كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي
قَالَ : ( وَإِذَا أَقَرَّ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا فَقَالَ الْوَلِيُّ : قَتَلْتُمَاهُ جَمِيعًا فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمَا ، وَإِنْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا وَشَهِدَ آخَرُونَ عَلَى آخَرَ بِقَتْلِهِ وَقَالَ الْوَلِيُّ : قَتَلْتُمَاهُ جَمِيعًا بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْإِقْرَارَ وَالشَّهَادَةَ يَتَنَاوَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُجُودَ كُلِّ الْقَتْلِ وَوُجُوبَ الْقِصَاصِ ، وَقَدْ حَصَلَ التَّكْذِيبُ فِي الْأُولَى مِنْ الْمُقِرِّ لَهُ وَفِي الثَّانِيَةِ مِنْ الْمَشْهُودِ لَهُ ، غَيْرَ أَنَّ تَكْذِيبَ الْمُقِرِّ لَهُ الْمُقِرُّ فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ لَا يُبْطِلُ إقْرَارَهُ فِي الْبَاقِي ، وَتَكْذِيبُ الْمَشْهُودِ لَهُ الشَّاهِدَ فِي بَعْضِ مَا شَهِدَ بِهِ يُبْطِلُ شَهَادَتَهُ أَصْلًا ، لِأَنَّ التَّكْذِيبَ تَفْسِيقٌ وَفِسْقُ الشَّاهِدِ يَمْنَعُ الْقَبُولَ ، أَمَّا فِسْقُ الْمُقِرِّ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ .وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلَانِ إلَخْ ) مَسْأَلَتَانِ مَبْنَاهُمَا عَلَى أَنَّ تَكْذِيبَ الْمَقَرِّ لَهُ الْمُقِرَّ فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ لَا يُبْطِلُ إقْرَارَهُ فِي الْبَاقِي ، فَإِنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَصَدَّقَهُ الْمَقَرُّ لَهُ فِي النِّصْفِ وَكَذَّبَهُ فِي النِّصْفِ يَصِحُّ الْإِقْرَارُ فِيمَا صَدَّقَهُ ، وَتَكْذِيبُ الْمَشْهُودِ لَهُ الشَّاهِدَ فِي بَعْضِ مَا يَشْهَدُ بِهِ يُبْطِلُ شَهَادَتَهُ أَصْلًا لِكَوْنِهِ تَفْسِيقًا لَهُ ، وَفِسْقُ الشَّاهِدِ يَمْنَعُ الْقَبُولَ ، بِخِلَافِ فِسْقِ الْمُقِرِّ وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ لِأَنَّهُ إذَا أَكْذَبَهُ فِي كُلِّ مَا أَقَرَّ بِهِ بَطَلَ الْإِقْرَارُ لِأَنَّهُ رَدٌّ لِإِقْرَارِهِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ الْمَقَرُّ لَهُ بَدَلَ قَوْلِهِ قَتَلْتُمَاهُ صَدَقْتُمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ وَاحِدًا مِنْهُمَا لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ صَدَقْتُمَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَدَقْت لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَمَعْنَاهُ أَنْتَ قَتَلْت وَحْدَك وَفِي ذَلِكَ تَكْذِيبُ الْآخَرِ فِي الْجَمِيعِ وَهُوَ تَكْذِيبٌ لَهُمَا .
قَالَ : ( وَمَنْ رَمَى مُسْلِمًا فَارْتَدَّ الْمَرْمِيُّ إلَيْهِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ فَعَلَى الرَّامِي الدِّيَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ بِالِارْتِدَادِ أَسْقَطَ تَقَوُّمَ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُبْرِئًا لِلرَّامِي عَنْ مُوجِبِهِ كَمَا إذَا أَبْرَأَهُ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ .
وَلَهُ أَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الرَّمْيُ إذْ لَا فِعْلَ مِنْهُ بَعْدُ فَتُعْتَبَرُ حَالَةُ الرَّمْيِ وَالْمَرْمِيِّ إلَيْهِ فِيهَا مُتَقَوِّمٌ .
وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ حَالَةُ الرَّمْي فِي حَقِّ الْحِلِّ حَتَّى لَا يَحْرُمَ بِرِدَّةِ الرَّامِي بَعْدَ الرَّمْي ، وَكَذَا فِي حَقِّ التَّكْفِيرِ حَتَّى جَازَ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ .
وَالْفِعْلُ وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَالْقَوَدُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ وَوَجَبَتْ الدِّيَةُ .
( بَابٌ فِي اعْتِبَارِ حَالَةِ الْقَتْلِ ) لَمَّا كَانَتْ الْأَحْوَالُ صِفَاتٍ لِذَوِيهَا ذَكَرَهَا بَعْدَ ذِكْرِ نَفْسِ الْقَتْلِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ( وَمَنْ رَمَى مُسْلِمًا فَارْتَدَّ الْمَرْمِيُّ إلَيْهِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ فَعَلَى الرَّامِي الدِّيَةُ لِوَرَثَةِ الْمُرْتَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِالِارْتِدَادِ أَسْقَطَ تَقَوُّمَ نَفْسِهِ وَذَلِكَ إبْرَاءٌ لِلضَّامِنِ ) لِأَنَّ مَنْ أَخْرَجَ الْمُتَقَوِّمَ عَنْ التَّقَوُّمِ سَقَطَ حَقُّهُ كَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا أَعْتَقَ الْمَغْصُوبَ فَإِنَّهُ صَارَ مُبَرِّئًا لِلْغَاصِبِ عَنْ الضَّمَانِ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ وَصَارَ بِهِ مُبَرِّئًا ( كَمَا إذَا أَبْرَأَهُ ) أَيْ الرَّامِي عَنْ الْجِنَايَةِ أَوْ حَقِّهِ ( بَعْدَ الْجَرْحِ ) أَيْ انْعِقَادِ سَبَبِهِ وَهُوَ الرَّامِي قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ السَّهْمُ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الرَّمْيُ إذْ لَا فِعْلَ مِنْهُ بَعْدَهُ ) وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ وَقْتُ الْفِعْلِ كَالْغَصْبِ ( فَيُعْتَبَرُ حَالَةَ الرَّمْيِ وَالْمَرْمِيُّ إلَيْهِ فِيهَا مُتَقَوِّمٌ ) وَاسْتَوْضَحَ اعْتِبَارَ وَقْتِ الرَّمْيِ بِمَا إذَا رَمَى صَيْدًا ثُمَّ ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ أَصَابَ فَإِنَّ رِدَّتَهُ بَعْدَ الرَّمْيِ لَا تَحْرُمُ لِأَنَّ فِعْلَهُ ذَكَاةٌ شَرْعًا وَقَدْ تَمَّ مُوجِبًا لِلْحِلِّ بِشَرْطِهِ وَهُوَ التَّسْمِيَةُ ، وَبِمَا إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً فَكَفَّرَ بَعْدَ الرَّمْيِ قَبْلَ الْإِصَابَةِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَنْسَبُ مِمَّا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ حَتَّى جَازَ بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ لِإِمْكَانِ اعْتِبَارِ وَقْتِ الْإِصَابَةِ هُنَاكَ .
فَإِنْ قِيلَ : إنْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمْ صَحِيحًا بِجَمِيعِ مُقَدِّمَاتِهِ وَالْفِعْلُ عَمْدٌ فَالْوَاجِبُ الْقِصَاصُ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَالْفِعْلُ وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَالْقَوَدُ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ ) يَعْنِي الشُّبْهَةَ النَّاشِئَةَ مِنْ اعْتِبَارِ حَالَةِ الْإِصَابَةِ ( وَوَجَبَتْ الدِّيَةُ ) أَيْ فِي مَالِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِالْعَكْسِ
فَلَا شَيْءَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .
( وَلَوْ رَمَى إلَيْهِ وَهُوَ مُرْتَدٌّ فَأَسْلَمَ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، وَكَذَا إذَا رَمَى حَرْبِيًّا فَأَسْلَمَ ) لِأَنَّ الرَّمْيَ مَا انْعَقَدَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لِعَدَمِ تَقَوُّمِ الْمَحِلِّ فَلَا يَنْقَلِبُ مُوجِبًا لِصَيْرُورَتِهِ مُتَقَوِّمًا بَعْدَ ذَلِكَ .( وَكَذَا إذَا رَمَى حَرْبِيًّا فَأَسْلَمَ ) ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ ( لِأَنَّ الرَّمْيَ مَا انْعَقَدَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لِعَدَمِ تَقَوُّمِ الْمَحَلِّ فَلَا يَنْقَلِبُ مُوجِبًا لِصَيْرُورَتِهِ مُتَقَوِّمًا بَعْدَ ذَلِكَ ) وَنُوقِضَ بِمَا إذَا رَمَى إلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَدَخَلَ الْحَرَمَ ثُمَّ أَصَابَهُ السَّهْمُ فَمَاتَ وَجَبَ الْجَزَاءُ عَلَى الرَّامِي .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ جَزَاءَ صَيْدِ الْحَرَمِ لَا يَخْتَصُّ بِالْفِعْلِ وَلِهَذَا يَجِبُ بِدَلَالَةِ الْمُحْرِمِ وَإِشَارَتِهِ وَهَذَا لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ .
قَالَ : ( وَإِنْ رَمَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ وَقَعَ السَّهْمُ بِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلْمَوْلَى ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : عَلَيْهِ فَضْلُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مَرْمِيًّا إلَى غَيْرِ مَرْمِيٍّ ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
لَهُ أَنَّ الْعِتْقَ قَاطِعٌ لِلسِّرَايَةِ ، وَإِذَا انْقَطَعَتْ بَقِيَ مُجَرَّدُ الرَّمْيِ وَهُوَ جِنَايَةٌ يَنْتَقِصُ بِهَا قِيمَةُ الْمَرْمِيِّ إلَيْهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا قَبْلَ الرَّمْيِ فَيَجِبُ ذَلِكَ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ يَصِيرُ قَاتِلًا مِنْ وَقْتِ الرَّمْيِ لِأَنَّ فِعْلَهُ الرَّمْيَ وَهُوَ مَمْلُوكٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ ، بِخِلَافِ الْقَطْعِ وَالْجُرْحِ لِأَنَّهُ إتْلَافُ بَعْضِ الْمَحِلِّ ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ لِلْمَوْلَى ، وَبَعْدَ السِّرَايَةِ لَوْ وَجَبَ شَيْءٌ لَوَجَبَ لِلْعَبْدِ فَتَصِيرُ النِّهَايَةُ مُخَالِفَةً لِلْبِدَايَةِ .
أَمَّا الرَّمْيُ قَبْلَ الْإِصَابَةِ لَيْسَ بِإِتْلَافِ شَيْءٍ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْمَحَلِّ .
وَإِنَّمَا قَلَّتْ الرَّغَبَاتُ فِيهِ فَلَا يَجِبُ بِهِ ضَمَانٌ فَلَا تَتَخَالَفُ النِّهَايَةُ وَالْبِدَايَةُ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ لِلْمَوْلَى .
وَزُفَرُ وَإِنْ كَانَ يُخَالِفُنَا فِي وُجُوبِ الْقِيمَةِ نَظَرًا إلَى حَالَةِ الْإِصَابَةِ فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا حَقَقْنَاهُ .
( وَإِنْ رَمَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : عَلَيْهِ فَضْلُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مَرْمِيًّا إلَى غَيْرِ مَرْمِيٍّ ) حَتَّى لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قَبْلَ الرَّمْيِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَبَعْدَهُ ثَمَانَمِائَةِ دِرْهَمٍ لَزِمَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، لِأَنَّ الْعِتْقَ قَاطِعٌ لِلسِّرَايَةِ لِاشْتِبَاهِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ، لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ حَالَ ابْتِدَاءِ الْجِنَايَةِ الْمَوْلَى وَحَالَ الْإِصَابَةِ الْعَبْدُ لِحُرِّيَّتِهِ ، فَصَارَ الْعِتْقُ بِمَنْزِلَةِ الْبُرْءِ كَمَا إذَا قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ أَوْ جَرَحَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ سَرَى فَإِنَّ الْعِتْقَ يَقْطَعُ السِّرَايَةَ حَتَّى لَا يَجِبَ بَعْدَ الْعِتْقِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ وَالْقِيمَةِ وَإِنَّمَا يَضْمَنُ النُّقْصَانَ .
وَإِذَا انْقَطَعَتْ السِّرَايَةُ بَقِيَ مُجَرَّدُ الرَّمْيِ وَهِيَ جِنَايَةٌ تَنْتَقِصُ بِهَا قِيمَةُ الْمَرْمِيِّ إلَيْهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا قَبْلَ الرَّمْيِ فَيَجِبُ ذَلِكَ : أَيْ فَضْلُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مَرْمِيًّا إلَى غَيْرِ مَرْمِيٍّ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ يَصِيرُ قَاتِلًا إلَى آخِرِ مَا فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ مَا إذَا رَمَى مُسْلِمًا فَارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ قَبْلَ الْإِصَابَةِ حَيْثُ اُعْتُبِرَ هُنَاكَ حَالَةَ الْإِصَابَةِ وَهَاهُنَا حَالَةَ الرَّمْيِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَرْمِيَّ إلَيْهِ خَرَجَ بِالِارْتِدَادِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا وَالضَّمَانُ يَعْتَمِدُ الْعِصْمَةَ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالْمُنَافِي .
وَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي الْعِصْمَةَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ لِلْمَوْلَى ، وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَعْتَبِرُ وَقْتَ الرَّمْيِ إلَّا فِي صُورَةِ الِارْتِدَادِ ( وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ الْقَطْعِ وَالْجَرْحِ ) جَوَابٌ عَمَّا ذَكَرْنَا لِمُحَمَّدٍ مِنْ صُورَةِ الْجَرْحِ وَالْقَطْعِ اسْتِشْهَادًا عَلَى قَطْعِ السِّرَايَةِ ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْعِتْقَ فِيهِمَا
يُوجِبُ قَطْعَ السِّرَايَةِ لِاخْتِلَافِ نِهَايَةِ الْجِنَايَةِ وَبِدَايَتِهَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَبَدُّلِ الْمَحَلِّ وَلَا نُسَلِّمُ تَحَقُّقَهُ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ ، لِأَنَّ الرَّمْيَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ لَيْسَ بِإِتْلَافِ شَيْءٍ مِنْهُ لِعَدَمِ أَثَرٍ مِنْهُ فِي الْمَحَلِّ ، وَإِنَّمَا تَقِلُّ بِهِ الرَّغَبَاتُ فَلَمْ يُخَالِفْ الِانْتِهَاءُ الِابْتِدَاءَ ، فَتَجِبُ قِيمَتُهُ لِلْمَوْلَى .
وَزُفَرُ وَإِنْ كَانَ يُخَالِفُنَا فِي وُجُوبِ الْقِيمَةِ يَعْنِي وَيَقُولُ بِالدِّيَةِ نَظَرًا إلَى حَالَةِ الْإِصَابَةِ فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا حَقَقْنَاهُ ، وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ إلَخْ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ : ( وَمَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ فَرَمَاهُ رَجُلٌ ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُ الشُّهُودِ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ الْحَجَرُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّامِي ) لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الرَّمْيِ وَهُوَ مُبَاحُ الدَّمِ فِيهَا .
( وَإِذَا رَمَى الْمَجُوسِيُّ صَيْدًا ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ وَقَعَتْ الرَّمْيَةُ بِالصَّيْدِ لَمْ يُؤْكَلْ ، وَإِنْ رَمَاهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ ثُمَّ تَمَجَّسَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ أُكِلَ ) لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالُ الرَّمْيِ فِي حَقِّ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ إذْ الرَّمْيُ هُوَ الذَّكَاةُ فَتُعْتَبَرُ الْأَهْلِيَّةُ وَانْسِلَابُهَا عِنْدَهُ .
( وَلَوْ رَمَى الْمُحْرِمُ صَيْدًا ثُمَّ حَلَّ فَوَقَعَتْ الرَّمْيَةُ بِالصَّيْدِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ، وَإِنْ رَمَى حَلَالٌ صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِالتَّعَدِّي وَهُوَ رَمْيُهُ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ ، وَفِي الْأَوَّلِ هُوَ مُحْرِمٌ وَقْتَ الرَّمْيِ وَفِي الثَّانِي حَلَالٌ فَلِهَذَا افْتَرَقَا .
قَالَ ( وَفِي شِبْهِ الْعَمْدِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَكَفَّارَةٌ عَلَى الْقَاتِلِ ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أَوَّلِ الْجِنَايَاتِ .
قَالَ : ( وَكَفَّارَتُهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } الْآيَةُ ( فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ) بِهَذَا النَّصِّ ( وَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الْإِطْعَامُ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ وَالْمَقَادِيرُ تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَذْكُورَ كُلَّ الْوَاجِبِ بِحَرْفِ الْفَاءِ ، أَوْ لِكَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ عَلَى مَا عُرِفَ ( وَيُجْزِئُهُ رَضِيعُ أَحَدِ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ ) لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ بِهِ وَالظَّاهِرُ بِسَلَامَةِ أَطْرَافِهِ ( وَلَا يُجْزِئُ مَا فِي الْبَطْنِ ) لِأَنَّهُ لَا تُعْرَفُ حَيَاتُهُ وَلَا سَلَامَتُهُ .
( كِتَابُ الدِّيَاتِ ) ذِكْرُ الدِّيَاتِ بَعْدَ الْجِنَايَاتِ ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ لِمَا أَنَّ الدِّيَةَ إحْدَى مُوجَبَيْ الْجِنَايَةِ الْمَشْرُوعَيْنِ لِلصِّيَانَةِ ، لَكِنَّ الْقِصَاصَ أَشَدُّ صِيَانَةً فَقُدِّمَ ، وَمَحَاسِنُهَا مَحَاسِنُ الْقِصَاصِ ، وَالدِّيَةُ مَصْدَرٌ مِنْ وَدَى الْقَاتِلُ الْمَقْتُولَ إذَا أَعْطَى وَلِيَّهُ الْمَالَ الَّذِي هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ كَالْعِدَةِ مِنْ وَعَدَ .
قَالَ ( وَفِي شِبْهِ الْعَمْدِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ ) شِبْهُ الْعَمْدِ قَدْ تَقَدَّمَ مَعَنَا .
وَحُكْمُهُ الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَكَفَّارَةٌ عَلَى الْقَاتِلِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أَوَّلِ الْجِنَايَاتِ ( وَكَفَّارَتُهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } ) إلَى قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } الْآيَةَ ، وَهُوَ نَصُّ كَوْنِهَا بِالتَّحْرِيرِ أَوْ الصَّوْمِ فَقَطْ ( فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الْإِطْعَامُ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ ، وَالْمَقَادِيرُ تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ ) وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَذْكُورَ كُلَّ الْوَاجِبِ ) اسْتِدْلَالٌ مِنْ الْآيَةِ بِوَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ : أَحَدُهُمَا بِالنَّظَرِ إلَى الْفَاءِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاقِعَ بَعْدَ فَاءِ الْجَزَاءِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلَّ الْجَزَاءِ ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَالْتَبَسَ فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الْجَزَاءُ أَوْ بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ وَمِثْلُهُ مُخِلٌّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفِي نِيَّتِهِ أَنْ يَقُولَ وَعَبْدِي حُرٌّ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَا يَكُونُ الْجَزَاءُ إلَّا الْمَذْكُورَ لِئَلَّا يَخْتَلَّ الْفَهْمُ وَالْآخَرُ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَذْكُورِ : يَعْنِي لَوْ كَانَ الْغَيْرُ مُرَادًا لَذَكَرَهُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ ، وَالسُّكُوتُ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ بَيَانٌ ( عَلَى مَا عُرِفَ ) يَعْنِي فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ( وَيَجْزِيهِ رَضِيعٌ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ ) لِأَنَّ شَرْطَ هَذَا الْإِعْتَاقِ الْإِسْلَامُ وَسَلَامَةُ الْأَطْرَافِ ، وَالْأَوَّلُ يَحْصُلُ
بِإِسْلَامِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ وَالثَّانِي بِالظُّهُورِ ، إذْ الظَّاهِرُ سَلَامَةُ أَطْرَافِهِ ، وَلَا يَجْزِيهِ مَا فِي الْبَطْنِ لِأَنَّهُ لَمْ تُعْرَفْ حَيَاتُهُ وَلَا سَلَامَتُهُ .
قَالَ ( وَهُوَ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ ) لِمَا تَلَوْنَاهُ ( وَدِيَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَاعًا : خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ أَثْلَاثًا : ثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَثَلَاثُونَ حِقَّةً ، وَأَرْبَعُونَ ثَنِيَّةً ، كُلُّهَا خَلْفَاتٌ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا ، وَفِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا } وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً ، وَلِأَنَّ دِيَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ أَغْلَظُ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا .
وَلَهُمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } وَمَا رَوَيَاهُ غَيْرُ ثَابِتٍ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي صِفَةِ التَّغْلِيظِ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بِالتَّغْلِيظِ أَرْبَاعًا كَمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ كَالْمَرْفُوعِ فَيُعَارَضُ بِهِ .
قَالَ ( وَلَا يَثْبُتُ التَّغْلِيظُ إلَّا فِي الْإِبِلِ خَاصَّةً ) لِأَنَّ التَّوْقِيفَ فِيهِ ، فَإِنْ قَضَى بِالدِّيَةِ فِي غَيْرِ الْإِبِلِ لَمْ تَتَغَلَّظْ لِمَا قُلْنَا .
قَالَ ( وَهُوَ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ لِمَا تَلَوْنَا ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } ( وَدِيَتُهُ ) أَيْ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَاعًا : خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً ) وَلَمْ يَذْكُرْ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ عَامَّةِ الْكُتُبِ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ : ثَلَاثُونَ جَذَعَةً ، وَثَلَاثُونَ حِقَّةً ، وَأَرْبَعُونَ ثَنِيَّةً كُلُّهَا خَلِفَاتٌ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا ) وَالْخَلِفَاتُ جَمْعُ خَلِفَةٍ : وَهِيَ الْحَوَامِلُ مِنْ النُّوقِ ، فَقَوْلُهُ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا صِفَةٌ كَاشِفَةٌ ، وَالضَّمِيرُ فِي كُلِّهَا لِلثَّنِيَّةِ ، وَاسْتَدَلَّا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلَ السَّوْطِ وَالْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادِهَا } ( وَلِأَنَّ دِيَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ أَغْلَظُ ) يَعْنِي مِنْ دِيَةِ الْخَطَأِ الْمَحْضِ ، فَإِنَّ الْإِبِلَ فِيهِ تَجِبُ أَخْمَاسًا ( وَذَلِكَ ) أَيْ كَوْنُهُ أَغْلَظَ ( فِيمَا قُلْنَا ) لِأَنَّا نَقُولُ أَثْلَاثًا وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ أَرْبَاعًا ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } ) وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ الثَّابِتَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى صِفَةٍ مِنْ التَّغْلِيظِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَمَا رَوَيَاهُ غَيْرُ ثَابِتٍ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي صِفَةِ التَّغْلِيظِ ، فَإِنَّ عُمَرَ وَزَيْدًا وَغَيْرَهُمَا قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَا ، وَقَالَ عَلِيٌّ : تَجِبُ أَثْلَاثًا ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ حِقَّةً ، وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً ، وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ خَلِفَةً .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِمِثْلِ مَا قُلْنَا أَرْبَاعًا ، وَالرَّأْيُ لَا
مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّقَادِيرِ فَكَانَ كَالْمَرْفُوعِ وَيَصِيرُ مُعَارِضًا لِمَا رَوَيَاهُ ، وَإِذَا تَعَارَضَا كَانَ الْأَخْذُ بِالْمُتَيَقَّنِ أَوْلَى .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَثْبُتُ التَّغْلِيظُ إلَّا فِي الْإِبِلِ خَاصَّةً ) يَعْنِي لَا يُزَادُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَلَى عَشَرَةِ الْأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ أَلْفِ دِينَارٍ .
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ : تُغَلَّظُ فِي النَّوْعَيْنِ الْآخَرَيْنِ : أَيْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بِأَنْ يُنْظَرَ إلَى قِيمَةِ أَسْنَانِ الْإِبِلِ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ وَإِلَى قِيمَةِ أَسْنَانِ الْإِبِلِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ ، فَمَا زَادَ عَلَى أَسْنَانِ دِيَةِ الْخَطَأِ يُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ إنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ ، وَيُزَادُ عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ ، لِأَنَّ التَّغْلِيظَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ شُرِعَ فِي الْإِبِلِ بِزِيَادَةِ جِنَايَةٍ وُجِدَتْ مِنْهُ وَلَمْ تُوجَدْ فِي الْخَطَأِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْحَجَرَيْنِ فَيَجِبُ التَّغْلِيظُ فِيهِمَا .
وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ التَّغْلِيظَ فِي الْإِبِلِ ثَبَتَ تَوْقِيفًا فَلَا يَثْبُتُ فِي غَيْرِهِ قِيَاسًا لِأَنَّهُ يَأْبَى التَّغْلِيظَ ، لِأَنَّ عَمْدَ الْإِتْلَافِ وَخَطَأَهُ فِي بَابِ الْغُرْمِ سَوَاءٌ ، وَلَا دَلَالَةَ لِئَلَّا يَبْطُلَ الْمِقْدَارُ الثَّابِتُ بِصَرِيحِ النَّصِّ بِالدَّلَالَةِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ التَّوْقِيفَ فِيهِ .
قَالَ ( وَقَتْلُ الْخَطَأِ تَجِبُ بِهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْقَاتِلِ ) لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ .
قَالَ : ( وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَخْمَاسًا عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً ) وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَخَذْنَا نَحْنُ وَالشَّافِعِيُّ بِهِ لِرِوَايَتِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي قَتِيلٍ قُتِلَ خَطَأً أَخْمَاسًا } عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ ، وَلِأَنَّ مَا قُلْنَاهُ أَخَفُّ فَكَانَ أَلْيَقَ بِحَالَةِ الْخَطَإِ لِأَنَّ الْخَاطِئَ مَعْذُورٌ ، غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقْضِي بِعِشْرِينَ ابْنَ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنِ مَخَاضٍ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ .
قَالَ ( وَمِنْ الْعَيْنِ أَلْفُ دِينَارٍ وَمِنْ الْوَرِقِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : مِنْ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى بِذَلِكَ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى بِالدِّيَةِ فِي قَتِيلٍ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ } .
وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَضَى مِنْ دَرَاهِمَ كَانَ وَزْنُهَا وَزْنَ سِتَّةٍ وَقَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ .
قَالَ ( وَلَا تَثْبُتُ الدِّيَةُ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا مِنْهَا وَمِنْ الْبَقَرِ مِائَتَا بَقَرَةٍ ، وَمِنْ الْغَنَمِ أَلْفَا شَاةٍ ، وَمِنْ الْحُلَلِ مِائَتَا حُلَّةٍ كُلُّ حُلَّةٍ ثَوْبَانِ ) .
لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَكَذَا جَعَلَ عَلَى أَهْلِ كُلِّ مَالٍ مِنْهَا .
وَلَهُ أَنَّ التَّقْدِيرَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ بِشَيْءٍ مَعْلُومِ الْمَالِيَّةِ ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَجْهُولَةُ الْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا لَا يُقَدَّرُ بِهَا ضَمَانٌ ، وَالتَّقْدِيرُ بِالْإِبِلِ عُرِفَ بِالْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ وَعَدِمْنَاهَا فِي غَيْرِهَا .
وَذُكِرَ فِي الْمُعَاقِلِ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ عَلَى الزِّيَادَةِ
عَلَى مِائَتَيْ حُلَّةٍ أَوْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ لَا يَجُوزُ ، وَهَذَا آيَةُ التَّقْدِيرِ بِذَلِكَ .
ثُمَّ قِيلَ : هُوَ قَوْلُ الْكُلِّ فَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ ، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُهُمَا .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ ) يَعْنِي فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ .
قَالَ ( وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَخْمَاسًا ) قِيلَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ كَانَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ فِي الْخَطَأِ ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى الْمِائَةِ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي سِنِّهَا ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : عِشْرُونَ بِنْتِ مَخَاضٍ ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ ، وَعِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ ، وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً .
وَبِهِ أَخَذْنَا نَحْنُ وَالشَّافِعِيُّ ، لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَضَى فِي قَتِيلٍ قُتِلَ خَطَأً أَخْمَاسًا } عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ .
وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ أَوْجَبَ أَرْبَاعًا : خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً ، وَالْمَقَادِيرُ لَا تُعْرَفُ إلَّا سَمَاعًا لَكِنَّ مَا قُلْنَا أَخَفُّ وَكَانَ أَوْلَى بِحَالِ الْخَطَأِ لِأَنَّ الْخَاطِئَ مَعْذُورٌ ( قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَبِهِ أَخَذْنَا وَالشَّافِعِيُّ : يَعْنِي أَنَّهُ يَقْضِي بِعِشْرِينَ ابْنَ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنِ مَخَاضٍ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَلْيَقُ بِحَالِ الْخَطَأِ ( وَقَوْلُهُ وَمِنْ الْعَيْنِ ) يَعْنِي الذَّهَبِ ( أَلْفُ دِينَارٍ وَمِنْ الْوَرِقِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ ) يَعْنِي وَزْنَ سَبْعَةٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : مِنْ الْوَرِقِ : أَيْ الْفِضَّةِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِذَلِكَ .
وَلَنَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَضَى بِالدِّيَةِ فِي قَتِيلٍ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ } فَتَعَارَضَا فَيَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ تَأْوِيلَ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ قَضَى مِنْ دَرَاهِمَ كَانَ وَزْنُهَا وَزْنَ سِتَّةٍ ، وَقَدْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ كَذَلِكَ إلَى
عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَبْطَلَ عُمَرُ ذَلِكَ الْوَزْنَ .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ : رَوَى عُمَرُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ } ثُمَّ قَالَ : وَقَدْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ كَذَلِكَ : يَعْنِي إلَى عَهْدِ عُمَرَ وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ .
وَالثَّانِي أَنَّ وَزْنَ سِتَّةٍ يَزِيدُ عَلَيْهِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا فَلَا يَكُونُ التَّأْوِيلُ كَذَلِكَ صَحِيحًا .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَنْقُولَ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزْنُ الدَّرَاهِمِ وَزْنَ سِتَّةٍ ثُمَّ صَارَ وَزْنَ سَبْعَةٍ ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي آخِرِ عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْخَذُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَزْنُ سَبْعَةٍ أَيْضًا وَلَا تَنَاقُضَ حِينَئِذٍ .
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ شَيْخَ الْإِسْلَامِ قَالَ فِي مَبْسُوطِهِ : يُحْتَمَلُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ كَانَتْ وَزْنَ سِتَّةٍ إلَّا شَيْئًا ، إلَّا أَنَّهُ أُضِيفَ الْوَزْنُ إلَى سِتَّةٍ تَقْرِيبًا ، وَقَوْلُهُ ( وَلَا تَثْبُتُ الدِّيَةُ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : مِنْهَا ) أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ ( وَمِنْ الْبَقَرِ مِائَتَا بَقَرَةٍ ، وَمِنْ الْغَنَمِ أَلْفَا شَاةٍ ، وَمِنْ الْحُلَلِ مِائَتَا حُلَّةً كُلُّ حُلَّةٍ ثَوْبَانِ ) وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ : قِيمَةُ كُلِّ بَقَرَةٍ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، وَقِيمَةُ كُلِّ شَاةٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ .
وَقِيمَةُ كُلِّ حُلَّةٍ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، قَالَ الْمُصَنِّفُ : كُلُّ حُلَّةٍ ثَوْبَانِ ، قِيلَ هُمَا إزَارٌ وَرِدَاءٌ هُوَ الْمُخْتَارُ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَقِيلَ فِي دِيَارِنَا قَمِيصٌ وَسَرَاوِيلُ .
قَالَ : وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِيمَا إذَا صَالَحَ الْقَاتِلُ مَعَ وَلِيِّ الْقَتِيلِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ يَجُوزُ ، كَمَا لَوْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ فَرَسٍ
وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ عُمَرَ هَكَذَا جَعَلَ عَلَى أَهْلِ كُلِّ مَالٍ مِنْهَا ) قَالَ أَبُو يُوسُفَ : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُبَيْدَة السَّلْمَانِيِّ قَالَ : وَضَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الدِّيَاتِ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَعَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ ، وَعَلَى أَهْلِ الشِّيَاهِ أَلْفَيْ شَاةٍ ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّقْدِيرَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ بِشَيْءٍ مَعْلُومِ الْمَالِيَّةِ ) وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ ، وَلِهَذَا لَا يُقَدَّرُ بِهَا ضَمَانُ شَيْءٍ مِمَّا وَجَبَ ضَمَانُهُ بِالْإِتْلَافِ أَوْ غَيْرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالْإِبِلُ كَذَلِكَ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَالتَّقْدِيرُ بِالْإِبِلِ عُرِفَ بِالْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ ) كَمَا رَوَيْنَاهَا ( وَعَدِمْنَاهَا فِي غَيْرِهَا ) فَإِنْ قِيلَ : فَلْيَلْحَقْ بِهَا دَلَالَةً .
قُلْنَا : حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ( وَقَوْلُهُ وَذَكَرَ فِي الْمَعَاقِلِ ) أَيْ فِي مَعَاقِلِ الْمَبْسُوطِ : أَوْرَدَ هَذَا شُبْهَةً عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا تَثْبُتُ الدِّيَةُ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ وَوَجْهُ وُرُودِهَا أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي الْمَعَاقِلِ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ الْوَلِيُّ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ شَاةٍ أَوْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ أَوْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ حُلَّةٍ لَا يَجُوزُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِيهِ .
وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ أَيْضًا مِنْ الْأُصُولِ الْمُقَدَّرَةِ فِي الدِّيَةِ عِنْدَهُ أَيْضًا .
وَذَكَرَ الْجَوَابَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا يُقَرِّرُ الشُّبْهَةَ وَيَرْفَعُ الْخِلَافَ ، وَلَا أَرَى صِحَّتَهُ لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ رِوَايَةَ كِتَابِ الدِّيَاتِ كَمَا مَرَّ آنِفًا .
وَالثَّانِي يَرْفَعُهَا بِحَمْلِ
رِوَايَةِ الْمَعَاقِلِ عَلَى أَنَّهَا قَوْلُهُمَا ، وَحَمَلَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ عَنْهُ رِوَايَتَيْنِ .
قَالَ : ( وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ ) وَقَدْ وَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : مَا دُونَ الثُّلُثِ لَا يُتَنَصَّفُ ، وَإِمَامُهُ فِيهِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ بِعُمُومِهِ ، وَلِأَنَّ حَالَهَا أَنْقَصُ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ وَمَنْفَعَتُهَا أَقَلُّ ، وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ النُّقْصَانِ بِالتَّنْصِيفِ فِي النَّفْسِ فَكَذَا فِي أَطْرَافِهَا وَأَجْزَائِهَا اعْتِبَارًا بِهَا وَبِالثُّلُثِ وَمَا فَوْقَهُ .
قَالَ ( وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ إلَخْ ) دِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ ، وَقَدْ وَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ وَمَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْمَوْقُوفُ فِي مِثْلِهِ كَالْمَرْفُوعِ ، إذْ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : مَا دُونَ الثُّلُثِ لَا يَتَنَصَّفُ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : الصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الثُّلُثُ وَمَا دُونَهُ لَا يَتَنَصَّفُ .
وَذَكَرَ فِي دِيَاتِ الْمَبْسُوطِ : وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَقُولُ : إنَّهَا تُعَاقِلُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ دِيَتِهَا : يَعْنِي إذَا كَانَ الْأَرْشُ بِقَدْرِ ثُلُثِ الدِّيَةِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ فَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِيهِ سَوَاءٌ ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَحِينَئِذٍ حَالُهَا فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ هَذَا فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ اعْتِبَارًا بِهَا وَبِالثُّلُثِ وَمَا فَوْقَهُ .
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالُ : اعْتِبَارًا بِهَا وَبِمَا فَوْقَ الثُّلُثِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَالَ فِي شَرْحِ الْكَافِي : قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ : بَلَغَنَا عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : دِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ .
قَالَ : وَبِذَلِكَ نَأْخُذُ ، ثُمَّ قَالَ : وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : ثُلُثُ الدِّيَةِ وَمَا فَوْقَهَا يَتَنَصَّفُ وَمَا دُونَهُ لَا يَتَنَصَّفُ ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ ، وَهَذَا يُصَحِّحُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ .
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { تُعَاقِلُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ } وَبِمَا حُكِيَ عَنْ رَبِيعَةَ قَالَ : قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : مَا تَقُولُ فِيمَنْ قَطَعَ أُصْبُعَ امْرَأَةٍ قَالَ : عَلَيْهِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ ، قُلْت : فَإِنْ قَطَعَ أُصْبُعَيْنِ مِنْهَا ؟ قَالَ : عَلَيْهِ عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ ، قُلْت : فَإِنْ قَطَعَ ثَلَاثَ أَصَابِعَ ؟ قَالَ : عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ مِنْ الْإِبِلِ ، قُلْت : فَإِنْ قَطَعَ أَرْبَعَ أَصَابِعَ ؟ قَالَ
: عَلَيْهِ عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ ، قُلْت : سُبْحَانَ اللَّهِ لَمَّا كَثُرَ أَلَمُهَا وَاشْتَدَّ مُصَابُهَا قَلَّ أَرْشُهَا ؟ قَالَ : أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ ؟ فَقُلْت لَا بَلْ جَاهِلٌ مُسْتَرْشِدٌ أَوْ عَاقِلٌ مُسْتَثْبِتٌ ، فَقَالَ : إنَّهُ السُّنَّةُ .
وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ : السُّنَّةُ إذَا أُطْلِقَتْ فَالْمُرَادُ بِهَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ بِعُمُومِهِ ، وَأَنَّ حَالَهَا أَنْقَصُ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } وَمَنْفَعَتُهَا أَقَلُّ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ التَّزَوُّجِ بِأَكْثَرَ مِنْ زَوْجٍ وَاحِدٍ ، وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ النُّقْصَانِ فِي التَّنْصِيفِ فِي النَّفْسِ فَكَذَا فِي أَطْرَافِهَا وَأَجْزَائِهَا اعْتِبَارًا بِالنَّفْسِ وَبِالثُّلُثِ وَمَا فَوْقَهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ مُخَالَفَةُ التَّبَعِ لِلْأَصْلِ ، وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ نَادِرٌ ، وَمِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ الَّذِي يُحِيلُهُ عَقْلُ كُلِّ عَاقِلٍ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالشَّاذِّ النَّادِرِ ، وَقَوْلُ سَعِيدٍ إنَّهُ السُّنَّةُ يُرِيدُ بِهِ سُنَّةَ زَيْدٍ ، فَإِنَّ كِبَارَ الصَّحَابَةِ أَفْتَوْا بِخِلَافِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ سُنَّةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَا خَالَفُوهَا .
قَالَ : ( وَدِيَةُ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ سَوَاءٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ : دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَقْلُ الْكَافِرِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِ } وَالْكُلُّ عِنْدَهُ اثْنَا عَشْرَ أَلْفًا .
وَلِلشَّافِعِيِّ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَدِيَةَ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ } .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { دِيَةُ كُلِّ ذِي عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ أَلْفُ دِينَارٍ } وَكَذَلِكَ قَضَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يُعْرَفْ رَاوِيهِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ ، وَمَا رَوَيْنَاهُ أَشْهُرُ مِمَّا رَوَاهُ مَالِكٌ فَإِنَّهُ ظَهَرَ بِهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
قَالَ ( وَدِيَةُ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ سَوَاءٌ ) دِيَةُ الذِّمِّيِّ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ رِجَالُهُمْ كَرِجَالِهِمْ وَنِسَاؤُهُمْ كَنِسَائِهِمْ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا ، وَكَلَامُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ وَاضِحٌ .
وَقَدْ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ } وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دِمَاءَ غَيْرِهِمْ لَا تَتَكَافَأُ ، وَلِأَنَّ نُقْصَانَ الْكُفْرِ فَوْقَ نُقْصَانِ الْأُنُوثَةِ ، وَبِالْأُنُوثَةِ تَنْقُصُ الدِّيَةُ فَبِالْكُفْرِ أَوْلَى ، وَبِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ وَبِهِ تَنْقُصُ الدِّيَةُ فَبِالْكُفْرِ الْمُوجِبِ لَهُ أَوْلَى .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْآيَتَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ أَحْكَامُ الْآخِرَةِ عَلَى أَنَّهُمَا لَا يُعَارِضَانِ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَالْمَعْهُودُ مِنْ الدِّيَةِ الدِّيَةُ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ .
وَعَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ، وَعَنْ الْمَعْقُولِ بِأَنَّ النُّقْصَانَ بِالْأُنُوثَةِ وَالرِّقِّ مِنْ حَيْثُ النُّقْصَانُ فِي الْمَالِكِيَّةِ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَمْلِكُ الْمَالَ دُونَ النِّكَاحِ ، وَكَذَلِكَ الرِّقُّ يُوجِبُ نُقْصَانَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَالذِّمِّيُّ يُسَاوِي الْمُسْلِمَ فِي الْمَالِكِيَّةِ فَكَذَلِكَ فِي الدِّيَةِ ، وَلَا يَرْتَابُ أَحَدٌ أَنَّ نَفْسَ كُلِّ شَخْصٍ أَعَزَّ مِمَّا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ ، وَالذِّمِّيُّ يُسَاوِي الْمُسْلِمَ فِي ضَمَانِ مَالِهِ إذَا أُتْلِفَ فَفِي النَّفْسِ أَوْلَى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ كَانَتْ مِثْلَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ مُعَاوِيَةَ جَعَلَهَا عَلَى النِّصْفِ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ لِشُهْرَتِهِ : إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا ، وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : دِيَةُ الذِّمِّيِّ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ، وَمَا رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَى ذِمِّيًّا قُتِلَ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ } لَكَانَ لَنَا مِنْ الظُّهُورِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ
( فَصْلٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ) قَالَ : ( وَفِي النَّفْسِ الدِّيَةُ ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .
قَالَ ( وَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ ، وَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ } وَهَكَذَا هُوَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَالْأَصْلُ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّهُ إذَا فَوَّتَ جِنْسَ مَنْفَعَةٍ عَلَى الْكَمَالِ أَوْ أَزَالَ جَمَالًا مَقْصُودًا فِي الْآدَمِيِّ عَلَى الْكَمَالِ يَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ لِإِتْلَافِهِ النَّفْسَ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْإِتْلَافِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ .
أَصْلُهُ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدِّيَةِ كُلِّهَا فِي اللِّسَانِ وَالْأَنْفِ ، وَعَلَى هَذَا تَنْسَحِبُ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ فَنَقُولُ : فِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ لِأَنَّهُ أَزَالَ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ وَهُوَ مَقْصُودٌ ، وَكَذَا إذَا قَطَعَ الْمَارِنَ أَوْ الْأَرْنَبَةَ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ قَطَعَ الْمَارِنَ مَعَ الْقَصَبَةِ لَا يُزَادُ عَلَى دِيَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ عُضْوٌ وَاحِدٌ ، وَكَذَا اللِّسَانُ لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ مَقْصُودَةٍ وَهُوَ النُّطْقُ ، وَكَذَا فِي قَطْعِ بَعْضِهِ إذَا مَنَعَ الْكَلَامَ لِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ وَإِنْ كَانَتْ الْآلَةُ قَائِمَةً ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ قِيلَ : تُقْسَمُ عَلَى عَدَدِ الْحُرُوفِ ، وَقِيلَ : عَلَى عَدَدِ حُرُوفٍ تَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ ؛ فَبِقَدْرِ مَا لَا يَقْدِرُ تَجِبُ ، وَقِيلَ : إنْ قَدَرَ عَلَى أَدَاءِ أَكْثَرِهَا تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِحُصُولِ الْإِفْهَامِ مَعَ الِاخْتِلَالِ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الْأَكْثَرِ يَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ مَنْفَعَةُ الْكَلَامِ ، وَكَذَا الذَّكَرُ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ بِهِ مَنْفَعَةَ الْوَطْءِ وَالْإِيلَادِ وَاسْتِمْسَاكِ الْبَوْلِ
وَالرَّمْي بِهِ وَدَفْقِ الْمَاءِ وَالْإِيلَاجِ الَّذِي هُوَ طَرِيقُ الْإِعْلَاقِ عَادَةً ، وَكَذَا فِي الْحَشَفَةِ الدِّيَةُ كَامِلَةً ، لِأَنَّ الْحَشَفَةَ أَصْلٌ فِي مَنْفَعَةِ الْإِيلَاجِ وَالدَّفْقِ وَالْقَصَبَةُ كَالتَّابِعِ لَهُ .
فَصْلٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ النَّفْسِ ذَكَرَ مَا هُوَ تَبَعٌ لَهَا وَهُوَ مَا دُونَهَا .
قَالَ ( وَفِي النَّفْسِ الدِّيَةُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ) وَأَعَادَ ذِكْرَ النَّفْسِ فِي فَصْلِ مَا دُونَ النَّفْسِ تَمْهِيدًا لِذِكْرِ مَا بَعْدَهُ .
وَقَوْلُهُ ذَكَرْنَاهُ : يَعْنِي فِي أَوَائِلِ الْجِنَايَاتِ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ : يَجِبُ الدِّيَةُ بِسَبَبِ إتْلَافِهَا ، كَمَا يُقَالُ فِي النِّكَاحِ حَلَّ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ } .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ ) يَعْنِي فِيمَا دُونَ قَصَبَةِ الْأَنْفِ وَهُوَ مَا لَانَ مِنْهُ كُلُّ مَا لَا ثَانِيَ لَهُ فِي الْبَدَنِ عُضْوًا كَانَ أَوْ مَعْنًى مَقْصُودًا تَجِبُ بِإِتْلَافِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ ، وَمِنْ الْأَعْضَاءِ مَا هُوَ إفْرَادٌ كَالْأَنْفِ وَاللِّسَانِ وَالذَّكَرِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُزْدَوِجٌ كَالْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ وَالشَّفَتَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَثَدْيَيْ الْمَرْأَةِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَرْبَعٌ كَأَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَعْشَارٌ كَأَصَابِع الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ، وَمِنْهَا مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ كَالْأَسْنَانِ ( وَالْأَصْلُ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّهُ إذَا فَوَّتَ جِنْسَ مَنْفَعَةٍ عَلَى الْكَمَالِ أَوْ أَزَالَ جَمَالًا مَقْصُودًا ، فِي الْآدَمِيِّ عَلَى الْكَمَالِ يَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ ) وَقَيَّدَ الْمَنْفَعَةَ وَالْجَمَالَ بِالْكَمَالِ ، لِأَنَّ غَيْرَ الْكَامِلِ لَا يَجِبُ فِيهِ كُلُّ الدِّيَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَفْوِيتُ عُضْوٍ مَقْصُودٍ ، كَمَا إذَا قَطَعَ لِسَانَ الْأَخْرَسِ أَوْ آلَةَ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ وَالْيَدَ الشَّلَّاءَ وَالرِّجْلَ الْعَرْجَاءَ وَالْعَيْنَ الْعَوْرَاءَ وَالسِّنَّ السَّوْدَاءَ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ وَلَا الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ جِنْسَ مَنْفَعَةٍ وَلَا فَوَّتَ جَمَالًا عَلَى الْكَمَالِ ، وَإِنَّمَا فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ ، وَأَمَّا إذَا أَتْلَفَ الْكَامِلَ فَيَجِبُ فِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ ( لِإِتْلَافِهِ كُلَّ النَّفْسِ
مِنْ وَجْهٍ ، وَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْإِتْلَافِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ ، أَصْلُهُ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدِّيَةِ كُلِّهَا فِي اللِّسَانِ وَالْأَنْفِ ، وَعَلَى هَذَا تَنْسَحِبُ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ ) فَإِنْ كَانَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ أَوْ الْكَمَالِ قَائِمًا بِعُضْوٍ وَاحِدٍ فَعِنْدَ إتْلَافِهِ يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِعُضْوَيْنِ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِأَرْبَعَةِ أَعْضَاءٍ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا رُبْعُ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِعَشَرَةٍ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عُشْرُ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِأَكْثَرَ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( قِيلَ تُقْسَمُ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِ الْحُرُوفِ ) يَعْنِي عَلَى جُمْلَةِ الْحُرُوفِ مِمَّا تَعَلَّقَ بِاللِّسَانِ وَغَيْرِهِ ، وَقِيلَ عَلَى عَدَدِ حُرُوفٍ تَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : هِيَ الْأَلِفُ وَالتَّاءُ وَالثَّاءُ وَالْجِيمُ وَالدَّالُ وَالرَّاءُ وَالزَّايُ وَالسِّينُ وَالشِّينُ وَالصَّادُ وَالضَّادُ وَالطَّاءُ وَالظَّاءُ وَاللَّامُ وَالنُّونُ ، وَفِي كَوْنِ الْأَلِفِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرٌ لِأَنَّهُ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ عَلَى مَا عُرِفَ ، فَمَا لَمْ يُمْكِنْهُ إتْيَانُ حَرْفٍ مِنْهَا يَلْزَمُهُ مَا يَخُصُّهُ مِنْ الدِّيَةِ .
رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَطَعَ طَرَفَ لِسَانِ رَجُلٍ فِي زَمَانِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ ( ا ب ت ث ) ، فَكُلَّمَا قَرَأَ حَرْفًا أَسْقَطَ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ ، وَمَا لَمْ يَقْرَأْ أَوْجَبَ مِنْ الدِّيَةِ بِحِسَابِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقِيلِ الْأَوَّلِ ، وَبِهِ صَحَّحَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَبِأَنَّ إقَامَةَ بَعْضِ الْحُرُوفِ وَهُوَ مَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى اللِّسَانِ إنْ تَهَيَّأَتْ بِدُونِ اللِّسَانِ ، لَكِنَّ الْإِفْهَامَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يَتَهَيَّأُ فَيَجِبُ الِامْتِحَانُ بِالْجَمِيعِ ، وَكَذَا إذَا ذَهَبَ سَمْعُهُ أَوْ بَصَرُهُ اخْتَلَفَ طُرُقُ التَّعْبِيرِ عَنْ مَعْرِفَةِ ذَهَابِ هَذِهِ الْحَوَاسِّ ،
فَقِيلَ إذَا صَدَّقَهُ الْجَانِي أَوْ اسْتَحْلَفَهُ عَلَى الْبَتَاتِ وَنَكَلَ ثَبَتَ قِوَامُهَا ، وَقِيلَ يُعْتَبَرُ فِيهِ الدَّلَائِلُ الْمُوَصِّلَةُ إلَى ذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ بِذَلِكَ يُعْتَبَرُ فِيهِ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارُ ، فَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ السَّمْعِ أَنْ يُتَغَافَلَ وَيُنَادَى ، فَإِنْ أَجَابَ عُلِمَ أَنَّهُ يَسْمَعُ .
وَحَكَى النَّاطِفِيُّ عَنْ أَبِي خَازِمٍ الْقَاضِي أَنَّ امْرَأَةً تَطَارَشَتْ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ ، فَاشْتَغَلَ بِالْقَضَاءِ عَنْ النَّظَرِ إلَيْهَا ثُمَّ قَالَ لَهَا فَجْأَةً : غَطِّي عَوْرَتَك ، فَاضْطَرَبَتْ وَتَسَارَعَتْ إلَى جَمْعِ ثِيَابِهَا وَظَهَرَ مَكْرُهَا .
وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَهَابِ الْبَصَرِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الشَّمْسَ مَفْتُوحَ الْعَيْنِ ، فَإِنْ دَمَعَتْ عَيْنُهُ عُلِمَ أَنَّ الضَّوْءَ بَاقٍ ، وَإِنْ لَمْ تَدْمَعْ عُلِمَ أَنَّ الضَّوْءَ ذَاهِبٌ .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يُلْقَى بَيْنَ يَدَيْهِ حَيَّةٌ ، فَإِنْ هَرَبَ مِنْ الْحَيَّةِ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بَصَرُهُ .
وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الشَّمِّ بِأَنْ يُوضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ ، فَإِنْ نَفَرَ عَنْهَا عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ شَمُّهُ .
قَالَ : ( وَفِي الْعَقْلِ إذَا ذَهَبَ بِالضَّرْبِ الدِّيَةُ ) لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْإِدْرَاكِ إذْ بِهِ يَنْتَفِعُ بِنَفْسِهِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ ( وَكَذَا إذَا ذَهَبَ سَمْعُهُ أَوْ بَصَرُهُ أَوْ شَمُّهُ أَوْ ذَوْقُهُ ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ ، وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ فِي ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ ذَهَبَ بِهَا الْعَقْلُ وَالْكَلَامُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ .وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ ) يَعْنِي لَيْسَ فِيهَا اسْتِتْبَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا الْآخَرَ ، بِخِلَافِ قَتْلِ النَّفْسِ حَيْثُ لَا يَجِبُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ تَتْبَعُ النَّفْسَ .
أَمَّا الطَّرَفُ فَلَا يَتْبَعُ طَرَفًا آخَرَ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ لَوْ مَاتَ مِنْ الشَّجَّةِ لَمْ تَلْزَمْهُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَبِفَوَاتِ هَذِهِ الْمَنَافِعِ بِدُونِ الْمَوْتِ أَوْلَى ، فَإِنَّ فِي الْمَوْتِ اسْتِتْبَاعًا دُونَ عَدَمِهِ ، وَعَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
قَالَ : ( وَفِي اللِّحْيَةِ إذَا حُلِقَتْ فَلَمْ تَنْبُتُ الدِّيَةُ ) لِأَنَّهُ يُفَوِّتَ بِهِ مَنْفَعَةَ الْجَمَالِ .
قَالَ ( وَفِي شَعْرِ الرَّأْسِ الدِّيَةُ ) لِمَا قُلْنَا .
وَقَالَ مَالِكٌ : وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ فِيهِمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ ، لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الْآدَمِيِّ ، وَلِهَذَا يُحْلَقُ شَعْرُ الرَّأْسِ كُلُّهُ ، وَاللِّحْيَةُ بَعْضُهَا فِي بَعْضِ الْبِلَادِ وَصَارَ كَشَعْرِ الصَّدْرِ وَالسَّاقِ وَلِهَذَا يَجِبُ فِي شَعْرِ الْعَبْدِ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ .
وَلَنَا أَنَّ اللِّحْيَةَ فِي وَقْتِهَا جَمَالٌ وَفِي حَلْقِهَا تَفْوِيتُهُ عَلَى الْكَمَالِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ كَمَا فِي الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ ، وَكَذَا شَعْرُ الرَّأْسِ جَمَالٌ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ عَدِمَهُ خِلْقَةً يَتَكَلَّفُ فِي سَتْرِهِ ، بِخِلَافِ شَعْرِ الصَّدْرِ وَالسَّاقِ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ جَمَالٌ .
وَأَمَّا لِحْيَةُ الْعَبْدِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا كَمَالُ الْقِيمَةِ ، وَالتَّخْرِيجُ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَبْدِ الْمَنْفَعَةُ بِالِاسْتِعْمَالِ دُونَ الْجَمَالِ بِخِلَافِ الْحُرِّ .وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِهِ مَنْفَعَةُ الْجَمَالِ ، قَالُوا : لَوْ حَلَقَ رَأْسَ إنْسَانٍ أَوْ لِحْيَتَهُ لَا يُطَالَبُ بِالدِّيَةِ حَالَةَ الْحَلْقِ بَلْ يُؤَجَّلُ سَنَةً لِتَصَوُّرِ النَّبَاتِ ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ وَلَمْ يَنْبُتْ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْحَالِقِ ، وَقَالَا : فِيهِ حُكُومَةٌ ، وَشَعْرُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا فِي الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ ) أَيْ الْمُرْتَفِعَتَيْنِ وَصَفَهُمَا لِدَفْعِ إرَادَةِ السَّمْعِ .
وَقَوْلُهُ ( أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا كَمَالُ الْقِيمَةِ ) هِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا بِالدِّيَةِ فِي الْحُرِّ لِفَوَاتِ الْجَمَالِ ( وَالتَّخْرِيجُ عَلَى الظَّاهِرِ ) وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ .
قَالَ : ( وَفِي الشَّارِبِ حُكُومَةُ عَدْلٍ هُوَ الْأَصَحُّ ) لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلِّحْيَةِ فَصَارَ كَبَعْضِ أَطْرَافِهَا .وَقَوْلُهُ ( هُوَ الْأَصَحُّ ) احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : يَجِبُ فِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ عُضْوٌ عَلَى حِدَةٍ وَيَفُوتُ بِهِ الْجَمَالُ
( وَلِحْيَةُ الْكَوْسَجِ إنْ كَانَ عَلَى ذَقَنِهِ شَعَرَاتٌ مَعْدُودَةٌ فَلَا شَيْءَ فِي حَلْقِهِ ) لِأَنَّ وُجُودَهُ يَشِينُهُ وَلَا يَزِينُهُ ( وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ عَلَى الْخَدِّ وَالذَّقَنِ جَمِيعًا لَكِنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ ) لِأَنَّ فِيهِ بَعْضَ الْجَمَالِ ( وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا فَفِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَوْسَجٍ وَفِيهِ مَعْنَى الْجَمَالِ ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا فَسَدَ الْمَنْبَتُ ، فَإِنْ نَبَتَتْ حَتَّى اسْتَوَى كَمَا كَانَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَثَرُ الْجِنَايَةِ وَيُؤَدَّبُ عَلَى ارْتِكَابِهِ مَا لَا يَحِلُّ ، وَإِنْ نَبَتَتْ بَيْضَاءَ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ فِي الْحُرِّ لِأَنَّهُ يَزِيدُ جَمَالًا ، وَفِي الْعَبْدِ تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ يَنْقُصُ قِيمَتُهُ ، وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ يَشِينُهُ وَلَا يَزِينُهُ ، وَيَسْتَوِي الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ عَلَى هَذَا الْجُمْهُورِ .وَقَوْلُهُ ( وَيَسْتَوِي الْخَطَأُ وَالْعَمْدُ ) يَعْنِي كَمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ خَطَأً فَكَذَا إذَا حَلَقَهُمَا عَمْدًا .
قِيلَ وَصُورَةُ حَلْقِهِمَا خَطَأً أَنْ يَظُنَّهُ مُبَاحَ الدَّمِ فَحَلَقَ الْوَلِيُّ لِحْيَتَهُ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ غَيْرُ مُبَاحِ الدَّمِ قِيلَ مُوجَبُ الْقِصَاصِ مَوْجُودٌ إذَا كَانَ عَمْدًا فَمَا الْمَانِعُ عَنْهُ مَعَ الْإِمْكَانِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ وَالْعُقُوبَةُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالنَّصِّ أَوْ دَلَالَتِهِ ، وَلَا نَصَّ فِي الشُّعُورِ ، وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ وَهُوَ الْجُرُوحُ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ فِي تَفْوِيتِهَا إلَى الْجِرَاحَةِ وَالضَّرْبِ ، وَلَا يُتَوَهَّمُ فِيهَا السِّرَايَةُ كَمَا تُتَوَهَّمُ فِي الْجِرَاحَاتِ ، وَلَيْسَ فِيهِ إمَاتَةُ ذِي الرُّوحِ فَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُهَا بِالْمَنْصُوصِ دَلَالَةً كَمَا لَا يَجُوزُ قِيَاسًا
( وَفِي الْحَاجِبَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ ) وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَجِب حُكُومَةُ عَدْلٍ ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ فِي اللِّحْيَةِ .
.
قَالَ ( وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي الْأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةُ ) كَذَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
قَالَ : ( وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ نِصْفُ الدِّيَةِ ) وَفِيمَا كَتَبَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ { وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ } وَلِأَنَّ فِي تَفْوِيتِ الِاثْنَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ كَمَالِ الْجَمَالِ فَيَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ ، وَفِي تَفْوِيتِ إحْدَاهُمَا تَفْوِيتُ النِّصْفِ فَيَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ .قَالَ ( وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ ) الْأَصْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي صَدْرِ الْفَصْلِ يَشْمَلُ هَذِهِ الْفُرُوعَ كُلَّهَا .
وَالْأَشْفَارُ جَمْعُ شُفْرٍ بِالضَّمِّ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : يَحْتَمِلُ أَنَّ مُرَادَهُ الْأَهْدَابُ مَجَازًا ، وَلَعَلَّهُ قَالَ ذَلِكَ دَفْعًا لِتَخْطِئَةِ مَنْ خَطَّأَ مُحَمَّدًا فِي إطْلَاقِ الْأَشْفَارِ عَلَى الْأَهْدَابِ ، قَالُوا : الْأَشْفَارُ مَنَابِتُ الشَّعْرِ وَهِيَ حُرُوفُ الْعَيْنَيْنِ وَأَطْرَافُهَا ، وَالشُّعُورُ الَّتِي عَلَيْهَا تُسَمَّى الْهُدْبَ ، فَقَالَ الْمُصَنِّفُ : يُحْتَمَلُ أَنَّ مُرَادَهُ الْأَهْدَابُ فَيَكُونُ مَجَازًا لِلْمُجَاوَرَةِ مِنْ ذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِّ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مُرَادَهُ الْحَقِيقَةُ ، فَإِنَّ فِي تَفْوِيتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَحَلِّ وَالْحَالِّ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَالْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ
قَالَ : ( وَفِي ثَدْيَيْ الْمَرْأَةِ الدِّيَةُ ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ ( وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ ) لِمَا بَيَّنَّا ، بِخِلَافِ ثَدْيَيْ الرَّجُلِ حَيْثُ تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَالْجَمَالِ .
( وَفِي حَلَمَتَيْ الْمَرْأَةِ الدِّيَةُ كَامِلَةً ) لِفَوَاتِ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْإِرْضَاعِ وَإِمْسَاكِ اللَّبَنِ ( وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُهَا ) لِمَا بَيَّنَّاهُ .
قَالَ ( وَفِي أَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إحْدَاهَا رُبْعُ الدِّيَةِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يُحْتَمَلُ أَنَّ مُرَادَهُ الْأَهْدَابُ مَجَازًا كَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ لِلْمُجَاوِرَةِ كَالرَّاوِيَةِ لِلْقِرْبَةِ وَهِيَ حَقِيقَةٌ فِي الْبَعِيرِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ وَجِنْسَ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ مَنْفَعَةُ دَفْعِ الْأَذَى وَالْقَذَى عَنْ الْعَيْنِ إذْ هُوَ يَنْدَفِعُ بِالْهُدْبِ ، وَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ فِي الْكُلِّ كُلَّ الدِّيَةِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ كَانَ فِي أَحَدِهَا رُبْعُ الدِّيَةِ وَفِي ثَلَاثَةٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مَنْبَتَ الشَّعْرِ وَالْحُكْمُ فِيهِ هَكَذَا .
( وَلَوْ قَطَعَ الْجُفُونَ بِأَهْدَابِهَا فَفِيهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ) لِأَنَّ الْكُلَّ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ وَصَارَ كَالْمَارِنِ مَعَ الْقَصَبَةِ .
قَالَ ( وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ عُشْرُ الدِّيَةِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشَرٌ مِنْ الْإِبِلِ } وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ الْكُلِّ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ وَهِيَ عَشَرٌ فَتَنْقَسِمُ الدِّيَةُ عَلَيْهَا .
قَالَ ( وَالْأَصَابِعُ كُلُّهَا سَوَاءٌ ) لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ ، وَلِأَنَّهَا سَوَاءٌ فِي أَصْلِ الْمَنْفَعَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ فِيهِ كَالْيَمِينِ مَعَ الشِّمَالِ ، وَكَذَا أَصَابِعُ الرِّجْلَيْنِ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ بِقَطْعِ كُلِّهَا مَنْفَعَةَ الْمَشْيِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةٌ ، ثُمَّ فِيهِمَا عَشَرُ أَصَابِعَ فَتَنْقَسِمُ الدِّيَةُ عَلَيْهَا أَعْشَارًا .
قَالَ ( وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ فِيهَا ثَلَاثَةُ مَفَاصِلَ ؛ فَفِي أَحَدِهَا .
ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ وَمَا فِيهَا مِفْصَلَانِ فَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ ) وَهُوَ نَظِيرُ انْقِسَامِ دِيَةِ الْيَدِ عَلَى الْأَصَابِعِ .وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ نَظِيرُ انْقِسَامِ دِيَةِ الْيَدِ عَلَى الْأَصَابِعِ ) يَعْنِي أَنَّ عُشْرَ الدِّيَةِ الْوَاجِبَ بِإِزَاءِ كُلِّ أُصْبُعٍ إنَّمَا هُوَ بِمُقَابَلَةِ مَفَاصِلِهَا ، فَمَا فِيهِ ثَلَاثَةُ مَفَاصِلَ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهَا ثُلُثُهُ ، وَمَا فِيهِ مَفْصِلَانِ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُهُ .
قَالَ : ( وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ } وَالْأَسْنَانُ وَالْأَضْرَاسُ كُلُّهَا سَوَاءٌ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا ، وَلِمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ : وَالْأَسْنَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ ، وَلِأَنَّ كُلَّهَا فِي أَصْلِ الْمَنْفَعَةِ سَوَاءٌ فَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ كَالْأَيْدِي وَالْأَصَابِعِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ خَطَأً ، فَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَفِيهِ الْقِصَاصُ وَقَدْ مَرَّ فِي الْجِنَايَاتِ .وَقَوْلُهُ ( وَالْأَسْنَانُ وَالْأَضْرَاسُ كُلُّهَا سَوَاءٌ ) قَالُوا : فِيهِ نَظَرٌ .
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : وَالْأَسْنَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ ، أَوْ يُقَالَ : وَالْأَنْيَابُ وَالْأَضْرَاسُ كُلُّهَا سَوَاءٌ ، لِأَنَّ السِّنَّ اسْمُ جِنْسٍ يَدْخُلُ تَحْتَهُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ : أَرْبَعٌ مِنْهَا ثَنَايَا وَهِيَ الْأَسْنَانُ الْمُتَقَدِّمَةُ اثْنَتَانِ فَوْقُ وَاثْنَتَانِ أَسْفَلُ ، وَمِثْلُهَا رَبَاعِيَاتٌ وَهِيَ مَا يَلِي الثَّنَايَا ، وَمِثْلُهَا أَنْيَابٌ تَلِي الرَّبَاعِيَاتِ ، وَمِثْلُهَا ضَوَاحِكُ تَلِي الْأَنْيَابَ ، وَاثْنَتَا عَشْرَةَ سِنًّا تُسَمَّى بِالطَّوَاحِنِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ثَلَاثٌ فَوْقُ وَثَلَاثٌ أَسْفَلُ ، وَبَعْدَهَا سِنٌّ وَهِيَ آخِرُ الْأَسْنَانِ يُسَمَّى ضِرْسَ الْحُلُمِ لِأَنَّهُ يَنْبُتُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقْتَ كَمَالِ الْعَقْلِ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الْأَسْنَانُ وَالْأَضْرَاسُ سَوَاءٌ لِعَوْدِهِ إلَى مَعْنَى أَنْ يُقَالَ الْأَسْنَانُ وَبَعْضُهَا سَوَاءٌ ، فَإِذَا ضَرَبَ رَجُلٌ رَجُلًا حَتَّى سَقَطَتْ أَسْنَانُهُ كُلُّهَا كَانَتْ عَلَيْهِ دِيَةٌ وَثَلَاثَةٌ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ ، وَهِيَ مِنْ الدَّرَاهِمِ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ جِنْسُ عُضْوٍ يَجِبُ بِتَفْوِيتِهِ أَكْثَرُ مِنْ مِقْدَارِ الدِّيَةِ سِوَى الْأَسْنَانِ ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ فَضَّلَ الطَّوَاحِنَ عَلَى الضَّوَاحِكِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ .
قَالَ : ( وَمَنْ ضَرَبَ عُضْوًا فَأَذْهَب مَنْفَعَتَهُ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ كَالْيَدِ إذَا شُلَّتْ وَالْعَيْنِ إذَا ذَهَبَ ضَوْءُهَا ) لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ لَا فَوَاتُ الصُّورَةِ .وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ ) يَعْنِي الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ كُلِّ الدِّيَةِ هُوَ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ لَا فَوَاتُ الصُّورَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ : أَنَّ فَوَاتَ الصُّورَةِ لَيْسَ مُتَعَلَّقَ وُجُوبِ الدِّيَةِ ، بَلْ الْجَمَالُ أَيْضًا مَقْصُودٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَلْقِ الْحَاجِبَيْنِ وَاللِّحْيَةِ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِاسْتِتْبَاعِهِ الْآخَرَ فَيَكُونُ الْحَصْرُ فِي غَيْرِ مَوْقِعِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْجَمَالَ مَقْصُودٌ فِي عُضْوٍ لَا يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَنْفَعَةُ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فَالْجَمَالُ تَابِعٌ : أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَطَعَ الْيَدَ الشَّلَّاءَ تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ لَا الدِّيَةُ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْيَدِ لَمَّا كَانَ الْمَنْفَعَةَ لَمْ تَتَكَامَلْ الْجِنَايَةُ مِنْ حَيْثُ تَفْوِيتُ الْجَمَالِ ، فَإِذَا اجْتَمَعَا جُعِلَ الْجَمَالُ تَابِعًا أَيْضًا ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ تَابِعًا عِنْدَ الِانْفِرَادِ فَلَأَنْ يَكُونَ تَابِعًا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ لِوُجُودِ الْمُسْتَتْبَعِ أَوْلَى .
وَقَوْلُهُ ( لِتَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ ) يَعْنِي مَنْفَعَةَ النَّسْلِ .
( وَمَنْ ضَرَبَ صُلْبَ غَيْرِهِ فَانْقَطَعَ مَاؤُهُ تَجِبُ الدِّيَةُ ) لِتَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ ( وَكَذَا لَوْ أَحْدَبَهُ ) لِأَنَّهُ فَوَّتَ جَمَالًا عَلَى الْكَمَالِ وَهُوَ اسْتِوَاءُ الْقَامَةِ ( فَلَوْ زَالَتْ الْحُدُوبَةُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) لِزَوَالِهَا لَا عَنْ أَثَرٍ .وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ فَوَّتَ جَمَالًا عَلَى الْكَمَالِ ) هُوَ اسْتِقَامَةُ الْقَامَةِ .
قِيلَ وَفِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } أَيْ مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ وَهِيَ تَزُولُ بِالْحُدُوبَةِ
.
( فَصْلٌ فِي الشِّجَاجِ ) قَالَ ( الشِّجَاجُ عَشْرَةٌ : الْحَارِصَةُ ) وَهِيَ الَّتِي تَحْرِصُ الْجِلْدَ : أَيْ تَخْدِشُهُ وَلَا تُخْرِجُ الدَّمَ ( وَالدَّامِعَةُ ) وَهِيَ الَّتِي تُظْهِرُ الدَّمَ وَلَا تُسِيلُهُ كَالدَّمْعِ مِنْ الْعَيْنِ ( وَالدَّامِيَةُ ) وَهِيَ الَّتِي تُسِيلُ الدَّمَ ( وَالْبَاضِعَةُ ) وَهِيَ الَّتِي تَبْضَعُ الْجِلْدَ أَيْ تَقْطَعُهُ ( وَالْمُتَلَاحِمَةُ ) وَهِيَ الَّتِي تَأْخُذُ فِي اللَّحْمِ ( وَالسِّمْحَاقُ ) وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى السِّمْحَاقِ وَهِيَ جَلْدَةٌ رَقِيقَةٌ بَيْنَ اللَّحْمِ وَعَظْمِ الرَّأْسِ ( وَالْمُوضِحَةُ ) وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ أَيْ تُبَيِّنُهُ ( وَالْهَاشِمَةُ ) وَهِيَ الَّتِي تُهَشِّمُ الْعَظْمَ : أَيْ تَكْسِرُهُ ( وَالْمُنَقِّلَةُ ) وَهِيَ الَّتِي تُنَقِّلُ الْعَظْمَ بَعْدَ الْكَسْرِ : أَيْ تُحَوِّلُهُ ( وَالْآمَّةُ ) وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى أُمِّ الرَّأْسِ وَهُوَ الَّذِي فِيهِ الدِّمَاغُ .
قَالَ : ( فَفِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ إنْ كَانَتْ عَمْدًا ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى بِالْقِصَاصِ فِي الْمُوضِحَةِ } وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَهِيَ السِّكِّينُ إلَى الْعَظْمِ فَيَتَسَاوَيَانِ فَيَتَحَقَّقُ الْقِصَاصُ .
قَالَ : ( وَلَا قِصَاصَ فِي بَقِيَّةِ الشِّجَاجِ ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهَا لِأَنَّهُ لَا حَدَّ يَنْتَهِي السِّكِّينُ إلَيْهِ ، وَلِأَنَّ فِيمَا فَوْقَ الْمُوضِحَةِ كَسْرَ الْعَظْمِ وَلَا قِصَاصَ فِيهِ ، وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ : يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ ، إذْ لَيْسَ فِيهِ كَسْرُ الْعَظْمِ وَلَا خَوْفُ هَلَاكٍ غَالِبٍ فَيُسْبَرُ غَوْرُهَا بِمِسْبَارٍ ثُمَّ تُتَّخَذُ حَدِيدَةٌ بِقَدْرِ ذَلِكَ فَيُقْطَعُ بِهَا مِقْدَارُ مَا قَطَعَ فَيَتَحَقَّقُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ .
قَالَ ( وَفِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ وَلَا يُمْكِنُ إهْدَارُهُ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ بِحُكْمِ الْعَدْلِ ، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ النَّخَعِيِّ وَعُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
قَالَ ( وَفِي الْمُوضِحَةِ إنْ كَانَتْ خَطَأً نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ ، وَفِي الْهَاشِمَةِ عُشْرُ الدِّيَةِ ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ عُشْرُ الدِّيَةِ وَنِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ ، وَفِي الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، فَإِنْ نَفَذَتْ فَهُمَا جَائِفَتَانِ فَفِيهِمَا ثُلُثَا الدِّيَةِ ) لِمَا رُوِيَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ ، وَفِي الْهَاشِمَةِ عَشْرٌ ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَفِي الْآمَّةِ } وَيُرْوَى { الْمَأْمُومَةُ ثُلُثُ الدِّيَةِ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ } وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَكَمَ فِي جَائِفَةٍ نَفَذَتْ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ ، وَلِأَنَّهَا إذَا نَفَذَتْ نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ جَائِفَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مِنْ جَانِبِ الْبَطْنِ وَالْأُخْرَى مِنْ جَانِبِ الظَّهْرِ وَفِي كُلِّ جَائِفَةٍ ثُلُثُ الدِّيَةِ فَلِهَذَا وَجَبَ فِي النَّافِذَةِ ثُلُثَا الدِّيَةِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ جَعَلَ الْمُتَلَاحِمَةَ قَبْلَ الْبَاضِعَةِ وَقَالَ : هِيَ الَّتِي يَتَلَاحَمُ فِيهَا الدَّمُ وَيَسْوَدُّ .
وَمَا ذَكَرْنَاهُ بَدْءًا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهَذَا اخْتِلَافُ عِبَارَةٍ لَا يَعُودُ إلَى مَعْنًى وَحُكْمٍ .
.
( فَصْلٌ فِي الشِّجَاجِ ) لَمَّا كَانَ الشِّجَاجُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ مَا دُونَ النَّفْسِ وَتَكَاثَرَ مَسَائِلُهُ ذَكَرَهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ .
قَالَ ( الشِّجَاجُ عَشَرَةٌ ) وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ قَطْعَ الْجِلْدِ لَا بُدَّ مِنْهُ لِلشَّجَّةِ ، وَبَعْدَ الْقَطْعِ إمَّا أَنْ يَظْهَرَ الدَّمُ أَوْ لَا ، الثَّانِي هُوَ الْحَارِصَةُ .
وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَسِيلَ الدَّمُ بَعْدَ الْإِظْهَارِ أَوْ لَا ، وَالثَّانِي هُوَ الدَّامِعَةُ .
وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَقْطَعَ بَعْضَ اللَّحْمِ أَوْ لَا ، وَالثَّانِي هُوَ الدَّامِيَةُ .
وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَطَعَ أَكْثَرَ اللَّحْمِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَظْمِ أَوْ لَا ، وَالثَّانِي هُوَ الْبَاضِعَةُ .
وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ أَظْهَرَ الْجِلْدَةَ الرَّقِيقَةَ الْحَائِلَةَ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ أَوْ لَا ، وَالثَّانِي هُوَ الْمُتَلَاحِمَةُ .
وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْإِظْهَارِ أَوْ يَتَعَدَّى ، وَالْأَوَّلُ هُوَ السِّمْحَاقُ ، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى إظْهَارِ الْعَظْمِ أَوْ لَا ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُوضِحَةُ ، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى كَسْرِ الْعَظْمِ أَوْ - لَا ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْهَاشِمَةُ ، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى نَقْلِ الْعَظْمِ وَتَحْوِيلِهِ مِنْ غَيْرِ وُصُولِهِ إلَى الْجِلْدَةِ الَّتِي بَيْنَ الْعَظْمِ وَالدِّمَاغِ أَوْ لَا ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُنَقِّلَةُ ، وَالثَّانِي هُوَ الْآمَّةُ وَهِيَ الْعَاشِرَةُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهَا وَهِيَ الدَّامِغَةُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ ، وَهِيَ الَّتِي تُخْرِجُ الدِّمَاغَ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَبْقَى بَعْدَهَا عَادَةً فَكَانَ ذَلِكَ قَتْلًا لَا شَجَّةً عَلَى مَا يَجِيءُ فِي الْكِتَابِ .
وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ ، فَقَدْ عُلِمَ بِالِاسْتِقْرَاءِ بِحَسَبِ الْآثَارِ أَنَّ الشِّجَاجَ لَا تَزِيدُ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ ، وَقَدْ عُلِمَ بِذَلِكَ حَقِيقَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحُكْمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ وَاضِحٌ .
قَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ فِيمَا فَوْقَ الْمُوضِحَةِ ) يُرِيدُ مَا هُوَ أَكْبَرُ شَجَّةٍ مِنْهَا وَهُوَ الْهَاشِمَةُ وَالْمُنَقِّلَةُ
وَالْآمَّةُ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِيمَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ ) يُرِيدُ السِّتَّ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَيْهَا مِنْ الْحَارِصَةِ إلَى السِّمْحَاقِ .
وَالْمِسْبَارُ مَا يُسْبَرُ بِهِ الْجُرْحُ : أَيْ يُقَدَّرُ قَدْرُ غَوْرِهِ بِحَدِيدَةٍ أَوْ غَيْرِهَا ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ مَا قَبْلَهَا وَهِيَ السِّتُّ الْمَذْكُورَةُ وَوُجُوبُ حُكُومَةِ عَدْلٍ فِيهَا إنَّمَا هُوَ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِ الْأَصْلِ ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَتِهِ فَقَدْ قَالَ : يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا فَوْقَ الْمُوضِحَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ) قَالَ فِي الْإِيضَاحِ : الْجَائِفَةُ مَا اتَّصَلَ إلَى الْجَوْفِ مِنْ الصَّدْرِ وَالْبَطْنِ وَالظَّهْرِ وَالْجَنْبَيْنِ ، وَالِاسْمُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، وَمَا وَصَلَ مِنْ الرَّقَبَةِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي إذَا وَصَلَ إلَيْهِ الشَّرَابُ كَانَ مُفَطِّرًا ، وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِجَائِفَةٍ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : فَعَلَى هَذَا ذُكِرَ الْجَائِفَةُ هُنَا فِي مَسَائِلِ الشِّجَاجِ وَقَعَ اتِّفَاقًا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشِّجَاجَ تَخْتَصُّ بِالرَّأْسِ وَالْجَبْهَةِ وَالْوَجْهِ وَالذَّقَنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا اخْتِلَافُ عِبَارَةٍ لَا يَعُودُ إلَى مَعْنًى ) يَعْنِي يَرْجِعُ إلَى مَأْخَذِ الِاشْتِقَاقِ ، فَمُحَمَّدٌ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمُتَلَاحِمَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْتَحَمَ الشَّيْئَانِ إذَا اتَّصَلَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ، فَالْمُتَلَاحِمَةُ مَا تُظْهِرُ اللَّحْمَ وَلَا تَقْطَعُهُ ، وَالْبَاضِعَةُ بَعْدَهَا لِأَنَّهَا تَقْطَعُهُ
وَبَعْدَ هَذَا شَجَّةٌ أُخْرَى تُسَمَّى الدَّامِغَةُ وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا لِأَنَّهَا تَقَعُ قَتْلًا فِي الْغَالِبِ لَا جِنَايَةً مُقْتَصِرَةً مُنْفَرِدَةً بِحُكْمٍ عَلَى حِدَةٍ ، ثُمَّ هَذِهِ الشِّجَاجُ تَخْتَصُّ بِالْوَجْهِ وَالرَّأْسِ لُغَةً ، وَمَا كَانَ فِي غَيْرِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ يُسَمَّى جِرَاحَةً ، وَالْحُكْمُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الصَّحِيحِ ، حَتَّى لَوْ تَحَقَّقَتْ فِي غَيْرِهِمَا نَحْوُ السَّاقِ وَالْيَدِ لَا يَكُونُ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالتَّوْقِيفِ وَهُوَ إنَّمَا وَرَدَ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِمَا ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا وَرَدَ الْحُكْمُ فِيهَا لِمَعْنَى الشَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِبَقَاءِ أَثَرِ الْجِرَاحَةِ ، وَالشَّيْنُ يَخْتَصُّ بِمَا يَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْغَالِبِ وَهُوَ الْعُضْوَانِ هَذَانِ لَا سِوَاهُمَا .
وَأَمَّا اللَّحْيَانِ فَقَدْ قِيلَ لَيْسَا مِنْ الْوَجْهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، حَتَّى لَوْ وُجِدَ فِيهِمَا مَا فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ لَا يَجِبُ الْمُقَدَّرُ .
وَهَذَا لِأَنَّ الْوَجْهَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمُوَاجِهَةِ ، وَلَا مُوَاجِهَةَ لِلنَّاظِرِ فِيهِمَا إلَّا أَنَّ عِنْدَنَا هُمَا مِنْ الْوَجْهِ لِاتِّصَالِهِمَا بِهِ مِنْ غَيْرِ فَاصِلَةٍ ، وَقَدْ يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْمُوَاجِهَةِ أَيْضًا .
وَقَالُوا : الْجَائِفَةُ تَخْتَصُّ بِالْجَوْفِ : جَوْفِ الرَّأْسِ أَوْ جَوْفِ الْبَطْنِ ، وَتَفْسِيرُ حُكُومَةِ الْعَدْلِ عَلَى مَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنْ يُقَوَّمَ مَمْلُوكًا بِدُونِ هَذَا الْأَثَرِ وَيُقَوَّمُ وَبِهِ هَذَا الْأَثَرُ ، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ نِصْفَ عُشْرِ الْقِيمَةِ يَجِبُ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ رُبْعَ عُشْرِ فَرُبْعُ عُشْرٍ .
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ : يُنْظَرُ كَمْ مِقْدَارُ هَذِهِ الشَّجَّةِ مِنْ الْمُوضِحَةِ فَيَجِبُ بِقَدْرِ ذَلِكَ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ ، لِأَنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ يُرَدُّ إلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَمَّا اللَّحْيَانِ ) يُرِيدُ بِهِ الْعَظْمَ الَّذِي تَحْتَ الذَّقَنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ تَحَقَّقَ فِيهِ مَعْنَى الْمُوَاجَهَةِ ) قِيلَ عَلَيْهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَسْلُهُمَا فَرْضًا فِي الطَّهَارَةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّا تَرَكْنَا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا إجْمَاعَ هَاهُنَا فَبَقِيَتْ الْعِبْرَةُ لِلْحَقِيقَةِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ ) مِثَالُهُ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِنْ غَيْرِ جِرَاحَةٍ تَبْلُغُ أَلْفًا وَمَعَ الْجِرَاحَةِ تَبْلُغُ تِسْعَمِائَةٍ عُلِمَ أَنَّ الْجِرَاحَةَ أَوْجَبَتْ نُقْصَانَ عُشْرِ قِيمَتِهِ فَأَوْجَبَتْ عُشْرَ الدِّيَةِ لِأَنَّ قِيمَةَ الْحُرِّ دِيَتُهُ .
قَالَ قَاضِي خَانْ : وَالْفَتْوَى عَلَى هَذَا .
وَقَوْلُهُ ( يُنْظَرُ كَمْ مِقْدَارُ هَذِهِ الشَّجَّةِ مِنْ الْمُوضِحَةِ ) بَيَانُهُ أَنَّ هَذِهِ الشَّجَّةَ لَوْ كَانَتْ بَاضِعَةً مَثَلًا فَإِنَّهُ يُنْظَرُ كَمْ مِقْدَارُ الْبَاضِعَةِ مِنْ الْمُوضِحَةِ ، فَإِنْ كَانَ مِقْدَارُهَا ثُلُثَ الْمُوضِحَةِ وَجَبَ ثُلُثُ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ ، وَإِنْ كَانَ رُبْعَ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ رُبْعُ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ ، وَإِنْ كَانَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ حُكُومَةَ الْعَدْلِ فِي الَّذِي قُطِعَ طَرَفُ لِسَانِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ بِالْعَبِيدِ
فَصْلٌ .
قَالَ ( وَفِي أَصَابِعِ الْيَدِ نِصْفُ الدِّيَةِ ) لِأَنَّ فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عُشْرُ الدِّيَةِ عَلَى مَا رَوَيْنَا ، فَكَانَ فِي الْخَمْسِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ الْأَصَابِعِ تَفْوِيتَ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ وَهُوَ الْمُوجِبُ عَلَى مَا مَرَّ ( فَإِنْ قَطَعَهَا مَعَ الْكَفِّ فَفِيهِ أَيْضًا نِصْفُ الدِّيَةِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَلِأَنَّ الْكَفَّ تَبَعٌ لِلْأَصَابِعِ لِأَنَّ الْبَطْشَ بِهَا ( وَإِنْ قَطَعَهَا مَعَ نِصْفِ السَّاعِدِ فَفِي الْأَصَابِعِ وَالْكَفِّ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَفِي الزِّيَادَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَعَنْهُ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ فَهُوَ تَبَعٌ لِلْأَصَابِعِ إلَى الْمَنْكِبِ وَإِلَى الْفَخِذِ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبُ فِي الْيَدِ الْوَاحِدَةِ نِصْفَ الدِّيَةِ ، وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ إلَى الْمَنْكِبِ فَلَا يُزَادُ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْعِ وَلَهُمَا أَنَّ الْيَدَ آلَةٌ بَاطِشَةٌ وَالْبَطْشُ يَتَعَلَّقُ بِالْكَفِّ ، وَالْأَصَابِعُ دُونَ الذِّرَاعِ فَلَمْ يَجْعَلْ الذِّرَاعَ تَبَعًا فِي حَقِّ التَّضْمِينِ وَلِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلْأَصَابِعِ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا عُضْوًا كَامِلًا وَلَا إلَى أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلْكَفِّ لِأَنَّهُ تَابِعٌ وَلَا تَبَعَ لِلتَّبَعِ .
قَالَ : ( وَإِنْ قَطَعَ الْكَفَّ مِنْ الْمِفْصَلِ وَفِيهَا أُصْبُعٌ وَاحِدَةٌ فَفِيهِ عُشْرُ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ أُصْبُعَيْنِ فَالْخُمُسُ ، وَلَا شَيْءَ فِي الْكَفِّ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يُنْظَرُ إلَى أَرْشِ الْكَفِّ وَالْأُصْبُعِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ ، وَيَدْخُلُ الْقَلِيلُ فِي الْكَثِيرِ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَرْشَيْنِ لِأَنَّ الْكُلَّ شَيْءٌ وَاحِدٌ ، وَلَا إلَى إهْدَارِ أَحَدِهِمْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ مِنْ وَجْهٍ فَرَجَّحْنَا بِالْكَثْرَةِ .
وَلَهُ أَنَّ الْأَصَابِعَ أَصْلٌ وَالْكَفُّ تَابِعٌ حَقِيقَةً وَشَرْعًا ، لِأَنَّ الْبَطْشَ يَقُومُ بِهَا ، وَأَوْجَبَ الشَّرْعُ فِي أُصْبُعٍ
وَاحِدَةٍ عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ ، وَالتَّرْجِيحُ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ وَالْحُكْمُ أَوْلَى مِنْ التَّرْجِيحِ مِنْ حَيْثُ مِقْدَارُ الْوَاجِبِ ( وَلَوْ كَانَ فِي الْكَفِّ ثَلَاثَةُ أَصَابِعَ يَجِبُ أَرْشُ الْأَصَابِعِ وَلَا شَيْءَ فِي الْكَفِّ بِالْإِجْمَاعِ ) لِأَنَّ الْأَصَابِعَ أُصُولٌ فِي التَّقْوِيمِ ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فَاسْتَتْبَعَتْ الْكَفَّ ، كَمَا إذَا كَانَتْ الْأَصَابِعُ قَائِمَةً بِأَسْرِهَا .
قَالَ ( وَفِي الْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ ) تَشْرِيفًا لِلْآدَمِيِّ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ يَدِهِ ، وَلَكِنْ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَلَا زِينَةَ ( وَكَذَلِكَ السِّنُّ الشَّاغِيَةُ ) لِمَا قُلْنَا .
( فَصْلٌ ) لَمَّا كَانَتْ الْأَطْرَافُ دُونَ الرَّأْسِ وَلَهَا حُكْمٌ عَلَى حِدَةٍ ذَكَرَهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ ( فِي أَصَابِعِ الْيَدِ نِصْفُ الدِّيَةِ ) لِأَنَّ فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عُشْرَ الدِّيَةِ عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ } وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا مَرَّ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ الْكُلِّ تَفْوِيتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا تَبَعَ لِلتَّبَعِ ) يَعْنِي وَإِذَا لَمْ يَكُنْ تَبَعًا لِلْأَصَابِعِ وَلَا لِلْكَفِّ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ عَلَى حِدَةٍ إذْ لَا وَجْهَ لِإِهْدَارِهِ ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ مِنْ الشَّارِعِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ فَيَجِبُ فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ .
وَأُجِيبَ عَنْ قَوْلِهِ وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ بِالْمَنْعِ ، فَإِنَّ الْيَدَ إذَا ذُكِرَتْ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ فَالْمُرَادُ بِهِ مِنْ مَفْصِلِ الزَّنْدِ كَمَا فِي آيَةِ السَّرِقَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ قَطَعَ الْكَفَّ مِنْ الْمَفْصِلِ ) وَاضِحٌ ( وَقَوْلُهُ وَالتَّرْجِيحُ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ وَالْحُكْمُ أَوْلَى مِنْ التَّرْجِيحِ مِنْ حَيْثُ مِقْدَارُ الْوَاجِبِ ) يَعْنِي أَنَّ التَّرْجِيحَ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَالشَّرْعُ ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ فَهُوَ أَنَّ الْبَطْشَ بِالْأَصَابِعِ ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الْأُصْبُعَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ وَالْكَفُّ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَمَا ثَبَتَ فِيهِ التَّقْدِيرُ شَرْعًا فَهُوَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ ، وَمَا لَا تَقْدِيرَ فِيهِ شَرْعًا فَهُوَ ثَابِتٌ بِالرَّأْيِ ، وَهُوَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ فَكَانَ مَا ثَبَتَ فِيهِ التَّقْدِيرُ نَصًّا أَوْلَى ، فَإِنَّ الْمَصِيرَ إلَى الرَّأْيِ ضَرُورَةٌ وَلَا ضَرُورَةَ عِنْدَ إمْكَانِ إيجَابِ الْأَرْشِ الْمُقَدَّرِ شَرْعًا .
وَلَمَّا كَانَ الِاعْتِبَارُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِتَقْدِيرِ الشَّرْعِ نَصًّا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مِنْ الْأَصَابِعِ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّ لِلْأُصْبُعِ الْوَاحِدَةِ أَرْشًا مُقَدَّرًا فَيُجْعَلُ الْكَفُّ تَبَعًا لِلْأُصْبُعِ الْوَاحِدَةِ ، وَكَذَا الْمَفْصِلُ الْوَاحِدُ مِنْ الْأُصْبُعِ فِي ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ لِأَنَّ لَهُ أَرْشًا مُقَدَّرًا ، وَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْأَصْلِ وَإِنْ قَلَّ فَلَا حُكْمَ لِلتَّبَعِ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الْأُصْبُعِ الزَّائِدِ حُكُومَةُ عَدْلٍ ) يَعْنِي سَوَاءٌ قُطِعَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ، وَسَوَاءٌ كَانَ لِلْقَاطِعِ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ أَوْ لَا ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى قَطْعِ أُصْبُعٍ أُخْرَى فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ ، كَمَنْ قَطَعَ إبْهَامَ إنْسَانٍ وَلَيْسَ لَهُ إبْهَامٌ وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْقِيمَةِ شَرْطُ جَرَيَانِ الْقِصَاصِ وَلَمْ تُوجَدْ لِأَنَّ قِيمَةَ الْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ وَقِيمَةُ الْأُصْبُعِ الْغَيْرِ الزَّائِدَةِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيمَةِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ فَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْقِيمَةِ يَقِينًا شَرْطُ جَرَيَانِ الْقِصَاصِ وَلَمْ يُوجَدْ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْوَاجِبَ فِي قَطْعِ الزَّائِدِ حُكُومَة عَدْلٍ وَهِيَ تُعْرَفُ بِالْقِيمَةِ وَالْقِيمَةُ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا يَقِينَ ثَمَّةَ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ يَدِهِ وَلَكِنْ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَلَا زِينَةَ ) قِيلَ عَلَيْهِ إنَّهُ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا كَانَ فِي ذَقَنِ رَجُلٍ شَعِيرَاتٌ مَعْدُودَةٌ فَأَزَالَهَا رَجُلٌ وَلَمْ يَنْبُتْ مِثْلُهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَجِبْ حُكُومَة عَدْلٌ وَإِنْ كَانَ الشَّعْرُ جُزْءًا مِنْ الْآدَمِيِّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ إزَالَةَ جُزْءِ الْآدَمِيِّ إنَّمَا تُوجِبُ حُكُومَةَ عَدْلٍ إذَا بَقِيَ مِنْ أَثَرِهِ مَا يَشِينُهُ كَمَا فِي قَطْعِ الْأُصْبُعِ الزَّائِدَةَ ، وَإِزَالَةُ الشَّعَرَاتِ تُزَيِّنُهُ لَا تَشِينُهُ فَلَا تُوجِبُهَا ، كَمَا لَوْ قَصَّ ظُفْرَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَلِكَ السِّنُّ الشَّاغِيَةُ ) أَيْ الزَّائِدَةُ ( لِمَا قُلْنَا ) يُرِيدُ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ يَدِهِ ، فَإِنَّ السِّنَّ جُزْءٌ مِنْ فَمِهِ وَالسِّنُّ الشَّاغِيَةُ هِيَ الَّتِي يُخَالِفُ نَبْتُهَا نَبْتَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَسْنَانِ : يُقَالُ رَجُلٌ أَشْغَى وَامْرَأَةٌ شَغْوَاءُ ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً فَهِيَ نُقْصَانٌ
مَعْنًى
( وَفِي عَيْنِ الصَّبِيِّ وَذَكَرِهِ وَلِسَانِهِ إذَا لَمْ تُعْلَمْ صِحَّتُهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ الصِّحَّةُ فَأَشْبَهَ قَطْعَ الْمَارِنِ وَالْأُذُنِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الْمَنْفَعَةُ ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ صِحَّتُهَا لَا يَجِبُ الْأَرْشُ الْكَامِلُ بِالشَّكِّ ، وَالظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حَجَّةً لِلْإِلْزَامِ بِخِلَافِ الْمَارِنِ وَالْأُذُنِ الشَّاخِصَةِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْجَمَالُ وَقَدْ فَوَّتَهُ عَلَى الْكَمَالِ ( وَكَذَا لَوْ اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ صَوْتٍ وَمَعْرِفَةُ الصِّحَّةِ فِيهِ بِالْكَلَامِ وَفِي الذَّكَرِ بِالْحَرَكَةِ وَفِي الْعَيْنِ بِمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى النَّظَرِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمَ الْبَالِغِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ .وَقَوْلُهُ ( وَالظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلْإِلْزَامِ ) إنَّمَا قَيَّدَ بِالْإِلْزَامِ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الظَّاهِرِ يَصْلُحُ حُجَّةً لِغَيْرِ الْإِلْزَامِ ، حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ صَغِيرًا لَا يُعْلَمُ صِحَّةُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ مِنْهُ يَقِينًا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ الْغَالِبَ هُوَ السَّلَامَةُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ وَيَجْزِيهِ رَضِيعٌ
قَالَ : ( وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ شَعْرُ رَأْسِهِ دَخَلَ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِي الدِّيَةِ ) لِأَنَّ بِفَوَاتِ الْعَقْلِ تَبْطُلُ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَوْضَحَهُ فَمَاتَ ، وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ ، حَتَّى لَوْ نَبَتَ يَسْقُطُ ، وَالدِّيَةُ بِفَوَاتِ كُلِّ الشَّعْرِ وَقَدْ تَعَلَّقَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَدَخَلَ الْجُزْءُ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا إذَا قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ فَشُلَّتْ يَدُهُ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَدْخُلُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنَايَةٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَلَا يَتَدَاخَلَانِ كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ .
وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ .
قَالَ ( وَإِنْ ذَهَبَ سَمْعُهُ أَوْ بَصَرُهُ أَوْ كَلَامُهُ فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ مَعَ الدِّيَةِ ) قَالُوا : هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشَّجَّةَ تَدْخُلُ فِي دِيَةِ السَّمْعِ وَالْكَلَامِ وَلَا تَدْخُلُ فِي دِيَةِ الْبَصَرِ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا جِنَايَةٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَالْمَنْفَعَةُ مُخْتَصَّةٌ بِهِ فَأَشْبَهَ الْأَعْضَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ ، بِخِلَافِ الْعَقْلِ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ عَائِدَةٌ إلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ السَّمْعَ وَالْكَلَامَ مُبْطَنٌ فَيُعْتَبَرُ بِالْعَقْلِ ، وَالْبَصَرُ ظَاهِرٌ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ .
قَالَ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً فَذَهَبَتْ عَيْنَاهُ فَلَا قِصَاصَ فِي ذَلِكَ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
قَالُوا : وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِيهِمَا ( وَقَالَا : فِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ ) قَالُوا : وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِي الْعَيْنَيْنِ .
قَالَ ( وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ شَعْرُ رَأْسِهِ ) فِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الْجُزْءَ قَدْ يَدْخُلُ فِي الْكُلِّ قَوْلُهُ ( فَصَارَ كَمَا إذَا أَوْضَحَهُ فَمَاتَ ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إنَّ ذَهَابَ الْعَقْلِ فِي مَعْنَى تَبْدِيلِ النَّفْسِ وَإِلْحَاقِهِ بِالْبَهَائِمِ أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَقْلَ لَيْسَ فِي مَوْضِعٌ يُشَارُ إلَيْهِ فَصَارَ كَالرُّوحِ لِلْجَسَدِ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ ) لِبَيَانِ الْجُزْئِيَّةِ .
وَقَوْلُهُ ( حَتَّى لَوْ نَبَتَ ) يَعْنِي الشَّعْرَ ( يَسْقُطُ ) يَعْنِي أَرْشُ الْمُوضِحَةِ لِبَيَانِ أَنَّ الْأَرْشَ يَجِبُ بِالْفَوَاتِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ ، وَلَيْسَ بِمُفْتَقَرٍ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ تَعَلَّقَا ) يَعْنِي أَرْشَ الْمُوضِحَةِ وَالدِّيَةَ ( بِسَبَبٍ وَاحِدٍ ) وَهُوَ فَوَاتُ الشَّعْرِ لَكِنَّ سَبَبَ الدِّيَةِ الْكُلُّ فَدَخَلَ الْجُزْءُ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا إذَا قَطَعَ إصْبَعَ رَجُلٍ فَشُلَّتْ يَدُهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ ) قِيلَ يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ لِأَنَّ بِفَوَاتِ الْعَقْلِ تَبْطُلُ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ .
وَقِيلَ قَوْلُهُ وَقَدْ تَعَلَّقَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَشْمَلُ مِنْ الْأَوَّلِ .
وَقَوْلُهُ ( قَالُوا ) يَعْنِي الْمَشَايِخَ ( هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : ذِكْرُ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَعَ سَهْوًا لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِجَمِيعِ رِوَايَاتِ الْكُتُبِ الْمُتَدَاوَلَةِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ مُحَمَّدًا مَكَانَ أَبِي يُوسُفَ كَمَا هُوَ فِي الْإِيضَاحِ ، أَوْ لَا يَذْكُرَ أَحَدًا أَصْلًا كَمَا هُوَ رِوَايَةُ الْمَبْسُوطِ وَشُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالذَّخِيرَةِ وَالْمُغْنِي ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إذَا كَانَ خَطَأً ، وَأَمَّا إذَا كَانَ عَمْدًا يَجِبُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ وَدِيَةُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الشَّجَّةِ وَالدِّيَةُ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَجْهُ الْأَوَّلِ ) هُوَ أَنَّ أَرْشَ الْمُوضِحَةِ لَا يَدْخُلُ فِي الدِّيَةِ الْوَاجِبَةِ بِذَهَابِ
السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّ بِفَوَاتِ الْعَقْلِ تَبْطُلُ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَقَوْلُهُ ( وَوَجْهُ الثَّانِي ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ السَّمْعَ وَالْكَلَامَ مُبْطَنٌ ، قِيلَ يُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ بِحَيْثُ لَا تَتَرَسَّمُ فِيهَا الْمَعَانِي وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَظْمِ التَّكَلُّمِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَهَابِ الْعَقْلِ عَسِرًا جِدًّا ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ التَّكَلُّمَ بِالْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فَفِي جَعْلِهِ مُبْطَنًا نَظَرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَالُوا ) يَعْنِي الْمَشَايِخَ : أَيْ قَالَ الْمَشَايِخُ ( يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِيهِمَا ) أَيْ فِي الْعَيْنَيْنِ ( وَالْأَرْشُ فِي الْمُوضِحَةِ ) وَقَالَا : فِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ ( قَالُوا ) أَيْ الْمَشَايِخُ ( وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِي الْعَيْنَيْنِ )
قَالَ ( وَإِنْ قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ مِنْ الْمِفْصَلِ الْأَعْلَى فَشُلَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْأُصْبُعِ أَوْ الْيَدِ كُلِّهَا لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ) وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِي الْمِفْصَلِ الْأَعْلَى وَفِيمَا بَقِيَ حُكُومَةُ عَدْلٍ ( وَكَذَلِكَ لَوْ كَسَرَ سِنَّ رَجُلٍ فَاسْوَدَّ مَا بَقِيَ ) وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِي السِّنِّ كُلِّهِ ( وَلَوْ قَالَ : اقْطَعْ الْمِفْصَلَ وَاتْرُكْ مَا يَبِسَ أَوْ اكْسِرْ الْقِدْرَ الْمَكْسُورَ وَاتْرُكْ الْبَاقِيَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ) لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي نَفْسِهِ مَا وَقَعَ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ فَصَارَ كَمَا لَوْ شَجَّهُ مُنَقِّلَةً فَقَالَ : أَشُجُّهُ مُوضِحَةً أَتْرُكُ الزِّيَادَةَ .
لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْفِعْلَ فِي مَحَلَّيْنِ فَيَكُونُ جِنَايَتَيْنِ مُبْتَدَأَتَيْنِ فَالشُّبْهَةُ فِي إحْدَاهُمَا لَا تَتَعَدَّى إلَى الْأُخْرَى ، كَمَنْ رَمَى إلَى رَجُلٍ عَمْدًا فَأَصَابَهُ وَنَفَذَ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَقَتَلَهُ يَجِبُ الْقَوَدُ فِي الْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ فِي الثَّانِي .
وَلَهُ أَنَّ الْجِرَاحَةَ الْأُولَى سَارِيَةٌ وَالْجَزَاءُ بِالْمِثْلِ ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ السَّارِي فَيَجِبُ الْمَالُ ، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ حَقِيقَةً وَهُوَ الْحَرَكَةُ الْقَائِمَةُ ، وَكَذَا الْمَحَلُّ مُتَّحِدٌ مِنْ وَجْهِ لِاتِّصَالٍ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ فَأَوْرَثَتْ نِهَايَتُهُ شُبْهَةَ الْخَطَأِ فِي الْبِدَايَةِ ، بِخِلَافِ النَّفْسَيْنِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ مِنْ سِرَايَةِ صَاحِبِهِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ السِّكِّينُ عَلَى الْأُصْبُعِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِعْلًا مَقْصُودًا .
قَالَ : ( وَإِنْ قَطَعَ أُصْبُعًا فَشُلَّتْ إلَى جَنْبِهَا أُخْرَى فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا هُمَا وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ : يُقْتَصُّ مِنْ الْأُولَى وَفِي الثَّانِيَةِ أَرْشُهَا .
وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ .
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَهُوَ مَا إذَا شُجَّ مُوضِحَةً فَذَهَبَ بَصَرُهُ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا لِأَنَّ الْحَاصِلَ بِالسَّرَايَةِ مُبَاشَرَةً
كَمَا فِي النَّفْسِ وَالْبَصَرُ يَجْرِي فِيهِ الْقِصَاصُ ، بِخِلَافِ الْخِلَافِيَّةِ الْأَخِيرَةِ لِأَنَّ الشَّلَلَ لَا قِصَاصَ فِيهِ ، فَصَارَ الْأَصْلُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ سِرَايَةَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ إلَى مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْقِصَاصُ يُوجِبُ الِاقْتِصَاصَ كَمَا لَوْ آلَتْ إلَى النَّفْسِ وَقَدْ وَقَعَ الْأَوَّلُ ظُلْمًا .
وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ أَنَّ ذَهَابَ الْبَصَرِ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الشَّجَّةَ بَقِيَتْ مُوجِبَةً فِي نَفْسِهَا وَلَا قَوَدَ فِي التَّسْبِيبِ ، بِخِلَافِ السِّرَايَةِ إلَى النَّفْسِ لِأَنَّهُ لَا تَبْقَى الْأُولَى فَانْقَلَبَتْ الثَّانِيَةُ مُبَاشَرَةً .
وَقَوْلُهُ ( لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ ) أَيْ فِيمَا إذَا شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً فَذَهَبَتْ عَيْنَاهُ ، قَالَا : يَجِبُ فِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ ( وَلَهُ ) أَيْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ( أَنَّ الْجِرَاحَةَ الْأُولَى سَارِيَةٌ ) وَالْجِرَاحَةُ الَّتِي تَعْمَلُ قِصَاصًا قَدْ لَا تَكُونُ سَارِيَةً إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ فِعْلُ ذَلِكَ فَلَا يَكُون مِثْلًا لِلْأُولَى ، وَلَا قِصَاصَ بِدُونِ الْمُمَاثَلَةِ ( وَلِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ وَهُوَ الْحَرَكَةُ الْقَائِمَةُ ) أَيْ الثَّابِتَةُ حَالَ الشَّجِّ ( وَكَذَا الْمَحَلُّ ) أَيْ مَحَلُّ الْجِنَايَتَيْنِ ( وَاحِدٌ مِنْ وَجْهٍ لِاتِّصَالِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ) وَنِهَايَةُ الْجِنَايَةِ لَمْ تُوجِبْ الْقِصَاصَ بِالِاتِّفَاقِ فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ فِي الْبِدَايَةِ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِهِمَا .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ النَّفْسَيْنِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا كَمَنْ رَمَى إلَى رَجُلٍ عَمْدًا فَأَصَابَهُ وَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ فَقَتَلَهُ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّا جَعَلْنَا الْفِعْلَ وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ إنَّ الثَّانِيَ حَصَلَ مِنْ سِرَايَةِ الْأَوَّلِ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ السِّرَايَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِتَعَاقُبِ الْآلَامِ وَهُوَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ .
قَوْلُهُ ( وَبِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ السِّكِّينُ عَلَى الْأُصْبُعِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ : إذَا قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ عَمْدًا فَاضْطَرَبَ السِّكِّينُ وَوَقَعَ عَلَى أُصْبُعٍ أُخْرَى فَقَطَعَهَا يُقْتَصُّ لِلْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ ، فَمَا بَالُ مَسْأَلَتِنَا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ ؟ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقَطْعَ الثَّانِي إنَّمَا لَمْ يُورِثْ الشُّبْهَةَ فِي الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَقْصُودٌ ، وَأَمَّا ذَهَابُ الْعَيْنِ بِالسِّرَايَةِ فَلَيْسَ بِفِعْلٍ مَقْصُودٍ .
فَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ لَيْسَ فِعْلًا مَقْصُودًا ) الضَّمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ إلَى ذَهَابِ الْعَيْنِ بِالسِّرَايَةِ ، وَبِهَذَا التَّوْجِيهِ يَنْدَفِعُ مَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ إنَّ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فَعَلَا مَقْصُودًا نَظَرًا ، وَأَنَّ الصَّوَابَ مَا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّهُ مَقْصُودٌ وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ أَثَرِهِ ،
فَإِنَّهُ رَجَعَ الضَّمِيرُ إلَى الْفِعْلِ الثَّانِي فَاخْتَلَّ الْكَلَامُ وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فَرْقَيْنِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ : الْأَوَّلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَوَّلِ ، وَالثَّانِي إلَى الثَّانِي ( وَقَالَا وَزُفَرُ ) تَرْكِيبٌ غَيْرُ جَائِزٍ ، وَلَوْ قَالَ : وَقَالَا هُمَا وَزُفَرُ كَانَ صَوَابًا .
وَقَوْلُهُ ( وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ آنِفًا ) يُرِيدُ قَوْلَهُ وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً فَذَهَبَتْ عَيْنَاهُ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا ) أَيْ فِي الشَّجَّةِ وَذَهَابِ الْبَصَرِ ، فَرَّقَ مُحَمَّدٌ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ ذَهَابِ الْبَصَرِ مِنْ الشَّجَّةِ وَبَيْنَ ذَهَابِ السَّمْعِ مِنْهَا فَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ فِيهِمَا فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ، لِأَنَّهُ لَوْ ذَهَبَ سَمْعُهُ بِفِعْلٍ مَقْصُودٍ بِأَنْ ضُرِبَ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ سَمْعُهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ ، بِخِلَافِ الْبَصَرِ فَإِنَّ ذَهَابَهُ إنْ كَانَ بِفِعْلٍ مَقْصُودٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ فَكَذَلِكَ بِسِرَايَةِ الْمُوضِحَةِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْخِلَافِيَّةِ الْأَخِيرَةِ ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَإِنْ قَطَعَ أُصْبُعًا فَشُلَّتْ إلَى جَنْبِهَا أُخْرَى .
وَقَوْلُهُ ( أَلَا يُرَى أَنَّ الشَّجَّةَ بَقِيَتْ مُوجِبَةً فِي نَفْسِهَا ) حَتَّى وَجَبَ أَرْشُهَا مَعَ دِيَةِ الْعَيْنَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقِصَاصُ فِي الْمُوضِحَةِ وَالْأَرْشُ فِي الْعَيْنَيْنِ عِنْدَهُمَا .
قَالَ : ( وَلَوْ كَسَرَ بَعْضَ السِّنِّ فَسَقَطَتْ فَلَا قِصَاصَ ) إلَّا عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ ( وَلَوْ أَوْضَحَهُ مُوضِحَتَيْنِ فَتَآكَلَتَا فَهُوَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ هَاتَيْنِ ) .وَقَوْلُهُ ( فَتَآكَلَتَا ) أَيْ صَارَتَا وَاحِدَةً بِالْأَكْلِ ( فَهُوَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ ) أَيْ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ وَرِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ ( عَنْ مُحَمَّدٍ ) يَعْنِي لَا قِصَاصَ عَلَى الْمَشْهُورِ ، وَفِيهِمَا الْقِصَاصُ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ
قَالَ : ( وَلَوْ قَلَعَ سِنَّ رَجُلٍ فَنَبَتَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى سَقَطَ الْأَرْشُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ : عَلَيْهِ الْأَرْشُ كَامِلًا ) لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ وَالْحَادِثُ نِعْمَةٌ مُبْتَدَأَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى .
وَلَهُ أَنَّ الْجِنَايَةَ انْعَدَمَتْ مَعْنًى فَصَارَ كَمَا إذَا قَلَعَ سِنَّ صَبِيٍّ فَنَبَتَتْ لَا يَجِبُ الْأَرْشُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْتِ عَلَيْهِ مَنْفَعَةً وَلَا زِينَةً ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ ) لِمَكَانِ الْأَلَمِ الْحَاصِلِ ( وَلَوْ قَلَعَ سِنَّ غَيْرِهِ فَرَدَّهَا صَاحِبُهَا فِي مَكَانِهَا وَنَبَتَ عَلَيْهِ اللَّحْمُ فَعَلَى الْقَالِعِ الْأَرْشُ بِكَمَالِهِ ) لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُعْتَدُّ بِهِ إذْ الْعُرُوقُ لَا تَعُودُ ( وَكَذَا إذَا قَطَعَ أُذُنَهُ فَأَلْصَقَهَا فَالْتَحَمَتْ ) لِأَنَّهَا لَا تَعُودُ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ .( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قَلَعَ سِنَّ بَالِغٍ فَنَبَتَ مَكَانَهَا أُخْرَى يَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ ) لِمَكَانِ الْأَلَمِ الْحَاصِلِ يُقَوَّمُ وَلَيْسَ بِهِ هَذَا الْأَلَمُ وَيُقَوَّمُ وَبِهِ هَذَا الْأَلَمُ ، فَيَجِبُ مَا انْتَقَصَ مِنْهُ بِسَبَبِ الْأَلَمِ مِنْ الْقِيمَةِ .
( وَمَنْ نَزَعَ سِنَّ رَجُلٍ فَانْتَزَعَ الْمَنْزُوعَةُ سِنُّهُ سِنَّ النَّازِعِ فَنَبَتَتْ سِنُّ الْأَوَّلِ فَعَلَى الْأَوَّلِ لِصَاحِبِهِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ ) لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَوْفَى بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَنَّ الْمُوجِبَ فَسَادُ الْمَنْبَتِ وَلَمْ يَفْسُدْ حَيْثُ نَبَتَ مَكَانَهَا أُخْرَى فَانْعَدَمَتْ الْجِنَايَةُ ، وَلِهَذَا يُسْتَأْنَى حَوْلًا بِالْإِجْمَاعِ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُنْتَظَرَ الْيَأْسُ فِي ذَلِكَ لِلْقِصَاصِ ، إلَّا أَنَّ فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ تَضْيِيعَ الْحُقُوقِ فَاكْتَفَيْنَا بِالْحَوْلِ لِأَنَّهُ تَنْبُتُ فِيهِ ظَاهِرًا ، فَإِذَا مَضَى الْحَوْلُ وَلَمْ تَنْبُتْ قَضَيْنَا بِالْقِصَاصِ ، وَإِذَا نَبَتَتْ تَبَيَّنَ أَنَّا أَخْطَأْنَا فِيهِ وَالِاسْتِيفَاءُ كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الْمَالُ .
قَالَ : ( وَلَوْ ضَرَبَ إنْسَانٌ سِنَّ إنْسَانٍ فَتَحَرَّكَتْ يُسْتَأْنَى حَوْلًا ) لِيَظْهَرَ أَثَرُ فِعْلِهِ ( فَلَوْ أَجَّلَهُ الْقَاضِي سَنَةً ثُمَّ جَاءَ الْمَضْرُوبُ وَقَدْ سَقَطَتْ سِنُّهُ فَاخْتَلَفَا قَبْلَ السَّنَةِ فِيمَا سَقَطَ بِضَرْبِهِ فَالْقَوْلُ لِلْمَضْرُوبِ ) لِيَكُونَ التَّأْجِيلُ مُفِيدًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا شَجَّهُ مُوضِحَةً فَجَاءَ وَقَدْ صَارَتْ مُنَقِّلَةً فَاخْتَلَفَا حَيْثُ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الضَّارِبِ لِأَنَّ الْمُوضِحَةَ لَا تُورِثُ الْمُنَقِّلَةَ ، أَمَّا التَّحْرِيكُ فَيُؤَثِّرُ فِي السُّقُوطِ فَافْتَرَقَا ( وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ بَعْدَ السَّنَةِ فَالْقَوْلُ لِلضَّارِبِ ) لِأَنَّهُ يُنْكِرُ أَثَرَ فِعْلِهِ وَقَدْ مَضَى الْأَجَلُ الَّذِي وَقَّتَهُ الْقَاضِي لِظُهُورِ الْأَثَرِ فَكَانَ الْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ ( وَلَوْ لَمْ تَسْقُطْ لَا شَيْءَ عَلَى الضَّارِبِ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَجِبُ حُكُومَةُ الْأَلَمِ ، وَسَنُبَيِّنُ الْوَجْهَيْنِ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَلَوْ لَمْ تَسْقُطْ وَلَكِنَّهَا اسْوَدَّتْ يَجِبُ الْأَرْشُ فِي الْخَطَإِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَفِي الْعَمْدِ فِي مَالِهِ ، وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَضْرِبَهُ ضَرْبًا تَسْوَدُّ مِنْهُ ( وَكَذَا إذَا كَسَرَ بَعْضَهُ
وَاسْوَدَّ الْبَاقِي ) لَا قِصَاصَ لِمَا ذَكَرْنَا ( وَكَذَا لَوْ احْمَرَّ أَوْ اخْضَرَّ ) وَلَوْ اصْفَرَّ فِيهِ رِوَايَتَانِ .
وَقَوْلُهُ ( فَنَبَتَتْ سِنُّ الْأَوَّلِ ) يَعْنِي بِغَيْرِ اعْوِجَاجٍ ، وَإِنْ نَبَتَ مُعْوَجًّا تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ قَوْلُهُ وَلِهَذَا يُسْتَأْنَى حَوْلًا ) أَيْ يُؤَجَّلُ سَنَةً ( بِالْإِجْمَاعِ ) وَقَالَ فِي التَّتِمَّةِ : حَتَّى يَبْرَأُ مَوْضِعُ السِّنِّ لَا الْحَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ ، لِأَنَّ نَبَاتَ سِنِّ الْبَالِغِ نَادِرٌ فَلَا يُفِيدُ التَّأْجِيلُ قَبْلَهُ وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ ، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ لِأَنَّ الْحَوْلَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ ، وَلَهَا تَأْثِيرٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِ الْإِنْسَانِ ، فَلَعَلَّ فَصْلًا مِنْهَا يُوَافِقُ مِزَاجَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَيُؤَثِّرُ فِي إنْبَاتِهِ ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ بِالْإِجْمَاعِ فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ : وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا : الِاسْتِينَاءُ حَوْلًا فِي فَصْلِ الْقَلْعِ فِي الْبَالِغِ وَالصَّغِيرِ جَمِيعًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي الْجِرَاحَاتِ كُلِّهَا يُسْتَأْنَى حَوْلًا } " وَهُوَ كَمَا تَرَى يُنَافِي الْإِجْمَاعَ .
وَقَوْلُهُ ( فَاخْتَلَفَا قَبْلَ السَّنَةِ ) أَيْ قَالَ الْمَضْرُوبُ إنَّمَا سَقَطَ سِنِّي بِضَرْبِك وَقَالَ الضَّارِبُ بِسَبَبٍ آخَرَ .
وَقَوْلُهُ ( لِيَكُونَ التَّأْجِيلُ مُفِيدًا ) يَعْنِي أَنَّ التَّأْجِيلَ إنَّمَا كَانَ لِيَظْهَرَ عَاقِبَةُ الْأَمْرِ ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ كَانَ التَّأْجِيلُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ ) أَيْ فِي سُقُوطِ السِّنِّ بَعْدَ السَّنَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَسَنُبَيِّنُ الْوَجْهَيْنِ ) أَيْ وَجْهَ قَوْلِهِ لَا شَيْءَ عَلَى الضَّارِبِ وَوَجْهَ حُكُومَةِ الْأَلَمِ .
وَقَوْلُهُ ( يَجِبُ الْأَرْشُ كَامِلًا ) وَقَوْلُهُ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَضْرِبَهُ ضَرْبًا يَسْوَدُّ مِنْهُ ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ السِّنُّ مِنْ الْأَضْرَاسِ الَّتِي لَا تُرَى أَوْ مِنْ الْأَسْنَانِ الَّتِي تُرَى .
وَقَالُوا : يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ عَلَى التَّفْصِيلِ ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْأَضْرَاسِ فَالْمُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ كَمَالِ الْأَرْشِ فَقْدُ مَنْفَعَةِ الْمَضْغِ بِالِاسْوِدَادِ
دُونَ الْجَمَالِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُرَى فَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الِاصْفِرَارَ وَهُوَ كَالِاسْوِدَادِ عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ يَجِبُ كَمَالُ الْأَرْشِ وَعِنْدَ آخَرِينَ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ جِنْسَ مَنْفَعَةِ السِّنِّ وَلَا فَوَّتَ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ لِأَنَّ الصُّفْرَةَ قَدْ تَكُونُ لَوْنَ الْأَسْنَانِ فِي بَعْضِ الْإِنْسَانِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِيهِ نَوْعُ نَقْصٍ فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ ، بِخِلَافِ الْحُمْرَةِ وَالْخُضْرَةِ وَالسَّوَادِ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ لَوْنَ الْأَسْنَانِ بِحَالٍ فَكَانَ مُفَوِّتًا لِلْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ إذَا كَانَتْ بَادِيَةً .
قَالَ : ( وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا فَالْتَحَمَتْ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ وَنَبَتَ الشَّعْرُ سَقَطَ الْأَرْشُ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِزَوَالِ الشَّيْنِ الْمُوجِبِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْأَلَمِ وَهُوَ حُكُومَةُ عَدْلٍ ، لِأَنَّ الشَّيْنَ إنْ زَالَ فَالْأَلَمُ الْحَاصِلُ مَا زَالَ فَيَجِبُ تَقْوِيمُهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : عَلَيْهِ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ ، لِأَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُ الطَّبِيبُ وَثَمَنُ الدَّوَاءِ بِفِعْلِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ : إنَّ الْمَنَافِعَ عَلَى أَصْلِنَا لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِعَقْدٍ أَوْ بِشُبْهَةٍ ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْجَانِي فَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا .قَالَ ( وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا فَالْتَحَمَتْ ) كَلَامُهُ ظَاهِرٌ ، وَتَعْلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ هُوَ الْمَوْعُودُ قُبَيْلَ هَذَا بِقَوْلِهِ وَسَنُبَيِّنُ الْوَجْهَيْنِ بَعْدَ هَذَا .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ : إنَّ الْمَنَافِعَ إلَخْ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَالْأَلَمُ الْحَاصِلُ مَا زَالَ ، وَعَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّمَا لَزِمَهُ أَجْرُ الطَّبِيبِ وَوَجْهُهُ أَنَّ تَحَمُّلَ الْأَلَمِ مِنْ الْمَنَافِعِ وَمُعَالَجَةُ الطَّبِيبِ كَذَلِكَ ، وَالْمَنَافِعُ عَلَى أَصْلِنَا لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِعَقْدٍ كَالْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ ، أَوْ بِشُبْهَتِهِ كَالْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ وَالْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْجَانِي فَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا
قَالَ : ( وَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا مِائَةَ سَوْطٍ فَجَرَحَهُ فَبَرِئَ مِنْهَا فَعَلَيْهِ أَرْشُ الضَّرْبِ ) مَعْنَاهُ : إذَا بَقِيَ أَثَرُ الضَّرْبِ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَبْقَ أَثَرُهُ فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافٍ قَدْ مَضَى فِي الشَّجَّةِ الْمُلْتَحِمَةِ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا إلَخْ ) يَعْنِي إذَا ضَرَبَ رَجُلًا مِائَةَ سَوْطٍ فَجَرَحَهُ فَبَرِئَ مِنْهَا وَبَقِيَ أَثَرُ الضَّرْبِ فَعَلَيْهِ أَرْشُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَجْرَحْهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ أَثَرُهُ فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافٍ قَدْ مَضَى فِي الشَّجَّةِ الْمُلْتَحِمَةِ وَهُوَ سُقُوطُ الْأَرْشِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَوُجُوبُ أَرْشِ الْأَلَمِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَوُجُوبُ أُجْرَةِ الطَّبِيبِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ
قَالَ ( وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً قَبْلَ الْبُرْءِ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَسَقَطَ عَنْهُ أَرْشُ الْيَدِ ) لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَالْمُوجَبُ وَاحِدٌ وَهُوَ الدِّيَةُ وَإِنَّهَا بَدَلُ النَّفْسِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَدَخَلَ الطَّرَفُ فِي النَّفْسِ كَأَنَّهُ قَتَلَهُ ابْتِدَاءً .وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ) لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَطَأً ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَقْسَامُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
قَالَ : ( وَمَنْ جَرَحَ رَجُلًا جِرَاحَةً لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ حَتَّى يَبْرَأَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي الْحَالِ اعْتِبَارًا بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُوجِبَ قَدْ قَدْ تَحَقَّقَ فَلَا يُعَطَّلُ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يُسْتَأْنَى فِي الْجِرَاحَاتِ سَنَةً } وَلِأَنَّ الْجِرَاحَاتِ يُعْتَبَرُ فِيهَا مَآلُهَا لَا حَالُهَا لِأَنَّ حُكْمَهَا فِي الْحَالِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَعَلَّهَا تَسْرِي إلَى النَّفْسِ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ قَتَلَ وَإِنَّمَا يَسْتَقِرُّ الْأَمْرُ بِالْبُرْءِ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ جَرَحَ رَجُلًا جِرَاحَةً ) وَاضِحٌ
قَالَ : ( وَكُلُّ عَمْدٍ سَقَطَ الْقِصَاصُ فِيهِ بِشُبْهَةٍ فَالدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ ، وَكُلُّ أَرْشٍ وَجَبَ بِالصُّلْحِ فَهُوَ فِي مَالِ الْقَاتِلِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَعْقِلُ الْعَوَاقِلُ عَمْدًا } الْحَدِيثُ .
وَهَذَا عَمْدٌ ، غَيْرَ أَنَّ الْأَوَّلَ يَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً فَأَشْبَهَ شِبْهَ الْعَمْدِ .
وَالثَّانِي يَجِبُ حَالًّا لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِالْعَقْدِ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ .
قَالَ : ( وَإِنْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَجِبُ حَالَّةً لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا يَجِبُ بِالْإِتْلَافِ يَجِبُ حَالًّا ، وَالتَّأْجِيلُ لِلتَّخْفِيفِ فِي الْخَاطِئِ وَهَذَا عَامِدٌ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ ، وَلِأَنَّ الْمَالَ وَجَبَ جَبْرًا لِحَقِّهِ ، وَحَقُّهُ فِي نَفْسِهِ حَالٌّ فَلَا يَنْجَبِرُ بِالْمُؤَجَّلِ .
وَلَنَا أَنَّهُ مَالٌ وَاجِبٌ بِالْقَتْلِ فَيَكُونُ مُؤَجَّلًا كَدِيَةِ الْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى تَقَوُّمَ الْآدَمِيِّ بِالْمَالِ لِعَدَمِ التَّمَاثُلِ ، وَالتَّقْوِيمُ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ مُؤَجَّلًا لَا مُعَجَّلًا فَلَا يَعْدُلُ عَنْهُ لَا سِيَّمَا إلَى زِيَادَةٍ ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ التَّغْلِيطُ بِاعْتِبَارِ الْعَمْدِيَّةِ قَدْرًا لَا يَجُوزُ وَصْفًا ( وَكُلُّ جِنَايَةٍ اعْتَرَفَ بِهَا الْجَانِي فَهِيَ فِي مَالِهِ وَلَا يَصْدُقُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَتَعَدَّى الْمُقِرَّ لِقُصُورِ وِلَايَتِهِ عَنْ غَيْرِهِ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً ) يَعْنِي لَا بِعَقْدٍ يَحْدُثُ بَعْدُ .
الْقَتْلُ كَالصُّلْحِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا ) كَانَ حُكْمُهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ الضَّابِطَةِ الْكُلِّيَّةِ لَكِنَّهُ ذَكَرَهُ لِبَيَانِ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَوْلُهُ ( لَا سِيَّمَا إلَى زِيَادَةٍ ) يَعْنِي الْمُعَجَّلَ فَإِنَّهُ زَائِدٌ عَلَى الْمُؤَجَّلِ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ فِي الْمَالِيَّةِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ ، فَإِيجَابُ الْمَالِ حَالًّا بِالْقَتْلِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ التَّغْلِيظُ بِاعْتِبَارِ الْعَمْدِيَّةِ قَدْرًا لَا يَجُوزُ وَصْفًا لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْقَدْرِ ، وَقَوْلُهُ ( لِمَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا اعْتِرَافًا }
قَالَ : ( وَعَمْدُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ وَفِيهِ الدِّيَةُ ) عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ جِنَايَةٍ مُوجَبُهَا خَمْسُمِائَةٍ فَصَاعِدًا وَالْمَعْتُوهُ كَالْمَجْنُونِ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : عَمْدُهُ عَمْدٌ حَتَّى تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ حَالَّةً ) لِأَنَّهُ عَمْدٌ حَقِيقَةً ، إذْ الْعَمْدُ هُوَ الْقَصْدُ غَيْرَ أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْهُ أَحَدُ حُكْمَيْهِ وَهُوَ الْقِصَاصُ فَيَنْسَحِبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ الْآخَرُ وَهُوَ الْوُجُوبُ فِي مَالِهِ ، وَلِهَذَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِهِ ، وَيَحْرُمُ عَنْ الْمِيرَاثِ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّهُمَا يَتَعَلَّقَانِ بِالْقَتْلِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ عَقْلَ الْمَجْنُونِ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَقَالَ : عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ سَوَاءٌ ، وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ مَظِنَّةُ الْمَرْحَمَةِ ، وَالْعَاقِلُ الْخَاطِئُ لَمَّا اسْتَحَقَّ التَّخْفِيفَ حَتَّى وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَالصَّبِيُّ وَهُوَ أَعْذَرُ أَوْلَى بِهَذَا التَّخْفِيفِ .
وَلَا نُسَلِّمُ تَحَقُّقَ الْعَمْدِيَّةِ فَإِنَّهَا تَتَرَتَّبُ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعِلْمُ بِالْعَقْلِ ، وَالْمَجْنُونُ عَدِيمُ الْعَقْلِ وَالصَّبِيُّ قَاصِرُ الْعَقْلِ فَأَنَّى يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا الْقَصْدُ وَصَارَ كَالنَّائِمِ .
وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ عُقُوبَةٌ ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ وَالْكَفَّارَةُ كَاسْمِهَا سَتَّارَةٌ : وَلَا ذَنْبَ تَسْتُرُهُ لِأَنَّهُمَا مَرْفُوعَا الْقَلَمِ .
وَقَوْلُهُ ( عَمْدُهُ ) أَيْ عَمْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِهَذَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِهِ ) أَيْ بِالْمَالِ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهِ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ بِالصَّوْمِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا .
وَقَوْلُهُ ( وَيُحْرَمُ عَنْ الْمِيرَاثِ عَلَى أَصْلِهِ ) أَيْ ثَبَتَ هَذَانِ الْحُكْمَانِ وَهُمَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ ( لِأَنَّهُمَا يَتَعَلَّقَانِ بِالْقَتْلِ ) فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّهُمَا مُطَالَبَانِ بِمُوجَبِ الْقَتْلِ ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لَمَّا تَخَلَّفَ عَنْهُمَا أَحَدُ حُكْمَيْ الْقَتْلِ وَهُوَ الْقِصَاصُ يَنْسَحِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ الْآخَرِ وَهُوَ وُجُوبُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ إذْ الْأَصْلُ ذَلِكَ
قَالَ : ( وَإِذَا ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَفِيهِ غُرَّةٌ وَهِيَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَعْنَاهُ دِيَةُ الرَّجُلِ ، وَهَذَا فِي الذَّكَرِ ، وَفِي الْأُنْثَى عُشْرُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَيَقَّنْ بِحَيَاتِهِ ، وَالظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { فِي الْجَنِينِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ قِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ } وَيُرْوَى " أَوْ خَمْسُمِائَةٍ " فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْأَثَرِ ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَدَّرَهَا بِسِتِّمِائَةٍ نَحْوُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ( وَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ ) عِنْدَنَا إذَا كَانَتْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ : فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْجُزْءِ .
وَلَنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَضَى بِالْغُرَّةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ } ، وَلِأَنَّهُ بَدَلُ النَّفْسِ وَلِهَذَا سَمَّاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دِيَةً حَيْثُ قَالَ " دُوهُ " وَقَالُوا : { أَنَدِي مَنْ لَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ } الْحَدِيثُ ، إلَّا أَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ مَا دُونَ خَمْسِمِائَةٍ .
( فَصْلٌ فِي الْجَنِينِ ) عَقَّبَ أَحْكَامَ الْأَجْزَاءِ الْحَقِيقِيَّةِ أَحْكَامَ الْجُزْءِ الْحُكْمِيِّ وَهُوَ الْجَنِينُ لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ مِنْ الْأُمِّ ( وَإِذَا ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَفِيهِ غُرَّةٌ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ ) غُرَّةُ الْمَالِ خِيَارُهُ كَالْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ النَّجِيبِ ، وَسُمِّيَ بَدَلُ الْجَنِينِ غُرَّةً لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَبْدٌ وَالْعَبْدُ يُسَمَّى غُرَّةً .
وَقِيلَ لِأَنَّ غُرَّةَ الشَّيْءِ أَوَّلُهُ وَغُرَّةُ الْجَنِينِ أَوَّلُ مِقْدَارٍ ظَهَرَ فِي بَابِ الدِّيَةِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( مَعْنَاهُ ) أَيْ مَعْنَى قَوْلِهِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ ( دِيَةُ الرَّجُلِ ، وَهَذَا فِي الذَّكَرِ وَفِي الْأُنْثَى عُشْرُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ ) لِأَنَّ نِصْفَ الْعُشْرِ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ هُوَ الْعُشْرُ مِنْ خَمْسَةِ آلَافٍ : وَالْقِيَاسُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمْ تُعْلَمْ حَيَاتُهُ بِيَقِينٍ ، وَفِعْلُ الْقَتْلِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي مَحَلٍّ هُوَ حَيٌّ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ .
فَإِنْ قِيلَ : الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَيٌّ أَوْ مُعَدٌّ لِلْحَيَاةِ .
قُلْنَا : الظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِي جَنِينِ الْبَهِيمَةِ إلَّا نُقْصَانُ الْبَهِيمَةِ إنْ تَمَكَّنَ ( وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " { فِي الْجَنِينِ غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ قِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ } وَيُرْوَى " أَوْ خَمْسُمِائَةٍ " فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْأَثَرِ ) رَوَى الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ أَنَّ زُفَرَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ : فِيهِ غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ فَقَالَ السَّائِلُ : وَلِمَ وَالْحَالُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنَّهُ مَاتَ بِضَرْبَةٍ أَوْ لَمْ تُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ ، فَإِنْ مَاتَ بِضَرْبَةٍ تَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ وَإِنْ لَمْ تُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ ، فَسَكَتَ زُفَرُ ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ : أَعْتَقْتُك سَائِبَةً ، فَجَاءَ زُفَرُ إلَى أَبِي يُوسُفَ فَسَأَلَهُ عَنْهُ فَأَجَابَهُ أَبُو يُوسُفَ بِمِثْلِ مَا
أَجَابَ زُفَرُ .
فَحَاجَّهُ بِمِثْلِ مَا حَاجَّهُ السَّائِلُ فَقَالَ : التَّعَبُّدُ التَّعَبُّدُ : أَيْ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدْرَكَ بِالْعَقْلِ ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَ زُفَرَ هُوَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ .
وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ : قَوْلُهُ وَجْهُ الْقِيَاسِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ رَجَعَ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ ، وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ مُقَدَّرَةٌ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ .
قِيلَ وَإِنَّمَا بَيَّنَ الشَّارِعُ الْقِيمَةَ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا إلَّا مِنْ حَيْثُ اعْتِبَارُ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ .
وَقَوْلُهُ ( إذَا كَانَ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ ) قِيلَ قَيَّدَ بِهِ احْتِرَازًا عَنْ جَنِينِ الْأَمَةِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ لَا تَبْلُغُ خَمْسَمِائَةٍ .
وَرُدَّ بِأَنَّ مَا يَجِبُ فِي جَنِينُ الْأَمَةِ هُوَ فِي مَالِ الضَّارِبِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْبُلُوغِ إلَى خَمْسِمِائَةٍ عَلَى مَا سَيَجِيءُ .
وَقِيلَ لَعَلَّهُ وَقَعَ سَهْوًا مِنْ الْكَاتِبِ وَكَانَ فِي الْأَصْلِ إذْ كَانَ خَمْسَمِائَةٍ تَعْلِيلًا لِكَوْنِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ .
وَقَوْلُهُ ( فِي مَالِهِ ) أَيْ فِي مَالِ الضَّارِبِ ( لِأَنَّهُ بَدَلُ الْجُزْءِ ) أَيْ جُزْءُ الْآدَمِيِّ فَصَارَ كَقَطْعِ أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِهِ .
وَقَوْلُهُ ( دُوهُ ) أَيْ أَدُّوا دِيَتَهُ ، أَمْرٌ لِمُخَاطَبٍ مِنْ الْوَدْيِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثُ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ قَالَ { كُنْت بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ لِي فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا بَطْنَ صَاحِبَتِهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ أَوْ بِمُسَطَّحِ خَيْمَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ، فَاخْتَصَمَ أَوْلِيَاؤُهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَوْلِيَاءِ الضَّارِبَةِ : دُوهُ ، فَقَالَ أَخُوهَا : أَنَدِي مَنْ لَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَلَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَمِثْلُهُ دَمُهُ بَطَلَ ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ وَفِي رِوَايَةٍ دَعْنِي وَأَرَاجِيزَ
الْعَرَبِ قُومُوا فَدُوهُ } الْحَدِيثَ ، فَفِيهِ التَّنْصِيصُ عَلَى إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّ الْعَوَاقِلَ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ قَلِيلَةً كَانَتْ أَوْ كَثِيرَةً وَأَنْتُمْ قَيَّدْتُمْ بِقَوْلِكُمْ إذَا كَانَتْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَدْ عَلِمْت مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ النَّظَرِ
( وَتَجِبُ فِي سَنَةٍ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّهُ بَدَلُ النَّفْسِ وَلِهَذَا يَكُونُ مَوْرُوثًا بَيْنَ وَرَثَتِهِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : " بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي سَنَةٍ " وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ بَدَلَ النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَفْسٌ عَلَى حِدَةٍ فَهُوَ بَدَلُ الْعُضْوِ مِنْ حَيْثُ الِاتِّصَالُ بِالْأُمِّ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهِ الْأَوَّلِ فِي حَقِّ التَّوْرِيثِ ، وَبِالثَّانِي فِي حَقِّ التَّأْجِيلِ إلَى سَنَةٍ ، لِأَنَّ بَدَلَ الْعُضْوِ إذَا كَانَ ثُلُثَ الدِّيَةِ أَوْ أَقَلَّ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ يَجِبُ فِي سَنَةٍ ، بِخِلَافِ أَجْزَاءِ الدِّيَةِ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهَا عَلَى مَنْ وَجَبَ يَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ( وَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ) لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ فِي الْحَيَّيْنِ إنَّمَا ظَهَرَ التَّفَاوُتُ لِتَفَاوُتِ مَعَانِي الْآدَمِيَّةِ وَلَا تَفَاوُتَ فِي الْجَنِينِ فَيُقَدَّرُ بِمِقْدَارٍ وَاحِدٍ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ بَدَلَ الْعُضْوِ إذَا كَانَ ثُلُثَ الدِّيَةِ أَوْ أَقَلَّ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ ) هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ النُّسَخِ ، وَفِي بَعْضِهَا أَوْ أَكْثَرَ ، وَفِي بَعْضِهَا وَأَكْثَرَ .
قَالَ الشَّارِحُونَ : وَكِلَاهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَ الْأَقَلُّ مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ ، وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ أَكْثَرَ صِفَةً لِأَقَلَّ أَوْ بَدَلًا مِنْهُ ، وَلَعَلَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ يُفِيدُ ذَلِكَ أَيْضًا .
وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ تَقْيِيدَهُ بِالْأَكْثَرِ لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نِصْفَ الْعُشْرِ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ أَجْزَاءِ الدِّيَةِ ، لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهَا عَلَى مَنْ وَجَبَ يَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ) صُورَتُهُ أَنَّهُ يَشْتَرِكُ عِشْرُونَ رَجُلًا فِي قَتْلِ رَجُلٍ خَطَأً فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عَلَى مَا يَجِيءُ فِي الْمَعَاقِلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَسْتَوِي فِيهِ ) أَيْ فِي وُجُوبِ قَدْرِ الْغُرَّةِ بِأَنَّهُ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ قِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي الْجَنِينِ غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ قِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ } وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ فِي الْحَيَّيْنِ ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ عَلَى التَّسَاوِي بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي الْوَلَدَيْنِ الْمُنْفَصِلَيْنِ فِي الدِّيَةِ لِتَفَاوُتِ مَعَانِي الْآدَمِيَّةِ فِي الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ الذَّكَرَ مَالِكٌ مَالًا وَنِكَاحًا وَالْأُنْثَى مَالِكَةٌ مَالًا مَمْلُوكَةٌ نِكَاحًا فَكَانَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ فِيمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْآدَمِيَّةِ وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي الْجَنِينِ فَيَتَقَدَّرُ بِمِقْدَارٍ وَاحِدٍ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ
( فَإِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ) لِأَنَّهُ أَتْلَفَ حَيًّا بِالضَّرْبِ السَّابِقِ ( وَإِنْ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمُّ فَعَلَيْهِ دِيَةٌ بِقَتْلِ الْأُمِّ وَغُرَّةٌ بِإِلْقَائِهَا ) وَقَدْ صَحَّ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى فِي هَذَا بِالدِّيَةِ وَالْغُرَّةِ } ( وَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ مِنْ الضَّرْبَةِ ثُمَّ خَرَجَ الْجَنِينُ بَعْدَ ذَلِكَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ دِيَةٌ فِي الْأُمِّ وَدِيَةٌ فِي الْجَنِينِ ) لِأَنَّهُ قَاتِلُ شَخْصَيْنِ ( وَإِنْ مَاتَتْ ثُمَّ أَلْقَتْ مَيِّتًا فَعَلَيْهِ دِيَةٌ فِي الْأُمِّ وَلَا شَيْءَ فِي الْجَنِينِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَجِبُ الْغُرَّةُ فِي الْجَنِينِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَوْتُهُ بِالضَّرْبِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَلْقَتْهُ مَيِّتًا وَهِيَ حَيَّةٌ .
وَلَنَا أَنَّ مَوْتَ الْأُمِّ أَحَدُ سَبَبَيْ مَوْتِهِ لِأَنَّهُ يَخْتَنِقُ بِمَوْتِهَا إذْ تَنَفُّسُهُ بِتَنَفُّسِهَا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ .
قَالَ ( وَمَا يَجِبُ فِي الْجَنِينِ مَوْرُوثٌ عَنْهُ ) لِأَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِهِ فَيَرِثُهُ وَرَثَتُهُ ( وَلَا يَرِثُهُ الضَّارِبُ ، حَتَّى لَوْ ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَتِهِ فَأَلْقَتْ ابْنَهُ مَيِّتًا فَعَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ غُرَّةٌ وَلَا يَرِثُ مِنْهَا ) لِأَنَّهُ قَاتِلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ مُبَاشَرَةً وَلَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ .
قَالَ : ( وَفِي جَنِينِ الْأَمَةِ إذَا كَانَ ذَكَرًا نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا وَعُشْرُ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ أُنْثَى ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ ، لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَضَمَانُ الْأَجْزَاءِ يُؤْخَذُ مِقْدَارُهَا مِنْ الْأَصْلِ .
وَلَنَا أَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِهِ لِأَنَّ ضَمَانَ الطَّرَفِ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ ظُهُورِ النُّقْصَانِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ فِي ضَمَانِ الْجَنِينِ فَكَانَ بَدَلَ نَفْسِهِ فَيُقَدَّرُ بِهَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَجِبُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ لَوْ انْتَقَصَتْ الْأُمُّ اعْتِبَارًا بِجَنِينِ الْبَهَائِمِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الضَّمَانَ فِي قَتْلِ الرَّقِيقِ ضَمَانُ مَالٍ عِنْدَهُ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، فَصَحَّ الِاعْتِبَارُ عَلَى
أَصْلِهِ .
قَالَ ( فَإِنْ ضُرِبَتْ فَأَعْتَقَ الْمَوْلَى مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ أَلْقَتْهُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ قِيمَتُهُ حَيًّا وَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْعِتْقِ ) لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِالضَّرْبِ السَّابِقِ وَقَدْ كَانَ فِي حَالَةِ الرِّقِّ فَلِهَذَا تَجِبُ الْقِيمَةُ دُونَ الدِّيَةِ ، وَتَجِبُ قِيمَتُهُ حَيًّا لِأَنَّهُ بِالضَّرْبِ صَارَ قَاتِلًا إيَّاهُ وَهُوَ حَيٌّ فَنَظَرْنَا إلَى حَالَتَيْ السَّبَبِ وَالتَّلَفِ .
وَقِيلَ : هَذَا عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَجِبُ قِيمَتُهُ مَا بَيْنَ كَوْنِهِ مَضْرُوبًا إلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مَضْرُوبٍ ، لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ قَاطِعٌ لِلسَّرَايَةِ عَلَى مَا يَأْتِيك بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ : ( وَلَا كَفَّارَةَ فِي الْجَنِينِ ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ لِأَنَّهُ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ احْتِيَاطًا .
وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَقَدْ عُرِفَتْ فِي النُّفُوسِ الْمُطْلَقَةِ فَلَا تَتَعَدَّاهَا وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ كُلُّ الْبَدَلِ .
قَالُوا : إلَّا أَنْ يَشَاءَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا ، فَإِذَا تَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَ أَفْضَلَ لَهُ وَيَسْتَغْفِرُ مِمَّا صَنَعَ ( وَالْجَنِينُ الَّذِي قَدْ اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ بِمَنْزِلَةِ الْجَنِينِ التَّامِّ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ ) لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّهُ وَلَدٌ فِي حَقِّ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالنِّفَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَكَذَا فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ ، وَلِأَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ يَتَمَيَّزُ مِنْ الْعَلَقَةِ وَالدَّمِ فَكَانَ نَفْسَهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ ) أَوَّلُ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ الْعَقْلِيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ مَوْتِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الضَّرْبِ ، وَهِيَ أَنَّ خُرُوجَ الْجَنِينِ مِنْ الْأُمِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ حَيَاتِهِمَا أَوْ فِي حَالِ مَمَاتِهِمَا أَوْ فِي حَالِ حَيَاةِ الْأُمِّ وَمَمَاتِ الْجَنِينِ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ ، وَالْأَقْسَامُ مَعَ أَحْكَامِهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الشَّكَّ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا أَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ مِنْ الضَّرْبِ وَاحْتِمَالُ أَنَّهُ لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ ، وَمَعَ ذَلِكَ وَجَبَ الضَّمَانُ وَهُوَ أَوَّلُ مَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْغُرَّةَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ فِيهِ الِاحْتِمَالَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ وَهِيَ احْتِمَالُ عَدَمِ نَفْخِ الرُّوحِ وَالْمَوْتُ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ الْغِذَاءِ بِسَبَبِ مَوْتِ الْأُمِّ وَبِسَبَبِ تَخْنِيقِ الرَّحِمِ وَغَمِّ الْبَطْنِ فَلَا يَلْحَقُ بِذَلِكَ لَا قِيَاسًا وَلَا دَلَالَةً فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ .
قَالَ ( وَمَا يَجِبُ فِي الْجَنِينِ مَوْرُوثٌ عَنْهُ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي جَنِينِ الْأَمَةِ إلَخْ ) يَعْنِي جَنِينَ الْأَمَةِ إذَا كَانَ ذَكَرًا وَلَمْ يَكُنْ الْحَمْلُ مِنْ الْمَوْلَى وَلَا مِنْ الْمَغْرُورِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا وَعُشْرُ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ أُنْثَى .
وَطَرِيقُ ذَلِكَ أَنْ يُقَوَّمَ الْجَنِينُ بَعْدَ انْفِصَالِهِ مَيِّتًا عَلَى لَوْنِهِ وَهَيْئَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا فَيُنْظَرُ كَمْ قِيمَتُهُ ، وَيَجِبُ نِصْفُ عُشْرِ ذَلِكَ إنْ كَانَ ذَكَرًا ، وَعُشْرُهُ إنْ كَانَ أُنْثَى ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِكَوْنِ الْحَمْلِ مِنْ غَيْرِ الْمَوْلَى وَالْمَغْرُورِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَّهَمًا لَزِمَتْ الْغُرَّةُ لِكَوْنِهِ حُرًّا ، فَلَوْ ضَاعَ الْجَنِينُ وَوَقَعَ النِّزَاعُ فِي الْقِيمَةِ
فَالْقَوْلُ لِلضَّارِبِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى ذُكُورَتِهِ وَأُنُوثَتِهِ نَأْخُذُ بِالْمُتَيَقَّنِ .
قَوْلُهُ ( لِأَنَّ ضَمَانَ الطَّرَفِ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ ظُهُورِ النُّقْصَانِ ) يَعْنِي فِي الْأَصْلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَلَعَ السِّنَّ فَنَبَتَتْ مَكَانَهُ أُخْرَى لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ وَهَاهُنَا بَدَلُ الْجَنِينِ وَاجِبٌ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي الْأُمِّ نُقْصَانٌ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَهُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ لَا الْجُزْئِيَّةِ ( فَيُقَدَّرُ بِهَا ) أَيْ بِقِيمَةِ نَفْسِ الْجَنِينِ لَا بِقِيمَةِ الْأُمِّ .
قَوْلُهُ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ) هَذَا غَيْرُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : ثُمَّ وُجُوبُ الْبَدَلِ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .
وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا نُقْصَانُ الْأُمِّ إنْ تَمَكَّنَ فِيهَا نَقْصٌ ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ لَا يَجِبُ شَيْءٌ كَمَا فِي جَنِينِ الْبَهِيمَةِ .
وَقَوْلُهُ ( فَنَظَرْنَا إلَى حَالَتَيْ السَّبَبِ وَالتَّلَفِ ) يَعْنِي أَوْجَبْنَا الْقِيمَةَ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الضَّرْبِ ، وَأَوْجَبْنَا قِيمَتَهُ حَيًّا لَا مَشْكُوكًا فِي حَيَاتِهِ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ التَّلَفِ .
لَا يُقَالُ : هَذَا اعْتِبَارٌ بِحَالَةِ الضَّرْبِ فَقَطْ ، إذْ الْوَاجِبُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَيْضًا قِيمَتُهُ حَيًّا لِجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ حَيًّا فَلَا تَجِبُ قِيمَتُهُ حَيًّا هُنَاكَ بَلْ تَجِبُ الْغُرَّةُ .
وَقَوْلُهُ ( مَا بَيْنَ كَوْنِهِ مَضْرُوبًا إلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مَضْرُوبٍ ) يَعْنِي تَفَاوُتَ مَا بَيْنَهُمَا ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ غَيْرَ مَضْرُوبٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ مَضْرُوبًا ثَمَانَمِائَةٍ يَجِبُ عَلَى الضَّارِبِ مِائَتَا دِرْهَمٍ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا نَذْكُرُ بَيَانَهُ بَعْدَ هَذَا ) يَعْنِي فِي جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ عُرِفَتْ فِي النُّفُوسِ الْمُطْلَقَةِ ) أَيْ الْكَامِلَةِ بِالنَّصِّ
فَلَا يَتَعَدَّاهَا إلَى غَيْرِ الْمُطْلَقَةِ وَهُوَ الْجَنِينُ ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجْرِي فِي الْعُقُوبَاتِ ، وَلَيْسَ غَيْرُ الْمُطْلَقَةِ نَظِيرَ الْمُطْلَقَةِ حَتَّى يَلْحَقَ بِهَا دَلَالَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ كُلُّ الْبَدَلِ ، وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ
.
( بَابٌ مَا يُحْدِثُ الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ ) قَالَ ( وَمَنْ أَخْرَجَ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ كَنِيفًا أَوْ مِيزَابًا أَوْ جُرْصُنًا أَوْ بَنَى دُكَّانًا فَلِرَجُلٍ مِنْ عَرَضِ النَّاسِ أَنْ يَنْزِعَهُ ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ صَاحِبُ حَقٍّ بِالْمُرُورِ بِنَفْسِهِ وَبِدَوَابِّهِ فَكَانَ لَهُ حَقُّ النَّقْضِ ، كَمَا فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَقُّ النَّقْضِ لَوْ أَحْدَثَ غَيْرُهُمْ فِيهِ شَيْئًا فَكَذَا فِي الْحَقِّ الْمُشْتَرَكِ .
قَالَ : ( وَيَسَعُ لِلَّذِي عَمِلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مَا لَمْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ ) لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُرُورِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ فَلْيُلْحَقْ مَا فِي مَعْنَاهُ بِهِ ، إذْ الْمَانِعُ مُتَعَنَّتٌ ، فَإِذَا أَضَرَّ بِالْمُسْلِمِينَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ } قَالَ : ( وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الدَّرْبِ الَّذِي لَيْسَ بِنَافِذٍ أَنْ يَشْرَعَ كَنِيفًا أَوْ مِيزَابًا إلَّا بِإِذْنِهِمْ ) لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ وَلِهَذَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لَهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ أَضَرَّ بِهِمْ أَوْ لَمْ يَضُرَّ إلَّا بِإِذْنِهِمْ .
وَفِي الطَّرِيقِ النَّافِذِ لَهُ التَّصَرُّفُ إلَّا إذَا أَضَرَّ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إلَى إذْنِ الْكُلِّ ، فَجُعِلَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ كَأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ وَحْدَهُ حُكْمًا كَيْ لَا يَتَعَطَّلَ عَلَيْهِ طَرِيقُ الِانْتِفَاعِ ، وَلَا كَذَلِكَ غَيْرُ النَّافِذِ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى إرْضَائِهِمْ مُمْكِنٌ فَبَقِيَ عَلَى الشَّرِكَةِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا .
( بَابُ مَا يُحْدِثُ الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً ذَكَرَ أَحْكَامَهُ تَسْبِيبًا ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ ، إمَّا لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِلَا وَاسِطَةٍ ، وَإِمَّا لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ .
قَالَ ( وَمَنْ أَخْرَجَ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ كَنِيفًا إلَخْ ) الْكَنِيفُ : الْمُسْتَرَاحُ ، وَالْمِيزَابُ مَعْرُوفٌ ، وَالْجُرْصُنُ قِيلَ هُوَ الْبُرْجُ ، وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : جِذْعٌ يُخْرِجُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ الْحَائِطِ لِيُبْنَى عَلَيْهِ .
وَالْعُرْضُ بِالضَّمِّ : النَّاحِيَةُ ، قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا أَبْعَدُ النَّاسِ مَنْزِلَةً : أَيْ أَضْعَفُهُمْ وَأَرْذَلُهُمْ .
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : فِي إبَاحَةِ الْعَمَلِ وَفِي الْخُصُومَةِ وَفِي ضَمَانِ مَا يَتْلَفُ بِهِ .
وَالْمَبْدُوءُ بِهِ فِي الْكِتَابِ الْخُصُومَةُ ، وَتَعَرَّضَ لِلنَّزْعِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَنْعِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ عُرْضِ النَّاسِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْوَضْعِ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ إذَا أَرَادَ الْوَضْعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ ، لِأَنَّ فِيهِ الِافْتِيَاتَ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فِيمَا إلَيْهِ تَدْبِيرُهُ ، فَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَيْسَ لِأَحَدٍ حَقُّ الْمَنْعِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ ، لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي إحْدَاثِهِ شَرْعًا فَهُوَ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ .
وَأَمَّا الْخُصُومَةُ فِي الرَّفْعِ فَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَيْسَ لِأَحَدٍ ذَلِكَ ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ كَالْمَأْذُونِ مِنْ الْإِمَامِ فَلَا يَرْفَعُهُ أَحَدٌ ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَقُولُ : كَانَ قَبْلَ الْوَضْعِ لِكُلِّ أَحَدٍ يَدٌ فِيهِ ، فَاَلَّذِي يُحْدِثُ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي يَدِ نَفْسِهِ خَاصَّةً ، فَأَمَّا بَعْدَ الْوَضْعِ فَقَدْ صَارَ فِي يَدِهِ ، فَاَلَّذِي يُخَاصِمُهُ
يُرِيدُ إبْطَالَ يَدِهِ مِنْ غَيْرِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ مُتَعَنِّتٌ ، وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَسَعُ لِلَّذِي عَمِلَهُ ) بَيَانُ الْإِبَاحَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ } " أَيْ لَا ابْتِدَاءً وَلَا جَزَاءً : يَعْنِي مُتَعَدِّيًا عَنْ مِقْدَارِ حَقِّهِ فِي الِاقْتِصَاصِ ، لِأَنَّ الضِّرَارَ بِمَعْنَى الْمُضَارَّةِ وَهُوَ أَنْ تَضُرَّ مِنْ ضَرَّك ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِيمَا إذَا كَانَ الدَّرْبُ نَافِذًا ، وَأَمَّا إذَا كَانَ غَيْرَ نَافِذٍ فَقَوْلُهُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الدَّرْبِ الَّذِي لَيْسَ بِنَافِذٍ بَيَانٌ لِذَلِكَ .
وَالدَّرْبُ : الْبَابُ الْوَاسِعُ عَلَى السِّكَّةِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ السِّكَّةُ هَاهُنَا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ ) يَعْنِي فِي الْغَالِبِ قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : الْمُرَادُ بِغَيْرِ النَّافِذَةِ الْمَمْلُوكَةُ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعِلَّةِ الْمِلْكِ فَقَدْ تَنْفُذُ وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ وَقَدْ يُسَدُّ مَنْفَذُهَا وَهِيَ لِلْعَامَّةِ ، لَكِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْمِلْكِ غَالِبًا فَأُقِيمَ مَقَامَهُ وَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى كُلِّ حَالٍ ) أَيْ سَوَاءٌ كَانُوا مُتَلَازِقَيْنِ أَوْ لَمْ يَكُونُوا
قَالَ : ( وَإِذَا أَشْرَعَ فِي الطَّرِيقِ رَوْشَنًا أَوْ مِيزَابًا أَوْ نَحْوَهُ فَسَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ فَعَطِبَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ) لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِتَلَفِهِ مُتَعَدٍّ بِشَغْلِهِ هَوَاءَ الطَّرِيقِ ، وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْأَصْلُ ، وَكَذَلِكَ إذَا سَقَطَ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ ( وَكَذَا إذَا تَعَثَّرَ بِنَقْضِهِ إنْسَانٌ أَوْ عَطِبَتْ بِهِ دَابَّةٌ ، وَإِنْ عَثَرَ بِذَلِكَ رَجُلٌ فَوَقَعَ عَلَى آخَرَ فَمَاتَا فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي أَحْدَثَهُ فِيهِمَا ) لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالدَّافِعِ إيَّاهُ عَلَيْهِ ( وَإِنْ سَقَطَ الْمِيزَابُ بِطَرَفَانِ أَصَابَ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الْحَائِطِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيهِ لِمَا أَنَّهُ وَضَعَهُ فِي مِلْكِهِ ( وَإِنْ أَصَابَهُ مَا كَانَ خَارِجًا مِنْ الْحَائِطِ فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي وَضَعَهُ فِيهِ ) لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا فِيهِ ، وَلَا ضَرُورَةَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُرَكِّبَهُ فِي الْحَائِطِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، وَلَا يُحْرَمُ عَنْ الْمِيرَاثِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ حَقِيقَةً ( وَلَوْ أَصَابَهُ الطَّرَفَانِ جَمِيعًا وَعَلِمَ ذَلِكَ وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ وَهُدِرَ النِّصْفُ كَمَا إذَا جَرَحَهُ سَبُعٌ وَإِنْسَانٌ ، وَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ أَيُّ طَرَفٍ أَصَابَهُ يَضْمَنُ النِّصْفَ ) اعْتِبَارًا لِلْأَحْوَالِ ( وَلَوْ أَشْرَعَ جَنَاحًا إلَى الطَّرِيقِ ثُمَّ بَاعَ الدَّارَ فَأَصَابَ الْجَنَاحُ رَجُلًا فَقَتَلَهُ أَوْ وَضَعَ خَشَبَةً فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ بَاعَ الْخَشَبَةَ وَبَرِئَ إلَيْهِ مِنْهَا فَتَرَكَهَا الْمُشْتَرِي حَتَّى عَطِبَ بِهَا إنْسَانٌ فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ ) لِأَنَّ فِعْلَهُ وَهُوَ الْوَضْعُ لَمْ يَنْفَسِخْ بِزَوَالِ مِلْكِهِ وَهُوَ الْمُوجِبُ ( وَلَوْ وَضَعَ فِي الطَّرِيقِ جَمْرًا فَأَحْرَقَ شَيْئًا يَضْمَنُهُ ) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ ( وَلَوْ حَرَّكَتْهُ الرِّيحُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ ثُمَّ أَحْرَقَ شَيْئًا لَا يَضْمَنُهُ ) لِنَسْخِ الرِّيحِ فِعْلَهُ ، وَقِيلَ إذَا كَانَ الْيَوْمُ رِيحًا يَضْمَنُهُ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِعَاقِبَتِهِ وَقَدْ أَفْضَى إلَيْهَا فَجُعِلَ
كَمُبَاشَرَتِهِ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا أَشْرَعَ فِي الطَّرِيقِ رَوْشَنًا ) وَهُوَ الْمَمَرُّ عَلَى الْعُلْوِ بَيَانٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَقَوْلُهُ ( مِمَّا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ ) يَعْنِي الْكَنِيفَ وَالْمِيزَابَ وَالْجُرْصُنَ .
وَقَوْلُهُ ( فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي أَحْدَثَهُ فِيهِمَا ) يَعْنِي ضَمَانُهُمَا عَلَى الْمُحْدِثِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي عَثَرَ بِهِ لِأَنَّهُ مَدْفُوعٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْمَدْفُوعُ كَالْآلَةِ ( وَقَوْلُهُ وَإِنْ سَقَطَ الْمِيزَابُ إلَخْ ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الدَّاخِلُ أَوْ الْخَارِجُ ، أَوْ أَصَابَاهُ جَمِيعًا وَعَلِمَ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَيَّ الطَّرَفَيْنِ أَصَابَهُ ، وَالْجُمْلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْكِتَابِ بِوُجُوهِهَا ، وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ حَقِيقَةً ) يَعْنِي أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَحِرْمَانَ الْإِرْثِ إنَّمَا يَجِبَانِ بِالْقَتْلِ حَقِيقَةً ، وَهَذَا لَيْسَ بِقَتْلٍ حَقِيقَةً وَإِلَّا لَسَاوَى الْمِلْكُ غَيْرَهُ كَمَا فِي الرَّمْيِ .
قِيلَ إنْ كَانَ قَتْلًا حَقِيقَةً فَالْقِيَاسُ شُمُولُ الْوُجُوبِ فِي الضَّمَانِ وَالْكَفَّارَةِ وَالْحِرْمَانِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْقِيَاسُ عَدَمُهُ فِيهَا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الضَّمَانَ يَعْتَمِدُ الْإِتْلَافَ بِطَرِيقِ صِيَانَةِ التَّعَدِّي لِلدِّمَاءِ عَنْ الْهَدَرِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ إحْدَاثُهُ فِي الطَّرِيقِ مَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ وَالْحِرْمَانُ فَيَعْتَمِدَانِ الْقَتْلَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْهُمَا .
وَقَوْلُهُ ( اعْتِبَارًا لِلْأَحْوَالِ ) يَعْنِي يُعْلَمُ بِيَقِينٍ أَنَّهُ قَتِيلُ الْجِرَاحَةِ ، وَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ بِأَيِّ الطَّرَفَيْنِ كَانَ ، فَإِنْ كَانَ لِلطَّرَفِ الدَّاخِلِ فَلَا ضَمَانَ ، وَإِنْ كَانَ بِالْخَارِجِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ حَصَلَ بِالطَّرَفَيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ أَشْرَعَ جَنَاحًا ) ظَاهِرٌ وَقِيلَ الْمُشْتَرِي مُتَعَدٍّ أَيْضًا بِتَرْكِ الرَّفْعِ مَعَ إمْكَانِهِ شَرْعًا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ سَبَبَ ضَمَانِ الْقَتْلِ إمَّا الْمُبَاشَرَةُ أَوْ التَّسْبِيبُ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ ذَلِكَ فَصَارَ
كَمَنْ تَمَكَّنَ مِنْ رَفْعِ حَجَرٍ عَنْ الطَّرِيقِ وَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى عَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاشِرٍ وَلَا مُتَسَبِّبٍ .
وَاسْتَشْكَلَ أَيْضًا بِالْحَائِطِ الْمَائِلِ إذَا تَقَدَّمَ إنْسَانٌ إلَى صَاحِبِهِ بِالنَّقْضِ فَلَمْ يَنْقُضْ حَتَّى بَاعَ الدَّارَ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ أَصَابَ إنْسَانًا فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ وَإِنْ كَانَ جَانِيًا يُتْرَكُ النَّقْضُ بَعْدَ التَّقَدُّمِ إلَيْهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ صَيْرُورَةَ صَاحِبِ الْحَائِطِ ضَامِنًا بِالتَّقَدُّمِ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ وَقَدْ زَالَ بِالْبَيْعِ .
وَصَيْرُورَةُ مُخْرِجِ الْجَنَاحِ بِشَغْلِ هَوَاءِ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ تَعَدِّيًا وَلَمْ يَزُلْ بِالْبَيْعِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ حَرَّكَتْهُ ) أَيْ الْجَمْرَ ، قِيلَ فِيهِ تَلْوِيحٌ إلَى أَنَّ الرِّيحَ إنْ هَبَّتْ بِشَرَرِهَا فَأَحْرَقَتْ شَيْئًا وَجَبَ الضَّمَانُ لِأَنَّ التَّعَدِّي كَانَ بِوَضْعِ الْجَمْرِ وَهُوَ بَاقٍ فِي مَكَانِهِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا .
وَقَوْلُهُ ( وَقِيلَ إذَا كَانَ الْيَوْمُ رِيحًا يَضْمَنُهُ ) هُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ ، وَالْأَوَّلُ : أَعْنِي الْإِطْلَاقَ فِي عَدَمِ الضَّمَانِ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ أَفْضَى إلَيْهَا ) أَيْ إلَى عَاقِبَتِهِ وَهُوَ الْحَرْقُ بِوَاسِطَةِ الرِّيحِ
( وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَبُّ الدَّارِ الْفَعَلَةَ لِإِخْرَاجِ الْجَنَاحِ أَوْ الظُّلَّةِ فَوَقَعَ فَقَتَلَ إنْسَانًا قَبْلَ أَنْ يَفْرُغُوا مِنْ الْعَمَلِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ ) لِأَنَّ التَّلَفَ بِفِعْلِهِمْ ( وَمَا لَمْ يَفْرُغُوا لَمْ يَكُنْ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا إلَى رَبِّ الدَّارِ ) وَهَذَا لِأَنَّهُ انْقَلَبَ فِعْلُهُمْ قَتْلًا حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ الْكَفَّارَةُ ، وَالْقَتْلُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي عَقْدِهِ فَلَمْ يَتَسَلَّمْ فِعْلُهُمْ إلَيْهِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِمْ ( وَإِنْ سَقَطَ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ فَالضَّمَانُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ اسْتِحْسَانًا ) لِأَنَّهُ صَحَّ الِاسْتِئْجَارُ حَتَّى اسْتَحَقُّوا الْأَجْرَ وَوَقَعَ فِعْلُهُمْ عِمَارَةً وَإِصْلَاحًا فَانْتَقَلَ فِعْلُهُمْ إلَيْهِ فَكَأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ فَلِهَذَا يَضْمَنُهُ ( وَكَذَا إذَا صَبَّ الْمَاءَ فِي الطَّرِيقِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ ، وَكَذَا إذَا رَشَّ الْمَاءَ أَوْ تَوَضَّأَ ) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ بِإِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمَارَّةِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ قَعَدَ أَوْ وَضَعَ مَتَاعَهُ ) لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِيهَا لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ السُّكْنَى كَمَا فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ .
قَالُوا : هَذَا إذَا رَشَّ مَاءً كَثِيرًا بِحَيْثُ يُزْلَقُ بِهِ عَادَةً ، أَمَّا إذَا رَشَّ مَاءً قَلِيلًا كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُزْلَقُ بِهِ عَادَةً لَا يَضْمَنُ ( وَلَوْ تَعَمَّدَ الْمُرُورَ فِي مَوْضِعِ صَبِّ الْمَاءِ فَسَقَطَ لَا يَضْمَنُ الرَّاشُّ ) لِأَنَّهُ صَاحِبُ عِلَّةٍ .
وَقِيلَ : هَذَا إذَا رَشَّ بَعْضَ الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ يَجِدُ مَوْضِعًا لِلْمُرُورِ لَا أَثَرَ لِلْمَاءِ فِيهِ ، فَإِذَا تَعَمَّدَ الْمُرُورَ عَلَى مَوْضِعِ صَبِّ الْمَاءِ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الرَّاشِّ شَيْءٌ ، وَإِنْ رَشَّ جَمِيعَ الطَّرِيقِ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِي الْمُرُورِ ؛ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْخَشَبَةِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الطَّرِيقِ فِي أَخْذِهَا جَمِيعَهُ أَوْ بَعْضَهُ ( وَلَوْ رَشَّ فِنَاءَ حَانُوتٍ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَضَمَانُ مَا عَطِبَ
عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا .
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَبْنِيَ لَهُ فِي فِنَاءِ حَانُوتِهِ فَتَعَقَّلَ بِهِ إنْسَانٌ بَعْدَ فَرَاغِهِ فَمَاتَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا ، وَلَوْ كَانَ أَمَرَهُ بِالْبِنَاءِ فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَجِيرِ ) لِفَسَادِ الْأَمْرِ .
قَوْلُهُ ( وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَبُّ الدَّارِ الْفَعَلَةَ ) الْفَعَلَةَ جَمْعُ فَاعِلٍ وَهُوَ عَلَى وُجُوهٍ : إنْ قَالَ الْمُخْرِجُ لِلْفَعَلَةِ أَخْرِجُوا جَنَاحًا عَلَى فِنَاءِ دَارِي فَإِنَّ لِي حَقَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ الْفَعَلَةُ غَيْرَ مَا قَالَ فَفَعَلُوا فَسَقَطَ وَأَصَابَ شَيْئًا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ بَعْدَهُ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ وَيَرْجِعُونَ بِهِ عَلَى الْآمِرِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ وَجَبَ بِأَمْرِهِ فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا بِهِ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَذْبَحَ شَاةً لَهُ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ بَعْدَ الذَّبْحِ فَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُضَمِّنَ الذَّابِحَ وَيَرْجِعَ بِهِ الذَّابِحُ عَلَى الْآمِرِ ، وَإِنْ قَالَ أَشْرِعُوا جَنَاحًا عَلَى فِنَاءِ دَارِي وَأَخْبَرَهُمْ أَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِي ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُخْبِرْهُمْ فَفَعَلُوا فَسَقَطَ وَأَتْلَفَ شَيْئًا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ فَعَلَيْهِمْ الضَّمَانُ وَلَمْ يَرْجِعُوا بِهِ عَلَى الْآمِرِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا ، وَإِنْ سَقَطَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ عَلَى جَوَابِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِمَا لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ وَقَدْ عَلِمُوا بِفَسَادِ الْأَمْرِ فَلَمْ يُحْكَمْ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ لِيَذْبَحَ شَاةَ جَارٍ لَهُ فَذَبَحَ ثُمَّ ضَمِنَ الذَّابِحُ لِلْجَارِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْآمِرِ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِنَاءٌ مَمْلُوكٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ حَيْثُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعَهُ ، فَمِنْ حَيْثُ الصِّحَّةُ يَكُونُ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْآمِرِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ ، وَمِنْ حَيْثُ الْفَسَادُ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْعَامِلِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهُ عَمَلًا بِهِمَا ، وَإِظْهَارُ جِهَةِ الصِّحَّةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ أَوْلَى مِنْ إظْهَارِهَا قَبْلَ الْفَرَاغِ ، لِأَنَّ أَمْرَ الْآمِرِ إنَّمَا صَحَّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمْلِكُ
الِانْتِفَاعَ بِفِنَاءِ دَارِهِ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ الْمَنْفَعَةُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ .
وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ ( صَحَّ الِاسْتِئْجَارُ ) يَعْنِي بِالنَّظَرِ إلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِفِنَاءِ دَارِهِ ، فَبِالنَّظَرِ إلَى هَذَا كَانَ أَمْرُهُ مُعْتَبَرًا وَوَقَعَ فِعْلُهُمْ عِمَارَةً وَإِصْلَاحًا فَانْتَقَلَ فِعْلُهُمْ إلَيْهِ فَكَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ ، وَلَوْ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ يُقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ فَكَذَا إذَا أَمَرَ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ ) يَعْنِي الصَّبَّ وَالرَّشَّ وَالْوُضُوءَ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ ) يَعْنِي أَنَّهُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ فِيهَا مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِ السُّكْنَى وَهُوَ اعْتِبَارٌ لِحَقِّ الْمِلْكِ بِحَقِيقَتِهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ صَاحِبُ عِلَّةٍ ) وَالْعِلَّةُ إذَا صَلَحَتْ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا بَطَلَ غَيْرُهَا .
وَقَوْلُهُ ( فِي فِنَاءِ حَانُوتِهِ ) قِيلَ الْفِنَاءُ سَعَةُ أُمِّ الْبُيُوتِ ، وَقِيلَ مَا امْتَدَّ مِنْ جَوَانِبِهَا وَقِيلَ مَا أُعِدَّ لِحَوَائِج الدَّارِ كَرَبْطِ الدَّابَّةِ وَكَسْرِ الْحَطَبِ وَقَوْلُهُ ( فَتَعَقَّلَ ) أَيْ تَشَبَّثَ وَتَعَلَّقَ بِالْبِنَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ ) لَمْ يَتَعَرَّضْ بِأَنَّ ذَلِكَ إذَا عَلِمَ الْأَجِيرُ أَنَّ الْفِنَاءَ لِغَيْرِ الْآمِرِ أَوْ إذَا لَمْ يَعْلَمْ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَجِيرُ يَحْسِبُ أَنَّهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَيْثُ قَالَ : وَإِنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فِي الْفِنَاءِ فَحَفَرَ وَمَاتَ فِيهِ إنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ وَالْفِنَاءُ لِغَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ عَالِمًا بِهِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَجِيرِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْأَجِيرُ أَنَّ الْفِنَاءَ لِلْغَيْرِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَمْ يَعْلَمْ بِفَسَادِ الْأَمْرِ
قَالَ : ( وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ وَضَعَ حَجَرًا فَتَلِفَ بِذَلِكَ إنْسَانٌ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَإِنْ تَلِفَتْ بِهِ بَهِيمَةٌ فَضَمَانُهَا فِي مَالِهِ ) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ فَيَضْمَنُ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ ، غَيْرَ أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ النَّفْسَ دُونَ الْمَالِ فَكَانَ ضَمَانُ الْبَهِيمَةِ فِي مَالِهِ وَإِلْقَاءُ التُّرَابِ وَاِتِّخَاذُ الطِّينِ فِي الطَّرِيقِ بِمَنْزِلَةِ إلْقَاءِ الْحَجَرِ وَالْخَشَبَةِ لِمَا ذَكَرْنَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَنَسَ الطَّرِيقَ فَعَطِبَ بِمَوْضِعِ كَنْسِهِ إنْسَانٌ حَيْثُ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ فَإِنَّهُ مَا أَحْدَثَ شَيْئًا فِيهِ إنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ ، حَتَّى لَوْ جَمَعَ الْكُنَاسَةَ فِي الطَّرِيقِ وَتَعَقَّلَ بِهَا إنْسَانٌ كَانَ ضَامِنًا لِتَعَدِّيهِ بِشَغْلِهِ ( وَلَوْ وَضَعَ حَجَرًا فَنَحَّاهُ غَيْرُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي نَحَّاهُ ) لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهِ قَدْ انْتَسَخَ لِفَرَاغِ مَا شَغَلَهُ ، وَإِنَّمَا اُشْتُغِلَ بِالْفِعْلِ الثَّانِي مَوْضِعٌ آخَرُ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي الْبَالُوعَةِ يَحْفِرُهَا الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ ، فَإِنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ أَوْ أَجْبَرَهُ عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْ ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ حَيْثُ فَعَلَ مَا فَعَلَ بِأَمْرِ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ فِي حُقُوقِ الْعَامَّةِ ( وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ ) إمَّا بِالتَّصَرُّفِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ أَوْ بِالِافْتِيَاتِ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ أَوْ هُوَ مُبَاحٌ مُقَيِّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ فِي جَمِيعِ مَا فُعِلَ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ ( وَكَذَا إنْ حَفَرَهُ فِي مِلْكِهِ لَا يَضْمَنُ ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ ( وَكَذَا إذَا حَفَرَهُ فِي فِنَاءِ دَارِهِ ) لِأَنَّ لَهُ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ دَارِهِ وَالْفِنَاءُ فِي تَصَرُّفِهِ .
وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ الْفِنَاءُ مَمْلُوكًا لَهُ أَوْ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَفْرِ فِيهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ ، أَمَّا
إذَا كَانَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُشْتَرَكًا بِأَنْ كَانَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ لِأَنَّهُ مُسَبِّبٌ مُتَعَدٍّ وَهَذَا صَحِيحٌ .قَالَ ( وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَالْبَالُوعَةُ : ثَقْبٌ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ ، وَكَذَلِكَ الْبَلُّوعَةُ ، وَذَكَرَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى بَيَانِ إذْنِ الْإِمَامِ .
وَالِافْتِيَاتُ : الِاسْتِبْدَادُ بِالرَّأْيِ افْتِعَالٌ مِنْ الْفَوْتِ وَهُوَ السَّبْقُ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا الْجَوَابُ عَلَى التَّفْصِيلِ ) يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ بِأَمْرِ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ فِي الْأَمْرِ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَلَوْ فَعَلَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ أَحَدٍ ضَمِنَهُ .
وَقَوْلُهُ ( مِمَّا ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي مِنْ أَوَّلِ الْبَابِ إلَى هُنَا مِنْ إخْرَاجِ الْكَنِيفِ وَالْمِيزَابِ وَالْجُرْصُنِ وَبِنَاءِ الدُّكَّانِ وَإِشْرَاعِ الرَّوْشَنِ وَحَفْرِ الْبِئْرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَغَيْرَهُ ) يَعْنِي مَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ كَبِنَاءِ الظُّلَّةِ وَغَرْسِ الشَّجَرِ وَرَمْيِ الثَّلْجِ وَالْجُلُوسِ لِلْبَيْعِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَلِكَ إنْ حَفَرَهُ فِي مِلْكِهِ لَا يَضْمَنُ ) يَعْنِي كَمَا إذَا أَمَرَهُ الْإِمَامُ فَحَفَرَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ ، كَذَلِكَ إذَا حَفَرَهُ فِي مِلْكِهِ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْإِمَامُ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَلِكَ إذَا حَفَرَهُ فِي فِنَاءِ دَارِهِ ) يَعْنِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْفِنَاءُ مِلْكَهُ .
وَقِيلَ جَازَ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْفِنَاءُ مَمْلُوكًا لَهُ أَوْ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَفْرِ بِأَنْ لَا يَضُرَّ لِأَحَدٍ أَوْ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ .
وَقَوْلُهُ ( هَذَا ) يَعْنِي هَذَا الْجَوَابَ وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَ إذَا كَانَ الْفِنَاءُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا إذَا كَانَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ صَحِيحٌ
( وَلَوْ حَفَرَ فِي الطَّرِيقِ وَمَاتَ الْوَاقِعُ فِيهِ جُوعًا أَوْ غَمًّا لَا ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ مَاتَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ فَلَا يُضَافُ إلَى الْحَفْرِ ، وَالضَّمَانُ إنَّمَا يَجِبُ إذَا مَاتَ مِنْ الْوُقُوعِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ مَاتَ جُوعًا فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ مَاتَ غَمًّا فَالْحَافِرُ ضَامِنٌ لَهُ لِأَنَّهُ لَا سَبَبَ لِلْغَمِّ سِوَى الْوُقُوعِ ، أَمَّا الْجُوعُ فَلَا يَخْتَصُّ بِالْبِئْرِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : هُوَ ضَامِنٌ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا ، لِأَنَّهُ إنَّمَا حَدَثَ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ ، إذْ لَوْلَاهُ لَكَانَ الطَّعَامُ قَرِيبًا مِنْهُ .وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ حَفَرَ فِي الطَّرِيقِ وَمَاتَ الْوَاقِعُ فِيهِ جُوعًا أَوْ غَمًّا ) أَيْ انْخِنَاقًا بِالْعُفُونَةِ .
قَالَ فِي الصِّحَاحِ : يَوْمُ غَمٍّ إذَا كَانَ يَأْخُذُ النَّفْسَ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ ، وَلَا يُتَوَهَّمُ مِنْ تَقْدِيمِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَرْجُوحٌ عَلَى عَادَةِ مَنْ يُؤَخِّرُ الرَّاجِحَ فَإِنَّ الْفِقْهَ مَعَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَبَسَ رَجُلًا فِي بِئْرٍ حَتَّى مَاتَ غَمًّا فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ مَاتَ فِيهِ مِنْ الْوُقُوعِ لِأَنَّ أَثَرَ فِعْلِهِ وَهُوَ الْعُمْقُ أَثَّرَ فِي نَفْسِ الْوَاقِعِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَثَرِ الْوُقُوعِ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ
قَالَ : ( وَإِنْ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَحَفَرُوهَا لَهُ فِي غَيْرِ فِنَائِهِ فَذَلِكَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْأُجَرَاءِ إنْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهَا فِي غَيْرِ فِنَائِهِ ) لِأَنَّ الْإِجَارَةَ صَحَّتْ ظَاهِرًا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَنُقِلَ فِعْلُهُمْ إلَيْهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَغْرُورِينَ ، فَصَارَ كَمَا إذَا أَمَرَ آخَرَ بِذَبْحِ هَذِهِ الشَّاةِ فَذَبَحَهَا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الشَّاةَ لِغَيْرِهِ ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَضْمَنُ الْمَأْمُورُ وَيَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّ الذَّابِحَ مُبَاشِرٌ وَالْآمِرُ مُسَبِّبٌ وَالتَّرْجِيحُ لِلْمُبَاشَرَةِ فَيَضْمَنُ الْمَأْمُورُ وَيَرْجِعُ الْمَغْرُورُ ، وَهُنَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ابْتِدَاءً لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَبِّبٌ وَالْأَجِيرُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ وَالْمُسْتَأْجِرُ مُتَعَدٍّ فَيُرَجَّحُ جَانِبُهُ ( وَإِنْ عَلِمُوا ذَلِكَ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُجَرَاءِ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ أَمْرُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ وَلَا غُرُورَ فَبَقِيَ الْفِعْلُ مُضَافًا إلَيْهِمْ ( وَإِنْ قَالَ لَهُمْ : هَذَا فِنَائِي ) وَلَيْسَ لِي فِيهِ حَقُّ الْحَفْرِ فَحَفَرُوا وَمَاتَ فِيهِ إنْسَانٌ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُجَرَاءِ قِيَاسًا ( لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا بِفَسَادِ الْأَمْرِ فَمَا غَرَّهُمْ ) وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ( لِأَنَّ كَوْنَهُ فِنَاءً لَهُ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا لَهُ لِانْطِلَاقِ يَدِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ مِنْ إلْقَاءِ الطِّينِ وَالْحَطَبِ وَرَبْطِ الدَّابَّةِ وَالرُّكُوبِ وَبِنَاءِ الدُّكَّانِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْحَفْرِ فِي مِلْكِهِ ظَاهِرًا بِالنَّظَرِ إلَى مَا ذَكَرْنَا فَكَفَى ذَلِكَ لِنَقْلِ الْفِعْلِ إلَيْهِ .
قَالَ ) : وَمَنْ جَعَلَ قَنْطَرَةً بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَتَعَمَّدَ رَجُلٌ الْمُرُورَ عَلَيْهَا فَعَطِبَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي عَمِلَ الْقَنْطَرَةَ ، وَكَذَلِكَ ( إذَا وَضَعَ خَشَبَةً فِي الطَّرِيقِ فَتَعَمَّدَ رَجُلٌ الْمُرُورَ عَلَيْهَا ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَعَدٍّ هُوَ تَسْبِيبٌ ، وَالثَّانِي تَعَدٍّ هُوَ مُبَاشَرَةٌ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمُبَاشِرِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ تَخَلُّلَ فِعْلِ فَاعِلٍ
مُخْتَارٍ يَقْطَعُ النِّسْبَةَ كَمَا فِي الْحَافِرِ مَعَ الْمُلْقِي .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَحَفَرُوهَا لَهُ فِي غَيْرِ فِنَائِهِ ) يَعْنِي بِأَنْ كَانَ الْفِنَاءُ لِلْغَيْرِ أَوْ طَرِيقًا لِلْعَامَّةِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ ، فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهَا فِي غَيْرِ فِنَائِهِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْأُجَرَاءِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ صَحَّتْ ظَاهِرًا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ ، وَذَلِكَ يَكْفِي لِنَقْلِ الْفِعْلِ إلَى الْآمِرِ ، لِأَنَّهُ لَوْ تَوَقَّفَ عَلَى صِحَّةِ الْأَمْرِ حَقِيقَةً تَضَرَّرَ الْأُجَرَاءُ فَامْتَنَعُوا عَنْ الْعَمَلِ مَخَافَةَ لُزُومِ الْعُهْدَةِ وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ فَنُقِلَ فِعْلُهُمْ إلَيْهِ ، وَهَذَا دَلِيلُ كَوْنِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَغْرُورِينَ ) دَلِيلُ قَوْلِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْأُجَرَاءِ ، وَصَارَ هَذَا الْأَمْرُ فِي صِحَّتِهِ ظَاهِرًا ، وَكَوْنُ الْمَأْمُورِ مَغْرُورًا كَالْآمِرِ بِذَبْحِ شَاةٍ ظَهَرَ فِيهَا اسْتِحْقَاقُ الْغَيْرِ ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَضْمَنُ الْمَأْمُورُ وَيَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ لِكَوْنِهِ مُبَاشِرًا ، وَكَوْنُ الْآمِرِ مُسَبِّبًا وَالتَّرْجِيحُ لِلْمُبَاشَرَةِ فَيَضْمَنُ وَيَرْجِعُ لِلْغُرُورِ ، وَهَاهُنَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ابْتِدَاءً لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَبِّبٌ وَالْأَجِيرُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ وَالْمُسْتَأْجِرُ مُتَعَدٍّ فَيُرَجَّحُ جَانِبُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُجَرَاءِ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْأَمْرِ بِمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ فَلَا يُنْقَلُ فِعْلُهُمْ إلَيْهِ وَلَيْسُوا بِمَغْرُورِينَ فَيَنْتَفِي الضَّمَانُ عَنْهُمْ فَبَقِيَ الْفِعْلُ مُضَافًا إلَيْهِمْ .
وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّ صِحَّةَ الْأَمْرِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا تَحْتَاجُ إلَى كَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي مِلْكِهِ حَتَّى يَصِحَّ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ أَمْرُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ ، بَلْ الْمُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ : لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَصِحَّ ظَاهِرًا حَيْثُ عَلِمُوا ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِإِشْرَاعِ الْجَنَاحِ ،
فَإِنَّ الْأُجَرَاءَ هُنَاكَ إذَا لَمْ يَعْلَمُوا ضَمِنُوا وَرَجَعُوا عَلَى الْآمِرِ وَهَا هُنَا لَمْ يَضْمَنُوا أَصْلًا .
وَالْجَوَابُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي ذَبْحِ شَاةِ غَيْرِهِ بِأَنَّ الذَّابِحَ مُبَاشِرٌ وَالْآمِرَ مُسَبِّبٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ إشْرَاعَ الْجَنَاحِ كَذَبْحِ الشَّاةِ إذَا ظَهَرَ اسْتِحْقَاقُهَا ( وَإِنْ قَالَ لَهُمْ هَذَا فِنَائِي ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْحَفْرِ فِي مِلْكِهِ ظَاهِرًا بِالنَّظَرِ إلَى مَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ لِانْطِلَاقِ يَدِهِ فِي التَّصَرُّفِ إلَخْ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ لَيْسَ لِي فِيهِ حَقُّ الْحَفْرِ يُخَالِفُ هَذَا الظَّاهِرَ وَهُوَ صَرِيحٌ فَلَا تُعْتَبَرُ الدَّلَالَةُ بِمُقَابَلَتِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ لِي فِيهِ حَقُّ الْحَفْرِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ لَيْسَ لِي ذَلِكَ فِي الْقَدِيمِ ، وَهَكَذَا لَفْظُ الْمَبْسُوطِ فَيَكُونُ الصَّرِيحُ مُشْتَرَكَ الدَّلَالَةِ فَلَا يُعَارِضُ الدَّلَالَةَ .
قَالَ ( وَمَنْ جَعَلَ قَنْطَرَةً بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
قَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْأَوَّلَ ) يَعْنِي جَعْلَ الْقَنْطَرَةِ وَوَضْعَ الْخَشَبَةِ ( تَعَدٍّ ) أَمَّا وَضْعُ الْخَشَبَةِ فَكَوْنُهُ تَعَدِّيًا ظَاهِرٌ وَأَمَّا بِنَاءُ الْقَنْطَرَةِ فَلِأَنَّ الْبَانِيَ فَوَّتَ حَقًّا عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ التَّدْبِيرَ فِي وَضْعِ الْقَنَاطِرِ عَلَى الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ مِنْ حَيْثُ تَعْيِينُ الْمَكَانِ وَالضِّيقِ وَالسَّعَةِ لِلْإِمَامِ فَكَانَ جِنَايَةً بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَالْجِنَايَةُ تَعَدٍّ لَا مَحَالَةَ
قَالَ ( وَمَنْ حَمَلَ شَيْئًا فِي الطَّرِيقِ فَسَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَهُوَ ضَامِنٌ ، وَكَذَا إذَا سَقَطَ فَتَعَثَّرَ بِهِ إنْسَانٌ وَإِنْ كَانَ رِدَاءً قَدْ لَبِسَهُ فَسَقَطَ عَنْهُ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ لَمْ يَضْمَنْ ) وَهَذَا اللَّفْظُ يَشْمَلُ الْوَجْهَيْنِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ حَامِلَ الشَّيْءِ قَاصِدٌ حِفْظَهُ فَلَا حَرَجَ فِي التَّقْيِيدِ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ ، وَاللَّابِسُ لَا يَقْصِدُ حِفْظَ مَا يَلْبَسُهُ فَيَخْرُجُ بِالتَّقْيِيدِ بِمَا ذَكَرْنَا فَجَعَلْنَاهُ مُبَاحًا مُطْلَقًا .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا لَبِسَ مَا لَا يَلْبَسُهُ عَادَةً فَهُوَ كَالْحَامِلِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ لَا تَدْعُو إلَى لُبْسِهِ .
قَوْلُهُ ( وَهَذَا اللَّفْظُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ فَعَطِبَ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ ( يَشْمَلُ الْوَجْهَيْنِ ) وَهُمَا تَلَفُ الْإِنْسَانِ بِوُقُوعِ الشَّيْءِ الْمَحْمُولِ عَلَيْهِ ، وَتَلَفُهُ بِالتَّعَثُّرِ بِهِ بَعْدَمَا وَقَعَ فِي الطَّرِيقِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَعَطِبَ بِهِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَسَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ وَذَلِكَ لَا يَشْمَلُ التَّعَثُّرَ بِهِ ، نَعَمْ لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ قَوْلُهُ مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الرَّجُلِ يَحْمِلُ الشَّيْءَ فِي الطَّرِيقِ فَيَسْقُطُ مِنْهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ فَيَعْطَبُ بِهِ إنْسَانٌ فَيَمُوتُ قَالَ الْحَامِلُ ضَامِنٌ يَشْمَلُهُمَا .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ بَيِّنٌ .
وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ جَعْلُ قَوْلِهِ وَهَذَا اللَّفْظُ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ لَمْ يَضْمَنْ ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرِّدَاءِ فَاسِدٌ لِأَنَّ مَوْتَ الْإِنْسَانِ بِسُقُوطِ الرِّدَاءِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ رَحِمَهُ اللَّهُ نَظَرَ إلَى الْمَعْطُوفِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( فَيَخْرُجُ بِالتَّقْيِيدِ بِمَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي بِوَصْفِ السَّلَامَةِ .
وَقَوْلُهُ ( مَا لَا يَلْبَسُهُ عَادَةً ) يَعْنِي مِثْلَ اللِّبَدِ وَالْجُوَالِقِ وَدُرُوعِ الْحَرْبِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَرْبِ ، وَكَذَا إذَا لَبِسَ زِيَادَةً عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِعَدَمِ عُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ
قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ لِلْعَشِيرَةِ فَعَلَّقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فِيهِ قِنْدِيلًا أَوْ جَعَلَ فِيهِ بَوَارِي أَوْ حَصَاةً فَعَطِبَ بِهِ رَجُلٌ لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْعَشِيرَةِ ضَمِنَ ) قَالُوا : هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يَضْمَنُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ الْقُرَبِ وَكُلُّ أَحَدٍ مَأْذُونٌ فِي إقَامَتِهَا فَلَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ ، كَمَا إذَا فَعَلَهُ بِإِذْنِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ التَّدْبِيرَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْجِدِ لِأَهْلِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ كَنَصْبِ الْإِمَامِ وَاخْتِيَارِ الْمُتَوَلِّي وَفَتْحِ بَابِهِ وَإِغْلَاقِهِ وَتَكْرَارِ الْجَمَاعَةِ إذَا سَبَقَهُمْ بِهَا غَيْرُ أَهْلِهِ فَكَانَ فِعْلُهُمْ مُبَاحًا مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَفِعْلُ غَيْرِهِمْ تَعَدِّيًا أَوْ مُبَاحًا مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ ، وَقَصْدُ الْقُرْبَةِ لَا يُنَافِي الْغَرَامَةَ إذَا أَخْطَأَ الطَّرِيقَ كَمَا إذَا تَفَرَّدَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَالطَّرِيقُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَهْلِهِ .
قَالَ : ( وَإِنْ جَلَسَ فِيهِ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَعَطِبَ بِهِ رَجُلٌ لَمْ يَضْمَنْ إنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ضَمِنَ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يَضْمَنُ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
وَلَوْ كَانَ جَالِسًا لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ لِلتَّعْلِيمِ أَوْ لِلصَّلَاةِ أَوْ نَامَ فِيهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَوْ مَرَّ فِيهِ مَارًّا أَوْ قَعَدَ فِيهِ لِحَدِيثٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ، وَأَمَّا الْمُعْتَكِفُ فَقَدْ قِيلَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ، وَقِيلَ لَا يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ .
لَهُمَا أَنَّ الْمَسْجِدَ إنَّمَا بُنِيَ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ إلَّا بِانْتِظَارِهَا فَكَانَ الْجُلُوسُ فِيهِ مُبَاحًا لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ الصَّلَاةِ ، أَوْ لِأَنَّ الْمُنْتَظِرَ لِلصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ حُكْمًا بِالْحَدِيثِ فَلَا يَضْمَنُ كَمَا إذَا
كَانَ فِي الصَّلَاةِ .
وَلَهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ إنَّمَا بُنِيَ لِلصَّلَاةِ ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مُلْحَقَةٌ بِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ التَّفَاوُتِ فَجَعَلْنَا الْجُلُوسَ لِلْأَصْلِ مُبَاحًا مُطْلَقًا وَالْجُلُوسَ لِمَا يُلْحَقُ بِهِ مُبَاحًا مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَلَا غَرْوَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُبَاحًا أَوْ مَنْدُوبًا إلَيْهِ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالرَّمْيِ إلَى الْكَافِرِ أَوْ إلَى الصَّيْدِ وَالْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ وَالْمَشْيِ فِي الْمَسْجِدِ إذَا وَطِئَ غَيْرَهُ وَالنَّوْمِ فِيهِ إذَا انْقَلَبَ عَلَى غَيْرِهِ ( وَإِنْ جَلَسَ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ الْعَشِيرَةِ فِيهِ لِلصَّلَاةِ فَتَعَقَّلَ بِهِ إنْسَانٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ ) لِأَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِلصَّلَاةِ وَأَمْرُ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ إنْ كَانَ مُفَوَّضًا إلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ وَحْدَهُ .
وَقَوْلُهُ ( لِلْعَشِيرَةِ ) يَعْنِي أَهْلَ الْمَسْجِدِ .
وَقَوْلُهُ ( ضَمِنَ ) يَعْنِي إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ أَحَدٍ مِنْ الْعَشِيرَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ مِنْ بَعْدُ كَمَا إذَا فَعَلَهُ بِإِذْنِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ .
وَقَوْلُهُ ( كَنَصْبِ الْإِمَامِ ) يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ الْبَانِي مَوْجُودًا ، أَمَّا إذَا كَانَ فَنَصَّبَ الْإِمَامُ إلَيْهِ وَهُوَ مُخْتَارُ الْإِسْكَافِ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَالَ أَبُو اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَبِهِ نَأْخُذُ إلَّا أَنْ يُنَصِّبَ شَخْصًا وَالْقَوْمُ يُرِيدُونَ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنْهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ اخْتَارَ قَوْلَ ابْنِ سَلَّامٍ إنَّ الْقَوْمَ أَوْلَى بِنَصْبِ الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ ، وَالْبَانِي أَوْلَى بِالْعِمَارَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَتَكْرَارُ الْجَمَاعَةِ إذَا سَبَقَهُمْ بِهَا غَيْرُ أَهْلِهِ ) فَلَهُمْ تَكْرَارُ الْجَمَاعَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا سُبِقُوا بِهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يُكَرِّرَ الْجَمَاعَةَ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَصْدُ الْقُرْبَةِ لَا يُنَافِي الْغَرَامَةَ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ الْقُرَبِ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا إذَا انْفَرَدَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا ) فَإِنَّهُ قَصَدَ الْقُرْبَةَ لَكِنْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ ، فَإِنَّ شَرْطَهَا أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ أَرْبَعَةً مِمَّنْ تُسْمَعُ شَهَادَتُهُ ، فَإِذَا انْقَضَتْ انْقَلَبَتْ قَذْفًا وَاسْتَوْجَبَ الْحَدَّ .
قَالَ ( وَإِنْ جَلَسَ فِيهِ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَعَطِبَ بِهِ رَجُلٌ إلَخْ ) وَإِنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ رَجُلٌ مِنْ الْعَشِيرَةِ فَعَطِبَ بِهِ رَجُلٌ فَإِمَّا إنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ، فَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَتْ الصَّلَاةُ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا لِأَنَّ النَّفَلَ بِالشُّرُوعِ يَصِيرُ فَرْضًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا بَلْ كَانَ قَاعِدًا لِغَيْرِهَا ضَمِنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا : لَا يَضْمَنُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَوْ كَانَ جَالِسًا لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ لِلتَّعْلِيمِ ) أَيْ لِتَعْلِيمِ الْفِقْهِ أَوْ الْحَدِيثِ ( أَوْ لِلصَّلَاةِ ) يَعْنِي مُنْتَظِرًا لَهَا (
أَوْ نَامَ فِيهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَوْ مَرَّ فِيهِ مَارًّا أَوْ قَعَدَ فِيهِ لِحَدِيثٍ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ) وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ لَيْسَ فِيهِ خِلَافٌ ، بَلْ لَا ضَمَانَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ تَكْرَارٌ ، لِأَنَّهُ قَالَ : وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ضَمِنَ وَغَيْرُ الصَّلَاةِ يَشْمَلُ هَذَا الْمَذْكُورَ كُلَّهُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ضِمْنَ لَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَقَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ جَالِسًا لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مِنْ لَفْظِ الْمُصَنِّفِ بَيَانٌ لِذَلِكَ لَكِنَّ قَوْلَهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ يُفِيدُ اتِّفَاقَ الْمَشَايِخِ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ كَمَا رَأَيْت ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ : فَقَدْ قِيلَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ وَقِيلَ لَا يَضْمَنُ بِلَا خِلَافٍ كَمَا قَالَ فِي الِاعْتِكَافِ .
وَقَوْلُهُ ( لَهُمَا أَنَّ الْمَسْجِدَ إنَّمَا بُنِيَ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } وقَوْله تَعَالَى { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَقَوْلُهُ ( وَلَهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ إنَّمَا بُنِيَ لِلصَّلَاةِ ) لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَوْضِعُ السُّجُودِ أَلَا يُرَى أَنَّ الْمَسْجِدَ إذَا ضَاقَ عَلَى الْمُصَلِّي كَانَ لَهُ إزْعَاجُ الْقَاعِدِ فِيهِ الْمُشْتَغِلِ بِالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وَالتَّدْرِيسِ لِأَنَّهُ يَطْلُبُ مَوْضُوعَهُ الْأَصْلِيَّ دُونَ الْعَكْسِ ، وَمَا عَرَفَ النَّاسُ الْمَسْجِدَ إلَّا لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فِيهِ ، وَلَا دَلَالَةَ لِمَا ذَكَرَا مِنْ الْآيَتَيْنِ عَلَى مَا سِوَى الْإِذْنِ وَالْعُكُوفِ بِهِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ ، وَكَوْنُهَا مِنْ ضَرُورَاتِ الصَّلَاةِ مُسَلَّمٌ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ
الْمَوْضُوعِ الْأَصْلِيِّ وَمَا أُلْحِقَ بِهِ ، وَالْبَاقِي وَاضِحٌ
( فَصْلٌ فِي الْحَائِطِ الْمَائِلِ ) .
قَالَ : ( وَإِذَا مَالَ الْحَائِطُ إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَطُولِبَ صَاحِبُهُ بِنَقْضِهِ وَأُشْهِدَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْقُضْهُ فِي مُدَّةٍ يَقْدِرُ عَلَى نَقْضِهِ حَتَّى سَقَطَ ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَضْمَنَ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ مِنْهُ مُبَاشَرَةً ، وَالْمُبَاشَرَةُ شَرْطٌ هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ ، لِأَنَّ أَصْلَ الْبِنَاءِ كَانَ فِي مِلْكِهِ ، وَالْمَيَلَانُ وَشَغْلُ الْهَوَاءِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ فَصَارَ كَمَا قَبْلَ الْإِشْهَادِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَائِطَ لَمَّا مَالَ إلَى الطَّرِيقِ فَقَدْ اشْتَمَلَ هَوَاءَ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ بِمِلْكِهِ وَرَفْعُهُ فِي يَدِهِ ، فَإِذَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ وَطُولِبَ بِتَفْرِيغِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ فَإِذَا امْتَنَعَ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَقَعَ ثَوْبُ إنْسَانٍ فِي حِجْرِهِ يَصِيرُ مُتَعَدِّيًا بِالِامْتِنَاعِ عَنْ التَّسْلِيمِ إذَا طُولِبَ بِهِ كَذَا هَذَا ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِشْهَادِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ هَلَاكِ الثَّوْبِ قَبْلَ الطَّلَبِ ، وَلِأَنَّا لَوْ لَمْ نُوجِبْ عَلَيْهِ الضَّمَانَ يَمْتَنِعُ عَنْ التَّفْرِيغِ فَيَنْقَطِعُ الْمَارَّةُ حَذَرًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَتَضَرَّرُونَ بِهِ ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ مِنْ الْوَاجِبِ وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحَائِطِ فَيَتَعَيَّنُ لِدَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ ، وَكَمْ مِنْ ضَرَرٍ خَاصٍّ يُتَحَمَّلُ لِدَفْعِ الْعَامِّ مِنْهُ ، ثُمَّ فِيمَا تَلِفَ بِهِ مِنْ النُّفُوسِ تَجِبُ الدِّيَةُ وَتَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ ، لِأَنَّهُ فِي كَوْنِهِ جِنَايَةً دُونَ الْخَطَأِ فَيُسْتَحَقُّ فِيهِ التَّخْفِيفُ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى اسْتِئْصَالِهِ وَالْإِجْحَافِ بِهِ ، وَمَا تَلِفَ بِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ كَالدَّوَابِّ وَالْعُرُوضِ يَجِبُ ضَمَانُهَا فِي مَالِهِ ، لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْمَالَ وَالشَّرْطُ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ وَطَلَبُ النَّقْضِ مِنْهُ دُونَ الْإِشْهَادِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْإِشْهَادَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إثْبَاتِهِ عِنْدَ إنْكَارِهِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ .
وَصُورَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ :
اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ تَقَدَّمْت إلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي هَدْمِ حَائِطِهِ هَذَا ، وَلَا يَصِحُّ الْإِشْهَادُ قَبْلَ أَنْ يَهِيَ الْحَائِطُ لِانْعِدَامِ التَّعَدِّي .
فَصْلٌ فِي الْحَائِطِ الْمَائِلِ ) لَمَّا كَانَ الْحَائِطُ الْمَائِلُ يُنَاسَبُ الْجُرْصُنَ وَالرَّوْشَنَ وَالْجَنَاحَ وَالْكَنِيفَ وَغَيْرَهَا أَلْحَقَ مَسَائِلَهُ بِهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ .
قَالَ ( وَإِذَا مَالَ حَائِطٌ إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ إلَخْ ) أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِوَجْهِ الْقِيَاسِ وَلَمْ يُوجِبْ الضَّمَانَ ، وَعُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ اسْتَحْسَنُوا إيجَابَ الضَّمَانِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَشُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ التَّابِعِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَمْ مِنْ ضَرَرٍ خَاصٍّ يُتَحَمَّلُ لِدَفْعِ الْعَامِّ ) كَالرَّامِي إلَى الْكُفَّارِ وَإِنْ تَتَرَّسُوا بِالْمُسْلِمِينَ وَقَطْعِ الْعُضْوِ لِلْأَكْلَةِ عِنْدَ خَوْفِ هَلَاكِ النَّفْسِ .
وَقَوْلُهُ ( وَتَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ ) قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَتَحَمَّلُ حَتَّى يَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : عَلَى التَّقَدُّمِ إلَيْهِ فِي النَّقْدِ ، وَعَلَى أَنَّهُ مَاتَ مِنْ سُقُوطِهِ عَلَيْهِ ، وَعَلَى أَنَّ الدَّارَ لَهُ ، لِأَنَّ كَوْنَ الدَّارِ فِي يَدِهِ ظَاهِرٌ وَالظَّاهِرُ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ حَقٌّ عَلَى الْغَيْرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالشَّرْطُ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ ) وَهُوَ أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الْحَقِّ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ إنَّ حَائِطَك هَذَا مَخُوفٌ أَوْ يَقُولُ مَائِلٌ فَانْقُضْهُ أَوْ اهْدِمْهُ حَتَّى لَا يَسْقُطَ وَلَا يُتْلِفَ شَيْئًا .
وَلَوْ قَالَ يَنْبَغِي أَنْ تَهْدِمَهُ فَذَاكَ مَشُورَةٌ ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ التَّقَدُّمُ مِنْ صَاحِبِ حَقٍّ كَوَاحِدٍ مِنْ الْعَامَّةِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً إنْ مَالَ إلَى طَرِيقِهِمْ وَوَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ السِّكَّةِ الْخَاصَّةِ إنْ مَالَ إلَيْهَا وَصَاحِبِ الدَّارِ أَوْ سُكَّانِهَا إنْ مَالَ إلَيْهَا ، وَأَنْ يَكُونَ إلَى مَنْ لَهُ وِلَايَةُ التَّفْرِيغِ حَتَّى لَوْ تَقَدَّمَ إلَى مَنْ يَسْكُنُ الدَّارَ بِإِجَارَةٍ أَوْ إعَارَةٍ فَلَمْ يُنْقَضْ حَتَّى سَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ
فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَالشَّرْطُ هُوَ التَّقَدُّمُ دُونَ الْإِشْهَادِ ) حَتَّى لَوْ اعْتَرَفَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ طُولِبَ بِنَقْضِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ
قَالَ : ( وَلَوْ بَنَى الْحَائِطَ مَائِلًا فِي الِابْتِدَاءِ قَالُوا : يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِسُقُوطِهِ مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ ) لِأَنَّ الْبِنَاءَ تَعَدٍّ ابْتِدَاءً كَمَا فِي إشْرَاعِ الْجَنَاحِ .
قَالَ : ( وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى التَّقَدُّمِ ) لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ عَلَى الْقَتْلِ ، وَشَرْطُ التَّرْكِ فِي مُدَّةٍ يَقْدِرُ عَلَى نَقْضِهِ فِيهَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إمْكَانِ النَّقْضِ لِيَصِيرَ بِتَرْكِهِ جَانِيًا ، وَيَسْتَوِي أَنْ يُطَالِبَهُ بِنَقْضِهِ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ ، لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي الْمُرُورِ فَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً حُرًّا كَانَ أَوْ مُكَاتَبًا ، وَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ مُطَالَبَةٌ بِالتَّفْرِيغِ فَيَتَفَرَّدُ كُلُّ صَاحِبِ حَقٍّ بِهِ .
قَالَ : ( وَإِنْ مَالَ إلَى دَارِ رَجُلٍ فَالْمُطَالَبَةُ إلَى مَالِكِ الدَّارِ خَاصَّةً ) لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ عَلَى الْخُصُوصِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا سُكَّانٌ لَهُمْ أَنْ يُطَالِبُوهُ لِأَنَّ لَهُمْ الْمُطَالَبَةَ بِإِزَالَةِ مَا شَغَلَ الدَّارَ فَكَذَا بِإِزَالَةِ مَا شَغَلَ هَوَاءَهَا ، وَلَوْ أَجَّلَهُ صَاحِبُ الدَّارِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهَا أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ سَاكِنُوهَا فَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ بِالْحَائِطِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَالَ إلَى الطَّرِيقِ فَأَجَّلَهُ الْقَاضِي أَوْ مَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ الْحَقَّ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ إلَيْهِمَا إبْطَالُ حَقِّهِمْ .
وَلَوْ بَاعَ الدَّارَ بَعْدَمَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ وَقَبَضَهَا الْمُشْتَرِي بَرِئَ مِنْ ضَمَانِهِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ بِتَرْكِ الْهَدْمِ مَعَ تَمَكُّنِهِ وَقَدْ زَالَ تَمَكُّنُهُ بِالْبَيْعِ ، بِخِلَافِ إشْرَاعِ الْجَنَاحِ لِأَنَّهُ كَانَ جَانِيًا بِالْوَضْعِ وَلَمْ يَنْفَسِخْ بِالْبَيْعِ فَلَا يَبْرَأُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ بَعْدَ شِرَائِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِتَرْكِهِ التَّفْرِيغَ مَعَ تَمَكُّنِهِ بَعْدَمَا طُولِبَ بِهِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَى كُلِّ مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ الْحَائِطِ وَتَفْرِيغِ الْهَوَاءِ ، وَمَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ لَا يَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ كَالْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُودَعِ وَسَاكِنِ الدَّارِ ، وَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَى الرَّاهِنِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْفِكَاكِ وَإِلَى الْوَصِيِّ وَإِلَى أَبِي الْيَتِيمِ أَوْ أُمِّهِ فِي حَائِطِ الصَّبِيِّ لِقِيَامِ الْوِلَايَةِ ، وَذَكَرَ الْأُمَّ فِي الزِّيَادَاتِ وَالضَّمَانُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ لِأَنَّ فِعْلَ هَؤُلَاءِ كَفِعْلِهِ ، وَإِلَى الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهُ ، وَإِلَى الْعَبْدِ التَّاجِرِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ وِلَايَةَ النَّقْضِ لَهُ ، ثُمَّ التَّلَفُ بِالسُّقُوطِ إنْ كَانَ مَا لَا فَهُوَ فِي عِتْقِ الْعَبْدِ ، وَإِنْ كَانَ نَفْسًا فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْإِشْهَادَ مِنْ وَجْهٍ عَلَى الْمَوْلَى وَضَمَانُ الْمَالِ أَلْيَقُ بِالْعَبْدِ وَضَمَانُ النَّفْسِ بِالْمَوْلَى ، وَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ فِي نَصِيبِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ الْحَائِطِ وَحْدَهُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إصْلَاحِ نَصِيبِهِ بِطَرِيقِهِ وَهُوَ الْمُرَافَعَةُ إلَى الْقَاضِي .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ فِعْلَ هَؤُلَاءِ كَفِعْلِهِ ) أَيْ فِعْلُ الْوَصِيِّ وَالْأَبِ وَالْأُمِّ كَفِعْلِ الصَّبِيِّ ، وَالتَّقَدُّمُ إلَيْهِمْ كَالتَّقَدُّمِ عَلَى الصَّبِيِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا هَدَرَ الْقَتِيلُ بِسُقُوطِ الْحَائِطِ إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ بَعْدَ التَّقَدُّمِ إلَى الْأَبِ وَالْوَصِيِّ .
أُجِيبَ بِأَنَّ التَّقَدُّمَ إلَيْهِمَا جُعِلَ كَالتَّقَدُّمِ إلَى الصَّغِيرَةِ مَا دَامَتْ وِلَايَتُهُمَا بَاقِيَةً وَقَدْ زَالَتْ بِالْبُلُوغِ فَصَارَ كَأَنَّ التَّقَدُّمَ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ ، ثُمَّ إنَّهُمَا فِي تَرْكِ الْهَدْمِ يَعْمَلَانِ لِلصَّبِيِّ وَيَنْظُرَانِ لَهُ فَكَانَ الضَّمَانُ فِي مَالِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْوَصِيُّ إذَا تَرَكَ النَّقْضَ بَعْدَ التَّقَدُّمِ إلَيْهِ أَلْحَقَ ضَرَرًا بِمَالِ الْيَتِيمِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ فِي تَرْكِ النَّقْضِ دَفْعَ مَضَرَّةٍ مُتَحَقِّقَةٍ وَهِيَ مَضَرَّةُ مُؤْنَةِ النَّقْضِ وَبِنَائِهِ ثَانِيًا ، وَفِي نَقْضِهِ دَفْعَ مَضَرَّةٍ مَوْهُومَةٍ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَسْقُطَ وَإِنْ سَقَطَ لَا يَهْلِكُ بِهِ شَيْءٌ فَكَانَ تَرْكُهُ أَنْظَرَ لِلصَّبِيِّ فَلَا يَلْزَمُ الْوَصِيَّ ضَمَانٌ .
وَقَوْلُهُ ( فِي عِتْقِ الْعَبْدِ ) يَعْنِي يُبَاعُ فِيهِ كَمَا يُبَاعُ فِي دُيُونِ تِجَارَتِهِ ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى الْمَوْلَى كَضَمَانِ النَّفْسِ ، وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فَقُلْنَا : الْعَبْدُ فِي ضَمَانِ الْتِزَامِ الْمَالِ كَالْحُرِّ فَإِنَّهُ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ فِي اكْتِسَابِ سَبَبِ ذَلِكَ ، وَفِي الْتِزَامِ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِأَنَّ فَكَّ الْحَجْرِ بِالْإِذْنِ لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى الْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ ) أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الدَّارِ لِلْمَوْلَى رَقَبَةً وَتَصَرُّفًا وَالْعَبْدُ خَصْمٌ مِنْ جِهَتِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى إنْسَانٌ حَقًّا فِي دَارٍ بِيَدِ مَأْذُونٍ لَهُ
يَنْتَصِبُ خَصْمًا فَكَانَ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ إشْهَادًا عَلَى الْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَعِنْدَهُمَا ظَاهِرٌ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْلِصَهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَكَانَ هَذَا تَقَدُّمًا إلَى الْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ وَتَقَدُّمًا إلَى الْعَبْدِ مِنْ وَجْهٍ ، فَاعْتُبِرَ فِي ضَمَانِ الْأَنْفُسِ تَقَدُّمًا إلَى الْمَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فَكَّ الْحَجْرِ بِالْإِذْنِ لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ ، وَفِي ضَمَانِ الْأَمْوَالِ تَقَدُّمًا إلَى الْعَبْدِ لِأَنَّهُ كَالْحُرِّ فِيهِ كَمَا مَرَّ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ فِي نَصِيبِهِ ) يَعْنِي لَوْ هَلَكَ أَحَدٌ بِسُقُوطِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ضَمِنَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ فِيهِ ، وَهَذَا جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ ، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ .
وَأَمَّا جَوَابُ الْقِيَاسِ فَهُوَ أَنْ لَا يَضْمَنَ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا ، أَمَّا الَّذِي تَقَدَّمَ إلَيْهِ فَلِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ النَّقْضِ فَلَمْ يَكُنْ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ مُفِيدًا ، وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْوَرَثَةِ فَلِعَدَمِ التَّقَدُّمِ إلَيْهِمْ فَلَمْ يُوجَدْ التَّعَدِّي مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي تَرْكِ التَّفْرِيغِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ يَتَعَذَّرُ عَادَةً ، فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ الْإِشْهَادُ عَلَى بَعْضِهِمْ فِي نَصِيبِهِ أَدَّى إلَى الضَّرَرِ وَهُوَ مَدْفُوعٌ .
( وَلَوْ سَقَطَ الْحَائِطُ الْمَائِلِ عَلَى إنْسَانٍ بَعْدَ الْإِشْهَادِ فَقَتَلَهُ فَتَعَثَّرَ بِالْقَتِيلِ غَيْرُهُ فَعَطِبَ لَا يَضْمَنُهُ ) لِأَنَّ التَّفْرِيغَ عَنْهُ إلَى الْأَوْلِيَاءِ لَا إلَيْهِ ( وَإِنْ عَطِبَ بِالنَّقْضِ ضَمِنَهُ ) لِأَنَّ التَّفْرِيغَ إلَيْهِ إذْ النَّقْضُ مِلْكُهُ وَالْإِشْهَادُ عَلَى الْحَائِطِ إشْهَادٌ عَلَى النَّقْضِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ امْتِنَاعُ الشَّغْلِ ( وَلَوْ عَطِبَ بِجَرَّةِ كَانَتْ عَلَى الْحَائِطِ فَسَقَطَتْ بِسُقُوطِهِ وَهِيَ مِلْكُهُ ضَمِنَهُ ) لِأَنَّ التَّفْرِيغَ إلَيْهِ ( وَإِنْ كَانَ مِلْكَ غَيْرِهِ لَا يَضْمَنُهُ ) لِأَنَّ التَّفْرِيغَ إلَى مَالِكِهَا قَالَ
وَقَوْلُهُ ( فَعَطِبَ لَا يَضْمَنُهُ ) أَيْ لَا يَضْمَنُ صَاحِبُ الْحَائِطِ الْقَتِيلَ الثَّانِيَ ( لِأَنَّ التَّفْرِيغَ عَنْهُ ) أَيْ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ بِرَفْعِهِ مُفَوَّضٌ إلَى أَوْلِيَائِهِ لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ دَفْنَهُ ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا إذَا وَقَعَ الْجَنَاحُ فِي الطَّرِيقِ فَتَعَثَّرَ إنْسَانٌ بِنَقْضِهِ وَمَاتَ ثُمَّ تَعَثَّرَ رَجُلٌ بِالْقَتِيلِ وَمَاتَ فَإِنَّ دِيَةَ الْقَتِيلَيْنِ جَمِيعًا عَلَى صَاحِبِ الْجَنَاحِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ إشْرَاعَ الْجَنَاحِ فِي نَفْسِهِ جِنَايَةٌ وَهُوَ فِعْلُهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَلْقَاهُ بِيَدِهِ عَلَيْهِ فَكَانَ حُصُولُ الْقَتِيلِ فِي الطَّرِيقِ مُضَافًا إلَى فِعْلِهِ كَحُصُولِ نَقْضِ الْجَنَاحِ فِي الطَّرِيقِ وَمَنْ أَلْقَى شَيْئًا فِي الطَّرِيقِ كَانَ ضَامِنًا لِمَا عَطِبَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ تَفْرِيغَ الطَّرِيقِ عَنْهُ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحَائِطِ فَإِنَّ نَفْسَ الْبِنَاءِ لَيْسَ بِجِنَايَةٍ وَبَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلٌ يَصِيرُ بِهِ جَانِيًا لَكِنْ جُعِلَ كَالْفَاعِلِ بِتَرْكِ النَّقْضِ فِي الطَّرِيقِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّفْرِيغِ ، وَالتَّرْكُ مَعَ الْقُدْرَةِ وُجِدَ فِي حَقِّ النَّقْضِ لَا فِي حَقِّ الْقَتِيلِ فَلِذَلِكَ جُعِلَ فَاعِلًا فِي حَقِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ لَا فِي حَقِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي وَبِهَذَا يُعْلَمُ حُكْمُ مَا عَطِبَ بِالنَّقْضِ وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحًا .
وَقَوْلُهُ ( فَسَقَطَتْ ) يَعْنِي الْجَرَّةُ بِسُقُوطِ الْحَائِطِ ، يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ وَقَعَتْ الْجَرَّةُ وَحْدَهَا فَأَصَابَتْ إنْسَانًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ وَضَعَهَا عَلَى مِلْكِهِ وَهُوَ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا فِيمَا يُحْدِثُهُ فِي مِلْكِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَائِطُ مَائِلًا أَوْ غَيْرَ مَائِلٍ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ
( وَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ بَيْنَ خَمْسَةِ رِجَالٍ أَشْهَدَ عَلَى أَحَدِهِمْ فَقَتَلَ إنْسَانًا ضَمِنَ خُمُسَ الدِّيَةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَحَفَرَ أَحَدُهُمْ فِيهَا بِئْرًا وَالْحَفْرُ كَانَ بِغَيْرِ رِضَا الشَّرِيكَيْنِ الْآخَرِينَ أَوْ بَنَى حَائِطًا فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَعَلَيْهِ ثُلُثَا الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ ) لَهُمَا أَنَّ التَّلَفَ بِنَصِيبِ مَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ مُعْتَبَرٌ ، وَبِنَصِيبِ مَنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ هَدَرٌ ، فَكَانَا قِسْمَيْنِ فَانْقَسَمَ نِصْفَيْنِ كَمَا مَرَّ فِي عَقْرِ الْأَسَدِ وَنَهْشِ الْحَيَّةِ وَجَرْحِ الرَّجُلِ .
وَلَهُ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الثِّقَلُ الْمُقَدَّرُ وَالْعُمْقُ الْمُقَدَّرُ ، لِأَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ وَهُوَ الْقَلِيلُ حَتَّى يُعْتَبَرُ كُلُّ جُزْءٍ عِلَّةً فَتَجْتَمِعُ الْعِلَلُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ ثُمَّ تُقْسَمُ عَلَى أَرْبَابِهَا بِقَدْرِ الْمِلْكِ ، بِخِلَافِ الْجِرَاحَاتِ فَإِنَّ كُلَّ جِرَاحَةٍ عِلَّةٌ لِلتَّلَفِ بِنَفْسِهَا صَغُرَتْ أَوْ كَبِرَتْ عَلَى مَا عُرِفَ ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْمُزَاحِمَةِ أُضِيفَ إلَى الْكُلِّ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَوْلُهُ ( فَعَلَيْهِ ) أَيْ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ حَافِرِ الْبِئْرِ وَبَانِي الْحَائِطِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَهُ ) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الثِّقَلُ الْمُقَدَّرُ : يَعْنِي فِي الْحَائِطِ ، وَالْعُمْقُ الْمُقَدَّرُ : يَعْنِي فِي الْبِئْرِ ( لِأَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ ) أَيْ أَصْلَ الثِّقَلِ وَالْعُمْقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } ( وَهُوَ الْقَلِيلُ ) أَيْ ذَلِكَ الْأَصْلُ : يَعْنِي أَنَّ الْجُزْءَ الْيَسِيرَ لَيْسَ بِمُهْلِكٍ ( حَتَّى يُعْتَبَرَ كُلُّ جُزْءٍ عِلَّةً فَتَجْتَمِعُ الْعِلَلُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ ثُمَّ تُقْسَمُ عَلَى أَرْبَابِهَا بِقَدْرِ الْمِلْكِ ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَشْهَدَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا ثُمَّ سَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خُمُسُ الدِّيَةِ فَيُتْرَكُ الْإِشْهَادُ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ لَا يَزْدَادُ الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ ، وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ مَسْأَلَةُ الْبِئْرِ فَيُقَالُ لَهُمَا اجْتَمَعَ فِي حَقِّهِ مَعْنَيَانِ .
أَحَدُهُمَا مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ وَهُوَ التَّعَدِّي بِالْحَفْرِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَالْآخَرُ مَانِعٌ عَنْهُ وَهُوَ عَدَمُ التَّعَدِّي مِنْ حَيْثُ الْحَفْرُ فِي مِلْكِهِ فَيُجْعَلُ الْمُعْتَبَرُ جِنْسًا وَالْمُهْدَرُ جِنْسًا فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ الضَّمَانِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ صِفَةَ التَّعَدِّي تَحَقَّقَتْ فِي الثُّلُثَيْنِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الثُّلُثَيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْجِرَاحَاتِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا كَمَا مَرَّ فِي عَقْرِ الْأَسَدِ وَنَهْشِ الْحَيَّةِ وَجَرْحِ الرَّجُلِ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ أُضِيفَ إلَى الْكُلِّ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ ) يُضَافُ إلَيْهِ وَإِذَا أُضِيفَ إلَى الْكُلِّ وَبَعْضُهَا مُعْتَبَرٌ فِي إضَافَةِ الضَّمَانِ إلَيْهِ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَجُعِلَ غَيْرُ الْمُعْتَبَرِ شَيْئًا وَاحِدًا وَإِنْ تَعَدَّدَ فَلِذَلِكَ صَارَ الضَّمَانُ نِصْفَيْنِ فَاعْتُبِرَ أَحَدُهُمَا وَأُهْدِرَ الْآخِرُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( بَابُ جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهَا ) .
قَالَ ( الرَّاكِبُ ضَامِنٌ لِمَا أَوْطَأَتْ الدَّابَّةُ مَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا أَوْ رَأْسِهَا أَوْ كَدَمَتْ أَوْ خَبَطَتْ ، وَكَذَا إذَا صَدَمَتْ وَلَا يَضْمَنُ مَا نَفَحَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا ) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُرُورَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ مُبَاحٌ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ لِأَنَّهُ يُتَصَرَّفُ فِي حَقِّهِ مِنْ وَجْهٍ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ لِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ كُلِّ النَّاسِ فَقُلْنَا بِالْإِبَاحَةِ مُقَيَّدًا بِمَا ذَكَرْنَا لِيَعْتَدِلَ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، ثُمَّ إنَّمَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ فِيمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِهَا فِيمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْعِ عَنْ التَّصَرُّفِ وَسَدِّ بَابِهِ وَهُوَ مَفْتُوحٌ ، وَالِاحْتِرَازُ عَنْ الْإِيطَاءِ وَمَا يُضَاهِيهِ مُمْكِنٌ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ التَّيْسِيرِ فَقَيَّدْنَاهُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ عَنْهُ ، وَالنَّفْحَةُ بِالرِّجْلِ وَالذَّنَبِ لَيْسَ يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مَعَ السَّيْرِ عَلَى الدَّابَّةِ فَلَمْ يَتَقَيَّدْ بِهِ ( فَإِنْ أَوْقَفَهَا فِي الطَّرِيقِ ضَمِنَ النَّفْحَةَ أَيْضًا ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ الْإِيقَافِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ عَنْ النَّفْحَةِ فَصَارَ مُتَعَدِّيًا فِي الْإِيقَافِ وَشَغْلِ الطَّرِيقِ بِهِ فَيَضْمَنُهُ .
قَالَ ( وَإِنْ أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ بِرِجْلِهَا حَصَاةً أَوْ نَوَاةً أَوْ أَثَارَتْ غُبَارًا أَوْ حَجَرًا صَغِيرًا فَفَقَأَ عَيْنَ إنْسَانٍ أَوْ أَفْسَدَ ثَوْبَهُ لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ كَانَ حَجَرًا كَبِيرًا ضَمِنَ ) لِأَنَّهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ ، إذْ سَيْرُ الدَّوَابِّ لَا يَعْرَى عَنْهُ ، وَفِي الثَّانِي مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ يَنْفَكُّ عَنْ السَّيْرِ عَادَةً ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِتَعْنِيفِ الرَّاكِبِ ، وَالْمُرْتَدِفُ فِيمَا ذَكَرْنَا كَالرَّاكِبِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ .
قَالَ ( فَإِنْ رَاثَتْ أَوْ بَالَتْ فِي الطَّرِيقِ وَهِيَ تَسِيرُ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ لَمْ يَضْمَنْ ) لِأَنَّهُ
مِنْ ضَرُورَاتِ السَّيْرِ فَلَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ ( وَكَذَا إذَا أَوْقَفَهَا لِذَلِكَ ) لِأَنَّ مِنْ الدَّوَابِّ مَا لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِيقَافِ ، وَإِنْ أَوْقَفَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَعَطِبَ إنْسَانٌ بِرَوْثِهَا أَوْ بَوْلِهَا ضَمِنَ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا الْإِيقَافِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ السَّيْرِ ، ثُمَّ هُوَ أَكْثَرُ ضَرَرًا بِالْمَارَّةِ مِنْ السَّيْرِ لِمَا أَنَّهُ أَدْوَمُ مِنْهُ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ ( وَالسَّائِقُ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا وَالْقَائِدُ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا دُونَ رِجْلِهَا ) وَالْمُرَادُ النَّفْحَةُ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ، وَإِلَيْهِ مَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّفْحَةَ بِمَرْأَى عَيْنِ السَّائِقِ فَيُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَغَائِبٌ عَنْ بَصَرِ الْقَائِدِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ .
وَقَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ : إنَّ السَّائِقَ لَا يَضْمَنُ النَّفْحَةَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ يَرَاهَا ، إذْ لَيْسَ عَلَى رِجْلِهَا مَا يَمْنَعُهَا بِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ ، بِخِلَافِ الْكَدْمِ لِإِمْكَانِهِ كَبْحَهَا بِلِجَامِهَا .
وَبِهَذَا يَنْطِقُ أَكْثَرُ النُّسَخِ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَضْمَنُونَ النَّفْحَةَ كُلُّهُمْ لِأَنَّ فِعْلَهَا مُضَافٌ إلَيْهِمْ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الرِّجْلُ جُبَارٌ } وَمَعْنَاهُ النَّفْحَةُ بِالرِّجْلِ ، وَانْتِقَالُ الْفِعْلِ بِتَخْوِيفِ الْقَتْلِ كَمَا فِي الْمُكْرَهِ وَهَذَا تَخْوِيفٌ بِالضَّرْبِ .
قَالَ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَكُلُّ شَيْءٍ ضَمِنَهُ الرَّاكِبُ ضَمِنَهُ السَّائِقُ وَالْقَائِدُ ) لِأَنَّهُمَا مُسَبِّبَانِ بِمُبَاشَرَتِهِمَا شَرْطَ التَّلَفِ وَهُوَ تَقْرِيبُ الدَّابَّةِ إلَى مَكَانِ الْجِنَايَةِ فَيَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ فِيمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالرَّاكِبِ ( إلَّا أَنَّ عَلَى الرَّاكِبِ الْكَفَّارَةَ ) فِيمَا أَوْطَأْتُهُ الدَّابَّةُ بِيَدِهَا أَوْ بِرِجْلِهَا ( وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا ) وَلَا عَلَى
الرَّاكِبِ فِيمَا وَرَاءَ الْإِبْطَاءِ ، لِأَنَّ الرَّاكِبَ مُبَاشِرٌ فِيهِ لِأَنَّ التَّلَفَ بِثِقَلِهِ وَثِقَلِ الدَّابَّةِ تَبَعٌ لَهُ ، لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ مُضَافٌ إلَيْهِ وَهِيَ آلَةٌ لَهُ وَهُمَا مُسَبَّبَانِ لِأَنَّهُ لَا يَتَّصِلُ مِنْهُمَا إلَى الْمَحَلِّ شَيْءٌ ، وَكَذَا الرَّاكِبُ فِي غَيْرِ الْإِيطَاءِ ، وَالْكَفَّارَةُ حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ لَا حُكْمُ التَّسَبُّبِ ، وَكَذَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِيطَاءِ فِي حَقِّ الرَّاكِبِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ دُونَ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمُبَاشَرَةِ ( وَلَوْ كَانَ رَاكِبٌ وَسَائِقٌ قِيلَ : لَا يَضْمَنُ السَّائِقُ مَا أَوْطَأَتْ الدَّابَّةُ ) لِأَنَّ الرَّاكِبَ مُبَاشِرٌ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَالسَّائِقُ مُسَبِّبٌ ، وَالْإِضَافَةُ إلَى الْمُبَاشِرِ أَوْلَى .
وَقِيلَ : الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ سَبَبُ الضَّمَانِ .
( بَابُ جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ ) ذَكَرَ جِنَايَةَ الْبَهِيمَةِ وَالْجِنَايَةَ عَلَيْهَا عَقِيبَ جِنَايَةِ الْإِنْسَانِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ .
وَقَوْلُهُ ( لَمَّا أَوْطَأَتْ الدَّابَّةُ ) الصَّحِيحُ : لَمَّا وَطِئَتْ الدَّابَّةُ .
وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَا الْإِيطَاءِ مَحْذُوفَيْنِ ، وَتَقْدِيرُهُ : أَوْطَأَتْ الدَّابَّةُ يَدَهَا أَوْ رِجْلَهَا إنْسَانًا فَيَكُونُ مِنْ بَابِ فُلَانٌ يُعْطِي .
وَقَوْلُهُ ( مَا أَصَابَتْ ) بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ لَمَّا أَوْطَأَتْ الدَّابَّةُ ، وَالْكَدْمُ : الْعَضُّ بِمُقْدِمِ الْأَسْنَانِ .
وَالْخَبْطُ : الضَّرْبُ بِالْيَدِ .
وَالصَّدْمُ : هُوَ أَنْ تَضْرِبَ الشَّيْءَ بِجَسَدِك ، وَمِنْهُ اصْطَدَمَ الْفَارِسَانِ إذَا ضَرَبَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِنَفْسِهِ وَيُقَالُ نَفَحَتْ الدَّابَّةُ الشَّيْءَ إذَا ضَرَبَتْهُ بِحَدِّ حَافِرِهَا .
وَاعْلَمْ أَنَّ جِنَايَةَ الدَّابَّةِ لَا تَخْلُو مِنْ أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ : لِأَنَّهَا إمَّا أَنْ تَكُونَ فِي مِلْكِ صَاحِبِهَا ، أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، أَوْ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مِلْكِ صَاحِبِهَا مِلْكًا كَامِلًا أَوْ مُشْتَرَكًا مُتَسَاوِيًا أَوْ مُتَفَاضِلًا ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا مَعَهَا أَوْ لَا يَكُونُ ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَضْمَنْ صَاحِبُهَا وَاقِفَةً كَانَتْ الدَّابَّةُ أَوْ سَائِرَةً وَطِئَتْ بِيَدِهَا أَوْ بِرِجْلِهَا أَوْ نَفَحَتْ أَوْ كَدَمَتْ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَائِقًا لَهَا أَوْ قَائِدًا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاكِبًا عَلَيْهَا أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَضْمَنْ صَاحِبُهَا فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا أَتْلَفَتْ نَفْسًا أَوْ مَالًا ، لِأَنَّ صَاحِبَهَا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ مُتَسَبِّبٌ لِاتِّصَالِ أَثَرِ فِعْلِهِ بِالْمُتْلَفِ بِوَاسِطَةِ فِعْلِ مُخْتَارٍ وَهُوَ الدَّابَّةُ ، وَالْمُتَسَبِّبُ إنَّمَا يَضْمَنُ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا ، وَلَا تَعَدِّيَ فِي إيقَافِ الدَّابَّةِ أَوْ تَسْيِيرِهَا فِي مِلْكِهِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ يَسِيرُ فَإِنْ وَطِئَتْ بِيَدِهَا أَوْ بِرِجْلِهَا ضَمِنَ ، وَإِنْ كَدَمَتْ أَوْ نَفَحَتْ
بِيَدِهَا أَوْ بِرِجْلِهَا أَوْ ضَرَبَتْ بِذَنَبِهَا فَلَا ضَمَانَ لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ صَاحِبُ الدَّابَّةِ مُبَاشِرٌ لِلْإِتْلَافِ لِأَنَّ ثِقَلَهُ وَثِقَلَ الدَّابَّةِ اتَّصَلَا بِالْمُتْلَفِ فَكَأَنَّهُمَا وَطِئَا جَمِيعًا ، الْمُبَاشِرُ ضَامِنٌ مُتَعَدِّيًا كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَفِي الثَّانِي مُتَسَبِّبٌ غَيْرَ مُتَعَدٍّ وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي مِلْكِ غَيْرِ صَاحِبِهَا ، فَإِمَّا أَنْ أَدْخَلَهَا صَاحِبُهَا فِيهِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَسَبِّبٍ وَلَا مُبَاشِرٍ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ عَلَى كُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا سَائِقُهَا أَوْ قَائِدُهَا أَوْ لَا وَاقِفَةً أَوْ سَائِرَةً ، لِأَنَّ صَاحِبَهَا إمَّا مُبَاشِرٌ أَوْ مُتَسَبِّبٌ مُتَعَدٍّ ، إذْ لَيْسَ لَهُ إيقَافُ الدَّابَّةِ وَتَسْيِيرُهَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ أَوْقَفَهَا صَاحِبُهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا تَلِفَ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ بِالْإِيقَافِ مُتَسَبِّبٌ مُتَعَدٍّ ، إذْ لَيْسَ لَهُ شَغْلُ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ بِإِيقَافِ الدَّابَّةِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَتْ سَائِرَةً ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا مَعَهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَأَمَّا إنْ سَارَتْ بِإِرْسَالِهِ أَوْ انْفَلَتَتْ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ضَمِنَ مَا أَتْلَفَتْ مَا لَمْ تَتَحَوَّلْ عَنْ جِهَةِ الْإِرْسَالِ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً لِأَنَّ إرْسَالَهَا بِلَا حَافِظٍ سَبَبٌ لِلْإِتْلَافِ وَهُوَ فِيهِ مُتَعَدٍّ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا مَعَهَا ضَمِنَ مَا أَتْلَفَتْ رَاكِبًا كَانَ أَوْ سَائِقًا أَوْ قَائِدًا إلَّا النَّفْحَةَ بِالرِّجْلِ أَوْ الذَّنَبِ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ أَوْ مُتَسَبِّبٌ مُتَعَدٍّ .
وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْإِسْهَابِ بَيَانُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ : الرَّاكِبُ ضَامِنٌ لِمَا أَوْطَأَتْ الدَّابَّةُ ، إلَى قَوْلِهِ : وَكَذَا إذَا صَدَمَتْ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّاكِبُ فِي مِلْكِهِ ، لِأَنَّ هَذَا
الْجَوَابَ إنْ اسْتَقَامَ فِي قَوْلِهِ مَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ بِرِجْلِهَا لَا يَسْتَقِيمُ فِي قَوْلِهِ أَوْ كَدَمَتْ أَوْ خَبَطَتْ أَوْ صَدَمَتْ فِيمَا إذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ عَلَى مَا مَرَّ آنِفًا ، وَذَكَرَ الْأَصْلَ الَّذِي يَنُبْنِي عَلَيْهِ هَذِهِ الْفُرُوعُ فَقَالَ ( وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُرُورَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ مُبَاحٌ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّهِ مِنْ وَجْهٍ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ لِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ كُلِّ النَّاسِ ) أَمَّا أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّهِ فَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ طَرِيقٍ يَمْشِي فِيهِ لِتَرْتِيبِ مُهِمَّاتِهِ ، فَالْحَجْرُ عَنْ ذَلِكَ حَرَجٌ وَهُوَ مَدْفُوعٌ .
وَأَمَّا أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَلِأَنَّ غَيْرَهُ فِيهِ كَهُوَ فِي الِاحْتِيَاجِ ، فَبِالنَّظَرِ إلَى حَقِّهِ يَسْتَدْعِي الْإِبَاحَةَ مُطْلَقًا ، وَبِالنَّظَرِ إلَى حَقِّ غَيْرِهِ يَسْتَدْعِي الْحَجْرَ مُطْلَقًا ، فَقُلْنَا بِإِبَاحَةٍ مُقَيَّدَةٍ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ عَمَلًا بِالْوَجْهَيْنِ وَبَقِيَّةُ كَلَامِهِ وَاضِحَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُرْتَدِفُ فِيمَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي فِي مُوجَبِ الْجِنَايَةِ ( كَالرَّاكِبِ لِأَنَّ الْمَعْنَى ) أَيْ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ وَهُوَ الْمُبَاشَرَةُ وَالتَّصَرُّفُ فِي الدَّابَّةِ بِالتَّسْيِيرِ عَلَى مَا أَرَادَ ( لَا يَخْتَلِفُ ) لِأَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِمْ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ هُوَ ) يَعْنِي الْإِيقَافَ ( أَكْثَرُ ضَرَرًا بِالْمَارَّةِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ : سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِيقَافَ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ السَّيْرِ لَكِنَّهُ مِثْلُهُ فِي كَوْنِهِ تَصَرُّفًا فِي الدَّابَّةِ فَلْيَلْتَحِقْ بِهِ ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَضَرُّ مِنْهُ ( لِمَا أَنَّهُ ) أَيْ الْإِيقَافَ ( أَدْوَمُ مِنْ السَّيْرِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ ) وَقَوْلُهُ ( وَالسَّائِقُ ضَامِنٌ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الرَّاكِبِ بَيَّنَ أَحْكَامَ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ ، وَقَوْلُهُ ( وَالْمُرَادُ النَّفْحَةُ ) أَيْ مِنْ قَوْلِهِ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا ، وَإِنَّمَا فَسَّرَ بِذَلِكَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ
الْوَطْءُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى السَّائِقِ وَالْقَائِدِ بِلَا خِلَافٍ لِأَحَدٍ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِلَيْهِ مَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ) يَعْنِي الْعِرَاقِيِّينَ .
وَقَوْلُهُ ( فَيُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ ) يَعْنِي بِإِبْعَادِ الدَّابَّةِ عَنْ الْمُتْلَفِ أَوْ بِإِبْعَادِهِ عَنْهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَقَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ) يُرِيدُ مَشَايِخَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ ، وَقَوْلُهُ ( مَا ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الرِّجْلُ جُبَارٌ } ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَمَعْنَى جُبَارٌ : هَدَرٌ وَمَعْنَاهُ النَّفْحَةُ بِالرِّجْلِ لِأَنَّ الْوَطْءَ مَضْمُونٌ بِالْإِجْمَاعِ .
وَقَوْلُهُ ( وَانْتِقَالُ الْفِعْلِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ فِعْلَهَا مُضَافٌ إلَيْهِمْ : يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْإِكْرَاهِ ، وَلَا يَكَادُ يَصِحُّ لِأَنَّ هُنَاكَ الِانْتِقَالَ بِتَخْوِيفِ الْقَتْلِ وَهُنَا تَخْوِيفٌ بِالضَّرْبِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ ، قِيلَ وَفِيهِ ضَعْفٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى الْإِكْرَاهِ ، وَإِنَّمَا قَالَ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ مُضَافٌ إلَى رَاكِبِهَا وَلَا كَلَامَ فِيهِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي النَّفْحَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ .
وَالْجَوَابُ الْقَوِيُّ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الرِّجْلُ جُبَارٌ } وَأَتَى بِرِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الضَّابِطِ الْكُلِّيِّ وَبَيَانِ الْكَفَّارَةِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا ذَكَرْنَاهُ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ التَّلَفَ بِثِقَلِهِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا ذَكَرْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَتَّصِلُ مِنْهُمَا إلَى الْمَحَلِّ شَيْءٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ سَبَبُ الضَّمَانِ ) يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ عَامِلٌ فِي الْإِتْلَافِ فَإِنَّ السَّوْقَ لَوْ انْفَرَدَ عَنْ الرُّكُوبِ
أَوْجَبَ ضَمَانَ مَا أَتْلَفَتْ بِالْوَطْءِ ، وَكَذَلِكَ الرُّكُوبُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَافَ عَمَلُ السَّوْقِ فِي الْإِتْلَافِ إلَى الرُّكُوبِ ، بَلْ كَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ ، وَالْمُسَبِّبُ إنَّمَا لَا يَضْمَنُ مَعَ الْمُبَاشِرِ إذَا كَانَ سَبَبًا لَا يَعْمَلُ فِي التَّلَفِ عِنْدَ انْفِرَادِهِ ، كَالْحَفْرِ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّلَفَ مُنْفَرِدًا عَنْ الدَّفْعِ الَّذِي هُوَ مُبَاشَرَةٌ ، وَتَذَكَّرْ تَخْصِيصَ الْعِلَلِ وَمُخَلِّصَهُ فَإِنَّهُ مِنْ مَظَانِّهِ
قَالَ ( وَإِذَا اصْطَدَمَ فَارِسَانِ فَمَاتَا فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ الْآخَرِ ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : يَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ الْآخَرِ لِمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاتَ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ صَاحِبِهِ ، لِأَنَّهُ بِصَدْمَتِهِ آلَمَ نَفْسَهُ وَصَاحِبَهُ فَيُهْدَرُ نِصْفُهُ وَيُعْتَبَرُ نِصْفُهُ ، كَمَا إذَا كَانَ الِاصْطِدَامُ عَمْدًا ، أَوْ جَرَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفْسَهُ وَصَاحِبَهُ جِرَاحَةً أَوْ حَفَرَا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ بِئْرًا فَانْهَارَ عَلَيْهِمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ فَكَذَا هَذَا .
وَلَنَا أَنَّ الْمَوْتَ يُضَافُ إلَى فِعْلِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي نَفْسِهِ مُبَاحٌ وَهُوَ الْمَشْيُ فِي الطَّرِيقِ فَلَا يَصْلُحُ مُسْتَنَدًا لِلْإِضَافَةِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ ، كَالْمَاشِي إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْبِئْرِ وَوَقَعَ فِيهَا لَا يُهْدَرُ شَيْءٌ مِنْ دَمِهِ ، وَفِعْلُ صَاحِبِهِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا ، لَكِنَّ الْفِعْلَ الْمُبَاحَ فِي غَيْرِهِ سَبَبٌ لِلضَّمَانِ كَالنَّائِمِ إذَا انْقَلَبَ عَلَى غَيْرِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كُلَّ الدِّيَةِ فَتَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ فَرَجَّحْنَا بِمَا ذَكَرْنَا ، وَفِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْفِعْلَانِ مَحْظُورَانِ فَوَضَحَ الْفَرْقُ .
هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَا حُرَّيْنِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ ، وَلَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ يَهْدُرُ الدَّمُ فِي الْخَطَإِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَتِهِ دَفْعًا وَفِدَاءً ، وَقَدْ فَاتَتْ لَا إلَى خُلْفٍ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ الْمَوْلَى فَهُدِرَ ضَرُورَةً ، وَكَذَا فِي الْعَمْدِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَلَكَ بَعْدَمَا جَنَى وَلَمْ يَخْلُفْ بَدَلًا ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا فَفِي الْخَطَإِ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ الْمَقْتُولِ قِيمَةُ الْعَبْدِ فَيَأْخُذُهَا وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ الْحُرِّ ، وَيَبْطُلُ حَقُّ الْحُرِّ الْمَقْتُولِ فِي الدِّيَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ ؛
لِأَنَّ أَصْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ الْآدَمِيِّ فَقَدْ أَخْلَفَ بَدَلًا بِهَذَا الْقَدْرِ فَيَأْخُذُهُ وَرَثَةُ الْحُرِّ الْمَقْتُولِ وَيَبْطُلُ مَا زَادَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْخُلْفِ ، وَفِي الْعَمْدِ يَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ هُوَ النِّصْفُ فِي الْعَمْدِ ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَأْخُذُهُ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ ، وَمَا عَلَى الْعَبْدِ فِي رَقَبَتِهِ وَهُوَ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ إلَّا قَدْرَ مَا أَخْلَفَ مِنْ الْبَدَلِ وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ .
.
وَقَالَ ( إذَا اصْطَدَمَ فَارِسَانِ إلَخْ ) أَيْ ضَرَبَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِنَفْسِهِ ، وَحُكْمُ الْمَاشِيَيْنِ حُكْمُ الْفَارِسَيْنِ ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَوْتُ الْمُصْطَدِمَيْنِ غَالِبًا فِي الْفَارِسَيْنِ خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ ، وَمَا ذَكَرَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَجْهُ الْقِيَاسِ ، وَمَا قُلْنَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَتَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ فَرَجَّحْنَا قَوْلَنَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ : يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي نَفْسِهِ مُبَاحٌ وَهُوَ الْمَشْيُ فِي الطَّرِيقِ إلَخْ ، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَصْمَ أَيْضًا تَرَجَّحَ جَانِبُهُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى فَتَعَارَضَتْ جِهَتَا التَّرْجِيحِ .
وَالثَّانِي أَنَّ مَا ذُكِرَ ثَمَّ قِيَاسٌ ، وَالْقِيَاسُ يَصْلُحُ حُجَّةً ، وَمَا صَلَحَ حُجَّةً لَمْ يَصْلُحْ مُرَجِّحًا .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مَنْقُوضٌ بِالْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ بِمَشْيِهِ فَيَكُونُ فَاسِدًا ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْقِيَاسَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً .
وَقَوْلُهُ ( وَفِيمَا ذُكِرَ ) جَوَابٌ عَنْ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي جِهَتِهِمَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمَّا كَانَ مَحْظُورًا كَانَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ ، وَلَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فَسَقَطَ إيجَابُهُ الضَّمَانَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَاعْتُبِرَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى عَاقِلَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَالْمَشْيُ مُبَاحٌ مَحْضٌ فَلَمْ يَنْعَقِدْ مُوجَبًا لِلضَّمَانِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَصْلًا فَكَانَ صَاحِبُهُ قَاتِلًا لَهُ مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةِ أَحَدٍ لَهُ فِي قَتْلِهِ ، فَيَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا تَمَامُ دِيَةِ الْآخَرِ ، كَمَنْ مَشَى حَتَّى سَقَطَ فِي الْبِئْرِ ضَمِنَ الْحَافِرُ وَإِنْ كَانَ السُّقُوطُ بِالْحَفْرِ وَالْمَشْيِ جَمِيعًا ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَشْيُ مُبَاحًا لَمْ يُعْتَبَرْ .
وَقَوْلُهُ ( هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَا حُرَّيْنِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ ) أَيْ وُجُوبُ
تَنْصِيفِ الدِّيَةِ فِي الْعَمْدِ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَفِي الْخَطَأِ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ ، إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الْخَطَأَ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ وَالْعَمْدَ فِي بَيَانِ قَوْلِ الْخَصْمِ .
وَقَوْلُهُ ( فَيَأْخُذُهَا ) أَيْ قِيمَةَ الْعَبْدِ وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ الْحُرِّ ، قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ تَسْقُطَ عَنْ الْعَاقِلَةِ لِأَنَّ الدِّيَةَ أَوَّلًا تَثْبُتُ لِلْمَيِّتِ لَا مَحَالَةَ وَالْوَرَثَةُ يَخْلُفُونَهُ وَالْعَاقِلَةُ يَتَحَمَّلُونَ هَاهُنَا مُوجَبَ جِنَايَتِهِ ، فَلَمَّا مَلَكَ الْمَيِّتُ مَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ سَقَطَ عَنْهُمْ ، كَمَا قُلْنَا فِي امْرَأَةٍ قَطَعَتْ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً فَتَزَوَّجَهَا عَلَى الْيَدِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ فَإِنَّ الدِّيَةَ تَصِيرُ مَهْرًا وَتَسْقُطُ عَنْ الْعَاقِلَةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ السُّقُوطَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّاجِعُ هُوَ الْجَانِي وَهَاهُنَا الرَّاجِعُ وَارِثُهُ فَبِالنَّظَرِ إلَى أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ أَوَّلًا هُوَ الْجَانِي يَسْقُطُ وَبِالنَّظَرِ إلَى أَنَّ الرَّاجِعَ غَيْرُهُ لَا يَسْقُطُ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ ، وَالْبَاقِي وَاضِحٌ .
قَالَ ( وَمَنْ سَاقَ دَابَّةً فَوَقَعَ السَّرْجُ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ ضَمِنَ ، وَكَذَا عَلَى هَذَا سَائِرُ أَدَوَاتِهِ كَاللِّجَامِ وَنَحْوِهِ ، وَكَذَا مَا يَحْمِلُ عَلَيْهَا ) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسْبِيبِ ، لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ وَهُوَ تَرْكُ الشَّدِّ أَوْ الْإِحْكَامِ فِيهِ ، بِخِلَافِ الرِّدَاءِ لِأَنَّهُ لَا يُشَدُّ فِي الْعَادَةِ ، وَلِأَنَّهُ قَاصِدٌ لِحِفْظِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَمَا فِي الْمَحْمُولِ عَلَى عَاتِقِهِ دُونَ اللِّبَاسِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فَيُقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ .وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ قَاصِدٌ لِحِفْظِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ) يَعْنِي السَّرْجَ وَسَائِرَ الْأَدَوَاتِ كَمَا فِي الْمَحْمُولِ عَلَى عَاتِقِهِ إذَا وَقَعَ عَلَى شَيْءٍ فَأَتْلَفَهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ ، بِخِلَافِ اللِّبَاسِ فَإِنَّهُ لَا يَقْصِدُ حِفْظَهُ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ ) أَيْ فِي بَابِ مَا يُحْدِثُهُ الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ .
قَالَ ( وَمَنْ قَادَ قِطَارًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَوْطَأَ ) ، فَإِنْ وَطِئَ بَعِيرٌ إنْسَانًا ضَمِنَ بِهِ الْقَائِدُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّ الْقَائِدَ عَلَيْهِ حِفْظُ الْقِطَارِ كَالسَّائِقِ وَقَدْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَقَدْ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِالتَّقْصِيرِ فِيهِ ، وَالتَّسَبُّبِ بِوَصْفِ التَّعَدِّي سَبَبٌ لِلضَّمَانِ ، إلَّا أَنَّ ضَمَانَ النَّفْسِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِيهِ وَضَمَانُ الْمَالِ فِي مَالِهِ ( وَإِنْ كَانَ مَعَهُ سَائِقٌ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا ) لِأَنَّ قَائِدَ الْوَاحِدِ قَائِدٌ لِلْكُلِّ ، وَكَذَا سَائِقُهُ لِاتِّصَالِ الْأَزِمَّةِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ السَّائِقُ فِي جَانِبٍ مِنْ الْإِبِلِ ، أَمَّا إذَا كَانَ تَوَسَّطَهَا وَأَخَذَ بِزِمَامٍ وَاحِدٍ يَضْمَنُ مَا عَطِبَ بِمَا هُوَ خَلْفَهُ ، وَيَضْمَنَانِ مَا تَلِفَ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ لِأَنَّ الْقَائِدَ لَا يَقُودُ مَا خَلْفَ السَّائِقِ لِانْفِصَامِ الزِّمَامِ ، وَالسَّائِقُ يَسُوقُ مَا يَكُونُ قُدَّامَهُ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ قَادَ قِطَارًا ) الْقِطَارُ : الْإِبِلُ تُقْطَرُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ وَالْجَمْعُ قُطُرٌ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
قَالَ ( وَإِنْ رَبَطَ رَجُلٌ بَعِيرًا إلَى الْقِطَارِ وَالْقَائِدُ لَا يَعْلَمُ فَوَطِئَ الْمَرْبُوطُ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَائِدِ الدِّيَةُ ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ صِيَانَةُ الْقِطَارِ عَنْ رَبْطِ غَيْرِهِ ، فَإِذَا تَرَكَ الصِّيَانَةَ صَارَ مُتَعَدِّيًا ، وَفِي التَّسْبِيبِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَمَا فِي الْقَتْلِ الْخَطَإِ ( ثُمَّ يَرْجِعُونَ بِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ ) لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا فِي الِابْتِدَاءِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُسَبِّبٌ لِأَنَّ الرَّبْطَ مِنْ الْقَوْدِ بِمَنْزِلَةِ التَّسَيُّبِ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ لِاتِّصَالِ التَّلَفِ بِالْقَوْدِ دُونَ الرَّبْطِ .
قَالُوا : هَذَا إذَا رَبَطَ وَالْقِطَارُ يَسِيرُ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْقَوْدِ دَلَالَةً ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَفُّظُ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الرَّابِطِ ، أَمَّا إذَا رَبَطَ وَالْإِبِلُ قِيَامٌ ثُمَّ قَادَهَا ضَمِنَهَا الْقَائِدُ لِأَنَّهُ قَادَ بَعِيرَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا صَرِيحًا وَلَا دَلَالَةً فَلَا يَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ عَلَيْهِ .
قَالَ ( وَإِنْ رَبَطَ رَجُلٌ بَعِيرًا إلَى الْقِطَارِ إلَخْ ) رَجُلٌ رَبَطَ بَعِيرًا إلَى قِطَارٍ يَقُودُهُ رَجُلٌ .
فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ بِرَبْطِهِ الْقَائِدُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَقَدْ وَطِئَ الْمَرْبُوطُ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَائِدِ الدِّيَةُ لِإِمْكَانِ تَحْرُزْهُ عَنْ رَبْطِ الْغَيْرِ ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ صَارَ مُتَسَبِّبًا مُتَعَدِّيًا وَالدِّيَةُ فِي مِثْلِهِ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَمَا فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ ثُمَّ تَرْجِعُ عَاقِلَةُ الْقَائِدِ بِمَا ضَمِنُوا مِنْ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ ، كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ : ضَمِنَ الْقَائِدُ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الَّذِي رَبَطَ الْبَعِيرَ ، وَوَفَّقَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ اعْتَبَرَ فِي الْمَبْسُوطِ حَقِيقَةَ الضَّمَانِ .
فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى الْقَائِدِ وَالرَّابِطِ ، إلَّا أَنَّ الْعَوَاقِلَ تَعْقِلُ عَنْهُمَا .
وَاعْتَبَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَالَ الضَّمَانِ وَقَرَارَهُ وَهُوَ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَرْجِعُوا لِأَنَّ الْقَائِدَ حِينَ عَلِمَ بِالرَّبْطِ فَقَدْ رَضِيَ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ فَلَا يَرْجِعُونَ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَذْكُرْهُ لِظُهُورِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا ابْتِدَاءً ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( قَالُوا ) يَعْنِي أَنَّ لَفْظَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ لِلسَّيْرِ وَالْوُقُوفِ ، وَالْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالُوا هَذَا : أَيْ رُجُوعَ عَاقِلَةِ الْقَائِدِ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ إذَا رَبَطَ وَالْقِطَارُ يَسِيرُ .
أَمَّا إذَا رَبَطَ وَالْإِبِلُ قِيَامٌ ثُمَّ قَادَهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا الْقَائِدُ بِلَا رُجُوعٍ عَلَى أَحَدٍ ، وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
قَالَ ( وَمَنْ أَرْسَلَ بَهِيمَةً وَكَانَ لَهَا سَائِقًا فَأَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا يَضْمَنُهُ ) لِأَنَّ الْفِعْلَ انْتَقَلَ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ السَّوْقِ .
قَالَ ( وَلَوْ أَرْسَلَ طَيْرًا وَسَاقَهُ فَأَصَابَ فِي فَوْرِهِ لَمْ يَضْمَنْ ) وَالْفَرْقُ أَنَّ بَدَنَ الْبَهِيمَةِ يَحْتَمِلُ السَّوْقَ فَاعْتُبِرَ سَوْقُهُ وَالطَّيْرُ لَا يَحْتَمِلُ السَّوْقَ فَصَارَ وُجُودُ السَّوْقِ وَعَدَمِهِ بِمَنْزِلَةٍ ، وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سَائِقًا لَمْ يَضْمَنْ ، وَلَوْ أَرْسَلَهُ إلَى صَيْدٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سَائِقًا فَأَخَذَ الصَّيْدَ وَقَتَلَهُ حَلَّ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْبَهِيمَةَ مُخْتَارَةٌ فِي فِعْلِهَا وَلَا تَصْلُحُ نَائِبَةً عَنْ الْمُرْسِلِ فَلَا يُضَافُ فِعْلُهَا إلَى غَيْرِهَا ، هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ ، إلَّا أَنَّ الْحَاجَةَ مَسَّتْ فِي الِاصْطِيَادِ فَأُضِيفَ إلَى الْمُرْسِلِ لِأَنَّ الِاصْطِيَادَ مَشْرُوعٌ وَلَا طَرِيقَ لَهُ سِوَاهُ وَلَا حَاجَةَ فِي حَقِّ ضَمَانِ الْعُدْوَانِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَوْجَبَ الضَّمَانَ فِي هَذَا كُلِّهِ احْتِيَاطًا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ إذَا أَرْسَلَ دَابَّةً فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَأَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا فَالْمُرْسِلُ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّ سَيْرَهَا مُضَافٌ إلَيْهِ مَا دَامَتْ تَسِيرُ عَلَى سَنَنِهَا ، وَلَوْ انْعَطَفَتْ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً انْقَطَعَ حُكْمُ الْإِرْسَالِ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ سِوَاهُ وَكَذَا إذَا وَقَفَتْ ثُمَّ سَارَتْ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَفَتْ بَعْدَ الْإِرْسَالِ فِي الِاصْطِيَادِ ثُمَّ سَارَتْ فَأَخَذَتْ الصَّيْدَ ، لِأَنَّ تِلْكَ الْوَقْفَةَ تَحَقُّقُ مَقْصُودِ الْمُرْسِلِ لِأَنَّهُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الصَّيْدِ ، وَهَذِهِ تُنَافِي مَقْصُودَ الْمُرْسِلِ وَهُوَ السَّيْرُ فَيَنْقَطِعُ حُكْمُ الْإِرْسَالِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَرْسَلَهُ إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ نَفْسًا أَوْ مَالًا فِي فَوْرِهِ لَا يَضْمَنُهُ مَنْ أَرْسَلَهُ ، وَفِي الْإِرْسَالِ فِي الطَّرِيقِ يَضْمَنُهُ لِأَنَّ شَغْلَ الطَّرِيقِ تَعَدٍّ فَيَضْمَنُ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ ، أَمَّا الْإِرْسَالُ
لِلِاصْطِيَادِ فَمُبَاحٌ وَلَا تَسْبِيبَ إلَّا بِوَصْفِ التَّعَدِّي .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَرْسَلَ بَهِيمَةً ) يُرِيدُ كَلْبًا لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا ، وَمَعْنَى سَوْقِهِ إيَّاهُ أَنْ يَمْشِيَ خَلْفَهُ ( وَلَوْ أَرْسَلَ طَيْرًا ) أَيْ بَازِيًا وَسَاقَهُ فَأَصَابَ فِي فَوْرِهِ بِأَنْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا لَمْ يُضَمِّنْ الْمُرْسِلُ السَّائِقَ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ السَّوْقِ وَالْإِرْسَالِ فِيهِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ وَقَتَلَ صَيْدَ الْحَرَمِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ .
وَقَوْلُهُ ( انْقَطَعَ حُكْمُ الْإِرْسَالِ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ سِوَاهُ ) أَيْ سِوَى طَرِيقِ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى بِأَنْ كَانَ عَلَى الْجَادَّةِ مَاءٌ أَوْ وَحْلٌ فَحِينَئِذٍ لَا يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْإِرْسَالِ كَمَا لَوْ لَمْ يَنْعَطِفْ يَمْنَةً وَيَسْرَةً .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَلِكَ إذَا وَقَفَتْ ثُمَّ سَارَتْ ) أَيْ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْإِرْسَالِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذِهِ ) أَيْ وَقْفَةُ الدَّابَّةِ تُنَافِي مَقْصُودَ الْمُرْسِلِ وَهُوَ السَّيْرُ ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ الْإِرْسَالِ هُوَ السَّيْرُ لَا الْوُقُوفُ .
وَقَوْلُهُ ( وَبِخِلَافِ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُوقِفَتْ لِأَنَّ حُكْمَهَا مُخَالِفٌ لِحُكْمِ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ ، وَتَبَيَّنَ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِرْسَالَيْنِ كَمَا بَيَّنَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَفَتْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَقْفَتَيْنِ .
قَالَ ( وَلَوْ أَرْسَلَ بَهِيمَةً فَأَفْسَدَتْ زَرْعًا عَلَى فَوْرِهِ ضَمِنَ الْمُرْسِلُ ، وَإِنْ مَالَتْ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا ) وَلَهُ طَرِيقٌ آخَرُ لَا يَضْمَنُ لِمَا مَرَّ ، وَلَوْ انْفَلَتَتْ الدَّابَّةُ فَأَصَابَتْ مَالًا أَوْ آدَمِيًّا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ( لَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهَا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ } وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : هِيَ الْمُنْفَلِتَةُ ، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ النِّسْبَةَ إلَيْهِ مِنْ الْإِرْسَالِ وَأَخَوَاتِهِ .وَقَوْلُهُ ( عَلَى فَوْرِهِ ) أَيْ فَوْرِ الْإِرْسَالِ وَهُوَ أَنْ لَا تَمِيلَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا مَرَّ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ انْقَطَعَ حُكْمُ الْإِرْسَالِ .
وَقَوْلُهُ ( قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : هِيَ الْمُنْفَلِتَةُ ) أَيْ الْعَجْمَاءُ الَّتِي أَهْدَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلَهَا هِيَ الْمُنْفَلِتَةُ لَا الَّتِي أُرْسِلَتْ ، فَإِنَّ إفْسَادَهَا إذَا كَانَ فِي فَوْرِ الْإِرْسَالِ لَيْسَ بِجُبَارٍ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا فَكَانَ تَفْسِيرُهُ احْتِرَازًا عَنْ الْأُجَرَاءِ عَلَى عُمُومِهِ .
وَقَوْلُهُ ( مِنْ الْإِرْسَالِ وَأَخَوَاتِهِ ) يَعْنِي السَّوْقَ وَالْقَوْدَ وَالرُّكُوبَ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : كَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ مِنْ الْإِرْسَالِ وَأَمْثَالِهِ أَوْ يَقُولَ مِنْ الْإِرْسَالِ وَأَخَوَاتِهَا بِتَأْوِيلِ الْكَلِمَةِ إذْ السَّوْقُ وَالْقَوْدُ لَمَّا كَانَ أُخْتًا لَا أَخًا لِلْإِرْسَالِ كَانَ الْإِرْسَالُ أُخْتًا أَيْضًا ، وَإِلَّا يَلْزَمُ جَعْلُ بَعْضِ أَسْبَابِ التَّعَدِّي أَخًا وَبَعْضِهَا أُخْتًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا مُؤَنَّثٌ مَعْنَوِيٌّ خُولِفَ فِيمَا يَقْتَضِيهِ حَتَّى يُنَاقِشَ عَلَى ذَلِكَ .
قَالَ ( شَاةٌ لِقَصَّابٍ فُقِئَتْ عَيْنُهَا فَفِيهَا مَا نَقَصَهَا ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا هُوَ اللَّحْمُ فَلَا يُعْتَبَرُ إلَّا النُّقْصَانُ ( وَفِي عَيْنِ بَقَرَةِ الْجَزَّارِ وَجَزُورِهِ رُبْعُ الْقِيمَةِ ، وَكَذَا فِي عَيْنِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ وَالْفَرَسِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِيهِ النُّقْصَانُ أَيْضًا اعْتِبَارًا بِالشَّاةِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ " { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ بِرُبْعِ الْقِيمَةِ } وَهَكَذَا قَضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ فِيهَا مَقَاصِدَ سِوَى اللَّحْمِ كَالْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ وَالْجَمَالِ وَالْعَمَلِ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تُشْبِهُ الْآدَمِيَّ وَقَدْ تُمْسَكُ لِلْأَكْلِ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تُشْبِهُ الْمَأْكُولَاتِ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ بِشَبَهِ الْآدَمِيِّ فِي إيجَابِ الرُّبْعِ وَبِالشَّبَهِ الْآخَرِ فِي نَفْيِ النِّصْفِ ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْعَمَلِ بِهَا بِأَرْبَعَةِ أَعْيُنٍ عَيْنَاهَا وَعَيْنَا الْمُسْتَعْمِلِ فَكَأَنَّهَا ذَاتُ أَعْيُنٍ أَرْبَعَةٍ فَيَجِبُ الرُّبْعُ بِفَوَاتِ إحْدَاهَا .
قَالَ ( شَاةٌ لِقَصَّابٍ فُقِئَتْ عَيْنُهَا ) الْجَزْرُ : الْقَطْعُ ، وَجَزَرَ الْجَزُورَ : نَحَرَهَا ، وَالْجَزُورُ مَا أُعِدَّ مِنْ الْإِبِلِ لِلنَّحْرِ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَهِيَ مُؤَنَّثٌ ، وَإِنَّمَا قَالَ : وَجَزُورُهُ رُبْعُ الْقِيمَةِ وَلَمْ يَقُلْ وَبَعِيرُهُ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ الْبَقَرَ وَالْإِبِلَ وَإِنْ أُعِدَّ اللَّحْمُ كَالشَّاةِ لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِيهِمَا ، بَلْ سَوَاءٌ كَانَا مُعَدَّيْنِ لِلَّحْمِ أَوْ لِلْحَرْثِ وَالْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ فَفِيهِ رُبْعُ الْقِيمَةِ كَمَا فِي الَّذِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فِيهِ النُّقْصَانُ وَاعْتِبَارُهُ بِالشَّاةِ عَمَلٌ بِالظَّاهِرِ .
وَلَنَا مَا رَوَى خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ ذَلِكَ ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ .
فَإِنْ قِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَأْكُولِ مِنْ الْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ وَالْجَمَالِ ، وَالْعَمَلُ مَوْجُودٌ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَيَلْحَقُ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ فِيهَا مَقَاصِدَ سِوَى اللَّحْمِ ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ الْقِيَاسِ عَلَى الشَّاةِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا اللَّحْمُ وَفَقْءُ الْعَيْنِ لَا يُفَوِّتُهُ بَلْ هُوَ عَيْبٌ يَسِيرٌ فَيَلْزَمُ نُقْصَانُ الْمَالِيَّةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْعَمَلِ بِهَا ) دَلِيلٌ آخَرُ .
وَهُوَ أَيْضًا وَاضِحٌ لَكِنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْأَوَّلِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَيْنَيْنِ لَا يُضْمَنَانِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ ، كَذَا قَالَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْمُولَ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ النَّصُّ وَهُوَ وَرَدَ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ .
قَالَ ( وَمَنْ سَارَ عَلَى دَابَّةٍ فِي الطَّرِيقِ فَضَرَبَهَا رَجُلٌ أَوْ نَخَسَهَا فَنَفَحَتْ رَجُلًا أَوْ ضَرَبَتْهُ بِيَدِهَا أَوْ نَفَرَتْ فَصَدَمَتْهُ فَقَتَلَتْهُ كَانَ ذَلِكَ عَلَى النَّاخِسِ دُونَ الرَّاكِبِ ) هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَلِأَنَّ الرَّاكِبَ وَالْمَرْكَبَ مَدْفُوعَانِ بِدَفْعِ النَّاخِسِ فَأُضِيفَ فِعْلُ الدَّابَّةِ إلَيْهِ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِيَدِهِ ، وَلِأَنَّ النَّاخِسَ مُتَعَدٍّ فِي تَسْبِيبِهِ وَالرَّاكِبُ فِي فِعْلِهِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُهُ فِي التَّغْرِيمِ لِلتَّعَدِّي ، حَتَّى لَوْ كَانَ وَاقِفًا دَابَّتَهُ عَلَى الطَّرِيقِ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الرَّاكِبِ وَالنَّاخِسِ نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْإِيقَافِ أَيْضًا .
قَالَ ( وَإِنْ نَفَحَتْ النَّاخِسَ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا ) لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ ( وَإِنْ أَلْقَتْ الرَّاكِبَ فَقَتَلَتْهُ كَانَ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ النَّاخِسِ ) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي تَسْبِيبِهِ وَفِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ .
قَالَ ( وَلَوْ وَثَبَتْ بِنَخْسِهِ عَلَى رَجُلٍ أَوْ وَطِئَتْهُ فَقَتَلَتْهُ كَانَ ذَلِكَ عَلَى النَّاخِسِ دُونَ الرَّاكِبِ ) لِمَا بَيَّنَّاهُ ، وَالْوَاقِفُ فِي مِلْكِهِ وَاَلَّذِي يَسِيرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ وَالرَّاكِبِ نِصْفَيْنِ ، لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِثِقَلِ الرَّاكِبِ وَوَطْءِ الدَّابَّةِ ، وَالثَّانِي مُضَافٌ إلَى النَّاخِسِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا ، وَإِنْ نَخَسَهَا بِإِذْنِ الرَّاكِبِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الرَّاكِبِ لَوْ نَخَسَهَا ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي نَفْحَتِهَا لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِمَا يَمْلِكُهُ ، إذْ النَّخْسُ فِي مَعْنَى السَّوْقِ فَصَحَّ أَمْرُهُ بِهِ ، وَانْتَقَلَ إلَيْهِ لِمَعْنَى الْأَمْرِ .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ نَخَسَهَا ) يَعْنِي بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاكِبِ وَالنَّخْسُ هُوَ الطَّعْنُ ، وَمِنْهُ نَخَّاسُ الدَّوَابِّ دَلَّالُهَا .
فَإِنْ قِيلَ : الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَى الرَّاكِبِ لِكَوْنِهِ مُبَاشِرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا لِأَنَّ التَّعَدِّيَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ الشَّرِكَةِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِيَاسَ يُتْرَكُ بِالْأَثَرِ ، وَفِيهِ أَثَرُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ الرَّاكِبَ وَالْمُرْكَبَ مَدْفُوعَانِ بِدَفْعِ النَّاخِسِ ، لِأَنَّ فِعْلَ الرَّاكِبِ قَدْ انْتَقَلَ إلَى الدَّابَّةِ لِأَنَّ الْوَثْبَةَ الْمُهْلِكَةَ إنَّمَا كَانَتْ مِنْهَا فَكَانَ مُضْطَرًّا فِي حَرَكَتِهِ ، وَفِعْلُ الدَّابَّةِ قَدْ انْتَقَلَ إلَى النَّاخِسِ لِكَوْنِهِ الْحَامِلَ لَهَا عَلَى ذَلِكَ مُلْجِئًا فَكَانَ النَّاخِسُ بِمَنْزِلَةِ الدَّافِعِ لِلدَّابَّةِ وَالرَّاكِبِ مَعًا عَلَى مَا فَعَلَ فِي الدَّابَّةِ ، وَالْمَدْفُوعُ إلَى الشَّيْءِ وَإِنْ كَانَ مُبَاشِرًا لَا يُعْتَبَرُ مُبَاشِرًا كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ الْكَامِلِ ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ إنْ فُرِضَ مُبَاشِرًا وَلَا التَّسْبِيبُ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ التَّعَدِّيَ وَهُوَ مَفْقُودٌ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا بَالُ النَّفْحَةِ أَوْجَبَتْ الضَّمَانَ عَلَى النَّاخِسِ دُونَ الرَّاكِبِ وَالسَّائِقِ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَهِيَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهَا لَا تُوجِبُهُ عَلَى السَّائِقِ إذَا كَانَ بِالْإِذْنِ وَهَاهُنَا بِلَا إذْنٍ ، فَلَوْ نَخَسَ وَهُوَ مَأْذُونٌ كَانَ سَائِقًا ، وَإِمْكَانُ التَّحَرُّزِ إنَّمَا يُمْكِنُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي وَغَيْرُ الْمَأْذُونِ بِذَلِكَ مُتَعَدٍّ فَلَا يُعْتَبَرُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ النَّاخِسَ مُتَعَدٍّ فِي تَسْبِيبِهِ ) دَلِيلٌ آخَرُ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الرَّاكِبَ إنْ كَانَ فِعْلُهُ مُعْتَبَرًا فَهُوَ مُبَاشِرٌ وَالتَّعَدِّي لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا لِكَوْنِهِ
مَدْفُوعًا فَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْ ذَكَرَهُ بِذِكْرِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الرَّاكِبَ مُبَاشِرٌ فِيمَا إذَا أَتْلَفَتْ بِالْوَطْءِ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ التَّلَفُ بِالثِّقَلِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ هَاهُنَا فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي النَّفْحِ بِالرِّجْلِ وَالضَّرْبِ بِالْيَدِ وَالصَّدْمَةِ فَكَانَا مُتَسَبِّبَيْنِ ، وَتَرَجَّحَ النَّاخِسُ فِي التَّغْرِيمِ لِلتَّعَدِّي ، وَفِي اسْتِعْمَالِ التَّرْجِيحِ هَاهُنَا تَسَامُحٌ ، لِأَنَّ شَرْطَهُ إذَا كَانَ مَفْقُودًا لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى التَّرْجِيحِ ، وَلَعَلَّ مَعْنَاهُ اُعْتُبِرَ مُوجِبًا فِي التَّغْرِيمِ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ سَبَبُ الِاعْتِبَارِ فَكَانَ ذِكْرُ السَّبَبِ وَإِرَادَةُ الْمُسَبَّبِ ، وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّاهُ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَلِأَنَّ الرَّاكِبَ وَالْمُرْكَبَ مَدْفُوعَانِ ، وَفِي النِّهَايَةِ هُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي تَسْبِيبِهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ فَتَأَمَّلْ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْوَاقِفُ فِي مِلْكِهِ وَاَلَّذِي يَسِيرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ) يَعْنِي يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَقَيَّدَ بِمِلْكِهِ احْتِرَازًا عَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ الْإِيقَافِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ يَتَنَصَّفُ الضَّمَانُ هُنَاكَ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا ، وَقَوْلُهُ ( وَالثَّانِي ) أَيْ الْوَطْءُ ( مُضَافٌ إلَى النَّاخِسِ ) لِأَنَّهُ كَالسَّائِقِ لَهَا وَالسَّائِقُ مَعَ الرَّاكِبِ يَضْمَنَانِ مَا وَطِئَتْهُ الدَّابَّةُ ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
قَالَ ( وَلَوْ وَطِئَتْ رَجُلًا فِي سَيْرِهَا وَقَدْ نَخَسَهَا النَّاخِسُ بِإِذْنِ الرَّاكِبِ فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ جَمِيعًا إذَا كَانَتْ فِي فَوْرِهَا الَّذِي نَخَسَهَا ) لِأَنَّ سَيْرَهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مُضَافٌ إلَيْهِمَا ، وَالْإِذْنُ يَتَنَاوَلُ فِعْلَهُ مِنْ حَيْثُ السَّوْقُ وَلَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ ، وَالرُّكُوبُ وَإِنْ كَانَ عِلَّةً لِلْوَطْءِ فَالنَّخْسُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ بَلْ هُوَ شَرْطٌ أَوْ عِلَّةٌ لِلسَّيْرِ وَالسَّيْرُ عِلَّةٌ لِلْوَطْءِ وَبِهَذَا لَا يَتَرَجَّحُ صَاحِبُ الْعِلَّةِ ، كَمَنْ جَرَحَ إنْسَانًا فَوَقَعَ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا غَيْرُهُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَمَاتَ فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا لِمَا أَنَّ الْحَفْرَ شَرْطُ عِلَّةٍ أُخْرَى دُونَ عِلَّةِ الْجُرْحِ كَذَا هَذَا .
ثُمَّ قِيلَ : يَرْجِعُ النَّاخِسُ عَلَى الرَّاكِبِ بِمَا ضَمِنَ فِي الْإِيطَاءِ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ بِأَمْرِهِ .
وَقِيلَ : لَا يَرْجِعُ وَهُوَ الْأَصَحُّ فِيمَا أَرَاهُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِيطَاءِ وَالنَّخْسُ يَنْفَصِلُ عَنْهُ ، وَصَارَ كَمَا إذَا أَمَرَ صَبِيًّا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الدَّابَّةِ بِتَسْيِيرِهَا فَوَطِئَتْ إنْسَانًا وَمَاتَ حَتَّى ضَمَّنَ عَاقِلَةَ الصَّبِيِّ فَإِنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالتَّسْيِيرِ وَالْإِيطَاءُ يَنْفَصِلُ عَنْهُ ، وَكَذَا إذَا نَاوَلَهُ سِلَاحًا فَقَتَلَ بِهِ آخَرَ حَتَّى ضَمِنَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ ، ثُمَّ النَّاخِسُ إنَّمَا يَضْمَنُ إذَا كَانَ الْإِيطَاءُ فِي فَوْرِ النَّخْسِ حَتَّى يَكُونَ السَّوْقُ مُضَافًا إلَيْهِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي فَوْرِ ذَلِكَ فَالضَّمَانُ عَلَى الرَّاكِبِ لِانْقِطَاعِ أَثَرِ النَّخْسِ فَبَقِيَ السَّوْقُ مُضَافًا إلَى الرَّاكِبِ عَلَى الْكَمَالِ .
وَقَوْلُهُ ( مُضَافٌ إلَيْهِمَا ) أَيْ إلَى الرَّاكِبِ وَالنَّاخِسِ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ إلَيْهَا : أَيْ إلَى النَّخْسَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ ) لِوُجُودِ انْفِصَالِ السَّوْقِ عَنْ الْإِتْلَافِ فَلَيْسَ عَيْنَهُ وَلَا مِنْ ضَرُورَاتِهِ .
وَقَوْلُهُ ( يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى النَّاخِسِ لِأَنَّ الرَّاكِبَ أَذِنَ لَهُ بِالسَّوْقِ لَا بِالْإِيطَاءِ وَالْإِتْلَافِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالرُّكُوبُ وَإِنْ كَانَ عِلَّةً ) جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْرِيرُهُ الرَّاكِبُ صَاحِبُ عِلَّةٍ لِلْوَطْءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ رِجْلَ الدَّابَّةِ فِي الْوَضْعِ وَالرَّفْعِ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ رِجْلِهِ حَقِيقَةً ، وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ دُونَ النَّاخِسِ ، وَالنَّاخِسُ صَاحِبُ شَرْطٍ فِي حَقِّ فِعْلِ الْوَطْءِ ، وَالْإِضَافَةُ إلَى الْعِلَّةِ أَوْلَى .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الرُّكُوبَ وَإِنْ كَانَ عِلَّةً لِلْوَطْءِ لَكِنَّ النَّخْسَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ لِتَأَخُّرِهِ عَنْ الرُّكُوبِ ، بَلْ هُوَ شَرْطٌ أَوْ عِلَّةٌ لِلسَّيْرِ وَالسَّيْرُ عِلَّةٌ لِلْوَطْءِ ، فَكَانَ الْوَطْءُ ثَابِتًا بِعِلَّتَيْنِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا ، وَقَدْ مَثَّلَ لِذَلِكَ بِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَصَارَ كَمَا إذَا أَمَرَ صَبِيًّا يَسْتَمْسِكُ ) إنَّمَا قَيَّدَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَمْسِكْ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ ، أَمَّا عَلَى الصَّبِيِّ فَلِأَنَّ مَسْكَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَمْلِ عَلَى الدَّابَّةِ فَلَا يُضَافُ السَّيْرُ إلَيْهِ وَأَمَّا عَلَى الرَّجُلِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُسَيِّرْهَا ، وَإِذَا لَمْ يُضَفْ سَيْرُهَا إلَى أَحَدٍ كَانَتْ مُنْفَلِتَةً وَفِعْلُهَا جُبَارٌ .
( وَمَنْ قَادَ دَابَّةً فَنَخَسَهَا رَجُلٌ فَانْفَلَتَتْ مِنْ يَدِ الْقَائِدِ فَأَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا فَهُوَ عَلَى النَّاخِسِ وَكَذَا إذَا كَانَ لَهَا سَائِقٌ فَنَخَسَهَا غَيْرُهُ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَيْهِ ، وَالنَّاخِسُ إذَا كَانَ عَبْدًا فَالضَّمَانُ فِي رَقَبَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا فَفِي مَالِهِ لِأَنَّهُمَا مُؤَاخَذَانِ بِأَفْعَالِهِمَا ) وَلَوْ نَخَسَهَا شَيْءٌ مَنْصُوبٌ فِي الطَّرِيقِ فَنَفَحَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَالضَّمَانُ عَلَى مَنْ نَصَبَ ذَلِكَ الشَّيْءَ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِشَغْلِ الطَّرِيقِ فَأُضِيفَ إلَيْهِ كَأَنَّهُ نَخَسَهَا بِفِعْلِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .وَقَوْلُهُ ( وَالنَّاخِسُ إذَا كَانَ عَبْدًا ) يَعْنِي وَنَخَسَ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاكِبِ فَالضَّمَانُ فِي رَقَبَتِهِ يَدْفَعُ بِهَا أَوْ يَفْدِي ، وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ إلَى آخِرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( بَابُ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ ) قَالَ ( وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةَ خَطَإٍ قِيلَ لِمَوْلَاهُ : إمَّا أَنْ تَدْفَعَهُ بِهَا أَوْ تَفْدِيهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : جِنَايَتُهُ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى الْأَرْشَ ، وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ فِي اتِّبَاعِ الْجَانِي بَعْدَ الْعِتْقِ .
وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ .
لَهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي مُوجِبِ الْجِنَايَةِ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمُتْلِفِ لِأَنَّهُ هُوَ الْجَانِي ، إلَّا أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ ، وَلَا عَاقِلَةَ لِلْعَبْدِ لِأَنَّ الْعَقْلَ عِنْدِي بِالْقَرَابَةِ وَلَا قَرَابَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَمَوْلَاهُ فَتَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا فِي الدَّيْنِ .
وَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ كَمَا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ .
وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ حَالَةَ الْخَطَإِ أَنْ تَتَبَاعَدَ عَنْ الْجَانِي تَحَرُّزًا عَنْ اسْتِئْصَالِهِ وَالْإِجْحَافِ بِهِ ، إذْ هُوَ مَعْذُورٌ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْجِنَايَةَ ، وَتَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي إذَا كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ ، وَالْمَوْلَى عَاقِلَتُهُ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَسْتَنْصِرُ بِهِ ، وَالْأَصْلُ فِي الْعَاقِلَةِ عِنْدَنَا النُّصْرَةُ حَتَّى تَجِبَ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ .
بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَلَا عَاقِلَةَ فَتَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ صِيَانَةً لِلدَّمِ عَنْ الْهَدَرِ ، وَبِخِلَافِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْمَالَ ، إلَّا أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ ، وَفِي إثْبَاتِ الْخِيرَةِ نَوْعُ تَخْفِيفٍ فِي حَقِّهِ كَيْ لَا يُسْتَأْصَلَ ، غَيْرَ أَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الدَّفْعُ فِي الصَّحِيحِ ، وَلِهَذَا يَسْقُطُ الْمُوجِبُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْوَاجِبِ وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ النَّقْلِ إلَى الْفِدَاءِ كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ ، بِخِلَافِ مَوْتِ الْجَانِي الْحُرِّ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُرِّ اسْتِيفَاءً فَصَارَ كَالْعَبْدِ فِي
صَدَقَةِ الْفِطْرِ .
قَالَ ( فَإِنْ دَفَعَهُ مَلَكَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ وَإِنْ فَدَاهُ فَدَاهُ بِأَرْشِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ يَلْزَمُ حَالًّا ) أَمَّا الدَّفْعُ فَلِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الْأَعْيَانِ بَاطِلٌ وَعِنْدَ اخْتِيَارِهِ الْوَاجِبَ عُيِّنَ .
وَأَمَّا الْفِدَاءُ فَلِأَنَّهُ جَعَلَ بَدَلًا عَنْ الْعَبْدِ فِي الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا بِالْمُتْلَفِ وَلِهَذَا سُمِّيَ فِدَاءً فَيَقُومُ مَقَامَهُ وَيَأْخُذُ حُكْمَهُ فَلِهَذَا وَجَبَ حَالًّا كَالْمُبْدَلِ ( وَأَيُّهُمَا اخْتَارَهُ وَفَعَلَهُ لَا شَيْءَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ غَيْرَهُ ) أَمَّا الدَّفْعُ فَلِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ ، فَإِذَا خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّقَبَةِ سَقَطَ .
وَأَمَّا الْفِدَاءُ فَلِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا الْأَرْشُ ، فَإِذَا أَوْفَاهُ حَقَّهُ سَلَّمَ الْعَبْدَ لَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا حَتَّى مَاتَ الْعَبْدُ بَطَلَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ حَقِّهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَمَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ لَمْ يَبْرَأْ لِتَحَوُّلِ الْحَقِّ مِنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ إلَى ذِمَّةِ الْمَوْلَى .
( بَابُ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ جِنَايَةِ الْمَالِكِ وَهُوَ الْحُرُّ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ وَهُوَ الْعَبْدُ ، وَأَخَّرَهُ لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهِ عَنْ رُتْبَتِهِ .
لَا يُقَالُ : الْعَبْدُ لَا يَكُونُ أَدْنَى مَنْزِلَةً مِنْ الْبَهِيمَةِ فَكَيْفَ أَخَّرَ بَابَ جِنَايَتِهِ عَنْ بَابِ جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ ، لِأَنَّ جِنَايَةَ الْبَهِيمَةِ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ الرَّاكِبِ أَوْ السَّائِقِ أَوْ الْقَائِدِ وَهْم مُلَّاكٌ .
قَالَ ( وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةَ خَطَإٍ ) اعْلَمْ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْخَطَأِ هُنَا مُفِيدٌ فِي الْجِنَايَةِ فِي النَّفْسِ ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَمْدًا يَجِبُ الْقِصَاصُ ، وَأَمَّا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَلَا يُفِيدُ لِأَنَّ خَطَأَ الْعَبْدِ وَعَمْدَهُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ سَوَاءٌ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْمَالَ فِي الْحَالَيْنِ ، إذْ الْقِصَاصُ لَا يَجْرِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْعَبْدِ وَلَا بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ .
وَقَوْلُهُ ( قِيلَ لِمَوْلَاهُ إمَّا تَدْفَعُهُ بِهَا أَوْ تَفْدِيهِ ) يَعْنِي بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ ، فَإِنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَى الْمَوْلَى بِشَيْءٍ فِي ذَلِكَ حَتَّى يُبَرِّئَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا لِجَنَابَةٍ بِجِنَايَةِ الْحُرِّ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُسْتَأْنَى فِي جِنَايَةِ الْحُرِّ لِأَنَّ مُوجَبَهَا يَخْتَلِفُ بِالسِّرَايَةِ وَعَدَمِهَا ، وَالْقَضَاءُ قَبْلَ الِاسْتِينَاءِ قَضَاءٌ بِالْمَجْهُولِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ .
وَقَوْلُهُ ( وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ فِي اتِّبَاعِ الْجَانِي بَعْدَ الْعِتْقِ ) فَعِنْدَهُ الْوُجُوبُ عَلَى الْعَبْدِ فَيَتْبَعُهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَعِنْدَنَا الْوُجُوبُ عَلَى الْمَوْلَى دُونَ الْعَبْدِ فَلَا يَتْبَعُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّهُ بِالْعِتْقِ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَقَوْلُهُ ( وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ) فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِثْلُ مَذْهَبِنَا ، قَالَ : إذَا جَنَى الْعَبْدُ إنْ شَاءَ دَفَعَهُ وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ ، وَهَكَذَا
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِمَا .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ مَذْهَبِهِ .
قَالَ : عَبِيدُ النَّاسِ أَمْوَالُهُمْ جَزَاءُ جِنَايَتِهِمْ فِي قِيمَتِهِمْ : أَيْ فِي أَثْمَانِهِمْ لِأَنَّ الثَّمَنَ قِيمَةُ الْعَبْدِ .
وَقَوْلُهُ ( فَتَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ ) أَيْ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ كَمَا فِي الدَّيْنِ ، فَإِنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ يَكُونُ شَاغِلًا لِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى دَيْنَهُ كَذَلِكَ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ وَكَذَا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كَمَا فِي الذِّمِّيِّ يَعْنِي إذَا قَتَلَ الذِّمِّيُّ رَجُلًا خَطَأً تَجِبُ دِيَتُهُ فِي ذِمَّتِهِ لَا عَلَى عَاقِلَتِهِ كَمَا فِي إتْلَافِ الْمَالِ .
وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ النُّسْخَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ إلَخْ ) ظَاهِرٌ ، وَفِيهِ بَحْثٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَسْأَلَةِ مُخْتَلِفٌ ، فَإِنَّ حُكْمَهَا عِنْدَنَا الْوُجُوبُ عَلَى الْمَوْلَى وَعِنْدَهُ الْوُجُوبُ عَلَى الْعَبْدِ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَهُوَ بَنَاهُ عَلَى أَصْلٍ وَنَحْنُ عَلَى أَصْلٍ ، فَمِنْ أَيْنَ يَقُومُ لِأَحَدِنَا حُجَّةٌ عَلَى الْآخَرِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ جَعَلَ مُوجَبَ جِنَايَتِهِ فِي ذِمَّتِهِ كَوُجُوبِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ وَكَوُجُوبِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ ، وَنَحْنُ إذْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بَقِيَ أَصْلُهُ بِلَا أَصْلٍ فَبَطَلَ ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُمْ لَا يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَتَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ صِيَانَةً لِلدَّمِ عَنْ الْهَدَرِ ، وَبِقَوْلِهِ وَبِخِلَافِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْمَالَ فَتَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ .
وَأَمَّا أَصْلُنَا فَهُوَ ثَابِتٌ فِي نَفْسِهِ مُسْتَنِدٌ إلَى النَّصِّ الَّذِي لَا يُعْقَلُ إبْطَالُهُ لَيْسَ بِمَقِيسٍ عَلَى أَصْلٍ يَبْطُلُ بِإِبْدَاءِ الْفَارِقِ .
عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ إنَّ الْأَصْلَ فِي مُوجَبِ الْجِنَايَةِ أَنْ يَجِبَ
عَلَى الْمُتْلِفِ يَبْطُلُ أَيْضًا بِقَوْلِنَا الْأَصْلُ ذَلِكَ فِي مُوجَبِ الْجِنَايَةِ الْعَمْدِ أَوْ الْخَطَأِ وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَا يُفِيدُهُ ، إذْ الْكَلَامُ فِي الْخَطَأِ وَالثَّانِي عَيْنُ النِّزَاعِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ هُوَ الْجَانِي غَيْرُ مُفِيدٍ ) لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ : وَالْأَصْلُ فِي الْجَانِي أَنْ يَكُونَ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ الْمُتْلِفُ فَهُوَ مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّهُ يُخَيَّرُ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَالْمَوْلَى عَاقِلَتُهُ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ الْمَوْلَى عَاقِلَتَهُ لَمَا كَانَ مُخَيَّرًا كَمَا فِي سَائِرِ الْعَوَاقِلِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْخَطَأَ يُوجِبُ التَّخْفِيفَ ، وَلَمَّا كَانَ فِي سَائِرِ الْعَوَاقِلِ كَثْرَةً ظَهَرَ فِيهَا بِالتَّوْزِيعِ وَالْقِسْمَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُوجِبُ الْإِجْحَافَ ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَالْمَوْلَى وَاحِدٌ فَأَظْهَرْنَاهُ فِيهِ بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ .
وَقَوْلُهُ ( غَيْرَ أَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الدَّفْعُ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ وَجَبَ الْجَنَابَةُ فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى حَتَّى وَجَبَ التَّخْيِيرُ لِمَا سَقَطَ بِمَوْتِ الْعَبْدِ كَمَا فِي الْحُرِّ الْجَانِي إذَا مَاتَ فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَسْقُطُ عَنْ عَاقِلَتِهِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الدَّفْعُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ النَّقْلِ إلَى الْفِدَاءِ كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْمُوجَبَ الْأَصْلِيَّ فِيهِ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ ، وَلِلْمَالِكِ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى الْقِيمَةِ ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِكَوْنِ الْوَاجِبِ الْأَصْلِيِّ هُوَ الدَّفْعُ يُسْقِطُ الْمُوجَبَ بِمَوْتِ الْعَبْدِ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الصَّحِيحِ ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى ذَكَرَهَا التُّمُرْتَاشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الدِّيَةَ هُوَ الْأَصْلُ ، وَلَكِنْ لِلْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَ هَذَا الْوَاجِبَ بِدَفْعِ الْجَانِي ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لِمَا ذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ أَنَّ بَعْضَ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الْأَرْشُ
عَلَى الْمَوْلَى وَلَهُ الْمُخَلِّصُ بِالدَّفْعِ .
ثُمَّ قَالَ : وَالرِّوَايَةُ بِخِلَافِ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ، وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْعَبْدُ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَوْتِ الْحُرِّ الْجَانِي ) جَوَابٌ عَمَّا يُذْكَرُ هَاهُنَا مُسْتَشْهَدًا بِهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُرِّ اسْتِيفَاءٌ فَصَارَ كَالْعَبْدِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فِي أَنَّهَا تَجِبُ عَنْ الْعَبْدِ عَلَى الْمَوْلَى وَلَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ .
قَالَ ( فَإِنْ دَفَعَهُ مَلَكَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ ) فَإِنْ دَفَعَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ الْجَانِي مَلَكَهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ( وَإِنْ فَدَاهُ فِدَاءً بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ ) وَكُلُّ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ حَالًّا ، أَمَّا الدَّفْعُ فَلِأَنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ عَيْنُ الْعَبْدِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، فَالتَّأْجِيلُ فِي الْأَعْيَانِ بَاطِلٌ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ شُرِعَ لِلتَّحْصِيلِ تَرَفُّهًا وَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ بَاطِلٌ ، وَأَمَّا الْفِدَاءُ فَلِأَنَّهُ لَمَّا جُعِلَ بَدَلًا عَنْ الْعَبْدِ فِي الشَّرْعِ قَامَ مَقَامَهُ وَلِهَذَا سُمِّيَ فِدَاءً فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ .
قِيلَ كَوْنُ الشَّيْءِ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاتِّحَادَ فِي الْحُكْمِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَالَ قَدْ يَقَعُ بَدَلًا عَنْ الْقِصَاصِ وَلَمْ يَتَّحِدَا فِي الْحُكْمِ ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ وَإِذَا صَارَ مَا لَا تَعَلُّقَ بِهِ ، وَكَذَلِكَ التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ وَالنِّيَّةُ مِنْ شَرْطِهِ دُونَ الْأَصْلِ وَغَيْرُ ذَلِكَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفِدَاءَ لَمَّا وَجَبَ بِمُقَابَلَةِ الْجِنَايَةِ فِي النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ أَشْبَهَ الدِّيَةَ وَالْأَرْشَ وَهُمَا يَثْبُتَانِ مُؤَجَّلًا وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ الْفِدَاءِ كَذَلِكَ ، وَلَمَّا اخْتَارَهُ الْمَوْلَى كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ كَذَلِكَ : أَيْ كَسَائِرِ الدُّيُونِ حَالًّا ، لِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الدُّيُونِ عَارِضٌ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْطِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَتَعَارَضَ جَانِبُ
الْحُلُولِ وَالْأَجَلِ فَتَرَجَّحَ جَانِبُ الْحُلُولِ بِكَوْنِهِ فَرْعَ أَصْلٍ حَالٍّ مُوَافَقَةً بَيْنَ الْأَصْلِ وَفَرْعِهِ ، وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا يُشْعِرُ بِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْأَصْلُ أَنْ لَا يُفَارِقَ الْفَرْعُ الْأَصْلَ إلَّا بِأُمُورٍ ضَرُورِيَّةٍ ، فَإِنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ عِبَارَةٌ عَنْ حَالَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ لَا تَتَغَيَّرُ إلَّا بِأُمُورٍ ضَرُورِيَّةٍ ، وَالْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ تَغَيَّرَتْ بِذَلِكَ ، وَهُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ غَيْرُ صَالِحٍ لِحَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَالِ فَلَا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِهِ وَالتُّرَابُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ بِطَبْعِهِ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إلْحَاقِ النِّيَّةِ بِهِ لِيَكُونَ مُطَهِّرًا شَرْعًا بِخِلَافِ الْمَاءِ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ يَمْنَعُهُ عَنْ الْحُلُولِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ أَصْلِهِ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِهِ .
لَا يُقَالُ : قَدْ يَتَضَرَّرُ بِوُجُوبِهِ حَالًا فَهُوَ ضَرُورَةٌ ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَزِمَهُ بِاخْتِيَارِهِ عَلَى الدَّفْعِ فَهُوَ ضَرَرٌ مَرْضِيٌّ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ غَيْرَ أَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الدَّفْعُ إلَخْ ( وَإِنْ مَاتَ ) أَيْ الْعَبْدُ الْجَانِي بَعْدَمَا اخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا لَمْ يَبْرَأْ بِمَوْتِ الْعَبْدِ عَنْ الْفِدَاءِ ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ خِصَالِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْحَانِثَ غَيْرُ مُخَيَّرٍ ، وَإِنْ عَيَّنَ أَحَدُهُمَا قَوْلًا لَمْ يَتَعَيَّنْ وَهَاهُنَا قَدْ تَعَيَّنَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ أَوْجَبُ رِعَايَةً لِاحْتِيَاجِهِمْ وَذَلِكَ فِي التَّعَيُّنِ قَوْلًا وَفِعْلًا ، وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا الْفِعْلُ فَتَعَيَّنَ الْوَاجِبُ بِهِ .
قَالَ ( فَإِنْ عَادَ فَجَنَى كَانَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ كَحُكْمِ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ) مَعْنَاهُ بَعْدَ الْفِدَاءِ لِأَنَّهُ لَمَّا طَهُرَ عَنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ جُعِلَ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ ، وَهَذَا ابْتِدَاءُ جِنَايَةٍ .
قَالَ ( وَإِنْ جَنَى جِنَايَتَيْنِ قِيلَ لِلْمَوْلَى إمَّا أَنْ تَدْفَعَهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ يَقْتَسِمَانِهِ عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا وَإِمَّا أَنْ تَفْدِيهِ بِأَرْشِ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ) لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْأَوَّلِ بِرَقَبَتِهِ لَا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الثَّانِيَةِ بِهَا كَالدُّيُونِ الْمُتَلَاحِقَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى لَمْ يَمْنَعْ تَعَلُّقَ الْجِنَايَةِ فَحَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْأَوَّلِ أَوْلَى أَنْ لَا يُمْنَعَ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا عَلَى قَدْرِ أَرْشِ جِنَايَتِهِمَا ( وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً يَقْتَسِمُونَ الْعَبْدَ الْمَدْفُوعَ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ وَإِنْ فَدَاهُ فَدَاهُ بِجَمِيعِ أُرُوشِهِمْ ) لِمَا ذَكَرْنَا ( وَلَوْ قَتَلَ وَاحِدًا وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ ) يَقْتَسِمَانِهِ أَثْلَاثًا ( لِأَنَّ أَرْشَ الْعَيْنِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ أَرْشِ النَّفْسِ ) ، وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الشَّجَّاتِ ( وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَفْدِيَ مِنْ بَعْضِهِمْ وَيَدْفَعَ إلَى بَعْضِهِمْ مِقْدَارَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ مِنْ الْعَبْدِ ) لِأَنَّ الْحُقُوقَ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا وَهِيَ الْجِنَايَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ ، بِخِلَافِ مَقْتُولِ الْعَبْدِ إذَا كَانَ لَهُ وَلِيَّانِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْدِيَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَدْفَعَ إلَى الْآخَرِ لِأَنَّ الْحَقَّ مُتَّحِدٌ لِاتِّحَادِ سَبَبِهِ وَهِيَ الْجِنَايَةُ الْمُتَّحِدَةُ ، وَالْحَقُّ يَجِبُ لِلْمَقْتُولِ ثُمَّ لِلْوَارِثِ خِلَافَةً عَنْهُ فَلَا يَمْلِكُ التَّفْرِيقَ فِي مُوجَبِهَا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْأُولَى ) أَيْ الْجِنَايَةِ الْأُولَى بِرَقَبَتِهِ لَا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الرَّهْنِ فَإِنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الثَّانِي بِهِ ، حَتَّى أَنَّ الرَّاهِنَ لَوْ مَاتَ بَعْدَ الرَّهْنِ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ أُخْرَى سِوَى دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ لَحِقَتْهُ قَبْلَ الرَّهْنِ أَوْ بَعْدَهُ لَا يَتَعَلَّقُ سَائِرُ الدُّيُونِ بِالرَّهْنِ فَقَدْ مَنَعَ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ بِرَقَبَتِهِ غَيْرُهُ وَهَاهُنَا لَمْ يَمْنَعْ وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي الرَّهْنِ إيفَاءً أَوْ اسْتِيفَاءً حُكْمًا فَكَأَنَّ الْمُرْتَهِنَ قَدْ اسْتَوْفَاهُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَيْرُهُ ، وَلَيْسَ فِي الْجِنَايَةِ كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى قَدْرِ أَرْشِ جِنَايَتِهِمَا ) لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ عِوَضًا عَمَّا فَاتَ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُقْسَمَ عَلَى قَدْرِ الْمُعَوَّضِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْأُولَى بِرَقَبَتِهِ لَا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الثَّانِيَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الشَّجَّاتِ ) يَعْنِي لَوْ شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً وَآخَرَ هَاشِمَةً وَآخَرَ مُنَقِّلَةً ثُمَّ اخْتَارَ الْمَوْلَى الدَّفْعَ يُدْفَعُ إلَى صَاحِبِ الْمُوضِحَةِ سُدُسُ الْعَبْدِ لِأَنَّ لَهُ خَمْسَمِائَةٍ ، وَإِلَى صَاحِبِ الْهَاشِمَةِ ثُلُثُهُ لِأَنَّ لَهُ أَلْفًا ، وَإِلَى صَاحِبِ الْمُنَقِّلَةِ نِصْفٌ لِأَنَّ لَهُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَيَقْتَسِمُونَ الرَّقَبَةَ هَكَذَا .
وَقَوْلُهُ ( وَهِيَ الْجِنَايَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ ) يَعْنِي فَجَازَ أَنْ يَخْتَارَ فِي أَحَدِهِمْ خِلَافَ مَا اخْتَارَهُ فِي حَقِّ الْآخَرِ كَمَا لَوْ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْحَقُّ يَجِبُ لِلْمَقْتُولِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ : الْحَقُّ وَإِنْ كَانَ مُتَّحِدًا بِالنَّظَرِ إلَى السَّبَبِ فَهُوَ مُتَعَدِّدٌ بِالنَّظَرِ إلَى الْمُسْتَحِقِّينَ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِثْلَ الْأُولَى .
وَوَجْهُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ مُتَعَدِّدٌ بَلْ هُوَ وَاحِدٌ
، لِأَنَّ الْحَقَّ يَجِبُ لِلْمَقْتُولِ إلَخْ .
لَا يُقَالُ : الْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْوُرَّاثِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَلِلْمَيِّتِ حُكْمًا فَقَطْ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ حَقِيقَةً فَوَجَبَ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْوَارِثِ ، لِأَنَّ مِلْكَ الْمَيِّتِ أَصْلٌ وَمِلْكَ الْوَارِثِ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ وَاعْتِبَارُ الْأَصْلِ أَوْلَى .
قَالَ ( فَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ ضَمِنَ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِهَا ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَرْشُ ) لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ فَوْتُ حَقِّهِ فَيَضْمَنُهُ وَحَقُّهُ فِي أَقَلِّهِمَا ، وَلَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِأَنَّهُ لَا اخْتِيَارَ بِدُونِ الْعِلْمِ ، وَفِي الثَّانِي صَارَ مُخْتَارًا لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ يَمْنَعُهُ مِنْ الدَّفْعِ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِلْآخَرِ ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَالتَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الدَّفْعَ لِزَوَالِ الْمِلْكِ بِهِ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ، فَإِنَّهُ الْمُقَرُّ لَهُ يُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ .
وَلَيْسَ فِيهِ نَقْلُ الْمِلْكِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ الْمُقِرُّ وَأَلْحَقَهُ الْكَرْخِيُّ بِالْبَيْعِ وَأَخَوَاتِهِ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ فِي الظَّاهِرِ فَيَسْتَحِقُّهُ الْمُقَرُّ لَهُ بِإِقْرَارِهِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ .
وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ يَنْتَظِمُ النَّفْسَ وَمَا دُونَهَا ، وَكَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ وَإِطْلَاقُ الْبَيْعِ يَنْتَظِمُ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ يُزِيلُ الْمِلْكَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَنَقْضِهِ ، وَبِخِلَافِ الْعَرْضِ عَلَى الْبَيْعِ لِأَنَّ الْمِلْكَ مَا زَالَ ، وَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا حَتَّى يُسَلِّمَهُ لِأَنَّ الزَّوَالَ بِهِ ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ لِأَنَّ مُوجَبَهُ يَثْبُتُ قَبْلَ قَبْضِ الْبَدَلِ فَيَصِيرُ بِنَفْسِهِ مُخْتَارًا ، وَلَوْ بَاعَهُ مَوْلَاهُ مِنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَهُوَ مُخْتَارٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لَهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْهِبَةِ دُونَ الْبَيْعِ ، وَإِعْتَاقُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِأَمْرِ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ إعْتَاقِ الْمَوْلَى فِيمَا ذَكَرْنَاهُ ، لِأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ مُضَافٌ
إلَيْهِ ، وَلَوْ ضَرَبَهُ فَنَقَصَهُ فَهُوَ مُخْتَارٌ إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ حَبَسَ جُزْءًا مِنْهُ وَكَذَا إذَا كَانَتْ بِكْرًا فَوَطِئَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّقًا لِمَا قُلْنَا بِخِلَافِ التَّزْوِيجِ لِأَنَّهُ عَيْبٌ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ ، وَبِخِلَافِ وَطْءِ الثَّيِّبِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ غَيْرِ إعْلَاقٍ ، وَبِخِلَافِ الِاسْتِخْدَامِ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ ، وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ وَلَا يَصِيرُ مُخْتَارًا بِالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ فِي الْأَظْهَرِ مِنْ الرِّوَايَاتِ ، وَكَذَا بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ وَإِنْ رَكِبَهُ دَيْنٌ ، لِأَنَّ الْإِذْنَ لَا يُفَوِّتُ الدَّفْعَ وَلَا يُنْقِصُ الرَّقَبَةَ ، إلَّا أَنَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَحِقَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى فَلَزِمَ الْمَوْلَى قِيمَتُهُ .