقِ كَمَا عَلِمْت ( الْقَوْلُ الرَّابِعُ ) أَنَّهُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَلِلزَّوْجِ الْمُنَاكَرَةُ فِي الثَّلَاثِ وَلَمْ يَنْسُبْهُ عِيَاضٌ لِأَحَدٍ وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ إلَّا كَوْنُ التَّمْلِيكِ بِخِلَافِهِ فَقَطْ إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِهَذَا الْقَوْلِ فِيهِ فَافْهَمْ ( الْقَوْلُ الْخَامِسُ ) لِابْنِ الْجَهْمِ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ عَلَى هَذَا لَيْسَ لِلزَّوْجِ الْمُنَاكَرَةُ فِي الثَّلَاثِ كَمَا مَرَّ عَنْ حَفِيدِ ابْنِ رُشْدٍ فِي التَّمْلِيكِ مِنْ أَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ فِيهِ وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَعَطَاءٌ هُوَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا فِي أَعْدَادِ الطَّلَاقِ ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مُنَاكَرَتُهَا فَتَأَمَّلْ ( الْقَوْلُ السَّادِسُ ) أَنَّهُ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ ، وَلَوْ أَوْقَعَتْ أَكْثَرَ وَهُوَ إمَّا أَنْ يُنْسَبَ لِأَبِي يُوسُفَ كَمَا قَالَ عِيَاضٌ وَعَلَيْهِ فَهُوَ إمَّا بِخِلَافِ التَّمْلِيكِ فَإِنَّهُ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ كَمَا مَرَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِمَّا كَالتَّمْلِيكِ كَمَا مَرَّ عَنْ حَفِيدِ ابْنِ رُشْدٍ أَنَّهُ رَوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعُمَرَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ التَّمْلِيكُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ ، وَلَوْ أَوْقَعَتْ ثَلَاثًا وَإِمَّا أَنْ يُنْسَبَ لِابْنِ حَنْبَلٍ ، فَيَكُونُ خِلَافَ التَّمْلِيكِ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ كَالتَّوْكِيلِ يَلْزَمُ بِهِ مَا قَالَتْهُ فَإِنْ أَوْقَعَتْ وَاحِدَةً فَبَائِنَةٌ كَمَا مَرَّ عَنْ الشَّيْخِ مَنْصُورِ بْنِ إدْرِيسَ الْحَنْبَلِيِّ فَتَنَبَّهْ ( الْقَوْلُ السَّابِعُ ) أَنَّهُ كِنَايَةٌ خَفِيَّةٌ لَا يَلْزَمُ بِهِ شَيْءٌ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَحُكِيَ الْأَصْلُ عَنْ عِيَاضٍ أَنَّهُ اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ حَنْبَلٍ وَأَنَّهُمْ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ لَفْظَ التَّخْيِيرِ يَحْتَمِلُ

التَّخْيِيرَ فِي الطَّلَاقِ وَغَيْرَهُ ، فَإِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ فَيَحْتَمِلُ الْوَحْدَةَ وَالْكَثْرَةَ وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْعِصْمَةِ حَتَّى يَنْوِيَ ا هـ .
وَاَلَّذِي يُؤْخَذُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مُعْتَمَدَ مَذْهَبِ ابْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ ، وَلَوْ أَوْقَعَتْ أَكْثَرَ ، لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ الشَّيْخِ مَنْصُورٍ الْحَنْبَلِيِّ وَأَنَّهُ خِلَافُ التَّمْلِيكِ إذْ التَّمْلِيكُ كَالتَّوْكِيلِ الْقَوْلُ قَوْلُهَا فِيمَا تُوقِعُهُ ، فَإِنْ أَوْقَعَتْ وَاحِدَةً فَبَائِنَةٌ وَأَنَّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَى هَذَا إنَّمَا هُوَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا مَعَ ذَلِكَ فِي التَّمْلِيكِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ هُوَ كَالتَّخْيِيرِ فِي هَذَا الْحُكْمِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ بِخِلَافٍ ؛ لِأَنَّهَا إنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً فِيهِ فَهِيَ بَائِنَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ حَفِيدِ ابْنِ رُشْدٍ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَاعْتَمَدَ أَصْحَابُنَا فِي الِاسْتِدْلَالِ لِمَشْهُورِ مَالِكٍ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَدَارَكَ ( الْمُدْرَكُ الْأَوَّلُ ) قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } .
الْآيَةَ .
قَالُوا هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى الْبَيْنُونَةِ بِالثَّلَاثِ ( الْمُدْرَكُ الثَّانِي ) أَنَّ إحْدَى نِسَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَكَانَتْ أَلْبَتَّةَ فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي الْخِيَارِ ( الْمُدْرَكُ الثَّالِثُ ) أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ عَادَةً إنَّمَا هُوَ التَّخْيِيرُ فِي الْكَوْنِ فِي الْعِصْمَةِ أَوْ مُفَارَقَتُهَا هَذَا هُوَ السَّابِقُ لِلْفَهْمِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ لِزَوْجَتِهِ خَيَّرْتُك وَتَعَقَّبَ اللَّخْمِيُّ الْمُدْرَكَ الْأَوَّلَ بِأَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ ( الْأَوَّلُ ) أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ الْمُطَلِّقُ لَا النِّسَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَزْوَاجَ كُنَّ اللَّاتِي طَلَّقْنَ لَكِنَّ السَّرَاحَ لَا يُوجِبُ إلَّا وَاحِدَةً كَمَا لَوْ قَالَ سَرَّحْتُك ( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) سَلَّمْنَا أَنَّهُ الثَّلَاثُ

لَكِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مُعَلَّلٌ بِالنَّدَمِ وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمْلَكُ لِنَفْسِهِ مِنَّا ( الْوَجْهُ الرَّابِعُ ) أَنَّ التَّخْيِيرَ إنَّمَا كَانَ بَيْنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالدَّارِ الْآخِرَةِ وَتَعَقَّبَ الْمُدْرَكَ الثَّانِيَ بِأَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَاَلَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ إنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ، ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُهُ مِثْلَ ذَلِكَ } وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ يُنَازِعُونَ فِي أَنَّ هَذَا أَيْ التَّخْيِيرَ فِي الْكَوْنِ فِي الْعِصْمَةِ أَوْ مُفَارَقَتِهَا هُوَ الْمَفْهُومُ عَادَةً لَكِنْ فِي شَرْحِ الْحَطَّابِ عَلَى الْمُخْتَصَرِ كَمَا فِي الْبُنَانِيِّ عَلَى ابْنِ عبق أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ التَّخْيِيرِ وَالتَّمْلِيكِ قِيلَ أَمْرٌ عُرْفِيٌّ لَا مُشَارَكَةَ لِلُّغَةِ فِيهِ فَقَوْلُهُمْ فِي الْمَشْهُورِ إنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُنَاكِرَ الْمُمَلَّكَةَ دُونَ الْمُخَيَّرَةِ إنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْعُرْفِ وَعَلَى هَذَا يَنْعَكِسُ الْحُكْمُ بِانْعِكَاسِ الْعُرْفِ ، وَقِيلَ هُوَ وَإِنْ كَانَ تَابِعًا لِلْعُرْفِ إلَّا أَنَّ الْعُرْفَ تَابِعٌ لِلُّغَةِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ إعْطَاءُ مَا لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا فَلِذَلِكَ قُلْنَا إنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُنَاكِرَهَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مِلْكِهِ بِيَدِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا مَا اعْتَرَفَ أَنَّهُ إعْطَاءٌ .
وَأَمَّا التَّخْيِيرُ فَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ خُيِّرَ فُلَانٌ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إذَا جُعِلَ لَهُ الْخِيَارُ ، فَيَكُونُ تَخْيِيرُ الزَّوْجَةِ مَعْنَاهُ أَنَّ الزَّوْجَ فَوَّضَ إلَيْهَا الْبَقَاءَ عَلَى الْعِصْمَةِ وَالذَّهَابَ عَنْهَا ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَأَتَّى لَهَا إذَا حَصَلَتْ عَلَى حَالٍ لَا يَبْقَى لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا حُكْمٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي إيقَاعِ الثَّلَاثِ ، نَظَرَ ضَيْح وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ ا هـ .
وَقَالَ الْأَصْلُ وَالصَّحِيحُ الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ قَوْلَ الْأَئِمَّةِ هُوَ مُقْتَضَى اللَّفْظِ لُغَةً لَا مِرْيَةَ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ

اللَّهُ أَفْتَى بِالثَّلَاثِ وَالْبَيْنُونَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بِنَاءً عَلَى عَادَةٍ كَانَتْ فِي زَمَانِهِ أَوْجَبَتْ نَقْلَ اللَّفْظِ عَنْ مُسَمَّاهُ اللُّغَوِيِّ إلَى هَذَا الْمَفْهُومِ فَصَارَ صَرِيحًا فِيهِ ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُتَّجَهُ وَهُوَ سِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ وَقَاعِدَةِ التَّمْلِيكِ غَيْرَ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ بُطْلَانُ هَذَا الْحُكْمِ الْيَوْمَ وَوُجُوبُ الرُّجُوعِ إلَى اللُّغَةِ وَيَكُونُ كِنَايَةً مَحْضَةً كَمَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ بِسَبَبِ أَنَّ الْعُرْفَ قَدْ تَغَيَّرَ حَتَّى لَمْ يَصِرْ أَحَدٌ يَسْتَعْمِلُ هَذَا اللَّفْظَ إلَّا فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَضْلًا عَنْ كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ الَّتِي تُصَيِّرُهُ مَنْقُولًا وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ اللَّفْظَ مَتَى كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ مُضَافًا لِحُكْمٍ عَادِيٍّ بَطَلَ ذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ بُطْلَانِ تِلْكَ الْعَادَةِ وَتَغَيَّرَ إلَى حُكْمٍ آخَرَ إنْ شَهِدَتْ لَهُ عَادَةٌ أُخْرَى فَهَذَا هُوَ الْفِقْهُ الْمُتَّجَهُ ا هـ وَكَتَبَ عَلَيْهِ ابْنُ الشَّاطِّ مَا نَصُّهُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ مَالِكًا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنَّمَا بَنَى عَلَى عُرْفِ زَمَانِهِ هُوَ الظَّاهِرُ وَمَا قَالَهُ مِنْ لُزُومِ تَغَيُّرِ الْفَتْوَى عِنْدَ تَغَيُّرِ الْعُرْفِ صَحِيحٌ ا هـ مِنْهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ( مَسْأَلَةٌ ) قَالَ الْخَرَشِيُّ عِنْدَ قَوْلِ خَلِيلٍ فِي جَوَازِ التَّخْيِيرِ قَوْلَانِ أَيْ وَكَرَاهَتِهِ ، وَهَذَا يَجْرِي فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَهُ الثَّلَاثُ .
وَأَمَّا كَوْنُهُ يُنَاكِرُ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا فَهَذَا شَيْءٌ آخَرُ وَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى كَرَاهَتِهِ مَعَ أَنَّ مَوْضِعَهُ الثَّلَاثُ نَظَرًا لِمَقْصُودِهِ إذْ هُوَ الْبَيْنُونَةُ الَّتِي قَدْ تَكُونُ بِوَاحِدَةٍ كَمَا فِي الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَإِنْ كَانَتْ بِحَسَبِ مَا هُنَا إنَّمَا تَكُونُ بِالثَّلَاثِ وَيَنْبَغِي جَرْيُ الْخِلَافِ فِي التَّمْلِيكِ إذَا قُيِّدَ بِالثَّلَاثِ وَإِلَّا فَهُوَ مُبَاحٌ وَانْظُرْ التَّوْكِيلَ إذَا قُيِّدَ بِالثَّلَاثِ ، وَالظَّاهِرُ الْكَرَاهَةُ قَطْعًا ا هـ .
قَالَ الْعَدَوِيُّ عَلَيْهِ وَوَجْهُهُ إمَّا أَنَّ الْمُوَكِّلَ

دَاخِلٌ عَلَى الثَّلَاثِ بِخِلَافِ الْمُخَيَّرِ ، وَكَذَا الْمِلْكُ إذَا قُيِّدَ بِالثَّلَاثِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَخْيِيرِهَا أَوْ تَمْلِيكِهَا كَوْنُهَا تُوقِعُ الطَّلَاقَ ؛ لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَرَيْنَ الْفِرَاقَ فَلِذَا كَانَ الرَّاجِحُ فِيهِمَا الْإِبَاحَةَ وَيُكْرَهُ فِي حَقِّهَا قَطْعًا وُقُوعُ الثَّلَاثِ كَمَا أَفَادَهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ ، وَإِمَّا أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمَّا كَانَ لَهُ الْعَزْلُ فِي التَّوْكِيلِ صَارَ كَأَنَّهُ الْمُوقِعُ لِلثَّلَاثِ فَلِذَا كُرِهَ قَطْعًا بِخِلَافِ التَّمْلِيكِ فَإِنَّهَا الْمُوقِعَةُ لَهَا ا هـ بِبَعْضِ تَصَرُّفٍ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ ضَمِّ الشَّهَادَتَيْنِ فِي الْأَقْوَالِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ عَدَمِ ضَمِّهَا فِي الْأَفْعَالِ ) اعْلَمْ أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الدَّارَ وَأَنَّهُ دَخَلَ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا وَأَنَّهُ كَلَّمَهُ حَلَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَإِنْ نَكَلَ سُجِنَ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى مُتَعَلِّقٍ وَاحِدٍ .
وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْعِتْقِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَقَالَ إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِمَكَّةَ فِي رَمَضَانَ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِمِصْرَ فِي صَفَرٍ طَلُقَتْ ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ قَالَ ابْنُ يُونُسَ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ مَسَافَةٌ يُمْكِنُ قَطْعُهَا فِي الْأَجَلِ الَّذِي بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ وَتُضْبَطُ عِدَّتُهَا مِنْ يَوْمِ شَهَادَةِ الْأَخِيرِ ، قُلْت وَيَنْبَغِي حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى الْعِدَّةِ فِي الْقَضَاءِ أَمَّا فِي الْحُكْمِ فَمَا تَعْتَقِدُهُ الزَّوْجَةُ فِي تَارِيخِ الطَّلَاقِ .
وَقَالَ اللَّخْمِيُّ قِيلَ تُضَمُّ الشَّهَادَتَانِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ أَوْ إحْدَاهُمَا قَوْلٌ وَالْأُخْرَى فِعْلٌ وَيَقْضِي بِهَا ، وَقِيلَ لَا يُضَمَّانِ مُطْلَقًا ، وَقِيلَ يُضَمَّانِ فِي الْأَقْوَالِ فَقَطْ ، وَقِيلَ يُضَمَّانِ إذَا كَانَتَا عَلَى فِعْلٍ فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى قَوْلٍ وَالْأُخْرَى عَلَى فِعْلٍ لَمْ يُضَمَّا وَالْأَقْوَالُ كُلُّهَا لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاعْتَمَدَ الْأَصْحَابُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ أَنَّ الْأَقْوَالَ يُمْكِنُ تَكَرُّرُهَا وَيَكُونُ الثَّانِي خَبَرًا عَنْ الْأَوَّلِ وَالْأَفْعَالَ لَا يُمْكِنُ تَكَرُّرُهَا إلَّا مَعَ التَّعَدُّدِ ، وَهَذَا الْفَرْقُ فِيهِ بَحْثٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْإِنْشَاءُ وَتَجْدِيدَ الْمَعَانِي بِتَجَدُّدِ الِاسْتِعْمَالَاتِ وَالتَّأْسِيسِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى التَّأْكِيدِ ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الْوَضْعِ وَمُقْتَضَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ عَدَمُ ضَمِّ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ لِعَدَمِ

وُجُودِ النِّصَابِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ مِنْهَا لَكِنْ عَارَضَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ قَاعِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ أَصْلَ قَوْلِنَا أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتَ حُرٌّ الْخَبَرُ عَنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ قَبْلَ زَمَنٍ مِنْ النُّطْقِ ، وَكَذَلِكَ بِعْت وَاشْتَرَيْت وَسَائِرُ صِيَغِ الْعُقُودِ وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ لِاسْتِحْدَاثِ هَذِهِ الْمَعَانِي بِالْقَرَائِنِ أَوْ النَّقْلِ الْعُرْفِيِّ .
وَإِنَّمَا الْأَصْلُ الْخَبَرُ فَشَهَادَتُهُمَا بِالْقَرَائِنِ شَهَادَةٌ بِقَوْلٍ يَصْلُحُ لِلْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ فَيُحْمَلُ الْقَوْلُ الثَّانِي عَلَى الْإِخْبَارِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ عَمَلًا بِقَاعِدَةِ تَرْجِيحِ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ وَالْحَمْلُ عَلَى الْأَصْلِ أَوْلَى وَلِذَلِكَ شَبَّهَ الْأَصْحَابُ بِمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ فِي مَجَالِسَ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ عَلَيْهِ مَا أَقَرَّ بِهِ أَمَّا لَوْ فَرَضْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ صَمَّمَ عَلَى الْإِنْشَاءِ فِيمَا سَمِعَهُ كَانَتْ الْأَقْوَالُ كَالْأَفْعَالِ فِي مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَمُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ ، فَيَكُونُ سِرُّ الْفَرْقِ عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّهُ أَنْشَأَ أَوَّلًا وَأَخْبَرَ ثَانِيًا عَنْ ذَلِكَ الْإِنْشَاءِ وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْإِنْشَاءِ وَلَفْظُ الْخَبَرِ صُورَتُهُمَا وَاحِدَةٌ شُرِّعَ ضَمُّ الثَّانِي إلَى الْأَوَّلِ فَيَجْتَمِعُ النِّصَابُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فَيَلْزَمُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ ، وَأَمَّا الْفِعْلُ الثَّانِي فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَيْنَ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْهُ فَإِنَّ الْخَبَرَ مِنْ خَصَائِصِ الْأَقْوَالِ فَصَارَ مَشْهُودًا بِهِ آخَرَ يَحْتَاجُ إلَى نِصَابٍ كَامِلٍ فِي نَفْسِهِ فَهَذَا هُوَ سِرُّ الْفَرْقِ ، وَمَنْ لَاحَظَ قَاعِدَةَ الْإِنْشَاءِ قَالَ بِعَدَمِ الضَّمِّ فِيهِمَا وَهُوَ ظَاهِرٌ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِنْشَاءِ لَا عَلَى الْخَبَرِ وَمَا يَقْضِي إلَّا بِهِ .
وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْخَبَرُ دُونَ الْإِنْشَاءِ أَوْ هُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ لَمْ يَقْضِ بِالطَّلَاقِ وَلَا بِالْعَتَاقِ أَلْبَتَّةَ كَمَا

نَفْعَلُهُ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمُتَرَدِّدَةِ ، وَأَمَّا ضَمُّ الْأَفْعَالِ مَعَ تَعَذُّرِ الْإِخْبَارِ فِيهَا فَمُلَاحَظَةٌ لِلْمَعْنَى دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ فَإِنْ كُلُّ شَاهِدٍ شَهِدَ بِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ وَبِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ ذَلِكَ لَا يُعْرَجُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ صَرَّحَا بِالطَّلَاقِ هَكَذَا انْضَمَّتْ الشَّهَادَاتُ .
وَأَمَّا عَدَمُ الضَّمِّ إذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى قَوْلٍ وَالْأُخْرَى عَلَى فِعْلٍ فَلِأَنَّ ذَلِكَ مُخْتَلِفُ الْجِنْسِ وَالضَّمُّ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ وَضَمُّ الشَّيْءِ إلَى جِنْسِهِ أَقْرَبُ مِنْ ضَمِّهِ إلَى غَيْرِ جِنْسِهِ ، وَإِذَا شَهِدَ بِتَعْلِيقَيْنِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانَيْنِ كَرَمَضَانَ وَصَفَرٍ كَمَا قَالَ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ التَّعْلِيقُ الثَّانِي خَبَرًا عَنْ التَّعْلِيقِ الْأَوَّلِ لَا إنْشَاءً لِلرَّبْطِ ، بَلْ إخْبَارًا عَنْ ارْتِبَاطِ الطَّلَاقِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى وَفِي الْأَوَّلِ أَنْشَأَ الرَّبْطَ بِهِ فَالْقَوْلُ فِي أَلْفَاظِ التَّعَالِيقِ كَالْقَوْلِ فِي أَلْفَاظِ الْإِنْشَاءَاتِ حَرْفًا بِحَرْفٍ ( تَفْرِيعٌ ) قَالَ اللَّخْمِيُّ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالثَّلَاثِ قَبْلَ أَمْسِ وَالثَّانِي بِاثْنَتَيْنِ أَمْسِ وَالثَّالِثُ بِوَاحِدَةٍ الْيَوْمَ لَزِمَ الثَّلَاثُ ؛ لِأَنَّ ضَمَّ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ يُوجِبُ اثْنَتَيْنِ قَبْلَ سَمَاعِ الثَّالِثِ ، فَلَمَّا سَمِعَهُ الثَّالِثُ ضُمَّ لِلْبَاقِي مِنْ الْأَوَّلِ وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ الثَّانِي بِوَاحِدَةٍ وَالْأَخِيرُ بِاثْنَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الثَّانِي مَعَ الْأَوَّلِ طَلْقَتَانِ يُضَمُّ إلَيْهِمَا طَلْقَةٌ أُخْرَى .
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ الْأَوَّلُ بِاثْنَتَيْنِ وَالثَّانِي بِثَلَاثٍ وَالْأَخِيرُ بِوَاحِدَةٍ هَذَا إذَا عُلِمَتْ التَّوَارِيخُ فَإِنْ جُهِلَتْ يُخْتَلَفُ فِي لُزُومِ الثَّلَاثِ أَوْ اثْنَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَيْهِمَا مِنْ بَابِ الطَّلَاقِ بِالشَّكِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِطَلْقَةٍ وَالْآخَرُ بِأَكْثَرَ لَمْ يُحْكَمْ بِشَيْءٍ لِعَدَمِ حُصُولِ النِّصَابِ فِي شَهَادَةٍ مِنْهُمَا فَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِبَائِنَةٍ وَالْآخَرُ بِرَجْعِيَّةٍ ضُمَّتْ

الشَّهَادَتَانِ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ فِي الصِّفَةِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي مُحَرَّمٍ إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي صَفَرٍ وَشَهِدَا عَلَيْهِ أَوْ غَيْرُهُمَا بِالْفِعْلِ بَعْدَ صَفَرٍ طَلُقَتْ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى التَّعْلِيقِ وَالْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ اتَّفَقَا عَلَى الْمُقَرِّ بِهِ ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي زَمَنِ الْإِقْرَارِ وَإِنْ شَهِدَا فِي مَجْلِسِ التَّعْلِيقِ وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ فَعَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الشَّرْطَ وَالْآخَرُ أَنَّهُ فَعَلَهُ يَوْمَ السَّبْتِ طَلُقَتْ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى التَّعْلِيقِ وَوُقُوعِ الشَّرْطِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَسَبَا قَوْلَهُ لِمَكَانَيْنِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ إنَّمَا تَصِحُّ إذَا حُمِلَ الثَّانِي عَلَى الْخَبَرِ أَمَّا لَوْ صَمَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى الْإِنْشَاءِ فَلَا يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الضَّمُّ فِي الشَّهَادَاتِ وَإِنَّمَا وُجِدَ فِي الْإِطْلَاقَاتِ الْمُحْتَمَلَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عَلَى تِلْكَ الْقَوَاعِدِ الْمُتَقَدِّمَةِ

قَالَ ( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ ضَمِّ الشَّهَادَةِ فِي الْأَقْوَالِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ عَدَمِ ضَمِّهَا فِي الْأَفْعَالِ ) ، قُلْت مَا قَالَهُ هُنَا حِكَايَةُ أَقْوَالٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَا كَلَامَ فِيهِ قَالَ ( وَاعْتَمَدَ الْأَصْحَابُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ أَنَّ الْأَقْوَالَ يُمْكِنُ تَكَرُّرُهَا وَيَكُونُ الثَّانِي خَبَرًا عَنْ الْأَوَّلِ وَالْأَفْعَالَ لَا يُمْكِنُ تَكَرُّرُهَا إلَّا مَعَ التَّعَدُّدِ إلَى قَوْلِهِ وَالْحَمْلُ عَلَى الْأَصْلِ أَوْلَى ) ، قُلْت مَا قَالَهُ صَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى مَا أُصِّلَ إلَّا مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ أَصْلَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتَ حُرٌّ الْخَبَرُ عَنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ قَبْلَ زَمَانِ النُّطْقِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْخَبَرَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ الْمُطْلَقِ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْحَالِ قَالَ ( وَلِذَلِكَ شَبَّهَ الْأَصْحَابُ بِمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ فِي مَجَالِسَ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ عَلَيْهِ مَا أَقَرَّ بِهِ ) ، قُلْت إنَّمَا لَمْ يَتَعَدَّدْ عَلَيْهِ مَا أَقَرَّ بِهِ لِاحْتِمَالِ تَكَرُّرِ الْإِقْرَارِ بِمَالٍ وَاحِدٍ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْ الزَّائِدِ ، وَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ عَبْدِي فُلَانٌ حُرٌّ ، ثُمَّ كَرَّرَ ذَلِكَ الْقَوْلَ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ خَبَرٌ عَنْ الْأَوَّلِ بِنَاءً عَلَى مَا أُصِّلَ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ الْخَبَرُ ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ الشَّاهِدَانِ شَهِدَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ إنْشَاءُ الْعِتْقِ فِي الْعَبْدِ الَّذِي سُمِّيَ ، قُلْت لَا أَدْرِي مَا الْحَامِلُ عَلَى تَكَلُّفِ تَقْدِيرِهِ كَوْنَ الْقَوْلِ الثَّانِي خَبَرًا عَنْ الْأَوَّلِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ بَيَّنَ بِقَرِينَةِ مَقَالِهِ أَوْ بِقَرِينَةِ حَالِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ بِالْقَوْلِ الثَّانِي تَأْكِيدَ الْإِنْشَاءِ لِعِتْقِ ذَلِكَ الْعَبْدِ لَكَمُلَتْ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ بِذَلِكَ الْعِتْقِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ تَبَيَّنَ بِالْقَرَائِنِ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ خَبَرٌ عَنْ أَنَّهُ كَانَ عَقْدَ عِتْقِهِ وَالْقَوْلَ الثَّانِي أَيْضًا كَذَلِكَ لَحَصَلَتْ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ

عَلَى إقْرَارِهِ بِعِتْقِهِ فَلَا فَرْقَ إذًا بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْقَوْلَانِ إنْشَاءً أَوْ كَانَا خَبَرًا أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا خَبَرًا وَالْآخَرُ إنْشَاءً مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ وُقُوعُ عِتْقِهِ إيَّاهُ قَدْ حَصَلَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مِنْ تِلْكَ التَّقَادِيرِ نَعَمْ إذَا تَبَيَّنَ بِالْقَرَائِنِ أَوْ احْتَمَلَ أَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ تَأْسِيسُ إنْشَاءٍ كَالْأَوَّلِ فَهَا هُنَا لَا يَصِحُّ ضَمُّ الشَّهَادَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْ التَّارِيخِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَى عَقْدِ الْعِتْقِ إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَوَّلُ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنَّمَا شَهِدَ بِمَا لَا يَصِحُّ عَقْدُ الْعِتْقِ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْعَقِدُ فِيمَنْ تَقَدَّمَ عِتْقُهُ .
قَالَ ( أَمَّا لَوْ فَرَضْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ صَمَّمَ عَلَى الْإِنْشَاءِ فِيمَا سَمِعَهُ كَانَتْ الْأَقْوَالُ كَالْأَفْعَالِ إلَى قَوْلِهِ كَالْقَوْلِ فِي أَلْفَاظِ الْإِنْشَاءَاتِ حَرْفًا بِحَرْفٍ ) ، قُلْت لَا أَحْسِبُ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ الْفَرْقُ مِنْ كَوْنِ الْقَوْلِ الثَّانِي خَبَرًا عَنْ الْأَوَّلِ صَحِيحًا ، بَلْ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَصْلًا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ سَوَاءٌ كَانَتْ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَمْ كَيْفَمَا كَانَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا فَإِنْ قَبِلَتْ الضَّمَّ ضُمَّتْ وَإِلَّا فَلَا فَفِي الْقَوْلِ كَمَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ بِمَالٍ كَمَنْ يَقُولُ فِي رَمَضَانَ لِفُلَانٍ عِنْدِي دِينَارٌ فَسَمِعَهُ شَاهِدٌ ، ثُمَّ يَقُولُ فِي شَوَّالٍ لِفُلَانٍ عِنْدِي دِينَارٌ فَسَمِعَهُ آخَرُ فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ يَقْبَلُ الضَّمَّ فَتَكْمُلُ الشَّهَادَةُ وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالدِّينَارِ وَفِي الْفِعْلِ كَمَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ فِي شَوَّالٍ فَيُشَاهِدُهُ شَاهِدٌ .
ثُمَّ يَشْرَبُهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَيُشَاهِدُهُ آخَرُ فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ يَقْبَلُ الضَّمَّ ، فَإِنَّ الشَّاهِدَيْنِ مَعًا قَدْ اجْتَمَعَا مَعًا عَلَى مُشَاهَدَتِهِمَا إيَّاهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ فَتَكْمُلُ الشَّهَادَةُ فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الضَّمَّ فَكَمَا إذَا قَالَ فِي رَمَضَانَ عَبْدِي فُلَانٌ حُرٌّ عَلَى

قَصْدِ تَأْسِيسِ الْإِنْشَاءِ لِعِتْقِهِ فَشَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ شَاهِدٌ ، ثُمَّ قَالَ فِي شَوَّالٍ عَبْدِي فُلَانٌ حُرٌّ عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ بِعَيْنِهِ فَيَشْهَدُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ شَاهِدٌ آخَرُ وَتَعَذَّرَ قَبُولُ الضَّمِّ هُنَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ عَقْدَ الْعِتْقِ لَا يَتَعَدَّدُ ، وَأَمَّا الْفِعْلُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الضَّمَّ فَكَمَا إذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ شَاهَدَ زَيْدًا قَتَلَ عَمْرًا فِي شَوَّالٍ وَشَهِدَ شَاهِدٌ آخَرُ أَنَّهُ شَاهَدَ قَتْلَهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَتَعَذَّرَ قَبُولُ الضَّمِّ هُنَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يَتَعَدَّدُ وَعَلَى مَا تَقَرَّرَ تُشْكِلُ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَنَّهُ إذَا شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِمَكَّةَ فِي رَمَضَانَ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِمِصْرَ فِي صَفَرٍ طَلُقَتْ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُدَّةَ الَّتِي بَيْنَ رَمَضَانَ وَصَفَرٍ أَكْثَرُ مِنْ مُدَّةِ الْعِدَّةِ فَعَلَى تَقْدِيرِ قَصْدِهِ تَأْسِيسُ الْإِنْشَاءِ فَالْقَوْلُ الثَّانِي لَا يَنْعَقِدُ بِهِ طَلَاقٌ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ انْحَلَّتْ عِصْمَتُهُ عَنْهَا قَبْلَ هَذَا التَّارِيخِ بِمُقْتَضَى شَهَادَةِ الْأَوَّلِ وَعَلَى تَقْدِيرِ قَصْدِ الْخَبَرِ فَالْقَوْلُ الثَّانِي يَبْعُدُ إطْلَاعُ الشَّاهِدِ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ لِاحْتِمَالِ الْقَوْلِ الثَّانِي قَصْدَ تَأْسِيسِ الْإِنْشَاءِ وَقَصْدَ تَأْكِيدِهِ وَقَصْدَ الْخَبَرِ وَتَرْجِيحُ قَصْدِ الْخَبَرِ بِأَنَّهُ الْأَصْلُ لَا يَخْفَى ضَعْفُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَمَا قَالَهُ بَعْدُ حِكَايَةُ أَقْوَالٍ وَلَا كَلَامَ فِيهَا وَمَا قَالَهُ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الْخَبَرِ فَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ وَمَا قَالَهُ فِيمَا إذَا شَهِدَ لَهُ الْإِنْشَاءُ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْفَرْقِ بَعْدَهُ صَحِيحٌ أَيْضًا .

الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ ضَمِّ الشَّهَادَةِ فِي الْأَقْوَالِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ عَدَمِ ضَمِّهَا فِي الْأَفْعَالِ ) عَلَى مَشْهُورِ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَدْ قَالَ إذَا شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ أَنَّهُ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الدَّارَ وَأَنَّهُ دَخَلَ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا وَأَنَّهُ كَلَّمَهُ حَلَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَإِنْ نَكَلَ سُجِنَ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى مُتَعَلِّقٍ وَاحِدٍ ، وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْعِتْقِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ .
وَقَالَ إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِمَكَّةَ فِي رَمَضَانَ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِمِصْرَ فِي صَفَرٍ طَلُقَتْ ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ قَالَ ابْنُ يُونُسَ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ مَسَافَةٌ يُمْكِنُ قَطْعُهَا فِي الْأَجَلِ الَّذِي بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ وَتُضْبَطُ عِدَّتُهَا مِنْ يَوْمِ شَهَادَةِ الْأَخِيرِ ا هـ .
قَالَ الْأَصْلُ وَيَنْبَغِي حَمْلُ كَلَامِهِ أَيْ ابْنِ يُونُسَ عَلَى الْعِدَّةِ فِي الْقَضَاءِ أَمَّا فِي الْحُكْمِ فَمَا تَعْتَقِدُهُ الزَّوْجَةُ تَارِيخُ الطَّلَاقِ ا هـ .
وَقَالَ اللَّخْمِيُّ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالثَّلَاثِ قَبْلَ أَمْسِ وَالثَّانِي بِاثْنَتَيْنِ أَمْسِ وَالثَّالِثُ بِوَاحِدَةٍ الْيَوْمَ لَزِمَ الثَّلَاثُ ؛ لِأَنَّ ضَمَّ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ يُوجِبُ اثْنَتَيْنِ قَبْلَ سَمَاعِ الثَّالِثِ ، فَلَمَّا سَمِعَهُ الثَّالِثُ ضُمَّ لِلْبَاقِي مِنْ الْأَوَّلِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ الثَّانِي بِوَاحِدَةٍ وَالْأَخِيرُ بِاثْنَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ مَعَ الْأَوَّلِ طَلْقَتَانِ يَضُمُّ إلَيْهِمَا طَلْقَةً أُخْرَى ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ الْأَوَّلُ بِاثْنَتَيْنِ وَالثَّانِي بِثَلَاثٍ وَالْأَخِيرُ بِوَاحِدَةٍ هَذَا إذَا عُلِمَتْ التَّوَارِيخُ فَإِنْ جُهِلَتْ يُخْتَلَفُ فِي لُزُومِ الثَّلَاثِ أَوْ اثْنَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَيْهِمَا مِنْ بَابِ الطَّلَاقِ بِالشَّكِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِطَلْقَةٍ وَالْآخَرُ بِاثْنَتَيْنِ لَمْ يُحْكَمْ بِشَيْءٍ لِعَدَمِ حُصُولِ

النِّصَابِ فِي شَهَادَةٍ مِنْهُمَا فَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِبَائِنَةٍ وَالْآخَرُ بِرَجْعِيَّةٍ ضُمَّتْ الشَّهَادَتَانِ ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ هَا هُنَا إنَّمَا هُوَ فِي الصِّفَةِ قَالَ الْأَصْلُ وَاعْتَمَدَ الْأَصْحَابُ فِي الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ بَيْنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ عَلَى أَنَّ الْأَقْوَالَ يُمْكِنُ تَكَرُّرُهَا وَيَكُونُ الثَّانِي خَبَرًا عَنْ الْأَوَّلِ وَالْأَفْعَالَ لَا يُمْكِنُ تَكَرُّرُهَا إلَّا مَعَ التَّعَدُّدِ وَقَاعِدَةُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْإِنْشَاءُ وَتَجْدِيدَ الْمَعَانِي بِتَجَدُّدِ الِاسْتِعْمَالَاتِ ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الْوَضْعِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى التَّأْكِيدِ وَإِنْ كَانَتْ مُقْتَضَى عَدَمِ ضَمِّ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ لِعَدَمِ وُجُودِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّهُ قَدْ عَارَضَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ قَاعِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ أَصْلَ قَوْلِنَا أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتَ حُرٌّ الْخَبَرُ عَنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ قَبْلَ زَمَنِ النُّطْقِ ، وَكَذَلِكَ بِعْت وَاشْتَرَيْت وَسَائِرُ صِيَغِ الْعُقُودِ فَإِذَا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى الَّذِي فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ الْأَوَّلِ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِنْشَاءِ لَا عَلَى الْخَبَرِ ضَرُورَةَ الْقَضَاءِ فِيهِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْخَبَرَ دُونَ الْإِنْشَاءِ أَوْ أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ لَمْ يُقْضَ بِطَلَاقٍ وَلَا بِعَتَاقٍ أَلْبَتَّةَ كَمَا نَفْعَلُهُ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمُتَرَدِّدَةِ كَانَ الْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ الَّذِي فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ الْآخَرِ صَالِحًا لِلْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْصَرِفُ عَنْ أَصْلِهِ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ إلَى إنْشَاءِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَاسْتِحْدَاثِهَا بِالْقَرَائِنِ أَوْ النَّقْلِ الْعُرْفِيِّ ، وَشَهَادَتُهُمَا بِالْقَرَائِنِ شَهَادَةٌ بِقَوْلٍ يَصْلُحُ لَهُمَا فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِخْبَارِ عَمَلًا بِقَاعِدَةِ تَرْجِيحِ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ وَالْحَمْلُ عَلَى الْأَصْلِ أَوْلَى وَلِذَلِكَ شَبَّهَهُ

الْأَصْحَابُ بِمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ فِي مَجَالِسَ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ عَلَيْهِ مَا أَقَرَّ بِهِ أَيْ لِاحْتِمَالِ تَكَرُّرِ الْإِقْرَارِ بِمَالٍ وَاحِدٍ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْ الزَّائِدِ .
وَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ عَبْدِي فُلَانٍ حُرٌّ ، ثُمَّ كَرَّرَ ذَلِكَ الْقَوْلَ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ خَبَرٌ عَنْ الْأَوَّلِ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْخَبَرُ ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ الشَّاهِدَانِ شَهِدَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ إنْشَاءُ الْعِتْقِ فِي الْعَبْدِ الَّذِي سُمِّيَ ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْإِنْشَاءِ وَلَفْظُ الْخَبَرِ صُورَتُهُمَا وَاحِدَةٌ شُرِّعَ ضَمُّ الثَّانِي إلَى الْأَوَّلِ فَيَجْتَمِعُ نِصَابُ الشَّهَادَةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فَيَلْزَمُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ .
وَأَمَّا الْفِعْلُ الثَّانِي فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَيْنَ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْهُ فَإِنَّ الْخَبَرَ مِنْ خَصَائِصِ الْأَقْوَالِ فَصَارَ مَشْهُودًا بِهِ غَيْرَ الْأَوَّلِ فَيَحْتَاجُ إلَى نِصَابٍ كَامِلٍ فِي نَفْسِهِ هَذَا هُوَ سِرُّ الْفَرْقِ نَعَمْ لَوْ فَرَضْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ صَمَّمَ عَلَى الْإِنْشَاءِ فِيمَا سَمِعَهُ كَانَتْ الْأَقْوَالُ كَالْأَفْعَالِ فِي مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَمُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ ا هـ كَلَامُ الْأَصْلِ بِتَهْذِيبٍ وَتَعَقَّبَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الشَّاطِّ بِوُجُوهٍ ( الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ) أَنَّ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ أَصْلَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتَ حُرٌّ الْخَبَرُ عَنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ قَبْلَ زَمَانِ النُّطْقِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْخَبَرَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ الْمُطَلِّقِ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْحَالِ ا هـ بِلَفْظِهِ وَفِيهِ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ اتِّفَاقًا فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لِقَوْلِ الْعَلَّامَةِ الْخَفَاجِيِّ فِي طِرَازِ الْمَجَالِسِ ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ أَيْ لِاسْمِ الْفَاعِلِ عَلَى زَمَانٍ أَصْلًا وَآخَرُونَ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ وَالْمَاضِي مَجَازٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَآخَرُونَ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ

وَقَوْمٌ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ فَقَطْ وَهُوَ الْمَشْهُورُ .
ثُمَّ إنَّهُ هَلْ هُوَ كَذَلِكَ مُطْلَقًا أَمْ إذَا رُكِّبَ مَعَ غَيْرِهِ أَمْ إذَا كَانَ مَحْمُولًا ذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ إذَا عَمِلَ النَّصْبَ فَقَطْ ، وَآخَرُونَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْأَعْرَاضِ السَّيَّالَةِ وَالْقَارَّةِ وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ صِفَاتِ اللَّهِ وَغَيْرِهَا ا هـ كَمَا فِي حَاشِيَةِ كَنُونٍ عَلَى عبق قَالَ وَعَلَى قَوْلِهِ أَمْ إذَا كَانَ مَحْمُولًا يَأْتِي مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْخَطِيبِ فِي الْإِحَالَةِ وَالسُّودَانِيُّ فِي نَيْلِ الِابْتِهَاجِ وَالْمُقْرِي فِي نَفْحِ الطِّيبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِي قَالَ شَهِدْت مَجْلِسًا بَيْنَ يَدَيْ السُّلْطَانِ ابْنِ تَاشِفِينَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُوسَى بْنِ حَمُّو سُلْطَانِ تِلِمْسَانَ الَّذِي اسْتَوْلَى عَلَى مِلْكِهِ أَبُو الْحَسَنِ الْمَرِينِيُّ بَعْدَ قَتْلِهِ قَرَأَ عَلَى أَبِي زَيْدٍ ابْنِ الْإِمَامِ حَدِيثَ مُسْلِمٍ { لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ } إلَخْ فَقَالَ لَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقُ بْنُ حَكَمٍ السَّلْوَى هَذَا الْمُلَقَّنُ مُحْتَضَرٌ حَقِيقَةً مَيِّتٌ مَجَازًا فَمَا وَجْهُ تَرْكِ مُحْتَضَرِيكُمْ إلَى مَوْتَاكُمْ وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ فَأَجَابَهُ أَبُو زَيْدٍ بِجَوَابٍ لَمْ يُقْنِعْهُ وَكُنْت قَرَأْت عَلَى الْأُسْتَاذِ بَعْضَ التَّنْقِيحِ فَقُلْت زَعَمَ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ حَقِيقَةً فِي الْحَالِ مَجَازًا فِي الِاسْتِقْبَالِ مُخْتَلَفًا فِيهِ فِي الْمَاضِي إذَا كَانَ مَحْكُومًا بِهِ أَمَّا إذَا كَانَ مُتَعَلِّقَ الْحُكْمِ كَمَا هُنَا فَهُوَ حَقِيقَةٌ مُطْلَقًا إجْمَاعًا وَعَلَى هَذَا لَا مَجَازَ فَلَا سُؤَالَ لَا يُقَالُ إنَّهُ احْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّهُ نُقِلَ الْإِجْمَاعُ وَهُوَ أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي لَا يُطَالَبُ مُدَّعِيهَا بِالدَّلِيلِ كَمَا ذَكَرَهُ أَيْضًا ، بَلْ نَقُولُ إنَّهُ أَسَاءَ حَيْثُ احْتَجَّ فِي مَوْضِعِ الْوِفَاقِ كَمَا أَسَاءَ اللَّخْمِيُّ وَغَيْرُهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُوبِ الطَّهَارَةِ وَنَحْوِهَا ، بَلْ هَذَا أَشْنَعُ لِكَوْنِهِ مِمَّا عُلِمَ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ .
ثُمَّ إنَّا لَوْ

سَلَّمْنَا نَفْيَ الْإِجْمَاعِ فَلَنَا أَنْ نَقُولَ إنَّ ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى ظُهُورِ الْعَلَامَاتِ الَّتِي يَعْقُبُهَا الْمَوْتُ عَادَةً ؛ لِأَنَّ تَلْقِينَهُ قَبْلَ ذَلِكَ إنْ لَمْ يُدْهِشْ فَهُوَ يُوحِشُ فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى وَقْتِ التَّلْقِينِ أَيْ لَقِّنُوا مَنْ تَحْكُمُونَ بِأَنَّهُ مَيِّتٌ أَوْ نَقُولَ إنَّمَا عَدَلَ عَنْ الِاحْتِضَارِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِبْهَامِ أَلَا تَرَى إلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ هَلْ أُخِذَ مِنْ حُضُورِ الْمَلَائِكَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ حَالَةٌ خَفِيَّةٌ نَحْتَاجُ فِي نَصْبِهَا دَلِيلَ الْحُكْمِ إلَى وَصْفٍ ظَاهِرٍ يَضْبِطُهَا وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْ مِنْ حُضُورِ الْمَوْتِ وَهُوَ أَيْضًا مِمَّا لَا يُعْرَفُ بِنَفْسِهِ ، بَلْ بِالْعَلَامَاتِ ، فَلَمَّا وَجَبَ اعْتِبَارُهَا وَجَبَ كَوْنُ تِلْكَ التَّسْمِيَةِ إشَارَةً إلَيْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ا هـ .
وَذَكَرَ هَذِهِ الْحِكَايَةَ أَيْضًا فِي نَوَازِلِ الْجَنَائِزِ مِنْ الْمِعْيَارِ وَزَادَ مَا نَصُّهُ : وَقَالَ سَيِّدِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مق لَعَلَّهُ مِنْ الْإِيمَاءِ إلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ وَالْإِشَارَةِ إلَى وَقْتِ نَفْعِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ النَّفْعَ التَّامَّ وَهُوَ الْمَوْتُ عَلَيْهَا لَا حَالَ الْحَيَاةِ مِنْ احْتِضَارٍ أَوْ غَيْرِهِ أَيْ لَقِّنُوهُمْ إيَّاهَا لِيَمُوتُوا عَلَيْهَا وَتَنْفَعُ ، وَمِثْلُهُ وَلَا تَمُوتُونَ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَيْ دُومُوا عَلَيْهِ لِتَمُوتُوا عَلَيْهِ فَيَتِمَّ نَفْعُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ا هـ .
انْتَهَى كَلَامُ كنون بِلَفْظِهِ وَإِنْ أَرَادَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَرَدَ أَنَّ الْمُرَادَ حَالُ التَّلَبُّسِ لَا حَالُ النُّطْقِ كَمَا زَعَمَ الْقَرَافِيُّ فَفِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى اشْتِرَاطِ بَقَاءِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ فِي كَوْنِ الْمُشْتَقِّ حَقِيقَةً إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَآخِرُ جُزْءٍ وَثَالِثُهَا الْوَقْفُ ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ اسْمُ الْفَاعِلِ حَقِيقَةً فِي الْحَالِ أَيْ حَالِ التَّلَبُّسِ لَا النُّطْقِ خِلَافًا لِلْقَرَافِيِّ ا هـ .
كَمَا فِي حَاشِيَةِ كنون عَلَى عبق وَلَا شَكَّ أَنَّ حَالَ تَلَبُّسِهَا بِالطَّلَاقِ وَالْحُرِّيَّةِ هُوَ الزَّمَنُ الْمَاضِي الَّذِي أَنْشَأَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ

فِيهِ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ .
( الْوَجْهُ الثَّانِي ) أَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا الْحَامِلُ عَلَى تَكَلُّفِ تَقْدِيرِهِ كَوْنَ الْقَوْلِ الثَّانِي خَبَرًا عَنْ الْأَوَّلِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ بَيَّنَ بِقَرِينَةِ حَالِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ بِالْقَوْلِ الثَّانِي تَأْكِيدَ الْإِنْشَاءِ لِعِتْقِ ذَلِكَ الْعَبْدِ لَكَمُلَتْ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ بِذَلِكَ الْعِتْقِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَبَيَّنَ بِالْقَرَائِنِ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ خَبَرٌ عَنْ أَنَّهُ كَانَ عَقْدَ عِتْقِهِ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَيْضًا كَذَلِكَ لَحَصَلَتْ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ عَلَى إقْرَارِهِ بِعِتْقِهِ فَلَا فَرْقَ إذًا بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْقَوْلَانِ إنْشَاءً أَوْ كَانَا خَبَرًا أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا خَبَرًا وَالْآخَرُ إنْشَاءً مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ وُقُوعُ عِتْقِهِ إيَّاهُ قَدْ حَصَلَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مِنْ تِلْكَ التَّقَادِيرِ نَعَمْ إذَا تَبَيَّنَ بِالْقَرَائِنِ أَوْ احْتَمَلَ أَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ تَأْسِيسُ إنْشَاءٍ كَالْأَوَّلِ فَهَا هُنَا لَا يَصِحُّ ضَمُّ الشَّهَادَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْ التَّارِيخِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَى عَقْدِ الْعِتْقِ إلَّا شَاهِدٌ وَهُوَ الْأَوَّلُ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنَّمَا شَهِدَ بِمَا لَا يَصِحُّ عَقْدُ الْعِتْقِ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْعَقِدُ فِيمَنْ تَقَدَّمَ عِتْقُهُ ا هـ .
وَفِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا خَبَرًا وَالْآخَرُ إنْشَاءً يَصْدُقُ بِمَا إذَا كَانَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ خَبَرًا عَنْ أَنَّهُ كَانَ عَقْدَ عِتْقِهِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي إنْشَاءً لِعِتْقِ ذَلِكَ الْعَبْدِ كَمَا يَصْدُقُ بِالْعَكْسِ مَعَ أَنَّ كَمَالَ نِصَابِ الشَّهَادَةِ إنَّمَا يَظْهَرُ عَلَى صِدْقِهِ عَلَى الثَّانِي أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَلَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الثَّانِي عَلَيْهِ تَأْسِيسَ إنْشَاءٍ فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ بِهِ شَهَادَةً بِمَا لَا يَصِحُّ عَقْدُ الْعِتْقِ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ إلَخْ نَعَمْ لَوْ قَامَتْ قَرِينَةُ مَقَالِهِ أَوْ حَالِهِ عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ بِالْقَوْلِ الثَّانِي تَأْكِيدَ الْإِنْشَاءِ لِعِتْقِ ذَلِكَ الْعَبْدِ الَّذِي شَهِدَ الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ بِإِقْرَارِهِ بِهِ لَكَمُلَتْ

شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ بِذَلِكَ الْعِتْقِ عَلَى الْأَوَّلِ وَلَك أَنْ تَقُولَ إنَّ قَوْلَهُ نَعَمْ إنْ تَبَيَّنَ بِالْقَرَائِنِ أَوْ احْتَمَلَ أَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ تَأْسِيسُ إلَخْ يَشْمَلُ احْتِمَالَ التَّأْسِيسِ عَلَى هَذَا الْأَوَّلِ أَيْضًا فَتَأَمَّلْ بِإِمْعَانٍ وَإِنْصَافٍ ( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) أَنَّ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ الْفَرْقُ مِنْ كَوْنِ الْقَوْلِ الثَّانِي خَبَرًا عَنْ الْأَوَّلِ لَا أَحْسَبُهُ صَحِيحًا ، بَلْ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَصْلًا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ سَوَاءٌ كَانَتْ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَمْ كَيْفَمَا كَانَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا فَإِنْ قَبِلَتْ الضَّمَّ ضُمَّتْ وَإِلَّا فَلَا فَبَقِيَ الْقَوْلُ كَمَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ بِمَالٍ كَمَنْ يَقُولُ فِي رَمَضَانَ لِفُلَانٍ عِنْدِي دِينَارٌ فَسَمِعَهُ شَاهِدٌ ، ثُمَّ يَقُولُ فِي شَوَّالٍ لِفُلَانٍ عِنْدِي دِينَارٌ فَسَمِعَهُ آخَرُ فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ يَقْبَلُ الضَّمَّ فَتَكْمُلُ الشَّهَادَةُ وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالدِّينَارِ وَفِي الْفِعْلِ كَمَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ فِي شَوَّالٍ فَيُشَاهِدُهُ شَاهِدٌ ، ثُمَّ يَشْرَبُهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَيُشَاهِدُهُ آخَرُ فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ يَقْبَلُ الضَّمَّ فَإِنَّ الشَّاهِدَيْنِ مَعًا قَدْ اجْتَمَعَا عَلَى مُشَاهَدَتِهِمَا إيَّاهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ فَتُمْكِنُ الشَّهَادَةُ فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الضَّمَّ فَكَمَا إذَا قَالَ فِي رَمَضَانَ عَبْدِي فُلَانٌ حُرٌّ عَلَى قَصْدِ تَأْسِيسِ الْإِنْشَاءِ لِعَقْدِهِ فَشَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ شَاهِدٌ ، ثُمَّ قَالَ فِي شَوَّالٍ عَبْدِي فُلَانٌ حُرٌّ عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ بِعَيْنِهِ فَيَشْهَدُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ شَاهِدٌ آخَرُ وَتَعَذَّرَ قَبُولُ الضَّمِّ هُنَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ عَقْدَ الْعِتْقِ لَا يَتَعَدَّدُ ، وَأَمَّا الْفِعْلُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الضَّمَّ فَكَمَا إذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ شَاهَدَ زَيْدًا قَتَلَ عَمْرًا فِي شَوَّالٍ وَشَهِدَ شَاهِدٌ آخَرُ أَنَّهُ شَاهَدَ قَتْلَهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ ، وَتَعَذَّرَ قَبُولُ الضَّمِّ هُنَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يَتَعَدَّدُ ( الْوَجْهُ الرَّابِعُ ) أَنَّ الْمَسْأَلَةَ

الَّتِي نَقَلَهَا عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنَّهُ إذَا شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِمَكَّةَ فِي رَمَضَانَ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِمِصْرَ فِي صَفَرٍ طَلُقَتْ تُشْكِلُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُدَّةَ الَّتِي بَيْنَ رَمَضَانَ وَصَفَرٍ أَكْثَرُ مِنْ مُدَّةِ الْعِدَّةِ فَعَلَى تَقْدِيرِ قَصْدِهِ تَأْسِيسَ الْإِنْشَاءِ ، فَالْقَوْلُ الثَّانِي لَا يَنْعَقِدُ بِهِ طَلَاقٌ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ انْحَلَّتْ عِصْمَتُهُ عَنْهَا قَبْلَ هَذَا التَّارِيخِ بِمُقْتَضَى شَهَادَةِ الْأَوَّلِ وَعَلَى تَقْدِيرِ قَصْدِ الْخَبَرِ فَالْقَوْلُ الثَّانِي يُبْعِدُ اطِّلَاعَ الشَّاهِدِ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ لِاحْتِمَالِ الْقَوْلِ الثَّانِي قَصْدَ تَأْسِيسِ الْإِنْشَاءِ وَقَصْدَ تَأْكِيدِهِ وَقَصْدَ الْخَبَرِ وَتَرْجِيحُ قَصْدِ الْخَبَرِ بِأَنَّهُ الْأَصْلُ لَا يَخْفَى ضَعْفُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ا هـ بِلَفْظِهِ .
هَذَا وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ الْمَذْكُورِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ كُلُّهَا لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حَكَاهَا اللَّخْمِيُّ قَالَ قِيلَ تُضَمُّ الشَّهَادَتَانِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ أَوْ أَحَدُهُمَا قَوْلٌ وَالْآخَرُ فِعْلٌ وَيَقْضِي بِهَا ، وَقِيلَ لَا يُضَمَّانِ مُطْلَقًا ، وَقِيلَ يُضَمَّانِ فِي الْأَقْوَالِ فَقَطْ ، وَقِيلَ يُضَمَّانِ إذَا كَانَتَا عَلَى فِعْلٍ فَإِنْ كَانَ إحْدَاهُمَا عَلَى قَوْلٍ وَالْأُخْرَى عَلَى فِعْلٍ لَمْ يُضَمَّا ا هـ قَالَ الْأَصْلُ وَالْقَوْلُ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ لَاحِظْ قَاعِدَةَ الْإِنْشَاءِ وَهُوَ ظَاهِرٌ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِنْشَاءِ لَا عَلَى الْخَبَرِ وَأَنَّهُ لَا يَقْضِي إلَّا بِهِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْخَبَرُ دُونَ الْإِنْشَاءِ أَوْ هُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ لَمْ يَقْضِ بِالطَّلَاقِ وَلَا بِالْعَتَاقِ أَلْبَتَّةَ كَمَا نَفْعَلُهُ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمُتَرَدِّدَةِ وَضَمُّ الْأَفْعَالِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَالرَّابِعِ مَعَ تَعَذُّرِ الْإِخْبَارِ فِيهَا مُلَاحَظَةً لِلْمَعْنَى دُونَ حُصُولِ السَّبَبِ فَإِنَّ كُلَّ شَاهِدٍ شَهِدَ بِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ وَبِأَيِّ

سَبَبٍ كَانَ ذَلِكَ لَا يُعْرَجُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ صَرَّحَا بِالطَّلَاقِ هَكَذَا انْضَمَّتْ الشَّهَادَاتُ .
وَأَمَّا عَدَمُ الضَّمِّ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ ، الرَّابِعُ إذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى قَوْلٍ وَالْأُخْرَى عَلَى فِعْلِ فُلَانٍ ذَلِكَ مُخْتَلِفُ الْجِنْسِ وَالضَّمُّ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ وَضَمُّ الشَّيْءِ إلَى جِنْسِهِ أَقْرَبُ مِنْ ضَمِّهِ إلَى غَيْرِ جِنْسِهِ فَافْهَمْ ( تَنْبِيهٌ ) قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي مُحَرَّمٍ إنْ فَعَلْت فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي صَفَرٍ وَشَهِدَا عَلَيْهِ أَوْ غَيْرُهُمَا بِالْفِعْلِ بَعْدَ صَفَرٍ طَلُقَتْ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى التَّعْلِيقِ وَالْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ اتَّفَقَا عَلَى الْمُقَرِّ بِهِ وَلَهُ وَاخْتَلَفَا فِي زَمَنِ الْإِقْرَارِ وَإِنْ شَهِدَا فِي مَجْلِسٍ عَلَى التَّعْلِيقِ وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ فَعَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الشَّرْطَ وَالْآخَرُ أَنَّهُ فَعَلَهُ يَوْمَ السَّبْتِ طَلُقَتْ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى التَّعْلِيقِ وَوُقُوعِ الشَّرْطِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَسَبَا قَوْلَهُ لِمَكَانَيْنِ ا هـ قَالَ الْأَصْلُ وَإِنَّمَا تَصِحُّ هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتُ إذَا حُمِلَ الثَّانِي عَلَى الْخَبَرِ أَمَّا لَوْ صَمَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى الْإِنْشَاءِ فَلَا يُوجَدُ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ الضَّمُّ فِي الشَّهَادَاتِ وَإِنَّمَا وُجِدَ فِي الْإِطْلَاقَاتِ الْمُحْتَمَلَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عَلَى تِلْكَ الْقَوَاعِدِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَالَ فَالْقَوْلُ فِي أَلْفَاظِ التَّعَالِيقِ كَالْقَوْلِ فِي أَلْفَاظِ الْإِنْشَاءَاتِ حَرْفًا بِحَرْفٍ فَإِذَا شَهِدَا بِتَعْلِيقَيْنِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانَيْنِ كَرَمَضَانَ وَصَفَرٍ كَمَا قَالَ يَعْنِي مَالِكًا فِي أَلْفَاظِ الْإِنْشَاءَاتِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ التَّعْلِيقَ الثَّانِيَ خَبَرًا عَنْ التَّعْلِيقِ الْأَوَّلِ أَيْ عَنْ ارْتِبَاطِ الطَّلَاقِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى لَا إنْشَاءً لِلرَّبْطِ وَفِي الْأَوَّلِ إنْشَاءُ الرَّبْطِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى ا هـ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ مَا قَالَهُ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الْخَبَرِ أَيْ حَمْلِ التَّعْلِيقِ الثَّانِي عَلَى

الْخَبَرِ فَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَيْ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ وَمَا قَالَهُ فِيمَا إذَا شَهِدَ لَهُ الْإِنْشَاءُ صَحِيحٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ا هـ بِلَفْظِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّبْعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَلْزَمُ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يَلْزَمُهُ ) اعْلَمْ أَنَّ أَحْوَالَ الْكَافِرِ مُخْتَلِفَةٌ إذَا أَسْلَمَ فَيَلْزَمُهُ ثَمَنُ الْبِيَاعَاتِ وَأَجْرُ الْإِجَارَاتِ وَدَفْعُ الدُّيُونِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْقِصَاصُ وَلَا الْغَصْبُ وَالنَّهْبُ إنْ كَانَ حَرْبِيًّا ، وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمَظَالِمِ وَرَدُّهَا ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الذِّمَّةَ وَهُوَ رَاضٍ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ .
وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلَمْ يَرْضَ بِشَيْءٍ فَلِذَلِكَ أَسْقَطَا عَنْهُ الْغُصُوبَ وَالنُّهُوبَ وَالْغَارَاتِ وَنَحْوَهَا ، وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَلْزَمُهُ وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا مِمَّا تَقَدَّمَ فِي كُفْرِهِ لَا ظِهَار وَلَا نَذْرَ وَلَا يَمِينَ مِنْ الْأَيْمَانِ وَلَا قَضَاءَ الصَّلَوَاتِ وَلَا الزَّكَوَاتِ وَلَا شَيْءَ فَرَّطَ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ } وَضَابِطُ الْفَرْقِ أَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ قِسْمَانِ مِنْهَا مَا رَضِيَ بِهِ حَالَةَ كُفْرِهِ وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ فَهَذَا لَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ إلْزَامَهُ إيَّاهُ لَيْسَ مُنَفِّرًا لَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ لِرِضَاهُ وَمَا لَمْ يَرْضَ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُوَفِّيهَا أَهْلَهَا فَهَذَا كُلُّهُ يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّ فِي إلْزَامِهِ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ لُزُومَهُ تَنْفِيرًا لَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقُدِّمَتْ مَصْلَحَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى مَصْلَحَةِ ذَوِي الْحُقُوقِ ، وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَتَسْقُطُ مُطْلَقًا رَضِيَ بِهَا أَمْ لَا وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْعِبَادَاتِ وَنَحْوَهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَلَمَّا كَانَ الْحَقَّانِ لِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ نَاسَبَ أَنْ يُقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى

الْآخَرِ وَيُسْقِطَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ لِحُصُولِ الْحَقِّ الثَّانِي لِجِهَةِ الْحَقِّ السَّاقِطِ .
وَأَمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّينَ فَجِهَةُ الْآدَمِيِّينَ وَالْإِسْلَامُ لَيْسَ حَقًّا لَهُمْ ، بَلْ لِجِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَاسَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ حَقُّهُمْ بِتَحْصِيلِ حَقِّ غَيْرِهِمْ ( وَثَانِيهِمَا ) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ جَوَادٌ تُنَاسِبُ رَحْمَتُهُ الْمُسَامَحَةَ وَالْعَبْدُ بَخِيلٌ ضَعِيفٌ فَنَاسَبَ ذَلِكَ التَّمَسُّكَ بِحَقِّهِ فَسَقَطَتْ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا وَإِنْ رَضِيَ بِهَا كَالنُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ أَوْ لَمْ يَرْضَ بِهَا كَالصَّلَوَاتِ وَالصِّيَامِ وَلَا يَسْقُطُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ إلَّا مَا تَقَدَّمَ الرِّضَى بِهِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ .

( الْفَرْقُ السَّبْعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَلْزَمُ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يَلْزَمُهُ ) مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْعِبَادِ وَضَابِطُ الْفَرْقِ وَسِرُّهُ أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ لَا تَلْزَمُهُ مُطْلَقًا كَانَتْ مِمَّا رَضِيَ بِهِ كَالنُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ أَوْ مِمَّا لَمْ يَرْضَ بِهِ كَالصَّلَوَاتِ وَالصِّيَامِ كَانَ هُوَ حَرْبِيًّا أَوْ ذِمِّيًّا كَمَا لَمْ يَرْضَ الْحَرْبِيُّ حَالَةَ كُفْرِهِ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ مِنْ الْعِبَادِ كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ الَّتِي دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُوَفِّيهَا أَهْلَهَا فَهَذَا كُلُّهُ يَسْقُطُ عَنْ الْكَافِرِ بِإِسْلَامِهِ أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ فَلِأَمْرَيْنِ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ } الْأَمْرُ الثَّانِي الْفَرْقُ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ وَجْهَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الْإِسْلَامَ وَنَحْوَ الْعِبَادَاتِ لَمَّا كَانَا حَقَّيْنِ لِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ جِهَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَكَانَ الْإِسْلَامُ أَصْلًا لِلْعِبَادَاتِ وَنَحْوِهَا بِحَيْثُ تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهَا عَلَيْهِ نَاسَبَ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهَا بِالتَّرْغِيبِ فِيهِ بِإِسْقَاطِهَا نَظَرًا لِكَوْنِهِ حَقًّا حَاصِلًا لِجِهَةِ الْحَقِّ السَّاقِطِ فَتُقَدَّمُ مَصْلَحَتُهُ عَلَى مَصْلَحَةِ مَا اتَّحَدَ مَعَهُ فِي الْجِهَةِ لِأَصَالَتِهِ لَا عَلَى مَا خَالَفَهُ فِيهَا كَحَقِّ الْآدَمِيِّينَ إذْ الْمُنَاسِبُ أَنْ لَا يَسْقُطَ حَقُّهُمْ بِتَحْصِيلِ حَقِّ غَيْرِهِمْ ( وَثَانِيهِمَا ) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ جَوَادٌ تُنَاسِبُ رَحْمَتُهُ الْمُسَامَحَةَ وَسُقُوطَ حُقُوقِهِ مُطْلَقًا ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ بَخِيلٌ ضَعِيفٌ يُنَاسِبُ التَّمَسُّكَ بِحَقِّهِ مُطْلَقًا إلَّا أَنَّهُ جَرَى فِيهِ التَّفْصِيلُ الْآتِي لِمَا سَتَعْرِفُهُ .
وَأَمَّا مَا لَمْ يَرْضَ الْحَرْبِيُّ حَالَةَ كُفْرِهِ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ مِنْ الْعِبَادِ كَالْغُصُوبِ وَالنُّهُوبِ وَالْغَارَاتِ وَنَحْوِهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ الَّتِي دَخَلَ

إلَخْ فَلِأَنَّ فِي إلْزَامِهِ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ لُزُومَهُ تَنْفِيرًا لَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقُدِّمَتْ مَصْلَحَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى مَصْلَحَةِ ذَوِي الْحُقُوقِ ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ الَّتِي رَضِيَ حَالَةَ كُفْرِهِ بِدَفْعِهَا لِمُسْتَحِقِّهَا مِنْ الْعِبَادِ وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِذَلِكَ فَهَذَا يَلْزَمُ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ إلْزَامَهُ إيَّاهُ لَيْسَ مُنَفِّرًا لَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ لِرِضَاهُ بِهِ لَكِنْ هَذَا يَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ وَالذِّمِّيِّ فَالذِّمِّيُّ كَمَا يَلْزَمُهُ ثَمَنُ الْبِيَاعَاتِ وَأَجْرُ الْإِجَارَاتِ وَدَفْعُ الدُّيُونِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ كَذَلِكَ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمَظَالِمِ وَرَدُّهَا كَالْغُصُوبِ وَالنُّهُوبِ وَالْغَارَاتِ وَنَحْوِهَا ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الذِّمَّةَ وَهُوَ رَاضٍ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ وَالْحَرْبِيُّ إنَّمَا يَلْزَمُهُ ثَمَنُ الْبِيَاعَاتِ وَأَجْرُ الْإِجَارَاتِ وَدَفْعُ الدُّيُونِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا رَضِيَ بِهِ حَالَةَ كُفْرِهِ وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِهِ ، وَأَمَّا الْغُصُوبُ وَالنُّهُوبُ وَالْغَارَاتُ وَنَحْوُهَا مِمَّا لَمْ يَرْضَ بِهِ حَالَةَ كُفْرِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ ، بَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ بِإِسْلَامِهِ لِمَا عَلِمْت أَفَادَهُ الْأَصْلُ ، وَقَالَ ابْنُ الشَّاطِّ إنَّهُ صَحِيحٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُجْزِئُ فِيهِ فِعْلُ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ عَنْهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُجْزِئُ فِيهِ فِعْلُ الْغَيْرِ عَنْهُ ) اعْلَمْ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمَأْمُورَ بِهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ ( قِسْمٌ ) اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى صِحَّةِ فِعْلِ غَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَنْ الْمَأْمُورِ وَذَلِكَ كَدَفْعِ الْمَغْصُوبِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ الْغَاصِبُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسُدُّ الْمَسَدَ وَيُزِيلُ التَّكْلِيفَ وَدَفْعِ النَّفَقَاتِ لِلزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ وَالدَّوَابِّ فَإِنْ دَفَعَهَا غَيْرُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ أَجْزَأَتْ وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ الْمَأْمُورُ بِهَا مِنْ زَوْجٍ أَوْ قَرُبَتْ ، وَكَذَلِكَ دَفْعُ اللُّقَطَةِ لِمُسْتَحِقِّهَا وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ مُلْتَقِطُهَا ، وَهَذَا النَّحْوُ ( وَقِسْمٌ ) اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى عَدَمِ إجْزَاءِ فِعْلِ غَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِيهِ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالتَّوْحِيدُ وَالْإِجْلَالُ وَالتَّعْظِيمُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
وَكَذَلِكَ حُكِيَ فِي الصَّلَاةِ الْإِجْمَاعُ وَنُقِلَ الْخِلَافُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الصَّلَاةِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَيُقَالُ إنَّهُ مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ ( وَقِسْمٌ ) مُخْتَلَفٌ فِيهِ هَلْ يُجْزِئُ فِعْلُ غَيْرِ الْمَأْمُورِ عَنْ الْمَأْمُورِ بِهِ وَيَسُدُّ الْمَسَدَ أَمْ لَا وَفِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) الزَّكَاةُ إنْ أَخْرَجَهَا أَحَدٌ بِغَيْرِ عِلْمِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرِ إذْنِهِ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْإِمَامِ فَمُقْتَضَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي الْأُضْحِيَّةِ يَذْبَحُهَا غَيْرُ رَبِّهَا بِغَيْرِ عِلْمِهِ وَإِذْنِهِ إنْ كَانَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ صَدِيقَهُ وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ عِنْدَهُ لِتَمَكُّنِ الصَّدَاقَةِ بَيْنَهُمَا أَجْزَأَتْهُ الْأُضْحِيَّةُ إنْ كَانَ مَخْرَجُ الزَّكَاةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَمُقْتَضَى قَوْلِهِمْ فِي الْأُضْحِيَّةِ أَنَّ الزَّكَاةَ تُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا عِبَادَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا مُفْتَقِرَةٌ لِلنِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ

لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لَا تُجْزِئُ عَنْ رَبِّهَا لِافْتِقَارِهَا لِلنِّيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ لِأَجْلِ شَائِبَةِ الْعِبَادَةِ وَعَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْزِئَ فِعْلُ الْغَيْرِ فِيهَا مُطْلَقًا كَالدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا تَقَدَّمَ فِي الْقِسْمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْنِي عَدَمَ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَقَاسَهَا عَلَى الدُّيُونِ وَاسْتَدَلَّ بِأَخْذِ الْإِمَامِ لَهَا كُرْهًا عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ وَبِاشْتِرَاطِهَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِمَا فِيهَا مِنْ شَائِبَةِ التَّعَبُّدِ مِنْ جِهَةِ مَقَادِيرِهَا فِي نَصْبِهَا وَالْوَاجِبِ فِيهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِنْ أَخَذَهَا الْإِمَامُ كُرْهًا وَهُوَ عَدْلٌ أَجْزَأَتْ عِنْدَ مَالِكٍ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى اعْتِمَادًا عَلَى فِعْلِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ } وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ الَّذِي أَقَلُّ مَرَاتِبِهِ الْإِذْنُ وَالْإِجْزَاءُ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ وَكِيلُ الْفُقَرَاءِ فَلَهُ أَخْذُ حَقِّهِمْ قَهْرًا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَأْخُذُهَا الْإِمَامُ كُرْهًا لَكِنْ يُلْجِئُهُ إلَى دَفْعِهَا بِالْحَبْسِ وَغَيْرِهِ لِافْتِقَارِهَا لِلنِّيَّةِ وَإِلَّا كُرِهَ مَعَ النِّيَّةِ مُتَنَافِيَانِ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) الْحَجُّ عَنْ الْغَيْرِ مَنَعَهُ مَالِكٌ وَجَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِنَاءً عَلَى شَائِبَةِ الْمَالِ وَالْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةِ يَدْخُلُهَا النِّيَابَاتُ وَمَالِكٌ يُلَاحِظُ أَنَّ الْمَالَ فِيهِ عَارِضٌ بِدَلِيلِ الْمَكِّيِّ يَحُجُّ بِغَيْرِ مَالٍ ، بَلْ عُرُوضُ الْمَالِ فِي الْحَجِّ كَعُرُوضِ الْمَالِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِمَنْ دَارُهُ بَعِيدَةٌ عَنْ الْمَسْجِدِ فَيَكْتَرِي دَابَّةً يَصِلُ عَلَيْهَا لِلْمَسْجِدِ وَلَمَّا لَمْ تَجُزْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ عَنْ الْغَيْرِ فَكَذَلِكَ الْحَجُّ

وَلِلشَّافِعِيِّ الْفَرْقُ بِأَنَّ عُرُوضَ الْمَالِ فِي الْحَجِّ أَكْثَرُ وَلِمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ الْحَجِّ عَنْ الصِّبْيَانِ وَالْمَرْضَى يُحْرِمُ عَنْهُمْ غَيْرُهُمْ وَيَفْعَلُ أَفْعَالَ الْحَجِّ وَالْعِبَادَاتِ أَمْرٌ مُتَّبَعٌ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) الصَّوْمُ عَنْ الْمَيِّتِ إذَا فَرَّطَ فِيهِ جَوَّزَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَرَوَى الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي مَذْهَبِهِمْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ لَمْ يَصُمْ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ } وَلَمْ يُجَوِّزْهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } وَقِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْحَجُّ عَنْ الْمَيِّتِ أَيْضًا ( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) عِتْقُ الْإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ ظِهَارِ غَيْرِهِ عَلَى جُعْلٍ جَعَلَهُ لَهُ فَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ وَعَلَيْهِ الْجُعْلُ وَلَا يُجْزِئُهُ كَالْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْعِتْقِ قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْجُعْلِ وَضِيعَةٌ عَنْ الثَّمَنِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ هِبَتُهُ فَبَيْعُهُ أَوْلَى .
وَقَالَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ فِي الْعِتْقِ عَنْ الْغَيْرِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْإِجْزَاءُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَلِأَشْهَبَ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ إنْ أَذِنَ فِي الْعِتْقِ أَجْزَأَ عَنْهُ وَإِلَّا فَلَا ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ اللَّخْمِيُّ يُجْزِئُ الْعِتْقُ عَنْ ظِهَارِ الْغَيْرِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَإِنْ كَانَ أَبًا لِلْمُعْتِقِ وَفَرَّقَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ بَيْنَ عِتْقِ الْإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ وَبَيْنَ دَفْعِ الزَّكَاةِ عَنْهُ فَلَا يُجْزِئُ فِي الثَّانِي ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الذِّمَّةِ وَالْكَفَّارَةُ فِي الذِّمَّةِ قَالَ اللَّخْمِيُّ وَالْحَقُّ الْإِجْزَاءُ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا كَالدَّيْنِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ دَائِرَةٌ بَيْنَ قَوَاعِدَ ( الْقَاعِدَةُ الْأُولَى ) قَاعِدَةُ التَّقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ إعْطَاءُ الْمَوْجُودِ حُكْمَ الْمَعْدُومِ وَالْمَعْدُومِ

حُكْمَ الْمَوْجُودِ فَالْأَوَّلُ كَالْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ فِي الْعُقُودِ إذَا قَلَّا أَوْ تَعَذَّرَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُمَا نَحْوُ أَسَاسِ الدَّارِ وَقُطْنِ الْجُبَّةِ وَرَدَاءَةِ بَوَاطِنِ الْفَوَاكِهِ وَدَمِ الْبَرَاغِيثِ وَنَجَاسَةِ ثَوْبِ الْمُرْضِعِ وَالْوَارِثِ الْكَافِرِ أَوْ الْعَبْدِ يُقَدَّرُ عَدَمُهُ فَلَا يُحْجَبُ وَالثَّانِي كَتَقْدِيرِ الْمِلْكِ فِي الدِّيَةِ مُقَدَّمًا قَبْلَ زُهُوقِ الرُّوحِ فِي الْمَقْتُولِ خَطَأً حَتَّى يَصِحَّ فِيهَا الْإِرْثُ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا بِالزُّهُوقِ وَحِينَئِذٍ لَا يُقْبَلُ الْمَحَلُّ الْمِلْكَ وَالْمِيرَاثُ فَرْعُ مِلْكِ الْمَوْرُوثِ فَيُقَدِّرُ الشَّارِعُ الْمِلْكَ مُتَقَدِّمًا قَبْلَ الزُّهُوقِ بِالزَّمَنِ الْفَرْدِ حَتَّى يَصِحَّ الْإِرْثُ وَكَتَقْدِيرِ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِ الْعِبَادَاتِ مُمْتَدَّةً إلَى آخِرِهَا وَكَتَقْدِيرِ الْإِيمَانِ فِي حَقِّ النَّائِمِ الْغَافِلِ حَتَّى تَنْعَصِمَ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ وَتَقْدِيرِ الْكُفْرِ فِي الْكَافِرِ الْغَافِلِ حَتَّى تَصِحَّ إبَاحَةُ الدَّمِ وَالْمَالِ وَالذُّرِّيَّةِ وَقَاعِدَةُ التَّقَادِيرِ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي خِطَابِ الْوَضْعِ ( الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ ) أَنَّ الْهِبَةَ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا قَبْضٌ بَطَلَتْ ( الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ ) الْكَفَّارَاتُ عِبَادَةٌ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا ، وَقِيلَ لَا تَجِبُ النِّيَّةُ ( الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ ) كُلُّ مَنْ عَمِلَ لِغَيْرِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ نَفَذَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مُتَبَرِّعًا لَمْ يَرْجِعْ بِهِ أَوْ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ وَهُوَ مَنْفَعَةٌ فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ أَوْ مَالٌ فَلَهُ أَخْذُهُ مِمَّنْ دَفَعَهُ عَنْهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْمُولُ لَهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عَمَلِ ذَلِكَ بِالِاسْتِئْجَارِ أَوْ إنْفَاقِ ذَلِكَ الْمَالِ أَمَّا إنْ كَانَ شَأْنُهُ فِعْلَهُ إيَّاهُ بِغَيْرِ اسْتِئْجَارٍ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغُلَامِهِ وَتَحْصُلُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ بِغَيْرِ مَالٍ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ فِي عَدَمِ التَّبَرُّعِ وَهَذِهِ قَاعِدَةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ نَصَّ عَلَيْهَا ابْنُ أَبِي

زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ وَصَاحِبُ الْجَوَاهِرِ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ وَلَا تَخْتَصُّ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ بِمَا يَجِبُ عَلَى الْمَدْفُوعِ عَنْهُ كَالدَّيْنِ ، بَلْ يَنْدَرِجُ فِيهَا غُسْلُ الثَّوْبِ وَخِيَاطَتُهُ وَرَمْيُ التُّرَابِ مِنْ الدَّارِ وَنَحْوُ ذَلِكَ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَيَجْعَلُ مَالِكٌ لِسَانَ الْحَالِ قَائِمًا مَقَامَ لِسَانِ الْمَقَالِ فَكَأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ بِلِسَانِ مَقَالِهِ وَخَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَجَعَلَ الْأَصْلَ فِي فِعْلِ الْغَيْرِ التَّبَرُّعَ .
وَإِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمَدْفُوعُ عَنْهُ بِلِسَانِ الْمَقَالِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَمَنْ لَاحَظَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَهُوَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ فَيَقُولُ الْمُعْتِقُ قَامَ عَنْ الْمُعْتَقِ عَنْهُ بِوَاجِبٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَيُقَدَّرُ انْتِقَالُ مِلْكِهِ عَنْهُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ قَبْلَ صُدُورِ الْعِتْقِ بِالزَّمَنِ الْفَرْدِ حَتَّى يَثْبُتَ الْوَلَاءُ وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ بِقَاعِدَةِ النِّيَّةِ فَإِنَّهُ يَشْتَرِطُهَا وَهِيَ مُتَعَذِّرَةٌ مَعَ الْغَفْلَةِ وَنُجِيبُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْعِتْقِ عَنْ الْمَيِّتِ وَيَرِدُ عَلَيْهِ الْفَرْقُ بِأَنَّ الْحَيَّ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْعِتْقِ عَنْ نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْمَيِّتِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ بَابُ التَّقَرُّبِ فَنَاسَبَ أَنْ يُوَسِّعَ الشَّرْعُ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَهُ الْقِيَاسُ عَلَى أَخْذِ الزَّكَاةِ كُرْهًا مَعَ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهَا وَيُفَرَّقُ أَيْضًا بِأَنَّهَا حَالَةُ ضَرُورَةٍ لِأَجْلِ امْتِنَاعِ الْمَالِكِ وَهَاهُنَا الْمُعْتَقُ عَنْهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَبِأَنَّ مَصْلَحَةَ الزَّكَاةِ عَامَّةٌ فَيُوَسَّعُ فِيهَا لِعُمُومِ الضَّرُورَةِ بِخِلَافِ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّهَا قَلِيلَةٌ وَهِيَ خَاصَّةٌ فَلَا يُخَالِفُ فِيهَا قَاعِدَةَ النِّيَّةِ وَالشَّافِعِيُّ يَعْتَبِرُ قَاعِدَةَ النِّيَّةِ وَهِيَ مَنْفِيَّةٌ حَالَةَ عَدَمِ الْإِذْنِ وَأَشْهَبُ يَقُولُ الْإِذْنُ مِنْ بَابِ الْكَلَامِ وَالْإِبَاحَةِ وَالنِّيَّةُ مِنْ بَابِ الْمَقَاصِدِ وَالْإِرَادَةِ فَلَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ وَلَا

يَسْتَقِيمُ قَصْدُ الْإِنْسَانِ لِعِتْقِ مِلْكِ غَيْرِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنْ دَفَعَ لَهُ جُعْلًا أَجْزَأَ وَإِلَّا فَلَا لِلْقَاعِدَةِ الثَّانِيَةِ فَتَخْرُجُ بِالْجُعْلِ عَنْ الْهِبَةِ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى قَصْدٍ فَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ هِيَ سِرُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ مُشْكِلَةٌ وَأَشْكَلَ مِنْهَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ عَبْدُ الْحَقِّ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعِتْقُ عَنْ الْغَيْرِ تَطَوُّعًا بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَهَذَا أَشْكَلُ مِنْ الْوَاجِبِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ دَلَالَةُ الْحَالِ دُونَ الْمَقَالِ وَهَاهُنَا لَا دَلَالَةَ حَالٍ وَلَا يُقَالُ فَلَا يُتَّجَهُ وَيَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ الْعِتْقِ عَنْ الْوَاجِبِ .
وَمَنْ يَشْتَرِطُ الْإِذْنَ يَقُولُ الْإِذْنُ تَضَمَّنَ الْوَكَالَةَ فِي نَقْلِ مِلْكِهِ لِلْآذِنِ وَعِتْقِهِ عَنْهُ بَعْدَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ وَيَكُونُ الْمَأْذُونُ لَهُ وَكِيلًا فِي الْأَمْرَيْنِ وَمُتَوَلِّيًا لِطَرَفَيْ الْعَقْدِ وَالْمُوجِبُ لِهَذِهِ التَّقَادِيرِ كُلِّهَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّصَرُّفُ إلَّا بِهَا وَمَا تَعَذَّرَ تَصْحِيحُ الْكَلَامِ إلَّا بِهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ صَوْنًا لِلْكَلَامِ عَنْ الْإِلْغَاءِ فَهَذَا تَحْرِيرُ هَذَا الْفَرْقِ وَتَحْرِيرُ مَسَائِلِهِ .

قَالَ ( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُجْزِئُ فِيهِ فِعْلُ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ عَنْهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُجْزِئُ فِيهِ فِعْلُ الْغَيْرِ عَنْهُ ) قُلْت قَدْ ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا الْفَرْقُ الْعَاشِرُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ وَقَاعِدَةِ مَا لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ وَهُوَ هَذَا بِعَيْنِهِ غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ هُنَا مَسَائِلَ لَمْ يَذْكُرْهَا هُنَاكَ ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا فِي الْفَرْقِ السَّادِسَ عَشَرَ وَالْمِائَتَيْنِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ أَوْ هُوَ هُوَ وَمَا قَالَهُ بَعْدُ إلَى آخِرِ الْقَوَاعِدِ نَقْلٌ لَا كَلَامٌ فِيهِ وَصَحِيحٌ ظَاهِرٌ إلَّا قَوْلَهُ بِتَقْدِيرِ مِلْكِ الْمَقْتُولِ خَطَأً لِلدِّيَةِ فَإِنَّ الصَّحِيحَ فِيهَا عِنْدِي أَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِإِنْفَاذِ الْمَقَاتِلِ لَا بِالزُّهُوقِ ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ أَدَاؤُهَا إلَّا بِالزُّهُوقِ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ إلَى أَجَلٍ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ بِالْعَقْدِ ، ثُمَّ لَا يَجِبُ الْأَدَاءُ إلَّا عِنْدَ تَمَامِ الْأَجَلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَإِلَّا قَوْلَهُ يُقَدَّرُ انْتِقَالُ مِلْكِهِ عَنْهُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ قَبْلَ صُدُورِ الْعِتْقِ بِالزَّمَنِ الْفَرْدِ فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي الْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ قَالَ ( فَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ هِيَ سِرُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ مُشْكِلَةٌ وَأَشْكَلُ مِنْهَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ عَبْدُ الْحَقِّ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعِتْقُ عَنْ الْغَيْرِ تَطَوُّعًا بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَهَذَا أَشْكَلُ مِنْ الْوَاجِبِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ دَلَالَةُ الْحَالِ دُونَ الْمَقَالِ إلَى آخِرِ الْفَرْقِ ) ، قُلْت لَا إشْكَالَ فِي ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي الْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ عِبَادَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا وَلَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى الْإِذْنِ وَلَا إلَى تَقْدِيرِ الْمِلْكِ وَالْوَكَالَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَمَا قَالَهُ فِي الْفَرْقِ بَعْدُ صَحِيحٌ .

الْفَرْقُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُجْزِئُ فِيهِ فِعْلُ غَيْرِ مُكَلَّفٍ عَنْهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُجْزِئُ فِيهِ فِعْلُ الْغَيْرِ عَنْهُ ) قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الشَّاطِّ الْفَرْقُ الْعَاشِرُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ وَقَاعِدَةِ مَا لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْأَصْلُ قَبْلَ هَذَا الْفَرْقِ هُوَ هَذَا الْفَرْقُ بِعَيْنِهِ غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ هُنَا مَسَائِلَ لَمْ يَذْكُرْهَا هُنَاكَ ا هـ فَلْنَقْتَصِرْ هُنَا عَلَى الْمَسَائِلِ الَّتِي لَمْ يَذْكُرْهَا هُنَاكَ لِتَكُونَ تَوْضِيحًا لِلْفَرْقِ السَّابِقِ وَنَخْلُصَ مِنْ وَصْمَةِ التَّكْرَارِ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) الزَّكَاةُ إنْ أَخْرَجَهَا أَحَدٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرِ إذْنِهِ فِي ذَلِكَ فَعَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهَا تَمَسُّكًا بِقِيَاسِهَا عَلَى الدُّيُونِ وَيَأْخُذُ الْإِمَامُ لَهَا كُرْهًا وَالْإِكْرَاهُ مَعَ النِّيَّةِ مُتَنَافِيَانِ يَنْبَغِي أَنْ يُجْزِئَ فِعْلُ الْغَيْرِ فِيهَا مُطْلَقًا كَالدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا تَقَدَّمَ فِي الْقِسْمِ الْمُجْمَعِ عَلَى صِحَّةِ فِعْلِ غَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَنْ الْمَأْمُورِ وَعَلَى مَا قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهَا لِمَا فِيهَا مِنْ شَائِبَةِ التَّعَبُّدِ مِنْ جِهَةِ مَقَادِيرِهَا فِي نَصْبِهَا وَالْوَاجِبِ فِيهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْمُخْرِجُ غَيْرَ الْإِمَامِ فَمُقْتَضَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي الْأُضْحِيَّةِ يَذْبَحُهَا غَيْرُ رَبِّهَا بِغَيْرِ عِلْمِهِ وَإِذْنِهِ أَنَّهَا تُجْزِئُهُ إنْ كَانَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ صَدِيقَهُ وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ عِنْدَهُ لِتَمَكُّنِ الصَّدَاقَةِ بَيْنَهُمَا أَنْ يَجْرِيَ مِثْلُهُ هُنَا فَيُقَالُ إنَّ الزَّكَاةَ تُجْزِئُهُ إنْ كَانَ مَخْرَجُهَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ضَرُورَةَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِبَادَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا مُفْتَقِرَةٌ لِلنِّيَّةِ وَإِنْ

كَانَ الْفَاعِلُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لَا يُجْزِئُ عَنْ رَبِّهَا لِافْتِقَارِهَا لِلنِّيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ .
وَإِنْ أَخَذَهَا الْإِمَامُ كُرْهًا وَهُوَ عَدْلٌ أَجْزَأَتْ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى اعْتِمَادًا عَلَى فِعْلِ الصِّدِّيقِ وَتَمَسُّكًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ } فَإِنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ الَّذِي أَقَلُّ مَرَاتِبِهِ الْإِذْنُ وَالْإِجْزَاءُ ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ وَكِيلُ الْفُقَرَاءِ فَلَهُ أَخْذُ حَقِّهِمْ قَهْرًا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَأْخُذُهَا الْإِمَامُ كُرْهًا لَكِنْ يُلْجِئُهُ إلَى دَفْعِهَا بِالْحَبْسِ وَغَيْرِهِ لِافْتِقَارِهَا لِلنِّيَّةِ وَالْإِكْرَاهُ مَعَ النِّيَّةِ مُتَنَافِيَانِ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) الصَّوْمُ عَنْ الْمَيِّتِ إذَا فَرَّطَ فِيهِ جَوَّزَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَرَوَى الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ فِي مَذْهَبِهِمْ أَيْضًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ لَمْ يَصُمْ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ } وَلَمْ يُجَوِّزْهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } وَقِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْحَجُّ عَنْ الْمَيِّتِ أَيْضًا وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِهَذَا فَتَرَقَّبْ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) قَالَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ فِي الْعِتْقِ عَنْ الْغَيْرِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْإِجْزَاءُ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَعَدَمُ الْإِجْزَاءِ لِأَشْهَبَ ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ إنْ أَذِنَ فِي الْعِتْقِ أَجْزَأَ عَنْهُ وَإِلَّا فَلَا ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ا هـ .
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مَالِكٌ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ ظِهَارِ غَيْرِهِ عَلَى جُعْلٍ جَعَلَهُ لَهُ فَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ وَعَلَيْهِ الْجُعْلُ وَلَا يُجْزِئُهُ أَيْ عَنْ ظِهَارِهِ كَالْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْعِتْقِ أَيْ فِي عَدَمِ إجْزَاءِ عِتْقِهِ عَنْ الظِّهَارِ قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْجُعْلِ وَضِيعَةٌ عَنْ الثَّمَنِ جَازَ أَيْ عِتْقُهُ عَنْ

الظِّهَارِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ هِبَتُهُ أَيْ هِبَةُ مَنْ يُعْتَقُ فِي الظِّهَارِ فَبَيْعُهُ أَوْلَى ، وَقَالَ اللَّخْمِيُّ يُجْزِئُ الْعِتْقُ عَنْ ظِهَارِ الْغَيْرِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَإِنْ كَانَ أَبًا لِلْمُعْتَقِ وَفَرَّقَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ بَيْنَ عِتْقِ الْإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ وَبَيْنَ دَفْعِ الزَّكَاةِ عَنْهُ فَلَا يُجْزِئُ فِي الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَيْسَتْ فِي الذِّمَّةِ وَيُجْزِئُ فِي الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الذِّمَّةِ قَالَ اللَّخْمِيُّ وَالْحَقُّ الْإِجْزَاءُ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا كَالدَّيْنِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ دَائِرَةٌ بَيْنَ أَرْبَعِ قَوَاعِدَ ( الْقَاعِدَةُ الْأُولَى ) قَاعِدَةُ التَّقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي خِطَابِ الْوَضْعِ وَهِيَ إمَّا إعْطَاءُ الْمَوْجُودِ حُكْمَ الْمَعْدُومِ كَالْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ إذَا قَلَّا أَوْ تَعَذَّرَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُمَا كَأَسَاسِ الدَّارِ وَقُطْنِ الْجُبَّةِ وَرَدَاءَةِ بَوَاطِنِ الْفَوَاكِهِ وَدَمِ الْبَرَاغِيثِ وَنَجَاسَةِ ثَوْبِ الْمُرْضِعِ ، وَالْوَارِثُ الْكَافِرُ أَوْ الْعَبْدُ يُقَدَّرُ عِتْقُهُ فَلَا يُحْجَبُ ، وَأَمَّا إعْطَاءُ الْمَعْدُومِ حُكْمَ الْمَوْجُودِ كَتَقْدِيرِ الْإِيمَانِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ النَّائِمِ وَالْغَافِلِ حَتَّى يَنْعَصِمَ الدَّمُ وَالْمَالُ وَتَقْدِيرِ الْكُفْرِ فِي الْكَافِرِ النَّائِمِ وَالْغَافِلِ حَتَّى تَصِحَّ إبَاحَةُ الدَّمِ وَالْمَالِ وَالذُّرِّيَّةِ ( الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ ) أَنَّ الْكَفَّارَاتِ عِبَادَةٌ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا ، وَقِيلَ لَا تَجِبُ فِيهَا النِّيَّةُ ( الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ ) أَنَّ الْهِبَةَ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا قَبْضٌ بَطَلَتْ ( الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ ) قَاعِدَةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ وَصَاحِبُ الْجَوَاهِرِ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَوْ أَوْصَلَ نَفْعًا لِغَيْرِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ نَفَذَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مُتَبَرِّعًا لَمْ يَرْجِعْ بِهِ أَوْ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ وَهُوَ مَنْفَعَةٌ فَلَهُ أُجْرَةُ

مِثْلِهِ أَوْ مَالٌ فَلَهُ أَخْذُهُ مِمَّنْ دَفَعَهُ عَنْهُ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمَدْفُوعِ عَنْهُ كَالدَّيْنِ أَوْ مِمَّا لَا يَجِبُ كَغُسْلِ الثَّوْبِ وَخِيَاطَتِهِ وَرَمْيِ التُّرَابِ مِنْ الدَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ فِي عَدَمِ التَّبَرُّعِ ، لَكِنَّ شَرْطَ الْغُرْمِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْمُولُ لَهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ بِالِاسْتِئْجَارِ أَوْ إنْفَاقِ الْمَالِ أَمَّا إنْ كَانَ شَأْنُهُ فِعْلَهُ إيَّاهُ بِغَيْرِ اسْتِئْجَارٍ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغُلَامِهِ وَتَحْصُلُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ بِغَيْرِ مَالٍ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ فَمَالِكٌ يَجْعَلُ لِسَانَ الْحَالِ قَائِمًا مَقَامَ لِسَانِ الْمَقَالِ فَكَأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ بِلِسَانِ مَقَالِهِ وَخَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَجَعَلَ الْأَصْلَ فِي فِعْلِ الْغَيْرِ التَّبَرُّعَ وَأَنَّهُ لَا يُرْجَعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمَدْفُوعُ عَنْهُ بِلِسَانِ الْمَقَالِ فَمَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ لَمَّا لَاحَظَا هَذِهِ الْقَاعِدَةَ قَالَا الْمُعْتَقُ قَامَ عَنْ الْمُعْتَقِ عَنْهُ بِوَاجِبٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ إمَّا بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي الْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ عِبَادَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا فَلَا يَحْتَاجُ فِيهَا حِينَئِذٍ إلَى الْإِذْنِ وَلَا إلَى تَقْدِيرِ الْمِلْكِ وَالْوَكَالَةِ وَلَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ عَبْدُ الْحَقِّ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعِتْقُ عَنْ الْغَيْرِ تَطَوُّعًا بِغَيْرِ إذْنِهِ إشْكَالٌ أَصْلًا كَمَا قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الرَّهُونِيِّ وَالصَّوَابُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَسْأَلَتَيْ الْمُدَوَّنَةِ يَعْنِي قَوْلَيْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَمَالِكٍ الْمُتَقَدِّمَيْنِ مَا قَالَهُ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيَّ فِي الْمُنْتَقَى وَنَصُّهُ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ إنَّهُ مَعْنًى يَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ ؛ لِأَنَّ طَرِيقَهُ الْمَالُ وَلِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَ عَنْ الْمَيِّتِ وَسَلَّمَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنُ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَعْتِقَهُ هُوَ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ .

وَلَوْ وَهَبَهُ إيَّاهُ عَلَى أَنْ يُعْتِقَهُ عَنْ ظِهَارِهِ لَمْ يُجْزِهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَهُ عَنْهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَدْ مَلَكَ الْوَاهِبُ أَوْ الْبَائِعُ الْعِتْقَ فِي ذَلِكَ الْعَبْدِ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَلَزِمَ الْمُوهَبَ لَهُ إيقَاعُهُ بِالشَّرْطِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ مِنْ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ بِشَرْطِ عِتْقِهِ عَنْهُ أَوْ وَهَبَهُمْ إيَّاهَا بِذَلِكَ الشَّرْطِ لَمْ يُجْزِهِ الَّذِي أَنْفَذَ عِتْقَهُ عَنْ الْمُعْتَقِ عَنْهُ أَعْتَقَهُ وَلِذَلِكَ أَنْ يُعْتِقَهُ عَنْ الْمَيِّتِ ، وَقَدْ رَوَى فِي الْعُتْبِيَّةِ أَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمَرْأَةِ تُعْطِي زَوْجَهَا الرَّقَبَةَ يُعْتِقُهَا عَنْ ظِهَارِهِ أَوْ عَنْ الْوَجْهِ إنْ كَانَ بِشَرْطِ الْعِتْقِ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ شَرْطٍ أَجْزَاهُ وَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَرَوَاهُ فِي الْمَدِينَةِ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ كِنَانَةَ ا هـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ وَهُوَ حَسَنٌ ، وَقَدْ أَغْفَلَهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ وَالتَّوْفِيقُ بِيَدِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ا هـ مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ ، وَإِمَّا بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ التَّقَادِيرِ فَيُقَدَّرُ انْتِقَالُ مِلْكِهِ عَنْهُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ قَبْلَ صُدُورِ الْعِتْقِ بِالزَّمَنِ الْفَرْدِ حَتَّى يَثْبُتَ الْوَلَاءُ وَتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ فَيُرَدُّ الْإِشْكَالُ بِقَاعِدَةِ النِّيَّةِ فَإِنَّ مَالِكًا وَابْنَ الْقَاسِمِ يَشْتَرِطَانِهَا .
وَهِيَ مُتَعَذِّرَةٌ مَعَ الْغَفْلَةِ وَلَا يَدْفَعُهُ الْجَوَابُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْعِتْقِ عَنْ الْمَيِّتِ لِلْفَرْقِ بِأَنَّ الْحَيَّ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْعِتْقِ عَنْ نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ قَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ بَابُ التَّقَرُّبِ فَنَاسَبَ أَنْ يُوَسِّعَ الشَّرْعُ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَا بِالْقِيَاسِ عَلَى أَخْذِ الزَّكَاةِ كُرْهًا مَعَ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهَا لِلْفَرْقِ أَيْضًا بِأَنَّهَا حَالَةُ ضَرُورَةٍ لِأَجْلِ امْتِنَاعِ الْمَالِكِ وَهَا هُنَا الْمُعْتَقُ عَنْهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَبِأَنَّ مَصْلَحَةَ الزَّكَاةِ عَامَّةٌ

فَيُوَسَّعُ فِيهَا لِعُمُومِ الضَّرُورَةِ بِخِلَافِ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّهَا قَلِيلَةٌ وَهِيَ خَاصَّةٌ فَلَا يُخَالِفُ فِيهَا قَاعِدَةَ النِّيَّةِ فَتَبْقَى الْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةً عَلَى قَوْلِهِمَا لَا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ قَاعِدَةَ النِّيَّةِ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ حَالَةَ عَدَمِ الْإِذْنِ وَلَا عَلَى قَوْلِ أَشْهَبَ ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ الْإِذْنُ مِنْ بَابِ الْكَلَامِ وَالْإِبَاحَةُ وَالنِّيَّةُ مِنْ بَابِ الْمَقَاصِدِ وَالْإِرَادَةِ فَلَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَصْدُ الْإِنْسَانِ لِعِتْقِ مِلْكِ غَيْرِهِ وَلَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ إنْ دَفَعَ لَهُ جُعْلًا أَجْزَأَ وَإِلَّا فَلَا لِلْقَاعِدَةِ الثَّالِثَةِ فَتَخْرُجُ بِالْجُعْلِ عَنْ الْهِبَةِ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى قَصْدٍ وَأَشْكَلَ مِنْهَا عَلَى قَوْلِهِمَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ عَبْدُ الْحَقِّ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعِتْقُ عَنْ الْغَيْرِ تَطَوُّعًا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ دَلَالَةُ الْحَالِ دُونَ الْمَقَالِ وَهَا هُنَا لَا دَلَالَةَ حَالٍ وَلَا مَقَالٍ فَلَا يُتَّجَهُ وَيَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ الْعِتْقِ عَنْ الْوَاجِبِ ، وَمَنْ يَشْتَرِطُ الْإِذْنَ يَقُولُ الْإِذْنُ تَضَمَّنَ الْوَكَالَةَ فِي نَقْلِ مِلْكِهِ لِلْآذِنِ وَعَتَقَ عَنْهُ بَعْدَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ وَيَكُونُ الْمَأْذُونُ لَهُ وَكِيلًا فِي الْأَمْرَيْنِ وَمُتَوَلِّيًا لِطَرَفَيْ الْعَقْدِ كَمَا قَالَ الْأَصْلُ قَالَ وَالْمُوجِبُ بِهَذِهِ التَّقَادِيرِ كُلِّهَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّصَرُّفُ إلَّا بِهَا وَمَا تَعَذَّرَ تَصْحِيحُ الْكَلَامِ إلَّا بِهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ صَوْنًا لِلْكَلَامِ عَنْ الْإِلْغَاءِ ا هـ ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمَسْأَلَةَ إذَا بُنِيَتْ عَلَى قَاعِدَةِ جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي الْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى تَقْدِيرٍ وَلَا غَيْرِهِ كَمَا لِابْنِ الشَّاطِّ فَهَذَا تَحْرِيرُ مَسَائِلِ هَذَا الْفَرْقِ الَّذِي سَبَقَ تَحْرِيرُهُ فِي الْفَرْقِ الْعَاشِرِ وَالْمِائَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يَصِلُ إلَيْهِ ) الْقُرُبَاتُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ قِسْمٌ حَجَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فِي ثَوَابِهِ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ نَقْلَهُ لِغَيْرِهِمْ كَالْإِيمَانِ فَلَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَهَبَ قَرِيبَهُ الْكَافِرَ إيمَانَهُ لِيَدْخُلَ الْجَنَّةَ دُونَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، بَلْ إنْ كَفَرَ الْحَيُّ هَلَكَا مَعًا أَمَّا هِبَةُ الثَّوَابِ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ ، وَقِيلَ الْإِجْمَاعُ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا ، وَقِيلَ الْإِجْمَاعُ فِيهَا وَقِسْمٌ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ فِي نَقْلِ ثَوَابِهِ لِلْمَيِّتِ وَهُوَ الْقُرُبَاتُ الْمَالِيَّةُ كَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَقِسْمٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ فِيهِ حَجْرٌ أَمْ لَا وَهُوَ الصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِلْمَيِّتِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ فَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَحْتَجَّانِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا هُوَ فِعْلٌ بَدَنِيٌّ وَالْأَصْلُ فِي الْأَفْعَالِ الْبَدَنِيَّةِ أَنْ لَا يَنُوبَ أَحَدٌ فِيهَا عَنْ الْآخَرِ وَلِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَصَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ } وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ حَنْبَلٍ بِالْقِيَاسِ عَلَى الدُّعَاءِ فَإِنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ يَصِلُ لِلْمَيِّتِ فَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ وَالْكُلُّ عَمَلٌ بَدَنِيٌّ وَلِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلسَّائِلِ { صَلِّ لَهُمَا مَعَ صَلَاتِك وَصُمْ لَهُمَا مَعَ صَوْمِك يَعْنِي أَبَوَيْهِ } وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى الدُّعَاءِ لَا يَسْتَقِيمُ فَإِنَّ الدُّعَاءَ فِيهِ أَمْرَانِ ( أَحَدُهُمَا ) مُتَعَلِّقُهُ الَّذِي هُوَ

مَدْلُولُهُ نَحْوَ الْمَغْفِرَةِ فِي قَوْلِهِمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَالْآخَرُ ثَوَابُهُ فَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يُرْجَى حُصُولُهُ لِلْمَيِّتِ وَلَا يَحْصُلُ إلَّا لَهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا دَعَا لِلْمَيِّتِ بِالْمَغْفِرَةِ ( وَالثَّانِي ) وَهُوَ الثَّوَابُ عَلَى الدُّعَاءِ فَهُوَ الدَّاعِي فَقَطْ ، وَلَيْسَ لِلْمَيِّتِ مِنْ الثَّوَابِ عَلَى الدُّعَاءِ شَيْءٌ فَالْقِيَاسُ عَلَى الدُّعَاءِ غَلَطٌ وَخُرُوجٌ مِنْ بَابٍ إلَى بَابٍ ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِمَّا أَنْ نَجْعَلَهُ خَاصًّا بِذَلِكَ الشَّخْصِ أَوْ نُعَارِضَهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَنُعَضِّدَهَا بِأَنَّهَا عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ فَإِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِانْتِقَالِ وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُولُ إذَا قُرِئَ عِنْدَ الْقَبْرِ حَصَلَ لِلْمَيِّتِ أَجْرُ الْمُسْتَمِعِ وَهُوَ لَا يَصِحُّ أَيْضًا لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ يَتْبَعُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فَمَا لَا أَمْرَ فِيهِ وَلَا نَهْيَ لَا ثَوَابَ فِيهِ بِدَلِيلِ الْمُبَاحَاتِ وَأَرْبَابِ الْفَتَرَاتِ وَالْمَوْتَى انْقَطَعَ عَنْهُمْ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي .
وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ لَا يَكُونُ لَهُمْ ثَوَابٌ وَإِنْ كَانُوا مُسْتَمِعِينَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَهَائِمَ تَسْمَعُ أَصْوَاتَنَا بِالْقِرَاءَةِ وَلَا ثَوَابَ لَهَا لِعَدَمِ الْأَمْرِ لَهَا بِالِاسْتِمَاعِ فَكَذَلِكَ الْمَوْتَى وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ وَلَا يَقَعُ فِيهِ خِلَافٌ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ بَرَكَةُ الْقِرَاءَةِ لَا ثَوَابُهَا كَمَا تَحْصُلُ لَهُمْ بَرَكَةُ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُدْفَنُ عِنْدَهُمْ أَوْ يُدْفَنُونَ عِنْدَهُ فَإِنَّ الْبَرَكَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَمْرِ فَإِنَّ الْبَهِيمَةَ يَحْصُلُ لَهَا بَرَكَةُ رَاكِبِهَا أَوْ مُجَاوِرِهَا وَأَمْرُ الْبَرَكَاتِ لَا يُنْكَرُ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْصُلُ بَرَكَتُهُ لِلْبَهَائِمِ مِنْ الْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ ضَرَبَ فَرَسًا بِسَوْطٍ فَكَانَ لَا يُسْبَقُ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كَانَ بَطِيءَ الْحَرَكَةِ وَحِمَارُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَذْهَبُ إلَى بُيُوتِ أَصْحَابِ

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَدْعِيهِمْ إلَيْهِ بِنَطْحِ رَأْسِهِ الْبَابَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ بَرَكَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا هُوَ مَرْوِيٌّ فِي مُعْجِزَاتِهِ وَكَرَامَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلَفًا فِيهَا فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ لَا يُهْمِلَهَا فَلَعَلَّ الْحَقَّ هُوَ الْوُصُولُ إلَى الْمَوْتَى فَإِنَّ هَذِهِ أُمُورٌ مُغَيَّبَةٌ عَنَّا ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ إنَّمَا هُوَ فِي أَمْرٍ وَاقِعٍ هَلْ هُوَ كَذَلِكَ أَمْ لَا ، وَكَذَلِكَ التَّهْلِيلُ الَّذِي عَادَةُ النَّاسِ يَعْمَلُونَهُ الْيَوْمَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْمَلَ وَيُعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يُيَسِّرُهُ وَيُلْتَمَسَ فَضْلُ اللَّهِ بِكُلِّ سَبَبٍ مُمْكِنٍ وَمِنْ اللَّهِ الْجُودُ وَالْإِحْسَانُ هَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِالْعَبْدِ .

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَصِلُ ثَوَابُهُ إلَى الْمَيِّتِ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يَصِلُ ثَوَابُهُ إلَيْهِ ) الْقُرُبَاتُ بِاعْتِبَارِ وُصُولِ ثَوَابِهَا لِلْغَيْرِ اتِّفَاقًا وَعَدَمِ وُصُولِ ثَوَابِهَا لِلْغَيْرِ اتِّفَاقًا وَالْخِلَافُ فِي وُصُولِهِ لَهُ وَعَدَمِ وُصُولِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) مَا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ حَجَرَ عَلَى عِبَادِهِ فِي ثَوَابِهِ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ نَقْلَهُ لِغَيْرِهِمْ كَالْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَكَذَلِكَ حُكِيَ فِي الصَّلَاةِ الْإِجْمَاعُ نَظَرًا فِي الْخِلَافِ الَّذِي نُقِلَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِيهَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ قَدْ يُقَالُ إنَّهُ مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ ( الْقِسْمُ الثَّانِي ) مَا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ فِي نَقْلِ ثَوَابِهِ لِلْمَيِّتِ وَهُوَ الدُّعَاءُ وَالْقُرُبَاتُ الْمَالِيَّةُ كَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ ( الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ فِيهِ حَجْرٌ أَمْ لَا كَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَقِيلَ لَا يَصِلُ ثَوَابُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِمَنْ أَهْدَى لَهُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ ، وَكَذَا هُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقِرَاءَةِ فَقَطْ ، وَقِيلَ يَصِلُ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ .
وَكَذَا حَجُّ تَطَوُّعٍ أَوْصَى بِهِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُ فِي الصَّوْمِ عَمَّنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ ، وَقَالَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقِرَاءَةِ فَقَطْ قَالَ كَنُونٍ قَالَ أَبُو زَيْدٍ الْفَاسِيُّ وَلَعَلَّ قَوْلَ الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ الْوَرْيَاجِلِيِّ .
وَأَمَّا الْإِجَارَةُ عَلَى الْقِرَاءَةِ فَلَا تَجُوزُ وَذَلِكَ جُرْحَةٌ فِي آكِلِهَا إلَّا أَنْ يَقْرَأَ الْقَارِئُ عَلَى وَجْهِ التَّطَوُّعِ وَيُعْطِيَهُ وَلِيَّ الْمَيِّتِ عَلَى وَجْهِ الصِّلَةِ وَالْعَطِيَّةِ لَا عَلَى

وَجْهِ الْإِجَارَةِ ا هـ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ النَّفْعِ كَمَا حَكَاهُ عَنْ مَعْرُوفِ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَفِي جَوَابٍ لِلْعَبْدِينِيِّ الْمَيِّتُ يَنْتَفِعُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَالْخِلَافُ فِيهِ مَشْهُورٌ وَالْأُجْرَةُ عَلَيْهِ جَائِزَةٌ ا هـ .
وَحُجَّةُ الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْوُصُولِ الْقِيَاسُ عَلَى الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا هُوَ عَمَلٌ بَدَنِيٌّ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ لَا يَنُوبَ فِيهِ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } وَحَدِيثِ { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَصَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ } وَحُجَّةُ الْقَوْلِ بِالْوُصُولِ أَوَّلًا الْقِيَاسُ عَلَى الدُّعَاءِ الْمُجْمَعِ عَلَى وَصْلِهِ لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ الَّتِي مِنْهَا حَدِيثُ { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ } إلَخْ إذْ الْكُلُّ عَمَلٌ بَدَنِيٌّ وَثَانِيًا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { صَلِّ لَهُمَا مَعَ صَلَاتِك وَصُمْ لَهُمَا مَعَ صِيَامِك يَعْنِي أَبَوَيْهِ } ، وَقَوْلُهُ أَيْضًا { مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ } وَنَصُّ السُّنَّةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْحَجَّ الْمَفْرُوضَ يَسْقُطُ عَنْ الْمَيِّتِ بِحَجِّ وَلِيِّهِ ، وَكَذَا الْحَجُّ الْمَنْذُورُ يَسْقُطُ عَنْ الْمَيِّتِ بِعَمَلِ غَيْرِهِ وَظَاهِرُ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ كَمَا فِي الْمَوَاهِبِ وَغَيْرِهَا ، { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْك فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ صَلَاتِي قَالَ مَا شِئْت ، قُلْت الرُّبْعَ قَالَ مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك .
قُلْت النِّصْفَ قَالَ مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك ، قُلْت أَجْعَلُ صَلَاتِي كُلَّهَا لَك قَالَ إذًا تُكْفَى هَمَّك وَيُغْفَرَ ذَنْبُك } وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْعُهُودِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَنْ أَبِي الْمَوَاهِبِ الشَّاذِلِيِّ مِنْ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ عَنْ مَعْنَاهُ فَقَالَ لَهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيَّ وَتُهْدِيَ ثَوَابَ ذَلِكَ إلَيَّ لَا إلَى نَفْسِك وَثَالِثًا دُخُولُ أَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ بِعَمَلِ

آبَائِهِمْ وَانْتِفَاعِ الْغُلَامَيْنِ الْيَتِيمَيْنِ اللَّذَيْنِ قَالَ اللَّهُ فِي قِصَّتِهِمَا { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا } بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا وَالنَّفْعُ بِالْجَارِ الصَّالِحِ فِي الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ كَمَا فِي الْأَثَرِ وَرَحْمَةُ جَلِيسِ أَهْلِ الذِّكْرِ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ وَلَمْ يَجْلِسْ لِذَلِكَ ، بَلْ لِحَاجَةٍ عَرَضَتْ لَهُ وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وقَوْله تَعَالَى لِنَبِيِّهِ { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } وقَوْله تَعَالَى { ، وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ } وقَوْله تَعَالَى { ، وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } فَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ الْعَذَابَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ بِسَبَبِ بَعْضٍ وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِانْتِفَاعِهِمْ بِأَعْمَالِ غَيْرِهِمْ الصَّالِحَةِ وَأَجَابَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ الْقِيَاسِ عَلَى الصَّلَاةِ بِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاعِ الْإِنْسَانِ بِعَمَلِ غَيْرِهِ ، وَعَنْ الْآيَةِ إمَّا بِأَنَّهَا عَامَّةٌ قَدْ خُصِّصَتْ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَإِمَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْسَانِ الْكَافِرِ وَالْمَعْنَى لَيْسَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ إلَّا مَا عَمِلَ هُوَ فَيُثَابُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ يُوَسَّعَ عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ وَيُعَافَى فِي بَدَنِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَإِلَّا بِأَنَّ قَوْلَهُ { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } مِنْ بَابِ الْعَدْلِ ، وَأَمَّا مِنْ بَابِ الْفَضْلِ فَجَائِزٌ أَنْ يَزِيدَهُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنْ فَضْلِهِ ، وَأَمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ الْجَمْلِ عَلَى الْجَلَالَيْنِ ، وَعَنْ حَدِيثِ { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ } إلَخْ وَنَحْوُهُ مِمَّا وَرَدَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ انْقَطَعَ انْتِفَاعُهُ .
وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ انْقِطَاعِ عَمَلِهِ ، وَأَمَّا عَمَلُ غَيْرِهِ فَهُوَ لِعَامِلِهِ فَإِنْ وَهَبَهُ لَهُ فَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ ثَوَابُ عَمَلِ الْعَامِلِ لَا ثَوَابُ عَمَلِهِ هُوَ فَالْمُنْقَطِعُ شَيْءٌ وَالْوَاصِلُ إلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ وَهُوَ

قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمَيِّتَ مِنْ حَسَنَاتِهِ وَعَمَلِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عَمَلًا عَمِلَهُ وَنَشَرَهُ أَوْ وَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ أَوْ مُصْحَفًا وَرَّثَهُ أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ أَوْ نَهْرًا أَكْرَاهُ أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ تَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ } فَإِنَّهُ لَمْ يَنْفِ أَنْ يَلْحَقَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ غَيْرِهِ وَحَسَنَاتِهِ قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ الرُّوحِ وَأَجَابَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَنْ الْقِيَاسِ عَلَى الدُّعَاءِ بِأَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ فِي الدُّعَاءِ أَمْرَيْنِ ( أَحَدَهُمَا ) مُتَعَلِّقُهُ كَالْمَغْفِرَةِ فِي قَوْلِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُرْجَى حُصُولُهُ لِلْمَدْعُوِّ لَهُ إذْ لَهُ طُلِبَ لَا لِلدَّاعِي وَإِنْ وَرَدَ أَنَّ الْمَلَكَ يَقُولُ لَهُ وَلَك مِثْلُهُ ( وَالْأَمْرُ الثَّانِي ) ثَوَابُهُ وَهُوَ لِلدَّاعِي فَقَطْ وَعَمَّا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ بِالِانْتِفَاعِ بِعَمَلِ الْغَيْرِ الْبَدَنِيِّ مِنْ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالصَّلَاةِ بِأَنَّهَا مَعَ احْتِمَالِهَا التَّأْوِيلَ مُعَارَضَةٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمَعْضُودَةِ بِأَنَّهَا عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الِانْتِقَالِ فَتَقَدَّمَ ، وَعَنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ وَحُصُولِ الرَّحْمَةِ وَرَفْعِ الْعَذَابِ بِعَمَلِ الْغَيْرِ الصَّالِحِ بِأَنَّ الْحَاصِلَ فِي نَحْوِ هَذَا بَرَكَةُ الْمُؤْمِنِينَ لَا ثَوَابُ أَعْمَالِهِمْ وَبَرَكَةُ صَلَاحِ الْأَبِ لَا ثَوَابُ عَمَلِهِ وَبَرَكَةُ أَهْلِ الذِّكْرِ لَا ثَوَابُ عَمَلِهِمْ وَبَرَكَةُ الرَّسُولِ لَا ثَوَابُ عَمَلِهِ وَهَكَذَا وَالْبَرَكَاتُ لِعَدَمِ تَوَقُّفِهَا عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يُنْكَرُ حُصُولُهَا لِلْغَيْرِ حَتَّى لِلْبَهَائِمِ الَّتِي لَا يَتَأَتَّى فِيهَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْصُلُ بَرَكَتُهُ لِلْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْبَهَائِمِ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ ضَرَبَ فَرَسًا بِسَوْطٍ فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ

لَا يُسْبَقُ .
وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ بَطِيءَ الْحَرَكَةِ وَرُوِيَ أَنَّ حِمَارَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَذْهَبُ إلَى بُيُوتِ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَنْطَحُ بِرَأْسِهِ الْبَابَ يَسْتَدْعِيهِمْ إلَيْهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَرْوِيٌّ فِي مُعْجِزَاتِهِ وَكَرَامَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ذَلِكَ ، وَأَمَّا الثَّوَابُ فَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ بِدَلِيلِ الْمُبَاحَاتِ وَأَهْلِ الْفَتَرَاتِ لَا يَحْصُلُ إلَّا لِمَنْ تَوَجَّهَ لَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَمِنْ هُنَا يَتَّضِحُ عَدَمُ صِحَّةِ قَوْلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَأَبَا حَنِيفَةَ كَمَا فِي الْمِعْيَارِ إذَا قُرِئَ عِنْدَ الْقَبْرِ حَصَلَ لِلْمَيِّتِ أَجْرُ الْمُسْتَمِعِ إذْ الْمَوْتَى قَدْ انْقَطَعَتْ عَنْهَا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي فَكَمَا أَنَّ الْبَهَائِمَ تَسْمَعُ أَصْوَاتَنَا بِالْقِرَاءَةِ وَلَا ثَوَابَ لَهَا لِعَدَمِ الْأَمْرِ لَهَا بِالِاسْتِمَاعِ كَذَلِكَ الْمَوْتَى لَا يَكُونُ لَهُمْ ثَوَابٌ وَإِنْ كَانُوا مُسْتَمِعِينَ لِعَدَمِ الْأَمْرِ لَهُمْ بِالِاسْتِمَاعِ وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ وَلَا يَقَعُ فِيهِ خِلَافٌ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ بَرَكَةُ الْقِرَاءَةِ لَا ثَوَابُهَا كَمَا تَحْصُلُ لَهُمْ بَرَكَةُ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُدْفَنُ عِنْدَهُمْ أَوْ يُدْفَنُونَ عِنْدَهُ فَإِنَّ الْبَرَكَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِخِلَافِ الثَّوَابِ كَمَا عَلِمْت لَكِنَّ الَّذِي يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ لَا يُهْمِلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَلَعَلَّ الْحَقَّ هُوَ الْوُصُولُ إلَى الْمَوْتَى فَإِنَّ هَذِهِ أُمُورٌ مَغِيبَةٌ عَنَّا ، وَلَيْسَ فِيهَا اخْتِلَافٌ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَإِنَّمَا هُوَ فِي أَمْرٍ وَاقِعٍ هَلْ هُوَ كَذَلِكَ أَمْ لَا ، وَكَذَلِكَ التَّهْلِيلُ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ يَعْمَلُونَهُ الْيَوْمَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْمَلَ ، وَيُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يُيَسِّرُهُ وَيُلْتَمَسُ فَضْلُ اللَّهِ بِكُلِّ سَبَبٍ مُمْكِنٍ وَمِنْ اللَّهِ الْجُودُ وَالْإِحْسَانُ ا هـ .
قَالَ الرَّهُونِيُّ وَكَنُونٌ وَنُقِلَ هَذَا عَنْ

الْقَرَافِيِّ صَاحِبِ الْمِعْيَارِ وَابْنِ الْفُرَاتِ وَالشَّيْخِ مُصْطَفَى الرَّمَاصِيِّ قَالَ كَنُونِ وَنَقَلَ أَبُو زَيْدٍ الْفَاسِيُّ فِي بَابِ الْحَجِّ مِنْ جَوَابٍ لِلْفَقِيهِ الْمُحَدِّثِ أَبِي الْقَاسِمِ الْعَبْدُوسِيِّ ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عَلَى الْقَبْرِ فَقَدْ نَصَّ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْأَجْوِبَةِ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَالْقُرْطُبِيِّ فِي التَّذْكِرَةِ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يَنْتَفِعُ بِالْقِرَاءَةِ قُرِئَتْ عَلَى الْقَبْرِ أَوْ فِي الْبَيْتِ أَوْ فِي بِلَادٍ إلَى بِلَادٍ وَوُهِبَ الثَّوَابُ ا هـ مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ .
وَقَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَمَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ صَحِيحٌ نَعَمْ قَالَ ابْنُ الْحَاجِّ فِي الْمَدْخَلِ مَنْ أَرَادَ وُصُولَ قِرَاءَتِهِ بِلَا خِلَافٍ فَلْيَجْعَلْ ذَلِكَ دُعَاءً بِأَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ أَوْصِلْ ثَوَابَ مَا أَقْرَأُ إلَى فُلَانٍ ا هـ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الرَّهُونِيِّ وَكَنُونٍ قَالَ الرَّهُونِيُّ وَالتَّهْلِيلُ الَّذِي قَالَ فِيهِ الْقَرَافِيُّ يَنْبَغِي أَنْ يُعْمَلَ هُوَ فِدْيَةُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ سَبْعِينَ أَلْفِ مَرَّةٍ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ السَّنُوسِيُّ وَغَيْرُهُ هَذَا الَّذِي فَهِمَهُ مِنْهُ الْأَئِمَّةُ اُنْظُرْ الْحَطَّابَ هُنَا أَيْ فِي بَابِ الْجَنَائِزِ وَمُصْطَفَى الرَّمَاصِيَّ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ ، وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ مِنْ التَّهْلِيلِ عِنْدَ حَمْلِ الْمَيِّتِ وَتَوَجُّهِهِمْ بِهِ إلَى الدَّفْنِ فَجَزَمَ فِي الْمِعْيَارِ فِي الْفَصْلِ الَّذِي عَقَدَهُ فِي الْبِدَعِ قُبَيْلَ نَوَازِلِ النِّكَاحِ أَنَّهُ بِدْعَةٌ وَنُقِلَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ مِنْ الْمِعْيَارِ مِنْ كَلَامِ شَيْخِ الشُّيُوخِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ لُبٍّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ سَيِّدِي عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْدُوسِيِّ مَا هُوَ شَاهِدٌ لِمَا جَزَمَ بِهِ فِي الْفَصْلِ الْمَذْكُورِ وَانْظُرْ تَقْيِيدَهُ الْمُسَمَّى بِالتَّحَصُّنِ وَالْمَنَعَةِ مِمَّنْ اعْتَقَدَ أَنَّ السُّنَّةَ بِدْعَةٌ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ .
ا هـ .
( فَائِدَةٌ ) قَالَ الرَّهُونِيُّ وَكَنُونٌ فِي الْمِعْيَارِ عَنْ الْإِمَامِ الْمَنْثُورِيِّ مَا نَصُّهُ حَدَّثَنِي الْأُسْتَاذُ ابْنُ عُمَرَ عَنْ

الْأُسْتَاذِ أَبِي الْحَسَنِ الْقُرْطُبِيِّ عَنْ الرَّاوِيَةِ أَبِي عَمْرِ بْنِ حَوْطِ اللَّهِ عَنْ الْقَاضِي أَبِي الْخَطَّابِ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ بَشْكُوَالَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ يَرْبُوعٍ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْخَزْرَجِيِّ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقَرَوِيُّ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ بِقُرْطُبَةَ قَالَ كُنْت بِمِصْرَ فَأَتَانِي نَعْيُ أَبِي فَوَجَدْت عَلَيْهِ وَجْدًا شَدِيدًا فَبَلَغَ ذَلِكَ الشَّيْخَ أَبَا الطَّيِّبِ بْنَ غَلْبُونٍ الْمُقْرِي فَوَجَّهَ لِي فَأَتَيْته فَجَعَلَ يُصَبِّرُنِي وَيَذْكُرُ ثَوَابَ الصَّبْرِ عَنْ الْمُصِيبَةِ وَالرَّزِيَّةِ ، ثُمَّ قَالَ لِي ارْجِعْ إلَى مَا هُوَ أَعْوَدُ عَلَيْك وَعَلَى الْمَيِّتِ مِنْ أَفْعَالِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ مِثْلُ الصَّدَقَةِ وَمَا شَاكَلَهَا وَأَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَنْهُ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } عَشْرَ مَرَّاتٍ كُلَّ لَيْلَةٍ .
ثُمَّ قَالَ لِي أُحَدِّثُك فِي ذَلِكَ بِحَدِيثٍ قَالَ كَانَ رَجُلٌ مَعْرُوفٌ بِالْخَيْرِ وَالْفَضْلِ فَرَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّهُ فِي مَقْبَرَةِ مِصْرَ وَكَأَنَّ النَّاسَ نُشِرُوا مِنْ مَقَابِرِهِمْ وَكَأَنَّهُ مَشَى خَلْفَهُمْ لِيَسْأَلَهُمْ عَمَّا أَوْجَبَ نُهُوضَهُمْ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي تَوَجَّهُوا إلَيْهَا فَوَجَدَ رَجُلًا عَلَى حُفْرَتِهِ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ فَسَأَلَهُ عَنْ الْقَوْمِ إلَى أَيْنَ يُرِيدُونَ فَقَالَ إلَى رَحْمَةٍ جَاءَتْهُمْ يَقْتَسِمُونَهَا فَقَالَ لَهُ فَهَلَّا مَضَيْت مَعَهُمْ فَقَالَ إنِّي قَدْ قَنَعْت بِمَا يَأْتِينِي مِنْ وَلَدِي عَنْ أَنْ أُقَاسِمَ فِيمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقُلْت لَهُ وَمَا الَّذِي يَأْتِيك مِنْ وَلَدِك فَقَالَ يَقْرَأُ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فِي كُلِّ يَوْمٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ وَيُهْدِي إلَيَّ ثَوَابَهَا فَذَكَرَ الشَّيْخُ ابْنُ غَلْبُونٍ لِي أَنَّهُ مُنْذُ سَمِعَ هَذِهِ الْحِكَايَةَ كَانَ يَقْرَأُ عَنْ وَالِدَيْهِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فِي كُلِّ يَوْمٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَمْ يَزَلْ بِهَذِهِ الْحَالَةِ إلَى أَنْ مَاتَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْخَيَّاطُ فَجَعَلَ يَقْرَأُ عَنْهُ كُلَّ لَيْلَةٍ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } عَشْرَ مَرَّاتٍ

وَيُهْدِي إلَيْهِ ثَوَابَهَا قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ غَلْبُونٍ فَمَكَثْت عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ مُدَّةً ، ثُمَّ عَرَضَ لِي فُتُورٌ قَطَعَنِي عَنْ ذَلِكَ فَرَأَيْت أَبَا الْعَبَّاسِ فِي النَّوْمِ فَقَالَ لِي يَا أَبَا الطَّيِّبِ لِمَ قَطَعْت عَنَّا ذَلِكَ الشُّكْرَ الْخَالِصَ الَّذِي كُنْت تُوَجِّهُ بِهِ إلَيْنَا فَانْتَبَهْت مِنْ مَنَامِي وَقُلْت الْخَالِصُ كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنَّمَا كُنْت أُوَجِّهُ إلَيْهِ ثَوَابَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فَرَجَعْت أَقْرَؤُهَا عَنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ ا هـ .
وَلَا يَخْفَاك أَنْ تَمَسُّكَ مِثْلَ الشَّيْخِ ابْنِ غَلْبُونٍ بِالرُّؤْيَا الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ الرَّجُلِ الْمَعْرُوفِ بِالْخَيْرِ وَالْفَضْلِ وَبِرُؤْيَاهُ الَّتِي رَآهَا بَعْدُ إنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ التَّأْيِيدِ وَالِاسْتِئْنَاسِ لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا مَنْ قَالَ بِوُصُولِ ثَوَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْقُرَبِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَاتِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا وَقَعَ لِابْنِ ذِكْرِيٍّ ، بَلْ أَوْلَى مِنْ أَنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى قَوْلِ الْحَطَّابِ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ خَلِيلٍ عِنْدَ قَوْلِهِ فِي بَابِ الْحَجِّ وَتَطَوَّعَ وَلِيُّهُ عَنْهُ مَا نَصُّهُ وَجُلُّهُمْ أَيْ الْعُلَمَاءِ أَجَابَ بِالْمَنْعِ أَيْ مَنْعِ إهْدَاءِ ثَوَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْقُرَبِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ أَثَرٌ وَلَا شَيْءٌ عَمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ مِنْ السَّلَفِ اُنْظُرْهُ بِأَنَّهُ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ الْمُتَقَدِّمُ اسْتَنَدَ إلَى مَا نَقَلَهُ عَنْ الْعُهُودِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَنْ أَبِي الْمَوَاهِبِ الشَّاذِلِيِّ مِنْ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ عَنْ مَعْنَاهُ إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ .
وَقَالَ وَلَفْظُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ لِكَلَامِ الْعُهُودِ فَهُوَ أَقْوَى وَأَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ الشَّيْخِ زَرُّوقٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ كَالْحَافِظِ الْمُنْذِرِيِّ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ إنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أُكْثِرُ الدُّعَاءَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ دُعَائِي

صَلَاةً عَلَيْك إذْ لَوْ أُرِيدَ لَقِيلَ فَكَمْ أَصْرِفُ لَك مِنْ وَقْتِ دُعَائِي مَثَلًا قَالَ الشَّيْخُ كنون بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كَلَامَهُ فِي بَابِ الْحَجِّ عِنْدَ قَوْلِهِ فِي الْمُخْتَصَرِ وَتَطَوَّعَ عَنْهُ وَلِيُّهُ مَا نَصُّهُ فَأَنْتَ تَرَاهُ إنَّمَا ذَكَرَ رُؤْيَا أَبِي الْمَوَاهِبِ وَغَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ التَّأْيِيدِ وَالِاسْتِئْنَاسِ لِظَاهِرِ لَفْظِ الْحَدِيثِ لَا عَلَى وَجْهِ الِاحْتِجَاجِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ أَنَّ رُؤْيَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا وَلَا سِيَّمَا مِنْ مِثْلِ أَبِي الْمَوَاهِبِ لَكِنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَثْبُتُ بِالرُّؤْيَا فَلِذَلِكَ قَبِلَ كَلَامَهُ الْمَذْكُورَ تِلْمِيذُهُ جَسُّوسُ وَغَيْرُهُ فَتَأَمَّلْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اُنْظُرْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُبْطِلُ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَبْطُلُ التَّتَابُعُ ) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمُشْكِلَةِ فَإِنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ إذَا أَكَلَ فِي صَوْمِ الظِّهَارِ أَوْ الْقَتْلِ أَوْ النَّذْرِ الْمُتَتَابِعِ نَاسِيًا أَوْ مُجْتَهِدًا أَوْ مُكْرَهًا أَوْ وَطِئَ نَهَارًا غَيْرُ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا نَاسِيًا قَضَى يَوْمًا مُتَّصِلًا بِصَوْمِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ابْتَدَأَ الصَّوْمَ مِنْ أَوَّلِهِ فَإِنْ وَطِئَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا أَوَّلَ صَوْمِهِ أَوْ آخِرَهُ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا ابْتَدَأَ الصَّوْمَ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ وَطِئَهَا لَيْلًا لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ وَوَافَقْنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ الْفِطْرُ يُبْطِلُ التَّتَابُعَ مُطْلَقًا وَخَالَفَهُمَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَعَلَّلَا ذَلِكَ بِأَنَّ الْفِطْرَ بِاخْتِيَارِهِ بِخِلَافِ الْمَرَضِ وَالْإِغْمَاءِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَالْمَرَضِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ كَالْمَرِيضِ عِنْدَهُ .
وَقَالَ أَبُو الطَّاهِرِ مِنْ أَصْحَابِنَا إنْ أَفْطَرَ جَاهِلًا فَقَوْلَانِ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْجَاهِلَ هَلْ يَلْحَقُ بِالْعَامِدِ أَمْ لَا وَفِي السَّهْوِ وَالْخَطَأِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ثَالِثُهَا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ السَّهْوِ فَيُجْزِئُ وَالْخَطَأِ فَلَا يُجْزِئُ وَيَبْتَدِي لِأَنَّ مَعَهُ تَمْيِيزَهُ بِخِلَافِ السَّهْوِ وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ التَّتَابُعُ مَأْمُورٌ بِهِ فَيَقْدَحُ فِيهِ النِّسْيَانُ أَوْ التَّفْرِيقُ مُحَرَّمٌ فَلَا تَضُرُّ مُلَابَسَتُهُ سَهْوًا فَإِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ لَا يَأْثَمُ الْإِنْسَانُ بِمُلَابَسَتِهَا مَعَ عَدَمِ الْقَصْدِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ سَاهِيًا أَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً جَاهِلًا بِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ أَوْ أَكَلَ طَعَامًا نَجِسًا أَوْ حَرَامًا مَغْصُوبًا غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا عَلَى عَدَمِ

الْإِثْمِ ( قُلْت ) وَهَذِهِ الْفَتَاوَى كُلُّهَا مُشْكِلَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ لَفْظَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَمْرٌ مُتَعَلِّقٌ بِطَلَبٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } وَمَعْنَاهُ لِيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَيَكُونُ خَبَرًا مَعْنَاهُ الْأَمْرُ أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ .
وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ لِمُوَافَقَتِهِ الظَّاهِرَ مِنْ بَقَاءِ الْخَبَرِ خَبَرًا عَلَى حَالِهِ وَنَسْتَفِيدُ الْوُجُوبَ مِنْ قَوْله تَعَالَى فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مُتَعَلِّقٌ بِطَلَبٍ لَا يُدْفَعُ فَكَيْفَ يُتَخَيَّلُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّهْيِ عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ بَشِيرٍ وَلَا يُمْكِنُ الِاعْتِمَادُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّتَابُعَ إذَا كَانَ وَاجِبًا كَانَ تَرْكُهُ مُحَرَّمًا فَإِنَّ كُلَّ وَاجِبٍ تَرْكُهُ مُحَرَّمٌ وَكُلَّ مُحَرَّمٍ تَرْكُهُ وَاجِبٌ فَالْوُجُوبُ مِنْ لَوَازِمِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْرِيمُ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُوبِ فِي النَّقِيضِ الْمُقَابِلِ فَاَلَّذِي يَصِحُّ فِي الْآيَةِ أَنَّ التَّتَابُعَ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْمُحَرَّمِ وَأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَحْرِيمِ التَّفْرِيقِ هَذَا بَعِيدٌ ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ بَقِيَ الْإِشْكَالُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَلَمْ يَأْتِ بِهِمَا الْمُكَلَّفُ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ كُلِّهَا النَّاسِي وَالْمُجْتَهِدُ وَالْمُكْرَهُ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ فَرَّقُوا وَلَمْ يَقَعْ فِعْلُهُمْ مُطَابِقًا لِمُقْتَضَى الطَّلَبِ فَوَجَبَ الْبَقَاءُ فِي الْعُهْدَةِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَلَب الصَّلَاةَ بِالنِّيَّةِ وَالطَّهَارَةِ وَالسِّتَارَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الشُّرُوطِ فَمَنْ نَسِيَ أَحَدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَوْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فِيهَا أَوْ أُكْرِهَ عَلَى عَدَمِهَا بَطَلَتْ الصَّلَاةُ ، وَكَذَلِكَ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي رَمَضَانَ أَوْ نَسِيَ أَوْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَإِنَّ صَوْمَهُ يَبْطُلُ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَمَا بَالُ التَّتَابُعِ خَرَجَ

عَنْ هَذَا النَّمَطِ فِي الْكَفَّارَاتِ وَالْمَنْذُورَاتِ هَذَا وَجْهُ الْإِشْكَالِ .
وَكَذَلِكَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا فِي الْإِغْمَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْطُلَ التَّتَابُعُ كَمَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ بِالْإِغْمَاءِ ، وَكَذَلِكَ الْمَرَضُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ مِثْلُهُ فَالْكُلُّ مُشْكِلٌ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ فِي بَادِي الرَّأْيِ أَنَّ التَّفْرِيقَ مَتَى حَصَلَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَأَنْ وَجَبَ ابْتِدَاءً الصَّوْمُ كَمَا قُلْنَاهُ فِي جَمِيعِ النَّظَائِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّ الصَّوْمَ بِوَصْفِ التَّتَابُعِ لَمْ يَحْصُلْ وَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ الْمَطْلُوبُ الشَّرْعِيُّ مَعَ إمْكَانِ الْإِتْيَانِ بِهِ وَجَبَ الْإِتْيَانُ بِهِ هَذَا هُوَ الْقَاعِدَةُ ( وَالْجَوَابُ ) عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِبَيَانِ قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى قِسْمَيْنِ خِطَابُ وَضْعٍ وَخِطَابُ تَكْلِيفٍ فَخِطَابُ الْوَضْعِ هُوَ نَصْبُ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ وَالتَّقْدِيرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَخِطَابُ التَّكْلِيفِ هُوَ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ وَالنَّدْبُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ فَأَمَّا خِطَابُ الْوَضْعِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ وَلَا قُدْرَتُهُ وَلَا إرَادَتُهُ كَالتَّوْرِيثِ بِالْأَنْسَابِ وَالْإِنْسَانُ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ وَلَا هُوَ مِنْ قُدْرَتِهِ وَلَا إرَادَتِهِ فَيَدْخُلُ الْمِيرَاثُ فِي مِلْكِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ وَلِذَلِكَ نُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْغَافِلِينَ وَنُطَلِّقُ بِالْإِضْرَارِ وَنُوجِبُ الظُّهْرَ بِالزَّوَالِ وَالصَّوْمَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ وَخِطَابُ التَّكْلِيفِ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ فَمَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ لَا يُكَلَّفُ بِهِ ، وَكَذَلِكَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ لَا يَلْزَمُهُ حَتَّى يَعْلَمَ بِهِ غَيْرَ أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الْعِلْمِ يَقُومُ مَقَامَ الْعِلْمِ فِي التَّكْلِيفِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَبْسُوطَةً فَإِذَا وَضَحَتْ فَنَقُولُ الْمُتَابَعَةُ مِنْ بَابِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ ؛

لِأَنَّ الصَّوْمَ مُكَلَّفٌ بِهِ وَصِفَةُ الْمُكَلَّفِ بِهِ مُكَلَّفٌ بِهَا وَالتَّتَابُعُ صِفَةُ الصَّوْمِ فَتَكُونُ مُكَلَّفًا بِهَا ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ فَلِذَلِكَ يَسْقُطُ التَّكْلِيفُ بِهَا فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ لِمُنَافَاةِ النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ وَالْمَرَضِ وَالْإِغْمَاءِ وَنَحْوِهَا التَّكْلِيفُ لُطْفًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادِ وَعَدَمِ وَطْءِ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ شَرْطٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } وَالْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ افْعَلْ كَذَا قَبْلَ كَذَا أَنَّ التَّقَدُّمَ شَرْطٌ وَلِذَلِكَ يَصْدُقُ قَوْلُنَا اسْتَأْذِنْ الْمَرْأَةَ فِي النِّكَاحِ وَأَحْضِرْ الْوَلِيَّ قَبْلَ الْعَقْدِ أَنَّ هَذَيْنِ شَرْطَانِ ، وَكَذَلِكَ اسْتَتِرْ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَتَطَهَّرْ وَانْوِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ شُرُوطٌ ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ يُفِيدُ الشَّرْطِيَّةَ كَانَ تَقَدُّمُ الْعَدَمِ شَرْطًا فَلِذَلِكَ قَدَحَ فِيهِ النِّسْيَانُ وَغَيْرُهُ فَإِنَّ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ يَثْبُتُ مُطْلَقًا وَمَا يَثْبُتُ مُطْلَقًا اُعْتُبِرَ مُطْلَقًا ، فَيَكُونُ شَرْطًا فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ فَيُؤَثِّرُ فَقْدُهُ وَالتَّكْلِيفُ لَمَّا كَانَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ شَرْطَيْنِ فِيهِ فُقِدَ التَّكْلِيفُ عِنْدَ عَدَمِهِمَا فَإِذَا عَلِمْت ذَلِكَ فَالْمَفْهُومُ مِنْ قَوْله تَعَالَى { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } أَنَّهُ يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَيْسَ قَبْلَهُمَا وَطْءٌ وَلَا فِي أَثْنَائِهِمَا وَطْءٌ فَهَذَانِ أَمْرَانِ قَدْ يَتَغَيَّرُ أَحَدُهُمَا بِتَقَدُّمِ الْوَطْءِ فَاسْتَحَالَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُصَدَّقَ أَنَّهُ يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَيْسَ قَبْلَهُمَا وَطْءٌ لِأَجْلِ تَقَدُّمِ الْوَطْءِ وَبَقِيَ الْآخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَيْسَ فِي خِلَالِهِمَا وَطْءٌ وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الْمُتَعَذِّرَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ وَالْمُمْكِنَ يُسْتَصْحَبُ فِيهِ التَّكْلِيفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا

اسْتَطَعْتُمْ } فَلِذَلِكَ قُلْنَا يَبْتَدِي الصَّوْمَ فِي الظِّهَارِ مُتَتَابِعًا إذَا وَطِئَهَا قَبْلَهُ وَإِنْ كَانَ وَصْفُ تَقَدُّمِ عَدَمِ الْوَطْءِ قَدْ تَعَذَّرَ ؛ لِأَنَّهُ الْمُمْكِنُ الْبَاقِي .
وَأَمَّا فِي النَّذْرِ وَنَحْوِهِ فَيَأْتِي بِيَوْمٍ غَيْرِ الْيَوْمِ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ نَاسِيًا يَصِلُهُ بِآخِرِ صِيَامِهِ تَكْمِلَةً لِلْعِدَّةِ لَا لِتَحْصِيلِ وَصْفِ التَّتَابُعِ فِي جَمِيعِ الصَّوْمِ ، بَلْ فِي آخِرِهِ فَقَطْ ؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّوْمِ قَدْ تَعَذَّرَ فَأَفْطَرَ نَاسِيًا وَبَقِيَ تَحْصِيلُهُ فِي آخِرِهِ مُمْكِنًا فَوَجَبَ الْمُمْكِنُ وَسَقَطَ الْمُتَعَذِّرُ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْكَفَّارَاتِ وَأَنْوَاعِ الصَّوْمِ الْمُتَتَابِعِ فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى .
( مَسْأَلَةٌ ) قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا تَطَوَّعَ بِالصَّوْمِ أَوْ بِالصَّلَاةِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يَجِبُ بِالشُّرُوعِ وَعَرَضَ عَارِضٌ يَقْتَضِي فَسَادَهُ نَاسِيًا أَوْ مُجْتَهِدًا لَمْ يَجِبْ قَضَاءُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَإِنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا أَوْ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى قَاعِدَةِ الْوُجُوبِ بِالشُّرُوعِ مَعَ أَنَّ قَاعِدَةَ الْوُجُوبِ بِالشُّرُوعِ تَقْتَضِي الْقَضَاءَ مُطْلَقًا أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَصَوْمَ رَمَضَانَ يَقْضِيهِمَا إذَا فَسَدَا بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ فَكَانَ يَلْزَمُهُ هُنَا كَذَلِكَ وَهُوَ إشْكَالٌ كَبِيرٌ فَإِنَّ الْوَاجِبَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حَالُهُ ( وَالْجَوَابُ ) عَنْهُ أَنَّ وُجُوبَ التَّطَوُّعَاتِ عِنْدَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } نَهَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ الْإِبْطَالِ ، فَيَكُونُ الْإِكْمَالُ وَاجِبًا مُكَلَّفًا بِهِ وَالتَّكْلِيفُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَلَا يَجِبُ الْإِتْمَامُ حَالَةَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ فَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ كَذَلِكَ .
وَإِذَا تَعَمَّدَ الْإِفْسَادَ انْدَرَجَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ فِي التَّكْلِيفِ لِحُصُولِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ فَوَجَبَ الْقَضَاءُ

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ { اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ } وَكَانَتَا عَامِدَتَيْنِ لِإِفْسَادِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي حَالَةٍ يَثْبُتُ فِيهَا التَّكْلِيفُ فَبَقِيَتْ الْحَالَةُ الَّتِي لَا يَثْبُتُ فِيهَا التَّكْلِيفُ عَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ فَيَقْتَصِرُ بِهِ حَيْثُ وَرَدَ ( فَإِنْ قُلْت ) الصَّوْمُ فِي رَمَضَانَ وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ يُقْضَيَانِ مُطْلَقًا فَلِمَ لَا أَقْضِي هَذَا مُطْلَقًا ، قُلْت الْمَشْهُورُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ فَيُتَّبَعُ ذَلِكَ الْأَمْرُ عَلَى حَسَبِ وُرُودِهِ ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ فِي الْوَاجِبِ الْمُتَّصِلِ مَعَ الْعُذْرِ وَعَدَمِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وَالْمَرَضُ عُذْرٌ ، وَقَدْ وَجَبَ مَعَهُ الْقَضَاءُ فَلِذَلِكَ أَوْجَبْنَا الْقَضَاءَ مُطْلَقًا وَلَمْ يَرِدْ لَنَا فِي التَّطَوُّعَاتِ مِثْلُ ذَلِكَ ، بَلْ فِي صُورَةِ عَدَمِ الْعُذْرِ خَاصَّةً فَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ تَبَعٌ لِلْأَمْرِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهَذَا هُوَ تَلْخِيصُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُبْطِلُ التَّتَابُعَ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُبْطِلُهُ وَشَرْطُ قَاعِدَةِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَقَاعِدَةِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ .

قَالَ ( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُبْطِلُ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُبْطِلُ التَّتَابُعَ ) قُلْت جَمِيعُ مَا قَالَهُ فِيهِ صَحِيحٌ إلَّا قَوْلَهُ فَالْمَفْهُومُ مِنْ قَوْله تَعَالَى { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } أَنَّهُ يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَيْسَ قَبْلَهُمَا وَطْءٌ وَلَا فِي أَثْنَائِهَا وَطْءٌ فَإِنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ بِحَسَبِ مَسَاقِ كَلَامِهِ أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي عَدَمَ تَقَدُّمِ الْوَطْءِ مُطْلَقًا .
وَهَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ تَقْتَضِيَهُ الْآيَةُ لِاشْتِمَالِ الْآيَةِ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ وَطْؤُهَا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْآيَةِ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ الصَّوْمَ وَطْءٌ بَعْدَ الظِّهَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَجَمِيعُ مَا قَالَهُ بَعْدَهُ فِي الْفُرُوقِ السِّتَّةِ صَحِيحٌ

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُبْطِلُ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ وَالنَّذْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُبْطِلُ التَّتَابُعَ ) وَذَلِكَ أَنَّ مَا يُبْطِلُهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ ( الْأَوَّلُ ) وَطْءُ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا عَلَى خِلَافٍ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُدَوَّنَةِ إذَا حَصَلَ مِنْهُ ابْتَدَأَ الصَّوْمَ مُطْلَقًا لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا أَوَّلَ صَوْمِهِ أَوْ آخِرَهُ نَاسِيًا كَانَ لِظِهَارِهِ أَوْ عَامِدًا وَوَافَقَهُ فِي ذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَإِنْ أَصَابَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ، وَلَوْ نَاسِيًا أَوْ مَعَ عُذْرٍ يُبِيحُ الْفِطْرَ أَيْ كَمَرَضٍ وَسَفَرٍ انْقَطَعَ أَيْ التَّتَابُعُ ا هـ .
وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ اشْتَرَطَ فِي ذَلِكَ الْعَمْدَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَسْتَأْنِفُ عَلَى حَالٍ كَمَا فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ لِحَفِيدِ ابْنِ رُشْدٍ ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ تَشْبِيهُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالشَّرْطُ الَّذِي وَرَدَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَعْنِي أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ فِي قَوْله تَعَالَى { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ افْعَلْ كَذَا قَبْلَ كَذَا أَنَّ التَّقَدُّمَ شَرْطٌ وَلِذَلِكَ يَصْدُقُ لَنَا اسْتَأْذِنْ الْمَرْأَةَ فِي النِّكَاحِ وَأَحْضِرْ الْوَلِيَّ قَبْلَ الْعَقْدِ أَنَّ هَذَيْنِ شَرْطَانِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا اسْتَتِرْ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَتَطَهَّرْ وَانْوِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ شُرُوطٌ فَمَنْ اعْتَبَرَ هَذَا الشَّرْطَ قَالَ يَسْتَأْنِفُ الصَّوْمَ إذْ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ أَنْ يَتَقَدَّمَ الصَّوْمُ وَطْءَ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا بَعْدَ الظِّهَارِ ، وَمَنْ شَبَّهَهُ بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ قَالَ لَا يَسْتَأْنِفُ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْيَمِينِ تَرْفَعُ الْحِنْثَ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِاتِّفَاقٍ ا هـ بِتَوْضِيحٍ ( النَّوْعُ الثَّانِي ) الِاسْتِمْتَاعُ بِالْمُظَاهَرِ مِنْهَا بِمَا دُونَ الْوَطْءِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ أَيْضًا قَالَ حَفِيدُ ابْن رُشْدٍ فِي

بِدَايَتِهِ فَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّهُ كَمَا يَحْرُمُ الْجِمَاعُ يَحْرُمُ مَا دُونَهُ مِنْ الْوَطْءِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَاللَّمْسُ وَالتَّقْبِيلُ وَالنَّظَرُ لِلَّذَّةِ مَا عَدَا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا وَيَدَيْهَا مِنْ سَائِرِ بَدَنِهَا وَمَحَاسِنِهَا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا كُرِهَ النَّظَرُ لِلْفَرْجِ فَقَطْ قَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّمَا يَحْرُمُ الظِّهَارُ لِوَطْءٍ فِي الْفَرْجِ فَقَطْ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ لَا مَا عُدَّ بِذَلِكَ ا هـ .
وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ مَا فِي الْإِقْنَاعِ وَشَرْحِهِ مِنْ أَنَّهُ إنْ لَمَسَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ بَاشَرَهَا دُونَ الْفَرْجِ عَلَى وَجْهٍ يُفْطِرُ بِهِ بِأَنْ أَنْزَلَ قُطِعَ التَّتَابُعُ لِفَسَادِ صَوْمِهِ وَإِلَّا بِأَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهٍ يُفْطِرُ بِهِ بِأَنْ لَمْ يُنْزِلْ فَلَا يُقْطَعُ التَّتَابُعُ لِعَدَمِ فَسَادِ الصَّوْمِ ا هـ قَالَ حَفِيدُ ابْنِ رُشْدٍ فِي بِدَايَتِهِ وَدَلِيلُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِ التَّمَاسِّ فِي قَوْله تَعَالَى { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } يَقْتَضِي الْمُبَاشَرَةَ فَمَا فَوْقَهَا ؛ وَلِأَنَّهُ أَيْ الظِّهَارُ لَفْظٌ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِهِ فَأَشْبَهَ لَفْظَ الطَّلَاقِ ، وَدَلِيلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَوَّلًا أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ وَإِنْ كَانَتْ تَدُلُّ عَلَى مَا فَوْقَ الْجِمَاعِ إلَّا أَنَّهَا دَلَالَةٌ مَجَازِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْجِمَاعِ ، فَيَكُونُ هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي تَنْتَفِي بِهَا الدَّلَالَةُ الْمَجَازِيَّةُ إذْ لَا يَدُلُّ لَفْظٌ وَاحِدٌ دَلَالَتَيْنِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا نَعَمْ لَا يَبْعُدُ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ لَهُ عُمُومٌ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ يَتَضَمَّنُ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا أَعْنِي الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْرِ بِهِ عَادَةٌ لِلْعَرَبِ حَتَّى عُدَّ الْقَوْلُ بِهِ لِذَلِكَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ لَكِنْ لَوْ عُلِمَ أَنَّ لِلشَّرْعِ فِيهِ تَصَرُّفًا لَجَازَ وَثَانِيًا أَنَّ الظِّهَارَ مُشَبَّهٌ عِنْدَهُمْ بِالْإِيلَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ عِنْدَهُمْ بِالْفَرْجِ ا هـ مُلَخَّصًا .
قُلْت وَدَلِيلُ قَوْلِ أَحْمَدَ أَنَّ

الْجِمَاعَ يُطْلَقُ شَرْعًا عَلَى مُوجِبِ الْغُسْلِ وَفَسَادِ الصَّوْمِ فَتَأَمَّلْ بِإِمْعَانٍ ( النَّوْعُ الثَّالِثُ ) وَطْءُ غَيْرِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا وَالْأَكْلُ نَهَارًا عَلَى خِلَافٍ فِيهِ أَيْضًا فَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ إذَا تَعَمَّدَ الْأَكْلَ فِي صَوْمِ الظِّهَارِ أَوْ الْقَتْلِ أَوْ النَّذْرِ الْمُتَتَابِعِ نَهَارًا أَوْ تَعَمَّدَ وَطْءَ غَيْرِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا نَهَارًا ابْتَدَأَهُ ا هـ بِالْمَعْنَى ، وَقَالَ أَبُو الطَّاهِرِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَفِي إلْحَاقِ الْجَاهِلِ أَيْ بِالْعَامِدِ قَوْلَانِ وَفِي السَّهْوِ وَالْخَطَأِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ثَالِثُهَا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ السَّهْوِ فَيُجْزِئُ وَالْخَطَأِ فَلَا يُجْزِئُ وَيَبْتَدِئُ ؛ لِأَنَّ مَعَهُ تَمْيِيزَهُ بِخِلَافِ السَّهْوِ وَمِثْلُ مَا لِمَالِكٍ فِي الْجُمْلَةِ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ كَمَا يُفِيدُهُ كَلَامُ الْإِقْنَاعِ الْآتِي ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ الْفِطْرُ يُبْطِلُ التَّتَابُعَ مُطْلَقًا أَيْ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا ؛ لِأَنَّهُ بِاخْتِيَارِهِ بِخِلَافِ الْمَرَضِ فَقَطْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبِخِلَافِ الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ كَالْإِغْمَاءِ وَالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَالَ الْأَصْلُ وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ التَّتَابُعُ مَأْمُورٌ بِهِ فَيَقْدَحُ فِيهِ النِّسْيَانُ أَوْ التَّفْرِيقُ مُحَرَّمٌ فَلَا تَضُرُّ مُلَابَسَتُهُ سَهْوًا فَإِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ لَا يَأْثَمُ الْإِنْسَانُ بِمُلَابَسَتِهَا مَعَ عَدَمِ الْقَصْدِ كَشُرْبِ الْخَمْرَ سَاهِيًا أَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً جَاهِلًا بِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ أَوَأَكَلَ طَعَامًا نَجِسًا أَوْ حَرَامًا مَغْصُوبًا غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا عَلَى عَدَمِ الْإِثْمِ ا هـ .
مِنْهُ بِلَفْظِهِ يَعْنِي أَنَّ سَبَبَ الْخِلَافِ هَذَانِ الِاحْتِمَالَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ بَشِيرٍ وَسَيَأْتِي مَا فِي الِاحْتِمَالِ الثَّانِي فَتَرَقَّبْ ( وَأَنَّ مَا لَا يُبْطِلُهُ ) فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ فَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُدَوَّنَةِ إذَا أَكَلَ نَهَارًا فِي صَوْمِ الظِّهَارِ أَوْ الْقَتْلِ أَوْ

النَّذْرِ الْمُتَتَابِعِ نَاسِيًا أَوْ مُجْتَهِدًا أَوْ مُكْرَهًا أَوْ وَطِئَ نَهَارًا غَيْرَ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا نَاسِيًا قَضَى يَوْمًا مُتَّصِلًا بِصَوْمِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ابْتَدَأَ الصَّوْمَ مِنْ أَوَّلِهِ .
ا هـ فَأَوْلَى إذَا أَفْطَرَ لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حِكَايَةُ الْخِلَافِ فِي الْجَهْلِ وَالسَّهْوِ وَالْخَطَأِ عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَمِثْلُ مَا لِمَالِكٍ فِي الْجُمْلَةِ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَإِنْ تَخَلَّلَ صَوْمَهُمَا أَيْ الشَّهْرَيْنِ صَوْمُ رَمَضَانَ أَوْ فِطْرٌ وَاجِبٌ كَفِطْرِ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَوْ الْحَيْضُ أَوْ نِفَاسٌ أَوْ جُنُونٌ أَوْ إغْمَاءٌ أَوْ مَرَضٌ ، وَلَوْ غَيْرَ مَخُوفٍ أَوْ لِسَفَرٍ مُبِيحَانِ أَيْ الْمَرَضُ وَالسَّفَرُ الْفِطْرَ أَوْ فِطْرُ الْحَامِلِ أَوْ الْمُرْضِعِ لِخَوْفِهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيْهِمَا أَوْ فِطْرٌ لِإِكْرَاهٍ أَوْ نِسْيَانٍ أَوْ لِخَطَأٍ لَا لِجَهْلٍ أَوْ وَطِئَ غَيْرَ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا لَيْلًا ، وَلَوْ عَمْدًا أَوْ نَهَارًا نَاسِيًا لِلصَّوْمِ أَوْ لِعُذْرٍ يُبِيحُ الْفِطْرَ لَمْ يَنْقَطِعْ التَّتَابُعُ أَيْ بِجَمِيعِ ذَلِكَ فَيُبْنَى عَلَى مَا قَدَّمَهُ وَيُتِمُّهُ ا هـ مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْفِطْرُ لِمَرَضٍ لَا يُبْطِلُهُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ الْإِغْمَاءُ كَالْمَرَضِ وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ كَالْمَرِيضِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ حَفِيدِ ابْنِ رُشْدٍ فِي الْبِدَايَةِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ إنْ وَطِئَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا لَا يَسْتَأْنِفُ عَلَى حَالٍ نَظَرًا لِكَوْنِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ تَرْفَعُ الْحِنْثَ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِاتِّفَاقٍ وَحَكَى الْأَصْلُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إنْ وَطِئَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا لَيْلًا لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ .
ا هـ .
فَحَرِّرْ هَذَا تَوْضِيحُ الْفَتَاوَى عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ حَاصِلٌ عَلَى كُلِّ فَتْوَى مَذْهَبٍ مِنْهَا إلَّا أَنَّ سِرَّهُ لَا يَظْهَرُ إلَّا عَلَى الْفَتْوَى مِنْ مَذْهَبَيْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ

وَذَلِكَ أَنَّهُمَا جَعَلَا وَطْءَ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا مُطْلَقًا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا أَوَّلَ الصَّوْمِ أَوْ آخِرَهُ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا مُوجِبًا لِابْتِدَاءِ الصَّوْمِ ، وَوَطْءَ غَيْرِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا وَالْأَكْلَ نَهَارًا عَمْدًا فَقَطْ مُوجِبًا لِابْتِدَائِهِ ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَعَلَى عَكْسِ ذَلِكَ فَقَدْ جَعَلَا وَطْءَ غَيْرِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا وَالْأَكْلَ نَهَارًا مُطْلَقًا أَيْ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا مُوجِبًا لِابْتِدَاءِ الصَّوْمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَطْءَ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا عَمْدًا فَقَطْ لِابْتِدَائِهِ وَالشَّافِعِيُّ وَطْؤُهَا إمَّا لَا يُوجِبُ الِابْتِدَاءَ عَلَى حَالٍ ، وَأَمَّا لَيْلًا فَقَطْ لَا يُوجِبُهُ كَمَا تَوَضَّحَ وَسِرُّ الْفَرْقِ هُوَ أَنَّ التَّتَابُعَ صِفَةُ الصَّوْمِ الْمُكَلَّفِ بِوُجُوبِهِ وَصِفَةَ الْمُكَلَّفِ بِوُجُوبِهِ مُكَلَّفٌ بِوُجُوبِهَا وَعَدَمَ وَطْءِ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ عَنْ الظَّاهِرِ شَرْطٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ افْعَلْ كَذَا أَنَّ التَّقَدُّمَ شَرْطٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَالْقَاعِدَةُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ مَبْسُوطَةٌ أَنَّ الْوُجُوبَ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ مِنْ قَبِيلِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ يُشْتَرَطُ فِيهِ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ وَقُدْرَتُهُ وَإِرَادَتُهُ فَمَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ لَا يُكَلَّفُ لَك وَكَذِبُهُ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ لَا يَلْزَمُهُ حَتَّى يَعْلَمَ بِهِ .
غَيْرَ أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الْعِلْمِ يَقُومُ مَقَامَ الْعِلْمِ فِي التَّكْلِيفِ فَيَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ وَالْمَرَضِ وَالْإِغْمَاءِ وَنَحْوِهَا لِمُنَافَاتِهَا التَّكْلِيفَ بِمُنَافَاتِهَا لِشَرْطِهِ لُطْفًا مِنْ اللَّهِ بِالْعِبَادِ وَأَنَّ الشَّرْطَ كَالسَّبَبِ وَالْمَانِعِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ قَبِيلِ خِطَابِ الْوَضْعِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا إرَادَةٌ كَالتَّوْرِيثِ بِالْأَنْسَابِ وَالْإِنْسَانُ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ وَلَا هُوَ مِنْ قُدْرَتِهِ وَلَا إرَادَتِهِ فَيَقْدَحُ فِيهِ النِّسْيَانُ وَغَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ

وَالْقُدْرَةُ يَثْبُتُ مُطْلَقًا وَمَا يَثْبُتُ مُطْلَقًا اُعْتُبِرَ مُطْلَقًا ، فَيَكُونُ شَرْطًا فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَالْمَفْهُومُ مِنْ قَوْله تَعَالَى { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } أَنَّهُ بَعْدَ الظِّهَارِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ لَيْسَ قَبْلَهُمَا وَطْءٌ وَلَا فِي أَثْنَائِهِمَا وَطْءٌ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ إمَّا خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ أَيْ لِيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَإِمَّا خَبَرٌ بَاقٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ حُذِفَ مِنْهُ إمَّا الْمُبْتَدَأُ أَيْ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَإِمَّا الْخَبَرُ أَيْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَكَوْنُهُمَا لَيْسَ قَبْلَهُمَا وَطْءٌ وَلَا فِي أَثْنَائِهِمَا وَطْءٌ أَمْرَانِ قَدْ يَتَغَيَّرُ أَحَدُهُمَا بِتَقَدُّمِ الْوَطْءِ فَيَسْتَحِلُّ بَعْدَ ذَلِكَ أَيْ بَعْدَ تَغَيُّرِ أَحَدِهِمَا بِتَقَدُّمِ الْوَطْءِ أَنْ يُصَدَّقَ أَنَّهُ يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَيْسَ قَبْلَهُمَا وَطْءٌ وَيَبْقَى الْآخَرُ وَهُوَ أَنْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَيْسَ فِي خِلَالِهِمَا وَطْءٌ وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الْمُتَعَذِّرَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ وَالْمُمْكِنَ يُسْتَصْحَبُ فِيهِ التَّكْلِيفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فَلِذَلِكَ قُلْنَا نَحْنُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَبْتَدِئُ الصَّوْمَ مُتَتَابِعَيْنِ إذَا وَطِئَهَا قَبْلَهُ مُطْلَقًا وَأَبُو حَنِيفَةَ عَمْدًا فَقَطْ .
وَإِنْ كَانَ وَصْفُ تَقَدَّمْ عَدَمِ الْوَطْءِ قَدْ تَعَذَّرَ ؛ لِأَنَّهُ أَيْ التَّتَابُعَ هُوَ الْمُمْكِنُ الْبَاقِي ، وَأَمَّا فِي فِطْرِهِ نَاسِيًا النَّذْرُ الْمُتَتَابِعَ وَنَحْوَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّوْمِ الْمُتَتَابِعِ فَيَأْتِي بِيَوْمٍ غَيْرِ الْيَوْمِ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ نَاسِيًا يَصِلُهُ بِآخِرِ صِيَامِهِ تَكْمِلَةً لِلْعِدَّةِ لَا لِتَحْصِيلِ وَصْفِ التَّتَابُعِ فِي جَمِيعِ الصَّوْمِ ، بَلْ فِي آخِرِهِ فَقَطْ ؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّوْمِ قَدْ تَعَذَّرَ

وَبَقِيَ تَحْصِيلُهُ فِي آخِرِهِ مُمْكِنًا فَوَجَبَ الْمُمْكِنُ وَسَقَطَ الْمُتَعَذِّرُ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ الْوَارِدُ هُنَا عَلَى الْفَتَاوَى الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مِنْ التَّقَادِيرِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَعْنِي كَوْنَهُ خَبَرًا بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَوْ عَلَى حَقِيقَتِهِ حُذِفَ مِنْهُ الْمُبْتَدَأُ أَوْ الْخَبَرُ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِطَلَبٍ لَا يُدْفَعُ فَكَيْفَ يُتَخَيَّلُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّهْيِ عَنْ التَّفْرِيقِ ، فَيَكُونُ مُحَرَّمًا .
وَالْمُحَرَّمُ لَا يَأْثَمُ الْإِنْسَانُ بِمُلَابَسَتِهِ مَعَ عَدَمِ الْقَصْدِ كَمَا هُوَ عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ عَنْ ابْنِ بَشِيرٍ وَيَبْعُدُ الِاعْتِمَادُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّتَابُعَ إذَا كَانَ وَاجِبًا كَانَ تَرْكُهُ مُحَرَّمًا فَإِنَّ كُلَّ وَاجِبٍ تَرْكُهُ مُحَرَّمٌ وَكُلَّ مُحَرَّمٍ تَرْكُهُ وَاجِبٌ فَالْوُجُوبُ مِنْ لَوَازِمِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْرِيمُ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُوبِ فِي النَّقِيضِ الْمُقَابِلِ فَاَلَّذِي يَصِحُّ فِي الْآيَةِ أَنَّ التَّتَابُعَ مِنْ بَابِ الْوَاجِبِ وَأَنَّ الْمَطْلُوبَ طَلَبًا أَكِيدًا صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَالْمُكَلَّفُ النَّاسِيَ وَالْمُجْتَهِدُ وَالْمَكْرُوهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْ فَرَّقَ وَلَمْ يَقَعْ فِعْلُهُ مُطَابِقًا لِمُقْتَضَى الطَّلَبِ فَوَجَبَ الْبَقَاءُ فِي الْعُهْدَةِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَلَبَ الصَّلَاةَ بِالنِّيَّةِ وَالطَّهَارَةِ وَالسِّتَارَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الشُّرُوطِ فَمَنْ نَسِيَ أَحَدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَوْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فِيهَا أَوْ أُكْرِهَ عَلَى عَدَمِهَا بَطَلَتْ الصَّلَاةُ ، وَكَذَلِكَ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ فِي رَمَضَانَ أَوْ نَسِيَ أَوْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَإِنَّ صَوْمَهُ يَبْطُلُ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَمَا بَالُ التَّتَابُعِ خَرَجَ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ هَذَا النَّمَطِ فِي الْكَفَّارَاتِ وَالْمَنْذُورَاتِ ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ فِي الْإِغْمَاءِ

فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْطُلَ التَّتَابُعُ كَمَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ بِالْإِغْمَاءِ ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ فِي الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُبْطِلَا التَّتَابُعَ كَمَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ بِهِمَا ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِمَا فِي الْمَرَضِ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ التَّفْرِيقَ مَتَى حَصَلَ أَيَّ طَرِيقٍ كَانَ وَجَبَ ابْتِدَاءُ الصَّوْمِ كَمَا قُلْنَا فِي جَمِيعِ النَّظَائِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ بِوَصْفِ التَّتَابُعِ لَمْ يَحْصُلْ وَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ الْمَطْلُوبُ الشَّرْعِيُّ مَعَ إمْكَانِ الْإِتْيَانِ بِهِ وَجَبَ الْإِتْيَانُ بِهِ هَذِهِ هِيَ الْقَاعِدَةُ وَحَاصِلُ الدَّفْعِ أَنَّ النَّظَائِرَ الْمَذْكُورَةَ شُرُوطٌ مِنْ قَبِيلِ خِطَابِ الْوَضْعِ الَّذِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ وَلَا قُدْرَتُهُ وَلَا إرَادَتُهُ فَهِيَ شُرُوطٌ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ فَيُؤَثِّرُ فَقْدُهَا وَالتَّتَابُعُ الْمَذْكُورُ لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ صِفَةُ الصَّوْمِ الْمُكَلَّفِ بِوُجُوبِهِ وَصِفَةُ الْمُكَلَّفِ بِوُجُوبِهِ مُكَلَّفٌ بِوُجُوبِهَا فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ وَقُدْرَتُهُ وَإِرَادَتُهُ .
وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الْمُتَعَذِّرَ مِنْهُ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ وَالْمُمْكِنَ مِنْهُ يُسْتَصْحَبُ فِيهِ التَّكْلِيفُ لِمَا تَقَدَّمَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ( مَسْأَلَةٌ ) قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا تَطَوَّعَ بِالصَّوْمِ أَوْ بِالصَّلَاةِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يَجِبُ بِالشُّرُوعِ أَيْ مِنْ النَّوَافِلِ السَّبْعِ الْمَجْمُوعَةِ فِي قَوْلِ ابْنِ كَمَالِ بَاشَا : : مِنْ النَّوَافِلِ سَبْعٌ تَلْزَمُ الشَّارِعَ أَخْذًا لِذَلِكَ مِمَّا قَالَهُ الشَّارِعُ صَوْمٌ صَلَاةٌ عُكُوفٌ حَجَّهُ الرَّابِعُ طَوَافُهُ عُمْرَةٌ إحْرَامُهُ السَّابِعُ .
وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ إحْرَامُهُ السَّابِعُ الِائْتِمَامُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَرَفَةَ السَّابِقِ : صَلَاةٌ وَصَوْمٌ ثُمَّ حَجٌّ وَعُمْرَةٌ طَوَافٌ عُكُوفٌ وَائْتِمَامٌ تَحَتُّمًا وَفِي غَيْرِ ذَا كَالْوَقْفِ وَالطُّهْرِ خَيِّرْنَ فَمَنْ شَاءَ

فَلْيَقْطَعْ وَمَنْ شَاءَ تَمَّمَا وَعَرَضَ عَارِضٌ يَقْتَضِي فَسَادَهُ نَاسِيًا أَوْ مُجْتَهِدًا لَمْ يَجِبْ قَضَاءُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَإِنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا أَوْ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ وَجَبَ الْقَضَاءُ ا هـ .
وَهَذَا وَإِنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ إشْكَالٌ كَبِيرٌ هُوَ أَنَّ قَاعِدَةَ الْوُجُوبِ بِالشُّرُوعِ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا يَجِبُ بِالشُّرُوعِ نَظِيرَ الْوَاجِبِ الْمُتَّصِلِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ فِي كَوْنِ مَا فَسَدَ مِنْ كُلٍّ يَقْضِي بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ فَإِنَّ الْوَاجِبَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حَالُهُ إلَّا أَنَّ وَجْهَهُ هُوَ أَنَّ وُجُوبَ التَّطَوُّعَاتِ عِنْدَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } حَيْثُ نَهَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ الْإِبْطَالِ ، فَيَكُونُ الْإِكْمَالُ وَاجِبًا مُكَلَّفًا بِهِ وَالتَّكْلِيفُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَلَا يَجِبُ الْإِتْمَامُ حَالَةَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ .
وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْإِتْمَامُ حَالَةَ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ فَإِذَا تَعَمَّدَ الْإِفْسَادَ وَلَمْ يَحْصُلْ الْإِتْمَامُ حَالَةَ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَجَبَ الْقَضَاءُ لِانْدِرَاجِ هَذِهِ الْحَالَةِ فِي التَّكْلِيفِ نَعَمْ لَمَّا كَانَ الْمَشْهُورُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ فَيَتْبَعُ ذَلِكَ الْأَمْرَ عَلَى حَسَبِ وُرُودِهِ ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ مَعَ الْعُذْرِ وَعَدَمِهِ فِي الْوَاجِبِ الْمُتَّصِلِ كَالصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ، فَإِنَّهُ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ مَعَ الْمَرَضِ وَهُوَ عُذْرٌ وَلَمْ يَرِدْ لَنَا فِي التَّطَوُّعَاتِ الَّتِي تَجِبُ بِالشُّرُوعِ مِثْلُ ذَلِكَ ، بَلْ إنَّمَا وَرَدَ فِيهَا الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ فِي صُورَةِ عَدَمِ الْعُذْرِ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ { اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ } وَكَانَتَا عَامِدَتَيْنِ لِإِفْسَادِ ذَلِكَ

الْيَوْمِ فِي حَالَةٍ يَثْبُتُ فِيهَا التَّكْلِيفُ عَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ أَوْجَبْنَا الْقَضَاءَ فِي الْوَاجِبِ الْمُتَّصِلِ مُطْلَقًا وَاقْتَصَرْنَا عَلَى الْقَضَاءِ بِصُورَةِ عَدَمِ الْعُذْرِ خَاصَّةً فِي التَّطَوُّعَاتِ الَّتِي تَجِبُ بِالشُّرُوعِ فَهَذَا هُوَ تَلْخِيصُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُبْطِلُ التَّتَابُعَ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُبْطِلُهُ وَشَرْطُ قَاعِدَةِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَقَاعِدَةِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ مَعَ تَنْقِيحِ كَلَامِ الْأَصْلِ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَمَا فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ وَمَا فِي الْإِقْنَاعِ وَشَرْحِهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُطَلَّقَاتِ يَقْضِي قَبْلَ عِلْمِهِنَّ بِالطَّلَاقِ وَأَمَدِ الْعِدَّةِ فَلَا يَلْزَمُهُنَّ اسْتِئْنَافهَا وَيَكْتَفِينَ بِمَا تَقَدَّمَ قَبْلَ عِلْمُهُنَّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُرْتَابَاتِ يَتَأَخَّرُ الْحَيْضُ وَلَا يُعْلَمُ لِتَأَخُّرِهِ سَبَبٌ ) فَإِنَّهُنَّ يَمْكُثْنَ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ غَالِبَ مُدَّةِ الْحَمْلِ اسْتِبْرَاءً فَإِنْ حِضْنَ فِي خِلَالِهَا احْتَسَبْنَ بِذَلِكَ الْحَيْضِ وَانْتَظَرْنَ بَقِيَّةَ الْأَقْرَاءِ إلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَلَا يَزَلْنَ كَذَلِكَ حَتَّى يَكْمُلَ لَهُنَّ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ أَوْ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ فَإِذَا انْقَضَتْ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ لَيْسَ فِي خِلَالِهَا حَيْضٌ اسْتَأْنَفْنَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ كَمَالَ السَّنَةِ فَإِنْ حِضْنَ قَبْلَ السَّنَةِ بِلَحْظَةٍ اسْتَأْنَفْنَ الْأَقْرَاءَ حَتَّى تَمْضِيَ سَنَةٌ لَا حَيْضَ فِيهَا وَوَافَقَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَنْتَظِرُ الْحَيْضَ إلَى سِنِّ الْإِيَاسِ حُجَّةُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيُّمَا امْرَأَةٍ طَلُقَتْ فَحَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ رُفِعَتْ عَنْهَا حَيْضَتُهَا فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ بَانَ بِهَا حَمْلٌ فَذَاكَ وَإِلَّا اعْتَدَّتْ بَعْدَ التِّسْعَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ؛ وَلِأَنَّهُنَّ بَعْدَ التِّسْعَةِ يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ إذْ لَوْ كَانَ لَظَهَرَ غَالِبًا فَيَنْدَرِجْنَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ } إذَا تَقَرَّرَ هَذَا بَقِيَ السُّؤَالُ الْمُحْوِجُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَقَاعِدَةِ تَقَدُّمِ الْعَدَدِ قَبْلَ الْعِلْمِ فَإِنَّهُنَّ إذَا مَضَى لَهُنَّ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ لَا حَيْضَ فِيهَا فَقَدْ مَضَى لَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ فِي خِلَالِهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَةِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أُخَرَ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَبَيْنَ الثَّلَاثَةِ تَمْضِي قَبْلَ الْعِلْمِ وَالْمَقْصُودُ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ بِمُضِيِّ ثَلَاثَةِ

أَشْهُرٍ لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا حَمْلٌ .
وَقَدْ حَصَلَتْ فَالْمَوْضِعُ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذِهِ النِّسْوَةَ وَإِنْ انْكَشَفَ الْغَيْبُ عَنْ إيَاسِهِنَّ إلَّا أَنَّ الْعِدَّةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بَعْدَ سَبَبِهَا وَإِنْ عُلِمَ حُصُولُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ قَبْلَ السَّبَبِ فَإِنَّ مَنْ غَابَ عَنْ امْرَأَةٍ عَشْرَ سِنِينَ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْعَشْرِ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا فَإِنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمُدَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ وَهِيَ الْعَشْرُ سِنِينَ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ غَيْرَ أَنَّ تِلْكَ الْمُدَّةَ وَقَعَتْ قَبْلَ السَّبَبِ وَالْوَاقِعُ قَبْلَ السَّبَبِ مِنْ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَالصَّلَاةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَالصَّوْمِ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الْإِيَاسَ سَبَبًا لِلْعِدَّةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَهُ عَلَيْهَا بِصِيغَةِ الْفَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ } فَتَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى السَّبَبِيَّةِ فِي الْإِيَاسِ مِنْ وَجْهَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى عِلِّيَّةِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ كَقَوْلِنَا اقْطَعُوا السَّارِقَ وَاجْلِدُوا الزَّانِيَ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ الْمُتَقَدِّمَةَ أَسْبَابٌ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا كَذَلِكَ هَاهُنَا يَكُونُ الْإِيَاسُ سَبَبًا لِلِاعْتِدَادِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَالْوَاقِعُ مِنْ الْأَشْهُرِ قَبْلَ كَمَالِ التِّسْعَةِ وَاقِعٌ قَبْلَ إيَاسِنَا وَإِيَاسِهِنَّ مِنْ الْحَيْضِ ، فَيَكُونُ وَاقِعًا قَبْلَ سَبَبِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ وَيَتَعَيَّنُ اسْتِئْنَافُ ثَلَاثَةٍ بَعْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ .
وَأَمَّا الْمُطَلَّقَاتُ تَمْضِي لَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَقَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ يَمْضِي لَهُنَّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ بَعْدَ الْوَفَاةِ وَقَبْلَ

عِلْمِهِنَّ بِأَنَّ تِلْكَ الْآجَالَ عِدَدٌ وَقَعَتْ بَعْدَ أَسْبَابِهَا وَهِيَ الْوَفَاةُ وَالطَّلَاقُ وَالْعِلْمُ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ لَيْسَ سَبَبًا إجْمَاعًا وَالْإِيَاسُ هُنَا سَبَبٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَحَقَّقَ كَمَا تَحَقَّقَتْ الْوَفَاةُ وَالطَّلَاقُ فَلِذَلِكَ لَمْ تَحْصُلْ الْعِدَّةُ قَبْلَهُ كَمَا لَا تَعْتَدُّ قَبْلَ الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ وَالتَّبَايُنُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُطَلَّقَاتِ يَقْضِي بِالطَّلَاقِ وَأَمَدِ الْعِدَّةِ قَبْلَ عِلْمِهِنَّ بِذَلِكَ فَيَكْتَفِينَ بِمَا تَقَدَّمَ عَلَى عِلْمِهِنَّ مِنْ أَمَدِهَا وَلَا يَلْزَمُهُنَّ اسْتِئْنَافُهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُرْتَابَاتِ يَتَأَخَّرُ الْحَيْضُ وَلَا يُعْلَمُ لِتَأْخِيرِهِ سَبَبٌ فَيَمْكُثْنَ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ غَالِبَ مُدَّةِ الْحَمْلِ اسْتِبْرَاءً ) فَإِنْ حِضْنَ فِي خِلَالِهَا احْتَسَبْنَ بِذَلِكَ الْحَيْضِ وَانْتَظَرْنَ بَقِيَّةَ الْأَقْرَاءِ إلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَلَا يَزَلْنَ كَذَلِكَ حَتَّى يَكْمُلَ لَهُنَّ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ أَوْ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ فَإِذَا انْقَضَتْ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ لَيْسَ فِي خِلَالِهَا حَيْضٌ اسْتَأْنَفْنَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ كَمَالَ السَّنَةِ فَإِنْ حِضْنَ قَبْلَ السَّنَةِ ، وَلَوْ بِلَحْظَةٍ اسْتَأْنَفْنَ الْأَقْرَاءَ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَقْرَاءُ أَوْ سَنَةً لَا حَيْضَ فِيهَا قَالَ حَفِيدٌ ابْنُ رُشْدٍ فِي بِدَايَتِهِ وَاخْتُلِفَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ مَتَى تَعْتَدُّ بِتِسْعَةِ الْأَشْهُرِ فَقِيلَ مِنْ يَوْمِ طَلُقَتْ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْمُوَطَّإِ وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ مِنْ يَوْمِ رَفْعَتِهَا حَيْضَتُهَا ا هـ بِلَفْظِهِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَنْتَظِرُ الْحَيْضَ إلَى سِنِّ الْإِيَاسِ وَقَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنْ كَانَتْ حُجَّتُهُمَا عَلَيْهِ بِأَمْرَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيُّمَا امْرَأَةٍ طَلُقَتْ فَحَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ ، ثُمَّ رُفِعَتْ عَنْهَا حَيْضَتُهَا فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ بَانَ بِهَا حَمْلٌ فَذَاكَ وَإِلَّا اعْتَدَّتْ بَعْدَ التِّسْعَةِ بِثَلَاثَةٍ أَشْهُرٍ ( وَثَانِيهِمَا ) أَنَّهُنَّ بَعْدَ التِّسْعَةِ يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ إذْ لَوْ كَانَ لَظَهَرَ غَالِبًا بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَامِلَ قَدْ تَحِيضُ فَحَيْثُ لَمْ تَحِضْ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ كَانَتْ مُدَّةُ الْحَمْلِ كَافِيَةً فِي الْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ الْمَقْصُودِ بِالْعِدَّةِ ، بَلْ هِيَ قَاطِعَةٌ

عَلَى ذَلِكَ فَيَنْدَرِجْنَ فِي { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ } إلَّا أَنَّهُ يُقَالُ عَلَيْهِ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَبَيْنَ الثَّلَاثَةِ تَمْضِي قَبْلَ الْعِلْمِ وَالْمَقْصُودُ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ بِمُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا حَمْلٌ ، وَقَدْ حَصَلَتْ فِي كِلَا الْبَابَيْنِ وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذِهِ النِّسْوَةَ الْمُرْتَابَاتِ وَإِنْ انْكَشَفَ الْغَيْبُ عَنْ إيَاسِهِنَّ ، إلَّا أَنَّ الْعِدَّةَ لَمَّا كَانَتْ لَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ بِحُصُولِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَإِلَّا لَحَصَلَتْ لِامْرَأَةِ مَنْ غَابَ عَشْرَ سِنِينَ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْعَشَرَةِ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا حَيْثُ إنَّ تِلْكَ الْمُدَّةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إجْمَاعًا ، بَلْ إنَّمَا تَحْصُلُ بِالْعِلْمِ بِحُصُولِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ بَعْدَ سَبَبِهَا لَا قَبْلَ سَبَبِهَا إذْ الْوَاقِعُ قَبْلَ السَّبَبِ مِنْ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَالصَّلَاةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَالصَّوْمِ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ فَإِذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ امْرَأَةَ مَنْ غَابَ عَشْرَ سِنِينَ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْعَشْرِ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ بَعْدَ تِلْكَ الْمُدَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ إلَّا أَنَّهَا وَقَعَتْ قَبْلَ سَبَبِ الْعِدَّةِ الَّذِي هُوَ الطَّلَاقُ كَانَ الْوَاقِعُ لِلْمُرْتَابَاتِ مِنْ الْأَشْهُرِ قَبْلَ كَمَالِ التِّسْعَةِ وَاقِعًا قَبْلَ إيَاسِنَا وَإِيَاسِهِنَّ مِنْ الْحَيْضِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الْإِيَاسَ سَبَبًا لِلْعِدَّةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ } يَدُلُّ عَلَى السَّبَبِيَّةِ فِي الْإِيَاسِ مِنْ وَجْهَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَهُ عَلَى عِدَّةِ ثَلَاثَةِ الْأَشْهُرِ بِفَاءِ الْجَزَاءِ ( وَثَانِيهِمَا ) أَنَّ الْمَوْصُولَ مَعَ صِلَتِهِ فِي قُوَّةِ الْمُشْتَقِّ ، وَقَدْ تَرَتَّبَ

عَلَيْهِ حُكْمُ عِدَّةِ ثَلَاثَةِ الْأَشْهُرِ ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى الْمُشْتَقِّ عَلَيْهِ مَأْمِنَةٌ يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ الْمَصْدَرُ لِذَلِكَ الْحُكْمِ فَنَحْوُ اقْطَعُوا السَّارِقَ وَاجْلِدُوا الزَّانِيَ يَدُلُّ عَلَى عِلِّيَّةِ السَّرِقَةِ لِلْقَطْعِ وَالزِّنَا لِلْجَلْدِ فَكَذَلِكَ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عِلِّيَّةِ الْإِيَاسِ لِعِدَّةِ ثَلَاثَةِ الْأَشْهُرِ ، فَيَكُونُ الْوَاقِعُ مِنْ الْأَشْهُرِ قَبْلَ كَمَالِ التِّسْعَةِ لِلْمُرْتَابَاتِ وَإِنْ كَانَ دَالًّا عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي عِدَّةِ ثَلَاثَةِ الْأَشْهُرِ لِوُقُوعِهِ قَبْلَ سَبَبِهَا فَيَتَعَيَّنُ اسْتِئْنَافُ ثَلَاثَةٍ بَعْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ الْإِيَاسُ .
وَأَمَّا الْمُطَلَّقَاتُ تَمْضِي لَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَقَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ يَمْضِي لَهُنَّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ بَعْدَ الْوَفَاةِ وَقَبْلَ عِلْمِهِنَّ بِهَا فَإِنَّهُنَّ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْنَ بِأَنَّ تِلْكَ الْآجَالَ عِدَدٌ وَقَعَتْ بَعْدَ أَسْبَابِهَا الَّتِي هِيَ الْوَفَاةُ وَالطَّلَاقُ إلَّا إنَّهُنَّ يَعْتَدِدْنَ بِتِلْكَ الْآجَالِ فِي عِدَدِهِنَّ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِسَبَبٍ إجْمَاعًا ، وَالسَّبَبُ إنَّمَا هُوَ الْوَفَاةُ وَالطَّلَاقُ ، وَقَدْ وَقَعَتْ تِلْكَ الْآجَالُ بَعْدَهُ فَظَهَرَ سِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ وَالتَّبَايُنُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ عَلَى مَذْهَبَيْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ فَقَالَ حَفِيدُ ابْنُ رُشْدٍ فِي بِدَايَتِهِ إنَّهُمْ صَارُوا إلَى ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ } وَاَلَّتِي هِيَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْحَيْضِ لَيْسَتْ بِيَائِسَةٍ .
وَهَذَا الرَّأْيُ فِيهِ عُسْرٌ وَحَرَجٌ ، وَلَوْ قِيلَ إنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ لَكَانَ جَيِّدًا إذَا فُهِمَ مِنْ الْيَائِسَةِ الَّتِي لَا يُقْطَعُ بِانْقِطَاعِ حَيْضَتِهَا وَكَانَ قَوْلُهُ إنْ ارْتَبْتُمْ رَاجِعًا إلَى

الْحُكْمِ لَا إلَى الْحَيْضِ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ مَالِكٌ عَلَيْهِ فَكَأَنَّ مَالِكًا لَمْ يُطَابِقْ مَذْهَبُهُ تَأْوِيلَهُ الْآيَةَ فَإِنَّهُ فَهِمَ مِنْ الْيَائِسَةِ هُنَا مَنْ انْقَطَعَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْحَيْضِ ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ قِبَلِ السِّنِّ وَلِذَلِكَ جَعَلَ قَوْله تَعَالَى { إنْ ارْتَبْتُمْ } رَاجِعًا إلَى الْحُكْمِ لَا إلَى الْحَيْضِ أَيْ إنْ شَكَكْتُمْ فِي حُكْمِهِنَّ ، ثُمَّ قَالَ فِي الَّتِي تَبْقَى تِسْعَةً لَا تَحِيضُ وَهِيَ فِي سِنِّ مَنْ تَحِيضُ إنَّهَا تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ ، وَأَمَّا إسْمَاعِيلُ وَابْنُ بُكَيْر مِنْ أَصْحَابِهِ أَيْ مَالِكٍ فَذَهَبُوا إلَى أَنَّ الرِّيبَةَ هَا هُنَا فِي الْحَيْضِ وَأَنَّ الْيَائِسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ مَا لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِمَا يَئِسَ مِنْهُ بِالْقَطْعِ فَطَابَقُوا بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَذْهَبَهُمْ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَنِعْمَ مَا فَعَلُوا ؛ لِأَنَّهُ فَهِمَ هَا هُنَا مِنْ الْيَائِسِ الْقَطْعَ فَقَدْ يَجِبُ أَنْ تَنْتَظِرَ الدَّمَ وَتَعْتَدَّ بِهِ حَتَّى تَكُونَ فِي هَذَا السِّنِّ أَعْنِي سِنَّ الْيَائِسِ وَإِنْ فُهِمَ مِنْ الْيَائِسِ مَا لَا يَقْطَعُ بِذَلِكَ فَقَدْ يَجِبُ أَنْ تَعْتَدَّ الَّتِي قُطِعَ دَمُهَا عَنْ الْعَادَةِ وَهِيَ فِي سِنِّ مَنْ تَحِيضُ بِالْأَشْهُرِ وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَهْلِ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ الْيَائِسَةَ فِي الطَّرَفَيْنِ لَيْسَتْ هِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِدَّةِ لَا بِالْأَقْرَاءِ وَلَا بِالشُّهُورِ ، وَأَمَّا الْفَرْقُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا قَبْلَ التِّسْعَةِ وَمَا بَعْدَهَا فَاسْتِحْسَانٌ ا هـ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31