كتاب : أنوار البروق في أنواع الفروق
المؤلف : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي

لِلسَّبَبِ ، وَأَنَّ مَانِعَ الْحُكْمِ مَا أَخَلَّ بِالْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ حِكْمَةِ السَّبَبِ فَيَكُونُ عَدَمُهُ كَعَدَمِ الْحَيْضِ شَرْطًا لِتَأْثِيرِ السَّبَبِ فِي الْحُكْمِ إمَّا بِمُجَرَّدِ التَّرَتُّبِ عَلَيْهِ كَمَا فِي الزَّوَالِ لِوُجُوبِ الظُّهْرِ ، أَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ كَمَا فِي الزِّنَا لِوُجُوبِ الْجَلْدِ وَالْإِسْكَارِ لِحُرْمَةِ الْخَمْرِ لَا شَرْطًا لِوُجُودِ الْحُكْمِ حَتَّى يُنَافِي كَوْنَ تَحَقُّقِ الْمَانِعِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الشُّرُوطِ ، وَمَانِعُ السَّبَبِ مَا اسْتَلْزَمَ حِكْمَةً تُخِلُّ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ مَعَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ ، وَإِنَّهُ لَا يُقَالُ مَانِعٌ إلَّا بَعْدَ تَحَقُّقِ الْحُكْمِ أَوْ السَّبَبِ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ وُجُودِيًّا لِمَا عَرَفْت ، وَشَرْطُ الْحُكْمِ مَا يَقْتَضِي عَدَمُهُ نَقِيضَ حُكْمِ السَّبَبِ مَعَ بَقَاءِ حِكْمَةِ السَّبَبِ مَا أَخَلَّ عَدَمُهُ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ فَيَنْتَفِي السَّبَبُ بِعَدَمِ حِكْمَتِهِ فَتَأَمَّلْ بِدِقَّةِ إمْعَانٍ ا هـ بِتَوْضِيحٍ مِنْ الشِّرْبِينِيِّ وَالْعَطَّارِ عَلَى مُحَلَّيْ جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْبِقَاعِ جُعِلَتْ الْمَظَانُّ مِنْهَا مُعْتَبَرَةً فِي أَدَاءِ الْجُمُعَاتِ وَقَصْرِ الصَّلَوَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَزْمَانِ لَمْ تُجْعَلْ الْمَظَانُّ مِنْهَا مُعْتَبَرَةً فِي رُؤْيَةِ الْأَهِلَّةِ وَلَا دُخُولِ أَوْقَاتِ الْعِبَادَاتِ وَتَرْتِيبِ أَحْكَامِهَا ) .
اعْلَمْ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْحُكْمِ إنْ أَمْكَنَ انْضِبَاطُهُ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ كَتَعْلِيلِ التَّحْرِيمِ فِي الْخَمْرِ بِالسُّكْرِ وَالرِّبَا بِالْقُوتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْأَحْكَامِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ أُقِيمَتْ مَظِنَّتُهُ مَقَامَهُ وَعَدَمُ الِانْضِبَاطِ إمَّا لِاخْتِلَافِ مَقَادِيرِهِ فِي رُتَبِهِ كَالْمَشَقَّةِ لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِلْقَصْرِ وَهِيَ غَيْرُ مُنْضَبِطَةِ الْمَقَادِيرِ فَلَيْسَ مَشَاقُّ النَّاسِ سَوَاءً فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ يُدْرَكُ ظَاهِرًا وَقَدْ يُدْرَكُ خَفِيًّا .
وَمِثْلُ هَذَا يَعْسُرُ ضَبْطُهُ فِي مَحَالِّهِ حَتَّى تُضَافَ إلَيْهِ الْأَحْكَامُ فَأُقِيمَتْ مَظِنَّتُهُ مَقَامَهُ ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ فَإِنَّهَا تُظَنُّ عِنْدَهَا الْمَشَقَّةُ وَكَالْإِنْزَالِ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ فِي النَّاسِ بِسَبَبِ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُنْزِلُ إلَّا بِالدَّفْقِ وَالْإِحْسَاسِ بِاللَّذَّةِ الْكُبْرَى ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْزِلُ تَقْطِيرًا مِنْ غَيْرِ انْدِفَاقٍ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ثُمَّ يَنْدَفِقُ بَعْدَ ذَلِكَ كَثِيرًا ، وَلِذَلِكَ يَحْصُلُ الْوَلَدُ مَعَ الْعَزْلِ ، وَالْإِنْسَانُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَا أَنْزَلَ وَهُوَ قَدْ أَنْزَلَ عَلَى سَبِيلِ السَّيَلَانِ مِنْ غَيْرِ دَفْقٍ فَيَحْصُلُ الْوَلَدُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ ، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْزَالُ مُخْتَلِفًا فِي النَّاسِ أُقِيمَتْ مَظِنَّتُهُ مَقَامَهُ وَهُوَ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ فَإِنْ قُلْت مُجَرَّدُ الِالْتِقَاءِ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِنْزَالُ فَكَيْفَ جُعِلَ مَظِنَّةَ الْإِنْزَالِ ، وَهُوَ لَا يُظَنُّ عِنْدَهُ وَمِنْ شَرْطِ الْمَظِنَّةِ أَنْ يُظَنَّ عِنْدَهَا

الْوَصْفُ الْمَطْلُوبُ لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ .
قُلْت : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يُظَنُّ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُنْزِلُ بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْزِلُ بِالْفِكْرِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْزِلُ بِالنَّظَرِ فَقَطْ فَالْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ فَجُعِلَ مَظِنَّةً وَمِنْ ذَلِكَ الْعَقْلُ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ يَخْتَلِفُ فِي النَّاسِ بِسَبَبِ اعْتِدَالِ الْمِزَاجِ وَانْحِرَافِهِ فَرُبَّ صَبِيٍّ لِاعْتِدَالِ مِزَاجِهِ أَعْقَلُ مِنْ رَجُلٍ بَالِغٍ لِانْحِرَافِ مِزَاجِهِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ فِي الرِّجَالِ وَالصِّبْيَانِ جِدًّا فَجُعِلَ الْبُلُوغُ مَظِنَّتَهُ ؛ لِأَنَّ الْبُلُوغَ مُنْضَبِطٌ وَهُوَ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ هَذَا فِيمَا لَا يَنْضَبِطُ لِاخْتِلَافِ رُتَبِهِ فِي مَقَادِيرِهِ .
أَمَّا مَا يَنْضَبِطُ فِي مَقَادِيرِهِ لَكِنَّهُ خَفِيٌّ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ فَذَلِكَ كَالرِّضَا فِي انْتِقَالِ الْأَمْلَاكِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ } وَالرِّضَا أَمْرٌ خَفِيٌّ فَجُعِلَتْ الصِّيَغُ وَالْأَفْعَالُ فِي بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ قَائِمَةً مَقَامَهُ ؛ لِأَنَّهُ يُظَنُّ عِنْدَهَا وَأُلْغِيَ الرِّضَا إذَا انْفَرَدَ حَتَّى لَوْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ رَضِيَ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ صَدَرَ مِنْهُ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ لَمْ يَلْزَمْهُ انْتِقَالُ الْمِلْكِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَصَلَتْ مَشَقَّةُ السَّفَرِ بِدُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ لَمْ تُرَتَّبْ عَلَيْهَا رُخَصُ الْمَشَقَّةِ مِنْ الْقَصْرِ وَالْإِفْطَارِ ، فَإِذَا أَقَامَ الشَّرْعُ مَظِنَّةَ الْوَصْفِ مَقَامَهُ أَعْرَضَ عَنْ اعْتِبَارِهِ فِي نَفْسِهِ نَعَمْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَوَقَّعًا مَعَ الْمَظِنَّةِ فَلَوْ قَطَعْنَا بِعَدَمِهِ عِنْدَ الْمَظِنَّةِ فَالْقَاعِدَةُ أَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمَظِنَّةِ حُكْمٌ كَمَا لَوْ قَطَعْنَا بِعَدَمِ الرِّضَا مَعَ الْإِكْرَاهِ عَلَى صُدُورِ الصِّيغَةِ أَوْ الْفِعْلِ غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ أَنَّهُ الْأَصْلُ خُولِفَ فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ فَإِنَّا لَوْ قَطَعْنَا بِعَدَمِ الْإِنْزَالِ وَجَبَ

الْغُسْلُ ، وَخُولِفَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِمْ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ إنَّهُ إذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى فَيَكُونُ عَلَيْهِ حَدُّ الْمُفْتَرِي فَأُقِيمَ الشُّرْبُ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الْقَذْفِ مَقَامَهُ ، وَنَحْنُ مَعَ ذَلِكَ نُقِيمُ الْحَدَّ فِي الشُّرْبِ عَلَى مَنْ نَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ .
وَكَانَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَشْكِلُ الْأَثَرَ الْوَارِدَ فِي الشُّرْبِ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ ، وَيَقُولُ كَيْفَ تُقَامُ الْمَظِنَّةُ مَقَامَ الْقَذْفِ وَنَحْنُ نَقْطَعُ بِعَدَمِ الْقَذْفِ فِي حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الْأَثَرِ بِمَا شَهِدَ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ فَإِنَّهُ وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ .
وَهَذَا قَدْ نَقْطَعُ فِيهِ بِعَدَمِ الْمَظْنُونِ عِنْدَ وُجُودِ مَظِنَّتِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَإِنْ قُلْت : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَظِنَّةِ وَالْحِكْمَةِ الَّتِي اُخْتُلِفَ فِي التَّعْلِيلِ بِهَا وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ الْوَصْفِ وَالْمَظِنَّةِ وَالْحِكْمَةِ ؟ قُلْت : الْحِكْمَةُ هِيَ الَّتِي تُوجِبُ كَوْنَ الْوَصْفِ عِلَّةً مُعْتَبَرَةً فِي الْحُكْمِ فَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ مُعْتَبَرًا فِي الْحُكْمِ إنْ كَانَ مُنْضَبِطًا اُعْتُمِدَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَظِنَّةٍ تُقَامُ مَقَامَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْضَبِطًا أُقِيمَتْ مَظِنَّتُهُ مَقَامَهُ فَالْحِكْمَةُ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى ، وَالْوَصْفُ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ وَالْمَظِنَّةُ فِي الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ وَمِثَالُ الثَّلَاثَةِ فِي الْمَبِيعِ أَنَّ حَاجَةَ الْمُكَلَّفِ إلَى مَا فِي يَدِهِ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ الْمُثَمَّنِ هُوَ الْمَصْلَحَةُ الْمُوجِبَةُ لِاعْتِبَارِ الرِّضَا ، وَهِيَ الْمُصَيِّرَةُ لَهُ سَبَبًا لِلِانْتِقَالِ وَمَظِنَّةَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَالْحَاجَةُ هِيَ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُوجِبَةُ لِاعْتِبَارِ الرِّضَا فَاعْتِبَارُ الرِّضَا فَرْعُهَا .
وَاعْتِبَارُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَرْعُ اعْتِبَارِ الرِّضَا وَمِثَالُ الثَّلَاثَةِ أَيْضًا فِي السَّفَرِ أَنَّ مَصْلَحَةَ

الْمُكَلَّفِ فِي رَاحَتِهِ ، وَصَلَاحُ جِسْمِهِ يُوجِبُ أَنَّ الْمَشَقَّةَ إذَا عَرَضَتْ تُوجِبُ عَنْهُ تَخْفِيفَ الْعِبَادَةِ لِئَلَّا تَعْظُمَ الْمَشَقَّةُ فَتَضِيعَ مَصَالِحُهُ بِإِضْعَافِ جِسْمِهِ وَإِهْلَاكِ قُوَّتِهِ فَحِفْظُ صِحَّةِ الْجِسْمِ وَتَوْفِيرُ قُوَّتِهِ هُوَ الْمَصْلَحَةُ وَالْحِكْمَةُ الْمُوجِبَةُ لِاعْتِبَارِ وَصْفِ الْمَشَقَّةِ بِسَبَبِ التَّرَخُّصِ ، فَالْمَشَقَّةُ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ فَرْعُ الْمُؤَثِّرِ وَالْمَظِنَّةُ الْمَشَقَّةُ وَاعْتِبَارُهَا فَرْعُ اعْتِبَارِ الْمَشَقَّةِ فَهِيَ فِي الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ ، وَمِثَالُ الْحِكْمَةِ وَالْوَصْفِ مِنْ غَيْرِ مَظِنَّةٍ فِيمَا هُوَ مُنْضَبِطٌ الرَّضَاعُ وَصْفٌ مُوجِبٌ لِلتَّحْرِيمِ وَحِكْمَتُهُ أَنَّهُ يُصَيِّرُ جُزْءَ الْمَرْأَةِ الَّذِي هُوَ اللَّبَنُ جُزْءَ الصَّبِيِّ الرَّضَاعُ فَنَاسَبَ التَّحْرِيمُ بِذَلِكَ لِمُشَابِهَتِهِ لِلنَّسَبِ ؛ لِأَنَّ مَنِيَّهَا وَطَمْثَهَا جُزْءُ الصَّبِيِّ فَلَمَّا كَانَ الرَّضَاعُ كَذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الرَّضَاعُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ } فَالْجُزْئِيَّةُ هِيَ الْحِكْمَةُ وَهِيَ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى وَالرَّضَاعُ الَّذِي هُوَ الْوَصْفُ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ ، وَوَصْفُ الزِّنَا مُوجِبٌ لِلْحَدِّ وَحِكْمَتُهُ الْمُوجِبَةُ لِكَوْنِهِ كَذَلِكَ اخْتِلَاطُ الْأَنْسَابِ فَاخْتِلَاطُ الْأَنْسَابِ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى وَهِيَ الْحِكْمَةُ وَوَصْفُ الزِّنَا فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ ، وَكَذَلِكَ ضَيَاعُ الْمَالِ هُوَ الْمُوجِبُ لِكَوْنِ وَصْفِ السَّرِقَةِ سَبَبَ الْقَطْعِ فَضَيَاعُ الْمَالِ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى ، وَوَصْفُ السَّرِقَةِ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ ، وَلَمَّا كَانَ وَصْفُ الرَّضَاعِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ مُنْضَبِطًا لَمْ يُحْتَجْ إلَى مَظِنَّةٍ تَقُومُ مَقَامَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فَلَمْ يُحْتَجْ لِلْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ ، وَيَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ أَنْ يَلْزَمَ أَنَّهُ لَوْ أَكَلَ صَبِيٌّ مِنْ لَحْمِ امْرَأَةٍ قِطْعَةً أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ جُزْأَهَا صَارَ جُزْأَهُ .
وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ وَلَوْ وُجِدَ إنْسَانٌ

يَأْخُذُ الصِّبْيَانَ مِنْ أُمَّهَاتِهِمْ صِغَارًا وَيَأْتِي بِهِمْ كِبَارًا بِحَيْثُ لَا يُعْرَفُونَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَا بِسَبَبِ أَنَّهُ أَوْجَبَ اخْتِلَاطَ الْأَنْسَابِ ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ وَأَنَّ مَنْ ضَيَّعَ الْمَالَ بِالْغَصْبِ وَالْعُدْوَانِ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي خَالَفَ الْجُمْهُورُ بِالتَّعْلِيلِ بِالْمَظِنَّةِ ، فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَظِنَّةِ وَالْوَصْفِ وَالْحِكْمَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَبَيْنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَظِنَّةِ فَرْقٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحِكْمَةَ إذَا قَطَعْنَا بِعَدَمِهَا لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي تَرَتُّبِ الْحُكْمِ كَمَا إذَا قَطَعْنَا بِعَدَمِ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ مِنْ الزِّنَا بِأَنْ تَحِيضَ الْمَرْأَةُ ، وَيَظْهَرَ عَدَمُ حَمْلِهَا وَمَعَ ذَلِكَ نُقِيمُ الْحَدَّ وَنَأْخُذُ الْمَالَ الْمَسْرُوقَ مِنْ السَّارِقِ ، وَنَجْزِمُ بِعَدَمِ ضَيَاعِ الْمَالِ ، وَمَعَ ذَلِكَ نُقِيمُ حَدَّ السَّرِقَةِ .
وَأَمَّا الْمَظِنَّةُ فِيهَا بِعَدَمِ الْمَظْنُونِ فَالْغَالِبُ فِي فِي مَوَارِدِ الشَّرِيعَةِ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْمَظِنَّةِ ، وَذَلِكَ فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ أَوْ الْعُقُودِ النَّاقِلَةِ لِلْأَمْلَاكِ أَوْ الْمُوجِبَةِ لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ تِلْكَ الْمَظَانَّ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا بِالْإِكْرَاهِ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ عَدَمُ الْإِكْرَاهِ فَهَذَا فَرْقٌ آخَرُ بَيْنَ الْمَظِنَّةِ وَالْحِكْمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَطْعَ بِعَدَمِ الْحِكْمَةِ لَا يَقْدَحُ ، وَالْقَطْعَ بِعَدَمِ مَظْنُونِ الْمَظِنَّةِ يَقْدَحُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَفَطَّنَ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَهَذِهِ التَّفَاصِيلِ فَهِيَ وَإِنْ انْبَنَى عَلَيْهَا بَيَانُ هَذَا الْفَرْقِ فَهِيَ يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْفُقَهَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ كَثِيرًا فِي مَوَارِدِ الْفِقْهِ وَالتَّرْجِيحِ وَالتَّعْلِيلِ إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ .
فَنَقُولُ إنَّمَا اُعْتُبِرَتْ الْبِقَاعُ فِي الْجُمُعَاتِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ فِي الْإِتْيَانِ

إلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ أَذَانِهَا وَسَمَاعِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَسَافَةِ إذَا هَدَأَتْ الْأَصْوَاتُ وَانْتَفَتْ الْمَوَانِعُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ } فَجَعَلَ مَظِنَّةَ السَّمَاعِ مَقَامَ السَّمَاعِ ، وَلِذَلِكَ جُعِلَتْ الْبِقَاعُ الَّتِي فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ مُعْتَبَرَةً فِي قَصْرِ الصَّلَوَاتِ ؛ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّرْخِيصِ .
وَأَمَّا أَهِلَّةُ شُهُورِ الْعِبَادَاتِ كَرَمَضَانَ وَشَوَّالٍ وَذِي الْحِجَّةِ وَنَحْوِهَا فَلَا حَاجَةَ فِيهَا إلَى مَظِنَّةٍ مِنْ جِهَةِ الزَّمَانِ بِسَبَبِ أَنَّ الْقَطْعَ بِحُصُولِهَا مَوْجُودٌ مِنْ جِهَةِ الرُّؤْيَةِ أَوْ إكْمَالِ الْعِدَّةِ ، فَيَحْصُلُ الْقَطْعُ بِالْمَعْنَى الْمَقْصُودِ فَلَا حَاجَةَ إلَى مَظِنَّةٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الزَّمَانَ يَقُومُ مَقَامَهُ فَإِنَّ الْمَظِنَّةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ عَدَمِ الِانْضِبَاطِ ، أَمَّا مَعَهُ فَلَا فَإِذَا ظَنَنَّا أَنَّ الْهِلَالَ يَطْلُعُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ بِسَبَبِ قَرَائِنَ تَقَدَّمَتْ إمَّا مِنْ تَوَالِي تَمَامِ الشُّهُورِ فَنَظُنُّ نَقْصَ هَذَا الشَّهْرِ أَوْ مِنْ جِهَةِ تَوَالِي النَّقْصِ فَنَظُنُّ تَمَامَ هَذَا الشَّهْرِ أَوْ مِنْ جِهَةِ طُلُوعِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَنَظُنُّ تَمَامَ هَذَا الشَّهْرِ أَوْ مِنْ جِهَةِ تَأَخُّرِهِ فِي الطُّلُوعِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَنَظُنُّ نُقْصَانَ هَذَا الشَّهْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْمَوَاقِيتِ عَلَى رُؤْيَةِ الْأَهِلَّةِ ، وَيُوجِبُ أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ هِيَ مَظِنَّةُ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَإِنَّا لَا نَعْتَبِرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا نُقِيمُ الْمَظِنَّةَ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ ؛ لِأَنَّ لَنَا طَرِيقًا لِلْوُصُولِ إلَى الْوَصْفِ الْمَطْلُوبِ إمَّا بِالرُّؤْيَةِ أَوْ بِكَمَالِ الْعِدَّةِ ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّهُ لَا يُعْدَلُ إلَى الْمَظِنَّةِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ انْضِبَاطِ الْوَصْفِ دَائِمًا أَوْ فِي الْأَغْلَبِ ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَلِذَلِكَ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْمَظَانِّ مِنْ الْأَزْمِنَةِ ، وَكَذَلِكَ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ لَمَّا

كَانَتْ مُنْضَبِطَةً فِي نَفْسِهَا لِحُصُولِ الْقَطْعِ بِهَا فِي أَكْثَرِ صُوَرِهَا لَمْ تَقُمْ مَظَانُّهَا فِي الصُّوَرِ مَقَامَهَا ، وَبِهَذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْبِقَاعِ أُقِيمَتْ مَظَانُّهَا مَقَامَهَا وَبَيْنَ الْأَزْمِنَةِ لَمْ يَقُمْ مَظَانُّهَا فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ ، وَسِرُّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهَا قَبْلُ .

الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْبِقَاعِ جُعِلَتْ الْمَظَانُّ مِنْهَا مُعْتَبَرَةً فِي أَدَاءِ الْجُمُعَاتِ وَقَصْرِ الصَّلَوَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَزْمَانِ لَمْ تُجْعَلْ الْمَظَانُّ مِنْهَا مُعْتَبَرَةً فِي رُؤْيَةِ الْأَهِلَّةِ وَلَا دُخُولِ أَوْقَاتِ الْعِبَادَاتِ وَتَرْتِيبِ أَحْكَامِهَا ) ، وَذَلِكَ أَنَّ شُهُورَ الْعِبَادَاتِ كَرَمَضَانَ وَشَوَّالٍ وَذِي الْحِجَّةِ وَنَحْوِهَا لَمَّا وُجِدَ الْقَطْعُ بِحُصُولِهَا وَحُصُولِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْهَا شَرْعًا مِنْ جِهَةِ الرُّؤْيَةِ لِأَهْلِهَا وَكَمَالِ الْعِدَّةِ كَانَتْ وَصْفًا ظَاهِرًا مُنْضَبِطًا دَائِمًا ، أَوْ فِي الْأَغْلَبِ غَيْرَ مُحْتَاجٍ فِي تَعْرِيفِهِ لِلْحُكْمِ إلَى اعْتِبَارِ مَظِنَّتِهِ مَعَهُ كَظَنِّنَا أَنَّ الْهِلَالَ يَطْلُعُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ بِسَبَبِ قَرَائِنَ تَقَدَّمَتْ إمَّا مِنْ جِهَةِ تَوَالِي تَمَامِ الشَّهْرِ فَنَظُنُّ نَقْصَ هَذَا الشَّهْرِ ، أَوْ مِنْ جِهَةِ تَوَالِي النَّقْصِ فَنَظُنُّ تَمَامَ هَذَا الشَّهْرِ أَوْ مِنْ جِهَةِ طُلُوعِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَنَظُنُّ تَمَامَ هَذَا الشَّهْرِ أَوْ مِنْ جِهَةِ تَأَخُّرِهِ فِي الطُّلُوعِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَنَظُنُّ نُقْصَانَ هَذَا الشَّهْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْمَوَاقِيتِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ هِيَ مَظِنَّةُ رُؤْيَةِ الْأَهِلَّةِ ، إذْ مَعَ تَيَسُّرِ الْوُصُولِ إلَى الْوَصْفِ الْمَطْلُوبِ إمَّا بِالرُّؤْيَةِ أَوْ بِكَمَالِ الْعِدَّةِ لَا نَعْتَبِرُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْمَظَانِّ ، وَكَذَلِكَ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ لَمَّا كَانَتْ مُنْضَبِطَةً فِي نَفْسِهَا لِحُصُولِ الْقَطْعِ بِهَا فِي أَكْثَرِ صُوَرِهَا لَمْ تَقُمْ مَظَانُّهَا فِي الصُّوَرِ مَقَامَهَا .
وَأَمَّا سَمَاعُ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ الْمُوجِبَةِ لِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ } وَمَشَقَّةُ السَّفَرِ الْمُوجِبَةُ لِتَرْخِيصِ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَصْفًا غَيْرَ مُنْضَبِطٍ أُنِيطَ الْحُكْمُ بِمَظِنَّتِهِ فَاعْتُبِرَتْ فِي

الْجُمُعَاتِ الْبِقَاعُ ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ فِي الْإِتْيَانِ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تِلْكَ الْمَسَافَةِ يَظُنُّ سَمَاعَ أَذَانِهَا إذَا هَدَأَتْ الْأَصْوَاتُ وَانْتَفَتْ الْمَوَانِعُ ، وَاعْتُبِرَتْ فِي تَرْخِيصِ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ الْبِقَاعُ الَّتِي عَلَى أَرْبَعَةِ بُرُدٍ ؛ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّرْخِيصِ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالسَّمَاعُ لِعَدَمِ انْضِبَاطِهِ جُعِلَتْ مَظِنَّتُهُ مِنْ الْبِقَاعِ مَقَامَهُ وَالْمَشَقَّةُ لِعَدَمِ انْضِبَاطِهَا جُعِلَتْ مَظِنَّتُهَا مِنْ الْبِقَاعِ مَقَامَهَا ، وَأَوْقَاتُ الْعِبَادَاتِ لَمَّا كَانَتْ مُنْضَبِطَةً لَمْ تُجْعَلْ مَظَانُّهَا مَقَامَهَا ، فَالْبِقَاعُ اُعْتُبِرَتْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا سَبَبٌ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ ، وَالْأَوْقَاتُ اُعْتُبِرَتْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا سَبَبٌ مُنْضَبِطٌ فَلَمْ تُعْتَبَرْ مَظَانُّهَا فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ الْبِقَاعِ وَالْأَزْمَانِ ( وَصْلٌ ) مَبْنَى هَذَا الْفَرْقِ وَسِرُّهُ قَاعِدَةُ أَنَّ الْوَصْفَ الْمُعَرِّفَ لِلْحُكْمِ إنْ كَانَ وَصْفًا ظَاهِرًا مُنْضَبِطًا لَمْ يُعْدَلْ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ كَالسُّكْرِ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْقُوتِ فِي الرِّبَا ، وَإِنْ كَانَ وَصْفًا خَفِيًّا أَوْ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ أُقِيمَتْ مَظِنَّتُهُ مَقَامَهُ ، أَمَّا الْخَفِيُّ الَّذِي لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ فَكَالرِّضَا فِي انْتِقَالِ الْأَمْلَاكِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ } فَإِنَّ الرِّضَا لَمَّا كَانَ أَمْرًا خَفِيًّا جُعِلَتْ الصِّيَغُ وَالْأَفْعَالُ فِي بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ قَائِمَةً مَقَامَهُ ؛ لِأَنَّهُ يُظَنُّ عِنْدَهَا وَأُلْغِيَ الرِّضَا إذَا انْفَرَدَ عَنْهَا حَتَّى لَوْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ رَضِيَ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ صَدَرَ مِنْهُ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ لَمْ يَلْزَمْهُ انْتِقَالُ الْمِلْكِ .
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُنْضَبِطِ لِاخْتِلَافِ مَقَادِيرِهِ فِي رُتَبِهِ فَكَمَشَقَّةِ السَّفَرِ فِي تَرْخِيصِ الْقَصْرِ وَالْإِفْطَارِ فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِذَلِكَ التَّرْخِيصِ ، وَهِيَ غَيْرُ مُنْضَبِطَةِ

الْمَقَادِيرِ إذْ لَيْسَ مَشَاقُّ النَّاسِ سَوَاءً فِي ذَلِكَ أُقِيمَتْ مَظِنَّتُهُ مَقَامَهُ وَهِيَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ فَإِنَّ الْمَشَقَّةَ تُظَنُّ عِنْدَهَا وَكَالْإِنْزَالِ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ وَحُصُولِ نِسْبَةِ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ فِي النَّاسِ بِسَبَبِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يُنْزِلُ إلَّا بِالدَّفْقِ وَالْإِحْسَاسِ بِاللَّذَّةِ الْكُبْرَى ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْزِلُ تَقْطِيرًا عَلَى سَبِيلِ السَّيَلَانِ مِنْ غَيْرِ انْدِفَاقٍ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ، ثُمَّ يَنْدَفِقُ بَعْدَ ذَلِكَ كَثِيرًا ، وَلِذَلِكَ يَحْصُلُ الْوَلَدُ مَعَ الْعَزْلِ ، وَالْإِنْسَانُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَا أَنْزَلَ أُقِيمَتْ مَظِنَّتُهُ مَقَامَهُ وَهِيَ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُنْزِلُ بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْزِلُ بِالْفِكْرِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْزِلُ بِالنَّظَرِ فَقَطْ ، وَكَانَ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ جُعِلَ مَظِنَّةً وَكَالْعَقْلِ فِي التَّكْلِيفِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ بِسَبَبِ اخْتِلَافِهِ فِي الرِّجَالِ وَالصِّبْيَانِ جِدًّا بِحَسَبِ اعْتِدَالِ الْمِزَاجِ وَانْحِرَافِهِ فَرُبَّ صَبِيٍّ لِاعْتِدَالِ مِزَاجِهِ أَعْقَلُ مِنْ رَجُلٍ بَالِغٍ لِانْحِرَافِ مِزَاجِهِ جُعِلَ الْبُلُوغُ مَقَامَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّتُهُ وَهُوَ مُنْضَبِطٌ ، إذَا أَقَامَ الشَّرْعُ مَظِنَّةَ الْوَصْفِ مَقَامَهُ أُعْرِضَ عَنْ اعْتِبَارِهِ فِي نَفْسِهِ نَعَمْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَوَقَّعًا مَعَ الْمَظِنَّةِ فَلَوْ قَطَعْنَا بِعَدَمِهِ عِنْدَ الْمَظِنَّةِ .
فَالْقَاعِدَةُ أَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمَظِنَّةِ حُكْمٌ كَمَا لَوْ قَطَعْنَا بِعَدَمِ الرِّضَا مَعَ الْإِكْرَاهِ عَلَى صُدُورِ الصِّيغَةِ أَوْ الْفِعْلِ غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَصْلُ قَدْ خُولِفَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ فَإِنَّا لَوْ قَطَعْنَا بِعَدَمِ الْإِنْزَالِ وَجَبَ الْغُسْلُ ، وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ إنَّهُ إذَا شَرِبَ سَكِرَ ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى فَيَكُونُ عَلَيْهِ حَدُّ الْمُفْتَرِي فَأُقِيمَ الشُّرْبُ

الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الْقَذْفِ مَقَامَهُ ، وَنَحْنُ مَعَ ذَلِكَ نُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى مَنْ نَقْطَعُ أَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ حَتَّى إنَّ الشَّيْخَ عِزَّ الدِّينِ بْنَ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ يَقُولُ كَيْفَ تُقَامُ الْمَظِنَّةُ مَقَامَ الْقَذْفِ وَنَحْنُ نَقْطَعُ بِعَدَمِ الْقَذْفِ فِي بَعْضِ النَّاسِ ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الْأَثَرِ بِمَا شَهِدَ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ فَإِنَّهُ وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ مَعَ أَنَّا قَدْ نَقْطَعُ فِيهِ بِعَدَمِ الْمَظْنُونِ عِنْدَ وُجُودِ مَظِنَّتِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَصْفِ وَالْمَظِنَّةِ وَالْحِكْمَةِ هُوَ أَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الَّتِي تُوجِبُ كَوْنَ الْوَصْفِ عِلَّةً مُعْتَبَرَةً فِي الْحُكْمِ فَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ مُعْتَبَرًا فِي الْحُكْمِ فَإِنْ كَانَ خَفِيًّا أَوْ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ أُقِيمَتْ مَظِنَّتُهُ مَقَامَهُ ، وَحِينَئِذٍ تَجْتَمِعُ الثَّلَاثَةُ ، وَلِذَلِكَ مَثَّلَ مِنْهَا الْبَيْعَ فَإِنَّ حَاجَةَ الْمُكَلَّفِ إلَى مَا فِي يَدِهِ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ الْمُثَمَّنِ هُوَ الْمَصْلَحَةُ وَالْحِكْمَةُ الْمُوجِبَةُ لِاعْتِبَارِ الرِّضَا ، وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ ، وَمَظِنَّةُ الرِّضَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَالْحَاجَةُ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى لِكَوْنِهَا الْمُوجِبَةَ لِاعْتِبَارِ الرِّضَا وَاعْتِبَارُ الرِّضَا فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُهَا وَاعْتِبَارُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ اعْتِبَارِ الرِّضَا وَفَرْعُهُ وَمِنْهَا السَّفَرُ فَإِنَّ رَاحَةَ الْمُكَلَّفِ وَصَلَاحَ جِسْمِهِ مَصْلَحَةٌ وَحِكْمَةٌ تُوجِبُ أَنَّ الْمَشَقَّةَ إذَا عَرَضَتْ أَوْجَبَتْ تَخْفِيفَ الْعِبَادَةِ عَنْهُ لِئَلَّا تَعْظُمَ الْمَشَقَّةُ فَتَضِيعَ مَصَالِحُهُ بِإِضْعَافِ جِسْمِهِ وَإِهْلَاكِ قُوَّتِهِ .
وَمَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ أَرْبَعَةُ الْبُرُدِ فَحِفْظُ صِحَّةِ الْجِسْمِ وَتَوْفِيرُ قُوَّتِهِ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى لِكَوْنِهِ هُوَ الْمُوجِبُ لِاعْتِبَارِ وَصْفِ الْمَشَقَّةِ ، وَالْمَشَقَّةُ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَثَرُهُ

وَالْأَثَرُ فَرْعُ الْمُؤَثِّرِ ، وَأَرْبَعَةُ الْبُرُدِ فِي الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا فَرْعُ اعْتِبَارِ الْمَشَقَّةِ وَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ ظَاهِرًا مُنْضَبِطًا اُعْتُمِدَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُقَامَ مَظِنَّتُهُ مَقَامَهُ تَتَحَقَّقُ الْحِكْمَةُ وَالْوَصْفُ مِنْ غَيْرِ مَظِنَّةٍ وَلَهُ مُثُلٌ مِنْهَا أَنَّ الرَّضَاعَ وَصْفٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ لِلتَّحْرِيمِ ، وَحِكْمَتُهُ أَنَّهُ يَصِيرُ جُزْءُ الْمَرْأَةِ الَّذِي هُوَ اللَّبَنُ جُزْءَ الصَّبِيِّ الرَّضِيعِ فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ إيجَابُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعِ نَظِيرَ إيجَابِ صَيْرُورَةِ مَنِيِّ الْمَرْأَةِ وَطَمْثِهَا جُزْءَ الصَّبِيِّ لِلتَّحْرِيمِ بِالنَّسَبِ .
فَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الرَّضَاعُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ } فَالْجُزْئِيَّةُ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى وَهِيَ الْحِكْمَةُ ، وَوَصْفُ الرَّضَاعِ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ فَرْعُهَا ، وَمِنْهَا أَنَّ الزِّنَا وَصْفٌ كَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ وَاخْتِلَاطُ الْأَنْسَابِ حِكْمَتُهُ الْمُوجِبَةُ لِكَوْنِهِ كَذَلِكَ فَالِاخْتِلَاطُ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى ، وَوَصْفُ الزِّنَا الرُّتْبَةُ الثَّانِيَةُ ، وَمِنْهَا أَنَّ السَّرِقَةَ وَصْفٌ كَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْقَطْعِ وَضَيَاعُ الْمَالِ حِكْمَتُهُ الْمُوجِبَةُ لِكَوْنِهِ كَذَلِكَ فَضَيَاعُ الْمَالِ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى ، وَوَصْفُ السَّرِقَةِ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ فَوَصْفُ كُلٍّ مِنْ الرَّضَاعِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ لَمَّا كَانَ ظَاهِرًا مُنْضَبِطًا لَمْ يَحْتَجْ لِقِيَامِ مَظِنَّتِهِ مَقَامَهُ فَلَمْ يَحْتَجْ لِلرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ أَنْ يَتَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَى كُلِّ مَنْ تَحَقَّقَتْ فِيهِ تِلْكَ الْحِكْمَةُ ، وَإِلَّا لَحُرِّمَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى صَبِيٍّ أَكَلَ مِنْهَا قِطْعَةَ لَحْمٍ لِتَحَقُّقِ صَيْرُورَةِ جُزْئِهَا جُزْءًا مِنْهُ ، وَلَوَجَبَ حَدُّ الزِّنَا عَلَى مَنْ يَأْخُذُ الصِّبْيَانَ مِنْ أُمَّهَاتِهِمْ صِغَارًا .
وَيَأْتِي بِهِمْ كِبَارًا بِحَيْثُ لَا يُعْرَفُونَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَوْجَبَ اخْتِلَاطَ الْأَنْسَابِ ، وَلَوَجَبَ حَدُّ

السَّرِقَةِ عَلَى مَنْ ضَيَّعَ الْمَالَ بِالْغَصْبِ وَالْعُدْوَانِ وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ كُلِّهِ أَحَدٌ ، وَيَلْزَمُ ذَلِكَ جَوَازُ التَّعْلِيلِ بِالْمَظِنَّةِ فَلِذَا قَالَ الْجُمْهُورُ بِالتَّعْلِيلِ بِهَا ، وَلَمْ يَقُولُوا بِالتَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ فَافْهَمْ ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَظِنَّةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي تَرَتُّبِ الْحُكْمِ الْقَطْعُ بِعَدَمِ الْحِكْمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّا نُقِيمُ حَدَّ الزِّنَا وَحَدَّ السَّرِقَةِ وَإِنْ قَطَعْنَا بِعَدَمِ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ مِنْ الزِّنَا بِأَنْ تَحِيضَ الْمَرْأَةُ وَيَظْهَرَ عَدَمُ حَمْلِهَا أَوْ جَزَمْنَا بِعَدَمِ ضَيَاعِ الْمَالِ بِسَبَبِ أَخْذِ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ ، وَالْغَالِبُ فِي مَوَارِدِ الشَّرِيعَةِ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْمَظِنَّةِ إذَا قَطَعْنَا فِيهَا بِعَدَمِ الْمَظْنُونِ أَلَا تَرَى أَنَّ نَحْوَ الْكُفْرِ وَالْعُقُودِ النَّاقِلَةِ لِلْأَمْلَاكِ أَوْ الْمُوجِبَةِ لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مِنْ الْمَظَانِّ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا بِالْإِكْرَاهِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا عِنْدَ عَدَمِ الْإِكْرَاهِ فَلْيُتَفَطَّنْ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَهَذِهِ التَّفَاصِيلِ فَإِنَّهَا وَإِنْ ذُكِرَتْ هُنَا لِبِنَاءِ الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهَا ، وَكَوْنِهَا سِرَّهُ إلَّا أَنَّهَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْفُقَهَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ كَثِيرًا فِي مَوَارِدِ الْفِقْهِ وَالتَّرْجِيحِ وَالتَّعْلِيلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْبِقَاعِ الْمُعَظَّمَةِ مِنْ الْمَسَاجِدِ تُعَظَّمُ بِالصَّلَاةِ ، وَيَتَأَكَّدُ طَلَبُ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُلَابَسَتِهَا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَزْمِنَةِ الْمُعَظَّمَةِ كَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَغَيْرِهَا لَا تُعَظَّمُ بِتَأَكُّدِ الصَّوْمِ فِيهَا ) مَعَ أَنَّ نِسْبَةَ الصَّلَوَاتِ إلَى الْبِقَاعِ كَنِسْبَةِ الصَّوْمِ إلَى الْأَزْمَانِ فَالْمَكَانُ يُصَلَّى فِيهِ ، وَالزَّمَانُ يُصَامُ فِيهِ وَلَيْسَ لَنَا مَكَانٌ يُصَامُ فِيهِ إلَّا بِطَرِيقِ الْغَرَضِ كَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ بِمَكَّةَ جَبْرًا لِمَا عَرَضَ مِنْ النُّسُكِ وَصَوْمِ أَيَّامِ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ لِمَا عَرَضَ مِنْ الِاعْتِكَافِ ، وَيُصَامُ رَمَضَانُ وَغَيْرُهُ لِعَيْنِ ذَلِكَ الزَّمَانِ لَا لِمَا عَرَضَ فِيهِ فَالصَّوْمُ بِوَصْفِهِ خَاصٌّ بِالزَّمَانِ ، وَالصَّلَاةُ تَكُونُ لِلْمَكَانِ كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَتَكُونُ لِلزَّمَانِ كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَالْوِتْرِ وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالضُّحَى وَنَحْوِهَا ، وَالْفَرْقُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فِي كَوْنِ الْمَسَاجِدِ تُعَظَّمُ بِالتَّحِيَّاتِ إذَا دُخِلَ إلَيْهَا وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَنَحْوِهَا لَا تُعَظَّمُ بِالصَّوْمِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا تَزِيدُهُ طَاعَتُهُمْ وَلَا تُنْقِصُهُ مَعْصِيَتُهُمْ وَالْأَدَبُ مَعَهُ تَعَالَى اللَّائِقُ بِجَلَالِهِ مُتَعَذِّرٌ مِنَّا فَأَمَرَنَا تَعَالَى أَنْ نَتَأَدَّبَ مَعَهُ كَمَا نَتَأَدَّبُ مَعَ أَكَابِرِنَا ؛ لِأَنَّهُ وَسِعَنَا ، وَلِذَلِكَ أَمَرَنَا تَعَالَى بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْمَدْحِ لَهُ وَإِكْرَامِ خَاصَّتِهِ وَعَبِيدِهِ ، وَلَمَّا كَانَ الْوَاحِدُ مِنَّا إذَا أَرَادَ تَعْظِيمَ عَظِيمٍ مِنَّا فَعَلَ مَعَهُ ذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ تَعْظِيمًا لَهُ ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَحَدَنَا إذَا مَرَّ بِبُيُوتِ الْأَكَابِرِ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَيُحَيِّهِمْ بِالتَّحِيَّةِ اللَّائِقَةِ بِهِمْ ، وَالسَّلَامُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى مُحَالٌ ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ بِالسَّلَامَةِ وَهُوَ سَالِمٌ لِذَاتِهِ عَنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ أَوْ هُوَ مِنْ الْمُسَالَمَةِ ، وَهِيَ

التَّأْمِينُ مِنْ الضَّرَرِ ، وَهُوَ تَعَالَى يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ فَاسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ مَعَانِيهِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى بَلْ وَرَدَ أَنْ نَقُولَ لَهُ تَعَالَى أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ وَإِلَيْك يَعُودُ السَّلَامُ حَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ أَيْ أَنْتَ السَّالِمُ لِذَاتِك وَمِنْك يَصْدُرُ السَّلَامُ لِعِبَادِك .
وَإِلَيْك يَرْجِعُ طَلَبُهَا فَاعْطِنَا إيَّاهَا ، وَلَمَّا اسْتَحَالَ السَّلَامُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ مُقَامَهُ لِيَتَمَيَّزَ بَيْتُ الرَّبِّ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْبُيُوتِ بِصُورَةِ التَّعْظِيمِ بِمَا يَلِيقُ بِالرُّبُوبِيَّةِ ، وَلِذَلِكَ نَابَتْ الْفَرِيضَةُ عَنْ النَّافِلَةِ فِي ذَلِكَ لِحُصُولِ التَّمْيِيزِ بِهَا ، وَلَمَّا كَانَ سَبَبُ التَّحِيَّاتِ فِي هَذِهِ الْبِقَاعِ الْمُعَظَّمَةِ تَمْيِيزَهَا اُخْتُصَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَاشْتُهِرَ بِاسْمِ اخْتِصَاصِهِ بِهِ ، وَهُوَ لَفْظُ الْبُيُوتِ فَإِنَّ شَأْنَ الرَّئِيسِ وَالْمَلِكِ الْعَظِيمِ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ وَيَحُلَّ فِي بَيْتِهِ وَيَخْتَصَّ بِهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْأَزْمِنَةِ مَا اُشْتُهِرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الشُّهْرَةَ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى تَمْيِيزٍ يَخْتَصُّ بِهِ يُنَاسِبُ الرُّبُوبِيَّةَ ، فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَزْمِنَةِ وَالْبِقَاعِ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَإِنْ قُلْت فَقَدْ وَرَدَ { أَنَّ الثُّلُثَ الْأَخِيرَ مِنْ اللَّيْلِ يَنْزِلُ الرَّبُّ تَعَالَى فِيهِ سَمَاءَ الدُّنْيَا فَيَقُولُ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ } فَقَدْ اخْتَصَّ هَذَا الْوَقْتُ مِنْ الزَّمَانِ بِهِ تَعَالَى كَمَا اخْتَصَّتْ الْمَسَاجِدُ بِأَنَّهَا بُيُوتُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْرَعَ فِيهِ مَا يُوجِبُ التَّمْيِيزَ كَمَا شُرِعَ فِي الْمَسْجِدِ .
قُلْت : الْأَزْمِنَةُ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ الْمُلُوكِ بِالْقُدُومِ فِيهَا عَلَى الرَّعَايَا شَأْنُهَا أَنْ تُعَظَّمَ بِالزِّينَةِ فِي الْمَدَائِنِ وَغَيْرِ الزِّينَةِ مِنْ أَسْبَابِ الِاحْتِفَالِ ، وَكَانَ يَلْزَمُنَا مِثْلُ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ غَيْرَ أَنَّ اللَّيْلَ لَا يُلَازِمُ الصَّوْمَ شَرْعًا فَشُرِعَ فِيهِ مَا يُنَاسِبُهُ مِنْ

الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِاسْتِغْفَارِ ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْبِقَاعِ الْمُعَظَّمَةِ مِنْ الْمَسَاجِدِ تُعَظَّمُ بِالصَّلَاةِ ، وَيَتَأَكَّدُ طَلَبُ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُلَابَسَتِهَا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَزْمِنَةِ الْمُعَظَّمَةِ كَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لَا تُعَظَّمُ بِتَأَكُّدِ الصَّوْمِ فِيهَا ) الْبِقَاعُ الْمُعَظَّمَةُ وَالْأَزْمِنَةُ وَإِنْ اشْتَرَكَتَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ نِسْبَةَ الصَّلَوَاتِ إلَى مُطْلَقِ الْبِقَاعِ كَمَا أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ وُقُوعُهَا فِيهَا كَذَلِكَ نِسْبَةُ الصَّوْمِ إلَى مُطْلَقِ الْأَزْمِنَةِ مِنْ حَيْثُ وُقُوعُهُ فِيهَا ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ بَعْضَ الْبِقَاعِ وَهِيَ الْمَسَاجِدُ كَمَا اُخْتُصَّتْ بِأَنَّهَا بُيُوتُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَطَلَبَ الشَّارِعُ تَعْظِيمَهَا بِالتَّحِيَّاتِ مِمَّنْ دَخَلَهَا كَذَلِكَ اخْتَصَّ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ ، وَهُوَ الثُّلُثُ الْأَخِيرُ مِنْ اللَّيْلِ بِهِ تَعَالَى وَطَلَبَ الشَّارِعُ تَعْظِيمَهُ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِاسْتِغْفَارِ فَقَدْ وَرَدَ { أَنَّ الثُّلُثَ الْأَخِيرَ مِنْ اللَّيْلِ يَنْزِلُ الرَّبُّ تَعَالَى فِيهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ } إلَّا أَنَّهُمَا افْتَرَقَتَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ مُطْلَقَ الْبِقَاعِ لَمْ يَقَعْ مِنْهَا مَا يُصَامُ فِيهِ إلَّا بِطَرِيقِ الْعَرْضِ كَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِمَكَّةَ جَبْرًا لِمَا عَرَضَ مِنْ النُّسُكِ وَصَوْمِ أَيَّامِ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ لِمَا عَرَضَ مِنْ الِاعْتِكَافِ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ مِنْهَا مَا يُصَلَّى فِيهِ لِعَيْنِهِ كَالْمَسَاجِدِ تُصَلَّى فِيهَا النَّجِيَّةُ ، وَأَمَّا مُطْلَقُ الْأَزْمِنَةِ فَوَقَعَ مِنْهَا مَا يُصَامُ فِيهِ لِعَيْنِهِ لَا لِمَا عَرَضَ فِيهِ كَرَمَضَانَ وَغَيْرِهِ ، وَوَقَعَ مِنْهَا مَا يُصَلَّى فِيهِ لِعَيْنِهِ لَا لِمَا عَرَضَ فِيهِ كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَنَحْوِ الْوِتْرِ وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالضُّحَى ، فَالصَّوْمُ بِوَصْفِهِ خَاصٌّ بِالزَّمَانِ ، وَالصَّلَاةُ كَمَا تَكُونُ لِلْمَكَانِ كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ تَكُونُ لِلزَّمَانِ كَالصَّلَوَاتِ وَنَحْوِ الْوِتْرِ وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالضُّحَى فِي

أَوْقَاتِهَا .
وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْبِقَاعَ الْمُعَظَّمَةَ وَهِيَ الْمَسَاجِدُ لَمَّا اُخْتُصَّتْ بِاَللَّهِ وَاشْتُهِرَتْ بِاسْمٍ يُنَاسِبُ اخْتِصَاصَهَا بِهِ تَعَالَى وَهُوَ لَفْظُ الْبُيُوتِ فَإِنَّ شَأْنَ الرَّئِيسِ وَالْمَلِكِ الْعَظِيمِ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ وَيَخْتَصُّ بِهِ احْتَاجَتْ إلَى تَمْيِيزٍ يَخْتَصُّ بِهِ تَعَالَى يُنَاسِبُ رُبُوبِيَّتَهُ عَلَى قَدْرِ مَا فِي وُسْعِنَا ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا كَانَ غَنِيًّا عَنْ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا تَزِيدُهُ طَاعَتُهُمْ وَلَا تُنْقِصُهُ مَعْصِيَتُهُمْ ، وَكَانَ الْأَدَبُ مَعَهُ اللَّائِقُ بِجَلَالِهِ مُتَعَذِّرًا مِنَّا ، وَقَدْ أَمَرَنَا تَعَالَى أَنْ نَتَأَدَّبَ مَعَهُ كَمَا نَتَأَدَّبُ مَعَ أَكَابِرِنَا ؛ لِأَنَّهُ وَسِعَنَا وَكَانَ أَحَدُنَا إذَا مَرَّ بِبُيُوتِ الْأَكَابِرِ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَيُحَيِّيهِمْ بِالتَّحِيَّةِ اللَّائِقَةِ بِهِمْ .
وَالسَّلَامُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى مُحَالٌ ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ إمَّا بِالسَّلَامَةِ وَهُوَ تَعَالَى سَالِمٌ لِذَاتِهِ عَنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ ، وَإِمَّا بِالْمُسَالَمَةِ وَهِيَ التَّأْمِينُ مِنْ الضَّرَرِ وَهُوَ تَعَالَى يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ أَمَرَنَا تَعَالَى بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْمَدْحِ لَهُ وَإِكْرَامِ خَاصَّتِهِ وَعَبِيدِهِ وَأَنْ نَقُولَ لَهُ تَعَالَى أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ وَإِلَيْك يَعُودُ السَّلَامُ حَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ ، أَيْ أَنْتَ السَّالِمُ لِذَاتِك وَمِنْك يَصْدُرُ السَّلَامُ لِعِبَادِك وَإِلَيْك يَرْجِعُ طَلَبُهَا فَاعْطِنَا إيَّاهَا فَلَمَّا اسْتَحَالَ السَّلَامُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فِي الْمَسَاجِدِ مَقَامَهُ لِيَتَمَيَّزَ بَيْتُ الرَّبِّ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْبُيُوتِ بِصُورَةِ التَّعْظِيمِ بِمَا يَلِيقُ بِالرُّبُوبِيَّةِ ، وَلِذَلِكَ نَابَتْ الْفَرِيضَةُ عَنْ النَّافِلَةِ فِي ذَلِكَ لِحُصُولِ التَّمْيِيزِ بِهَا .
وَأَمَّا الْأَزْمِنَةُ الْمُعَظَّمَةُ وَهِيَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ وَنَحْوُهَا فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا مَا اُشْتُهِرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى شُهْرَةَ الْبِقَاعِ الْمُعَظَّمَةِ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى تَمْيِيزٍ يَخْتَصُّ بِهِ يُنَاسِبُ الرُّبُوبِيَّةَ

كَمَا احْتَاجَتْ الْمَسَاجِدُ لِذَلِكَ بِسَبَبِ اشْتِهَارِهَا بِاَللَّهِ تَعَالَى الشُّهْرَةَ الْمَذْكُورَةَ ، وَالثُّلُثُ الْأَخِيرُ مِنْ اللَّيْلِ وَإِنْ اُشْتُهِرَ بِهِ تَعَالَى اشْتِهَارَ الْمَسَاجِدِ ، وَشُرِعَ فِيهِ مَا يُنَاسِبُهُ مِنْ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِاسْتِغْفَارِ كَمَا عَلِمْت لِمَا أَنَّهُ يَلْزَمُنَا ذَلِكَ فِيهِ تَعْظِيمُهُ كَمَا إنَّ شَأْنَ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ الْمُلُوكِ بِالْقُدُومِ فِيهَا عَلَى الرَّعَايَا أَنْ تُعَظَّمَ فِي الْمَدَائِنِ بِالزِّينَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَسْبَابِ الِاحْتِفَالِ ، إلَّا أَنَّ تَعْظِيمَهُ لَمْ يَكُنْ بِالصَّوْمِ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَا يُلَائِمُ الصَّوْمَ ، وَالْفَرْقُ إنَّمَا هُوَ بَيْنَ تَعْظِيمِ الْبِقَاعِ الْمُعَظَّمَةِ بِالصَّلَاةِ وَالْأَزْمِنَةِ الْمُعَظَّمَةِ بِالصَّوْمِ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ النُّوَاحُ حَرَامٌ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَرَاثِي مُبَاحَةٌ ) اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ اُشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ تَحْرِيمُ النُّوَاحِ وَتَفْسِيقُ النَّائِحَةِ دُونَ تَفْسِيقِ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ يَرْثُونَ الْمَوْتَى مِنْ الْمُلُوكِ وَالْأَعْيَانِ ، وَكَانَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ إنَّ بَعْضَ الْمَرَاثِي حَرَامٌ كَالنُّوَاحِ وَتَحْرِيرُ الْقَوْلِ فِيهِمَا وَضَبْطُهُمَا أَنَّ النُّوحَ إنَّمَا حَرُمَ ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي نِسْبَةَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى الْجَوْرِ فِي قَضَائِهِ وَالتَّبَرُّمَ بِقَدَرِهِ ، وَأَنَّ الْوَاقِعَ مِنْ مَوْتِ هَذَا الْمَيِّتِ لَمْ يَكُنْ مَصْلَحَةً بَلْ مَفْسَدَةً عَظِيمَةً ، وَتَكُونُ النَّائِحَةُ تَذْكُرُ كَلَامًا يُقَرِّرُ ذَلِكَ فِي النُّفُوسِ ، وَتُوَضِّحُهُ لِلْأَفْهَامِ وَتَحْمِلُ السَّامِعِينَ عَلَى اعْتِقَادِ ذَلِكَ فَكُلُّ لَفْظٍ تَضَمَّنَ ذَلِكَ كَانَ حَرَامًا نَظْمًا كَانَ أَوْ نَثْرًا مَرْثِيَّةً أَوْ نُوَاحًا ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّصْرِيحُ بِتَحْرِيمِ النُّوَاحِ ، وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّ النَّائِحَةَ تُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَمِيصَيْنِ قَمِيصٌ مِنْ جَرَبٍ وَقَمِيصٌ مِنْ قَطِرَانٍ } وَسِرُّهُ أَنَّ الْأَجْرَبَ سَرِيعُ الْأَلَمِ لِتَقَرُّحِ جِلْدِهِ .
وَالْقَطِرَانُ يُقَوِّي شُعْلَةَ النَّارِ فَيَكُونُ عَذَابُهَا بِالنَّارِ بِسَبَبِ هَذَيْنِ الْقَمِيصَيْنِ أَشَدَّ الْعَذَابِ وَفِي أَبِي دَاوُد { لَعَنَ اللَّهُ النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ } قَالَ سَنَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا هِيَ الَّتِي تَتَّخِذُ النُّوَاحَ صَنْعَةً ، قَالَ وَإِلَّا فَالْمَرَّةُ مَكْرُوهَةٌ لِمَا فِي الْبُخَارِيِّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ نِسَاءَ جَعْفَرٍ لَمْ يُسْكِتْهُنَّ } وَفِيهِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جِيءَ بِأَبِي يَوْمَ أُحُدٍ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ وَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ فَسَمِعَ صَوْتَ نَائِحَةٍ فَقَالَ مَنْ هَذِهِ ؟ فَقَالُوا ابْنَةُ عُمَرَ فَقَالَ فَلْتَبْكِي مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ

بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ وَفِيهِ { عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا نَنُوحَ فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ غَيْرُ خَمْسِ نِسْوَةٍ سَمَّتْهُنَّ } ، وَالنُّوَاحُ مِنْ الْكَبَائِرِ .
وَصُورَتُهُ أَنْ تَقُولَ النَّائِحَةُ لَفْظًا يَقْتَضِي فَرْطَ جَمَالِ الْمَيِّتِ وَحُسْنِهِ وَكَمَالِهِ وَشُجَاعَتِهِ وَبَرَاعَتِهِ وَأُبَّهَتِهِ وَرِئَاسَتِهِ ، وَتُبَالِغَ فِيمَا كَانَ يَفْعَلُ مِنْ إكْرَامِ الضَّيْفِ وَالضَّرْبِ بِالسَّيْفِ وَالذَّبِّ عَنْ الْحَرِيمِ وَالْجَارِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمَيِّتِ الَّتِي يَقْتَضِي مِثْلُهَا أَنْ لَا يَمُوتَ فَإِنَّ بِمَوْتِهِ هَذِهِ تَنْقَطِعُ هَذِهِ الْمَصَالِحُ وَيَعِزُّ وُجُودُ مِثْلِ الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَيَعْظُمُ التَّفَجُّعُ عَلَى فَقْدِ مِثْلِهِ وَأَنَّ الْحِكْمَةَ كَانَتْ تَقْتَضِي بَقَاءَهُ وَتَطْوِيلَ عُمْرِهِ لِتَكْثِيرِ تِلْكَ الْمَصَالِحِ فِي الْعِلْمِ فَمَتَى كَانَ لَفْظُهَا مُشْتَمِلًا عَلَى هَذَا كَانَ حَرَامًا ، وَهَذَا أَشَرُّ النُّوَاحِ وَتَارَةً لَا تَصِلُ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ غَيْرَ أَنَّهُ تَبْعُدُ السَّلْوَةُ عَنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ ، وَتَهِيجُ الْأَسَفَ عَلَيْهِمْ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى تَعْذِيبِ نُفُوسِهِمْ وَقِلَّةِ صَبْرِهِمْ وَضَجَرِهِمْ ، وَرُبَّمَا بَعَثَهُمْ ذَلِكَ عَلَى الْقُنُوطِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَضَرْبِ الْخُدُودِ فَهَذَا أَيْضًا حَرَامٌ ، وَمَتَى كَانَ لَفْظُ النَّائِحَةِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ ذِكْرُ دِينِ الْمَيِّتِ ، وَأَنَّهُ انْتَقَلَ إلَى جَزَاءِ أَعْمَالِهِ الْحَسَنَةِ وَمُجَاوَرَةِ أَهْلِ السَّعَادَةِ ، وَأَنَّهُ أَتَى عَلَيْهِ مَا قَضَى عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ ، وَأَنَّ هَذَا سَبِيلٌ لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَأَنَّهُ مَوْطِنٌ اشْتَرَكَ فِيهِ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ ، وَبَابٌ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ فَهَذَا لَيْسَ بِحَرَامٍ فَإِنْ زَادَتْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ تَأْمُرَ أَهْلَ الْمَيِّتِ بِالصَّبْرِ ، وَتَحُثَّهُمْ عَلَى طَلَبِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ ، وَأَنَّهُمْ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَحْتَسِبُوا مَيِّتَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
وَيَعْتَمِدُونَ فِي حُسْنِ الْخَلَفِ عَلَى

اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ مَأْمُورٌ بِهِ وَعَلَى هَذِهِ الْقَوَانِينِ تَتَخَرَّجُ الْمَرَاثِي فَتَنْقَسِمُ أَيْضًا إلَى الْمُحَرَّمَةِ الْكَبِيرَةِ وَإِلَى الْمُحَرَّمَةِ الصَّغِيرَةِ وَإِلَى الْمُبَاحِ وَإِلَى الْمَنْدُوبِ عَلَى قَدْرِ مَا يَتَضَمَّنُهُ لَفْظُ الْمَرْثِيَّةِ فَمِنْ الْمَرَاثِي الْمُبَاحَةِ الْخَالِيَةِ عَنْ التَّحْرِيمِ مَا رَثَى بِهِ ابْنُ عُمَرَ أَخَاهُ عَاصِمًا لَمَّا مَاتَ فَقَالَ : فَإِنْ تَكُ أَحْزَانٌ وَفَائِضُ دَمْعَةٍ جَرَيْنَ دَمًا مِنْ دَاخِلِ الْجَوْفِ مُنْقَعَا تَجَرَّعْتهَا فِي عَاصِمٍ وَاحْتَسَبْتهَا فَأَعْظَمُ مِنْهَا مَا احْتَسَى وَتَجَرَّعَا فَلَيْتَ الْمَنَايَا كُنَّ خَلَّفْنَ عَاصِمًا فَعِشْنَا جَمِيعًا أَوْ ذَهَبْنَ بِنَا مَعَا دَفَعْنَا بِك الْأَيَّامَ حَتَّى إذَا أَتَتْ تُرِيدُك لَمْ نَسْطِعْ لَهَا عَنْك مِدْفَعَا فَهَذَا رِثَاءٌ مُبَاحٌ لَا يَحْرُمُ مِثْلُهُ .
وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُشِيرُ إلَى التَّجْوِيرِ وَلَا تَسْفِيهِ الْقَضَاء بَلْ إنَّهُ حَزِينٌ مُتَأَلِّمٌ لِمَيِّتِهِ ، وَكَانَ يَشْتَهِي لَوْ مَاتَ مَعَهُ فَهَذَا أَمْرٌ قَرِيبٌ لَا غَرْوَ فِيهِ ، وَمِثَالُ الرِّثَاءِ الْمَنْدُوبِ مَا رُوِيَ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا مَاتَ عَظُمَ مُصَابُهُ عَلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّه بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَظِيمًا عِنْدَ النَّاسِ فِي نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ تُرْجُمَان الْقُرْآنِ وَافِرَ الْعَقْلِ جَمِيلَ الْمَحَاسِنِ وَالْجَلَالَةِ وَالْأَوْصَافِ الْحَمِيدَة فَأَعْظَمَهُ النَّاسُ عَلَى التَّعْزِيَةِ إجْلَالًا لَهُ وَمَهَابَةً بِسَبَبِ عَظَمَتِهِ فِي نَفْسِهِ وَعَظَمَةِ مَنْ أُصِيبَ بِهِ ، فَإِنَّ الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ وَالِدِهِ وَكَانَ يُقَالُ مَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ فَيُقَالُ الْعَبَّاسُ وَمَنْ أَعْلَمُ النَّاسِ فَيُقَالُ الْعَبَّاسُ .
وَمَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ فَيُقَالُ الْعَبَّاسُ فَلَمَّا مَاتَ عَظُمَ خَطْبُهُ وَجَلَّتْ رَزِيَّتُهُ فِي صُدُورِ النَّاسِ وَفِي صَدْرِ وَلَدِهِ

عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَحْجَمَ النَّاسُ عَنْ تَعْزِيَتِهِ فَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ شَهْرًا كَمَا ذَكَرَهُ الْمُؤَرِّخُونَ فَبَعْدَ الشَّهْرِ قَدِمَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ الْبَادِيَةِ فَسَأَلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ النَّاسُ مَا تُرِيدُ فَقَالَ أُرِيدُ أَنْ أُعَزِّيَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ عَسَاهُ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ بَابَ التَّعْزِيَةِ فَلَمَّا رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ سَلَامٌ عَلَيْك يَا أَبَا الْفَضْلِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَأَنْشَدَهُ : اصْبِرْ نَكُنْ بِك صَابِرِينَ فَإِنَّمَا صَبْرُ الرَّعِيَّةِ عِنْدَ صَبْرِ الرَّاسِ خَيْرٌ مِنْ الْعَبَّاسِ أَجْرُك بَعْدَهُ وَاَللَّهُ خَيْر مِنْك لِلْعَبَّاسِ فَلَمَّا سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رِثَاءَهُ وَاسْتَوْعَبَ شِعْرَهُ سُرِّيَ عَنْهُ عَظِيمُ مَا كَانَ بِهِ .
وَاسْتَرْسَلَ النَّاسُ فِي تَعْزِيَتِهِ وَهَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْجَوْدَةِ مِنْ الرِّثَاء مُسَهِّلٌ لِلْمُصِيبَةِ مُذْهِبٌ لِلْحُزْنِ مُحْسِنٌ لِتَصَرُّفِ الْقَضَاءِ مُثْنٍ عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى بِإِحْسَانٍ وَجَمِيلِ الْعَوَارِفِ ، فَهَذَا حَسَنٌ جَمِيلٌ وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ سَمِعَ أَهْلُ بَيْتِهِ قَائِلًا يَقُولُ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَلَا يَرَوْنَ شَخْصَهُ : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إنَّ فِي اللَّه خَلَفًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ وَعِوَضًا مِنْ كُلِّ ذَاهِبٍ فَإِيَّاهُ فَارْجَوْا وَبِهِ فَثِقُوا فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ فَكَانُوا يَرَوْنَهُ الْخَضِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهَذَا أَيْضًا كَلَامٌ مِنْ الْقُرُبَاتِ وَمُنْدَرِجٌ فِي سِلْكِ الْمَنْدُوبَات وَمِنْ الرِّثَاءِ الْمُحَرَّمِ الْفَظِيعِ مَا وَقَعَ فِي عَصْرِنَا فِي رِثَاء الْخَلِيفَةِ بِبَغْدَادَ فِي أَيَّامِ الصَّالِحِ رَحِمَ اللَّهُ الْجَمِيعَ فَعَمِلَ لَهُ الْمَلِكُ الصَّالِحُ عَزَاءً جَمَعَ فِيهِ الْأَكَابِرَ وَالْأَعْيَانَ وَالْقُرَّاءَ وَالشُّعَرَاءَ فَأَنْشَدَ

بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي مَرْثِيَتِهِ : مَاتَ مَنْ كَانَ بَعْضُ أَجْنَادِهِ الْمَوْتَ وَمَنْ كَانَ يَخْتَشِيهِ الْقَضَاءُ فَسَمِعَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَام رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَحْفِلِ فَأَمَرَ بِتَأْدِيبِهِ وَحَبْسِهِ .
وَأَغْلَظ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ وَبَالَغَ فِي تَقْبِيحِ رِثَائِهِ ، وَأَقَامَ بَعْدَ التَّعْزِير فِي الْحَبْسِ زَمَانًا طَوِيلًا ثُمَّ اسْتَتَابَهُ بَعْدَ شَفَاعَةِ الْأُمَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ فِيهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْظِمَ قَصِيدَةً يُثْنِي فِيهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَكُونُ مُكَفِّرَةً لِمَا تَضَمَّنَهُ شِعْرُهُ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلْقَضَاءِ بِقَوْلِهِ مَنْ كَانَ بَعْضُ أَجْنَادِهِ الْمَوْتَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ هَذَا الْمَيِّتِ ، وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَيِّتِ مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ مَنْصِبُ الْخِلَافَةِ وَمَتَى تَأْتِي الْأَيَّامُ بِمِثْلِ هَذَا وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ : يَخْتَشِيهِ الْقَضَاءُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَخَافُ مِنْهُ وَهَذَا إمَّا كُفْرٌ صَرِيحٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِهِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ الْكُفْرِ فَالشُّعَرَاءُ فِي مَرَاثِيهِمْ يَهْجُمُونَ عَلَى أُمُورٍ صَعْبَةٍ رَغْبَةً فِي الْإِغْرَابِ وَالتَّمَدُّحِ بِأَنَّهُ طَرَقَ مَعْنًى لَمْ يُطْرَقْ قَبْلَهُ فَيَقَعُونَ فِي هَذَا وَمِثْلِهِ ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هَذِهِ الْأَوْدِيَةُ هِيَ أَوْدِيَةُ الْهِجَاءِ الْمُحَرَّمِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يَحِلُّ قَوْلُهُ ، فَظَهَرَ لَك بِهَذَا الْبَسْطِ وَالتَّقْرِيرِ الْفَرْقُ بَيْنَ النُّوَاحِ الْمُحَرَّمِ وَالرِّثَاءِ الْمُحَرَّمِ مِنْ غَيْرِهِ بِتَقْرِيرِ الْقَوَاعِدِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَقِسْ عَلَيْهِ مَا يَرِدُ عَلَيْك مِنْ ذَلِكَ فِي الْبَابَيْنِ .

( الْفَرْقُ الْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ النُّوَاحُ حَرَامٌ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَرَاثِي مُبَاحَةٌ ) لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى تَحْرِيمِ النُّوَاحِ وَتَفْسِيقِ النَّائِحَةِ مُطْلَقًا وَلَا عَلَى إبَاحَةِ الْمَرَاثِي وَعَدَمِ تَفْسِيقِ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ يَرْثُونَ الْمَوْتَى مِنْ الْمُلُوكِ وَالْأَعْيَانِ مُطْلَقًا ، وَإِنْ اُشْتُهِرَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ بَلْ الْحَقُّ أَنَّ كُلًّا مِنْ النُّوَاحِ وَالْمَرَاثِي عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ حَرَامٌ كَبِيرَةٌ وَحَرَامٌ صَغِيرَةٌ وَمُبَاحٌ وَمَنْدُوبٌ ، أَمَّا ضَابِطُ مَا هُوَ حَرَامٌ كَبِيرَةٌ مِنْ النُّوَاحِ وَالْمَرَاثِي ، فَكُلُّ كَلَامٍ يُقَرِّرُ فِي النُّفُوسِ وَيُوضِحُ لِلْأَفْهَامِ نِسْبَةَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى الْجَوْرِ فِي قَضَائِهِ وَالتَّبَرُّمِ بِقَدَرِهِ ، وَأَنَّ الْوَاقِعَ مِنْ مَوْتِ هَذَا الْمَيِّتِ لَمْ يَكُنْ مَصْلَحَةً بَلْ مَفْسَدَةً عَظِيمَةً فَيَحْمِلُ السَّامِعِينَ عَلَى اعْتِقَادِ ذَلِكَ يَكُونُ حَرَامًا كَبِيرَةً نَظْمًا كَانَ أَوْ نَثْرًا مَرْثِيَةً أَوْ نُوَاحًا ، وَذَلِكَ كَأَنْ تَقُولَ النَّائِحَةُ لَفْظًا يَقْتَضِي فَرْطَ جَمَالِ الْمَيِّتِ وَحُسْنِهِ وَكَمَالِهِ وَشُجَاعَتِهِ وَبَرَاعَتِهِ وَأُبَّهَتِهِ وَرِئَاسَتِهِ ، وَتُبَالِغَ فِيمَا كَانَ يَفْعَلُ مِنْ إكْرَامِ الضَّيْفِ وَالضَّرْبِ بِالسَّيْفِ وَالذَّبِّ عَنْ الْحَرِيمِ وَالْجَارِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمَيِّتِ الَّتِي يَقْتَضِي مِثْلُهَا أَنْ لَا يَمُوتَ ، فَإِنَّ بِمَوْتِهِ تَنْقَطِعُ هَذِهِ الْمَصَالِحُ ، وَيَعِزُّ وُجُودُ مِثْلِ الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ ، وَيَعْظُمُ التَّفَجُّعُ عَلَى فَقْدِ مِثْلِهِ ، وَأَنَّ الْحِكْمَةَ كَانَتْ تَقْتَضِي بَقَاءَهُ وَتَطْوِيلَ عُمْرِهِ لِتَكْثُرَ تِلْكَ الْمَصَالِحُ فِي الْعَالَمِ ، وَكَأَنْ يَقُولَ الشَّاعِرُ فِي رِثَائِهِ : مَاتَ مَنْ كَانَ بَعْضُ أَجْنَادِهِ الْمَوْتَ وَمَنْ كَانَ يَخْتَشِيهِ الْقَضَاءُ فَيَتَضَمَّنُ شِعْرُهُ مِنْ التَّعْرِيضِ لِلْقَضَاءِ بِقَوْلِهِ : مَنْ كَانَ بَعْضُ أَجْنَادِهِ الْمَوْتَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ هَذَا الْمَيِّتِ ، وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَيِّتِ مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ مَنْصِبُ الْخِلَافَةِ ، وَمَتَى

تَأْتِي الْأَيَّامُ بِمِثْلِ هَذَا وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَيُشِيرُ قَوْلُهُ يَخْتَشِيهِ الْقَضَاءُ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَخَافُ مِنْهُ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ كُفْرًا صَرِيحًا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِهِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ ، فَلِذَا لَمَّا حَضَرَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْمَحْفِلِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ الْمَلِكُ الصَّالِحُ الْأَكَابِرَ وَالْأَعْيَانَ وَالْقُرَّاءَ وَالشُّعَرَاءَ لِعَزَاءِ الْخَلِيفَةِ بِبَغْدَادَ ، وَأَنْشَدَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي مَرْثِيَّتِهِ : مَاتَ مَنْ كَانَ بَعْضُ أَجْنَادِهِ الْمَوْتَ وَسَمِعَهُ الشَّيْخُ أَمَرَ بِتَأْدِيبِهِ وَحَبْسِهِ وَأَغْلَظَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ ، وَبَالَغَ فِي تَقْبِيحِ رِثَائِهِ ، وَأَقَامَ بَعْدَ التَّعْزِيرِ فِي الْحَبْسِ زَمَانًا طَوِيلًا ، ثُمَّ اسْتَتَابَهُ بَعْدَ شَفَاعَةِ الْأُمَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ فِيهِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْظِمَ قَصِيدَةً يُثْنِي فِيهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَكُونُ مُكَفِّرَةً لِمَا تَضَمَّنَهُ شِعْرُهُ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلْقَضَاءِ وَالْإِشَارَةِ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَخَافُ مِنْ الْمَيِّتِ ، وَالشُّعَرَاءُ كَثِيرًا مَا يَهْجُمُونَ عَلَى أُمُورٍ صَعْبَةٍ مِثْلِ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي الْإِغْرَابِ وَالتَّمَدُّحِ بِأَنَّهُ طَرَقَ مَعْنًى لَمْ يُطْرَقْ قَبْلَهُ فَيَقَعُونَ فِي هَذَا وَمِثْلِهِ ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هَذِهِ الْأَوْدِيَةُ هِيَ أَوْدِيَةُ الْهِجَاءِ الْمُحَرَّمِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يَحِلُّ قَوْلُهُ وَهَذَا الْقِسْمُ شَرُّ النُّوَاحِ وَالْمَرَاثِي وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ حَدِيثُ إنَّ النَّائِحَةَ تُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَمِيصَيْنِ قَمِيصٌ مِنْ جَرَبٍ وَقَمِيصٌ مِنْ قَطِرَانٍ ، وَسِرُّهُ أَنَّ الْأَجْرَبَ سَرِيعُ الْأَلَمِ لِتَقَرُّحِ جِلْدِهِ وَالْقَطِرَانُ يُقَوِّي شُعْلَةَ النَّارِ فَيَكُونُ عَذَابُ النَّائِحَةِ بِالنَّارِ بِسَبَبِ هَذَيْنِ الْقَمِيصَيْنِ أَشَدَّ الْعَذَابِ .
وَحَدِيثُ أَبِي دَاوُد { لَعَنَ اللَّهُ النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ } .
وَأَمَّا ضَابِطُ مَا هُوَ حَرَامٌ صَغِيرَةٌ فَكُلُّ

كَلَامٍ نَظْمًا أَوْ نَثْرًا مَرْثِيَّةً أَوْ نُوَاحًا لَمْ يَصِلْ إلَى الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّهُ يُبْعِدُ السَّلْوَةَ عَنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ ، وَيُهِيجُ الْأَسَفَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَى تَعْذِيبِ نُفُوسِهِمْ وَقِلَّةِ صَبْرِهِمْ وَضَجِرِهِمْ ، وَرُبَّمَا بَعَثَهُمْ عَلَى الْقُنُوطِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَضَرْبِ الْخُدُودِ يَكُونُ حَرَامًا صَغِيرَةً وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ التَّصْرِيحِ بِتَحْرِيمِ النُّوَاحِ نَعَمْ قَالَ سَنَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إنَّمَا يَحْرُمُ النُّوَاحُ مِنْ النَّائِحَةِ الَّتِي تَتَّخِذُهُ صَنْعَةً قَالَ وَإِلَّا فَالْمَرَّةُ مَكْرُوهَةٌ لِمَا فِي الْبُخَارِيِّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ نِسَاءَ جَعْفَرٍ لَمْ يُسْكِتْهُنَّ } ، وَفِيهِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جِيءَ بِأَبِي يَوْمَ أُحُدٍ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ وَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ { فَسَمِعَ صَوْتَ نَائِحَةٍ فَقَالَ مَنْ هَذِهِ فَقَالُوا ابْنَةُ عُمَرَ فَقَالَ فَلْتَبْكِي أَوْ لَا تَبْكِي مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ وَفِيهِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا نَنُوحَ فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ غَيْرُ خَمْسِ نِسْوَةٍ سَمَّتْهُنَّ } وَأَمَّا ضَابِطُ مَا هُوَ مُبَاحٌ مِنْ النُّوَاحِ وَالْمَرَاثِي فَكُلُّ كَلَامٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا فِي الْقِسْمَيْنِ قَبْلَهُ بَلْ ذُكِرَ فِيهِ دِينُ الْمَيِّتِ ، وَأَنَّهُ انْتَقَلَ إلَى جَزَاءِ أَعْمَالِهِ الْحَسَنَةِ وَمُجَاوَرَةِ أَهْلِ السَّعَادَةِ .
وَأَنَّهُ أَتَى عَلَيْهِ مَا قَضَى عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ ، وَأَنَّ هَذَا سَبِيلٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَأَنَّهُ مَوْطِنٌ اشْتَرَكَ فِيهِ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ وَبَابٌ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ يَكُونُ مُبَاحًا خَالِيًا عَنْ التَّحْرِيمِ ، وَمِنْهُ مَا رَثَى بِهِ ابْنُ عُمَرَ أَخَاهُ عَاصِمًا لَمَّا مَاتَ فَقَالَ : فَإِنْ تَكُ أَحْزَانٌ وَفَائِضُ دَمْعَةٍ جَرَيْنَ دَمًا مِنْ دَاخِلِ الْجَوْفِ

مُنْقَعَا تَجَرَّعْتهَا فِي عَاصِمٍ وَاحْتَسَيْتهَا فَأَعْظَمُ مِنْهَا مَا احْتَسَى وَتَجَرَّعَا فَلَيْتَ الْمَنَايَا كُنَّ خَلَّفْنَ عَاصِمًا فَعِشْنَا جَمِيعًا أَوْ ذَهَبْنَ بِنَا مَعَا دَفَعْنَا بِك الْأَيَّامَ حَتَّى إذَا أَتَتْ تُرِيدُك لَمْ نَسْطِعْ لَهَا عَنْك مِدْفَعَا فَهَذَا رِثَاءٌ مُبَاحٌ لَا يَحْرُمُ مِثْلُهُ ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُشِيرُ إلَى التَّجْوِيرِ وَلَا تَسْفِيهِ الْقَضَاءِ بَلْ إنَّهُ حَزِينٌ مُتَأَلِّمٌ لِمَيْتِهِ ، وَكَانَ يَشْتَهِي لَوْ مَاتَ مَعَهُ فَهَذَا أَمْرٌ قَرِيبٌ لَا غَرْوَ فِيهِ ، وَأَمَّا ضَابِطُ الْمَنْدُوبِ مِنْ النُّوَاحِ وَالْمَرَاثِي فَكُلُّ كَلَامٍ زَادَ عَلَى مَا فِي قِسْمِ الْمُبَاحِ مِنْ أَمْرِ أَهْلِ الْمَيِّتِ بِالصَّبْرِ وَحَثِّهِمْ عَلَى طَلَبِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ ، وَأَنَّهُمْ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَحْتَسِبُوا مَيِّتَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَعْتَمِدُونَ فِي حُسْنِ الْخَلَفِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوُ ذَلِكَ يَكُونُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ مَأْمُورًا بِهِ .
وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا مَاتَ عَظُمَ مُصَابُهُ عَلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَعَظُمَ خَطْبُهُ وَجَلَّتْ رَزِيَّتُهُ فِي صُدُورِ النَّاسِ فَإِنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ وَالِدِهِ وَكَانَ يُقَالُ مَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ فَيُقَالُ الْعَبَّاسُ وَمَنْ أَعْلَمُ النَّاسِ فَيُقَالُ الْعَبَّاسُ وَمَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ فَيُقَالُ الْعَبَّاسُ وَكَانَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَظِيمًا عِنْدَ النَّاسِ فِي نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ تُرْجُمَانَ الْقُرْآنِ وَافِرَ الْعَقْلِ جَمِيلَ الْمَحَاسِنِ وَالْجَلَالَةِ وَالْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ فَأَحْجَمُوا عَنْ تَعْزِيَتِهِ إجْلَالًا لَهُ وَمَهَابَةً بِسَبَبِ عَظَمَتِهِ فِي نَفْسِهِ ، وَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ شَهْرًا كَمَا ذَكَرَهُ الْمُؤَرِّخُونَ فَبَعْدَ الشَّهْرِ قَدِمَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ الْبَادِيَةِ فَسَأَلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ النَّاسُ مَا تُرِيدُ فَقَالَ أُرِيدُ أَنْ

أُعَزِّيَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ عَسَاهُ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ بَابَ التَّعْزِيَةِ فَلَمَّا رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ سَلَامٌ عَلَيْك يَا أَبَا الْفَضْلِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَأَنْشَدَهُ : اصْبِرْ نَكُنْ بِك صَابِرِينَ فَإِنَّمَا صَبْرُ الرَّعِيَّةِ عِنْدَ صَبْرِ الرَّاسِ خَيْرٌ مِنْ الْعَبَّاسِ أَجْرُك بَعْدَهُ وَاَللَّهُ خَيْرٌ مِنْك لِلْعَبَّاسِ فَلَمَّا سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ رِثَاءَهُ وَاسْتَوْعَبَ شِعْرَهُ سَرَّى عَنْهُ عَظِيمَ مَا كَانَ بِهِ ، وَاسْتَرْسَلَ النَّاسُ فِي تَعْزِيَتِهِ وَهَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْجَوْدَةِ مِنْ الرِّثَاءِ مُسَهِّلٌ لِلْمُصِيبَةِ مُذْهِبٌ لِلْحُزْنِ مُحْسِنٌ لِتَصَرُّفِ الْقَضَاءِ مُثْنٍ عَلَى الرَّبِّ بِإِحْسَانٍ وَجَمِيلِ الْعَوَارِفِ ، فَهَذَا حَسَنٌ جَمِيلٌ وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ سَمِعَ أَهْلُ بَيْتِهِ قَائِلًا يَقُولُ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَلَا يَرَوْنَ شَخْصَهُ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إنَّ فِي اللَّهِ خَلَفًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ وَعِوَضًا مِنْ كُلِّ ذَاهِبٍ فَإِيَّاهُ فَارْجُوَا وَبِهِ فَثِقُوا فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ فَكَانُوا يَرَوْنَهُ الْخَضِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهَذَا أَيْضًا كَلَامٌ مِنْ الْقُرُبَاتِ وَمُنْدَرِجٌ فِي سِلْكِ الْمَنْدُوبَاتِ ، وَعَلَى هَذِهِ الْقَوَانِينِ يَتَخَرَّجُ جَمِيعُ مَا يَرِدُ عَلَيْك مِنْ النُّوَاحَاتِ وَالْمَرَاثِي وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ فِعْلِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ لَا يُعَذَّبُ بِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّت يُعَذَّبُ بِهِ الْمَيِّتُ ) وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ } خَرَّجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الصِّحَاحِ فَأَشْكَلَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُؤَاخَذُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَهِيَ قَاعِدَةٌ صَحِيحَةٌ تُعَارِضُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَحَصَل الْفَرْقُ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَوْصَى بِالنِّيَاحَةِ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ : إذَا مِتَّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَدِ .
وَثَانِيهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَذْكُرُونَ فِي نَوَائِحِهِمْ مَفَاخِرَ هِيَ مَخَازٍ عِنْدَ الشَّرْعِ كَالْغَصْبِ وَالْفُسُوقِ فَيُعَذَّبُ بِهَا فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِمَدْلُولِ مَا يَقَعُ فِي الْبُكَاءِ مِنْ الْأَلْفَاظِ ، وَلَمَّا كَانَ بَيْنَ الْبُكَاءِ وَبَيْن تِلْكَ الْأُمُورِ مُلَازَمَةٌ قَدْ حَصَلَتْ فِي الْوَاقِعِ عَبَّرَ بِالْبُكَاءِ عَنْهُ مَجَازًا ، وَالْعِلَاقَةُ هِيَ هَذِهِ الْمُلَازَمَةُ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يُلَازِمُ مَدْلُولَهُ ، وَالْبُكَاءَ يُلَازِمُ هَذَا اللَّفْظَ فَهَذِهِ الْمُلَازَمَةُ هِيَ الْعِلَاقَةُ .
وَثَالِثُهَا مَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمَا إنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأ إنَّمَا { مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَهُودِيَّةٍ يَبْكِي عَلَيْهَا أَهْلُهَا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّكُمْ لَتَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا } وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ تَكُونُ أَجْوِبَةً عَنْ الْحَدِيثِ ، وَلَا تُوجِبُ فَرْقًا بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ ، وَإِنَّمَا هِيَ تَرُدُّ الْبُكَاءَ إلَى فِعْلِ الْمَيِّتِ بِالْوَصِيَّةِ كَمَا قَالَهُ أَوَّلًا أَوْ بِالْمُبَاشَرَةِ كَمَا قَالَهُ ثَانِيًا ، وَأَمَّا الثَّالِثُ

فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْيَهُودِيَّةَ إنَّمَا عُذِّبَتْ فِي قَبْرِهَا بِكُفْرِهَا لَا بِبُكَاءِ أَهْلِهَا .
وَالْفَرْقُ فِي التَّحْقِيقِ إنْ مَشَيْنَا اللَّفْظَ عَلَى ظَاهِرِهِ مَا وَقَعَ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَاتَ لَهَا وَلَدٌ فَرَحَلَتْ فِي بَعْضِ مَقَاصِدِهَا إلَى الْمَغْرِبِ فَحَضَرَ يَوْمُ الْعِيدِ وَعَادَتُهَا فِيهِ فِي بَلَدِهَا تَخْرُجُ إلَى الْمَقَابِر فَتَبْكِي عَلَى وَلَدِهَا ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ فِي بَلَدِهَا خَطَرَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَقَابِرِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ الَّتِي حَلَّتْ بِهَا فَتَفْعَلُ فِيهَا مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ فِي بَلَدِهَا فَخَرَجَتْ إلَيْهَا ، وَفَعَلَتْ ذَلِكَ وَأَكْثَرَتْ الْبُكَاءَ وَالْعَوِيلَ وَالتَّفْجِيعَ عَلَى وَلَدِهَا ، ثُمَّ نَامَتْ فَرَأَتْ أَهْلَ الْمَقْبَرَةِ قَدْ هَاجُوا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا هَلْ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ عِنْدَنَا وَلَدٌ ؟ فَقَالُوا لَا فَقَالَ السَّائِلُ مِنْهُمْ لِلْمَسْئُولِ فَكَيْفَ جَاءَتْ عِنْدَنَا تُؤْذِينَا بِبُكَائِهَا وَعَوِيلِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهَا عِنْدَنَا وَلَدٌ ، ثُمَّ ذَهَبُوا إلَيْهَا فَضَرَبُوهَا ضَرْبًا وَجِيعًا فَاسْتَيْقَظَتْ فَوَجَدَتْ أَلَمًا عَظِيمًا مِنْ ذَلِكَ الضَّرْبِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ تَتَأَلَّمُ مِنْ الْمُؤْلِمَاتِ وَتَفْرَحُ بِاللَّذَّاتِ فِي الْبَرْزَخِ كَمَا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَكَذَلِكَ تُعَذَّبُ الْكُفَّارُ فِي قُبُورِهَا كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ الْيَهُودَ لَتُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا } فَالْأَوْضَاعُ الْبَشَرِيَّةُ فِي الْأَرْوَاحِ لَمْ تَتَغَيَّرْ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ فِي مَسْكَنٍ فَارَقَتْهُ وَبَقِيَتْ عَلَى حَالِهَا فِي أَوْضَاعِهَا ، وَلَمَّا كَانَ الْبُكَاءُ وَالْعَوِيلُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ تَتَأَذَّى بِهِ الْأَرْوَاحُ وَتَنْقَبِضُ كَانَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ تَتَأَذَّى بِهِ كَذَلِكَ كَانَ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى غَيْرِهَا ، وَهُوَ عَلَيْهَا أَشَدُّ نِكَايَة ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُصَابَةُ حِينَئِذٍ ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمَوْتَى يَعْلَمُونَ أَحْوَالَ الْأَحْيَاءِ ، وَمَا نَزَلَ بِهِمْ مِنْ شِدَّةٍ وَرَخَاءٍ

وَفَقْرٍ وَاسْتِغْنَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَجَدَّدُ لِأَهْلِيهِمْ ، وَيَتَأَلَّمُونَ لِلْمُؤْلِمَاتِ وَيُسَرُّونَ بِاللَّذَّاتِ ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُمْ يَفْتَخِرُونَ بِالزِّيَارَاتِ ، وَيَتَأَلَّمُونَ بِانْقِطَاعِهَا .
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانُوا يَتَأَلَّمُونَ بِالْبُكَاءِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِيهِمْ وَغَيْرِ أَهْلِيهِمْ ، وَالْأَلَمُ عَذَابٌ فَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ } ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَذَّبُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ أَيْ عَذَابُ الْآخِرَةِ الَّذِي هُوَ عَذَابُ الذُّنُوبِ وَالْبُكَاءُ عَذَابٌ لَيْسَ عَذَابَ الْآخِرَةِ الَّذِي هُوَ عَذَابُ الذُّنُوبِ الْمُتَوَعَّدِ بِهِ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الشَّرْعِ بَلْ مَعْنَاهُ الْأَلَمُ الْجِبِلِّيُّ الَّذِي إذَا وَقَعَ فِي الْوُجُودِ قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَنْ يَبْتَلِيهِ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأَلَمِ لِرَفْعِ دَرَجَاتِهِ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْنُ الْأَنْبِيَاءَ أَشَدُّ بَلَاءً ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ يَتَأَلَّمُونَ بِالْبَلَايَا وَالرَّزَايَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَذَابًا بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ بَلْ رَحْمَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ عَلَى الْقَرْنِ الْمَاضِي أَنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلَايَا كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ ، وَالْعَذَابُ يُسْتَعَاذُ مِنْهُ وَلَا يُفْرَحُ بِهِ فَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي هُوَ الْفَرْقُ الصَّحِيحُ ، وَيَبْقَ اللَّفْظُ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَيُسْتَغْنَى عَنْ التَّأْوِيلِ وَتَخْطِئَةِ الرَّاوِي وَمَا سَاعَدَهُ الظَّاهِرُ مِنْ الْأَجْوِبَةِ كَانَ أَسْعَدَهَا وَأَوْلَاهَا وَهَذَا كَذَلِكَ ، فَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْفَرْقِ .

الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ فِعْلِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ لَا يُعَذَّبُ بِهِ ، وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ يُعَذَّبُ بِهِ الْمَيِّتُ ) لَمَّا أَشْكَلَ عَلَى الْقَاعِدَةِ الصَّحِيحَةِ وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُؤَاخَذُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَعَارَضَهَا ظَاهِرُ مَا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الصِّحَاحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ } ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى رَدِّ الْبُكَاءِ فِيهِ إلَى فِعْلِ الْمَيِّتِ إمَّا بِحَمْلِهِ عَلَى مَا إذَا أَوْصَى الْمَيِّتُ بِالنِّيَاحَةِ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ : إذَا مِتَّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَدِ .
وَإِمَّا بِحَمْلِهِ عَلَى مَا كَانَ يُبَاشِرُهُ الْمَيِّتُ حَالَ حَيَاتِهِ مِنْ الْكُفْرِ وَنَحْوِ الْغَضَبِ وَالْفُسُوقِ مِنْ الْمَفَاخِرِ الَّتِي كَانُوا يَذْكُرُونَهَا فِي نَوَائِحِهِمْ ، وَهِيَ مَجَازٌ عِنْدَ الشَّرْعِ فَيُعَذَّبُ بِهَا فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِمَدْلُولِ مَا يَقَعُ فِي الْبُكَاءِ مِنْ الْأَلْفَاظِ مَجَازُ الْعِلَاقَةِ الْمَلْزُومِيَّةِ بِوَاسِطَةٍ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يُلَازِمُ مَدْلُولَهُ وَالْبُكَاءَ يُلَازِمُ هَذَا اللَّفْظَ { فَقَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمَا إنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ إنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَهُودِيَّةٍ يَبْكِي عَلَيْهَا أَهْلُهَا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّكُمْ لَتَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا } مَعْنَاهُ أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ إنَّمَا عُذِّبَتْ فِي قَبْرِهَا بِكُفْرِهَا لَا بِبُكَاءِ أَهْلِهَا ، وَذَهَبَ الْأَصْلُ إلَى أَنَّهُمَا قَاعِدَتَانِ ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ بَاقٍ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَأَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِمَا وَقَعَ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَاتَ لَهَا وَلَدٌ فَرَحَلَتْ فِي بَعْضِ مَقَاصِدِهَا إلَى الْمَغْرِبِ فَحَضَرَ يَوْمُ الْعِيدِ وَعَادَتُهَا

فِيهِ فِي بَلَدِهَا تَخْرُجُ إلَى الْمَقَابِرِ فَتَبْكِي عَلَى وَلَدِهَا فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ فِي بَلَدِهَا خَطَرَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَقَابِرِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ الَّتِي حَلَّتْ بِهَا فَتَفْعَلُ فِيهَا مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ فِي بَلَدِهَا فَخَرَجَتْ إلَيْهَا ، وَفَعَلَتْ ذَلِكَ وَأَكْثَرَتْ الْبُكَاءَ وَالْعَوِيلَ وَالتَّفَجُّعَ عَلَى وَلَدِهَا ، ثُمَّ نَامَتْ فَرَأَتْ أَهْلَ الْمَقْبَرَةِ قَدْ هَاجُوا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا هَلْ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ عِنْدَنَا وَلَدٌ فَقَالُوا لَا فَقَالَ السَّائِلُ مِنْهُمْ لِلْمَسْئُولِ فَكَيْفَ جَاءَتْ عِنْدَنَا تُؤْذِينَا بِبُكَائِهَا وَعَوِيلِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهَا عِنْدَنَا وَلَدٌ ، ثُمَّ ذَهَبُوا إلَيْهَا فَضَرَبُوهَا ضَرْبًا وَجِيعًا فَاسْتَيْقَظَتْ فَوَجَدَتْ أَلَمًا عَظِيمًا مِنْ ذَلِكَ الضَّرْبِ ، وَتَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ أَنَّ الْبُكَاءَ وَالْعَوِيلَ كَمَا كَانَتْ الْأَرْوَاحُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ تَتَأَذَّى بِهِ ، وَتَنْقَبِضُ كَذَلِكَ تَتَأَذَّى بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى غَيْرِهَا إلَّا أَنَّهُ عَلَيْهَا أَشَدُّ نِكَايَةً ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُصَابَةُ حِينَئِذٍ .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمَوْتَى يَعْلَمُونَ أَحْوَالَ الْأَحْيَاءِ وَمَا نَزَلَ بِهِمْ مِنْ شِدَّةٍ وَرَخَاءٍ وَفَقْرٍ وَاسْتِغْنَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَجَدَّدُ لِأَهْلَيْهِمْ وَيَتَأَلَّمُونَ لِلْمُؤْلِمَاتِ وَيُسَرُّونَ بِاللَّذَّاتِ ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُمْ يَفْتَخِرُونَ بِالزِّيَارَاتِ وَيَتَأَلَّمُونَ بِانْقِطَاعِهَا فَالْأَوْضَاعُ الْبَشَرِيَّةُ لِلْأَرْوَاحِ فِي الْبَرْزَخِ كَمَا كَانَتْ لَهَا فِي الدُّنْيَا لَمْ تَتَغَيَّرْ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ فِي مَسْكَنٍ فَارَقَتْهُ فَقَطْ ، وَبَقِيَتْ عَلَى حَالِهَا فِي أَوْضَاعِهَا فَالْعَذَابُ فِي الْقَاعِدَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا حَدِيثُ إنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ بِمَعْنَى الْأَلَمِ الْجِبِلِّيِّ الَّذِي إذَا وَقَعَ فِي الْوُجُودِ قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَنْ يَبْتَلِيهِ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأَلَمِ لِرَفْعِ دَرَجَاتِهِ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ { نَحْنُ الْأَنْبِيَاءَ أَشَدُّهُمْ بَلَاءً ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ يَتَأَلَّمُونَ بِالْبَلَايَا وَالرَّزَايَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَذَابًا بِمَعْنَى عَذَابِ الْآخِرَةِ الَّذِي هُوَ عَذَابُ الذُّنُوبِ الْمُتَوَعَّدِ بِهِ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الشَّرْعِ كَمَا هُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي قَاعِدَةِ إنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَذَّبُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا تَأَلُّمُهُمْ بِالْبَلَايَا وَالرَّزَايَا رَحْمَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ عَلَى الْقَرْنِ الْمَاضِي أَنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلَايَا كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ ، وَالْعَذَابُ يُسْتَعَاذُ مِنْهُ وَلَا يُفْرَحُ بِهِ قَالَ الْأَصْلُ فَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي هُوَ الْفَرْقُ الصَّحِيحُ ، وَيَبْقَى لَفْظُ الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَيُسْتَغْنَى عَنْ التَّأْوِيلِ وَتَخْطِئَةِ الرَّاوِي ، وَمَا سَاعَدَهُ الظَّاهِرُ مِنْ الْأَجْوِبَةِ كَانَ أَسْعَدَهَا وَأَوْلَاهَا ، وَهَذَا كَذَلِكَ فَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْفَرْقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِالْحِسَابِ وَالْآلَاتِ وَكُلِّ مَا دَلَّ عَلَيْهَا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَهِلَّةُ فِي الرَّمَضَانَاتِ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِالْحِسَابِ ) وَفِيهِ قَوْلَانِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْحِسَابِ فَإِذَا دَلَّ حِسَابُ تَسْيِيرِ الْكَوَاكِبِ عَلَى خُرُوجِ الْهِلَالِ مِنْ الشُّعَاعِ مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ لَا يَجِبُ الصَّوْمُ قَالَ سَنَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا فَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ يَرَى الْحِسَابَ فَأَثْبَتَ الْهِلَالَ بِهِ لَمْ يُتَّبَعْ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى خِلَافِهِ مَعَ أَنَّ حِسَابَ الْأَهِلَّةِ وَالْكُسُوفَاتِ وَالْخُسُوفَاتِ قَطْعِيٌّ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِأَنَّ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَانْتِقَالَاتِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ السَّيَّارَةِ عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ طُولَ الدَّهْرِ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } وَقَالَ تَعَالَى { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } أَيْ هُمَا ذَوَا حِسَابٍ فَلَا يَنْخَرِم ذَلِكَ أَبَدًا ، وَكَذَلِكَ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ لَا يَنْخَرِمُ حِسَابُهَا ، وَالْعَوَائِدُ إذَا اسْتَمَرَّتْ أَفَادَتْ الْقَطْعَ كَمَا إذَا رَأَيْنَا شَيْخًا نَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَمْ يُولَدْ كَذَلِكَ بَلْ طِفْلًا لِأَجْلِ عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ وَإِلَّا فَالْعَقْلُ يُجَوِّزُ وِلَادَتَهُ كَذَلِكَ ، وَالْقَطْعُ الْحَاصِلُ فِيهِ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْعَادَةِ ، وَإِذَا حَصَلَ الْقَطْعُ بِالْحِسَابِ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهُ لَا غَايَةَ بَعْدَ حُصُولِ الْقَطْعِ وَالْفَرْقُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ هَاهُنَا وَهُوَ عُمْدَةُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَبَ زَوَالَ الشَّمْسِ سَبَبَ وُجُوبِ الظُّهْرِ .
وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأَوْقَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } أَيْ لِأَجْلِهِ ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ

تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هَذَا خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ حِينَ تُمْسُونَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَحِينَ تُصْبِحُونَ الصُّبْحُ وَعَشِيًّا الْعَصْرُ وَحِينَ تُظْهِرُونَ الظُّهْرُ وَالصَّلَاةُ تُسَمَّى سُبْحَةً ، وَمِنْهُ سُبْحَةُ الضُّحَى أَيْ صَلَاتُهَا فَالْآيَةُ أَمْرٌ بِإِيقَاعِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ نَفْسَ الْوَقْتِ سَبَبٌ فَمَنْ عَلِمَ السَّبَبَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ لَزِمَهُ حُكْمُهُ ، فَلِذَلِكَ اُعْتُبِرَ الْحِسَابُ الْمُفِيدُ لِلْقَطْعِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ ، .
وَأَمَّا الْأَهِلَّةُ فَلَمْ يَنْصِبْ صَاحِبُ الشَّرْعِ خُرُوجَهَا مِنْ الشُّعَاعِ سَبَبًا لِلصَّوْمِ بَلْ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ خَارِجًا مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ هُوَ السَّبَبُ ، فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ الرُّؤْيَةُ لَمْ يَحْصُلْ السَّبَبُ الشَّرْعِيُّ فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ لَمْ يَنْصِبْ نَفْسَ خُرُوجِ الْهِلَالِ عَنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ سَبَبًا لِلصَّوْمِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ } وَلَمْ يَقُلْ لِخُرُوجِهِ عَنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } ثُمَّ قَالَ { فَإِنَّ غُمَّ عَلَيْكُمْ } أَيْ خَفِيَتْ عَلَيْكُمْ رُؤْيَتُهُ { فَاقْدِرُوا لَهُ } فِي رِوَايَةٍ { فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ } فَنَصَبَ رُؤْيَةَ الْهِلَالَ أَوْ إكْمَالَ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِخُرُوجِ الْهِلَالِ عَنْ الشُّعَاعِ ، .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ ؛ لِأَنَّ شَهِدَ لَهَا ثَلَاثُ مَعَانٍ شَهِدَ بِمَعْنَى حَضَرَ وَمِنْهُ شَهِدْنَا صَلَاةَ الْعِيدِ ، وَشَهِدَ بَدْرًا ، وَشَهِدَ بِمَعْنَى أَخْبَرَ وَمِنْهُ شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَيْ أَخْبَرَهُ بِمَا يَعْلَمُهُ ، وَشَهِدَ بِمَعْنَى عَلِمَ

وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أَيْ عَلِيمٌ وَهُوَ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى حَضَرَ قَالَ وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ فَمَنْ حَضَرَ مِنْكُمْ الْمِصْرَ فِي الشَّهْرِ فَلْيَصُمْهُ أَيْ حَاضِرًا مُقِيمًا احْتِرَازًا مِنْ الْمُسَافِرِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ ، وَإِذَا كَانَ شَهِدَ بِمَعْنَى حَضَرَ لَا بِمَعْنَى شَاهَدَ وَرَأَى لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اعْتِبَارِ الرُّؤْيَةِ وَلَا عَلَى اعْتِبَارِ الْحِسَابِ أَيْضًا فَإِنَّ الْحُضُور فِي الشَّهْرِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ ثَبَتَ بِالرُّؤْيَةِ أَوْ بِالْحِسَابِ فَلِأَجْلِ هَذَا الْفَرْقِ قَالَ الْفُقَهَاءُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إنْ كَانَ هَذَا الْحِسَابُ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُنْضَبِطًا لَكِنَّهُ لَمْ يَنْصِبْهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ سَبَبًا فَلَمْ يَجِبْ بِهِ صَوْمٌ وَالْحَقُّ مِنْ تَرْدِيدِ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ غَيْرَ أَنَّ هَاهُنَا إشْكَالَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَالْآخَرُ فِي رُؤْيَةِ الْأَهِلَّةِ .
الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَذَلِكَ أَنَّهُ جَرَتْ عَادَةُ الْمُؤَذِّنِينَ وَأَرْبَابِ الْمَوَاقِيتِ بِتَيْسِيرِ دَرَجِ الْفَلَكِ فَإِذَا شَاهَدُوا الْمُتَوَسِّطَ مِنْ دَرَجِ الْفَلَكِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ دَرَجِ الْفَلَكِ الَّذِي يَقْتَضِي أَنَّ دَرَجَةَ الشَّمْسِ قَرُبَتْ مِنْ الْأُفُقِ قُرْبًا يَقْتَضِي أَنَّ الْفَجْرَ طَلَعَ أَمَرُوا النَّاسَ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ مَعَ أَنَّ الْأُفُقَ يَكُونُ صَاحِيًا لَا يَخْفَى فِيهِ طُلُوعُ الْفَجْرِ لَوْ طَلَعَ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَجِدُ الْإِنْسَانُ لِلْفَجْرِ أَثَرًا أَلْبَتَّةَ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَصَبَ سَبَبَ وُجُوبٍ لِلصَّلَاةِ ظُهُورَ الْفَجْرِ فَوْقَ الْأُفُقِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ فَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ حِينَئِذٍ فَإِنَّهُ إيقَاعٌ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا وَبِدُونِ سَبَبِهَا ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ إثْبَاتِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ ( فَإِنْ قُلْت ) هَذَا جُنُوحٌ مِنْك إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الرُّؤْيَةِ ، وَأَنْتَ قَدْ فَرَّقْت بَيْنَ

الْبَابَيْنِ ، وَمَيَّزْت بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ بِالرُّؤْيَةِ وَعَدَمِهَا ، وَقُلْت السَّبَبُ فِي الْأَهِلَّةِ الرُّؤْيَةُ وَفِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ تَحْقِيقُ الْوَقْتِ دُونَ رُؤْيَتِهِ فَحَيْثُ اشْتَرَطْت الرُّؤْيَةَ فَقَدْ أَبْطَلْت مَا ذَكَرْته مِنْ الْفَرْقِ .
قُلْت سُؤَالٌ حَسَنٌ ( وَالْجَوَابُ عَنْهُ ) أَنِّي لَمْ أَشْتَرِطْ الرُّؤْيَةَ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ لَكِنِّي جَعَلَتْ عَدَمَ اطِّلَاعِ الْحِسِّ عَلَى عَدَمِ الْفَجْرِ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِهِ وَأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَتَحَقَّقْ ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ هِيَ السَّبَبُ وَنَظِيرُهُ فِي الْأَهِلَّةِ لَوْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَالْجَمْعُ ثير وَلَمْ يُرَ الْهِلَالَ جَعَلْت ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ خُلُوصِ الْهِلَالِ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَيْت الظِّلَّ عِنْدَ الزَّوَالِ مَائِلً لِجِهَةِ الْمَغْرِبِ ، وَلَمْ أَرَهُ مَائِلًا إلَى جِهَةِ الْمَشْرِقِ بَلْ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ جَعَلْت ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ دُخُولِ الْوَقْتِ وَعَدَم السَّبَبِ فَفَرْقٌ بَيْنَ كَوْنِ الْحِسِّ سَبَبًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ دَالًّا عَلَى عَدَمِ السَّبَبِ فَإِنِّي فِي الْفَجْرِ جَعَلْته دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ السَّبَبِ لَا أَنِّي اشْتَرَطْت الرُّؤْيَةَ ، وَلِذَلِكَ أَنِّي لَمْ أَسْتَشْكِلْ ذَلِكَ إلَّا وَالسَّمَاءُ مُصْحِيَةٌ وَالْحِسُّ لَا يَجِدُ شَيْئَانِ مِنْ الْفَجْرِ ، أَمَّا لَوْ كَانَ حِسَابُهُمْ يَظْهَرُ مَعَهُ الْفَجْرُ مَعَ الصَّحْوِ طَالِعًا مِنْ الْأُفُقِ وَيَخْفَى مَعَ الْغَيْمِ لَمْ أَسْتَشْكِلْهُ ، وَقُلْت : إنَّمَا يَخْفَى لِأَجْلِ الْغَيْم لَا لِأَجْلِ عَدَمِهِ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ لَمَّا رَأَيْت حِسَابَهُمْ فِي الصَّحْوِ لَا يَظْهَرُ مَعَهُ الْفَجْرُ عَلِمْت أَنَّ حِسَابَهُمْ يُقَارِنُ عَدَمَ السَّبَبِ فَإِنَّ الْحِسَّ كَمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْفَجْرِ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى عَدَمِهِ بِاتِّسَاقِ الظُّلْمَةِ وَعَدَمِ الضِّيَاءِ ، فَهَذَا جَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ لَا أَنِّي سَوَّيْت بَيْنَ الْأَهِلَّةِ وَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ الْإِشْكَالَ الثَّانِيَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ جَعَلُوا رُؤْيَةَ الْهِلَالِ فِي بَلَدٍ مِنْ الْبِلَادِ سَبَبًا

لِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَوَافَقَتْهُمْ الْحَنَابِلَةُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ .
وَقَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِكُلِّ قَوْمٍ رُؤْيَتُهُمْ وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ فَجْرَهُمْ وَزَوَالَهُمْ وَعَصْرَهُمْ وَمَغْرِبَهُمْ وَعِشَاءَهُمْ فَإِنَّ الْفَجْرَ إذَا طَلَعَ عَلَى قَوْمٍ يَكُونُ عِنْدَ آخَرِينَ نِصْفَ اللَّيْلِ وَعِنْدَ آخَرِينَ نِصْفَ النَّهَارِ وَعِنْدَ آخَرِينَ غُرُوبَ الشَّمْسِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَمَا مِنْ دَرَجَةٍ تَطْلُعُ مِنْ الْفَلَكِ أَوْ تَتَوَسَّطُ أَوْ تَغْرُبُ إلَّا فِيهَا جَمِيعُ الْأَوْقَاتِ بِحَسَبِ آفَاقٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَقْطَارٍ مُتَبَايِنَةٍ فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فِي أَقْصَى الْمَشْرِقِ كَانَ نِصْفَ اللَّيْلِ عِنْدَ الْبِلَادِ الْمَغْرِبِيَّةِ مِنْهُمْ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى حَسَبِ الْبُعْدِ عَنْ ذَلِكَ الْأُفُقِ غَرَبَتْ الشَّمْسُ فِي أَقْصَى الْمَغْرِبِ كَانَ نِصْفَ اللَّيْلِ عِنْدَ الْبِلَادِ الْمَشْرِقِيَّةِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ بِحَسَبِ قُرْبِ ذَلِكَ الْقُطْرِ مِنْ الْقُطْرِ الَّذِي غَرَبَتْ فِيهِ الشَّمْسُ ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأَوْقَاتِ تَخْتَلِفُ هَذَا الِاخْتِلَافَ .
وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي الْفَتَاوَى الْفِقْهِيَّةِ مَسْأَلَةٌ أَشْكَلَتْ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي أَخَوَيْنِ مَاتَا عِنْدَ الزَّوَالِ أَحَدُهُمَا بِالْمَشْرِقِ وَالْآخَرُ بِالْمَغْرِبِ أَيُّهُمَا يَرِثُ صَاحِبَهُ فَأَفْتَى الْفُضَلَاءُ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْمَغْرِبِيَّ يَرِثُ الْمَشْرِقِيَّ ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمَشْرِقِ قَبْلَ زَوَال الْمَغْرِبِ فَالْمَشْرِقِيُّ مَاتَ أَوَّلًا فَيَرِثُهُ الْمُتَأَخِّرُ لِبَقَائِهِ بَعْدَهُ حَيًّا مُتَأَخِّرَ الْحَيَاةِ فَيَرِثُ الْمَغْرِبِيُّ الْمَشْرِقِيَّ إذَا تَقَرَّرَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْآفَاقِ ، وَأَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ فَجْرَهُمْ وَزَوَالَهُمْ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْقَاتِ فَيَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْأَهِلَّةِ بِسَبَبِ أَنَّ الْبِلَادَ الْمَشْرِقِيَّةَ إذَا كَانَ الْهِلَالُ فِيهَا فِي الشُّعَاعِ وَبَقِيَتْ

الشَّمْسُ تَتَحَرَّكُ مَعَ الْقَمَرِ إلَى الْجِهَةِ الْغَرْبِيَّةِ فَمَا تَصِلُ الشَّمْسُ إلَى أُفُقِ الْمَغْرِبِ إلَّا وَقَدْ خَرَجَ الْهِلَالُ مِنْ الشُّعَاعِ فَيَرَاهُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ وَلَا يَرَاهُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ هَذَا أَحَدُ أَسْبَابِ اخْتِلَافِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَلَهُ أَسْبَابٌ أُخَرُ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ لَا يَلِيقُ ذِكْرُهَا هَاهُنَا إنَّمَا ذَكَرْت مَا يَقْرُبُ فَهْمُهُ ، وَإِذَا كَانَ الْهِلَالُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْآفَاقِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ قَوْمٍ رُؤْيَتُهُمْ فِي الْأَهِلَّةِ كَمَا أَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ فَجْرَهُمْ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ ، وَهَذَا حَقٌّ ظَاهِرٌ وَصَوَابٌ مُتَعَيِّنٌ أَمَّا وُجُوبُ الصَّوْمِ عَلَى جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ بِقُطْرٍ مِنْهَا فَبَعِيدٌ عَنْ الْقَوَاعِدِ ، وَالْأَدِلَّةُ لَمْ تَقْتَضِ ذَلِكَ فَاعْلَمْهُ .

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِالْحِسَابِ وَالْآلَاتِ وَكُلِّ مَا دَلَّ عَلَيْهَا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَهِلَّةِ فِي الرَّمَضَانَاتِ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِالْحِسَابِ ) ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَبَ زَوَالَ الشَّمْسِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الظُّهْرِ وَبَقِيَّةَ الْأَوْقَاتِ سَبَبًا لِوُجُوبِ بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ كَمَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ أَدِلَّةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } أَيْ لِأَجْلِهِ وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هَذَا خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ حِينَ تُمْسُونَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَحِينَ تُصْبِحُونَ الصُّبْحُ وَعَشِيًّا الْعَصْرُ وَحِينَ تُظْهِرُونَ الظُّهْرُ ، وَالصَّلَاةُ تُسَمَّى سُبْحَةً وَمِنْهُ سُبْحَةُ الضُّحَى أَيْ صَلَاتُهَا فَالْآيَةُ أَمْرٌ بِإِيقَاعِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ ، فَمَنْ عَلِمَ السَّبَبَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ لَزِمَهُ حُكْمُهُ فَلِذَلِكَ اُعْتُبِرَ الْحِسَابُ الْمُفِيدُ لِلْقَطْعِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ .
وَأَمَّا الْأَهِلَّةُ فَقَالَ الْفُقَهَاءُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى حِسَابُ تَسْيِيرِ الْكَوَاكِبِ عَلَى خُرُوجِ الْهِلَالِ مِنْ الشُّعَاعِ مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا مُنْضَبِطًا بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِأَنَّ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَانْتِقَالَاتِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ السَّيَّارَةِ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ : زُحَلٌ شَرَى مِرِّيخَهُ مِنْ شَمْسِهِ فَتَزَاهَرَتْ لِعُطَارِدِ الْأَقْمَارُ عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ طُولَ الدَّهْرِ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } .
وَقَالَ تَعَالَى { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } أَيْ هُمَا ذُو حِسَابٍ فَلَا يَنْخَرِمُ ذَلِكَ أَبَدًا كَمَا لَا

يَنْخَرِمُ حِسَابُ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ الصَّيْفُ وَالشِّتَاءُ وَالرَّبِيعُ وَالْخَرِيفُ ، وَالْعَوَائِدُ إذَا اسْتَمَرَّتْ أَفَادَتْ الْقَطْعَ كَمَا إذَا رَأَيْنَا شَيْخًا نَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَمْ يُولَدْ كَذَلِكَ بَلْ طِفْلًا لِأَجْلِ عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ جَوَّزَ الْعَقْلُ وِلَادَتَهُ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَمَدُ فِي خُرُوجِ الْأَهِلَّةِ مِنْ الشُّعَاعِ عَلَى حُصُولِ الْقَطْعِ بِالْحِسَابِ كَمَا اُعْتُمِدَ عَلَيْهِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ ؛ لِأَنَّهُ لَا غَايَةَ بَعْدَ حُصُولِ الْقَطْعِ بِسَبَبِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ لَمْ يَنْصِبْ خُرُوجَ الْأَهِلَّةِ مِنْ الشُّعَاعِ سَبَبًا لِلصَّوْمِ كَمَا نَصَبَ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا نَصَبَ رُؤْيَةَ الْهِلَالِ خَارِجًا مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ أَوْ إكْمَالَ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِخُرُوجِ الْهِلَالِ عَنْ الشُّعَاعِ فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ } وَلَمْ يَقُلْ لِخُرُوجِهِ عَنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ أَيْ خَفِيَتْ عَلَيْكُمْ رُؤْيَتُهُ فَاقْدِرُوا لَهُ وَفِي رِوَايَةٍ { فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ } .
قَالَ الْبُنَانِيُّ عَلَى عبق وَفِي الْحَدِيثَيْنِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّ الثَّانِيَ تَفْسِيرٌ لِلْأَوَّلِ .
وَالثَّانِي لِلطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ نَاسِخٌ ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ فِي الْأَوَّلِ مَعْنَاهُ أَنْ يُنْظَرَ إلَى الْهِلَالِ لَيْلَةَ الْوَاحِدِ وَالثَّلَاثِينَ فَإِنْ سَقَطَ لِسِتَّةِ أَسْبَاعِ سَاعَةٍ فَهُوَ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ ، وَإِنْ سَقَطَ لِضِعْفِهَا فَمَا قَبْلَهَا ، وَالثَّالِثُ لِابْنِ رُشْدٍ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ فِي الْأَوَّلِ أَنْ يُنْظَرَ فِي الشُّهُورِ الَّتِي قَبْلَ شَعْبَانَ فَإِنْ تَوَالَى ثَلَاثَةٌ عَلَى الْكَمَالِ حُمِلَ عَلَى النَّقْضِ ، وَإِلَّا حُمِلَ عَلَى الْكَمَالِ وَهُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ الثَّانِي قَالَ الْحَطَّابُ ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا

غُبَارَ عَلَيْهِ ا هـ .
وَقَدْ تَبِعَ عج فِي قَوْلِهِ لَا يَتَوَالَى النَّقْصُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ الشُّهُورِ يَا فَطِنُ كَذَا تَوَالِي خَمْسَةٍ مُكَمِّلَةٍ هَذَا الصَّوَابُ وَسِوَاهُ أَبْطِلْهُ لِابْنِ رُشْدٍ إلَّا أَنَّ فِيهِ بَعْضَ مُخَالَفَةٍ لَهُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ هَذَا الصَّوَابُ إلَخْ لِكَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ وَالطَّحَاوِيِّ لَا كَمَا فَهِمَ عبق وَمَحِلُّ ثُبُوتِ رَمَضَانَ بِكَمَالِ شَعْبَانَ إذَا لَمْ تَكُنْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً لَيْلَةَ الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ ، وَقَدْ كَانَ هِلَالُ شَعْبَانَ ثَبَتَ بِرُؤْيَةِ عَدْلَيْنِ لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ مِنْ رَجَبٍ وَإِلَّا فَلَا يَثْبُتُ بِكَمَالِ شَعْبَانَ لِتَكْذِيبِ الشَّاهِدَيْنِ أَوَّلًا كَمَا فِي خش ، وَهُوَ صَحِيحٌ ا هـ بِتَصَرُّفٍ وَلَا دَلَالَةَ فِي قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ لِمَا مَرَّ أَوَّلَ الْكِتَابِ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ مِنْ أَنَّ شَهِدَ فِيهِ بِمَعْنَى حَضَرَ .
قَالَ وَالتَّقْدِيرُ فَمَنْ حَضَرَ مِنْكُمْ الْمِصْرَ فِي الشَّهْرِ فَلْيَصُمْهُ أَيْ حَاضِرًا مُقِيمًا احْتِرَازًا مِنْ الْمُسَافِرِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ ، وَإِذَا كَانَ شَهِدَ بِمَعْنَى حَضَرَ لَا بِمَعْنَى شَاهَدَ وَرَأَى لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اعْتِبَارِ الرُّؤْيَةِ وَلَا عَلَى اعْتِبَارِ الْحِسَابِ أَيْضًا فَإِنَّ الْحُضُورَ فِي الشَّهْرِ أَيْضًا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ ثَبَتَ بِالرُّؤْيَةِ أَوْ بِالْحِسَابِ فَالْحَقُّ مِنْ تَرْدِيدِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي اعْتِبَارِ دَلَالَةِ الْحِسَابِ عَلَى خُرُوجِ الْهِلَالِ مِنْ الشُّعَاعِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ مَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِهِ حَتَّى قَالَ سَنَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا فَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ يَرَى الْحِسَابَ فَأَثْبَتَ الْهِلَالَ بِهِ لَمْ يَتَّبِعْ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى خِلَافِهِ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَصَاحِبُ الشَّرْعِ نَصَبَ تَحْقِيقَ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الْحِسُّ دَالًّا عَلَى عَدَمِ دُخُولِ الْوَقْتِ بِأَنْ يَرَى الْإِنْسَانُ

الظِّلَّ عِنْدَ الزَّوَالِ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ جِهَتَيْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا مَائِلًا لِجِهَةِ الْمَشْرِقِ ، أَوْ لَا يَجِدُ الْإِنْسَانُ لِلْفَجْرِ أَثَرًا أَلْبَتَّةَ مَعَ كَوْنِ الْأُفُقِ صَاحِيًا لَا يَخْفَى فِيهِ طُلُوعُ الْفَجْرِ لَوْ طَلَعَ فَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْمُؤَذِّنِينَ وَأَرْبَابِ الْمَوَاقِيتِ مِنْ تَسْيِيرِ دَرَجِ الْفَلَكِ فَإِذَا شَاهَدُوا مَا يَقْتَضِي مِنْ دَرَجِ الْفَلَكِ الْمُتَوَسِّطِ أَوْ غَيْرِهِ أَنَّ الْفَجْرَ طَلَعَ أَمَرُوا النَّاسَ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ .
وَإِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَجِدُ لِلْفَجْرِ أَثَرًا أَلْبَتَّةَ وَالْأُفُقُ صَاحٍ لَا يَخْفَى فِيهِ طُلُوعُ الْفَجْرِ لَوْ طَلَعَ مُشْكِلٌ ، وَنَصَبَ رُؤْيَةَ الْهِلَالِ خَارِجًا مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ أَوْ إكْمَالَ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ ، وَلَمْ يَنْصِبْ تَحْقِيقَ الْخُرُوجِ بِدُونِ رُؤْيَتِهِ كَمَا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ سَبَبًا لِذَلِكَ فَاشْتَرَطَ فِي سَبَبِيَّةِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ التَّحْقِيقَ دُونَ الرُّؤْيَةِ وَفِي سَبَبِيَّةِ الْهِلَالِ الرُّؤْيَةَ دُونَ مُجَرَّدِ التَّحْقِيقِ إلَّا أَنَّ جَعْلَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْأَحْنَافِ وَالْحَنَابِلَةِ رُؤْيَةَ الْهِلَالِ فِي بَلَدٍ مِنْ الْبُلْدَانِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ فِي جَعْلِهِمْ لِكُلِّ قَوْمٍ رُؤْيَتَهُمْ مَعَ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ فَجْرَهُمْ وَزَوَالَهُمْ وَعَصْرَهُمْ وَمَغْرِبَهُمْ وَعِشَاءَهُمْ نَظَرًا لِسُكُونِ الْفَجْرِ إذَا طَلَعَ عَلَى قَوْمٍ يَكُونُ عِنْدَ آخَرِينَ نِصْفَ اللَّيْلِ وَعِنْدَ آخَرِينَ نِصْفَ النَّهَارِ وَعِنْدَ آخَرِينَ غُرُوبَ الشَّمْسِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْقَاتِ مُشْكِلٌ إذْ لَا فَارِقَ بَيْنَ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ ضَرُورَةَ أَنَّ مَا مِنْ دَرَجَةٍ تَطْلُعُ مِنْ الْفَلَكِ أَوْ تَتَوَسَّطُ أَوْ تَغْرُبُ إلَّا وَفِيهَا جَمِيعُ الْأَوْقَاتِ بِحَسَبِ آفَاقٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَقْطَارٍ مُتَبَايِنَةٍ حَتَّى إنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْفُقَهَاءِ أَشْكَلَتْ عَلَيْهِمْ مَسْأَلَةُ أَخَوَيْنِ مَاتَا عِنْدَ الزَّوَالِ أَحَدُهُمَا

بِالْمَشْرِقِ وَالْآخَرُ بِالْمَغْرِبِ أَيُّهُمَا يَرِثُ صَاحِبَهُ فَأَفْتَى الْفُضَلَاءُ مِنْهُمْ بِنَاءً عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ بِأَنَّ الْمَغْرِبِيَّ يَرِثُ الْمَشْرِقِيَّ ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمَشْرِقِ قَبْلَ زَوَالِ الْمَغْرِبِ فَالْمَشْرِقِيُّ مَاتَ أَوَّلًا فَيَرِثُهُ الْمَغْرِبِيُّ الْمُتَأَخِّرُ لِبَقَائِهِ بَعْدَهُ حَيًّا مُتَأَخِّرَ الْحَيَاةِ نَعَمْ قُدِّمَ هَذَا الْإِشْكَالُ فِي الْفَرْقِ الْأَوَّلِ مُوَضَّحًا ، وَمَرَّ جَوَابُهُ بِهِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَمَنْقَعٌ لِمَنْ لَهُ قَلْبٌ وَمَسْمَعٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الصَّلَوَاتُ فِي الدُّورِ الْمَغْصُوبَةِ تَنْعَقِدُ قُرْبَةً بِخِلَافِ الصِّيَامِ فِي أَيَّامِ الْأَعْيَادِ وَالْجُمَعِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ) أَمَّا الصَّلَوَاتُ فَمَشْهُورُ الْمَذْهَبِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا تَنْعَقِدُ قُرْبَةً ، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ فَسَوَّى بَيْنَ الْبَابَيْنِ فَلَا فَرْقَ عَلَى مَذْهَبِهِ لِتَسْوِيَتِهِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ إنَّمَا الْفَرْقُ عَلَى مَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ ، وَقَالَ جَمَاعَةُ أَحْمَدَ وَمَنْ وَافَقَهُ مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ فِي الصِّحَّةِ فِي الصَّلَوَاتِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ ، وَقَدْ أَجْمَعَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى عَدَمِ أَمْرِ الظَّلَمَةِ بِالْقَضَاءِ إذْ صَلَّوْا بِالدُّورِ الْمَغْصُوبَةِ .
وَأَمَّا الصَّوْمُ أَيَّامَ الْعِيدَيْنِ النَّحْرِ وَالْفِطْرِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ } فَفِي الْجَوَاهِرِ لَوْ قَالَ أَصُومُ هَذِهِ السَّنَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ أَيَّامِ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ وَرَمَضَانَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْقَضَاءَ وَرُوِيَ أَنَّ نَاذِرَ ذِي الْحِجَّةِ يَقْضِي أَيَّامَ النَّحْرِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ عَدَمَ الْقَضَاءِ ، وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ قُدُومِ فُلَانٍ فَقَدِمَ فِي الْأَيَّامِ الْمُحَرَّمِ صَوْمُهَا فَالْمَنْصُوصُ نَفْيُ الْقَضَاءِ لِتَعَذُّرِهِ شَرْعًا ، وَنَاذِرُ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ الْفِطْرِ أَوْ الشَّكِّ مُلْغًى كَنَذْرِ الصَّلَوَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ قَالَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَظَاهِرُ مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَنْعَقِدُ قُرْبَةً فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ .
وَالصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ عِبَادَتَانِ وَالنَّهْيُ إنَّمَا جَاءَ مِنْ جِهَةِ الظُّرُوفِ الَّتِي هِيَ الزَّمَانُ فِي الصَّوْمِ وَالْمَكَانُ فِي الصَّلَاةِ وَالْحُكْمُ

مُخْتَلِفٌ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ كَمَا تَرَى وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ تَارَةً يَكُونُ الْعِبَادَةَ الْمَوْصُوفَةَ بِكَوْنِهَا فِي الزَّمَانِ أَوْ الْمَكَانِ أَوْ الْحَالَةِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ أَوْ الْبِقَاعِ أَوْ الْحَالَاتِ فَتَفْسُدُ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى قَوَاعِدِنَا وَقَوَاعِدِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَتَارَةً يَكُونُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الصِّفَةُ الْعَارِضَةُ لِلْعِبَادَةِ فَلَا تَفْسُدُ الْعِبَادَةُ لِتَعَلُّقِ النَّهْيِ حِينَئِذٍ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ الْعِبَادَةِ ، وَالْمُبَاشَرُ بِالنَّهْيِ فِي الصَّوْمِ إنَّمَا هُوَ الْمَوْصُوفُ بِكَوْنِهِ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ أَوْ النَّحْرِ كَمَا تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ وَالْمُبَاشَرُ بِالنَّهْيِ فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ إنَّمَا هُوَ الْغَصْبُ وَلَمْ يَرِدْ نَهْيٌ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْغَصْبِ دُونَ الصَّلَاةِ الْمُقَارِنَةِ لِلْغَصْبِ وَالْقَضَاءُ عَلَى الصِّفَةِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَتَعَدَّى إلَى الْمَوْصُوفِ وَبِالْعَكْسِ فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ شُرْبُ الْخَمْرِ مَفْسَدَةٌ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ شَارِبُ الْخَمْرِ مَفْسَدَةٌ ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ شَارِبُ الْخَمْرِ سَاقِطُ الْعَدَالَةِ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ شُرْبُ الْخَمْرِ سَاقِطُ الْعَدَالَةِ فَظَهَرَ أَنَّ أَحْكَامَ الصِّفَاتِ لَا تَنْتَقِلُ لِلْمَوْصُوفَاتِ وَأَحْكَامَ الْمَوْصُوفَاتِ لَا تَنْتَقِلُ لِلصِّفَاتِ ، وَظَهَرَ أَنَّ النَّهْيَ فِي الصَّوْمِ عَنْ الْمَوْصُوفِ وَفِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ عَنْ الصِّفَةِ ، وَأَنَّ الْأَحْكَامَ عَلَى إحْدَى الْجِهَتَيْنِ لَا تَنْتَقِلُ لِلْأُخْرَى فَإِنْ قُلْت لَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ كَمَا فِي صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ فَهُمَا سَوَاءٌ قُلْت لَا لِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّ الصَّلَاةَ إذْ وَقَعَتْ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ تُبْرِئُ الذِّمَّةَ .
وَقَالُوا إذَا وَقَعَ الصَّوْمُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَيَوْمِ الْفِطْرِ لَا يَنْعَقِدُ قُرْبَةً وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ بِالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ

الْمَغْصُوبَةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا انْعَقَدَتْ قُرْبَةً ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ لَا تَبْرَأُ مِنْ الْوَاجِبِ بِمَا لَيْسَ وَاجِبًا فَضْلًا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَتَكُونُ الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ قُرْبَةً وَاجِبَةً مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا صَلَاةٌ لَا مِنْ جِهَةِ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْغَصْبِ فَإِنْ قُلْت الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ كِلَاهُمَا قُرْبَةٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَالنَّهْيُ وَالْمَفْسَدَةُ إنَّمَا جَاءَ مِنْ جِهَةِ أَمْرٍ خَارِجِيٍّ وَهُوَ الزَّمَانُ فِي الصَّوْمِ وَالْمَكَانُ فِي الصَّلَاةِ فَأَنْتَ إذَنْ فَرَّعْت عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْوَصْفِ لَا يَتَعَدَّى إلَى الْأَصْلِ لَزِمَ ذَلِكَ فِيمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي عُقُودِ الرِّبَا أَنَّ الْوَصْفَ يَبْطُلُ وَيَصِحُّ الْأَصْلُ لِسَلَامَتِهِ عَنْ النَّهْيِ وَالْمَفْسَدَةِ فَيَلْزَمُكَ أَنْ تَلْتَزِمَ مَذْهَبَهُ وَإِنْ فَرَّعْت عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْبَابَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ فَيَلْزَمُك أَنْ تَلْتَزِمَ مَا قَالَهُ فِي إبْطَالِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَبِالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ وَإِبْطَالِ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الْمَغْصُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ فُرُوعِ الْحَنَابِلَةِ وَأَنْتَ لَمْ تَقُلْ بِهَذَا الْمَذْهَبِ وَلَا بِذَاكَ فَكَانَ مَذْهَبُنَا مُشْكِلًا فَتَحْتَاجُ الْجَوَابَ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ وَإِنْ تُبْطِلْ الْفَرْقَ الَّذِي ذَكَرْته بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّك إنْ اعْتَبَرْت الْأَصْلَ وَالْوَصْفَ وَفَرَّقْت بَيْنَهُمَا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَزِمَك الصِّحَّةُ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ وَهُوَ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ وَإِنْ سَوَّيْت كَمَا قَالَهُ أَحْمَد لَزِمَك الْبُطْلَانُ فِيهِمَا ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ بَطَلَ مَا حَاوَلْته مِنْ الْفَرْقِ قُلْت سُؤَالَاتٌ حَسَنَةٌ وَالْجَوَابُ عَنْهَا أَنِّي أَلْتَزِمُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ وَلَا أُسَوِّي كَمَا قَالَتْهُ الْحَنَابِلَةُ .
وَلَا يَلْزَمُنِي عُقُودُ الرِّبَ بِسَبَبِ أَنَّ انْتِقَالَ الْإِمْلَاكِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ يَعْتَمِدُ الرِّضَا لِقَوْلِهِ

عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ } ، وَصَاحِبُ الدِّرْهَمِ أَوْ الصَّاعِ مِنْ الْبُرِّ مَا رَضِيَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ إلَّا مُقَابَلًا بِدِرْهَمَيْنِ أَوْ صَاعَيْنِ فَإِذَا أَسْقَطْنَا أَحَدَ الدِّرْهَمَيْنِ أَوْ أَحَدَ الصَّاعَيْنِ بَطَلَ مَا حَصَلَ بِهِ الرِّضَا ، وَنَقْلُ الْمِلْكِ بِغَيْرِ رِضًا لَا يَجُوزُ وَيَلْزَمُ أَيْضًا نَقْلُ الْمِلْكِ بِغَيْرِ عَقْدٍ فَإِنَّ مُتَعَلِّقَ الْعَقْدِ وَمُقْتَضَاهُ إنَّمَا هُوَ هَذَا الْمَجْمُوعُ إمَّا دِرْهَمٌ بِدِرْهَمٍ فَلَمْ يَقْتَضِهِ الْعَقْدُ بَلْ اقْتَضَى عَدَمَهُ فَإِنَّ مَفْهُومَ قَوْلِ الْقَائِلِ بِعْتُك دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ أَنَّهُ لَا يَبِيعُهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الْعَقْدُ يَكُونُ نَقْلُ الْمِلْكِ بِغَيْرِ رِضًا وَلَا عَقْدٍ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ مُوجَبُ الْأَمْرِ بِجُمْلَتِهِ وُجِدَ فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ فَإِنَّ الْآمِرَ بِالصَّلَاةِ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهَا عَدَمَ الْغَصْبِ بَلْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْغَصْبَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ عَدَمَ الصَّلَاةِ ، وَأَوْجَبَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ عَدَمَ الْغَصْبِ فَقَدْ وُجِدَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِجُمْلَتِهِ وَمُقْتَضَى النَّهْي بِجُمْلَتِهِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُمَا وَأَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُقْتَضَاهُ كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ السَّرِقَةَ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ عَدَمَ الصَّلَاةِ ، وَأَوْجَبَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِيهَا عَدَمَ السَّرِقَة فَإِذَا سَرَقَ فِي صَلَاتِهِ فَقَدْ وُجِدَ مُوجَبُ الْأَمْرِ بِجُمْلَتِهِ وَمُوجَبُ النَّهْيِ بِجُمْلَتِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقْتَضَاهُ فَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ بِالصَّلَاةِ ، وَنَقْطَعُهُ لِلسَّرِقَةِ عَمَلًا بِتَحَقُّقِ السَّبَبَيْنِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعُقُودِ وَمُقْتَضَيَاتِهَا وَبَيْنَ الْأَوَامِرِ وَمُوجَبَاتِهَا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ النَّظَرِ الْجَمِيلِ وَالْبَحْثِ الدَّقِيقِ .
وَأَمَّا مَا ذَكَرْته مِنْ سُقُوطِ الْفَرْقِ بِسَبَبِ أَنَّهُمَا قُرْبَتَانِ فِي

أَنْفُسِهِمَا ، وَالنَّهْيُ إنَّمَا جَاءَ مِنْ أَمْرٍ خَارِجِيٍّ فَأَقُولُ وُرُودُ النَّهْيِ عَنْ الْعِبَادَةِ الْمَوْصُوفَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمَوْصُوفَةَ عَرِيَّةٌ عَنْ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مَوْصُوفَةً بِتِلْكَ الصِّفَةِ ، وَالْأَوَامِرُ تَتْبَعُ الْمَصَالِحَ فَإِذَا ذَهَبَتْ الْمَصْلَحَةُ ذَهَبَ الطَّلَبُ وَالْأَمْرُ ، وَإِذَا ذَهَبَ الطَّلَبُ لَمْ يَبْقَ لِلصَّوْمِ قُرْبَةٌ وَفِي الصَّلَاةِ لَمْ يُنْهَ عَنْهَا أَصْلًا إنَّمَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ الصِّفَةِ خَاصَّةً الَّتِي هِيَ الْغَصْبُ فَبَقِيَتْ الصَّلَاةُ عَلَى حَالِهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى مَصْلَحَةِ الْأَمْرِ فَكَانَ الْأَمْرُ ثَابِتً فَكَانَتْ قُرْبَةً فَظَهَرَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ النَّحْرِ وَالْفِطْرِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَالصَّلَاةَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ قُرْبَةٌ ، وَبِذَلِكَ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَانْدَفَعَتْ الْإِشْكَالَاتُ كُلُّهَا .

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الصَّلَوَاتِ فِي الدُّورِ الْمَغْصُوبَةِ تَنْعَقِدُ قُرْبَةً بِخِلَافِ الصِّيَامِ فِي أَيَّامِ الْأَعْيَادِ وَالْجَمِيعُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ) اعْلَمْ رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الشَّارِعَ وَضَعَ بَعْضَ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ لِأَحْكَامٍ مَقْصُودَةٍ كَالصَّوْمِ لِلثَّوَابِ وَالْبَيْعِ لِلْمِلْكِ ، وَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَعَنْ بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ فَاخْتَلَفَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي بَقَاءِ ذَلِكَ الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فَيَكُونُ الصَّوْمُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ مَنَاطًا لِلثَّوَابِ وَفِي ارْتِفَاعِهِ فِيهَا فَلَا يَكُونُ الصَّوْمُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ مَنَاطًا لِلثَّوَابِ ، فَحَكَمَ بِالِارْتِفَاعِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى نَظَرًا لِكَوْنِ النَّهْيِ عَنْ الْعِبَادَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِكَوْنِهَا فِي الزَّمَانِ أَوْ الْحَالَةِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ أَوْ الْحَالَاتِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ عَلَى قَوَاعِدِهِمَا أَنْ يَكُونَ عَدَمُ ذَلِكَ الْوَصْفِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ فَحَيْثُ وَقَعَتْ مَوْصُوفَةً بِهِ وَقَعَتْ فَاسِدَةً لِعَيْنِهَا أَيْ لِذَاتِهَا وَمَاهِيَّتِهَا ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ فُقِدَ شَرْطُهَا ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ مَا فَقَدَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ذَاتِيًّا كَالرُّكْنِ أَوْ عَرَضِيًّا كَالشَّرْطِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَفَاسِدٌ وَحَكَمَ بِعَدَمِ الِارْتِفَاعِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى نَظَرًا لِكَوْنِ النَّهْيِ عَنْ الْعِبَادَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى قَوَاعِدِهِ عَلَى اخْتِلَالِ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ ذَلِكَ الْوَصْفِ شَرْطًا حَتَّى يَكُونَ النَّهْيُ عَنْهُ لِعَيْنِهِ .
وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ الْفِعْلَ الشَّرْعِيَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ إنْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قُبْحَهُ لِعَيْنِهِ أَيْ لِفَقْدِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ عَيْنُهُ وَذَاتُهُ

وَمَاهِيَّتُهُ ذَاتِيًّا كَالرُّكْنِ أَوْ عَرَضِيًّا كَالشَّرْطِ فَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا فِي الصَّلَاةِ بِدُونِ بَعْضِ الشُّرُوطِ أَوْ الْأَرْكَانِ وَكَمَا فِي بَيْعِ الْمَلَاقِيحِ ، وَهِيَ مَا فِي الْبُطُونِ مِنْ الْأَجِنَّةِ لِانْعِدَامِ رُكْنِ الْمَبِيعِ مِنْ الْبَيْعِ عِنْدَ الْجَمِيعِ وَكَمَا فِي صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ لِفَقْدِ شَرْطِهِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلنَّاسِ فِيهِ ، وَكَمَا فِي بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ لِفَقْدِ شَرْطِهِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الزِّيَادَةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا عَلِمْت ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ النَّهْيُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى النَّفْيِ مَجَازًا ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ بِحَيْثُ لَوْ قُدِّمَ عَلَيْهِ لَوُجِدَ حَتَّى يَكُونَ الْعَبْدُ مُبْتَلًى بَيْنَ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الْفِعْلِ فَيُعَاقَبَ ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُفَّ عَنْ الْفِعْلِ فَيُثَابَ بِامْتِنَاعِهِ وَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قُبْحَهُ لِغَيْرِهِ فَذَلِكَ الْغَيْرُ إنْ كَانَ مُجَاوِرًا كَالصَّلَوَاتِ فِي الدُّورِ الْمَغْصُوبَةِ فَهُوَ صَحِيحٌ مَكْرُوهٌ فَيَنْعَقِدُ قُرْبَةً عَلَى مَشْهُورِ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَقَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَنْعَقِدُ قُرْبَةً ، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ وَإِنْ كَانَ وَصْفًا كَمَا فِي صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ نُهِيَ عَنْ إيقَاعِهِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ لِلْإِعْرَاضِ بِصَوْمِهِ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلنَّاسِ بِلُحُومِ الْأَضَاحِيِّ الَّتِي شَرَعَهَا فِيهِ وَكَمَا فِي بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الزِّيَادَةِ فَيَأْثَمُ بِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ فَقْدَ الْوَصْفِ شَرْطًا كَمَا عَلِمْت فَمَنْ نَذَرَ عِنْدَهُ صَوْمَ يَوْمِ النَّحْرِ بِأَنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ نَذَرَ صَوْمَ غَدٍ فَوَافَقَ يَوْمَ النَّحْرِ صَحَّ نَذْرُهُ ؛

لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ فِي فِعْلِهِ دُونَ نَذْرِهِ وَيُؤْمَرُ بِفِطْرِهِ وَقَضَائِهِ لِيَتَخَلَّصَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَيَفِيَ بِالنَّذْرِ ، وَلَوْ صَامَهُ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ نَذْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الصَّوْمَ كَمَا الْتَزَمَهُ وَمَنْ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ فَإِنْ كَانَ بِالْمَجْلِسِ وَجَبَ عَلَيْهِ إمَّا الْفَسْخُ أَوْ رَدُّ الزِّيَادَةِ ، وَعَادَ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ تَقَرُّرِ الْفَسَادِ بِالْقَبْضِ فَلَا يَعُودُ صَحِيحًا بِرَدِّ الزِّيَادَةِ فَقَدْ اُعْتُدَّ بِالصَّوْمِ وَالْبَيْعِ الْمَذْكُورَيْنِ لِكَوْنِهِمَا فَاسِدَيْنِ بَاطِلَيْنِ إذْ الْبَاطِلُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ اتِّفَاقًا وَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِإِرْجَاعِهِمَا ذَلِكَ إلَى النَّهْيِ عَنْ الذَّاتِ بِأَنْ يَجْعَلَا فَقْدَ الْوَصْفِ شَرْطًا كَمَا عَلِمْت .
قَالَ صَاحِبُ الطَّرِيقَةِ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْ الصَّوْمِ فَإِرْجَاعُهُ إلَى غَيْرِهِ عُدُولٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ أَنَّ قُبْحَهُ لِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ فَبَاطِلٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ حَتَّى لَا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّهْيِ اقْتِضَاءُ الْفَسَادِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِحُّ بِأَصْلِهِ إذْ لَا قَرِينَةَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي النَّفْيِ مَجَازًا ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ وَلَا يَفْسُدُ بِوَصْفِهِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْقُبْحَ لِوَصْفِهِ أَفَادَهُ الشِّرْبِينِيُّ عَنْ التَّفْتَازَانِيِّ مَعَ تَوْضِيحٍ وَزِيَادَةٍ مِنْ الْأَصْلِ وَمُحَلَّيْ جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَالْعَطَّارِ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ بِكَوْنِ النَّهْيِ عَنْ الْعِبَادَةِ لِمُجَاوِرِهَا لَا يُوجِبُ الْبُطْلَانَ عَلَى مَشْهُورِ مَالِكٍ وَقَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِابْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَالنَّهْيُ عَنْهَا لِعَيْنِهَا يُوجِبُ الْبُطْلَانَ اتِّفَاقًا ، وَكَذَا لِوَصْفِهَا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِرُجُوعِهِ إلَى النَّهْيِ عَنْ الذَّاتِ بِجَعْلِ فَقْدِ الْوَصْفِ شَرْطًا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ

رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِنَا .
وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَشْهُورِ مَالِكٍ وَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فَعِنْدَهُمَا نَذْرُ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ لَا يَنْعَقِدُ وَنَذْرُ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّ الصَّلَاةَ إذَا وَقَعَتْ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ تُبْرِئُ الذِّمَّةَ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ بِهَا يَقْتَضِي أَنَّهَا انْعَقَدَتْ قُرْبَةً ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ لَا تَبْرَأُ مِنْ الْوَاجِبِ بِمَا لَيْسَ وَاجِبًا فَضْلًا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَتَكُونُ الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ قُرْبَةً وَاجِبَةً مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا صَلَاةٌ لَا مِنْ جِهَةِ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْغَصْبِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا الْتَزَمَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْوَصْفِ وَالْمُجَاوِرِ بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ لِمُجَاوِرِهِ يُوجَدُ بِفِعْلِهِ مُوجَبُ الْأَمْرِ بِجُمْلَتِهِ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا عَدَمُ الْغَصْبِ بَلْ أَوْجَبَهَا ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ عَدَمُهُ فِيهَا وَالنَّاهِي عَنْ الْغَصْبِ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ عَدَمَ الصَّلَاةِ بَلْ حَرَّمَهُ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَدَمَهَا فِيهِ فَكُلٌّ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وُجِدَ مُقْتَضَاهُ بِجُمْلَتِهِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُمَا ، وَأَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مُقْتَضَاهُ ، وَأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ لِوَصْفِهِ لَا يُوجَدُ بِفِعْلِهِ مُوجَبُ الْأَمْرِ بِجُمْلَتِهِ لِفَقْدِ شَرْطِهِ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ عَدَمُ الْوَصْفِ فَصَوْمُ يَوْمِ الْعِيدِ مَأْمُورٌ بِهِ وَمَنْهِيٌّ عَنْ إيقَاعِهِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ فَيَكُونُ عَدَمُ إيقَاعِهِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ شَرْطًا فِيهِ لَا يُوجَدُ بِفِعْلِهِ مُوجَبُ الْأَمْرِ إلَّا بِتَحَقُّقِهِ وَالْتُزِمَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْوَصْفِ كَمَا عَلِمْت .
وَالْتَزَمَ أَحْمَدُ وَابْنُ حَبِيبٍ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْوَصْفِ وَالْمُجَاوِرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْوَصْفِ فَاتَّضَحَ الْفَرْقُ ، وَظَهَرَ انْدِفَاعُ مَا أُورِدَ عَلَيْهِ

مِنْ أَنَّهُ إنْ اُعْتُبِرَ الْأَصْلُ وَالْوَصْفُ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لَزِمَ الصِّحَّةُ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ وَهُوَ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ وَإِنْ اُعْتُبِرَ الْأَصْلُ وَالْوَصْفُ وَسُوِّيَ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَهُ أَحْمَدُ لَزِمَ الْبُطْلَانُ فِيهِمَا وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَبْطُلُ الْفَرْقُ الْمَذْكُورُ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَنَّ الْفِعْلَ مَتَى دَارَ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ فُعِلَ وَمَتَى دَارَ بَيْنَ النَّدْبِ وَالتَّحْرِيمِ تُرِكَ تَقْدِيمًا لِلرَّاجِحِ عَلَى الْمَرْجُوحِ ، وَبَيْنَ قَاعِدَةِ يَوْمُ الشَّكِّ هَلْ هُوَ مِنْ رَمَضَانَ أَمْ لَا ) فَإِنَّهُ يَحْرُمُ صَوْمُهُ مَعَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ فَهُوَ مَنْدُوبٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ وَاجِبٌ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَيَّنَ صَوْمُهُ ، وَبِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَمَسَّكَ الْحَنَابِلَةُ فِي صَوْمِهِ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِيَاطِ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ، وَوَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَصُومُهُ احْتِيَاطًا لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ ثُمَّ إنَّا نَاقَضْنَا قَاعِدَتَنَا فَقُلْنَا مَنْ شَكَّ فِي الْفَجْرِ لَا يَأْكُلُ وَيَصُومُ مَعَ أَنَّهُ شَاكٌّ فِي طَرَيَان الصَّوْمِ كَمَا شَكَّ أَوَّلَ الشَّهْرِ فِي طَرَيَان الصَّوْمِ فِيهِمَا سَوَاءٌ فَإِنْ قُلْنَا بِالصَّوْمِ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَهُوَ إشْكَالٌ آخَرُ ، وَيَحْتَاجُ إلَى الْفُرُوقِ الْقَادِحَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْجَوَابُ عَنْهُ وَهُوَ الْفَرْقُ الْمَقْصُودُ هَاهُنَا أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ الشَّكِّ عِنْدَنَا دَائِرٌ بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَالنَّدْبِ فَتَعَيَّنَ التَّرْكُ إجْمَاعًا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَالنَّدْبِ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ الْجَازِمَةَ شَرْطٌ وَهِيَ هَاهُنَا مُتَعَذِّرَةٌ ، وَكُلُّ قُرْبَةٍ بِدُونِ شَرْطِهَا حَرَامٌ فَصَوْمُ هَذَا الْيَوْمِ حَرَامٌ فَإِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ حَرَامٌ لِعَدَمِ شَرْطِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ فَهُوَ مَنْدُوبٌ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَالنَّدْبِ لَا بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ ، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ } .
وَأَمَّا الثَّانِي فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ رَمَضَانَ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنَّمَا

الْأَكْلُ بِاللَّيْلِ رُخْصَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ فِي صَوْمِ جَمِيعِ الشَّهْرِ فَالْأَصْلُ فِي اللَّيْلِ الصَّوْمُ ، وَكَذَلِكَ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ رُخِّصَ فِيهِ فَكَانَ مَنْ نَامَ لَا يَحِلُّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَطْءُ امْرَأَتِهِ حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ } ، فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُفْطِرَاتِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ رُخْصَةً ، وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي اللَّيْلِ الصَّوْمَ ثُمَّ اُسْتُثْنِيَ مِنْهُ اللَّيْلُ الْمُتَيَقَّنُ بَقِيَ الْمَشْكُوكُ فِيهِ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ فَلِذَلِكَ قُلْنَا بِوُجُوبِ صَوْمِهِ ، وَشَعْبَانُ الْأَصْلُ فِيهِ الْفِطْرُ عَلَى عَكْسِ لَيْلِ رَمَضَانَ فَنُفْطِرُهُ حَتَّى نَتَيَقَّنَ مُوجِبَ الصَّوْمِ فَهُوَ عَكْسُ لَيْلِ الصَّوْمِ فَظَهَرَ الْجَوَابُ وَالْفَرْقُ وَمِنْ هَذَا الْمَنْزَعِ إذَا شَكَّ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا مَعَ أَنَّهَا دَائِرَةٌ بَيْنَ الرَّابِعَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْخَامِسَةِ الْمُحَرَّمَةِ ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْوَاجِبُ وَالْمُحَرَّمُ قُدِّمَ الْمُحَرَّمُ ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ .
وَالْوُجُوبَ يَعْتَمِدَ الْمَصَالِحَ وَعِنَايَةُ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَالْعُقَلَاءِ بِدَرْءِ الْمَفَاسِدِ أَشَدُّ مِنْ عِنَايَتِهِمْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ ، وَكَذَلِكَ إذَا شَكَّ فِي وُضُوئِهِ هَلْ هِيَ ثَانِيَةٌ أَوْ ثَالِثَةٌ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ ثَالِثَةً مَعَ دَوَرَانِهَا بَيْنَ الثَّالِثَةِ الْمَنْدُوبَةِ وَالرَّابِعَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَهَاهُنَا التَّرْكُ أَظْهَرُ مِنْ الشَّكّ فِي الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ أَخْفَضُ رُتْبَةً مِنْ الْوَاجِبِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ فِيمَا عَلِمْت بِخِلَافِ الْوُضُوءِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ فِي الْخَامِسَةِ مَشْرُوطٌ بِتَيَقُّنِ الرَّابِعَةِ أَوْ

ظَنِّهَا ، وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ فَلَمْ يَحْصُلْ التَّحْرِيمُ بَلْ اُسْتُصْحِبَ الْوُجُوبُ مِنْ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ الْأَرْبَعِ وَهُوَ الْإِجْمَاعُ وَالنُّصُوصُ .
وَأَمَّا التَّحْرِيمُ فِي الْوُضُوءِ فِي الرَّابِعَةِ فَمَشْرُوطٌ أَيْضًا بِتَيَقُّنِ الثَّالِثَةِ أَوْ ظَنِّهَا وَلَمْ يَحْصُلْ فَاسْتُصْحِبَ النَّدْبُ النَّاشِئُ عَنْ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى الثَّلَاثِ وَهُوَ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَوْلُهُ فِي ذَلِكَ فَهَذِهِ قَوَاعِدُ فِي الْعِبَادَاتِ يَنْبَغِي الْإِحَاطَةُ بِهَا لِئَلَّا تَضْطَرِبَ الْقَوَاعِدُ وَتُظْلِمَ عَلَى طَالِبِ الْعِلْم .

قَالَ ( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَنَّ الْفِعْلَ مَتَى دَارَ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ فُعِلَ ، وَمَتَى دَارَ بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَالنَّدْبِ تُرِكَ تَقْدِيمًا لِلرَّاجِحِ عَلَى الْمَرْجُوحِ ، وَبَيْنَ قَاعِدَةِ يَوْمِ الشَّكِّ هَلْ هُوَ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ لَا فَإِنَّهُ يَحْرُمُ صَوْمُهُ مَعَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ فَهُوَ مَنْدُوبٌ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ وَاجِبٌ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَيَّنَ صَوْمُهُ إلَى قَوْلِهِ : وَيُحْتَاجُ إلَى الْفُرُوقِ الْقَادِحَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ) .
قُلْت قَوْلُهُ مَعَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ فَهُوَ مَنْدُوبٌ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ بَلْ هُوَ مِنْ شَعْبَانَ لَا عَلَى الْقَطْعِ بَلْ عَلَى الشَّكِّ ، وَهُوَ مَمْنُوعُ الصَّوْمِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ ، وَعَلَى هَذَا الْإِشْكَالُ فِي قَوْلِنَا بِالْمَنْعِ مِنْ صَوْمِهِ ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ الْحَنَابِلَةِ فَصَوْمُهُ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِيَاطِ فَجَارٍ عَلَى قَاعِدَةِ الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ ، وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ عِنْدَهُمْ .
قَالَ : ( أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْجَوَابُ عَنْهُ وَهُوَ الْفَرْقُ الْمَقْصُودُ هَاهُنَا إلَى قَوْلِهِ { فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ } ) قُلْت : مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ التَّحْرِيمِ لِتَعَذُّرِ النِّيَّةِ الْجَازِمَةِ وَبَيْنَ النَّدْبِ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَيْسَتْ النِّيَّةُ الْجَازِمَةُ شَرْطًا إلَّا مَعَ عَدَمِ تَعَذُّرِهَا ، وَمَا ذَكَرَهُ لَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ بِحُجَّةٍ فَلَا يَبْقَى إلَّا الْحَدِيثُ إنْ صَحَّ .
قَالَ : ( وَأَمَّا الثَّانِي فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ رَمَضَانَ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنَّمَا الْأَكْلُ بِاللَّيْلِ رُخْصَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَظَهَرَ الْجَوَابُ وَالْفَرْقُ ) .
قُلْت : لَيْسَ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي اللَّيْلِ الصَّوْمُ بِصَحِيحٍ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمَمْنُوعُ بِاللَّيْلِ الْأَكْلَ وَالْوَطْءَ بَعْدَ النَّوْمِ خَاصَّةً ، أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ مَا قَبْلُ فَلَا ، ثُمَّ إنَّ جَوَابَهُ مُعَارِضٌ لِلنَّصِّ فِي قَوْله تَعَالَى {

وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ } فَنَصَّ عَلَى أَنَّ الْغَايَةَ تَبَيُّنُ الْفَجْرِ ، وَمَا رَأَى الْمَالِكِيَّةُ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ فِي وُجُوبِ إمْسَاكِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ ذَهَبُوا إلَى مُخَالَفَةِ الْآيَةِ عَمَلًا بِالِاحْتِيَاطِ ، بَلْ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى الْمُرَاقِبِ لِلْفَجْرِ وَهُوَ قَلِيلٌ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ فَأَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ ، وَهُوَ عَدَمُ الْمُرَاقَبَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَمَا قَالَهُ فِي الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ بَعْدَ هَذَا صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَنَّ الْفِعْلَ مَتَى دَارَ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ فُعِلَ وَمَتَى دَارَ بَيْنَ النَّدْبِ وَالتَّحْرِيمِ تُرِكَ تَقْدِيمًا لِلرَّاجِحِ عَلَى الْمَرْجُوحِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ يَوْمُ الشَّكِّ هَلْ هُوَ مِنْ رَمَضَانَ أَمْ لَا ) اعْتَبَرَ الْمُجْتَهِدُونَ كُلًّا مِنْ قَاعِدَةِ أَنَّ الْفِعْلَ مَتَى دَارَ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ فُعِلَ وَقَاعِدَةِ أَنَّ الْفِعْلَ مَتَى دَارَ بَيْنَ النَّدْبِ وَالتَّحْرِيمِ تُرِكَ تَقْدِيمًا لِلرَّاجِحِ ، وَهُوَ دَرْءُ الْمَفَاسِدِ عَلَى الْمَرْجُوحِ وَهُوَ تَحْصِيلُ الْمَصَالِحِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ وَالْوُجُوبَ يَعْتَمِدُ الْمَصَالِحَ ، وَعِنَايَةُ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَالْعُقَلَاءِ بِدَرْءِ الْمَفَاسِدِ أَشَدُّ مِنْ عِنَايَتِهِمْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ ، وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ حَدِيثُ { مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ } لِقَوْلِ ابْنِ عَابِدِينَ لَا أَصْلَ لِرَفْعِهِ ، وَإِنَّمَا يُرْوَى مَوْقُوفًا عَلَى عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ .
وَأَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلِّقًا بِقَوْلِهِ وَقَالَ صِلَةُ عَنْ عَمَّارٍ مَنْ صَامَ إلَخْ تَمَسَّكُوا فِي وُجُوبِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ احْتِيَاطًا بِأَمْرَيْنِ : الْأَوَّلُ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ هَلْ صُمْت مَنْ سِرَرِ شَعْبَانَ قَالَ لَا قَالَ إذَا أَفْطَرْت فَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ } وَسِرَرُ الشَّهْرِ بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا آخِرُهُ كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَجُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ لِاسْتِمْرَارِ الْقَمَرِ فِيهِ أَيْ إخْفَائِهِ ، وَرُبَّمَا كَانَ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ كَذَا أَفَادَهُ فِي حَاشِيَةِ الدُّرَرِ ا هـ مِنْ حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ .
الْأَمْرُ الثَّانِي الْقَاعِدَةُ الْأُولَى لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ وَاجِبٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ فَهُوَ مَنْدُوبٌ وَلَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ الْجَازِمَةُ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ تَعَذُّرِهَا قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَشَرْحِهِ كَشَّافِ الْقِنَاعِ

وَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ أَيْ مَطْلَعِ الْهِلَالِ غَيْمٌ أَوْ قَتَرٌ أَوْ غَيْرُهُمَا كَالدُّخَانِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ لَمْ يَجِبْ صَوْمُهُ قَبْلَ رُؤْيَةِ هِلَالِهِ أَوْ إكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا نَصًّا وَلَا يَثْبُتُ بَقِيَّةُ تَوَابِعِهِ كَصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَوُجُوبِ الْإِمْسَاكِ عَلَى مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ وَأَصْحَابُهُ وَجَمَعَ مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ ، وَذَكَرَهُ فِي الْفَائِقِ وَصَاحِبُ التَّبْصِرَةِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ رَزِينٍ فِي شَرْحِهِ ، وَالْمَذْهَبُ يَجِبُ صَوْمُهُ أَيْ صَوْمُ يَوْمِ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إنْ حَالَ دُونَ مَطْلَعِهِ غَيْمٌ أَوْ قَتَرٌ وَنَحْوُهُمَا بِنِيَّةِ رَمَضَانَ حُكْمًا ظَنِّيًّا بِوُجُوبِهِ احْتِيَاطًا لَا يَقِينًا .
اخْتَارَهُ الْخِرَقِيِّ وَأَكْثَرُ شُيُوخِ أَصْحَابِنَا وَنُصُوصُ أَحْمَدَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَابْنِهِ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ وَمُعَاوِيَةَ وَعَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ بِنْتَيْ أَبِي بَكْرٍ وَقَالَهُ جَمْعٌ مِنْ التَّابِعِينَ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ مَرْفُوعًا قَالَ { إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ } مُتَّفَقٌ وَمَعْنَى { فَاقْدُرُوا لَهُ } أَيْ ضَيِّقُوا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } أَيْ ضُيِّقَ وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ شَعْبَانُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ اُقْدُرُوا زَمَانًا يَطْلُعُ فِي مِثْلِهِ الْهِلَالُ وَهَذَا الزَّمَانُ يَصِحُّ وُجُودُهُ فِيهِ أَوْ يَكُونَ مَعْنَاهُ فَاعْلَمُوا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ أَنَّهُ تَحْتَ الْغَيْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنْ الْغَابِرِينَ } أَيْ عَلِمْنَاهَا مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْمُحَقِّقِينَ قَالُوا الشَّهْرُ أَصْلُهُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ يُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ إسْمَاعِيلَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا مَضَى مِنْ شَعْبَانَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا بَعَثَ مَنْ يَنْظُرُ لَهُ فَإِنْ رَآهُ فَذَاكَ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ

مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتَرٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا ، وَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرٌ أَصْبَحَ صَائِمًا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ رَاوِي الْخَبَرِ وَأَعْلَمُ بِمَعْنَاهُ فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ كَمَا رَجَعَ إلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ يُؤَكِّدُهُ قَوْلُ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ لَأَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ ، وَلِأَنَّهُ يُحْتَاطُ لَهُ وَيَجِبُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَيَجْزِيهِ صَوْمُ يَوْمِ الثَّلَاثِينَ حِينَئِذٍ إنْ بَانَ مِنْهُ أَيْ مِنْ رَمَضَانَ بِأَنْ تَثْبُتَ رُؤْيَتُهُ بِمَكَانٍ آخَرَ لِأَنَّ صِيَامَهُ وَقَعَ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ قِيلَ لِلْقَاضِي لَا يَصِحُّ إلَّا بِنِيَّةٍ وَمَعَ الشَّكِّ فِيهَا لَا يُجْزَمُ بِهَا فَقَالَ لَا يُمْنَعُ التَّرَدُّدُ فِيهَا لِلْحَاجَةِ كَالْأَسِيرِ وَصَلَاةٍ مِنْ خَمْسٍ وَتُصَلَّى التَّرَاوِيحُ لَيْلَتئِذٍ احْتِيَاطًا لِلسُّنَّةِ .
قَالَ أَحْمَدُ الْقِيَامُ قَبْلَ الصِّيَامِ وَتَثْبُتُ بَقِيَّةُ تَوَابِعِهِ أَيْ الصَّوْمِ مِنْ وُجُوبِ كَفَّارَةٍ بِوَطْءٍ فِيهِ وَنَحْوِهِ كَوُجُوبِ الْإِمْسَاكِ عَلَى مَنْ لَمْ يُبَيِّتْ النِّيَّةَ لِتَبَعِيَّتِهَا لِلصَّوْمِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ بِأَنْ لَمْ يَرَ مَعَ الصَّحْوِ هِلَالَ شَوَّالٍ بَعْدَ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً مِنْ اللَّيْلَةِ الَّتِي غُمَّ فِيهَا هِلَالُ رَمَضَانَ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ بِالْوَطْءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا تَثْبُتُ بَقِيَّةُ الْأَحْكَامِ مِنْ حُلُولِ الْآجَالِ وَوُقُوعِ الْمُعَلَّقَاتِ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ وَغَيْرِهَا كَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَمُدَّةِ الْإِيلَاءِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ خُولِفَ لِلنَّصِّ وَاحْتِيَاطًا لِعِبَادَةٍ عَامَّةٍ ا هـ .
وَلِمَا صَحَّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْأَحْنَافِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَمَا فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ } وَحَدِيثِ { مَنْ صَامَ يَوْمَ

الشَّكِّ } إلَخْ تَمَسَّكُوا بِذَلِكَ فِي مَنْعِ صَوْمِهِ مِنْ رَمَضَانَ .
قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عَابِدِينَ الْحَنَفِيُّ الْمُرَادُ مِنْ حَدِيثِ التَّقَدُّمِ هُوَ التَّقَدُّمُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ حَتَّى لَا يُزَادُ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ كَمَا زَادَ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى صَوْمِهِمْ ، وَإِنَّمَا كُرِهَ تَحْرِيمًا لِصُورَةِ النَّهْيِ فِي حَدِيثِ الْعِصْيَانِ وَهُوَ وَإِنْ رُوِيَ فِي الْبُخَارِيِّ مَوْقُوفًا عَلَى عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ إلَّا أَنَّهُ فِي مِثْلِهِ كَالْمَرْفُوعِ كَمَا قَالَ الزَّيْلَعِيُّ وَفِي الْفَتْحِ ، وَأَخْرُجهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عَمَّارٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَأَتَى بِشَاةٍ مَصْلِيَّةٍ فَتَنَحَّى بَعْضُ الْقَوْمِ فَقَالَ عَمَّارٌ مَنْ صَامَ هَذَا الْيَوْمَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَكَأَنَّهُ فَهِمَ مِنْ الرَّجُلِ الْمُتَنَحِّي أَنَّهُ قَصَدَ صَوْمَهُ عَنْ رَمَضَانَ ا هـ .
وَحَدِيثُ السِّرَارِ مَحْمُولٌ عَلَى صَوْمِهِ اسْتِحْبَابًا لَا عَنْ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ التَّقَدُّمِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ مَا أَمْكَنَ كَمَا أَوْضَحَهُ فِي الْفَتْحِ ا هـ وَفِي الْمُخْتَصَرِ ، وَإِنْ غَيَّمَتْ وَلَمْ يُرَ فَصَبِيحَتُهُ يَوْمُ شَكٍّ وَصِيمَ عَادَةً وَتَطَوُّعًا وَقَضَاءً وَلِنَذْرٍ صَادَفَ لَا احْتِيَاطًا قَالَ الْحَطَّابُ يَعْنِي أَنَّ يَوْمَ الشَّكِّ لَا يُصَامُ لِأَجْلِ الِاحْتِيَاطِ لِلنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ مَنْ صَامَ إلَخْ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ كَابْنِ الْحَاجِبِ هَلْ النَّهْيُ عَلَى الْكَرَاهَةِ أَوْ التَّحْرِيمِ .
قَالَ فِي التَّوْضِيحِ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ التَّحْرِيمُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَسَبَهُ اللَّخْمِيُّ لِمَالِكٍ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ وَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَفِي الْمُدَوَّنَةِ وَلَا يَنْبَغِي صِيَامُ يَوْمِ الشَّكِّ ، وَحَمَلَهَا أَبُو الْحَسَنِ عَلَى الْمَنْعِ وَفِي الْجَلَّابِ يُكْرَهُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ .
وَقَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ

الْكَافَّةُ مُجْمِعُونَ عَلَى كَرَاهَةِ صَوْمِهِ احْتِيَاطًا ا هـ وَنَحْوُهُ فِي ابْنِ فَرْحُونٍ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : الظَّاهِرُ أَنَّ النَّهْيَ عَلَى التَّحْرِيمِ لِقَوْلِهِ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ ا هـ ، وَزَادَ أَبُو الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ يُونُسَ مِنْ الْوَاضِحَةِ وَمَنْ صَامَهُ حَوْطَةً ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَلْيُفْطِرْ مَتَى مَا عَلِمَ ا هـ .
وَنَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ الشَّيْخِ بِلَفْظِ آخِرِ النَّهَارِ ، وَقَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ وَحَمَلَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمُدَوَّنَةَ عَلَى الْمَنْعِ ا هـ وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ فِي الرِّسَالَةِ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ فِي الْحِيَاطَةِ مِنْ رَمَضَانَ مَكْرُوهٌ وَلَا يُكْرَهُ صَوْمُهُ تَطَوُّعًا ، وَقَالَ بَعْدَهُ فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَلَا يُصَامُ يَوْمُ الشَّكِّ يُرِيدُ عَلَى الْكَرَاهَةِ لَا عَلَى التَّحْرِيمِ ا هـ ثُمَّ قَالَ وَقِيلَ يُصَامُ احْتِيَاطًا وَلَا أَعْلَمُهُ فِي الْمَذْهَبِ ا هـ .
وَخَرَّجَ اللَّخْمِيُّ وُجُوبَ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ مِنْ مَسْأَلَةِ الشَّاكِّ فِي الْفَجْرِ وَمِنْ الْحَائِضِ إذَا جَاوَزَتْ عَادَتَهَا ، وَرَدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ ابْنُ بَشِيرٍ وَغَيْرُهُ ، وَبَحَثَ فِي ذَلِكَ ابْنُ عَرَفَةَ فَلْيَنْظُرْهُ مَنْ أَرَادَهُ ، ثُمَّ قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ : وَإِنَّمَا هَذَا الْخِلَافُ إذَا كَانَ الْغَيْمُ أَمَّا إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى كَرَاهَةِ صَوْمِهِ احْتِيَاطًا إذْ لَا وَجْهَ لِلِاحْتِيَاطِ فِي الصَّحْوِ ا هـ بِحَذْفٍ وَتَصَرُّفٍ مَا .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ مَا مَعْنَاهُ فَتَحْرِيمُ الْمَالِكِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ صَوْمَهُ جَارٍ عَلَى قَاعِدَةِ أَنَّ كُلَّ يَوْمِ شَكٍّ مَنْهِيٌّ عَنْ صِيَامِهِ عَنْ رَمَضَانَ نَهْيَ تَحْرِيمٍ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الشَّهْرِ فَلَا يُنْتَقَلُ عَنْهُ بِالشَّكِّ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ جَارٍ عَلَى قَاعِدَةِ تَعَارُضِ النَّدْبِ وَالتَّحْرِيمِ نَظَرًا

لِنَدْبِهِ عَلَى احْتِمَالِ كَوْنِهِ مِنْ شَعْبَانَ وَتَحْرِيمِهِ عَلَى احْتِمَالِ كَوْنِهِ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ قُرْبَةٍ بِدُونِ شَرْطِهَا حَرَامٌ وَالنِّيَّةُ الْجَازِمَةُ شَرْطٌ لِصَوْمِهِ مِنْ رَمَضَانَ وَهِيَ هَاهُنَا مُتَعَذِّرَةٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ شَعْبَانَ لَا عَلَى الْقَطْعِ لَا يَقْتَضِي نَدْبَهُ بَلْ تَحْرِيمَهُ لِلْحَدِيثِ كَمَا عَلِمْت ، وَالنِّيَّةُ الْجَازِمَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا إلَّا مَعَ عَدَمِ تَعَذُّرِهَا ا هـ بِزِيَادَةٍ .
وَأَطْلَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ إمْسَاكِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ ، وَأَنَّ مَنْ شَكَّ فِي الْفَجْرِ لَا يَأْكُلُ وَيَصُومُ مَعَ أَنَّ الشَّكَّ فِي الْفَجْرِ مُسَاوٍ لِلشَّكِّ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ بِوَجْهَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا شَكٌّ فِي طَرَيَان الصَّوْمِ ، وَأَنَّ الْأَصْلَ كَمَا أَنَّهُ هُنَاكَ بَقَاءُ الشَّهْرِ فَلَا يُنْتَقَلُ عَنْهُ بِالشَّكِّ كَذَلِكَ هُوَ هُنَا بَقَاءُ اللَّيْلِ فَلَا يُنْتَقَلُ عَنْهُ بِالشَّكِّ .
وَأَمَّا مَنْعُ الْأَكْلِ وَالْوَطْءِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّمَا كَانَ بَعْدَ النَّوْمِ خَاصَّةً ، أَمَّا قَبْلَهُ فَلَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُخِّصَ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ } فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُفْطِرَاتِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ كَمَا أَبَاحَهَا إلَى غَايَةِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَوْ إكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا حَتَّى إنَّ اللَّخْمِيَّ خَرَّجَ وُجُوبَ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ مِنْ مَسْأَلَةِ الشَّاكِّ فِي الْفَجْرِ وَمِنْ الْحَائِضِ إذَا جَاوَزَتْ عَادَتَهَا كَمَا فِي كَلَامِ الْحَطَّابِ الْمُتَقَدِّمِ ، إلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَذْهَبُوا فِي مَسْأَلَةِ الشَّاكِّ فِي الْفَجْرِ إلَى مُخَالَفَةِ الْآيَةِ عَمَلًا بِالِاحْتِيَاطِ حَتَّى يَصِحَّ تَخْرِيجُ اللَّخْمِيِّ مَسْأَلَةَ وُجُوبِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ مِنْهَا بَلْ إنَّمَا

ذَهَبُوا إلَى حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى الْمُرَاقِبِ لِلْفَجْرِ ، وَهُوَ قَلِيلٌ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ فَبَنَوْا قَوْلَهُمْ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ بِجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ عَلَى الشَّاكِّ فِي الْفَجْرِ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ ، وَهُوَ عَدَمُ الْمُرَاقَبَةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الشَّاطِّ ثُمَّ إنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَإِنْ قَالُوا فِي مَسْأَلَةِ مَا إذَا شَكَّ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَنَّهُ يُصَلِّيهَا مَعَ أَنَّهَا دَائِرَةٌ بَيْنَ الرَّابِعَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْخَامِسَةِ الْمُحَرَّمَةِ .
وَالْمُحَرَّمُ يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا كَمَا يُقَدَّمُ عَلَى الْمَنْدُوبِ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا لِاتِّحَادِ عِلَّةِ تَقْدِيمِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا ضَرُورَةَ أَنَّ اعْتِمَادَ الْمَصَالِحِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمَنْدُوبِ وَالْوَاجِبِ نَعَمْ التَّرْكُ لِلْمَنْدُوبِ أَظْهَرُ لِكَوْنِهِ أَخْفَضَ رُتْبَةً مِنْ الْوَاجِبِ ، وَقَالُوا فِي مَسْأَلَةِ مَا إذَا شَكَّ فِي وُضُوئِهِ هَلْ هِيَ ثَانِيَةٌ أَوْ ثَالِثَةٌ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ ثَالِثَةً مَعَ دَوَرَانِهَا بَيْنَ الثَّالِثَةِ الْمَنْدُوبَةِ وَالرَّابِعَةِ الْمُحَرَّمَةِ إلَّا أَنَّهُمْ إنَّمَا قَالُوا بِذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ فِي الْخَامِسَةِ مَشْرُوطٌ فِي الصَّلَاةِ بِتَيَقُّنِ الرَّابِعَةِ أَوْ ظَنِّهَا ، وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ فَلَمْ يَحْصُلْ التَّحْرِيمُ بَلْ اُسْتُصْحِبَ الْوُجُوبُ مِنْ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ الْأَرْبَعِ وَهُوَ الْإِجْمَاعُ وَالنُّصُوصُ ، وَالتَّحْرِيمُ فِي الرَّابِعَةِ مَشْرُوطٌ فِي الْوُضُوءِ أَيْضًا بِتَيَقُّنِ الثَّالِثَةِ أَوْ ظَنِّهَا وَلَمْ يَحْصُلْ فَاسْتُصْحِبَ النَّدْبُ النَّاشِئُ عَنْ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى الثَّلَاثِ وَهُوَ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِمْ بِذَلِكَ فِيهِمَا مُخَالَفَةٌ لِقَاعِدَةِ تَعَارُضُ الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ مَعَ التَّحْرِيمِ فَافْهَمْ .
فَهَذِهِ قَوَاعِدُ فِي الْعِبَادَاتِ يَنْبَغِي الْإِحَاطَةُ بِهَا لِئَلَّا تَضْطَرِبَ الْقَوَاعِدُ وَتُظْلِمَ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ صَوْمِهِ وَصَوْمِ خَمْسٍ ، أَوْ سَبْعٍ مِنْ شَوَّالٍ ) اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ } فَوَرَدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَبَاحِثُ لِلْفُضَلَاءِ ، وَإِشْكَالَاتٌ لِلنُّبَهَاءِ وَقَوَاعِدُ فِقْهِيَّةٌ وَمَعَانٍ شَرِيفَةٌ عَرَبِيَّةٌ .
الْأَوَّلُ : لِمَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسِتٍّ وَلَمْ يَقُلْ بِسِتَّةٍ ، وَالْأَصْلُ فِي الصَّوْمِ إنَّمَا هُوَ الْأَيَّامُ دُونَ اللَّيَالِي وَالْيَوْمُ مُذَكَّرٌ وَالْعَرَبُ إذَا عَدَّتْ الْمُذَكَّرَ أَنَّثَتْ عَدَدَهُ فَكَانَ اللَّازِمُ فِي هَذَا اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ مُؤَنَّثًا ؛ لِأَنَّهُ عَدَدٌ مُذَكَّرٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا } أَنَّثَ مَعَ الْمُذَكَّرِ وَذَكَّرَ مَعَ الْمُؤَنَّثِ .
الثَّانِي : لِمَ قَالَ مِنْ شَوَّالٍ وَهَلْ لِشَوَّالٍ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الشُّهُورِ أَمْ لَا .
الثَّالِثُ : لِمَ قَالَ بِسِتٍّ ، وَهَلْ لِلسِّتِّ مَزِيَّةٌ عَلَى الْخَمْسِ أَوْ السَّبْعِ أَمْ لَا .
الرَّابِعُ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ } شَبَّهَ صَوْمَ شَهْرٍ وَسِتَّةِ أَيَّامٍ بِصَوْمِ الدَّهْرِ مَعَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْعَرَبِيَّةَ أَنَّ التَّشْبِيهَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ أَوْ لِلتَّقْرِيبِ ، وَأَيْنَ شَهْرٌ وَسِتَّةُ أَيَّامٍ مِنْ صَوْمِ الدَّهْرِ بَلْ أَيْنَ هُوَ مِنْ صَوْمِ سَنَةٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى السُّدُسِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الشَّرِيعَةِ أَنَّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا ، وَعَمِلَ الْآخَرُ قَدْرَهُ مَرَّتَيْنِ لَا يَحْسُنُ التَّشْبِيهُ بَيْنَهُمَا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْمَلَ مِثْلَهُ سِتَّ مَرَّاتٍ ، وَلَا يُقَالُ : إنَّ مَنْ صَامَ يَوْمًا يُشْبِهُ مَنْ صَامَ يَوْمَيْنِ فِي الْأَجْرِ وَلَا مَنْ تَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ يُشْبِهُ مَنْ تَصَدَّقَ بِدِرْهَمَيْنِ فِي الْأَجْرِ

فَضْلًا عَمَّنْ تَصَدَّقَ بِسِتَّةِ دَرَاهِمَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُوهِمُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ سِتَّةِ دَرَاهِمَ وَدِرْهَمٍ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فَيَبْعُدُ التَّشْبِيهُ .
الْخَامِسُ : هَلْ لَنَا فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ } وَبَيْنَ قَوْلِهِ فَكَأَنَّهُ صَامَ الدَّهْرَ فَإِنَّ " مَا " هُنَا كَافَّةٌ لِكَأَنَّ عَنْ الْعَمَلِ فَدَخَلَتْ لِذَلِكَ عَلَى الْفِعْلِ وَلَوْ لَمْ تَدْخُلْ مَا لَدَخَلَ كَأَنَّ عَلَى الِاسْمِ فَهَلْ بَيْنَ ذَلِكَ فَرْقٌ أَمْ لَا .
السَّادِسُ : أَنَّ التَّشْبِيهَ بَيْنَ هَذَا الصَّوْمِ وَصَوْمِ الدَّهْرِ : كَيْفَ كَانَ صَوْمُ الدَّهْرِ أَوْ عَلَى حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَوَضْعٍ مَخْصُوصٍ ، .
السَّابِعُ : هَلْ بَيْنَ هَذِهِ السِّتَّةِ الْأَيَّامِ الْوَاقِعَةِ فِي الْحَدِيثِ وَبَيْنَ السِّتَّةِ الْأَيَّامِ الْوَاقِعَةِ فِي الْآيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى { خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } فَرْقٌ أَمْ لَا فَرْقَ ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ وَاحِدَةٌ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَالَ بِسِتٍّ وَلَمْ يَقُلْ بِسِتَّةٍ ؛ لِأَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ تَغْلِيبَ اللَّيَالِي عَلَى الْأَيَّامِ فَمَتَى أَرَادُوا عَدَّ الْأَيَّامِ عَدُّوا اللَّيَالِيَ وَتَكُونُ الْأَيَّامُ هِيَ الْمُرَادَةَ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وَلَمْ يَقُلْ وَعَشَرَةً مَعَ أَنَّهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ فَذَكَرَهَا بِغَيْرِ هَاءِ التَّأْنِيثِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَوْ قِيلَ عَشَرَةً لَكَانَ لَحْنًا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { إنْ لَبِثْتُمْ إلَّا عَشْرًا } { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إنْ لَبِثْتُمْ إلَّا يَوْمًا } قَالَ الْعُلَمَاءُ يَدُلُّ الْكَلَامُ الْأَخِيرُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى إلَّا يَوْمًا عَلَى أَنَّ الْمَعْدُودَ الْأَوَّلَ أَيَّامٌ فَكَذَلِكَ هَهُنَا أَتَتْ الْعِبَارَةُ بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ اللَّيَالِي ، وَالْمُرَادُ الْأَيَّامُ مِثْلُ هَذِهِ الْآيَاتِ .
وَعَنْ

الثَّانِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَالَ مِنْ شَوَّالٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رِفْقًا بِالْمُكَلَّفِ ؛ لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالصَّوْمِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ أَسْهَلَ ، وَتَأْخِيرُهَا عَنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ عِنْدَهُمْ لِئَلَّا يَتَطَاوَلَ الزَّمَانُ فَيُلْحَقَ بِرَمَضَانَ عِنْدَ الْجُهَّالِ قَالَ لِي الشَّيْخُ زَكِيُّ الدِّينِ عَبْدُ الْعَظِيمِ الْمُحَدِّثُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّ الَّذِي خَشِيَ مِنْهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ وَقَعَ بِالْعَجَمِ فَصَارُوا يَتْرُكُونَ الْمُسَحِّرِينَ عَلَى عَادَتِهِمْ ، وَالْقَوَانِينَ ، وَشَعَائِرَ رَمَضَانَ إلَى آخِرِ السِّتَّةِ الْأَيَّامِ فَحِينَئِذٍ يُظْهِرُونَ شَعَائِرَ الْعِيدِ وَيُؤَيِّدُ سَدَّ هَذِهِ الذَّرِيعَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد { أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ إلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى الْفَرْضَ وَقَامَ لِيَتَنَفَّلَ عَقِبَ فَرْضِهِ ، وَهُنَالِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَامَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ اجْلِسْ حَتَّى تَفْصِلَ بَيْنَ فَرْضِكَ وَنَفْلِكَ فَبِهَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابَ اللَّهُ بِكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ } وَمَقْصُودُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ اتِّصَالَ النَّفْلِ بِالْفَرْضِ إذَا حَصَلَ مَعَهُ التَّمَادِي اعْتَقَدَ الْجُهَّالُ أَنَّ ذَلِكَ النَّفَلَ مِنْ ذَلِكَ الْفَرْضِ وَلِذَلِكَ شَاعَ عِنْدَ عَوَامِّ مِصْرَ أَنَّ الصُّبْحَ رَكْعَتَانِ إلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْإِمَامَ يُوَاظِبُ عَلَى قِرَاءَةِ السَّجْدَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَسْجُدُ فَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ تِلْكَ رَكْعَةٌ أُخْرَى وَاجِبَةٌ ، وَسَدُّ هَذِهِ الذَّرَائِعِ مُتَعَيَّنٌ فِي الدِّينِ وَكَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ شَدِيدَ الْمُبَالَغَةِ فِيهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : خُصُوصُ شَوَّالٍ مُرَادٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُبَادَرَةِ لِلْعِبَادَةِ وَالِاسْتِبَاقِ إلَيْهَا لِقَوْلِهِ

عَزَّ وَجَلَّ { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } وَ { وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } وَلِظَاهِرِ لَفْظِ الْحَدِيثِ وَمَنْ سَاعَدَهُ الظَّاهِرُ فَهُوَ أَوْلَى وَجَوَابُهُمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ سَدِّ الذَّرِيعَةِ وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ مَزِيَّةٌ السِّتِّ عَلَى السَّبْعِ ، أَوْ الْخَمْسِ تَظْهَرُ بِتَقْرِيرِ مَعْنَى السِّتَّةِ وَذَلِكَ أَنَّ شَهْرًا بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ ، وَسِتَّةَ أَيَّامٍ بِسِتِّينَ يَوْمًا ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشَرَةٍ وَالسِّتُّونَ يَوْمًا بِشَهْرَيْنِ ، وَشَهْرَانِ مَعَ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ سَنَةٌ كَامِلَةٌ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي سَنَةٍ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ صَامَ تِلْكَ السَّنَةَ لِتَحْصِيلِهِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فَإِذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ كَانَ كَمَنْ صَامَ الدَّهْرَ وَالْمُرَادُ بِالدَّهْرِ عُمُرُهُ إلَى آخِرِهِ فَلَوْ قَالَ سَبْعًا لَكَانَ ذَلِكَ سَبْعِينَ يَوْمًا ، وَكَانَ أَزْيَدَ مِنْ شَهْرَيْنِ فَيَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِ الدَّهْرِ وَأَعْلَى ، وَالْأَعْلَى لَا يُشَبَّهُ بِالْأَدْنَى فَكَانَ يَبْطُلُ التَّشْبِيهُ وَلَوْ زَادَ عَلَى السَّبْعِ لَكَانَ أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ وَلَوْ قَالَ خَمْسًا لَكَانَتْ بِخَمْسِينَ يَوْمًا فَيَنْقُصُ عَنْ الشَّهْرَيْنِ فَلَا يَحْصُلُ التَّشْبِيهُ الْحَقِيقِيُّ وَكَذَلِكَ لَوْ نَقَصَ أَكْثَرَ مِنْ الْخَمْسِ فَظَهَرَ أَنَّ قَاعِدَةَ السِّتِّ مُبَايِنَةٌ لِلسَّبْعِ فَمَا فَوْقَهَا وَقَاعِدَةِ الْخَمْسِ فَمَا دُونَهَا وَهُوَ كَانَ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْفَرْقِ ، وَبَقِيَّةُ الْأَسْئِلَةِ تَبَعٌ وَزِيَادَةٌ فِي الْفَائِدَةِ ، وَالْمُنَافَاةُ فِي السَّبْعِ فَمَا فَوْقَهَا أَشَدُّ مِنْ الْمُنَافَاةِ فِي الْخَمْسِ فَمَا دُونَهَا ؛ لِأَنَّ تَشْبِيهَ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى مُنْكَرٌ مُطْلَقًا وَأَمَّا الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى فَجَائِزٌ إجْمَاعًا .
غَيْرَ أَنَّهُ مَعَ الْمُسَاوَاةِ أَحْسَنُ كَمَا { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا آلَمَتْهُ رِجْلُهُ فَمَدَّهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ تُشْبِهُ هَذِهِ فَأَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَيَّ شَيْءٍ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَدَّ

رِجْلَهُ الْأُخْرَى وَقَالَ هَذِهِ } فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَسْطِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَأْنِيسِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ وَكَرَاهَةِ أَنْ يَمُدَّ رِجْلَهُ بَيْنَهُمْ إلَّا لِعُذْرٍ فَأَظْهَرَ هَذَا السُّؤَالَ عُذْرًا ، وَذَكَرَ التَّشْبِيهَ مَعَ الْمُسَاوَاةِ فَإِنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ بَعِيدٌ جِدًّا .
وَعَنْ الرَّابِعِ أَنَّ صَائِمَ سَنَةٍ لَا يُشْبِهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَنْ صَامَ شَهْرًا وَسِتَّةَ أَيَّامٍ ، وَإِنَّمَا مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَسِتَّةَ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ يُشْبِهُ مَنْ صَامَ سَنَةً مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْمِلَّةِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } أَيْ لَهُ عَشْرُ مَثُوبَاتٍ أَمْثَالِ الْمَثُوبَةِ الَّتِي كَانَتْ تَحْصُلُ لِعَامِلٍ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّ تَضْعِيفَ الْحَسَنَاتِ إلَى عَشْرٍ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَإِذَا كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ " عَشْرُ أَمْثَالِهَا " أَمْثَالَ الْمَثُوبَةِ الَّتِي كَانَتْ تَحْصُلُ لِمَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَيَصِيرُ صَائِمُ رَمَضَانَ كَصَائِمِ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْمِلَّةِ ، وَصَائِمُ سِتَّةٍ بَعْدَهُ كَصَائِمِ شَهْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْمِلَّةِ فَصَائِمُ الْمَجْمُوعِ كَصَائِمِ سَنَةٍ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْمِلَّةِ فَإِذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ كَانَ كَصَائِمِ جَمِيعِ الْعُمُرِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْمِلَّةِ فَهَذَا تَشْبِيهٌ حَسَنٌ ، وَمَا شَبَّهَ إلَّا الْمِثْلَ بِالْمِثْلِ لَا الْمُخَالِفَ بِالْمُخَالِفِ بَلْ الْمِثْلَ الْمُحَقَّقَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ .
وَعَنْ الْخَامِسِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهُ صَامَ الدَّهْرَ لَكَانَ بَعِيدًا عَنْ الْمَقْصُودِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ تَشْبِيهُ الصِّيَامِ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ إذَا وَقَعَ عَلَى الْوَضْعِ الْمَخْصُوصِ بِالصِّيَامِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمِلَّةِ لَا تَشْبِيهُ الصَّائِمِ بِغَيْرِهِ فَلَوْ قَالَ فَكَأَنَّهُ لَكَانَتْ أَدَاةُ التَّشْبِيهِ دَاخِلَةً عَلَى الصَّائِمِ وَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هُوَ

مَحَلَّ التَّشْبِيهِ لَا الصَّوْمُ .
وَالْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ الْفِعْلِ بِالْفِعْلِ لَا الْفَاعِلِ بِالْفَاعِلِ ، وَإِذَا قَالَ فَكَأَنَّمَا ، وَكُفَّتْ " مَا " دَخَلَتْ أَدَاةُ التَّشْبِيهِ عَلَى الْفِعْلِ نَفْسِهِ وَوَقَعَ التَّشْبِيهُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْفِعْلِ بِاعْتِبَارِ الْمِلَّتَيْنِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّشْبِيهِ لِتَنْبِيهِ السَّامِعِ لِقَدْرِ الْفِعْلِ وَعَظَمَتِهِ فَتَتَوَفَّرُ رَغْبَتُهُ فِيهِ فَهَذَا هُوَ الْمُرَجِّحُ لِقَوْلِهِ " فَكَأَنَّمَا " عَلَى " فَكَأَنَّهُ " .
وَعَنْ السَّادِسِ أَنَّ الْمُرَادَ صَوْمُ الدَّهْرِ عَلَى حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَا الدَّهْرُ كَيْفَ كَانَ وَذَلِكَ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ وَاجِبٌ ، وَصَوْمَ السِّتِّ مَنْدُوبٌ فَيَكُونُ نِسْبَةُ السِّتَّةِ الْمُقَدَّرَةِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمِلَّةِ ، خَمْسَةُ أَسْدَاسِهَا فَرْضٌ وَسُدُسُهَا وَهُوَ الشَّهْرَانِ النَّاشِئَانِ عَنْ السِّتَّةِ الْأَيَّامِ مَنْدُوبَةٌ وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ ، خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ فَرْضٌ وَسُدُسُهُ نَفْلٌ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ فَرْضٌ وَلَا كُلِّهِ نَفْلٌ وَلَا الْبَعْضِ فَرْضٌ وَالْبَعْضِ نَفْلٌ عَلَى غَيْرِ النِّسْبَةِ الَّتِي ذَكَرْتهَا بَلْ يَتَعَيَّنُ مَا ذَكَرْته تَحْقِيقًا لِلتَّشْبِيهِ وَلِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ مِنْ فَرْضِيَّةِ رَمَضَانَ وَنَدْبِيَّةِ السِّتِّ فَلَوْ كَانَ الْجَمِيعُ مَنْدُوبًا لَقُلْنَا الْمُرَادُ بِالدَّهْرِ صَوْمُهُ مَنْدُوبًا وَلَوْ كَانَ الْجَمِيعُ فَرْضًا لَقُلْنَا الْمُرَادُ بِالدَّهْرِ جَمِيعُهُ فَرْضًا وَلَوْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ رَمَضَانَ فَكَأَنَّمَا صَامَ شَهْرَيْنِ لَقُلْنَا هُمَا شَهْرَانِ مَنْدُوبَانِ وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي قَوْله تَعَالَى { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } أَيْ مَنْ جَاءَ بِالْمَنْدُوبَاتِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِ هَذَا الْمَنْدُوبِ أَنْ لَوْ فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْمِلَّةِ وَمَنْ جَاءَ بِالْفَرْضِ مِنْ هَذِهِ الْمِلَّةِ فَلَهُ مَثُوبَاتٌ عَشْرٌ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَثُوبَةُ هَذَا الْفَرْضِ أَنْ لَوْ فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ

الْمِلَّةِ وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي جَمِيعِ رُتَبِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ ، وَإِنْ عَلَتْ فَظَهَرَ أَنَّ التَّشْبِيهَ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ .
وَعَنْ السَّابِعِ أَنَّ السِّتَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ تَقَدَّمَتْ حِكْمَتُهَا وَهِيَ كَوْنُهَا شَهْرَيْنِ فَتَكْمُلُ السَّنَةُ بِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يَحْصُلُ بِمَا فَوْقَهَا مِنْ الْعَدَدِ وَلَا بِمَا دُونَهَا مِنْ الْعَدَدِ .
وَأَمَّا السِّتَّةُ فِي الْآيَةِ فَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : الْأَعْدَادُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ عَدَدٌ تَامٌّ وَعَدَدٌ زَائِدٌ وَعَدَدٌ نَاقِصٌ فَالْعَدَدُ التَّامُّ هُوَ الَّذِي إذَا جُمِعَتْ أَجْزَاؤُهُ انْقَامَ مِنْهَا ذَلِكَ الْعَدَدُ كَالسِّتَّةِ فَإِنَّ أَجْزَاءَهَا النِّصْفُ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَالثُّلُثُ اثْنَانِ وَالسُّدُسُ وَاحِدٌ فَلَا جُزْءَ لَهَا غَيْرُ هَذِهِ وَمَجْمُوعُهَا سِتٌّ وَهُوَ أَصْلُ الْعَدَدِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ ، وَالْأَرْبَعَةُ لَهَا نِصْفٌ وَرُبُعٌ خَاصَّةً وَمَجْمُوعُهَا ثَلَاثَةٌ فَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الْعَدَدُ فَالْأَرْبَعَةُ عَدَدٌ نَاقِصٌ وَالْعَشَرَةُ لَهَا نِصْفٌ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَخُمُسٌ وَهُوَ اثْنَانِ وَعُشْرٌ وَهُوَ وَاحِدٌ ، وَمَجْمُوعُهَا ثَمَانِيَةٌ فَهُوَ عَدَدٌ نَاقِصٌ وَالِاثْنَا عَشَرَ لَهَا نِصْفٌ وَهُوَ سِتَّةٌ وَثُلُثٌ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَسُدُسٌ وَهُوَ اثْنَانِ وَنِصْفُ سُدُسٍ وَهُوَ وَاحِدٌ وَمَجْمُوعُهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَهُوَ عَدَدٌ زَائِدٌ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْأَجْزَاءِ أَنْ تَكُونَ بِغَيْرِ كَسْرٍ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَالْعَدَدُ النَّاقِصُ عِنْدَهُمْ كَآدَمِيٍّ خُلِقَ بِغَيْرِ يَدٍ ، أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ فَهُوَ مَعِيبٌ ، وَالْعَدَدُ الزَّائِدُ أَيْضًا مَعِيبٌ ؛ لِأَنَّهُ كَإِنْسَانٍ خُلِقَ بِإِصْبَعٍ زَائِدَةٍ ، وَالْعَدَدُ التَّامُّ كَإِنْسَانٍ خُلِقَ خَلْقًا سَوِيًّا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ وَهُوَ عِنْدَهُمْ أَفْضَلُ الْأَعْدَادِ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ السَّوِيَّ أَفْضَلُ الْآدَمِيِّينَ خَلْقًا ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ السِّتَّةَ عَدَدٌ تَامٌّ مَحْمُودٌ فَهُوَ أَوَّلُ الْأَعْدَادِ التَّامَّةِ فَلِذَلِكَ ذُكِرَ لِتَمَامِهِ

وَلِأَنَّهُ أَوَّلُهَا وَذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ { خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } وَكَانَ الْمَقْصُودُ تَنْبِيهَ الْعِبَادِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّعْجِيلِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَنَاةٌ فَمَا دَخَلَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ وَلَا فُقِدَ مِنْ شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ { قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَشَجِّ عَبْد الْقِيس إنَّ فِيكَ لِخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ } وَهَذَا الْمَعْنَى يَحْصُلُ بِذِكْرِ الْعَدَدِ كَيْفَ كَانَ لَكِنْ يُرَجَّحُ هَذَا بِأَنَّهُ أَوَّلُ عَدَدٍ يَكُونُ تَامًّا وَوَقَعَ فِي الْحَدِيثِ لِغَيْرِ هَذَا الْغَرَضِ كَمَا تَقَدَّمَ فَالْبَابَانِ مُخْتَلِفَانِ .
قَالَ : ( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ صَوْمِهِ وَصَوْمِ خَمْسٍ ، أَوْ سَبْعٍ مِنْ شَوَّالٍ ) .
قُلْت : جَمِيعُ مَا قَالَهُ فِيهِ صَحِيحٌ إلَّا مَا قَالَهُ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ الثَّانِي مِنْ أَنَّ تَخْصِيصَ شَوَّالٍ رِفْقٌ بِالْمُكَلَّفِ وَسَدٌّ لِلذَّرِيعَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ ، وَإِلَّا مَا قَالَهُ فِي تَأْوِيلِ ذِكْرِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ أَنَّهُ لِكَوْنِ السِّتَّةِ عَدَدًا تَامًّا فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ أَيْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَمَا قَالَهُ فِي الْفَرْقَيْنِ بَعْدَ هَذَا صَحِيحٌ .

الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ صَوْمِهِ وَصَوْمِ خَمْسٍ ، أَوْ سَبْعٍ مِنْ شَوَّالٍ ) وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ } هُوَ أَنَّ مَنْ صَامَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ رَمَضَانَ وَسِتَّةَ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ يُشْبِهُ مَنْ صَامَ سَنَةً مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، خَمْسَةُ أَسْدَاسِهَا فَرْضٌ وَسُدُسُهَا نَفْلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِحَسَنَةٍ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِ الْمَثُوبَةِ الَّتِي كَانَتْ تَحْصُلُ لِمَنْ كَانَ قَبْلَهَا مِنْ الْأُمَمِ فَإِنَّ تَضْعِيفَ الْحَسَنَاتِ إلَى عَشَرَةٍ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَحِينَئِذٍ فَيَصِيرُ صَائِمُ رَمَضَانَ مِنْهُمْ كَصَائِمِ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَصَائِمُ سِتَّةٍ بَعْدَهُ مِنْهُمْ كَصَائِمِ شَهْرَيْنِ مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَكُونُ صَائِمُ الْمَجْمُوعِ مِنْهُمْ كَصَائِمِ سَنَةٍ مِنْ غَيْرِهِمْ سُدُسُهَا فَقَطْ نَفْلٌ وَبَاقِي أَسْدَاسِهَا فَرْضٌ فَإِذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْ صَائِمِهِ مِنْهُمْ كَانَ كَصَائِمِ جَمِيعِ الْعُمُرِ مِنْ غَيْرِهِمْ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ فَرْضٌ وَسُدُسُهُ نَفْلٌ فَالْمُرَادُ بِالدَّهْرِ عُمُرُهُ ، فَبِإِتْبَاعِ رَمَضَانَ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ مَعَ التَّضْعِيفِ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ حَسَنُ التَّشْبِيهِ بِصِيَامِ الدَّهْرِ مِنْ غَيْرِهَا لَكِنْ بِنِسْبَةِ أَنَّ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ فَرْضٌ وَسُدُسَهُ نَفْلٌ فَلَا يَحْصُلُ التَّشْبِيهُ الْحَقِيقِيُّ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ إلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : الْأَوَّلُ بِالسِّتِّ لَا بِالسَّبْعِ لِأَنَّ السَّبْعَ بِالتَّضْعِيفِ سَبْعُونَ يَوْمًا وَهِيَ زَائِدَةٌ عَنْ الشَّهْرَيْنِ وَتَشْبِيهُ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى بَاطِلٌ ، وَلَوْ زَادَ عَلَى السَّبْعِ لَكَانَ أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ وَلَا بِالْخَمْسِ لِأَنَّ الْخَمْسَ بِالتَّضْعِيفِ خَمْسُونَ وَهِيَ نَاقِصَةٌ عَنْ الشَّهْرَيْنِ

وَكَذَلِكَ مَا دُونَ الْخَمْسِ ، وَتَشْبِيهُ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا إجْمَاعًا إلَّا أَنَّهُ مَعَ الْمُسَاوَاةِ أَحْسَنُ مِنْهُ مَعَ عَدَمِهَا فَقَاعِدَةُ السِّتِّ مُبَايِنَةٌ لِقَاعِدَةِ السَّبْعِ فَمَا فَوْقَهَا وَالْخَمْسِ فَمَا دُونَهَا .
الْأَمْرُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ صَوْمُ الدَّهْرِ عَلَى حَالٍ مَخْصُوصَةٍ بِأَنْ يَكُونَ نِسْبَةُ السِّتَّةِ الْمُقَدَّرَةِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمِلَّةِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهَا فَرْضٌ وَسُدُسُهَا وَهُوَ الشَّهْرَانِ النَّاشِئَانِ عَنْ السِّتَّةِ أَيَّامٍ نَفْلٌ ، وَمِنْ التَّشْبِيهِ مَعَ الْمُسَاوَاةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا آلَمَتْهُ رِجْلُهُ فَمَدَّهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ تُشْبِهُ هَذِهِ فَأَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَيَّ شَيْءٍ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَدَّ رِجْلَهُ الْأُخْرَى وَقَالَ هَذِهِ } فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَسْطِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَأْنِيسِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ وَكَرَاهَةِ أَنْ يَمُدَّ رِجْلَهُ بَيْنَهُمْ إلَّا لِعُذْرٍ فَأَظْهَرَ هَذَا السُّؤَالُ عُذْرًا وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ بَعِيدٌ جِدًّا ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَبَانَتْ مَزِيَّةُ السِّتِّ عَلَى الْخَمْسِ ، أَوْ السَّبْعِ وَأَنَّ التَّشْبِيهَ فِي الْحَدِيثِ جَارٍ عَلَى قَاعِدَةِ الْعَرَبِ فِي كَوْنِ التَّشْبِيهِ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ ، أَوْ التَّقْرِيبَ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسِتٍّ وَلَمْ يَقُلْ بِسِتَّةٍ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الصَّوْمِ إنَّمَا هُوَ الْأَيَّامُ دُونَ اللَّيَالِي ، وَالْيَوْمُ مُذَكَّرٌ وَقَاعِدَةُ الْعَرَبِ مَا فِي قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ : ثَلَاثَةٌ بِالتَّاءِ قُلْ لِلْعَشَرَهْ فِي عَدِّ مَا آحَادُهُ مُذَكَّرَهْ لِأَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ تَغْلِيبُ اللَّيَالِي عَلَى الْأَيَّامِ فَمَتَى أَرَادُوا عَدَّ الْأَيَّامِ عَدُّوا اللَّيَالِيَ وَمُرَادُهُمْ الْأَيَّامُ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }

وَلَمْ يَقُلْ وَعَشَرَةً ، مَعَ أَنَّهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَوْ قِيلَ عَشَرَةً لَكَانَ لَحْنًا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { إنْ لَبِثْتُمْ إلَّا عَشْرًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إنْ لَبِثْتُمْ إلَّا يَوْمًا } قَالَ الْعُلَمَاءُ يَدُلُّ الْكَلَامُ الْأَخِيرُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى إلَّا يَوْمًا عَلَى أَنَّ الْمَعْدُودَ الْأَوَّلَ أَيَّامٌ وَلِلْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَوَّالٍ أَقْوَالٌ : الْأَوَّلُ لِابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ أَنَّهُ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ وَالْمُرَادُ أَنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ وَصِيَامَ سِتَّةِ أَيَّامٍ بِشَهْرَيْنِ وَذَلِكَ الْمَذْهَبُ فَلَوْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ شَوَّالٍ لَكَانَ الْحُكْمُ فِيهَا كَذَلِكَ قَالَ وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ النَّظَرِ فَاعْلَمُوهُ ا هـ الْقَوْلُ الثَّانِي لِابْنِ الْمُبَارَكِ وَاللَّخْمِيِّ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَلَى جِهَةِ التَّعْيِينِ مِنْ أَوَّلِهِ وَأَنَّ خُصُوصَ شَوَّالٍ مُرَادٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُبَادَرَةِ لِلْعِبَادَةِ وَالِاسْتِبَاقِ إلَيْهَا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } ، { وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } وَلِظَاهِرِ لَفْظِ الْحَدِيثِ وَمَنْ سَاعَدَهُ الظَّاهِرُ فَهُوَ أَوْلَى قَالَ فِي الْعَارِضَةِ وَلَسْت أَرَاهُ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ سَدِّ الذَّرِيعَةِ وَلَوْ عَلِمْتُ مَنْ يَصُومُهَا أَوَّلَ الشَّهْرِ وَمَلَكْتُ الْأَمْرَ آذَيْته وَشَدَدْتُ عَلَيْهِ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ غَيَّرُوا دِينَهُمْ ا هـ الْقَوْلُ الثَّالِثُ لِجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ عَلَى جِهَةِ التَّعْيِينِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ صَوْمَهَا بِأَوَّلِ شَوَّالٍ مُتَّصِلَةً مُتَتَابِعَةً مَكْرُوهٌ جِدًّا لِأَنَّ النَّاسَ صَارُوا يَقُولُونَ تَشْيِيعُ رَمَضَانَ وَكَمَا لَا يُتَقَدَّمُ لَا يُشَيَّعُ فَصَوْمُهَا مِنْ غَيْرِهِ أَفْضَلُ مِنْ أَوْسَطِهِ وَمِنْ أَوْسَطِهِ أَفْضَلُ مِنْ أَوَّلِهِ وَهَذَا بَيِّنٌ وَهُوَ أَحْوَطُ لِلشَّرِيعَةِ وَأَذْهَبُ لِلْبِدْعَةِ كَمَا فِي الْعَارِضَةِ وَفِي الذَّخِيرَةِ اسْتَحَبَّ مَالِكٌ صِيَامَ السِّتِّ فِي غَيْرِ شَوَّالٍ

خَوْفًا مِنْ إلْحَاقِهَا بِرَمَضَانَ عِنْدَ الْجُهَّالِ ، وَإِنَّمَا عَيَّنَهُ الشَّرْعُ مِنْ شَوَّالٍ لِلتَّخْفِيفِ عَلَى الْمُكَلَّفِ لِقُرْبِهِ مِنْ الصَّوْمِ ، وَإِلَّا فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ فِي غَيْرِهِ فَيُشْرَعُ لِلتَّأْخِيرِ جَمْعًا بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ ا هـ .
وَفِي التَّوْضِيحِ عَنْ الْجَوَاهِرِ لَوْ صَامَهَا فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لَكَانَ أَحْسَنَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مَعَ حِيَازَةِ فَضْلِ الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ وَالسَّلَامَةِ مِمَّا اتَّقَاهُ مَالِكٌ ا هـ وَمِثْلُهُ للشبيني وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُ الْأَصْلِ إنَّمَا قَالَ مِنْ شَوَّالٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رِفْقًا بِالْمُكَلَّفِ لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالصَّوْمِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ أَسْهَلَ ، وَتَأْخِيرُهَا عَنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ عِنْدَهُمْ لِئَلَّا يَتَطَاوَلَ الزَّمَانُ فَيُلْحَقَ بِرَمَضَانَ عِنْدَ الْجُهَّالِ قَالَ لِي الشَّيْخُ زَكِيُّ الدِّينِ عَبْدُ الْعَظِيمِ الْمُحَدِّثُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّ الَّذِي خَشِيَ مِنْهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ وَقَعَ بِالْعَجَمِ فَصَارُوا يَتْرُكُونَ الْمُسَحِّرِينَ عَلَى عَادَتِهِمْ ، وَالْقَوَانِينَ ، وَشَعَائِرَ رَمَضَانَ إلَى آخِرِ السِّتَّةِ أَيَّامٍ فَحِينَئِذٍ يُظْهِرُونَ شَعَائِرَ الْعِيدِ وَيُؤَيِّدُ سَدَّ هَذِهِ الذَّرِيعَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَنَّ { رَجُلًا دَخَلَ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى الْفَرْضَ وَقَامَ لِيَتَنَفَّلَ عَقِبَ فَرْضِهِ وَهُنَاكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَامَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ اجْلِسْ حَتَّى تَفْصِلَ بَيْنَ فَرْضِكَ وَنَفْلِكَ فَبِهَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابَ اللَّهُ بِكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ } وَمَقْصُودُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ اتِّصَالَ التَّنَفُّلِ بِالْفَرْضِ إذَا حَصَلَ مَعَهُ التَّمَادِي اعْتَقَدَ الْجُهَّالُ أَنَّ ذَلِكَ النَّفَلَ مِنْ ذَلِكَ الْفَرْضِ وَلِذَلِكَ شَاعَ عِنْدَ عَوَامِّ مِصْرَ أَنَّ الصُّبْحَ رَكْعَتَانِ إلَّا فِي يَوْمِ

الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْإِمَامَ يُوَاظِبُ عَلَى قِرَاءَةِ السَّجْدَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَسْجُدُ فَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ تِلْكَ رَكْعَةٌ أُخْرَى وَاجِبَةٌ وَسَدُّ هَذِهِ الذَّرَائِعِ مُتَعَيَّنٌ فِي الدِّينِ وَكَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ شَدِيدَ الْمُبَالَغَةِ فِيهَا ا هـ وَخُلَاصَةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ تَخْصِيصَ شَوَّالٍ رِفْقٌ بِالْمُكَلَّفِ فَيُشْرَعُ التَّأْخِيرُ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَهَذَا لَيْسَ بِالْقَوِيِّ ا هـ .
الْقَوْلُ الرَّابِعُ لِلْمَازِرِيِّ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَنَّ خُصُوصَ شَوَّالٍ ، وَإِنْ كَانَ مُرَادًا لِلْمُبَادَرَةِ لِلْعِبَادَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ إلَّا أَنَّ الْحَدِيثَ لَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَكَرِهَ صِيَامَهَا مِنْ شَوَّالٍ وَلَمَّا كَانَ مَقْصُودُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْبِيهَ الصِّيَامِ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ إذَا وَقَعَ عَلَى الْوَضْعِ الْمَخْصُوصِ بِالصِّيَامِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمِلَّةِ لَا تَشْبِيهَ الصَّائِمِ بِغَيْرِهِ قَالَ فَكَأَنَّمَا وَلَمْ يَقُلْ فَكَأَنَّهُ ، فَأَدْخَلَ كَأَنَّ الدَّالَّةَ عَلَى التَّشْبِيهِ مَكْفُوفَةً بِمَا عَلَى الْفِعْلِ نَفْسِهِ وَأَوْقَعَ التَّشْبِيهَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْفِعْلِ بِاعْتِبَارِ الْمِلَّتَيْنِ لِتَنْبِيهِ السَّامِعِ لِقَدْرِ الْفِعْلِ وَعَظَمَتِهِ فَتَتَوَفَّرُ رَغْبَتُهُ فِيهِ قِيلَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ السِّتَّةِ أَيَّامٍ الْوَاقِعَةِ فِي الْحَدِيثِ وَالسِّتَّةِ أَيَّامٍ الْوَاقِعَةِ فِي قَوْله تَعَالَى { خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } هِيَ كَوْنُ الْحِكْمَةِ فِيهَا فِي الْحَدِيثِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا كَوْنُهَا شَهْرَيْنِ فَتَكْمُلُ السِّتَّةُ بِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ بِخِلَافِ مَا فَوْقَهَا وَمَا تَحْتَهَا ، وَثَانِيهِمَا كَوْنُهَا أَوَّلَ الْأَعْدَادِ التَّامَّةِ فَهُوَ لِتَمَامِهِ ، وَلِأَنَّهُ أَوَّلُهَا عِنْدَهُمْ أَفْضَلُ الْأَعْدَادِ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ السَّوِيَّ الَّذِي لَا زِيَادَةَ فِي أَعْضَائِهِ وَلَا نَقْصَ أَفْضَلُ الْآدَمِيِّينَ خَلْقًا وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ

الْفُضَلَاءِ قَالَ : الْأَعْدَادُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : عَدَدٌ تَامٌّ وَهُوَ الَّذِي إذَا جُمِعَتْ أَجْزَاؤُهُ الْمُنْطَقَةُ انْقَامَ مِنْهَا ذَلِكَ الْعَدَدُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ كَالسِّتَّةِ أَجْزَاؤُهَا : النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ ، وَالثُّلُثُ اثْنَانِ ، وَالسُّدُسُ وَاحِدٌ وَلَا جُزْءَ لَهَا غَيْرُ هَذِهِ وَمَجْمُوعُهَا سِتٌّ .
وَعَدَدٌ نَاقِصٌ وَهُوَ الَّذِي إذَا جُمِعَتْ أَجْزَاؤُهُ الْمُنْطَقَةُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهَا ذَلِكَ الْعَدَدُ بَلْ أَنْقَصُ مِنْهُ كَالْأَرْبَعَةِ أَجْزَاؤُهَا : النِّصْفُ اثْنَانِ ، وَالرُّبُعُ وَاحِدٌ وَلَا جُزْءَ لَهَا غَيْرُهُمَا وَمَجْمُوعُهُمَا ثَلَاثَةٌ أَقَلُّ مِنْ الْأَرْبَعَةِ .
وَعَدَدٌ زَائِدٌ وَهُوَ الَّذِي إذَا جُمِعَتْ أَجْزَاؤُهُ الْمُنْطَقَةُ حَصَلَ عَدَدٌ زَائِدٌ عَنْهُ كَالِاثْنَيْ عَشَرَ أَجْزَاؤُهَا : النِّصْفُ سِتَّةٌ ، وَالثُّلُثُ أَرْبَعَةٌ ، وَالسُّدُسُ اثْنَانِ ، وَنِصْفُ السُّدُسِ وَاحِدٌ وَمَجْمُوعُهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى الِاثْنَيْ عَشَرَ بِوَاحِدٍ ، وَالتَّامُّ عِنْدَهُمْ أَفْضَلُ الْأَعْدَادِ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ السَّوِيَّ أَفْضَلُ الْآدَمِيِّينَ خَلْقًا ، وَالنَّاقِصُ مَعِيبٌ لِأَنَّهُ كَآدَمِيٍّ خُلِقَ بِغَيْرِ يَدٍ ، أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ ، وَالزَّائِدُ مَعِيبٌ لِأَنَّهُ كَآدَمِيٍّ خُلِقَ بِأُصْبُعٍ زَائِدَةٍ وَلَيْسَ لِلسِّتَّةِ فِي الْآيَةِ إلَّا الْأَمْرُ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهَا أَوَّلُ الْأَعْدَادِ التَّامَّةِ .
وَأَمَّا كَوْنُ الْمَقْصُودِ بِذِكْرِهَا التَّنْبِيهَ لِلْعِبَادِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّعْجِيلِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَنَاةٌ فَمَا دَخَلَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ وَلَا فُقِدَ مِنْ شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ { قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ إنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ } فَهَذَا الْمَعْنَى يَحْصُلُ بِذِكْرِ الْعَدَدِ كَيْفَ كَانَ ا هـ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَهُوَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ ا هـ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْعُرُوضِ تُحْمَلُ عَلَى الْقِنْيَةِ حَتَّى يَنْوِيَ التِّجَارَةَ وَقَاعِدَةِ مَا كَانَ أَصْلُهُ مِنْهَا لِلتِّجَارَةِ ) هَاتَانِ قَاعِدَتَانِ فِي الْمَذْهَبِ مُخْتَلِفَتَانِ يَنْبَغِي بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَالسِّرِّ فِيهِمَا فَوَقَعَ لِمَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ إذَا ابْتَاعَ عَبْدًا لِلتِّجَارَةِ فَكَاتَبَهُ فَعَجَزَ ، أَوْ ارْتَجَعَ مِنْ مُفْلِسٍ سِلْعَةً ، أَوْ أَخَذَ مِنْ غَرِيمِهِ عَبْدًا فِي دَيْنِهِ ، أَوْ دَارًا فَأَجَّرَهَا سِنِينَ رَجَعَ جَمِيعُ ذَلِكَ لِحُكْمِ أَصْلِهِ مِنْ التِّجَارَةِ فَإِنْ كَانَ لِلتِّجَارَةِ لَا يَبْطُلُ إلَّا بِنِيَّةِ الْقِنْيَةِ ، وَالْعَبْدُ الْمَأْخُوذُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ أَصْلِهِ قَالَ سَنَدٌ فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ فَلَوْ ابْتَاعَ الدَّارَ بِقَصْدِ الْغَلَّةِ فَفِي اسْتِئْنَافِ الْحَوْلِ بَعْدَ الْبَيْعِ لِمَالِكٍ رِوَايَتَانِ وَلَوْ ابْتَاعَهَا لِلتِّجَارَةِ وَالسُّكْنَى فَلِمَالِكٍ أَيْضًا قَوْلَانِ مُرَاعَاةً لِقَصْدِ التَّنْمِيَةِ بِالْغَلَّةِ وَالتِّجَارَةِ ، أَوْ التَّغْلِيبِ لِلنِّيَّةِ فِي الْقِنْيَةِ عَلَى نِيَّةِ التَّنْمِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْعُرُوضِ فَإِنْ اشْتَرَى وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهِيَ لِلْقِنْيَةِ ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِيهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ يَقَعُ بِبَيَانِ قَاعِدَةٍ ثَالِثَةٍ شَرْعِيَّةٍ عَامَّةٍ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ وَغَيْرِهِ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَا لَهُ ظَاهِرٌ فَهُوَ يَنْصَرِفُ إلَى ظَاهِرِهِ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الْمُعَارِضِ أَوْ الرَّاجِحِ لِذَلِكَ الظَّاهِرِ وَكُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ ظَاهِرٌ لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ مُحْتَمَلَاتِهِ إلَّا بِمُرَجِّحٍ شَرْعِيٍّ وَلِذَلِكَ انْصَرَفَتْ الْعُقُودُ الْمُطْلَقَةُ إلَى النُّقُودِ الْغَالِبَةِ فِي زَمَانِ ذَلِكَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِيهَا ، وَإِذَا وَكَّلَ إنْسَانٌ إنْسَانًا فَتَصَرَّفَ الْوَكِيلُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ فِي تَخْصِيصِ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ بِالْمُوَكِّلِ فَإِنَّ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ يَنْصَرِفُ لِلْمُتَصَرِّفِ الْوَكِيلِ دُونَ مُوَكِّلِهِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ أَنَّهَا لِنَفْسِهِ

وَكَذَلِكَ تَصَرُّفَاتُ الْمُسْلِمِينَ إذَا أُطْلِقَتْ وَلَمْ تُقَيَّدْ بِمَا يَقْتَضِي حِلَّهَا وَلَا تَحْرِيمَهَا فَإِنَّهَا تَنْصَرِفُ لِلتَّصَرُّفَاتِ الْمُبَاحَةِ دُونَ الْمُحَرَّمَةِ ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ حَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلِذَلِكَ تَنْصَرِفُ الْعُقُودُ وَالْأَعْوَاضُ إلَى الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْ الْعَيْنِ عُرْفًا ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرُهَا وَلَا يُحْتَاجُ إلَى التَّصْرِيحِ بِهَا كَمَنْ اسْتَأْجَرَ قَدُومًا فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى النَّجْرِ ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ حَالِهِ دُونَ الْعِزَاقِ وَعَجْنِ الطِّينِ وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عِمَامَةً فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الِاسْتِعْمَالِ فِي الرُّءُوسِ دُونَ الْأَوْسَاطِ ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ حَالِهَا وَكَذَلِكَ الْقَمِيصُ يَنْصَرِفُ إلَى اللُّبْسِ ، وَكُلُّ آلَةٍ تَنْصَرِفُ إلَى ظَاهِرِ حَالِهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ، وَلَا يَحْتَاجُ الْمُتَعَاقِدَانِ إلَى التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ بَلْ يَكْفِي ظَاهِرُ الْحَالِ وَكَذَلِكَ اسْتِئْجَارُ دَوَابِّ الْحَمْلِ يَنْصَرِفُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ فِيهَا لِلْحَمْلِ دُونَ الرُّكُوبِ ، وَعَكْسُهُ دَوَابُّ الرُّكُوبِ ، وَيُكْتَفَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بِظَاهِرِ حَالِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَاحْتَاجَتْ الْعِبَادَاتُ لِلنِّيَّاتِ لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ وَتَرَدُّدِهَا أَيْضًا بَيْنَ رُتَبِهَا الْخَاصَّةِ بِهَا كَالْفَرِيضَةِ وَالتَّطَوُّعِ وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا احْتَاجَتْ الْكِنَايَاتُ فِي بَابِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إلَى النِّيَّاتِ لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ تِلْكَ الْمَقَاصِدِ وَغَيْرِهَا بِخِلَافِ صَرِيحِ كُلِّ بَابٍ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ لِذَلِكَ الْبَابِ بِظَاهِرِهِ وَاسْتُغْنِيَ عَنْ النِّيَّةِ بِظَاهِرِهِ فَخَرَجَتْ قَاعِدَةُ عُرُوضِ الْقِنْيَةِ وَقَاعِدَةُ عُرُوضِ التِّجَارَةِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَهِيَ قَاعِدَةٌ حَسَنَةٌ يَتَخَرَّجُ عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنْ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ " الْعُرُوض تُحْمَلُ عَلَى الْقِنْيَةِ حَتَّى يَنْوِيَ التِّجَارَةَ " وَقَاعِدَةِ " مَا كَانَ أَصْلُهُ مِنْهَا لِلتِّجَارَةِ " ) يَتَخَرَّجُ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ عُرُوضِ الْقِنْيَةِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ عَلَى الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَامَّةِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ وَغَيْرِهِ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَا لَهُ ظَاهِرٌ فَهُوَ يَنْصَرِفُ إلَى ظَاهِرِهِ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ لِذَلِكَ الظَّاهِرِ وَكُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ ظَاهِرٌ لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ مُحْتَمَلَاتِهِ إلَّا بِمُرَجِّحٍ شَرْعِيٍّ وَذَلِكَ أَنَّ الْعُرُوضَ لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ فِيهَا وَالْغَالِبُ أَنْ تَكُونَ لِلْقِنْيَةِ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي الْقِنْيَةِ فَتُصْرَفُ إلَيْهِ إذَا لَمْ يَقُمْ مُعَارِضٌ رَاجِحٌ لِذَلِكَ الظَّاهِرِ كَمَا إذَا اشْتَرَى عُرُوضًا كَعَبْدٍ ، أَوْ دَارٍ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهِيَ لِلْقِنْيَةِ إذْ لَا مُعَارِضَ ، وَتُصْرَفُ إلَى مُعَارِضِهِ الرَّاجِحِ عِنْدَ قِيَامِهِ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ إذَا ابْتَاعَ عَبْدًا لِلتِّجَارَةِ فَكَاتَبَهُ فَعَجَزَ أَوْ ارْتَجَعَ مِنْ مُفْلِسٍ سِلْعَةً ، أَوْ أَخَذَ مِنْ غَرِيمِهِ عَبْدًا فِي دَيْنِهِ أَوْ دَارًا فَأَجَرَهَا سِنِينَ رَجَعَ جَمِيعُ ذَلِكَ لِحُكْمِ أَصْلِهِ مِنْ التِّجَارَةِ فَإِنَّ مَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ لَا يَبْطُلُ إلَّا بِنِيَّةِ الْقِنْيَةِ فَالْعَبْدُ الْمَأْخُوذُ وَنَحْوُهُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ أَصْلِهِ قَالَ سَنَدٌ فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ فَلَوْ ابْتَاعَ الدَّارَ بِقَصْدِ الْغَلَّةِ فَفِي اسْتِئْنَافِ الْحَوْلِ بَعْدَ الْبَيْعِ رِوَايَتَانِ لِمَالِكٍ وَلَوْ ابْتَاعَهَا لِلتِّجَارَةِ وَالسُّكْنَى فَلِمَالِكٍ أَيْضًا قَوْلَانِ أَيْ بِالِاسْتِئْنَافِ لِلْحَوْلِ بَعْدَ الْبَيْعِ مُرَاعَاةً لِقَصْدِ التَّنْمِيَةِ بِالْغَلَّةِ وَالتِّجَارَةِ ، وَعَدَمِ الِاسْتِئْنَافِ لَهُ بَعْدَهُ تَغْلِيبًا لِلنِّيَّةِ فِي الْقِنْيَةِ عَلَى نِيَّةِ التَّنْمِيَةِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْعُرُوضِ ، وَفِي شَرْحِ الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِيِّ عَلَى الْمُوَطَّإِ : وَالْأَمْوَالُ عَلَى ضَرْبَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا مَالٌ أَصْلُهُ التِّجَارَةُ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَهَذَا

عَلَى حُكْمِ التِّجَارَةِ حَتَّى يَنْتَقِلَ عَنْهُ إلَى الْقِنْيَةِ ، وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ إلَيْهَا إلَّا بِالنِّيَّةِ وَالْعَمَلِ وَالْعَمَلُ الْمُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ الصِّيَاغَةُ .
وَثَانِيهِمَا مَالٌ أَصْلُهُ الْقِنْيَةُ كَالْعُرُوضِ وَالثِّيَابِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ وَالْأَطْعِمَةِ فَهَذَا عَلَى حُكْمِ الْقِنْيَةِ حَتَّى يَنْتَقِلَ عَنْهُ إلَى التِّجَارَةِ ، وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ إلَيْهَا إلَّا بِالنِّيَّةِ وَالْعَمَلِ ، وَالْعَمَلُ الْمُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ الِابْتِيَاعُ ا هـ بِتَصَرُّفٍ ، ثُمَّ قَالَ مَا مَعْنَاهُ وَالِابْتِيَاعُ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا التَّقْلِيبُ عَلَى وَجْهِ الِادِّخَارِ وَانْتِظَارِ الْأَسْوَاقِ فَهَذَا لَا زَكَاةَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فِيهِ ، وَإِنْ أَقَامَ أَعْوَامًا حَتَّى يَبِيعَ فَيُزَكِّيَ لِعَامٍ وَاحِدٍ .
الثَّانِي التَّقْلِيبُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ غَيْرِ انْتِظَارِ سُوقٍ كَفِعْلِ أَرْبَابِ الْحَوَانِيتِ الْمُدِيرِينَ فَهَذَا فِيهِ الزَّكَاةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فِي كُلِّ عَامٍ عَلَى شُرُوطٍ : أَحَدُهَا أَنْ يُقَوِّمَ الْعَرَضَ فِي رَأْسِ الْحَوْلِ مِنْ يَوْمِ كَانَ زَكَّى الْمَالَ قَبْلَ أَنْ يُدِيرَهُ ، أَوْ مِنْ يَوْمِ أَفَادَهُ .
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ التَّقْوِيمُ قِيمَةَ عَدْلٍ بِمَا تُسَاوِي الْعَرَضَ حِينَ تَقْوِيمِهَا .
وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْبَيْعِ الْمَعْرُوفِ دُونَ بَيْعِ الضَّرُورَةِ .
وَالرَّابِعُ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ مَعَ مَا يَحْسُبُهُ مِنْ عَيْنِهِ وَنَقْدِهِ حَيْثُ كَانَ بَيْعُهُ فِي أَكْثَرِ مِنْ عَامِهِ بِالْعَيْنِ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَيُزَكِّيَهُ بِأَنْ يُخْرِجَ فِي الْعِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفَ دِينَارٍ وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ الْجَمِيعُ عِشْرِينَ دِينَارًا بِأَنْ نَقَصَ وَلَوْ قَلَّ مِنْ ثُلُثِ دِينَارٍ فَلَا زَكَاةَ ا هـ .
وَفِي عبق مَعَ الْمَتْنِ مَا خُلَاصَتُهُ : وَإِنَّمَا يُزَكِّي عِوَضَ عَرَضٍ أَيْ قِيمَتَهُ فِي الْمُدِيرِ حَيْثُ قُوِّمَ وَثَمَنُهُ حَيْثُ بَاعَ كَالْمُحْتَكِرِ بِسِتَّةِ شُرُوطٍ أَشَارَ .
لِأَوَّلِهَا بِقَوْلِهِ : لَا زَكَاةَ فِي عَيْنِهِ فَخَرَجَ مَا فِي عَيْنِهِ زَكَاةٌ كَمَاشِيَةٍ وَحَرْثٍ وَحُلِيٍّ .
وَلِثَانِيهَا

بِقَوْلِهِ : مُلِّكَ بِمُعَاوَضَةٍ عَلَيْهِ مَالِيَّةٍ فَخَرَجَ نَحْوُ الْمَوْهُوبِ وَنَحْوُ الْمَمْلُوكِ بِخُلْعٍ .
وَلِثَالِثِهَا بِقَوْلِهِ : وَكَانَ مَصْحُوبًا بِنِيَّةِ تَجْرٍ مُنْفَرِدَةٍ ، أَوْ مَعَ نِيَّةِ غَلَّةٍ كَنِيَّةِ كِرَائِهِ عِنْدَ شِرَائِهِ ، وَإِنْ وَجَدَ رِبْحًا بَاعَ ، أَوْ مَعَ نِيَّةِ قِنْيَةٍ كَنِيَّةِ انْتِفَاعٍ بِوَطْءٍ ، أَوْ خِدْمَةٍ عِنْدَ نِيَّةِ بَيْعِهِ إنْ وَجَدَ رِبْحًا وَأَوْ لِمَنْعِ الْخُلُوِّ لِأَنَّ انْضِمَامَهُمَا لِنِيَّةِ التَّجْرِ كَانْضِمَامِ أَحَدِهِمَا لَهُ عَلَى الْمُخْتَارِ وَالْمُرَجَّحُ بِلَا نِيَّةٍ فَلَا زَكَاةَ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَرَضِ الْقِنْيَةُ ، أَوْ مَعَ نِيَّةِ قِنْيَةٍ فَقَطْ فَلَا زَكَاةَ اتِّفَاقًا ، أَوْ نِيَّةِ غَلَّةٍ فَقَطْ كَشِرَائِهِ بِنِيَّةِ كِرَائِهِ فَلَا زَكَاةَ كَمَا رَجَعَ إلَيْهِ مَالِكٌ خِلَافًا لِاخْتِيَارِ اللَّخْمِيِّ الزَّكَاةَ فِيهِ - قَائِلًا - لَا فَرْقَ بَيْنَ الْتِمَاسِ الرِّبْحِ مِنْ رِقَابٍ ، أَوْ مَنَافِعَ ، أَوْ نِيَّتِهِمَا - أَيْ الْقِنْيَةِ وَالْغَلَّةِ - فَلَا زَكَاةَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَسْقَطَ الزَّكَاةَ مِنْ الْمُغْتَلِّ أَمَّا عِنْدَ مَنْ يُوجِبُهَا فِي الْمُغْتَلِّ فَيَجْتَمِعُ هَهُنَا مُوجِبٌ وَمُسْقِطٌ فَقَدْ يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُرَاعَى الْخِلَافُ .
وَلِرَابِعِهَا بِقَوْلِهِ : وَكَانَ أَصْلُهُ عَيْنًا ، وَإِنْ قَلَّ ، أَوْ كَهُوَ أَيْ كَأَصْلِهِ عَرَضًا مُلِّكَ بِمُعَاوَضَةٍ ، سَوَاءٌ كَانَ عَرَضَ تِجَارَةٍ أَوْ قِنْيَةٍ فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ عَرَضُ تَجْرٍ فَبَاعَهُ بِعَرَضٍ نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ ، ثُمَّ بَاعَهُ فَإِنَّهُ يُزَكِّي ثَمَنَهُ لِحَوْلِ أَصْلِهِ اتِّفَاقًا ، أَوْ كَانَ عِنْدَهُ عَرَضُ قِنْيَةٍ مُلِّكَ بِمُعَاوَضَةٍ فَبَاعَهُ بِعَرَضٍ نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ ثُمَّ بَاعَهُ فَإِنَّهُ يُزَكِّي ثَمَنَهُ لِحَوْلِ أَصْلِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ لِإِعْطَاءِ الثَّمَنَ حُكْمَ أَصْلِهِ الثَّانِي لَا أَصْلِهِ الْأَوَّلِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ عِنْدَهُ عَرَضُ قِنْيَةٍ مُفَادٌ فَبَاعَهُ بِعَرَضٍ نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ ، ثُمَّ بَاعَهُ فَفِي ذَلِكَ طَرِيقَتَانِ الْأُولَى طَرِيقَةُ اللَّخْمِيِّ فِي زَكَاتِهِ وَعَدَمِهَا قَوْلَانِ ، وَالثَّانِيَةُ

طَرِيقَةُ ابْنِ الْحَارِثِ إنْ كَانَ أَصْلُ عَرَضِ الْقِنْيَةِ مِنْ شِرَاءٍ فَالْقَوْلَانِ لِابْنِ الْقَاسِمِ مَعَ أَحَدِ قَوْلَيْ أَشْهَبَ ، وَقَوْلُهُ الْآخَرُ : وَإِنْ كَانَ بِإِرْثٍ فَقِنْيَةٌ اتِّفَاقًا كَمَا فِي الْحَطَّابِ عَنْ ابْنِ عَرَفَةَ .
وَلِخَامِسِهَا بِقَوْلِهِ : وَبِيعَ بِعَيْنٍ لَكِنْ لَا بُدَّ فِي الْمُحْتَكِرِ أَنْ يَكُونَ مَا بَاعَ بِهِ مِنْ الْعَيْنِ نِصَابًا وَلَوْ فِي مَرَّاتٍ وَبَعْدَ كَمَالِ النِّصَابِ يُزَكِّي مَا بِيعَ بِهِ وَلَوْ قَلَّ وَالْمُدِيرُ لَا يُقَوَّمُ إلَّا إنْ نَضَّ لَهُ شَيْءٌ مَا وَلَوْ أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ ، وَيُخْرِجُ عَمَّا قَوَّمَهُ مِنْ الْعَرَضِ ثَمَنًا عَلَى الْمَشْهُورِ لَا عَرَضًا بِقِيمَتِهِ ، سَوَاءٌ نَضَّ لَهُ أَوَّلَ الْحَوْلِ ، أَوْ وَسَطَهُ أَوْ آخِرَهُ بَقِيَ مَا نَضَّ ، أَوْ ذَهَبَ ، وَإِذَا لَمْ يَنِضَّ لَهُ شَيْءٌ آخِرَ الْحَوْلِ لَمْ يُزَكِّ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْمُعَاوَضَةُ اخْتِيَارِيَّةً ، أَوْ جَبْرِيَّةً كَأَنْ يَسْتَهْلِكَ شَخْصٌ لِآخَرَ سِلْعَةً فَيَأْخُذَ فِي قِيمَتِهَا عَرَضًا يَنْوِي بِهِ التِّجَارَةَ وَلَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ اخْتِيَارِيًّا ، أَوْ اضْطِرَارًا كَمَنْ اسْتَهْلَكَ عَرَضَ تِجَارَةٍ وَأَخَذَ مِنْهُ قِيمَتَهُ .
وَلِسَادِسِ الشُّرُوطِ بِقَوْلِهِ : وَإِنْ رَصَدَ بِهِ الْأَسْوَاقَ أَيْ انْتَظَرَ بِهِ رِبْحًا خَاصًّا فَكَالدَّيْنِ أَيْ زَكَاةً وَحَوْلًا وَقَبْضًا وَاقْتِضَاءً وَضَمًّا وَاخْتِلَاطًا وَتَلَفًا وَاتِّفَاقًا وَفِرَارًا وَبَقَاءً اُنْظُرْ الْحَطَّابَ ، وَإِلَّا زَكَّى عَنْهُ وَلَوْ حُلِيًّا وَيُزَكِّي وَزْنَهُ تَحْقِيقًا ، أَوْ تَحَرِّيًا كَمَا إذَا كَانَ عَرَضَ تِجَارَةٍ مُرَصَّعًا بِذَهَبٍ ، أَوْ فِضَّةٍ ، وَدَيْنُهُ أَيْ عَدَدُهُ النَّقْدُ الْحَالُّ الْمَرْجُوُّ الْمُعَدُّ لِلنَّمَاءِ ، وَإِلَّا يَكُنْ كَذَلِكَ بِأَنْ كَانَ عَرَضًا أَوْ مُؤَجَّلًا مَرْجُوَّيْنِ قَوَّمَهُ وَلَوْ طَعَامَ سَلَمٍ كَسِلْعَةٍ - أَيْ الْمُدِيرِ - وَلَوْ بِإِرْثٍ لَا إنْ لَمْ يَرْجُهُ ، أَوْ كَانَ قَرْضًا ا هـ .
الْمُرَادُ بِإِصْلَاحٍ مِنْ بْن وَبِالْجُمْلَةِ فَمَسْأَلَةُ الْعُرُوضِ وَكَذَا مَسْأَلَةُ النَّقْدَيْنِ مِنْ مَسَائِلِ مَا لَهُ ظَاهِرٌ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ

عِنْدَ عَدَمِ قِيَامِ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ لَهُ وَمِنْهَا الْعُقُودُ الْمُطْلَقَةُ تُصْرَفُ إلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ فِيهَا مِنْ الْعُقُودِ الْغَالِبَةِ فِي زَمَانِ ذَلِكَ الْعَقْدِ فَإِذَا وَكَّلَ إنْسَانٌ إنْسَانًا فَتَصَرَّفَ الْوَكِيلُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ فِي تَخْصِيصِ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ مِنْ بَيْعٍ ، أَوْ غَيْرِهِ بِالْوَكِيلِ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ يَنْصَرِفُ لِنَفْسِهِ دُونَ مُوَكِّلِهِ إذْ غَالِبُ تَصَرُّفَاتِهِ أَنْ يَكُونَ لِنَفْسِهِ ، وَإِذَا أُطْلِقَتْ تَصَرُّفَاتُ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ تُقَيَّدْ بِمَا يَقْتَضِي حِلَّهَا وَلَا تَحْرِيمَهَا انْصَرَفَتْ لِلتَّصَرُّفَاتِ الْمُبَاحَةِ دُونَ الْمُحَرَّمَةِ لِأَنَّ الْحِلَّ ظَاهِرُ حَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِذَا أُطْلِقَ الْعَقْدُ عَلَى الْعَيْنِ وَلَمْ يُصَرَّحْ فِيهِ بِمَنْفَعَةٍ خَاصَّةٍ انْصَرَفَ إلَى الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ عُرْفًا مِنْهُ فَمَنْ اسْتَأْجَرَ قَادَ وَمَا انْصَرَفَ إلَى النَّجْرِ دُونَ الْعِزَاقِ وَعَجْنِ الطِّينِ وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عِمَامَةً انْصَرَفَ إلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي الرُّءُوسِ دُونَ الْأَوْسَاطِ ، أَوْ قَمِيصًا انْصَرَفَ إلَى اللُّبْسِ وَكَذَا كُلُّ عَقْدٍ عَلَى أَيِّ آلَةٍ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهَا وَلَا يَحْتَاجُ الْمُتَعَاقِدَانِ إلَى التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ بَلْ يَكْفِي ظَاهِرُ الْحَالِ وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً فَإِنْ كَانَتْ مِنْ دَوَابِّ الْحَمْلِ انْصَرَفَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ فِيهَا لِلْحَمْلِ دُونَ الرُّكُوبِ ، أَوْ مِنْ دَوَابِّ الرُّكُوبِ انْصَرَفَ لِرُكُوبٍ دُونَ الْحَمْلِ فَيُكْتَفَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بِظَاهِرِ حَالِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَمِنْهَا صَرِيحُ بَابِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ وَيَنْصَرِفُ لِذَلِكَ الْبَابِ بِظَاهِرِهِ وَمِنْ مَسَائِلِ مَا لَيْسَ لِمُحْتَمَلَاتِهِ ظَاهِرٌ فَيُحْمَلُ عَلَى أَحَدِهَا بِمُرَجِّحٍ شَرْعِيٍّ الْعِبَادَاتُ احْتَاجَتْ لِلنِّيَّاتِ لِتَرَدُّدِهَا إمَّا بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ ، وَإِمَّا بَيْنَ رُتَبِهَا الْخَاصَّةِ بِهَا كَالْفَرِيضَةِ وَالتَّطَوُّعِ وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ وَغَيْرِ

ذَلِكَ وَمِنْهَا الْكِنَايَاتُ فِي بَابِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ احْتَاجَتْ إلَى النِّيَّاتِ لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ تِلْكَ الْمَقَاصِدِ وَغَيْرِهَا فَالْقَاعِدَةُ الْمَذْكُورَةُ عَامَّةٌ حَسَنَةٌ يَتَخَرَّجُ عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنْ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْعُمَّالِ فِي الْقِرَاضِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ مَتَى سَقَطَتْ عَنْ رَبِّ الْمَالِ سَقَطَتْ عَنْ الْعَامِلِ وَقَاعِدَةِ الشُّرَكَاءِ لَا يَلْزَمُ أَنَّهُ مَتَى سَقَطَتْ عَنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ سَقَطَتْ عَنْ الْآخَرِ ) بَلْ قَدْ تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِاجْتِمَاعِ شَرَائِطِ الزَّكَاةِ فِي حَقِّهِ دُونَ الْآخَرِ لِاخْتِلَالِ بَعْضِ الشُّرُوطِ فِي حَقِّهِ .
وَعُمَّالُ الْقِرَاضِ لَيْسُوا كَذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِمْ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَفِي الْمَذْهَبِ أَيْضًا الْخِلَافُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ يَنْبَنِي عَلَى قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْفَرْعُ مُخْتَصًّا بِأَصْلٍ وَاحِدٍ أُجْرِيَ عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ وَمَتَى دَارَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ ، أَوْ أُصُولٍ يَقَعُ الْخِلَافُ فِيهِ لِتَغْلِيبِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ بَعْضَ تِلْكَ الْأُصُولِ وَتَغْلِيبِ الْبَعْضِ الْآخَرِ أَصْلًا آخَرَ فَيَقَعُ الْخِلَافُ لِذَلِكَ وَلِذَلِكَ اُخْتُلِفَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ إذَا قُتِلَتْ هَلْ تَجِبُ فِيهَا قِيمَةُ أَمْ لَا لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الْأَرِقَّاءِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تُوطَأُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَبَيْنَ الْأَحْرَارِ لِتَحْرِيمِ بَيْعِهَا ، وَإِحْرَازِهَا لِنَفْسِهَا وَمَالِهَا ، وَتَرَدُّدِ إثْبَاتِ هِلَالِ رَمَضَانَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَكَذَلِكَ التَّرْجُمَانُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَالنَّائِبِ وَالْمُقَوِّمِ وَغَيْرِهِمْ جَرَى الْخِلَافُ فِيهِمْ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِمْ الْعَدَدُ تَغْلِيبًا لِلشَّهَادَةِ ، أَوْ لَا يُشْتَرَطُ تَغْلِيبًا لِلرِّوَايَةِ وَكَتَرَدُّدِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ مِنْ الْأَبْوَابِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ كَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ هَلْ تُرَدُّ إلَى أَصْلِهَا فَيَجِبَ قِرَاضُ الْمِثْلِ ، أَوْ إلَى أَصْلِ أَصْلِهَا فَيَجِبَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ، وَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ لِتَرَدُّدِ هَذِهِ الْفَاسِدَةِ بَيْنَ أَصْلِهَا وَأَصْلِ أَصْلِهَا فَإِنَّ أَصْلَ أَصْلِهَا أَصْلُهَا أَيْضًا فَلِذَلِكَ كُلُّ مَا تَوَسَّطَ غَرَرُهُ أَوْ الْجَهَالَةُ فِيهِ مِنْ الْعُقُودِ تَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِيهِ لِتَوَسُّطِهِ بَيْنَ الْغَرَرِ الْأَعْلَى

فَيَبْطُلُ ، أَوْ الْغَرَرِ الْأَدْنَى الْمُجْمَعِ عَلَى جَوَازِهِ وَاغْتِفَارِهِ فِي الْعُقُودِ فَيَجُوزُ وَالْمُتَوَسِّطُ أَخَذَ شَبَهًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَمَنْ قَرَّبَهُ مِنْ هَذَا مَنَعَ .
أَوْ مِنْ الْآخَرِ أَجَازَ وَكَذَلِكَ الْمَشَاقُّ الْمُتَوَسِّطَةُ فِي الْعِبَادَاتِ دَائِرٌ بَيْنَ أَدْنَى الْمَشَاقِّ فَلَا تُوجِبُ تَرَخُّصًا وَبَيْنَ أَعْلَاهَا فَتُوجِبُ التَّرَخُّصَ فَتَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْثِيرِهَا فِي الْإِسْقَاطِ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ التُّهَمُ فِي رَدِّ الشَّهَادَاتِ إذَا تَوَسَّطَتْ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُوجَبُ الرَّدِّ كَشَهَادَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ قَادِحٍ فِي الشَّهَادَةِ كَشَهَادَةِ الرَّجُلِ الْآخَرِ مِنْ قَبِيلَتِهِ فَيَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ ؛ أَيُّ التَّغْلِيبَيْنِ يُعْتَبَرُ وَذَلِكَ كَشَهَادَةِ الْأَخِ لِأَخِيهِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ تُقْبَلُ ، أَوْ تُرَدُّ وَكَذَلِكَ الثُّلُثُ يَتَرَدَّدُ فِي مَسَائِلَ بَيْنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ فَيَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي إلْحَاقِهِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ الْمُتَرَدِّدَاتِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ فَأَكْثَرَ وَالْعُمَّالُ فِي الْقِرَاضِ دَائِرُونَ بَيْنَ أَنْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ بِأَعْمَالِهِمْ ، وَيَكُونَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ شُرَكَاءَ بِأَمْوَالِهِمْ ، وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ تَسَاوِي الْفَرِيقَيْنِ فِي زِيَادَةِ الرِّبْحِ وَنُقْصَانِهِ وَهَذَا هُوَ حَالُ الشُّرَكَاءِ وَيُعَضِّدُهُ أَيْضًا أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْعَامِلُ لَيْسَ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ وَهَذَا هُوَ شَأْنُ الشَّرِيكِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونُوا أُجَرَاءَ ، وَيُعَضِّدُهُ اخْتِصَاصُ رَبِّ الْمَالِ بِضَيَاعِ الْمَالِ وَغَرَامَتِهِ فَلَا يَكُونُ عَلَى الْعَامِلِ مِنْهُ شَيْءٌ وَلِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ مُعَاوَضَةٌ عَلَى عَمَلِهِ وَهَذَا هُوَ شَأْنُ الْأُجَرَاءِ وَمُقْتَضَى الشَّرِكَةِ أَنْ تُمْلَكَ بِالظُّهُورِ وَمُقْتَضَى الْإِجَارَةِ أَنْ لَا تُمْلَكَ إلَّا بِالْقِسْمَةِ وَالْقَبْضِ فَاجْتِمَاعُ هَذِهِ الشَّوَائِبِ سَبَبُ الْخِلَافِ فَمَنْ غَلَّبَ الشَّرِكَةَ كَمَّلَ

الشُّرُوطَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَمَنْ غَلَّبَ الْإِجَارَةَ جَعَلَ الْمَالَ وَرِبْحَهُ لِرَبِّهِ فَلَا يُعْتَبَرُ الْعَامِلُ أَصْلًا وَابْنُ الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ صَعُبَ عَلَيْهِ إطْرَاحُ أَحَدِهِمَا بِالْكُلِّيَّةِ فَرَأَى أَنَّ الْعَمَلَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى .
وَهِيَ الْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَاعْتَبَرَ وَجْهًا مِنْ الْإِجَارَةِ وَوَجْهًا مِنْ الشَّرِكَةِ فَوَقَعَ التَّفْرِيعُ هَكَذَا مَتَى كَانَ الْعَامِلُ وَرَبُّ الْمَالِ كُلُّ وَاحِدٍ فِيهِمَا مُخَاطَبٌ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ مُنْفَرِدًا فِيمَا يَنُوبُهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا مُخَاطَبٌ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ لِكَوْنِهِمَا عَبْدَيْنِ أَوْ ذِمِّيَّيْنِ ، أَوْ لِقُصُورِ الْمَالِ وَرِبْحِهِ عَنْ النِّصَابِ وَلَيْسَ لِرَبِّهِ غَيْرُهُ سَقَطَتْ عَنْهُمَا ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُخَاطَبًا بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَحْدَهُ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : مَتَى سَقَطَتْ عَنْ أَحَدِهِمَا إمَّا الْعَامِلِ ، أَوْ رَبِّ الْمَالِ سَقَطَتْ عَنْ الْعَامِلِ فِي الرِّبْحِ أَمَّا إنْ سَقَطْت عَنْهُ فَتَغْلِيبًا لِحَالِ نَفْسِهِ عَلَيْهِ وَتَغْلِيبًا لِحَالِ الشَّرِكَةِ وَشَائِبَتِهَا .
وَأَمَّا إنْ سَقَطَتْ عَنْ رَبِّ الْمَالِ فَتَسْقُطُ أَيْضًا عَنْ الْعَامِلِ فِي حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ تَغْلِيبًا لِشَائِبَةِ الْإِجَارَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَقَبَضَ أُجْرَتَهُ اسْتَأْنَفَ بِهَا الْحَوْلَ فَكَذَلِكَ هَذَا الْعَامِلُ وَرَأَى أَشْهَبُ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتِبَارَ رَبِّ الْمَالِ فَتَجِبُ فِي حِصَّةِ الرِّبْحِ تَبَعًا لِوُجُوبِهَا فِي الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ يُزَكِّي مِلْكَهُ ، وَأَنَّ رِبْحَ الْمَالِ مَضْمُومٌ إلَى أَصْلِهِ عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ اتَّجَرَ بِدِينَارٍ فَصَارَ فِي آخِرِ الْحَوْلِ نِصَابًا فَإِنَّهُ يُزَكِّي وَيُقَدِّرُ الرِّبْحَ كَامِنًا مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَى آخِرِهِ وَكَذَلِكَ أَوْلَادُ الْمَوَاشِي إذَا كَمُلَ بِهَا نِصَابُهَا فَمَتَى خُوطِبَ رَبُّ الْمَالِ وَجَبَتْ عَلَى الْعَامِلِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا تَغْلِيبًا لِهَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ ضَمُّ الرِّبْحِ إلَى الْأَصْلِ فِي

الزَّكَاةِ وَوَقَعَ فِي الْمَوَّازِيَّةِ : يُعْتَبَرُ حَالُ الْعَامِلِ فِي نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ أَهْلًا بِالنِّصَابِ وَغَيْرِهِ زَكَّى ، وَإِلَّا فَلَا تَغْلِيبًا لِشَائِبَةِ الشَّرِكَةِ فَالْفَرْقُ يَتَخَرَّجُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ .

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْعُمَّالِ فِي الْقِرَاضِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ مَتَى سَقَطَتْ عَنْ رَبِّ الْمَالِ سَقَطَتْ عَنْ الْعَامِلِ وَقَاعِدَةِ الشُّرَكَاءِ لَا يَلْزَمُ أَنَّهُ مَتَى سَقَطَتْ عَنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ سَقَطَتْ عَنْ الْآخَرِ ) يَنْبَنِي الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَاعِدَةِ أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْفَرْعُ مُخْتَصًّا بِأَصْلٍ وَاحِدٍ أُجْرِيَ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ وَمَتَى دَارَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ ، أَوْ أُصُولٍ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَغْلِيبِ أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ ، أَوْ الْأُصُولِ عَلَى الْآخَرِ فَقَاعِدَةُ الْعُمَّالِ فِي الْقِرَاضِ لَمَّا كَانَتْ دَائِرَةً بَيْنَ أَنْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ لِرَبِّ الْمَالِ بِأَعْمَالِهِمْ ، وَأَرْبَابُ الْأَمْوَالِ شُرَكَاءَ بِأَمْوَالِهِمْ وَيُعَضِّدُهُ أُمُورٌ مِنْهَا تَسَاوِي الْفَرِيقَيْنِ فِي زِيَادَةِ الرِّبْحِ وَنُقْصَانِهِ كَمَا هُوَ حَالُ الشُّرَكَاءِ وَمِنْهَا أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْعَامِلُ لَيْسَ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الشَّرِيكِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونُوا أُجَرَاءَ وَيُعَضِّدُهُ أُمُورٌ مِنْهَا اخْتِصَاصُ رَبِّ الْمَالِ بِضَيَاعِ الْمَالِ وَغَرَامَتِهِ فَلَا يَكُونُ عَلَى الْعَامِلِ مِنْهُ شَيْءٌ وَمِنْهَا أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ مُعَاوَضَةٌ عَلَى عَمَلِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْأُجَرَاءِ وَكَانَ مِنْ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ أَنْ تُمْلَكَ بِالظُّهُورِ وَمِنْ مُقْتَضَى الْإِجَارَةِ أَنْ لَا تُمْلَكَ إلَّا بِالْقِسْمَةِ وَالْقَبْضِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَذْهَبِ ، وَخَارِجَهُ فِي تَغْلِيبِ الشَّرِكَةِ فَتَكْمُلُ الشُّرُوطُ لِلزَّكَاةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، أَوْ تَغْلِيبِ الْإِجَارَةِ فَيُجْعَلُ الْمَالُ وَرِبْحُهُ لِرَبِّهِ .
فَلَا يُعْتَبَرُ الْعَامِلُ أَصْلًا وَابْنُ الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى صَعُبَ عَلَيْهِ إطْرَاحُ أَحَدِهِمَا بِالْكُلِّيَّةِ فَرَأَى أَنَّ الْعَمَلَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى وَهِيَ الْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَاعْتُبِرَ وَجْهًا مِنْ الْإِجَارَةِ وَوَجْهًا مِنْ الشَّرِكَةِ فَوَقَعَ التَّفْرِيعُ هَكَذَا مَتَى كَانَ الْعَامِلُ

وَرَبُّ الْمَالِ كُلُّ وَاحِدٍ فِيهِمَا مُخَاطَبٌ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ مُنْفَرِدًا فِيمَا يَنُوبُهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا وَمَتَى لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ فِيهِمَا مُخَاطَبًا بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ لِكَوْنِهِمَا عَبْدَيْنِ ، أَوْ ذِمِّيَّيْنِ أَوْ لِقُصُورِ الْمَالِ وَرِبْحِهِ عَنْ النِّصَابُ وَلَيْسَ لِرَبِّهِ غَيْرُهُ سَقَطَتْ عَنْهُمَا وَمَتَى كَانَ أَحَدُهُمَا مُخَاطَبًا بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَحْدَهُ دُونَ الْآخَرِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مَتَى سَقَطَتْ عَنْ أَحَدِهِمَا إمَّا الْعَامِلِ ، أَوْ رَبِّ الْمَالِ سَقَطَتْ عَنْ الْعَامِلِ فِي الرِّبْحِ أَمَّا إنْ سَقَطَتْ عَنْهُ فَتَغْلِيبًا لِحَالِ نَفْسِهِ وَتَغْلِيبًا لِحَالِ الشَّرِكَةِ وَشَائِبَتِهَا .
وَأَمَّا إنْ سَقَطَتْ عَنْ رَبِّ الْمَالِ فَتَسْقُطُ أَيْضًا عَنْ الْعَامِلِ فِي حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ تَغْلِيبًا لِشَائِبَةِ الْإِجَارَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ إذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَقَبَضَ أُجْرَتَهُ اسْتَأْنَفَ بِهَا الْحَوْلَ فَكَذَلِكَ هَذَا الْعَامِلُ ، وَرَأَى أَشْهَبُ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتِبَارَ رَبِّ الْمَالِ فَتَجِبُ فِي حِصَّةِ الرِّبْحِ تَبَعًا لِوُجُوبِهَا فِي الْأَصْلِ لِأَنَّهُ يُزَكِّي مِلْكَهُ ، وَأَنَّ رِبْحَ الْمَالِ مَضْمُومٌ إلَى أَصْلِهِ عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ اتَّجَرَ بِدِينَارٍ فَصَارَ فِي آخِرِ الْحَوْلِ نِصَابًا فَإِنَّهُ يُزَكِّي ، وَيُقَدِّرُ الرِّبْحَ كَامِنًا مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَى آخِرِهِ وَفِيمَا إذَا كَمَلَ بِأَوْلَادِ الْمَوَاشِي نِصَابُهَا فَمَتَى خُوطِبَ رَبُّ الْمَالِ وَجَبَتْ عَلَى الْعَامِلِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا تَغْلِيبًا لِهَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ ضَمُّ الرِّبْحِ إلَى الْأَصْلِ فِي الزَّكَاةِ وَوَقَعَ فِي الْمَوَّازِيَّةِ يُعْتَبَرُ حَالُ الْعَامِلِ فِي نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ أَهْلًا بِالنِّصَابِ وَغَيْرِهِ زَكَّى ، وَإِلَّا فَلَا تَغْلِيبًا لِشَائِبَةِ الشَّرِكَةِ وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ هُوَ الْمَشْهُورُ وَمَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ وَمُحَصَّلُهُ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْعَامِلَ يُزَكِّي حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ ، وَإِنْ قَصَرَتْ عَنْ النِّصَابِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَجِيرٌ خِلَافًا لِمَا فِي الْمَوَّازِيَّةِ مِنْ

أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيمَا قَلَّ وَقَصُرَ عَنْ النِّصَابِ وَخِلَافًا لِقَوْلِ أَشْهَبَ إنَّ زَكَاتَهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لَا عَلَى الْعَامِلِ قَالَ الْحَطَّابُ : الْعَامِلُ يُزَكِّي رِبْحَهُ وَلَوْ كَانَ دُونَ النِّصَابِ هَذَا مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ زَكَاتَهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ ا هـ .
الْأَمْرُ الثَّانِي : أَنَّ شُرُوطَ زَكَاةِ الْعَامِلِ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ سَنَةً فَفِي الْمَوَّاقِ ابْنِ يُونُسَ : إنَّمَا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الْعَامِلِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ بِاجْتِمَاعِ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ وَهِيَ أَنْ يَكُونَا حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ بِلَا دَيْنٍ عَلَيْهِمَا وَأَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ وَحِصَّةُ رَبِّهِ مِنْ الرِّبْحِ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ وَأَنْ يَعْمَلَ الْعَامِلُ بِالْمَالِ حَوْلًا فَمَتَى سَقَطَ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُزَكِّ الْعَامِلُ ا هـ .
قَالَ عبق : وَبَقِيَ لِزَكَاةِ الْعَامِلِ رِبْحَهُ شَرْطٌ سَادِسٌ وَهُوَ أَنْ يَنِضَّ وَيَقْبِضَهُ قَالَ : وَاشْتِرَاطُ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ فِي رَبِّ الْمَالِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ أَجِيرٌ ، وَفِي الْعَامِلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ شَرِيكٌ كَاشْتِرَاطِ الْخَامِسِ .
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الرَّابِعِ فَبِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَجِيرٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ نَقَصَ مَنَابُ رَبِّ الْمَالِ عَنْ النِّصَابِ لَمْ يُزَكِّ الْعَامِلُ ، وَإِنْ نَابَهُ نِصَابٌ فَأَكْثَرُ بَلْ يَسْتَقْبِلُ حَوْلًا كَالْفَائِدَةِ وَأُجْرَةِ الْأَجِيرِ فَإِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ وَدَفَعَهُ لِلْعَامِلِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِرَبِّهِ جُزْءٌ مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ مِنْ الرِّبْحِ وَرَبِحَ الْمَالُ مِائَةً فَإِنَّ رَبَّهُ لَا يُزَكِّي وَكَذَا الْعَامِلُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَلَا يَضُمُّ الْعَامِلُ مَا رَبِحَ إلَى مَالٍ لَهُ آخَرَ فَيُزَكِّي بِخِلَافِ رَبِّ الْمَالِ ا هـ أَيْ فَيَضُمُّ فَإِذَا كَانَتْ حِصَّةُ رَبِّهِ بِرِبْحِهِ دُونَ نِصَابٍ وَعِنْدَهُ مَا لَوْ ضَمَّهُ لَهُ لَصَارَ نِصَابًا وَقَدْ حَالَ حَوْلُهُ فَإِنَّهُ يُزَكِّي وَيُزَكِّي الْعَامِلُ رِبْحَهُ ، وَإِنْ قَلَّ فِي هَذِهِ أَيْضًا فَفِي مَفْهُومِ الشَّرْطِ الرَّابِعِ تَفْصِيلٌ ا هـ .
الْأَمْرُ الثَّالِثُ قَالَ عبق :

وَمُفَادُ نَصِّ الْمَوَّاقِ أَنَّ الْعَامِلَ يُزَكِّي رِبْحَهُ مُطْلَقًا لِعَامٍ وَاحِدٍ عِنْدَ الْمُفَاصَلَةِ وَلَوْ مُدِيرًا أَقَامَ بِيَدِهِ أَعْوَامًا وَهُوَ مُدِيرٌ ، وَفِي ابْنِ عَرَفَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْعَامِلَ زَكَاةُ حِصَّتِهِ كُلَّ عَامٍ إذَا كَانَ هُوَ وَرَبُّ الْمَالِ مُدِيرَيْنِ لَكِنْ إنَّمَا يُزَكِّيهَا لِكُلِّ عَامٍ عِنْدَ الْمُفَاصَلَةِ ا هـ قَالَ الْبُنَانِيُّ وَمَا لِابْنِ عَرَفَةَ هُوَ الْمُعْتَمَدُ لِأَنَّهُ الَّذِي فِي الْمُدَوَّنَةِ وَابْنِ رُشْدٍ ا هـ وَسَلَّمَهُ الرَّهُونِيُّ وَكَنُونٌ .
الْأَمْرُ الرَّابِعُ : قَالَ الْمَوَّاقُ ابْنُ يُونُسَ : وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ هَذَا اسْتِحْسَانٌ رَآهُ - أَيْ الْعَامِلَ - مَرَّةً أَنَّ لَهُ حُكْمَ الشَّرِيكِ فِي وُجُوهٍ يَضْمَنُ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ ، وَإِنْ اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ عَتَقَ وَرَآهُ مَرَّةً أَنَّهُ لَيْسَ كَالشَّرِيكِ إذْ لَيْسَ فِي أَصْلِ الْمَالِ شِرْكٌ ، وَإِنْ رَبِحَ الْمَالُ مِنْهُ وَحَوْلُهُ حَوْلُ أَصْلِهِ فَلَمَّا تَرَجَّحَ ذَلِكَ عِنْدَهُ تَوَسَّطَ أَمْرُهُ ا هـ .
فَمِنْ هُنَا بَحَثَ النَّاصِرُ فِي قَوْلِهِ فِي التَّوْضِيحِ وَالْمَشْهُورُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ أَجِيرٌ وَمُقَابِلُهُ عَلَى أَنَّهُ شَرِيكٌ ا هـ بِأَنَّ كَوْنَهُ أَجِيرًا يَقْتَضِي اسْتِقْبَالَهُ لَا زَكَاتَهُ ، وَكَوْنَهُ شَرِيكًا يَقْتَضِي سُقُوطَ الزَّكَاةِ أَصْلًا عَنْهُ وَعَنْ رَبِّ الْمَالِ فِي حِصَّةِ الْعَامِلِ إذْ لَا زَكَاةَ عَلَى شَرِيكٍ حَتَّى تَبْلُغَ حِصَّتُهُ نِصَابًا ا هـ .
نَعَمْ قَالَ الْبُنَانِيُّ : الَّذِي عَنَاهُ فِي التَّوْضِيحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ أَصْلَ الزَّكَاةِ فِي رِبْحِ الْعَامِلِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ قِلَّتِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ شَرِيكٌ ، وَوُجُوبَهَا فِي الْقَابِلِ - أَيْ بَعْدَ اسْتِقْبَالِ عَامٍ - مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهَا عَلَى الْعَامِلِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ أَجِيرٌ فَلَا بَحْثَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الزَّكَاةَ كَمَا عُلِمَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّهُ شَرِيكٌ ، وَبَعْضَ شُرُوطِهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ أَجِيرٌ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهَا عَلَى الْعَامِلِ تَأَمَّلْ ا هـ .
وَقَاعِدَةُ الشَّرِيكِ لَمَّا

اُخْتُصَّتْ بِأَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ كَوْنُهُ شَرِيكًا لَيْسَ إلَّا ، اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى إجْرَائِهِ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ وَأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِاجْتِمَاعِ شَرَائِطِ الزَّكَاةِ فِي حَقِّهِ دُونَ الْآخَرِ لِاخْتِلَالِ بَعْضِ الشُّرُوطِ فِي حَقِّهِ ، هَذَا وَلِقَاعِدَةِ الْعَامِلِ فِي التَّرَدُّدِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ ، أَوْ أَكْثَرَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْهَا أُمُّ الْوَلَدِ إذَا قُتِلَتْ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّهَا هَلْ تَجِبُ فِيهَا قِيمَةٌ أَمْ لَا لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الْأَرِقَّاءِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تُوطَأُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَبَيْنَ الْأَحْرَارِ لِتَحْرِيمِ بَيْعِهَا ، وَإِحْرَازِهَا لِنَفْسِهَا وَمَالِهَا ، وَمِنْهَا الْمُخْبِرُ عَنْ رُؤْيَةِ هِلَالِ نَحْوِ رَمَضَانَ ، وَالتَّرْجُمَانُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَالنَّائِبِ وَالْمُقَوِّمِ وَغَيْرِهِمْ لَمَّا تَرَدَّدُوا بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ اُخْتُلِفَ فِيهِمْ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِمْ الْعَدَدُ تَغْلِيبًا لِلشَّهَادَةِ ، أَوْ لَا يُشْتَرَطُ تَغْلِيبًا لِلرِّوَايَةِ وَمِنْهَا الْعُقُودُ الْفَاسِدَةُ مِنْ الْأَبْوَابِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ كَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ لَمَّا تَرَدَّدَتْ بَيْنَ أَصْلِهَا وَأَصْلِ أَصْلِهَا فَإِنَّ أَصْلَ أَصْلِهَا أَصْلُهَا أَيْضًا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّهَا هَلْ تُرَدُّ إلَى أَصْلِهَا فَيَجِبَ قِرَاضُ الْمِثْلِ ، أَوْ إلَى أَصْلِ أَصْلِهَا فَيَجِبَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ؟ وَمِنْهَا كُلُّ مَا تَوَسَّطَ غَرَرُهُ أَوْ الْجَهَالَةُ فِيهِ مِنْ الْعُقُودِ لَمَّا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْغَرَرِ الْأَعْلَى الْمُجْمَعِ عَلَى بُطْلَانِهِ وَالْأَدْنَى الْمُجْمَعِ عَلَى جَوَازِهِ وَاغْتِفَارِهِ فِي الْعُقُودِ لِأَنَّهُ بِتَوَسُّطِهِ أَخَذَ شَبَهًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَمَنْ قَرَّبَهُ مِنْ الْأَعْلَى مَنَعَ وَمِنْ قَرَّبَهُ مِنْ الْأَدْنَى أَجَازَ وَمِنْهَا الْمَشَاقُّ الْمُتَوَسِّطَةُ فِي الْعِبَادَاتِ لَمَّا دَارَتْ بَيْنَ أَدْنَى الْمَشَاقِّ فَلَا تُوجِبُ تَرَخُّصًا وَبَيْنَ أَعْلَاهَا فَتُوجِبُ التَّرَخُّصَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْثِيرِهَا فِي الْإِسْقَاطِ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَمِنْهَا نَحْوُ شَهَادَةِ

الْأَخِ لِأَخِيهِ مِنْ التُّهَمِ الْمُتَوَسِّطَةِ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا أُجْمِعَ عَلَى أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلرَّدِّ كَشَهَادَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا أُجْمِعَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ قَادِحٍ فِي الشَّهَادَةِ كَشَهَادَةِ الرَّجُلِ لِآخَرَ مِنْ قَبِيلَتِهِ لَمَّا أَخَذَ شَبَهًا مِنْهُمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيُّ التَّغْلِيبَيْنِ يُعْتَبَرُ فَتُقْبَلُ أَوْ تُرَدُّ وَمِنْهَا الثُّلُثُ لَمَّا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ فِي مَسَائِلَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إلْحَاقِهِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْفَرْقُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ يَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَرْبَاحِ تُضَمُّ إلَى أُصُولِهَا فِي الزَّكَاةِ فَيَكُونُ حَوْلُ الْأَصْلِ حَوْلَ الرِّبْحِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الرِّبْحِ حَوْلٌ يَخُصُّهُ كَانَ الْأَصْلُ نِصَابًا أَمْ لَا عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَوَافَقَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا كَانَ الْأَصْلُ نِصَابًا وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُطْلَقًا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْفَوَائِدِ الَّتِي لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا أَصْلٌ عِنْدَ الْمُكَلَّفِ كَالْمِيرَاثِ وَالْهِبَةِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَصَدَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ بَعْدَ حَوْزِهِ وَقَبْضِهِ ) وَالْفَرْقُ عِنْدَنَا عَضَّدَهُ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلسَّاعِي عُدَّ عَلَيْهِمْ السَّخْلَةَ يَحْمِلُهَا الرَّاعِي وَلَا تَأْخُذْهَا وَالسَّخْلَةُ عَيْنٌ مُتَمَوَّلَةٌ نَشَأَتْ عَنْ عَيْنٍ مُتَمَوَّلَةٍ زَكَوِيَّةٍ كَمَا نَشَأَ الرِّبْحُ وَهُوَ عَيْنٌ زَكَوِيَّةٌ عَنْ عَيْنٍ زَكَوِيَّةٍ وَهُوَ أَصْلُهُ فَكَمَا ضُمَّ أَحَدُهُمَا إلَى أَصْلِهِ وَجُعِلَ حَوْلُهُ حَوْلًا لَهُ كَذَلِكَ الْآخَرُ الَّذِي هُوَ الرِّبْحُ ، وَقَوْلُنَا زَكَوِيَّةٌ احْتِرَازًا مِنْ أَجْرِ الْعَقَارِ فَإِنَّهُ لَا يُزَكَّى ، وَإِنْ كَانَ مُتَمَوَّلًا نَشَأَ عَنْ مُتَمَوَّلٍ ، غَيْرَ أَنَّهُ غَيْرُ زَكَوِيٍّ - أَعْنِي الْأَصْلَ - وَهَهُنَا قَاعِدَةٌ وَهِيَ سِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَرْبَاحِ وَالْفَوَائِدِ يُحْتَاجُ إلَيْهَا بَعْدَ تَقَرُّرِ الْأَحْكَامِ فِيهَا وَهِيَ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ مَتَى أَثْبَتَ حُكْمًا حَالَةَ عَدَمِ سَبَبِهِ ، أَوْ شَرْطِهِ فَإِنْ أَمْكَنَ تَقْدِيرُهُمَا مَعَهُ فَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ إثْبَاتِهِ دُونَهُمَا فَإِنَّ إثْبَاتَ الْمُسَبَّبِ دُونَ سَبَبِهِ وَالْمَشْرُوطِ بِدُونِ شَرْطِهِ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ فَإِنْ أَلْجَأَتْ الضَّرُورَةُ إلَى ذَلِكَ وَامْتَنَعَ التَّقْدِيرُ عُدَّ ذَلِكَ الْحُكْمُ مُسْتَثْنًى مِنْ تِلْكَ الْقَوَاعِدِ كَمَا أَثْبَتَ الشَّارِعُ الْمِيرَاثَ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ .
وَالْمِيرَاثُ فِي الشَّرِيعَةِ مَشْرُوطٌ بِتَقَدُّمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ عَلَى الْمَالِ الْمَوْرُوثِ ، قَدَّرَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ

اللَّهُ الْمِلْكَ فِي الدِّيَةِ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَوْتِ بِالزَّمَنِ الْفَرْدِ حَتَّى يَصِحَّ حُكْمُ التَّوْرِيثِ فِيهَا وَكَذَلِكَ إذَا صَحَّحْنَا عِتْقَ الْإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ فِي كَفَّارَةٍ أَوْ تَطَوُّعٍ بِإِذْنِهِ ، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي اشْتِرَاطِ الْإِذْنِ قَدَّرْنَا ثُبُوتَ الْمِلْكِ قَبْلَ صُدُورِ صِيغَةِ الْعِتْقِ بِالزَّمَنِ الْفَرْدِ حَتَّى تَبْرَأَ ذِمَّةُ الْمُعْتَقِ عَنْهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الْكَفَّارَاتِ لَا يَبْرَأُ مِنْهُ بِعِتْقِ غَيْرِ مَمْلُوكِهِ حَتَّى يَثْبُتَ لَهُ الْوَلَاءُ أَيْضًا فَإِنَّ الْوَلَاءَ لَا يَثْبُتُ أَصْلُهُ عَنْ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ ، أَمَّا غَيْرُ أَصَالَةٍ بِطَرِيقِ الْإِذْنِ فَيَحْصُلُ بِغَيْرِ تَمَلُّكٍ ، هَهُنَا هُوَ أَصَالَةٌ فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ الْمَالِكِ لِلْعِتْقِ عَنْهُ قُبَيْلَ صُدُورِ صِيغَةِ الْعِتْقِ بِالزَّمَنِ الْفَرْدِ لِضَرُورَةِ ثُبُوتِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ ، فَإِذَا قَالَ لَهُ : أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي ، نُقَدِّرُ هَذِهِ الصِّيغَةَ مُشْتَمِلَةً عَلَى التَّوْكِيلِ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَأَنَّهُ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ ، وَمُشْتَمِلَةً أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ وَكَّلَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ عَنْهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ لَهُ فَهِيَ صِيغَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى وَكَالَتَيْنِ وَكَالَةِ الْمُعَاوَضَةِ وَوَكَالَةِ الْعِتْقِ ، فَضَرُورَةُ ثُبُوتِ حُكْمِ الْعِتْقِ عَنْ الْغَيْرِ يُحْوِجُ إلَى هَذِهِ التَّقَادِيرِ ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تُعْرَفُ بِقَاعِدَةِ التَّقْدِيرَاتِ وَهُوَ إعْطَاءُ الْمَوْجُودِ حُكْمَ الْمَعْدُومِ ، وَإِعْطَاءُ الْمَعْدُومِ حُكْمَ الْمَوْجُودِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُهَا فِي قَاعِدَةِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَهِيَ يُحْتَاجُ إلَيْهَا إذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ مَعَ عَدَمِ سَبَبِهِ ، أَوْ شَرْطِهِ ، أَوْ قِيَامِ مَانِعِهِ .
وَإِذَا لَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ إلَيْهَا لَا يَجُوزُ التَّقْدِيرُ حِينَئِذٍ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَهَهُنَا لَمَّا دَلَّ الْأَثَرُ عَلَى وُجُوبِ

الزَّكَاةِ فِي الْأَرْبَاحِ تَعَيَّنَ تَقْدِيرُ الرِّبْحِ وَالسِّخَالِ فِي الْمَاشِيَةِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ تَحْقِيقًا لِلشَّرْطِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَهُوَ دَوَرَانُ الْحَوْلِ فَإِنَّ الْحَوْلَ لَمْ يَدُرْ عَلَيْهِمَا فَيُفْعَلُ ذَلِكَ مُحَافَظَةً عَلَى الشَّرْطِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ، وَاخْتَلَفَ فِي هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَابْنُ الْقَاسِمِ يُقَدِّرُ حَالَةَ الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الرِّبْحِ فَقَدَّرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عِنْدَهُ لِمُلَازَمَةِ السَّبَبِ لِمُسَبَّبِهِ وَعِنْدَ أَشْهَبَ يُقَدِّرُ يَوْمَ الْحُصُولِ لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ تَقْدِيرَيْنِ تَقْدِيرِ الشِّرَاءِ وَالْأَعْيَانِ الَّتِي حَصَلَتْ فِي الرِّبْحِ ، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فَيُقْتَصَرُ مِنْهُ عَلَى مَا تَدْعُو الضَّرُورَةُ إلَيْهِ ، وَعِنْدَ الْمُغِيرَةِ التَّقْدِيرُ يَوْمَ مِلْكِ أَصْلِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ .
وَعَلَى هَذِهِ التَّقَادِيرِ تَتَخَرَّجُ مَسْأَلَةُ الْمُدَوَّنَةِ إذَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى عَشَرَةٍ فَأَنْفَقَ مِنْهَا خَمْسَةً وَاشْتَرَى سِلْعَةً بِخَمْسَةٍ فَبَاعَهَا بِخَمْسَةَ عَشَرَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : تَجِبُ الزَّكَاةُ إنْ تَقَدَّمَ الشِّرَاءُ عَلَى الْإِنْفَاقِ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ حِينَئِذٍ كَانَ الْمَالُ عَشَرَةً وَهَذِهِ عَشَرَةٌ رِبْحٌ فَكَمَلَ النِّصَابُ حِينَئِذٍ ، وَإِلَّا فَلَا تَجِبُ وَأَسْقَطَهَا أَشْهَبُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ عِنْدَهُ يَوْمَ الْحُصُولِ وَيَوْمَ الْحُصُولِ لَمْ تَكُنْ إلَّا خَمْسَةَ عَشَرَ وَأَوْجَبَهَا الْمُغِيرَةُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ يُقَدِّرُ يَوْمَ مِلْكِهِ الْعَشَرَةَ وَلَا عِبْرَةَ بِتَقْدِيمِ الْإِنْفَاقِ وَعَدَمِهِ وَعَنْ مَالِكٍ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَلَا يُحْتَاجُ إلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مُطْلَقًا فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ - وَهِيَ قَاعِدَةُ التَّقَادِيرِ - يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَرْبَاحِ وَقَاعِدَةِ الْفَوَائِدِ إنْ قُلْنَا بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، وَإِلَّا فَلَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ : ( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ " الْأَرْبَاحُ تُضَمُّ إلَى أُصُولِهَا فِي الزَّكَاةِ فَيَكُونُ حَوْلُ الْأَصْلِ حَوْلَ الرِّبْحِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الرِّبْحِ حَوْلٌ يَخُصُّهُ كَانَ الْأَصْلُ نِصَابًا أَمْ لَا عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَوَافَقَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إذَا كَانَ الْأَصْلُ نِصَابًا وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مُطْلَقًا " وَبَيْنَ قَاعِدَةِ " الْفَوَائِدِ الَّتِي لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا أَصْلٌ عِنْدَ الْمُكَلَّفِ كَالْمِيرَاثِ وَالْهِبَةِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَصَدَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ بَعْدَ حَوْزِهِ وَقَبْضِهِ إلَى قَوْلِهِ غَيْرَ أَنَّهُ غَيْرُ ذَكَوِيٍّ أَعْنِي الْأَصْلَ " ) قُلْت : مَسْأَلَةُ الْمَالِكِيَّةِ الْقِيَاسُ عَلَى السِّخَالِ كَمَا ذُكِرَ وَلِلشَّافِعِيَّةِ فُرُوقٌ فِيهَا نَظَرٌ قَالَ ( وَهَهُنَا قَاعِدَةٌ وَهِيَ سِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَرْبَاحِ وَالْفَوَائِدِ يُحْتَاجُ إلَيْهَا بَعْدَ تَقَرُّرِ الْأَحْكَامِ فِيهَا إلَى قَوْلِهِ عُدَّ مُسْتَثْنًى مِنْ تِلْكَ الْقَوَاعِدِ ) .
قُلْت : فِيمَا قَالَهُ مِنْ ذَلِكَ نَظَرٌ قَالَ ( كَمَا أَثْبَتَ الشَّارِعُ الْمِيرَاثَ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ ، وَالْمِيرَاثُ فِي الشَّرِيعَةِ مَشْرُوطٌ بِتَقَدُّمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ عَلَى الْمَالِ الْمَوْرُوثِ قَدَّرَ الْعُلَمَاءُ الْمِلْكَ فِي الدِّيَةِ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَوْتِ بِالزَّمَنِ الْفَرْدِ حَتَّى يَصِحَّ حُكْمُ التَّوْرِيثِ فِيهَا ) قُلْت لَيْسَ مِلْكُ الْمَقْتُولِ خَطَأً لِلدِّيَةِ مُقَدَّرًا عِنْدِي بَلْ هُوَ مُحَقَّقٌ ، وَإِنَّمَا الْمُقَدَّرُ مِلْكُ الْمَقْتُولِ عَمْدًا لِلدِّيَةِ وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ .
قَالَ : ( وَكَذَلِكَ إذَا صَحَّحْنَا عِتْقَ الْإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ فِي كَفَّارَةٍ أَوْ تَطَوُّعٍ بِإِذْنِهِ ، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي اشْتِرَاطِ الْإِذْنِ قَدَّرْنَا ثُبُوتَ الْمِلْكِ قَبْلَ صُدُورِ صِيغَةِ الْعِتْقِ بِالزَّمَنِ الْفَرْدِ حَتَّى تَبْرَأَ ذِمَّةُ الْمُعْتَقِ عَنْهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ إلَى

قَوْلِهِ لِضَرُورَةِ ثُبُوتِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ ) قُلْت : لَا حَاجَةَ إلَى تَقْدِيرِ الْمِلْكِ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ تَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ اتِّفَاقًا وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا .
قَالَ : ( فَإِذَا قَالَ لَهُ : أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي نُقَدِّرُ هَذِهِ الصِّيغَةَ مُشْتَمِلَةً عَلَى التَّوْكِيلِ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ ، وَأَنَّهُ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ ) .
قُلْت : لَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ هُنَا بِوَجْهٍ فَإِنَّهُ لَا عِوَضَ فَلَا وَجْهَ لِتَوْكِيلِهِ عَلَى الشِّرَاءِ قَالَ ( وَمُشْتَمِلَةً أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ وَكَّلَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ عَنْهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ لَهُ فَهِيَ صِيغَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى وَكَالَتَيْنِ وَكَالَةِ الْمُعَاوَضَةِ وَوَكَالَةِ الْعِتْقِ ) .
قُلْت : وَلَا تَصِحُّ أَيْضًا وَكَالَتُهُ عَلَى الْعِتْقِ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهُ مِلْكٌ قَالَ ( فَضَرُورَةُ ثُبُوتِ حُكْمِ الْعِتْقِ عَنْ الْغَيْرِ يُحْوِجُ إلَى هَذِهِ التَّقَادِيرِ ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ ) .
قُلْت : لَا حَاجَةَ إلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَهُ مِنْ التَّقَادِيرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَمَّا فِي غَيْرِهَا فَرُبَّمَا اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ ، وَكَيْفَ يَقُولُ : إنَّ الصِّيغَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى التَّوْكِيلِ ، وَأَيُّ صِيغَةٍ فِيمَا إذَا أَعْتَقَ عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؟ هَذَا كُلُّهُ لَا يَصِحُّ .
قَالَ ( وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تُعْرَفُ بِقَاعِدَةِ التَّقْدِيرَاتِ وَهُوَ إعْطَاءُ الْمَوْجُودِ حُكْمَ الْمَعْدُومِ ، وَإِعْطَاءُ الْمَعْدُومِ حُكْمَ الْمَوْجُودِ إلَى قَوْلِهِ مُحَافَظَةً عَلَى الشَّرْطِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ) .
قُلْت : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ وَلَيْسَتْ مَسْأَلَةُ عِتْقِ الْإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهَا لَمْ تَدْعُ فِيهَا إلَى ذَلِكَ ضَرُورَةٌ وَمَا قَالَهُ بَعْدَ حِكَايَةِ أَقْوَالٍ وَتَوْجِيهِهَا ، وَلَا كَلَامَ فِي ذَلِكَ وَمَا قَالَهُ فِي الْفَرْقِ بَعْدَهُ صَحِيحٌ .

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَرْبَاحِ تُضَمُّ إلَى أُصُولِهَا فِي الزَّكَاةِ فَيَكُونُ حَوْلُ الْأَصْلِ حَوْلَ الرِّبْحِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الرِّبْحِ حَوْلٌ يَخُصُّهُ كَانَ الْأَصْلُ نِصَابًا أَمْ لَا عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَوَافَقَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إذَا كَانَ الْأَصْلُ نِصَابًا ، وَإِلَّا فَحَوْلُهُ مِنْ حِينِ كَمُلَ النِّصَابُ وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُطْلَقًا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْفَوَائِدِ الَّتِي لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا أَصْلٌ عِنْدَ الْمُكَلَّفِ كَالْمِيرَاثِ وَالْهِبَةِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَصَدَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ بَعْدَ حَوْزِهِ وَقَبْضِهِ ) .
لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّبْحِ وَالْفَائِدَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَلَا عَلَى مُقَابِلِ مَشْهُورِ مَالِكٍ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَشْهُورِ مَالِكٍ وَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ التَّقَادِيرِ وَهِيَ إعْطَاءُ الْمَوْجُودِ حُكْمَ الْمَعْدُومِ ، وَإِعْطَاءُ الْمَعْدُومِ حُكْمَ الْمَوْجُودِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُهَا فِي قَاعِدَةِ خِطَابِ الْوَضْعِ نَعَمْ التَّقْدِيرُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ بِأَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ مَعَ عَدَمِ سَبَبِهِ أَوْ شَرْطِهِ ، أَوْ قِيَامِ مَانِعِهِ وَهَهُنَا قَدْ دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ فَإِنَّ قَوْلَ عُمَرَ اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ وَلَا تَأْخُذْهَا مِنْهُمْ كَمَا فِي الْمُوَطَّإِ وَقَوْلَ عَلِيٍّ عُدَّ عَلَيْهِمْ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ كَمَا فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ وَالْمُنْتَقَى لِلْبَاجِيِّ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْأَرْبَاحِ ضَرُورَةَ أَنَّ رِبْحَ التِّجَارَةِ كَذَلِكَ مَعْنًى إذْ السَّخْلَةُ كَمَا أَنَّهَا عَيْنٌ مُتَمَوَّلَةٌ نَشَأَتْ عَنْ عَيْنٍ مُتَمَوَّلَةٍ زَكَوِيَّةٍ كَذَلِكَ الرِّبْحُ عَيْنٌ زَكَوِيَّةٌ نَشَأَتْ عَنْ

عَيْنٍ زَكَوِيَّةٍ وَهُوَ أَصْلُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ حُكْمًا فَكَمَا تُضَمُّ السِّخَالُ إلَى أَصْلِهَا وَيُجْعَلُ حَوْلُهُ حَوْلًا لَهَا كَذَلِكَ يُضَمُّ الرِّبْحُ إلَى أَصْلِهِ وَيُجْعَلُ حَوْلُهُ حَوْلًا لَهُ وَشَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ دَوَرَانُ الْحَوْلِ وَهُوَ لَمْ يَدُرْ عَلَى الرِّبْحِ وَالسِّخَالِ فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ الرِّبْحِ فِي التِّجَارَةِ وَالسِّخَالِ فِي الْمَاشِيَةِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ تَحْقِيقًا لِلشَّرْطِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَمُحَافَظَةً عَلَى الشَّرْطِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَيْسَتْ الْفَائِدَةُ كَذَلِكَ إذْ لَا أَصْلَ لَهَا يُقَدَّرُ حَوْلُهُ حَوْلًا لَهَا .
نَعَمْ فِي كَوْنِ هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ فِي يَوْمِ الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الرِّبْحِ .
وَالسَّبَبُ يُلَازِمُ مُسَبَّبَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ ، أَوْ فِي يَوْمِ الْحُصُولِ لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ تَقْدِيرَيْنِ : تَقْدِيرِ الشِّرَاءِ وَالْأَعْيَانِ الَّتِي حَصَلَتْ فِي الرِّبْحِ .
وَالتَّقْدِيرُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فَيُقْتَصَرُ مِنْهُ عَلَى مَا تَدْعُو الضَّرُورَةُ إلَيْهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَشْهَبَ ، أَوْ فِي يَوْمِ مِلْكِ أَصْلِ الْمَالِ لِأَنَّهُ السَّبَبُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُغِيرَةِ خِلَافٌ تَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ مَسْأَلَةُ الْمُدَوَّنَةِ إذَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى عَشَرَةٍ فَأَنْفَقَ مِنْهَا خَمْسَةً وَاشْتَرَى سِلْعَةً بِخَمْسَةٍ فَبَاعَهَا بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إنْ تَقَدَّمَ الشِّرَاءُ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ حِينَئِذٍ وَالْمَالُ عَشَرَةٌ وَهَذِهِ عَشَرَةٌ رِبْحٌ فَيَكْمُلُ النِّصَابُ حِينَئِذٍ ، وَإِلَّا فَلَا تَجِبُ وَأَسْقَطَهَا أَشْهَبُ مُطْلَقًا لِأَنَّ التَّقْدِيرَ عِنْدَهُ يَوْمَ الْحُصُولِ وَيَوْمَ الْحُصُولِ لَمْ تَكُنْ إلَّا خَمْسَةَ عَشَرَ وَأَوْجَبَهَا الْمُغِيرَةُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ يَقْدِرُ يَوْمَ مِلْكِهِ الْعَشَرَةَ وَلَا عِبْرَةَ بِتَقْدِيمِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الشِّرَاءِ وَعَدَمِهِ ، وَفِي الْمُوَطَّإِ قَالَ مَالِكٌ إذَا بَلَغَتْ الْغَنَمُ بِأَوْلَادِهَا مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ فَعَلَيْهِ فِيهَا الصَّدَقَةُ وَذَلِكَ أَنَّ أَوْلَادَ الْغَنَمِ مِنْهَا وَذَلِكَ

مُخَالِفٌ لِمَا أُفِيدَ مِنْهَا بِاشْتِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ .
وَمِثْلُ ذَلِكَ الْعَرْضِ لَا يَبْلُغُ ثَمَنُهُ مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ فَيَصْدُقُ رِبْحُهُ مَعَ رَأْسِ الْمَالِ وَلَوْ كَانَ رِبْحُهُ فَائِدَةً ، أَوْ مِيرَاثًا لَمْ تَجِبْ فِيهِ الصَّدَقَةُ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ أَفَادَهُ أَوْ وَرِثَهُ قَالَ مَالِكٌ فَغِذَاءُ الْغَنَمِ أَيْ سِخَالِهَا مِنْهَا كَمَا أَنَّ رِبْحَ الْمَالِ مِنْهُ قَالَ مَالِكٌ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ فِي وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ مِنْ الذَّهَبِ ، أَوْ الْوَرِقِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ثُمَّ أَفَادَ إلَيْهِ مَالًا ، تَرَكَ مَالَهُ الَّذِي أَفَادَ فَلَمْ يُزَكِّهِ مَعَ مَالِهِ الْأَوَّلِ حِينَ يُزَكِّيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَى الْفَائِدَةِ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ أَفَادَهَا ، وَلَوْ كَانَتْ لِرَجُلٍ غَنَمٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ إبِلٌ تَجِبُ فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا الصَّدَقَةُ ، ثُمَّ أَفَادَ إلَيْهَا بَعِيرًا أَوْ بَقَرَةً أَوْ شَاةً صَدَّقَهَا مَعَ صِنْفِ مَا أَفَادَ مِنْ ذَلِكَ حِينَ يُصَدِّقُهُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ الصِّنْفِ الَّذِي أَفَادَ نِصَابَ مَاشِيَةٍ قَالَ مَالِكٌ : وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي هَذَا كُلِّهِ ا هـ .
قَالَ الْبَاجِيَّ : يُرِيدُ أَنَّ الْفَائِدَةَ لَا يَكْمُلُ بِهَا النِّصَابُ وَيَكْمُلُ بِالنَّسْلِ ، وَقَاسَهُ مَالِكٌ عَلَى نَمَاءِ الْعَيْنِ مِنْهُ فَإِذَا بَلَغَ الرِّبْحُ مَعَ الْأَصْلِ النِّصَابَ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ إلَّا بِفَائِدَةٍ لَمْ يَزْكُ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ عَلَى الْفَائِدَةِ وَهَذَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ أَنَّ نِصَابَ الْحَوْلَيْنِ يَتِمُّ بِرِبْحِهِ ، وَإِنَّمَا سَلَّمَهُ الشَّافِعِيُّ فِيمَنْ اشْتَرَى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ سِلْعَةً قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ ، ثُمَّ بَاعَهَا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ بَعْدَ أَنْ حَالَ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ اشْتَرَاهَا فَإِنَّ الزَّكَاةَ فِيهَا وَهَذَا أَصْلٌ يَصِحُّ قِيَاسُنَا عَلَيْهِ وَلَا يُخِلُّ بِالْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ اخْتِلَافُ حُكْمِ الْعَيْنِ وَالْمَاشِيَةِ فِي الْفَوَائِدِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَاشِيَةَ إذَا أَفَادَ مِنْهَا شَيْئًا

وَعِنْدَهُ نِصَابٌ مِنْ جِنْسِهَا كَانَ حُكْمُ الْفَائِدَةِ فِي الْحَوْلِ حُكْمَ أَصْلِ النِّصَابِ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ بِخِلَافِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ يُزَكِّي الْفَائِدَةَ لِحَوْلِهَا وَالنِّصَابَ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ لِحَوْلِهِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْفَرْعِ إذَا قِيسَ عَلَى الْأَصْلِ لِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ أَحْكَامِهِ .
وَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي جَمَعَتْ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ لَهَا اخْتِصَاصٌ بِذَلِكَ الْحُكْمِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَإِنْ فَارَقَ الْأَصْلُ الْفَرْعَ فِي أَحْكَامٍ غَيْرِهَا لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِتِلْكَ الْعِلَّةِ لِأَنَّ مَا مِنْ فَرْعٍ إلَّا وَهُوَ يُخَالِفُ الْأَصْلَ الَّذِي قِيسَ عَلَيْهِ فِي عِدَّةِ أَحْكَامٍ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا قَاسَ إتْمَامَ نِصَابِ الْمَاشِيَةِ بِنَمَائِهَا الَّذِي هُوَ أَوْلَادُهَا عَلَى إتْمَامِ نِصَابِ الْعَيْنِ بِنَمَائِهِ لِعِلَّةٍ صَحِيحَةٍ وَهِيَ أَنَّ هَذَا أَيْ الْأَوْلَادُ نَمَاءٌ حَادِثٌ مِنْ الْعَيْنِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَهِيَ الْمَاشِيَةُ وَهُوَ مِنْ جِنْسِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكْمُلَ بِهَا نِصَابُهَا كَالْعَيْنِ وَهَذِهِ عِلَّةٌ تَخْتَصُّ بِالنَّمَاءِ دُونَ الْفَوَائِدِ فَاخْتِلَافُ الْعَيْنِ وَالْمَاشِيَةِ فِي الْفَوَائِدِ لَا فِي النَّمَاءِ لَا يَمْنَعُ اجْتِمَاعَهُمَا فِي النَّمَاءِ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِي الْفَوَائِدِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْأَصْلِ وَزَكَاةُ الْمَاشِيَةِ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالسَّاعِي فَإِذَا لَمْ تَجِبْ زَكَاتُهَا لِزَكَاةِ الْأَصْلِ لَمْ يُمْكِنْ تَكَرُّرُ السَّاعِي وَنِعْمَتْ الْمَعْدِلَةُ بَيْنَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَالْمَسَاكِينِ فَإِنَّ الْفَائِدَةَ إذَا أُضِيفَتْ إلَى أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ زُكِّيَتْ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ حَوْلِ الْفَائِدَةِ ، وَإِذَا أُضِيفَتْ إلَى النِّصَابِ زُكِّيَتْ لِحَوْلِ النِّصَابِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَيْنُ فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يُخْرِجُ زَكَاتَهُ فَيُمْكِنُ إخْرَاجُهُ عِنْدَ حُلُولِ حَوْلِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ فَلَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إلَى اعْتِبَارِهِ

لِحَوْلِ النِّصَابِ فَتُعَجَّلُ قَبْلَ حُلُولِهِ ، وَلَا أَنْ يُضَافَ إلَى أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ فَيُزَكَّى إلَى أَكْثَرَ مِنْ حَوْلِهِ فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ ا هـ بِتَصَرُّفٍ مَا .

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْوَاجِبَاتِ وَالْحُقُوقِ الَّتِي تُقَدَّمُ عَلَى الْحَجِّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ ) وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَعْرِفَةِ قَاعِدَةٍ فِي التَّرْجِيحَاتِ - وَضَابِطُ مَا قَدَّمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَطْلُوبَاتِ وَهِيَ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَتْ الْحُقُوقُ قُدِّمَ مِنْهَا الْمُضَيَّقُ عَلَى الْمُوَسَّعِ ؛ لِأَنَّ التَّضْيِيقَ يُشْعِرُ بِكَثْرَةِ اهْتِمَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِمَا جَعَلَهُ مُضَيَّقًا ، وَأَنَّ مَا جَوَّزَ لَهُ تَأْخِيرَهُ وَجَعَلَهُ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ دُونَ ذَلِكَ .
وَيُقَدَّمُ الْفَوْرِيُّ عَلَى الْمُتَرَاخِي ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّعْجِيلِ يَقْتَضِي الْأَرْجَحِيَّةَ عَلَى مَا جُعِلَ لَهُ تَأْخِيرُهُ ، وَيُقَدَّمُ فَرْضُ الْأَعْيَانِ عَلَى الْكِفَايَةِ ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ مِنْ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ يَقْتَضِي أَرْجَحِيَّةَ مَا طُلِبَ مِنْ الْبَعْضِ فَقَطْ وَلِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَعْتَمِدُ عَدَمَ تَكَرُّرِ الْمَصْلَحَةِ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ ، وَالْأَعْيَانِ يَعْتَمِدُ تَكَرُّرَ الْمَصْلَحَةِ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ ، وَالْفِعْلُ الَّذِي تَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ أَقْوَى فِي اسْتِلْزَامِ الْمَصْلَحَةِ مِنْ الَّذِي لَا تُوجَدُ الْمَصْلَحَةُ مَعَهُ إلَّا فِي بَعْضِ صُوَرِهِ وَلِذَلِكَ يُقَدَّمُ مَا يُخْشَى فَوَاتُهُ عَلَى مَا لَا يُخْشَى فَوَاتُهُ ، وَإِنْ كَانَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ حِكَايَةُ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ لَا تَفُوتُ .
وَحِكَايَةُ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ تَفُوتُ بِالْفَرَاغِ مِنْ الْأَذَانِ وَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ صَوْنُ الْأَمْوَالِ عَلَى الْعِبَادَاتِ إذَا خَرَجَتْ عَنْ الْعَادَةِ كَتَقْدِيمِ صَوْنِ الْمَالِ فِي شِرَاءِ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ عَلَى الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَيُنْتَقَلُ لِلتَّيَمُّمِ ، وَكَتَقْدِيمِهِ عَلَى الْحَجِّ إذَا أَفْرَطَتْ الْغَرَامَاتُ فِي الطُّرُقَاتِ وَيُقَدَّمُ صَوْنُ النُّفُوسِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْمَنَافِعِ عَلَى الْعِبَادَاتِ فَيُقَدَّمُ إنْقَاذُ الْغَرِيقِ وَالْحَرِيقِ وَنَحْوِهِمَا

عَلَى الصَّلَاةِ إذَا كَانَ فِيهَا ، أَوْ خَارِجًا عَنْهَا وَخَشِيَ فَوَاتَ وَقْتِهَا فَيُفَوِّتُهَا وَيَصُونُ مَا تَعَيَّنَ صَوْنُهُ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ صَوْنُ مَالِ الْغَيْرِ عَلَى الصَّلَاةِ إذَا خُشِيَ فَوَاتُهُ وَهُوَ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ حَقِّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ حَقُّ اللَّهِ يُقَدَّمُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ بِالْمُحَالَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ دُونَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ حَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ بِدَلِيلِ تَرْكِ الطَّهَارَاتِ وَالْعِبَادَاتِ إذَا عَارَضَهَا ضَرَرُ الْعَبْدِ ، وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَتَّضِحُ لَك مَا يُقَدَّمُ عَلَى الْحَجِّ مِمَّا لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ فَيُقَدَّمُ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْحَجِّ ، إذَا قُلْنَا : إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْفَوْرِ إجْمَاعًا وَالْفَوْرِيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُتَرَاخِي وَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ حَقُّ السَّيِّدِ عَلَى الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ وَحَقُّ السَّيِّدِ وَاجِبٌ فَوْرِيٌّ وَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى الْحَجِّ الْفَرْضِ إنْ قُلْنَا إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي ؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فَوْرِيٌّ وَكَذَلِكَ يَمْنَعُ الدَّيْنُ الْحَالُّ الْخُرُوجَ إلَى الْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ فَوْرِيٌّ وَلَا يَمْنَعُ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ .
قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْحَجُّ أَفْضَلُ مِنْ الْغَزْوِ ؛ لِأَنَّ الْغَزْوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَالْحَجَّ فَرْضُ عَيْنٍ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُكْثِرُ الْحَجَّ وَلَا يَحْضُرُ الْغَزْوَ وَكَذَلِكَ تُقَدَّمُ رَكْعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ عَلَى الْحَجِّ إذَا لَمْ يَبْقَ قَبْلَ الْفَجْرِ إلَّا مِقْدَارُ رَكْعَةٍ لِلْعِشَاءِ وَالْوُقُوفِ قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يُفَوِّتُ الْحَجَّ وَيُصَلِّي وَلِلشَّافِعِيَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَقْوَالٌ : يُفَوِّتُهَا ، وَيُقَدِّمُ الْحَجَّ لِعِظَمِ مَشَقَّتِهِ يُصَلِّي وَهُوَ يَمْشِي كَصَلَاةِ الْمُسَايَفَةِ ، وَالْحَقُّ مَذْهَبُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ

الصَّلَاةَ أَفْضَلُ وَهِيَ فَوْرِيَّةٌ إجْمَاعًا وَبِاَللَّهِ الْإِعَانَةُ .

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْوَاجِبَاتِ وَالْحُقُوقِ الَّتِي تُقَدَّمُ عَلَى الْحَجِّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ ) .
الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُقَدَّمُ وَمَا لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْحَجِّ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالْحُقُوقِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَتْ الْحُقُوقُ قُدِّمَ مِنْهَا أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ : النَّوْعُ الْأَوَّلُ : مَا جَعَلَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ مُضَيَّقًا مِنْ حَيْثُ إنَّ التَّضْيِيقَ يُشْعِرُ بِكَثْرَةِ اهْتِمَامِهِ بِهِ يُقَدَّمُ عَلَى مَا جُوِّزَ لِلْمُكَلَّفِ تَأْخِيرُهُ ، وَجَعْلُهُ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ وَمِنْ ذَلِكَ تَقْدِيمُ مَا يُخْشَى فَوَاتُهُ عَلَى مَا لَا يُخْشَى فَوَاتُهُ ، وَإِنْ كَانَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْهُ وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْهَا تَقْدِيمُ حِكَايَةِ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ لَا تَفُوتُ وَحِكَايَةَ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ تَفُوتُ بِالْفَرَاغِ مِنْ الْأَذَانِ وَمِنْهَا تَقْدِيمُ صَوْنِ الْأَمْوَالِ إذَا خَرَجَتْ عَنْ الْعَادَةِ عَلَى الْعِبَادَاتِ فَيُنْتَقَلُ لِلتَّيَمُّمِ عَنْ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ إذَا خَرَجَ ثَمَنُ الْمَاءِ فِي شِرَائِهِ لَهُمَا عَنْ الْعَادَةِ بِأَنْ كَانَ لَهُ بَالٌ لَا يَلْزَمُهُ بَذْلُهُ فِي شِرَائِهِ إنْ ظَنَّ وُجُودَ الْمَاءِ كَمَا فِي ابْنِ حَمْدُونٍ عَلَى صَغِيرِ مَيَّارَةَ عَلَى ابْنِ عَاشِرٍ لَا إنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَقَطْ لِأَنَّ الثُّلُثَ لَا يَكُونُ كَثِيرًا إلَّا إذَا كَانَ لِلْمَاءِ كَبِيرُ ثَمَنٍ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ كَأَنْ يَكُونَ بِدِرْهَمٍ فَهَذَا وَإِنْ زَادَ بِأَكْثَرَ مِنْ نِصْفِهِ وَأَضْعَافِهِ فَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْحَطَّابِ عَلَى مَنْسَكِ خَلِيلٍ فِي شِرَاءِ نَعْلِ الْإِحْرَامِ فَتَنَبَّهْ ، وَلَا يَجِبُ الْحَجُّ إذَا أَفْرَطَتْ الْغَرَامَاتُ فِي الطُّرُقَاتِ قَالَ الْعَدَوِيُّ عَلَى الْخَرَشِيِّ وَلَا يَسْقُطُ الْحَجُّ إذَا أَخَذَ ظَالِمٌ شَيْئًا لَا يُجْحَفُ بِهِ ، وَإِذَا أَخَذَ لَا يَرْجِعُ بَلْ يَقِفُ عِنْدَ قَوْلِهِ آخُذُ هَذَا الْقَدْرَ ، وَعُلِمَ مِنْهُ ذَلِكَ عَادَةً

كَعَشَّارٍ فَإِنْ كَانَ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَأْخُذُ مَا يُجْحِفُ ، أَوْ يَنْكُثُ وَلَوْ قَلَّ الْمَجْمُوعُ وَمِثْلُ النُّكُوثِ تَعَدُّدُ الظَّالِمِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَجُّ ا هـ .
قَالَ الْخَرَشِيُّ وَكَذَا يَسْقُطُ إنْ شَكَّ أَنَّهُ يَنْكُثُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ ا هـ أَفَادَهُ شَيْخُنَا فِي حَاشِيَةِ تَوْضِيحِ الْمَنَاسِكِ وَمِنْهَا تَقْدِيمُ صَوْنِ النُّفُوسِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْمَنَافِعِ عَلَى الْعِبَادَاتِ فَيُقَدَّمُ إنْقَاذُ الْغَرِيقِ وَالْحَرِيقِ وَنَحْوِهِمَا إذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ عَلَى الصَّلَاةِ وَلَوْ كَانَ فِيهَا ، أَوْ خَشِيَ فَوَاتَ وَقْتِهَا وَمِنْهَا تَقْدِيمُ صَوْنِ مَالِ الْغَيْرِ إذَا خُشِيَ فَوَاتُهُ عَلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ حَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ بِدَلِيلِ تَرْكِ الطَّهَارَاتِ وَالْعِبَادَاتِ إذَا عَارَضَهَا ضَرَرُ الْعَبْدِ لَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ حَقُّ اللَّهِ يُقَدَّمُ لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ بِالْمُحَالَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ دُونَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى .
( النَّوْعُ الثَّانِي ) الْوَاجِبُ عَلَى الْفَوْرِ يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ عَلَى التَّرَاخِي لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّعْجِيلِ يَقْتَضِي الْأَرْجَحِيَّةَ عَلَى مَا جُعِلَ لَهُ تَأْخِيرُهُ ، مَثَلًا حَقُّ الْوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ إجْمَاعًا فَيُقَدَّمُ عَلَى الْحَجِّ إذَا قُلْنَا إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَحَقُّ السَّيِّدِ وَاجِبٌ فَوْرِيٌّ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْحَجِّ إذَا قُلْنَا بِذَلِكَ وَحَقُّ الزَّوْجِ فَوْرِيٌّ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْحَجِّ إذَا قُلْنَا بِذَلِكَ ، وَالدَّيْنُ الْحَالُّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فَوْرِيٌّ يَمْنَعُ الْخُرُوجَ إلَى الْحَجِّ إذَا قُلْنَا بِذَلِكَ وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ .
( النَّوْعُ الثَّالِثُ ) فَرْضُ الْأَعْيَانِ يُقَدَّمُ عَلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ لِأَنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ مِنْ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ يَقْتَضِي أَرْجَحِيَّةَ مَا طُلِبَ مِنْ الْبَعْضِ فَقَطْ وَلِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَعْتَمِدُ عَدَمَ تَكَرُّرِ الْمَصْلَحَةِ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ وَفَرْضَ الْأَعْيَانِ يَعْتَمِدُ تَكَرُّرَ الْمَصْلَحَةِ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ ، وَالْفِعْلُ الَّذِي

تَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ أَقْوَى فِي اسْتِلْزَامِ الْمَصْلَحَةِ مِنْ الَّذِي لَا تُوجَدُ الْمَصْلَحَةُ مَعَهُ إلَّا فِي بَعْضِ صُوَرِهِ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَجُّ أَفْضَلُ مِنْ الْغَزْوِ لِأَنَّ الْغَزْوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَالْحَجَّ فَرْضُ عَيْنٍ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُكْثِرُ الْحَجَّ وَلَا يَحْضُرُ الْغَزْوَ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ أَتَى مُرَاهَقًا وَعَلَيْهِ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَلَمْ يَبْقَ قَبْلَ الْفَجْرِ إلَّا مِقْدَارُ رَكْعَةٍ لِلْعِشَاءِ وَالْوُقُوفِ فَخَافَ بِاشْتِغَالِهِ بِأَحَدِهِمَا فَوَاتَ الْآخَرِ هَلْ يُصَلِّي مُطْلَقًا ، أَوْ يُدْرِكُ الْوُقُوفَ مُطْلَقًا ، وَإِنْ كَانَ حِجَازِيًّا صَلَّى ، وَإِلَّا أَدْرَكَ الْوُقُوفَ ، أَوْ يُصَلِّي وَهُوَ مَاشٍ ، أَوْ رَاكِبٌ كَصَلَاةِ الْمُسَايَفَةِ فَيُدْرِكَهُمَا مَعًا ؟ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ رَجَّحَ الْأَوَّلَ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ حَيْثُ قَالَ وَصَلَّى وَلَوْ فَاتَ وَجَعَلَهُ الْأَصْلُ مَذْهَبَ مَالِكٍ وَمَا عَدَاهُ أَقْوَالًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَقَالَ إنَّهُ الْحَقُّ لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ وَهِيَ فَوْرِيَّةٌ إجْمَاعًا ا هـ وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَقَالَ فِي الْمَدْخَلِ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ وَذَكَرَهَا عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ ، وَقَالَ : وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ ، وَرَجَّحَ الرَّابِعَ ا هـ .
وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الْأَمِيرُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى الْجَوْهَرَةِ وَلَا يُنَافِي أَفْضَلِيَّةَ الصَّلَاةِ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ كَجَمْعٍ مِنْ غَيْرِهِمْ بِتَقْدِيمِ الْوُقُوفِ عَلَى الصَّلَاةِ حَيْثُ .
خَافَ فَوَاتَهُ ، وَتَضْعِيفُهُمْ لِقَوْلِ الشَّيْخِ خَلِيلٍ وَصَلَّى وَلَوْ فَاتَ فَإِنَّ ذَلِكَ لِمَزِيدِ مَشَقَّةِ الْحَجِّ وَعَدَمِ إمْكَانِهِ كُلَّ وَقْتٍ ، وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ كَلَامِهِمْ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِهِمْ بِمَنْ أَحْرَمَ قَبْلُ ، وَإِلَّا صَلَّى وَلَوْ فَاتَ وَقَدْ قَالُوا بِعَدَمِ وُجُوبِ الْحَجِّ فِي الْبَحْرِ حَيْثُ حَصَلَ لَهُ دَوْخَةٌ تَمْنَعُهُ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ فَلْيُحَرَّرْ ا هـ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ

وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْعَاشِرُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ وَقَاعِدَةِ مَا لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ عَنْ الْمُكَلَّفِ ) هَذَا الْفَرْقُ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْأَفْعَالَ قِسْمَانِ مِنْهَا مَا يَشْتَمِلُ فِعْلُهُ عَلَى مَصْلَحَةٍ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ فَاعِلِهِ كَرَدِّ الْوَدَائِعِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ وَرَدِّ الْغُصُوبَاتِ وَتَفْرِيقِ الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَلُحُومِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا وَذَبْحِ النُّسُكِ وَنَحْوِهَا فَيَصِحُّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ النِّيَابَةُ إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ انْتِفَاعُ أَهْلِهَا بِهَا وَذَلِكَ حَاصِلٌ مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ لِحُصُولِهَا مِنْ نَائِبِهِ وَلِذَلِكَ لَمْ تُشْتَرَطُ النِّيَّاتُ فِي أَكْثَرِهَا وَمِنْهَا مَا لَا يَتَضَمَّنُ مَصْلَحَةً فِي نَفْسِهِ بَلْ بِالنَّظَرِ إلَى فَاعِلِهِ كَالصَّلَاةِ فَإِنَّ مَصْلَحَتَهَا الْخُشُوعُ وَالْخُضُوعُ ، وَإِجْلَالُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَعْظِيمُهُ وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنْ جِهَةِ فَاعِلِهَا فَإِذَا فَعَلَهَا غَيْرُ الْإِنْسَانِ فَاتَتْ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي طَلَبَهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ وَلَا تُوصَفُ حِينَئِذٍ بِكَوْنِهَا مَشْرُوعَةً فِي حَقِّهِ فَلَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا إجْمَاعًا وَمِنْهَا قِسْمٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ فَتَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي أَيِّ الشَّائِبَتَيْنِ تُغَلَّبُ عَلَيْهِ كَالْحَجِّ فَإِنَّ مَصَالِحَهُ تَأْدِيبُ النَّفْسِ بِمُفَارَقَةِ الْأَوْطَانِ .
وَتَهْذِيبُهَا بِالْخُرُوجِ عَنْ الْمُعْتَادِ مِنْ الْمَخِيطِ وَغَيْرِهِ لِتَذَكُّرِ الْمَعَادِ وَالِانْدِرَاجِ فِي الْأَكْفَانِ وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللَّهِ فِي تِلْكَ الْبِقَاعِ ، وَإِظْهَارِ الِانْقِيَادِ مِنْ الْعَبْدِ لِمَا لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَتَهُ كَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْوُقُوفِ عَلَى بُقْعَةٍ خَاصَّةٍ دُونَ سَائِرِ الْبِقَاعِ وَهَذِهِ مَصَالِحُ لَا تُحْصَى وَلَا تَصْلُحُ إلَّا لِلْمُبَاشِرِ كَالصَّلَاةِ فِي حُكْمِهَا وَمَصَالِحِهَا فَمَنْ لَاحَظَ هَذَا الْمَعْنَى ، وَهُوَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ وَافَقَهُ قَالُوا : لَا

تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ وَمَنْ لَاحَظَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَمُشَابَهَةَ النُّسُكِ فِي الْمَالِيَّةِ فَإِنَّ الْحَجَّ لَا يَعْرَى عَنْ الْقُرْبَةِ الْمَالِيَّةِ غَالِبًا فِي الْإِنْفَاقِ فِي الْأَسْفَارِ قَالَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ ، وَالشَّائِبَةُ الْأُولَى أَقْوَى وَأَظْهَرُ وَهِيَ الَّتِي تَحْصُلُ فِي الْحَجِّ بِالذَّاتِ ، وَالْمَالِيَّةُ إنَّمَا حَصَلَتْ بِطَرِيقِ الْعَرَضِ كَمَا تَحْصُلُ فِيمَنْ احْتَاجَ لِلرُّكُوبِ إلَى الْجُمُعَاتِ فَاكْتَرَى لِذَلِكَ فَإِنَّ الْمَالِيَّةَ عَارِضَةٌ فِي الْجُمُعَاتِ وَلَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا إجْمَاعًا فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي فِي الْحَجِّ وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَبِهِ يَظْهَرُ رُجْحَانُ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى غَيْرِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

قَالَ : ( الْفَرْقُ الْعَاشِرُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ وَقَاعِدَةِ مَا لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ عَنْ الْمُكَلَّفِ ) .
قُلْت : صِحَّةُ النِّيَابَةِ فِي الْأَفْعَالِ كُلِّهَا الْقَلْبِيَّةِ وَغَيْرِهَا جَائِزَةٌ عَقْلًا لَكِنَّ الشَّرْعَ حَكَمَ بِصِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ فَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْقَلْبِيَّةُ فَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي عَدَمِ صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِيهَا إلَّا مَا كَانَ مِنْ النِّيَّةِ كَإِحْجَاجِ الصَّبِيِّ ، وَفِي سَائِرِ نِيَّاتِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا عَلَى حَسَبِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا ، وَغَيْرُ الْقَلْبِيَّةِ : فَالْمَالِيَّةُ الْمَحْضَةُ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِيهَا .
وَأَمَّا غَيْرُ الْمَالِيَّةِ الْمَحْضَةِ فَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ فِي عَدَمِ صِحَّتِهَا فِي الصَّلَاةِ ، وَالْخِلَافَ فِيمَا عَدَاهَا وَحَكَى بَعْضُهُمْ الْخِلَافَ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا ، وَمَا قَالَهُ شِهَابُ الدِّينِ وَجَعَلَهُ ضَابِطًا لِلْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ - مِنْ مُرَاعَاةِ كَوْنِ مَصْلَحَةِ ذَلِكَ الْأَمْرِ يُشْتَرَطُ فِيهَا حُصُولُهَا مِنْ النَّائِبِ كَحُصُولِهَا مِنْ الْمَنُوبِ عَنْهُ وَحِينَئِذٍ تَصِحُّ - يَنْتَقِضُ بِالصَّوْمِ ، فَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِجَوَازِ النِّيَابَةِ فِيهِ ، وَمَا رُجِّحَ بِهِ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْحَجِّ ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمَا قَالَهُ فِي الْفَرْقَيْنِ بَعْدَ هَذَا صَحِيحٌ

( الْفَرْقُ الْعَاشِرُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ وَقَاعِدَةِ مَا لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ ) .
عَنْ الْمُكَلَّفِ تَصِحُّ النِّيَابَةُ عَقْلًا فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ قَلْبِيَّةً أَوْ غَيْرَهَا ، وَأَمَّا الشَّرْعُ فَحَكَمَ بِصِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَعْمَالَ الْقَلْبِيَّةَ كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِيهَا إلَّا مَا كَانَ مِنْ النِّيَّةِ كَإِحْجَاجِ الصَّبِيِّ وَسَائِرِ نِيَّاتِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا عَلَى حَسَبِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا ، وَغَيْرَ الْقَلْبِيَّةِ إنْ كَانَتْ مَالِيَّةً مَحْضَةً كَرَدِّ الْعَوَارِيِّ وَالْوَدَائِعِ وَالْغُصُوبَاتِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ وَتَفْرِيقِ الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَلُحُومِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا وَذَبْحِ النُّسُكِ فَلَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَالِيَّةٍ مَحْضَةٍ فَبَعْضُهُمْ حَكَى الْإِجْمَاعَ فِي عَدَمِ صِحَّتِهَا فِي الصَّلَاةِ وَالْخِلَافَ فِيمَا عَدَاهَا ، وَبَعْضُهُمْ حَكَى الْخِلَافَ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا .
وَجَعَلَ الْأَصْلَ ضَابِطًا لِلْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ كَوْنُ الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا إنْ اشْتَمَلَ عَلَى مَصْلَحَةٍ مَنْظُورٍ فِيهَا لِذَاتِ الْفَاعِلِ بِحَيْثُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمُبَاشَرَتِهِ مُنِعَتْ فِيهِ النِّيَابَةُ قَطْعًا وَذَلِكَ كَالْيَمِينِ مَصْلَحَتُهُ الدَّلَالَةُ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي فَلَا تَحْصُلُ بِحَلِفِ غَيْرِهِ عَنْهُ وَلِذَا يُقَالُ لَيْسَ فِي السُّنَّةِ أَنْ يَحْلِفَ أَحَدٌ وَيَسْتَحِقَّ غَيْرُهُ وَكَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ مَصْلَحَتُهُ إجْلَالُ اللَّهِ وَتَعْظِيمُهُ ، وَإِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ فَلَا تَحْصُلُ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ الشَّخْصِ نَفْسِهِ وَكَوَطْءِ الزَّوْجَةِ مَصْلَحَتُهُ الْإِعْفَافُ وَتَحْصِيلُ وَلَدٍ يُنْسَبُ إلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ ، وَإِنْ اشْتَمَلَ عَلَى مَصْلَحَةٍ مَنْظُورٍ فِيهَا لِذَاتِ الْفِعْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ بِحَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ حُصُولُ مَصْلَحَتِهِ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ صَحَّتْ فِيهِ النِّيَابَةُ قَطْعًا

وَذَلِكَ كَرَدِّ الْعَوَارِيِّ وَالْوَدَائِعِ وَالْمَغْصُوبَاتِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ وَتَفْرِيقِ الزَّكَوَاتِ مِمَّا مَصْلَحَتُهُ إيصَالُ الْحُقُوقِ لِأَهْلِهَا ، سَوَاءٌ كَانَ بِنَفْسِهِ ، أَوْ بِغَيْرِهِ فَيَبْرَأُ مَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ بِالْوَفَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ ، وَإِنْ اشْتَمَلَ عَلَى مَصْلَحَةٍ مَنْظُورٍ فِيهَا لِجِهَةِ الْفِعْلِ وَلِجِهَةِ الْفَاعِلِ وَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَيِّ الشَّائِبَتَيْنِ تُغَلَّبُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ كَالْحَجِّ فَإِنَّ مَصْلَحَتَهُ كَمَا أَنَّهَا تَأْدِيبُ النَّفْسِ بِمُفَارَقَةِ الْأَوْطَانِ ، وَتَهْذِيبُهَا بِالْخُرُوجِ عَنْ الْمُعْتَادِ مِنْ الْمَخِيطِ وَغَيْرِهِ لِتَذَكُّرِ الْمَعَادِ وَالِانْدِرَاجِ فِي الْأَكْفَانِ ، وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللَّهِ فِي تِلْكَ الْبِقَاعِ ، وَإِظْهَارِ الِانْقِيَادِ مِنْ الْعَبْدِ لِمَا لَمْ يُعْلَمْ حَقِيقَتُهُ كَمَرْمَى الْجِمَارِ وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْوُقُوفِ عَلَى بُقْعَةٍ خَاصَّةٍ دُونَ سَائِرِ الْبِقَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الَّتِي لَا تُحْصَى وَلَا تَحْصُلُ إلَّا لِلْمُبَاشِرِ كَالصَّلَاةِ .
كَذَلِكَ مَصْلَحَتُهُ الْقُرْبَةُ الْمَالِيَّةُ غَالِبًا إذْ لَا يُعَرَّى عَنْ الْإِنْفَاقِ فِي سَفَرِهِ غَالِبًا فَلَمَّا لَاحَظَ غَيْرُ مَالِكٍ وَمُوَافِقِيهِ مَصْلَحَتَهُ الثَّانِيَةَ قَالُوا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ وَلَمَّا لَاحَظَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَمَنْ وَافَقَهُ مَصْلَحَتَهُ الْأُولَى قَالُوا لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ وَهُوَ أَقْوَى ضَرُورَةَ أَنَّ الَّتِي تَحْصُلُ فِي الْحَجِّ بِالذَّاتِ .
وَأَمَّا الْمَالِيَّةُ فَإِنَّمَا حَصَلَتْ فِيهِ بِطَرِيقِ الْعَرَضِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَكِّيَّ يَحُجُّ بِلَا مَالٍ فَكَمَا أَنَّ الْمَالِيَّةَ قَدْ تَعْرِضُ فِي الْجُمُعَاتِ فِيمَنْ احْتَاجَ لِلرُّكُوبِ إلَيْهَا فَاكْتَرَى لِذَلِكَ وَلَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا إجْمَاعًا كَذَلِكَ يَنْبَغِي فِي الْحَجِّ نَعَمْ لِغَيْرِ مَالِكٍ أَنْ يُفَرِّقَ بِأَنَّ عُرُوضَ الْمَالِ فِي الْحَجِّ أَكْثَرُ مَعَ مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ الْحَجِّ عَنْ الصِّبْيَانِ

وَالْمَرْضَى يُحْرِمُ عَنْهُمْ غَيْرُهُمْ وَيَفْعَلُ أَفْعَالَ الْحَجِّ وَالْعِبَادَاتِ أَمْرٌ مُتَّبَعٌ ا هـ كَلَامُ الْأَصْلِ .
وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الشَّاطِّ بِأَنَّ هَذَا الضَّابِطَ يَنْتَقِضُ بِالصَّوْمِ فَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِجَوَازِ النِّيَابَةِ فِيهِ ا هـ وَمُرَادُهُ بِالْحَدِيثِ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا { مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ } .
وَأَمَّا حَدِيثُهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَتَتْ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ فَقَالَ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتِ تَقْضِيهِ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ } فَقَالَ الزَّرْقَانِيُّ عَلَى الْمُوَطَّإِ قَدْ أُعِلَّ بِالِاضْطِرَابِ فَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ السَّائِلَ امْرَأَةٌ أَنَّ أُمَّهَا مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ .
وَفِي أُخْرَى وَعَلَيْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَأُخْرَى أَنَّ أُخْتِي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَأُخْرَى قَالَ رَجُلٌ مَاتَتْ أُمِّي وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ نَعَمْ أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ اضْطِرَابًا ، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافٌ يُحْمَلُ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَقَائِعِ لَكِنَّهُ بَعِيدٌ لِاتِّحَادِ الْمُخَرِّجِ فَالرِّوَايَاتُ كُلُّهَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ا هـ فَتَأَمَّلْ وَسَيَأْتِي فِي الْفَرْقِ الْحَادِي وَالسَّبْعِينَ وَالْمِائَةِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُجْزِئُ فِيهِ فِعْلُ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ عَنْهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُجْزِئُ فِيهِ فِعْلُ الْغَيْرِ عَنْ ابْنِ الشَّاطِّ أَنَّهُ مُكَرَّرٌ مَعَ هَذَا ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِيهِ مَسَائِلَ لِتَوْضِيحِ الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَذْكُرْهَا هُنَا فَتَرَقَّبْ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْحَادِيَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُضْمَنُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُضْمَنُ ) اعْلَمْ أَنَّ أَسْبَابَ الضَّمَانِ فِي الشَّرِيعَةِ ثَلَاثَةٌ لَا رَابِعَ لَهَا أَحَدُهَا الْعُدْوَانُ كَالْقَتْلِ وَالْإِحْرَاقِ وَهَدْمِ الدُّورِ وَأَكْلِ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ إتْلَافِ الْمُتَمَوَّلَاتِ فَمَنْ تَعَدَّى فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ إمَّا الْمِثْلُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا ، أَوْ الْقِيمَةُ إنْ كَانَ مُقَوَّمًا ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْجَوَابِرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الزَّوَاجِرِ وَالْجَوَابِرِ ، وَثَانِيهَا التَّسَبُّبُ لِلْإِتْلَافِ كَحَفْرِ الْآبَارِ فِي طُرُقِ الْحَيَوَانِ فِي غَيْرِ الْأَرْضِ الْمَمْلُوكَةِ لِلْحَافِرِ ، أَوْ فِي أَرْضِهِ لَكِنْ حَفَرَهَا لِهَذَا الْغَرَضِ وَكَوَقِيدِ النَّارِ قَرِيبًا مِنْ الزَّرْعِ ، أَوْ الْأَنْدَرِ فَتَعْدُو فَتُحْرِقُ مَا جَاوَرَهَا وَكَرَمْيِ مَا يُزْلِقُ النَّاسَ فِي الطُّرُقَاتِ فَيَعْطَبُ بِسَبَبِ ذَلِكَ حَيَوَانٌ ، أَوْ غَيْرُهُ وَكَالْكَلِمَةِ الْبَاطِلَةِ عِنْدَ ظَالِمٍ إغْرَاءً عَلَى مَالِ إنْسَانٍ فَإِنَّ الظَّالِمَ إذَا أَخَذَ الْمَالَ بِذَلِكَ السَّبَبِ مِنْ الْكَلَامِ ضَمِنَهُ الْمُتَكَلِّمُ وَكَتَقْطِيعِ الْوَثِيقَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْحَقِّ وَلِلشَّهَادَةِ بِهِ فَيَضِيعُ الْحَقُّ بِسَبَبِ تَقْطِيعِهَا فَيَضْمَنُ عِنْدَ مَالِكٍ ذَلِكَ الْحَقَّ لِتَسَبُّبِهِ فِيهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَضْمَنُ ثَمَنَ الْوَرَقَةِ خَاصَّةً فَاعْتَبَرَ الْإِتْلَافَ دُونَ السَّبَبِ وَمَالِكٌ اعْتَبَرَهُمَا مَعًا وَرَأَى أَنَّهُ أَتْلَفَ الْحَقَّ بِالْمُبَاشَرَةِ بِالْإِتْلَافِ وَأَتْلَفَ الْحَقَّ بِالتَّسَبُّبِ فَرَتَّبَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مُقْتَضَاهُمَا وَكَمَنْ مَرَّ عَلَى حِبَالَةٍ فَوَجَدَ فِيهَا صَيْدًا يُمْكِنُهُ تَخْلِيصُهُ وَحَوْزُهُ لِصَاحِبِهِ فَتَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ يَضْمَنُهُ عِنْدَ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ صَوْنَ مَالِ الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ وَمَنْ تَرَكَ وَاجِبًا فِي الصَّوْنِ ضَمِنَ وَكَذَلِكَ إذَا مَرَّ بِلُقَطَةٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا تَرَكَهَا أَخَذَهَا مَنْ يَجْحَدُهَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَخْذُهَا .
وَإِنْ تَرَكَهَا

حَتَّى تَلِفَتْ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَخْذِهَا ضَمِنَهَا وَلِلسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ لَكِنْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ عَلَى أَنَّ التَّسَبُّبَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ .
وَثَالِثُهَا وَضْعُ الْيَدِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُؤْتَمَنَةٍ وَقَوْلِي " لَيْسَتْ بِمُؤْتَمَنَةٍ " خَيْرٌ مِنْ قَوْلِي الْيَدُ الْعَادِيَةُ فَإِنَّ الْيَدَ الْعَادِيَةَ تَخْتَصُّ بِالسُّرَّاقِ وَالْغُصَّابِ وَنَحْوِهِمْ ، وَتَبْقَى مِنْ الْأَيْدِي الْمُوجِبَةِ لِلضَّمَانِ قَبْضٌ بِغَيْرِ عُدْوَانٍ بَلْ بِإِذْنِ الْمَالِكِ كَقَبْضِ الْمَبِيعِ ، أَوْ بَقَاءِ يَدِ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَمِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ مَعَ عَدَمِ الْعُدْوَانِ وَكَقَبْضِ الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا فَإِنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا بِالْقِيمَةِ إذَا تَغَيَّرَ سُوقُهُ ، أَوْ تَغَيَّرَ فِي ذَاتِهِ أَوْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ ، أَوْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ ، أَوْ أَتْلَفَهُ الْمُشْتَرِي وَهَذَا السَّبَبُ الْأَخِيرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ دُونَ مَا قَبْلَهُ مِنْ حَوَالَةِ الْأَسْوَاقِ وَنَحْوِهَا وَكَقَبْضِ الْعَوَارِيِّ وَالرُّهُونِ الَّتِي يُغَابُ عَلَيْهَا كَالْحُلِيِّ وَالسِّلَاحِ وَأَنْوَاعِ الْعُرُوضِ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيُّ وَكَقَبْضِ الْأَعْيَانِ الَّتِي تُقْتَرَضُ فَإِنَّ الْمُقْتَرِضَ يَضْمَنُهَا اتِّفَاقًا مَعَ عَدَمِ الْعُدْوَانِ وَنَظَائِرُهَا كَثِيرَةٌ وَخَرَجَ بِقَوْلِي " الَّتِي لَيْسَتْ بِمُؤْتَمَنَةٍ " الْيَدُ الْمُؤْتَمَنَةُ كَوَضْعِ الْيَدِ فِي الْوَدَائِعِ وَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ وَأَيْدِي الْأُجَرَاءِ .
وَوَضْعُ الْأَيْدِي عِنْدَ مَالِكٍ فِي الْإِجَارَةِ تَخْتَلِفُ فَاسْتَثْنَى مِنْهَا صُورَتَيْنِ : الْأَجِيرَ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي الْأَعْيَانِ بِصَنْعَتِهِ كَالْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ ؛ لِأَنَّ السِّلْعَةَ إذَا تَغَيَّرَتْ بِالصَّنْعَةِ لَا يَعْرِفُهَا رَبُّهَا إذَا وَجَدَهَا قَدْ بِيعَتْ فِي الْأَسْوَاقِ فَكَانَ الْأَصْلَحُ لِلنَّاسِ تَضْمِينَ

الْأُجَرَاءِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاسْتِحْسَانِ وَلَمْ يَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَلْ طَرَدَ قَاعِدَةَ الْأَمَانَةِ فِي الْإِجَارَةِ ، وَالْأَجِيرَ عَلَى حَمْلِ الطَّعَامِ الَّذِي تَتُوقُ النَّفْسُ إلَى تَنَاوُلِهِ كَالْفَوَاكِهِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْأَطْعِمَةِ الْمَطْبُوخَةِ فَإِنَّ الْأَجِيرَ يَضْمَنُ سَدًّا لِذَرِيعَةِ التَّنَاوُلِ مِنْهَا وَطَرَدَ الشَّافِعِيُّ الْقَاعِدَةَ أَيْضًا هَهُنَا فَلَمْ يَضْمَنْ أَيْضًا وَكَأَيْدِي الْأَوْصِيَاءِ عَلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى ، وَالْحُكَّامِ عَلَى ذَلِكَ وَأَمْوَالِ الْغَائِبِينَ وَالْمَجَانِينِ فَجَمِيعُ ذَلِكَ لَا ضَمَانَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْأَيْدِيَ فِيهِ مُؤْتَمَنَةٌ فَهَذِهِ الْأَسْبَابُ الثَّلَاثَةُ هِيَ أَسْبَابُ الضَّمَانِ فَهِيَ قَاعِدَةُ مَا يُضْمَنُ وَمَا عَدَاهَا فَهُوَ قَاعِدَةُ مَا لَا يُضْمَنُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ النَّظَائِرِ ، وَإِذَا اجْتَمَعَ مِنْهَا سَبَبَانِ كَالْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسَبُّبِ مِنْ جِهَتَيْنِ غُلِّبَتْ الْمُبَاشَرَةُ عَلَى التَّسَبُّبِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا لِإِنْسَانٍ لِيَقَعَ فِيهِ فَجَاءَهُ آخَرُ فَأَلْقَاهُ فِيهِ فَهَذَا مُبَاشِرٌ وَالْأَوَّلُ مُتَسَبِّبٌ فَالضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ تَقْدِيمًا لِلْمُبَاشَرَةِ عَلَى التَّسَبُّبِ ؛ لِأَنَّ شَأْنَ الشَّرِيعَةِ تَقْدِيمُ الرَّاجِحِ عِنْدَ التَّعَارُضِ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمُبَاشَرَةُ مَغْمُورَةً كَقَتْلِ الْمُكْرَهِ فَإِنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا وَلَا تُغَلَّبُ الْمُبَاشَرَةُ لِقُوَّةِ التَّسَبُّبِ وَكَتَقْدِيمِ السُّمِّ لِإِنْسَانٍ فِي طَعَامِهِ فَيَأْكُلُهُ جَاهِلًا بِهِ فَإِنَّهُ مُبَاشِرٌ لِقَتْلِ نَفْسِهِ .
وَوَاضِعُ السُّمِّ مُتَسَبِّبٌ ، وَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ وَحْدَهُ وَكَشُهُودِ الزُّورِ ، أَوْ الْجَهَلَةِ يَشْهَدُونَ بِمَا يُوجِبُ ضَيَاعَ الْمَالِ عَلَى إنْسَانٍ ، ثُمَّ يَعْتَرِضُونَ بِالْكَذِبِ ، أَوْ الْجَهَالَةِ فَإِنَّهُمْ يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ وَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ وَلَا يَضْمَنُ الْحَاكِمُ شَيْئًا مَعَ أَنَّهُ الْمُبَاشِرُ ، وَالشَّاهِدَ مُتَسَبِّبٌ ، غَيْرَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ قَدْ اقْتَضَتْ عَدَمَ تَضْمِينِ الْحُكَّامِ

مَا اخْطَئُوا فِيهِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَوْ تَطَرَّقَ إلَيْهِمْ مَعَ كَثْرَةِ الْحُكُومَاتِ وَتَرَدُّدِ الْخُصُومَاتِ لَزَهِدَ الْأَخْيَارُ فِي الْوِلَايَاتِ وَاشْتَدَّ امْتِنَاعُهُمْ فَيَفْسُدُ حَالُ النَّاسِ بِعَدَمِ الْحُكَّامِ فَكَانَ الشَّاهِدُ بِالضَّمَانِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ لِلْحَاكِمِ فِي الْإِلْزَامِ وَالتَّنْفِيذِ وَكَمَا قِيلَ الْحَاكِمُ أَسِيرُ الشَّاهِدِ وَيَقَعُ فِي هَذَا الْبَابِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَلَكِنَّ الْأَصْلَ هُوَ مَا قَدَّمْته فِي أَسْبَابِ الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ

( الْفَرْقُ الْحَادِيَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُضْمَنُ ) وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُضْمَنُ ، لِلضَّمَانِ ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ : الْأَوَّلُ مَا يَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ ، وَالثَّانِي الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ ، وَالثَّالِثُ الْوَاجِبُ فِي الضَّمَانِ فَأَمَّا مَا يَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ فَقَالَ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ : كُلُّ مَالٍ أُتْلِفَتْ عَيْنُهُ ، أَوْ تَلِفَ عِنْدَ الْغَاصِبِ أَيْ ، أَوْ غَيْرِهِ عَيْنُهُ بِأَمْرٍ مِنْ السَّمَاءِ ، أَوْ سُلِّطَتْ الْيَدُ عَلَيْهِ وَتُمُلِّكَ وَذَلِكَ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ بِاتِّفَاقٍ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ مِثْلِ الْعَقَارِ فَقَالَ الْجُمْهُورُ : إنَّهَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ أَعْنِي أَنَّهَا إنْ انْهَدَمَتْ الدَّارُ ضَمِنَ مِنْ قِيمَتِهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَضْمَنُ وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هَلْ كَوْنُ يَدِ الْغَاصِبِ عَلَى الْعَقَارِ مِثْلُ كَوْنِ يَدِهِ عَلَى مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ فَمَنْ جَعَلَ حُكْمَ ذَلِكَ وَاحِدًا قَالَ بِالضَّمَانِ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ حُكْمَ ذَلِكَ وَاحِدًا قَالَ لَا ضَمَانَ ا هـ .
وَأَمَّا الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ فِي الشَّرِيعَةِ فَثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ لَا رَابِعَ لَهَا فَمَتَى وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْهَا وَجَبَ الضَّمَانُ وَمَتَى لَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهَا لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ : أَحَدُهَا الْعُدْوَانُ كَالْقَتْلِ وَالطَّرْقِ ، وَهَدْمِ الدُّورِ وَأَكْلِ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ إتْلَافِ الْمُتَمَوَّلَاتِ قَالَ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْمُبَاشَرَةِ أَيْ مُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ الْعَمْدُ ، أَوْ لَا يُشْتَرَطُ فَالْأَشْهَرُ أَنَّ الْأَمْوَالَ تُضْمَنُ عَمْدًا وَخَطَأً ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ جُزْئِيَّةٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا فَالْمَعْلُومُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا وَلِذَلِكَ رَأَى عَلَى الْمُكْرَهِ الضَّمَانَ ، أَعْنِي الْمُكْرَهَ عَلَى الْإِتْلَافِ ا هـ وَثَانِيهَا التَّسَبُّبُ لِلْإِتْلَافِ قَالَ الْأَصْلُ : وَلِلسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مُتَّفَقٌ

عَلَيْهِ وَمِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ لَكِنْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ عَلَى أَنَّ التَّسَبُّبَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ وَقَالَ فِيمَا يَأْتِي لَهُ فِي الْفَرْقِ السَّابِعَ عَشَرَ وَالْمِائَتَيْنِ : وَالسَّبَبُ مَا يُقَالُ عَادَةً حَصَلَ الْهَلَاكُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطٍ ، وَالتَّسَبُّبُ مَا يَحْصُلُ الْهَلَاكُ عِنْدَهُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى إذَا كَانَ السَّبَبُ هُوَ الْمُقْتَضِيَ لِوُقُوعِ الْفِعْلِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ ا هـ .
وَقَالَ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي يَحْصُلُ بِمُبَاشَرَتِهِ الضَّمَانُ إذَا تَنَاوَلَ التَّلَفَ بِوَاسِطَةِ سَبَبٍ آخَرَ هَلْ يَحْصُلُ بِهِ ضَمَانٌ أَمْ لَا وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ مِنْهَا أَنْ يَفْتَحَ قَفَصًا فِيهِ طَائِرٌ فَيَطِيرَ بَعْدَ الْفَتْحِ فَقَالَ مَالِكٌ يَضْمَنُهُ هَاجَهُ عَلَى الطَّيَرَانِ ، أَوْ لَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَضْمَنُ إنْ هَاجَهُ وَلَا يَضْمَنُ إنْ لَمْ يَهِجْهُ يَعْنِي إنْ طَارَ عَقِيبَ الْفَتْحِ ضَمِنَ ، وَإِلَّا فَلَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَضْمَنُ عَلَى حَالٍ وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِأَنَّ فَتْحَ الْقَفَصِ سَبَبُ الْإِتْلَافِ عَادَةً فَيُوجِبُ الضَّمَانَ كَسَائِرِ صُوَرِ التَّسَبُّبِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا كَمَا إذَا فَتَحَ مُرَاحَهُ فَخَرَجَتْ مَاشِيَتُهُ فَأَفْسَدَتْ الزَّرْعَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ وَقَدْ أُسْقِطَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } خُصُوصُ التَّسَبُّبِ فَبَقِيَ الْغُرْمُ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ التَّسَبُّبُ وَالْمُبَاشَرَةُ اُعْتُبِرَتْ الْمُبَاشَرَةُ دُونَهُ وَالطَّيْرُ مُبَاشِرٌ بِاخْتِيَارِهِ لِحَرَكَةِ نَفْسِهِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا عُدْوَانًا فِي مَحَلٍّ فَأَرْدَى فِيهَا غَيْرُهُ إنْسَانًا فَإِنَّ الْمُرْدِيَ يَضْمَنُ دُونَ الْحَافِرِ وَالْحَيَوَانُ قَصْدُهُ مُعْتَبَرٌ بِدَلِيلِ جَوَارِحِ الصَّيْدِ إنْ أَمْسَكَتْ لِأَنْفُسِهَا لَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ أَوْ لِلصَّائِدِ أُكِلَ وَالْجَوَابُ بِوُجُوهٍ : الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الطَّائِرَ كَانَ مُخْتَارًا لِلطَّيَرَانِ وَلَعَلَّهُ كَانَ مُخْتَارًا لِلْإِقَامَةِ لِانْتِظَارِ الْعَلَفِ ،

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31