كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي
قَالَ ( فَإِنْ غَصَبَ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا فَخَلَّلَهَا إلَخْ ) مَنْ غَصَبَ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا فَخَلَّلَهَا أَوْ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَدَبَغَهُ فَكُلٌّ مِنْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ ، لِأَنَّ التَّخْلِيلَ أَوْ الدِّبَاغَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِخَلْطِ شَيْءٍ وَبِمَا لَهُ قِيمَةٌ أَوْ لَا ، فَإِنْ خُلِّلَ بِغَيْرِ شَيْءٍ بِالنَّقْلِ مِنْ الشَّمْسِ إلَى الظِّلِّ وَمِنْهُ إلَيْهَا ، أَوْ دُبِغَ بِالْقَرَظِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ وَرَقُ السَّلَمِ وَالْعَفْصِ وَنَحْوِهِمَا ، فَإِمَّا أَنْ يَكُون الْخَلُّ وَالْجِلْدُ بَاقِيَيْنِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَا بَاقِيَيْنِ أَخَذَ الْمَالِكُ الْخَلَّ بِلَا شَيْءٍ وَأَخَذَ الْجِلْدَ وَرَدَّ عَلَيْهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ .
وَطَرِيقُ عِلْمِهِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى قِيمَتِهِ ذَكِيًّا غَيْرَ مَدْبُوغٍ وَإِلَى قِيمَتِهِ مَدْبُوغًا فَيَضْمَنُ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا ، وَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَحَقِّ الْحَبْسِ فِي الْمَبِيعِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ نَيِّرٌ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا بَاقِيَيْنِ ، فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُمَا الْغَاصِبُ ضَمِنَ الْخَلَّ وَلَمْ يَضْمَنْ الْجِلْدَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَا : يَضْمَنُ الْجِلْدَ مَدْبُوغًا وَيُعْطِي مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ ، وَإِنْ هَلَكَا فِي يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَالْمُجْمَعُ عَلَيْهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ لِأَنَّ دَلِيلَهُ الْإِجْمَاعُ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ ضَمِنَ فَلَا وَجْهَ لِضَمَانِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْغَصْبِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ يَوْمَئِذٍ ، وَلَا لِضَمَانِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْهَلَاكِ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا بِفِعْلٍ مَوْصُوفٍ بِالتَّعَدِّي وَالْفَرْضُ عَدَمُهُ ( وَقَوْلُهُ أَمَّا الْخَلُّ ) دَلِيلُ صُورَةِ الِاسْتِهْلَاكِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ( وَأَمَّا الْجِلْدُ فَلَهُمَا أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ ) قَالَ الْقُدُورِيُّ : يَعْنِي إذَا غَصَبَ الْجِلْدَ مِنْ مَنْزِلِهِ ، فَأَمَّا إذَا أَلْقَاهُ صَاحِبُهُ فِي الطَّرِيقِ فَأَخَذَهُ رَجُلٌ فَدَبَغَهُ
فَلَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَأْخُذَهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا .
وَإِذَا كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ ( وَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ) وَقَدْ اسْتَهْلَكَهُ ( يَضْمَنُهُ وَيُعْطِيهِ الْمَالِكُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ يَضْمَنُهُ وَيُعْطِيهِ الْمَالِكُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ ) وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ نَفْسَ الْغَصْبِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُوجِبُ الضَّمَانَ بِخِلَافِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ وَاجِبُ الرَّدِّ ) دَلِيلٌ آخَرُ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْجِلْدَ لَوْ كَانَ قَائِمًا وَجَبَ عَلَى الْغَاصِبِ رَدُّهُ ، فَإِذَا فَوَّتَ الرَّدَّ خَلَفَهُ قِيمَتُهُ كَمَا فِي الْمُسْتَعَارِ يَضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ لَا الْهَلَاكِ ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْهَلَاكَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا تَفْوِيتَ مِنْهُ هُنَاكَ .
قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَغَيْرُهُ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : قَوْلُهُمَا يُعْطِي مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْجِنْسِ : يَعْنِي أَنَّ الْقَاضِيَ قَوَّمَ الْجِلْدَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدِّبَاغَ بِالدَّنَانِيرِ ، فَيَضْمَنُ الْغَاصِبُ الْقِيمَةَ وَيَأْخُذُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ ، أَمَّا إذَا قَوَّمَهُمَا بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِالدَّنَانِيرِ فَيُطْرَحُ عَنْهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْبَاقِي لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْأَخْذِ مِنْهُ ثُمَّ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجِلْدَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ بِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُ التَّقَوُّمُ بِصَنْعَةِ الْغَاصِبِ وَصَنْعَتُهُ مُتَقَوِّمَةٌ لِاسْتِعْمَالِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِيهِ ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا زَادَ الدِّبَاغُ ، فَكَانَ التَّقَوُّمُ حَقًّا لِلْغَاصِبِ وَكَانَ الْجِلْدُ تَابِعًا لِصَنْعَةِ الْغَاصِبِ فِي حَقِّ التَّقَوُّمِ ، ثُمَّ الْأَصْلُ وَهُوَ الصَّنْعَةُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ فَكَذَا التَّابِعُ لِئَلَّا يَلْزَمَ مُخَالَفَةُ التَّبَعِ أَصْلَهُ ، كَمَا إذَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ فَإِنَّ عَدَمَ
الضَّمَانِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَصْلَ وَهُوَ الصَّنْعَةُ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَكَذَلِكَ الْجِلْدُ ، وَإِلَّا فَالْغَصْبُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فِي الْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الرَّدِّ إلَخْ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَلِأَنَّهُ وَاجِبُ الرَّدِّ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ وُجُوبَ الرَّدِّ حَالَ قِيَامِهِ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْمِلْكَ ، وَالْجِلْدُ غَيْرُ تَابِعٍ لِلصَّنْعَةِ فِي حَقِّ الْمِلْكِ لِثُبُوتِهِ قَبْلَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا وَالْحَاصِلُ أَنَّ الضَّمَانَ يَعْتَمِدُ التَّقَوُّمَ وَالْأَصْلُ فِيهِ الصَّنْعَةُ وَهِيَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فَكَذَا مَا يَتْبَعُهَا وَالرَّدُّ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ وَالْجِلْدُ فِيهِ أَصْلٌ لَا تَابِعٌ فَوَجَبَ رَدُّهُ وَتَتْبَعُهُ الصَّنْعَةُ .
قَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الذَّكِيِّ وَالثَّوْبِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا كَمَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا وَأَقْحَمَ الذَّكِيَّ اسْتِظْهَارًا لِأَنَّ التَّقَوُّمَ فِيهِمَا : أَيْ فِي الذَّكِيِّ وَالثَّوْبِ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الدَّفْعِ وَالصَّبْغِ فَلَمْ يَكُنْ تَابِعًا لِلصَّنْعَةِ ، وَالتَّقَوُّمُ يُوجِبُ الضَّمَانَ ( وَلَوْ كَانَ ) الْجِلْدُ ( قَائِمًا فَأَرَادَ الْمَالِكُ أَنْ نَتْرُكَهُ عَلَى الْغَاصِبِ فِي هَذَا الْوَجْهِ ) أَيْ الَّذِي كَانَ الدِّبَاغُ فِيهِ بِشَيْءٍ مُتَقَوِّمٍ ( وَيُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ قِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ) بِلَا خِلَافٍ ( لِأَنَّ الْجِلْدَ لَا قِيمَةَ لَهُ ، بِخِلَافِ صَبْغِ الثَّوْبِ لِأَنَّ لَهُ قِيمَةً .
وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَهُ ذَلِكَ ) وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَهُ ) دَلِيلُ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ لَا دَلِيلُ الْمُخَالِفِينَ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ إذَا تَرَكَ الْجِلْدَ عَلَى الْغَاصِبِ وَضَمِنَهُ عَجَزَ الْغَاصِبُ عَنْ رَدِّهِ فَصَارَ كَالِاسْتِهْلَاكِ ، وَهُوَ أَيْ الِاسْتِهْلَاكُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْعَجْزَ فِي الِاسْتِهْلَاكِ لِأَمْرٍ مِنْ جِهَةِ الْغَاصِبِ وَفِيمَا تَرَكَهُ وَضَمِنَهُ الْقِيمَةُ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ التَّضْمِينِ فِي صُورَةٍ تَعَدَّى فِيمَا
الْغَاصِبُ جَوَازُهُ فِيمَا لَيْسَ كَذَلِكَ .
ثُمَّ اخْتَلَفَ فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ عَلَى قَوْلِهِمَا فَقِيلَ يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ جِلْدٍ مَدْبُوغٍ وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ كَمَا فِي صُورَةِ الِاسْتِهْلَاكِ .
وَقِيلَ قِيمَةُ جِلْدٍ ذَكِيٍّ غَيْرِ مَدْبُوغٍ ، هَذَا كُلُّهُ إذَا دُبِغَ بِمَا لَهُ قِيمَةٌ وَخُلِّلَ بِغَيْرِ خَلْطِ شَيْءٍ أَمَّا إذَا دَبَغَهُ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ كَالتُّرَابِ وَالشَّمْسِ فَهُوَ لِصَاحِبِهِ بِلَا شَيْءٍ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِ الثَّوْبِ وَهُوَ لَا يُزِيلُ مِلْكَ الْمَالِكِ .
وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْغَاصِبُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّهُ صَارَ مَالًا عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ وَلَا حَقَّ لِلْغَاصِبِ فِيهِ ، فَكَانَتْ الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ جَمِيعًا حَقَّ الْمَالِكِ فَيَضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ فَقِيلَ : ضَمِنَ قِيمَتَهُ مَدْبُوغًا ، وَقِيلَ طَاهِرًا غَيْرَ مَدْبُوغٍ .
وَقَدْ ذُكِرَ وَجْهُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَإِذَا خَلَّلَ الْخَمْرَ بِإِلْقَاءِ الْمِلْحِ فِيهِ قَالَ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : صَارَ الْخَلُّ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَعِنْدَهُمَا أَخَذَهُ الْمَالِكُ وَأَعْطَى مَا زَادَ الْمِلْحُ فِيهِ كَمَا فِي دِبَاغِ الْجِلْدِ .
وَقَوْلُهُ ( قَالُوا ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ ثَمَّةَ قَوْلًا آخَرَ ، وَهُوَ مَا قِيلَ إنَّ هَذَا وَالْأَوَّلَ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْمِلْحَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ فَلَا يُعْتَبَرُ ، وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ سِوَى أَلْفَاظٍ يُشِيرُ إلَيْهَا قَوْلُهُ ( فَهُوَ عَلَى مَا قِيلَ وَقِيلَ ) بِتَكْرِيرٍ قِيلَ إشَارَةٌ إلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي دَبْغِ الْجِلْدِ ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَلَوْ كَانَ قَائِمًا فَأَرَادَ الْمَالِكُ ، إلَى أَنْ قَالَ : قِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ ) أَيْ أَصْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّ أَصْلَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا أَنَّ خَلْطَ
الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ عِنْدَهُمَا وَحِينَئِذٍ كَانَ الْخَلُّ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ، فَإِذَا أَتْلَفَهُ فَقَدْ أَتْلَفَ حَقَّ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ فَيَضْمَنُ خَلًّا مِثْلَ خَلِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ لِلْغَاصِبِ فِي الْوَجْهَيْنِ ) يَعْنِي مَا إذَا صَارَتْ خَلًّا مِنْ سَاعَتِهِ أَوْ بَعْدَ زَمَانٍ ، وَقَوْلُهُ ( أَجْرَوْا جَوَابَ الْكِتَابِ ) يَعْنِي الْجَامِعَ الصَّغِيرَ وَهُوَ قَوْلُهُ لِصَاحِبِ الْخَمْرِ أَنْ يَأْخُذَ الْخَلَّ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَمَعْنَاهُ أَنَّ بَعْضَهُمْ حَمَلُوهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ التَّخْلِيلُ بِغَيْرِ شَيْءٍ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَبَعْضُهُمْ أَجْرَوْهُ عَلَى إطْلَاقِهِ وَقَالُوا لِلْمَالِكِ أَنْ يَأْخُذَ الْخَلَّ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا ، وَهِيَ التَّخْلِيلُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَالتَّخْلِيلُ بِإِلْقَاءِ الْمِلْحِ وَالتَّخْلِيلُ بِصَبِّ الْخَلِّ فِيهِ لِأَنَّ الْمُلْقَى فِيهِ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا فِي الْخَمْرِ فَلَمْ يَبْقَ مُتَقَوِّمًا .
قَالَ ( وَمَنْ كَسَرَ لِمُسْلِمٍ بَرْبَطًا أَوْ طَبْلًا أَوْ مِزْمَارًا أَوْ دُفًّا أَوْ أَرَاقَ لَهُ سَكَرًا أَوْ مُنَصَّفًا فَهُوَ ضَامِنٌ ، وَبَيْعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ جَائِزٌ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَا يَضْمَنُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا .
وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ فِي الدُّفِّ وَالطَّبْلِ الَّذِي يُضْرَبُ لِلَّهْوِ .
فَأَمَّا طَبْلُ الْغُزَاةِ وَالدُّفُّ الَّذِي يُبَاحُ ضَرْبُهُ فِي الْعُرْسِ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ .
وَقِيلَ الْفَتْوَى فِي الضَّمَانِ عَلَى قَوْلِهِمَا .
وَالسَّكَرُ اسْمٌ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الرُّطَبِ إذَا اشْتَدَّ .
وَالْمُنَصَّفُ مَا ذَهَبَ نِصْفُهُ بِالطَّبْخِ .
وَفِي الْمَطْبُوخِ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَهُوَ الْبَاذَقُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ فِي التَّضْمِينِ وَالْبَيْعِ .
لَهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أُعِدَّتْ لِلْمَعْصِيَةِ فَبَطَلَ تَقَوُّمُهَا كَالْخَمْرِ ، وَلِأَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ بِأَمْرِ الشَّرْعِ فَلَا يَضْمَنُهُ كَمَا إذَا فَعَلَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا أَمْوَالٌ لِصَلَاحِيَّتِهَا لِمَا يَحِلُّ مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ وَإِنْ صَلُحَتْ لِمَا لَا يَحِلُّ فَصَارَ كَالْأَمَةِ الْمُغَنِّيَةِ .
وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ فَلَا يُوجِبُ سُقُوطَ التَّقَوُّمِ ، وَجَوَازُ الْبَيْعِ وَالتَّضْمِينِ مُرَتَّبَانِ عَلَى الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ بِالْيَدِ إلَى الْأُمَرَاءِ لِقُدْرَتِهِمْ وَبِاللِّسَانِ إلَى غَيْرِهِمْ ، وَتَجِبُ قِيمَتُهَا غَيْرُ صَالِحَةٍ لِلَّهْوِ كَمَا فِي الْجَارِيَةِ الْمُغَنِّيَةِ وَالْكَبْشِ النَّطُوحِ وَالْحَمَامَةِ الطَّيَّارَةِ وَالدِّيكِ الْمُقَاتِلِ وَالْعَبْدِ الْخَصِيِّ تَجِبْ الْقِيمَةُ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِهَذِهِ الْأُمُورِ ، كَذَا هَذَا ، وَفِي السَّكَرِ وَالْمُنَصَّفِ تَجِبُ قِيمَتُهُمَا ، وَلَا يَجِبُ الْمِثْلُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمَلُّكِ عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ لَوْ فَعَلَ جَازَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَتْلَفَ عَلَى نَصْرَانِيٍّ صَلِيبًا حَيْثُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ صَلِيبًا ؛ لِأَنَّهُ مُقَرٌّ
عَلَى ذَلِكَ .قَالَ ( وَمَنْ كَسَرَ لِمُسْلِمٍ بَرْبَطًا أَوْ طَبْلًا ) قَالَ فِي جَامِعِ الصَّغِيرِ : وَمَنْ كَسَرَ لِمُسْلِمٍ بَرْبَطًا وَهُوَ آلَةٌ مِنْ آلَاتِ الطَّرَبِ وَالطَّبْلُ وَالْمِزْمَارُ وَالدُّفُّ مَعْرُوفَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( أَهَرَاقَ لَهُ سَكَرًا ) أَيْ صَبَّهُ ، يُقَالُ فِيهِ هَرَاقَ يُهَرِيق بِتَحْرِيكِ الْهَاءِ ، وَأَهْرَاق يُهْرِيقُ بِسُكُونِهَا ، وَالْهَاءُ فِي الْأَوَّلِ بَدَلٌ عَنْ الْهَمْزَةِ وَفِي الثَّانِي زَائِدَةٌ ، وَكَلَامُهُ إلَى آخِرِهِ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُدَبَّرَةً فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ ضَمِنَ قِيمَةَ الْمُدَبَّرَةِ وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ أُمِّ الْوَلَدِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَضْمَنُ قِيمَتَهُمَا ؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ الْمُدَبَّرَةِ مُتَقَوِّمَةٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَمَالِيَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا مُتَقَوِّمَةٌ ، وَالدَّلَائِلُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ .
الشُّفْعَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الشَّفْعِ وَهُوَ الضَّمُّ ، سُمِّيَتْ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ ضَمِّ الْمُشْتَرَاةِ إلَى عَقَارِ الشَّفِيعِ .( كِتَابُ الشُّفْعَةِ ) وَجْهُ مُنَاسَبَةِ الشُّفْعَةِ بِالْغَصْبِ تَمَلُّكُ الْإِنْسَانِ مَالَ غَيْرِهِ بِلَا رِضَاهُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا .
وَالْحَقُّ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ لِكَوْنِهَا مَشْرُوعَةً دُونَهُ ، لَكِنْ تَوَفُّرُ الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَتِهِ لِلِاحْتِرَازِ مَعَ كَثْرَتِهِ بِكَثْرَةِ أَسْبَابِهِ مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْبِيَاعَاتِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْإِجَارَاتِ وَالشَّرِكَاتِ وَالْمُزَارَعَاتِ أَوْجَبَ تَقْدِيمَهَا .
وَسَبَبُهَا اتِّصَالُ مِلْكِ الشَّفِيعِ بِمِلْكِ الْمُشْتَرِي .
وَشَرْطُهَا كَوْنُ الْمَبِيعِ عَقَارًا وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الشَّفْعِ وَهُوَ الضَّمُّ ، سُمِّيَتْ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ ضَمِّ الْمُشْتَرَاةِ إلَى عَقَارِ الشَّفِيعِ .
وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ تَمَلُّكِ الْمَرْءِ مَا اتَّصَلَ بِعَقَارِهِ مِنْ الْعَقَارِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِشَرِكَةٍ أَوْ جِوَارٍ .
قَالَ ( الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ لِلْخَلِيطِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ ثُمَّ لِلْخَلِيطِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ كَالشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ ثُمَّ لِلْجَارِ ) أَفَادَ هَذَا اللَّفْظُ ثُبُوتَ حَقِّ الشُّفْعَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَفَادَ التَّرْتِيبَ ، أَمَّا الثُّبُوتُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشُّفْعَةُ لِشَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ وَالْأَرْضِ ، يَنْتَظِرُ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا سَقَبُهُ ؟ قَالَ شُفْعَتُهُ } وَيُرْوَى { الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ } .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا شُفْعَةَ بِالْجِوَارِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمُ ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطَّرِيقُ فَلَا شُفْعَةَ } وَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَمَلُّكِ الْمَالِ عَلَى الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ تَلْزَمُهُ فِي الْأَصْلِ دُونَ الْفَرْعِ ، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ مِلْكَهُ مُتَّصِلٌ بِمِلْكِ الدَّخِيلِ اتِّصَالَ تَأْبِيدٍ وَقَرَارٍ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَاوَضَةِ بِالْمَالِ اعْتِبَارًا بِمَوْرِدِ الشَّرْعِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الِاتِّصَالَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ إنَّمَا انْتَصَبَ سَبَبًا فِيهِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ ، إذْ هُوَ مَادَّةُ الْمَضَارِّ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَقَطْعُ هَذِهِ الْمَادَّةِ بِتَمَلُّكِ الْأَصْلِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي حَقِّهِ بِإِزْعَاجِهِ عَنْ خُطَّةِ آبَائِهِ أَقْوَى ، وَضَرَرُ الْقِسْمَةِ مَشْرُوعٌ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِتَحْقِيقِ ضَرَرِ غَيْرِهِ .
وَأَمَّا التَّرْتِيبُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنْ الْخَلِيطِ ، وَالْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ الشَّفِيعِ } فَالشَّرِيكُ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ وَالْخَلِيطُ فِي
حُقُوقِ الْمَبِيعِ وَالشَّفِيعُ هُوَ الْجَارُ .
وَلِأَنَّ الِاتِّصَالَ بِالشَّرِكَةِ فِي الْمَبِيعِ أَقْوَى ؛ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ جُزْءٍ ، وَبَعْدَهُ الِاتِّصَالُ فِي الْحُقُوقِ ؛ لِأَنَّهُ شَرِكَةٌ فِي مَرَافِقِ الْمِلْكِ ، وَالتَّرْجِيحُ يَتَحَقَّقُ بِقُوَّةِ السَّبَبِ ، وَلِأَنَّ ضَرَرَ الْقِسْمَةِ إنْ لَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً صَلَحَ مُرَجِّحًا .
قَالَ ( الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ لِلْخَلِيطِ إلَخْ ) الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ : أَيْ ثَابِتَةٌ لِلْخَلِيطِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ : أَيْ لِلشَّرِيكِ ثُمَّ لِلْخَلِيطِ فِي حَقِّهِ كَالشَّرَابِ وَالطَّرِيقِ ، ثُمَّ لِلْجَارِ : يَعْنِي الْمُلَاصِقَ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( أَفَادَ هَذَا اللَّفْظُ ثُبُوتَ حَقِّ الشُّفْعَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَفَادَ التَّرْتِيبَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْأَوَّلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الشُّفْعَةُ لِشَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ } ) أَيْ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ إذَا كَانَتْ الدَّارُ مُشْتَرَكَةً فَبَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، أَمَّا إذَا بَاعَ بَعْدَهَا فَلَمْ يَبْقَ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ حَقٌّ لَا فِي الْمَدْخَلِ وَلَا فِي نَفْسِ الدَّارِ فَحِينَئِذٍ لَا شُفْعَةَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ وَالْأَرْضُ يَنْتَظِرُ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا } وَالْمُرَادُ بِالْجَارِ الشَّرِيكُ فِي حَقِّ الدَّارِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ إنْ كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا ، وَقَوْلُهُ يَنْتَظِرُ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا يَعْنِي يَكُونُ عَلَى شُفْعَتِهِ مُدَّةَ غَيْبَتِهِ ، إذْ لَا تَأْثِيرَ لِلْغَيْبَةِ فِي إبْطَالِ حَقٍّ تَقَرَّرَ سَبَبُهُ .
قِيلَ مَعْنَاهُ أَحَقُّ بِهِ عَرْضًا عَلَيْهِ لِلْبَيْعِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ فَسَّرَ الْحَقَّ بِالِانْتِظَارِ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَهُ أَحَقَّ عَلَى الْإِطْلَاقِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَبَعْدَهُ .
وَقَوْلُهُ يَنْتَظِرُ تَفْسِيرٌ لِبَعْضِ مَا شَمَلَهُ كَلِمَةُ " أَحَقُّ " وَهُوَ كَوْنُهُ عَلَى شُفْعَتِهِ مُدَّةَ الْغَيْبَةِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ .
قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا سَقَبُهُ ؟ قَالَ : شُفْعَتُهُ } وَفِي رِوَايَةٍ { الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ } وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ وَالثَّانِي لِلشَّرِيكِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ ، وَالثَّالِثُ لِلْجَارِ ( وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا شُفْعَةَ لِلْجَارِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ } ) .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّامَ لِلْجِنْسِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ } فَتَنْحَصِرُ الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ : يَعْنِي إذَا كَانَ قَابِلًا لِلْقِسْمَةِ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ عِنْدَهُ ، وَأَنَّهُ قَالَ { فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ } وَفِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى عَدَمِ الشُّفْعَةِ فِي الْمَقْسُومِ وَالشَّرِيكُ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ وَالْجَارِ حَقُّ كُلٍّ مِنْهُمَا مَقْسُومٌ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ .
قَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ ) دَلِيلٌ لَهُ مَعْقُولٌ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَمَلُّكِ الْمَالِ عَلَى الْغَيْرِ بِلَا رِضَاهُ ، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَثْبُتَ حَقُّ الشُّفْعَةِ أَصْلًا ، لَكِنْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ قِيَاسًا أَصْلًا ، وَلَا دَلَالَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ( وَهَذَا ) أَيْ الْجَارُ : يَعْنِي شُفْعَةَ الْجَارِ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ ، لِأَنَّ ثُبُوتَهَا فِيهِ لِضَرُورَةِ دَفْعِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ الَّتِي تَلْزَمُهُ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الْأَصْلِ ) أَيْ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ ، وَلَا مُؤْنَةَ عَلَيْهِ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ الْمَقْسُومُ ، وَيُفْهَمُ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ أَنَّ نِزَاعَهُ لَيْسَ فِي الْجَارِ وَحْدَهُ بَلْ فِيهِ وَفِي الشَّرِيكِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ لِأَنَّهُ مَقْسُومٌ أَيْضًا ، وَفِيمَا لَمْ يَحْتَمِلْ الْقِسْمَةَ كَالْبِئْرِ وَالْحَمَّامِ ( وَلَنَا مَا رَوَيْنَا ) مِنْ الْأَحَادِيثِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَأَبُو دَاوُد ( وَلِأَنَّ مِلْكَ الشَّفِيعِ مُتَّصِلٌ بِمِلْكِ الدَّخِيلِ اتِّصَالَ تَأْبِيدٍ وَقَرَارٍ ) وَهُوَ ظَاهِرٌ ، لِأَنَّهُ الْمَفْرُوضُ .
وَقَوْلُهُ تَأْبِيدٍ احْتِرَازٌ عَنْ الْمَنْقُولِ وَالسُّكْنَى بِالْعَارِيَّةِ .
وَقَوْلُهُ وَقَرَارٍ احْتِرَازٌ عَنْ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا فَإِنَّهُ لَا قَرَارَ لَهُ لِوُجُوبِ النَّقْضِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَلَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَارَضَةِ بِالْمَالِ وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الْإِجَارَةِ وَالْمَرْهُونَةِ وَالْمَجْعُولَةِ مَهْرًا اعْتِبَارًا : أَيْ إلْحَاقًا بِالدَّلَالَةِ بِمَوْرِدِ الشَّرْعِ وَهُوَ مَا لَا يُقْسَمُ ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ ( لِأَنَّ الِاتِّصَالَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ ) يَعْنِي اتِّصَالَ التَّأْبِيدِ وَالْقَرَارِ ( إنَّمَا انْتَصَبَ سَبَبًا فِي مَوْرِدِ الشَّرْعِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ إذْ الْجِوَارُ مَادَّةُ الْمَضَارِّ ) مِنْ إيقَادِ النَّارِ وَإِثَارَةِ الْغُبَارِ وَمَنْعِ ضَوْءِ النَّهَارِ وَإِعْلَاءِ الْجِدَارِ لِلِاطِّلَاعِ عَلَى الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ ( وَقَطْعُ هَذِهِ الْمَادَّةِ بِتَمَلُّكِ الْأَصْلِ ) يَعْنِي الشَّفِيعَ ( أَوْلَى لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي حَقِّهِ بِإِزْعَاجِهِ عَنْ خُطَّةِ آبَائِهِ أَقْوَى ) فَيُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَصِيلَ دَافِعٌ وَالدَّخِيلَ رَافِعٌ وَالدَّفْعُ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ ( قَوْلُهُ وَضَرَرُ الْقِسْمَةِ مَشْرُوعٌ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ تَلْزَمُهُ جَعَلَ الْعِلَّةَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ عِنْدَ الْبَيْعِ لُزُومَ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْخُذْ الشَّفِيعُ الْمَبِيعَ بِالشُّفْعَةِ طَالَبَهُ الْمُشْتَرِي بِالْقِسْمَةِ فَيَلْحَقُهُ بِسَبَبِهِ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ وَذَلِكَ ضَرَرٌ بِهِ فَمَكَّنَهُ الشَّرْعُ مِنْ أَخْذِ الشُّفْعَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ .
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ لَا يَصْلُحُ عِلَّة لِتَحْقِيقِ ضَرَرِ غَيْرِهِ وَهُوَ التَّمَلُّكُ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَوَابَ عَنْ
اسْتِدْلَالِهِ بِالْحَدِيثِ لِأَنَّهُ فِي حَيِّزِ التَّعَارُضِ .
وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ } مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ ، وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ ، وَبِأَنَّ قَوْلَهُ " فَإِنْ وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ " مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ عَدَمَ الشُّفْعَةِ بِالْأَمْرَيْنِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَلَمْ تُصْرَفْ الطُّرُقُ بِأَنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاحِدًا تَجِبُ الشُّفْعَةُ ، وَإِنَّمَا نَفْيُ الشُّفْعَةِ فِي هَذَا الصُّورَةِ لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الْإِشْكَالِ ، لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ ، فَرُبَّمَا يُشْكِلُ أَنَّهُ هَلْ يَسْتَحِقُّ بِهَا الشُّفْعَةَ أَوْ لَا ، فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَمَ الشُّفْعَةِ فِيهَا ( الدَّلِيلُ عَلَى الثَّانِي ) أَعْنِي عَلَى التَّرْتِيبِ ( قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنْ الْخَلِيطِ ، وَالْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ الشَّفِيعِ } ) قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( فَالشَّرِيكُ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ وَالْخَلِيطُ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ وَالشَّفِيعُ هُوَ الْجَارُ ) وَدَلَالَتُهُ عَلَى التَّرْتِيبِ غَيْرُ خَافِيَةٍ ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَلِأَنَّ الِاتِّصَالَ ) دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَكَذَا قَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ ضَرَرَ الْقِسْمَةِ ) يَعْنِي قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ دَفْعَ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ لَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ ، لَكِنَّهُ إنْ لَمْ يَصْلُحْ عِلَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ صَلَحَ مُرَجِّحًا ، لِأَنَّ التَّرْجِيحَ أَبَدًا إنَّمَا يَقَعُ بِمَا لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ .
قَالَ ( وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ وَالشِّرْبِ وَالْجَارِ شُفْعَةٌ مَعَ الْخَلِيطِ فِي الرَّقَبَةِ ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مُقَدَّمٌ .
قَالَ ( فَإِنْ سُلِّمَ فَالشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ ، فَإِنْ سُلِّمَ أَخَذَهَا الْجَارُ ) لِمَا بَيَّنَّا مِنْ التَّرْتِيبِ ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْجَارُ الْمُلَاصِقُ ، وَهُوَ الَّذِي عَلَى ظَهْرِ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ وَبَابُهُ فِي سِكَّةٍ أُخْرَى .
عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَعَ وُجُودِ الشَّرِيكِ فِي الرَّقَبَةِ لَا شُفْعَةَ لِغَيْرِهِ سَلَّمَ أَوْ اسْتَوْفَى ؛ لِأَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ بِهِ .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ السَّبَبَ تَقَرَّرَ فِي حَقِّ الْكُلِّ ، إلَّا أَنَّ لِلشَّرِيكِ حَقُّ التَّقَدُّمِ ، فَإِذَا سَلَّمَ كَانَ لِمَنْ يَلِيهِ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الصِّحَّةِ مَعَ دَيْنِ الْمَرَضِ ، وَالشَّرِيكُ فِي الْمَبِيعِ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضٍ مِنْهَا كَمَا فِي مَنْزِلٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الدَّارِ أَوْ جِدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ فِي مَنْزِلٍ ، وَكَذَا عَلَى الْجَارِ فِي بَقِيَّةِ الدَّارِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَهُ أَقْوَى وَالْبُقْعَةَ وَاحِدَةٌ .
ثُمَّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ أَوْ الشِّرْبُ خَاصًّا حَتَّى تَسْتَحِقَّ الشُّفْعَةُ بِالشَّرِكَةِ فِيهِ فَالطَّرِيقُ الْخَاصُّ أَنْ لَا يَكُونَ نَافِذًا ، وَالشِّرْبُ الْخَاصُّ أَنْ يَكُونَ نَهْرًا لَا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ وَمَا تَجْرِي فِيهِ فَهُوَ عَامٌّ .
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْخَاصَّ أَنْ يَكُونَ نَهْرًا يُسْقَى مِنْهُ قَرَاحَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ عَامٌّ ، وَإِنْ كَانَتْ سِكَّةٌ غَيْرَ نَافِذَةٍ يَتَشَعَّبُ مِنْهَا سِكَّةٌ غَيْرُ نَافِذَةٍ وَهِيَ مُسْتَطِيلَةٌ فَبِيعَتْ دَارٌ فِي السُّفْلَى فَلِأَهْلِهَا الشُّفْعَةُ خَاصَّةً دُونَ أَهْلِ الْعُلْيَا ، وَإِنْ بِيعَتْ لِلْعُلْيَا فَلِأَهْلِ السِّكَّتَيْنِ ، وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي .
وَلَوْ كَانَ نَهْرٌ صَغِيرٌ يَأْخُذُ مِنْهُ نَهْرٌ أَصْغَرُ مِنْهُ فَهُوَ عَلَى قِيَاسِ الطَّرِيقِ فِيمَا بَيَّنَّاهُ .
قَالَ ( وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ وَالشِّرْبِ إلَخْ ) إذَا ثَبَتَ التَّرْتِيبُ ثَبَتَ أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ إلَّا إذَا سَلَّمَ الْمُتَقَدِّمَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، فَإِنْ سَلَّمَ فَلِلْمُتَأَخِّرِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَقَرَّرَ فِي حَقِّ الْكُلِّ ، إلَّا أَنَّ لِلشَّرِيكِ حَقَّ التَّقَدُّمِ ، لَكِنْ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْجَارُ طَلَبَ الشُّفْعَةَ مَعَ الشَّرِيكِ إذَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ لِيُمْكِنَهُ الْأَخْذُ إذَا سَلَّمَ الشَّرِيكُ ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ حَتَّى سَلَّمَ الشَّرِيكُ فَلَا حَقَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ جَعَلَ الْمُتَقَدِّمَ حَاجِبًا ، فَلَا فَرْقَ إذْ ذَاكَ بَيْنَ الْأَخْذِ وَالتَّسْلِيمِ ، وَالشَّرِيكُ فِي الْبَيْعِ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضٍ مِنْهَا كَمَا فِي مَنْزِلٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الدَّارِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي دَارٍ كَبِيرَةٍ بُيُوتٌ وَفِي بَيْتٍ مِنْهَا شَرِكَةٌ فَالشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ دُونَ الْجَارِ ، وَكَذَا هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ فِي بَقِيَّةِ الدَّارِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، لِأَنَّ اتِّصَالَهُ أَقْوَى لِأَنَّ الْمَنْزِلَ مِنْ حُقُوقِ الدَّارِ وَمَرَافِقِهِ ، وَلِهَذَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الدَّارِ مَتَى ذُكِرَ مَعَ كُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا وَالْبُقْعَةُ وَاحِدَةٌ أَرَادَ الْمَوْضِعَ الَّذِي هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالشَّفِيعِ وَذَلِكَ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا صَارَ أَحَقَّ بِالْبَعْضِ كَانَ أَحَقَّ بِالْجَمِيعِ ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى أَنَّهُ وَالْجَارُ سَوَاءٌ فِي بَقِيَّةِ الدَّارِ ، ثُمَّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ وَالشِّرْبُ خَاصًّا حَتَّى يَسْتَحِقَّ بِهِ الشُّفْعَةَ ، وَفُسِّرَ الْخَاصُّ بِمَا اخْتَارَهُ مِنْ بَيْنِ التَّفَاسِيرِ الْمَذْكُورَةِ لَهُ .
وَالْقِرْوَاحُ مِنْ الْأَرْضِ : كُلُّ قِطْعَةٍ عَلَى حِيَالِهَا لَيْسَ فِيهَا شَجَرٌ وَلَا شَائِبَةُ شَجَرٍ .
وَذَكَرَ اسْتِحْقَاقَ الشُّفْعَةِ فِي السِّكَّةِ وَأَحَالَهُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ فَتْحَهُ لِلْمُرُورِ وَلَا حَقَّ لَهُمْ
فِي الْمُرُورِ ، وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الشُّفْعَةِ وَجَوَازَ فَتْحِ الْبَابِ يَتَلَازَمَانِ ، فَكَانَ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ فَتْحِ الْبَابِ فِي سِكَّةٍ فَلَهُ اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ فِي تِلْكَ السِّكَّةِ وَمَنْ لَا فَلَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ صُورَةُ ذَلِكَ ، وَمَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ ( وَلَوْ كَانَ نَهْرٌ صَغِيرٌ يَأْخُذُ مِنْهُ نَهْرٌ أَصْغَرُ مِنْهُ فَهُوَ عَلَى قِيَاسِ الطَّرِيقِ فِيمَا بَيَّنَّاهُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَإِنْ كَانَتْ سِكَّةٌ غَيْرُ نَافِذَةٍ يَتَشَعَّبُ مِنْهَا سِكَّةٌ غَيْرُ نَافِذَةٍ ، إلَخْ ، فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ الشُّفْعَةِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ جَوَازِ التَّطَرُّقِ فَلِذَلِكَ قَالَ عَلَى قِيَاسِ الطَّرِيقِ : يَعْنِي لَوْ بِيعَ أَرْضٌ مُتَّصِلَةٌ بِالنَّهْرِ الْأَصْغَرِ كَانَتْ الشُّفْعَةُ لِأَهْلِ النَّهْرِ الْأَصْغَرِ لَا لِأَهْلِ النَّهْرِ الصَّغِيرِ كَمَا فِي السِّكَّةِ الْمُتَشَعِّبَةِ مَعَ السِّكَّةِ الْمُسْتَطِيلَةِ الْعُظْمَى ، وَذَكَرَ مَسْأَلَةَ صَاحِبِ الْجُذُوعِ وَهِيَ وَاضِحَةٌ .
قَالَ ( وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ بِالْجُذُوعِ عَلَى الْحَائِطِ شَفِيعَ شَرِكَةٍ وَلَكِنَّهُ شَفِيعُ جِوَارٍ ) ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الشَّرِكَةُ فِي الْعَقَارِ وَبِوَضْعِ الْجُذُوعِ لَا يَصِيرُ شَرِيكًا فِي الدَّارِ إلَّا أَنَّهُ جَارٌ مُلَازِقٌ .
قَالَ ( وَالشَّرِيكُ فِي الْخَشَبَةِ تَكُونُ عَلَى حَائِطِ الدَّارِ جَارٌ ) لِمَا بَيَّنَّا .وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الشَّرِكَةُ فِي الْعَقَارِ .
قَالَ ( وَإِذَا اجْتَمَعَ الشُّفَعَاءُ فَالشُّفْعَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ وَلَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ الْأَمْلَاكِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هِيَ عَلَى مَقَادِيرِ الْأَنْصِبَاءِ ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ مِنْ مَرَافِقِ الْمِلْكِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهَا لِتَكْمِيلِ مَنْفَعَتِهِ فَأَشْبَهَ الرِّبْحَ وَالْغَلَّةَ وَالْوَلَدَ وَالثَّمَرَةَ .
وَلَنَا أَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ فَيَسْتَوُونَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ اسْتَحَقَّ كُلَّ الشُّفْعَةِ .
وَهَذَا آيَةُ كَمَالِ السَّبَبِ وَكَثْرَةُ الِاتِّصَالِ تُؤْذِنُ بِكَثْرَةِ الْعِلَّةِ ، وَالتَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الدَّلِيلِ لَا بِكَثْرَتِهِ ، وَلَا قُوَّةَ هَاهُنَا لِظُهُورِ الْأُخْرَى بِمُقَابِلَتِهِ وَتَمَلُّكُ مِلْكِ غَيْرِهِ لَا يُجْعَلُ ثَمَرَةً مِنْ ثَمَرَاتِ مِلْكِهِ ، بِخِلَافِ الثَّمَرَةِ وَأَشْبَاهِهَا ، وَلَوْ أَسْقَطَ بَعْضُهُمْ حَقَّهُ فَهِيَ لِلْبَاقِينَ فِي الْكُلِّ عَلَى عَدَدِهِمْ ؛ لِأَنَّ الِانْتِقَاصَ لِلْمُزَاحَمَةِ مَعَ كَمَالِ السَّبَبِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَقَدْ انْقَطَعَتْ .
وَلَوْ كَانَ الْبَعْضُ غُيَّبًا يَقْضِي بِهَا بَيْنَ الْحُضُورِ عَلَى عَدَدِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ لَعَلَّهُ لَا يَطْلُبُ ، وَإِنْ قَضَى لِحَاضِرٍ بِالْجَمِيعِ ثُمَّ حَضَرَ آخَرُ يَقْضِي لَهُ بِالنِّصْفِ ، وَلَوْ حَضَرَ ثَالِثٌ فَبِثُلُثِ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ تَحْقِيقًا لِلتَّسْوِيَةِ ، فَلَوْ سَلَّمَ الْحَاضِرَ بَعْدَمَا قَضَى لَهُ بِالْجَمِيعِ لَا يَأْخُذُ الْقَادِمُ إلَّا النِّصْفَ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالْكُلِّ لِلْحَاضِرِ يَقْطَعُ حَقَّ الْغَائِبِ عَنْ النِّصْفِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ .
قَالَ ( وَإِذَا اجْتَمَعَ الشُّفَعَاءُ إلَخْ ) إذَا اجْتَمَعَ الشُّفَعَاءُ فَالشُّفْعَةُ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِذَا كَانَ الدَّارُ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ لِأَحَدِهِمْ نِصْفُهَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا وَلِلْآخَرِ سُدُسُهَا بَاعَ صَاحِبُ النِّصْفِ نَصِيبَهُ وَطَلَبَ الشَّرِيكَانِ الشُّفْعَةَ قَضَى بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ نِصْفَيْنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَثْلَاثًا بِقَدْرِ مِلْكِهِمَا لِأَنَّ الشُّفْعَةَ مِنْ مَرَافِقِ الْمِلْكِ لِأَنَّهَا لِتَكْمِيلِ مَنْفَعَتِهِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُقَدَّرٌ بِقَدْرِ الْمِلْكِ كَالرِّبْحِ وَالْغَلَّةِ وَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ .
وَلَنَا أَنَّهُمْ تَسَاوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ اسْتَحَقَّ كُلَّ الشُّفْعَةِ وَهَذَا آيَةُ كَمَالِ السَّبَبِ ، وَالتَّسَاوِي فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ يُوجِبُ التَّسَاوِي فِيهِ لَا مَحَالَةَ لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الِاتِّصَالُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ وَصَاحِبُ الْكَثِيرِ أَكْثَرُ اتِّصَالًا فَأَتَى يَتَسَاوَيَانِ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَكَثْرَةُ الِاتِّصَالِ تُؤْذِنُ بِكَثْرَةِ الْعِلَّةِ ، لِأَنَّ الِاتِّصَالَ بِكُلِّ جُزْءٍ عِلَّةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ لَوْ انْفَرَدَ اسْتَحَقَّ الْجَمِيعَ ، وَالتَّرْجِيحُ إنَّمَا يَكُونُ بِقُوَّةٍ فِي الدَّلِيلِ لَا بِكَثْرَتِهِ ، وَلَا قُوَّةَ هَاهُنَا لِظُهُورِ الْأُخْرَى بِمُقَابَلَتِهَا حَيْثُ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْقَلِيلِ ، وَلَوْ كَانَ مَرْجُوحًا لَمَا اسْتَحَقَّ شَيْئًا لِأَنَّ الْمَرْجُوحَ يَنْدَفِعُ فِي مُقَابَلَةِ الرَّاجِحِ .
وَعُورِضَ بِأَنَّ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ قَدْ تَسْتَلْزِمُ مَالًا يَسْتَلْزِمُهُ الْأَفْرَادُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْقَلِيلِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ يَسْتَحِقُّ الْجَمِيعَ ، وَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ صَاحِبُ الْكَثِيرِ يَتَفَاوَتَانِ ، كَالِابْنِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ التَّرِكَةِ عِنْدَ انْفِرَادِهِ وَالثُّلُثَيْنِ مَعَ الْبِنْتِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ مُطْلَقًا
تَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ ، أَوْ الَّتِي لَمْ تَجْتَمِعْ مِنْ عِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنْ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ عِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ وَالْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ مِنْهُمَا لَا تَسْتَلْزِمُ زِيَادَةً وَإِلَّا لَزِمَ التَّرْجِيحُ بِكَثْرَةِ الْعِلَّةِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ وَالْأَرْبَعَةَ سَوَاءٌ وَلَمْ تَسْتَلْزِمْ الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ زِيَادَةً ، وَمَسْأَلَةُ الْمِيرَاثِ لَيْسَتْ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ ، إذْ لَمْ يَجْتَمِعْ فِي الِابْنِ عِلَّتَانِ إنْ ضَمِنَتْ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى فَاسْتَلْزَمَتْ الزِّيَادَةُ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ تَفَاوُتِ فِي عُصُوبَتِهِ بِجَعْلِ الشَّارِعِ كَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْحَالَتَانِ .
وَقَوْلُهُ ( وَتَمَلَّكَ مِلْكَ غَيْرِهِ ) جَوَابٌ عَنْ جَعْلِهِ الشُّفْعَةَ مِنْ ثَمَرَاتِ الْمِلْكِ : يَعْنِي أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ التَّمَلُّكِ لَا يَجْعَلُ الشُّفْعَةَ مِنْ ثَمَرَاتِ مِلْكِهِ كَالْأَبِ فَإِنَّ لَهُ التَّمَكُّنَ مِنْ تَمَلُّكِ جَارِيَةِ ابْنِهِ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ ثَمَرَاتِ مِلْكِهِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ أَسْقَطَ بَعْضُهُمْ ) يَعْنِي وَإِذَا اجْتَمَعَ الشُّفَعَاءُ وَأَسْقَطَ بَعْضُهُمْ حَقَّهُ ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَهُ بِحَقِّهِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَالشُّفْعَةُ لِلْبَاقِينَ فِي الْكُلِّ عَلَى عَدَدِهِمْ دُونَ أَنْصِبَائِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ ، لِأَنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَامِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالِانْتِقَاصُ كَانَ لِلْمُزَاحَمَةِ وَقَدْ انْقَطَعَتْ بِالتَّسْلِيمِ وَلَوْ كَانَ الْبَعْضُ غَائِبًا يُقْضَى بِهَا بَيْنَ الْحَاضِرِينَ عَلَى عَدَدِهِمْ لِأَنَّ الْغَائِبَ لَعَلَّهُ لَا يَطْلُبُ : يَعْنِي قَدْ يَطْلُبُ وَقَدْ لَا يَطْلُبُ ، فَلَا يُتْرَكُ حَقُّ الْحَاضِرِينَ بِالشَّكِّ ؛ وَإِنْ قُضِيَ لِحَاضِرٍ بِالْجَمِيعِ ثُمَّ حَضَرَ آخَرُ وَطَلَبَهَا يُقْضَى لَهُ بِالنِّصْفِ ، فَإِنْ حَضَرَ ثَالِثٌ فَبِثُلُثِ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحْقِيقًا لِلتَّسْوِيَةِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَهُ فَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ
إلَّا النِّصْفَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى بَيْنَهُمَا صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْضِيًّا عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبٍ فِيمَا قُضِيَ بِهِ لِصَاحِبِهِ ، وَالْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ فِي قَضِيَّةٍ لَا يَصِيرُ مَقْضِيًّا لَهُ فِيهَا ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ مَا اسْتَوَوْا فِي سَبَبِهَا وَبَيْنَ مَا يَكُونُ بَعْضُهُمْ أَقْوَى كَالشَّرِيكِ مَعَ الْجَارِ ، وَكَذَا لَوْ سَلَّمَ : أَيْ أَصَرَّ بَعْدَمَا قُضِيَ لَهُ بِالْجَمِيعِ لَا يَأْخُذُ الْقَادِمُ إلَّا النِّصْفَ وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالْكُلِّ لِلْحَاضِرِ قَطَعَ حَقَّ الْغَائِبِ عَنْ النِّصْفِ ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ
قَالَ ( وَالشُّفْعَةُ تَجِبُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ ) وَمَعْنَاهُ بَعْدَهُ لَا أَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهَا الِاتِّصَالُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَجِبُ إذَا رَغِبَ الْبَائِعُ عَنْ مِلْكِ الدَّارِ ، وَالْبَيْعُ يُعَرِّفُهَا وَلِهَذَا يُكْتَفَى بِثُبُوتِ الْبَيْعِ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَأْخُذَهَا الشَّفِيعُ إذَا أَقَرَّ الْبَائِعُ بِالْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي يُكَذِّبُهُ .
قَالَ ( وَالشُّفْعَةُ تَجِبُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ ) وَهُوَ يُوهِمُ أَنَّ الْبَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ فَيَكُونُ سَبَبُهَا الْعَقْدَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ( لِأَنَّ سَبَبَهَا الِاتِّصَالُ عَلَى مَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي فِي قَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ لِدَفْعِ ضَرَرِ الدَّخِيلِ عَنْ الْأَصِيلِ لِسُوءِ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ ، وَالضَّرَرُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِاتِّصَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ بِمِلْكِ الشَّفْعِ ، وَلِهَذَا قُلْنَا بِثُبُوتِهَا لِلشَّرِيكِ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ وَلِلْجَارِ لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ .
وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ السَّبَبُ لَجَازَ تَسْلِيمُهَا قَبْلَ الْمَبِيعِ لِوُجُودِهِ بَعْدَ السَّبَبِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ صَحِيحٌ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَبِيعَ شَرْطٌ وَلَا وُجُودَ لِلْمَشْرُوطِ قَبْلَهُ .
وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ بَعْدَ تَحْقِيقِ السَّبَبِ فِي حَقِّ صَحِيحَةِ التَّسْلِيمِ كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَإِسْقَاطِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ شَرْطُ الْوُجُوبِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي شَرْطِ الْجَوَازِ وَامْتِنَاعِ الْمَشْرُوطِ قَبْلَ تَحْقِيقِ الشَّرْطِ غَيْرُ خَافٍ عَلَى أَحَدٍ قَوْلُهُ وَالْوَجْهُ فِيهِ ) أَيْ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ ( أَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَجِبُ إذَا رَغِبَ الْبَائِعُ عَنْ مِلْكِ الدَّارِ ) وَرَغْبَتُهُ عَنْهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ ، وَلَهُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ وَهُوَ الْبَيْعُ فَيُقَامُ مَقَامَهُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاتِّصَالَ بِالْمِلْكِ سَبَبٌ ، وَالرَّغْبَةُ عَنْ الْمِلْكِ شَرْطٌ ، وَالْبَيْعُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ قَائِمٌ مَقَامَهُ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْبَيْعَ إذَا ثَبَتَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ بِهِ صَحَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُشْتَرِي .
وَنُوقِضَ بِمَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ أَوْ وَهَبَ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الرَّغْبَةَ عَنْهُ قَدْ عُرِفَتْ وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ
الشُّفْعَةُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَرَدُّدًا لِبَقَاءِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ ، بِخِلَافِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ يُخْبِرُ بِهِ عَنْ انْقِطَاعِ مِلْكِهِ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَعُومِلَ بِهِ كَمَا زَعَمَهُ ، وَالْهِبَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إذْ غَرَضُ الْوَاهِبِ الْمُكَافَأَةُ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فَلَا يَنْقَطِعُ عَنْهُ حَقُّهُ بِالْكُلِّيَّةِ .
قَالَ ( وَتَسْتَقِرُّ بِالْإِشْهَادِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ ) لِأَنَّهُ حَقٌّ ضَعِيفٌ يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِشْهَادِ وَالطَّلَبِ لِيُعْلَمَ بِذَلِكَ رَغْبَتُهُ فِيهِ دُونَ إعْرَاضِهِ عَنْهُ ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ طَلَبِهِ عِنْدَ الْقَاضِي وَلَا يُمْكِنُهُ إلَّا بِالْإِشْهَادِ .قَالَ ( وَتَسْتَقِرُّ بِالْإِشْهَادِ ) لِلشُّفْعَةِ أَحْوَالُ اسْتِحْقَاقٍ ، وَهُوَ بِالِاتِّصَالِ بِالْمِلْكِ بِشَرْطِ الْبَيْعِ كَمَا تَقَدَّمَ وَاسْتِقْرَارٍ وَهُوَ بِالْإِشْهَادِ وَهُوَ يَعْتَمِدُ الطَّلَبَ ، وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ : أَيْ مِنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ عَلَى الْمُسَارَعَةِ قَضَى فِي الطَّلَبِ إلَى الْمُوَاثَبَةِ لِتَلَبُّسِهِ بِهَا لِأَنَّهُ : أَيْ الشُّفْعَةَ ذَكَّرَ الضَّمِيرَ نَظَرًا إلَى حَقٍّ يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَالشُّفْعَةُ كَحَلِّ الْعِقَالِ ، إنْ قَيَّدَهَا ثَبَتَ } وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ سُرْعَةِ السُّقُوطِ ، كُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْهُ أَوْ دَامَ عَلَيْهِ .
وَالْإِشْهَادُ وَالطَّلَبُ يَدُلَّانِ عَلَى الدَّوَامِ فَلَا بُدَّ مِنْهُمَا ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ طَلَبِهِ عِنْدَ الْقَاضِي ، وَلَا يُمْكِنُهُ إلَّا بِالْإِشْهَادِ .
وَتُمْلَكُ .
وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْأَخْذِ إمَّا بِتَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَدَلِيلُهُ الْمَذْكُورُ ظَاهِرٌ .
قَالَ ( وَتُمْلَكُ بِالْأَخْذِ إذَا سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ حَكَمَ بِهَا الْحَاكِمُ ) ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي قَدْ تَمَّ فَلَا يَنْتَقِلُ إلَى الشَّفِيعِ إلَّا بِالتَّرَاضِي أَوْ قَضَاءِ الْقَاضِي كَمَا فِي الرُّجُوعِ وَالْهِبَةِ .
وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا فِيمَا إذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الطَّلَبَيْنِ وَبَاعَ دَارِهِ الْمُسْتَحَقَّ بِهَا الشُّفْعَةُ أَوْ بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ قَبْلَ حُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ تَسْلِيمِ الْمُخَاصِمِ لَا تُوَرَّثُ عَنْهُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَتَبْطُلُ شُفْعَتُهُ فِي الثَّانِيَةِ وَلَا يَسْتَحِقُّهَا فِي الثَّالِثَةِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ لَهُ .
ثُمَّ قَوْلُهُ تَجِبُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ بَيَانٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .قَوْلُهُ ( وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا ) أَيْ تَوَقُّفُ الْمِلْكِ فِي الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ بَعْدَ الطَّلَبَيْنِ إلَى وَقْتِ أَخْذِ الدَّارِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( يَعْنِي فِي الصُّورَةِ الْأُولَى ) إذَا مَاتَ الشَّفِيعُ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا فَلَا تُورَثُ عَنْهُ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الثَّانِيَةِ ) يَعْنِي إذَا بَاعَ دَارِهِ لِزَوَالِ السَّبَبِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الثَّالِثَةِ ) يَعْنِي إذَا بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ الْمَشْفُوعَةَ فَكَيْفَ يَمْلِكُ بِهَا غَيْرَهَا .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ قَوْلُهُ تَجِبُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ ) يَعْنِي قَوْلَ الْقُدُورِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( بَابُ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَالْخُصُومَةُ فِيهَا ) قَالَ ( وَإِذَا عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ أَشْهَدَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ ) اعْلَمْ أَنَّ الطَّلَبَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ وَهُوَ أَنْ يَطْلُبَهَا كَمَا عَلِمَ ، حَتَّى لَوْ بَلَغَ الشَّفِيعُ الْبَيْعَ وَلَمْ يَطْلُبْ شُفْعَةً بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَاثَبَهَا } وَلَوْ أُخْبِرَ بِكِتَابٍ وَالشُّفْعَةُ فِي أَوَّلِهِ أَوْ فِي وَسَطِهِ فَقَرَأَ الْكِتَابَ إلَى آخِرِهِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ الْمَشَايِخِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ .
وَعَنْهُ أَنَّ لَهُ مَجْلِسَ الْعِلْمِ ، وَالرِّوَايَتَانِ فِي النَّوَادِرِ .
وَبِالثَّانِيَةِ أَخَذَ الْكَرْخِيُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ التَّمَلُّكِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ زَمَانِ التَّأَمُّلِ كَمَا فِي الْمُخَيَّرَةِ ، وَلَوْ قَالَ بَعْدَمَا بَلَغَهُ الْبَيْعُ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ " أَوْ قَالَ " سُبْحَانَ اللَّهِ " لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ حَمْدٌ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْ جِوَارِهِ وَالثَّانِيَ تَعَجُّبٌ مِنْهُ لِقَصْدِ إضْرَارِهِ ، وَالثَّالِثَ لِافْتِتَاحِ كَلَامِهِ فَلَا يَدُلُّ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى الْإِعْرَاضِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ مَنْ ابْتَاعَهَا وَبِكَمْ بِيعَتْ ؛ لِأَنَّهُ يَرْغَبُ فِيهَا بِثَمَنٍ دُونَ ثَمَنٍ وَيَرْغَبُ عَنْ مُجَاوَرَةِ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ أَشْهَدُ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ ، وَالْإِشْهَادُ فِيهِ لَيْسَ بِلَازِمٍ ، إنَّمَا هُوَ لِنَفْيِ التَّجَاحُدِ وَالتَّقْيِيدُ بِالْمَجْلِسِ إشَارَةً إلَى مَا اخْتَارَهُ الْكَرْخِيُّ .
وَيَصِحُّ الطَّلَبُ بِكُلِّ لَفْظٍ يُفْهَمُ مِنْهُ طَلَبُ الشُّفْعَةِ كَمَا لَوْ قَالَ : طَلَبْت الشُّفْعَةَ أَوْ أَطْلُبُهَا أَوْ أَنَا طَالِبُهَا ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعْنَى ، وَإِذَا بَلَغَ الشَّفِيعُ بَيْعَ الدَّارِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ حَتَّى يُخْبِرَهُ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ وَاحِدٌ
عَدْلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ إذَا أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا صَبِيًّا كَانَ أَوْ امْرَأَةً إذَا كَانَ الْخَبَرُ حَقًّا .
وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِدَلَائِلِهِ وَأَخَوَاتِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُخَيَّرَةِ إذَا أَخْبَرَتْ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلْزَامُ حُكْمٍ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَخْبَرَهُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِيهِ وَالْعَدَالَةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْخُصُومِ .
وَالثَّانِي طَلَبُ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِإِثْبَاتِهِ عِنْدَ الْقَاضِي عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْإِشْهَادُ ظَاهِرًا عَلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى فَوْرِ الْعِلْمِ بِالشِّرَاءِ فَيَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى طَلَبِ الْإِشْهَادِ وَالتَّقْرِيرِ وَبَيَانُهُ مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ ( ثُمَّ يَنْهَضُ مِنْهُ ) يَعْنِي مِنْ الْمَجْلِسِ ( وَيَشْهَدُ عَلَى الْبَائِعِ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ ) مَعْنَاهُ لَمْ يُسَلَّمْ إلَى الْمُشْتَرِي ( أَوْ عَلَى الْمُبْتَاعِ أَوْ عِنْدَ الْعَقَارِ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَقَرَّتْ شُفْعَتُهُ ) وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ فِيهِ ؛ لِأَنَّ لِلْأَوَّلِ الْيَدَ وَلِلثَّانِي الْمِلْكَ ، وَكَذَا يَصِحُّ الْإِشْهَادُ عِنْدَ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ ، فَإِنْ سَلَّمَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ لَمْ يَصِحَّ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ لِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا ، إذْ لَا يَدَ لَهُ وَلَا مِلْكَ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ .
وَصُورَةُ هَذَا الطَّلَبِ أَنْ يَقُولَ : إنَّ فُلَانًا اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ وَأَنَا شَفِيعُهَا وَقَدْ كُنْت طَلَبْت الشُّفْعَةَ وَأَطْلُبُهَا الْآنَ فَاشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ تَسْمِيَةُ الْمَبِيعِ وَتَحْدِيدُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا فِي مَعْلُومٍ .
وَالثَّالِثُ طَلَبُ الْخُصُومَةِ وَالتَّمَلُّكِ ، وَسَنَذْكُرُ كَيْفِيَّتَهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
طَلَبُ الشُّفْعَةِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا لَمَّا لَمْ تَثْبُتْ الشُّفْعَةُ بِدُونِ الطَّلَبِ شَرَعَ فِي بَيَانِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَتَقْسِيمِهِ .
قَالَ ( وَإِذَا عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ ) كَلَامُهُ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ سِوَى أَلْفَاظٍ نُنَبِّهُ عَلَيْهَا ( طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ ) سُمِّيَ بِهَا تَبَرُّكًا بِلَفْظِ الْحَدِيثِ { الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَاثَبَهَا } أَيْ طَلَبَهَا عَلَى وَجْهِ السُّرْعَةِ وَالْمُبَادَرَةِ ( قَوْلُهُ وَهُوَ أَنْ يَطْلُبَهَا كَمَا عُلِمَ ) أَيْ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ ، سَوَاءٌ كَانَ عِنْدَهُ إنْسَانٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
قَوْلُهُ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ قَبْلَ الْبَابِ لِأَنَّهُ حَقٌّ ضَعِيفٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْإِشْهَادُ فِيهِ لَيْسَ بِلَازِمٍ إنَّمَا هُوَ لِنَفْيِ التَّجَاحُدِ ) يَعْنِي رُبَّمَا يَجْحَدُ الْخَصْمُ فَيَحْتَاجُ إلَى الشُّهُودِ ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ لَيْسَ لِإِثْبَاتِ الْحَقِّ وَإِنَّمَا شَرْطٌ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْرِضٍ عَنْ الشُّفْعَةِ ، وَالْإِشْهَادُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ .
وَقَوْلُهُ ( بِكُلِّ لَفْظٍ يُفْهَمُ مِنْهُ طَلَبُ الشُّفْعَةِ ) قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ : لَوْ قِيلَ لِقَرَوِيٍّ بِيعَ أَرْضٌ بِجَنْبِ أَرْضِك فَقِيلَ شُفْعَةٌ شُفْعَةٌ كَانَ ذَلِكَ طَلَبًا مِنْهُ صَحِيحًا ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : إذَا قَالَ الشَّفِيعُ طَلَبْت الشُّفْعَةَ وَأَخَذْتهَا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لِأَنَّ كَلَامَهُ وَقَعَ كَذِبًا فِي الِابْتِدَاءِ فَكَانَ كَالسُّكُوتِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ عُرْفًا .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَوْ قَالَ أَطْلُبُ وَآخُذُ بَطَلَ لِأَنَّهُ عِدَةٌ مَحْضٌ ، وَالْمُخْتَارُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ إلَخْ ) أَشَارَ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي آخِرِ فَصْلِ الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ وَهُوَ مِنْ فُصُولِ كِتَابِ آدَابِ الْقَاضِي ، وَأَرَادَ بِأَخَوَاتِهِ الْمَوْلَى إذَا أُخْبِرَ بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ وَالشَّفِيعَ وَالْبِكْرَ وَالْمُسْلِمَ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْهَا .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْمُخَيَّرَةِ إذَا أُخْبِرَتْ
عِنْدَهُ ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : يَعْنِي أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أُخْبِرَتْ بِأَنَّ زَوْجَهَا خَيَّرَهَا فِي نَفْسِهَا ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ عَدْلًا كَانَ الْمُخْبِرُ أَوْ غَيْرَهُ ، فَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي مَجْلِسِهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ ، وَإِلَّا فَلَا لِمَا ذُكِرَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلْزَامُ حُكْمٍ حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهِ أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ عَلَى الْمُبْتَاعِ ) يَعْنِي الْمُشْتَرِيَ ( أَوْ عِنْدَ الْعَقَارِ ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : الشَّفِيعُ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى طَلَبِ الْإِشْهَادِ بَعْدَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الْإِشْهَادُ عِنْدَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ بِأَنْ سَمِعَ الشِّرَاءَ حَالَ غَيْبَتِهِ عَنْ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعِ وَالدَّارِ .
أَمَّا إذَا سَمِعَ الشِّرَاءَ بِحَضْرَةِ أَحَدِ هَؤُلَاءِ فَطَلَبَ الْمُوَاثَبَةَ وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ فَذَلِكَ يَكْفِيهِ وَيَقُومُ مَقَامَ الطَّلَبَيْنِ ، فَإِنْ تَرَكَ الْأَقْرَبَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَقَصَدَ الْأَبْعَدَ وَكَانُوا فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ قِيَاسًا وَلَمْ تَبْطُلْ اسْتِحْسَانًا ، لِأَنَّ نَوَاحِيَ الْمِصْرِ جُعِلَتْ كَنَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ فِي مِصْرٍ وَالْآخَرَانِ فِي مِصْرٍ آخَرَ أَوْ فِي رُسْتَاقِ هَذَا الْمِصْرِ فَتَرَكَ الْأَقْرَبَ إلَى الْأَبْعَدِ بَطَلَتْ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا ثُمَّ مُدَّةُ هَذَا الطَّلَبِ مُقَدَّرَةٌ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الْإِشْهَادِ عِنْدَ حَضْرَةِ أَحَدِ هَؤُلَاءِ ، حَتَّى لَوْ تَمَكَّنَ وَلَمْ يَطْلُبْ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ .
قَالَ ( وَلَا تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِتَأْخِيرِ هَذَا الطَّلَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ تَرَكَهَا شَهْرًا بَعْدَ الْإِشْهَادِ بَطَلَتْ ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، مَعْنَاهُ : إذَا تَرَكَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْمُخَاصَمَةَ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْقَاضِي تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَضَى مَجْلِسٌ مِنْ مَجَالِسِهِ وَلَمْ يُخَاصِمْ فِيهِ اخْتِيَارًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى إعْرَاضِهِ وَتَسْلِيمِهِ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْقُطْ بِتَأْخِيرِ الْخُصُومَةِ مِنْهُ أَبَدًا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّصَرُّفُ حَذَارِ نَقْضِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّفِيعِ فَقَدَّرْنَاهُ بِشَهْرٍ ؛ لِأَنَّهُ آجِلٌ وَمَا دُونَهُ عَاجِلٌ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْأَيْمَانِ .
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى أَنَّ الْحَقَّ مَتَى ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِإِسْقَاطِهِ وَهُوَ التَّصْرِيحُ بِلِسَانِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ الضَّرَرِ يَشْكُلُ بِمَا إذَا كَانَ غَائِبًا ، وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ، وَلَوْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ بِالتَّأْخِيرِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْخُصُومَةِ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي فَكَانَ عُذْرًا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَسْقُطُ بِتَأْخِيرِ هَذَا الطَّلَبِ ) يُرِيدُ بِهِ الطَّلَبَ الثَّالِثَ وَهُوَ طَلَبُ الْخُصُومَةِ ، وَإِنَّمَا قَالَ مَعْنَاهُ إذَا تَرَكَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ تَرَكَهُ بِمَرَضٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ التَّوْكِيلُ بِهَذَا الطَّلَبِ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ ( قَوْلُهُ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الضَّرَرِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ : يَعْنِي أَنَّ الشَّفِيعَ إذَا كَانَ غَائِبًا لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ بِتَأْخِيرِ هَذَا الطَّلَبِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فِي لُزُومِ الضَّرَرِ ، فَكَمَا لَا يَبْطُلُ وَهُوَ غَائِبٌ لَا يَبْطُلُ وَهُوَ حَاضِرٌ .
نُقِلَ فِي النِّهَايَةِ عَنْ الذَّخِيرَةِ أَنَّ الشَّفِيعَ إذَا كَانَ غَائِبًا فَعَلِمَ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَطْلُبَ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ ، ثُمَّ لَهُ مِنْ الْأَجَلِ عَلَى قَدْرِ الْمَسِيرِ إلَى الْمُشْتَرِي أَوْ الْبَائِعِ أَوْ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ لِطَلَبِ الْإِشْهَادِ ، فَإِذَا مَضَى ذَلِكَ الْأَجَلُ وَهُوَ قَدْرُ الْمَسِيرِ إلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ أَنْ يَطْلُبَ هَذَا الطَّلَبَ أَوْ أَنْ يَبْعَثَ مَنْ يَطْلُبُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ .
.
قَالَ ( وَإِذَا تَقَدَّمَ الشَّفِيعُ إلَى الْقَاضِي فَادَّعَى الشِّرَاءَ وَطَلَبَ الشُّفْعَةَ سَأَلَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِمِلْكِهِ الَّذِي يُشْفَعُ بِهِ وَإِلَّا كَلَّفَهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ) لِأَنَّ الْيَدَ ظَاهِرٌ مُحْتَمِلٌ فَلَا تَكْفِي لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَسْأَلُ الْقَاضِي الْمُدَّعِيَ قَبْلَ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ مَوْضِعِ الدَّارِ وَحُدُودِهَا ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى حَقًّا فِيهَا فَصَارَ كَمَا إذَا ادَّعَى رَقَبَتَهَا ، وَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ يَسْأَلُهُ عَنْ سَبَبِ شُفْعَتِهِ لِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا ، فَإِنْ قَالَ : أَنَا شَفِيعُهَا بِدَارٍ لِي تُلَاصِقُهَا الْآنَ تَمَّ دَعْوَاهُ عَلَى مَا قَالَهُ الْخَصَّافُ .
وَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى تَحْدِيدَ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي يُشْفَعُ بِهَا أَيْضًا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْكِتَابِ الْمَوْسُومِ بِالتَّجْنِيسِ وَالْمَزِيدِ .
قَالَ ( فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْبَيِّنَةِ اسْتَحْلَفَ الْمُشْتَرِيَ بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَالِكٌ لِلَّذِي ذَكَرَهُ مِمَّا يُشْفَعُ بِهِ ) مَعْنَاهُ بِطَلَبِ الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ مَعْنًى لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ ، ثُمَّ هُوَ اسْتِحْلَافٌ عَلَى مَا فِي يَدِهِ فَيَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ ( فَإِنْ نَكَلَ أَوْ قَامَتْ لِلشَّفِيعِ بَيِّنَةٌ ثَبَتَ مِلْكُهُ فِي الدَّارِ الَّتِي يُشْفَعُ بِهَا وَثَبَتَ الْجِوَارُ فَبَعْدَ ذَلِكَ سَأَلَهُ الْقَاضِي ) يَعْنِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( هَلْ ابْتَاعَ أَمْ لَا ، فَإِنْ أَنْكَرَ الِابْتِيَاعَ قِيلَ لِلشَّفِيعِ أَقِمْ الْبَيِّنَةَ ) ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْبَيْعِ وَثُبُوتُهُ بِالْحُجَّةِ .
قَالَ ( فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا اسْتَحْلَفَ الْمُشْتَرِيَ بِاَللَّهِ مَا ابْتَاعَ أَوْ بِاَللَّهِ مَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ شُفْعَةً مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ ) فَهَذَا عَلَى الْحَاصِلِ ، وَالْأَوَّلُ عَلَى السَّبَبِ وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فِي الدَّعْوَى ، وَذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ ، وَإِنَّمَا يُحَلِّفُهُ عَلَى الْبَتَاتِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافُ فِعْلِ
نَفْسِهِ وَعَلَى مَا فِي يَدِهِ أَصَالَةً ، وَفِي مِثْلِهِ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ .
قَالَ ( وَإِذَا تَقَدَّمَ الشَّفِيعُ إلَى الْقَاضِي إلَخْ ) هَذَا هُوَ الْمَوْعُودُ بِقَوْلِهِ وَسَنَذْكُرُ كَيْفِيَّتَهُ مِنْ بَعْدُ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ ( قَوْلُهُ لِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا ) لِأَنَّهَا عَلَى مَرَاتِبَ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ السَّبَبِ لِيُعْلَمَ هَلْ هُوَ مَحْجُوبٌ بِغَيْرِهِ أَوْ لَا ، وَرُبَّمَا ظَنَّ مَا لَيْسَ بِسَبَبٍ كَالْجَادِّ الْمُقَابِلِ سَبَبًا فَإِنَّهُ سَبَبٌ عِنْدَ شُرَيْحٍ إذَا كَانَ أَقْرَبَ بَابًا فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانٍ .
وَقَوْلُهُ ( تَمَّ دَعْوَاهُ ) قِيلَ لَمْ يَتِمَّ بَعْدُ ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلَهُ فَيَقُولُ : هَلْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ أَوْ لَا ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْبِضْ لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى عَلَى الْمُشْتَرِي مَا لَمْ يَحْضُرْ الْبَائِعُ ثُمَّ يَسْأَلُهُ عَنْ السَّبَبِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ : مَتَى أُخْبِرْت بِالشِّرَاءِ وَكَيْفَ صَنَعْت حِينَ أُخْبِرْت بِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّ الْمُدَّةَ طَالَتْ أَوْ لَا ، فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إذَا طَالَتْ الْمُدَّةُ فَالْقَاضِي لَا يَلْتَفِتُ إلَى دَعْوَاهُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ، وَهَذَا لَا يَلْزَم الْمُصَنِّفَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي عَدَمِ الْبُطْلَانِ بِالتَّأْخِيرِ .
وَقِيلَ سَأَلَهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الْإِشْهَادِ ، فَإِذَا قَالَ طَلَبْت حِينَ عَلِمَتْ وَأُخْبِرَتْ عَنْ غَيْرِ لُبْثٍ سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الِاسْتِفْرَادِ ، فَإِنْ قَالَ طَلَبْته مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ سَأَلَهُ عَنْ الْمَطْلُوبِ بِحَضْرَتِهِ هَلْ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ ، فَإِنْ قَالَ نَعَمْ صَحَّ دَعْوَاهُ ، ثُمَّ يُقْبَلُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِمِلْكِهِ الَّذِي يَشْفَعُ بِهِ وَإِلَّا كَلَّفَهُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ الْيَدَ ظَاهِرًا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ يَدَ مِلْكٍ وَإِجَادَةٍ وَعَارِيَّةٍ ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكْفِي لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ ، فَإِنْ أَقَامَ فَقَدْ نَوَّرَ دَعْوَاهُ ، وَإِنْ عَجَزَ اُسْتُحْلِفَ الْمُشْتَرِي بِطَلَبِ الشَّفِيعِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الشَّفِيعَ مَالِكٌ لِلَّذِي ذَكَرَهُ مِمَّا يَشْفَعُ بِهِ لِأَنَّهُ
ادَّعَى عَلَيْهِ أَمْرًا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ ، فَإِذَا أَنْكَرَهُ لَزِمَا الْيَمِينُ عَلَى الْعِلْمِ لِكَوْنِهِ اسْتِحْلَافًا عَلَى مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ ، فَإِنْ نَكَلَ ثَبَتَ دَعْوَى الشَّفِيعِ فَبَعْدَ ذَلِكَ يَسْأَلُ الْحَاكِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَلْ ابْتَاعَ أَمْ لَا ، فَإِنْ أَقَرَّ فَذَاكَ ، وَإِنْ أَنْكَرَ قِيلَ لِلشَّفِيعِ أَقِمْ الْبَيِّنَةَ ، فَإِنْ أَقَامَهَا فَذَاكَ ( وَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا اُسْتُحْلِفَ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنَّهُ مَا اشْتَرَاهُ أَوْ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الشُّفْعَةَ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَ فَهَذَا عَلَى الْحَاصِلِ وَالْأَوَّلُ عَلَى السَّبَبِ ، وَذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهِ ) يُرِيدُ مَا ذَكَرَهُ فِي فَصْلِ كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ وَالِاسْتِحْلَافِ مِنْ كِتَابِ الدَّعْوَى .
قَالَ ( وَتَجُوزُ الْمُنَازَعَةُ فِي الشُّفْعَةِ وَإِنْ لَمْ يُحْضِرْ الشَّفِيعُ الثَّمَنَ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي ، فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِالشُّفْعَةِ لَزِمَهُ إحْضَارُ الثَّمَنِ ) وَهَذَا ظَاهِرُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَقْضِي حَتَّى يُحْضِرَ الشَّفِيعُ الثَّمَنَ ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ عَسَاهُ يَكُونُ مُفْلِسًا فَيَتَوَقَّفُ الْقَضَاءُ عَلَى إحْضَارِهِ حَتَّى لَا يَتْوِيَ مَالُ الْمُشْتَرِي .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا ثَمَنَ لَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ تَسْلِيمُهُ ، فَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ إحْضَارُهُ ( وَإِذَا قَضَى لَهُ بِالدَّارِ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ ) وَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ فَيُحْبَسُ فِيهِ ، فَلَوْ أَخَّرَ أَدَاءَ الثَّمَنِ بَعْدَمَا قَالَ لَهُ ادْفَعْ الثَّمَنَ إلَيْهِ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّهَا تَأَكَّدَتْ بِالْخُصُومَةِ عِنْدَ الْقَاضِي .
قَالَ ( وَإِنْ أَحْضَرَ الشَّفِيعُ الْبَائِعَ ، وَالْمَبِيعُ فِي يَدِهِ فَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِي الشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ وَهِيَ يَدٌ مُسْتَحَقَّةٌ ) وَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُشْتَرِي فَيَفْسَخَ الْبَيْعَ بِمَشْهَدٍ مِنْهُ وَيَقْضِيَ بِالشُّفْعَةِ عَلَى الْبَائِعِ وَيَجْعَلَ الْعُهْدَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي وَالْيَدَ لِلْبَائِعِ ، وَالْقَاضِي يَقْضِي بِهِمَا لِلشَّفِيعِ فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِمَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ قَدْ قُبِضَتْ حَيْثُ لَا يُعْتَبَرُ حُضُورُ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَجْنَبِيًّا إذْ لَا يَبْقَى لَهُ يَدٌ وَلَا مِلْكٌ .
وَقَوْلُهُ فَيَفْسَخُ الْبَيْعَ بِمَشْهَدٍ مِنْهُ إشَارَةٌ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْبَيْعَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي إذَا كَانَ يَنْفَسِخُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ لِيَقْضِيَ بِالْفَسْخِ عَلَيْهِ ، ثُمَّ وَجْهُ هَذَا الْفَسْخِ الْمَذْكُورِ أَنْ يَنْفَسِخَ فِي حَقِّ الْإِضَافَةِ لِامْتِنَاعِ قَبْضِ الْمُشْتَرِي بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ
وَهُوَ يُوجِبُ الْفَسْخَ ، إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى أَصْلُ الْبَيْعِ لِتَعَذُّرِ انْفِسَاخِهِ ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ بِنَاءٌ عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ تَتَحَوَّلُ الصَّفْقَةُ إلَيْهِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ هُوَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ فَلِهَذَا يَرْجِعُ بِالْعُهْدَةِ عَلَى الْبَائِعِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ حَيْثُ تَكُونُ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ .
وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ امْتَنَعَ قَبْضُ الْمُشْتَرِي وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْفَسْخَ ، وَقَدْ طَوَّلْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى .
قَالَ ( وَتَجُوزُ الْمُنَازَعَةُ فِي الشُّفْعَةِ إلَخْ ) وَتَجُوزُ الْمُنَازَعَةُ فِي الشُّفْعَةِ وَإِنْ لَمْ يُحْضِرْ الشَّفِيعُ الثَّمَنَ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي ، فَإِذَا قَضَى بِهَا لَزِمَهُ إحْضَارُ الثَّمَنِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا ظَاهِرُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ ) وَلَمْ يَقُلْ هَذَا رِوَايَةُ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ فِي الْأَصْلِ هَكَذَا ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالشُّفْعَةِ مِنْ غَيْرِ إحْضَارِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ قَالَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَحْبِسَ الدَّارَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ مِنْهُ أَوْ مِنْ وَرَثَتِهِ إنْ مَاتَ ( وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَقْضِي حَتَّى يُحْضِرَ الشَّفِيعُ الثَّمَنَ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّ الشَّفِيعَ قَدْ يَكُونُ مُفْلِسًا فَيَتَوَقَّفُ الْقَضَاءُ عَلَى إحْضَارِهِ حَتَّى لَا يُتْوَى مَالُ الْمُشْتَرِي ) وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي مَعَ الْبَائِعِ أَنَّ الْبَائِعَ أَزَالَ الْمَبِيعَ عَنْ مِلْكِهِ قَبْلَ وُصُولِ الثَّمَنِ إلَيْهِ فَقَدْ أَضَرَّ بِنَفْسِهِ عَنْ اخْتِيَارٍ فَلَا يُنْظَرُ لَهُ بِإِبْطَالِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ لَهُ بِإِثْبَاتِ وِلَايَةِ حَبْسِ الْمَبِيعِ ، فَأَمَّا الْمُشْتَرِي هَاهُنَا فَلَا يُزِيلُ مِلْكَ نَفْسِهِ عَنْ اخْتِيَارٍ لِيُقَالَ أَضَرَّ بِنَفْسِهِ قَبْلَ وُصُولِ الثَّمَنِ إلَيْهِ بَلْ الشَّفِيعُ يَتَمَلَّكُ عَلَيْهِ كُرْهًا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِ ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي بِإِبْطَالِ الشُّفْعَةِ إذَا مَاطَلَ فِي دَفْعِ الثَّمَنِ ( وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا ثَمَنَ لَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ ، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ تَسْلِيمُهُ ، وَمَا لَيْسَ بِثَابِتٍ عَلَيْهِ لَا يُشْتَرَطُ إحْضَارُهُ ) فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ بِهَا لِيَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُطَالَبَةِ ( إذَا قُضِيَ لَهُ بِالدَّارِ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ وَيَكُونَ الْقَضَاءُ نَافِذًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا لِأَنَّهُ فَصْلٌ
مُجْتَهَدٌ فِيهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ فَيَحْبِسُهُ فِيهِ ، فَلَوْ أَخَّرَ أَدَاءَ الثَّمَنِ بَعْدَمَا قَالَ لَهُ ادْفَعْ إلَيْهِ الثَّمَنَ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ لِأَنَّهَا تَأَكَّدَتْ بِالْخُصُومَةِ عِنْدَ الْقَاضِي ، قَالَ : وَإِنْ أَحْضَرَ الشَّفِيعُ الْبَائِعَ إلَخْ ) وَإِنْ أَحْضَرَ الشَّفِيعُ الْبَائِعَ إلَى الْحَاكِمِ وَالْمَبِيعِ فِي يَدِهِ ، فَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِي الشُّفْعَةِ ، لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ وَهِيَ يَدٌ مُسْتَحَقَّةٌ : أَيْ مُعْتَبَرَةٌ كَيَدِ الْمَالِكِ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ ، وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ هَلَكَ مِنْ مَالِهِ ، إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ يَدِ الْمُودَعِ وَالْمُسْتَعِيرِ ، وَمَنْ لَهُ يَدٌ كَذَلِكَ فَهُوَ خَصْمُ مَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ ، إلَّا أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْبَائِعِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُشْتَرِي فَيَفْسَخَ الْبَيْعَ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ وَيَقْضِيَ بِالشُّفْعَةِ عَلَى الْبَائِعِ وَيَجْعَلَ الْعُهْدَةَ عَلَيْهِ ، وَهَذِهِ جُمْلَةُ قَضَايَا كَمَا تَرَى ، أَمَّا كَوْنُهُ خَصْمًا فَقَدْ بَيَّنَّاهُ ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمُشْتَرِي لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ مَعَ الْبَائِعِ لِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ فَلِعِلَّتَيْنِ اشْتَرَكَ فِي إحْدَاهُمَا مَعَ الْبَائِعِ وَتَفَرَّدَ بِالْأُخْرَى .
وَأَمَّا مَا اشْتَرَكَا فِيهِ فَهُوَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي وَالْيَدُ لِلْبَائِعِ وَالْقَاضِي يَقْضِي بِهِمَا لِلشَّفِيعِ ) عَلَيْهِمَا ، وَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لِلْقَضَاءِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ قَدْ قُبِضَتْ ) فَإِنَّ حُضُورَ الْبَائِعِ إذْ ذَاكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِصَيْرُورَتِهِ أَجْنَبِيًّا لَمْ يَبْقَ لَهُ مِلْكٌ وَلَا يَدٌ ، وَأَمَّا مَا تَفَرَّدَ بِهِ فَهُوَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( هُوَ أَنَّ الْبَيْعَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي إذَا كَانَ يَنْفَسِخُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ لِيَقْضِيَ بِالْفَسْخِ عَلَيْهِ ) وَلَمَّا كَانَ فَسْخُ الْبَيْعِ يُوهِمُ الْعَوْدَ عَلَى مَوْضِعِهِ بِالنَّقْضِ فِي الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ نَقْضَ الْبَيْعِ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الشُّفْعَةِ وَنَقْضُهُ يُفْضِي إلَى
انْتِفَائِهَا لِكَوْنِهَا مَبْنِيَّةً عَلَى الْبَيْعِ بَيَّنَ وَجْهَ النَّقْضِ بِقَوْلِهِ ( ثُمَّ وَجْهُ هَذَا الْفَسْخِ الْمَذْكُورِ أَنْ يَنْفَسِخَ فِي حَقِّ الْإِضَافَةِ ) لِأَنَّ قَبْضَ الْمُشْتَرِي مَعَ ثُبُوتِ حَقِّ الْأَخْذِ لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ مُمْتَنِع ، وَإِذَا كَانَ مُمْتَنِعًا فَاتَ الْغَرَضُ مِنْ الشِّرَاءِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِالْبَيْعِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَسْخِ .
لِأَنَّ الْأَسْبَابَ شُرِعَتْ لِأَحْكَامِهَا لَا لِذَاتِهَا ، لَكِنَّهُ يَبْقَى أَصْلُ الْبَيْعِ : أَعْنِي الصَّادِرَ مِنْ الْبَائِعِ وَهُوَ قَوْلُهُ بِعْت مُجَرَّدًا عَنْ إضَافَتِهِ إلَى ضَمِيرِ الْمُشْتَرِي لِتَعَذُّرِ انْفِسَاخِهِ ، فَإِنَّهُ لَوْ انْفَسَخَ عَادَ إلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ ( فَيَتَحَيَّلُ لِبَقَائِهِ بِتَحْوِيلِ الصَّفْقَةِ إلَى الشَّفِيعِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْبَائِعِ ) وَهَذَا لِأَنَّ الشُّفْعَةَ ثَابِتَةٌ فِي الشَّرْعِ أَلْبَتَّةَ وَثُبُوتُهَا مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ كَمَا كَانَ مُتَعَذِّرًا لِعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ رُدَّ فَكَانَ فَسْخُهُ مِنْ ضَرُورَاتِهَا .
وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِفَسْخِهِ مِنْ جَانِبِ الْمُشْتَرِي فَلَا تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : تَنْتَقِلُ الدَّارُ مِنْ الْمُشْتَرِي إلَى الشَّفِيعِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ .
قَالُوا : لَوْ كَانَ بِطَرِيقِ التَّحْوِيلِ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ رَآهُ ، لَكِنْ لَهُ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي .
وَلَمَّا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الدَّارَ إذَا اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ وَالْمُشْتَرِي اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِهَا لَكِنْ لَهُ ذَلِكَ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ الْعَيْبِ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي بِعَارِضٍ لَمْ يُوجَدْ فِي الشَّفِيعِ وَهُوَ الرُّؤْيَةُ وَقَبُولُ الْمُشْتَرِي الْعَيْبَ فَتَحَوَّلَتْ الصَّفْقَةُ إلَى الشَّفِيعِ مُوجِبَةً لِلسَّلَامَةِ نَظَرًا إلَى الْأَصْلِ ( قَوْلُهُ فَلِهَذَا ) أَيْ فَلِتَحَوُّلِ الصَّفْقَةِ إلَيْهِ ( يَرْجِعُ بِالْعُهْدَةِ
عَلَى الْبَائِعِ ) لِأَنَّهُ كَمَا كَانَ ، وَلَوْ كَانَ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ كَانَتْ عَلَى الْمُشْتَرِي ( بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي ) فَأَخَذَهُ الشَّفِيعُ مِنْ يَدِهِ حَيْثُ تَكُونُ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَمَّ مِلْكُهُ بِالْقَبْضِ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا لِغَيْرِهِ فَهُوَ الْخَصْمُ لِلشَّفِيعِ ) ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ ، وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ .
قَالَ ( إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَى الْمُوَكِّلِ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ يَدٌ وَلَا مِلْكٌ فَيَكُونُ الْخَصْمُ هُوَ الْمُوَكِّلُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ كَالْبَائِعِ مِنْ الْمُوَكِّلِ عَلَى مَا عُرِفَ فَتَسْلِيمُهُ إلَيْهِ كَتَسْلِيمِ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي فَتَصِيرُ الْخُصُومَةُ مَعَهُ ، إلَّا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فَيَكْتَفِي بِحُضُورِهِ فِي الْخُصُومَةِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ وَكِيلَ الْغَائِبِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ إذَا كَانَتْ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَاقِدٌ وَكَذَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ وَصِيًّا لِمَيِّتٍ فِيمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِمَا ذَكَرْنَا .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا لِغَيْرِهِ فَهُوَ الْخَصْمُ إلَخْ ) الْمُشْتَرِي إذَا كَانَ وَكِيلًا ، فَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ إلَى مُوَكِّلِهِ قَبْلَ الْخُصُومَةِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ الْخَصْمُ لِلشَّفِيعِ ( لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ ) وَالْعَاقِدُ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ ( وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ مِنْ حُقُوقِهِ ) وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْمُوَكِّلُ هُوَ الْخَصْمُ ( لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلْوَكِيلِ يَدٌ وَلَا مِلْكٌ ) وَهَذَا لِأَنَّ الْوَكِيلَ كَالْبَائِعِ مِنْ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ يَجْرِي بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ عَلَى مَا عُرِفَ ، فَتَسْلِيمُهُ إلَى الْمُوَكِّلِ كَتَسْلِيمِ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي ، وَلَوْ سَلَّمَ الْمُشْتَرِي كَانَ هُوَ الْخَصْمُ فَكَذَا الْمُوَكِّلُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ كَالْبَائِعِ مِنْ الْمُوَكِّلِ لَكَانَ حُضُورُ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ جَمِيعًا شَرْطًا فِي الْخُصُومَةِ فِي الشُّفْعَةِ إذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ ، كَمَا أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ فِي الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( إلَّا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ ) لِكَوْنِهِ نَائِبًا عَنْهُ ( فَيُكْتَفَى بِحُضُورِهِ ) وَالْبَائِعُ ثَمَّةَ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْمُشْتَرِي فَلَا يُكْتَفَى بِحُضُورِهِ ( قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ وَكِيلًا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ وَصِيًّا ) يَعْنِي يَكُونُ الْخَصْمُ لِلشَّفِيعِ هُوَ الْوَصِيُّ إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ صِغَارًا ، وَقُيِّدَ بِقَوْلِهِ ( فِيمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ) احْتِرَازًا عَمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ ، فَإِنَّ بَيْعَهُ بِهِ لَا يَجُوزُ .
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ كَوْنُ الْوَرَثَةِ صِغَارًا ، فَإِنَّ الْوَصِيَّ يَبِيعُ التَّرِكَةَ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ كِبَارًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْ النَّظَرِ لِأَنْفُسِهِمْ
قَالَ ( وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي لِلشَّفِيعِ بِالدَّارِ وَلَمْ يَكُنْ رَآهَا فَلَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ ، وَإِنْ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي شَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنْهُ ) لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَيَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارَانِ كَمَا فِي الشِّرَاءِ ، وَلَا يَسْقُطُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي وَلَا بِرُؤْيَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْهُ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ .وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي لِلشَّفِيعِ بِالدَّارِ إلَخْ ) ظَاهِرٌ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا .
( فَصْلٌ فِي مَسَائِلِ الِاخْتِلَافِ ) : قَالَ ( وَإِنْ اخْتَلَفَ الشَّفِيعُ وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ) ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الدَّارِ عَلَيْهِ عِنْدَ نَقْدِ الْأَقَلِّ وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا يَتَحَالَفَانِ ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ إنْ كَانَ يَدَّعِي عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقَ الدَّارِ فَالْمُشْتَرِي لَا يَدَّعِي عَلَيْهِ شَيْئًا لِتَخَيُّرِهِ بَيْنَ التَّرْكِ وَالْأَخْذِ وَلَا نَصَّ هَاهُنَا ، فَلَا يَتَحَالَفَانِ .
قَالَ ( وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ لِلشَّفِيعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا ) فَصَارَ كَبَيِّنَةِ الْبَائِعِ وَالْوَكِيلِ وَالْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْمَوْجُودَ بَيْعَانِ ، وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَالَى بَيْنَهُمَا عَقْدَانِ إلَّا بِانْفِسَاخِ الْأَوَّلِ وَهَاهُنَا الْفَسْخُ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ وَهُوَ التَّخْرِيجُ لِبَيِّنَةِ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ كَالْبَائِعِ وَالْمُوَكِّلِ كَالْمُشْتَرِي مِنْهُ ، كَيْفَ وَأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ فَقُلْنَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ .
فَلَنَا أَنْ نَمْنَعَ ( وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ نَقُولُ : لَا يَصِحُّ الثَّانِي هُنَالِكَ إلَّا بِفَسْخِ الْأَوَّلِ ، أَمَّا هَاهُنَا فَبِخِلَافِهِ ) ، وَلِأَنَّ بَيِّنَةَ الشَّفِيعِ مُلْزِمَةٌ وَبَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُلْزِمَةٍ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِلْزَامِ .
لَمَّا ذَكَرَ مَسَائِلَ الِاتِّفَاقِ بَيْنَ الشَّفِيعِ وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ وَهُوَ الْأَصْلُ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَسَائِلِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا فِيهِ .
قَالَ ( وَإِنْ اخْتَلَفَ الشَّفِيعُ وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ إلَخْ ) الشَّفِيعُ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَا بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي لَكِنَّهُمَا لَيْسَا كَذَلِكَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ( لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي عَلَى الْمُشْتَرِي اسْتِحْقَاقَ الدَّارِ ) بِأَقَلَّ الثَّمَنَيْنِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَدَّعِي عَلَيْهِ شَيْئًا فَيُخَيَّرُ الشَّفِيعُ بَيْنَ الْأَخْذِ وَالتَّرْكِ .
فَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي الثَّمَنِ وَعَجَزَا عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ كَانَ الْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ يُنْكِرُ مَا يَدَّعِيهِ الشَّفِيعُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الدَّارِ ( عَلَيْهِ عِنْدَ فَقْدِ الْأَقَلِّ ) وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا يَتَحَالَفَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ ثَمَّةَ نَصٌّ ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ( وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَهِيَ لِلشَّفِيعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : هِيَ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا فَصَارَ كَبَيِّنَةِ الْبَائِعِ ) إذَا اخْتَلَفَ هُوَ وَالْمُشْتَرِي فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَإِنَّهَا لِلْبَائِعِ ، وَكَبَيِّنَةِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ مَعَ بَيِّنَةِ الْمُوَكِّلِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَإِنَّهَا لِلْوَكِيلِ وَكَبَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَبْدِ مَعَ بَيِّنَةِ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ إذَا اخْتَلَفَا فِي ثَمَنِ الْعَبْدِ الْمَأْسُورِ فَإِنَّهَا لِلْمُشْتَرِي لِمَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ ( وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ ) فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لِجَوَازِ تَحْقِيقِ الْبَيْعَيْنِ مَرَّةً بِأَلْفٍ وَأُخْرَى بِأَلْفَيْنِ عَلَى مَا شَهِدَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَتَانِ وَفُسِخَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لِتَأَكُّدِ حَقِّهِ فَجَازَ أَنْ يُجْعَلَا مَوْجُودَيْنِ فِي حَقِّهِ ( وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَائِعِ مَعَ
الْمُشْتَرِي لَا يَتَوَالَى بَيْنَهُمَا عَقْدَانِ إلَّا بِانْفِسَاخِ الْأَوَّلِ ) فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَيُصَارُ إلَى أَكْثَرِهِمَا إثْبَاتًا لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى التَّرْجِيحِ عِنْدَ تَعَذُّرِ التَّوْفِيقِ ( وَهَذَا هُوَ التَّخْرِيجُ لِبَيِّنَةِ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ كَالْبَائِعِ وَالْمُوَكِّلُ كَالْمُشْتَرِي ) فَلَا يُمْكِنُ تَوَالِي الْعَقْدَيْنِ بَيْنَهُمَا إلَّا بِانْفِسَاخِ الْأَوَّلِ فَتَعَذَّرَ التَّوْفِيقُ ، عَلَى أَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَلَى مَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ صَدَرَ مِنْهُ إقْرَارَانِ : أَيْ بِحَسَبِ مَا تُوجِبُهُ الْبَيِّنَتَانِ ، فَكَانَ الْمُوَكِّلُ أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ ( وَأَمَّا الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ فَقَدْ ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ ) ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ .
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ لِلْمُشْتَرِي فَذَاكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ التَّوْفِيقَ مُتَعَذِّرٌ ، إذْ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ الثَّانِي هُنَاكَ إلَّا بِفَسْخِ الْأَوَّلِ ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَكَاهَا مُحَمَّدٌ وَأَخَذَ بِهَا ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ بَيِّنَةَ الشَّفِيعِ مُلْزِمَةٌ ) لِأَنَّهَا إذَا قَبِلَتْ وَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي تَسْلِيمُ الدَّارِ بِمَا ادَّعَاهُ الشَّفِيعُ شَاءَ أَوْ أَبَى .
وَالْمُلْزِمُ مِنْهَا أَوْلَى لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِلْإِلْزَامِ ، وَبَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ غَيْرُ مُلْزِمَةٍ لِأَنَّهَا إذَا قَبِلَتْ لَا يَجِبُ عَلَى الشَّفِيعِ شَيْءٌ وَلَكِنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ أَوْ يَتْرُكَ ، وَغَيْرُ الْمُلْزِمِ مُسْتَمِرٌّ فِي مُقَابَلَةِ الْمُلْزِمِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ طَرِيقَةً أُخْرَى لَهُ حَكَاهَا أَبُو يُوسُفَ وَلَمْ يَأْخُذْ بِهَا ، وَعَلَى هَذِهِ وَقَعَتْ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ بَيِّنَةِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَالْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُلْزِمَةٌ ، فَلِهَذَا صِرْنَا إلَى التَّرْجِيحِ لِلزِّيَادَةِ وَرَجَّحْنَا بَيِّنَةَ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ لِكَوْنِهَا
مُلْزِمَةً عَلَى بَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُلْزِمَةٍ .
قَالَ ( وَإِذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي ثَمَنًا وَادَّعَى الْبَائِعُ أَقَلَّ مِنْهُ وَلَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِمَا قَالَهُ الْبَائِعُ وَكَانَ ذَلِكَ حَطًّا عَنْ الْمُشْتَرِي ) ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَمْرَ إنْ كَانَ عَلَى مَا قَالَ الْبَائِعُ فَقَدْ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا قَالَ الْمُشْتَرِي فَقَدْ حَطَّ الْبَائِعُ بَعْضَ الثَّمَنِ ، وَهَذَا الْحَطُّ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلِأَنَّ التَّمَلُّكَ عَلَى الْبَائِعِ بِإِيجَابِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ مَا بَقِيَتْ مُطَالَبَتُهُ فَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ بِقَوْلِهِ .
قَالَ ( وَلَوْ ادَّعَى الْبَائِعُ الْأَكْثَرَ يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ ، وَأَيُّهُمَا نَكَلَ ظَهَرَ أَنَّ الثَّمَنَ مَا يَقُولُهُ الْآخَرُ فَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِذَلِكَ ، وَإِنْ حَلَفَا يَفْسَخُ الْقَاضِي الْبَيْعَ عَلَى مَا عُرِفَ وَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِقَوْلِ الْبَائِعِ ) ؛ لِأَنَّ فَسْخَ الْبَيْعِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الشَّفِيعِ .
قَالَ ( وَإِنْ كَانَ قَبَضَ الثَّمَنَ أَخَذَ بِمَا قَالَ الْمُشْتَرِي إنْ شَاءَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِ الْبَائِعِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوْفَى الثَّمَنَ انْتَهَى حُكْمُ الْعَقْدِ ، وَخَرَجَ هُوَ مِنْ الْبَيِّنِ وَصَارَ هُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَبَقِيَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .
وَلَوْ كَانَ نَقْدُ الثَّمَنِ غَيْرَ ظَاهِرٍ فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْت الدَّارَ بِأَلْفٍ وَقَبَضْت الثَّمَنَ يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِأَلْفٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ بِالْبَيْعِ تَعَلَّقَتْ الشُّفْعَةُ بِهِ ، فَبِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ قَبَضْتُ الثَّمَنَ يُرِيدُ إسْقَاطَ حَقِّ الشَّفِيعِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ .
وَلَوْ قَالَ قَبَضْت الثَّمَنَ وَهُوَ أَلْفٌ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ بِالْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ خَرَجَ مِنْ الْبَيِّنِ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ قَوْلِهِ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ
قَالَ ( وَإِذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي ثَمَنًا وَادَّعَى الْبَائِعُ أَقَلَّ مِنْهُ إلَخْ ) إذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا أَوْ غَيْرَ مَقْبُوضٍ ، أَوْ يَكُونَ الْقَبْضُ غَيْرَ ظَاهِرٍ : يَعْنِي غَيْرَ مَعْلُومٍ لِلشَّفِيعِ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْبُوضٍ فَإِمَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْبَائِعُ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِمَا قَالَ الْبَائِعُ وَكَانَ ذَلِكَ حَطًّا عَنْ الْمُشْتَرِي .
وَوَجْهُهُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ وَلِأَنَّ التَّمَلُّكَ وَجْهٌ آخَرُ وَإِنَّمَا كَانَ التَّمَلُّكُ عَلَى الْبَائِعِ بِإِيجَابِهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقُلْ بِعْت لَا يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ شَيْءٌ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْبَيْعِ وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ وَلَيْسَ لَهُمَا بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ ، وَأَيُّهُمَا نَكَلَ ظَهَرَ أَنَّ الثَّمَنَ مَا يَقُولُهُ الْآخَرُ فَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِذَلِكَ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فَسَخَ الْقَاضِي الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا عُرِفَ .
وَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِقَوْلِ الْبَائِعِ لِأَنَّ فَسْخَ الْبَيْعِ وَلَا يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الشَّفِيعِ إنْ كَانَ الْفَسْخُ بِالْقَضَاءِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نُصِبَ نَاظِرًا لِلْمُسْلِمِينَ لَا مُبْطِلًا لِحُقُوقِهِمْ ( وَإِنْ كَانَ مَقْبُوضًا أَخَذَهَا بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي إنْ شَاءَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِ الْبَائِعِ ) لَمَّا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْلُومِ الْقَبْضِ فَإِمَّا أَنْ يُقِرَّ الْبَائِعُ بِالْقَبْضِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَا إذَا كَانَ غَيْرَ مَقْبُوضٍ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَالْفَرْضُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي أَكْثَرَ مِمَّا يَقُولُ الْبَائِعُ وَالدَّارُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِمَّا أَنْ يُقِرَّ أَوَّلًا بِمِقْدَارِ الثَّمَنِ ثُمَّ بِالْقَبْضِ أَوْ بِالْعَكْسِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَمَا لَوْ قَالَ (
بِعْت الدَّارَ مِنْهُ بِأَلْفٍ وَقَبَضْت الثَّمَنَ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِقَوْلِ الْبَائِعِ ) أَيْ بِالْأَلْفِ ( لِأَنَّهُ لَمَّا بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ بِالْبَيْعِ بِمِقْدَارٍ تَعَلَّقَتْ الشُّفْعَةُ بِهِ ) أَيْ بِالْبَيْعِ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ تَمَّ بِقَوْلِهِ ( قَبَضْت الثَّمَنَ يُرِيدُ إسْقَاطَ حَقِّ الشَّفِيعِ ) الْمُتَعَلِّقِ بِإِقْرَارِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، لِأَنَّهُ إنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ يَبْقَى أَجْنَبِيًّا مِنْ الْعَقْدِ ، إذْ لَا مِلْكَ لَهُ وَلَا يَدَ ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَدَّعِيه الْمُشْتَرِي كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا أَنَّ الثَّمَنَ إذَا كَانَ مَقْبُوضًا أَخَذَ بِمَا قَالَ الْمُشْتَرِي وَلَيْسَ لَهُ إسْقَاطُ حَقِّ الشَّفِيعِ ( فَيُرَدُّ عَلَيْهِ ) قَبَضْت وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَمَا لَوْ قَالَ ( قَبَضْت الثَّمَنَ ) وَهُوَ أَلْفٌ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِهِ وَيَأْخُذُهَا بِمَا قَالَ الْمُشْتَرِي ( لِأَنَّ بِالْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ خَرَجَ مِنْ الْبَيِّنِ وَصَارَ أَجْنَبِيًّا وَسَقَطَ اعْتِبَارُ قَوْلِهِ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ ) وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَبِيعَ إذَا كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَأَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ وَزَعَمَ أَنَّهُ أَلْفٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، لِأَنَّ التَّمَلُّكَ يَقَعُ عَلَى الْبَائِعِ فَيَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ أَجْنَبِيًّا لِكَوْنِهِ ذَا الْيَدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ فِيمَا يُؤْخَذُ بِهِ الْمَشْفُوعُ ) : قَالَ ( وَإِذَا حَطَّ الْبَائِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الثَّمَنِ يَسْقُطُ ذَلِكَ عَنْ الشَّفِيعِ ، وَإِنْ حَطَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْ الشَّفِيعِ ) لِأَنَّ حَطَّ الْبَعْضِ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَا بَقِيَ ، وَكَذَا إذَا حَطَّ بَعْدَمَا أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِالثَّمَنِ يَحُطُّ عَنْ الشَّفِيعِ حَتَّى يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ ، بِخِلَافِ حَطِّ الْكُلِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ بِحَالٍ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ .لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْمَشْفُوعِ وَهُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ ذَكَرَ مَا يُؤْخَذُ بِهِ الْمَشْفُوعُ وَهُوَ الثَّمَنُ الَّذِي يُؤَدِّيهِ الشَّفِيعُ لِأَنَّ الثَّمَنَ تَابِعٌ ( إذَا حَطَّ الْبَائِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي ) حَطَّ بَعْضَ الثَّمَنِ وَالزِّيَادَةَ يَسْتَوِيَانِ فِي بَابِ الْمُرَابَحَةِ دُونَ الشُّفْعَةِ ، لِأَنَّ فِي الْمُرَابَحَةِ لَيْسَ فِي الْتِزَامِ الزِّيَادَةِ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ ، بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ فَإِنَّ فِي الزِّيَادَةِ فِيهَا إبْطَالَ حَقٍّ ثَبَتَ لِلشَّفِيعِ بِأَقَلَّ مِنْهَا ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا حَطَّ عَنْ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الثَّمَنِ سَقَطَ ذَلِكَ عَنْ الشَّفِيعِ وَإِنْ حَطَّ الْجَمِيعَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ شَيْءٌ لِأَنَّ حَطَّ الْبَعْضِ مُلْتَحِقٌ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُهَا بِالثَّمَنِ وَالثَّمَنُ مَا بَقِيَ ، وَإِنْ حَطَّ بَعْدَهُ رَجَعَ الشَّفِيعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ الْقَدْرِ ، بِخِلَافِ حَطِّ الْكُلِّ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لِئَلَّا يَخْرُجَ الْعَقْدُ عَنْ مَوْضُوعِهِ وَقَدْ بَيَّنَهُ فِي الْبُيُوعِ فِي فَصْلٍ قُبَيْلَ الرِّبَا ، وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ
( وَإِنْ زَادَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ لَمْ تَلْزَمْ الزِّيَادَةُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ ) ؛ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الزِّيَادَةِ ضَرَرًا بِالشَّفِيعِ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْأَخْذَ بِمَا دُونَهَا .
بِخِلَافِ الْحَطِّ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لَهُ ، وَنَظِيرُ الزِّيَادَةِ إذَا جَدَّدَ الْعَقْدَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لَمْ يَلْزَمْ الشَّفِيعَ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِمَا بَيَّنَّا كَذَا هَذَا .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا بِعَرَضٍ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِقِيمَتِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ ( وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَخَذَهَا بِمِثْلِهِ ) ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ .
وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لِلشَّفِيعِ وِلَايَةَ التَّمَلُّكِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمِثْلِ مَا تَمَلَّكَهُ فَيُرَاعَى بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ كَمَا فِي الْإِتْلَافِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ .( قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا بِعَرْضٍ ) أَيْ مَتَاعٍ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ كَالْعَبْدِ مَثَلًا ( أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِقِيمَتِهِ ) أَيْ بِقِيمَةِ الْعَرْضِ ( لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَخَذَهَا بِمِثْلِهِ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ) وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لِلشَّفِيعِ وِلَايَةَ التَّمَلُّكِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمِثْلِ مَا يَمْلِكُهُ فَيُرَاعَى بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مِثْلُ صُورَةِ مِلْكِهِ بِهَا ، وَإِلَّا فَالْمِثْلُ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ وَهُوَ الْقِيمَةُ .
وَقَوْلُهُ ( بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ ) يُشِيرُ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا قِيلَ الْقِيمَةُ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَفِيهَا جَهَالَةٌ وَهِيَ تَمْنَعُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّفِيعَ لَوْ سَلَّمَ شُفْعَةَ الدَّارِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا بَيْتًا بِعَيْنِهِ كَانَ التَّسْلِيمُ بَاطِلًا وَهُوَ عَلَى شُفْعَةِ الْجَمِيعِ لِكَوْنِ قِيمَةِ الْبَيْتِ مِمَّا يُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ مُرَاعَاةَ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا ، بِخِلَافِ الْبَيْتِ فَإِنَّ أَخْذَهُ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ مُمْكِنٌ فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ مَانِعَةً .
( وَإِنْ بَاعَ عَقَارًا بِعَقَارٍ أَخَذَ الشَّفِيعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقِيمَةِ الْآخَرِ ) ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُهُ وَهُوَ ذَوَاتُ الْقِيَمِ فَيَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ .
قَالَ ( وَإِذَا بَاعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَلِلشَّفِيعِ الْخِيَارُ ، إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِثَمَنِ حَالٍّ ، وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ ثُمَّ يَأْخُذُهَا ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا فِي الْحَالِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ) وَقَالَ زُفَرُ : لَهُ ذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مُؤَجَّلًا وَصْفٌ فِي الثَّمَنِ كَالزِّيَافَةِ وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ بِهِ فَيَأْخُذُ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ كَمَا فِي الزُّيُوفِ .
وَلَنَا أَنَّ الْأَجَلَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ ، وَلَا شَرْطَ فِيمَا بَيْنَ الشَّفِيعِ وَالْبَائِعِ أَوْ الْمُبْتَاعِ ، وَلَيْسَ الرِّضَا بِهِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي رِضًا بِهِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْمَلَاءَةِ ، وَلَيْسَ الْأَجَلُ وَصْفَ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْمُشْتَرِي ؛ وَلَوْ كَانَ وَصْفًا لَهُ لَتَبِعَهُ فَيَكُونُ حَقًّا لِلْبَائِعِ كَالثَّمَنِ وَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَى شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ثُمَّ وَلَّاهُ غَيْرَهُ لَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ إلَّا بِالذِّكْرِ كَذَا هَذَا ، ثُمَّ إنْ أَخَذَهَا بِثَمَنٍ حَالٍّ مِنْ الْبَائِعِ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ ، وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي رَجَعَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ كَمَا كَانَ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا لَمْ يَبْطُلْ بِأَخْذِ الشَّفِيعِ فَبَقِيَ مُوجِبُهُ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَقَدْ اشْتَرَاهُ مُؤَجَّلًا ، وَإِنْ اخْتَارَ الِانْتِظَارَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَلْتَزِمَ زِيَادَةَ الضَّرَرِ مِنْ حَيْثُ النَّقْدِيَّةُ .
وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ مُرَادُهُ الصَّبْرُ عَنْ الْأَخْذِ ، أَمَّا الطَّلَبُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ حَتَّى لَوْ سَكَتَ عَنْهُ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ إنَّمَا
يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ ، وَالْأَخْذُ يَتَرَاخَى عَنْ الطَّلَبِ ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْأَخْذِ فِي الْحَالِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ حَالًّا فَيُشْتَرَطُ الطَّلَبُ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ بَاعَ عَقَارًا بِعَقَارٍ ) ظَهَرَ وَجْهُهُ مِمَّا تَقَدَّمَ ( وَإِذَا بَاعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ) إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ ( فَلِلشَّفِيعِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِثَمَنٍ حَالٍ ، وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ عَنْ الْأَخْذِ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ ثُمَّ يَأْخُذَهَا ) إنَّمَا وَصَفْنَا الْأَجَلَ بِكَوْنِهِ مَعْلُومًا ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَجْهُولًا كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ ( وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا فِي الْحَالِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ) عِنْدَنَا ( قَالَ : زُفَرُ : لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ) الْقَدِيمُ ( لِأَنَّ الْأَجَلَ وَصْفٌ فِي الثَّمَنِ كَالزِّيَافَةِ وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ بِهِ ) أَيْ بِالثَّمَنِ ( فَيَأْخُذُهُ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ كَمَا فِي الزُّيُوفِ .
وَلَنَا أَنَّ الْأَجَلَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ ، وَلَا شَرْطَ فِيمَا بَيْنَ الشَّفِيعِ وَالْبَائِعِ أَوْ الْمُبْتَاعِ ) فَلَا أَجَلَ فِيمَا بَيْنَ الشَّفِيعِ وَبَيْنَهُمَا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ الرِّضَا ) دَلِيلٌ آخَرُ وَتَقْرِيرُهُ لَا بُدَّ فِي الشُّفْعَةِ مِنْ الرِّضَا لِكَوْنِهَا مُبَادَلَةً وَلَا رِضًا فِي حَقِّ الشَّفِيعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَجَلِ لِأَنَّ الرِّضَا بِهِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي لَيْسَ بِرِضًا فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْمَلَاءَةِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَهُوَ مَصْدَرُ مَلُأَ الرَّجُلُ بِالضَّمِّ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَمَّا كَانَ الرِّضَا شَرْطًا وَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ حَقُّ الشُّفْعَةِ لِانْتِفَائِهِ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي جَمِيعًا ، وَحَيْثُ ثَبَتَ بِدُونِهِ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْأَجَلُ كَذَلِكَ وَالْجَوَابُ أَنَّ ثُبُوتَ بِدُونِهِ ضَرُورِيٌّ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي ثُبُوتِ الْأَجَلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ الْأَجَلُ وَصْفًا فِي الثَّمَنِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ زُفَرَ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ وَصْفَ الشَّيْءِ يَتْبَعُهُ لَا مَحَالَةَ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ ( لِأَنَّهُ حَقُّ الْمُشْتَرِي ) وَالثَّمَنُ حَقُّ الْبَائِعِ .
وَقَوْلُهُ ( وَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَى شَيْئًا ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِامْتِنَاعِ قَبْضِ الْمُشْتَرِي بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ
وَهُوَ يُوجِبُ الْفَسْخَ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَاخِرِ بَابِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي رَجَعَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إلَخْ ) يُوهِمُ أَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُهُ بِبَيْعٍ جَدِيدٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ بِطَرِيقِ تَحَوُّلِ الصَّفْقَةِ كَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ ، لَكِنْ يَتَحَوَّلُ مَا كَانَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَالْأَجَلُ يَقْتَضِي الشَّرْطَ فَبَقِيَ مَعَ مَنْ ثَبَتَ الشَّرْطُ فِي حَقِّهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ اخْتَارَ الِانْتِظَارَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ ) احْتِزَازٌ عَنْ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ .
رَوَى ابْنُ أَبِي مَالِكٍ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا كَقَوْلِهِمَا ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ فِي الْحَالِ ، لِأَنَّ الطَّلَبَ إنَّمَا هُوَ لِلْأَخْذِ ، وَهُوَ الْحَالُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَطْلُبُهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُرِيدُ الْأَخْذَ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ أَوْ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فِي الْحَالِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي طَلَبِهِ فِي الْحَالِ ، فَسُكُوتُهُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الطَّلَبِ لَا لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الْأَخْذِ .
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا وَقَوْلُهُ أَوَّلًا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَفِيهِ إغْلَاقٌ ، وَتَقْرِيرُهُ حَقَّ الشُّفْعَةِ يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِ ، وَالشَّرْطُ الطَّلَبُ عِنْدَ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْرِيرُهُ هَكَذَا الشَّرْطُ الطَّلَبُ عِنْدَ حَقِّ الشُّفْعَةِ وَحَقِّ الشُّفْعَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ فَيُشْتَرَطُ الطَّلَبُ عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِ ، وَأَمَّا الْأَخْذُ فَإِنَّهُ يَتَرَاخَى عَنْ الطَّلَبِ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ إلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْأَخْذِ فِي الْحَالِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ ، وَتَقْرِيرُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْأَخْذُ ، وَلَئِنْ كَانَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَمَكِّنٍ مِنْ الْأَخْذِ فِي
الْحَالِ بَلْ هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ حَالًّا .
قَالَ ( وَإِنْ اشْتَرَى ذِمِّيٌّ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ دَارًا وَشَفِيعُهَا ذِمِّيٌّ أَخَذَهَا بِمِثْلِ الْخَمْرِ وَقِيمَةِ الْخِنْزِيرِ ) لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مَقْضِيٌّ بِالصِّحَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَحَقُّ الشُّفْعَةِ يَعُمُّ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ ، وَالْخَمْرُ لَهُمْ كَالْخَلِّ لَنَا وَالْخِنْزِيرُ كَالشَّاةِ ، فَيَأْخُذُ فِي الْأَوَّلِ بِالْمِثْلِ وَالثَّانِي بِالْقِيمَةِ .
قَالَ ( وَإِنْ كَانَ شَفِيعُهَا مُسْلِمًا أَخَذَهَا بِقِيمَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ) أَمَّا الْخِنْزِيرُ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا الْخَمْرُ لِامْتِنَاعِ التَّسَلُّمِ وَالتَّسْلِيمِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَالْتَحَقَ بِغَيْرِ الْمِثْلِيِّ ، وَإِنْ كَانَ شَفِيعُهَا مُسْلِمًا وَذِمِّيًّا أَخَذَ الْمُسْلِمُ نِصْفَهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الْخَمْرِ وَالذِّمِّيُّ نِصْفَهَا بِنِصْفِ مِثْلِ الْخَمْرِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ ، فَلَوْ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ أَخَذَهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الْخَمْرِ لِعَجْزِهِ عَنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ وَبِالْإِسْلَامِ يَتَأَكَّدُ حَقُّهُ لَا أَنْ يَبْطُلَ ، فَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَاهَا بِكُرٍّ مِنْ رُطَبٍ فَحَضَرَ الشَّفِيعُ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ يَأْخُذُ بِقِيمَةِ الرُّطَبِ كَذَا هَذَا .
قَالَ ( وَإِذَا اشْتَرَى ذِمِّيٌّ دَارًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَشَفِيعُهَا ذِمِّيٌّ أَخَذَهَا بِمِثْلِ الْخَمْرِ وَقِيمَةِ الْخِنْزِيرِ ) وَجْهٌ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ وَشَفِيعُهَا ذِمِّيٌّ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا كَانَ مُرْتَدًّا فَإِنَّهُ لَا شُفْعَةَ لَهُ سَوَاءٌ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَلَا لِوَرَثَتِهِ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تُورَثُ ( وَإِنْ كَانَ شَفِيعُهَا مُسْلِمًا أَخَذَهَا بِقِيمَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ : أَمَّا الْخِنْزِيرُ فَظَاهِرٌ : يَعْنِي لِكَوْنِهِ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ .
وَاسْتَشْكَلَ بِأَنَّ قِيمَةَ الْخِنْزِيرِ لَهَا حُكْمُ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ وَلِهَذَا لَا يَعْشُرُ الْعَاشِرُ عَنْ قِيمَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ مِنْ يَمُرُّ عَلَى الْعَاشِرِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مُرَاعَاةَ حَقِّ الشَّفِيعِ وَاجِبَةٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ دَفْعُ قِيمَةِ الْخِنْزِيرِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ قِيمَةِ الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ الرُّجُوعُ إلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ مَنْ تَابَ مِنْ فَسَقَةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ، مِثْلُ مَا إذَا اخْتَلَفَ الشَّفِيعُ وَالْمُشْتَرِي فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ ، وَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَالْخَمْرُ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ انْتَقَضَ الْبَيْعُ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ ، وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ قَبْضَ الْخَمْرِ بِحُكْمِ الْبَيْعِ كَمَا يَمْنَعُ الْعَقْدَ عَلَى الْخَمْرِ وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الشَّفِيعِ فِي الشُّفْعَةِ لِأَنَّ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ بِأَصْلِ الْبَيْعِ وَقَدْ كَانَ صَحِيحًا وَبَقَاؤُهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ الشُّفْعَةِ وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ
قَالَ ( وَإِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِيهَا أَوْ غَرَسَ ثُمَّ قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ ، وَإِنْ شَاءَ كَلَّفَ الْمُشْتَرِيَ قَلْعَهُ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْقَلْعَ وَيُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، إلَّا أَنَّ عِنْدَهُ لَهُ أَنْ يُقْلِعَ وَيُعْطِي قِيمَةَ الْبِنَاءِ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي الْبِنَاءِ لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الدَّارَ مِلْكُهُ ، وَالتَّكْلِيفُ بِالْقَلْعِ مِنْ أَحْكَامِ الْعُدْوَانِ وَصَارَ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا ، وَكَمَا إذَا زَرَعَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْقَلْعَ ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي إيجَابِ الْأَخْذِ بِالْقِيمَةِ دَفْعَ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ بِتَحَمُّلِ الْأَدْنَى فَيُصَارَ إلَيْهِ .
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ بَنَى فِي مَحِلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُتَأَكِّدٌ لِلْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَيُنْقَضُ كَالرَّاهِنِ إذَا بَنَى فِي الْمَرْهُونِ ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّهُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ وَهَذَا يَنْقُضُ بَيْعَهُ وَهِبَتَهُ وَغَيْرَهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّهُ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ، وَلِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِرْدَادِ فِيهِمَا ضَعِيفٌ وَلِهَذَا لَا يَبْقَى بَعْدَ الْبِنَاءِ ، وَهَذَا الْحَقُّ يَبْقَى فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الْقِيمَةِ كَمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، وَالزَّرْعُ يُقْلَعُ قِيَاسًا .
وَإِنَّمَا لَا يُقْلَعُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةً مَعْلُومَةً وَيَبْقَى بِالْأَجْرِ وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ ، وَإِنْ أَخَذَ بِالْقِيمَةِ يَعْتَبِرُ قِيمَتَهُ مَقْلُوعًا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْغَصْبِ ( وَلَوْ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ فَبَنَى فِيهَا أَوْ غَرَسَ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ بِالثَّمَنِ ) لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ
الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ ، لَا عَلَى الْبَائِعِ إنْ أَخَذَهَا مِنْهُ ، وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي إنْ أَخَذَهَا مِنْهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ لِأَنَّهُ مُتَمَلِّكٌ عَلَيْهِ فَنَزَلَا مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي ، وَالْفَرْقُ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ وَمُسَلَّطٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ ، وَلَا غُرُورَ وَلَا تَسْلِيطَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ مِنْ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَيْهِ قَالَ ( وَإِذَا انْهَدَمَتْ الدَّارُ أَوْ احْتَرَقَ بِنَاؤُهَا أَوْ جَفَّ شَجَرُ الْبُسْتَانِ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ) لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ تَابِعٌ حَتَّى دَخَلَا فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ فَلَا يُقَابِلُهُمَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ مَا لَمْ يَصِرْ مَقْصُودًا وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُهَا مُرَابَحَةً بِكُلِّ الثَّمَنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا غَرِقَ نِصْفُ الْأَرْضِ حَيْثُ يَأْخُذُ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ لِأَنَّ الْفَائِتَ بَعْضُ الْأَصْلِ قَالَ .
( وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ) لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ تَمَلُّكِ الدَّارِ بِمَالِهِ قَالَ ( وَإِنْ نَقَضَ الْمُشْتَرِي الْبِنَاءَ قِيلَ لِلشَّفِيعِ إنْ شِئْت فَخُذْ الْعَرْصَةَ بِحِصَّتِهَا ، وَإِنْ شِئْت فَدَعْ ) لِأَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالْإِتْلَافِ فَيُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْهَلَاكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ ( وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ النَّقْضَ ) لِأَنَّهُ صَارَ مَفْصُولًا فَلَمْ يَبْقَ تَبَعًا قَالَ ( وَمَنْ ابْتَاعَ أَرْضًا وَعَلَى نَخْلِهَا ثَمَرٌ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِثَمَرِهَا ) وَمَعْنَاهُ إذَا ذُكِرَ الثَّمَرُ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اسْتِحْسَانٌ وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَأْخُذُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَبَعٍ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ فَأَشْبَهَ الْمَتَاعَ فِي الدَّارِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الِاتِّصَالِ صَارَ تَبَعًا لِلْعَقَارِ كَالْبِنَاءِ فِي الدَّارِ ، وَمَا كَانَ مُرَكَّبًا فِيهِ
فَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ قَالَ ( وَكَذَلِكَ إنْ ابْتَاعَهَا وَلَيْسَ فِي النَّخِيلِ ثَمَرٌ فَأَثْمَرَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ) يَعْنِي يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ تَبَعًا لِأَنَّ الْبَيْعَ سَرَى إلَيْهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي وَلَدِ الْمَبِيعِ قَالَ ( فَإِنْ جَدَّهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ لَا يَأْخُذُ الثَّمَرَ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ تَبَعًا لِلْعَقَارِ وَقْتَ الْأَخْذِ حَيْثُ صَارَ مَفْصُولًا عَنْهُ فَلَا يَأْخُذُهُ قَالَ فِي الْكِتَابِ ( وَإِنْ جَدّه الْمُشْتَرِي سَقَطَ عَنْ الشَّفِيعِ حِصَّتُهُ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( وَهَذَا جَوَابُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ) لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ مَقْصُودًا فَيُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ( أَمَّا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي يَأْخُذُ مَا سِوَى الثَّمَرِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ) لِأَنَّ الثَّمَرَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَلَا يَكُونُ مَبِيعًا إلَّا تَبَعًا فَلَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
( فَصْلٌ ) : الْأَصْلُ فِي الْمَشْفُوعِ عَدَمُ التَّغَيُّرِ ، وَالتَّغَيُّرُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِفِعْلِ الْغَيْرِ عَارِضٌ ، فَكَانَ جَدِيرًا بِالتَّأْخِيرِ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ ( وَإِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِيهَا أَوْ غَرَسَ ثُمَّ قَضَى لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْضَ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ الْمُشْتَرِي وَقِيمَةُ الْبِنَاءِ أَوْ الْغَرْسِ ، وَإِنْ شَاءَ كُلِّفَ الْمُشْتَرِي قَلْعَهُ ) .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْقَلْعَ وَيُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ ( وَالْغَرْسِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ ) وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ لَهُ أَنْ يُقْلِعَ وَيُعْطِيَ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي الْبِنَاءِ لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّهُ مِلْكُهُ ، وَالْمُحِقُّ فِي شَيْءٍ لَا يُكَلَّفُ قَلْعَهُ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْقَلْعِ مِنْ أَحْكَامِ الْعُدْوَانِ ، وَاسْتَوْضَحَ ذَلِكَ بِالْمَوْهُوبِ لَهُ ، فَإِنَّهُ إذَا بَنَى لَيْسَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يُكَلِّفَهُ الْقَلْعَ وَيَرْجِعَ فِي الْأَرْضِ وَبِالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إذَا بَنَى ، وَبِالْمُشْتَرِي إذَا زَرَعَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ قَلْعَ مَا لَمْ يَزْرَعْ اتِّفَاقًا ( وَهَذَا ) أَيْ مَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يُكَلَّفُ ( لِأَنَّ فِي إيجَابِ الْأَخْذِ بِالْقِيمَةِ دَفْعَ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ ) ضَرَرُ الْمُشْتَرِي وَهُوَ الْقَلْعُ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يُقَابِلُهُ ( بِتَحَمُّلِ الْأَدْنَى ) وَهُوَ زِيَادَةُ الثَّمَنِ عَلَى الشَّفِيعِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ لِوُجُوبِ مَا يُقَابِلُهَا وَهُوَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ .
( وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بَنَى فِي مَحَلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُؤَكَّدٌ لِلْغَيْرِ ) بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إسْقَاطِهِ جَبْرًا ( مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ) وَكُلُّ مَنْ بَنَى فِي ذَلِكَ نُقِضَ بِنَاؤُهُ كَالرَّاهِنِ إذَا بَنَى فِي الْمَرْهُونِ وَقَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ احْتِرَازٌ عَنْ
الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ بِنَاءَهُمَا حَصَلَ بِتَسْلِيطِ الْوَاهِبِ وَالْبَائِعِ ( وَهَذَا ) أَيْ نَقْضُ الْبِنَاءِ لِحَقِّ الشَّفِيعِ ( لِأَنَّ حَقَّهُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي ) وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بَيَانًا لِكَوْنِ حَقِّ الشَّفِيعِ مُتَأَكِّدًا ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الشَّفِيعَ ( يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَلِهَذَا يُنْقَضُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَغَيْرُهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ كَإِجَارَتِهِ وَجَعْلِهِ مَسْجِدًا أَوْ مَقْبَرَةً ، فَكَذَا تُنْقَضُ تَصَرُّفَاتُهُ غَرْسًا وَبِنَاءً .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْهِبَةِ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا يُنْقَضُ ، وَبِخِلَافِ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ عَدَمَ اسْتِرْدَادِ الْبَائِعِ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ إذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الْمُشْتَرَى إنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ .
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلَهُ الِاسْتِرْدَادُ بَعْدَ الْبِنَاءِ كَالشَّفِيعِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِرْدَادِ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ ( قَوْلُهُ فَبِهِمَا ) أَيْ فِي الْهِبَةِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ ( ضَعِيفٌ ) ( وَلِهَذَا لَا يَبْقَى بَعْدَ الْبِنَاءِ ، وَهَذَا الْحَقُّ ) أَيْ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَيَبْقَى وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ تَكْلِيفِ الْقَلْعِ لِحَقٍّ ضَعِيفٍ عَدَمُهُ لِحَقٍّ قَوِيٍّ .
قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الِاسْتِرْدَادَ بَعْدَ الْبِنَاءِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إنَّمَا لَا يَبْقَى عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ لَا يَصِحُّ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ لَمْ يُعْتَبَرْ بِخِلَافِهِمَا .
وَقَوْلُهُ ( فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الْقِيمَةِ ) رَاجِعٌ إلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ : يَعْنِي إذَا ثَبَتَ التَّكْلِيفُ بِالْقَلْعِ فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الْقِيمَةِ عَلَى الشَّفِيعِ ، لِأَنَّ الشَّفِيعَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَحِقِّ ، وَالْمُشْتَرِي إذَا بَنَى أَوْ غَرَسَ ثُمَّ اسْتَحَقَّ رَجَعَ الْمُشْتَرِي
بِالثَّمَنِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُسْتَحِقِّ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا .
وَقَوْلُهُ ( وَالزَّرْعُ يُقْلَعُ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَكَمَا إذَا زَرَعَ الْمُشْتَرِي ، وَلَمْ يَجِبْ عَنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ فِي إيجَابِ الْأَخْذِ بِالْقِيمَةِ دَفْعَ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّهُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي تَضَمَّنَ ذَلِكَ ، لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِدَفْعِ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ بِالْأَهْوَنِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي أَصْلِ الْحَقِّ ، وَلَا مُسَاوَاةَ لِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ مُقَدَّمٌ ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ بِنَاءِ الْمُشْتَرِي فِي الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ وَصَبْغِهَا بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهَا وَيُعْطِيَ مَا زَادَ فِيهَا بِالصَّبْغِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهَا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَيْضًا عَلَى الِاخْتِلَافِ ، وَلَوْ كَانَ بِالِاتِّفَاقِ فَالْفَرْقُ أَنَّ النَّقْضَ لَا يَتَصَدَّرُ بِهِ الْمُشْتَرِي كَثِيرًا لِسَلَامَةِ النَّقْضِ لَهُ ، بِخِلَافِ الصَّبْغِ ، قَوْلُهُ ( وَإِذَا أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ ) مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ التَّخْيِيرُ ، وَتَقْرِيرُهُ الشَّفِيعَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ كُلِّفَ الْقَلْعَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ ، فَإِنْ كَلَّفَهُ فَذَاكَ ، وَإِنْ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ مَقْلُوعًا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْغَصْبِ ( وَلَوْ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ فَبَنَى فِيهَا أَوْ غَرَسَ فَاسْتَحَقَّ الْأَرْضَ رَجَعَ الثَّمَنُ ) لَا غَيْرُ أَخَذَهُ مِنْ الْبَائِعِ أَوْ الْمُشْتَرِي ( لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ أَخْذَهُ كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ ) عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مُتَمَلِّكٌ عَنْ الْمُشْتَرِي فَنُزِّلَا مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي ، ثُمَّ الْمُشْتَرِي فِي صُورَةِ الِاسْتِحْقَاقِ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ فَكَذَلِكَ الشَّفِيعُ ( وَالْفَرْقُ عَلَى الْمَشْهُورِ ) مِنْ الرِّوَايَةِ مَا ذَكَرَهُ ( أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَغْرُورٌ ) وَمُسَلَّطٌ عَلَى الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ ( مِنْ جِهَةِ
الْبَائِعِ ) وَلَا تَسْلِيطَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ مِنْ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَيْهِ .
قَالَ ( وَإِذَا انْهَدَمَتْ الدَّارُ إلَخْ ) كَلَامُهُ ظَاهِرٌ ، وَالتَّأَمُّلُ فِيهِ يُرْشِدُ إلَى أَنَّ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُمْ : يَعْنِي أَئِمَّتَنَا زَعَمُوا أَنَّ الْبِنَاءَ إذَا احْتَرَقَ لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الشَّفِيعِ ، وَإِذَا غَرِقَ بَعْضُ الْأَرْضِ سَقَطَ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ فَكَأَنَّهُمْ اعْتَبَرُوا فِعْلَ الْمَاءِ دُونَ النَّارِ تَعَسُّفًا لِقِلَّةِ التَّأَمُّلِ ، فَإِنَّ مَنْشَأَ الْفَرْقِ لَيْسَ فِعْلَ الْمَاءِ ، وَإِنَّمَا مَنْشَؤُهُ أَنَّ الْبِنَاءَ وَصْفٌ وَالْأَوْصَافُ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ إذَا فَاتَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ ، وَأَمَّا بَعْضُ الْأَرْضِ لَيْسَ بِوَصْفٍ لِبَعْضٍ آخَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ إسْقَاطِ حِصَّةِ مَا غَرِقَ مِنْ الثَّمَنِ ( وَإِنْ نَقَضَ الْمُشْتَرِي الْبِنَاءَ ) فَالشَّفِيعُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْعَرْصَةَ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّ الْبِنَاءَ صَارَ مَقْصُودًا بِالْإِتْلَافِ وَيُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ ( وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ النَّقْضَ لِأَنَّهُ صَارَ مَفْصُولًا فَلَمْ يَبْقَ تَبَعًا ) فَبَقِيَ مَنْقُولًا وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ ابْتَاعَ أَرْضًا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا كَانَ مُرَكَّبًا فِيهِ ) يَعْنِي مِثْلَ الْأَبْوَابِ وَالسُّرَرِ الْمُرَكَّبَةِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا عُرِفَ فِي وَلَدِ الْمَبِيعَةِ ) يَعْنِي أَنَّ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي يَسْرِي حُكْمُ الْبَيْعِ إلَى الْوَلَدِ حَتَّى يَكُونَ الْوَلَدُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي كَالْأُمِّ ، وَقَوْلُهُ ( فِي الْفَصْلَيْنِ ) يُرِيدُ بِهِ مَا إذَا كَانَ فِي النَّخْلِ ثَمَرٌ وَقْتَ الشِّرَاءِ ثُمَّ جَذَّهُ الْمُشْتَرِي ، وَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ ثَمَرٌ ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ لِاتِّحَادِ الْعِلَّةِ وَهُوَ عَدَمُ الِاتِّصَالِ لِأَنَّ التَّبَعِيَّةَ كَانَتْ بِهِ وَقَدْ زَالَتْ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الْكِتَابِ ) يَعْنِي مُخْتَصَرَ الْقُدُورِيِّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( بَابُ مَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَمَا لَا تَجِبُ ) قَالَ ( الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْعَقَارِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقْسَمُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا شُفْعَةَ فِيمَا لَا يُقْسَمُ ، لِأَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ دَفْعًا لِمُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَا يُقْسَمُ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَقَارٌ أَوْ رَبْعٌ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُمُومَاتِ ، وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ سَبَبُهَا الِاتِّصَالُ فِي الْمِلْكِ وَالْحِكْمَةَ دَفْعُ ضَرَرِ سُوءِ الْجِوَارِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَأَنَّهُ يَنْتَظِمُ الْقِسْمَيْنِ مَا يُقْسَمُ وَمَا لَا يُقْسَمُ وَهُوَ الْحَمَّامُ وَالرَّحَى وَالْبِئْرُ وَالطَّرِيقُ .بَابُ مَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَمَا لَا تَجِبُ ذِكْرُ تَفْصِيلِ مَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَمَا لَا تَجِبُ بَعْدَ ذِكْرِ الْوُجُوبِ مُجْمَلًا ، لِأَنَّ التَّفْصِيلَ بَعْدَ الْإِجْمَالِ .
قَالَ ( الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْعَقَارِ إلَخْ ) الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ : أَيْ ثَابِتَةٌ فِي الْعَقَارِ ، وَهُوَ مَا لَهُ أَصْلٌ مِنْ دَارٍ أَوْ ضَيْعَةٍ ( وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقْسَمُ ) أَيْ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَالْحَمَّامِ وَالرَّحَى ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِطَرِيقِ الشُّفْعَةِ فَلَا تُؤْخَذُ الْقِصَاعُ مَعَ الْحَمَّامِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ ، وَالْمُرَادُ بِالرَّحَى بَيْتُ الرَّحَى ، وَالرُّبُعُ الدَّارُ ، وَالْحَائِطُ الْبُسْتَانُ ، وَأَصْلُهُ مَا أَحَاطَ بِهِ ، وَالْحَسْبُ بِسُكُونِ السِّينِ وَفَتْحِهَا فِي مَعْنَى الْقَدْرِ ، وَاخْتَارَ الْجَوْهَرِيُّ الْفَتْحَ وَقَالَ : إنَّمَا تُسَكَّنُ فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ .
قَالَ ( وَلَا شُفْعَةَ فِي الْعُرُوضِ وَالسُّفُنِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا شُفْعَةَ إلَّا فِي رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ } وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي إيجَابِهَا فِي السُّفُنِ ، وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ لِدَفْعِ ضَرَرِ سُوءِ الْجِوَارِ عَلَى الدَّوَامِ ، وَالْمِلْكُ فِي الْمَنْقُولِ لَا يَدُومُ حَسَبَ دَوَامِهِ فِي الْعَقَارِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ وَلَا شُفْعَةَ فِي الْبِنَاءِ وَالنَّخْلِ إذَا بِيعَتْ دُونَ الْعَرْصَةِ وَهُوَ صَحِيحٌ مَذْكُورٌ فِي الْأَصْلِ ، لِأَنَّهُ لَا قَرَارَ لَهُ فَكَانَ نَقْلِيًّا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعُلُوِّ حَيْثُ يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ وَيُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ فِي السُّفْلِ إذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقُ الْعُلُوِّ فِيهِ ، لِأَنَّهُ بِمَا لَهُ مِنْ حَقِّ الْقَرَارِ الْتَحَقَ بِالْعَقَارِ قَالَ ( وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي الشُّفْعَةِ سَوَاءٌ ) لِلْعُمُومَاتِ وَلِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي السَّبَبِ وَالْحِكْمَةِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، وَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْبَاغِي وَالْعَادِلُ وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ إذَا كَانَ مَأْذُونًا أَوْ مُكَاتَبًا
وَقَوْلُهُ ( إذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقُ الْعُلْوِ فِيهِ ) لِبَيَانِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الشُّفْعَةِ لِلْعُلْوِ بِسَبَبِ الْجِوَارِ لَا بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ ، وَلَيْسَ لِنَفْيِ الشُّفْعَةِ إذَا كَانَ لَهُ طَرِيقٌ فِي السُّفْلِ ، بَلْ إذَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ كَانَ اسْتِحْقَاقُهَا بِالشَّرِكَةِ فِي الطَّرِيقِ لَا بِالْجِوَارِ فَيَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى الْجَارِ ( وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِيهَا سَوَاءٌ ) وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : الشُّفْعَةُ رِفْقٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يَسْتَحِقُّهَا مَنْ يُنْكِرُ الشَّرْعَ وَهُوَ الْكَافِرُ .
وَلَنَا الْعُمُومَاتُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَالِاسْتِوَاءُ فِي السَّبَبِ وَالْحِكْمَةِ وَهِيَ دَفْعُ ضَرَرِ سُوءِ الْجِوَارِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الِاسْتِوَاءَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ( وَلِهَذَا قُلْنَا يَسْتَوِي فِيهِ الذِّكْرُ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ ) وَقَالَ : لَا شُفْعَةَ لِلصَّغِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ .
قُلْنَا : إنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ فِي الْحَالِ يَتَضَرَّرُ فِي الْمَآلِ ( وَيَسْتَوِي الْبَاغِي وَالْعَادِلُ وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ إذَا كَانَ مَأْذُونًا أَوْ مُكَاتَبًا ) فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ غَيْرَ الْمَوْلَى فَلِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ الشُّفْعَةُ مَدْيُونًا كَانَ أَوْ لَا ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَوْلَى ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ وَشِرَاءُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ مِنْ الْمَوْلَى جَائِزٌ دُونَ غَيْرِهِ .
قَالَ ( وَإِذَا مَلَكَ الْعَقَارَ بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ مُرَاعَاةُ شَرْطِ الشَّرْعِ فِيهِ وَهُوَ التَّمَلُّكُ بِمِثْلِ مَا تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي صُورَةً أَوْ قِيمَةً عَلَى مَا مَرَّ قَالَ ( وَلَا شُفْعَةَ فِي الدَّارِ الَّتِي يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ عَلَيْهَا أَوْ يُخَالِعُ الْمَرْأَةَ بِهَا أَوْ يَسْتَأْجِرُ بِهَا دَارًا أَوْ غَيْرَهَا أَوْ يُصَالِحُ بِهَا عَنْ دَمٍ عَمْدٍ أَوْ يَعْتِقُ عَلَيْهَا عَبْدًا ) لِأَنَّ الشُّفْعَةَ عِنْدَنَا إنَّمَا تَجِبُ فِي مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَهَذِهِ الْأَعْوَاضُ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ ، فَإِيجَابُ الشُّفْعَةِ فِيهَا خِلَافُ الْمَشْرُوعِ وَقَلْبُ الْمَوْضُوعِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْوَاضَ مُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَهُ فَأَمْكَنَ الْأَخْذُ بِقِيمَتِهَا إنْ تَعَذَّرَ بِمِثْلِهَا كَمَا فِي الْبَيْعِ بِالْعَرْضِ ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ لِأَنَّهُ لَا عِوَضَ فِيهَا رَأْسًا وَقَوْلُهُ يَتَأَتَّى فِيمَا إذَا جَعَلَ شِقْصًا مِنْ دَارٍ مَهْرًا أَوْ مَا يُضَاهِيهِ لِأَنَّهُ لَا شُفْعَةَ عِنْدَهُ إلَّا فِيهِ وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ تَقَوُّمَ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ ضَرُورِيٌّ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الشُّفْعَةِ ، وَكَذَا الدَّمُ وَالْعِتْقُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ لِأَنَّ الْقِيمَةَ مَا يَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهِ فِي الْمَعْنَى الْخَاصِّ الْمَطْلُوبِ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِمَا ، وَعَلَى هَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ ثُمَّ فَرَضَ لَهَا الدَّارَ مَهْرًا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَفْرُوضِ فِي الْعَقْدِ فِي كَوْنِهِ مُقَابِلًا بِالْبُضْعِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ بِالْمُسَمَّى لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى دَارٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ عَلَيْهِ أَلْفًا فَلَا شُفْعَةَ فِي جَمِيعِ الدَّارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : تَجِبُ فِي حِصَّةِ الْأَلْفِ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةٌ مَالِيَّةٌ فِي حَقِّهِ .
وَهُوَ يَقُولُ مَعْنَى الْبَيْعِ فِيهِ تَابِعٌ وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَلَا يَفْسُدُ بِشَرْطِ النِّكَاحِ فِيهِ
، وَلَا شُفْعَةَ فِي الْأَصْلِ فَكَذَا فِي التَّبَعِ ، وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ شُرِعَتْ فِي الْمُبَادَلَةِ الْمَالِيَّةِ الْمَقْصُودَةِ حَتَّى أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا بَاعَ دَارًا وَفِيهَا رِبْحٌ لَا يَسْتَحِقُّ رَبُّ الْمَالِ الشُّفْعَةَ فِي حِصَّةِ الرِّبْحِ لِكَوْنِهِ تَابِعًا فِيهِ قَالَ ( أَوْ يُصَالِحُ عَلَيْهَا بِإِنْكَارٍ ، فَإِنْ صَالَحَ عَلَيْهَا بِإِقْرَارٍ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَكَذَا ذُكِرَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ ، وَالصَّحِيحُ أَوْ يُصَالِحُ عَنْهَا بِإِنْكَارٍ مَكَانَ قَوْلِهِ أَوْ يُصَالِحُ عَلَيْهَا ، لِأَنَّهُ إذَا صَالَحَ عَنْهَا بِإِنْكَارٍ بَقِيَ الدَّارُ فِي يَدِهِ فَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهَا لَمْ تَزُلْ عَنْ مِلْكِهِ ، وَكَذَا إذَا صَالَحَ عَنْهَا بِسُكُوتٍ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ بَذَلَ الْمَالَ افْتِدَاءً لِيَمِينِهِ وَقَطْعًا لِشَغَبِ خَصْمِهِ ، كَمَا إذَا أَنْكَرَ صَرِيحًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَنْهَا بِإِقْرَارٍ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي ، وَإِنَّمَا اسْتَفَادَهُ بِالصُّلْحِ فَكَانَ مُبَادَلَةً مَالِيَّةً .
أَمَّا إذَا صَالَحَ عَلَيْهَا بِإِقْرَارٍ أَوْ سُكُوتٍ أَوْ إنْكَارٍ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ فِي زَعْمِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ فَيُعَامَلَ بِزَعْمِهِ قَالَ ( وَلَا شُفْعَةَ فِي هِبَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا ، إلَّا أَنْ تَكُونَ بِعِوَضٍ مَشْرُوطٍ ) لِأَنَّهُ بَيْعٌ انْتِهَاءً ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ وَأَنْ لَا يَكُونَ الْمَوْهُوبُ وَلَا عِوَضُهُ شَائِعًا لِأَنَّهُ هِبَةٌ ابْتِدَاءً وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْعِوَضُ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هِبَةٌ مُطْلَقَةٌ ، إلَّا أَنَّهُ أُثِيبَ مِنْهَا فَامْتَنَعَ الرُّجُوعُ قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ ) لِأَنَّهُ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْ الْبَائِعِ ( فَإِنْ أُسْقِطَ الْخِيَارُ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ ) لِأَنَّهُ زَالَ الْمَانِعُ عَنْ الزَّوَالِ وَيُشْتَرَطُ الطَّلَبُ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَصِيرُ
سَبَبًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ عِنْدَ ذَلِكَ .
( وَإِنْ اشْتَرَى بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَجَبَ الشُّفْعَةُ ) لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْ الْبَائِعِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالشُّفْعَةُ تُبْتَنَى عَلَيْهِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَإِذَا أَخَذَهَا فِي الثُّلُثِ وَجَبَ الْبَيْعُ لِعَجْزِ الْمُشْتَرِي عَنْ الرَّدِّ ، وَلَا خِيَارَ لِلشَّفِيعِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ ، وَهُوَ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الشَّفِيعِ ، وَإِنْ بِيعَتْ دَارٌ إلَى جَنْبِهَا وَالْخِيَارُ لِأَحَدِهِمَا فَلَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ أَمَّا لِلْبَائِعِ فَظَاهِرٌ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ فِي الَّتِي يُشْفَعُ بِهَا ، وَكَذَا إذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي وَفِيهِ إشْكَالٌ أَوْضَحْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ فَلَا نُعِيدُهُ ، وَإِذَا أَخَذَهَا كَانَ إجَازَةً مِنْهُ لِلْبَيْعِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَاهَا وَلَمْ يَرَهَا حَيْثُ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ بِأَخْذِ مَا بِيعَ بِجَنْبِهَا بِالشُّفْعَةِ ، لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ لَا يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الْإِبْطَالِ فَكَيْفَ بِدَلَالَتِهِ ، ثُمَّ إذَا حَضَرَ شَفِيعُ الدَّارِ الْأُولَى لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا دُونَ الثَّانِيَةِ لِانْعِدَامِ مِلْكِهِ فِي الْأُولَى حِينَ بِيعَتْ الثَّانِيَةُ
قَالَ ( وَإِذَا مَلَكَ الْعَقَارَ بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ إلَخْ ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْعَقَارِ وَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ تُتَمَلَّكَ بِمَا هُوَ مَالٌ ( لِأَنَّهُ أَمْكَنَ مُرَاعَاةُ شَرْطِ الشَّرْعِ فِيهِ وَهُوَ التَّمَلُّكُ بِمِثْلِ مَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي صُورَةً ) فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ أَوْ قِيمَةً فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ عَلَى مَا مَرَّ فِي فَصْلِ مَا يُؤْخَذُ بِهِ الْمَشْفُوعُ وَاجِبَةً ، وَهِيَ إنَّمَا تُمْكِنُ إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَالًا فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدَّمَ الشَّفِيعَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي إثْبَاتِ حَقِّ الْأَخْذِ لَهُ بِذَلِكَ السَّبَبِ لَا بِإِنْشَاءِ سَبَبٍ آخَرَ ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِي الْمَوْهُوبِ ، لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ أَخَذَهُ بِعِوَضٍ وَكَانَ سَبَبًا غَيْرَ السَّبَبِ الَّذِي يَمْلِكُ بِهِ الْمُتَمَلِّكُ وَعَلَى هَذَا ( لَا شُفْعَةَ فِي الدَّارِ يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ عَلَيْهَا أَوْ يُخَالِعُ الْمَرْأَةَ بِهَا أَوْ يَسْتَأْجِرُ بِهَا دَارًا أَوْ غَيْرَهَا أَوْ يُصَالِحُ بِهَا عَنْ دَمِ عَمْدٍ ) أَيْ غَيْرِ دَارٍ مِنْ عَبْدٍ أَوْ حَانُوتٍ وَيُصَالِحُ بِهَا عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَوْ يُعْتِقُ عَلَيْهِ عَبْدًا ، لِأَنَّ الشَّفِيعَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَمَلُّكِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِلْمُشْتَرِي حَتَّى يَتَحَقَّقَ التَّمَلُّكُ بِمِثْلِ مَا تَمَلَّكَ بِهِ ، وَكَانَ تَفْرِيعُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ مُرَاعَاةُ شَرْطِ الشَّرْعِ إلَخْ كَافِيًا ، وَلَكِنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ عِنْدَنَا إنَّمَا تَجِبُ إلَخْ اسْتِظْهَارًا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْوَاضَ مُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَهُ فَأَمْكَنَ الْأَخْذُ بِقِيمَتِهَا وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَأَجْرُ الْمِثْلِ فِي التَّزَوُّجِ وَالْخُلْعِ وَالْإِجَارَةِ وَقِيمَةِ الدَّارِ وَالْعَبْدِ فِي الصُّلْحِ وَالْإِعْتَاقِ ( إنْ تَعَذَّرَ الْأَخْذُ بِمِثْلِهَا كَمَا فِي الْبَيْعِ بِالْعَرْضِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ لِأَنَّهُ لَا عِوَضَ فِيهَا أَصْلًا ) وَقَوْلُهُ : أَيْ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ( يَتَأَتَّى فِيمَا إذَا
جَعَلَ شِقْصًا مِنْ دَارٍ مَهْرًا أَوْ مَا يُضَاهِيهِ ) أَيْ مَا يُشَابِهُ الْمَهْرَ كَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالْأَجْرِ ( لِأَنَّهُ لَا شُفْعَةَ عِنْدَهُ إلَّا فِيهِ ) حَيْثُ لَا يَرَى الشُّفْعَةَ لَا فِي الْجِوَارِ وَلَا فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ كَالْحَمَّامِ ( وَنَحْنُ نَقُولُ ) جَوَابٌ عَنْ جَعْلِهِ هَذِهِ الْأَعْوَاضَ مُتَقَوِّمَةً ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ تَقَوُّمَ هَذِهِ الْأَعْوَاضِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أَوْ ضَرُورِيًّا ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الشُّفْعَةِ ( قَوْلُهُ وَكَذَا الدَّمُ وَالْعِتْقُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ ) وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُمَا لِأَنَّ تَقَوُّمَهُمَا أَبْعَدُ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمَالَيْنِ فَضْلًا عَنْ التَّقَوُّمِ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ الْقِيمَةَ مَا يَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهِ فِي الْمَعْنَى الْخَاصِّ الْمَطْلُوبِ ) وَهُوَ الْمَالِيَّةُ لِأَنَّ الْقِيمَةَ إنَّمَا تَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ لَا بِغَيْرِهَا مِنْ الْأَوْصَافِ كَالْجَوْهَرِيَّةِ وَالْجِسْمِيَّةِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْمَعْنَى الْخَاصُّ فِيهِمَا لِأَنَّ الْعِتْقَ إسْقَاطٌ ، وَإِزَالَةُ الدَّمِ لَيْسَ إلَّا حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا يُتَمَوَّلُ بِهِ وَيُدَّخَرُ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى هَذَا ) لِبَيَانِ أَنَّ الْفَرْضَ عِنْدَ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِ مُقَابَلًا بِالْبُضْعِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الدَّارَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ بِالْمُسَمَّى فَإِنَّ فِيهِ الشُّفْعَةَ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْبَيْعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَاسِدٌ لِجَهَالَتِهِ وَلَا شُفْعَةَ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمَا وَبِأَنَّهُ جَهَالَةٌ فِي السَّاقِطِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَالْمَفْسَدَةِ مَا أَفَضْت إلَيْهَا ( وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى دَارٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ عَلَيْهِ أَلْفًا فَلَا شُفْعَةَ فِي جَمِيعِ الدَّارِ ) أَيْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ( وَقَالَا : تَجِبُ فِي حِصَّةِ الْأَلْفِ ) تُقْسَمُ قِيمَةُ الدَّارِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ وَأَلْفِ دِرْهَمٍ (
لِأَنَّهُ مُبَادَلَةٌ مَالِيَّةٌ فِي حَقِّهِ ) أَيْ فِي حَقِّ مَا يَخُصُّ الْأَلْفَ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ مَعْنَى الْبَيْعِ فِيهِ تَابِعٌ وَالْمَقْصُودُ هُوَ النِّكَاحُ ( وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَلَا يَفْسُدُ بِشَرْطِ النِّكَاحِ فِيهِ ) وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ أَصْلًا يَفْسُدُ كَمَا لَوْ قَالَ بِعْت مِنْك هَذِهِ الدَّارَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تُزَوِّجِينِي نَفْسَك .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ ) دَلِيلٌ آخَرُ ، وَفِيهِ إشَارَةً إلَى دَفْعِ مَا يُقَالُ الشُّفْعَةُ تُفْضِي إلَى الْمُبَادَلَةِ الْمَالِيَّةِ ، وَأَمَّا أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ فَمَمْنُوعٌ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ كَوْنَهَا مَقْصُودَةً لَا بُدَّ مِنْهُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفًا فَاتَّجَرَ وَرَبِحَ أَلْفًا ثُمَّ اشْتَرَى بِأَلْفَيْنِ دَارًا فِي جِوَارِ رَبِّ الْمَالِ ثُمَّ بَاعَهَا بِالْأَلْفَيْنِ فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ فِي حِصَّةِ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ لِأَنَّ الرِّبْحَ تَبَعٌ لِرَأْسِ الْمَالِ ، وَلَيْسَ فِي مُقَابَلَةِ رَأْسِ الْمَالِ شُفْعَةٌ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ وَكِيلُهُ فِي حَقِّهِ وَلَيْسَ فِي بَيْعِ الْوَكِيلِ شُفْعَةٌ لِلْمُوَكِّلِ عَلَى مَا يَجِيءُ فَكَذَا فِي حِصَّةِ الرِّبْحِ وَهُوَ الْبَيْعُ .
قَالَ ( أَوْ يُصَالِحُ عَلَيْهَا بِإِنْكَارٍ إلَخْ ) عَطَفَ الْقُدُورِيُّ قَوْلَهُ أَوْ يُصَالِحُ عَلَيْهَا بِإِنْكَارٍ عَلَى قَوْلِهِ أَوْ يُعْتِقُ عَلَيْهَا عَبْدًا مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي لَا يَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بِلَفْظِ عَلَيْهَا كَمَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ ) أَيْ إذَا لَمْ يَكُنْ الْعِوَضُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ ، وَقُيِّدَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ بِأَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمُصَالَحِ عَنْهُ حَقَّهُ كَانَ آخِذًا حَقَّهُ فَلَيْسَ فِيهِ مُعَاوَضَةٌ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ .
قَوْلُهُ ( وَلَا شُفْعَةَ فِي هِبَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي فِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ لِأَنَّهُ لَا عِوَضَ فِيهَا
رَأْسًا ( إلَّا أَنْ يَكُونَ بِعِوَضٍ مَشْرُوطٍ ) فِي الْعَقْدِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ ، فَإِنَّهُ إذَا وَهَبَ دَارًا لِرَجُلٍ عَلَى أَنْ يَهَبَ لَهُ الْآخَرُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ مَا لَمْ يَتَقَابَضَا ( وَلَا بُدَّ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَوْهُوبُ وَلَا عِوَضُهُ شَائِعًا لِأَنَّهُ هِبَةٌ ابْتِدَاءً ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ ) لِأَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَمُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْعِوَضُ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ فَإِنَّهُ لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لَا فِي الْمَوْهُوبِ وَلَا فِي الْعِوَضِ إنْ كَانَ الْعِوَضُ دَارًا ( لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُطْلَقَةٌ عَنْ الْعِوَضِ ، إلَّا أَنَّهُ أُثِيبَ مِنْهَا فَامْتَنَعَ الرُّجُوعُ ) وَلَا شُفْعَةَ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْ الْبَائِعِ ، وَبَقَاءُ حَقِّ الْبَائِعِ يَمْنَعُ الشُّفْعَةَ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، فَلَأَنْ يَمْنَعَ بَقَاءَ مِلْكِهِ كَانَ أَوْلَى ( فَإِنْ أَسْقَطَ الْخِيَارَ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ ) لِزَوَالِ الْمَانِعِ عَنْ الزَّوَالِ ( وَيُشْتَرَطُ الطَّلَبُ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ فِي الصَّحِيحِ ) لِأَنَّ الْبَيْعَ يَصِيرُ سَبَبًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ عِنْدَ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ : إنَّهُ يُشْتَرَطُ الطَّلَبُ عِنْدَ وُجُودِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ ( قَوْلُهُ وَإِنْ اشْتَرَى بِشَرْطِ إلَخْ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا مَرَّ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ وَتَجِبُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ إلَى أَنْ قَالَ : وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَجِبُ إذَا رَغِبَ الْبَائِعُ عَنْ مِلْكِ الدَّارِ إلَخْ ( قَوْلُهُ وَإِذَا أَخَذَهَا ) أَيْ أَخَذَ الشَّفِيعُ الدَّارَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ( وَجَبَ الْبَيْعُ وَسَقَطَ الْخِيَارُ بِعَجْزِ الْمُشْتَرِي عَنْ الرَّدِّ ، وَلَا خِيَارَ لِلشَّفِيعِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ وَهُوَ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الشَّفِيعِ وَإِنْ بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا وَالْخِيَارُ لِأَحَدِهِمَا ) أَيْ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِنْ
الْبَائِعِ أَوْ مِنْ الْمُشْتَرِي ( فَلَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ أَمَّا الْبَائِعُ فَظَاهِرٌ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ فِي الَّتِي يَشْفَعُ بِهَا ) فَإِنْ أَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ كَانَ نَقْضًا لِبَيْعِهِ لِأَنَّهُ قَرَّرَ مِلْكَهُ ، وَإِقْرَارُ الْبَائِعِ عَلَى إقْرَارِ مِلْكِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ نَقْضٌ لِلْبَيْعِ ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ نَقْضًا لَكَانَ إذَا أَجَازَ الْبَيْعَ فِيهَا مَلَكَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ حِينِ الْعَقْدِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ بِزَوَائِدِهَا الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ ( وَكَذَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ ) لِلْمُشْتَرِي ( وَفِيهِ إشْكَالٌ ) وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْبَلْخِيُّ مِنْ أَنَّ أَصْلَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِخِيَارِ الشَّرْطِ لَا يَمْلِكُ الْمَبِيعَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، وَالشُّفْعَةُ لَا تُسْتَحَقُّ إلَّا بِالْمِلْكِ فَكَانَ تَنَاقُضًا .
وَقَوْلُهُ ( أَوْضَحْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : هَذِهِ الْحَوَالَةُ فِي حَقِّ الْإِشْكَالِ غَيْرُ رَائِجَةٍ ، بَلْ فِيهِ جَوَابُ الْإِشْكَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَبِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا إلَخْ .
وَقِيلَ إذَا كَانَتْ الْحَوَالَةُ فِي حَقِّ جَوَابِ الْإِشْكَالِ رَائِجَةً كَانَتْ فِي حَقِّ السُّؤَالِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَوَابَ يَتَضَمَّنُ السُّؤَالَ .
وَقِيلَ لَمْ يَقُلْ فِي الْبُيُوعِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاضِحَةً فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى ، وَلَوْ كَانَ بِالْخِيَارِ لَهُمَا لَمْ تَثْبُتْ الشُّفْعَةُ لِأَجْلِ خِيَارِ الْبَائِعِ لَا لِأَجْلِ خِيَارِ الْمُشْتَرِي ( قَوْلُهُ وَإِذَا أَخَذَهَا ) يَعْنِي أَخَذَ الْمُشْتَرِي بِخِيَارِ الشَّرْطِ الدَّارَ الْمَبِيعَةَ بِجَنْبِ الدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ كَانَ الْأَخْذُ مِنْهُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي طَرَفِ الْبَائِعِ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَاهَا وَلَمْ يَرَهَا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ إذَا حَضَرَ شَفِيعُ الدَّارِ الْأُولَى ) يَعْنِي الَّتِي اشْتَرَاهَا الْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ ( لَهُ ) أَيْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا دُونَ
الثَّانِيَةِ وَهِيَ الَّتِي أَخَذَهَا الْمُشْتَرِي بِطَرِيقِ الشُّفْعَةِ لِانْعِدَامِ مِلْكِهِ فِي الْأُولَى حِينَ بِيعَتْ الثَّانِيَةُ .
قَالَ ( وَمَنْ ابْتَاعَ دَارًا شِرَاءً فَاسِدًا فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا ) أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَلِعَدَمِ زَوَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ ، وَبَعْدَ الْقَبْضِ لِاحْتِمَالِ الْفَسْخِ ، وَحَقُّ الْفَسْخِ ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ لِدَفْعِ الْفَسَادِ ، وَفِي إثْبَاتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ فَلَا يَجُوزُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ صَارَ أَخَصَّ بِهِ تَصَرُّفًا وَفِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مَمْنُوعٌ عَنْهُ قَالَ ( فَإِنْ سَقَطَ حَقُّ الْفَسْخِ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ ، وَإِنْ بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا وَهِيَ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَعْدُ فَلَهُ الشُّفْعَةُ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ ، وَإِنْ سَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي فَهُوَ شَفِيعُهَا لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ ) ثُمَّ إنْ سَلَّمَ الْبَائِعُ قَبْلَ الْحُكْمِ بِالشُّفْعَةِ لَهُ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ كَمَا إذَا بَاعَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَلَّمَ بَعْدَهُ لِأَنَّ بَقَاءَ مِلْكِهِ فِي الدَّارِ الَّتِي يُشْفَعُ بِهَا بَعْدَ الْحُكْمِ بِالشُّفْعَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَبَقِيَتْ الْمَأْخُوذَةُ بِالشُّفْعَةِ عَلَى مِلْكِهِ ، وَإِنْ اسْتَرَدَّهَا الْبَائِعُ مِنْ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْحُكْمِ بِالشُّفْعَةِ لَهُ بَطَلَتْ لِانْقِطَاعِ مِلْكِهِ عَنْ الَّتِي يُشْفَعُ بِهَا قَبْلَ الْحُكْمِ بِالشُّفْعَةِ ، وَإِنْ اسْتَرَدَّهَا بَعْدَ الْحُكْمِ بَقِيَتْ الثَّانِيَةُ عَلَى مِلْكِهِ لِمَا بَيَّنَّا
قَالَ ( وَمَنْ ابْتَاعَ دَارًا شِرَاءً فَاسِدًا ) أَوَّلُ كَلَامِهِ ظَاهِرٌ .
وَفِي قَوْلِ وَمَنْ ابْتَاعَ دَارًا شِرَاءً فَاسِدًا تَلْوِيحٌ إلَى أَنَّ عَدَمَ الشُّفْعَةِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا وَقَعَ فَاسِدًا ابْتِدَاءً ، لِأَنَّ الْفَسَادَ إذَا كَانَ بَعْدَ انْعِقَادِهِ صَحِيحًا فَحَقُّ الشُّفْعَةِ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّصْرَانِيَّ إذَا اشْتَرَى مِنْ نَصْرَانِيٍّ دَارًا بِخَمْرٍ وَلَمْ يَتَقَابَضَا حَتَّى أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا أَوْ قَبَضَ الدَّارَ وَلَمْ يَقْبِضْ الْخَمْرَ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ الْبَيْعُ وَحَقُّ الشَّفِيعِ فِي الشُّفْعَةِ بَاقٍ لِأَنَّ فَسَادَهَا بَعْدَ وُقُوعِهِ صَحِيحًا ( قَوْلُهُ وَفِي إثْبَاتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ فَلَا يَجُوزُ ) يَعْنِي الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ .
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْمُفْسِدُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ كَمَا لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِ الْخِيَارُ الثَّابِتُ لِلْمُشْتَرِي الَّذِي اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَيَثْبُتُ الْبَيْعُ فِي حَقِّهِ بِلَا مُفْسِدٍ لِيَصِلَ إلَى حَقِّهِ ، وَلَا يَلْزَمُ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فَسَادَ الْبَيْعِ إنَّمَا ثَبَتَ لِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى الْعِوَضِ ، إمَّا بِالشَّرْطِ فِي حَقِّهِ أَوْ الْفَسَادِ فِي نَفْسِهِ كَجَعْلِ الْخَمْرِ ثَمَنًا ، فَلَوْ أَسْقَطْنَا الْعِوَضَ لِفَسَادٍ فِيهِ رَجَعَ الْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ وَهُوَ فَاسِدٌ ، وَمَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ عَدَمِهِ وُجُودُهُ فَهُوَ مَوْجُودٌ فَلَا يُمْكِنُ انْفِكَاكُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عَنْ مُفْسِدٍ .
وَأَمَّا الْبَيْعُ الصَّحِيحُ فَيُمْكِنُ وُجُودُهُ بِلَا شَرْطِ خِيَارٍ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ : احْتِمَالُ الْفَسْخِ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ إذَا كَانَ الْخِيَارُ فِيهِ لِلْمُشْتَرِي قَائِمٌ وَلَمْ يَمْنَعْ حَقَّ الشُّفْعَةِ .
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ مُشْتَرِيَ ذَلِكَ صَارَ أَخَصَّ بِالْبَيْعِ تَصَرُّفًا حَيْثُ تَعَلَّقَ بِتَصَرُّفِهِ الْفَسْخُ وَالْإِجَازَةُ ، وَذَلِكَ يُوجِبُ حَقَّ الشُّفْعَةِ كَالْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ إذَا بِيعَتْ
دَارٌ بِجَنْبِهَا ، وَفِي الْفَاسِدِ الْمُشْتَرِي مَمْنُوعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفَسْخَ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا فِيهِمَا لَكِنْ فِي الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْحَالِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ مُوجِبَ الِاحْتِمَالِ بِإِسْقَاطِهِ ، وَفِي الْفَاسِدِ لَا يَمْلِكُ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ ، بَلْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بَيْعًا صَحِيحًا وَلَا يَبْقَى لِبَائِعِهِ حَقُّ النَّقْضِ ، وَفِيهِ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ أَيْضًا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمَحْظُورِ مِنْ الْأَحْكَامِ كَالْوَطْءِ حَالَةَ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ يُحَلِّلُ الْمَرْأَةَ عَلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ ، وَتَقْرِيرُ الْفَسَادِ الْمَأْمُورِ بِنَقْضِهِ مِنْ الشَّرْعِ مُمْتَنِعٌ ، وَفِي شَرْعِ الشُّفْعَةِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ذَلِكَ وَالْبَيْعُ الْمَحْظُورُ الصَّادِرُ مِنْ الْعَبْدِ لَيْسَ بِمُضَافٍ إلَى الشَّرْعِ .
وَأَرَى أَنَّ قَوْلَهُ وَحَقُّ الْفَسْخِ ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ لِدَفْعِ الْفَسَادِ وَفِي إثْبَاتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ تَقْرِيرُهُ لَهُ كَانَ كَافِيًا ، وَوُرُودُ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي كَانَ يَنْدَفِعُ بِقَوْلِهِ لِدَفْعِ الْفَسَادِ ، فَإِنَّ الْفَسْخَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا بِالشَّرْعِ لَكِنَّهُ لَيْسَ لِدَفْعِ الْفَسَادِ ، وَلَكِنَّهُ أَتَى بِالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تُسْتَحَقُّ عَلَى الْمَالِكِ بِمِلْكٍ غَيْرِ مَحْظُورٍ أَوْ عَلَى مَنْ صَارَ أَحَقَّ بِالْبَيْعِ تَصَرُّفًا ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا فَهُوَ أَحَقُّ بِالتَّصَرُّفِ ، وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا لَيْسَ مِنْهُمَا ، فَإِنْ سَقَطَ الْفَسْخُ بِالزِّيَادَةِ فِي الْمَبِيعِ كَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبِالْبَيْعِ مِنْ آخَرَ بِالِاتِّفَاقِ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ ( وَإِنْ بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا وَهِيَ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَعْدُ فَلِلْبَائِعِ الشُّفْعَةُ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ ، وَإِنْ سَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي فَهُوَ ) أَيْ
الْمُشْتَرِي ( شَفِيعُهَا ، لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ ) لَا يُقَالُ : فِي ذَلِكَ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ حَيْثُ أَخَذَ الدَّارَ الْمَبِيعَةَ بِالشُّفْعَةِ بِالدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ بِالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : الْمُشْتَرِي بَعْدَ أَخْذِ الدَّارِ الثَّانِيَةِ بِالشُّفْعَةِ مُتَمَكِّنٌ مِنْ نَقْضِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا مَعَ عَدَمِ الْفَسَادِ فِي الَّتِي أَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ ثَبَتَتْ الشُّفْعَةُ ثَمَّ لَانْتَقَلَ الشِّرَاءُ الْفَاسِدُ مِنْ الْمُشْتَرِي إلَى الشَّفِيعِ بِوَصْفِ الْفَسَادِ ، وَفِي ذَلِكَ تَقْرِيرُهُ فَلَا يَجُوزُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمِلْكُ وَإِنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ حَقِّ الشُّفْعَةِ لَكِنَّ الْمَانِعَ مُتَحَقِّقٌ وَهُوَ بَقَاءُ حَقِّ الْبَائِعِ فِي اسْتِرْدَادِ مَا يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ ، وَهُوَ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا ، فَإِنَّ بَقَاءَ ذَلِكَ مَنْعُ الشُّفْعَةِ عَنْ أَخْذِ الْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مُجَرَّدُ تَعَلُّقٍ بِحَقِّ الْغَيْرِ وَهُوَ الْمَنْعُ عَنْ الشُّفْعَةِ ، كَقِيَامِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ لِلرَّاهِنِ إذَا بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا وَامْتِنَاعُ الشَّفِيعِ عَنْ الْأَخْذِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَكُنْ لِمُجَرَّدِ بَقَاءِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ بَلْ مَعَ لُزُومِ تَقْرِيرِ الْفَسَادِ ، وَلَا تَقْرِيرَ هَاهُنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَمَكُّنِ الْمُشْتَرِي مِنْ فَسْخِ مَا اشْتَرَاهُ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ ( ثُمَّ إنْ سَلَّمَ الْبَائِعُ ) الدَّارَ الْمَبِيعَةَ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ إلَى الْمُشْتَرِي ( قَبْلَ الْحُكْمِ بِالشُّفْعَةِ ) لِلْبَائِعِ ( بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ ) لِزَوَالِ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهَا بِهِ ( كَمَا إذَا بَاعَ بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ بَعْدَهُ ) لِأَنَّ بَقَاءَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الشُّفْعَةَ فِي مِلْكِ الشَّفِيعِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ ( وَإِنْ اسْتَرَدَّهَا ) أَيْ الدَّارَ الْمَبِيعَةَ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِنْ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْحُكْمِ بِالشُّفْعَةِ لَهُ بَطَلَتْ
شُفْعَةُ الْمُشْتَرِي لِانْقِطَاعِ مِلْكِهِ عَمَّا اسْتَحَقَّهَا بِهِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا ، وَلَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي وَقْتِ بَيْعِ الْمَشْفُوعِ جَارًا ( وَإِنْ اسْتَرَدَّهَا بَعْدَ الْحُكْمِ بَقِيَتْ الثَّانِيَةُ عَلَى مِلْكِهِ لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّ بَقَاءَ مِلْكِهِ فِي الدَّارِ الَّتِي يَشْفَعُ بِهَا بَعْدَ الْحُكْمِ بِالشُّفْعَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ .
قَالَ ( وَإِذَا اقْتَسَمَ الشُّرَكَاءُ الْعَقَارَ فَلَا شُفْعَةَ لِجَارِهِمْ بِالْقِسْمَةِ ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهَا مَعْنَى الْإِفْرَازِ وَلِهَذَا يَجْرِي فِيهَا الْجَبْرُ ؛ وَالشُّفْعَةُ مَا شُرِعَتْ إلَّا فِي الْمُبَادَلَةِ الْمُطْلَقَةِ قَالَ ( وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا فَسَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ ثُمَّ رَدَّهَا الْمُشْتَرِي بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ ) لِأَنَّهُ فَسْخٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَعَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ وَالشُّفْعَةُ فِي إنْشَاءِ الْعَقْدِ ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْقَبْضِ وَعَدَمِهِ ( وَإِنْ رَدَّهَا بِعَيْبٍ بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَوْ تَقَايَلَا الْبَيْعَ فَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ ) لِأَنَّهُ فَسْخٌ فِي حَقِّهِمَا لِوِلَايَتِهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَقَدْ قَصَدَا الْفَسْخَ وَهُوَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ لِوُجُودِ حَدِّ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي وَالشَّفِيعُ ثَالِثٌ ، وَمُرَادُهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّ قَبْلَهُ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ عَلَى مَا عُرِفَ ؛ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَلَا شُفْعَةَ فِي قِسْمَةٍ وَلَا خِيَارِ رُؤْيَةٍ ، وَهُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ ، وَمَعْنَاهُ : لَا شُفْعَةَ بِسَبَبِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لِمَا بَيَّنَّاهُ ، وَلَا تَصِحُّ الرِّوَايَةُ بِالْفَتْحِ عَطْفًا عَلَى الشُّفْعَةِ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ مَحْفُوظَةٌ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّهُ يَثْبُتُ فِي الْقِسْمَةِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَخِيَارُ الشَّرْطِ لِأَنَّهُمَا يَثْبُتَانِ لِخَلَلٍ فِي الرِّضَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ لُزُومُهُ بِالرِّضَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْقِسْمَةِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
قَالَ ( وَإِذَا اقْتَسَمَ الشُّرَكَاءُ الْعَقَارَ فَلَا شُفْعَةَ لِجَارِهِمْ بِالْقِسْمَةِ إلَخْ ) وَإِذَا اقْتَسَمَ الشُّرَكَاءُ الْعَقَارَ فَلَا شُفْعَةَ لِجَارِهِمْ بِالْقِسْمَةِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهَا مَعْنَى الْإِفْرَازِ ( وَلِهَذَا يَجْرِي فِيهَا جَبْرُ الْقَاضِي وَالشُّفْعَةُ مَا شُرِعَتْ إلَّا فِي الْمُبَادَلَةِ الْمُطْلَقَةِ ) وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَوَجَبَتْ لِلْمُقَاسِمِ لِكَوْنِهِ جَارًا بَعْدَ الْإِفْرَازِ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ ( وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا فَسَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ ثُمَّ رَدَّهَا الْمُشْتَرِي بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ أَوْ خِيَارِ شَرْطٍ أَوْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ لِأَنَّهُ فَسْخٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَعَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ ) وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا : يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ الرَّدُّ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْقَبْضِ وَعَدَمِهِ .
وَأَمَّا إذَا رَدَّهَا بِعَيْبٍ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا شُفْعَةَ لِأَنَّهُ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ وَلِهَذَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرَّدِّ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ أَوْ قَضَاءِ الْقَاضِي ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ مُرَادُ الْقُدُورِيِّ فَفِيهَا الشُّفْعَةُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
قَالَ الشَّارِحُونَ : قَوْلُهُ وَمُرَادُهُ : أَيْ مُرَادُ الْقُدُورِيِّ فِي قَوْلِهِ أَوْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ هُنَاكَ وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْقَبْضِ وَعَدَمِهِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِبَيَانِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ وَمَا هُوَ صَحِيحٌ مِنْهُمَا ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الْكَسْرِ فَمَعْنَاهَا .
وَلَا شُفْعَةَ فِي قِسْمَةٍ وَلَا فِي الرَّدِّ بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الْفَتْحِ فَقَدْ أَثْبَتَهَا الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَمَعْنَاهَا : لَا شُفْعَةَ وَلَا خِيَارَ رُؤْيَةٍ فِي قِسْمَةٍ ، لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ طَلَبِ الْقِسْمَةِ فِي
سَاعَتِهِ لَمْ يَكُنْ فِي الرَّدِّ فَائِدَةٌ ، وَفِيهِ نَظَرٌ سَيُعْلَمُ .
وَأَنْكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ كَالصَّدْرِ الشَّهِيدِ وَمَنْ تَابَعَهُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَالْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَمَلَ رِوَايَةَ الْفَتْحِ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الرَّدَّ فِيهِ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ غَيْرُ مُفِيدٍ لِأَنَّ نَصِيبَهُ فِي الْقِسْمَةِ الثَّانِيَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَا وَقَعَ فِي الْأُولَى أَوْ مِثْلَهُ ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ عَقَارًا أَوْ غَيْرَهُ فَإِنَّهُمْ إذَا اقْتَسَمُوا ثَانِيًا رُبَّمَا يَقَعُ نَصِيبُهُ فِيمَا يُوَافِقُهُ فَيَكُونُ مُفِيدًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( بَابُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الشُّفْعَةُ ) قَالَ ( وَإِذَا تَرَكَ الشَّفِيعُ الْإِشْهَادَ حِينَ عَلِمَ بِالْبَيْعِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ) لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الطَّلَبِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ وَهِيَ عِنْدَ الْقُدْرَةِ ( وَكَذَلِكَ إنْ أَشْهَدَ فِي الْمَجْلِسِ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَى أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَلَا عِنْدَ الْعَقَارِ ) وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ قَالَ ( وَإِنْ صَالَحَ مِنْ شُفْعَتِهِ عَلَى عِوَضٍ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ وَرَدَّ الْعِوَضَ ) لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِحَقٍّ مُتَقَرِّرٍ فِي الْمَحِلِّ ، بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ حَقِّ التَّمَلُّكِ فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ إسْقَاطُهُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ فَبِالْفَاسِدِ أَوْلَى فَيَبْطُلَ الشَّرْطُ وَيَصِحَّ الْإِسْقَاطُ وَكَذَا لَوْ بَاعَ شُفْعَتَهُ بِمَالٍ لِمَا بَيَّنَّا ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ حَقٌّ مُتَقَرِّرٌ ، وَبِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لِأَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ مِلْكٍ فِي الْمَحِلِّ وَنَظِيرُهُ إذَا قَالَ لِلْمُخَيَّرَةِ اخْتَارِينِي بِأَلْفٍ أَوْ قَالَ الْعِنِّينُ لِامْرَأَتِهِ اخْتَارِي تَرْكَ الْفَسْخِ بِأَلْفٍ فَاخْتَارَتْ سَقَطَ الْخِيَارُ وَلَا يَثْبُتُ الْعِوَضُ ، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الشُّفْعَةِ فِي رِوَايَةٍ ، وَفِي أُخْرَى : لَا تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ وَقِيلَ هَذِهِ رِوَايَةٌ فِي الشُّفْعَةِ ، وَقِيلَ هِيَ فِي الْكَفَالَةِ خَاصَّةً وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُورَثُ عَنْهُ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَعْنَاهُ إذَا مَاتَ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ ، أَمَّا إذَا مَاتَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ وَقَبَضَهُ فَالْبَيْع لَازِمٌ لِوَرَثَتِهِ ، وَهَذَا نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَقَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ ، وَلِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ دَارِهِ وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْوَارِثِ بَعْدَ الْبَيْعِ وَقِيَامُهُ وَقْتَ الْبَيْعِ وَبَقَاؤُهُ لِلشَّفِيعِ إلَى
وَقْتِ الْقَضَاءِ شَرْطًا فَلَا يَسْتَوْجِبُ الشُّفْعَةَ بِدُونِهِ ( وَإِنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي لَمْ تَبْطُلْ ) لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ بَاقٍ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ سَبَبُ حَقِّهِ ، وَلَا يُبَاعُ فِي دَيْنِ الْمُشْتَرِي وَوَصِيَّتِهِ ، وَلَوْ بَاعَهُ الْقَاضِي أَوْ الْوَصِيُّ أَوْ أَوْصَى الْمُشْتَرِي فِيهَا بِوَصِيَّةٍ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يُبْطِلَهُ وَيَأْخُذَ الدَّارَ لِتَقَدُّمِ حَقِّهِ وَلِهَذَا يُنْقَضُ تَصَرُّفُهُ فِي حَيَاتِهِ قَالَ ( وَإِذَا بَاعَ الشَّفِيعُ مَا يُشْفَعُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى لَهُ بِالشُّفْعَةِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ) لِزَوَالِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ قَبْلَ التَّمَلُّكِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ بِمِلْكِهِ وَلِهَذَا يَزُولُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِشِرَاءِ الْمَشْفُوعَةِ كَمَا إذَا سَلَّمَ صَرِيحًا أَوْ إبْرَاءً عَنْ الدَّيْنِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الشَّفِيعُ دَارِهِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الزَّوَالَ فَبَقِيَ الِاتِّصَالُ قَالَ ( وَوَكِيلُ الْبَائِعِ إذَا بَاعَ وَهُوَ الشَّفِيعُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ، وَوَكِيلُ الْمُشْتَرِي إذَا ابْتَاعَ فَلَهُ الشُّفْعَةُ ) وَالْأَصْلُ أَنَّ مَنْ بَاعَ أَوْ بِيعَ لَا شُفْعَةَ لَهُ ، وَمَنْ اشْتَرَى أَوْ اُبْتِيعَ لَهُ فَلَهُ الشُّفْعَةُ ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ بِأَخْذِ الْمَشْفُوعَةِ يَسْعَى فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ الْبَيْعُ ، وَالْمُشْتَرِي لَا يُنْقَضُ شِرَاؤُهُ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّهُ مِثْلُ الشِّرَاءِ ( وَكَذَلِكَ لَوْ ضَمِنَ الدَّرْكَ عَنْ الْبَائِعِ وَهُوَ الشَّفِيعُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ) وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ فَأَمْضَى الْمَشْرُوطُ لَهُ الْخِيَارُ الْبَيْعَ وَهُوَ الشَّفِيعُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ، لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمَّ بِإِمْضَائِهِ ، بِخِلَافِ جَانِبِ الْمَشْرُوطِ لَهُ الْخِيَارُ مِنْ جَانِبِ الْمُشْتَرِي
بَابُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الشُّفْعَةُ تَأْخِيرُ الْبُطْلَانِ عَنْ الثُّبُوتِ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ وَجْهٍ .
اعْلَمْ أَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْمَبِيعِ لَا يَصِحُّ وَبَعْدَهُ يَصِحُّ عَلِمَ الشَّفِيعُ بِوُجُوبِ الشُّفْعَةِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَعَلِمَ مَنْ أُسْقِطَ إلَيْهِ هَذَا الْحَقُّ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ، لِأَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ إسْقَاطُ حَقٍّ وَلِهَذَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ وَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ يَعْتَمِدُ وُجُوبَ الْحَقِّ دُونَ عِلْمِ الْمُسْقِطِ ، وَالْمُسْقَطُ إلَيْهِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ( قَوْلُهُ وَإِذَا تَرَكَ الشَّفِيعُ الْإِشْهَادَ حِينَ عَلِمَ ) يَعْنِي طَلَبَ الْمُوَاثَبَةَ بِالْبَيْعِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا بِذَلِكَ لِئَلَّا يَرُدَّ مَا ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا أَنَّ الْإِشْهَادَ لَيْسَ بِشَرْطٍ .
فَإِنْ تَرَكَ مَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي شَيْءٍ لَا يُبْطِلُهُ ، وَيَعْضُدُهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ مِنْ قَبْلُ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ أَشْهَدَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ : أَيْ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةَ ، وَقَوْلُهُ هَاهُنَا لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الطَّلَبِ ، وَهَذَا يَعْنِي اشْتِرَاطَهُ بِالْقُدْرَةِ ( لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ وَهِيَ عِنْدَ الْقُدْرَةِ ) فَالْإِعْرَاضُ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ ، حَتَّى لَوْ سَمِعَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَتَرَكَ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ ، وَكَذَا إنْ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةَ وَتَرَكَ طَلَبَ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادَ عَلَى مَا أَوْضَحَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ ( وَإِنْ صَالَحَ مِنْ شُفْعَتِهِ عَلَى عِوَضٍ بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ وَرَدَّ الْعِوَضَ ) أَمَّا بُطْلَانُ الشُّفْعَةِ فَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِحَقٍّ مُتَقَرِّرٌ فِي الْمَحَلِّ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ حَقِّ التَّمَلُّكِ ، وَمَا لَيْسَ بِحَقٍّ مُتَقَرِّرٍ فِي الْمَحَلِّ لَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ .
وَأَمَّا رَدُّ الْعِوَضِ فَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ إسْقَاطٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ : يَعْنِي الشَّرْطَ الْمُلَائِمَ وَهُوَ أَنْ يُعَلِّقَ إسْقَاطَهُ
بِشَرْطٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْمَالِ مِثْلُ قَوْلِ الشَّفِيعِ لِلْمُشْتَرِي سَلَّمْتُك شُفْعَةَ هَذِهِ الدَّارِ إنْ أَجَّرْتَنِيهَا أَوْ أَعَرْتَنِيهَا ( فَبِالْفَاسِدِ ) وَهُوَ مَا ذُكِرَ فِيهِ الْمَالُ ( أَوْلَى ) وَالْفَاصِلُ بَيْنَ الْمُلَائِمِ وَغَيْرِهِ أَنَّ مَا كَانَ فِيهِ تَوَقُّعُ الِانْتِفَاعِ بِمَنَافِعِ الْمَشْفُوعِ كَالْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ مُلَائِمٌ ، لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ يَسْتَلْزِمُهُ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذَلِكَ كَأَخْذِ الْعِوَضِ فَهُوَ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِأَنَّهُ إعْرَاضٌ عَنْ لَازِمِ الْأَخْذِ ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالشَّرْطِ وَقَدْ وُجِدَ الْإِسْقَاطُ بَطَلَ الشَّرْطُ وَصَحَّ الْإِسْقَاطُ .
لَا يُقَالُ : لَمْ يَثْبُتْ فَسَادُ هَذَا الشَّرْطِ فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْأَوَّلِ فَصَحَّ بِهِ الِاسْتِدْلَال .
وَقَوْلُهُ عَلَى عِوَضٍ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الصُّلْحَ إذَا كَانَ عَلَى بَعْضِ الدَّارِ صَحَّ وَلَمْ تَبْطُلْ الشُّفْعَةُ ، لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى أَخْذِ نِصْفِ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَفِيهِ الصُّلْحُ جَائِزٌ لِفَقْدِ الْإِعْرَاضِ ، وَالثَّانِي أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى أَخْذِ بَيْتٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الدَّارِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ؛ وَالصُّلْحُ فِيهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ حِصَّتَهُ مَجْهُولَةٌ وَلَهُ الشُّفْعَةُ لِفَقْدِ الْإِعْرَاضِ .
قَوْلُهُ ( وَكَذَا لَوْ بَاعَ شُفْعَتَهُ ) يَعْنِي أَنَّهَا تَبْطُلُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِحَقٍّ مُتَقَرِّرٍ فِي الْمَحَلِّ حَتَّى يَصِحَّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ فَكَانَ إعْرَاضًا .
فَإِنْ قِيلَ : حَقُّ الشُّفْعَةِ كَحَقِّ الْقِصَاصِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي كَوْنِهَا غَيْرَ أَمْوَالٍ وَالِاعْتِيَاضُ عَنْهَا صَحِيحٌ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ حَقٌّ مُتَقَرِّرٌ ، وَالْفَاصِلُ بَيْنَ الْمُتَقَرِّرِ وَغَيْرِهِ أَنَّ مَا يَتَغَيَّرُ بِالصُّلْحِ عَمَّا كَانَ قَبْلَهُ فَهُوَ مُتَقَرِّرٌ وَغَيْرُهُ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ ، وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ فِي الشُّفْعَةِ وَالْقِصَاصِ ، فَإِنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ
كَانَتْ مُبَاحَةً فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ ، وَبِالصُّلْحِ حَصَلَ لَهُ الْعِصْمَةُ فِي دَمِهِ فَكَانَ حَقًّا مُتَقَرِّرًا ، فَأَمَّا فِي الشُّفْعَةِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ الدَّارَ قَبْلَ الصُّلْحِ وَبَعْدَهُ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يَكُنْ حَقًّا مُتَقَرِّرًا ، وَبِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لِأَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ مِلْكٍ فِي الْمَحَلِّ ، وَنَظِيرُهُ إذْ قَالَ الزَّوْجُ لِلْمُخَيَّرَةِ اخْتَارِينِي بِأَلْفٍ أَوْ قَالَ الْعِنِّينُ لِامْرَأَتِهِ اخْتَارِي تَرْكَ الْفَسْخِ بِأَلْفٍ فَاخْتَارَتْ الْمُخَيَّرَةُ الزَّوْجَ وَامْرَأَةُ الْعِنِّينِ تَرْكَ الْفَسْخِ سَقَطَ الْخِيَارُ ، وَلَا يَثْبُتُ الْعِوَضُ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِبَعْضِهَا قَبْلَ اخْتِيَارِهَا وَبَعْدَهُ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَكَانَ أَخْذُ الْعِوَضِ أَكْلَ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ ( الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِي هَذَا ) أَيْ فِي بُطْلَانِ الْكَفَالَةِ ، وَالْعِوَضُ ( بِمَنْزِلَةِ الشُّفْعَةِ ) فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الشُّفْعَةِ وَالْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ وَالصُّلْحِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ .
وَقِيلَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى : وَوَجْهُهُ أَنَّ حَقَّ الْكَفِيلِ فِي الطَّلَبِ وَهُوَ فِعْلٌ فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ ( وَفِي رِوَايَةِ ) كِتَابِ الصُّلْحِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ ( لَا تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ ) وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشُّفْعَةِ أَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَسْقُطُ إلَّا بِتَمَامِ الرِّضَا وَلِهَذَا لَا تَسْقُطُ بِالسُّكُوتِ ، وَتَمَامُ الرِّضَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا وَجَبَ الْمَالُ ، وَأَمَّا حَقُّ الشُّفْعَةِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِالسُّكُوتِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ .
وَقِيلَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ : أَيْ رِوَايَةُ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي الْكَفَالَةِ تَكُونُ رِوَايَةً فِي الشُّفْعَةِ أَيْضًا حَتَّى لَا تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِالصُّلْحِ عَلَى مَالٍ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ ( وَقِيلَ هِيَ ) أَيْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ الْمَذْكُورَةُ ( فِي الْكَفَالَةِ خَاصَّةٌ ) يَعْنِي لَا تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ بِالصُّلْحِ عَلَى مَالٍ وَتَبْطُلُ الشُّفْعَةُ بِالصُّلْحِ عَلَى مَالٍ ( وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ) أَيْ فِي
الْمَبْسُوطِ .
قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ إلَخْ ) إذَا طَلَبَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ وَأَثْبَتَهَا بِطَلَبَيْنِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْأَخْذِ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ أَوْ تَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي إلَيْهِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ وَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَأْخُذُوهَا ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَهُمْ ذَلِكَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْأَوَّلُ كَالثَّانِي بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْحُقُوقَ تَنْتَقِلُ إلَى الْوَرَثَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا يُعَوَّضُ عَنْهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ ، لِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ لِكَوْنِ حَاجَتِهِ كَحَاجَتِهِ .
وَقُلْنَا : الشُّفْعَةُ بِالْمِلْكِ وَقَدْ زَالَ بِالْمَوْتِ ، وَاَلَّذِي يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ حَادِثٌ بَعْدَ الْبَيْعِ وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ وَهُوَ قِيَامُهُ وَقْتَ الْبَيْعِ وَبَقَاؤُهُ إلَى وَقْتِ الْقَضَاءِ ، وَلِهَذَا لَوْ أَزَالَهُ بِاخْتِيَارِهِ بِأَنْ بَاعَ تَسْقُطُ ، وَهَذَا نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ فِي أَنَّ الثَّابِتَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ أَنْ يَتَمَلَّكَ وَالْخِيَارُ بَيْنَ الْأَخْذِ وَالتَّرْكِ ، وَإِنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي لَمْ تَبْطُلْ الشُّفْعَةُ لِبَقَاءِ الْمُسْتَحَقِّ ( وَلَا تُبَاعُ الدَّارُ فِي دَيْنِ الْمُشْتَرِي وَوَصِيَّتِهِ ) أَيْ لَا يُقَدَّمُ دَيْنُ الْمُشْتَرِي وَوَصِيَّتُهُ عَلَى حَقِّ الشَّفِيعِ ، لِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي كَمَا تَقَدَّمَ فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ مَنْ يَثْبُتُ حَقُّهُ مِنْ جِهَتِهِ أَيْضًا وَهُوَ الْغَرِيمُ وَالْمُوصَى لَهُ ، فَإِنْ بَاعَهَا الْقَاضِي أَوْ وَصِيُّهُ فِي دَيْنِ الْمَيِّتِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَقْضِيَهُ كَمَا لَوْ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي فِي حَيَاتِهِ .
لَا يُقَالُ : بَيْعُ الْقَاضِي حُكْمٌ مِنْهُ فَكَيْفَ يُنْتَقَضُ بِأَنَّهُ قَضَاءٌ مِنْهُ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ لِلشَّفِيعِ حَقَّ نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَكُونُ نَافِذًا ، وَإِذَا بَاعَ الشَّفِيعُ مَا يَشْفَعُ فِيهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِهَا ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاتًّا أَوْ
بِالْخِيَارِ لَهُ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لِزَوَالِ السَّبَبِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ بِالْمِلْكِ قَبْلَ التَّمَلُّكِ ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِأَنَّ زَوَالَ السَّبَبِ مُبْطِلٌ ( يَزُولُ بِهِ ) أَيْ بِالْبَيْعِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الشَّفِيعُ بِشِرَاءِ الْمَشْفُوعَةِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمُسْقِطِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِسْقَاطِ ، كَمَا إذَا سَلَّمَ صَرِيحًا أَوْ إبْرَاءً عَنْ الدَّيْنِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ دَيْنًا وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهَا ، وَبَيْنَ مَا إذَا سَاوَمَ الشَّفِيعُ الْمَشْفُوعَةَ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ اسْتَأْجَرَهَا مِنْهُ ، فَإِنْ عَلِمَ بِالشِّرَاءِ سَقَطَتْ وَإِلَّا فَلَا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ وَالْإِجَارَةَ لَمْ يُوضَعَا لِلتَّسْلِيمِ ، وَإِنَّمَا تَسْقُطُ بِهَا لِدَلَالَتِهِ عَلَى رِضَا الشَّفِيعِ وَالرِّضَا بِدُونِ الْعِلْمِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ ، بِخِلَافِ التَّسْلِيمِ الصَّرِيحِ وَالْإِبْرَاءِ ، وَرُدَّ بِأَنَّ بَيْعَ مَا يُشْفَعُ بِهِ لَمْ يُوضَعْ لِلتَّسْلِيمِ وَقَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّهُ يُبْطِلُهَا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ بَقَاءَ مَا يُشْفَعُ بِهِ شَرْطٌ إلَى وَقْتِ الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ ، وَانْتِفَاءُ الشَّرْطِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ فَكَانَ كَالْمَوْضُوعِ لَهُ فِي قُوَّةِ الدَّلَالَةِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ الزَّوَالَ فَبَقِيَ الِاتِّصَالُ .
قَالَ ( وَوَكِيلُ الْبَائِعِ إذَا بَاعَ وَهُوَ الشَّفِيعُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ إلَخْ ) ذَكَرَ الْأَصْلَ وَهُوَ أَنَّ مَنْ بَاعَ عَقَارًا هُوَ شَفِيعُهُ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ أَوْ بِيعَ لَهُ كَرَبِّ الْمَالِ إذَا بَاعَ الْمُضَارِبُ دَارًا مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَرَبُّ الْمَالِ شَفِيعُهَا فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ، وَمَنْ اشْتَرَى لِوَكِيلِ الْمُشْتَرِي أَوْ اشْتَرَى لَهُ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ فَلَهُ الشُّفْعَةُ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَهُوَ أَنَّ الْأَوَّلَ يَسْعَى فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ الْبَيْعُ ، وَالثَّانِي لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ كَالشِّرَاءِ فِي كَوْنِهَا رَغْبَةً فِي الْمَشْفُوعَةِ وَالشُّفْعَةُ إنَّمَا تَبْطُلُ
فِي الرَّغْبَةِ عَنْهَا ( وَكَذَلِكَ ) أَيْ كَوَكِيلِ الْبَائِعِ لَوْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِي الدَّرَكَ رَجُلًا عَنْ الْبَائِعِ وَهُوَ الشَّفِيعُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ، لِأَنَّ تَمَامَ الْبَيْعِ إنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَتِهِ حَيْثُ لَمْ يَرْضَ الْمُشْتَرِي إلَّا بِضَمَانِهِ فَكَانَ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ سَعْيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ ( وَكَذَا إذَا بَاعَ وَشَرْطُ الْخِيَارِ لِغَيْرِهِ إلَخْ )
قَالَ ( وَإِذَا بَلَغَ الشَّفِيعَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَقَلَّ أَوْ بِحِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ قِيمَتُهَا أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ فَتَسْلِيمُهُ بَاطِلٌ وَلَهُ الشُّفْعَةُ ) لِأَنَّهُ إنَّمَا سَلَّمَ لِاسْتِكْثَارِ الثَّمَنِ فِي الْأَوَّلِ وَلِتَعَذُّرِ الْجِنْسِ الَّذِي بَلَغَهُ وَتَيَسُّرِ مَا بِيعَ بِهِ فِي الثَّانِي إذْ الْجِنْسُ مُخْتَلِفٌ ، وَكَذَا كُلُّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ عَدَدِيٍّ مُتَقَارِبٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِعَرَضٍ ، قِيمَتُهُ أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْقِيمَةُ وَهِيَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِدَنَانِيرَ قِيمَتُهَا أَلْفٌ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ أَكْثَرَ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَهُ الشُّفْعَةُ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَلَنَا أَنَّ الْجِنْسَ مُتَّحِدٌ فِي حَقِّ الثَّمَنِيَّةِ قَالَ ( وَإِذَا قِيلَ لَهُ إنَّ الْمُشْتَرِيَ فُلَانٌ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُهُ فَلَهُ الشُّفْعَةُ ) لِتَفَاوُتِ الْجِوَارِ ( وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ مَعَ غَيْرِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ غَيْرِهِ ) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ ( وَلَوْ بَلَغَهُ شِرَاءُ النِّصْفِ فَسَلَّمَ ثُمَّ ظَهَرَ شِرَاءُ الْجَمِيعِ فَلَهُ الشُّفْعَةُ ) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لِضَرَرِ الشَّرِكَةِ وَلَا شَرِكَةَ ، وَفِي عَكْسِهِ لَا شُفْعَةَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِي الْكُلِّ تَسْلِيمٌ فِي أَبْعَاضِهِ
وَإِذَا بَلَغَ الشَّفِيعُ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفٍ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَقَلَّ مِنْهَا أَوْ بِحِنْطَةٍ أَوْ بِشَعِيرٍ قِيمَتُهُ أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرَ فَتَسْلِيمُهُ بَاطِلٌ وَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ .
أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ إنَّمَا سَلَّمَ اسْتِكْثَارًا بِالثَّمَنِ الْمَذْكُورِ ، فَإِذَا ظَهَرَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ بَطَلَ تَسْلِيمُهُ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : كَأَنَّهُ قَالَ : سَلَّمْت إنْ كَانَ الثَّمَنُ أَلْفًا أَرَادَ أَنَّهُ تَسْلِيمٌ مَشْرُوطٌ بِشَرْطٍ فَيَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ سَيَأْتِي ، بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَ أَكْثَرُ مِنْ الْأَلْفِ ، فَإِنَّ مُسْتَكْثِرَ الْأَلْفِ أَكْثَرُ اسْتِكْثَارًا لِلْأَكْثَرِ فَكَانَ التَّسْلِيمُ صَحِيحًا .
وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّهُ رُبَّمَا سَلَّمَ لِتَعَذُّرِ الْجِنْسِ الَّذِي بَلَغَهُ وَتَيَسَّرَ مَا بِيعَ بِهِ ، إذْ الْجِنْسُ مُخْتَلِفٌ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ قِيمَتُهَا أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ غَيْرُ مُفِيدٍ ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَى مِنْ الدَّرَاهِمِ كَانَ تَسْلِيمُهُ بَاطِلًا أَيْضًا وَتَكَلَّفَ لِذَلِكَ كَثِيرًا وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْأَوْلَوِيَّةِ ، فَإِنَّ التَّسْلِيمَ إذَا لَمْ يَصِحَّ فِيمَا إذَا ظَهَرَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنْ الْمُسَمَّى فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ إذَا ظَهَرَ أَقَلَّ كَانَ أَوْلَى ، وَكَذَا كُلُّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ عَدَدِيٍّ مُتَقَارِبٍ لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْمَكِيلِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِعَرْضٍ قِيمَتُهُ أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْقِيمَةُ وَهِيَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَصَارَ كَمَا لَوْ قِيلَ بِيعَتْ بِأَلْفٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ ظَهَرَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ التَّسْلِيمُ ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِدَنَانِيرَ قِيمَتُهَا أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَهُ الشُّفْعَةُ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَلِهَذَا حَلَّ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا .
وَلَنَا أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي حَقِّ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الثَّمَنِيَّةُ وَمُبَادَلَةُ
أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَيَسِّرَةٌ عَادَةً ( وَإِذَا قِيلَ لِلشَّفِيعِ إنَّ الْمُشْتَرِيَ فُلَانٌ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُهُ فَلَهُ الشُّفْعَةُ لِتَفَاوُتِ الْجِوَارِ ) فَالرِّضَا بِجِوَارِ شَخْصٍ قَدْ لَا يَكُونُ رِضًا بِجِوَارِ غَيْرِهِ .
قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَامِعِ : لَوْ قَالَ الشَّفِيعُ سَلَّمْت شُفْعَةَ هَذِهِ الدَّارِ إنْ كُنْت اشْتَرَيْتهَا لِنَفْسِك وَقَدْ اشْتَرَاهَا لِغَيْرِهِ فَهَذَا لَيْسَ بِتَسْلِيمٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّفِيعَ عَلَّقَ التَّسْلِيمَ بِشَرْطٍ وَصَحَّ هَذَا التَّعْلِيقُ ، لِأَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ إسْقَاطٌ مَحْضٌ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ فَلَا يَتْرُكُ الْأَبْعَدَ وُجُودُهُ ، وَهَذَا كَمَا تَرَى يُنَاقِضُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ إسْقَاطُهُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ فَبِالْفَاسِدِ أَوْلَى .
وَقَوْلُهُ ( فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَلَى عَكْسِ هَذَا ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ ثَمَنِ النِّصْفِ دُونَ النِّصْفِ ، وَقَدْ تَكُونُ حَاجَتُهُ إلَى النِّصْفِ لِيَتِمَّ بِهِ مَرَافِقُ مِلْكِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْجَمِيعِ .
( فَصْلٌ ) : قَالَ ( وَإِذَا بَاعَ دَارًا إلَّا مِقْدَارَ ذِرَاعٍ مِنْهَا فِي طُولِ الْحَدِّ الَّذِي يَلِي الشَّفِيعَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ) لِانْقِطَاعِ الْجِوَارِ ، وَهَذِهِ حِيلَةٌ ، وَكَذَا إذَا وَهَبَ مِنْهُ هَذَا الْمِقْدَارَ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا ، قَالَ ( وَإِذَا ابْتَاعَ مِنْهَا سَهْمًا بِثَمَنٍ ثُمَّ ابْتَاعَ بَقِيَّتَهَا فَالشُّفْعَةُ لِلْجَارِ فِي السَّهْمِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ) لِأَنَّ الشَّفِيعَ جَارٍ فِيهِمَا ، إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي الثَّانِي شَرِيكٌ فَيَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَرَادَ الْحِيلَةَ ابْتَاعَ السَّهْمَ بِالثَّمَنِ إلَّا دِرْهَمًا مَثَلًا وَالْبَاقِي بِالْبَاقِي ، وَإِنْ ابْتَاعَهَا بِثَمَنٍ ثُمَّ دَفَعَ إلَيْهِ ثَوْبًا عِوَضًا عَنْهُ فَالشُّفْعَةُ بِالثَّمَنِ دُونَ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ آخَرُ ، وَالثَّمَنُ هُوَ الْعِوَضُ عَنْ الدَّارِ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذِهِ حِيلَةٌ أُخْرَى تَعُمُّ الْجِوَارَ وَالشَّرِكَةَ فَيُبَاعَ بِأَضْعَافِ قِيمَتِهِ وَيُعْطَى بِهَا ثَوْبٌ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّتْ الْمَشْفُوعَةُ يَبْقَى كُلُّ الثَّمَنِ عَلَى مُشْتَرِي الثَّوْبِ لِقِيَامِ الْبَيْعِ الثَّانِي فَيَتَضَرَّرَ بِهِ وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُبَاعَ بِالدَّرَاهِمِ الثَّمَنُ دِينَارٌ حَتَّى إذَا اسْتَحَقَّ الْمَشْفُوعُ يَبْطُلُ الصَّرْفُ فَيَجِبَ رَدُّ الدِّينَارُ لَا غَيْرُ
فَصْلٌ ) : لَمَّا كَانَتْ الشُّفْعَةُ تَسْقُطُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَلِمَ تِلْكَ الْأَحْوَالَ فِي هَذَا الْفَصْلِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْجَارُ فَاسِقًا يَتَأَذَّى بِهِ ، وَفِي اسْتِعْمَالِ الْحِيلَةِ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ تَحْصِيلُ الْخَلَاصِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْجَارِ فَاحْتِيجَ إلَى بَيَانِهِ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِانْقِطَاعِ الْجِوَارِ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي الثَّانِي شَرِيكٌ ) لِأَنَّهُ حِينَ اشْتَرَى الْبَاقِيَ كَانَ شَرِيكًا بِشِرَاءِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ ، وَاسْتِحْقَاقُ الشَّفِيعِ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ لَا يُبْطِلُ شُفْعَةَ الْمُشْتَرِي فِي الْجُزْءِ الثَّانِي قَبْلَ الْخُصُومَةِ لِكَوْنِهِ فِي مِلْكِهِ بَعْدُ فَيَتَقَدَّمُ عَلَى الْجَارِ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ أَرَادَ الْحِيلَةَ ) هَذِهِ حِيلَةٌ تَرْجِعُ إلَى تَقْلِيلِ رَغْبَةِ الشَّفِيعِ فِي الشُّفْعَةِ ، وَالْأُولَى تَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ حَقِّ الشُّفْعَةِ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا إذَا اُسْتُحِقَّتْ الْمَشْفُوعَةُ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَهَذِهِ أُخْرَى : يَعْنِي أَنَّهَا حِيلَةٌ عَامَّةٌ ، إلَّا أَنَّ فِيهَا وَهْمَ وُقُوعِ الضَّرَرِ عَلَى الْبَائِعِ عَلَى تَقْدِيرِ ظُهُورِ مُسْتَحِقٍّ يَسْتَحِقُّ الدَّارَ لِأَنَّهُ يَبْقَى كُلُّ الثَّمَنِ عَلَى مُشْتَرِي الثَّوْبِ وَهُوَ بَائِعُ الدَّارِ يَتَضَرَّرُ بِهِ : أَيْ بِرُجُوعِ مُشْتَرِي الدَّارِ عَلَيْهِ بِكُلِّ الثَّمَنِ الَّذِي هُوَ أَضْعَافُ قِيمَةِ الدَّارِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْأَوْجَهُ إلَخْ ) تَقْرِيرُهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الدَّارَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ يَبِيعُهَا بِعِشْرِينَ أَلْفًا فَلَا يَرْغَبُ فِي الشُّفْعَةِ ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِعِشْرِينَ أَلْفًا وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِمَا أَعْطَاهُ ، لِأَنَّهُ إذَا اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَمَنُ الدَّارِ فَيَبْطُلُ الصَّرْفُ ، كَمَا لَوْ بَاعَ الدِّينَارَ بِالدَّرَاهِمِ الَّتِي لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ ثُمَّ تَصَادَقَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ الصَّرْفُ .
قَالَ ( وَلَا تُكْرَهُ الْحِيلَةُ فِي إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَتُكْرَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ) لِأَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ ، وَلَوْ أَبَحْنَا الْحِيلَةَ مَا دَفَعْنَاهُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ مَنَعَ عَنْ إثْبَاتِ الْحَقِّ فَلَا يُعَدُّ ضَرَرًا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْحِيلَةُ فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِوَقَوْلُهُ ( وَلَا تُكْرَهُ الْحِيلَةُ ) اعْلَمْ أَنَّ الْحِيلَةَ فِي هَذَا الْبَابِ إمَّا أَنْ تَكُونَ لِلرَّفْعِ بَعْدَ الْوُجُوبِ أَوْ لِدَفْعِهِ ، فَالْأَوَّلُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ أَنَا أُوَلِّيهَا لَك فَلَا حَاجَةَ لَك فِي الْأَخْذِ فَيَقُولُ نَعَمْ تَسْقُطُ بِهِ الشُّفْعَةُ ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ بِالْإِجْمَاعِ .
وَالثَّانِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ .
قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ : غَيْرُ مَكْرُوهٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَهُوَ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَهَذَا الْقَائِلُ قَاسَ فَصْلَ الشُّفْعَةِ عَلَى فَصْلِ الزَّكَاةِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا تُكْرَهُ الْحِيلَةُ لِمَنْعِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي فَصْلِ الزَّكَاةِ .
( مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ ) قَالَ ( وَإِذَا اشْتَرَى خَمْسَةُ نَفَرٍ دَارًا مِنْ رَجُلٍ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِهِمْ ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا رَجُلٌ مِنْ خَمْسَةٍ أَخَذَهَا كُلَّهَا أَوْ تَرَكَهَا ) وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي بِأَخْذِ الْبَعْضِ تَتَفَرَّقُ الصَّفْقَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَيَتَضَرَّرَ بِهِ زِيَادَةَ الضَّرَرِ ، وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَقُومُ الشَّفِيعُ مَقَامَ أَحَدِهِمْ فَلَا تَتَفَرَّقُ الصَّفْقَةُ ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ مَا إذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ هُوَ الصَّحِيحُ ، إلَّا أَنَّ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يُمْكِنُهُ أَخْذُ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إذَا نَقَدَ مَا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَنْقُدْ الْآخَرُ حِصَّتَهُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْرِيقِ الْيَدِ عَلَى الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ سَقَطَتْ يَدُ الْبَائِعِ ، وَسَوَاءً سَمَّى لِكُلِّ بَعْضٍ ثَمَنًا أَوْ كَانَ الثَّمَنُ جُمْلَةً ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي هَذَا لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ لَا لِلثَّمَنِ ، وَهَاهُنَا تَفْرِيعَاتٌ ذَكَرْنَاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى
مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ ذَكَرَ مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةً فِي آخِرِ الْكِتَابِ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي ذَلِكَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ مَسَائِلِ الشُّفْعَةِ إلَّا هَذِهِ ، وَأَلْفَاظُهُ ظَاهِرَةٌ سِوَى مَا نُنَبِّهُ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ ) أَيْ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ وَزِيَادَةُ الضَّرَرِ هِيَ زِيَادَةُ ضَرَرِ التَّشْقِيصِ ، فَإِنَّ أَخْذَ الْمِلْكِ مِنْهُ ضَرَرٌ وَضَرَرُ التَّشْقِيصِ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَالشُّفْعَةُ شُرِعَتْ لِدَفْعِ ضَرَرِ الدَّخِيلِ فَلَا تُشْرَعُ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَرَّرُ بِهِ الدَّخِيلُ ضَرَرًا زَائِدًا ، وَقَوْلُهُ ( وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا ) أَيْ فِي جَوَازِ أَخْذِ الشَّفِيعِ نَصِيبَ أَحَدِ الْمُشْتَرَيَيْنِ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي الدَّارَ وَبَعْدَهُ .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا رَوَاهُ الْقُدُورِيُّ .
قَالَ : رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا كَانَ اثْنَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ ، لِأَنَّ التَّمَلُّكَ يَقَعُ عَلَى الْبَائِعِ فَتَتَفَرَّقُ عَلَيْهِ الصَّفْقَةُ .
وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّ التَّمَلُّكَ حِينَئِذٍ يَقَعُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَقَدْ أَخَذَ مِنْهُ جَمِيعَ مِلْكِهِ .
وَقَوْلُهُ ( بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ ) يَعْنِي أَنَّ أَحَدَ الْمُشْتَرِيَيْنِ إذَا نَقَدَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ حَتَّى يُؤَدِّيَ كُلُّهُمْ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الثَّمَنِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَفْرِيقُ الْيَدِ عَلَى الْبَائِعِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي هَذَا لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ لَا لِلثَّمَنِ ) حَتَّى لَوْ تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ مِنْ الِابْتِدَاءِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي وَاحِدًا وَالْبَائِعُ اثْنَيْنِ وَاشْتَرَى نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَفْقَةٍ عَلَى حِدَةٍ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا ، وَإِنْ لَحِقَ الْمُشْتَرِيَ ضَرَرُ عَيْبِ الشَّرِكَةِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهَذَا الْعَيْبِ حَيْثُ اشْتَرَى كَذَلِكَ ، وَأَمَّا بَيَانُ تَفْرِيقِ
الصَّفْقَةِ وَاتِّحَادُهَا فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى نِصْفَ دَارٍ غَيْرَ مَقْسُومٍ فَقَاسَمَهُ الْبَائِعُ أَخَذَ الشَّفِيعُ النِّصْفَ الَّذِي صَارَ لِلْمُشْتَرِي أَوْ يَدَعُ ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْمِيلِ الِانْتِفَاعِ وَلِهَذَا يَتِمُّ الْقَبْضُ بِالْقِسْمَةِ فِي الْهِبَةِ ، وَالشَّفِيعُ لَا يَنْقُضُ الْقَبْضَ وَإِنْ كَانَ لَهُ نَفْعٌ فِيهِ بِعَوْدِ الْعُهْدَةِ عَلَى الْبَائِعِ ، فَكَذَا لَا يُنْقَضُ مَا هُوَ مِنْ تَمَامِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ الْمُشْتَرِكَةِ وَقَاسَمَ الْمُشْتَرِيَ الَّذِي لَمْ يَبِعْ حَيْثُ يَكُونُ لِلشَّفِيعِ نَقْضُهُ ، لِأَنَّ الْعَقْدَ مَا وَقَعَ مَعَ الَّذِي قَاسَمَ فَلَمْ تَكُنْ الْقِسْمَةُ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ الْعَقْدِ بَلْ هُوَ تَصَرُّفٌ بِحُكْمِ الْمِلْكِ فَيَنْقُضَهُ الشَّفِيعُ كَمَا يَنْقُضُ بَيْعَهُ وَهِبَتَهُ ، ثُمَّ إطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ النِّصْفَ الَّذِي صَارَ لِلْمُشْتَرِي فِي أَيِّ جَانِبٍ كَانَ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ بِالْقِسْمَةِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُهُ إذَا وَقَعَ فِي جَانِبِ الدَّارِ الَّتِي يُشْفَعُ بِهَا لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى جَارًا فِيمَا يَقَعُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ .
( وَمَنْ اشْتَرَى نِصْفَ دَارٍ غَيْرَ مَقْسُومٍ فَقَاسَمَهُ الْبَائِعُ أَخَذَ الشَّفِيعُ النِّصْفَ الَّذِي صَارَ لِلْمُشْتَرِي أَوْ تَرَكَ ) وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْقِسْمَةَ بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُشْتَرِي ادْفَعْ إلَى الْبَائِعِ حَتَّى آخُذَ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِحُكْمٍ أَوْ بِغَيْرِهِ ( لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْمِيلِ الِانْتِفَاعِ وَلِهَذَا يَتِمُّ الْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ بِالْقِسْمَةِ ، وَالشَّفِيعُ لَا يَنْقُضُ الْقَبْضَ ) لِيُعِيدَ الدَّارَ إلَى الْبَائِعِ ( وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ نَفْعٌ بِعَوْدِ الْعُهْدَةِ إلَى الْبَائِعِ فَكَذَا لَا يُنْقَضُ مَا هُوَ مِنْ تَمَامِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ وَقَاسَمَ الْمُشْتَرِي الشَّرِيكَ الَّذِي لَمْ يَبِعْ نَصِيبَهُ ) فَإِنَّ لِلشَّفِيعِ نَقْضَهُ ( لِأَنَّ الْعَقْدَ مَا وَقَعَ مَعَ الَّذِي قَاسَمَ ) فَإِنَّهُ لَمْ يَجْرِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ( وَلَمْ تَكُنْ الْقِسْمَةُ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ الْبَيْعِ ، بَلْ هُوَ تَصَرُّفٌ بِحُكْمِ الْمِلْكِ ) فَكَانَ مُبَادَلَةً ، وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَ الْمُبَادَلَةَ كَالْبَيْعِ وَغَيْرِهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ كَالْهِبَةِ ( وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ ) أَيْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ قَوْلُهُ أَخَذَ الشَّفِيعُ النِّصْفَ الَّذِي صَارَ لِلْمُشْتَرِي ( يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ النِّصْفَ الَّذِي صَارَ لِلْمُشْتَرِي فِي أَيِّ جَانِبٍ كَانَ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ دَارًا وَلَهُ عَبْدٌ مَأْذُونٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ الشُّفْعَةُ ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْبَائِعُ فَلِمَوْلَاهُ الشُّفْعَةُ ) لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ تَمَلُّكٌ بِالثَّمَنِ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الشِّرَاءِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مُفِيدٌ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ لِلْغُرَمَاءِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِأَنَّهُ يَبِيعُهُ لِمَوْلَاهُ ، وَلَا شُفْعَةَ لِمَنْ يَبِيعُ لَهُ
قَالَ ( وَتَسْلِيمُ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ الشُّفْعَةَ عَلَى الصَّغِيرِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : هُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ إذَا بَلَغَ ) قَالُوا : وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا بَلَغَهُمَا شِرَاءُ دَارٍ بِجِوَارِ دَارِ الصَّبِيِّ فَلَمْ يَطْلُبَا الشُّفْعَةَ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ تَسْلِيمُ الْوَكِيلِ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْوِكَالَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِلصَّغِيرِ فَلَا يَمْلِكَانِ إبْطَالَهُ كَدِيَتِهِ وَقَوْدِهِ ، وَلِأَنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَكَانَ إبْطَالُهُ إضْرَارًا بِهِ وَلَهُمَا أَنَّهُ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ فَيَمْلِكَانِ تَرْكَهُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَوْجَبَ بَيْعًا لِلصَّبِيِّ صَحَّ رَدُّهُ مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ ، وَلِأَنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ ، وَقَدْ يَكُونُ النَّظَرُ فِي تَرْكِهِ لِيَبْقَى الثَّمَنُ عَلَى مِلْكِهِ وَالْوِلَايَةُ نَظَرِيَّةٌ فَيَمْلِكَانِهِ وَسُكُوتُهُمَا كَإِبْطَالِهِمَا لِكَوْنِهِ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ ، وَهَذَا إذَا بِيعَتْ بِمِثْلِ قِيمَتِهَا ، فَإِنْ بِيعَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ قِيلَ جَازَ التَّسْلِيمُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ تَمَحَّضَ نَظَرًا وَقِيلَ لَا يَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْأَخْذَ فَلَا يَمْلِكُ التَّسْلِيمَ كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَإِنْ بِيعَتْ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا مُحَابَاةً كَثِيرَةً ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّسْلِيمُ مِنْهُمَا أَيْضًا وَلَا رِوَايَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَتَسْلِيمُ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ الشُّفْعَةَ ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَمْلَ وَالصَّغِيرَ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ كَالْكَبِيرِ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي سَبَبِهِ ، فَيُقَوَّمُ بِالطَّلَبِ وَالْأَخْذِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ شَرْعًا فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِ وَهُوَ الْأَبُ ثُمَّ وَصِيُّهُ ثُمَّ جَدُّهُ أَبُو أَبِيهِ ثُمَّ وَصِيُّهُ ثُمَّ الْوَصِيُّ الَّذِي نَصَبَهُ الْقَاضِي ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُ هَؤُلَاءِ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ إذَا أَدْرَكَ فَإِنْ تَرَكَ هَؤُلَاءِ الطَّلَبَ بَعْدَ الْإِمْكَانِ أَوْ سَلَّمَ بَعْدَ الطَّلَبِ سَقَطَتْ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : هُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ إذَا بَلَغَ .
قَالَ الْمَشَايِخُ ( وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ تَسْلِيمُ الْوَكِيلِ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ ) لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا كَانَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِطَلَبِهَا قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْخُصُومَةِ وَمَحَلُّهَا مَجْلِسُ الْقَاضِي ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ نَائِبًا عَنْ الْمُوَكِّلِ مُطْلَقًا .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّسْلِيمُ أَصْلًا .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ أَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي جَوَازِ تَسْلِيمِ الْوَكِيلِ الشُّفْعَةَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ( لِمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِلصَّغِيرِ فَلَا يَمْلِكَانِ إبْطَالَهُ كَدِيَتِهِ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كَدَيْنِهِ بِالنُّونِ ، وَالْأَوَّلُ يُنَاسِبُ مَا قُرِنَ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ ( وَقَوْدِهِ ) وَالثَّانِي يُنَاسِبُ رِوَايَةَ الْمَبْسُوطِ ، لِأَنَّهُ قَالَ : كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدُّيُونِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ الْوَاجِبِ لَهُ ( وَلِأَنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ ) وَفِي إبْطَالِهِ إضْرَارٌ بِهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ بِمِلْكِ الْعَيْنِ فَيَمْلِكَانِهِ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ
لَوْ أَخَذَهَا الْوَلِيُّ بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ بَائِعِهِ جَازَ ، فَكَذَلِكَ إذَا سَلَّمَهَا إلَيْهِ بَلْ أَوْلَى لِسَلَامَتِهِ عَنْ تَوَجُّهِ الْعُهْدَةِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ مِنْهُ ، وَوَضَّحَهُ بِقَوْلِهِ ( أَلَا تَرَى ) وَهُوَ وَاضِحٌ ، وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ دَائِرٌ ) دَلِيلٌ آخَرُ يَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ عَنْ الدِّيَةِ وَالْقَوَدِ ، لِأَنَّ النَّظَرَ فِي هَذَا قَدْ يَكُونُ فِي تَرْكِهِ لِيَبْقَى الثَّمَنُ عَلَى مِلْكِهِ ، بِخِلَافِ الدِّيَةِ وَالْقَوَدِ فَإِنْ تَرَكَهُمَا تَرَكَ بِلَا عِوَضٍ فَيَكُونُ إضْرَارًا بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَسُكُوتُهُمَا كَإِبْطَالِهِمَا ) لَمَّا كَانَ مَا ذُكِرَ مِنْ الدَّلِيلِ مُخْتَصًّا بِالتَّسْلِيمِ أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ وَسُكُوتُهُمَا كَإِبْطَالِهِمَا ( لِكَوْنِهِ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ وَهَذَا إذَا بِيعَتْ بِمِثْلِ قِيمَتِهَا ) أَوْ الْغَبْنُ الْيَسِيرُ مِنْ الْمِثْلِ ( فَإِنْ بِيعَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا ) بِغَبْنٍ فَاحِشٍ ( قِيلَ جَازَ التَّسْلِيمُ بِالْإِجْمَاعِ ) يَعْنِي مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ لِمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لِأَنَّهُ تَمَحَّضَ نَظَرًا ، وَقِيلَ لَا يَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ ( وَهُوَ الْأَصَحُّ ) لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْأَخْذَ فَلَا يَمْلِكُ التَّسْلِيمَ ( كَالْأَجْنَبِيِّ ) فَيَكُونُ الصَّبِيُّ عَلَى حَقِّهِ إذَا بَلَغَ ( وَإِنْ بِيعَتْ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا بِمُحَابَاةٍ كَثِيرَةٍ ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ التَّسْلِيمُ ) مِنْهُمَا ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ لَا يَصِحُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَيْضًا لِأَنَّهُمَا لَمْ يَرَيَا تَسْلِيمَهَا إذَا بِيعَتْ بِمِثْلِ الثَّمَنِ ، فَلَأَنْ لَا يَرَيَا إذَا بِيعَتْ بِأَقَلَّ بِمُحَابَاةٍ كَثِيرَةٍ أَوْلَى ، وَإِنَّمَا خُصَّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ الْكَثِيرَةَ لَا تُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا بِمَعْنَى التِّجَارَةِ وَلَهُمَا وِلَايَةُ الِامْتِنَاعِ عَنْ الِاتِّجَارِ فِي مَالِ الصَّغِيرِ ، وَلَكِنْ قَالَ : لَا يَصِحُّ التَّسْلِيمُ فِي هَذَا لِأَنَّ تَصَرُّفَهُمَا فِي مَالِهِ إنَّمَا يَكُونُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، وَلَيْسَ تَرْكُهَا هَاهُنَا كَذَلِكَ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا خُصَّ
قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ بِقَوْلِهِ ( وَلَا رِوَايَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ) لِأَنَّهُ كَانَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي صِحَّةِ التَّسْلِيمِ فِيمَا إذَا بِيعَتْ بِمِثْلِ قِيمَتِهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( كِتَابُ الْقِسْمَةِ ) : الْقِسْمَةُ فِي الْأَعْيَانِ الْمُشْتَرَكَةِ مَشْرُوعَةٌ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَاشَرَهَا فِي الْمَغَانِمِ وَالْمَوَارِيثِ ، وَجَرَى التَّوَارُثُ بِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، ثُمَّ هِيَ لَا تَعْرَى عَنْ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ ، لِأَنَّ مَا يَجْتَمِعُ لِأَحَدِهِمَا بَعْضُهُ كَانَ لَهُ وَبَعْضُهُ كَانَ لِصَاحِبِهِ فَهُوَ يَأْخُذُهُ عِوَضًا عَمَّا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَكَانَ مُبَادَلَةً وَإِفْرَازًا ، وَالْإِفْرَازُ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ ، حَتَّى كَانَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ حَالَ غَيْبَةِ صَاحِبِهِ ، وَلَوْ اشْتَرَيَاهُ فَاقْتَسَمَاهُ يَبِيعُ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً بِنِصْفِ الثَّمَنِ ، وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَالْعُرُوضِ لِلتَّفَاوُتِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا أَخْذُ نَصِيبِهِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْآخَرِ .
وَلَوْ اشْتَرَيَاهُ فَاقْتَسَمَاهُ لَا يَبِيعُ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً بَعْدَ الْقِسْمَةِ ، إلَّا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَجْبَرَ الْقَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ لِتَقَارُبِ الْمَقَاصِدِ وَالْمُبَادَلَةُ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الْجَبْرُ كَمَا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَهَذَا لِأَنَّ أَحَدَهُمْ بِطَلَبِ الْقِسْمَةِ يَسْأَلُ الْقَاضِيَ أَنْ يَخُصَّهُ بِالِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ وَيَمْنَعَ الْغَيْرَ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ ، فَيَجِبَ عَلَى الْقَاضِي إجَابَتُهُ وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً لَا يُجْبِرُ الْقَاضِي عَلَى قِسْمَتِهَا لِتَعَذُّرِ الْمُعَادَلَةِ بِاعْتِبَارِ فُحْشِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَقَاصِدِ ، وَلَوْ تَرَاضَوْا عَلَيْهَا جَازَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ قَالَ ( وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُنَصِّبَ قَاسِمًا يَرْزُقُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِيَقْسِمَ بَيْنَ النَّاسِ بِغَيْرِ أَجْرٍ ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِ الْقَضَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتِمُّ بِهِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ فَأَشْبَهَ رِزْقَ الْقَاضِي ، وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ نَصْبِ الْقَاسِمِ
تَعُمُّ الْعَامَّةَ فَتَكُونَ كِفَايَتُهُ فِي مَالِهِمْ غُرْمًا بِالْغُنْمِ قَالَ ( فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ نَصَّبَ قَاسِمًا يَقْسِمُ بِالْأَجْرِ ) مَعْنَاهُ بِأَجْرٍ عَلَى الْمُتَقَاسِمِينَ ، لِأَنَّ النَّفْعَ لَهُمْ عَلَى الْخُصُوصِ ، وَبِقَدْرِ أَجْرِ مِثْلِهِ كَيْ لَا يَتَحَكَّمَ بِالزِّيَادَةِ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَرْزُقَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ وَأَبْعَدُ عَنْ التُّهْمَةِ .
كِتَابُ الْقِسْمَةِ : أَوْرَدَ الْقِسْمَةَ عَقِيبَ الشُّفْعَةِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ نَتَائِجِ النَّصِيبِ الشَّائِعِ ، فَإِنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَرَادَ الِافْتِرَاقَ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ طَلَبَ الْقِسْمَةَ ، وَمَعَ عَدَمِهِ بَاعَ وَوَجَبَ عِنْدَهُ الشُّفْعَةُ .
وَقَدَّمَ الشُّفْعَةَ لِأَنَّ بَقَاءَ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ أَصْلٌ .
وَهِيَ فِي اللُّغَةِ : اسْمٌ لِلِاقْتِسَامِ كَالْقُدْوَةِ لِلِاقْتِدَاءِ .
وَفِي الشَّرِيعَةِ : جَمْعُ النَّصِيبِ الشَّائِعِ فِي مَكَان مُعَيَّنٍ .
وَسَبَبُهَا طَلَبُ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ الِانْتِفَاعَ بِنَصِيبِهِ عَلَى الْخُلُوصِ .
وَرُكْنُهَا مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِفْرَازُ وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ النَّصِيبَيْنِ كَالْكَيْلِ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْوَزْنِ فِي الْمَوْزُونَاتِ وَالذَّرْعِ فِي الْمَذْرُوعَاتِ وَالْعَدِّ فِي الْمَعْدُودَاتِ .
وَشَرْطُهَا أَنْ لَا تَفُوتَ مَنْفَعَتُهُ بِالْقِسْمَةِ ، وَلِهَذَا لَا يُقْسَمُ الْحَائِطُ وَالْحَمَّامُ وَنَحْوُهُمَا ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ فِي الْأَعْيَانِ الْمُشْتَرَكَةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَاشَرَهَا فِي الْمَغَانِمِ وَالْمَوَارِيثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَجَرَى التَّوَارُثُ بِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ .
ثُمَّ هِيَ لَا تَعْرَى عَنْ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ أَوْ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، لِأَنَّ مَا يَجْتَمِعُ لِأَحَدِهِمَا بَعْضُهُ كَانَ لَهُ وَبَعْضُهُ لِصَاحِبِهِ فَهُوَ يَأْخُذُهُ عِوَضًا عَمَّا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ ، فَعَلَى هَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ مُبَادَلَةً وَإِفْرَازًا ، وَالْمَعْنَى مِنْ الْإِفْرَازِ هُوَ أَنْ يَقْبِضَهُ بِعَيْنِ حَقِّهِ ، وَالْإِفْرَازُ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ ، فَكَانَ كُلُّ مَا أَخَذَ أَحَدُهُمَا مِنْ نَصِيبِهِ مِثْلَ مَا تُرِكَ عَلَيْهِ بِيَقِينٍ فَأَخَذَ مِثْلَ الْحَقِّ بِيَقِينٍ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ الْعَيْنِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ أَخْذَ الْمِثْلِ فِي الْقَرْضِ جُعِلَ كَأَخْذِ الْعَيْنِ فَجُعِلَ الْقَرْضُ بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ فَكَانَ الْإِفْرَازُ فِيهَا أَظْهَرَ لَا مَحَالَةَ ، وَلِهَذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ
يَأْخُذَ نَصِيبَهُ حَالَ غَيْبَةِ صَاحِبِهِ ، وَلَوْ اشْتَرَيَاهُ وَاقْتَسَمَاهُ جَازَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً بِنِصْفِ الثَّمَنِ .
وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَالْعُرُوضِ لِلتَّفَاوُتِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا أَخْذُ نَصِيبِهِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْآخَرِ .
وَلَوْ اشْتَرَيَاهُ فَاقْتَسَمَاهُ لَا يَبِيعُ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً بَعْدَ الْقِسْمَةِ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ مَا يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِمِثْلٍ لِمَا تُرِكَ عَلَى صَاحِبِهِ بِيَقِينٍ فَلَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ الْعَيْنِ حُكْمًا ، وَلَمَّا اسْتَشْعَرَ أَنْ يُقَالَ : لَوْ كَانَ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَالْعُرُوضِ لَمَا أُجْبِرَ الْآبِي عَلَى الْقِسْمَةِ فِي ذَلِكَ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ : إلَّا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أُجْبِرَ الْقَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ لِتَقَارُبِ الْمَقَاصِدِ ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْمُبَادَلَةِ لِأَنَّهَا مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الْجَبْرُ ، كَمَا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّ الْمَدْيُونَ يُجْبَرُ عَلَى الْقَضَاءِ مَعَ أَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَصَارَ مَا يُؤَدَّى بَدَلًا عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ ، وَهَذَا جَبْرٌ فِي الْمُبَادَلَةِ قَصْدًا وَقَدْ جَازَ فَلَأَنْ يَجُوزَ بِلَا قَصْدٍ إلَيْهِ أَوْلَى ، وَهَذَا لِأَنَّ أَحَدَهُمْ يَطْلُبُ الْقِسْمَةَ يَسْأَلُ الْقَاضِيَ أَنْ يَخُصَّهُ بِالِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ وَيَمْنَعُ الْغَيْرَ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ فَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي إجَابَتُهُ ، فَكَانَ الْقَصْدُ إلَى الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ عَلَى الْخُلُوصِ دُونَ الْإِجْبَارِ عَلَى غَيْرِهِ ؛ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لَا يُجْبَرُ الْقَاضِي الْآبِي عَلَى قِسْمَتِهَا لِتَعَذُّرِ الْمُعَادَلَةِ بِاعْتِبَارِ فُحْشِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَقَاصِدِ ، وَلَوْ تَرَاضَوْا عَلَى ذَلِكَ جَازَ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي مُخْتَلِفِ الْجِنْسِ مُبَادَلَةٌ كَالتِّجَارَةِ وَالتَّرَاضِي فِي التِّجَارَةِ شَرْطٌ
بِالنَّصِّ .
قَالَ ( وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَنْصِبَ قَاسِمًا ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ إلَّا مَا نُنَبِّهُ عَلَيْهِ .
قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ وَأَبْعَدُ عَنْ التُّهْمَةِ ) لِأَنَّهُ مَتَى يَصِلُ إلَيْهِ أَجْرُ عَمَلِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَا يَمِيلُ بِأَخْذِ الرِّشْوَةِ إلَى الْبَعْضِ ، وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْسِمَ بِنَفْسِهِ وَيَأْخُذَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْمُتَقَاسِمِينَ أَجْرًا ، لَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَأْخُذَ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَيْسَتْ بِقَضَاءٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَا يُفْتَرَضَ عَلَى الْقَاضِي مُبَاشَرَتُهَا ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ جَبْرُ الْآبِي عَلَى الْقِسْمَةِ ، إلَّا أَنَّ لَهَا شَبَهًا بِالْقَضَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تُسْتَفَادُ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ ، فَإِنَّ الْأَجْنَبِيَّ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجَبْرِ ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَيْسَتْ بِقَضَاءٍ جَازَ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا تُشْبِهُ الْقَضَاءَ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَأْخُذَ .
( وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا مَأْمُونًا عَالِمًا بِالْقِسْمَةِ ) لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ عَمَلِ الْقَضَاءِ ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ وَهِيَ بِالْعِلْمِ ، وَمِنْ الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِهِ وَهُوَ بِالْأَمَانَةِ ( وَلَا يُجْبِرُ الْقَاضِي النَّاسَ عَلَى قَاسِمٍ وَاحِدٍ ) مَعْنَاهُ لَا يُجْبِرُهُمْ عَلَى أَنْ يَسْتَأْجِرُوهُ لِأَنَّهُ لَا جَبْرَ عَلَى الْعُقُودِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَعَيَّنَ لَتَحَكَّمَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى أَجْرِ مِثْلِهِ ( وَلَوْ اصْطَلَحُوا فَاقْتَسَمُوا جَازَ ، إلَّا إذَا كَانَ فِيهِمْ صَغِيرٌ فَيَحْتَاجُ إلَى أَمْرِ الْقَاضِي ) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ ( وَلَا يَتْرُكُ الْقُسَّامَ يَشْتَرِكُونَ ) كَيْ لَا تَصِيرَ الْأُجْرَةُ غَالِيَةً بِتَوَاكُلِهِمْ ، وَعِنْدَ عَدَمِ الشَّرِكَةِ يَتَبَادَرُ كُلٌّ مِنْهُمْ إلَيْهِ خِيفَةَ الْفَوْتِ فَيُرَخِّصُ الْأَجْرَ قَالَ ( وَأُجْرَةُ الْقِسْمَةِ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا عَلَى قَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ ) لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ كَأُجْرَةِ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ وَحَفْرِ الْبِئْرِ الْمُشْتَرَكَةِ وَنَفَقَةِ الْمَمْلُوكِ الْمُشْتَرَكِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَجْرَ مُقَابَلٌ بِالتَّمْيِيزِ ، وَأَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ ، وَرُبَّمَا يَصْعُبُ الْحِسَابُ بِالنَّظَرِ إلَى الْقَلِيلِ ، وَقَدْ يَنْعَكِسُ الْأَمْرُ فَيَتَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ فَيَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِأَصْلِ التَّمْيِيز ، بِخِلَافِ حَفْرِ الْبِئْرِ لِأَنَّ الْأَجْرَ مُقَابَلٌ بِنَقْلِ التُّرَابِ وَهُوَ يَتَفَاوَتُ ، وَالْكَيْلُ وَالْوَزْنُ إنْ كَانَ لِلْقِسْمَةِ قِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْقِسْمَةِ فَالْأَجْرُ مُقَابَلٌ بِعَمَلِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَهُوَ يَتَفَاوَتُ وَهُوَ الْعُذْرُ لَوْ أُطْلِقَ وَلَا يُفَصَّلُ وَعَنْهُ أَنَّهُ عَلَى الطَّالِبِ دُونَ الْمُمْتَنِعِ لِنَفْعِهِ وَمَضَرَّةِ الْمُمْتَنِعِ قَالَ .
( وَإِذَا حَضَرَ الشُّرَكَاءُ عِنْدَ الْقَاضِي وَفِي أَيْدِيهِمْ دَارٌ أَوْ ضَيْعَةٌ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ وَرِثُوهَا عَنْ فُلَانٍ لَمْ يَقْسِمْهَا الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى
مَوْتِهِ وَعَدَدِ وَرَثَتِهِ وَقَالَ صَاحِبَاهُ : يَقْسِمُهَا بِاعْتِرَافِهِمْ ، وَيَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّهُ قَسَمَهَا بِقَوْلِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ الْمُشْتَرَكُ مَا سِوَى الْعَقَارِ وَادَّعَوْا أَنَّهُ مِيرَاثٌ قَسَمَهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، وَلَوْ ادَّعَوْا فِي الْعَقَارِ أَنَّهُمْ اشْتَرَوْهُ قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ ) لَهُمَا أَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ وَالْإِقْرَارَ أَمَارَةُ الصِّدْقِ وَلَا مُنَازِعَ لَهُمْ فَيَقْسِمَهُ بَيْنَهُمْ كَمَا فِي الْمَنْقُولِ الْمَوْرُوثِ وَالْعَقَارِ الْمُشْتَرَى ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا مُنْكِرَ وَلَا بَيِّنَةَ إلَّا عَلَى الْمُنْكِرِ فَلَا يُفِيدُ ، إلَّا أَنَّهُ يَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّهُ قَسَمَهَا بِإِقْرَارِهِمْ لِيَقْتَصِرَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَتَعَدَّاهُمْ وَلَهُ أَنْ يَقْسِمَ قَضَاءً عَلَى الْمَيِّتِ إذْ التَّرِكَةُ مُبْقَاةٌ عَلَى مِلْكِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، حَتَّى لَوْ حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ قَبْلَهَا تُنَفَّذُ وَصَايَاهُ فِيهَا وَتُقْضَى دُيُونُهُ مِنْهَا ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ ، وَإِذَا كَانَتْ قَضَاءً عَلَى الْمَيِّتِ فَالْإِقْرَارُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ وَهُوَ مُفِيدٌ ، لِأَنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْمُورِثِ .
وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ كَمَا فِي الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ الْمُقِرِّ بِالدَّيْنِ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ مَعَ إقْرَارِهِ ، بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ نَظَرًا لِلْحَاجَةِ إلَى الْحِفْظِ أَمَّا الْعَقَارُ فَمُحْصَنٌ بِنَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ الْمَنْقُولَ مَضْمُونٌ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي يَدِهِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْعَقَارُ عِنْدَهُ ، وَبِخِلَافِ الْمُشْتَرَى لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يَقْسِمْ فَلَمْ تَكُنْ الْقِسْمَةُ قَضَاءً عَلَى الْغَيْرِ قَالَ ( وَإِنْ ادَّعَوْا الْمِلْكَ وَلَمْ يَذْكُرُوا كَيْفَ انْتَقَلَ إلَيْهِمْ قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقِسْمَةِ قَضَاءٌ عَلَى الْغَيْرِ ، فَإِنَّهُمْ مَا أَقَرُّوا بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِمْ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَذِهِ رِوَايَةُ كِتَابِ الْقِسْمَةِ .
Sوَقَوْلُهُ ( عَدْلًا مَأْمُونًا ) ذَكَرَ الْأَمَانَةَ بَعْدَ الْعَدَالَةِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ لَوَازِمِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ظَاهِرِ الْأَمَانَةِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ اصْطَلَحُوا فَاقْتَسَمُوا ) يَعْنِي لَمْ يَرْفَعُوا الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ بَلْ اقْتَسَمُوا بِأَنْفُسِهِمْ بِاصْطِلَاحِهِمْ ، فَهُوَ جَائِزٌ لِمَا أَنَّ فِي الْقِسْمَةِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَتَثْبُتُ بِالتَّرَاضِي كَمَا فِي سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ .
وَقَوْلُهُ ( كَأُجْرَةِ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ وَحَفْرِ الْبِئْرِ الْمُشْتَرَكَةِ ) يَعْنِي إذَا اسْتَأْجَرُوا الْكَيَّالَ لِيَفْعَلَ الْكَيْلَ فِيمَا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ فَالْأُجْرَةُ عَلَى قَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ ، وَكَذَلِكَ الْوَزَّانُ وَالْحَافِرُ ( وَقَوْلُهُ إنَّ الْأَجْرَ مُقَابَلٌ بِالتَّمْيِيزِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ ) تَحْقِيقُهُ أَنَّ الْقَاسِمَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِالْمِسَاحَةِ وَمَدِّ الْأَطْنَابِ وَالْمَشْيِ عَلَى الْحُدُودِ ، لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَعَانَ فِي ذَلِكَ بِأَرْبَابِ الْمِلْكِ اسْتَوْجَبَ كَمَالَ الْأَجْرِ إذَا قَسَمَ بِنَفْسِهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَةِ الْقِسْمَةِ ، وَرُبَّمَا يَصْعُبُ الْحِسَابُ بِالنَّظَرِ إلَى الْقَلِيلِ لِأَنَّ الْحِسَابَ يَدُقُّ بِتَفَاوُتِ الْأَنْصِبَاءِ وَيَزْدَادُ دِقَّةً بِقِلَّةِ الْأَنْصِبَاءِ ، فَلَعَلَّ تَمْيِيزَ نَصِيبِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ أَشَقُّ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْهِ تَمْيِيزُ نَصِيبِ صَاحِبِ الْكَثِيرِ لِكُسُورٍ وَقَعَتْ فِيهِ فَيَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِأَصْلِ التَّمْيِيزِ ، بِخِلَافِ حَفْرِ الْبِئْرِ لِأَنَّ الْأَجْرَ مُقَابَلٌ بِنَقْلِ التُّرَابِ وَهُوَ يَتَفَاوَتُ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْقِسْمَةِ ) بِأَنْ اشْتَرَيَا مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا وَأَمَرَا إنْسَانًا بِكَيْلِهِ لِيَصِيرَ الْكُلُّ مَعْلُومَ الْقَدْرِ ( فَالْأَجْرُ بِقَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ وَهُوَ الْعُذْرُ لَوْ أَطْلَقَ وَلَا يَفْصِلُ ) يَعْنِي لَوْ أَطْلَقَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَوَابِ ، وَقَالَ : أُجْرَةُ الْكَيَّالِ بِقَدْرِ عَمَلِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْكَيْلُ لِلْقِسْمَةِ أَوْ لَا
، فَالْعُذْرُ لَهُ فِي ذَلِكَ هُوَ التَّفَاوُتُ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ أَكْثَرُ فَكَانَ أَصْعَبَ وَالْأَجْرُ بِقَدْرِ الْعَمَلِ ، بِخِلَافِ الْقَسَّامِ فَإِنَّهُ قَدْ يَعْكِسُ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَفْصِلُ ) تَأْكِيدٌ وَبَيَانٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَنْهُ ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ( أَنَّ الْأَجْرَ كُلَّهُ عَلَى الطَّالِبِ دُونَ الْمُمْتَنِعِ لِنَفْعِهِ وَمَضَرَّةِ الْمُمْتَنِعِ ) .
قَالَ ( وَإِذَا حَضَرَ الشُّرَكَاءُ عِنْدَ الْقَاضِي ) إلَخْ إذَا حَضَرَ الشُّرَكَاءُ عِنْدَ الْقَاضِي وَفِي أَيْدِيهِمْ مَالٌ وَطَلَبُوا قِسْمَتَهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَقَارًا أَوْ غَيْرَهُ ، فَإِنْ كَانَ عَقَارًا فَأَمَّا إنْ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ وَرِثُوهُ أَوْ اشْتَرَوْهُ أَوْ سَكَتُوا عَنْ كَيْفِيَّةِ الِانْتِقَالِ إلَيْهِمْ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَقْسِمْهُ الْقَاضِي حَتَّى يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَوْتِهِ ، وَعَدَدِ وَرَثَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَالَا : يَقْسِمُهُ بِاعْتِرَافِهِمْ ) وَإِنْ كَانَ الثَّانِي قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَقَارٍ وَادَّعَوْا أَنَّهُ مِيرَاثٌ قَسَمَهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .
لَهُمَا أَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ الْقِسْمَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِشُبْهَةٍ فِي الْمِلْكِ أَوْ لِتُهْمَةٍ فِي دَعْوَاهُ أَوْ لِمُنَازِعٍ لِلْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ ، وَلَا شَيْءَ مِنْ ذَلِكَ بِمُتَحَقِّقٍ لِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ وَالْإِقْرَارُ أَمَارَةُ الصِّدْقِ وَالْفَرْضُ عَدَمُ الْمُنَازِعِ فَيَقْسِمُهُ بَيْنَهُمْ كَمَا فِي الْمَنْقُولِ الْمَوْرُوثِ وَالْعَقَارِ الْمُشْتَرَى ، وَطَلَبُ الْبَيِّنَةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى مُنْكِرٍ وَلَا مُنْكِرَ هَاهُنَا فَلَا تُفِيدُ إلَّا أَنَّهُ يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ : أَيْ فِي الصَّكِّ الَّذِي يَكْتُبُهُ الْقَاضِي أَنَّهُ قَسَمَهُ بِاعْتِرَافِهِمْ لِئَلَّا يَكُونَ حُكْمُهُ مُتَعَدِّيًا إلَى غَيْرِهِمْ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقِسْمَةَ قَضَاءٌ عَلَى الْمَيِّتِ .
إذْ التَّرِكَةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مُبْقَاةٌ عَلَى
مِلْكِهِ ، حَتَّى لَوْ حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ تَنْفُذُ وَصَايَاهُ فِيهَا وَتُقْضَى دُيُونُهُ مِنْهَا .
وَعَنْ هَذَا قَالُوا : إذَا أَوْصَى بِجَارِيَةٍ لِإِنْسَانٍ فَوَلَدَتْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِيهِمَا بِقَدْرِ الثُّلُثِ كَأَنَّهُ أَوْصَى بِهِمَا ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمُوصَى لَهُ ، فَدَلَّ أَنَّ التَّرِكَةَ مُبْقَاةٌ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ قَضَاءً عَلَى الْمَيِّتِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ حُجَّةٍ وَهِيَ إمَّا إقْرَارُ الْوَرَثَةِ أَوْ بَيِّنَتُهُمْ ، وَإِقْرَارُهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمَيِّتِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ .
وَقَوْلُهُ وَهُوَ مُفِيدُ جَوَابٍ عَنْ قَوْلِهِمَا فَلَا يُفِيدُ ذَلِكَ ، لِأَنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا بِأَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الْحَاضِرِينَ مُدَّعِيًا وَالْآخَرُ مُدَّعًى عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : كُلٌّ مِنْهُمَا مُقِرٌّ بِدَعْوَى صَاحِبِهِ وَالْمُقِرُّ لَا يَصْلُحُ خَصْمًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ : أَيْ كَوْنُهُ خَصْمًا بِسَبَبِ إقْرَارِهِ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِ الْإِقْرَارِ مَعَ كَوْنِهِ خَصْمًا كَمَا فِي الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ الْمُقِرِّ بِالدُّيُونِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُقْضَى عَلَيْهِمَا بِالْبَيِّنَةِ بِدُيُونِ الْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَا مُقِرِّينَ بِهَا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الدَّيْنِ فِي حَقِّهِمْ وَحَقِّ غَيْرِهِمْ ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ لِلْمَيِّتِ غَرِيمُ دَيْنِهِ ظَاهِرٌ وَدَيْنُ الْمُقَرِّ لَهُ بِإِقْرَارِ الْوَرَثَةِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّهِ فَيَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِيَكُونَ حَقُّهُ فِي جَمِيعِ مَالِ الْمَيِّتِ وَيَلْزَمُ ذَلِكَ جَمِيعَ الْوَرَثَةِ وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا كَمَا فِي الْمَنْقُولِ الْمَوْرُوثِ ، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ نَظَرًا إلَخْ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْمَنْقُولَ مَضْمُونٌ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَفِي الْقِسْمَةِ جَعَلَهُ مَضْمُونًا ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ لِلْمَيِّتِ ،
بِخِلَافِ الْعَقَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي يَدِهِ عِنْدَهُ ( وَبِخِلَافِ الْمُشْتَرِي ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَالْعَقَارُ الْمُشْتَرَى عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ الْأُصُولِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْسِمُهُ بَيْنَهُمْ وَسَوَّى بَيْنَ الشِّرَاءِ وَالْمِيرَاثِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْمَبِيعَ بَعْدَ الْعَقْدِ لَا يَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يُقْسَمْ فَلَمْ تَكُنْ الْقِسْمَةُ قَضَاءً عَلَى الْغَيْرِ ( قَوْلُهُ وَإِنْ ادَّعَوْا الْمِلْكَ ) هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ الْمَوْعُودُ وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( هَذِهِ ) يَعْنِي الْقِسْمَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ( رِوَايَةُ كِتَابِ الْقِسْمَةِ ) وَأَعَادَ لَفْظَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ حَتَّى يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمَا مِلْكًا لِغَيْرِهِمَا فَإِنَّهُمَا لَمَّا لَمْ يَذْكُرَا السَّبَبَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِيرَاثًا فَيَكُونُ مِلْكًا لِلْغَيْرِ وَأَنْ يَكُونَ مُشْتَرًى فَيَكُونُ مِلْكًا لَهُمَا ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَكُونَ الْأَمْلَاكُ فِي يَدِ مُلَّاكِهَا فَلَا تُقْسَمُ احْتِيَاطًا .
قِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً ، وَعِنْدَهُمَا تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُمَا يُقْسَمَانِ فِي الْمِيرَاثِ بِلَا بَيِّنَةٍ فَفِي هَذَا أَوْلَى .
وَقِيلَ قَوْلُ الْكُلِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ ، لِأَنَّ الْقِسْمَةَ نَوْعَانِ : قِسْمَةٌ لِحَقِّ الْمِلْكِ لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ ، وَقِسْمَةٌ لِحَقِّ الدَّارِ لِأَجْلِ الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ .
وَالثَّانِي فِي الْعَقَارِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَتَعَيَّنَ قِسْمَةُ الْمِلْكِ ، وَقِسْمَةُ الْمِلْكِ تَفْتَقِرُ إلَى قِيَامِ الْمِلْكِ ، وَلَا مِلْكَ بِدُونِ الْبَيِّنَةِ فَامْتَنَعَ الْجَوَازُ .
( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : أَرْضٌ ادَّعَاهَا رَجُلَانِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمَا وَأَرَادَا الْقِسْمَةَ لَمْ يَقْسِمْهَا حَتَّى يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُمَا ) لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِمَا ثُمَّ قِيلَ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقِيلَ قَوْلُ الْكُلِّ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْحِفْظِ فِي الْعَقَارِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ ، وَقِسْمَةُ الْمِلْكِ تَفْتَقِرُ إلَى قِيَامِهِ وَلَا مِلْكَ فَامْتَنَعَ الْجَوَازُ قَالَ ( وَإِذَا حَضَرَ وَارِثَانِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَفَاةِ وَعَدَدِ الْوَرَثَةِ وَالدَّارُ فِي أَيْدِيهمْ وَمَعَهُمْ وَارِثٌ غَائِبٌ قَسَمَهَا الْقَاضِي بِطَلَبِ الْحَاضِرِينَ وَيُنَصِّبُ وَكِيلًا يَقْبِضُ نَصِيبَ الْغَائِبِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَكَانَ الْغَائِبِ صَبِيٌّ يَقْسِمُ وَيُنَصِّبُ وَصِيًّا يَقْبِضُ نَصِيبَهُ ) لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَهُ أَيْضًا خِلَافًا لَهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ( وَلَوْ كَانُوا مُشْتَرِينَ لَمْ يَقْسِمْ مَعَ غَيْبَةِ أَحَدِهِمْ ) وَالْفَرْقُ أَنْ مِلْكَ الْوَارِثِ مِلْكُ خِلَافَةٍ حَتَّى يُرَدَّ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُورِثُ أَوْ بَاعَ وَيَصِيرُ مَغْرُورًا بِشِرَاءِ الْمُورِثِ فَانْتَصَبَ أَحَدُهُمَا خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ فِيمَا فِي يَدِهِ وَالْآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ فَصَارَتْ الْقِسْمَةُ قَضَاءً بِحَضْرَةِ الْمُتَخَاصِمِينَ .
أَمَّا الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِالشِّرَاءِ مِلْكٌ مُبْتَدَأٌ وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ عَلَى بَائِعِ بَائِعِهِ فَلَا يَصْلُحُ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ فَوَضَحَ الْفَرْقُ ( وَإِنْ كَانَ الْعَقَارُ فِي يَدِ الْوَارِثِ الْغَائِبِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ لَمْ يُقْسَمْ ، وَكَذَا إذَا كَانَ فِي يَدِ مُودِعِهِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ فِي يَدِ الصَّغِيرِ ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ بِاسْتِحْقَاقِ يَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ عَنْهُمَا ، وَأَمِينُ الْخَصْمِ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْهُ فِيمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ ، وَالْقَضَاءُ مِنْ غَيْرِ الْخَصْمِ لَا
يَجُوزُ .
وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْفَصْلِ بَيْنَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَعَدَمِهَا هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا أُطْلِقَ فِي الْكِتَابِ قَالَ ( وَإِنْ حَضَرَ وَارِثٌ وَاحِدٌ لَمْ يَقْسِمْ وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ خَصْمَيْنِ ، لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْلُحُ مُخَاصِمًا وَمُخَاصَمًا ، وَكَذَا مُقَاسِمًا وَمُقَاسَمًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْحَاضِرُ اثْنَيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ( وَلَوْ كَانَ الْحَاضِرُ كَبِيرًا وَصَغِيرًا نَصَبَ الْقَاضِي عَنْ الصَّغِيرِ وَصِيًّا وَقَسَمَ إذَا أُقِيمَتْ الْبَيِّنَةُ ، وَكَذَا إذَا حَضَرَ وَارِثٌ كَبِيرٌ وَمُوصًى لَهُ بِالثُّلُثِ فِيهَا وَطَلَبَا الْقِسْمَةَ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ يَقْسِمُهُ ) لِاجْتِمَاعِ الْخَصْمَيْنِ الْكَبِيرِ عَنْ الْمَيِّتِ وَالْمُوصَى لَهُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَكَذَا الْوَصِيُّ عَنْ الصَّبِيِّ كَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ
قَالَ ( وَإِنْ حَضَرَ وَارِثَانِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَفَاةِ وَعَدَدِ الْوَرَثَةِ وَالدَّارُ فِي أَيْدِيهِمْ وَمَعَهُمْ وَارِثٌ غَائِبٌ قَسَمَهَا الْقَاضِي بِطَلَبِ الْحَاضِرِينَ وَيَنْصِبُ لِلْغَائِبِ وَكِيلًا يَقْبِض نَصِيبِهِ ) قِيلَ قَوْلُهُ فِي أَيْدِيهِمْ وَمَعَهُمْ وَارِثٌ غَائِبٌ وَقَعَ سَهْوًا مِنْ النَّاسِخِ ، وَالصَّحِيحُ فِي أَيْدِيهِمَا ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمْ لَكَانَ الْبَعْضُ فِي يَدِ الْغَائِبِ ضَرُورَةً ، وَقَدْ ذُكِرَ بَعْدَ هَذَا فِي الْكِتَابِ وَإِنْ كَانَ الْعَقَارُ فِي يَدِ الْوَارِثِ الْغَائِبِ أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ لَمْ يُقْسَمْ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَطْلَقَ الْجَمْعَ وَأَرَادَ الْمُثَنَّى بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ وَارِثَانِ وَأَقَامَا لَكِنَّهُ مُلْتَبِسٌ ( وَكَذَا لَوْ كَانَ مَكَانَ الْغَائِبِ صَبِيٌّ يُقْسَمُ وَيَنْصِبُ وَصِيًّا يَقْبِضُ نَصِيبَهُ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلْغَائِبِ وَالصَّبِيِّ ) لِظُهُورِ نَصِيبِهِمَا بِمَا فِي يَدِ الْغَيْرِ ( وَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ) يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ مَعَهُمَا صَبِيٌّ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) كَمَا إذَا كَانَ مَعَهُمَا غَائِبٌ ( خِلَافًا لَهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ لَمْ يَقْسِمْهَا الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَوْتِهِ وَعَدَدِ وَرَثَتِهِ .
وَقَالَ صَاحِبَاهُ : يَقْسِمُهَا بِاعْتِرَافِهِمْ ( وَلَوْ كَانُوا مُشْتَرِينَ لَمْ يُقْسَمْ مَعَ غَيْبَةِ أَحَدِهِمْ ) وَإِنْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ وَذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ وَاضِحٌ ( قَوْلُهُ وَيَصِيرُ مَغْرُورًا بِشِرَاءِ الْمُوَرِّثِ ) صُورَتُهُ : اشْتَرَى الْمُورِثُ جَارِيَةً وَمَاتَ وَاسْتَوْلَدَهَا الْوَارِثُ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ يَكُونُ الْوَلَدُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ وَيَرْجِعُ الْوَارِثُ بِهَا عَلَى الْبَائِعِ كَالْمُوَرِّثِ ( وَقَوْلُهُ وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْفَصْلِ بَيْنَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَعَدَمِهَا ) يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ الْعَقَارُ فِي يَدِ الْوَارِثِ الْغَائِبِ أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا أُطْلِقَ فِي الْكِتَابِ ) يَعْنِي قَوْلَهُ لَمْ
يُقْسَمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ الْعَقَارِ فِي يَدِ الصَّغِيرِ أَوْ الْغَائِبِ لَمْ أَقْسِمْهَا بِإِقْرَارِ الْحُضُورِ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَصْلِ الْمِيرَاثِ ، لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ بِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِمَّا كَانَ فِي يَدِهِ عَنْ يَدِهِ ( وَإِنْ حَضَرَ وَارِثٌ وَاحِدٌ لَمْ يُقْسَمْ وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ خَصْمَيْنِ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْلُحُ مُخَاصِمًا وَمُخَاصَمًا ) فَالْحَاضِرُ إنْ كَانَ خَصْمًا عَنْ نَفْسِهِ فَلَيْسَ ثَمَّةَ خَصْمٌ عَنْ الْمَيِّتِ وَعَنْ الْغَائِبِ ، وَإِنْ كَانَ خَصْمًا عَنْهُمَا فَمَا ثَمَّةَ مَنْ يُخَاصِمُ عَنْ نَفْسِهِ لِيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْحَاضِرُ اثْنَيْنِ ، وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ .
( فَصْلٌ فِيمَا يُقْسَمُ وَمَا لَا يُقْسَمُ ) : قَالَ ( وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ قَسَمَ بِطَلَبِ أَحَدِهِمْ ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ حَقٌّ لَازِمٌ فِيمَا يَحْتَمِلُهَا عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِهِمْ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ( وَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ أَحَدُهُمْ وَيَسْتَضِرُّ بِهِ الْآخَرُ لِقِلَّةِ نَصِيبِهِ ، فَإِنْ طَلَبَ صَاحِبُ الْكَثِيرِ قَسَمَ ، وَإِنْ طَلَبَ صَاحِبُ الْقَلِيلِ لَمْ يَقْسِمْ ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَنْتَفِعُ بِهِ فَيُعْتَبَرَ طَلَبُهُ ، وَالثَّانِي مُتَعَنِّتٌ فِي طَلَبِهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ عَلَى قَلْبِ هَذَا لِأَنَّ صَاحِبَ الْكَثِيرِ يُرِيدُ الْإِضْرَارَ بِغَيْرِهِ وَالْآخَرُ يَرْضَى بِضَرَرِ نَفْسِهِ وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ أَيَّهمَا طَلَبَ الْقِسْمَةَ يَقْسِمُ الْقَاضِي ، وَالْوَجْهُ انْدَرَجَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ وَالْأَصَحُّ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ الْأَوَّلُ ( وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَضِرُّ لِصِغَرِهِ لَمْ يَقْسِمْهَا إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا ) لِأَنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْقِسْمَةِ لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ ، وَفِي هَذَا تَفْوِيتُهَا ، وَتَجُوزُ بِتَرَاضِيهِمَا لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا وَهُمَا أَعْرَفُ بِشَأْنِهِمَا .
أَمَّا الْقَاضِي فَيَعْتَمِدُ الظَّاهِرَ قَالَ ( وَيُقْسَمُ الْعُرُوض إذَا كَانَتْ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ ) لِأَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ يَتَّحِدُ الْمَقْصُودُ فَيَحْصُلَ التَّعْدِيلُ فِي الْقِسْمَةِ وَالتَّكْمِيلُ فِي الْمَنْفَعَةِ ( وَلَا يَقْسِمُ الْجِنْسَيْنِ بَعْضَهُمَا فِي بَعْضٍ ) لِأَنَّهُ لَا اخْتِلَاطَ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ فَلَا تَقَعُ الْقِسْمَةُ تَمْيِيزًا بَلْ تَقَعُ مُعَاوَضَةً ، وَسَبِيلُهَا التَّرَاضِي دُونَ جَبْرِ الْقَاضِي ( وَيَقْسِمُ كُلَّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ كَثِيرٍ أَوْ قَلِيلٍ وَالْمَعْدُودِ الْمُتَقَارِبِ وَتِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالْإِبِلِ بِانْفِرَادِهَا وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَلَا يَقْسِمُ شَاةً وَبَعِيرًا وَبِرْذَوْنًا وَحِمَارًا وَلَا يَقْسِمُ الْأَوَانِيَ ) لِأَنَّهَا بِاخْتِلَافِ الصَّنْعَةِ الْتَحَقَتْ بِالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ (
وَيَقْسِمُ الثِّيَابَ الْهَرَوِيَّةَ ) لِاتِّحَادِ الصِّنْفِ ( وَلَا يَقْسِمُ ثَوْبًا وَاحِدًا ) لِاشْتِمَالِ الْقِسْمَةِ عَلَى الضَّرَرِ إذْ هِيَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْقَطْعِ ( وَلَا ثَوْبَيْنِ إذَا اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُمَا ) لِمَا بَيَّنَّا ، بِخِلَافِ ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ إذَا جُعِلَ ثَوْبٌ بِثَوْبَيْنِ أَوْ ثَوْبٌ وَرُبْعُ ثَوْبٍ بِثَوْبٍ وَثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ ثَوْبٍ لِأَنَّهُ قِسْمَةُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ وَذَلِكَ جَائِزٌ .
( وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَقْسِمُ الرَّقِيقَ وَالْجَوَاهِرَ ) لِتَفَاوُتِهِمَا ( وَقَالَا : يَقْسِمُ الرَّقِيقَ ) لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ كَمَا فِي الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَرَقِيقِ الْمَغْنَمِ وَلَهُ أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْآدَمِيِّ فَاحِشٌ لِتَفَاوُتِ الْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ فَصَارَ كَالْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ بِخِلَافِ الْحَيَوَانَاتِ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِيهَا يَقِلُّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ بَنِي آدَمَ جِنْسَانِ وَمِنْ الْحَيَوَانَاتِ جِنْسٌ وَاحِدٌ ، بِخِلَافِ الْمَغَانِمِ لِأَنَّ حَقَّ الْغَانِمِينَ فِي الْمَالِيَّةِ حَتَّى كَانَ لِلْإِمَامِ بَيْعُهَا وَقِسْمَةُ ثَمَنِهَا وَهُنَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ جَمِيعًا فَافْتَرَقَا وَأَمَّا الْجَوَاهِرُ فَقَدْ قِيلَ إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ لَا يَقْسِمُ كَاللَّآلِئِ وَالْيَوَاقِيتِ وَقِيلَ لَا يَقْسِمُ الْكِبَارَ مِنْهَا لِكَثْرَةِ التَّفَاوُتِ ، وَيَقْسِمُ الصِّغَارَ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ .
وَقِيلَ يَجْرِي الْجَوَابُ عَلَى إطْلَاقِهِ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْجَوَاهِرِ أَفْحَشُ مِنْ جَهَالَةِ الرَّقِيقِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ عَلَى لُؤْلُؤَةٍ أَوْ يَاقُوتَةٍ أَوْ خَالَعَ عَلَيْهَا لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ ، وَيَصِحُّ ذَلِكَ عَلَى عَبْدٍ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى الْقِسْمَةِ .
فَصْلٌ ) : فِيمَا يُقْسَمُ وَمَا لَا يُقْسَمُ لَمَّا تَنَوَّعَتْ مَسَائِلُ الْقِسْمَةِ إلَى مَا يُقْسَمُ وَمَا لَا يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا فَقَالَ ( وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ إلَخْ ) إذَا طَلَبَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ الْقِسْمَةَ فَإِمَّا أَنْ يَنْتَفِعَ كُلٌّ بِنَصِيبِهِ أَوْ بَعْضُهُمْ أَوْ لَا يَنْتَفِعُ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قَسَمَ الْقَاضِي بِطَلَبِ أَحَدِهِمْ جَبْرًا عَلَى مَنْ أَبَى ( لِأَنَّ الْقِسْمَةَ حَقٌّ لَازِمٌ فِيمَا يَحْتَمِلُهَا عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِهِمْ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أُجْبِرَ الْقَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ لِتَفَاوُتِ الْمَقَاصِدِ وَالْمُبَادَلَةُ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الْجَبْرُ كَقَضَاءِ الدَّيْنِ إلَى آخِرِهِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَإِنْ طَلَبَ صَاحِبُ الْكَثِيرِ قُسِمَ ، وَإِنْ طَلَبَ صَاحِبُ الْقَلِيلِ لَمْ يُقْسَمْ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْفَرْقِ فِي الْكِتَابِ .
وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ عَلَى قَلْبِ هَذَا وَهُوَ أَنْ يَطْلُبَ صَاحِبُ الْقَلِيلِ الْقِسْمَةَ وَيَأْبَى صَاحِبُ الْكَثِيرِ وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ ( وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ أَيَّهُمَا طَلَبَ الْقِسْمَةَ يَقْسِمُ الْقَاضِي وَالْوَجْهُ انْدَرَجَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ ) لِأَنَّ دَلِيلَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ دَلِيلُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ، وَدَلِيلُ قَوْلِ الْجَصَّاصِ دَلِيلُ الْجَانِبِ الْآخَرِ ( وَالْأَصَحُّ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ ) أَيْ الْقُدُورِيِّ ( وَهُوَ الْأَوَّلُ ) لِأَنَّ رِضَا صَاحِبِ الْقَلِيلِ بِالْتِزَامِ الضَّرَرِ لَا يَلْزَمُ الْقَاضِي شَيْئًا وَإِنَّمَا الْمُلْزَمُ طَلَبُ الْإِنْصَافِ مِنْ الْقَاضِي وَإِيصَالُهُ إلَى مَنْفَعَةٍ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ عِنْدَ طَلَبِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ ( وَإِنْ كَانَ ) الثَّالِثُ بِأَنْ كَانَ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا بَيْتًا صَغِيرًا ( يَسْتَضِرُّ ) كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْقِسْمَةِ وَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ لَمْ يَقْسِمْهَا إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا لِأَنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْقِسْمَةِ لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ وَفِي هَذَا تَفْوِيتُهَا
، وَتَجُوزُ بِتَرَاضِيهِمَا لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا وَهُمَا أَعْرَفُ بِشَأْنِهِمَا أَمَّا الْقَاضِي فَيَعْتَمِدُ الظَّاهِرَ وَيَقْسِمُ الْعُرُوضَ إذَا كَانَتْ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ ) كَالثِّيَابِ مَثَلًا : يَعْنِي بِهِ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ ، لِأَنَّ فِي حَقِّ التَّرَاضِي لَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الصِّنْفِ ( لِأَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِهِ يَتَّحِدُ الْمَقْصُودُ فَيَحْصُلُ التَّعْدِيلُ فِي الْقِسْمَةِ وَالتَّكْمِيلُ فِي الْمَنْفَعَةِ ، وَلَا يَقْسِمُ الْجِنْسَيْنِ بَعْضَهُمَا فِي بَعْضٍ لِعَدَمِ الِاخْتِلَاطِ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ فَلَا تَقَعُ الْقِسْمَةُ تَمْيِيزًا بَلْ تَقَعُ مُعَاوَضَةً وَسَبِيلُهَا التَّرَاضِي دُونَ جَبْرِ الْقَاضِي ) .
وَقَوْلُهُ ( وَيُقْسَمُ الْقَاضِي كُلُّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ إلَخْ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَقْسِمُ شَاةً وَبَعِيرًا ) يَعْنِي لَا يُقْسَمُ جَبْرًا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قِسْمَةَ جَمْعٍ بِأَنْ يَجْمَعَ نَصِيبَ أَحَدِ الْوَرَثَةِ فِي الشَّاةِ خَاصَّةً وَنَصِيبُ الْآخَرِ فِي الْبَعِيرِ خَاصَّةً ، بَلْ يَقْسِمُ الشَّاةَ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَ مِنْهَا ، وَكَذَلِكَ فِي الْبَعِيرِ وَغَيْرِهِ وَالْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةِ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ كَالْإِجَّانَةِ وَالْقُمْقُمِ وَالطَّشْتِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ صُفْرٍ مُلْحَقَةٌ بِمُخْتَلِفَةِ الْجِنْسِ فَلَا يَقْسِمُهَا الْقَاضِي جَبْرًا ، وَكَذَلِكَ الْأَثْوَابُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ الْقُطْنِ أَوْ الْكَتَّانِ إذَا اخْتَلَفَتْ بِالصَّنْعَةِ كَالْقَبَاءِ وَالْجُبَّةِ وَالْقَمِيصِ ( وَيَقْسِمُ الثِّيَابَ الْهَرَوِيَّةَ لِاتِّحَادِ الصِّنْفِ ، وَلَا يَقْسِمُ ثَوْبًا وَاحِدًا لِاشْتِمَالِ الْقِسْمَةِ عَلَى الضَّرَرِ ) بِسَبَبِ الْقَطْعِ لِأَنَّ فِيهِ إتْلَافَ جُزْءٍ فَلَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي مَعَ كَرَاهَةِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ .
فَإِنْ رَضِيَا بِذَلِكَ قَسَمَهُ بَيْنَهُمَا ( وَلَا ثَوْبَيْنِ إذَا اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُمَا لِمَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ بَلْ تَقَعُ مُعَاوَضَةً وَسَبِيلُهَا التَّرَاضِي .
وَوَجْهُ الْمُعَاوَضَةِ أَنَّ التَّعْدِيلَ بَيْنَهُمَا لَا يُمْكِنُ إلَّا بِزِيَادَةِ دَرَاهِمَ مَعَ الْأَوْكَسِ ، وَالدَّرَاهِمُ لَمْ تَكُنْ مُشْتَرَكَةً
فَتَرِدُ عَلَيْهَا الْقِسْمَةُ فَكَانَ مُعَاوَضَةً ( بِخِلَافِ ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ إذَا دَخَلَ ثَوْبٌ بِثَوْبَيْنِ ) يَعْنِي إذَا كَانَ قِيمَةُ الثَّوْبِ الْوَاحِدِ مِثْلَ قِيمَةِ الثَّوْبَيْنِ وَأَرَادَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ وَأَبَى الْآخَرُ يَقْسِمُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَيُعْطِي أَحَدُهُمَا ثَوْبًا وَالْآخَرُ ثَوْبَيْنِ ( وَكَذَا إنْ اسْتَقَامَ أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ ثَوْبًا وَرُبُعَ ثَوْبٍ وَالْآخَرُ ثَوْبًا وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ ثَوْبٍ ) فَإِنَّهُ يَقْسِمُ بَيْنَهُمَا وَيُتْرَكُ الثَّوْبُ الثَّالِثُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ ( لِأَنَّهُ قِسْمَةُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ وَذَلِكَ جَائِزٌ ) لِأَنَّهُ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ التَّمْيِيزُ فِي بَعْضِ الْمُشْتَرَكِ ، وَلَوْ تَيَسَّرَ ذَلِكَ فِي الْكُلِّ قَسَمَ الْكُلَّ عِنْدَ طَلَبِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ فَكَذَلِكَ فِي الْبَعْضِ ، وَمَا ثَمَّةَ مُعَاوَضَةٌ تَحْتَاجُ إلَى التَّرَاضِي ( وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَقْسِمُ الرَّقِيقَ وَالْجَوَاهِرَ لِتَفَاوُتِهِمَا ) الرَّقِيقُ إذَا كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الرَّقِيقُ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ يَصِحُّ فِيهِ الْقِسْمَةُ جَبْرًا كَالْغَنَمِ وَالثِّيَابِ أَوْ لَا يَكُونَ ، فَإِنْ كَانَ فَالْأَصَحُّ الْقِسْمَةُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا عَلَى الْأَظْهَرِ ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيُجْعَلُ الَّذِي مَعَ الرَّقِيقِ أَصْلًا فِي الْقِسْمَةِ جَبْرًا وَيُجْعَلُ الرَّقِيقُ تَابِعًا لَهُ فِي الْقِسْمَةِ ، وَقَدْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ لِشَيْءٍ تَبَعًا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ قَصْدًا كَالشِّرْبِ فِي الْبَيْعِ وَالْمَنْقُولَاتِ فِي الْوَقْفِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا لَا يُقْسَمُ إلَّا بِرِضَاهُمَا ، وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا لَا يَقْسِمُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يُجْبِرُهُمَا عَلَى ذَلِكَ .
وَقَالَ صَاحِبَاهُ : يُجْبِرُهُمَا عَلَى الْقِسْمَةِ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ كَمَا فِي الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَرَقِيقِ الْمَغْنَمِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ
التَّفَاوُتَ فِي الْآدَمِيِّ فَاحِشٌ لِتَفَاوُتِ الْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ كَالذِّهْنِ وَالْكِيَاسَةِ ، لِأَنَّ مِنْ الْعَبِيدِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْأَمَانَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَصْلُحُ لِلتِّجَارَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَصْلُحُ لِلْفُرُوسِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَمَتَى جَمَعَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي وَاحِدٍ فَإِنَّهُ سَائِرُ الْمَنَافِعِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قِسْمَةً وَإِفْرَازًا ، بِخِلَافِ الْحَيَوَانَاتِ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِيهَا يَقِلُّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ بَنِي آدَمَ جِنْسَانِ وَمِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ جِنْسٌ وَاحِدٌ ( بِخِلَافِ الْمَغَانِمِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَرَقِيقُ الْمَغْنَمِ ، وَذَلِكَ ( لِأَنَّ حَقَّ الْغَانِمِينَ فِي الْمَالِيَّةِ حَتَّى كَانَ لِلْإِمَامِ بَيْعُهَا وَقِسْمَةُ ثَمَنِهَا ، وَهَاهُنَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ فَافْتَرَقَا ) فَإِنْ قِيلَ : لَوْ تَزَوَّجَ أَوْ خَالَعَ عَلَى عَبْدٍ صَحَّ فَصَارَ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ فَلْيَكُنْ فِي الْقِسْمَةِ كَذَلِكَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَحْتَاجُ إلَى الْإِفْرَازِ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِي الْقِسْمَةِ ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرْتُمْ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ( قَوْلُهُ وَأَمَّا الْجَوَاهِرُ إلَخْ ) وَاضِحٌ .
قَالَ ( وَلَا يُقْسَمُ حَمَّامٌ وَلَا بِئْرٌ ، وَلَا رَحًى إلَّا بِتَرَاضِي الشُّرَكَاءِ ، وَكَذَا الْحَائِطُ بَيْنَ الدَّارَيْنِ ) لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى الضَّرَرِ فِي الطَّرَفَيْنِ ، إذْ لَا يَبْقَى كُلُّ نَصِيبٍ مُنْتَفَعًا بِهِ انْتِفَاعًا مَقْصُودًا فَلَا يَقْسِمُ الْقَاضِي بِخِلَافِ التَّرَاضِي لِمَا بَيَّنَّا قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ دُورٌ مُشْتَرَكَةً فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ قَسَمَ كُلَّ دَارٍ عَلَى حِدَتِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : إنْ كَانَ الْأَصْلَحُ لَهُمْ قِسْمَةَ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ قَسَمَهَا ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْأَقْرِحَةُ الْمُتَفَرِّقَةُ الْمُشْتَرِكَةُ لَهُمَا أَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ اسْمًا وَصُورَةً ، وَنَظَرًا إلَى أَصْلِ السُّكْنَى أَجْنَاسٌ مَعْنًى نَظَرًا إلَى اخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ ، وَوُجُوهِ السُّكْنَى فَيُفَوَّضُ التَّرْجِيحُ إلَى الْقَاضِي وَلَهُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعْنَى وَهُوَ الْمَقْصُودُ ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَالْمَحَالِّ وَالْجِيرَانِ وَالْقُرْبِ إلَى الْمَسْجِدِ وَالْمَاءِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا فَلَا يُمْكِنُ التَّعْدِيلُ فِي الْقِسْمَةِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ دَارٍ ، وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَ عَلَى دَارٍ لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِيهِمَا فِي الثَّوْبِ بِخِلَافِ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ إذَا اخْتَلَفَتْ بُيُوتُهَا ، لِأَنَّ فِي قِسْمَةِ كُلِّ بَيْتٍ عَلَى حِدَةٍ ضَرَرًا فَقُسِمَتْ الدَّارُ قِسْمَةً وَاحِدَةً قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَقْيِيدُ الْوَضْعِ فِي الْكِتَابِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الدَّارَيْنِ إذَا كَانَتَا فِي مِصْرَيْنِ لَا تَجْتَمِعَانِ فِي الْقِسْمَةِ عِنْدَهُمَا ، وَهُوَ رِوَايَةُ هِلَالٍ عَنْهُمَا وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُقْسَمُ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى وَالْبُيُوتُ فِي مُحَلَّةٍ أَوْ مَحَالٍ تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِيمَا بَيْنَهَا يَسِيرٌ ، وَالْمَنَازِلُ الْمُتَلَازِقَةُ كَالْبُيُوتِ وَالْمُتَبَايِنَةُ كَالدُّورِ لِأَنَّهُ بَيْنَ الدَّارِ وَالْبَيْتِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فَأَخَذَ شَبِيهًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ .
قَالَ ( وَإِنْ كَانَتْ دَارٌ وَضِيعَةٌ أَوْ دَارٌ وَحَانُوتٌ قُسِمَ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ ) لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : جَعَلَ الدَّارَ وَالْحَانُوتَ جِنْسَيْنِ ، وَكَذَا ذَكَرَ الْخَصَّافُ وَقَالَ فِي إجَارَاتِ الْأَصْلِ : إنَّ إجَارَةَ مَنَافِعِ الدَّارِ بِالْحَانُوتِ لَا تَجُوزُ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ ، فَيُجْعَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ أَوْ تُبْنَى حُرْمَةُ الرِّبَا هُنَالِكَ عَلَى شُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ
قَالَ ( وَلَا يُقْسَمُ حَمَّامٌ وَلَا بِئْرٌ وَلَا رَحًى ) وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْجَبْرَ فِي الْقِسْمَةِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ انْتِفَاءِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا بِأَنْ يَبْقَى نَصِيبُ كُلٍّ مِنْهُمَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ مُنْتَفَعًا بِهِ انْتِفَاعَ ذَلِكَ الْجِنْسِ ، وَفِي قِسْمَةِ الْبِئْرِ وَالْحَمَّامِ وَالرَّحَى ضَرَرٌ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا فَلَا يُقْسَمُ إلَّا بِالتَّرَاضِي .
وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ : الْقَاضِي لَا يَقْسِمُ عِنْدَ الضَّرَرِ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْصَبْ مُتْلِفًا ، لَكِنْ لَوْ اقْتَسَمَ لَمْ يَمْنَعْهُمَا عَنْ ذَلِكَ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَسْتَضِرُّ لِصِغَرِهِ لَمْ يَقْسِمْهَا إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا ( قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَتْ دُورٌ مُشْتَرَكَةٌ ) هَاهُنَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ : الدُّورُ ، وَالْبُيُوتُ ، وَالْمَنَازِلُ .
فَالدُّورُ مُتَلَازِقَةً كَانَتْ أَوْ مُتَفَرِّقَةً لَا تُقْسَمُ عِنْدَهُ قِسْمَةً وَاحِدَةً إلَّا بِالتَّرَاضِي ، وَالْبُيُوتُ تُقْسَمُ مُطْلَقًا لِتَقَارُبِهَا فِي مَعْنَى السُّكْنَى ، وَالْمَنَازِلُ إنْ كَانَتْ مُجْتَمِعَةً فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ مُتَلَازِقًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ قُسِمَتْ قِسْمَةً وَاحِدَةً وَإِلَّا فَلَا سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مَحَالَّ أَوْ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ بَعْضُهَا فِي أَدْنَاهَا وَبَعْضُهَا فِي أَقْصَاهَا ، لِأَنَّ الْمَنْزِلَ فَوْقَ الْبَيْتِ دُونَ الدَّارِ فَالْمَنَازِلُ تَتَفَاوَتُ فِي مَعْنَى السُّكْنَى ، وَلَكِنَّ التَّفَاوُتَ فِيهَا دُونَ التَّفَاوُتِ فِي الدُّورِ فَهِيَ تُشْبِهُ الْبُيُوتَ مِنْ وَجْهٍ وَالدُّورَ مِنْ وَجْهٍ ، فَلِشَبَهِهَا بِالْبُيُوتِ قُلْنَا إذَا كَانَتْ مُتَلَازِقَةً تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً ، لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِيهَا يَقِلُّ فِي مَكَان وَاحِدٍ ، وَلِشَبَهِهَا بِالدُّورِ قُلْنَا : إذَا كَانَتْ فِي أَمْكِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ لَا تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً ، وَهُمَا فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا يَقُولَانِ : يَنْظُرُ الْقَاضِي إلَى أَعْدَلِ الْوُجُوهِ فَيُمْضِي الْقِسْمَةَ عَلَى ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا مَرَّ ) يَعْنِي فِي بَابِ الْحُقُوقِ مِنْ
كِتَابِ الْبُيُوعِ ( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ دَارٌ وَضِيعَةٌ أَوْ دَارٌ وَحَانُوتٌ إلَخْ ) وَاضِحٌ إلَّا مَا نَذْكُرُهُ ، إنَّمَا خَصَّ الْخَصَّافَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَمْ تُذْكَرْ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ وَلَا ذَكَرَهَا الطَّحَاوِيُّ وَلَا الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَوْلُهُ ( إنَّ إجَارَةَ مَنَافِعِ الدَّارِ بِالْحَانُوتِ ) أَيْ بِمَنَافِعِ الْحَانُوتِ ، لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ نَفْسَ الْحَانُوتِ أُجْرَةً لِمَنَافِعِ الدَّارِ صَحَّ .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ تُبْنَى حُرْمَةُ الرِّبَا هُنَالِكَ ) أَيْ فِي إجَارَاتِ الْأَصْلِ ( عَلَى شُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ ) يَعْنِي إنْ كَانَتْ مَنَافِعُ الدَّارِ وَمَنَافِعُ الْحَانُوتِ مُخْتَلِفَةً رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ تَحْمِلُ حُرْمَةَ الرِّبَا هُنَالِكَ عَلَى شُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ بَيْنَ مَنَافِعِ الدَّارِ وَالْحَانُوتِ لِاتِّحَادِ أَصْلِ السُّكْنَى الْمَقْصُودِ مِنْهُمَا .
وَاسْتَشْكَلَ كَلَامُهُ هَذَا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اعْتِبَارِ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ ، فَإِنَّ الْجِنْسَ إذَا اتَّحَدَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مُبَادَلَةِ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً ، وَبِالْجِنْسِ يَحْرُمُ النَّسَاءُ عِنْدَنَا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَفِي ذَلِكَ شُبْهَةُ الرِّبَا فَإِذَا اُعْتُبِرَتْ شُبْهَةُ الْجِنْسِيَّةِ كَانَ ذَلِكَ اعْتِبَارًا لِشُبْهَةِ الشُّبْهَةِ ، وَالْمُعْتَبَرُ الشُّبْهَةُ دُونَ النَّازِلِ عَنْهَا .
وَقَدْ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ ، أَوْ يَكُونَ مِنْ مُشْكِلَاتِ هَذَا الْكِتَابِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : لَا إشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِشُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ الشُّبْهَةَ الثَّابِتَةَ بِهَا لِأَنَّهُ قَالَ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَكَيْفَ يَقُولُ بِشُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ فِي التَّوْفِيقِ أَنْ يُرَادَ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ الِاخْتِلَافُ مِنْ حَيْثُ اخْتِلَافِ الذَّاتِ ، فَلَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ الْوَاحِدَةُ ، وَبِاتِّحَادِهِ الِاتِّحَادُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ السُّكْنَى فَتَمْتَنِعُ الْإِجَارَةُ لِشُبْهَةِ الرِّبَا .
( فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ ) : قَالَ ( وَيَنْبَغِي لِلْقَاسِمِ أَنْ يُصَوِّرَ مَا يَقْسِمُهُ ) لِيُمْكِنَهُ حِفْظُهُ ( وَيَعْدِلَهُ ) يَعْنِي يُسَوِّيَهُ عَلَى سِهَامِ الْقِسْمَةِ وَيُرْوَى يَعْزِلَهُ : أَيْ يَقْطَعَهُ بِالْقِسْمَةِ عَنْ غَيْرِهِ ( وَيَذْرَعَهُ ) لِيَعْرِفَ قَدْرَهُ ( وَيُقَوِّمَ الْبِنَاءَ ) لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ ( وَيَفْرِزَ كُلَّ نَصِيبٍ عَنْ الْبَاقِي بِطَرِيقِهِ وَشُرْبِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِنَصِيبِ بَعْضِهِمْ بِنَصِيبِ الْآخَرِ تَعَلُّقٌ ) فَتَنْقَطِعَ الْمُنَازَعَةُ وَيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الْقِسْمَةِ عَلَى التَّمَامِ ( ثُمَّ يُلَقِّبَ نَصِيبًا بِالْأَوَّلِ ، وَاَلَّذِي يَلِيهِ بِالثَّانِي وَالثَّالِثُ عَلَى هَذَا ثُمَّ يُخْرِجَ الْقُرْعَةَ ، فَمَنْ خَرَجَ اسْمُهُ أَوَّلًا فَلَهُ السَّهْمُ الْأَوَّلُ ، وَمَنْ خَرَجَ ثَانِيًا فَلَهُ السَّهْمُ الثَّانِي ) وَالْأَصْلُ أَنْ يَنْظُرَ فِي ذَلِكَ إلَى أَقَلِّ الْأَنْصِبَاءِ ، حَتَّى إذَا كَانَ الْأَقَلُّ ثُلُثًا جَعَلَهَا أَثْلَاثًا ، وَإِنْ كَانَ سُدُسًا جَعَلَهَا أَسْدَاسًا لِتَمَكُّنِ الْقِسْمَةِ ، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ مُشَبَّعًا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ : وَيَفْرِزَ كُلَّ نَصِيبٍ بِطَرِيقِهِ وَشُرْبِهِ بَيَانُ الْأَفْضَلِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ جَازَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ بِتَفْصِيلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالْقُرْعَةُ لِتَطْيِيبِ الْقُلُوبِ وَإِزَاحَةِ تُهْمَةِ الْمِيلِ ، حَتَّى لَوْ عَيَّنَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ نَصِيبًا مِنْ غَيْرِ إقْرَاعٍ جَازَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقَضَاءِ فَيَمْلِكَ الْإِلْزَامَ .
قَالَ ( وَلَا يَدْخُلُ فِي الْقِسْمَةِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمْ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالْقِسْمَةُ مِنْ حُقُوقِ الِاشْتِرَاكِ ) ، وَلِأَنَّهُ يَفُوتُ بِهِ التَّعْدِيلُ فِي الْقِسْمَةِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَصِلُ إلَى عَيْنِ الْعَقَارِ وَدَرَاهِمُ الْآخَرِ فِي ذِمَّتِهِ وَلَعَلَّهَا لَا تُسَلَّمُ لَهُ ( وَإِذَا كَانَ أَرْضٌ وَبِنَاءٌ ؛ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقْسِمُ كُلَّ ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ
اعْتِبَارُ الْمُعَادَلَةِ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقْسِمُ الْأَرْضَ بِالْمَسَّاحَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمَمْسُوحَاتِ ، ثُمَّ يَرُدُّ مَنْ وَقَعَ الْبِنَاءُ فِي نَصِيبِهِ أَوْ مَنْ كَانَ نَصِيبُهُ أَجْوَدَ دَرَاهِمَ عَلَى الْآخَرِ حَتَّى يُسَاوِيَهُ فَتَدْخُلَ الدَّرَاهِمُ فِي الْقِسْمَةِ ضَرُورَةً كَالْأَخِ لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي الْمَالِ ، ثُمَّ يَمْلِكُ تَسْمِيَةَ الصَّدَاقِ ضَرُورَةَ التَّزْوِيجِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى شَرِيكِهِ بِمُقَابَلَةِ الْبِنَاءِ مَا يُسَاوِيهِ مِنْ الْعَرْصَةِ ، وَإِذَا بَقِيَ فَضْلٌ وَلَمْ يُمْكِنْ تَحْقِيقُ التَّسْوِيَةِ بِأَنْ كَانَ لَا تَفِي الْعَرْصَةُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ فَحِينَئِذٍ يُرَدُّ لِلْفَضْلِ دَرَاهِمُ ، لِأَنَّ الضَّرُورَةَ فِي هَذَا الْقَدْرِ فَلَا يُتْرَكُ الْأَصْلُ إلَّا بِهَا .
وَهَذَا يُوَافِقُ رِوَايَةَ الْأَصْلِ قَالَ ( فَإِنْ قَسَمَ بَيْنَهُمْ وَلِأَحَدِهِمْ مَسِيلٌ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ أَوْ طَرِيقٌ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْقِسْمَةِ ) ، فَإِنْ أَمْكَنَ صَرْفُ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ عَنْهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَطْرِقَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْقِسْمَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ ( وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فُسِخَتْ الْقِسْمَةُ ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مُخْتَلَّةٌ لِبَقَاءِ الِاخْتِلَاطِ فَتُسْتَأْنَفَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ حَيْثُ لَا يَفْسُدُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَمَلُّكُ الْعَيْنِ ، وَأَنَّهُ يُجَامَعُ تَعَذُّرُ الِانْتِفَاعِ فِي الْحَالِ ، أَمَّا الْقِسْمَةُ لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِالطَّرِيقِ ، وَلَوْ ذَكَرَ الْحُقُوقَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ الْجَوَابُ ، لِأَنَّ مَعْنَى الْقِسْمَةِ الْإِفْرَازُ وَالتَّمْيِيزُ ، وَتَمَامُ ذَلِكَ بِأَنْ لَا يَبْقَى لِكُلِّ وَاحِدٍ تَعَلُّقٌ بِنَصِيبِ الْآخَرِ وَقَدْ أَمْكَنَ تَحْقِيقُهُ بِصَرْفِ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَيُصَارَ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ إذَا ذُكِرَ فِيهِ الْحُقُوقُ حَيْثُ يَدْخُلُ فِيهِ مَا كَانَ لَهُ مِنْ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ ، لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْبَيْعِ
وَهُوَ التَّمْلِيكُ مَعَ بَقَاءِ هَذَا التَّعَلُّقِ بِمِلْكِ غَيْرِهِ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يَدْخُلُ فِيهَا لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ وَذَلِكَ بِالطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ فَيَدْخُلَ عِنْدَ التَّنْصِيصِ بِاعْتِبَارِهِ ، وَفِيهَا مَعْنَى الْإِفْرَازِ وَذَلِكَ بِانْقِطَاعِ التَّعَلُّقِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَبِاعْتِبَارِهِ لَا يَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ تَنْصِيصٍ ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ حَيْثُ يَدْخُلُ فِيهَا بِدُونِ التَّنْصِيصِ ، لِأَنَّ كُلَّ الْمَقْصُودِ الِانْتِفَاعُ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِإِدْخَالِ الشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ فَيَدْخُلَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ ( وَلَوْ اخْتَلَفُوا فِي رَفْعِ الطَّرِيقِ بَيْنَهُمْ فِي الْقِسْمَةِ ، إنْ كَانَ يَسْتَقِيمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ طَرِيقٌ يَفْتَحُهُ فِي نَصِيبِهِ قَسَمَ الْحَاكِمُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ يُرْفَعُ لِجَمَاعَتِهِمْ ) لِتَحَقُّقِ الْإِفْرَازِ بِالْكُلِّيَّةِ دُونَهُ .
( وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ رَفَعَ طَرِيقًا بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ ) لِيَتَحَقَّقَ تَكْمِيلُ الْمَنْفَعَةِ فِيمَا وَرَاءَ الطَّرِيقِ ( وَلَوْ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ جُعِلَ عَلَى عَرْضِ بَابِ الدَّارِ وَطُولِهِ ) لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَنْدَفِعُ بِهِ ( وَالطَّرِيقُ عَلَى سِهَامِهِمْ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِيمَا وَرَاءَ الطَّرِيقِ لَا فِيهِ ( وَلَوْ شَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا جَازَ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الدَّارِ نِصْفَيْنِ ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ عَلَى التَّفَاضُلِ جَائِزَةٌ بِالتَّرَاضِي .
( فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ ) : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا يُقْسَمُ وَمَا لَا يُقْسَمُ بَيْنَ كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ فِيمَا يُقْسَمُ لِأَنَّ الْكَيْفِيَّةَ صِفَةٌ فَتَتْبَعُ جَوَازَ أَصْلِ الْقِسْمَةِ الَّذِي هُوَ الْمَوْصُوفُ .
قَالَ ( وَيَنْبَغِي لِلْقَاسِمِ أَنْ يُصَوِّرَ مَا يَقْسِمُهُ ) إذَا شَرَعَ الْقَاسِمُ فِي الْقِسْمَةِ يَنْبَغِي أَنْ يُصَوِّرَ مَا يَقْسِمُهُ بِأَنْ يَكْتُبَ عَلَى كَاغِدَةٍ إنَّ فُلَانًا نَصِيبُهُ كَذَا وَفُلَانًا نَصِيبُهُ كَذَا لِيُمْكِنَهُ حِفْظُهُ إنْ أَرَادَ رَفْعَ تِلْكَ الْكَاغَدَةِ إلَى الْقَاضِي لِيَتَوَلَّى الْإِقْرَاعَ بَيْنَهُمْ بِنَفْسِهِ ( وَيَعْدِلهُ يَعْنِي يُسَوِّيهِ عَلَى سِهَامِ الْقِسْمَةِ ، وَيُرْوَى يَعْزِلُهُ : أَيْ يَقْطَعُهُ بِالْقِسْمَةِ عَنْ غَيْرِهِ وَيَذْرَعُهُ لِيَعْرِفَ قَدْرَهُ وَيُقَوَّمُ الْبِنَاءُ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ ) إذْ الْبِنَاءُ يُقْسَمُ عَلَى حِدَةٍ ، فَرُبَّمَا يَقَعُ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمْ شَيْءٌ مِنْهُ فَيَكُونُ عَالِمًا بِقِيمَتِهَا ( وَيُفْرَزُ كُلُّ نَصِيبٍ عَنْ الْبَاقِي بِطَرِيقِهِ وَشِرْبِهِ ) إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ لِيَنْقَطِعَ النِّزَاعُ وَيَتِمَّ مَعْنَى الْقِسْمَةِ .
( ثُمَّ يُلَقَّبُ نَصِيبًا بِالْأَوَّلِ وَاَلَّذِي يَلِيه بِالثَّانِي وَالثَّالِثِ إلَى أَنْ تَفْرُغَ السِّهَامُ وَيَكْتُبَ أَسْمَاءَهُمْ وَيُخْرِجَ الْقُرْعَةَ ، فَمِنْ خَرَجَ اسْمُهُ أَوَّلًا إلَخْ ) قَالَ الْإِمَامُ حَمِيدُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ : صُورَتُهُ أَرْضٌ بَيْنَ جَمَاعَةٍ لِأَحَدِهِمْ سُدُسُهَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا وَلِلْآخَرِ نِصْفُهَا يَجْعَلُهَا سِتَّةَ أَسْهُمٍ ، وَيُلَقَّبُ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ بِالسَّهْمِ الْأَوَّلِ وَاَلَّذِي يَلِيه بِالثَّانِي وَالثَّالِثُ عَلَى هَذَا ، ثُمَّ يَكْتُبُ أَسْمَاءَهُمْ وَيَجْعَلُهَا قُرْعَةً ثُمَّ يُلْقِيهَا فِي كُمِّهِ ، فَمَنْ خَرَجَ اسْمُهُ أَوَّلًا فَلَهُ السَّهْمُ الْأَوَّلُ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ صَاحِبَ السُّدُسِ فَلَهُ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ الثُّلُثِ فَلَهُ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ وَاَلَّذِي يَلِيهِ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ النِّصْفِ فَلَهُ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ وَاَللَّذَانِ يَلِيَانِهِ ( قَوْلُهُ وَقَوْلُهُ فِي
الْكِتَابِ ) وَاضِحٌ .
قَوْلُهُ ( وَالْقُرْعَةُ لِتَطْيِيبِ الْقُلُوبِ ) جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ ، وَالْقِيَاسُ يَأْبَاهَا لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ وَذَلِكَ قِمَارٌ وَلِهَذَا لَمْ تُجَوِّزْ عُلَمَاؤُنَا اسْتِعْمَالَهَا فِي دَعْوَى النَّسَبِ وَدَعْوَى الْمَالِ وَتَعْيِينِ الْمُطَلَّقَةِ ، وَلَكِنْ تَرَكْنَاهَا هَاهُنَا بِالتَّعَامُلِ الظَّاهِرِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ لِأَنَّ أَصْلَ الِاسْتِحْقَاقِ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ .
وَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ الْقَاسِمَ لَوْ قَالَ أَنَا عَدَلْت فِي الْقِسْمَةِ فَخُذْ أَنْتَ هَذَا الْجَانِبَ وَأَنْتَ هَذَا الْجَانِبَ كَانَ مُسْتَقِيمًا ، إلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا يُتَّهَمُ فِي ذَلِكَ فَيَسْتَعْمِلُ الْقُرْعَةَ لِتَطْيِيبِ قُلُوبِ الشُّرَكَاءِ وَنَفْيِ تُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ اسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ مَعَ الْأَحْبَارِ فِي ضَمِّ مَرْيَمَ إلَى نَفْسِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِهَا لِكَوْنِ خَالَتِهَا عِنْدَهُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ .
قَالَ ( وَلَا يَدْخُلُ فِي الْقِسْمَةِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ إلَخْ ) جَمَاعَةٌ فِي أَيْدِيهِمْ عَقَارٌ طَلَبُوا قِسْمَتَهُ وَفِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَصْلٌ ، فَأَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَكُونَ عِوَضُ الْفَضْلِ دَرَاهِمَ وَآخَرُ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ لَمْ تَدْخُلْ الدَّرَاهِمُ فِي الْقِسْمَةِ ، وَإِنْ تَرَاضَوْا أَدْخَلَهَا لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالْقِسْمَةُ فِيمَا فِيهِ الشَّرِكَةُ ، وَلِأَنَّهُ يَفُوتُ التَّعْدِيلُ الْمُرَادُ بِالْقِسْمَةِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَصِلُ إلَى عَيْنِ الْعَقَارِ وَدَرَاهِمُ الْآخَرِ فِي ذِمَّتِهِ قَدْ لَا يَصِلُ إلَيْهَا ، وَلَيْسَ بَيْنَ مَا يَصِلُ إلَيْهِ الرَّجُلُ فِي الْحَالِ وَمَا لَا يَصِلُ مُعَادَلَةً ، فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَلِهَذَا ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا إذَا كَانَ أَرْضٌ وَبِنَاءٌ إلَى أَنَّهُ يُقْسَمُ
كُلُّ ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُعَادَلَةِ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى أَنَّ الْأَرْضَ تُقْسَمُ بِالْمِسَاحَةِ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ فِي الْمَمْسُوحَاتِ ، ثُمَّ يُرَدُّ مَنْ وَقَعَ الْبِنَاءُ فِي نَصِيبِهِ أَوْ مَنْ كَانَ نَصِيبُهُ أَجْوَدَ دَرَاهِمَ عَلَى الْآخَرِ حَتَّى يُسَاوِيَهُ فَتَدْخُلَ الدَّرَاهِمُ فِي الْقِسْمَةِ ضَرُورَةً كَالْأَخِ لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي الْمَالِ ثُمَّ يَمْلِكُ تَسْمِيَةَ الصَّدَاقِ ضَرُورَةَ التَّزْوِيجِ .
وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى شَرِيكِهِ بِمُقَابَلَةِ الْبِنَاءِ مَا يُسَاوِيهِ مِنْ الْعَرْصَةِ ، فَإِنْ لَمْ تَفِ الْعَرْصَةُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ فَحِينَئِذٍ يَرُدُّ الْفَضْلَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَحَقَّقَتْ فِي هَذَا الْقَدْرِ فَلَا يُتْرَكُ الْأَصْلُ إلَّا لَهَا ، وَهَذَا يُوَافِقُ رِوَايَةَ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ : يَقْسِمُ الدَّارَ مُذَارَعَةً فَلَا يُجْعَلُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَضْلًا مِنْ الدَّرَاهِمِ وَغَيْرِهَا ، كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ .
قَوْلُهُ ( فَإِنْ قَسَمَ بَيْنَهُمْ ) يَعْنِي إنْ قَسَمَ الْقَسَّامُ الدَّارَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا مَسِيلُ الْمَاءِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ أَوْ طَرِيقٍ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُمْكِنَ صَرْفُ ذَلِكَ عَنْهُ أَوْ لَا ( فَإِنْ أَمْكَنَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَطْرِقَ ) وَيَسِيلَ ( فِي نَصِيبِ الْآخَرِ ) سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي الْقِسْمَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ( لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْقِسْمَةِ ) وَهُوَ الْإِفْرَازُ وَالتَّمْيِيزُ ( مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ ) بِأَنْ لَا يَبْقَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَعَلُّقٌ بِنَصِيبِ الْآخَرِ بِصَرْفِ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ إلَى غَيْرِهِ فَلَا تَدْخُلُ فِيهِ الْحُقُوقُ وَإِنْ شُرِطَتْ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهَا إذَا شُرِطَتْ فِيهِ دَخَلَتْ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْبَيْعِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ مَعَ بَقَاءِ هَذَا التَّعَلُّقِ بِمِلْكِ غَيْرِهِ فَلَا تَدْخُلُ إلَّا بِالشَّرْطِ ( وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ) فَإِمَّا أَنْ يُشْتَرَطَ ذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ
أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي ( فُسِخَتْ الْقِسْمَةُ لِأَنَّهَا مُخْتَلَّةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ وَبَقَاءِ الِاخْتِلَاطِ فَتُسْتَأْنَفُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ ) فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ دَارًا أَوْ أَرْضًا وَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي مِنْ الِاسْتِطْرَاقِ وَلَا مِنْ تَسْيِيلِ الْمَاءِ وَلَمْ تُذْكَرْ الْحُقُوقُ فَإِنَّهُ ( لَا يَفْسُدُ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَمَلُّكُ الْعَيْنِ وَأَنَّهُ يُجَامِعُ تَعَذُّرَ الِانْتِفَاعِ فِي الْحَالِ ) كَمَا لَوْ اشْتَرَى جَحْشًا صَغِيرًا ( وَأَمَّا الْقِسْمَةُ فَإِنَّهَا لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِالطَّرِيقِ ) وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ يَدْخُلُ فِيهَا لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ وَذَلِكَ بِالطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ ، فَيَدْخُلُ عِنْدَ التَّنْصِيصِ بِاعْتِبَارِ التَّكْمِيلِ ، وَفِيهَا مَعْنَى الْإِفْرَازِ وَذَلِكَ بِانْقِطَاعِ التَّعَلُّقِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ؛ فَبِاعْتِبَارِهِ لَا يَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ تَنْصِيصٍ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ فِي الْقِسْمَةِ تَكْمِيلًا وَإِفْرَازًا ، وَالْحُقُوقُ بِالنَّظَرِ إلَى التَّكْمِيلِ تَدْخُلُ وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الْإِفْرَازِ لَا تَدْخُلُ وَإِنْ ذُكِرَتْ لِأَنَّ دُخُولَهَا يُنَافِي الْإِفْرَازَ ، فَقُلْنَا : تَدْخُلُ عِنْدَ التَّنْصِيصِ وَلَا تَدْخُلُ عِنْدَ عَدَمِهِ إعْمَالًا لِلْوَجْهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ حَيْثُ تَدْخُلُ فِيهَا بِدُونِ التَّنْصِيصِ لِأَنَّ كُلَّ الْمَقْصُودِ الِانْتِفَاعُ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِإِدْخَالِ الشِّرْبِ وَالطَّرِيقِ ، فَيَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ ( وَلَوْ اخْتَلَفَ الشُّرَكَاءُ فِي رَفْعِ الطَّرِيقِ بَيْنَهُمْ عَنْ الْقِسْمَةِ ) فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا نَدَعُ طَرِيقًا مُشْتَرَكًا بَيْنَنَا بَلْ نَقْسِمُ الْكُلَّ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ نَدَعُ يَنْظُرُ الْقَاضِي فِي حَالِهِمْ إنْ كَانَ يَسْتَقِيمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ طَرِيقٌ يَفْتَحُهُ فِي نَصِيبِهِ قَسَمَ الْحَاكِمُ بِغَيْرِ طَرِيقٍ يُتْرَكُ لِلْجَمَاعَةِ ( لِتَحَقُّقِ الْإِفْرَازِ بِالْكُلِّيَّةِ دُونَهُ ) أَيْ دُونَ رَفْعِ الطَّرِيقِ ( وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِيمُ رَفَعَ طَرِيقًا بَيْنَ
جَمَاعَتِهِمْ لِيَتَحَقَّقَ تَكْمِيلُ الْمَنْفَعَةِ فِيمَا وَرَاءَ الطَّرِيقِ .
وَلَوْ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ ) أَيْ فِي سَعَةِ الطَّرِيقِ وَضِيقِهِ وَطُولِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : تُجْعَلُ سَعَةُ الطَّرِيقِ أَكْبَرَ مِنْ عَرْضِ الْبَابِ الْأَعْظَمِ وَطُولُهُ مِنْ الْأَعْلَى إلَى السَّمَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ ( جَعَلَ عَلَى عَرْضِ الْبَابِ وَطُولِهِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَنْدَفِعُ بِهِ ) فَلَا فَائِدَةَ فِي جَعْلِهِ أَعْرَضَ مِنْ ذَلِكَ ، وَفَائِدَةُ قِسْمَةِ مَا وَرَاءَ طُولِ الْبَابِ مِنْ الْأَعْلَى هِيَ أَنَّ أَحَدَ الشُّرَكَاءِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَشْرَعَ جَنَاحًا فِي نَصِيبِهِ ، إنْ كَانَ فَوْقَ طُولِ الْبَابِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْهَوَاءَ فِيمَا زَادَ عَلَى طُولِ الْبَابِ مَقْسُومٌ بَيْنَهُمْ فَكَانَ بَانِيًا عَلَى خَالِصِ حَقِّهِ ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا دُونَ طُولِ الْبَابِ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ قَدْرَ طُولِهِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ فَصَارَ بَانِيًا عَلَى الْهَوَاءِ الْمُشْتَرَكِ ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ رِضَا الشُّرَكَاءِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْسُومُ أَرْضًا يُرْفَعُ مِنْ الطَّرِيقِ بِمِقْدَارِ مَا يَمُرُّ فِيهِ ثَوْرٌ وَاحِدٌ ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلزِّرَاعَةِ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا يُجْعَلُ مِقْدَارُ مَا يَمُرُّ فِيهِ ثَوْرَانِ مَعًا ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا يَحْتَاجُ إلَى الْعَجَلَةِ فَيُؤَدِّي إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ ، وَبَاقِي كَلَامِهِ وَاضِحٌ .