كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي
( وَيُحْفَرُ الْقَبْرُ وَيُلْحَدُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { وَاللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا } " ( وَيُدْخَلُ الْمَيِّتُ ) مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، فَإِنَّ عِنْدَهُ يُسَلُّ سَلًّا لِمَا رُوِيَ " { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُلَّ سَلًّا } " .
وَلَنَا أَنَّ جَانِبَ الْقِبْلَةِ مُعَظَّمٌ فَيُسْتَحَبُّ الْإِدْخَالُ مِنْهُ ، وَاضْطَرَبَتْ الرِّوَايَاتُ فِي إدْخَالِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
فَصْلٌ فِي الدَّفْنِ ) أَصْلُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ : " أَعْنِي الْغُسْلَ وَالتَّكْفِينَ وَالدَّفْنَ فِي بَنِي آدَمَ عُرِفَ بِفِعْلِ الْمَلَائِكَةِ فِي حَقِّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَكَفَّنُوهُ وَدَفَنُوهُ ثُمَّ قَالُوا لِوَلَدِهِ هَذِهِ سُنَّةُ مَوْتَاكُمْ } " .
لَحَدَ الْمَيِّتَ وَأَلْحَدَهُ : جَعَلَهُ فِي اللَّحْدِ وَهُوَ الشِّقُّ الْمَائِلُ فِي جَانِبِ الْقَبْرِ ، وَيُلْحَدُ الْمَيِّتُ وَلَا يُشَقُّ لَهُ ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ بِالْعَكْسِ لِتَوَارُثِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الشَّقَّ دُونَ اللَّحْدِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا } " وَإِنَّمَا فَعَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الشَّقَّ لِضَعْفِ أَرَاضِيهِمْ بِالْبَقِيعِ .
وَصِفَةُ اللَّحْدِ أَنْ يَحْفِرَ الْقَبْرَ بِتَمَامِهِ ثُمَّ يَحْفِرَ فِي جَانِبِ الْقِبْلَةِ مِنْهُ حُفَيْرَةً يُوضَعُ فِيهَا الْمَيِّتُ وَيُجْعَلُ كَذَلِكَ كَالْبَيْتِ الْمُسْقَفِ .
وَصِفَةُ الشَّقِّ أَنْ يَحْفِرَ حُفَيْرَةً فِي وَسَطِ الْقَبْرِ يُوضَعُ فِيهَا الْمَيِّتُ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُدْخَلُ الْمَيِّتُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ ) يَعْنِي تُوضَعُ الْجِنَازَةُ فِي جَانِبِ الْقِبْلَةِ مِنْ الْقَبْرِ وَيُحْمَلُ مِنْهُ الْمَيِّتُ فَيُوضَعُ فِي اللَّحْدِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : السُّنَّةُ أَنْ يُسَلَّ إلَى قَبْرِهِ ، وَصِفَةُ ذَلِكَ أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ فِي مُؤَخَّرِ الْقَبْرِ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الْمَيِّتِ بِإِزَاءِ مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ مِنْ الْقَبْرِ ، ثُمَّ يُدْخِلَ الرَّجُلُ الْآخِذُ فِي الْقَبْرِ فَيَأْخُذَ بِرَأْسِ الْمَيِّتِ وَيُدْخِلَهُ فِي الْقَبْرِ أَوَّلًا وَيُسَلُّ كَذَلِكَ .
وَقِيلَ صُورَتُهُ أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ فِي مُقَدَّمِ الْقَبْرِ حَتَّى تَكُونَ رِجْلَا الْمَيِّتِ بِإِزَاءِ مَوْضِعِ رَأْسِهِ مِنْ الْقَبْرِ ثُمَّ يُدْخِلَ الرَّجُلُ الْآخِذُ فِي الْقَبْرِ فَيَأْخُذَ بِرِجْلَيْ الْمَيِّتِ وَيُدْخِلَهُمَا الْقَبْرَ أَوَّلًا وَيُسَلُّ كَذَلِكَ .
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُلَّ إلَى قَبْرِهِ } وَلَنَا أَنَّ جَانِبَ الْقِبْلَةِ مُعَظَّمٌ فَيُسْتَحَبُّ الْإِدْخَالُ مِنْهُ لَا يُقَالُ : هَذَا تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ بَاطِلٌ ، لِأَنَّ الرِّوَايَةَ فِي إدْخَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَبْرِهِ مُضْطَرِبَةٌ .
رَوَى إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُدْخِلَ فِي قَبْرِهِ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ } وَرَوَاهُ بِخِلَافِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ مَذْهَبِهِ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا مِثْلُ مَذْهَبِنَا ، وَالْمُضْطَرِبُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً .
( فَإِذَا وُضِعَ فِي لَحْدِهِ يَقُولُ وَاضِعُهُ : بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ) كَذَا قَالَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ وَضَعَ أَبَا دُجَانَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَبْرِ ( وَيُوَجَّهُ إلَى الْقِبْلَةِ ) بِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَتُحَلُّ الْعُقْدَةُ ) لِوُقُوعِ الْأَمْنِ مِنْ الِانْتِشَارِ ( وَيُسَوَّى اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جُعِلَ عَلَى قَبْرِهِ اللَّبِنُ( فَإِذَا وُضِعَ فِي لَحْدِهِ يَقُولُ وَاضِعُهُ بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ) أَيْ بِاسْمِ اللَّهِ وَضَعْنَاك وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَّمْنَاك ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( كَذَا { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَضَعَ أَبَا دُجَانَةَ فِي الْقَبْرِ } قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَضَعَ ذَا الْبِجَادَيْنِ لِأَنَّ أَبَا دُجَانَةَ مَاتَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ ، هَكَذَا ذُكِرَ فِي التَّوَارِيخِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُوَجَّهُ إلَى الْقِبْلَةِ بِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { مَاتَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا عَلِيُّ اسْتَقْبِلْ بِهِ الْقِبْلَةَ اسْتِقْبَالًا } " وَقَوْلُهُ ( وَتُحَلُّ الْعُقْدَةُ ) يَعْنِي عُقْدَةَ الْكَفَنِ مَخَافَةَ الِانْتِشَارِ لِوُقُوعِ الْأَمْنِ مِنْهُ ( وَيُسَوَّى اللَّبِنُ عَلَيْهِ ) { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُعِلَ عَلَى قَبْرِهِ اللَّبِنُ } .
( وَيُسَجَّى قَبْرُ الْمَرْأَةِ بِثَوْبٍ حَتَّى يُجْعَلَ اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ وَلَا يُسَجَّى قَبْرُ الرَّجُلِ ) لِأَنَّ مَبْنَى حَالِهِنَّ عَلَى السِّتْرِ وَمَبْنَى حَالِ الرِّجَالِ عَلَى الِانْكِشَافِ ( وَيُكْرَهُ الْآجُرُّ وَالْخَشَبُ ) لِأَنَّهُمَا لِإِحْكَامِ الْبِنَاءِ وَالْقَبْرُ مَوْضِعُ الْبِلَى ، ثُمَّ بِالْآجُرِّ يَكُونُ أَثَرُ النَّارِ فَيُكْرَهُ تَفَاؤُلًا ( وَلَا بَأْسَ بِالْقَصَبِ ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَيُسْتَحَبُّ اللَّبِنُ وَالْقَصَبُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جُعِلَ عَلَى قَبْرِهِ طُنٌّ مِنْ قَصَبٍ
وَقَوْلُهُ ( وَيُسَجَّى قَبْرُ الْمَرْأَةِ ) التَّسْجِيَةُ التَّغْطِيَةُ يُسَجَّى قَبْرُ الْمَرْأَةِ ( بِثَوْبٍ حَتَّى يُجْعَلَ اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ ) لِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ ، وَقَدْ صَحَّ " أَنَّ قَبْرَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سُجِّيَ بِثَوْبٍ " ( وَلَا يُسَجَّى قَبْرُ الرَّجُلِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُسَجَّى " لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَّى قَبْرَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ } " وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ " أَنَّهُ مَرَّ بِمَيِّتٍ قَدْ سُجِّيَ قَبْرُهُ فَنَزَعَهُ وَقَالَ : إنَّهُ رَجُلٌ " يَعْنِي أَنَّهُ مَبْنِيٌّ حَالَ الرِّجَالِ عَلَى الِانْكِشَافِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ .
وَتَأْوِيلُ قَبْرِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ أَنَّ كَفَنَهُ مَا كَانَ يَغْمُرُ بَدَنَهُ فَسُجِّيَ قَبْرُهُ حَتَّى لَا يَقَعَ الِاطِّلَاعُ لِأَحَدٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُكْرَهُ الْآجُرُّ وَالْخَشَبُ ) هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُمَا ) أَيْ الْآجُرَّ وَالْخَشَبَ ( لِإِحْكَامِ الْبِنَاءِ وَالْقَبْرُ مَوْضِعُ الْبِلَى ) وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَكَرِهَ الْآجُرَّ مِنْ حَيْثُ التَّفَاؤُلُ بِهِ لِمِسَاسَتِهِ النَّارَ دُونَ الْخَشَبِ لِعَدَمِهِ فِيهِ ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إلَى .
ذَلِكَ .
بِقَوْلِهِ ثُمَّ بِالْآجُرِّ أَثَرُ النَّارِ فَيُكْرَهُ تَفَاؤُلًا .
وَرُدَّ بِأَنَّ مِسَاسَ النَّارِ لَا يَصْلُحُ عِلَّةَ الْكَرَاهَةِ ، فَإِنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُغْسَلَ الْمَيِّتُ بِالْمَاءِ الْحَارِّ وَقَدْ مَسَّتْهُ النَّارُ .
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ : يَعْنِي التَّعْلِيلَ بِإِحْكَامِ الْبِنَاءِ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ بَيْنَ اسْتِعْمَالِ الْآجُرِّ وَرُفُوفِ الْخَشَبِ وَهِيَ أَلْوَاحُهُ وَلَا يُوجَدُ مَعْنَى النَّارِ فِيهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يُسْتَحَبُّ اللَّبِنُ وَالْقَصَبُ ) إنَّمَا صَرَّحَ .
بِلَفْظِ .
الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِمُخَالَفَةِ رِوَايَتِهِ لِرِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ ، لِأَنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ لَا تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ بَلْ عَلَى نَفْيِ الشِّدَّةِ لَا غَيْرُ ، وَرِوَايَةُ
الْجَامِعِ الصَّغِيرِ تَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ لَا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ، وَرِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ تَدُلُّ { لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُعِلَ عَلَى قَبْرِهِ طُنٌّ } : أَيْ حُزْمَةٌ مِنْ الْقَصَبِ .
( ثُمَّ يُهَالُ التُّرَابُ وَيُسَنَّمُ الْقَبْرُ وَلَا يُسَطَّحُ ) أَيْ لَا يُرَبَّعُ " { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ تَرْبِيعِ الْقُبُورِ } " وَمَنْ شَاهَدَ قَبْرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَ أَنَّهُ مُسَنَّمٌ .وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ يُهَالُ التُّرَابُ عَلَيْهِ ) يُقَالُ هِلْت الدَّقِيقَ فِي الْجِرَابِ : صَبَبْته مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَرْسَلْته إرْسَالًا مِنْ رَمْلٍ أَوْ تُرَابٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ نَحْوِهِ قُلْت هِلْته أَهِيلُهُ هَيْلًا فَانْهَالَ : أَيْ جَرَى فَانْصَبَّ ، وَمِنْهُ يُهَالُ التُّرَابُ : أَيْ يُصَبُّ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُسَنَّمُ الْقَبْرُ ) الْمُرَادُ مِنْ تَسْنِيمِ الْقَبْرِ رَفْعُهُ مِنْ الْأَرْضِ مِقْدَارَ شِبْرٍ أَوْ أَكْثَرَ قَلِيلًا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُسَطَّحُ أَيْ لَا يُرَبَّعُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُرَبَّعُ وَلَا يُسَنَّمُ لِمَا رُوِيَ " { أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَهُ مُسَطَّحًا } " وَلَنَا مَا رُوِيَ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ تَرْبِيعِ الْقُبُورِ } " .
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مُسَنَّمَةً عَلَيْهَا فَلَقٌ مِنْ مَدَرٍ بِيضٍ .
الْفَلَقُ جَمْعُ فِلْقَةٍ : وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنْ الْمَدَرِ ، عَمَّمَ الرَّائِي وَلَمْ يُعَيِّنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الرَّائِينَ كَثْرَةٌ وَتَأْوِيلُ تَسْنِيمِ قَبْرِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ سَطَّحَ قَبْرَهُ أَوَّلًا ثُمَّ سَنَّمَ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْمُحِيطِ .
( الشَّهِيدُ مَنْ قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ ، أَوْ وُجِدَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَبِهِ أَثَرٌ ، أَوْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ ظُلْمًا وَلَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ دِيَةٌ فَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُغَسَّلُ ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِمْ " { زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ } " فَكُلُّ مَنْ قُتِلَ بِالْحَدِيدَةِ ظُلْمًا وَهُوَ طَاهِرٌ بَالِغٌ وَلَمْ يَجِبْ بِهِ عِوَضٌ مَالِيٌّ فَهُوَ فِي مَعْنَاهُمْ فَيَلْحَقُ بِهِمْ ، وَالْمُرَادُ بِالْأَثَرِ الْجِرَاحَةُ لِأَنَّهَا دَلَالَةُ الْقَتْلِ ، وَكَذَا خُرُوجُ الدَّمِ مِنْ مَوْضِعٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ كَالْعَيْنِ وَنَحْوِهَا ، وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي الصَّلَاةِ وَيَقُولُ السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ فَأَغْنَى عَنْ الشَّفَاعَةِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ لِإِظْهَارِ كَرَامَتِهِ ، وَالشَّهِيدُ أَوْلَى بِهَا ، وَالطَّاهِرُ عَنْ الذُّنُوبِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الدُّعَاءِ كَالنَّبِيِّ وَالصَّبِيِّ
بَابُ الشَّهِيدِ ) الْمَقْتُولُ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، وَإِنَّمَا بَوَّبَ لِلشَّهِيدِ بِحِيَالِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْفَضِيلَةِ فَكَانَ إخْرَاجُهُ مِنْ بَابِ صَلَاةِ الْمَيِّتِ بِبَابٍ عَلَى حِدَةٍ كَإِخْرَاجِ جِبْرِيلَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ ، وَسُمِّيَ الشَّهِيدُ شَهِيدًا لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَشْهَدُونَ مَوْتَهُ إكْرَامًا لَهُ فَكَانَ مَشْهُودًا فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ مَشْهُودٌ لَهُ بِالْجَنَّةِ ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ حَيٌّ عِنْدَ اللَّهِ حَاضِرٌ .
وَهُوَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ ( مَنْ قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ أَوْ وُجِدَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَبِهِ أَثَرٌ أَوْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ ظُلْمًا وَلَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ دِيَةٌ ) فَقَوْلُهُ مَنْ قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ ، يَعْنِي بِأَيَّةِ آلَةٍ كَانَتْ ، وَفِي مَعْنَاهُمْ أَهْلُ الْبَغْيِ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ لِلْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ .
وَقَوْلُهُ ( وَبِهِ أَثَرٌ ) أَيْ جِرَاحَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ بَاطِنَةٌ كَخُرُوجِ الدَّمِ مِنْ الْعَيْنِ أَوْ نَحْوِهَا وَقَوْلِهِ ( أَوْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ ظُلْمًا ) احْتِرَازٌ عَمَّا قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ رَجْمًا أَوْ قِصَاصًا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ دِيَةٌ ) احْتِرَازٌ عَنْ شَبَهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يُكَفَّنُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يُغَسَّلُ إذَا كَانَ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ بِالِاتِّفَاقِ ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .
أَمَّا التَّكْفِينُ فَهُوَ سُنَّةٌ فِي مَوْتَى بَنِي آدَمَ ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ثِيَابٌ لَمْ تُنْزَعْ عَنْهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ } وَفِي رِوَايَةٍ " بِثِيَابِهِمْ " وَيُنْزَعُ الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ وَالْقَلَنْسُوَةُ وَالْخُفُّ وَالسِّلَاحُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ ، وَيَزِيدُونَ وَيَنْقُصُونَ إتْمَامًا لِلْكَفَنِ عَلَى مَا ذُكِرَ .
وَأَمَّا عَدَمُ الْغُسْلِ فَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِمْ " { زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ } " ( فَكُلُّ
مَنْ قُتِلَ ظُلْمًا بِالْحَدِيدَةِ وَهُوَ طَاهِرٌ بَالِغٌ وَلَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ عِوَضٌ مَالِيٌّ فَهُوَ فِي مَعْنَاهُمْ فَيُلْحَقُ بِهِمْ ) وَالْقَيْدُ بِالْحَدِيدَةِ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ الْقَتْلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَمَّا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَالْبَغْيِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ مَا كَانَ كُلُّهُمْ قَتِيلَ السَّيْفِ وَالسِّلَاحِ ، وَشَرْطُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا لِأَنَّهُ إذَا كَانَ جُنُبًا يُغَسَّلُ عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي الْكِتَابِ .
وَشَرْطُهُ أَنْ لَا يَكُونَ مُرْتَثًّا عَلَى مَا يَذْكُرُهُ ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فَقَدْ خَالَفْنَا الشَّافِعِيَّ وَقَالَ : السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ فَأَغْنَى عَنْ الشَّفَاعَةِ .
وَقُلْنَا الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ لِإِظْهَارِ كَرَامَتِهِ ، وَالشَّهِيدُ أَوْلَى بِالْكَرَامَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالطَّاهِرُ عَنْ الذُّنُوبِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
( وَمَنْ قَتَلَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ أَوْ أَهْلُ الْبَغْيِ أَوْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ فَبِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلُوهُ لَمْ يُغَسَّلْ ) لِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ مَا كَانَ كُلُّهُمْ قَتِيلَ السَّيْفِ وَالسِّلَاحِوَقَوْلُهُ ( وَمَنْ قَتَلَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ ) ظَاهِرٌ مِمَّا ذَكَرْنَا ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مَنْ قَتَلَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ فَهُوَ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ ( فَبِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلُوهُ لَمْ يُغَسَّلْ ) وَأَمَّا أَهْلُ الْبَغْيِ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ فَمِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَكُنْ قَتِيلُهُمْ بِمَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ فَيُشْتَرَطُ الْحَدِيدَةُ أَوْ الْآلَةُ الَّتِي لَا تَلْبَثُ فِي ثُبُوتِ الشَّهَادَةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ لَمَّا أُمِرْنَا بِقِتَالِهِمْ أُلْحِقَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْبَغْيِ { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي } الْآيَةَ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ { قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ } " وَقَالَ " { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } " وَإِذَا كَانَ قِتَالُهُمَا مَأْمُورًا بِهِ صَارَ كَقِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَفِي قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ الْحُكْمُ تَعْمِيمُ الْآلَةِ فَكَذَا فِي قِتَالِهِمَا .
( وَإِذَا اُسْتُشْهِدَ الْجُنُبُ غُسِّلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَقَالَا : لَا يُغَسَّلُ ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ بِالْجَنَابَةِ سَقَطَ بِالْمَوْتِ وَالثَّانِي لَمْ يَجِبْ لِلشَّهَادَةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عُرِفَتْ مَانِعَةً غَيْرَ رَافِعَةٍ فَلَا تَرْفَعُ الْجَنَابَةَ .
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ حَنْظَلَةَ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ جُنُبًا غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ إذَا طَهُرَتَا وَكَذَا قَبْلَ الِانْقِطَاعِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيّ لَهُمَا أَنَّ الصَّبِيَّ أَحَقُّ بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ .
وَلَهُ أَنَّ السَّيْفَ كَفَى عَنْ الْغُسْلِ فِي حَقِّ شُهَدَاءِ أُحُدٍ بِوَصْفِ كَوْنِهِ طُهْرَةً ، وَلَا ذَنْبَ عَلَى الصَّبِيِّ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُمْ
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ مَا وَجَبَ بِالْجَنَابَةِ سَقَطَ بِالْمَوْتِ ) لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُكَلَّفًا بِالْغُسْلِ عَنْ الْجَنَابَةِ ( وَالثَّانِي ) أَيْ الْغُسْلُ بِسَبَبِ الْمَوْتِ ( لَمْ يَجِبْ ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَمْنَعُهُ فَإِنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ } " لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الشَّهِيدِ الْجُنُبِ وَغَيْرِهِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عُرِفَتْ مَانِعَةً غَيْرَ رَافِعَةٍ فَلَا تَرْفَعُ الْجَنَابَةَ ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي ثَوْبِ الشَّهِيدِ نَجَاسَةٌ تُغْسَلُ تِلْكَ النَّجَاسَةُ وَلَا يُغَسَّلُ عَنْهُ الدَّمُ .
قِيلَ : لَوْ لَمْ يَكُنْ رَافِعًا لَوُضِّئَ الْمُحْدِثُ إذَا اُسْتُشْهِدَ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَكَذَا الْمَلْزُومُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا لِلْأَعْلَى أَنْ لَا يَكُونَ رَافِعًا لِلْأَدْنَى ، وَبِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ ( فَقَدْ صَحَّ { أَنَّ حَنْظَلَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ جُنُبًا غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَهُ عَنْ حَالِهِ ، فَقَالَتْ زَوْجَتُهُ : إنَّهُ أَصَابَ مِنِّي فَسَمِعَ الْهَيْعَةَ فَأَعْجَلَتْهُ عَنْ الِاغْتِسَالِ فَاسْتُشْهِدَ وَهُوَ جُنُبٌ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ ذَاكَ } وَالْهَيْعَةُ : الصَّوْتُ الَّذِي يُفْزَعُ مِنْهُ .
فَإِنْ قِيلَ الْوَاجِبُ غُسْلُ بَنِي آدَمَ دُونَ الْمَلَائِكَةِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا لَأَمَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِعَادَةِ غُسْلِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْغُسْلُ ، وَأَمَّا الْغَاسِلُ فَيَجُوزُ كَائِنًا مَنْ كَانَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا غَسَّلُوا آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ وَلَمْ يُعِدْ أَوْلَادُهُ غُسْلَهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ إذَا طَهُرَتَا ) يَعْنِي عِنْدَهُمَا لَا يُغَسَّلَانِ لِأَنَّ الْغُسْلَ الْأَوَّلَ سَقَطَ بِالْمَوْتِ وَالثَّانِيَ لَمْ يَجِبْ بِالشَّهَادَةِ ، وَعِنْدَهُ يُغَسَّلَانِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عُرِفَتْ مَانِعَةً غَيْرَ
رَافِعَةٍ ( وَكَذَا قَبْلَ الِانْقِطَاعِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ ) فَإِنَّهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ لَا يُغَسَّلَانِ لِأَنَّ الِاغْتِسَالَ مَا كَانَ وَاجِبًا .
عَلَيْهِمَا .
قَبْلَ الِانْقِطَاعِ .
وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ يُغَسَّلَانِ لِأَنَّ الِانْقِطَاعَ حَصَلَ بِالْمَوْتِ ، وَالدَّمُ السَّائِلُ يُوجِبُ الِاغْتِسَالَ عِنْدَ الِانْقِطَاعِ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيُّ ) عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَوْلُهُ ( بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ ) أَيْ بِسُقُوطِ الْغُسْلِ فَإِنَّ سُقُوطَ الْغُسْلِ عَنْ الشَّهِيدِ لَا بَقَاءَ أَثَرِ مَظْلُومِيَّتِهِ فِي الْقَتْلِ فَكَانَ إكْرَامًا لَهُ ، والمظلومية فِي حَقِّ الصَّبِيِّ أَشَدُّ فَكَانَ أَوْلَى بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ السَّيْفَ كَفَى عَنْ الْغُسْلِ فِي حَقِّ شُهَدَاءِ أُحُدٍ بِوَصْفِ كَوْنِهِ طَهَّرَهُ ) عَنْ الذَّنْبِ ( وَلَا ذَنْبَ لِلصَّبِيِّ فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُمْ ) وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُمْ غُسِّلَ .
( وَلَا يُغْسَلُ عَنْ الشَّهِيدِ دَمُهُ ، وَلَا يُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ ) لِمَا رَوَيْنَا ( وَيُنْزَعُ عَنْهُ الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ وَالْقَلَنْسُوَةُ وَالسِّلَاحُ وَالْخُفُّ ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ ( وَيَزِيدُونَ وَيُنْقِصُونَ مَا شَاءُوا ) إتْمَامًا لِلْكَفَنِوَقَوْلُهُ ( وَلَا يُغَسَّلُ عَنْ الشَّهِيدِ دَمُهُ ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ ( وَيُنْزَعُ عَنْهُ الْفَرْوُ إلَخْ ) مَذْهَبُنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُنْزَعُ عَنْهُ شَيْءٌ وَاحْتَجَّ بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " زَمِّلُوهُمْ " مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلَنَا مَا رَوَيْنَا فِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمْ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ وَأَنْ يُدْفَنُوا بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ } وَإِذَا تَعَارَضَا صِرْنَا إلَى الْقِيَاسِ وَهُوَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ( قَوْلُهُ وَيَزِيدُونَ وَيَنْقُصُونَ مَا شَاءُوا ) أَيْ يَزِيدُونَ مَا شَاءُوا إذَا كَانَ نَاقِصًا عَنْ الْعَدَدِ الْمَسْنُونِ وَيَنْقُصُونَ مَا شَاءُوا يَعْنِي إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الْعَدَدِ الْمَسْنُونِ .
قَالَ ( وَمَنْ اُرْتُثَّ غُسِّلَ ) وَهُوَ مَنْ صَارَ خَلْفًا فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ لِنَيْلِ مَرَافِقِ الْحَيَاةِ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَخِفُّ أَثَرُ الظُّلْمِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ ( وَالِارْتِثَاثُ : أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ أَوْ يَنَامَ أَوْ يُدَاوَى أَوْ يُنْقَلَ مِنْ الْمَعْرَكَةِ حَيًّا ) لِأَنَّهُ نَالَ بَعْضَ مَرَافِقِ الْحَيَاةِ .
وَشُهَدَاءُ أُحُدٍ مَاتُوا عَطَاشَى وَالْكَأْسُ تُدَارُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا خَوْفًا مِنْ نُقْصَانِ الشَّهَادَةِ ، إلَّا إذَا حُمِلَ مِنْ مَصْرَعِهِ كَيْ لَا تَطَأَهُ الْخُيُولُ ، لِأَنَّهُ مَا نَالَ شَيْئًا مِنْ الرَّاحَةِ ، وَلَوْ آوَاهُ فُسْطَاطٌ أَوْ خَيْمَةٌ كَانَ مُرْتَثًّا لِمَا بَيَّنَّا ( وَلَوْ بَقِيَ حَيًّا حَتَّى مَضَى وَقْتُ صَلَاةٍ وَهُوَ يَعْقِلُ فَهُوَ مُرْتَثٌّ ) لِأَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ صَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَحْيَاءِ .
قَالَ : وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَلَوْ أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ كَانَ ارْتِثَاثًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الْأَمْوَاتِوَقَوْلُهُ ( وَمَنْ اُرْتُثَّ ) هُوَ مِنْ قَوْلِك ثَوْبٌ رَثٌّ أَيْ خَلَقٌ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ ) إنَّمَا قَيَّدَ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا يُغَسَّلُ بِالِاتِّفَاقِ .
( وَمَنْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي الْمِصْرِ غُسِّلَ ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ فَخَفَّ أَثَرُ الظُّلْمِ ( إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قُتِلَ بِحَدِيدَةٍ ظُلْمًا ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْقِصَاصُ وَهُوَ عُقُوبَةٌ وَالْقَاتِلُ لَا يَتَخَلَّصُ عَنْهَا ظَاهِرًا ، إمَّا فِي الدُّنْيَا أَوْ الْعُقْبَى .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : مَا لَا يَلْبَثُ بِمَنْزِلَةِ السَّيْفِ وَيُعْرَفُ فِي الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَقَوْلُهُ ( إلَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ قُتِلَ بِحَدِيدَةٍ ظُلْمًا ) أَيْ حِينَئِذٍ لَا يُغَسَّلُ قِيلَ هَذَا إذَا عُلِمَ قَاتِلُهُ عَيْنًا .
وَأَمَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قُتِلَ بِحَدِيدَةٍ ظُلْمًا وَلَكِنْ لَمْ يُعْلَمْ قَاتِلُهُ يُغَسَّلُ لِمَا أَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ الدِّيَةُ وَالْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ، وَلَفْظُ الْكِتَابِ يُشِيرُ إلَى هَذَا لِأَنَّهُ قَالَ ( لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْقِصَاصُ ) لَا قِصَاصَ يَجِبُ إلَّا عَلَى الْقَاتِلِ الْمَعْلُومِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْقِصَاصُ ( عُقُوبَةٌ وَالْقَاتِلُ لَا يَتَخَلَّصُ عَنْ الْعُقُوبَةِ ظَاهِرًا ) أَمَّا فِي الدُّنْيَا إنْ وَقَعَ الِاسْتِيفَاءُ أَوْ فِي الْعُقْبَى إنْ لَمْ يُسْتَوْفَ ، فَلَوْ كَانَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ مَانِعًا عَنْ الشَّهَادَةِ لَا نَسُدُّ بَابَهَا وَهُوَ بَاطِلٌ ، فَإِنْ قِيلَ مَنْ وَجَبَ بِقَتْلِهِ الْقِصَاصُ لَيْسَ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ إذْ لَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِمْ شَيْءٌ ، وَمَنْ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُمْ يُغَسَّلُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ فَائِدَةَ الْقِصَاصِ تَرْجِعُ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ وَسَائِرِ النَّاسِ دُونَ الْقَتِيلِ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِالْقَتْلِ شَيْءٌ كَمَا لَمْ يَحْصُلْ لِشُهَدَاءِ أُحُدٍ ، بِخِلَافِ الدِّيَةِ فَإِنَّ نَفْعَهَا يَعُودُ إلَى الْمَيِّتِ حَتَّى تُقْضَى دُيُونُهُ وَتَنْفُذَ وَصَايَاهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَا لَا يَلْبَثُ بِمَنْزِلَةِ السَّيْفِ ) يَعْنِي لَا يُشْتَرَطُ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ فِي الْمِصْرِ أَنْ يُقْتَلَ بِحَدِيدَةٍ عِنْدَهُمَا ، بَلْ الْمُثْقَلُ مِنْ الْحَجَرِ وَالْخَشَبِ مِثْلُ السَّيْفِ عِنْدَهُمَا حَتَّى لَا يُغَسَّلُ الْقَتِيلُ ظُلْمًا فِي الْمِصْرِ إذْ عُرِفَ قَاتِلُهُ وَعُلِمَ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِالْمُثْقَلِ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عِنْدَهُمَا .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ وَيُعْرَفُ فِي الْجِنَايَاتِ .
( وَمَنْ قُتِلَ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ بَاذِلٌ نَفْسَهُ لِإِيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ ، وَشُهَدَاءُ أُحُدٍ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَلْحَقُ بِهِمْوَقَوْلُهُ ( وَمَنْ قُتِلَ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ غُسِّلَ ) لِمَا رُوِيَ " { أَنَّ مَاعِزًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا رُجِمَ جَاءَ عَمُّهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : قُتِلَ مَاعِزٌ كَمَا تُقْتَلُ الْكِلَابُ فَمَاذَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ بِهِ ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : لَا تَقُلْ هَذَا فَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَسِعَتْهُمْ ، اذْهَبْ فَغَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَصَلِّ عَلَيْهِ } " وَلِأَنَّهُ بَاذِلٌ نَفْسَهُ لِإِيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ لِأَنَّهُمْ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِمْ .
( وَمَنْ قُتِلَ مِنْ الْبُغَاةِ أَوْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَى الْبُغَاةِ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ قُتِلَ مِنْ الْبُغَاةِ أَوْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُصَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ ، إلَّا أَنَّهُ مَقْتُولٌ بِحَقٍّ فَهُوَ كَالْمَقْتُولِ فِي رَجْمٍ أَوْ قِصَاصٍ .
وَلَنَا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَى الْبُغَاةِ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ فَقِيلَ لَهُ : أَهُمْ كُفَّارٌ ؟ فَقَالَ : لَا ، وَلَكِنَّهُمْ إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا أَشَارَ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الْغُسْلَ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ وَزَجْرًا لِغَيْرِهِمْ ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَصْلُوبِ يُتْرَكُ عَلَى خَشَبَةٍ عُقُوبَةً لَهُ وَزَجْرًا لِغَيْرِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الصَّلَاةُ فِي الْكَعْبَةِ جَائِزَةٌ فَرْضُهَا وَنَفْلُهَا ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِيهِمَا .
وَلِمَالِكٍ فِي الْفَرْضِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ يَوْمَ الْفَتْحِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ اُسْتُجْمِعَتْ شَرَائِطُهَا لِوُجُودِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّ اسْتِيعَابَهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ
( بَابُ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ ) قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ بَابِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَجْهُ تَأْخِيرِ هَذَا الْبَابِ فَلَا نُعِيدُهُ ( الصَّلَاةُ فِي الْكَعْبَةِ جَائِزَةٌ فَرْضُهَا وَنَفْلُهَا ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : كَأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ وَقَعَ سَهْوًا مِنْ الْكَاتِبِ ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يَرَى جَوَازَ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا ؛ وَكَذَا أَوْرَدَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِمْ ، وَلَمْ يُورِدْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَائِنَا أَيْضًا هَذَا الْخِلَافَ فِيمَا عِنْدِي مِنْ الْكُتُبِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مُرَادَهُ مَا إذَا تَوَجَّهَ إلَى الْبَابِ وَهُوَ مَفْتُوحٌ ، وَلَيْسَتْ الْعَتَبَةُ مُرْتَفِعَةً قَدْرَ مُؤَخِّرَةِ الرَّحْلِ ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى السَّهْوِ إلَّا أَنَّ إطْلَاقَ الْكَلَامِ يُنَافِيهِ .
قَوْلُهُ ( وَلِمَالِكٍ فِي الْفَرْضِ ) يَعْنِي أَنَّهُ يُجَوِّزُ النَّفَلَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ وَلَا يُجَوِّزُ الْفَرْضَ ، وَيَقُولُ الصَّلَاةُ فِيهَا جَائِزَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ اسْتَقْبَلَ بَعْضًا ، وَفَاسِدَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ اسْتَدْبَرَ آخَرَ ، وَالتَّرْجِيحُ لِجَانِبِ الْفَسَادِ احْتِيَاطًا فِي أَمْرِ الْعِبَادَةِ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي النَّفْلِ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ تُرِكَ لِوُرُودِ الْأَثَرِ فِيهِ ، وَمَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ ، وَالْفَرْضُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِيُلْحَقَ بِهِ وَلَنَا " { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ الْفَرْضَ يَوْمَ الْفَتْحِ } " رَوَاهُ بِلَالٌ وَلَئِنْ كَانَ نَفْلًا فَالْفَرْضُ فِي مَعْنَاهُ فِيمَا هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْجَوَازِ دُونَ الْأَرْكَانِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ اسْتَجْمَعَتْ شَرَائِطَهَا لِوُجُودِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّ اسْتِيعَابَهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا لَوْ صَلَّى خَارِجَهَا ، وَالِاسْتِدْبَارُ إنَّمَا يُوجِبُ الْفَسَادَ إذَا لَمْ يُسْتَقْبَلْ بَعْضُهَا لِانْتِفَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ اسْتِقْبَالُ شَطْرٍ مِنْهَا ، وَأَمَّا إذَا اسْتَقْبَلَ فَمَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ .
( فَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ بِجَمَاعَةٍ فِيهَا فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ ظَهْرَهُ إلَى ظَهْرِ الْإِمَامِ جَازَ ) لِأَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إلَى الْقِبْلَةِ ، وَلَا يَعْتَقِدُ إمَامَهُ عَلَى الْخَطَأِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ التَّحَرِّي ( وَمَنْ جَعَلَ مِنْهُمْ ظَهْرَهُ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ ) لِتَقَدُّمِهِ عَلَى إمَامِهِ
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ بِجَمَاعَةٍ فِيهَا ) الصَّلَاةُ بِالْجَمَاعَةِ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ لَا يَخْلُو عَنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ : إمَّا أَنْ يَكُونَ وَجْهُهُ إلَى ظَهْرِ الْإِمَامِ ، أَوْ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ أَوْ يَكُونَ ظَهْرُهُ إلَى ظَهْرِ الْإِمَامِ ، أَوْ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ .
وَالْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ جَائِزٌ بِلَا كَرَاهَةٍ ، وَالثَّانِي بِكَرَاهَةٍ وَالرَّابِعُ لَا يَجُوزُ .
أَمَّا جَوَازُ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ .
وَأَمَّا جَوَازُ الثَّانِي فَلِوُجُودِ الْمُتَابَعَةِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَهُوَ التَّقَدُّمُ عَلَى الْإِمَامِ .
وَأَمَّا كَرَاهَتُهُ فَلِشَبَهِهِ بِعَابِدِ الصُّورَةِ بِالْمُقَابَلَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ سُتْرَةً تَحَرُّزًا عَنْ ذَلِكَ .
وَأَمَّا جَوَازُ الثَّالِثِ فَلِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إلَى الْقِبْلَةِ وَلَا يَعْتَقِدُ إمَامُهُ عَلَى الْخَطَأِ .
قِيلَ وَهَذَا لَيْسَ بِكَافٍ لِأَنَّ مَنْ جَعَلَ ظَهْرَهُ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ وَهُوَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ مُتَوَجِّهٌ إلَى الْقِبْلَةِ وَلَا يَعْتَقِدُ إمَامَهُ عَلَى الْخَطَأِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ ، وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ وَهُوَ غَيْرُ مُتَقَدِّمٍ عَلَيْهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمَّا عَلَّلَ عَدَمَ الْجَوَازِ فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ بِالتَّقَدُّمِ عَلَى الْإِمَامِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَانِعٌ فَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهِ فِي الْأَوَّلِ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ الثَّانِي .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ التَّحَرِّي ) يَعْنِي إذَا صَلَّوْا فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ ظَهْرَهُ إلَى ظَهْرِ الْإِمَامِ وَهُوَ يَعْلَمُ ، فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ إمَامَهُ عَلَى الْخَطَإِ ، وَقَدْ مَرَّ فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ ظَهَرَ وَجْهُ عَدَمِ جَوَازِ الْوَجْهِ الرَّابِعِ مِنْ هَذَا .
وَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى يَمِينِ الْإِمَامِ أَوْ يَسَارِهِ فَهُوَ أَيْضًا جَائِزٌ .
وَهُوَ ظَاهِرٌ .
( وَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَتَحَلَّقَ النَّاسُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَصَلَّوْا بِصَلَاةِ الْإِمَامِ ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَقْرَبَ إلَى الْكَعْبَةِ مِنْ الْإِمَامِ جَازَتْ صَلَاتُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي جَانِبِ الْإِمَامِ ) لِأَنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجَانِبِوَقَوْلُهُ ( فَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَتَحَلَّقَ النَّاسُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَتَحَلَّقَ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى .
وَقَوْلُهُ ( فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَقْرَبَ ) جَزَاهُ إذَا صَلَّى الْإِمَامُ وَأَمَّا قَوْلُهُ ( تَحَلَّقَ ) بِلَا فَاءٍ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : حَالٌ بِتَقْدِيرِ قَدْ وَقَوْلُهُ فَمَنْ كَانَ جَزَاءُ الشَّرْطِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ جُزْءُ الشَّرْطِ وَقَوْلُهُ فَمَنْ كَانَ جُمْلَةٌ أُخْرَى شَرْطِيَّةٌ عُطِفَتْ عَلَى الْأُولَى .
وَقَوْلُهُ ( إذَا لَمْ يَكُنْ فِي جَانِبِ الْإِمَامِ ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي جَانِبِهِ لَمْ يَجُزْ لِوُجُودِ التَّقَدُّمِ لِأَنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجَانِبِ .
قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ : لِأَنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ فِي الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ فَلَا يَظْهَرُ إلَّا عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ وَلَيْسَ لِلْإِضَافَةِ تَقْيِيدٌ بِجِهَةٍ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِأَنَّهُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ كَانَ فِي مَعْنَى مَنْ جَعَلَ ظَهْرَهُ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ وَهُوَ جَيِّدٌ .
( وَمَنْ صَلَّى عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ هِيَ الْعَرْصَةُ ، وَالْهَوَاءُ إلَى عَنَانِ السَّمَاءِ عِنْدَنَا دُونَ الْبِنَاءِ لِأَنَّهُ يُنْقَلُ : أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ جَازَ وَلَا بِنَاءَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ التَّعْظِيمِ ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ صَلَّى عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ ) أَيْ عَلَى سَطْحِهَا ، وَلَعَلَّهُ اخْتَارَ لَفْظَ الظُّهْرِ لِوُرُودِ لَفْظِ الْحَدِيثِ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَرَادَ أَنَّ مَنْ صَلَّى عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ ( جَازَتْ صَلَاتُهُ ) عِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي جَوَازِ التَّوَجُّهِ إلَيْهَا لِلصَّلَاةِ الْبِنَاءُ .
وَعِنْدَنَا أَنَّ الْقِبْلَةَ هِيَ الْكَعْبَةُ وَالْكَعْبَةُ هِيَ الْعَرْصَةُ وَالْهَوَاءُ إلَى عَنَانِ السَّمَاءِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْبِنَاءِ لِأَنَّهُ يُنْقَلُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ صَلَّى عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَلَا شَيْءَ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْبِنَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ ، وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ بِتَأْوِيلِ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَأَدَائِهَا ( لِمَا فِيهِ ) أَيْ فِي التَّعَلِّي عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ ( وَمَنْ تَرَكَ التَّعْظِيمَ وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ ) قِيلَ أَيْ عَنْ تَرْكِ التَّعْظِيمِ ، وَقِيلَ عَنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى ظَهْرِهَا .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ " { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ الْمَجْزَرَةِ ، وَالْمَزْبَلَةِ ، وَالْمَقْبَرَةِ ، وَالْحَمَّامِ ، وَقَوَارِعِ الطُّرُقِ ، وَمَعَاطِنِ الْإِبِلِ ، وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ } " .
( الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الْمُسْلِمِ إذَا مَلَكَ نِصَابًا مِلْكًا تَامًّا وَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ) أَمَّا الْوُجُوبُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَآتُوا الزَّكَاةَ } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { أَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ } وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ .
وَالْمُرَادُ بِالْوَاجِبِ الْفَرْضُ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِيهِ ، وَاشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ كَمَالَ الْمِلْكِ بِهَا ، وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ لِمَا نَذْكُرُهُ ، وَالْإِسْلَامُ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ وَلَا تَتَحَقَّقُ مِنْ الْكَافِرِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ مِلْكِ مِقْدَارِ النِّصَابِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدَّرَ السَّبَبَ بِهِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْحَوْلِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُدَّةٍ يَتَحَقَّقُ فِيهَا النَّمَاءُ ، وَقَدَّرَهَا الشَّرْعُ بِالْحَوْلِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ } وَلِأَنَّهُ الْمُتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْفُصُولِ الْمُخْتَلِفَةِ ، وَالْغَالِبُ تَفَاوُتُ الْأَسْعَارِ فِيهَا فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ .
ثُمَّ قِيلَ : هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْأَمْرِ ، وَقِيلَ عَلَى التَّرَاخِي لِأَنَّ جَمِيعَ الْعُمْرِ وَقْتُ الْأَدَاءِ ، وَلِهَذَا لَا تُضْمَنُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ بَعْدَ التَّفْرِيطِ .
كِتَابُ الزَّكَاةِ : قَرَنَ الزَّكَاةَ بِالصَّلَاةِ اقْتِدَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ { أُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ حَسَنَةٌ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهَا بِدُونِ الْوَاسِطَةِ ، وَالزَّكَاةَ مُلْحَقَةٌ بِهَا وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ .
وَالزَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ : عِبَارَةٌ عَنْ النَّمَاءِ ، يُقَالُ زَكَا الزَّرْعُ إذَا نَمَا ، وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ : اسْمٌ لِفِعْلِ أَدَاءِ حَقٍّ يَجِبُ لِلْمَالِ يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهِ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ لِأَنَّهَا تُوصَفُ بِالْوُجُوبِ ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ دُونَ الْأَعْيَانِ ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَالِ الْمُؤَدَّى لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { وَآتُوا الزَّكَاةَ } وَلَا يَصِحُّ الْإِيتَاءُ إلَّا فِي الْعَيْنِ ، وَسَبَبُهَا مِلْكُ النِّصَابِ النَّامِي ، وَشَرْطُهَا الْحُرِّيَّةُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْإِسْلَامُ وَالْخُلُوُّ عَنْ الدَّيْنِ وَكَمَالُ نِصَابٍ حَوْلِيٍّ ، وَصِفَتُهَا الْفَرْضِيَّةُ ، وَحُكْمُهَا الْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ فِي الدُّنْيَا وَالنَّجَاةُ مِنْ الْعِقَابِ وَالْوُصُولُ إلَى الثَّوَابِ فِي الْعُقْبَى .
قَالَ ( الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْحُرِّ ) أَيْ فَرِيضَةٌ لَازِمَةٌ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَآتُوا الزَّكَاةَ } وَالسُّنَّةِ الْمَعْرُوفَةِ وَهِيَ { بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ } الْحَدِيثَ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ لَمْ يُنْكِرْهَا أَحَدٌ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْفَرْضِ إلَى الْوَاجِبِ إمَّا لِأَنَّ بَعْضَ مَقَادِيرِهَا وَكَيْفِيَّاتِهَا ثَابِتَةٌ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ ، أَوْ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ أَحَدِهِمَا فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ جَائِزٌ مَجَازًا ، وَإِنَّمَا قَالَ مِلْكًا تَامًّا احْتِرَازًا عَنْ مَالِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّهُ مِلْكُ الْمَوْلَى ، وَإِنَّمَا لِلْمُكَاتَبِ فِيهِ مِلْكُ الْيَدِ ، وَعَنْ مَالِ الْمَدْيُونِ فَإِنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مِلْكًا نَاقِصًا وَكَلَامُهُ فِيهِ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ ) يَعْنِي يَكُونُ الِاعْتِبَارُ بِهِ
دُونَ حَقِيقَةِ الِاسْتِنْمَاءِ ، حَتَّى إذَا ظَهَرَ النَّمَاءُ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ تَجِبُ الزَّكَاةُ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ قِيلَ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ ) وَهُوَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ ، فَإِنَّهُ قَالَ : يَأْثَمُ بِتَأْخِيرِ الزَّكَاةِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ : مَنْ أَخَّرَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ .
وَفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَجِّ فَقَالَ : لَا يَأْثَمُ بِتَأْخِيرِ الْحَجِّ وَيَأْثَمُ بِتَأْخِيرِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ فِي الزَّكَاةِ حَقَّ الْفُقَرَاءِ فَيَأْثَمُ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِمْ ، وَأَمَّا الْحَجُّ فَخَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى .
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِتَأْخِيرِ الزَّكَاةِ وَيَأْثَمُ بِتَأْخِيرِ الْحَجِّ ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ ، أَمَّا الْحَجُّ فَهُوَ مُؤَقَّتٌ كَالصَّلَاةِ ، فَرُبَّمَا لَا يُدْرِكُ الْوَقْتَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ .
( وَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ زَكَاةٌ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ : هِيَ غَرَامَةٌ مَالِيَّةٌ فَتُعْتَبَرُ بِسَائِرِ الْمُؤَنِ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَصَارَ كَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ .
وَلَنَا أَنَّهَا عِبَادَةٌ فَلَا تَتَأَدَّى إلَّا بِالِاخْتِيَارِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الِابْتِلَاءِ ، وَلَا اخْتِيَارَ لَهُمَا لِعَدَمِ الْعَقْلِ ، بِخِلَافِ الْخَرَاجِ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ .
وَكَذَا الْغَالِبُ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ تَابِعٌ ، وَلَوْ أَفَاقَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إفَاقَتِهِ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فِي الصَّوْمِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَكْثَرُ الْحَوْلِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَالْعَارِضِيِّ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ مَجْنُونًا يُعْتَبَرُ الْحَوْلُ مِنْ وَقْتِ الْإِفَاقَةِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ
وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ زَكَاةٌ ) هُوَ الْمَوْعُودُ بِقَوْلِهِ لِمَا نَذْكُرُهُ وَقَوْلُهُ ( هِيَ غَرَامَةٌ مَالِيَّةٌ ) أَيْ وُجُوبُ شَيْءٍ مَالِيٍّ اسْتَعَارَ لَفْظَ الْغَرَامَةِ لِلْوُجُوبِ لِمَا أَنَّ حَقِيقَةَ الْغَرَامَةِ هِيَ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْإِنْسَانَ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ الزَّكَاةُ وَاجِبٌ مَالِيٌّ وَكُلُّ مَا هُوَ وَاجِبٌ مَالِيٌّ يَجِبُ عَلَيْهِ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ فَالزَّكَاةُ تَجِبُ عَلَيْهِ وَيُؤَدِّي عَنْهُ الْوَلِيُّ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ ( وَلَنَا أَنَّهَا عِبَادَةٌ ) لِأَنَّ الْعِبَادَةَ مَا يَأْتِي بِهِ الْمَرْءُ عَلَى خِلَافِ هَوَى نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ رَبِّهِ وَالزَّكَاةُ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ } الْحَدِيثَ ، وَغَيْرُهَا عِبَادَةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ هِيَ وَكُلُّ مَا هُوَ عِبَادَةٌ ( لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالِاخْتِيَارِ تَحْقِيقًا لِلِابْتِلَاءِ وَلَا اخْتِيَارَ لَهُمَا لِعَدَمِ الْعَقْلِ ) وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
فَإِنْ قِيلَ : الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْإِيمَانُ عَلَى أَصْلِكُمْ يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِاخْتِيَارٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلْتَصِحَّ الزَّكَاةُ بِمِثْلِهِ مِنْ الِاخْتِيَارِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي اُنْتُقِضَ قَوْلُكُمْ وَكُلُّ مَا هُوَ عِبَادَةٌ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالِاخْتِيَارِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهَا إنَّمَا تَصِحُّ بِاخْتِيَارِ قَوْلِهِ فَلْتَصِحَّ الزَّكَاةُ بِمِثْلِهِ مِنْ الِاخْتِيَارِ .
قُلْنَا : غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ لِأَنَّ ذَلِكَ اخْتِيَارٌ لَا يَسْتَلْزِمُ ضَرَرًا لِعَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا الِاخْتِيَارُ يَسْتَلْزِمُ الضَّرَرَ فَلَا يَكُونُ مِثْلَ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْخَرَاجِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَصَارَ كَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا الْغَالِبُ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ ) لِمَا أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْعُشْرِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ ، فَبِاعْتِبَارِ الْأَرْضِ وَهِيَ الْأَصْلُ كَانَتْ الْمُؤْنَةُ
أَصْلًا ، وَبِاعْتِبَارِ الْخَارِجِ وَهُوَ وَصْفُ الْأَرْضِ كَانَ شَبَهُهَا بِالزَّكَاةِ وَالْوَصْفُ تَابِعٌ لِلْمَوْصُوفِ فَكَانَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ تَابِعًا .
فَإِنْ قِيلَ : سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ النِّصَابُ النَّامِي وَالنِّصَابُ أَصْلٌ وَالنَّمَاءُ وَصْفٌ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي الزَّكَاةِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ أَصْلًا .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُؤْنَةَ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْبَقَاءِ كَالنَّفَقَةِ ، وَالزَّكَاةُ لَيْسَتْ سَبَبًا لِبَقَاءِ الْمَالِ وَتَمَامُهُ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ أَفَاقَ ) يَعْنِي الْمَجْنُونَ ( فِي بَعْضِ السَّنَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِفَاقَةِ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ ) يَعْنِي إذَا كَانَ مُفِيقًا فِي جُزْءٍ مِنْ السَّنَةِ أَوَّلِهَا أَوْ آخِرِهَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ .
كَمَا لَوْ أَفَاقَ فِي جُزْءٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ لَزِمَهُ صَوْمُ الشَّهْرِ كُلِّهِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِمَا أَنَّ السَّنَةَ لِلزَّكَاةِ بِمَنْزِلَةِ الشَّهْرِ لِلصَّوْمِ ، وَالْإِفَاقَةُ فِي جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ كَالْإِفَاقَةِ فِي جَمِيعِهِ فِي وُجُوبِ صَوْمِ جَمِيعِ الشَّهْرِ فَكَذَا هَذَا ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَكْثَرُ الْحَوْلِ ) فَإِنْ كَانَ مُفِيقًا فِيهِ فَقَدْ غَلَبَتْ الصِّحَّةُ الْجُنُونَ فَصَارَ كَجُنُونِ سَاعَةٍ فَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ ، وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا فِيهِ كَانَ كَالْمَجْنُونِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ ( وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ) الْجُنُونِ ( الْأَصْلِيِّ ) وَهُوَ أَنْ يُدْرِكَ مَجْنُونًا ( وَالْعَارِضِيِّ ) وَهُوَ أَنْ يُدْرِكَ مُفِيقًا ثُمَّ يُجَنَّ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ : يَعْنِي إذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كَانَ الْجُنُونُ أَصْلِيًّا أَوْ عَارِضِيًّا لِمَا ذَكَرْنَا ، وَكَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُ الْإِفَاقَةُ فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْأَصْلِيِّ وَالْعَارِضِ ( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ) فِي الْأَصْلِيِّ ( أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْحَوْلُ مِنْ وَقْتِ الْإِفَاقَةِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ )
لِأَنَّ التَّكْلِيفَ لَمْ يَسْبِقْ هَذِهِ الْحَالَةَ فَصَارَتْ الْإِفَاقَةُ بِمَنْزِلَةِ بُلُوغِ الصَّبِيِّ ، وَأَمَّا إذَا طَرَأَ الْجُنُونُ فَإِنْ اسْتَمَرَّ سَنَةً سَقَطَ لِأَنَّهُ اسْتَوْعَبَ مُدَّةَ التَّكَالِيفِ وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ .
( وَلَيْسَ عَلَى الْمُكَاتَبِ زَكَاةٌ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِوُجُودِ الْمُنَافِي وَهُوَ الرِّقُّ ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ .قَالَ ( وَلَيْسَ عَلَى الْمُكَاتَبِ زَكَاةٌ ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَيْسَ لَهُ مِلْكٌ تَامٌّ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ
( وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَجِبُ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَهُوَ مِلْكُ نِصَابٍ تَامٍّ .
وَلَنَا أَنَّهُ مَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ فَاعْتُبِرَ مَعْدُومًا كَالْمَاءِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَطَشِ وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمَهْنَةِ ( وَإِنْ كَانَ مَالُهُ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ زَكَّى الْفَاضِلَ إذَا بَلَغَ نِصَابًا ) لِفَرَاغِهِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ دَيْنٌ لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ حَتَّى لَا يَمْنَعَ دَيْنٌ النَّذْرَ وَالْكَفَّارَةَ ، وَدَيْنُ الزَّكَاةِ مَانِعٌ حَالَ بَقَاءِ النِّصَابِ لِأَنَّهُ يُنْتَقَصُ بِهِ النِّصَابُ ، وَكَذَا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ خِلَافًا لِزُفَرَ فِيهِمَا .
وَلِأَبِي يُوسُفَ فِي الثَّانِي عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ لِأَنَّ لَهُ مُطَالِبًا لِأَنَّهَا وَهُوَ الْإِمَامُ فِي السَّوَائِمِ وَنَائِبُهُ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ فَإِنَّ الْمُلَّاكَ نُوَّابُهُ .
( وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ ) وَلَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ سَوَاءٌ كَانَ لِلَّهِ كَالزَّكَاةِ أَوْ لِلْعِبَادِ كَالْقَرْضِ ، وَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَأَرْشِ الْجِرَاحَةِ وَمَهْرِ الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ النُّقُودِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا وَسَوَاءٌ كَانَ حَالًا أَوْ مُؤَجَّلًا ( فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَجِبُ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَهُوَ مِلْكُ نِصَابٍ تَامٍّ ) فَإِنَّ الْمَدْيُونَ مَالِكٌ لِمَالِهِ لِأَنَّ دَيْنَ الْحُرِّ الصَّحِيحِ يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَالِهِ وَلِهَذَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ ( وَلَنَا أَنَّهُ مَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ ) أَيْ مُعَدٌّ لِمَا يَدْفَعُ الْهَلَاكَ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَجْلِ قَضَاءِ الدَّيْنِ دَفْعًا لِلْحَبْسِ وَالْمُلَازَمَةِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ اُعْتُبِرَ مَعْدُومًا كَالْمَاءِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَطَشِ لِنَفْسِهِ أَوْ دَابَّتِهِ وَثِيَابِ الْمَهْنَةِ ، وَهَذَا أَيْضًا رَاجِعٌ إلَى نُقْصَانِ الْمِلْكِ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَلَا قَضَاءَ فَكَانَ مِلْكًا نَاقِصًا .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ مَالُهُ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ ) ظَاهِرٌ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَدْيُونَ إذَا كَانَ لَهُ صُنُوفٌ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالدَّيْنُ يَسْتَغْرِقُ بَعْضَهَا صُرِفَ أَوَّلًا إلَى النُّقُودِ ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْهُ صُرِفَ إلَى عُرُوضِ التِّجَارَةِ دُونَ السَّائِمَةِ ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْهُ صُرِفَ إلَى مَالِ الْقِنْيَةِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ يُصْرَفُ إلَى أَقَلِّهَا زَكَاةً حَتَّى إنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَلَا يُصْرَفُ إلَى الْبَقَرِ ، ثُمَّ الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ صَرَفَهُ إلَى الْغَنَمِ وَإِنْ شَاءَ إلَى الْإِبِلِ لِاتِّحَادِ الْوَاجِبِ فِيهِمَا ، وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ مَا كَانَ أَنْفَعَ لِلْفُقَرَاءِ لَا يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ (
وَالْمُرَادُ دَيْنٌ لَهُ مُطَالِبٌ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( حَالَ بَقَاءِ النِّصَابِ وَكَذَا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ ) صُورَتُهُ : رَجُلٌ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَمَضَى عَلَيْهِ حَوْلَانِ لَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةُ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ وُجُوبَ زَكَاةِ السَّنَةِ الْأُولَى صَارَ مَانِعًا عَنْ وُجُوبِهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِانْتِقَاصِ النِّصَابِ بِزَكَاةِ الْأُولَى ، وَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَاسْتُهْلِكَ النِّصَابُ قَبْلَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ ثُمَّ اسْتَفَادَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْمُسْتَفَادِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْمُسْتَفَادِ لِأَنَّ وُجُوبَ زَكَاةِ النِّصَابِ الْأَوَّلِ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ بِسَبَبِ الِاسْتِهْلَاكِ فَمَنَعَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ .
وَقَوْلُهُ ( خِلَافًا لِزُفَرَ فِيهِمَا ) أَيْ فِي النِّصَابِ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ الزَّكَاةُ وَفِي النِّصَابِ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ دَيْنُ الِاسْتِهْلَاكِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ هَذَيْنِ الدَّيْنَيْنِ مَانِعَيْنِ عَنْ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ لَا مُطَالِبَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ فَصَارَ كَدَيْنِ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَبِي يُوسُفَ فِي الثَّانِي ) أَيْ فِي النِّصَابِ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ دَيْنُ الِاسْتِهْلَاكِ ( عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ ) أَيْ عَلَى مَا رَوَى عَنْهُ أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ لَهُ مُطَالِبًا وَهُوَ الْإِمَامُ فِي السَّوَائِمِ وَنَائِبُهُ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ فَإِنَّ الْمُلَّاكَ نُوَّابُهُ ) دَلِيلُنَا ، وَهَذَا لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } يُثْبِتُ لِلْإِمَامِ حَقَّ الْأَخْذِ مِنْ كُلِّ مَالٍ ، وَكَذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَلِيفَتَانِ بَعْدَهُ كَانُوا يَأْخُذُونَ إلَى أَنْ فَوَّضَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ أَدَاءَ الزَّكَاةِ عَنْ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ إلَى مُلَّاكِهَا لِمَصْلَحَةٍ هِيَ أَنَّ النَّقْدَ مَطْمَعُ كُلِّ طَامِعٍ ، فَكَرِهَ أَنْ يُفَتِّشَ السُّعَاةُ عَلَى التُّجَّارِ مَسْتُورَ أَمْوَالِهِمْ ، فَفَوَّضَ الْأَدَاءَ إلَيْهِمْ وَحَقُّ الْأَخْذِ لِلسَّاعِي لِغَرَضِ الثُّبُوتِ فِي
ذَلِكَ أَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الزَّكَاةَ فَيُطَالِبَهُ وَيَحْبِسَهُ وَلِذَلِكَ مَنَعَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ ، وَبِهَذَا فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ دَيْنِ الزَّكَاةِ وَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ ، فَإِنَّ دَيْنَ النِّصَابِ الْمُسْتَهْلَكِ لَا مُطَالِبَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ ، بِخِلَافِ النِّصَابِ الْقَائِمِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَمُرَّ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ فَتَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ حِينَئِذٍ .
( وَلَيْسَ فِي دُورِ السُّكْنَى وَثِيَابِ الْبَدَنِ وَأَثَاثِ الْمَنَازِلِ وَدَوَابِّ الرُّكُوبِ وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَسِلَاحِ الِاسْتِعْمَالِ زَكَاةٌ ) لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَلَيْسَتْ بِنَامِيَةٍ أَيْضًا ، وَعَلَى هَذَا كُتُبُ الْعِلْمِ لِأَهْلِهَا وَآلَاتُ الْمُحْتَرَفِينَ لِمَا قُلْنَا .وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَلَيْسَتْ بِنَامِيَةٍ ) يَعْنِي أَنَّ الشَّغْلَ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَعَدَمَ النَّمَاءِ كُلٌّ مِنْهُمَا مَانِعٌ عَنْ وُجُوبِهَا وَقَدْ اجْتَمَعَا هَاهُنَا ، أَمَّا كَوْنُهَا مَشْغُولَةً بِهَا فَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَارٍ يَسْكُنُهَا وَثِيَابٍ يَلْبَسُهَا ، وَأَمَّا عَدَمُ النَّمَاءِ فَلِأَنَّهُ إمَّا خِلْقِيٌّ كَمَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَوْ بِالْإِعْدَادِ لِلتِّجَارَةِ وَلَيْسَا بِمَوْجُودَيْنِ هَاهُنَا .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى هَذَا كُتُبُ الْعِلْمِ ) يَعْنِي أَنَّهَا تَمْنَعُ وُجُوبَهَا إذَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَعَ أَهْلِهَا أَوْ مَعَ غَيْرِهِ لِعَدَمِ النَّمَاءِ ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ ( لِأَهْلِهَا ) غَيْرُ مُفِيدٍ هَاهُنَا ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ فِي حَقِّ الْمَصْرِفِ ، فَإِنَّ أَهْلَ كُتُبِ الْعِلْمِ إذَا كَانَتْ لَهُ كُتُبٌ تُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَيْهَا لِلتَّدْرِيسِ وَنَحْوِهِ جَازَ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا .
وَقَوْلُهُ ( وَآلَاتُ الْمُحْتَرَفِينَ ) قِيلَ يُرِيدُ بِهَا مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ وَلَا يَبْقَى أَثَرُهُ فِي الْمَعْمُولِ كَالصَّابُونِ وَالْحَرَضِ وَغَيْرِهِمَا كَالْقُدُورِ وَقَوَارِيرِ الْعَطَّارِ وَنَحْوِهَا لِكَوْنِ الْأَجْرِ حِينَئِذٍ مُقَابَلًا بِالْمَنْفَعَةِ فَلَا يُعَدُّ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ .
وَأَمَّا مَا يَبْقَى أَثَرُهُ فِيهِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى الصَّبَّاغُ عُصْفُرًا أَوْ زَعْفَرَانًا لِيَصْبُغَ لِلنَّاسِ بِالْأَجْرِ وَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَإِنَّهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إذَا بَلَغَ نِصَابًا لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ الْأَجْرِ مُقَابَلٌ بِالْعَيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) يَعْنِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَامِيَةٍ .
( وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ فَجَحَدَهُ سِنِينَ ثُمَّ قَامَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَمْ يُزَكِّهِ لِمَا مَضَى ) مَعْنَاهُ : صَارَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِأَنْ أَقَرَّ عِنْدَ النَّاسِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ مَالِ الضِّمَارِ ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ : الْمَالُ الْمَفْقُودُ ، وَالْآبِقُ ، وَالضَّالُّ ، وَالْمَغْصُوبُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَالْمَالُ السَّاقِطُ فِي الْبَحْرِ ، وَالْمَدْفُونُ فِي الْمَفَازَةِ إذَا نَسِيَ مَكَانَهُ ، وَاَلَّذِي أَخَذَهُ السُّلْطَانُ مُصَادَرَةً .
وَوُجُوبُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِسَبَبِ الْآبِقِ وَالضَّالِّ وَالْمَغْصُوبِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ .
لَهُمَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ وَفَوَاتُ الْيَدِ غَيْرُ مُخِلٍّ بِالْوُجُوبِ كَمَالِ ابْنِ السَّبِيلِ ، وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا زَكَاةَ فِي الْمَالِ الضِّمَارِ وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمَالُ النَّامِي وَلَا نَمَاءَ إلَّا بِالْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ وَلَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ .
وَابْنُ السَّبِيلِ يَقْدِرُ بِنَائِبِهِ ، وَالْمَدْفُونُ فِي الْبَيْتِ نِصَابٌ لِتَيَسُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ ، وَفِي الْمَدْفُونِ فِي أَرْضٍ أَوْ كَرْمٍ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ .
قَالَ ( وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ فَجَحَدَهُ سِنِينَ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَمَنْ لَا تَجِبُ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تَجِبُ فِيهَا ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى ضِمَارًا وَهُوَ الْغَائِبُ الَّذِي لَا يُرْجَى وُصُولُهُ ، فَإِذَا رَجَّى فَلَيْسَ بِضِمَارٍ ، كَذَا نَقَلَهُ الْمُطَرِّزِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْإِضْمَارِ وَهُوَ التَّغْيِيبُ وَالْإِخْفَاءُ ، وَمِنْهُ أَضْمَرَ فِي قَلْبِهِ ، وَقَالُوا : الضِّمَارُ مَا يَكُونُ عَيْنُهُ قَائِمًا وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ كَالدَّيْنِ الْمَجْحُودِ وَالْمَالِ الْمَفْقُودِ وَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْمَغْصُوبِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( مَعْنَاهُ : صَارَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِأَنْ أَقَرَّ عِنْدَ النَّاسِ ) إنَّمَا قَيَّدَ بِذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ مَسْأَلَةٍ تَأْتِي بَعْدَ هَذَا وَهِيَ قَوْلُهُ وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَى جَاحِدٍ وَعَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَقَوْلُهُ ( وَالْمَدْفُونُ فِي الْمَفَازَةِ إذَا نُسِيَ مَكَانُهُ ) قَيَّدَ بِالْمَفَازَةِ احْتِرَازًا عَنْ الْمَدْفُونِ فِي أَرْضٍ لَهُ أَوْ كَرْمٍ أَوْ بَيْتٍ عَلَى مَا يَجِيءُ .
وَقَوْلُهُ ( لَهُمَا ) أَيْ لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ ( أَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ ) وَالْمَانِعُ مُنْتَفٍ ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ تَحَقَّقَ لَا مَحَالَةَ أَمَّا تَحَقُّقُ السَّبَبِ فَلِأَنَّهُ مَلَكَ نِصَابًا تَامًّا عَلَى مَا مَرَّ وَأَمَّا انْتِفَاءُ الْمَانِعِ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ثَمَّةَ مَانِعٌ لَكَانَ فَوَاتُ الْيَدِ وَهُوَ لَا يُخِلُّ بِالْوُجُوبِ كَمَالِ ابْنِ السَّبِيلِ ( وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا زَكَاةَ فِي الْمَالِ الضِّمَارِ ) وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ السَّبَبَ إلَخْ ) دَلِيلٌ يَتَضَمَّنُ الْمُمَانَعَةَ ، بِأَنْ يُقَالَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّبَبَ قَدْ وُجِدَ لِأَنَّ السَّبَبَ ( هُوَ الْمَالُ النَّامِي ) وَهُوَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ لِأَنَّ النَّمَاءَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ ، وَلَا قُدْرَةَ عَلَى الْمَالِ الضِّمَارِ .
وَقَوْلُهُ ( وَابْنُ السَّبِيلِ يُقَدَّرُ بِنَائِبِهِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا كَمَالِ ابْنِ السَّبِيلِ : وَتَقْرِيرُهُ
سَلَّمْنَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَانِعَ مُنْتَفٍ .
قَوْلُهُ وَفَوَاتُ الْيَدِ غَيْرُ مُخِلٍّ بِالْوُجُوبِ قُلْنَا : مَمْنُوعٌ .
قَوْلُهُ كَمَالِ ابْنِ السَّبِيلِ : قُلْنَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ قَادِرٌ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَائِبِهِ ، وَلِهَذَا لَوْ بَاع شَيْئًا مِنْ مَالِهِ جَازَ لِقُدْرَتِهِ عَلَى التَّسْلِيمِ بِنَائِبِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمَدْفُونُ فِي الْبَيْتِ نِصَابٌ ) أَيْ مُوجِبٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ ( لِتَيَسُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ ) لِكَوْنِ الْبَيْتِ بِيَدِهِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ فَيَصِلُ إلَيْهِ بِحَفْرِهِ ( وَفِي الْمَدْفُونِ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أَوْ كَرْمٍ اخْتِلَافُ مَشَايِخِ بُخَارَى ) فَقِيلَ يَجِبُ لِإِمْكَانِ حَفْرِ جَمِيعِ الْأَرْضِ وَالْوُصُولِ إلَيْهِ ، وَقِيلَ لَا تَجِبُ لِأَنَّ حَفْرَ جَمِيعِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَذِّرًا كَانَ مُتَعَسِّرًا وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ
وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى مُقِرٍّ مَلِيءٍ أَوْ مُعْسِرٍ تَجِبُ الزَّكَاةُ لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَيْهِ ابْتِدَاءً أَوْ بِوَاسِطَةِ التَّحْصِيلِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَى جَاحِدٍ وَعَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَوْ عَلِمَ بِهِ الْقَاضِي لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كَانَ عَلَى مُقِرٍّ مُفْلِسٍ فَهُوَ نِصَابٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ تَفْلِيسَ الْقَاضِي لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَجِبُ لِتَحَقُّقِ الْإِفْلَاسِ عِنْدَهُ بِالتَّفْلِيسِ .
وَأَبُو يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ فِي تَحَقُّقِ الْإِفْلَاسِ ، وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ رِعَايَةً لِجَانِبِ الْفُقَرَاءِ .
( وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى مُقِرٍّ مَلِيءٍ ) أَيْ غَنِيٍّ مُقْتَدِرٍ ( أَوْ مُعْسِرٍ تَجِبُ الزَّكَاةُ لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَيْهِ ابْتِدَاءً ) أَيْ فِي الْمَلِيءِ ( أَوْ بِوَاسِطَةِ التَّحْصِيلِ ) يَعْنِي فِي الْمُعْسِرِ فَكَانَ مِنْ قَبِيلِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ عَلَى السُّنَنِ ( وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَى جَاحِدٍ وَعَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَوْ عَلِمَ الْقَاضِي بِهِ لِمَا قُلْنَا ) يَعْنِي مِنْ إمْكَانِ الْوُصُولِ إلَيْهِ .
قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : وَلَوْ كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيمَا مَضَى لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ تَاوِيًا لِمَا أَنَّ حُجَّةَ الْبَيِّنَةِ فَوْقَ حُجَّةِ الْإِقْرَارِ ، وَهَذَا رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ قَالَ : لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً ، إذْ لَيْسَ كُلُّ شَاهِدٍ يُقْبَلُ وَلَا كُلُّ قَاضٍ يَعْدِلُ ، وَفِي الْمُحَابَاةِ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي لِلْخُصُومَةِ ذُلٌّ ، وَالْبَيِّنَةُ بِدُونِ الْقَضَاءِ لَا تَكُونُ مُوجِبَةً شَيْئًا بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْحَقَّ بِنَفْسِهِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ مَعْلُومًا لِلْقَاضِي لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ هُنَاكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْخُصُومَةِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يُلْزِمُهُ بِعِلْمِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَ عَلَى مُقِرٍّ مُفَلَّسٍ ) بِفَتْحِ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ ( فَهُوَ نِصَابٌ ) أَيْ مُوجِبٌ لِلزَّكَاةِ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ تَفْلِيسَ الْقَاضِي ) أَيْ النِّدَاءَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَفْلَسَ ( لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ ) فَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ ، وَلَوْ لَمْ يُفَلِّسْهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِالِاتِّفَاقِ لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ بِوَاسِطَةِ التَّحْصِيلِ كَمَا مَرَّ ، فَكَذَا بَعْدَ التَّفْلِيسِ ( وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَجِبُ ) عَلَيْهِ ( لِتَحَقُّقِ الْإِفْلَاسِ بِالتَّفْلِيسِ ) وَلَمَّا صَحَّ التَّفْلِيسُ عِنْدَهُ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ التَّاوِي وَالْمَجْحُودِ ( وَأَبُو يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ فِي تَحَقُّقِ الْإِفْلَاسِ ) حَتَّى تَسْقُطَ الْمُطَالَبَةُ إلَى وَقْتِ الْيَسَارِ ( وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حُكْمِ
الزَّكَاةِ ) فَتَجِبُ لِمَا مَضَى إذَا قُبِضَ عِنْدَهُمَا ( رِعَايَةً لِجَانِبِ الْفُقَرَاءِ )
( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً لِلتِّجَارَةِ وَنَوَاهَا لِلْخِدْمَةِ بَطَلَتْ عَنْهَا الزَّكَاةُ ) لِاتِّصَالِ النِّيَّةِ بِالْعَمَلِ وَهُوَ تَرْكُ التِّجَارَةِ ( وَإِنْ نَوَاهَا لِلتِّجَارَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ حَتَّى يَبِيعَهَا فَيَكُونَ فِي ثَمَنِهَا زَكَاةٌ ) لِأَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تَتَّصِلْ بِالْعَمَلِ إذْ هُوَ لَمْ يَتَّجِرْ فَلَمْ تُعْتَبَرْ ، وَلِهَذَا يَصِيرُ الْمُسَافِرُ مُقِيمًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، وَلَا يَصِيرُ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا إلَّا بِالسَّفَرِ ( وَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لِلتِّجَارَةِ لِاتِّصَالِ النِّيَّةِ بِالْعَمَلِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَرِثَ وَنَوَى التِّجَارَةَ ) لِأَنَّهُ لَا عَمَلَ مِنْهُ ، وَلَوْ مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالْوَصِيَّةِ أَوْ النِّكَاحِ أَوْ الْخُلْعِ أَوْ الصُّلْحِ عَنْ الْقَوَدِ وَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِاقْتِرَانِهَا بِالْعَمَلِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تُقَارِنْ عَمَلَ التِّجَارَةِ ، وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ عَلَى عَكْسِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً لِلتِّجَارَةِ ) ظَاهِرٌ وَحَاصِلُهُ أَنَّ النِّيَّةَ إذَا اقْتَرَنَتْ بِالْعَمَلِ وَجَبَ اعْتِبَارُهَا ، وَإِذَا تَجَرَّدَتْ عَنْ الْعَمَلِ لَا تُعْتَبَرُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ ثُبُوتُهُ بِالْجَوَارِحِ ، وَالتِّجَارَةُ عَمَلُ الْجَوَارِحِ فَلَا تَتَحَصَّلُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لِأَنَّهَا تَصْلُحُ لِتَرْكِ الْفِعْلِ دُونَ إنْشَائِهِ .
قَالَ ( وَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لِلتِّجَارَةِ ) مَبْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ ، فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى وَنَوَى قُرِنَتْ نِيَّتُهُ بِالْعَمَلِ ، وَإِذَا وَرِثَ وَنَوَى تَجَرَّدَتْ النِّيَّةُ عَنْ الْعَمَلِ لِمَا أَنَّ الْمِيرَاثَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ عَمَلِهِ وَصُنْعِهِ حَتَّى إنَّ الْجَنِينَ يَرِثُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فِعْلٌ ( وَلَوْ مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالْوَصِيَّةِ ) أَوْ بِغَيْرِهِمَا مِمَّا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ( وَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِاقْتِرَانِهَا بِالْعَمَلِ وَهُوَ الْقَبُولُ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تُقَارِنْ عَمَلَ التِّجَارَةِ ) لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الرَّجُلِ عَلَى نَوْعَيْنِ : نَوْعٌ يَدْخُلُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ كَالْإِرْثِ .
وَنَوْعٌ يَدْخُلُ بِصُنْعِهِ وَهُوَ أَيْضًا عَلَى نَوْعَيْنِ : بِبَدَلٍ مَالِيٍّ كَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِهِ كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ ، وَبِغَيْرِ بَدَلٍ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ ، فَاَلَّذِي يَدْخُلُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّةُ التِّجَارَةِ مُجَرَّدَةً بِالِاتِّفَاقِ ، وَاَلَّذِي يَدْخُلُ بِبَدَلٍ مَالِيٍّ يُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّةُ التِّجَارَةِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَاَلَّذِي يَدْخُلُ بِبَدَلٍ غَيْرِ مَالِيٍّ أَوْ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
قِيلَ قَوْلُهُ وَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لِلتِّجَارَةِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ ، فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ تَصِحَّ فِيهِ نِيَّةُ التِّجَارَةِ لَا يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ كَمَنْ
اشْتَرَى أَرْضًا عُشْرِيَّةً أَوْ خَرَاجِيَّةً بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ لِأَنَّ نِيَّةَ التِّجَارَةِ فِيهَا لَا تَصِحُّ ، لِأَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ لَزِمَ فِيهَا اجْتِمَاعُ الْحَقَّيْنِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْأَرْضُ وَهُوَ لَا يَجُوزُ ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ بَقِيَتْ الْأَرْضُ عَلَى مَا كَانَتْ .
وَقَوْلُهُ ( وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ عَلَى عَكْسِهِ ) يَعْنِي مَا نَقَلَ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ الْقَاضِي الشَّهِيدِ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي مُخْتَلِفِهِ هَذَا الِاخْتِلَافَ ، عَلَى عَكْسِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَكُونُ لَهَا .
( وَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إلَّا بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِلْأَدَاءِ ، أَوْ مُقَارِنَةٍ لِعَزْلِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ ) لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ فَكَانَ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةُ وَالْأَصْلُ فِيهَا الِاقْتِرَانُ ، إلَّا أَنَّ الدَّفْعَ يَتَفَرَّقُ فَاكْتُفِيَ بِوُجُودِهَا حَالَةَ الْعَزْلِ تَيْسِيرًا كَتَقَدُّمِ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ .قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إلَّا بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِلْأَدَاءِ ) لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ نِيَّةٍ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَا إلَّا إذَا قَارَنَتْ الْعَمَلَ ، فَإِنْ قَارَنَتْ الْأَدَاءَ فَظَاهِرٌ .
وَإِنْ قَارَنَتْ عُزِلَ مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فَلِمَا ذَكَرَ بِقَوْلِهِ ( إلَّا أَنَّ الدَّفْعَ يَتَفَرَّقُ فَاكْتُفِيَ بِوُجُودِهَا حَالَةَ الْعَزْلِ تَيْسِيرًا ) فَإِنَّا لَوْ شَرَطْنَا وُجُودَهَا عِنْدَ كُلِّ دَفْعٍ لَزِمَ الْحَرَجُ فَكَانَ كَتَقْدِيمِ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ .
( وَمَنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ لَا يَنْوِي الزَّكَاةَ سَقَطَ فَرْضُهَا عَنْهُ اسْتِحْسَانًا ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْهُ فَكَانَ مُتَعَيِّنًا فِيهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ ( وَلَوْ أَدَّى بَعْضَ النِّصَابِ سَقَطَ زَكَاةُ الْمُؤَدَّى عِنْدَ مُحَمَّدٍ ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ شَائِعٌ فِي الْكُلِّ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَسْقُطُ لِأَنَّ الْبَعْضَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِكَوْنِ الْبَاقِي مَحَلًّا لِلْوَاجِبِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ .
وَقَوْلُهُ ( مَنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ لَا يَنْوِي الزَّكَاةَ ) أَيْ غَيْرَ نَاوٍ لَهَا ( سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُهَا اسْتِحْسَانًا ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَسْقُطَ ، قِيلَ : وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ النَّفَلَ وَالْفَرْضَ كِلَاهُمَا مَشْرُوعَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ ( أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ ( فَكَانَ مُتَعَيِّنًا فِيهِ ) أَيْ فِي الْجَمِيعِ ، وَالْمُتَعَيِّنُ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّعْيِينِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْوَاجِبُ مُتَعَيِّنٌ بِتَعْيِينِ الْمُؤَدِّي أَوْ بِتَعْيِينِ الشَّارِعِ ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ بِكَوْنِهِ خِلَافَ الْمَفْرُوضِ ، وَالثَّانِي إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا لَمْ يُزَاحِمْهُ مُزَاحِمٌ كَصَوْمِ رَمَضَانَ ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفَلَ مَشْرُوعٌ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ بِتَعْيِينِ الْمُؤَدِّي بِدَلَالَةِ حَالِهِ كَمَنْ أَطْلَقَ نِيَّةَ الْحَجِّ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ .
وَالْمَفْرُوضُ عَدَمُ تَعْيِينِهِ نَصًّا لَا دَلَالَةً .
وَلَوْ سَلَكَ هَاهُنَا الْمَسْلَكَ الَّذِي سَلَكْته فِي التَّقْرِيرِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الزَّكَاةُ سَقَطَتْ عَنْهُ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا وَالسُّقُوطُ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ تَخْفِيفٌ عَلَيْهِ فَيُكْتَفَى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ تَيْسِيرًا لَعَلَّهُ كَانَ أَسْهَلَ مَأْخَذًا ( وَلَوْ أَدَّى بَعْضَ النِّصَابِ سَقَطَتْ زَكَاةُ الْمُؤَدِّي عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْوَاجِبَ شَائِعٌ ) فَلَوْ تَصَدَّقَ بِالْجَمِيعِ سَقَطَ الْجَمِيعُ ، فَكَذَا إذَا تَصَدَّقَ بِالْبَعْضِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَسْقُطُ لِأَنَّ الْبَعْضَ الْمُؤَدَّى غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِمَحَلِّيَّةِ بَعْضِ الْوَاجِبِ الَّذِي يَخُصُّهُ لِكَوْنِ الْبَاقِي مَحَلًّا لِلْوَاجِبِ فَوُجِدَتْ مُزَاحَمَةُ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَصَدَّقَ بِالْجَمِيعِ بِلَا نِيَّةٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ ثَمَّ مُزَاحَمَةٌ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْبَاقِي مَحَلٌّ لِلْوَاجِبِ كُلِّهِ أَوْ لِحِصَّتِهِ ، وَالْأَوَّلُ عَيْنُ النِّزَاعِ ، وَالثَّانِي هُوَ
الْمَطْلُوبُ .
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مَعَ مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
( بَابُ صَدَقَةِ السَّوَائِمِ ) ( فَصْلٌ فِي الْإِبِلِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا سَائِمَةً ، وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا شَاةٌ إلَى تِسْعٍ ، فَإِذَا كَانَتْ عَشْرًا فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى أَرْبَعَ عَشْرَةَ ، فَإِذَا كَانَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى تِسْعَ عَشْرَةَ ، فَإِذَا كَانَتْ عِشْرِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ إلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ ) وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الثَّانِيَةِ .
( إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ ، فَإِذَا كَانَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ ) وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الثَّالِثَةِ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ ( فَإِذَا كَانَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ ) وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الرَّابِعَةِ ( إلَى سِتِّينَ ، فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى وَسِتِّينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ ) وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الْخَامِسَةِ ( إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ ، فَإِذَا كَانَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ إلَى تِسْعِينَ ، فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى وَتِسْعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ) بِهَذَا اشْتَهَرَتْ كُتُبُ الصَّدَقَاتِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( ثُمَّ ) إذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ( تُسْتَأْنَفُ الْفَرِيضَةُ ) فَيَكُونُ فِي الْخَمْسِ شَاةٌ مَعَ الْحِقَّتَيْنِ ، وَفِي الْعَشْرِ شَاتَانِ ، وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، وَفِي الْعِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ ، إلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَيَكُونُ فِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ ، ثُمَّ تُسْتَأْنَفُ الْفَرِيضَةُ فَيَكُونُ فِي الْخَمْسِ شَاةٌ ، وَفِي الْعَشْرِ شَاتَانِ ، وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، وَفِي الْعِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ ، وَفِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَسِتًّا وَتِسْعِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ إلَى مِائَتَيْنِ ثُمَّ تُسْتَأْنَفُ الْفَرِيضَةُ أَبَدًا كَمَا تُسْتَأْنَفُ فِي الْخَمْسِينَ الَّتِي بَعْدَ
الْمِائَةِ وَالْخَمْسِينَ وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ ، فَإِذَا صَارَتْ مِائَةً وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ ، ثُمَّ يُدَارُ الْحِسَابُ عَلَى الْأَرْبَعِينَاتِ وَالْخَمْسِينَاتِ فَتَجِبُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَتَبَ " { إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ } مِنْ غَيْرِ شَرْطِ عَوْدِ مَا دُونَهَا .
وَلَنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَتَبَ فِي آخِرِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ " { فَمَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ، فَفِي كُلِّ خَمْسِ ذَوْدٍ شَاةٌ } فَنَعْمَلُ بِالزِّيَادَةِ ( وَالْبُخْتُ وَالْعِرَابُ سَوَاءٌ ) فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ يَتَنَاوَلُهُمَا .
بَابُ صَدَقَةِ السَّوَائِمِ : ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ مُحَمَّدًا بَدَأَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ بِزَكَاةِ الْمَوَاشِي اقْتِدَاءً بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَأَرَادَ بِهَا الزَّكَاةَ اقْتِدَاءً بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } وَالسَّوَائِمُ جَمْعُ سَائِمَةٍ مِنْ سَامَتْ الْمَاشِيَةُ : أَيْ رَعَتْ سَوْمًا وَأَسَامَهَا صَاحِبُهَا إسَامَةً .
( فَصْلٌ فِي الْإِبِلِ ) بَدَأَ فِي بَابِ صَدَقَةِ السَّوَائِمِ بِفَصْلِ الْإِبِلِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَكَذَا .
وَالذَّوْدُ مِنْ الْإِبِلِ مِنْ الثَّلَاثِ إلَى الْعَشْرِ ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا .
وَإِضَافَةُ خَمْسٍ إلَى ذَوْدٍ كَالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ { تِسْعَةُ رَهْطٍ } فِي كَوْنِهَا إضَافَةَ الْعَدَدِ إلَى مُمَيِّزِهِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ ، كَأَنَّهُ قَالَ تِسْعَةُ أَنْفُسٍ .
فَإِنْ قِيلَ : الْأَصْلُ فِي الزَّكَاةِ أَنْ تَجِبَ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ فَكَيْفَ وَجَبَتْ الشَّاةُ فِي الْإِبِلِ ؟ قُلْت : بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَلِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ خَمْسٍ خُمُسٌ وَالْوَاجِبُ هُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ ، وَفِي إيجَابِ الشِّقْصِ ضَرَرُ عَيْبِ الشَّرِكَةِ فَأَوْجَبَ الشَّاةَ لِأَنَّهَا تَقُومُ بِرُبُعِ عُشْرِ الْإِبِلِ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَقُومُ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ هُنَاكَ وَبِنْتُ مَخَاضٍ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ، فَإِيجَابُهَا فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ كَإِيجَابِ الْخَمْسِ فِي الْمِائَتَيْنِ مِنْ الدَّرَاهِمِ .
قَوْلُهُ ( فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ ) عَلَى هَذَا اتَّفَقَتْ الْآثَارُ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ ، إلَّا مَا رُوِيَ شَاذًّا عَنْ عَلِيٍّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ ، وَفِي سِتٍّ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ .
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : هَذَا غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ رِجَالِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَمَّا عَلِيٌّ فَإِنَّهُ أَفْقَهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ هَكَذَا ، لِأَنَّ فِي هَذَا
مُوَالَاةً بَيْنَ الْوَاجِبَيْنِ لَا وَقْصَ بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ خِلَافُ أُصُولِ الزَّكَوَاتِ فَإِنَّ مَبْنَاهَا عَلَى أَنَّ الْوَقْصَ يَتْلُو الْوُجُوبَ .
وَقَوْلُهُ ( وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ ) أَيْ دَخَلَتْ ( فِي الثَّانِيَةِ ) وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِنْتَ مَخَاضٍ لِمَعْنًى فِي أُمِّهَا لِأَنَّ أُمَّهَا صَارَتْ مَخَاضًا بِأُخْرَى : أَيْ حَامِلًا ، وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ بِنْتَ لَبُونٍ لِمَعْنًى فِي أُمِّهَا فَإِنَّهَا لَبُونٌ بِوِلَادَةِ أُخْرَى ، وَسُمِّيَتْ حِقَّةً لِمَعْنًى فِيهَا وَهُوَ أَنَّهُ حُقَّ لَهَا أَنْ تُرْكَبَ وَيُحْمَلَ عَلَيْهَا ، وَسُمِّيَتْ جَذَعَةً بِفَتْحِ الذَّالِ لِمَعْنًى فِي أَسْنَانِهَا مَعْرُوفٍ عِنْدَ أَرْبَابِ الْإِبِلِ وَهِيَ أَعْلَى الْأَسْنَانِ الَّتِي تُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ ، وَبَعْدَهُ ثَنِيٌّ وَسَدِيسٌ وَبَازِلٌ ، وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّعَاةَ عَنْ أَخْذِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ صِفَاتِ الْوَاجِبِ فِي الْإِبِلِ الْأُنُوثَةَ ، قَالَ صَاحِبُ التُّحْفَةِ لَا يَجُوزُ فِيهَا سِوَى الْإِنَاثِ إلَّا بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ .
وَقِيلَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْوَاجِبَ فِي نِصَابِ الْإِبِلِ الصِّغَارِ دُونَ الْكِبَارِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِهَا وَإِنَّمَا تَجُوزُ بِالثَّنِيِّ فَصَاعِدًا ، وَكَانَ ذَلِكَ تَيْسِيرًا لِأَرْبَابِ الْمَوَاشِي ، وَجُعِلَ الْوَاجِبُ أَيْضًا مِنْ الْإِنَاثِ لِأَنَّ الْأُنُوثَةَ تُعَدُّ فَضْلًا فِي الْإِبِلِ فَصَارَ الْوَاجِبُ وَسَطًا ؛ وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِتَعْيِينِ الْوَسَطِ وَلَمْ تُعَيِّنْ الْأُنُوثَةَ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لِأَنَّ الْأُنُوثَةَ فِيهِمَا تُعَدُّ فَضْلًا .
وَقَوْلُهُ ( تُسْتَأْنَفُ الْفَرِيضَةُ ) تَفْسِيرُ الِاسْتِئْنَافِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيمَا زَادَ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ حَتَّى تَبْلُغَ الزِّيَادَةُ خَمْسًا فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا كَانَ فِيهَا شَاةٌ مَعَ الْوَاجِبِ الْمُتَقَدِّمِ وَهُوَ الْحِقَّتَانِ ، فَقَوْلُهُ مَعَ الْحِقَّتَيْنِ قَيْدٌ فِيمَا يَأْتِي بَعْدَهُ إلَى قَوْلِهِ بِنْتُ مَخَاضٍ .
وَقَوْلُهُ ( إلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ )
يَعْنِي مِنْ أَوَّلِ النِّصَابِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ النِّصَابِ مِائَةً وَخَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ لِحِقَّتَيْنِ وَبِنْتِ مَخَاضٍ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ذَلِكَ خَمْسَةً صَارَتْ مِائَةً وَخَمْسِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ الْفَرِيضَةَ فَيَكُونُ فِي الْخَمْسِ شَاةٌ ) يَعْنِي مِنْ ثَلَاثِ حِقَاقٍ ، وَكَذَلِكَ فَمَا بَعْدَهُ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ الْفَرِيضَةَ أَبَدًا كَمَا تَسْتَأْنِفُ فِي الْخَمْسِينَ الَّتِي بَعْدَ الْمِائَةِ وَالْخَمْسِينَ ) قَيَّدَهُ بِذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ الِاسْتِئْنَافِ الَّذِي بَعْدَ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ إيجَابُ بِنْتِ لَبُونٍ وَلَا إيجَابُ أَرْبَعِ حِقَاقٍ لِعَدَمِ نِصَابِهِمَا لِأَنَّهُ لَمَّا زَادَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ عَلَى الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ صَارَ كُلُّ النِّصَابِ مِائَةً وَخَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ فَهُوَ نِصَابُ بِنْتِ الْمَخَاضِ مَعَ الْحِقَّتَيْنِ ، فَلَمَّا زَادَ عَلَيْهَا خَمْسٌ وَصَارَتْ مِائَةً وَخَمْسِينَ وَجَبَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) أَيْ الِاسْتِئْنَافُ بَعْدَ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ وَبَعْدَ الْمِائَةِ وَالْخَمْسِينَ وَبَعْدَ الْمِائَتَيْنِ ( مَذْهَبُنَا ) وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ ، فَإِذَا صَارَتْ مِائَةً وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ ، ثُمَّ يُدَارُ الْحِسَابُ عَلَى الْأَرْبَعِينَاتِ وَالْخَمْسِينَاتِ فَيَجِبُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ ) وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَتَبَ { إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ } وَلَمْ يُشْتَرَطْ عَوْدُ مَا دُونَهَا يَعْنِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجِبَ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجِبَ فِي الْخَمْسِ شَاةً .
وَلَنَا حَدِيثُ { قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قُلْت لِأَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ : أَخْرِجْ لِي كِتَابَ
الصَّدَقَاتِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، فَأَخْرَجَ كِتَابًا فِي وَرَقَةٍ وَفِيهِ : فَإِذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ اُسْتُؤْنِفَتْ الْفَرِيضَةُ ، فَمَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَفِيهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسِ ذَوْدٍ شَاةٌ } فَيُعْمَلُ بِالزِّيَادَةِ إذْ لَيْسَ فِي حَدِيثِهِمْ مَا يَنْفِي ذَلِكَ .
وَقَدْ عَمِلْنَا بِحَدِيثِهِمْ أَيْضًا لِأَنَّا أَوْجَبْنَا فِي الْأَرْبَعِينَ بِنْتَ لَبُونٍ ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِي الْأَرْبَعِينَ مَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ ، وَكَذَلِكَ أَوْجَبْنَا فِي خَمْسِينَ حِقَّةً .
وَقَوْلُهُ ( وَالْبُخْتُ وَالْعِرَابُ سَوَاءٌ ) الْبُخْتُ جَمْعُ بُخْتِيٍّ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ الْعَرَبِيِّ وَالْعَجَمِيِّ مَنْسُوبٌ إلَى بُخْتِ نَصْرٍ وَالْعِرَابُ جَمْعُ عَرَبِيٍّ وَإِنَّمَا كَانَا سَوَاءً لِأَنَّ اسْمَ الْإِبِلِ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ يَتَنَاوَلُهُمَا وَاخْتِلَافُهُمَا فِي الصِّنْفِ لَا يُخْرِجُهُمَا مِنْ النَّوْعِ .
( فَصْلٌ فِي ) ( الْبَقَرِ ) ( لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ السَّائِمَةِ صَدَقَةٌ ، فَإِذَا كَانَتْ ثَلَاثِينَ سَائِمَةً وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ ) وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الثَّانِيَةِ ( وَفِي أَرْبَعِينَ مُسِنٌّ أَوْ مُسِنَّةٌ ) وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الثَّالِثَةِ ، بِهَذَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( فَإِذَا زَادَتْ عَلَى أَرْبَعِينَ وَجَبَ فِي الزِّيَادَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ إلَى سِتِّينَ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ فَفِي الْوَاحِدَةِ الزَّائِدَةِ رُبْعُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ ، وَفِي الِاثْنَيْنِ نِصْفُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ ، وَفِي الثَّلَاثَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ عُشْرِ مُسِنَّةٍ .
وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْأَصْلِ لِأَنَّ الْعَفْوَ ثَبَتَ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَلَا نَصَّ هُنَا .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ ، ثُمَّ فِيهَا مُسِنَّةٌ وَرُبْعُ مُسِنَّةٍ أَوْ ثُلُثُ تَبِيعٍ ، لِأَنَّ مَبْنَى هَذَا النِّصَابِ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَ كُلِّ عَقْدَيْنِ وَقْصٌ ، وَفِي كُلِّ عَقْدٍ وَاجِبٌ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُعَاذٍ " { لَا تَأْخُذْ مِنْ أَوْقَاصِ الْبَقَرِ شَيْئًا } وَفَسَّرُوهُ بِمَا بَيْنَ أَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ .
قُلْنَا : قَدْ قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا الصِّغَارُ ( ثُمَّ فِي السِّتِّينَ تَبِيعَانِ أَوْ تَبِيعَتَانِ ، وَفِي سَبْعِينَ مُسِنَّةٌ وَتَبِيعٌ ، وَفِي ثَمَانِينَ مُسِنَّتَانِ ، وَفِي تِسْعِينَ ثَلَاثَةُ أَتْبِعَةٍ ، وَفِي الْمِائَةِ تَبِيعَانِ وَمُسِنَّةٌ .
وَعَلَى هَذَا يَتَغَيَّرُ الْفَرْضُ فِي كُلِّ عَشْرٍ مِنْ تَبِيعٍ إلَى مُسِنَّةٍ وَمِنْ مُسِنَّةٍ إلَى تَبِيعٍ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنٌّ أَوْ مُسِنَّةٌ } ( وَالْجَوَامِيسُ وَالْبَقَرُ سَوَاءٌ ) لِأَنَّ اسْمَ الْبَقَرِ يَتَنَاوَلُهُمَا إذْ هُوَ
نَوْعٌ مِنْهُ ، إلَّا أَنَّ أَوْهَامَ النَّاسِ لَا تَسْبِقُ إلَيْهِ فِي دِيَارِنَا لِقِلَّتِهِ ، فَلِذَلِكَ لَا يَحْنَثُ بِهِ فِي يَمِينِهِ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ بَقَرٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ فِي الْبَقَرِ ) قَدَّمَ فَصْلَ الْبَقَرِ عَلَى الْغَنَمِ لِمُنَاسَبَتِهَا ضَخَامَةً وَقِيمَةً ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ بَقَرَ إذَا شَقَّ ، وَسُمِّيَ بِهِ الْبَقَرُ لِأَنَّهُ يَشُقُّ الْأَرْضَ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الثَّلَاثِينَ وَالْأَرْبَعِينَ نِصَابُ زَكَاةِ الْبَقَرِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ عَلَى مَا يُذْكَرُ .
وَالتَّبِيعُ مِنْ وَلَدِ الْبَقَرِ مَا يَتْبَعُ أُمَّهُ ، وَالْمُسِنُّ مِنْهُ وَمِنْ الشَّاةِ مَا تَمَّتْ لَهُ سَنَتَانِ ، وَإِنَّمَا خَيَّرَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِأَنَّ الْأُنُوثَةَ فِي الْبَقَرِ لَا تُعَدُّ فَضْلًا كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَوْلُهُ ( بِهَذَا ) أَيْ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّبِيعِ وَالتَّبِيعَةِ فِي ثَلَاثِينَ وَالْمُسِنِّ وَالْمُسِنَّةِ فِي أَرْبَعِينَ ( أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى الْأَرْبَعِينَ ) فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ .
فَفِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ ( يَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ إلَى سِتِّينَ ) فَفِي الْوَاحِدَةِ الزَّائِدَةِ رُبُعُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ ( وَفِي الثِّنْتَيْنِ نِصْفُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ ) وَذَلِكَ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ مُسِنَّةٍ لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ لِلْأَرْبَعِينَ وَرُبُعَ الْأَرْبَعَةِ وَاحِدٌ فَيَكُونُ رُبُعُ الْعُشْرِ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا وَنِصْفُ الْعُشْرِ جُزْأَيْنِ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا لِأَنَّ عُشْرَ الْأَرْبَعِينَ أَرْبَعَةٌ وَنِصْفَ الْأَرْبَعَةِ اثْنَانِ .
وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ : لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ ، ثُمَّ فِيهَا مُسِنَّةٌ وَرُبُعُ مُسِنَّةٍ أَوْ ثُلُثُ تَبِيعٍ ، وَفِي رِوَايَةِ أُسْدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ : لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْعَفْوَ فِيمَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ وَالْأَرْبَعِينَ وَبَيْنَ السِّتِّينَ وَمَا فَوْقَهَا ثَبَتَ نَصًّا ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِمَا فِيهِ مِنْ إخْلَاءِ الْمَالِ عَنْ الْوَاجِبِ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضَى وَهُوَ إطْلَاقُ
قَوْله تَعَالَى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وَقِيَامُ الْأَهْلِيَّةِ وَلَا نَصَّ هَاهُنَا فَأَوْجَبْنَا فِيمَا زَادَ بِحِسَابِهِ وَتَحَمَّلْنَا التَّشْقِيصَ ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ مَوْضُوعِ الزَّكَاةِ ضَرُورَةَ تَعَذُّرِ إخْلَائِهِ عَنْ الْوَاجِبِ .
وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ مَبْنَى هَذَا النِّصَابُ : أَيْ نِصَابُ الْبَقَرِ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَ كُلِّ عَقْدَيْنِ وَقْصٌ وَفِي كُلِّ عَقْدٍ وَاجِبٍ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ وَبَعْدَ السِّتِّينَ فَيَكُونُ بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ وَالْخَمْسِينَ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ إعْطَاءِ رُبُعِ مُسِنَّةٍ وَثُلُثِ تَبِيعٍ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ عَشْرَةٌ وَهِيَ ثُلُثُ ثَلَاثِينَ وَرُبُعُ أَرْبَعِينَ فَيُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا .
وَوَجْهُ رِوَايَةِ أُسْدٍ وَهُوَ قَوْلُهُمَا { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ : لَا تَأْخُذْ مِنْ أَوْقَاصِ الْبَقَرِ شَيْئًا } وَفَسَّرُوهُ بِمَا بَيْنَ أَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ ، وَالْأَوْقَاصُ جَمْعُ وَقْصٍ بِفَتْحِ الْقَافِ ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ .
قُلْنَا : قَدْ قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ بِهَا الصِّغَارُ : يَعْنِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوْقَاصِ الْعَجَاجِيلُ وَنَحْنُ نَقُولُ بِذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ فِي السِّتِّينَ تَبِيعَانِ ) إلَخْ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ .
( فَصْلٌ فِي الْغَنَمِ ) ( لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ السَّائِمَةِ صَدَقَةٌ ، فَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ سَائِمَةً وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا شَاةٌ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى مِائَتَيْنِ ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعَمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ ، ثُمَّ فِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ ) هَكَذَا وَرَدَ الْبَيَانُ فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ ( وَالضَّأْنُ وَالْمَعْزُ سَوَاءٌ ) لِأَنَّ لَفْظَةَ الْغَنَمِ شَامِلَةٌ لِلْكُلِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِهِ .
وَيُؤْخَذُ الثَّنِيُّ فِي زَكَاتِهَا وَلَا يُؤْخَذُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ إلَّا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَالثَّنِيُّ مِنْهَا مَا تَمَّتْ لَهُ سَنَةٌ ، وَالْجَذَعُ مَا أَتَى عَلَيْهِ أَكْثَرُهَا .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُهُمَا أَنَّهُ يُؤْخَذُ عَنْ الْجَذَعِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { إنَّمَا حَقُّنَا الْجَذَعُ وَالثَّنِيُّ } وَلِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِهِ الْأُضْحِيَّةُ فَكَذَا الزَّكَاةُ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا " { لَا يُؤْخَذُ فِي الزَّكَاةِ إلَّا الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا } وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْوَسَطُ وَهَذَا مِنْ الصِّغَارِ ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ فِيهَا الْجَذَعُ مِنْ الْمَعْزِ ، وَجَوَازُ التَّضْحِيَةِ بِهِ عُرِفَ نَصًّا .
وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ الْجَذَعَةُ مِنْ الْإِبِلِ ( وَيُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الْغَنَمِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ ) لِأَنَّ اسْمَ الشَّاةِ يَنْتَظِمُهُمَا ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ } .
( فَصْلٌ فِي الْغَنَمِ ) : قَدَّمَ فَصْلَ زَكَاةِ الْغَنَمِ عَلَى الْخَيْلِ ، إمَّا لِكَوْنِ الْحَاجَةِ إلَى بَيَانِهِ أَمَسَّ لِكَثْرَتِهِ ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ .
وَالْغَنَمُ اسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَمَا فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ إلَّا كَلِمَاتٍ نَذْكُرُهَا .
قَوْلُهُ ( وَالضَّأْنُ وَالْمَعْزُ سَوَاءٌ ) يَعْنِي فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ لَا فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ لِمَا سَنَذْكُرُ أَنَّ الْجَذَعَ مِنْ الْمَعْزِ لَا يَجُوزُ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِهِ ) يَعْنِي مَا كُتِبَ فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ شَاةٌ } الْحَدِيثَ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْجَذَعُ مَا أَتَى عَلَيْهِ أَكْثَرُهَا ) رُوِيَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ أَنَّهُ مَا طَعَنَ فِي الشَّهْرِ التَّاسِعِ .
وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزَّعْفَرَانِيِّ أَنَّهُ مَا طَعَنَ فِي الشَّهْرِ الثَّامِنِ .
وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ قَالَ الْفُقَهَاءُ : إنَّ الْجَذَعَ مِنْ الْغَنَمِ مَا تَمَّتْ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ .
هَذَا تَفْسِيرُ عُلَمَاءِ الْفِقْهِ .
وَعَنْ الْأَزْهَرِيِّ : الْجَذَعُ مِنْ الْمَعْزِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَمِنْ الضَّأْنِ لِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ ، وَالثَّنِيُّ الَّذِي أَلْقَى ثَنِيَّتَهُ ، وَهُوَ مِنْ الْإِبِلِ مَا اسْتَكْمَلَ السَّنَةَ الْخَامِسَةَ وَدَخَلَ فِي السَّادِسَةِ ، وَمِنْ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ مَا اسْتَكْمَلَ الثَّانِيَةَ وَدَخَلَ فِي الثَّالِثَةِ ، وَمِنْ الْفَرَسِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ مَا اسْتَكْمَلَ الثَّالِثَةَ وَدَخَلَ فِي الرَّابِعَةِ ، وَهُوَ فِي كُلِّهَا بَعْدَ الْجَذَعِ وَقَبْلَ الرُّبَاعِيِّ ، هَذَا تَفْسِيرُ أَهْلِ اللُّغَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُهُمَا ) يُرِيدُ بِهِ مَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِهِ الْأُضْحِيَّةُ فَكَذَا الزَّكَاةُ ) يَعْنِي أَنَّ بَابَ الْأُضْحِيَّةِ أَضْيَقُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّضْحِيَةَ بِالتَّبِيعِ وَالتَّبِيعَةِ لَا يَجُوزُ وَيَجُوزُ أَخْذُهُمَا فِي الزَّكَاةِ فَإِذَا كَانَ لِلْجَذَعِ مَدْخَلٌ فِي الْأُضْحِيَّةِ فَفِي الزَّكَاةِ أَوْلَى .
وَقَوْلُهُ (
وَجَوَازُ التَّضْحِيَةِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِهِ الْأُضْحِيَّةُ يَعْنِي أَنَّ جَوَازَ التَّضْحِيَةِ بِالْجَذَعِ عُرِفَ بِنَصٍّ خَاصٍّ فِي التَّضْحِيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نِعْمَتْ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ } فَلَا يَتَعَدَّاهَا ، وَالزَّكَاةُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهَا ، إذْ الْمَقْصُودُ بِهَا إرَاقَةُ الدَّمِ ، وَالْجَذَعُ يُقَارِبُ الثَّنِيَّ فِي ذَلِكَ ، وَلَا كَذَلِكَ الزَّكَاةُ فَلَا تُلْحَقُ بِالْأُضْحِيَّةِ دَلَالَةً .
( فَصْلٌ فِي الْخَيْلِ ) ( إذَا كَانَتْ الْخَيْلُ سَائِمَةً ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ أَعْطَى عَنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا ، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا وَأَعْطَى عَنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، وَقَالَا : لَا زَكَاةَ فِي الْخَيْلِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ } وَلَهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { فِي كُلِّ فَرَسٍ سَائِمَةٍ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ } وَتَأْوِيلُ مَا رَوَيَاهُ فَرَسُ الْغَازِي ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ .
وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الدِّينَارِ وَالتَّقْوِيمِ مَأْثُورٌ عَنْ عُمَرَ ( وَلَيْسَ فِي ذُكُورِهَا مُنْفَرِدَةً زَكَاةٌ ) لِأَنَّهَا لَا تَتَنَاسَلُ ( وَكَذَا فِي الْإِنَاثِ الْمُنْفَرِدَاتِ فِي رِوَايَةٍ ) وَعَنْهُ الْوُجُوبُ فِيهَا لِأَنَّهَا تَتَنَاسَلُ بِالْفَحْلِ الْمُسْتَعَارِ بِخِلَافِ الذُّكُورِ ، وَعَنْهُ أَنَّهَا تَجِبُ فِي الذُّكُورِ الْمُنْفَرِدَةِ أَيْضًا ( وَلَا شَيْءَ فِي الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَمْ يَنْزِلْ عَلِيَّ فِيهِمَا شَيْءٌ } وَالْمَقَادِيرُ تَثْبُتُ سَمَاعًا ( إلَّا أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ ) لِأَنَّ الزَّكَاةَ حِينَئِذٍ تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِيَّةِ كَسَائِرِ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ فِي الْخَيْلِ ) : وَجْهُ تَأْخِيرِهِ عَنْ فَصْلِ الْغَنَمِ قَدْ تَقَدَّمَ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ الْمَنْقُولُ ) أَيْ تَأْوِيلُ مَا رَوَيَاهُ بِفَرَسِ الْغَازِي هُوَ الْمَنْقُولُ ( عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) فَإِنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ مَرْوَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَشَاوَرَ الصَّحَابَةَ فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ } فَقَالَ مَرْوَانُ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ : مَا تَقُولُ يَا أَبَا سَعِيدٍ ؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : عَجَبًا مِنْ مَرْوَانَ أُحَدِّثُهُ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ مَا تَقُولُ يَا أَبَا سَعِيدٍ ؟ فَقَالَ زَيْدٌ : صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ فَرَسَ الْغَازِي ، فَأَمَّا مَا جَشَرَ لِطَلَبِ نَسْلِهَا فَفِيهَا الصَّدَقَةُ فَقَالَ كَمْ ؟ فَقَالَ فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ( وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الدِّينَارِ وَالتَّقْوِيمِ مَأْثُورٌ عَنْ عُمَرَ ) فَإِنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْمُرُهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْخَيْلِ السَّائِمَةِ عَنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، وَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ فِي خَيْلِ الْعَرَبِ لِتَقَارُبِهَا فِي الْقِيمَةِ ، وَأَمَّا فِي أَفْرَاسِنَا فَيُقَوِّمُهَا لَا غَيْرُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ لَكَانَ لِلْإِمَامِ أَخْذُهَا جَبْرًا وَلَوَجَبَتْ فِي عَيْنِهَا كَمَا فِي سَائِرِ السَّوَائِمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْخَيْلَ مَطْمَعٌ لِكُلِّ طَامِعٍ فَيُخْشَى عَلَى صَاحِبِهِ التَّعَدِّي بِالْأَخْذِ ، وَلَمْ يَجِبْ مِنْ عَيْنِهَا لِأَنَّ مَقْصُودَ الْفَقِيرِ لَا يَحْصُلُ بِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ عِنْدَهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ فِي ذُكُورِهَا مُنْفَرِدَةً زَكَاةٌ لِأَنَّهَا لَا تَتَنَاسَلُ ) اُسْتُشْكِلَ بِذُكُورِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مُنْفَرِدَاتٌ فَإِنَّهَا لَا تَتَنَاسَلُ وَوَجَبَتْ فِيهَا
الزَّكَاةُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ النَّمَاءَ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لَا مَحَالَةَ ، وَهُوَ فِي الْخَيْلِ فِي التَّنَاسُلِ لَا غَيْرُ ، وَلَا تَنَاسُلَ فِي ذُكُورِ الْخَيْلِ مُنْفَرِدَةً ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَالنَّمَاءُ فِيهِ كَمَا يَكُونُ بِهِ يَكُونُ بِاللَّحْمِ وَالْوَبَرِ فَيَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا وَجْهُ الرِّوَايَةِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا فِي الذُّكُورِ الْمُنْفَرِدَةِ أَيْضًا وَلَا نَسْلَ ثَمَّةَ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ وَجْهَهَا أَنَّ الْآثَارَ جَعَلَتْهَا نَظِيرَ سَائِرِ أَنْوَاعِ السَّوَائِمِ ، فَإِنَّهُ بِسَبَبِ السَّوْمِ تَخِفُّ الْمُؤْنَةُ عَلَى صَاحِبِهِ وَبِهِ يَصِيرُ مَالُ الزَّكَاةِ فَكَانَتْ كَأَنْوَاعِهَا .
وَقَوْلُهُ ( لَمْ يُنَزَّلْ عَلَيَّ فِيهِمَا شَيْءٌ ) رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْحَمِيرِ فَقَالَ : لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْفَاذَّةُ الْجَامِعَةُ { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } } .
( فَصْلٌ ) ( وَلَيْسَ فِي الْفُصْلَانِ وَالْحُمْلَانِ وَالْعَجَاجِيلِ صَدَقَةٌ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا كِبَارٌ ، وَهَذَا آخِرُ أَقْوَالِهِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا يَجِبُ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي الْمَسَانِّ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَمَالِكٍ ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ فِيهَا وَاحِدَةٌ مِنْهَا .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الِاسْمَ الْمَذْكُورَ فِي الْخِطَابِ يَنْتَظِمُ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ .
وَوَجْهُ الثَّانِي تَحْقِيقُ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَمَا يَجِبُ فِي الْمَهَازِيلِ وَاحِدٌ مِنْهَا وَوَجْهُ الْأَخِيرِ أَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا يَدْخُلُهَا الْقِيَاسُ فَإِذَا امْتَنَعَ إيجَابُ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ امْتَنَعَ أَصْلًا ، وَإِذَا كَانَ فِيهَا وَاحِدٌ مِنْ الْمَسَانِّ جَعَلَ الْكُلَّ تَبَعًا لَهُ فِي انْعِقَادِهَا نِصَابًا دُونَ تَأْدِيَةِ الزَّكَاةِ ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجِبُ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ مِنْ الْحُمْلَانِ وَفِيمَا دُونَ الثَّلَاثِينَ مِنْ الْعَجَاجِيلِ ، وَيَجِبُ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْفُصْلَانِ وَاحِدٌ ثُمَّ لَا يَجِبُ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ مَبْلَغًا لَوْ كَانَتْ مَسَانَّ يُثْنِي الْوَاجِبَ ، ثُمَّ لَا يَجِبُ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ مَبْلَغًا لَوْ كَانَتْ مَسَانَّ يُثَلِّثُ الْوَاجِبَ ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فِي رِوَايَةٍ .
وَعَنْهُ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْخَمْسِ خُمْسُ فَصِيلٍ ، وَفِي الْعَشَرِ خُمُسَا فَصِيلٍ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارُ ، وَعَنْهُ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ خُمْسِ فَصِيلٍ وَسَطٍ وَإِلَى قِيمَةِ شَاةٍ فِي الْخَمْسِ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا ، وَفِي الْعَشَرِ إلَى قِيمَةِ شَاتَيْنِ وَإِلَى قِيمَةِ خُمْسَيْ فَصِيلٍ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارُ .
( فَصْلٌ ) : قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَجَدْت فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَكْتُوبًا بِخَطِّ شَيْخِي رَحِمَهُ اللَّهُ : وَجْهُ مُنَاسَبَةِ إيرَادِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُنَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ عَنْ بَيَانِ حُكْمِ الْكِبَارِ مِنْ السَّوَائِمِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الصِّغَارِ .
وَأَقُولُ : لَيْسَ الْفَصْلُ مُنْحَصِرًا فِي ذَلِكَ بَلْ فِيهِ غَيْرُهُ .
فَكَانَ الْفَصْلُ هَاهُنَا كَمَسَائِلَ شَتَّى تُكْتَبُ فِي آخِرِ الْأَبْوَابِ .
وَالْفُصْلَانُ جَمْعُ الْفَصِيلِ : وَهُوَ وَلَدُ النَّاقَةِ مِنْ فَصَلَ الرَّضِيعُ عَنْ أُمِّهِ .
وَالْحُمْلَانُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَقِيلَ بِكَسْرِهَا أَيْضًا جَمْعُ الْحَمَلِ : وَلَدُ الضَّأْنِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى .
وَالْعَجَاجِيلُ جَمْعُ عُجُولٍ : مِنْ أَوْلَادِ الْبَقَرِ حِينَ تَضَعُهُ أُمُّهُ إلَى شَهْرٍ ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ .
قِيلَ فِي صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ : رَجُلٌ اشْتَرَى خَمْسَةً وَعِشْرِينَ مِنْ الْفُصْلَانِ أَوْ ثَلَاثِينَ مِنْ الْعَجَاجِيلِ أَوْ أَرْبَعِينَ مِنْ الْحُمْلَانِ أَوْ وُهِبَ لَهُ ذَلِكَ هَلْ يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الْحَوْلُ أَوْ لَا ؟ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَنْعَقِدُ ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمَا يَنْعَقِدُ حَتَّى لَوْ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ مِنْ حِينِ مَا مَلَكَهَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ .
وَقِيلَ صُورَتُهَا : إذَا كَانَ لَهُ نِصَابُ سَائِمَةٍ فَمَضَى عَلَيْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَتَوَالَدَتْ مِثْلَ عَدَدِهَا ثُمَّ هَلَكَتْ الْأُصُولُ وَبَقِيَتْ الْأَوْلَادُ هَلْ يَبْقَى حَوْلُ الْأُصُولِ عَلَى الْأَوْلَادِ ؟ عِنْدَهُمَا لَا يَبْقَى ، وَعِنْدَ الْبَاقِينَ يَبْقَى .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : دَخَلْت عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَقُلْت : مَا تَقُولُ فِيمَنْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ حَمَلًا ؟ فَقَالَ فِيهَا شَاةٌ مُسِنَّةٌ فَقُلْت : رُبَّمَا تَأْتِي قِيمَةُ الشَّاةِ عَلَى أَكْثَرِهَا أَوْ جَمِيعِهَا ، فَتَأَمَّلَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ : لَا وَلَكِنْ تُؤْخَذُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا ، فَقُلْت : أَيُؤْخَذُ الْحَمَلُ فِي الزَّكَاةِ ؟ فَتَأَمَّلَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ : لَا إذًا لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ ، فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ
زُفَرُ ، وَبِقَوْلِهِ الثَّانِي أَبُو يُوسُفَ ، وَبِقَوْلِهِ الثَّالِثِ مُحَمَّدٌ ، وَعُدَّ هَذَا مِنْ مَنَاقِبِهِ حَيْثُ تَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ فِي مَجْلِسٍ بِثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ فَلَمْ يُضَعْ شَيْءٌ مِنْهَا ( وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ إنَّ الِاسْمَ الْمَذْكُورَ فِي الْخِطَابِ ) يَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ } ( يَنْتَظِمُ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ ) لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ كَاسْمِ الْآدَمِيِّ ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ إبِلٍ فَأَكَلَ لَحْمَ الْفَصِيلِ حَنِثَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ قَلِيلٌ مِنْ الْكَثِيرِ ، وَأَخْذُ الْمُسِنَّةِ مِنْ الصِّغَارِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ قِيمَتَهَا قَدْ تَأْتِي عَلَى أَكْثَرِ النِّصَابِ ( وَوَجْهُ قَوْلِهِ الثَّانِي ) أَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا فِيهَا مَا يَجِبُ فِي الْمَسَانِّ وَهُوَ لَا يُوجَدُ فِيهَا كَانَ إضْرَارًا بِصَاحِبِ الْمَالِ وَهُوَ يَقْتَضِي عَدَمَ الْوُجُوبِ ، وَلَوْ لَمْ نُوجِبْ شَيْئًا كَانَ إضْرَارًا بِالْفُقَرَاءِ لِأَنَّ الصِّغَارَ نِصَابٌ ، فَإِنَّ الْكِبَارَ يَكْمُلُ بِهَا نِصَابٌ وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ كَانَ نِصَابًا بِنَفْسِهِ كَالْمَهَازِيلِ ، وَعَكْسُهُ الْحُمْلَانُ فَإِنَّهَا لَا يَكْمُلُ بِهَا نِصَابٌ فَلَا تَكُونُ فِي نَفْسِهَا نِصَابًا فَأَوْجَبْنَا وَاحِدَةً مِنْهَا كَمَا فِي الْمَهَازِيلِ فَإِنَّا لَا نُوجِبُ فِيهَا السَّمِينَ وَإِنَّمَا نُوجِبُ وَاحِدَةً مِنْهَا ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ ( تَحْقِيقُ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْأَخِيرِ مَا قَالَهُ إنَّ الْمَقَادِيرَ لَا يَدْخُلُهَا الْقِيَاسُ إلَخْ ) وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُجَابَ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مِنْ الْأَسْنَانِ هَاهُنَا مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهَا لَا تُوجَدْ فِي الصِّغَارِ ( وَإِذَا امْتَنَعَ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ هَاهُنَا امْتَنَعَ أَصْلًا ) لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَكَانَ بِالْقِيَاسِ وَالْمَقَادِيرُ لَا يَدْخُلُهَا الْقِيَاسُ وَالْفَطِنُ يَسْتَخْرِجُ مِنْ هَذَا جَوَابَ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ قَاسَ عَلَى الْمَهَازِيلِ وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْمَهَازِيلَ يُوجَدُ فِيهَا مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مِنْ الْأَسْنَانِ ( وَلَوْ كَانَ
فِيهَا وَاحِدَةٌ مِنْ الْمَسَانِّ إلَخْ ) يَعْنِي إذَا كَانَ فِي الْحُمْلَانِ كِبَارٌ جُعِلَتْ الصِّغَارُ تَبَعًا لَهَا فِي انْعِقَادِهَا نِصَابًا وَلَا تَتَأَدَّى الزَّكَاةُ بِالصِّغَارِ بَلْ يُدْفَعُ لَهَا مِنْ الْكِبَارِ إنْ كَانَ عَلَى مِقْدَارِ الْوَاجِبِ .
بَيَانُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مُسِنَّتَانِ وَمِائَةٌ وَتِسْعَةَ عَشَرَ حَمَلًا يَجِبُ فِيهَا مُسِنَّتَانِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ وَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ حَمَلًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَجِبُ مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مُسِنَّةٌ وَحَمَلٌ .
وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فَصْلُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عُدَّ عَلَيْهِمْ السَّخْلَةَ وَلَوْ جَاءَ بِهَا الرَّاعِي يَحْمِلُهَا عَلَى كَتِفِهِ ، وَلَا تَأْخُذْهَا مِنْهُمْ فَقَدْ نَهَى عَنْ أَخْذِ الصِّغَارِ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إلَخْ ) يَعْنِي أَنَّ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ اخْتَلَفَتْ فِي الْفُصْلَانِ .
رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ حَتَّى تَبْلُغَ عَدَدًا لَوْ كَانَتْ كِبَارًا وَجَبَ فِيهَا وَاحِدَةٌ مِنْهَا وَذَلِكَ بِأَنْ تَبْلُغَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ لَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ مَبْلَغًا لَوْ كَانَتْ مَسَانَّ ثَنَّى الْوَاجِبَ وَذَلِكَ بِأَنْ تَبْلُغَ سِتَّةً وَسَبْعِينَ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ فِيهَا اثْنَانِ ، ثُمَّ لَا يَجِبُ حَتَّى تَبْلُغَ مَبْلَغًا لَوْ كَانَتْ مَسَانَّ ثُلُثُ الْوَاجِبِ بِأَنْ تَبْلُغَ مِائَةً وَخَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ فَيَجِبُ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَاجِبَ كَانَ تَعَيَّنَ بِالنَّصِّ بِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ وَالسِّنِّ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ السِّنُّ فِي الْفُصْلَانِ فَبَقِيَ الْعَدَدُ مُعْتَبَرًا .
قَالَ مُحَمَّدٌ : وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً فِي مَالٍ اُعْتُبِرَ قَبْلَهُ أَرْبَعَةَ نُصُبٍ ، وَأَوْجَبَ فِي سِتٍّ وَسَبْعِينَ اثْنَيْنِ فِي مَوْضِعٍ اُعْتُبِرَ ثَلَاثَةُ نُصُبٍ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ .
وَفِي الْمَالِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ هَذِهِ النُّصُبِ لَوْ أَوْجَبْنَا لَكَانَ بِالرَّأْيِ لَا بِالنَّصِّ .
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْهُ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْخَمْسِ خُمُسُ فَصِيلٍ ، وَفِي الْعَشْرِ خُمُسَا فَصِيلٍ هَكَذَا إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ الْبَعْضُ بِالْجُمْلَةِ ، وَرَوَى عَنْهُ أَنَّهُ يُنْظَرُ فِي الْخَمْسِ إلَى قِيمَةِ خُمُسِ فَصِيلٍ وَإِلَى قِيمَةِ شَاةٍ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا ، وَفِي الْعُشْرِ إلَى قِيمَةِ شَاتَيْنِ وَإِلَى قِيمَةِ خُمُسَيْ فَصِيلٍ وَفِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ ثَلَاثِ شِيَاهٍ وَمِنْ قِيمَةِ ثَلَاثِ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ وَفِي الْعِشْرِينَ يَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِ شِيَاهٍ وَمِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ ، وَفِي الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ يَجِبُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ .
وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأَقَلَّ مُتَيَقَّنٌ فَيَتَعَيَّنُ .
قَالَ ( وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ سِنٌّ وَلَمْ تُوجَدْ أَخَذَ الْمُصَدِّقُ أَعْلَى مِنْهَا وَرَدَّ الْفَضْلَ أَوْ أَخَذَ دُونَهَا ) وَأَخَذَ الْفَضْلَ ، وَهَذَا يَبْتَنِي عَلَى أَنَّ أَخْذَ الْقِيمَةِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، إلَّا أَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ وَيُطَالِبَ بِعَيْنِ الْوَاجِبِ أَوْ بِقِيمَتِهِ لِأَنَّهُ شِرَاءٌ .
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يُجْبَرُ لِأَنَّهُ لَا بَيْعَ فِيهِ بَلْ هُوَ إعْطَاءٌ بِالْقِيمَةِ .
قَالَ ( وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ سِنٌّ ) السِّنُّ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ ، ثُمَّ سُمِّيَ بِهَا صَاحِبُهَا كَالنَّابِ لِلْمُسِنَّةِ مِنْ النُّوقِ ، ثُمَّ اُسْتُعِيرَتْ لِغَيْرِهِ كَابْنِ الْمَخَاضِ وَابْنِ اللَّبُونِ ، وَذِكْرُ السِّنِّ وَإِرَادَةُ ذَاتِ السِّنِّ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْحَيَوَانِ لَا فِي الْإِنْسَانِ لِأَنَّ عُمُرَ الْحَيَوَانِ يُعْرَفُ بِالسِّنِّ .
قَوْلُهُ ( وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ سِنٌّ ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ : رَجُلٌ وَجَبَ عَلَيْهِ بِنْتُ لَبُونٍ وَلَمْ تُوجَدْ عِنْدَهُ يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ الْحِقَّةَ وَيَرُدُّ الْفَضْلَ ، أَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحِقَّةُ وَلَمْ تُوجَدْ يَأْخُذُ بِنْتُ اللَّبُونِ وَيَأْخُذُ الْفَضْلَ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : ظَاهِرُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ لِلْمُصَدَّقِ وَهُوَ الَّذِي يَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ، وَلَكِنَّ الصَّوَابَ أَنَّ الْخِيَارَ إلَى مَنْ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ لِأَنَّ الْخِيَارَ شُرِعَ رِفْقًا بِمَنْ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ ، وَالرِّفْقُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِتَخْيِيرِهِ ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ إذَا سَمَحَتْ نَفْسُ مَنْ عَلَيْهِ ، إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ أَنَّهُ يَخْتَارُ مَا هُوَ الْأَرْفَقُ بِالْفُقَرَاءِ .
وَأَقُولُ : ظَاهِرُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِلْمُصَدِّقِ حَيْثُ قَالَ لَهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ وَيُطَالِبَ بِعَيْنِ الْوَاجِبِ أَوْ بِقِيمَتِهِ لِأَنَّهُ شِرَاءٌ ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لِمَنْ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ يُجْبَرُ لِأَنَّهُ لَا بَيْعَ فِيهِ بَلْ هُوَ إعْطَاءٌ بِالْقِيمَةِ ، وَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يَكُونَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ التَّفْضِيلَ بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ الدَّلِيلِ ، هَذَا إذَا أَرَادَ بِالْكِتَابِ الْهِدَايَةَ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْقُدُورِيُّ فَالظَّاهِرُ مِنْهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ كَمَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ ، وَفِي قَوْلِهِ وَرُدَّ الْفَضْلُ إشَارَةً إلَى نَفْيِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَنَّ جُبْرَانَ مَا بَيْنَ السِّنِينَ مُقَدَّرٌ عِنْدَهُ بِشَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ وَجَبَ فِي إبِلِهِ بِنْتُ لَبُونٍ فَلَمْ يَجِدْ الْمُصَدِّقُ إلَّا حِقَّةً أَخَذَهَا وَرَدَّ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَمَا اسْتَيْسَرَتَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا بِنْتَ مَخَاضٍ أَخَذَهَا وَأَخَذَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَمَا اسْتَيْسَرَتَا عَلَيْهِ } وَعِنْدَنَا ذَلِكَ بِحَسَبِ الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ ، وَإِنَّمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ مَا بَيْنَ السِّنِينَ فِي زَمَانِهِ كَانَ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا أَنَّهُ تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ ، وَكَيْفَ ذَلِكَ وَرُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى الْإِضْرَارِ بِالْفُقَرَاءِ أَوْ الْإِجْحَافِ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ ، لِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ الْحِقَّةَ وَرَدَّ شَاتَيْنِ فَرُبَّمَا تَكُونُ قِيمَتُهُمَا قِيمَةَ الْحِقَّةِ فَيَصِيرُ تَارِكًا لِلزَّكَاةِ عَلَيْهِ مَعْنًى وَهُوَ إضْرَارٌ بِالْفُقَرَاءِ ، وَإِذَا أَخَذَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَشَاتَيْنِ فَقَدْ تَكُونُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ بِنْتِ اللَّبُونِ فَيَكُونُ آخِذًا لِلزَّكَاةِ مِنْهَا وَابْنَةُ الْمَخَاضِ تَكُونُ زِيَادَةً وَفِيهِ إجْحَافٌ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ
( وَيَجُوزُ دَفْعُ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ ) عِنْدَنَا وَكَذَا فِي الْكَفَّارَاتِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُشْرِ وَالنَّذْرِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ اتِّبَاعًا لِلْمَنْصُوصِ كَمَا فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا .
وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَدَاءِ إلَى الْفَقِيرِ إيصَالًا لِلرِّزْقِ الْمَوْعُودِ إلَيْهِ فَيَكُونُ إبْطَالًا لِقَيْدِ الشَّاةِ وَصَارَ كَالْجِزْيَةِ ، بِخِلَافِ الْهَدَايَا لِأَنَّ الْقُرْبَةَ فِيهَا إرَاقَةُ الدَّمِ وَهُوَ لَا يُعْقَلُ .
وَوَجْهُ الْقُرْبَةِ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ سَدُّ خُلَّةِ الْمُحْتَاجِ وَهُوَ مَعْقُولٌ .
قَالَ ( وَيَجُوزُ دَفْعُ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ ) أَدَاءُ الْقِيمَةِ مَكَانَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الزَّكَوَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْعُشُورِ وَالْكَفَّارَاتِ جَائِزٌ ، لَا عَلَى أَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلٌ عَنْ الْوَاجِبِ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْبَدَلِ إنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ وَأَدَاءُ الْقِيمَةِ مَعَ وُجُودِ عَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ جَائِزٌ فَكَانَ الْوَاجِبُ عِنْدَنَا أَحَدَهُمَا ، إمَّا الْعَيْنُ أَوْ الْقِيمَةُ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ اتِّبَاعًا لِلْمَنْصُوصِ ) وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ } كَمَا فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا .
وَقَوْلُهُ ( إيصَالًا لِلرِّزْقِ الْمَوْعُودِ ) مَفْعُولٌ لَهُ وَخَبَرُ إنَّ مَحْذُوفٌ : أَيْ ثَابِتٌ أَوْ نَحْوُهُ .
وَرَوَى إيصَالٌ فَهُوَ خَبَرُ إنَّ ، فَعَلَى النُّسْخَةِ الْأُولَى تَقْرِيرُ كَلَامِهِ الْأَمْرُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ إلَى الْفَقِيرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { آتُوا الزَّكَاةَ } لِإِيصَالِ الرِّزْقِ الْمَوْعُودِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } ثَابِتٌ فِي الْوَاقِعِ ، وَالْأَمْرُ بِذَلِكَ يُبْطِلُ تَعْيِينَ الشَّاةِ ، فَالثَّابِتُ فِي الْوَاقِعِ يُبْطِلُ تَعْيِينَ الشَّاةِ ، أَمَّا ثُبُوتُ ذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ أَرْزَاقَهُمْ ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِإِيتَاءِ مَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ إنْجَازًا لِلْوَعْدِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَتَانِ ، وَأَمَّا أَنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ يُبْطِلُ تَعْيِينَ الشَّاةِ فَلِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ قُرْبَةٌ أَلْبَتَّةَ .
وَوَجْهُ الْقُرْبَةِ فِي الزَّكَاةِ سَدُّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ وَهِيَ مَعَ كَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِهَا لَا تَنْسَدُّ بِعَيْنِ الشَّاةِ فَكَانَ إذْنًا بِالِاسْتِبْدَالِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ، وَفِي ذَلِكَ إبْطَالُ قَيْدِ الشَّاةِ وَيَحْصُلُ بِهِ الرِّزْقُ الْمَوْعُودُ وَغَيْرُهُ ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ الْأَمْرُ بِالْأَدَاءِ إلَى الْفَقِيرِ إيصَالٌ لِلرِّزْقِ الْمَوْعُودِ إلَيْهِ وَإِيصَالُ ذَلِكَ إلَيْهِ إبْطَالٌ لِقَيْدِ الشَّاةِ لِأَنَّ الرِّزْقَ لَمْ يَنْحَصِرْ
فِي أَكْلِ اللَّحْمِ فَكَانَ إذْنًا فِي الِاسْتِبْدَالِ إلَخْ ، وَكَانَ هَذَا كَالْجِزْيَةِ فِي أَنَّهَا وَجَبَتْ لِكِفَايَةِ الْمُقَاتِلَةِ ، وَيَجُوزُ فِيهَا دَفْعُ الْقِيمَةِ بِالْإِجْمَاعِ ، بِخِلَافِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا فَإِنَّ الْقُرْبَةَ فِيهَا إرَاقَةُ الدَّمِ ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ بَعْدَ الذَّبْحِ قَبْلَ التَّصَدُّقِ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمُتَقَوَّمَةٍ وَلَا مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى .
( وَلَيْسَ فِي الْعَوَامِلِ وَالْحَوَامِلِ وَالْعَلُوفَةِ صَدَقَةٌ ) خِلَافًا لِمَالِكٍ .
لَهُ ظَوَاهِرُ النُّصُوصِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَيْسَ فِي الْحَوَامِلِ وَالْعَوَامِلِ وَلَا فِي الْبَقَرِ الْمُثِيرَةِ صَدَقَةٌ } ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمَالُ النَّامِي وَدَلِيلُهُ الْإِسَامَةُ أَوْ الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَلِأَنَّ فِي الْعَلُوفَةِ تَتَرَاكَمُ الْمُؤْنَةُ فَيَنْعَدِمُ النَّمَاءُ مَعْنًى .
ثُمَّ السَّائِمَةُ هِيَ الَّتِي تَكْتَفِي بِالرَّعْيِ فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ حَتَّى لَوْ عَلَفَهَا نِصْفَ الْحَوْلِ أَوْ أَكْثَرَ كَانَتْ عَلُوفَةً لِأَنَّ الْقَلِيلَ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ .
قَالَ ( وَلَيْسَ فِي الْعَوَامِلِ وَالْحَوَامِلِ وَالْعَلُوفَةِ صَدَقَةٌ ) الْعَلُوفَةُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ مَا يَعْلِفُونَ مِنْ الْغَنَمِ وَغَيْرِهِ ، الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ سَوَاءٌ ، مِنْ عَلَفَ الدَّابَّةَ أَطْعَمَهَا الْعَلَفَ ، وَالْعُلُوفَةُ بِالضَّمِّ جَمْعُ عَلَفٍ .
قَوْلُهُ ( لَهُ ظَوَاهِرُ النُّصُوصِ ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وَقَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُذْ مِنْ الْإِبِلِ إبِلًا ، وَفِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ } وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ كَثْرَةٌ .
وَلَنَا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَيْسَ فِي الْإِبِلِ الْحَوَامِلِ صَدَقَةٌ } وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ } وَحَدِيثُ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْمُثِيرَةِ صَدَقَةٌ } وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمَالُ النَّامِي وَهَذِهِ الْأَمْوَالُ لَيْسَتْ بِنَامِيَةٍ لِأَنَّ دَلِيلَ النَّمَاءِ الْإِسَامَةُ أَوْ الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ وَالْفَرْضُ عَدَمُهُمَا ، وَإِذَا انْتَفَى السَّبَبُ انْتَفَى الْحُكْمُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ فِي الْعَلُوفَةِ ) أَيْ وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمَالُ النَّامِي ، وَلَا نَمَاءَ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ تَتَرَاكَمُ فِيهَا فَيَنْعَدِمُ النَّمَاءُ مَعْنًى .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّكُمْ أَبْطَلْتُمْ إطْلَاقَ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ عِنْدَكُمْ لِكَوْنِهِ نَسْخًا وَحَمَلْتُمْ الْمُطْلَقَ فِي الْأَخْبَارِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَهُوَ أَيْضًا لَا يَجُوزُ عِنْدَكُمْ .
وَالثَّانِي أَنَّ دَلِيلَ النَّمَاءِ الْإِسَامَةُ أَوْ الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ كَمَا ذَكَرْتُمْ ، وَتَرَاكُمُ الْمُؤْنَةِ لَا يُبْطِلُ النَّمَاءَ بِالْإِعْدَادِ لِلتِّجَارَةِ ، فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ وَعَلَفَهَا جَمِيعَ السَّنَةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي آخِرِ
السَّنَةِ فَمَا بَالُهُ أَبْطَلَ النَّمَاءَ بِالْإِسَامَةِ ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِطْلَاقَ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ بِالْإِجْمَاعِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مُطْلَقٌ عَنْ حَوَلَانِ الْحَوْلِ وَلَا يَجِبُ إلَّا بِهِ فَكَانَتْ الْآيَةُ لِبَيَانِ وُجُوبِ الْأَخْذِ وَهِيَ فِيمَا عَدَاهُ مُجْمَلٌ لَحِقَ الْأَخْبَارَ بَيَانًا لِذَلِكَ ، وَلَمْ يُحْمَلْ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الْمُقَيَّدَ مُتَأَخِّرًا لِئَلَّا يَلْزَمَ النُّسَخُ مَرَّتَيْنِ ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ هُوَ الْإِطْلَاقُ لِكَوْنِهِ عَدَمًا ، فَلَوْ قَدَّمْنَا الْمُقَيَّدَ نَسَخَ الْإِطْلَاقَ ، ثُمَّ الْمُطْلَقُ يَنْسَخُهُ فَعَكَسْنَاهُ دَفْعًا لِذَلِكَ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْإِسَامَةَ وَالْعَلَفَ مُتَضَادَّانِ ، فَإِذَا وُجِدَ الْعَلَفُ انْتَفَى الْإِسَامَةُ وَلَا كَذَلِكَ التِّجَارَةُ ( ثُمَّ السَّائِمَةُ هِيَ الَّتِي تَكْتَفِي بِالرَّعْيِ فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ حَتَّى لَوْ عَلَفَهَا نِصْفَ الْحَوْلِ أَوْ أَكْثَرَ كَانَتْ عَلُوفَةً ) أَمَّا فِي الْأَكْثَرِ فَلِأَنَّ الْقَلِيلَ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ لِأَنَّ أَصْحَابَ السَّوَائِمِ لَا يَجِدُونَ بُدًّا مِنْ أَنْ يَعْلِفُوا سَوَائِمَهُمْ فِي وَقْتٍ كَبَرْدٍ وَثَلْجٍ كَمَا فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ ، وَأَمَّا فِي النِّصْفِ فَلِأَنَّهُ وَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِ سَبَبِ الْإِيجَابِ فَلَا تَجِبُ ، فَلَا تُرَجَّحُ جِهَةُ الْوُجُوبِ بِجِهَةِ الْعِبَادَةِ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ ثُبُوتِ السَّبَبِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : ثُمَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الْإِسَامَةِ فِي حَقِّ إيجَابِ زَكَاةِ السَّوَائِمِ إنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَتْ الْإِسَامَةُ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالتَّسْمِينِ ، وَأَمَّا الْإِسَامَةُ لِلتِّجَارَةِ فَلَا يَجِبُ فِيهَا زَكَاةُ السَّائِمَةِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِسَامَةِ لِلْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ .
( وَلَا يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ خِيَارَ الْمَالِ وَلَا رَذَالَتَهُ وَيَأْخُذُ الْوَسَطَ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَا تَأْخُذُوا مِنْ حَزَرَاتِ أَمْوَالِ النَّاسِ } أَيْ كَرَائِمَهَا " { وَخُذُوا مِنْ حَوَاشِي أَمْوَالِهِمْ } أَيْ أَوْسَاطَهَا وَلِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ .وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ خِيَارَ الْمَالِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( مِنْ حَزَرَاتِ أَمْوَالِ النَّاسِ ) الْحَزَرَاتُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَتَحَاتِ جَمْعُ حَزَرَةٍ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ خِيَارُ الْمَالِ ، وَالْحَاشِيَةُ صِغَارُ الْإِبِلِ لَا كِبَارَ فِيهَا .
وَذَكَرَ فِي الْمُغْرِبِ : خُذْ مِنْ حَوَاشِي أَمْوَالِهِمْ : أَيْ مِنْ عُرْضِهَا : يَعْنِي مِنْ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِهَا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ جَمْعُ حَاشِيَةِ الثَّوْبِ وَغَيْرِهِ لِجَانِبِهِ ، وَتَفْسِيرُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ أَيْ أَوْسَاطُهَا غَيْرُ ذَلِكَ ، وَهُوَ الْحَقُّ لِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
قَالَ ( وَمَنْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ فَاسْتَفَادَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ مِنْ جِنْسِهِ ضَمَّهُ إلَيْهِ وَزَكَّاهُ بِهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَضُمُّ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي حَقِّ الْمِلْكِ فَكَذَا فِي وَظِيفَتِهِ ، بِخِلَافِ الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ فِي الْمِلْكِ حَتَّى مُلِكَتْ بِمِلْكِ الْأَصْلِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمُجَانَسَةَ هِيَ الْعِلَّةُ فِي الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا يَتَعَسَّرُ الْمَيْزُ فَيَعْسُرُ اعْتِبَارُ الْحَوْلِ لِكُلِّ مُسْتَفَادٍ ، وَمَا شَرْطُ الْحَوْلِ إلَّا لِلتَّيْسِيرِ .
قَالَ ( وَمَنْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ ) الْمُسْتَفَادُ عَلَى ضَرْبَيْنِ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ وَمِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ ، وَالثَّانِي لَا يُضَمُّ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ إبِلٌ فَاسْتَفَادَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ بَقَرًا أَوْ غَنَمًا وَإِنَّمَا يُسْتَأْنَفُ لَهُ حَوْلٌ بِذَاتِهِ ، وَالْأَوَّلُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا بِسَبَبِ الْأَصْلِ كَالْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ أَوْ بِسَبَبٍ مَقْصُودٍ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ يُضَمُّ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ رَجُلٍ مِقْدَارُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ سَائِمَةٍ فَاسْتَفَادَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ ضَمَّهَا وَزَكَّى كُلَّهَا عِنْدَ تَمَّامِ الْحَوْلِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُسْتَأْنَفُ لَهُ حَوْلٌ جَدِيدٌ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ ، فَإِذَا تَمَّ الْحَوْلُ وَجَبَ فِيهِ الزَّكَاةُ نِصَابًا كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنَّهُ أَصْلٌ فِي حَقِّ الْمِلْكِ لِحُصُولِهِ بِسَبَبٍ غَيْرِ سَبَبِ الْأَصْلِ ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَصْلًا فِي الْوَظِيفَةِ كَالْمُسْتَفَادِ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ ( بِخِلَافِ الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْمِلْكِ حَتَّى مُلِكَتْ بِمِلْكِ الْأَصْلِ ) دُونَ سَبَبٍ مَقْصُودٍ ( وَلَنَا أَنَّ الْمُجَانَسَةَ هِيَ الْعِلَّةُ فِي الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ لِأَنَّ عِنْدَهَا ) يَعْنِي عِنْدَ الْمُجَانَسَةِ ( يَتَعَسَّرُ الْمَيْزُ ) لِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ لِكَثْرَةِ أَسْبَابِهِ ( فَيَعْسُرُ اعْتِبَارُ الْحَوْلِ لِكُلِّ مُسْتَفَادٍ ) لِأَنَّ مُرَاعَاتَهُ فِيهِ إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ ضَبْطِ كَمِّيَّتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَزَمَانِ تَجَدُّدِهِ وَفِي ذَلِكَ حَرَجٌ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ النِّصَابُ دَرَاهِمَ وَهُوَ صَاحِبُ غَلَّةٍ يَسْتَفِيدُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا أَوْ دِرْهَمَيْنِ ، وَالْحَوْلُ مَا شُرِطَ إلَّا تَيْسِيرًا ، فَلَوْ شَرَطْنَا لَهُ حَوْلًا جَدِيدًا عَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عِلَّةَ الضَّمِّ فِي الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ الْمُجَانَسَةُ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَجَبَ
الْقَوْلُ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ مَرَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ } وَعَلَى تَقْدِيرِ الضَّمِّ يَجِبُ الزَّكَاةُ بِلَا حَوْلٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّا مَا أَسْقَطْنَا الْحَوْلَ وَإِنَّمَا جَعَلْنَا حَوَلَانَ الْحَوْلِ عَلَى الْأَصْلِ حَوَلَانًا عَلَى الْمُسْتَفَادِ تَيْسِيرًا .
فَإِنْ عُورِضَ بِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ بِطَرِيقِ السِّرَايَةِ فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ .
قُلْنَا : مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ قَدْ ثَبَتَ فِي الْأُمَّهَاتِ بِالْأَوْلَادِ ، فَإِنَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شَاةً فَوَلَدَتْ وَاحِدَةٌ قَبْلَ الْحَوْلِ فَتَمَّ الْحَوْلُ وَجَبَ عَلَيْهِ شَاتَانِ ، فَكَانَ الْوُجُوبُ عَلَى الْأُمِّ وَغَيْرِهَا بِسَبَبِ الْوَلَدِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ السِّرَايَةِ .
قَالَ ( وَالزَّكَاةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي النِّصَابِ دُونَ الْعَفْوِ ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ فِيهِمَا : حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْعَفْوُ وَبَقِيَ النِّصَابُ بَقِيَ كُلُّ الْوَاجِبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَسْقُطُ بِقَدْرِهِ .
لِمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ وَالْكُلُّ نِعْمَةٌ .
وَلَهُمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ وَلَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ عَشْرًا } وَهَكَذَا قَالَ فِي كُلِّ نِصَابٍ ، وَنَفَى الْوُجُوبَ عَنْ الْعَفْوِ ، وَلِأَنَّ الْعَفْوَ تَبَعٌ لِلنِّصَابِ ، فَيُصْرَفُ الْهَلَاكُ أَوَّلًا إلَى التَّبَعِ كَالرِّبْحِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُصْرَفُ الْهَلَاكُ بَعْدَ الْعَفْوِ إلَى النِّصَابِ الْأَخِيرِ ثُمَّ إلَى الَّذِي يَلِيهِ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ النِّصَابُ الْأَوَّلُ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ تَابِعٌ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُصْرَفُ إلَى الْعَفْوِ أَوَّلًا ثُمَّ إلَى النِّصَابِ شَائِعًا .
وَقَوْلُهُ ( وَالزَّكَاةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) صُورَتُهُ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّ مَنْ كَانَ لَهُ تِسْعٌ مِنْ الْإِبِلِ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَهَلَكَ مِنْهَا أَرْبَعٌ فَعَلَيْهِ فِي الْبَاقِي شَاةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَتْسَاعِ شَاةٍ ، وَكَذَلِكَ الدَّلِيلُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ( وَقَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْعَفْوَ ) يَعْنِي أَنَّ الْعَفْوَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ النِّصَابِ فَكَانَ تَابِعًا ، وَكُلُّ مَالٍ اشْتَمَلَ عَلَى أَصْلٍ وَتَبَعٍ ثُمَّ هَلَكَ مِنْهُ شَيْءٌ صُرِفَ الْهَلَاكُ إلَى التَّبَعِ دُونَ الْأَصْلِ ، كَمَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا كَانَ فِيهِ رِبْحٌ فَهَلَكَ مِنْهُ شَيْءٌ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إلَى الرِّبْحِ دُونَ رَأْسِ الْمَالِ بِالِاتِّفَاقِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِكَوْنِ الْهَلَاكِ يُصْرَفُ إلَى التَّبَعِ ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُصْرَفُ الْهَلَاكُ بَعْدَ الْعَفْوِ إلَى النِّصَابِ الْأَخِيرِ إلَخْ ) وَبَيَانُ ذَلِكَ مَا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَرْبَعُونَ مِنْ الْإِبِلِ فَهَلَكَ مِنْهَا عِشْرُونَ فَفِي الْبَاقِي أَرْبَعُ شِيَاهٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَجِبُ فِيهَا عِشْرُونَ جُزْءًا مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا مِنْ بِنْتِ لَبُونً ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَجِبُ نِصْفُ بِنْتِ لَبُونٍ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكُلِّ فَإِذَا هَلَكَ النِّصْفُ سَقَطَ نِصْفُ الْوَاجِبِ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَرْبَعَ عَفْوٌ وَبَقِيَ الْوَاجِبُ فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ فَيَبْقَى الْوَاجِبُ بِقَدْرِ الْبَاقِي ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْهَالِكَ يُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ تَابِعٌ وَالنِّصَابُ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَصْلُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ عَنْ نُصُبٍ كَثِيرَةٍ وَفِي مِلْكِهِ نِصَابٌ وَاحِدٌ جَازَ فَثَبَتَ أَنَّ النِّصَابَ الْأَوَّلَ أَصْلٌ وَمَا زَادَ كَالتَّابِعِ ، فَإِذَا هَلَكَ شَيْءٌ صُرِفَ الْهَلَاكُ إلَى مَا هُوَ التَّابِعُ فَتَجِبُ زَكَاةُ الْعِشْرِينَ وَذَلِكَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ .
( وَإِذَا أَخَذَ الْخَوَارِجُ الْخَرَاجَ وَصَدَقَةَ السَّوَائِمِ لَا يُثَنِّي عَلَيْهِمْ ) لِأَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَحْمِهِمْ وَالْجِبَايَةُ بِالْحِمَايَةِ ، وَأَفْتَوْا بِأَنْ يُعِيدُوهَا دُونَ الْخَرَاجِ لِأَنَّهُمْ مَصَارِفُ الْخَرَاجِ لِكَوْنِهِمْ مُقَاتِلَةً ، وَالزَّكَاةُ مَصْرِفُهَا الْفُقَرَاءُ وَهُمْ لَا يَصْرِفُونَهَا إلَيْهِمْ .
وَقِيلَ إذَا نَوَى بِالدَّفْعِ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ سَقَطَ عَنْهُ ، وَكَذَا الدَّفْعُ إلَى كُلٍّ جَائِزٌ لِأَنَّهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ التَّبِعَاتِ فُقَرَاءُ ، وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ .
قَالَ ( إذَا أَخَذَ الْخَوَارِجُ الْخَرَاجَ ) الْخَوَارِجُ : قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْعَدْلِ بِحَيْثُ يَسْتَحِلُّونَ قَتْلَ الْعَادِلِ وَمَالَهُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَدَانُوا ذَلِكَ وَقَالُوا : مَنْ أَذْنَبَ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً فَقَدْ كَفَرَ وَحَلَّ قَتْلُهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ ، وَتَمَسَّكُوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا } فَإِذَا ظَهَرَ هَؤُلَاءِ عَلَى بَلْدَةٍ فِيهَا أَهْلُ الْعَدْلِ فَأَخَذُوا الْخَرَاجَ ( وَصَدَقَةَ السَّوَائِمِ ) ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ ( لَا يُثَنِّي عَلَيْهِمْ ) أَيْ لَا يَأْخُذُ مِنْهُمْ ثَانِيًا لِأَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَحْمِهِمْ وَالْجِبَايَةَ بِالْحِمَايَةِ ) كَتَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى عَامِلِهِ : إنْ كُنْت لَا تَحْمِهِمْ فَلَا تَجْبِهِمْ مِنْ جَبَى الْخَرَاجَ جِبَايَةً إذَا جَمَعَهُ ( وَأَفْتَوْا بِأَنْ يُعِيدَهَا ) يَعْنِي الصَّدَقَةَ ( دُونَ الْخَرَاجِ ) وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْمَشِ ( لِأَنَّهُمْ مَصَارِفُ الْخَرَاجِ لِكَوْنِهِمْ مُقَاتِلَةً ) إذَا ظَهَرَ عَدُوٌّ ذَبُّوا عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَأَمَّا الصَّدَقَاتُ فَمَصْرِفُهَا الْفُقَرَاءُ وَهُمْ لَا يَصْرِفُونَهَا إلَيْهِمْ .
وَقِيلَ إذَا نَوَى بِالدَّفْعِ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ يَسْقُطُ ، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ وَكَذَلِكَ الدَّفْعُ إلَى كُلِّ جَائِزٍ .
قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ : وَكَذَلِكَ السُّلْطَانُ إذَا صَادَرَ رَجُلًا وَأَخَذَ مِنْهُ أَمْوَالًا فَنَوَى صَاحِبُ الْمَالِ الزَّكَاةَ عِنْدَ الدَّفْعِ سَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ لِأَنَّهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ التَّبِعَاتِ فُقَرَاءُ ، فَإِنَّهُمْ إذَا رَدُّوا أَمْوَالَهُمْ إلَى مَنْ أَخَذُوهَا مِنْهُمْ لَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ شَيْءٌ ، وَالتَّبِعَاتُ الْحُقُوقُ الَّتِي عَلَيْهِمْ كَالدُّيُونِ وَالْغُصُوبُ ، وَالتَّبِعَةُ مَا اُتُّبِعَ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ ) أَيْ الْإِفْتَاءُ بِإِعَادَةِ صَدَقَةِ السَّوَائِمِ ، وَالْعُشُورِ أَحْوَطُ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ خُرُوجًا عَنْ عُهْدَةِ الزَّكَاةِ بِيَقِينٍ .
قِيلَ كَأَنَّ فِي قَوْلِهِ وَصَدَقَةَ السَّوَائِمِ إشَارَةً إلَى مَا نَقَلَ التُّمُرْتَاشِيُّ عَنْ الشَّهِيدِ أَنَّ هَذَا فِي صِفَةِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ أَمَّا إذَا صَادَرَهُ السُّلْطَانُ وَنَوَى هُوَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ فَعَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ يَجُوزُ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلظَّالِمِ وِلَايَةُ أَخْذِ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْعُمُومُ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ .
( وَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ فِي سَائِمَتِهِ شَيْءٌ وَعَلَى الْمَرْأَةِ مِنْهُمْ مَا عَلَى الرَّجُلِ ) لِأَنَّ الصُّلْحَ قَدْ جَرَى عَلَى ضِعْفِ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَيُؤْخَذُ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ صِبْيَانِهِمْوَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ فِي سَائِمَتِهِ شَيْءٌ ) وَبَنُو تَغْلِبَ قَوْمٌ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ كَانُوا بِقُرْبِ الرُّومِ ، فَلَمَّا أَرَادَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُوَظِّفَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ أَبَوْا وَقَالُوا : نَحْنُ مِنْ الْعَرَبِ نَأْنَفُ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ ، فَإِنْ وَظَّفْت عَلَيْنَا الْجِزْيَةَ لَحِقْنَا بِأَعْدَائِك مِنْ الرُّومِ ، وَإِنْ رَأَيْت أَنْ تَأْخُذَ مِنَّا مَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ وَتُضَعِّفَهُ عَلَيْنَا فَعَلْنَا ذَلِكَ ، فَشَاوَرَ عُمَرُ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ وَكَانَ الَّذِي يَسْعَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كُرْدُوسٌ التَّغْلِبِيُّ قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صَالِحْهُمْ فَإِنَّك إنْ تُنَاجِزْهُمْ لَمْ تُطِقْهُمْ ، فَصَالَحَهُمْ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ : هَذِهِ جِزْيَةٌ وَسَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ ، فَوَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ ضِعْفَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَذَا الصُّلْحِ بَعْدَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَزِمَ أَوَّلَ الْأُمَّةِ وَآخِرَهُمْ ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَمَا فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْجِزْيَةِ وَلَا جِزْيَةَ عَلَى النِّسَاءِ .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ بَدَلُ الصُّلْحِ ، وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُمْ صَالَحُوا عَلَى أَنْ يُضَعِّفَ عَلَيْهِمْ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالصَّدَقَةُ تُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دُونَ الصِّبْيَانِ فَكَذَا فِي حَقِّهِمْ .
( وَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَضْمَنُ إذَا هَلَكَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الذِّمَّةِ فَصَارَ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَلِأَنَّهُ مَنَعَهُ بَعْدَ الطَّلَبِ فَصَارَ كَالِاسْتِهْلَاكِ .
وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ تَحْقِيقًا لِلتَّيْسِيرِ فَيَسْقُطُ بِهَلَاكِ مَحَلِّهِ كَدَفْعِ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ يَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ وَالْمُسْتَحِقُّ فَقِيرٌ يُعِينُهُ الْمَالِكُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُ الطَّلَبُ ، وَبَعْدَ طَلَبِ السَّاعِي قِيلَ يَضْمَنُ وَقِيلَ لَا يَضْمَنُ لِانْعِدَامِ التَّفْوِيتِ ، وَفِي الِاسْتِهْلَاكِ وُجِدَ التَّعَدِّي ، وَفِي هَلَاكِ الْبَعْضِ يَسْقُطُ بِقَدْرِهِ اعْتِبَارًا لَهُ بِالْكُلِّ .
قَالَ ( وَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ ) إنْ هَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ سَقَطَتْ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ هَلَكَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ لَمْ تَسْقُطْ ، وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ بِالظَّفَرِ بِأَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَفِي الظَّاهِرِ بِالظَّفَرِ بِالسَّاعِي فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ تَقَرَّرَ فِي الذِّمَّةِ بِحُصُولِ الْوُسْعِ عَلَى الْأَدَاءِ ، وَمَنْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ لَا يَبْرَأُ عَنْهُ بِالْعَجْزِ عَنْ الْأَدَاءِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحَجِّ وَدُيُونِ الْعِبَادِ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ عِنْدَهُ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَعِنْدَنَا فِي الْعَيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ مَنَعَهُ بَعْدَ الطَّلَبِ ) دَلِيلٌ آخَرُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ طَلَبَ بِالْخِطَابِ ، وَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ الْأَدَاءِ وَلَمْ يُؤَدِّ كَانَ الْهَلَاكُ مَنْعًا بَعْدَ الطَّلَبِ ، وَالْمَنْعُ بَعْدَ طَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ يُوجِبُ الضَّمَانَ ( فَكَانَ كَالِاسْتِهْلَاكِ وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ ) لَيْسَ فِي الذِّمَّةِ بَلْ هُوَ ( جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ ) عَمَلًا بِكَلِمَةٍ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ } ( وَتَحْقِيقًا لِلتَّيْسِيرِ ) فَإِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ بِقُدْرَةٍ مُيَسِّرَةٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ .
وَمِنْ التَّيْسِيرِ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ مِنْ النِّصَابِ إذْ الْإِنْسَانُ إنَّمَا يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْ هَذَا النِّصَابِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ مَالٌ سِوَاهُ ، لَا سِيَّمَا السُّكَّانُ فِي الْمَفَاوِزِ فَإِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَحْصِيلِ شَيْءٍ مِنْ النُّقُودِ لِبُعْدِهِمْ عَنْ الْعُمْرَانِ .
فَإِذَا كَانَ جُزْءًا مِنْهُ كَانَ النِّصَابُ مَحَلَّهُ ( فَيَسْقُطُ بِهَلَاكِ مَحَلِّهِ كَدَفْعِ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ ) وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّهَا تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ ،
وَعُورِضَ بِأَنَّ دَفْعَ الْقِيمَةِ يَجُوزُ عِنْدَكُمْ ، وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ جُزْءًا مِنْ النِّصَابِ لَمَا جَازَ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَيْسَتْ بِجُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ بِأَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ الْإِذْنُ بِالِاسْتِدْلَالِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُسْتَحِقُّ فَقِيرٌ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ مُنِعَ بَعْدَ الطَّلَبِ ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ طُلِبَ فَقِيرٌ بِالْأَدَاءِ وَلَمْ يُؤَدِّ حَتَّى هَلَكَ الْمَالُ لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ أَيْضًا فَضْلًا مَا إذَا لَمْ يُطَالِبْهُ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلطَّلَبِ فَقِيرٌ ( يُعِينُهُ الْمَالِكُ ) لَا كُلُّ فَقِيرٍ لِأَنَّ لِلْمَالِكِ الرَّأْيَ فِي الصَّرْفِ إلَى مَنْ شَاءَ مِنْ الْفُقَرَاءِ ( وَلَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُ الطَّلَبُ ) فَلَا يَكُونُ ثَمَّةَ مَنْعٌ بَعْدَ الطَّلَبِ ، وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّ الْفَقِيرَ مَصْرِفٌ عِنْدَنَا لَا مُسْتَحِقٌّ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ إلَّا إذَا حُمِلَ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُسْتَحِقُّ لِلطَّلَبِ وَفِيهِ ضَعْفٌ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالسَّاعِي مُتَعَيِّنٌ لِلطَّلَبِ فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ بَعْدَ طَلَبِهِ حَتَّى هَلَكَ وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَبَعْدَ طَلَبِ السَّاعِي قِيلَ يَضْمَنُ ) وَهُوَ قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا لِكَوْنِهِ مُتَعَيِّنًا لِلطَّلَبِ فَالْمَنْعُ يَكُونُ تَفْوِيتًا كَمَا فِي الِاسْتِهْلَاكِ ( وَقِيلَ لَا يَضْمَنُ ) وَهُوَ قَوْلُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ .
قِيلَ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِعَدَمِ التَّفْوِيتِ ، فَإِنَّ الْمَنْعَ لَيْسَ بِتَفْوِيتٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَنْعُهُ لِاخْتِيَارِ الْأَدَاءِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ ، بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ فَإِنَّهُ قَدْ وُجِدَ مِنْهُ التَّعَدِّي عَلَى مَحَلٍّ مَشْغُولٍ بِحَقِّ الْغَيْرِ بِالْإِتْلَافِ فَجُعِلَ الْمَحَلُّ قَائِمًا زَجْرًا لَهُ ، وَنَظَرًا لِصَاحِبِ الْحَقِّ إذْ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ لَمَا وَصَلَ إلَى الْفَقِيرِ شَيْءٌ ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لَمْ يَعْجِزْ أَنْ يَصْرِفَ النِّصَابَ إلَى حَاجَتِهِ بِلَا ضَمَانٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي هَلَاكِ الْبَعْضِ يَسْقُطُ
بِقَدْرِهِ ) أَيْ بِقَدْرِ الْهَالِكِ ( اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ ) فَإِنْ قِيلَ : قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ بِقُدْرَةٍ مُيَسِّرَةٍ بِاشْتِرَاطِ النِّصَابِ وَمَا وَجَبَ بِصِفَةٍ لَا يَبْقَى بِدُونِهَا وَقَدْ زَالَ الْيُسْرُ بِفَوَاتِ بَعْضِ النِّصَابِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَبْقَى عَلَيْهِ شَيْءٌ كَابْتِدَاءِ الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِبَعْضِ النِّصَابِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْيُسْرَ فِيهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ حَيْثُ اشْتِرَاطُ النِّصَابِ بَلْ مِنْ حَيْثُ اشْتِرَاطُ صِفَةِ النَّمَاءِ لِيَكُونَ الْمُؤَدَّى جُزْءًا مِنْ الْمَالِ النَّامِي لِئَلَّا يُنْتَقَضَ بِهِ أَصْلُ الْمَالِ ، وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ أَصْلُ النِّصَابِ فِي الِابْتِدَاءِ لِيَصِيرَ الْمُكَلَّفُ بِهِ أَهْلًا لِلْإِغْنَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ الْغَنِيِّ ، وَالشَّرْعُ قَدَّرَ الْغِنَى بِالنِّصَابِ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عِنْدَ هَلَاكِ الْكُلِّ لِفَوَاتِ النَّمَاءِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْيُسْرُ ، وَإِذَا هَلَكَ الْبَعْضُ بَقِيَ الْيُسْرُ بِبَقَاءِ النَّمَاءِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ فَيَبْقَى بِقِسْطِهِ .
( وَإِنْ قَدَّمَ الزَّكَاةَ عَلَى الْحَوْلِ وَهُوَ مَالِكٌ لِلنِّصَابِ جَازَ ) لِأَنَّهُ أَدَّى بَعْدَ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَيَجُوزُ كَمَا إذَا كَفَّرَ بَعْدَ الْجُرْحِ ، وَفِيهِ خِلَافُ مَالِكٍقَوْلُهُ ( وَإِنْ قَدَّمَ الزَّكَاةَ عَلَى الْحَوْلِ ) أَيْ أَدَّاهَا قَبْلَ حَوْلَانِ الْحَوْلِ ( جَازَ ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِمَالِكٍ .
وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ زُفَرَ بَدَلَ مَالِكٍ لَهُ أَنَّ حَوَلَانَ الْحَوْلِ شَرْطٌ كَالنِّصَابِ ، وَتَقْدِيمُ الْمَشْرُوطِ عَلَى الشَّرْطِ لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ قَدَّمَ عَلَى النِّصَابِ .
وَلَنَا أَنَّهُ أَدَّى بَعْدَ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ جَائِزٌ كَمَا إذَا صَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَصَامَ الْمُسَافِرُ فِي رَمَضَانَ وَأَدَّى الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ ، وَحَوَلَانُ الْحَوْلِ شَرْطُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَكَلَامُنَا فِي جَوَازِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا كَفَّرَ بَعْدَ الْجَرْحِ
( وَيَجُوزُ ) ( التَّعْجِيلُ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ ) لِوُجُودِ السَّبَبِ ، وَيَجُوزُ لِنُصُبٍ إذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ نِصَابٌ وَاحِدٌ خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّ النِّصَابَ الْأَوَّلَ هُوَ الْأَصْلُ فِي السَّبَبِيَّةِ وَالزَّائِدُ عَلَيْهِ تَابِعٌ لَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .( وَيَجُوزُ التَّعْجِيلُ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ ) لِأَنَّ مِلْكَ النِّصَابِ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ حَوْلٍ مَا لَمْ يُنْتَقَصْ ، وَجَوَازُ التَّعْجِيلِ بِاعْتِبَارِ تَمَامِ السَّبَبِ ، وَفِي ذَلِكَ الْحَوْلُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي سَوَاءٌ ( وَيَجُوزُ لِنُصُبٍ إذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ نِصَابٌ وَاحِدٌ خِلَافًا لِزُفَرَ ) فَإِذَا كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ فَعَجَّلَ أَرْبَعَ شِيَاهٍ ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ وَفِي مِلْكِهِ عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ جَازَ عَنْ الْكُلِّ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ الْخَمْسِ لِأَنَّ كُلَّ نِصَابٍ فِي حَقِّ الزَّكَاةِ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ ، فَكَانَ التَّعْجِيلُ عَلَى النِّصَابِ الثَّانِي كَالتَّعْجِيلِ عَلَى الْأَوَّلِ ، وَفِي ذَلِكَ تَقْدِيمُ الْحُكْمِ عَلَى السَّبَبِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ .
وَلَنَا أَنَّ النِّصَابَ الْأَوَّلَ هُوَ الْأَصْلُ فِي السَّبَبِيَّةِ وَالزَّائِدُ عَلَيْهِ تَابِعٌ لَهُ ؛ أَلَا تَرَى إلَى مَنْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ ثُمَّ حَصَلَ لَهُ نُصُبٌ فِي آخِرِ الْحَوْلِ ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ عَلَى النِّصَابِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَتِمَّ عَلَى الْبَاقِيَةِ جُعِلَ كَأَنَّهُ تَمَّ الْحَوْلُ عَلَى النُّصُبِ كُلِّهَا وَوَجَبَ أَدَاءُ الزَّكَاةِ عَنْ الْمَجْمُوعِ بِالِاتِّفَاقِ ، فَكَذَلِكَ يَجْعَلُ النُّصُبَ الْأُخَرَ كَالْمَوْجُودَةِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ فِي حَقِّ التَّعْجِيلِ .
( لَيْسَ فِيمَا دُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ صَدَقَةٌ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ } وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ( فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْنِ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ) { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَتَبَ إلَى مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ خُذْ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ، وَمِنْ كُلِّ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ ذَهَبٍ نِصْفَ مِثْقَالٍ } .
قَالَ ( وَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَيَكُونُ فِيهَا دِرْهَمٌ ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : مَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَزَكَاتُهُ بِحِسَابِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ عَلِيِّ { وَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَبِحِسَابِهِ } وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ ، وَاشْتِرَاطُ النِّصَابِ فِي الِابْتِدَاءِ لَتَحَقُّق الْغِنَى وَبَعْدَ النِّصَابِ فِي السَّوَائِمِ تَحَرُّزًا عَنْ التَّشْقِيصِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ { لَا تَأْخُذْ مِنْ الْكُسُورِ شَيْئًا } وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ { وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ } وَلِأَنَّ الْحَرَجَ مَدْفُوعٌ ، وَفِي إيجَابِ الْكُسُورِ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدَّرَاهِمِ وَزْنُ سَبْعَةٍ ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ مِنْهَا وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ ، بِذَلِكَ جَرَى التَّقْدِيرُ فِي دِيوَانِ عُمَرَ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ ( وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْوَرِقِ الْفِضَّةَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْفِضَّةِ ، وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا الْغِشُّ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْعُرُوضِ يُعْتَبَرُ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ نِصَابًا ) لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ غِشٍّ لِأَنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ إلَّا بِهِ وَتَخْلُو عَنْ الْكَثِيرِ ، فَجَعَلْنَا الْغَلَبَةَ فَاصِلَةً وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى النِّصْفِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ ،
وَسَنَذْكُرُهُ فِي الصَّرْفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، إلَّا أَنَّ فِي غَالِبِ الْغِشِّ لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ التِّجَارَةِ كَمَا فِي سَائِرِ الْعُرُوضِ ، إلَّا إذَا كَانَ تَخْلُصُ مِنْهَا فِضَّةٌ تَبْلُغُ نِصَابًا لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي عَيْنِ الْفِضَّةِ الْقِيمَةُ وَلَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ .
بَابٌ فِي زَكَاةِ الْمَالِ : لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ زَكَاةِ السَّوَائِمِ لِمَا قُلْنَا أَعْقَبَهُ بِذِكْرِ غَيْرِهَا مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ .
قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْمَالُ كُلُّ مَا يَتَمَلَّكُهُ النَّاسُ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ ثِيَابٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ الْمَالَ وَأَرَادَ غَيْرَ السَّوَائِمِ عَلَى خِلَافِ عُرْفِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَإِنَّ اسْمَ الْمَالِ عِنْدَهُمْ يَقَعُ عَلَى النَّعَمِ ، وَعَلَى عُرْفِ أَهْلِ الْحَضَرِ فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ يَقَعُ عَلَى غَيْرِ النَّعَمِ .
( فَصْلٌ فِي الْفِضَّةِ ) قَدَّمَ فَصْلَ الْفِضَّةِ عَلَى غَيْرِهَا لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ تَدَاوُلًا فِي الْأَيْدِي ، وَالْأُوقِيَّةُ بِالتَّشْدِيدِ أَفُعُولَةٌ مِنْ الْوِقَايَةِ لِأَنَّهَا تَقِي صَاحِبَهَا مِنْ الْفَقْرِ .
وَقِيلَ هِيَ فِعْلِيَّةٌ مِنْ الْأَوْقِ وَهُوَ الثِّقَلُ ، وَالْجَمْعُ الْأَوَاقِيُّ بِالتَّشْدِيدِ أَفَاعِيلُ كَالْأَضَاحِيِّ وَبِالتَّخْفِيفِ أَفَاعِلُ ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَيَكُونُ فِيهَا دِرْهَمٌ ) يَعْنِي مَعَ الْخَمْسَةِ ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ مَعَ مَا سَبَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَالَ : مَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَزَكَاتُهُ بِحِسَابِهِ قُلْت الزِّيَادَةُ أَوْ كَثُرَتْ .
حَتَّى إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ دِرْهَمًا فَفِيهِ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { وَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَزَكَاتُهُ بِحِسَابِهِ } وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ وَالْكُلُّ مَالٌ .
فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَامَ شُرِطَ النِّصَابُ فِي الِابْتِدَاءِ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ لِيَتَحَقَّقَ الْغِنَى لِيَصِيرَ الْمُكَلَّفُ بِهِ أَهْلًا لِلْإِغْنَاءِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ اشْتِرَاطُهُ لِذَلِكَ لَمَا شُرِطَ فِي السَّوَائِمِ فِي الِانْتِهَاءِ كَمَا شُرِطَ
فِي الِابْتِدَاءِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ تَحَرُّزًا عَنْ التَّشْقِيصِ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ : لَا تَأْخُذْ مِنْ الْكُسُورِ شَيْئًا } قِيلَ مَعْنَاهُ : لَا تَأْخُذْ مِنْ الشَّيْءِ الَّذِي يَكُونُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ كُسُورًا فَسَمَّاهُ كُسُورًا بِاعْتِبَارِ مَا وَجَبَ .
فَإِنْ قِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا قَبْلَ الْمِائَتَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ عَقِيبَ هَذَا { فَإِذَا بَلَغَ الْوَرِقُ مِائَتِي دِرْهَمٍ فَخُذْ مِنْهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ } فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا قَبْلَ الْمِائَتَيْنِ وَمَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ قَالَ عَقِيبَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ { فَإِذَا بَلَغَ الْوَرِقُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَخُذْ مِنْهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَلَا تَأْخُذْ مِمَّا زَادَ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَتَأْخُذُ مِنْهَا دِرْهَمًا } هَكَذَا ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ مُسْنِدًا إلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، فَيُجْعَلُ قَوْلُهُ { إذَا بَلَغَ الْوَرِقُ } إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ بَيَانًا وَتَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ { لَا تَأْخُذْ مِنْ الْكُسُورِ شَيْئًا } لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ .
( وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ { لَيْسَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ } وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ لَيْسَ فِيهِ وَلَا فِيمَا دُونَهُ صَدَقَةٌ ، وَهَذَا مُحَكَّمٌ فَلَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَتَيْنِ أَرْبَعُونَ وَاحْتِمَالُهُ مَا ذَكَرُوهُ ( وَلِأَنَّ الْحَرَجَ مَدْفُوعٌ ) وَهُوَ وَاضِحٌ ( وَفِي إيجَابِ الْكُسُورِ ذَلِكَ ) أَيْ الْحَرَجُ ( لِتَعَسُّرِ الْوُقُوفِ ) لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَسَبْعَةَ دَرَاهِمَ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَسَبْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ فَتُعْسَرُ مَعْرِفَةُ سَبْعَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ فَحِينَئِذٍ لَا
يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى ، فَإِذَا جَاءَتْ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ الزَّكَاةِ لِأَنَّ دَيْنَهَا مُسْتَحَقٌّ وَإِنْ لَمْ يُؤَدَّ وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَدِرْهَمٌ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ وَزَكَاةُ دِرْهَمٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ يَتَعَسَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدَّرَاهِمِ ) رُوِيَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ : صِنْفٌ مِنْهَا كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْهُ عَشْرَةُ مَثَاقِيلَ كُلُّ دِرْهَمٍ مِثْقَالٌ ، وَصِنْفٌ مِنْهَا كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْهُ سِتَّةُ مَثَاقِيلَ كُلُّ دِرْهَمٍ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ مِثْقَالٍ ، وَصِنْفٌ مِنْهَا كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْهُ خَمْسَةُ مَثَاقِيلَ كُلُّ دِرْهَمٍ نِصْفُ مِثْقَالٍ ، وَكَانَ النَّاسُ يَتَصَرَّفُونَ بِهَا وَيَتَعَامَلُونَ بِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ ، فَلَمَّا تَوَلَّى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْخَرَاجَ بِالْأَكْثَرِ ، فَالْتَمَسُوا مِنْهُ التَّخْفِيفَ ، فَجَمَعَ حُسَّابَ زَمَانِهِ لِيُتَوَسَّطُوا وَيُوَفِّقُوا بَيْنَ الدَّرَاهِمِ كُلِّهَا وَبَيْنَ مَا رَامَهُ عُمَرُ وَبَيْنَ مَا رَامَهُ الرَّعِيَّةُ ، فَاسْتَخْرَجُوا لَهُ وَزْنَ السَّبْعَةِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ ( بِذَاكَ جَرَى التَّقْدِيرُ فِي دِيوَانِ عُمَرَ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ ) فَتَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ بِهِ كَالزَّكَاةِ وَالْخَرَاجِ وَنِصَابِ السَّرِقَةِ وَتَقْدِيرِ الدِّيَاتِ وَمَهْرِ النِّكَاحِ ، وَإِنَّمَا جَعَلُوا ذَلِكَ لِأَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ : أَحَدِهَا : أَنَّك إذَا جَمَعْت مِنْ كُلِّ صِنْفٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ صَارَ الْكُلُّ أَحَدًا وَعِشْرِينَ مِثْقَالًا ، فَإِذَا أَخَذْت ثُلُثَ ذَلِكَ كَانَ سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ .
وَالثَّانِي أَنَّك إذَا أَخَذْت ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ وَجَمَعْت بَيْنَ الْأَثْلَاثِ الثَّلَاثَةِ الْمُخْتَلِفَةِ كَانَتْ سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ .
وَالثَّالِثُ أَنَّك إذَا أَلْقَيْت الْفَاضِلَ عَلَى السَّبْعَةِ مِنْ الْعَشَرَةِ ، أَعْنِي
الثَّلَاثَةَ ، وَالْفَاضِلَ أَيْضًا عَلَى السَّبْعَةِ مِنْ مَجْمُوعِ السِّتَّةِ وَالْخَمْسَةِ أَعْنِي الْأَرْبَعَةَ ثُمَّ جَمَعَتْ مَجْمُوعَ الْفَاضِلِينَ : أَعْنِي فَاضِلَ السَّبْعَةِ مِنْ الْعَشَرَةِ وَفَاضِلَ الْمَجْمُوعِ مِنْ السِّتَّةِ وَالْخَمْسَةِ وَهُوَ مَا أَلْقَيْته كَانَتْ سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ ، فَلَمَّا كَانَتْ سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ أَعْدَلَ الْأَوْزَانِ فِيهَا وَدَارَتْ فِي جَمِيعِهَا بِطَرِيقِ مُسْتَقِيمٍ اخْتَارُوهَا .
وَقَوْلُهُ ( فَهُوَ فِي حُكْمِ الْفِضَّةِ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا فِي سَائِرِ الْعُرُوضِ إلَخْ ) يَعْنِي أَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ يُنْظَرُ إلَى مَا يَخْلُصُ مِنْهُ مِنْ الْفِضَّةِ ، فَإِذَا بَلَغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ تَجِبُ الزَّكَاةُ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي عَيْنِ الْفِضَّةِ الْقِيمَةُ وَلَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُصُ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْمَضْرُوبَةِ مِنْ الصُّفْرِ كَالْقُمْقُمِ لَا شَيْءَ فِيهَا إلَّا إذَا كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ وَقَدْ بَلَغَتْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَيَجِبُ فِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ .
( فَصْلٌ فِي الذَّهَبِ ) ( لَيْسَ فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ الذَّهَبِ صَدَقَةٌ .
فَإِذَا كَانَتْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَفِيهَا نِصْفُ مِثْقَالٍ ) لِمَا رَوَيْنَا وَالْمِثْقَالُ مَا يَكُونُ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنْهَا وَزْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ ( ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ قِيرَاطَانِ ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ رُبْعُ الْعُشْرِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا إذْ كُلُّ مِثْقَالٍ عِشْرُونَ قِيرَاطًا ( وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ صَدَقَةٌ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ بِحِسَابِ ذَلِكَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكُسُورِ ، وَكُلُّ دِينَارٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي الشَّرْعِ فَيَكُونُ أَرْبَعَةُ مَثَاقِيلَ فِي هَذَا كَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا .
قَالَ ( وَفِي تِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَحُلِيِّهِمَا وَأَوَانِيهِمَا الزَّكَاةُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَجِبُ فِي حُلِيِّ النِّسَاءِ وَخَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ لِأَنَّهُ مُبْتَذَلٌ فِي مُبَاحٍ فَشَابَهُ ثِيَابَ الْبِذْلَةِ .
وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ مَالٌ نَامٍ وَدَلِيلُ النَّمَاءِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ خِلْقَةً ، وَالدَّلِيلُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ بِخِلَافِ الثِّيَابِ .
فَصْلٌ فِي الذَّهَبِ : قَدْ مَرَّ وَجْهُ تَأْخِيرِهِ عَنْ فَصْلِ الْفِضَّةِ ( وَقَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ فَصْلِ الْفِضَّةِ { كَتَبَ إلَى مُعَاذٍ أَنْ خُذْ ، إلَى أَنْ قَالَ : وَمِنْ كُلِّ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ ذَهَبٍ نِصْفَ مِثْقَالٍ } .
وَالْمِثْقَالُ مَا يَكُونُ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنْهَا وَزْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَضَمِيرُ مِنْهَا رَاجِعٌ إلَى مَا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ .
قِيلَ تَعْرِيفُ الْمِثْقَالِ بِقَوْلِهِ مَا يَكُونُ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنْهَا وَزْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ عَرَّفَ الدِّرْهَمَ فِي فَصْلِ الْفِضَّةِ بِقَوْلِهِ .
وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ مِنْهَا وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ فَتَوَقَّفَ مَعْرِفَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَهُوَ دَوْرٌ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَا عَرَّفَ الدِّرْهَمَ بِالْمِثْقَالِ فِي فَصْلِ الْفِضَّةِ ، وَإِنَّمَا قَالَ الْمُعْتَبَرُ مِنْ أَصْنَافِهَا مَا يَكُونُ وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ ، وَكَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا فِيمَا بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ قَالَ هَاهُنَا : وَالْمِثْقَالُ مَا يَكُونُ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنْهَا وَزْنَ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ : أَيْ الْمُرَادُ بِالْمِثْقَالِ هَاهُنَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ الَّذِي عُرِّفَ بِهِ وَزْنُ الدِّرْهَمِ وَلَا دَوْرَ فِي ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ قِيرَاطَانِ ) يَعْنِي إذَا زَادَ عَلَى الْعِشْرِينَ وَبَلَغَ الزِّيَادَةُ إلَى أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ فَفِيهَا قِيرَاطَانِ مَعَ نِصْفِ مِثْقَالٍ لِأَنَّ الْوَاجِبَ رُبُعُ الْعُشْرِ وَرُبُعُ الْعُشْرِ حَاصِلٌ فِيمَا قُلْنَا إذْ كُلُّ مِثْقَالٍ عِشْرُونَ قِيرَاطًا فَيَكُونُ أَرْبَعَةَ مَثَاقِيلَ ثَمَانِينَ قِيرَاطًا وَرُبُعُ عُشْرِهِ قِيرَاطَانِ وَهَذَا بِصَنْجَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ .
وَالْقِيرَاطُ خُمُسُ شَعِيرَاتٍ ، فَالْمِثْقَالُ وَهُوَ الدِّينَارُ عِنْدَهُمْ مِائَةُ شَعِيرَةٍ ، وَأَصْلُ الْقِيرَاطِ قِرَّاطٌ بِالتَّشْدِيدِ لِأَنَّ جَمْعَهُ الْقَرَارِيطُ ، فَأَبْدَلَ مِنْ أَحَدِ حَرْفَيْ التَّضْعِيفِ يَاءً .
وَقَوْلُهُ ( وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكُسُورِ ) يَعْنِي الَّتِي بَيَّنَهَا فِي فَصْلِ الْفِضَّةِ
، وَقَدْ بَيَّنَّا الِاخْتِلَافَ وَالْحِجَجَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِيهِ ، وَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهُمَا خَلَا أَنَّ أَرْبَعَ مَثَاقِيلَ هَاهُنَا قَامَتْ مَقَامَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا هُنَاكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي تِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ) التِّبْرُ مَا كَانَ غَيْرَ مَضْرُوبٍ مِنْهُمَا ، وَالْحُلِيُّ عَلَى فُعُولٍ جَمْعُ حَلْيٍ كَثَدْيٍ فِي جَمْعِ ثَدْيٍ وَهُوَ مَا تَتَحَلَّى بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْهُمَا .
وَقَوْلُهُ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَجِبُ فِي حُلِيِّ النِّسَاءِ وَخَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ ) يَعْنِي الْحُلِيَّ الَّذِي يُبَاحُ اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّهُ مُبْتَذَلٌ فِي مُبَاحٍ ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا زَكَاةَ فِيهِ كَسَائِرِ ثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمَهْنَةِ ( وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ مَالٌ نَامٍ ، وَدَلِيلُ النَّمَاءِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ خِلْقَةً وَالدَّلِيلُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ ) فَإِذَا كَانَ مَوْجُودًا لَا مُعْتَبَرَ بِمَا لَيْسَ بِأَصْلٍ وَهُوَ الْإِعْدَادُ لِلِابْتِذَالِ ، بِخِلَافِ الثِّيَابِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا دَلِيلُ النَّمَاءِ وَالِابْتِذَالُ فِيهَا أَصْلٌ لِأَنَّ فِيهِ صَرْفًا لَهَا إلَى الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا وَهِيَ دَفْعُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ .
( فَصْلٌ فِي الْعُرُوضِ ) : ( الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهَا نِصَابًا مِنْ الْوَرِقِ أَوْ الذَّهَبِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهَا { يُقَوِّمُهَا فَيُؤَدِّي مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ } ، وَلِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلِاسْتِنْمَاءِ بِإِعْدَادِ الْعَبْدِ فَأَشْبَهَ الْمُعَدَّ بِإِعْدَادِ الشَّرْعِ ، وَتُشْتَرَطُ نِيَّةُ التِّجَارَةِ لِيَثْبُتَ الْإِعْدَادُ ، ثُمَّ قَالَ ( يُقَوِّمُهَا بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْمَسَاكِينِ ) احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي الْأَصْلِ خَيَّرَهُ لِأَنَّ الثَّمَنَيْنِ فِي تَقْدِيرِ قِيَمِ الْأَشْيَاءِ بِهِمَا سَوَاءٌ ، وَتَفْسِيرُ الْأَنْفَعِ أَنْ يُقَوِّمَهَا بِمَا تَبْلُغُ نِصَابًا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِمَا اشْتَرَى إنْ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ النُّقُودِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَالِيَّةِ ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ النُّقُودِ قَوَّمَهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ ( وَإِذَا كَانَ النِّصَابُ كَامِلًا فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ فَنُقْصَانُهُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ ) لِأَنَّهُ يَشُقُّ اعْتِبَارُ الْكَمَالِ فِي أَثْنَائِهِ أَوْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي ابْتِدَائِهِ لِلِانْعِقَادِ وَتَحَقُّقِ الْغِنَى وَفِي انْتِهَائِهِ لِلْوُجُوبِ ، وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ حَالَةُ الْبَقَاءِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ هَلَكَ الْكُلُّ حَيْثُ يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ ، وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ لِانْعِدَامِ النِّصَابِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ بَعْضَ النِّصَابِ بَاقٍ فَيَبْقَى الِانْعِقَادُ
( فَصْلٌ فِي الْعُرُوضِ ) : أَخَّرَ فَصْلَ الْعُرُوضِ لِأَنَّهَا تَقُومُ بِالنَّقْدَيْنِ فَكَانَ حُكْمُهَا بِنَاءً عَلَيْهِمَا .
وَالْعُرُوضُ جَمْعُ عَرَضٍ بِفَتْحَتَيْنِ : حُطَامُ الدُّنْيَا : أَيْ مَتَاعُهَا سِوَى النَّقْدَيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( كَائِنَةً مَا كَانَتْ ) أَيْ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ كَانَتْ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالسَّوَائِمِ أَوْ لَمْ تَكُنْ كَالثِّيَابِ وَالْحَمِيرِ وَالْبِغَالِ .
وَقَوْلُهُ ( وَتُشْتَرَطُ نِيَّةُ التِّجَارَةِ ) أَيْ حَالَةَ الشِّرَاءِ أَمَّا إذَا كَانَتْ النِّيَّةُ بَعْدَ الْمِلْكِ فَلَا بُدَّ مِنْ اقْتِرَانِ عَمَلِ التِّجَارَةِ بِنِيَّةٍ لِأَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ لَا تَعْمَلُ كَمَا مَرَّ .
وَقَوْلُهُ ( يُقَوِّمُهَا بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْمَسَاكِينِ ) أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي التَّقْوِيمِ ، فَإِنَّ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا هَذَا هُوَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْأَمَالِي ، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنْ كَانَ يُقَوِّمُهَا بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ يَتِمُّ النِّصَابُ وَبِالْآخَرِ لَا يَتِمُّ يُقَوَّمُ بِمَا يَتِمُّ بِالِاتِّفَاقِ احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ فَكَذَلِكَ هَذَا ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِتَفْسِيرِ الْمُصَنِّفِ لِلْأَنْفَعِ فِي الْكِتَابِ .
وَالثَّانِي مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَهُوَ أَنْ يُقَوِّمَ صَاحِبُ الْمَالِ بِأَيِّ النَّقْدَيْنِ شَاءَ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ التَّقْوِيمَ لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ وَالثَّمَنَانِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ .
وَالثَّالِثُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَالِيَّةِ ) لِأَنَّهُ ظَهَرَ قِيمَتُهُ مَرَّةً بِهَذَا النَّقْدِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الشِّرَاءُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِقِيمَتِهَا لِأَنَّ الْغَبْنَ نَادِرٌ .
وَالرَّابِعُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ أَنْ يُقَوِّمَهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍّ يَعْنِي سَوَاءً اشْتَرَاهَا بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ أَوْ بِغَيْرِهِ لِأَنَّ التَّقْوِيمَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى
مُعْتَبَرٌ بِالتَّقْوِيمِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ ، وَمَتَى وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَقْوِيمِ الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ يَقُولُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ فَكَذَا هَذَا .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا كَانَ النِّصَابُ كَامِلًا فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ فَنُقْصَانُهُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ ) قَيَّدَ بِالنُّقْصَانِ احْتِرَازًا عَنْ الْهَلَاكِ ، فَإِنَّ هَلَاكَ كُلِّ النِّصَابِ يَقْطَعُ الْحَوْلَ بِالِاتِّفَاقِ ، وَذَكَرَ النِّصَابَ مُطْلَقًا لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالنَّقْدَيْنِ وَالْعُرُوضِ وَالسَّوَائِمِ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَلْزَمُ الزَّكَاةُ إلَّا أَنْ يَكُونَ النِّصَابُ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَى آخِرِهِ كَامِلًا لِأَنَّ حَوَلَانَ الْحَوْلِ عَلَى الْمَالِ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْحَوْلِ بِمَعْنَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ وَلَنَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِ زُفَرَ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ النِّصَابِ فِي الِابْتِدَاءِ لِلِانْعِقَادِ وَفِي الِانْتِهَاءِ لِلْوُجُوبِ وَمَا بَيْنَهُمَا بِمَعْزِلٍ عَنْهُمَا جَمِيعًا فَلَا يَكُونُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْحَوْلِ بِمَعْنَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ ، وَالْمُرَادُ بِالنُّقْصَانِ النُّقْصَانُ فِي الذَّاتِ ، فَإِنَّ النُّقْصَانَ فِي الْوَصْفِ يَجْعَلُ السَّائِمَةَ عَلُوفَةً يُسْقِطُهَا بِالِاتِّفَاقِ ، لِأَنَّ فَوَاتَ الْوَصْفِ وَارِدٌ عَلَى كُلِّ النِّصَابِ فَكَانَ كَهَلَاكِ النِّصَابِ كُلِّهِ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّيَّةِ بِفَوَاتِ الْوَصْفِ .
قَالَ ( وَتُضَمُّ قِيمَةُ الْعُرُوضِ إلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَتَّى يَتِمَّ النِّصَابُ ) لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ بِاعْتِبَارِ التِّجَارَةِ وَإِنْ افْتَرَقَتْ جِهَةُ الْإِعْدَادِ ( وَيُضَمُّ الذَّهَبُ إلَى الْفِضَّةِ ) لِلْمُجَانَسَةِ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ سَبَبًا ، ثُمَّ يُضَمُّ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا بِالْإِجْزَاءِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ ، حَتَّى إنَّ مَنْ كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، هُمَا يَقُولَانِ الْمُعْتَبَرُ فِيهِمَا الْقَدْرُ دُونَ الْقِيمَةِ حَتَّى لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي مَصُوغٍ وَزْنُهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْنِ وَقِيمَتُهُ فَوْقَهَا ، هُوَ يَقُولُ : إنَّ الضَّمَّ لِلْمُجَانَسَةِ وَهِيَ تَتَحَقَّقُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ دُونَ الصُّورَةِ فَيُضَمُّ بِهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَتُضَمُّ قِيمَةُ الْعُرُوضِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : حَاصِلُ مَسَائِلِ الضَّمِّ أَنَّ عُرُوضَ التِّجَارَةِ يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهَا ، وَكَذَلِكَ يُضَمُّ إلَى النَّقْدَيْنِ بِلَا خِلَافٍ ، وَالسَّوَائِمُ الْمُخْتَلِفَةُ الْجِنْسِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لَا يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ بِالْإِجْمَاعِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ بِاعْتِبَارِ التِّجَارَةِ ) يَعْنِي أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِلْكُ النِّصَابِ النَّامِي وَالنَّمَاءُ إمَّا بِالْإِسَامَةِ أَوْ بِالتِّجَارَةِ ، وَلَيْسَ كُلًّا مِنَّا فِي الْأُولَى فَتَعَيَّنَ الثَّانِيَةُ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ افْتَرَقَتْ جِهَةُ الْإِعْدَادِ ) يَعْنِي أَنَّ الِافْتِرَاقَ فِي الْجِهَةِ يَكُونُ الْإِعْدَادُ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ لِإِعْدَادِهَا لِلتِّجَارَةِ ، وَفِي النَّقْدَيْنِ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِخَلْقِهِ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ لِلتِّجَارَةِ لَا يَكُونُ مَانِعًا عَنْ الضَّمِّ بَعْدَ حُصُولِ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ النَّمَاءُ ( وَيُضَمُّ الذَّهَبُ إلَى الْفِضَّةِ ) عِنْدَنَا لِلْمُجَانَسَةِ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ ، فَإِذَا كَانَ مَا هُوَ أَبْعَدُ فِي الْمُجَانَسَةِ عِلَّةً وَهُوَ الْعُرُوض فَلَأَنْ يَكُونَ فِي الْأَقْرَبِ أَوْلَى .
وَقَوْلُهُ ( وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ سَبَبًا ) أَيْ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ ، فَكَانَ هَذَا الْوَجْهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَيُوجِبُ الضَّمَّ .
ثُمَّ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُضَمُّ بِالْقِيمَةِ ، وَعِنْدَهُمَا بِالْإِجْزَاءِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ ، وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِيمَنْ كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ وَتَبْلُغُ قِيمَتُهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا .
وَأَمَّا إذَا كَانَ عَشْرَةَ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا ثُلُثٌ وَمِنْ الْآخَرِ ثُلُثَانِ أَوْ رُبُعٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ فَإِنَّهُ يُضَمُّ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَهُمْ ، وَدَلِيلُهُمَا عَلَى مَا ذُكِرَ
فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ وَهُوَ يَقُولُ : إنَّمَا أَوْجَبْنَا الضَّمَّ بِالْمُجَانَسَةِ وَهِيَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِالْقِيمَةِ دُونَ الصُّورَةِ وَاعْتِبَارُ الْإِجْزَاءِ اعْتِبَارُ الصُّورَةِ ، وَمَسْأَلَةُ الْمَصُوغِ لَيْسَتْ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ ، إذْ لَيْسَ فِيهَا ضَمُّ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ آخَرَ حَتَّى تُعْتَبَرَ الْقِيمَةُ ، فَإِنَّ الْقِيمَةَ فِي النُّقُودِ إنَّمَا تَظْهَرُ شَرْعًا عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ .
( بَابٌ فِيمَنْ يَمُرُّ عَلَى الْعَاشِرِ ) ( إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالٍ فَقَالَ أَصَبْتُهُ مُنْذُ أَشْهُرٍ أَوْ عَلَيَّ دَيْنٌ وَحَلَفَ صُدِّقَ ) وَالْعَاشِرُ مَنْ نَصَبَهُ الْإِمَامُ عَلَى الطَّرِيقِ لِيَأْخُذَ الصَّدَقَاتِ مِنْ التُّجَّارِ ، فَمَنْ أَنْكَرَ مِنْهُمْ تَمَامَ الْحَوْلِ أَوْ الْفَرَاغِ مِنْ الدَّيْنِ كَانَ مُنْكِرًا لِلْوُجُوبِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ الْيَمِينِ ( وَكَذَا إذَا قَالَ : أَدَّيْتُهَا إلَى عَاشِرٍ آخَرَ ) ، وَمُرَادُهُ إذَا كَانَ فِي تِلْكَ السُّنَّةِ عَاشِرٌ آخَرُ ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى وَضْعَ الْأَمَانَةِ مَوْضِعَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَاشِرٌ آخَرُ فِي تِلْكَ السَّنَةَ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُهُ بِيَقِينٍ ( وَكَذَا إذَا قَالَ : أَدَّيْتُهَا أَنَا ) يَعْنِي إلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ كَانَ مُفَوَّضًا إلَيْهِ فِيهِ ، وَوِلَايَةُ الْأَخْذِ بِالْمُرُورِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ الْحِمَايَةِ ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي صَدَقَةِ السَّوَائِمِ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ ، وَفِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ وَهُوَ مَا إذَا قَالَ : أَدَّيْتُ بِنَفْسِي إلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ لَا يُصَدَّقُ وَإِنْ حَلَفَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُصَدَّقُ ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَ الْحَقَّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ .
وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ .
ثُمَّ قِيلَ الزَّكَاةُ هُوَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي سِيَاسَةٌ .
وَقِيلَ هُوَ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ يَنْقَلِبُ نَفْلًا وَهُوَ الصَّحِيحُ ، ثُمَّ فِيمَا يُصَدَّقُ فِي السَّوَائِمِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ لَمْ يَشْتَرِطْ إخْرَاجَ الْبَرَاءَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَشَرَطَهُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى ، وَلِصِدْقِ دَعْوَاهُ عَلَامَةٌ فَيَجِبُ إبْرَازُهَا .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ فَلَا يُعْتَبَرُ عَلَامَةً .
( بَابٌ فِيمَنْ يَمُرُّ عَلَى الْعَاشِرِ ) أَلْحَقَ هَذَا الْبَابَ بِكِتَابِ الزَّكَاةِ اتِّبَاعًا لِلْمَبْسُوطِ وَشُرُوحِ الْجَامِعِ لِمُنَاسَبَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْعُشْرَ الْمَأْخُوذَ مِنْ الْمُسْلِمِ الْمَارِّ عَلَى الْعَاشِرِ هُوَ الزَّكَاةُ بِعَيْنِهَا إلَّا أَنَّ هَذَا الْعَاشِرَ كَمَا يَأْخُذُ مِنْ الْمُسْلِمِ يَأْخُذُ مِنْ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ وَلَيْسَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمَا بِزَكَاةٍ ، وَقَدَّمَ الزَّكَاةَ عَلَى هَذَا الْبَابِ وَعَلَى مَا بَعْدَهُ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً مَحْضَةً لَا شَائِبَةَ فِيهَا لِلْغَيْرِ ، وَالْعَاشِرُ مُشْتَقٌّ مِنْ عَشَرْت الْقَوْمَ إذَا أَخَذْت عُشْرَ أَمْوَالِهِمْ فَهُوَ تَسْمِيَةٌ لِلشَّيْءِ بِاعْتِبَارِ بَعْضِ أَحْوَالِهِ وَهُوَ أَخْذُهُ الْعُشْرَ مِنْ الْحَرْبِيِّ لَا مِنْ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ عَلَى مَا سَيَجِيءُ ( قَوْلُهُ إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالٍ ) أَيْ مِنْ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ الظَّاهِرَةَ وَهِيَ السَّوَائِمُ لَا يَحْتَاجُ الْعَاشِرُ فِيهَا إلَى مُرُورِ صَاحِبِ الْمَالِ عَلَيْهِ فِي ثُبُوتِ وِلَايَةِ الْأَخْذِ لَهُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ عُشْرَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَمُرَّ صَاحِبُ الْمَالِ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ فَإِنَّ الْأَدَاءَ لِصَاحِبِ الْمَالِ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُحْتَاجَةٍ إلَى الْحِمَايَةِ لِبُطُونِهَا ، فَإِذَا أَخْرَجَهَا إلَى الْمَفَازَةِ احْتَاجَتْ إلَيْهَا فَصَارَتْ كَالسَّوَائِمِ ، فَإِذَا مَرَّ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالٍ مِمَّا ذَكَرْنَا وَقَالَ أَصَبْته مُنْذُ أَشْهُرٍ : يُعْنَى لَمْ يَحُلْ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مَالٌ آخَرُ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْمَالِ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّ الْحَوْلَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْجِنْسِ ، أَوْ قَالَ عَلَى دَيْنٍ .
يَعْنِي دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا لَهُ مُطَالَبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ صُدِّقَ وَعَرَّفَ الْعَاشِرَ بِقَوْلِهِ مَنْ نَصَبَهُ الْإِمَامُ عَلَى الطَّرِيقِ لِيَأْخُذَ الصَّدَقَاتِ مِنْ التُّجَّارِ .
وَنُوقِضَ بِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ
الْكَافِرِ وَلَيْسَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ صَدَقَةً .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي نَصْبِهِ أَخْذُ الصَّدَقَاتِ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَدَاءِ الْعِبَادَةِ ، وَمَا عَدَاهَا تَابِعٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَنْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ .
وَقَوْلُهُ ( فَمَنْ أَنْكَرَ تَمَّامَ الْحَوْلِ ) يَعْنِي بِقَوْلِهِ أَصَبْت مُنْذُ أَشْهُرٍ ( أَوْ الْفَرَاغُ مِنْ الدَّيْنِ ) بِقَوْلِهِ أَوْ عَلَى دَيْنٍ ( كَانَ مُنْكِرًا لِلْوُجُوبِ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ) وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ مُنْذُ أَشْهُرٍ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا دُونَ الْحَوْلِ فَكَيْفَ عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ فَمَنْ أَنْكَرَ تَمَامَ الْحَوْلِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ خَالِصَةٌ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ لِلتَّصْدِيقِ فِيهِمَا التَّحْلِيفُ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْأَشْهُرَ تَقَعُ عَلَى الْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا لِكَوْنِهِ جَمْعَ قِلَّةٍ ، وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ عِبَادَةً لَكِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْعَاشِرِ فِي الْأَخْذِ وَحَقُّ الْفَقِيرِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ فَالْعَاشِرُ بَعْدَ ذَلِكَ يُدَّعَى عَلَيْهِ مَعْنًى لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَيَسْتَحْلِفُ لِرَجَاءِ النُّكُولِ كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِمَا حَقُّ الْعَبْدِ ، وَلَا يَلْزَمُ حَدُّ الْقَذْفِ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحْلَفُ فِيهِ إذَا أَنْكَرَ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ فِي الْحُدُودِ مُتَعَذِّرٌ عَلَى مَا عُرِفَ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا قَالَ أَدَّيْت إلَى عَاشِرٍ آخَرَ ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ قِيلَ الزَّكَاةُ هُوَ الْأَوَّلُ ) بِنَاءً عَلَى مَا لِأَصْحَابِنَا مِنْ الطَّرِيقَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إذَا كَانَ صَادِقًا فِيمَا قَالَ يَبْرَأُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ ، فَمَنْ اخْتَارَ الْأَوَّلَ قَالَ الزَّكَاةُ هُوَ الْأَوَّلُ كَمَا لَوْ خَفِيَ عَلَى السَّاعِي مَكَانَ مَالِهِ
فَادَّعَى صَاحِبُ الْمَالِ زَكَاتَهُ وَقَعَ زَكَاةً ( وَالثَّانِي سِيَاسَةٌ ) مَالِيَّةٌ زَجْرًا لِغَيْرِهِ عَنْ الْإِقْدَامِ عَمَّا لَيْسَ إلَيْهِ ( وَمَنْ اخْتَارَ الثَّانِيَ قَالَ الزَّكَاةُ هُوَ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ يَنْقَلِبُ نَفْلًا ) كَمَنْ صَلَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ ثُمَّ سَعَى إلَى الْجُمُعَةِ فَأَدَّاهَا وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ .
وَقَالَ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازًا عَنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ .
وَوَجْهُ الصِّحَّةِ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ وِلَايَةُ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ شَرْعًا فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ كَانَ أَدَاءُ رَبِّ الْمَالِ فَرْضًا لَغْوًا كَمَا لَوْ أَدَّى الْجِزْيَةَ إلَى الْمُقَاتِلَةِ بِنَفْسِهِ .
وَقَوْلُهُ ( لَمْ يُشْتَرَطْ إخْرَاجُ الْبَرَاءَةِ ) أَيْ الْعَلَامَةِ وَهِيَ اسْمٌ لِخَطِّ الْإِبْرَاءِ مِنْ بَرِئَ مِنْ الدَّيْنِ .
وَالْعَيْبِ بَرَاءَةً وَالْجَمْعُ بَرَاءَاتٌ وَالْبَرَاوَاتُ عَامِّيٌّ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ .
وَقَوْلُهُ ( فَيَجِبُ إبْرَازُهَا ) أَيْ إظْهَارُ الْعَلَامَةِ كَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ شَجَّةً أَوْ قَطْعًا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إبْرَازُ عَلَامَتِهِمَا ( وَجْهُ الْأَوَّلِ ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ ( أَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ ) فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ حُكْمًا ( فَلَمْ يُعْتَبَرْ عَلَامَةً ) قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلتُّمُرْتَاشِيِّ : وَهُوَ الصَّحِيحُ ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِاشْتِرَاطِ الْعَلَامَةِ هَلْ يُشْتَرَطُ مَعَهَا الْيَمِينُ .
قَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ : إنْ لَمْ يَحْلِفْ لَمْ يُصَدَّقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصُدِّقَ عِنْدَهُمَا قِيلَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ نَظَرٌ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ ثُمَّ فِيمَا يَصَّدَّقُ فِي السَّوَائِمِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ فِي السَّوَائِمِ يَصَّدَّقُ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ وَفِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ فِي أَرْبَعَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ إخْرَاجُ الْبَرَاءَةِ فِي الْجَمِيعِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ دَيْنٌ أَوْ أَصَبْته مُنْذُ أَشْهُرٍ أَوْ أَدَّيْتهَا إلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ
ذَلِكَ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَدَّيْته إلَى عَاشِرٍ آخَرَ وَفِي تِلْكَ السَّنَةِ عَاشِرٌ آخَرُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ذَكَرَ الْعَامَّ وَأَرَادَ الْخَاصَّ : أَيْ الصُّورَةَ الْمَذْكُورَةَ مَجَازًا .
قَالَ ( وَمَا صُدِّقَ فِيهِ الْمُسْلِمُ صُدِّقَ فِيهِ الذِّمِّيُّ ) ؛ لِأَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ فَتُرَاعَى تِلْكَ الشَّرَائِطُ تَحْقِيقًا لِلتَّضْعِيفِ ( وَلَا يُصَدَّقُ الْحَرْبِيُّ إلَّا فِي الْجَوَارِي يَقُولُ : هُنَّ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِي ، أَوْ غِلْمَانٍ مَعَهُ يَقُولُ : هُمْ أَوْلَادِي ) ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْحِمَايَةِ وَمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ يَحْتَاجُ إلَى الْحِمَايَةِ غَيْرَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِنَسَبِ مَنْ فِي يَدِهِ مِنْهُ صَحِيحٌ ، فَكَذَا بِأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهَا تَبْتَنِي عَلَيْهِ فَانْعَدَمَتْ صِفَةُ الْمَالِيَّةِ فِيهِنَّ ، وَالْأَخْذُ لَا يَجِبُ إلَّا مِنْ الْمَالِ .
قَالَ ( وَيُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ رُبْعُ الْعُشْرِ وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفُ الْعُشْرِ وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرُ ) هَكَذَا أَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُعَاتَهُ ( وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَ مِنَّا مِنْ مِثْلِهَا ) ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ زَكَاةٌ أَوْ ضِعْفُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ النِّصَابِ وَهَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَفِي كِتَابِ الزَّكَاةِ لَا نَأْخُذُ مِنْ الْقَلِيلِ وَإِنْ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنَّا مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ لَمْ يَزَلْ عَفْوًا وَلِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِمَايَةِ .
قَالَ ( وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَا يُعْلَمُ كَمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا نَأْخُذُ مِنْهُ الْعُشْرَ ) لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِنْ أَعْيَاكُمْ فَالْعُشْرُ ( وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا رُبْعَ الْعُشْرَ أَوْ نِصْفَ الْعُشْرِ نَأْخُذُ بِقَدَرِهِ ، وَإِنْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْكُلَّ لَا نَأْخُذُ الْكُلَّ ) ؛ لِأَنَّهُ غَدْرٌ ( وَإِنْ كَانُوا لَا يَأْخُذُونَ أَصْلًا لَا نَأْخُذُ ) لِيَتْرُكُوا الْأَخْذَ مِنْ تُجَّارِنَا وَلِأَنَّا أَحَقُّ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ .
وَقَوْلُهُ ( فَيُرَاعَى تِلْكَ الشَّرَائِطُ تَحْقِيقًا لِلتَّضْعِيفِ ) يَعْنِي أَنَّ تَضْعِيفَ الشَّيْءِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ الشَّيْءُ الْمُضَعَّفُ عَلَى أَوْصَافِ الْمُضَعَّفِ عَلَيْهِ وَإِلَّا لَكَانَ تَبْدِيلًا لَا تَضْعِيفًا وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُصَدَّقُ الْحَرْبِيُّ ) يَعْنِي فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا ( إلَّا فِي الْجَوَارِي يَقُولُ هُنَّ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِي أَوْ غِلْمَانٍ مَعَهُ يَقُولُ هُمْ أَوْلَادِي لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْحِمَايَةِ وَمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ يَحْتَاجُ إلَيْهَا ) وَإِنَّمَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْفُصُولِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي تَصْدِيقِهِ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَمْ يَتِمَّ الْحَوْلُ عَلَى مَالِي فَفِي الْأَخْذِ مِنْهُ لَا يُعْتَبَرُ الْحَوْلُ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْحَوْلِ لِتَمَامِ الْحِمَايَةِ لِتَحْصِيلِ النَّمَاءِ وَالْحِمَايَةِ لِلْحَرْبِيِّ تَتِمُّ بِنَفْسِ الْأَمَانِ ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَمَانُ صَارَ مَسْبِيًّا مَعَ أَمْوَالِهِ ، وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ دَيْنٌ فَالدَّيْنُ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُطَالَبُ بِهِ فِي دَارِنَا وَإِنْ قَالَ الْمَالُ بِضَاعَةٌ فَلَا حُرْمَةَ لِصَاحِبِهَا وَلَا أَمَانَ ، وَإِنْ قَالَ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ لِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّفُ لِلنَّقْلِ إلَى غَيْرِ دَارِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهَا ، وَإِنْ قَالَ أَدَّيْتهَا إلَى عَاشِرٍ آخَرَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ أُجْرَةُ الْحِمَايَةِ وَقَدْ وُجِدَتْ بِنَفْسِ الْأَمَانِ كَمَا مَرَّ آنِفًا ، وَلَوْ قَالَ أَدَّيْتهَا أَنَا كَذَّبَهُ اعْتِقَادُهُ غَيْرَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِنَسَبِ مَنْ فِي يَدِهِ مِنْهُ صَحِيحٌ لِأَنَّ كَوْنَهُ حَرْبِيًّا لَا يُنَافِي الِاسْتِيلَادَ وَالنَّسَبُ كَمَا يَثْبُتُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَبِهِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا وَالْأَخْذُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ الْمَالِ الْمَمْرُورِ بِهِ .
قَالَ ( وَيُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ رُبُعُ الْعُشْرِ ) رَوَى الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصَّبَ
الْعُشَارَ فَقَالَ لَهُمْ : خُذُوا مِنْ الْمُسْلِمِ رُبُعَ الْعُشْرِ ، وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ ، وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرَ ، وَكَانَ هَذَا بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ، فَكَانَ إجْمَاعًا .
وَالْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ فِيهِ مَا قِيلَ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ رُبُعُ الْعُشْرِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هَاتُوا رُبُعَ عُشُورِ أَمْوَالِكُمْ ، مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ } وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ وِلَايَةُ الْأَخْذِ لِلْعَاشِرِ لِحَاجَتِهِ إلَى الْحِمَايَةِ ، وَحَاجَةُ الذِّمِّيِّ إلَى الْحِمَايَةِ أَكْثَرُ لِأَنَّ طَمَعَ اللُّصُوصِ فِي أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْفَرُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ كَمَا فِي صَدَقَاتِ بَنِي تَغْلِبَ ، ثُمَّ الْحَرْبِيُّ مِنْ الذِّمِّيِّ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ مِنْ الْمُسْلِمِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَهُمْ مَقْبُولَةٌ كَشَهَادَةِ الْمُسْلِم عَلَى الذِّمِّيِّ ، ثُمَّ الذِّمِّيُّ يُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ ، فَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ يُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ تَضْعِيفًا لَا تَبْدِيلًا .
( وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَ مِنَّا مِنْ مِثْلِهَا ) لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ إلَيْهِ أَشَارَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا سُئِلَ حِينَ نَصَّبَ الْعَاشِرَ فَقِيلَ لَهُ : كَمْ نَأْخُذُ مِمَّا مَرَّ بِهِ الْحَرْبِيُّ ؟ فَقَالَ : كَمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا ؟ فَقَالُوا : الْعُشْرَ ، فَقَالَ : خُذُوا مِنْهُمْ الْعُشْرَ .
وَلَسْنَا نَعْنِي بِقَوْلِنَا بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ أَنَّ أَخْذَنَا لِمُقَابَلَةِ أَخْذِهِمْ أَمْوَالَنَا ، فَإِنَّ أَخْذَهُمْ أَمْوَالَنَا ظُلْمٌ وَأَخْذَنَا أَمْوَالَهُمْ حَقٌّ ، لَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّا إذَا عَامَلْنَاهُمْ بِمِثْلِ مَا يُعَامِلُونَنَا كَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إلَى مَقْصُودِ الْأَمَانِ
وَاتِّصَالِ التِّجَارَاتِ .
لَا يُقَالُ : فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَنَافٍ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذَا لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْحِمَايَةِ ، وَقَالَ هَاهُنَا : لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ ، وَإِذَا كَانَ الْأَخْذُ مَعْلُولًا لِأَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ مَعْلُولًا لِغَيْرِهِ لِئَلَّا يَتَوَارَدَ عِلَّتَانِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِالشَّخْصِ لِأَنَّا نَقُولُ : الْأَخْذُ مِنْهُمْ مَعْلُومٌ لِلْحِمَايَةِ .
وَأَمَّا الْمِقْدَارُ الْمُعَيَّنُ وَهُوَ الْعُشْرُ فَمَعْلُولٌ لِلْمُجَازَاةِ إلَخْ ، وَلَا تَنَافِيَ فِي ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ أَعْيَاكُمْ فَالْعُشْرُ ) تَقُولُ عَيِيت بِأَمْرِي إذَا لَمْ تَهْتَدِ لِوُجْهَتِهِ ، وَأَعْيَانِي هُوَ ، وَقِيلَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْعِيِّ وَهُوَ الْجَهْلُ ، فَإِنْ أَعْيَاكُمْ : أَيْ جَهْلُكُمْ : يُعْنَى إذَا اشْتَبَهَ الْحَالُ بِأَنْ لَمْ يَعْلَمْ الْعَاشِرُ مَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ غَدْرٌ ) أَيْ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ الْحِمَايَةِ وَالْغَدْرُ حَرَامٌ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ } وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُؤْخَذُ مِنْهُ جَمِيعُ مَا فِي يَدِهِ إلَّا قَدْرُ مَا يُبَلِّغُهُ مَأْمَنَهُ ، لِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِتَبْلِيغِهِ مَأْمَنَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُؤْخَذُ مِنْهُ الْكُلُّ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ فَيُجَازِيهِمْ بِمِثْلِ صَنِيعِهِمْ لِيَنْزَجِرُوا .
قَالَ ( وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ عَلَى عَاشِرٍ فَعَشَرَهُ ثُمَّ مَرَّ مَرَّةً أُخْرَى لَمْ يَعْشُرْهُ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ ) ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ اسْتِئْصَالُ الْمَالِ وَحَقُّ الْأَخْذِ لِحِفْظِهِ ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ الْأَوَّلِ بَاقٍ ، وَبَعْدَ الْحَوْلِ يَتَجَدَّدُ الْأَمَانُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ إلَّا حَوْلًا ، وَالْأَخْذُ بَعْدَهُ لَا يَسْتَأْصِلُ الْمَالَ ( فَإِنْ عَشَرَهُ فَرَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ عَشَرَهُ أَيْضًا ) ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ بِأَمَانٍ جَدِيدٍ .
وَكَذَا الْأَخْذُ بَعْدَهُ لَا يُفْضِي إلَى الِاسْتِئْصَالِ
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ عَلَى عَاشِرٍ إلَخْ ) حَاصِلُهُ أَنَّ الْعُشْرَ إنَّمَا يَتَكَرَّرُ فِيمَا يَمُرُّ بِهِ بِكَمَالِ الْحَوْلِ أَوْ بِتَجْدِيدِ الْعَهْدِ بِالرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ بِالْمُرُورِ عَلَى الْعَاشِرِ ، وَإِنْ كَانَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْهُمَا لَمْ يُعَشِّرْهُ ثَانِيًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ نَصْرَانِيًّا مَرَّ بِفَرَسٍ لَهُ عَلَى عَاشِرِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَشَّرَهُ ، ثُمَّ مَرَّ بِهِ ثَانِيًا فَهَمَّ أَنْ يُعَشِّرَهُ فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ : كُلَّمَا مَرَرْت بِكَ عَشَّرْتَنِي إذًا يَذْهَبُ فَرَسِي كُلُّهُ ؟ فَتَرَكَ الْفَرَسَ عِنْدَهُ وَذَهَبَ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ أَتَى الْمَسْجِدَ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى عَتَبَتَيْ الْبَابِ فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَا الشَّيْخُ النَّصْرَانِيُّ ، فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ : أَنَا الشَّيْخُ الْحَنِيفِيُّ ، فَقَصَّ النَّصْرَانِيُّ الْقِصَّةَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَتَاك الْغَوْثُ فَنَكَّسَ رَأْسَهُ ، وَرَجَعَ إلَى مَا كَانَ فِيهِ ، فَظَنَّ النَّصْرَانِيُّ أَنَّهُ اسْتَخَفَّ بِظُلَامَتِهِ فَرَجَعَ كَالْخَائِبِ ، فَلَمَّا انْتَهَى إلَى فَرَسِهِ وَجَدَ كِتَابَ عُمَرَ قَدْ سَبَقَهُ إنَّك إنْ أَخَذْت الْعُشْرَ مَرَّةً فَلَا تَأْخُذْهُ مَرَّةً أُخْرَى ، فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ : إنَّ دِينًا يَكُونُ الْعَدْلُ فِيهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَحَقِيقٌ أَنْ يَكُونَ حَقًّا فَأَسْلَمَ .
فَإِنْ قِيلَ : كَلَامُ الْمُصَنِّفِ مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّهُ قَالَ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ ، ثُمَّ قَالَ لَا يُمْكِنُ مِنْ الْمَقَامِ إلَّا حَوْلًا ، وَالْمُرَادُ بِهِ إلَّا قَرِيبًا مِنْ الْحَوْلِ لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ حَوْلًا كَامِلًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ : إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْإِمَامُ بِحَالِهِ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ ثَانِيًا .
( وَإِنْ مَرَّ ذِمِّيٌّ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ عَشَرَ الْخَمْرَ دُونَ الْخِنْزِيرِ ) وَقَوْلُهُ عَشَرَ الْخَمْرَ : أَيْ مِنْ قِيمَتِهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَعْشُرُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُمَا .
وَقَالَ زُفَرُ : يَعْشُرُهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُمْ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَعْشُرُهُمَا إذَا مَرَّ بِهِمَا جُمْلَةً كَأَنَّهُ جَعَلَ الْخِنْزِيرَ تَبَعًا لِلْخَمْرِ ، فَإِنْ مَرَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ عَشَرَ الْخَمْرَ دُونَ الْخِنْزِيرِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْقِيمَةَ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ لَهَا حُكْمُ الْعَيْنِ وَالْخِنْزِيرُ مِنْهَا ، وَفِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ لَيْسَ لَهَا هَذَا الْحُكْمُ وَالْخَمْرُ مِنْهَا ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلْحِمَايَةِ وَالْمُسْلِمُ يَحْمِي خَمْرَ نَفْسِهِ لِلتَّخْلِيلِ فَكَذَا يَحْمِيهَا عَلَى غَيْرِهِ وَلَا يَحْمِي خِنْزِيرَ نَفْسِهِ بَلْ يَجِبُ تَسْيِيبُهُ بِالْإِسْلَامِ فَكَذَا لَا يَحْمِيهِ عَلَى غَيْرِهِ
قَالَ ( وَإِنْ مَرَّ ذِمِّيٌّ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ عُشِّرَ الْخَمْرُ دُونَ الْخِنْزِيرِ ) إذَا مَرَّ الذِّمِّيُّ عَلَى الْعَاشِرِ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ وَتَبْلُغُ الْقِيمَةُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ، وَإِنَّمَا فَسَّرَ بِقَوْلِهِ ( أَيْ مِنْ قِيمَتِهَا ) احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ مَسْرُوقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ يُعَشَّرُ عَيْنُهَا وَنَفْيًا لِظَاهِرِ مَا يُفْهَمُ فَإِنَّ السَّامِعَ يَفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يُعَشِّرُ عَيْنَ الْخَمْرِ وَالْمُسْلِمُ مَنْهِيٌّ عَنْ اقْتِرَابِهَا ثُمَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ بِأَنَّهُ لَا مَالِيَّةَ وَلَا قِيمَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ الْمُسْلِمُ خَمْرَ الذِّمِّيِّ أَوْ خِنْزِيرَهُ لَا يَضْمَنُ عِنْدَهُ ، وَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ سَوَّى بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُ ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أَتْلَفَ خِنْزِيرَ الذِّمِّيِّ ضَمِنَهُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ خَمْرَهُ ، وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ التَّبَعِيَّةَ فَجَعَلَ الْخِنْزِيرَ تَابِعًا لِلْخَمْرِ لِأَنَّ الْخَمْرَ أَقْرَبُ إلَى الْمَالِيَّةِ بِوَاسِطَةِ التَّخْلِيلِ ، وَقَدْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ تَبَعًا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ مَقْصُودًا .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَقَدْ اُعْتُرِضَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِمَا ذَكَرَهُ فِي الشُّفْعَةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَقَالَ وَإِذَا اشْتَرَى ذِمِّيٌّ دَارًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَشَفِيعُهَا ذِمِّيٌّ ، إلَى أَنْ قَالَ : وَإِنْ كَانَ شَفِيعُهَا مُسْلِمًا أَخَذَهَا بِقِيمَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ، فَلَوْ كَانَ لِقِيمَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ حُكْمُهُ لَمَا أُخِذَ بِقِيمَتِهِ كَمَا لَا يَأْخُذُهَا بِعَيْنِهِ وَبِمَسْأَلَةِ الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أَتْلَفَ خِنْزِيرًا لِذِمِّيٍّ يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ وَلَوْ كَانَ لَهَا حُكْمُ الْعَيْنِ لَمَا ضَمِنَهَا كَمَا لَا يَضْمَنُ عَيْنَهَا ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَبِأَنَّ
الْمُسْلِمَ أَوْ الذِّمِّيَّ إذَا غَصَبَ خِنْزِيرَ ذِمِّيٍّ وَتَحَاكَمَا إلَى الْقَاضِي يَأْمُرُهُ الْقَاضِي بِالرَّدِّ وَالتَّسْلِيمِ وَذَلِكَ حِمَايَةً لَهُ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ قِيمَةَ ذَوَاتِ الْقِيَمِ بِمَنْزِلَةِ عَيْنِهَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ عَيْنِهَا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَبِمَنْزِلَتِهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَدَاءَ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالتَّعْيِينِ وَلَا تَعْيِينَ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ فَأَخَذَتْ الْقِيمَةُ حُكْمَ الْعَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَلِهَذَا إذَا تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ امْرَأَةً عَلَى خِنْزِيرٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ أَتَاهَا بِالْقِيمَةِ أُجْبِرَتْ عَلَى قَبُولِهَا كَمَا لَوْ أَتَاهَا بِعَيْنِهِ ، فَلَمَّا دَارَتْ الْقِيمَةُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْنِ وَبَيْنَ أَنْ لَا تَكُونَ أُعْطِيت حُكْمَ الْعَيْنِ فِي حَقِّ الْأَخْذِ وَالْحِيَازَةِ وَهُوَ فِي بَابِ الزَّكَاةِ ، وَلَمْ تُعْطَ فِي حَقِّ الْإِعْطَاءِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ إزَالَةٍ وَتَبْعِيدٍ وَهُوَ فِي بَابِ الشُّفْعَةِ وَالْإِتْلَافِ ، وَنُوقِضَ بِذِمِّيٍّ أَخَذَ قِيمَةَ خِنْزِيرٍ لَهُ اسْتَهْلَكَهُ ذِمِّيٌّ وَقَضَى بِهَا دَيْنًا لِمُسْلِمٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ ، وَلَوْ كَانَ أَخْذُ الْقِيمَةِ كَأَخْذِ الْعَيْنِ لَمَا جَازَ الْقَضَاءُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا قَضَى بِهَا دَيْنًا عَلَيْهِ وَقَعَتْ الْمُعَاوَضَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ السَّبَبُ ، وَاخْتِلَافُ الْأَسْبَابِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ عَلَى مَا عُرِفَ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ حِمَايَةِ خِنْزِيرِ نَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ حِمَايَةِ خِنْزِيرِ غَيْرِهِ لِغَرَضٍ يَسْتَوْفِيهِ ، وَالْعَاشِرُ لَوْ حَمَاهُ حَمَاهُ كَذَلِكَ بِخِلَافِ الْقَاضِي .
( وَلَوْ مَرَّ صَبِيٌّ أَوْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ بِمَالٍ فَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ شَيْءٌ ، وَعَلَى الْمَرْأَةِ مَا عَلَى الرَّجُلِ ) لِمَا ذَكَرْنَا فِي السَّوَائِمِ ( وَمَنْ مَرَّ عَلَى عَاشِرٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ مِائَةً أُخْرَى قَدْ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ لَمْ يُزَكِّ الَّتِي مَرَّ بِهَا ) لِقِلَّتِهَا وَمَا فِي بَيْتِهِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ حِمَايَتِهِ ( وَلَوْ مَرَّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِضَاعَةً لَمْ يَعْشُرْهَا ) ؛ لِأَنَّهُ غَيْرَ مَأْذُونٍ بِأَدَاءِ زَكَاتِهِ .
قَالَ ( وَكَذَا الْمُضَارَبَةُ ) يَعْنِي إذَا مَرَّ الْمُضَارِبُ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَوَّلًا يَعْشُرُهَا لِقُوَّةِ حَقِّ الْمُضَارِبِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ رَبُّ الْمَالِ نَهْيَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بَعْدَ مَا صَارَ عُرُوضًا فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا نَائِبٍ عَنْهُ فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ يَبْلُغُ نَصِيبُهُ نِصَابًا فَيُؤْخَذُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لَهُوَقَوْلُهُ ( وَلَوْ مَرَّ صَبِيٌّ أَوْ امْرَأَةٌ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمِائَةٍ ) يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ بِأَدَاءِ زَكَاتِهِ ) يَعْنِي هُوَ مَأْذُونٌ بِالتِّجَارَةِ فَقَطْ ، فَلَوْ أَخَذَ أَخَذَ غَيْرَ زَكَاةٍ وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ سِوَى الزَّكَاةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا نَائِبَ عَنْهُ ) أَيْ إنَّمَا هُوَ نَائِبٌ فِي التِّجَارَةِ لَا غَيْرُ ، وَالنَّائِبُ تَقْتَصِرُ وِلَايَتُهُ عَلَى مَا فُوِّضَ إلَيْهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَبْضَعِ .
( وَلَوْ مَرَّ عَبْدٌ مَأْذُونٌ لَهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ عَشَرَهُ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا أَدْرِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ عَنْ هَذَا أَمْ لَا .
وَقِيَاسُ قَوْلِهِ الثَّانِي فِي الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا أَنَّهُ لَا يَعْشُرُهُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيمَا فِي يَدِهِ لِلْمَوْلَى وَلَهُ التَّصَرُّفُ فَصَارَ كَالْمُضَارِبِ .
وَقِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ بِالْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى فَكَانَ هُوَ الْمُحْتَاجَ إلَى الْحِمَايَةِ ، وَالْمُضَارِبُ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ حَتَّى يَرْجِعَ بِالْعُهْدَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَكَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الْمُحْتَاجَ .
فَلَا يَكُونُ الرُّجُوعُ فِي الْمُضَارِبِ رُجُوعًا مِنْهُ فِي الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ مَعَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ إلَّا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ أَوْ لِلشُّغْلِ .
قَالَ ( وَمَنْ مَرَّ عَلَى عَاشِرِ الْخَوَارِجِ فِي أَرْضٍ قَدْ غَلَبُوا عَلَيْهَا فَعَشَرَهُ يُثَنَّى عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ ) مَعْنَاهُ : إذَا مَرَّ عَلَى عَاشِرِ أَهْلِ الْعَدْلِ ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ حَيْثُ إنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ .وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ مَرَّ عَبْدٌ مَأْذُونٌ لَهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ ) ظَاهِرٌ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْمُضَارِبِ رُجُوعٌ فِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ كَذَا قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَصَاحِبُ الْإِيضَاحِ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ مَوْلَاهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ ) يَعْنِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( أَوْ لِلشَّغْلِ ) أَيْ عِنْدَهُمَا .
فَإِنَّ الشَّغْلَ بِالدَّيْنِ مَانِعٌ عَنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ مَرَّ عَلَى عَاشِرِ الْخَوَارِجِ ) وَاضِحٌ
( بَابُ الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ ) قَالَ ( مَعْدِنُ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ رَصَاصٍ أَوْ صُفْرٍ وُجِدَ فِي أَرْضِ خَرَاجٍ أَوْ عُشْرٍ فَفِيهِ الْخُمُسُ ) عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ كَالصَّيْدِ إلَّا إذَا كَانَ الْمُسْتَخْرَجُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً فَيَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْحَوْلُ فِي قَوْلٍ ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءٌ كُلُّهُ وَالْحَوْلُ لِلتَّنْمِيَةِ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } وَهُوَ مِنْ الرَّكْزِ فَأُطْلِقَ عَلَى الْمَعْدِنِ وَلِأَنَّهَا كَانَتْ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ فَحَوَتْهَا أَيْدِينَا غَلَبَةً فَكَانَتْ غَنِيمَةً .
وَفِي الْغَنَائِمِ الْخُمُسُ بِخِلَافِ الصَّيْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ أَحَدٍ إلَّا أَنَّ لِلْغَانِمِينَ يَدًا حُكْمِيَّةً لِثُبُوتِهَا عَلَى الظَّاهِرِ ، وَأَمَّا الْحَقِيقِيَّةُ فَلِلْوَاجِدِ فَاعْتَبَرْنَا الْحُكْمِيَّةَ فِي حَقِّ الْخُمُسِ وَالْحَقِيقَةَ فِي حَقِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ حَتَّى كَانَتْ لِلْوَاجِدِ
( بَابُ الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ ) أَخَّرَ بَابَ الْمَعْدِنِ عَنْ الْعَاشِرِ لِأَنَّ الْعُشْرَ أَكْثَرُ وُجُودًا ، وَالْمَالُ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْ الْأَرْضِ لَهُ أَسَامٍ ثَلَاثَةٌ : الْكَنْزُ ، وَالْمَعَادِنُ ، وَالرِّكَازُ .
وَالْكَنْزُ اسْمٌ لِمَا دَفَنَهُ بَنُو آدَمَ ، وَالْمَعْدِنُ اسْمٌ لِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ الْأَرْضَ ، وَالرِّكَازُ اسْمٌ لَهُمَا جَمِيعًا .
وَالْكَنْزُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَنَزَ الْمَالَ كَنْزًا جَمَعَهُ ، وَالْمَعْدِنُ مِنْ عَدَنَ بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ ، وَالرِّكَازُ مِنْ رَكَّزَ الرُّمْحَ أَيْ غَرَزَهُ .
وَعَلَى هَذَا جَازَ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَرْكُوزٌ فِي الْأَرْضِ : أَيْ مُثْبَتٌ وَإِنْ اخْتَلَفَ الرَّاكِزُ ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ .
وَالْمُرَادُ بِالْمَذْكُورِ فِي لَقَبِ الْبَابِ الْكَنْزُ لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا الْبَابَ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ الْمَعَادِنِ وَالْكُنُوزِ عَلَى مَا يَجِيءُ ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمَعْدِنُ لَزِمَ التَّكْرَارُ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ بَابٌ فِي الْمَعَادِنِ وَالْمَعَادِنِ وَإِنْ أُرِيدَ الْمَعَادِنُ وَالْكَنْزُ كَانَ تَقْدِيرُهُ بَابٌ فِي الْمَعَادِنِ وَالْمَعَادِنِ وَالْكَنْزِ .
قَالَ ( مَعْدِنُ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ) الْمُسْتَخْرَجُ مِنْ الْمَعَادِنِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ : جَامِدٌ يَذُوبُ وَيَنْطَبِعُ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالصُّفْرِ ، وَجَامِدٌ لَا يَذُوبُ كَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَالْكُحْلِ وَالزِّرْنِيخِ ، وَمَائِعٌ لَا يَتَجَمَّدُ كَالْمَاءِ وَالْقِيرِ وَالنِّفْطِ .
وَمَسَائِلُ هَذَا الْبَابِ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ وَجْهًا ، لِأَنَّ الذَّهَبَ أَوْ الْفِضَّةَ الَّذِي يُوجَدُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْدِنًا أَوْ كَنْزًا ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُوَا إمَّا أَنْ يُوجَدَ فِي حَيِّزِ دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ حَيِّزِ دَارِ الْحَرْبِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : إمَّا أَنْ يُوجَدَ فِي مَفَازَةٍ لَا مَالِكَ لَهَا ، أَوْ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ ، أَوْ فِي دَارٍ ، وَالْمَوْجُودُ كَنْزٌ لَا يَخْلُو عَنْ ثَلَاثَةِ
أَوْجُهٍ أَيْضًا : إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى ضَرْبِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ، أَوْ عَلَى ضَرْبِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَاشْتَبَهَ الْحَالُ .
فَفِي الْأَوَّلِ وَهُوَ مَا يَذُوبُ وَيَتَطَبَّعُ إذَا ( وُجِدَ فِي أَرْضِ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ الْخُمُسُ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ ) وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ( كَالصَّيْدِ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُسْتَخْرَجُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً فَيَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ) وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ ( وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحَوْلُ فِي قَوْلٍ ) لِمَا ذَكَرَ أَنَّهُ نَمَاءٌ كُلُّهُ ، وَالْحَوْلُ لِلتَّنْمِيَةِ وَالنِّصَابُ عِنْدَهُ مُعْتَبَرٌ ، فَلَوْ كَانَ دُونَ الْمِائَتَيْنِ مِنْ الْفِضَّةِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ .
وَإِنَّمَا قَالَ فِي جَانِبِ الشَّافِعِيِّ : وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحَوْلُ وَلَمْ يَقُلْ فِي جَانِبِنَا لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَائِلٌ بِالزَّكَاةِ فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ بِاشْتِرَاطِ الْحَوْلِ ، فَنَفَاهُ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الدَّلِيلِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِالْخُمُسِ وَالْحَوْلُ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ ( وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } قَالَهُ حِينَ سُئِلَ عَمَّا يُوجَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ الْعَادِي ، وَعَطَفَ عَلَى الْمَسْئُولِ عَنْهُ فَقَالَ فِيهِ { وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } عَطَفَ عَلَى الْمَدْفُونِ ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرِّكَازِ الْمَعْدِنُ فَإِنَّهُ مِنْ الرِّكْزِ وَهُوَ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَعْدِنِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ ( وَلِأَنَّهَا ) أَيْ الْأَرْضَ ( كَانَتْ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ فَحَوَتْهَا أَيْدِينَا ) وَهُوَ وَاضِحٌ ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ غَنِيمَةً وَهُوَ أَيْضًا وَاضِحٌ ، وَفِي الْغَنِيمَةِ الْخُمُسُ بِالنَّصِّ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الصَّيْدِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَالصَّيْدِ ، فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَتْ غَنِيمَةً لَكَانَ الْخُمُسُ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ لِلْغَانِمِينَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( إلَّا أَنَّ لِلْغَانِمِينَ يَدًا حُكْمِيَّةً )
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْغَانِمِينَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ أَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ إذَا حَوَتْ أَيْدِيهمْ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَهَاهُنَا أَيْدِيهمْ حُكْمِيَّةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَتْ أَيْدِيهمْ عَلَى ظَاهِرِ الْأَرْضِ حَقِيقَةً ثَبَتَتْ عَلَى بَاطِنِهَا حُكْمًا .
( وَأَمَّا الْحَقِيقِيَّةُ فَلِلْوَاجِدِ ) فَكَانَ مَا فِي بَاطِنِهَا غَنِيمَةً حُكْمًا لَا حَقِيقَةً ( فَاعْتَبَرْنَا الْحُكْمِيَّةَ فِي حَقِّ الْخُمُسِ وَالْحَقِيقِيَّةَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ حَتَّى كَانَ لِلْوَاجِدِ ) مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا حُرًّا أَوْ عَبْدًا صَبِيًّا أَوْ بَالِغًا رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً ، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ هَذَا الْمَالِ كَاسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ ، وَلِجَمِيعِ مَنْ ذَكَرْنَا حَقٌّ فِي الْغَنِيمَةِ إمَّا سَهْمًا أَوْ رَضْخًا ، فَإِنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَرْأَةَ وَالْعَبْدَ وَالذِّمِّيَّ يُرْضَخُ لَهُمْ إذَا قَاتَلُوا عَلَى مَا سَيَجِيءُ ، بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ فَإِنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ وَإِنْ قَاتَلَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ ، فَإِذَا وَجَدَ شَيْئًا مِنْ الرِّكَازِ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْكُلُّ .
فَإِنْ قِيلَ : رَوَى أَنَّ عَبْدًا وَجَدَ جَرَّةً مِنْ ذَهَبٍ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَدَّى ثَمَنَهُ وَأَعْتَقَهُ وَجَعَلَ مَا بَقِيَ لِبَيْتِ الْمَالِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ كَانَ وَجَدَهُ فِي دَارِ رَجُلٍ صَاحِبِ خُطَّةٍ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا فَصَرَفَهُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ وَرَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي أَنْ يُعْطِيَ ثَمَنَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِيُوصِلَهُ إلَى الْعِتْقِ .
قَالَ فِي التُّحْفَةِ : يَجُوزُ لِلْوَاجِدِ أَنْ يَصْرِفَ الْخُمُسَ إلَى نَفْسِهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا لَا يُغْنِيهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ وَهُوَ حَقٌّ وَذَكَرَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مَا يُشِيرُ إلَى خِلَافِ ذَلِكَ .
( وَلَوْ وَجَدَ فِي دَارِهِ مَعْدِنًا فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا فِيهِ الْخُمُسُ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَلَهُ أَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ مُرَكَّبٌ فِيهَا وَلَا مُؤْنَةَ فِي سَائِرِ الْأَجْزَاءِ فَكَذَا فِي هَذَا الْجُزْءِ ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ لَا يُخَالِفُ الْجُمْلَةَ ، بِخِلَافِ الْكَنْزِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُرَكَّبٍ فِيهَا ( وَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضِهِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ ) وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى إحْدَاهُمَا وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الدَّارَ مُلِكَتْ خَالِيَةً عَنْ الْمُؤَنِ دُونَ الْأَرْضِ وَلِهَذَا وَجَبَ الْعُشْرُ ، وَالْخَرَاجُ فِي الْأَرْضِ دُونَ الدَّارِ فَكَذَا هَذِهِ الْمُؤْنَةُقَالَ ( وَلَوْ وَجَدَ فِي دَارِهِ ) إذَا وَجَدَ الْإِنْسَانُ فِي دَارِهِ ( مَعْدِنًا فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا فِيهِ الْخُمُسُ ) لَهُمَا إطْلَاقُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالدَّارِ ، وَدَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرٌ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ أَجْزَائِهَا لَجَازَ التَّيَمُّمُ بِهِ وَلَمْ يُجْزِهِ بِالْإِجْمَاعِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَجُوزُ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا لَا مِنْ أَجْزَائِهَا خِلْقَةً ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا خَصَّهُ بِهَذِهِ الدَّارِ فَكَأَنَّهُ نَفَّلَ بِهَا ، وَلِلْإِمَامِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ ( وَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضِهِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ ) فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ : لَا شَيْءَ فِيهِ كَمَا فِي الدَّارِ ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : فِيهِ الْخُمُسُ ، وَالْفَرْقُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
( وَإِنْ وَجَدَ رِكَازًا ) أَيْ كَنْزًا ( وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ ) عِنْدَهُمْ لِمَا رَوَيْنَا وَاسْمُ الرِّكَازِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكَنْزِ لِمَعْنَى الرَّكْزِ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ ثُمَّ إنْ كَانَ عَلَى ضَرْبِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَالْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ وَقَدْ عُرِفَ حُكْمُهَا فِي مَوْضِعِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى ضَرْبِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَالْمَنْقُوشِ عَلَيْهِ الصَّنَمُ فَفِيهِ الْخُمُسُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِمَا بَيَّنَّا ثُمَّ إنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ فَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ الْإِحْرَازُ مِنْهُ إذْ لَا عِلْمَ بِهِ لِلْغَانِمِينَ فَيَخْتَصُّ هُوَ بِهِ ، وَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ ، فَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِتَمَامِ الْحِيَازَةِ وَهِيَ مِنْهُ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ هُوَ لِلْمُخْتَطِّ لَهُ وَهُوَ الَّذِي مَلَّكَهُ الْإِمَامُ هَذِهِ الْبُقْعَةَ أَوَّلَ الْفَتْحِ ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ وَهِيَ يَدُ الْخُصُوصِ فَيَمْلِكُ بِهَا مَا فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الظَّاهِرِ ، كَمَنْ اصْطَادَ سَمَكَةً فِي بَطْنِهَا دُرَّةٌ مَلَكَ الدُّرَّةَ ثُمَّ بِالْبَيْعِ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا بِخِلَافِ الْمَعْدِنِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَائِهَا فَيَنْتَقِلُ إلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ الْمُخْتَطُّ لَهُ يُصْرَفُ إلَى أَقْصَى مَالِكٍ يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى مَا قَالُوا وَلَوْ اشْتَبَهَ الضَّرْبُ يُجْعَلُ جَاهِلِيًّا فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَقِيلَ يُجْعَلُ إسْلَامِيًّا فِي زَمَانِنَا لِتَقَادُمِ الْعَهْدِ
قَوْلُهُ ( وَإِنْ وَجَدَ رِكَازًا : أَيْ كَنْزًا ) إنَّمَا فَسَّرَهُ بِهَذَا لِأَنَّ الرِّكَازَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَعْدِنِ وَالْكَنْزِ ، وَقَدْ فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْمَعْدِنِ فَيُرَادُ بِهِ الْكَنْزُ وَلِيَصِحَّ قَوْلُهُ ( وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ عِنْدَهُمْ ) فَإِنْ وَجَبَ الْخُمُسُ بِالِاتِّفَاقِ إنَّمَا هُوَ فِي الْكَنْزِ لَا فِي الْمَعْدِنِ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَقُولُ بِوُجُوبِهِ فِي الدَّارِ كَمَا ذَكَرْنَا .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا رَوَيْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ { وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } فَإِنْ قِيلَ : قَدْ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الْمَعْدِنِ فَاسْتِدْلَالُهُ بِهِ هُنَا اسْتِعْمَالٌ لِلَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَاسْمُ الرِّكَازِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكَنْزِ لِمَعْنَى الرِّكْزِ فِيهِ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ ) وَمَعْنَاهُ : أَنَّهُ لَيْسَ فِي بَابِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَدْلُولَيْهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ وَلَا امْتِنَاعَ فِي ذَلِكَ ، وَبِهَذَا سَقَطَ مَا قِيلَ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ لِسِبَاقِ مَا رَوَيْنَا وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ { وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِيهِ الْكَنْزُ فَكَانَ ذِكْرُ الْكَنْزِ مَقْصُودًا هُنَاكَ فَكَانَ التَّمَسُّكُ بِهِ أَوْلَى كَمَا تَمَسَّكَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ ، إذْ دَلَالَةُ الرِّكَازِ عَلَى مَا ادَّعَى الْمُصَنِّفُ مِنْ الْكَنْزِ بِسَبَبِ دَلَالَةِ الرِّكَازِ عَلَى الْإِثْبَاتِ لَا غَيْرُ ، وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ قَدْ يَدُلُّ عَلَى الْكَنْزِ وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْدِنِ فَكَانَ مُحْتَمَلًا كَالنَّصِّ .
وَأَمَّا إرَادَةُ الْكَنْزِ لِسِيَاقِ الْحَدِيثِ وَهُوَ فِيمَا تَمَسَّكَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ فَبِدَلِيلٍ غَيْرِ مُحْتَمَلٍ فَكَانَ مُفَسَّرًا فَالتَّمَسُّكُ بِهِ أَوْلَى ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالْعَامِّ عَلَى مَا قَرَّرَ لَا بِالْمُشْتَرَكِ ، وَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ عِنْدَنَا فِي إيجَابِ الْحُكْمِ سَوَاءٌ ( ثُمَّ إنْ كَانَ عَلَى ضَرْبِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَالْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ كَلِمَةُ
التَّوْحِيدِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ ) يُعَرِّفُهَا حَيْثُ وَجَدَهَا مُدَّةً يَتَوَهَّمُ أَنَّ صَاحِبَهَا يَطْلُبُهَا وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ ( وَإِنْ كَانَ عَلَى ضَرْبِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَالْمَنْقُوشِ عَلَيْهِ الصَّنَمُ فَفِيهِ الْخُمُسُ عَلَى كُلِّ حَالٍ ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْجُودُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ رَصَاصًا أَوْ غَيْرَهَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاجِدُ صَغِيرًا أَوْ بَالِغًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا إلَّا إذَا كَانَ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا لِمَا ذَكَرْنَا .
وَقَوْلُهُ ( لَمَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي مِنْ النَّصِّ وَالْمَعْقُولِ ( ثُمَّ إنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ ) يَعْنِي الَّذِي هُوَ عَلَى ضَرْبِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ الَّذِي يَكُونُ بِضَرْبِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ يُلْحَقُ بِاللُّقَطَةِ فَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ هَذَا التَّفْرِيعُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ تَمَّ الْإِحْرَازُ مِنْهُ إذْ لَا عِلْمَ بِهِ لِلْغَانِمَيْنِ ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْغَانِمَيْنِ يَدًا حُكْمِيَّةً وَلِلْوَاجِدِ يَدًا حَقِيقِيَّةً فَيَكُونُ فِيهِ الْخُمُسُ وَالْبَاقِي لِلْوَاجِدِ ( وَإِنْ وَجَدَهُ ) أَيْ هَذَا الْكَنْزَ الْمَذْكُورَ ( فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) أَيْ الْخُمُسُ لِلْفُقَرَاءِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ مَالِكًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَالِكٍ ( لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِتَمَامِ الْحِيَازَةِ وَهِيَ مِنْهُ ) لِأَنَّ الْمُخْتَطَّ لَهُ مَا حَازَ مَا فِي الْبَاطِنِ ( وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ هُوَ لِلْمُخْتَطِّ لَهُ وَهُوَ الَّذِي مَلَّكَهُ الْإِمَامُ هَذِهِ الْبُقْعَةَ أَوَّلَ الْفَتْحِ لِسَبْقِ يَدِهِ إلَيْهِ ) فَإِنْ قِيلَ : يَدُ الْمُخْتَطِّ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ سَابِقَةً لَكِنَّهَا يَدٌ حُكْمِيَّةٌ وَبِهَا لَا يُمْلَكُ كَمَا فِي الْغَانِمِينَ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَهِيَ يَدُ الْخُصُوصِ ) يَعْنِي أَنَّ الْيَدَ الْحُكْمِيَّةَ إنَّمَا لَا يَثْبُتُ بِهَا الْمِلْكُ إذَا كَانَتْ يَدَ عُمُومٍ كَمَا فِي الْغَانِمِينَ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ يَدَ خُصُوصٍ ( فَيُمْلَكُ
بِهَا مَا فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الظَّاهِرِ ، كَمَنْ اصْطَادَ سَمَكَةً فِي بَطْنِهَا دُرَّةٌ مَلَكَ الدُّرَّةَ ) وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْغَازِي بَعْدَ الْقِسْمَةِ نَافِذٌ وَقَبْلَهَا لَا ، وَمَا ثَمَّةَ إلَّا عُمُومُ الْيَدِ وَخُصُوصُهَا ، فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُخْتَطَّ لَهُ قَدْ مَلَكَ لَكِنْ بَاعَ الْأَرْضَ فَخَرَجَ الْكَنْزُ عَنْ مِلْكِهِ كَمَا لَوْ كَانَ فِيهَا مَعْدِنٌ .
أَجَابَ بِأَنَّهُ : أَيْ الْكَنْزَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا ، كَمَا أَنَّهُ إذَا بَاعَ السَّمَكَةَ لَمْ تَخْرُجْ بِبَيْعِهَا الدُّرَّةُ عَنْ مِلْكِهِ ، بِخِلَافِ الْمَعْدِنِ فَإِنَّهُ مِنْ أَجْزَائِهِ فَيَنْتَقِلُ إلَى الْمُشْتَرِي ( وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ الْمُخْتَطُّ لَهُ يُصْرَفْ إلَى أَقْصَى مَالِكٍ يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى مَا قَالُوا ) وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ .
وَقَالَ أَبُو الْيُسْرِ : يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ اشْتَبَهَ الضَّرْبُ ) ظَاهِرٌ .
( وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَوَجَدَ فِي دَارِ بَعْضِهِمْ رِكَازًا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ ) تَحَرُّزًا عَنْ الْغَدْرِ ؛ لِأَنَّ مَا فِي الدَّارِ فِي يَدِ صَاحِبِهَا خُصُوصًا ( وَإِنْ وَجَدَهُ فِي الصَّحْرَاءِ فَهُوَ لَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ أَحَدٍ عَلَى الْخُصُوصِ فَلَا يُعَدُّ غَدْرًا وَلَا شَيْءَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مُتَلَصِّصٍ غَيْرِ مُجَاهِرٍ ( وَلَيْسَ فِي الْفَيْرُوزَجِ يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ خُمُسٌ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا خُمُسَ فِي الْحَجَرِ } ( وَفِي الزِّئْبَقِ الْخُمُسُ ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ آخِرًا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ
قَالَ ( وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَوَجَدَ فِي دَارِ بَعْضِهِمْ رِكَازًا ) سَوَاءٌ كَانَ مَعْدِنًا أَوْ كَنْزًا ( رَدَّهُ عَلَيْهِمْ تَحَرُّزًا عَنْ الْغَدْرِ ) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي الْعُهُودِ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ } " ( لِأَنَّ مَا فِي الدَّارِ فِي يَدِ صَاحِبِهَا خُصُوصًا وَإِنْ وَجَدَهُ فِي الصَّحْرَاءِ ) أَيْ الَّتِي فِي حَيِّزِ دَارِ الْحَرْبِ وَلَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لِأَحَدٍ ( فَهُوَ لَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ أَحَدٍ عَلَى الْخُصُوصِ فَلَا يُعَدُّ غَدْرًا وَلَا شَيْءَ فِيهِ ) أَيْ لَا خُمُسَ إنَّمَا يَجِبُ فِيمَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْغَنِيمَةِ وَهِيَ مَا كَانَ فِي يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَوَقَعَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ ( لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَلَصِّصِ ) فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا أَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَحْرَزَهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُسْتَأْمَنُ مِنَّا فِي دَرَاهِمِ إذَا وَجَدَ فِي أَرْضٍ لَيْسَ بِمَمْلُوكَةٍ رِكَازًا فَهُوَ لَهُ ، وَالْمُسْتَأْمَنُ مِنْهُمْ فِي دَارِنَا لَوْ وَجَدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي الصَّحْرَاءِ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ كُلُّهُ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَرْقَ أَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ دَارُ أَحْكَامٍ فَتُعْتَبَرُ الْيَدُ الْحُكْمِيَّةُ فِيهَا عَلَى الْمَوْجُودِ وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ ، فَالْمُعْتَبَرُ فِيهَا الْيَدُ الْحَقِيقِيَّةُ وَالْفَرْضُ عَدَمُهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ فِي الْفَيْرُوزَجِ يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ ) هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْمَعَادِنِ ، وَكَذَلِكَ الْجِصُّ وَالْكُحْلُ وَالزِّرْنِيخُ وَالْيَاقُوتُ وَغَيْرُهَا وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ احْتِرَازًا عَمَّا يُوجَدُ مِنْهُ ، وَمِمَّا ذَكَرَهُ بَعْدَهُ مِنْ الزِّئْبَقِ وَاللُّؤْلُؤِ فِي خَزَائِنِ الْكُفَّارِ فَأُصِيبَ قَهْرًا فَإِنَّ فِيهِ الْخُمُسَ بِالِاتِّفَاقِ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا خُمُسَ فِي الْحَجَرِ } مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ مَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنْ
مَعْدِنِهِ فَكَانَ هَذَا أَصْلًا فِي كُلِّ مَا هُوَ بِمَعْنَاهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي الزِّئْبَقِ الْخُمُسُ ) قِيلَ هُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ بِالْهَمْزِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالْكَسْرِ الْبَاءُ ، بَعْدَ الْهَمْزِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُصَابُ فِي مَعْدِنِهِ لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا .
حُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا لَا شَيْءَ فِيهِ وَكُنْت أَقُولُ فِيهِ الْخُمُسُ ، فَلَمْ أَزَلْ أُنَاظِرُهُ وَأَقُولُ إنَّهُ كَالرَّصَاصِ حَتَّى قَالَ فِيهِ الْخُمُسُ ، ثُمَّ رَأَيْت أَنْ لَا شَيْءَ فِيهِ ، فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ الْخُمُسُ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ لَا شَيْءَ فِيهِ ، قَالَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقِيرِ وَالنِّفْطِ : يَعْنِي هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمِيَاهِ وَلَا خُمُسَ فِي الْمَاءِ .
وَقَالَا إنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِالْعِلَاجِ مِنْ عَيْنِهِ وَيَنْطَبِعُ مَعَ غَيْرِهِ فَكَانَ كَالْفِضَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ مَا لَمْ يُخَالِطْهَا شَيْءٌ ، وَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ
( وَلَا خُمُسَ فِي اللُّؤْلُؤِ وَالْعَنْبَرِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفُ : فِيهِمَا وَفِي كُلِّ حِلْيَةٍ تَخْرُجُ مِنْ الْبَحْرِ خُمُسٌ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ الْخُمُسَ مِنْ الْعَنْبَرِ .
وَلَهُمَا أَنَّ قَعْرَ الْبَحْرِ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ الْقَهْرُ فَلَا يَكُونُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ غَنِيمَةً وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ فِيمَا دَسَرَهُ الْبَحْرُ وَبِهِ نَقُولُ ( مَتَاعٌ وُجِدَ رِكَازًا فَهُوَ لِلَّذِي وَجَدَهُ وَفِيهِ الْخُمُسُ ) مَعْنَاهُ : إذَا وُجِدَ فِي أَرْضٍ لَا مَالِكَ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ بِمَنْزِلَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .
( وَلَا خُمُسَ فِي الْعَنْبَرِ وَاللُّؤْلُؤِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِيهِمَا وَفِي كُلِّ حِلْيَةٍ تَخْرُجُ مِنْ الْبَحْرِ الْخُمُسُ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ الْخُمُسَ مِنْ الْعَنْبَرِ ) رُوِيَ أَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ : كَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْأَلُهُ عَنْ عَنْبَرَةٍ وُجِدَتْ عَلَى السَّاحِلِ ، فَكَتَبَ إلَيْهِ فِي جَوَابِهِ : إنَّهُ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَفِيهِ الْخُمُسُ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ يَصْلُحُ حُجَّةً فِي الْعَنْبَرِ لَا فِي اللُّؤْلُؤِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ حُجَّةً فِي اللُّؤْلُؤِ .
وَذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّ سُؤَالَ عُمَرَ كَانَ عَنْهُمَا جَمِيعًا ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعَنْبَرِ وَاللُّؤْلُؤِ يُسْتَخْرَجَانِ مِنْ الْبَحْرِ قَالَ : فِيهِمَا الْخُمُسُ .
وَأَقُولُ : الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى اللُّؤْلُؤِ بِالدَّلَالَةِ لِأَنَّهُ قَالَ : وَفِي كُلِّ حِلْيَةٍ تَخْرُجُ مِنْ الْبَحْرِ .
وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْمَجْمُوعِ بِالْعَنْبَرِ ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْبَحْرِ وَفِيهِ الْخُمُسُ ، فَكَذَا كُلُّ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنْهُ دَفْعًا لِلْحُكْمِ ( وَلَهُمَا أَنَّ قَعْرَ الْبَحْرِ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ الْقَهْرُ ) وَمَعْنَاهُ : أَنَّ الْخُمُسَ إنَّمَا يَجِبُ فِيمَا كَانَ بِأَيْدِي الْكَفَرَةِ وَقَدْ وَقَعَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ ، وَالْعَنْبَرُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ أَحَدٍ لِأَنَّ قَهْرَ الْمَاءِ يَمْنَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا : لَوْ وُجِدَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ لَمْ يَجِبْ فِيهِ شَيْءٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ ) جَوَابٌ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِجَوَابِهِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ كَانَ ( فِيمَا دَسَرَهُ الْبَحْرُ ) أَيْ دَفَعَهُ وَقَذَفَهُ ( وَبِهِ ) أَيْ بِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الْعَنْبَرِ الَّذِي دَسَرَهُ الْبَحْرُ ( نَقُولُ ) وَمُرَادُهُ دَسَرَهُ الْبَحْرُ الَّذِي فِي دَارِ الْحَرْبِ فَوَجَدَهُ
الْجَيْشُ عَلَى سَاحِلِهِ فَأَخَذُوهُ فَإِنَّهُ غَنِيمَةٌ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ : وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي الْعَنْبَرِ : إنَّهُ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ .
فَيُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ : إمَّا عَلَى بَحْرِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ أَخَذَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي بَحْرِ دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَلَصِّصِ وَلَا خُمُسَ فِيهِمَا .
وَقَوْلُهُ ( مَتَاعٌ وُجِدَ رِكَازًا ) أَيْ حَالَ كَوْنِهِ رِكَازًا ، وَالْمُرَادُ بِالْمَتَاعِ مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ فِي الْبَيْتِ مِنْ الرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَغَيْرِهِمَا .
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الثِّيَابُ لِأَنَّهُ يُسْتَمْتَعُ بِهَا ، وَذَكَرَ هَذَا لِبَيَانِ أَنَّ وُجُوبَ الْخُمُسِ لَا يَتَفَاوَتُ فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الرِّكَازُ مِنْ النَّقْدَيْنِ أَوْ غَيْرِهِمَا ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( بَابُ زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ ) : ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : فِي قَلِيلِ مَا أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ وَكَثِيرِهِ الْعُشْرُ ، سَوَاءٌ سُقِيَ سَيْحًا أَوْ سَقَتْهُ السَّمَاءُ ، إلَّا الْحَطَبَ وَالْقَصَبَ وَالْحَشِيشَ .
وَقَالَا : لَا يَجِبُ الْعُشْرُ إلَّا فِيمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ، وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ عِنْدَهُمَا عُشْرٌ ) فَالْخِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ : فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ ، وَفِي اشْتِرَاطِ الْبَقَاءِ .
لَهُمَا فِي الْأَوَّلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ } وَلِأَنَّهُ صَدَقَةٌ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ النِّصَابُ لِيَتَحَقَّقَ الْغِنَى .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ } وَتَأْوِيلُ مَا رَوَيَاهُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِالْأَوْسَاقِ وَقِيمَةُ الْوَسْقِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَالِكِ فِيهِ فَكَيْفَ بِصِفَتِهِ وَهُوَ الْغِنَى وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ الْحَوْلُ ؛ لِأَنَّهُ لِلِاسْتِنْمَاءِ وَهُوَ كُلُّهُ نَمَاءٌ .
وَلَهُمَا فِي الثَّانِي قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ } وَالزَّكَاةُ غَيْرُ مَنْفِيَّةٍ فَتَعَيَّنَ الْعُشْرُ وَلَهُ مَا رَوَيْنَا ، وَمَرْوِيُّهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى صَدَقَةٍ يَأْخُذُهَا الْعَاشِرُ ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ قَدْ تُسْتَنْمَى بِمَا لَا يَبْقَى وَالسَّبَبُ هِيَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ وَلِهَذَا يَجِبُ فِيهَا الْخَرَاجُ أَمَّا الْحَطَبُ وَالْقَصَبُ وَالْحَشِيشُ فَلَا تُسْتَنْبَتُ فِي الْجِنَانِ عَادَةً بَلْ تُنَقَّى عَنْهَا حَتَّى لَوْ اتَّخَذَهَا مُقَصَّبَةً أَوْ مُشَجَّرَةً أَوْ مَنْبَتًا لِلْحَشِيشِ يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ ، وَالْمُرَادُ بِالْمَذْكُورِ الْقَصَبُ الْفَارِسِيُّ أَمَّا قَصَبُ السُّكَّرِ وَقَصَبُ الذَّرِيرَةِ فَفِيهِمَا الْعُشْرُ ؛ لِأَنَّهُ
يَقْصِدُ بِهِمَا اسْتِغْلَالَ الْأَرْضِ ، بِخِلَافِ السَّعَفِ وَالتِّبْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْحَبُّ وَالتَّمْرُ دُونَهُمَا قَالَ :
( بَابُ زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ ) : سُمِّيَ الْعُشْرُ زَكَاةً كَمَا سُمِّي الْمُصَدِّقُ فِيمَا تَقَدَّمَ عَاشِرًا مَجَازًا ، وَتَأْخِيرُ الْعُشْرِ عَنْ الزَّكَاةِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ ، وَالْعُشْرَ مُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ ، وَالْعِبَادَاتُ الْخَالِصَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) فِي كُلِّ مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَيَنْبَغِي بِهِ النَّمَاءُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا يَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ أَوْ لَا يُوَسَّقُ أَوْ لَا يُسْقَى سَيْحًا أَيْ بِمَاءٍ جَارٍ ، أَوْ سَقَتْهُ السَّمَاءُ ، أَيْ الْمَطَرُ الْعُشْرُ ، ( إلَّا الْحَطَبَ وَالْقَصَبَ وَالْحَشِيشَ ) وَالتِّبْنَ وَالسَّعَفَ ، ( وَقَالَا : لَا يَجِبُ الْعُشْرُ إلَّا فِيمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ ) تَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ ( إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ كُلُّ وَسْقٍ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَيَّدَ بِالثَّمَرَةِ احْتِرَازًا عَنْ غَيْرِهَا ، وَهِيَ اسْمٌ لِشَيْءٍ مِنْ أَصْلٍ وَقَيَّدَ بِالْبَاقِيَةِ احْتِرَازًا عَنْ غَيْرِهَا وَحَدُّ الْبَقَاءِ أَنْ يَبْقَى سَنَةً فِي الْغَالِبِ مِنْ غَيْرِ مُعَالَجَةٍ كَثِيرَةٍ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَغَيْرِهَا دُونَ الْخَوْخِ وَالتُّفَّاحِ وَالسَّفَرْجَلِ وَنَحْوِهَا ، وَقَيَّدَ بِمَا إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا كَانَ دُونَهَا ، وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَخَمْسَةُ أَوْسُقٍ أَلْفٌ وَمِائَتَا مَنٍّ لِأَنَّ كُلَّ صَاعٍ أَرْبَعَةُ أَمْنَاءٍ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ : هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْكُوفَةِ ، وَقَالَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ : الْوَسْقُ ثَلَاثُمِائَةِ مَنٍّ ( وَلَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ ) كَالْفَوَاكِهِ وَالْبُقُولِ ( عُشْرٌ عِنْدَهُمَا ) لِأَنَّ الْبُقُولَ لَيْسَتْ بِثَمَرَةٍ وَالْفَوَاكِهُ لَا بَقَاءَ لَهَا سَنَةً إلَّا بِمُعَالَجَةٍ كَثِيرَةٍ ( فَالْخِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ وَفِي اشْتِرَاطِ الْبَقَاءِ ) وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِكَوْنِهِ ثَمَرَةً لِأَنَّ الْبُقُولَ
دَخَلَتْ فِي اشْتِرَاطِ الْبَقَاءِ ( لَهُمَا فِي الْأَوَّلِ ) أَيْ فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ ( قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ } أَيْ عُشْرٌ لِأَنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ تَجِبُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتَهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ( وَلِأَنَّهُ صَدَقَةٌ ) بِدَلِيلِ تَعَلُّقِهِ بِنَمَاءِ الْأَرْضِ وَعَدَمِ وُجُوبِهِ عَلَى الْكَافِرِ وَصَرْفِهِ إلَى مَصْرِفِ الصَّدَقَاتِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ صَدَقَةٌ يُشْتَرَطُ لَهُ النِّصَابُ لِيَتَحَقَّقَ الْغِنَى ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ } وَتَأْوِيلُ مَا رَوَيَاهُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِالْأَوْسَاقِ وَقِيمَةُ الْوَسْقِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ) فَتَكُونُ قِيمَةُ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ نِصَابُ الزَّكَاةِ ، قِيلَ الْعُشْرُ فِيهِ مَعْنَى الْعَادَةِ كَمَا ذَكَرْتُمْ فَيَكُونُ لِمَالِيَّتِهِ عَفْوٌ وَنِصَابٌ قِيَاسًا عَلَى الزَّكَاةِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ قِيَاسُ مَا فِيهِ الْعِبَادَةُ مَعَ كَوْنِهِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ عَلَى الْعِبَادَةِ الْمَحْضَةِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَالِكِ فِيهِ ) أَيْ فِي الْعُشْرِ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ فَيُشْتَرَطُ النِّصَابُ : يَعْنِي أَنَّ الْغِنَى صِفَةُ الْمَالِكِ ، وَالْمَالِكُ فِي بَابِ الْعُشْرِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ حَتَّى يَجِبَ فِي أَرَاضِي الْمُكَاتَبِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الرِّبَاطَاتِ وَالْمَسَاجِدِ ( فَكَيْفَ بِصِفَتِهِ وَهُوَ الْغَنِيُّ ، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ الْحَوْلُ لِأَنَّهُ لِلِاسْتِنْمَاءِ وَهُوَ كُلُّهُ نَمَاءٌ .
وَلَهُمَا فِي الثَّانِي قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ } وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَى الصَّدَقَةَ عَنْ الْخَضْرَاوَاتِ وَلَيْسَ الزَّكَاةُ مَنْفِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَتَعَيَّنَ الْعُشْرُ ( وَلَهُ مَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ } ( وَمَرْوِيُّهُمَا ) وَهُوَ لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ ( مَحْمُولٌ عَلَى صَدَقَةٍ يَأْخُذُهَا الْعَاشِرُ ) يَعْنِي إذَا مَرَّ بِالْخَضْرَوَاتِ عَلَى الْعَاشِرِ وَأَرَادَ الْعَاشِرُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ عَيْنِهَا لِأَجْلِ الْفُقَرَاءِ عِنْدَ إبَاءِ الْمَالِكِ عَنْ دَفْعِ الْقِيمَةِ لَا يَأْخُذُ ( وَبِهِ ) أَيْ بِهَذَا الْمَرْوِيِّ ( أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ ) فِي حَقِّ هَذَا الْمَحْمَلِ الَّذِي حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا لِأَجْلِ الْفُقَرَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ مِنْ عَيْنِهَا لِيَصْرِفَهُ إلَى عِمَالَتِهِ جَازَ وَإِنَّمَا قُلْنَا عِنْدَ إبَاءِ الْمَالِكِ عَنْ دَفْعِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ إذَا أَعْطَاهُ الْقِيمَةَ لَا كَلَامَ فِي جَوَازِ أَخْذِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَخْذَ ثَبَتَ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ وَلَا نَظَرَ هَاهُنَا لِأَنَّ الْعَاشِرَ فِي الْأَغْلَبِ يَكُونُ نَائِيًا عَنْ الْبَلْدَةِ وَلَا يَجِدُ فَقِيرًا ثَمَّةَ يَصْرِفُهُ إلَيْهِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَبْعَثَ بِهَا إلَى الْبَلَدِ وَرُبَّمَا تَفْسُدُ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْفُقَرَاءِ فَيُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ فَلَا يَأْخُذُ بَلْ يُؤَدِّيهِ الْمَالِكُ بِنَفْسِهِ وَاَلَّذِي يَقْطَعُ هَذِهِ الْمَادَّةَ أَنَّ الْعَالِمَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ وَلَوْ فِي بَعْضِ مُوجِبِهِ أَوْلَى مِنْ الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى الْعَمَلِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي مِقْدَارِ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا رَوَيَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى مَحْمَلٍ آخَرَ وَعَمِلَ بِهِ فِيهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَخَذَ هَذَا الْأَصْلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ عَمِلَ بِالْعَامِّ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ حِينَ أَرَادَ إجْلَاءَ بَنِي النَّضِيرِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } وَأَجَلَاهُمْ وَلَمْ يَتَلَفَّتْ إلَى مَا اعْتَرَضُوا بِهِ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اُتْرُكُوهُمْ وَمَا يَدِينُونَ } كَذَا نَقَلَهُ شَيْخِي عَنْ شَيْخِ شَيْخِهِ رَحِمَهُمُ
اللَّهُ وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْأَرْضَ قَدْ تُسْتَنْمَى ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ عَلَى مُدَّعَاهُ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ السَّبَبَ هِيَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ وَالْأَرْضُ النَّامِيَةُ قَدْ تُسْتَنْمَى بِمَا لَا يَبْقَى فَلَوْ لَمْ يَجِبْ الْعُشْرُ فِيمَا لَا يَبْقَى لَكَانَ قَدْ وُجِدَ السَّبَبُ وَالْخَارِجُ بِلَا شَيْءٍ وَذَلِكَ إخْلَاءٌ لِلسَّبَبِ عَنْ الْحُكْمِ فِي مَوْضِعٍ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ ( وَلِهَذَا يَجِبُ فِيهِ ) أَيْ فِيمَا لَا يَبْقَى مِنْ الْخَارِجِ كَالْخَضْرَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ النَّامِيَةِ بِالْخَارِجِ الَّذِي لَا يَبْقَى عَلَى تَأْوِيلِ الْمَكَانِ .
وَقَوْلُهُ ( أَمَّا الْحَطَبُ ) بَيَانٌ لِمَا اسْتَثْنَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِمَّا أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ وَقَوْلُهُ ( فِي الْجِنَانِ ) أَيْ فِي الْبَسَاتِينِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْحَطَبَ وَالْقَصَبَ وَالْحَشِيشَ وَنَحْوَهَا مِمَّا لَا يُسْتَنْمَى بِهِ الْأَرْضُ لَا عُشْرَ فِيهَا لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْعُشْرِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُنَقَّى عَنْهَا الْبَسَاتِينُ لِأَنَّهَا إذَا غَلَبَتْ عَلَى الْأَرْضِ أَفْسَدَتْهَا فَلَا يَحْصُلُ بِهَا النَّمَاءُ حَتَّى لَوْ اتَّخَذَ الْأَرْضَ مَقْصَبَةً أَوْ مَشْجَرَةً أَوْ مَنْبِتًا لِلْحَشِيشِ وَأَرَادَ بِهِ الِاسْتِنْمَاءَ بِقَطْعِ ذَلِكَ وَبَيْعِهِ وَجَبَ فِيهَا الْعُشْرُ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُرَادُ بِالْمَذْكُورِ الْقَصَبُ الْفَارِسِيُّ ) الْقَصَبُ كُلُّ نَبَاتٍ كَانَ سَاقُهُ أَنَابِيبَ وَكُعُوبًا ، وَالْكَعْبُ الْعُقْدَةُ ، وَالْأُنْبُوبُ مَا بَيْنَ الْكَعْبَيْنِ .
وَأَنْوَاعُ الْقَصَبِ الْفَارِسِيِّ وَهُوَ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ الْأَقْلَامُ وَقَصَبُ الذَّرِيرَةِ ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْهُ مُتَقَارِبُ الْعُقَدِ وَأُنْبُوبُهُ مَمْلُوءٌ مِنْ مِثْلِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ وَفِي مَضْغِهِ حَرَافَةٌ وَمَسْحُوقُهُ عَطِرٌ يُؤْتَى بِهِ مِنْ الْهِنْدِ وَأَجْوَدُهُ الْيَاقُوتِيُّ اللَّوْنِ وَقَصَبُ السُّكَّرِ ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهَا الْقَصَبُ الْفَارِسِيُّ .
وَأَمَّا الْآخَرَانِ فَفِيهِمَا الْعُشْرُ لِأَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِمَا اسْتِغْلَالُ الْأَرْضِ ، بِخِلَافِ السَّعَفِ وَهُوَ وَرَقُ الْجَرِيدِ الَّذِي يُتَّخَذُ
مِنْهُ الْمَرَاوِحُ وَالتِّبْنُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْحَبُّ وَالثَّمَرُ دُونَهُمَا .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْعُشْرُ فِي التِّبْنِ لِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا وَقْتَ كَوْنِ الزَّرْعِ قَصِيلًا وَالتِّبْنُ هُوَ الْقَصِيلُ ذَاتًا إلَّا أَنَّهُ زَادَتْ فِيهِ الْيُبُوسَةُ وَبِهَا لَا يَتَغَيَّرُ الْوَاجِبُ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي التِّبْنِ لِأَنَّ الْعُشْرَ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ إدْرَاكِ الزَّرْعِ فِي السَّاقِ حَتَّى لَوْ قَصَلَهُ وَجَبَ الْعُشْرُ فِي الْقَصِيلِ ، فَإِذَا أَدْرَكَ تَحَوُّلَ الْعُشْرِ مِنْ السَّاقِ إلَى الْحَبِّ كَمَا تَحَوَّلَ الْخَرَاجُ مِنْ الْمُكْنَةِ عِنْدَ التَّعْطِيلِ إلَى الْخَارِجِ عِنْدَ الْخُرُوجِ .
( وَمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ أَوْ دَالِيَةٍ أَوْ سَانِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ) ؛ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ تَكْثُرُ فِيهِ وَتَقِلُّ فِيمَا يُسْقَى بِالسَّمَاءِ أَوْ سَيْحًا وَإِنْ سُقِيَ سَيْحًا وَبِدَالِيَةٍ فَالْمُعْتَبَرُ أَكْثَرُ السَّنَةِ كَمَا مَرَّ فِي السَّائِمَةِ .
( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : فِيمَا لَا يُوسَقُ كَالزَّعْفَرَانِ ، وَالْقُطْنِ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ أَدْنَى مَا يُوسَقُ ) كَالذُّرَةِ فِي زَمَانِنَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّقْدِيرُ الشَّرْعِيُّ فِيهِ فَاعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ كَمَا فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجِبُ الْعُشْرُ إذَا بَلَغَ الْخَارِجُ خَمْسَةَ أَعْدَادٍ مِنْ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ نَوْعُهُ .
فَاعْتُبِرَ فِي الْقُطْنِ خَمْسَةُ أَحْمَالٍ كُلُّ حِمْلٍ ثَلَاثُمِائَةِ مَنٍّ ، وَفِي الزَّعْفَرَانِ خَمْسَةُ أَمْنَاءٍ ) ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْوَسْقِ كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ نَوْعُهُ
قَالَ ( وَمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ أَوْ دَالِيَةٍ ) الْغَرْبُ الدَّلْوُ الْعَظِيمَةُ ، وَالدَّالِيَةُ الْمَنْجَنُونُ تُدِيرُهَا الْبَقَرَةُ .
وَذَكَرَ فِي الْمُغْرِبِ أَنَّ الدَّالِيَةَ جِذْعٌ طَوِيلٌ يُرَكَّبُ تَرْكِيبَ مَدَاقِّ الْأُرْزِ فِي رَأْسِهِ مِغْرَفَةٌ كَبِيرَةٌ يُسْتَقَى بِهَا ، وَالسَّانِيَةُ النَّاقَةُ الَّتِي يُسْتَقَى عَلَيْهَا .
وَقَوْلُهُ ( فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ) أَيْ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عِنْدَهُ يَجِبُ نِصْفُ الْعُشْرِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ النِّصَابِ وَالْبَقَاءِ ، وَعِنْدَهُمَا أَيْضًا نِصْفُ الْعُشْرِ لَكِنْ بِشَرْطِ النِّصَابِ وَالْبَقَاءِ كَمَا بَيَّنَّا ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الدَّلِيلِ ظَاهِرٌ وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : عَلَّلَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَبِكَثْرَتِهَا فِيمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ أَوْ دَالِيَةٍ ، وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ الْخُمُسَ فِي الْغَنَائِمِ وَالْمُؤْنَةُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْهَا فِي الزِّرَاعَةِ ، وَلَكِنَّ هَذَا تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ فَنَتَّبِعُهُ وَنَعْتَقِدُ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ وَإِنْ لَمْ نَقِفْ عَلَيْهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ سُقِيَ سَيْحًا وَبِدَالِيَةٍ ) وَاضِحٌ .
وَإِنَّمَا عَطَفَ الدَّالِيَةَ بِالْبَاءِ لِأَنَّ السَّيْحَ اسْمٌ لِلْمَاءِ دُونَ الدَّالِيَةِ ، فَإِنَّ الدَّالِيَةَ آلَةُ الِاسْتِقَاءِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ سُقِيَ دَالِيَةً لِأَنَّ الدَّالِيَةَ غَيْرُ مُسْقِيَةٍ بَلْ هِيَ آلَةُ السَّقْيِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
وَقَوْلُهُ ( قَالَ أَبُو يُوسُفَ ) قِيلَ : إنَّمَا ابْتَدَأَ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ لَا يَرِدُ إشْكَالٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَقُولُ بِالْعُشْرِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَهُمَا أَثْبَتَا الْحُكْمَ عَلَى قَوْدِ مَذْهَبِهِمَا فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ فِيمَا لَا يُوسَقُ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْوَسْقِ كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ نَوْعُهُ ) لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ أَوَّلًا بِالصَّاعِ ثُمَّ
بِالْكَيْلِ ثُمَّ بِالْوَسْقِ فَكَانَ الْوَسْقُ أَقْصَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ مِنْ مِعْيَارِهِ ، وَأَقْصَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ فِي الْقُطْنِ الْحَمْلُ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ أَوَّلًا بِالْأَسَاتِيرِ ثُمَّ بِالْأَمْنَاءِ ثُمَّ بِالْحَمْلِ فَكَانَ الْحَمْلُ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ .
وَفِي الزَّعْفَرَانِ الْمَنُّ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ أَوَّلًا بِالسَّنَجَاتِ ثُمَّ بِالْأَسَانِينِ ثُمَّ بِالْمَنِّ .
( وَفِي الْعَسَلِ الْعُشْرُ إذَا أُخِذَ مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْحَيَوَانِ فَأَشْبَهَ الْإِبْرَيْسَمَ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي الْعَسَلِ الْعُشْرُ } وَلِأَنَّ النَّحْلَ يَتَنَاوَلُ مِنْ الْأَنْوَارِ وَالثِّمَارِ وَفِيهِمَا الْعُشْرُ فَكَذَا فِيمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُمَا بِخِلَافِ دُودِ الْقَزِّ ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مِنْ الْأَوْرَاقِ وَلَا عُشْرَ فِيهَا .
ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ النِّصَابَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ قِيمَةُ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ .
وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ عَشْرَ قِرَبٍ لِحَدِيثِ { بَنِي شَبَّابَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَدُّونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ } وَعَنْهُ خَمْسَةُ أَمْنَاءٍ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ خَمْسَةُ أَفْرَاقٍ كُلُّ فَرَقٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا ؛ لِأَنَّهُ أَقْصَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ .
وَكَذَا فِي قَصَبِ السُّكَّرِ وَمَا يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ مِنْ الْعَسَلِ وَالثِّمَارِ فَفِيهِ الْعُشْرُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ ، وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ وَهُوَ الْخَارِجُ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي الْعَسَلِ الْعُشْرُ إذَا أُخِذَ مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ ) قَيَّدَ بِأَرْضِ الْعُشْرِ لِأَنَّهُ إذَا أُخِذَ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ لَا عُشْرَ وَلَا خَرَاجَ كَمَا نُبَيِّنُ .
وَقَوْلُهُ ( فَأَشْبَهَ الْإِبْرَيْسَمَ ) يَعْنِي الَّذِي يَكُونُ مِنْ دُودِ الْقَزِّ ( وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ) يَعْنِي بِهِ مَا رَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ إنَّ فِي الْعَسَلِ الْعُشْرَ } ( وَلِأَنَّ النَّحْلَ يَتَنَاوَلُ مِنْ الْأَنْوَارِ وَالثِّمَارِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } ( وَفِيهِمَا الْعُشْرُ فِيمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُمَا ) وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِحَدِيثِ بَنِي شَبَّابَةَ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَنِي سَيَّارَةَ ، وَهُوَ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ بَنِي شَبَّابَةَ قَوْمٌ مِنْ جُرْهُمٍ .
وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ : مِنْ خَثْعَمَ كَانَتْ لَهُمْ نَحْلٌ عَسَّالَةٌ يُؤَدُّونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً وَكَانَ يَحْمِي لَهُمْ وَادِيَهُمْ ، فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُ شَيْئًا فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ النَّحْلَ ذُبَابُ غَيْثٍ يَسُوقُهُ اللَّهُ إلَى مَنْ يَشَاءُ ، فَإِنْ أَدَّوْا إلَيْك مَا كَانُوا يُؤَدُّونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْمِ لَهُمْ وَادِيَهُمْ وَإِلَّا فَخَلِّ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ النَّاسِ ، فَدَفَعُوا إلَيْهِ الْعُشْرَ .
وَالْقِرْبَةُ خَمْسُونَ رِطْلًا .
وَقَوْلُهُ ( كُلُّ فَرَقٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا ) الْفَرَقُ بِفَتْحَتَيْنِ إنَاءٌ يَأْخُذُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَصْوُعٍ ، نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ فِي
التَّهْذِيبِ عَنْ ثَعْلَبٍ وَخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ .
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ : وَالْمُحَدِّثُونَ عَلَى السُّكُونِ وَكَلَامُ الْعَرَبِ عَلَى التَّحْرِيكِ وَفِي الصِّحَاحِ : الْفَرْقُ مِكْيَالٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا .
قَالَ وَقَدْ يُحَرَّكُ .
ثُمَّ قَالَ الْمُطَرِّزِيُّ : قُلْت وَفِي نَوَادِرِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : الْفَرَقُ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا وَلَمْ أَجِدْ هَذَا فِيمَا عِنْدِي مِنْ أُصُولِ اللُّغَةِ ( قَوْلُهُ وَكَذَا فِي قَصَبِ السُّكَّرِ ) أَيْ الْخِلَافُ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي قَصَبِ السُّكَّرِ كَمَا هُوَ فِي الْقُطْنِ وَالزَّعْفَرَانِ فَيُعْتَبَرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِقِيمَةِ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ خَمْسَةِ أَمْنَاءٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( أَنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ وَهُوَ الْخَارِجُ ) يَعْنِي وَلَا مُعْتَبَرَ بِكَوْنِ الْأَرْضِ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ لَهُ لِأَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ إذَا زَرَعَ ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْأَرْضُ مَمْلُوكَةً لَهُ لِمَا أَنَّ الْخَارِجَ سُلِّمَ لَهُ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَكَذَا هَذَا
قَالَ ( وَكُلُّ شَيْءٍ أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ مِمَّا فِيهِ الْعُشْرُ لَا يُحْتَسَبُ فِيهِ أَجْرُ الْعُمَّالِ وَنَفَقَةُ الْبَقَرِ ) ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِتَفَاوُتِ الْوَاجِبِ لِتَفَاوُتِ الْمُؤْنَةِ فَلَا مَعْنَى لِرَفْعِهَا .
( قَوْلُهُ وَكُلُّ شَيْءٍ أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ ) كُلُّ شَيْءٍ أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ مِمَّا فِيهِ الْوَاجِبُ الْعُشْرِيُّ عُشْرًا كَانَ أَوْ نِصْفَهُ لَا يَرْفَعُ الْمُؤْنَةَ مِنْ الْعُشْرِ مِثْلُ أَجْرِ الْعُمَّالِ وَالْبَقَرِ وَكَرْيِ الْأَنْهَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، يَعْنِي لَا يُقَالُ بِعَدَمِ وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي قَدْرِ الْخَارِجِ الَّذِي بِمُقَابَلَةِ الْمُؤْنَةِ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ بَلْ يَجِبُ الْعُشْرُ فِي كُلِّ الْخَارِجِ ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : يَجِبُ النَّظَرُ إلَى قَدْرِ قِيَمِ الْمُؤَنِ مِنْ الْخَارِجِ فَيُسَلَّمُ ذَلِكَ الْقَدْرُ بِلَا عُشْرٍ ثُمَّ يُعَشَّرُ الْبَاقِي لِأَنَّ قَدْرَ الْمُؤَنِ بِمَنْزِلَةِ السَّالِمِ لَهُ بِعِوَضٍ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ سُلِّمَ لَهُ مِنْ الْخَارِجِ بِقَدْرِ مَا عَزَمَ مِنْ نُقْصَانِ الْأَرْضِ فَطَابَ لَهُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ ، وَوَجْهُ قَوْلِنَا إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِتَفَاوُتِ الْوَاجِبِ بِتَفَاوُتِ الْمُؤْنَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : { مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ } ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِرَفْعِهَا مَعْنًى لِأَنَّ رَفْعَهَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ التَّفَاوُتِ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ وَهُوَ بَاطِلٌ ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْخَارِجَ فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ إذَا كَانَ عِشْرِينَ قَفِيزًا فَفِيهِ الْعُشْرُ قَفِيزَانِ ، وَإِذَا كَانَ الْخَارِجُ فِيمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ أَرْبَعِينَ قَفِيزًا ، وَالْمُؤْنَةُ تُسَاوِي عِشْرِينَ قَفِيزًا ، فَإِذَا رُفِعَتْ كَانَ الْوَاجِبُ قَفِيزَيْنِ ، فَلَمْ يَكُنْ تَفَاوُتٌ بَيْنَ مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَبَيْنَ مَا سُقِيَ بِغَرْبٍ وَالْمَنْصُوصُ خِلَافُهُ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا سُقِيَ بِغَرْبٍ فِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمُؤْنَةِ ، وَهَذَا الْحَلُّ مِنْ خَوَاصِّ هَذَا الشَّرْحِ فَلْيُتَأَمَّلْ .
قِيلَ كَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ مِمَّا فِيهِ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُهُمَا ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ الْوَاجِبُ الْعُشْرِيُّ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي
صَدْرِ الْكَلَامِ فَكَأَنَّ الْعُشْرَ صَارَ عَلَمًا لِذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ عُشْرًا لُغَوِيًّا أَوْ نِصْفَهُ .
قَالَ ( تَغْلِبِيٌّ لَهُ أَرْضُ عُشْرٍ عَلَيْهِ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا ) عُرِفَ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ فِيمَا اشْتَرَاهُ التَّغْلِبِيُّ مِنْ الْمُسْلِمِ عُشْرًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْوَظِيفَةَ عِنْدَهُ لَا تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْمَالِكِ ( فَإِنْ اشْتَرَاهَا مِنْهُ ذِمِّيٌّ فَهِيَ عَلَى حَالِهَا عِنْدَهُمْ ) لِجَوَازِ التَّضْعِيفِ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ ( وَكَذَا إذَا اشْتَرَاهَا مِنْهُ مُسْلِمٌ أَوْ أَسْلَمَ التَّغْلِبِيُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) سَوَاءٌ كَانَ التَّضْعِيفُ أَصْلِيًّا أَوْ حَادِثًا ؛ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ صَارَ وَظِيفَةً لَهَا .
فَتَنْتَقِلُ إلَى الْمُسْلِمِ بِمَا فِيهَا كَالْخَرَاجِ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَعُودُ إلَى عُشْرٍ وَاحِدٍ ) لِزَوَالِ الدَّاعِي إلَى التَّضْعِيفِ قَالَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ : قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : اخْتَلَفَتْ النُّسَخُ فِي بَيَانِ قَوْلِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بَقَاءِ التَّضْعِيفِ ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا فِي الْأَصْلِيِّ ؛ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ الْحَادِثَ لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَهُ لِعَدَمِ تَغَيُّرِ الْوَظِيفَةِ
وَقَوْلُهُ ( تَغْلِبِيٌّ ) بِكَسْرِ اللَّامِ مَنْسُوبٌ إلَى بَنِي تَغْلِبَ وَقَوْلُهُ ( عُرِفَ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ) تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قِصَّةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَهُمْ ، وَلَا فَصْلَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مِلْكَهُ فِي الْأَصْلِ أَوْ اشْتَرَاهَا مِنْ مُسْلِمٍ .
( وَعَنْ مُحَمَّدٍ : أَنَّ فِيمَا اشْتَرَاهُ التَّغْلِبِيُّ مِنْ الْمُسْلِمِ عُشْرًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْوَظِيفَةَ عِنْدَهُ لَا تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْمَالِكِ ) فَتَضْعِيفُ الْعُشْرِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَرَاضِي الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهَا .
وَلَهُمَا أَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ نُضَعِّفَ عَلَيْهِمْ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْعُشْرُ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ فَيُضَعَّفُ عَلَيْهِمْ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ اشْتَرَاهَا ) يَعْنِي الْأَرْضَ الَّتِي عَلَيْهَا عُشْرٌ مُضَاعَفٌ مِنْ الْأَصْلِ مِنْ التَّغْلِبِيِّ ( ذِمِّيٌّ فَهِيَ عَلَى حَالِهَا ) مِنْ الْعُشْرِ الْمُضَاعَفِ ( عِنْدَهُمْ لِجَوَازِ التَّضْعِيفِ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ ) فَإِنَّ الذِّمِّيَّ إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالِ الزَّكَاةِ يُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَاهَا مِنْهُ مُسْلِمٌ ) يَعْنِي يَبْقَى عُشْرُهَا مُضَاعَفًا ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ التَّضْعِيفِ الْأَصْلِيِّ وَالْحَادِثِ ( لِأَنَّ التَّضْعِيفَ صَارَ وَظِيفَةً لَهَا فَتَنْتَقِلُ إلَى الْمُسْلِمِ بِمَا فِيهَا كَالْخَرَاجِ ) فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا اشْتَرَى أَرْضًا خَرَاجِيَّةً بَقِيَتْ كَمَا كَانَتْ ، وَكَذَا إذَا أَسْلَمَ صَاحِبُهَا ، وَهَذَا لِأَنَّ بَقَاءَ الْحُكْمِ يُسْتَغْنَى عَنْ بَقَاءِ الْعِلَّةِ كَالرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ بَقِيَا بَعْدَ زَوَالِ الْحَاجَةِ إلَى إظْهَارِ التَّجَلُّدِ ، وَهَاهُنَا بَحْثٌ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ فَيُطْلَبُ ثَمَّةَ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَعُودُ إلَى عُشْرٍ وَاحِدٍ لِزَوَالِ الدَّاعِي إلَى التَّضْعِيفِ ) وَهُوَ الْكُفْرُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّغْلِبِيَّ إذَا كَانَتْ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ
السَّائِمَةِ يَجِبُ فِيهَا شَاتَانِ ، فَإِنْ بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ أَسْلَمَ يُؤْخَذُ مِنْهُ شَاةٌ وَاحِدَةٌ ، وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ أَقْبَلَ لِلتَّحَوُّلِ مِنْ وَصْفٍ إلَى وَصْفٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَالَ التِّجَارَةِ تَبْطُلُ عَنْهُ الزَّكَاةُ بِنِيَّةِ الْقِنْيَةِ وَالسَّوَائِمَ تَبْطُلُ عَنْهَا بِجَعْلِهَا عَلُوفَةً وَالْأَرَاضِيَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( قَالَ فِي الْكِتَابِ ) أَيْ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ الْمَبْسُوطِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْعَوْدُ إلَى عُشْرٍ وَاحِدٍ ( قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ : اخْتَلَفَتْ النُّسَخُ ) أَيْ نُسَخُ الْمَبْسُوطِ ( فِي بَيَانِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ) أَنَّهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ مَعَ أَبِي يُوسُفَ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي بَقَاءِ التَّضْعِيفِ ) عَلَى الْمُسْلِمِ وَمَا بَعْدَهُ ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ .
( وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ لِمُسْلِمٍ بَاعَهَا مِنْ نَصْرَانِيٍّ ) يُرِيدُ بِهِ ذِمِّيًّا غَيْرَ تَغْلِبِيٍّ ( وَقَبَضَهَا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) ؛ لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِحَالِ الْكَافِرِ ( وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا ) وَيُصْرَفُ مَصَارِفَ الْخَرَاجِ اعْتِبَارًا بِالتَّغْلِبِيِّ وَهَذَا أَهْوَنُ مِنْ التَّبْدِيلِ ( وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
هِيَ عُشْرِيَّةٌ عَلَى حَالِهَا ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُؤْنَةً لَهَا فَلَا يَتَبَدَّلُ كَالْخَرَاجِ ، ثُمَّ فِي رِوَايَةٍ : يُصْرَفُ مَصَارِفَ الصَّدَقَاتِ ، وَفِي رِوَايَةٍ : يُصْرَفُ مَصَارِفَ الْخَرَاجِ ( فَإِنْ أَخَذَهَا مِنْهُ مُسْلِمٌ بِالشُّفْعَةِ أَوْ رُدَّتْ عَلَى الْبَائِعِ لِفَسَادِ الْبَيْعِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ كَمَا كَانَتْ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِتَحَوُّلِ الصَّفْقَةِ إلَى الشَّفِيعِ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُسْلِمِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ بِالرَّدِّ وَالْفَسْخِ بِحُكْمِ الْفَسَادِ جَعَلَ الْبَيْعَ كَأَنَّ لَمْ يَكُنْ ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِ لَمْ يَنْقَطِعْ بِهَذَا الشِّرَاءِ لِكَوْنِهِ مُسْتَحِقَّ الرَّدِّ ( وَإِذَا كَانَتْ لِمُسْلِمٍ دَارُ خُطَّةٍ فَجَعَلَهَا بُسْتَانًا فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ ) مَعْنَاهُ إذَا سَقَاهُ بِمَاءِ الْعُشْرِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ تُسْقَى بِمَاءِ الْخَرَاجِ فَفِيهَا الْخَرَاجُ ؛ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ فِي مِثْلِ هَذَا تَدُورُ مَعَ الْمَاءِ
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ لِمُسْلِمٍ بَاعَهَا مِنْ نَصْرَانِيٍّ ) أَيْ ذِمِّيٍّ غَيْرِ تَغْلِبِيٍّ ، وَإِنَّمَا فُسِّرَ بِذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ النَّصْرَانِيِّ وَلَفْظَ الذِّمِّيِّ يَتَنَاوَلَانِ التَّغْلِبِيَّ وَغَيْرَهُ مِنْ النَّصَارَى ، وَذَكَرَ قُبَيْلَ هَذَا بَيْعَ الْمُسْلِمِ مِنْ التَّغْلِبِيِّ فَكَانَ هَذَا مِنْ غَيْرِ تَغْلِبِيٍّ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ وَقَبَضَهَا لِيُعْلَمَ بِهِ تَأَكُّدُ مِلْكِ الذِّمِّيِّ فِيهَا وَتَقَرُّرُ الْأَرْضِ عَلَيْهِ حَتَّى إذَا أَخَذَهَا مُسْلِمٌ بِالشُّفْعَةِ أَوْ رُدَّتْ عَلَى الْبَائِعِ تَبْقَى عُشْرِيَّةً كَمَا كَانَتْ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تَجِيءُ .
وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِحَالِ الْكَافِرِ ) إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ خَرَاجٌ وَعُشْرٌ وَاحِدٌ وَعُشْرٌ مُضَاعَفٌ ، وَالْعُشْرُ الْمُضَاعَفُ يَعْتَمِدُ الصُّلْحَ وَالتَّرَاضِيَ كَمَا فِي التَّغَالِبَةِ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ ، وَالْعُشْرُ الْوَاحِدُ فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ فَتَعَيَّنَ الْخَرَاجُ لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِهِ لِكَوْنِهِ مُؤْنَةً فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالْكَافِرُ أَهْلٌ لَهَا .
وَقَوْلُهُ ( اعْتِبَارٌ بِالتَّغْلِبِيِّ ) يَعْنِي أَنَّ مَا كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ الْمُسْلِمِ إذَا وَجَبَ أَخْذُهُ مِنْ الْكَافِرِ يُضَعَّفُ عَلَيْهِ كَصَدَقَةِ بَنِي تَغْلِبَ ، وَمَا يَمُرُّ بِهِ الذِّمِّيُّ عَلَى الْعَاشِرِ وَهُوَ أَهْوَنُ مِنْ التَّبْدِيلِ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ فِي الْوَصْفِ وَالْخَرَاجُ وَاجِبٌ آخَرُ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ فِي رِوَايَةٍ : يُصْرَفُ مَصَارِفَ الصَّدَقَاتِ ، وَفِي رِوَايَةٍ : يُصْرَفُ مَصَارِفَ الْخَرَاجِ ) وَجْهُ الْأُولَى أَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ تَعَلَّقَ بِهِ فَهُوَ كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُقَاتِلَةِ بِالْأَرَاضِيِ الْخَرَاجِيَّةِ ، وَوَجْهُ الثَّانِيَةِ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ أَنَّ مَا يُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ هُوَ مَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ ، وَمَالُ الْكَافِرِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَيُصْرَفُ مَصَارِفَ الْخَرَاجِ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ أَخَذَهَا مِنْهُ مُسْلِمٌ ) أَيْ : إنْ أَخَذَ الْأَرْضَ