كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي
( وَإِنْ أَخَذَهُ الشُّهُودُ وَرِيحُهَا تُوجَدُ مِنْهُ أَوْ سَكْرَانُ فَذَهَبُوا بِهِ مِنْ مِصْرٍ إلَى مِصْرٍ فِيهِ الْإِمَامُ فَانْقَطَعَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهُوا بِهِ حُدَّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) لِأَنَّ هَذَا عُذْرٌ كَبُعْدِ الْمَسَافَةِ فِي حَدِّ الزِّنَا وَالشَّاهِدُ لَا يُتَّهَمُ فِي مِثْلِهِ .وَقَوْلُهُ ( وَرِيحُهَا تُوجَدُ مِنْهُ ) ظَاهِرٌ .
( وَمَنْ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ حُدَّ ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى أَعْرَابِيٍّ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ .
وَسَنُبَيِّنُ الْكَلَامَ فِي حَدِّ السُّكْرِ وَمِقْدَارِ حَدِّهِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .قَالَ ( وَمَنْ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ حُدَّ ) النَّبِيذُ يَقَعُ عَلَى نَبِيذِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ ، وَمَا يُتَّخَذُ مِنْ الزَّبِيبِ شَيْئَانِ : نَقِيعٌ وَنَبِيذٌ .
فَالنَّقِيعُ أَنْ يُنْقَعَ الزَّبِيبُ فِي الْمَاءِ وَيُتْرَكَ أَيَّامًا حَتَّى تَخْرُجَ حَلَاوَتُهُ إلَى الْمَاءِ ثُمَّ يُطْبَخَ أَدْنَى طَبْخٍ ، فَمَا دَامَ حُلْوًا يَحِلُّ شُرْبُهُ ، وَإِذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ يَحْرُمُ .
وَأَمَّا النَّبِيذُ فَهُوَ الَّذِي مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ إذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخٍ يَحِلُّ شُرْبُهُ مَا دَامَ حُلْوًا فَإِذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ يَحِلُّ شُرْبُهُ مَا دُونَ السُّكْرِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ .
وَمَا يُتَّخَذُ مِنْ التَّمْرِ ثَلَاثَةٌ : السُّكْرُ وَالْفَضِيخُ وَالنَّبِيذُ .
فَالنَّبِيذُ هُوَ مَاءُ التَّمْرِ إذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخٍ يَحِلُّ شُرْبُهُ فِي قَوْلِهِمْ مَا دَامَ حُلْوًا ، وَإِذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَحِلُّ شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي وَالتَّقَوِّي إلَّا الْقَدَحَ الْمُسْكِرَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَحِلُّ .
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ ، وَسَيَجِيءُ بَيَانُهُ فِي الْأَشْرِبَةِ .
وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي حَدِّ السُّكْرِ وَمِقْدَارِ حَدِّهِ فَسَيُذْكَرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ تَقَيَّأَهَا ) لِأَنَّ الرَّائِحَةَ مُحْتَمَلَةٌ ، وَكَذَا الشُّرْبُ قَدْ يَقَعُ عَنْ إكْرَاهٍ أَوْ اضْطِرَارٍ ( وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ وَشَرِبَهُ طَوْعًا ) لِأَنَّ السُّكْرَ مِنْ الْمُبَاحِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ ، وَكَذَا شُرْبُ الْمُكْرَهِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ( وَلَا يُحَدُّ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السُّكْرُ ) تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الِانْزِجَارِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ تَقَيَّأَهَا ) يَعْنِي إذَا لَمْ يُشَاهَدْ مِنْهُ الشُّرْبُ ( لِأَنَّ الرَّائِحَةَ مُحْتَمَلَةٌ ) فَإِنْ قِيلَ : هَذَا التَّعْلِيلُ مُنَاقِضٌ لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الرَّوَائِحِ مُمْكِنٌ لِلْمُسْتَدِلِّ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي نَفْسِ الرَّوَائِحِ قَبْلَ الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّمْيِيزُ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْصَاءِ أَوْ التَّمْيِيزُ مُمْكِنٌ لِمَنْ عَايَنَ الشُّرْبَ وَالِاحْتِمَالُ لِمَنْ لَمْ يُعَايِنْهُ .
وَأَقُولُ : وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَحْسَنُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى تَفْسِيرِ الْمُسْتَدِلِّ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ هُوَ مَنْ مَعَهُ دَلِيلٌ وَهُوَ مُعَايَنَةُ الشُّرْبِ وَالْجَاهِلُ هُوَ مَنْ لَيْسَ مَعَهُ ذَلِكَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ مُحْتَمَلَةٌ عَلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا الشُّرْبُ قَدْ يَقَعُ عَنْ إكْرَاهٍ أَوْ اضْطِرَارٍ ) عَلَى قَوْلِهِمَا .
وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ وَشَرِبَهُ طَوْعًا لِأَنَّ السُّكْرَ مِنْ الْمُبَاحِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ ) وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ إبَاحَةِ الْبَنْجِ مُوَافِقٌ لِعَامَّةِ الْكُتُبِ خَلَا رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ ، فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى حُرْمَةِ الْأَشْرِبَةِ الْمُتَّخَذِ مِنْ الْحُبُوبِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَالْعَسَلِ وَغَيْرِهَا ، وَقَالَ : السُّكْرُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ السُّكْرَ مِنْ الْبَنْجِ حَرَامٌ مَعَ أَنَّهُ مَأْكُولٌ فَمِنْ الْمَشْرُوبِ أَوْلَى .
كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّكْرَ الْحَاصِلَ مِنْ الْبَنْجِ حَرَامٌ لَا عَلَى أَنَّ الْبَنْجَ حَرَامٌ ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَنْجَ مُبَاحٌ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا
( وَحَدُّ الْخَمْرِ وَالسُّكْرِ فِي الْحُرِّ ثَمَانُونَ سَوْطًا ) لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ( يُفَرَّقُ عَلَى بَدَنِهِ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا عَلَى مَا مَرَّ ) ثُمَّ يُجَرَّدُ فِي الْمَشْهُودِ مِنْ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُجَرَّدُ إظْهَارًا لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ .
وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ أَنَّا أَظْهَرْنَا التَّخْفِيفَ مَرَّةً فَلَا يُعْتَبَرُ ثَانِيًا ( وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَحَدُّهُ أَرْبَعُونَ سَوْطًا ) لِأَنَّ الرِّقَّ مُتَّصِفٌ عَلَى مَا عُرِفَ .
( وَحَدُّ الْخَمْرِ وَ ) حَدُّ ( السُّكْرِ ) مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ ( فِي الْحُرِّ ثَمَانُونَ سَوْطًا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، يُفَرَّقُ عَلَى بَدَنِهِ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا عَلَى مَا مَرَّ ) فِي أَنَّهُ يُضْرَبُ كُلُّ الْبَدَنِ مَا خَلَا الْوَجْهَ وَالرَّأْسَ وَالْفَرْجَ ( ثُمَّ يُجَرَّدُ ) عَنْ ثِيَابِهِ ( فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُجَرَّدُ عَنْ ثِيَابِهِ إظْهَارًا لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ ) أَيْ بِالْحَدِّ ( نَصٌّ ) قَاطِعٌ أَوْ بِالتَّجْرِيدِ ( وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ أَنَّا أَظْهَرْنَا التَّخْفِيفَ مَرَّةً ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ حَيْثُ لَمْ نَجْعَلْهُ مِائَةً كَمَا فِي الزِّنَا ( فَلَا يُعْتَبَرُ ثَانِيًا ) وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ ، الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُجْمِعِينَ التَّصَرُّفُ فِي الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الثَّمَانِينَ تَغْلِيظٌ لَا تَخْفِيفٌ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُمْ ضَرَبُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَكْمَامِ وَبِالْأَيْدِي وَغَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ جَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ ثُمَّ جَلَدَ عُمَرُ أَرْبَعِينَ ، فَالتَّقْدِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِثَمَانِينَ تَغْلِيظٌ لَا تَخْفِيفٌ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ إنَّا أَظْهَرْنَا التَّخْفِيفَ كَلَامٌ عَنْ لِسَانِ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَالتَّخْفِيفُ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَازَ لَهُ أَنْ يُقَدِّرَ حَدَّ الشُّرْبِ مِائَةً كَحَدِّ الزِّنَا إذْ هُوَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ ، وَحَيْثُ لَمْ يَنُصَّ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ كَانَ تَخْفِيفًا مِنْهُ ، وَلَمَا جَعَلَهُ الصَّحَابَةُ مُعْتَبَرًا بِحَدِّ الْمُفْتَرِينَ ظَهَرَ التَّخْفِيفُ فَلَمْ يُقَدِّرُوا بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا أَظْهَرُوا التَّخْفِيفَ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا بِتَرْكِ التَّنْصِيصِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ أَظْهَرْنَا التَّخْفِيفَ ، وَلِلَّهِ دَرُّ لَطَائِفِهِ .
( وَمَنْ أَقَرَّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّكَرِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُحَدَّ ) لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّكَرِ ) بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ عَصِيرُ الرُّطَبِ إذَا اشْتَدَّ ، وَقِيلَ السُّكْرُ كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ
( وَيَثْبُتُ الشُّرْبُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَ ) يَثْبُتُ ( بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ الْإِقْرَارَ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي السَّرِقَةِ ، وَسَنُبَيِّنُهَا هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ ( وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ ) لِأَنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ وَتُهْمَةَ الضَّلَالِ وَالنِّسْيَانِ .( وَيَثْبُتُ الشُّرْبُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَيَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ : يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّتَيْنِ فِي مَجْلِسَيْنِ اعْتِبَارًا لِعَدَدِ الْإِقْرَارِ بِعَدَدِ الشُّهُودِ ( وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي السَّرِقَةِ ، وَسَنُبَيِّنُهَا هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) قَالَ ( وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ ) فِي حَدِّ الشُّرْبِ أَيْضًا ( لِأَنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ وَتُهْمَةَ الضَّلَالِ وَالنِّسْيَانِ ) يُشِيرُ إلَى ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } إلَى قَوْلِهِ { أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } وَإِنَّمَا قَالَ شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ دُونَ حَقِيقَةِ الْبَدَلِيَّةِ ، لِأَنَّ اسْتِشْهَادَ النِّسَاءِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي جَازَتْ شَهَادَتُهُنَّ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةِ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِشْهَادِ الرِّجَالِ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَبْدَالِ ، وَلَكِنْ فِيهِ صُورَةُ الْبَدَلِيَّةِ مِنْ حَيْثُ النَّظْمُ "
( وَالسَّكْرَانُ الَّذِي يُحَدُّ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَنْطِقًا لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا وَلَا يَعْقِلُ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ ( وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : هُوَ الَّذِي يَهْذِي وَيَخْتَلِطُ كَلَامُهُ ) لِأَنَّهُ هُوَ السَّكْرَانُ فِي الْعُرْفِ ، وَإِلَيْهِ مَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ .
وَلَهُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ بِأَقْصَاهَا دَرْءًا لِلْحَدِّ .
وَنِهَايَةُ السَّكْرَانِ يَغْلِبُ السُّرُورُ عَلَى الْعَقْلِ فَيَسْلُبُهُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَعْرَى عَنْ شُبْهَةِ الصَّحْوِ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقَدَحِ الْمُسْكِرُ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ مَا قَالَاهُ بِالْإِجْمَاعِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ وَالشَّافِعِيُّ يَعْتَبِرُ ظُهُورَ أَثَرِهِ فِي مِشْيَتِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَأَطْرَافِهِ وَهَذَا مِمَّا يَتَفَاوَتُ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِهِ .
( وَالسَّكْرَانُ الَّذِي يُحَدُّ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَنْطِقًا لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا وَلَا يَعْقِلُ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ ) هَذَا لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الْخِلَافِ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : هُوَ الَّذِي يَهْذِي وَيَخْتَلِفُ كَلَامُهُ ) أَيْ يَكُونُ غَالِبُ كَلَامِهِ الْهَذَيَانَ ، فَإِنْ كَانَ نِصْفُهُ مُسْتَقِيمًا فَلَيْسَ بِسَكْرَانَ ( لِأَنَّهُ السَّكْرَانُ فِي الْعُرْفِ وَإِلَيْهِ ) أَيْ إلَى قَوْلِهِمَا ( مَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ ) وَعَنْ ابْنِ الْوَلِيدِ قَالَ : سَأَلْت أَبَا يُوسُفَ عَنْ السَّكْرَانِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ قَالَ : أَنْ يُسْتَقْرَأَ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، فَقُلْت لَهُ : كَيْفَ عَيَّنْت هَذِهِ السُّورَةَ وَرُبَّمَا أَخْطَأَ فِيهَا الصَّاحِي ؟ قَالَ : لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ نَزَلَ فِيمَنْ شُرِعَ فِيهَا فَلَمْ يَسْتَطِعْ قِرَاءَتَهَا .
وَحُكِيَ أَنَّ أَئِمَّةَ بَلْخِي اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِقْرَاءِ هَذِهِ السُّورَةِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُدُودَ يُؤْخَذُ فِي أَسْبَابِهَا بِأَقْصَاهَا دَرْءًا لِلْحَدِّ ، وَنِهَايَةُ السُّكْرِ أَنْ يَغْلِبَ السُّرُورُ عَلَى الْعَقْلِ فَيَسْلُبُهُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَعْرَى عَنْ شُبْهَةِ الصَّحْوِ ) يَعْنِي أَنَّهُ إذَا كَانَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لِعَقْلِهِ مَعَ مَا بِهِ مِنْ السُّرُورِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نِهَايَةً فِي السُّكْرِ وَفِي النُّقْصَانِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ ، وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَلِهَذَا وَافَقَهُمَا فِي السُّكْرِ الَّذِي يَحْرُمُ عِنْدَهُ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ هُوَ اخْتِلَاطُ الْكَلَامِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ النِّهَايَةِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَالْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ يُؤْخَذُ بِالِاحْتِيَاطِ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ ( وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقَدَحِ الْمُسْكِرِ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ مَا قَالَاهُ بِالْإِجْمَاعِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ ) لِأَنَّهُ لَمَّا اعْتَقَدَ حُرْمَةَ الْقَدَحِ الَّذِي يَلْزَمُ الْهَذَيَانُ
وَاخْتِلَاطُ الْكَلَامِ عِنْدَهُ يَمْتَنِعُ عَنْهُ ، فَلَمَّا امْتَنَعَ عَنْهُ وَهُوَ الْأَدْنَى فِي حَدِّ السُّكْرِ كَانَ مُمْتَنِعًا عَنْ الْأَعْلَى فِيهِ وَهُوَ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) أَيْ ظُهُورُ الْأَثَرِ فِي مِشْيَتِهِ ( مِمَّا يَخْتَلِفُ ) فَإِنَّ السَّكْرَانَ رُبَّمَا يَتَمَايَلُ فِي مِشْيَتِهِ وَالصَّاحِيَ رُبَّمَا يَزْلَقُ أَوْ يَعْثِرُ فِي مِشْيَتِهِ فَيُرَى التَّمَايُلُ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا .
( وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ ) لِزِيَادَةِ احْتِمَالِ الْكَذِبِ فِي إقْرَارِهِ فَيَحْتَالُ لِدَرْئِهِ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى .
بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَالسَّكْرَانُ فِيهِ كَالصَّاحِي عُقُوبَةً عَلَيْهِ كَمَا فِي سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ ، وَلَوْ ارْتَدَّ السَّكْرَانُ لَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ لِأَنَّ الْكُفْرَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَ السُّكْرِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ ) يَعْنِي فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ ، فَإِذَا صَدَرَ مِنْ سَكْرَانَ مِهْذَارٍ زَادَ احْتِمَالُهُ ( فَيَحْتَالُ لِدَرْئِهِ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ ، وَالسَّكْرَانُ فِيهِ كَالصَّاحِي عُقُوبَةً عَلَيْهِ ) بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا إذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى ، وَحَدُّ الْمُفْتَرِينَ ثَمَانُونَ .
فَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ .
فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحُقُوقِ كَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ ( وَلَوْ ارْتَدَّ السَّكْرَانُ لَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ لِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْكُفْرَ مِنْ بَابِ الْإِعْتَاقِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَ السُّكْرِ ) وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ صَنَعَ طَعَامًا فَدَعَا بَعْضَ الصَّحَابَةِ فَأَكَلُوا وَسَقَاهُمْ خَمْرًا وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا ، فَأَمَّهُمْ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَوْ غَيْرُهُ وَقَرَأَ سُورَةَ الْكَافِرُونَ بِطَرْحِ اللَّاءَاتِ مَعَ أَنَّ اعْتِقَادَهَا كُفْرٌ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كُفْرًا مِنْ ذَلِكَ الْقَارِئِ ، فَعُلِمَ أَنَّ السَّكْرَانَ لَا يَكْفُرُ بِمَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ مِنْ لَفْظِ الْكُفْرِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ ) : ( وَإِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ رَجُلًا مُحْصَنًا أَوْ امْرَأَةً مُحْصَنَةً بِصَرِيحِ الزِّنَا ، وَطَالَبَ الْمَقْذُوفُ بِالْحَدِّ حَدَّهُ الْحَاكِمُ ثَمَانِينَ سَوْطًا إنْ كَانَ حُرًّا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } إلَى أَنْ قَالَ { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } الْآيَةَ ، وَالْمُرَادُ الرَّمْيُ بِالزِّنَا بِالْإِجْمَاعِ ، وَفِي النَّصِّ إشَارَةٌ إلَيْهِ وَهُوَ اشْتِرَاطُ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ إذْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالزِّنَا ، وَيُشْتَرَطُ مُطَالَبَةُ الْمَقْذُوفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّهُ مِنْ حَيْثُ دَفْعُ الْعَارِ وَإِحْصَانُ الْمَقْذُوفِ لِمَا تَلَوْنَا .
قَالَ ( وَيُفَرَّقُ عَلَى أَعْضَائِهِ ) لِمَا مَرَّ فِي حَدِّ الزِّنَا ( وَلَا يُجَرَّدُ مِنْ ثِيَابِهِ ) لِأَنَّ سَبَبَهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ فَلَا يُقَامُ عَلَى الشِّدَّةِ ، بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا ( غَيْرَ أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ ) لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ إيصَالَ الْأَلَمِ بِهِ ( وَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ عَبْدًا جُلِدَ أَرْبَعِينَ سَوْطًا لِمَكَانِ الرِّقِّ .
وَالْإِحْصَانُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا عَفِيفًا عَنْ فِعْلِ الزِّنَا ) أَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِحْصَانِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } أَيْ الْحَرَائِرِ ، وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ لِأَنَّ الْعَارَ لَا يَلْحَقُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُمَا ، وَالْإِسْلَامُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ } وَالْعِفَّةُ لِأَنَّ غَيْرَ الْعَفِيفِ لَا يَلْحَقُهُ الْعَارُ ، وَكَذَا الْقَاذِفُ صَادِقٌ فِيهِ .
بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ : الْقَذْفُ فِي اللُّغَةِ الرَّمْيُ ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ نِسْبَةٌ مِنْ أَحْصَنَ إلَى الزِّنَا صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً ( إذَا قَذَفَ الرَّجُلُ رَجُلًا مُحْصَنًا أَوْ امْرَأَةً مُحْصَنَةً بِصَرِيحِ الزِّنَا ) الْخَالِي عَنْ الشُّبْهَةِ الَّذِي لَوْ أَقَامَ الْقَاذِفُ عَلَيْهِ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهُودِ ، أَوْ أَقَرَّ بِهِ الْمَقْذُوفُ لَزِمَهُ حَدُّ الزِّنَا ( وَطَالَبَ الْمَقْذُوفُ بِالْحَدِّ ) وَعَجَزَ الْقَاذِفُ عَنْ إثْبَاتِ مَا قَذَفَهُ بِهِ ( حَدَّهُ الْحَاكِمُ ثَمَانِينَ سَوْطًا إنْ كَانَ حُرًّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } إلَى أَنْ قَالَ { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } الْآيَةَ ، وَالْمُرَادُ ) بِقَوْلِهِ { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ } ( الرَّمْيُ بِالزِّنَا بِالْإِجْمَاعِ ) وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي النَّصِّ لِأَنَّهُ شَرَطَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهَدَاءِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالزِّنَا .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِصَرِيحِ الزِّنَا غَيْرُ مُفِيدٍ لِتَحَقُّقِهِ بِدُونِهِ بِأَنْ قَالَ لَسْت لِأَبِيك ، وَبِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا تَجِبَ الْمُطَالَبَةُ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ فِيهِ غَالِبٌ ، وَالْمَقْلُوبُ فِي مُقَابَلَتِهِ كَالْمُسْتَهْلَكِ ، وَلَئِنْ وَجَبَتْ فَلَيْسَتْ مُطَالَبَةُ الْمَقْذُوفِ بِلَازِمَةٍ ، فَإِنَّ ابْنَهُ إذَا طَالَبَهُ حُدَّ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا قَذَفَهُ بِصَرِيحِ الزِّنَا وَوَجَدَ الشَّرْطَ وَجَبَ الْحَدُّ لَا مَحَالَةَ فَتِلْكَ قَضِيَّةٌ صَادِقَةٌ ، وَأَمَّا إذَا قَذَفَهُ بِنَفْيِ النَّسَبِ لَا يَجِبُ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِهِ لِإِخْرَاجِ مَا كَانَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : يَا زَانِي فَقَالَ آخَرُ صَدَقْت لَا لِإِخْرَاجِ مَا ذَكَرْتُمْ ، وَحَقُّ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا لَكِنْ يَصْلُحُ اشْتِرَاطُ مُطَالَبَتِهِ احْتِيَاطًا لِلدَّرْءِ ، وَابْنُ الْمَقْذُوفِ إنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُطَالَبَةِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَقْذُوفِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ إلَّا إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مَيِّتًا لِيَتَحَقَّقَ قِيَامُهُ مَقَامَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَقَوْلُهُ وَيُفَرَّقُ ) يَعْنِي
الضَّرْبَ ( عَلَى أَعْضَاءِ الْقَاذِفِ عَلَى مَا مَرَّ فِي حَدِّ الزِّنَا ) وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ الْجَمْعَ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ يُفْضِي إلَى التَّلَفِ ( وَلَا يُجَرَّدُ مِنْ ثِيَابِهِ لِأَنَّ سَبَبَهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ ) لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْقَاذِفُ صَادِقًا فِي نِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا عَلَى الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ لَا تَكَادُ تَحْصُلُ ( فَلَا يُقَامُ عَلَى الشِّدَّةِ بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا ) حَيْثُ يُجَرَّدُ فِيهِ مِنْ ثِيَابِهِ لِأَنَّ سَبَبَهُ مُعَايَنٌ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ ، وَهَاهُنَا بَعْدَ ثُبُوتِ الْقَذْفِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ يَتَوَقَّفُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ كَذِبُهُ فِي النِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا وَهُوَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( غَيْرَ أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ الْحَشْوُ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يُجَرَّدُ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ ذَلِكَ ) يَعْنِي الْفَرْوَ وَالْحَشْوَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ عَبْدًا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْإِحْصَانُ ) بَيَانُ شَرْطِهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِعَدَمِ تَحَقُّقِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُمَا ) قِيلَ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَحُدَّ مَنْ قَذَفَ الْمَجْنُونَ الَّذِي زَنَى فِي حَالِ جُنُونِهِ وَلَا يُحَدُّ وَإِنْ قَذَفَهُ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُمَا الزِّنَا الَّذِي يُؤَثِّمُ صَاحِبَهُ وَيُوجِبُ الْحَدَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا ، وَأَمَّا الْوَطْءُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ فَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُمَا ، وَبِالنَّظَرِ إلَى هَذَا كَانَ الْقَاذِفُ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ وَلَا عَلَى الْمَقْذُوفِ كَمَنْ قَذَفَ رَجُلًا بِوَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ .
وَقَوْلُهُ : وَالْإِسْلَامُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ } تَقْرِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ حَدَّ الْقَذْفِ بِقَذْفِ الْمُحْصَنِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْآيَةَ .
وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ } فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ
( وَمَنْ نَفَى نَسَبَ غَيْرِهِ فَقَالَ لَسْت لِأَبِيك فَإِنَّهُ يُحَدُّ ) وَهَذَا إذَا كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةً مُسْلِمَةً ، لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ قَذْفٌ لِأُمِّهِ لِأَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يُنْفَى عَنْ الزَّانِي لَا عَنْ غَيْرِهِ .وَمَنْ نَفَى نَسَبَ غَيْرِهِ فَقَالَ لَسْت لِأَبِيك يُحَدُّ إنْ كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةً مُسْلِمَةً لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ قَذَفَ أُمَّهُ ) لِأَنَّهُ نَفَى النَّسَبَ ( وَالنَّسَبُ إنَّمَا يُنْفَى عَنْ الزَّانِي لَا عَنْ غَيْرِهِ ) وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ مَعْرُوفَيْنِ وَنَسَبُهُ مِنْ الْأُمِّ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ وَنَفَاهُ عَنْ الْأَبِ الْمَعْرُوفِ فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ زَنَى بِأُمِّهِ وَفِي ذَلِكَ قَذْفٌ لِأُمِّهِ لَا مَحَالَةَ .
قِيلَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَالَّتِي بَعْدَهَا .
وَقِيلَ يَجِبُ أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ هَاهُنَا وَإِنْ كَانَ قَذَفَهُ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ لِجَوَازِ أَنْ يَنْفِيَ النَّسَبَ عَنْ أَبِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ زَانِيَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِأَنْ تَكُونَ مَوْطُوءَةً بِشُبْهَةٍ وَلَدَتْ فِي عِدَّةِ الْوَاطِئِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَا ذَكَرْته وَجْهُ الْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَوُجُوبُ الْحَدِّ فِيهَا بِالِاسْتِحْسَانِ بِالْأَثَرِ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَإِنَّمَا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { لَا حَدَّ إلَّا فِي قَذْفِ مُحْصَنَةٍ أَوْ نَفْيِ رَجُلٍ عَنْ أَبِيهِ } .
( وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ فِي غَضَبٍ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ لِأَبِيهِ الَّذِي يُدْعَى لَهُ يُحَدُّ ، وَلَوْ قَالَ فِي غَيْرِ غَضَبٍ لَا يُحَدُّ ) لِأَنَّ عِنْدَ الْغَضَبِ يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ سَبًّا لَهُ ، وَفِي غَيْرِهِ يُرَادُ بِهِ الْمُعَاتَبَةُ بِنَفْيِ مُشَابَهَتِهِ أَبَاهُ فِي أَسْبَابِ الْمُرُوءَةِ ( وَلَوْ قَالَ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ يَعْنِي جَدَّهُ لَمْ يُحَدَّ ) لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كَلَامِهِ ، وَلَوْ نَسَبَهُ إلَى جَدِّهِ لَا يُحَدُّ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ يُنْسَبُ إلَيْهِ مَجَازًا .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ فِي غَضَبٍ إلَخْ ) ظَاهِرٌ ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ أَوْ غَيْرِهَا لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ وَلَا بِابْنِ فُلَانَةَ وَهِيَ أُمُّهُ الَّتِي تُدْعَى لَهُ حَيْثُ لَا يَكُونُ قَذْفًا مَعَ أَنَّ الْقَذْفَ يُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ وَلَا بِابْنِ فُلَانَةَ نَفْيٌ عَنْهَا ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِي عَنْ أُمِّهِ بِانْتِفَاءِ الْوِلَادَةِ فَكَانَ نَفْيًا لِلْوِلَادَةِ ، وَنَفْيُ الْوِلَادَةِ نَفْيُ الْوَطْءِ وَنَفْيُ الْوَطْءِ نَفْيُ الزِّنَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ نَفَى عَنْ الْوَالِدِ ، وَوِلَادَةُ الْوَلَدِ ثَابِتَةٌ مِنْ أُمِّهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ أَنْتَ وَلَدُ الزِّنَا .
( وَلَوْ قَالَ لَهُ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ وَأُمُّهُ مَيِّتَةٌ مُحْصَنَةٌ فَطَالَبَ الِابْنُ بِحَدِّهِ حُدَّ الْقَاذِفُ ) لِأَنَّهُ قَذَفَ مُحْصَنَةً بَعْدَ مَوْتِهَا ( وَلَا يُطَالِبُ بِحَدِّ الْقَذْفِ لِلْمَيِّتِ إلَّا مَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ بِقَذْفِهِ وَهُوَ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ ) لِأَنَّ الْعَارَ يَلْتَحِقُ بِهِ لِمَكَانِ الْجُزْئِيَّةِ فَيَكُونُ الْقَذْفُ مُتَنَاوِلًا لَهُ مَعْنًى .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَثْبُتُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ لِكُلِّ وَارِثٍ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يُورَثُ عِنْدَهُ عَلَى مَا نُبَيِّنُ ، وَعِنْدَنَا وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ لَيْسَتْ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ بَلْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ عِنْدَنَا لِلْمَحْرُومِ عَنْ الْمِيرَاثِ بِالْقَتْلِ ، وَيَثْبُتُ لِوَلَدِ الْبِنْتِ كَمَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الِابْنِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ، وَيَثْبُتُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ حَالَ قِيَامِ الْوَلَدِ خِلَافًا لِزُفَرَ .
قَالَ ( وَلَوْ قَالَ لَهُ يَا ابْنَ الزَّانِيَةَ وَأُمُّهُ مَيِّتَةٌ مُحْصَنَةٌ فَطَالَبَ الِابْنُ بِحَدِّهِ حُدَّ الْقَاذِفُ لِأَنَّهُ قَذَفَ مُحْصَنَةً بَعْدَ مَوْتِهَا ) بِخِلَافِ مَا إذَا قَذَفَهَا ثُمَّ مَاتَتْ فَإِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ ( وَلَا يُطَالِبُ بِحَدِّ الْقَذْفِ لِلْمَيِّتِ إلَّا مَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ بِقَذْفِهِ وَهُوَ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ ) يَعْنِي الْأَبَ وَالْجَدَّ وَإِنْ عَلَا ، وَالْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ وَإِنْ سَفَلَ ، نَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ ، ثُمَّ قَالَ : كَذَا وَجَدْت بِخَطِّ شَيْخِي ، وَنَقَلَ غَيْرُهُ مِنْ الشَّارِحِينَ عَنْ شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( لِأَنَّ الْعَارَ يُلْتَحَقُ بِهِ ) أَيْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ ( لِمَكَانِ الْجُزْئِيَّةِ فَيَكُونُ الْقَذْفُ مُتَنَاوِلًا لَهُ مَعْنًى ) وَرُدَّ بِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْجُزْئِيَّةِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهَا إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ حَيًّا غَائِبًا فَإِنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ بِحَدِّهِ إذْ ذَاكَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَابِ هُوَ الْمَقْذُوفُ لَا مَحَالَةَ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ جُزْئِيَّةٌ يَقُومُ مَقَامَهُ ، وَإِنَّمَا يَقُومُ الشَّيْءُ مَقَامَ غَيْرِهِ إذَا وَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الْيَأْسُ بِمَوْتِهِ فَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّ الْعَارَ يُلْتَحَقُ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الِابْنِ ) يَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ ( خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ) فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ لَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الْبِنْتِ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ .
إلَى أَبِيهِ لَا إلَى أُمِّهِ فَلَا يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ بِزِنَا أَبِي أُمِّهِ .
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ : النَّسَبُ يَثْبُتُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَيَصِيرُ الْوَلَدُ بِهِ كَرِيمَ الطَّرَفَيْنِ ( وَيَثْبُتُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ حَالَ قِيَامِ الْوَلَدِ ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَيْسَ لِوَلَدِ الْوَلَدِ حَالَ قِيَامِ الْوَلَدِ أَنْ
يُخَاصِمَ ، لِأَنَّ الشَّيْنَ الَّذِي يَلْحَقُ الْوَلَدَ فَوْقَ الَّذِي يَلْحَقُ وَلَدَ الْوَلَدِ ، فَصَارَ وَلَدُ الْوَلَدِ مَعَ قِيَامِ الْوَلَدِ كَالْوَلَدِ مَعَ بَقَاءِ الْمَقْذُوفِ ، وَاعْتُبِرَ هَذَا بِطَلَبِ الْكَفَاءَةِ فَإِنَّهُ لَا خُصُومَةَ فِيهِ مَعَ بَقَاءِ الْأَقْرَبِ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ : حَقُّ الْخُصُومَةِ بِاعْتِبَارِ مَا لَحِقَهُ مِنْ الشَّيْنِ بِنِسْبَتِهِ إلَيْهِ ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ وَلَدِ الْوَلَدِ كَوُجُودِهِ فِي حَقِّ الْوَالِدِ ، فَأَيُّهُمَا خَاصَمَ يُقَامُ الْحَدُّ لِخُصُومَتِهِ ، بِخِلَافِ الْمَقْذُوفِ فَإِنَّ حَقَّ الْخُصُومَةِ .
لَهُ .
بِاعْتِبَارِ تَنَاوُلِ الْقَاذِفِ مِنْ عِرْضِهِ مَقْصُودًا ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ وَلَدِهِ ، وَبِخِلَافِ الْكَفَاءَةِ فَإِنَّ طَلَبَهَا إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْأَقْرَبِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِنْكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ } وَفِي الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَى الْعُصُوبَةِ يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ عَلَى الْأَبْعَدِ .
( وَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا جَازَ لِابْنِهِ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْحَدِّ ) خِلَافًا لِزُفَرَ .
هُوَ يَقُولُ : الْقَذْفُ يَتَنَاوَلُهُ مَعْنًى لِرُجُوعِ الْعَارِ إلَيْهِ ، وَلَيْسَ طَرِيقُهُ الْإِرْثَ عِنْدَنَا فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ صُورَةً وَمَعْنًى .
وَلَنَا أَنَّهُ عَيَّرَهُ بِقَذْفِ مُحْصَنٍ فَيَأْخُذُهُ بِالْحَدِّ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِحْصَانَ فِي الَّذِي يُنْسَبُ إلَى الزِّنَا شَرْطٌ لِيَقَعَ تَعْيِيرًا عَلَى الْكَمَالِ ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ إلَى وَلَدِهِ ، وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ ، بِخِلَافِ إذَا تَنَاوَلَ الْقَذْفُ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّعْيِيرُ عَلَى الْكَمَالِ لِفَقْدِ الْإِحْصَانِ فِي الْمَنْسُوبِ إلَى الزِّنَا ( وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ مَوْلَاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ ، وَلَا لِلِابْنِ أَنْ يُطَالِبَ أَبَاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ ) لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يُعَاقَبُ بِسَبَبِ عَبْدِهِ ، وَكَذَا الْأَبُ بِسَبَبِ ابْنِهِ ، وَلِهَذَا لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ وَلَا السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ ، وَلَوْ كَانَ لَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهِ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَانْعِدَامِ الْمَانِعِ .
وَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا ) وَهُوَ مَيِّتٌ ( جَازَ لِابْنِهِ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْحَدِّ ، خِلَافًا لِزُفَرَ .
هُوَ يَقُولُ : الْقَذْفُ تَنَاوَلَهُ مَعْنًى لِرُجُوعِ الْعَارِ إلَيْهِ ، وَلَيْسَ طَرِيقُهُ الْإِرْثَ عِنْدَنَا ) لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُورَثُ ( فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ صُورَةً وَمَعْنًى ) فِي رُجُوعِ الْعَارِ إلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ صُورَةً وَمَعْنًى بِأَنْ قَذَفَهُ قَاذِفٌ ابْتِدَاءً لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعَدَمِ إحْصَانِ الْمَقْذُوفِ ، فَكَذَا إذَا تَنَاوَلَهُ مَعْنًى .
قِيلَ قَوْلُهُ وَلَيْسَ طَرِيقُهُ الْإِرْثَ غَيْرُ مُفِيدٍ لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ طَرِيقُهُ الْإِرْثَ أَيْضًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ ، لِأَنَّ الْمَانِعَ عَنْ الْإِرْثِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الْكُفْرُ أَوْ الرِّقُّ .
وَقِيلَ تَحْرِيرُ كَلَامِهِ أَنَّ الْحَدَّ إمَّا أَنْ يَجِبَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى الْقَاذِفِ لِقَذْفِهِ أُمَّ الْمَقْذُوفِ أَوْ لِقَذْفِ نَفْسِ هَذَا الِابْنِ الْكَافِرِ ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ أُمِّهِ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يُورَثُ وَلَا أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ وَهُوَ كَمَا تَرَى ( وَلَنَا أَنَّهُ عَيَّرَهُ بِقَذْفِ مُحْصَنٍ ) وَهُوَ ظَاهِرٌ ، لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيهِ وَكُلُّ مَنْ عَيَّرَ بِقَذْفِ مُحْصَنٍ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ بِحَدِّهِ لِأَنَّهُ تَعْيِيرٌ عَلَى الْكَمَالِ فَيَقْتَضِي زَاجِرًا .
وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى هَذَا الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ ( وَهَذَا لِأَنَّ الْإِحْصَانَ فِي الَّذِي يُنْسَبُ إلَى الزِّنَا شَرْطٌ لِيَقَعَ تَعْيِيرًا عَلَى الْكَمَالِ ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا ، التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ إلَى وَلَدِهِ ) فَجَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْحَدِّ .
فَإِنْ قِيلَ : جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَانِعُ مَوْجُودًا فَلَا يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ عَلَى الْمُقْتَضَى .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ ) أَيْ اسْتِحْقَاقَ أَهْلِيَّةِ الْخُصُومَةِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا بِاعْتِبَارِ لُحُوقِ الشَّيْنِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْوَلَدِ الْكَافِرِ وَالْمَمْلُوكِ لِأَنَّ
النِّسْبَةَ لَا تَنْقَطِعُ بِالرِّقِّ وَالْكُفْرِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَنَاوَلَ الْقَذْفَ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ التَّعْيِيرُ عَلَى الْكَمَالِ لِفَقْدِ الْإِحْصَانِ فِي الْمَنْسُوبِ إلَى الزِّنَا .
قَالَ ( وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ مَوْلَاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ وَلَا لِلِابْنِ أَنْ يُطَالِبَ أَبَاهُ ) أَوْ جَدَّهُ وَإِنْ عَلَا ( بِقَذْفِ أُمِّهِ ) وَجَدَّتِهِ وَإِنْ عَلَتْ ، وَلَا أُمَّهُ وَلَا جَدَّتَهُ وَإِنْ عَلَتْ بِقَذْفِ نَفْسِهِ ( لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يُعَاقَبُ بِسَبَبِ عَبْدِهِ ) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ وَلَا السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ } فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ وَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ وَسَبَبُهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ حَدُّ الْقَذْفِ وَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَسَبَبُهُ وَهُوَ الْقَذْفُ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ بِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِيمَا نَسَبَهُ إلَيْهِ أَوْلَى .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَ لَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهِ ) وَاضِحٌ .
( وَمَنْ قَذَفَ غَيْرَهُ فَمَاتَ الْمَقْذُوفُ بَطَلَ الْحَدُّ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَبْطُلُ ( وَلَوْ مَاتَ بَعْدَمَا أُقِيمَ بَعْضُ الْحَدِّ بَطَلَ الْبَاقِي ) عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُورَثُ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا يُورَثُ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ فِيهِ حَقَّ الشَّرْعِ وَحَقَّ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَهُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ حَقُّ الْعَبْدِ ، ثُمَّ إنَّهُ شُرِعَ زَاجِرًا وَمِنْهُ سُمِّيَ حَدًّا ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الزَّاجِرِ إخْلَاءُ الْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ ، وَهَذَا آيَةُ حَقِّ الشَّرْعِ وَبِكُلِّ ذَلِكَ تَشْهَدُ الْأَحْكَامُ .
وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْجِهَتَانِ ، فَالشَّافِعِيُّ مَالَ إلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الْعَبْدِ تَقْدِيمًا لِحَقِّ الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ حَاجَتِهِ وَغِنَى الشَّرْعِ ، وَنَحْنُ صِرْنَا إلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الشَّرْعِ لِأَنَّ مَا لِلْعَبْدِ مِنْ الْحَقِّ يَتَوَلَّاهُ مَوْلَاهُ فَيَصِيرُ حَقُّ الْعَبْدِ مَرْعِيًّا بِهِ ، وَلَا كَذَلِكَ عَكْسُهُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْعَبْدِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِ الشَّرْعِ إلَّا نِيَابَةً عَنْهُ ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْمَشْهُورُ الَّذِي يَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ الْفُرُوعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا مِنْهَا الْإِرْثُ ، إذْ الْإِرْثُ يَجْرِي فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا فِي حُقُوقِ الشَّرْعِ .
وَمِنْهَا الْعَفْوُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عَفْوُ الْمَقْذُوفِ عِنْدَنَا وَيَصِحُّ عِنْدَهُ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ وَيَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ وَعِنْدَهُ لَا يَجْرِي .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْعَفْوِ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ؛ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : إنَّ الْغَالِبَ حَقُّ الْعَبْدِ وَخَرَّجَ الْأَحْكَامَ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ .
وَقَوْلُهُ ( وَبِكُلِّ ذَلِكَ تَشْهَدُ الْأَحْكَامُ ) أَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَهُوَ أَنَّهُ يُسْتَوْفَى بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ ، وَكَذَلِكَ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِخُصُومَةٍ ، وَإِنَّمَا يُسْتَوْفَى بِخُصُومَةٍ مَا هُوَ حَقُّهُ ، بِخِلَافِ السَّرِقَةِ فَإِنَّ خُصُومَتَهُ هُنَاكَ لِلْمَالِ دُونَ الْحَدِّ ، حَتَّى لَوْ بَطَلَ الْحَدُّ لِمَعْنَى الشُّبْهَةِ لَا يَبْطُلُ الْمَالُ ، وَيُقَامُ هَذَا الْحَدُّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْمُسْتَأْمَنُ بِمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَيُقَدَّمُ اسْتِيفَاؤُهُ عَلَى حَدِّ الزِّنَا وَحَدِّ السَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، حَتَّى أَنَّ رَجُلًا لَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَالْقَذْفُ وَفَقْءُ عَيْنِ رَجُلٍ يُبْدَأُ بِالْقِصَاصِ فِي الْعَيْنِ لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّ الْعَبْدِ ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ فِي الِاسْتِيفَاءِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ بِالتَّأْخِيرِ لِأَنَّهُ يَخَافُ الْفَوْتَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ ، إذَا بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ .
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي تَشْهَدُ عَلَى أَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ إلَى الْإِمَامِ ، وَالْإِمَامُ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ نَائِبًا فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَاسْتِيفَاؤُهُ إلَيْهِ ، وَلَا يَحْلِفُ فِيهِ الْقَاذِفُ وَلَا يَنْقَلِبُ مَالًا عِنْدَ السُّقُوطِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ مَا لِلْعَبْدِ مِنْ الْحَقِّ إلَخْ ) قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ حَقُّ الْعَبْدِ غَالِبًا إذَا اجْتَمَعَ الْحَقَّانِ أَصْلًا .
وَهُوَ خِلَافُ الْأُصُولِ وَالْمَنْقُولِ ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ مِمَّا اجْتَمَعَا فِيهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ غَالِبٌ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يُنَافِي الْحَقَّيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِمَوْتِ الْمَقْذُوفِ وَشَيْءٌ مِنْ الْحَقَّيْنِ لَا يَسْقُطُ بِهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نَقُولُ إنَّهُ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ وَلَكِنْ
يَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاؤُهُ لِعَدَمِ شَرْطِهِ ، فَإِنَّ الشَّرْطَ خُصُومَةُ الْمَقْذُوفِ وَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْخُصُومَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ ) يُرِيدُ بِهِ صَدْرَ الْإِسْلَامِ أَبَا الْيُسْرِ ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي مَبْسُوطِهِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ تَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَالْمَعْقُولُ يَشْهَدُ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَبْدَ مُنْتَفِعٌ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ .
وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ كَالْقِصَاصِ إلَّا أَنَّهُ فَوَّضَ إقَامَتَهُ إلَى الْإِمَامِ لِأَنَّهُ لَا يَهْتَدِي كُلُّ أَحَدٍ إلَى إقَامَةِ الْجَلْدِ .
وَقَوْلُهُ ( وَخَرَّجَ الْأَحْكَامَ ) أَيْ أَجَابَ عَنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ بِجَوَابٍ يُوَافِقُ الْمَذْهَبَ فَقَالَ فِي التَّفْوِيضِ إلَى الْإِمَامِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَهْتَدِي إلَى إقَامَةِ الْجَلْدِ .
وَقَالَ فِي عَدَمِ الْإِرْثِ إنَّ عَدَمَهُ لَا يَسْتَوْجِبُ كَوْنَهُ حَقَّ اللَّهِ كَالشُّفْعَةِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ لِأَنَّ الْإِرْثَ يَجْرِي فِي الْأَعْيَانِ .
وَأَجَابَ عَنْ كَوْنِ الْقِصَاصِ يُورَثُ بِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مِلْكِ الْعَيْنِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إتْلَافَ الْعَيْنِ وَمِلْكُ الْإِتْلَافِ مِلْكُ الْعَيْنِ عِنْدَ النَّاسِ .
فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَ الطَّعَامِ إلَّا لِلْإِتْلَافِ وَهُوَ الْأَكْلُ ، فَصَارَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ كَالْمَمْلُوكِ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ وَهُوَ بَاقٍ فَيَمْلِكُهُ الْوَارِثُ فِي حَقِّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْأَوَّلُ ) وَهُوَ أَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ ( أَظْهَرُ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلِيلِ غَلَبَةِ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ ، وَلِأَنَّ عَامَّةَ أَصْحَابِنَا عَلَيْهِ فَكَانَ الْأَخْذُ بِقَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَظْهَرَ ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ .
قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِالْقَذْفِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ ) لِأَنَّ لِلْمَقْذُوفِ فِيهِ حَقًّا فَيُكَذِّبُهُ فِي الرُّجُوعِ ، بِخِلَافِ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فِيهِ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِالْقَذْفِ ) مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَشْهَدُ بِكَوْنِهِ حَقَّ الْعَبْدِ .
( وَمَنْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ يَا نَبَطِيُّ لَمْ يُحَدَّ ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْأَخْلَاقِ أَوْ عَدَمِ الْفَصَاحَةِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ لَسْت بِعَرَبِيٍّ لِمَا قُلْنَا .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ يَا نَبَطِيُّ ) ظَاهِرٌ .
وَالنِّبْطُ جِيلٌ مِنْ النَّاسِ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ .
وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِقُرَشِيٍّ يَا نَبَطِيُّ فَقَالَ : لَا حَدَّ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ إلَخْ .
( وَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْجُودِ وَالسَّمَاحَةِ وَالصَّفَاءِ ، لِأَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ لُقِّبَ بِهِ لِصَفَائِهِ وَسَخَائِهِ ( وَإِنْ نَسَبَهُ إلَى عَمِّهِ أَوْ خَالِهِ أَوْ إلَى زَوْجِ أُمِّهِ فَلَيْسَ بِقَذْفٍ ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يُسَمَّى أَبًا ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { نَعْبُدُ إلَهَك وَإِلَهَ آبَائِك إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ عَمًّا لَهُ .
وَالثَّانِي لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْخَالُ أَبٌ } .
وَالثَّالِثُ لِلتَّرْبِيَةِ .وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ لُقِّبَ بِهِ ) أَيْ بِهَذَا اللَّفْظِ ، وَمَاءُ السَّمَاءِ هُوَ لَقَبُ أَبِي الْمُزَيْقِيَاءِ ، وَالْمُزَيْقِيَاءُ هُوَ عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ ، لُقِّبَ بِالْمُزَيْقِيَاءِ لِأَنَّهُ كَانَ يُمَزِّقُ فِي كُلِّ يَوْمٍ حُلَّتَيْنِ يَلْبَسُهُمَا وَيَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِيهِمَا وَيَأْنَفَ أَنْ يَلْبَسَهُمَا غَيْرُهُ ، وَأَبُوهُ عَامِرُ بْنُ حَارِثَةَ الْأَزْدِيُّ كَانَ يُلَقَّبُ بِمَاءِ السَّمَاءِ لِأَنَّهُ وَقْتَ الْقَحْطِ كَانَ يُقِيمُ مَالَهُ مَقَامَ الْقَطْرِ عَطَاءً وَجُودًا وَقَوْلُهُ ( وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ عَمًّا لَهُ ) أَيْ لِيَعْقُوبَ ، فَإِنَّ إسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ابْنَا إبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ بْنَ إِسْحَاقَ فَكَانَ إسْمَاعِيلُ عَمًّا لَهُ فَأَدْخَلُوهُ تَحْتَ الْآبَاءِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَمَّ يُسَمَّى أَبًا .
( وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ زَنَأْتَ فِي الْجَبَلِ وَقَالَ عَنَيْتُ صُعُودَ الْجَبَلِ حُدَّ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يُحَدُّ ) لِأَنَّ الْمَهْمُوزَ مِنْهُ لِلصُّعُودِ حَقِيقَةٌ قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ : وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زَنَأَ فِي الْجَبَلِ وَذِكْرُ الْجَبَلِ يُقَرِّرُهُ مُرَادًا .
وَلَهُمَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْفَاحِشَةِ مَهْمُوزًا أَيْضًا لِأَنَّ مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَهْمِزُ الْمُلَيَّنَ كَمَا يُلَيِّنُ الْمَهْمُوزَ ، وَحَالَةُ الْغَضَبِ وَالسِّبَابِ تُعَيِّنُ الْفَاحِشَةَ مُرَادًا بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا قَالَ يَا زَانِي أَوْ قَالَ زَنَأْت ، وَذِكْرُ الْجَبَلِ إنَّمَا يُعَيِّنُ الصُّعُودَ مُرَادًا إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِكَلِمَةِ عَلَى إذْ هُوَ لِلْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ ، وَلَوْ قَالَ زَنَأْت عَلَى الْجَبَلِ لَا يُحَدُّ لِمَا قُلْنَا ، وَقِيلَ يُحَدُّ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ زَنَأَتْ فِي الْجَبَلِ ) بِالْهَمْزِ ( وَقَالَ عَنَيْت صُعُودَ الْجَبَلِ حُدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْمَهْمُوزَ مِنْهُ لِلصُّعُودِ حَقِيقَةً ) وَاسْتَشْهَدَ الْمُصَنِّفُ لِذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ : وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زَنَأَ فِي الْجَبَلِ قَالَ ( وَذِكْرُ الْجَبَلِ يُقَرِّرُهُ ) أَيْ يُقَرِّرُ الصُّعُودَ ( مُرَادًا ) تَأْكِيدًا لِكَوْنِ الْمَهْمُوزِ لِلصُّعُودِ حَقِيقَةً وَقَوْلُهُ ( وَلَهُمَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ إلَخْ ) وَاضِحٌ .
وَقِيلَ كَلَامُهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمَهْمُوزَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْفَاحِشَةِ وَالصُّعُودِ ، وَحَالَةِ الْغَضَبِ وَالسِّبَابِ تُعَيِّنُ أَحَدَ الْمُحْتَمَلَيْنِ عِنْدَهُمَا .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الصُّعُودِ مَجَازٌ فِي الْفَاحِشَةِ وَحِينَئِذٍ يَتَرَجَّحُ قَوْلُهُ لِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا دَارَ بَيْنَ كَوْنِهِ مُشْتَرَكًا وَحَقِيقَةً وَمَجَازًا فَالثَّانِي يَتَرَجَّحُ عَلَى الْأَوَّلِ لِعَدَمِ إخْلَالِهِ بِالْفَهْمِ وَلِأَنَّ الْبَابَ بَابُ الْحَدِّ فَيَحْتَالُ لِلدَّرْءِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِكَلِمَةِ عَلَى .
وَقَوْلُهُ ( لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَحَالَةُ الْغَضَبِ وَالسِّبَابِ تُعَيِّنُ الْفَاحِشَةَ مُرَادًا
( وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ يَا زَانِي فَقَالَ لَا بَلْ أَنْتَ فَإِنَّهُمَا يُحَدَّانِ ) لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا بَلْ أَنْتَ زَانٍ ، إذْ هِيَ كَلِمَةُ عَطْفٍ يُسْتَدْرَكُ بِهَا الْغَلَطُ فَيَصِيرُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فِي الْأَوَّلِ مَذْكُورًا فِي الثَّانِي .( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ يَا زَانِي ) ظَاهِرٌ .
وَاعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِهِ فَيَصِيرُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فِي الْأَوَّلِ مَذْكُورًا فِي الثَّانِي بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ هُوَ قَوْلُهُ يَا زَانِي وَمَا ثَمَّةَ خَبَرٌ أَصْلًا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَبَرِ الْجُزْءُ ، وَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ لِأَنَّ الْخَبَرَ جُزْءٌ أَخَصُّ فَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَارَ لِلْأَعَمِّ
( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ لَا بَلْ أَنْتَ حُدَّتْ الْمَرْأَةُ وَلَا لِعَانَ ) لِأَنَّهُمَا قَاذِفَانِ وَقَذْفُهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ وَقَذْفُهَا الْحَدَّ ، وَفِي الْبُدَاءَةِ بِالْحَدِّ إبْطَالُ اللِّعَانِ ؛ لِأَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ وَلَا إبْطَالَ فِي عَكْسِهِ أَصْلًا فَيُحْتَالُ لِلدَّرْءِ ، إذْ اللِّعَانُ فِي مَعْنَى الْحَدِّ ( وَلَوْ قَالَتْ زَنَيْت بِك فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ ) مَعْنَاهُ قَالَتْ بَعْدَمَا قَالَ لَهَا يَا زَانِيَةُ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ الزِّنَا قَبْلَ النِّكَاحِ فَيَجِبُ الْحَدُّ دُونَ اللِّعَانِ لِتَصْدِيقِهَا إيَّاهُ وَانْعِدَامِهِ مِنْهُ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ زِنَايَ مَا كَانَ مَعَك بَعْدَ النِّكَاحِ لِأَنِّي مَا مَكَّنْت أَحَدًا غَيْرَك .
وَهُوَ الْمُرَادُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَجِبُ اللِّعَانُ دُونَ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ لِوُجُودِ الْقَذْفِ مِنْهُ وَعَدَمِهِ مِنْهَا فَجَاءَ مَا قُلْنَا .
( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ لَا بَلْ أَنْتَ ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلِّعَانِ ) دَلِيلُهُ أَنَّ أَهْلِيَّةَ اللِّعَانِ تَعْتَمِدُ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ وَإِقَامَةُ حَدِّ الْقَذْفِ تُبْطِلُ أَهْلِيَّةَ شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا إبْطَالَ فِي عَكْسِهِ أَصْلًا ) يَعْنِي لَوْ قَدَّمْنَا اللِّعَانَ لَا يَبْطُلُ حَدُّ الْقَذْفِ عَنْ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ إحْصَانَ الرَّجُلِ لَا يَبْطُلُ بِجَرَيَانِ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ اللِّعَانَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ وَلَكِنْ لَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ عَفِيفًا عَنْ فِعْلِ الزِّنَا فَيَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الْمَرْأَةِ احْتِيَالًا لِدَرْءِ اللِّعَانِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْحَدِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَالَتْ زَنَيْت بِك ) يَعْنِي فِي جَوَابِ قَوْلِهِ لَهَا يَا زَانِيَةُ .
وَقَوْلُهُ ( وَانْعِدَامُهُ ) أَيْ انْعِدَامُ التَّصْدِيقِ مِنْ الزَّوْجِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ زِنَايَ مَا كَانَ مَعَك بَعْدَ النِّكَاحِ ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْوَطْءَ بَعْدَ النِّكَاحِ لَا يُسَمَّى زِنًا فَلَا يَصْلُحُ مَحْمَلًا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الزِّنَا يُطْلَقُ عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } حَمَلَهَا عَلَى ذَلِكَ لِتَرْكِيبِ فَرْطِ غَيْظِهَا بِإِطْلَاقِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ ، وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ لَا تَكُونُ مُصَدِّقَةً لِزَوْجِهَا فَيَجِبُ اللِّعَانُ عَلَى الزَّوْجِ وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْمَرْأَةِ ، فَفِي حَالٍ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا وَيَجِبُ اللِّعَانُ عَلَى الزَّوْجِ ، وَفِي حَالٍ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا وَلَا يَجِبُ اللِّعَانُ ، فَوَقَعَ الشَّكُّ وَجَاءَ مَا قُلْنَا أَنَّهُ لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ .
( وَمَنْ أَقَرَّ بِوَلَدٍ ثُمَّ نَفَاهُ فَإِنَّهُ يُلَاعَنُ ) لِأَنَّ النَّسَبَ لَزِمَهُ بِإِقْرَارِهِ وَبِالنَّفْيِ بَعْدَهُ صَارَ قَاذِفًا فَيُلَاعَنُ ( وَإِنْ نَفَاهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ حُدَّ ) لِأَنَّهُ لَمَّا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَطَلَ اللِّعَانُ لِأَنَّهُ حَدٌّ ضَرُورِيٌّ صُيِّرَ إلَيْهِ ضَرُورَةَ التَّكَاذُبِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدُّ الْقَذْفِ .
فَإِذَا بَطَلَ التَّكَاذُبُ يُصَارُ إلَى الْأَصْلِ ، وَفِيهِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِي اللِّعَانِ ( وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ ) فِي الْوَجْهَيْنِ لِإِقْرَارِهِ بِهِ سَابِقًا أَوْ لَاحِقًا ، وَاللِّعَانُ يَصِحُّ بِدُونِ قَطْعِ النَّسَبِ كَمَا يَصِحُّ بِدُونِ الْوَلَدِ ( وَإِنْ قَالَ لَيْسَ بِابْنِي وَلَا بِابْنِك فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ ) لِأَنَّهُ أَنْكَرَ الْوِلَادَةَ وَبِهِ لَا يَصِيرُ قَاذِفًا .
قَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ اللِّعَانَ ( حَدٌّ ضَرُورِيٌّ صَيَّرَ إلَيْهِ ضَرُورَةُ التَّكَاذُبِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدُّ الْقَذْفِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } الْآيَةَ ( وَإِذَا بَطَلَ التَّكَاذُبُ ) بِإِكْذَابِ الرَّجُلِ نَفْسَهُ ( يُصَارُ إلَى الْأَصْلِ وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ ) أَيْ فِي الْوَجْهِ الَّذِي أَقَرَّ ثُمَّ نَفَى وَعَكْسِهِ .
قَوْلُهُ ( لِإِقْرَارِهِ بِهِ سَابِقًا أَوْ لَاحِقًا ) أَيْ لِإِقْرَارِ الزَّوْجِ بِالْوَلَدِ سَابِقًا عَلَى النَّفْيِ فِيمَا إذَا أَقَرَّ ثُمَّ نَفَى أَوْ لَاحِقًا فِيمَا إذَا نَفَاهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَاللِّعَانُ يَصِحُّ بِدُونِ قَطْعِ النَّسَبِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ سَبَبَ اللِّعَانِ هُنَا هُوَ نَفْيُ الْوَلَدِ فَلَمَّا لَمْ يَنْتِفْ الْوَلَدُ وَجَبَ أَنْ لَا يَجْرِيَ بَيْنَهُمَا اللِّعَانُ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْمُتَضَمِّنِ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الْمُتَضَمَّنِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ قَطْعَ النَّسَبِ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اللِّعَانِ فَاعْتُبِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : أَيْ مِنْ نِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا وَمَنْ نَفَى الْوَلَدَ مُنْفَصِلًا عَنْ الْآخَرِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَسَبَهَا إلَى الزِّنَا مِنْ غَيْرِ نَفْيِ الْوَلَدِ بِأَنْ قَالَ يَا زَانِيَةُ وَفِيهِ اللِّعَانُ ، فَكَذَا هَاهُنَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا تَطَاوَلَتْ مُدَّةُ وِلَادَةِ مَنْكُوحَتِهِ عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ثُمَّ قَالَ لَيْسَ بِابْنِي فَإِنَّهُ يُلَاعِنُ مَعَ أَنَّ سَبَبَ اللِّعَانِ نَفْيُ الْوَلَدِ ، وَلَمْ يَنْتِفْ الْوَلَدُ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ زَانِيَةٌ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ قَالَ لَيْسَ بِابْنِي وَلَا بِابْنِك ) ظَاهِرٌ .
( وَمَنْ قَذَفَ امْرَأَةً وَمَعَهَا أَوْلَادٌ لَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ أَبٌ أَوْ قَذَفَ الْمُلَاعَنَةَ بِوَلَدٍ وَالْوَلَدُ حَيٌّ أَوْ قَذَفَهَا بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ) لِقِيَامِ أَمَارَةِ الزِّنَا مِنْهَا وَهِيَ وِلَادَةُ وَلَدٍ لَا أَبَ لَهُ فَفَاتَتْ الْعِفَّةُ نَظَرًا إلَيْهَا وَهِيَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ ( وَلَوْ قَذَفَ امْرَأَةً لَاعَنَتْ بِغَيْرِ وَلَدٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ) لِانْعِدَامِ أَمَارَةِ الزِّنَا .وَقَوْلُهُ ( أَوْ قَذَفَ الْمُلَاعَنَةَ بِوَلَدٍ ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ كَذَا نَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بِخَطِّ شَيْخِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَمَعْنَاهُ الَّتِي لَاعَنَتْ بِوَلَدٍ كَذَا فِي الْكَافِي .
وَقَوْلُهُ ( بِوَلَدٍ ) يَتَّصِلُ بِالْمُلَاعَنَةِ .
وَقَوْلُهُ ( فَفَاتَتْ الْعِفَّةُ نَظَرَ إلَيْهَا ) أَيْ إلَى إمَارَةِ الزِّنَا ( وَهُوَ ) أَيْ الْعِفَّةُ وَذَكَرَهُ نَظَرًا إلَى قَوْلِهِ شَرْطٌ وَمَعْنَاهُ الْعِفَّةُ شَرْطُ وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَى الْقَاذِفِ وَهِيَ فَائِتَةٌ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَذَفَ امْرَأَةً لَاعَنَتْ بِغَيْرِ وَلَدٍ ) ظَاهِرٌ .
فَإِنْ قِيلَ : اللِّعَانُ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا فَقَدْ وَجَدَ أَمَارَةَ الزِّنَا مِنْهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ نَظَرًا إلَى هَذَا .
قُلْنَا : بَلَى لَكِنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ فَبِالنَّظَرِ إلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ الْمَرْأَةُ مُحْصَنَةً فَتَعَارَضَ الْوَجْهَانِ فَتَسَاقَطَا فَبَقِيَ الْقَذْفُ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ فَوَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَوَجَدْت بِخَطِّ شَيْخِي فِي جَوَابِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ .
قُلْنَا : نَعَمْ إنَّ اللِّعَانَ فِي جَانِبِهَا قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا ، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّوْجِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ ، فَكَانَتْ هِيَ مُحْصَنَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِ الزَّوْجِ فَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا .
فَقَالَ ( وَمَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ ) لِفَوَاتِ الْعِفَّةِ وَهِيَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ ، وَلِأَنَّ الْقَاذِفَ صَادِقٌ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا لِعَيْنِهِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ ؛ لِأَنَّ الزِّنَا هُوَ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ لِعَيْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا لِغَيْرِهِ يُحَدُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا فَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ وَكَذَا الْوَطْءُ فِي الْمِلْكِ ، وَالْحُرْمَةُ مُؤَبَّدَةٌ ، فَإِنْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ مُؤَقَّتَةً فَالْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَشْتَرِطُ أَنْ تَكُونَ الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ ، أَوْ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ لِتَكُونَ ثَابِتَةً مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ ( وَبَيَانُهُ أَنَّ مَنْ قَذَفَ رَجُلًا وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ) لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ ( وَكَذَا إذَا قَذَفَ امْرَأَةً زَنَتْ فِي نَصْرَانِيَّتِهَا ) لِتَحَقُّقِ الزِّنَا مِنْهَا شَرْعًا لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهَا الْحَدُّ .
قَالَ ( وَمَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ) اعْلَمْ أَنَّ الْوَطْءَ الْحَرَامَ بِالْقِسْمَةِ الْأَوَّلِيَّةِ عَلَى نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا حَرَامٌ لِعَيْنِهِ ، وَالْآخَرُ لِغَيْرِهِ ، وَالْأَوَّلُ مَنْشَأُ حُرْمَتِهِ شَيْئَانِ : حُصُولُهُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَوَطْءِ الْأَجْنَبِيَّةِ ، أَوْ مِنْ وَجْهٍ كَوَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ، وَحُصُولُهُ فِي امْرَأَةٍ هِيَ حَرَامٌ عَلَى الْوَاطِئِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً كَوَطْءِ أَمَتِهِ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي كَوَطْءِ أَمَتِهِ الْمَجُوسِيَّةِ وَوَطْءِ أَمَتَيْهِ الْأُخْتَيْنِ ، وَالْقَاذِفُ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ بِوَجْهَيْهِ لَا يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ لِفَوَاتِ الْعِفَّةِ وَهُوَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ ، وَلِأَنَّ الْقَاذِفَ صَادِقٌ لِأَنَّ الزِّنَا هُوَ الْوَطْءُ الْحَرَامُ لِعَيْنِهِ ( وَأَبُو حَنِيفَةَ شَرَطَ أَنْ تَكُونَ الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ ) كَمَوْطُوءَةٍ لِلْأَبِ بَعْدَ مِلْكِ النِّكَاحِ أَوْ مِلْكِ الْيَمِينِ إذَا اشْتَرَاهَا ابْنُهُ فَوَطِئَهَا لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ أَوْ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ ) كَحُرْمَةِ وَطْءِ الْمَنْكُوحَةِ بِلَا شُهُودٍ فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا نِكَاحَ إلَّا بِالشُّهُودِ } وَهُوَ مَشْهُورٌ .
وَفِي النَّوْعِ الثَّانِي يُحَدُّ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِيهِ بِعَارِضٍ عَلَى وَجْهِ الزَّوَالِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَجُوسِيَّةَ إذَا أَسْلَمَتْ أَوْ أَخْرَجَ إحْدَى الْأُخْتَيْنِ عَنْ مِلْكِهِ حَلَّ لَهُ الْوَطْءُ فَلَمْ يَكُنْ زِنًا فَيُحَدُّ قَاذِفُهُ ، وَبَقِيَّةُ كَلَامِهِ ظَاهِرٌ .
( وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا أَتَى أَمَتَهُ وَهِيَ مَجُوسِيَّةٌ أَوْ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ أَوْ مُكَاتَبَةً لَهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ) لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ وَهِيَ مُؤَقَّتَةٌ فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ زِنًا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ وَطْءَ الْمُكَاتَبَةِ يُسْقِطُ الْإِحْصَانَ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الْمِلْكَ زَائِلٌ فِي حَقِّ الْوَطْءِ وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ بِالْوَطْءِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ مِلْكُ الذَّاتِ بَاقٍ وَالْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ إذْ هِيَ مُؤَقَّتَةٌ .
( وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا وَطِئَ أَمَتَهُ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَا يُحَدُّ ) لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مُؤَبَّدَةٌ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ( وَلَوْ قَذَفَ مُكَاتَبًا مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً لَا حَدَّ عَلَيْهِ ) لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي الْحُرِّيَّةِ لِمَكَانِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ .وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ : بِوَطْئِهَا لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْفِعْلِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ الْمُبِيحُ لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ كَوَطْءِ امْرَأَتِهِ الْحَائِضِ أَوْ الْمَجُوسِيَّةِ أَوْ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ الْمُحَرَّمَةُ أَوْ أَمَتُهُ الَّتِي زَوَّجَهَا وَهِيَ فِي عِدَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ مِلْكَ الْحِلِّ قَائِمٌ بِبَقَاءِ سَبَبِهِ .
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ تَنَافِيًا ، فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا يَنْتَفِي الْآخَرُ ، وَالْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ ثَابِتَةٌ فَيَنْتَفِي الْحِلُّ .
وَقَوْلُهُ لِأَنَّ مَالِكَ الْحِلِّ قَائِمٌ بِبَقَاءِ سَبَبِهِ ، قُلْنَا : السَّبَبُ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ إلَّا فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لَهُ .
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلْحِلِّ فِي حَقِّهِ لَا يَثْبُتُ مِلْكُ الْحِلِّ فَكَانَ فِعْلُهُ فِي مَعْنَى الزِّنَا وَقَوْلُهُ ( لِمَكَانِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ ) يَعْنِي فِي أَنَّهُ مَاتَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا عَلَى مَا يَجِيءُ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( وَلَوْ قَذَفَ مَجُوسِيًّا تَزَوَّجَ بِأُمِّهِ ثُمَّ أَسْلَمَ يُحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : لَا حَدَّ عَلَيْهِ ) وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَزَوُّجَ الْمَجُوسِيِّ بِالْمَحَارِمِ لَهُ حُكْمُ الصِّحَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا .
وَقَدْ مَرَّ فِي النِّكَاحِ .وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ مَرَّ فِي النِّكَاحِ ) أَيْ فِي بَابِ نِكَاحِ أَهْلِ الشِّرْكِ .
( وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا حُدَّ ) لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَقَدْ الْتَزَمَ إيفَاءَ حُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَلِأَنَّهُ طَمِعَ فِي أَنْ لَا يُؤْذِيَ فَيَكُونَ مُلْتَزَمًا أَنْ لَا يُؤْذِيَ وَمُوجِبُ أَذَاهُ الْحَدُّ ( وَإِذَا حُدَّ الْمُسْلِمُ فِي قَذْفٍ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُقْبَلُ إذَا تَابَ وَهِيَ تُعْرَفُ فِي الشَّهَادَاتِ ( وَإِذَا حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ) لِأَنَّ لَهُ الشَّهَادَةَ عَلَى جِنْسِهِ فَتُرَدُّ تَتِمَّةً لَحَدِّهِ ( فَإِنْ أَسْلَمَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ ) لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ اسْتَفَادَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الرَّدِّ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ ثُمَّ أُعْتِقَ حَيْثُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لَهُ أَصْلًا فِي حَالِ الرِّقِّ فَكَانَ رَدُّ شَهَادَتِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ .
( وَإِنْ ضُرِبَ سَوْطًا فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ ضُرِبَ مَا بَقِيَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ ) لِأَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ مُتَمِّمٌ لِلْحَدِّ فَيَكُونُ صِفَةً لَهُ وَالْمُقَامُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بَعْضُ الْحَدِّ فَلَا يَكُونُ رَدُّ الشَّهَادَةِ صِفَةً لَهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إذْ الْأَقَلُّ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
وَقَوْلُهُ ( فَقَذَفَ مُسْلِمًا حُدَّ ) جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلًا لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ حَدِّ الزِّنَا .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ اسْتَفَادَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الرَّدِّ ) رُدَّ بِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَفَادَ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَأَمَّا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَدْ كَانَتْ الْأَهْلِيَّةُ مَوْجُودَةً وَقَدْ صَارَتْ مَجْرُوحَةً بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ اسْتَفَادَ بِالْإِسْلَامِ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ تَبَعًا لِأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَهَذِهِ غَيْرُ مَا كَانَتْ حِينَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، فَإِنَّ تِلْكَ كَانَتْ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَهَذِهِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَشْرَافِ تَقْتَضِي أَهْلِيَّتَهَا عَلَى الْأَخَسِّ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : سَلَّمْنَا وُجُودَ الْمُقْتَضِي لَكِنْ الْمَانِعُ وَهُوَ الرَّدُّ أَوَّلًا مَوْجُودٌ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْعَبْدِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْعَبْدُ إذَا قَذَفَ فَضُرِبَ الْحَدَّ ثُمَّ أُعْتِقَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَكَيْفَ قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ ؟ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمَعْقُولَ هُنَا انْعِكَاسُ حُكْمِهِمَا .
لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلْكَافِرِ شَهَادَةٌ فِي جِنْسِهِ يَجِبُ أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ بِحَدِّ الْقَذْفِ تَتْمِيمًا لِحَدِّ الْقَذْفِ ثُمَّ يَدُومُ ذَلِكَ الرَّدُّ إلَى مَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ شَهَادَةٌ فِي شَيْءٍ أَصْلًا لَمْ يَنْعَقِدْ الْحَدُّ حَالَ وُجُودِهِ مُوجِبًا لِرَدِّ الشَّهَادَةِ فَكَيْفَ يَنْقَلِبُ مُوجِبًا لِلرَّدِّ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي كَانَتْ فِي جِنْسِهِ مَرْدُودَةٌ بِحَدِّ الْقَذْفِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ ،
وَالشَّهَادَةُ الْمَقْبُولَةُ هِيَ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ اكْتَسَبَهَا بِالْإِسْلَامِ فَلَا تُرَدُّ ، وَلَمْ نَقُلْ فِي الْعَبْدِ بِأَنَّ غَيْرَ الْمُوجِبِ انْقَلَبَ مُوجِبًا ، وَإِنَّمَا تَوَقَّفْنَا فِي إيجَابِهِ إلَى حِينِ إمْكَانِ الْمُوجِبِ وَهُوَ الرَّدُّ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ ضُرِبَ سَوْطًا فِي قَذْفٍ ) ظَاهِرٌ ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمَقَامَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إنْ كَانَ بَعْضَ الْحَدِّ فَالْمَقَامُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَذَلِكَ ، فَكَمَا لَا يَكُونُ رَدُّ الشَّهَادَةِ صِفَةً لِمَا أُقِيمَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَا أُقِيمَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ، بَلْ جَعْلُهُ صِفَةً لِمَا أُقِيمَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْلَى لِمَا أَنَّ الْعِلَّةَ إذَا كَانَتْ ذَاتَ وَصْفَيْنِ فَالِاعْتِبَارُ لِلْوَصْفِ الْأَخِيرِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّا لَمْ نَجْعَلْ الرَّدَّ صِفَةً لَا لِلْمَقَامِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَلَا لِلْمَقَامِ بَعْدَهُ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الرَّدَّ صِفَةٌ لِلْحَدِّ وَالْحَدُّ ثَمَانُونَ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَمْ تَتَرَتَّبْ التَّتِمَّةُ .
وَقِيلَ فِي الْجَوَابِ النَّصُّ .
وَرَدَ بِالْأَمْرِ بِالْحَدِّ وَالنَّهْيِ عَنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَكُلُّ .
وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُرَتَّبٍ عَلَى الْآخَرِ نَصًّا فَيَتَعَلَّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا يُمْكِنُ ، وَالْمُمْكِنُ زَمَانَ النَّهْيِ رَدُّ شَهَادَةٍ قَائِمَةٍ لِلْحَالِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَالْأَقَلُّ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ ) فَكَأَنَّ الْكُلَّ وُجِدَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا ( وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالْأَمْرِ بِالْحَدِّ وَالنَّهْيِ عَنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ إلَخْ .
قَالَ ( وَمَنْ زَنَى أَوْ شَرِبَ أَوْ قَذَفَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَحُدَّ فَهُوَ لِذَلِكَ كُلِّهِ ) أَمَّا الْأَوَّلَانِ فَلِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى الِانْزِجَارُ ، وَاحْتِمَالُ حُصُولِهِ بِالْأَوَّلِ قَائِمٌ فَتَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ فِي الثَّانِي ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى وَقَذَفَ وَسَرَقَ وَشَرِبَ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ غَيْرُ الْمَقْصُودِ مِنْ الْآخَرِ فَلَا يَتَدَاخَلُ .
وَأَمَّا الْقَذْفُ فَالْمُغَلَّبُ فِيهِ عِنْدَنَا حَقُّ اللَّهِ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِهِمَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ اخْتَلَفَ الْمَقْذُوفُ أَوْ الْمَقْذُوفُ بِهِ وَهُوَ الزِّنَا لَا يَتَدَاخَلُ ، لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ عِنْدَهُ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ قَذَفَ أَوْ زَنَى إلَخْ ) ظَاهِرٌ .
وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ : لَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَنْ قَالَ يَا أَيُّهَا الزُّنَاةُ ، أَوْ كَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ بِأَنْ قَالَ يَا زَيْدُ أَنْتَ زَانٍ وَيَا عَمْرُو أَنْتَ زَانٍ وَيَا خَالِدُ أَنْتَ زَانٍ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ قَذَفَهُمْ بِكَلَامٍ وَاحِدٍ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ ، وَإِنْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ يُحَدُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ حَقُّ الْمَقْذُوفِ عِنْدَهُ فَلَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ عِنْدَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ ، وَعِنْدَنَا أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ فَيَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ .
فَصْلٌ فِي التَّعْزِيرِفَصْلٌ فِي التَّعْزِيرِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الزَّوَاجِرِ الْمُقَدَّرَةِ الثَّابِتَةِ بِالْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ الزَّوَاجِرَ الَّتِي دُونَهَا فِي الْقَدْرِ وَقُوَّةِ الدَّلِيلِ وَهُوَ التَّعْزِيرُ ، وَهُوَ تَأْدِيبٌ دُونَ الْحَدِّ ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْعَزْرِ بِمَعْنَى الرَّدِّ وَالرَّدْعِ ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ مَنْ قَذَفَ غَيْرَهُ بِكَبِيرَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ يَجِبُ التَّعْزِيرُ .
قَالَ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ : اعْلَمْ أَنَّ التَّعْزِيرَ قَدْ يَكُونُ بِالْحَبْسِ وَقَدْ يَكُونُ بِالصَّفْعِ وَتَعْرِيكِ الْأُذُنِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْكَلَامِ الْعَنِيفِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِالضَّرْبِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِنَظَرِ الْقَاضِي إلَيْهِ بِوَجْهٍ عَبُوسٍ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ التَّعْزِيرَ بِأَخْذِ الْمَالِ ، وَقَدْ قِيلَ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّعْزِيرَ مِنْ السُّلْطَانِ بِأَخْذِ الْمَالِ جَائِزٌ ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ أَنَّ التَّعْزِيرَ الَّذِي يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى يَلِي إقَامَتَهُ كُلُّ أَحَدٍ بِعِلَّةِ النِّيَابَةِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى .
( وَمَنْ قَذَفَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ كَافِرًا بِالزِّنَا عُزِّرَ ) لِأَنَّهُ جِنَايَةُ قَذْفٍ ، وَقَدْ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ لِفَقْدِ الْإِحْصَانِ فَوَجَبَ التَّعْزِيرُ ( وَكَذَا إذَا قَذَفَ مُسْلِمًا بِغَيْرِ الزِّنَا فَقَالَ يَا فَاسِقُ أَوْ يَا كَافِرُ أَوْ يَا خَبِيثُ أَوْ يَا سَارِقُ ) لِأَنَّهُ آذَاهُ وَأَلْحَقَ الشَّيْنَ بِهِ ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي الْحُدُودِ فَوَجَبَ التَّعْزِيرُ ، إلَّا أَنَّهُ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ غَايَتَهُ فِي الْجِنَايَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ ، وَفِي الثَّانِيَةِ : الرَّأْيُ إلَى الْإِمَامِ ( وَلَوْ قَالَ يَا حِمَارُ أَوْ يَا خِنْزِيرُ لَمْ يُعَزَّرْ ) لِأَنَّهُ مَا أُلْحِقَ الشَّيْنُ بِهِ لِلتَّيَقُّنِ بِنَفْيِهِ .
وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ يُعَدُّ شَيْنًا ، وَقِيلَ إنْ كَانَ الْمَسْبُوبُ مِنْ الْأَشْرَافِ كَالْفُقَهَاءِ وَالْعَلَوِيَّةِ يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمْ الْوَحْشَةُ بِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَامَّةِ لَا يُعَزَّرُ ، وَهَذَا أَحْسَنُ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ قَذَفَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الْجِنَايَةِ الْأُولَى ) يَعْنِي مَا إذَا قَذَفَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ بِالزِّنَا ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْقَذْفَ بِالزِّنَا ( مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ ) وَقَوْلُهُ ( فِي الثَّانِيَةِ ) يَعْنِي قَوْلَهُ يَا فَاسِقُ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ مَا أَلْحَقَ الشَّيْنَ بِهِ لِلتَّيَقُّنِ بِنَفْيِهِ ) قِيلَ بَلْ يَلْحَقُ الشَّيْنُ بِالْقَاذِفِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ أَنَّهُ آدَمِيٌّ ، وَأَنَّ الْقَاذِفَ كَاذِبٌ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ } نُقِلَ بِتَخْفِيفِ بَلَغَ مِنْ الْبُلُوغِ وَهُوَ السَّمَاعُ .
وَأَمَّا مَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ مِنْ التَّثْقِيلِ إنْ صَحَّ فَعَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ ، وَالتَّقْدِيرُ مَنْ بَلَّغَ التَّعْزِيرَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ ، وَفِيهِ نَبْوَةٌ تُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّحِيحِ ، وَأَرَى أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ مَنْ بَلَّغَ الضَّرْبَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ .
وَالتَّعْزِيرُ أَكْثَرُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا وَأَقَلُّهُ ثَلَاثُ جَلَدَاتٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ } وَإِذَا تَعَذَّرَ تَبْلِيغُهُ حَدًّا فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ نَظَرَا إلَى أَدْنَى الْحَدِّ وَهُوَ حَدُّ الْعَبْدِ فِي الْقَذْفِ فَصَرَفَاهُ إلَيْهِ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ سَوْطًا فَنَقَصَا مِنْهُ سَوْطًا .
وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ أَقَلَّ الْحَدِّ فِي الْأَحْرَارِ إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْحُرِّيَّةُ ثُمَّ نَقَصَ سَوْطًا فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ نَقَصَ خَمْسَةً وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ فَقَلَّدَهُ ثُمَّ قَدَّرَ الْأَدْنَى فِي الْكِتَابِ بِثَلَاثِ جَلَدَاتٍ لِأَنَّ مَا دُونَهَا لَا يَقَعُ بِهِ الزَّجْرُ ، وَذَكَرَ مَشَايِخُنَا أَنَّ أَدْنَاهُ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْجُرْمِ وَصِغَرِهِ ، وَعَنْهُ أَنْ يُقَرَّبَ كُلُّ نَوْعٍ مِنْ بَابِهِ ؛ فَيُقَرَّبُ الْمَسُّ وَالْقُبْلَةُ مِنْ حَدِّ الزِّنَا ، وَالْقَذْفُ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ .
( فَإِذَا تَعَذَّرَ تَبْلِيغُهُ حَدًّا فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ نَظَرَا إلَى أَدْنَى الْحَدِّ ) وَهُوَ حَدُّ الْعَبْدِ فِي الْقَذْفِ ( فَصَرَفَاهُ إلَيْهِ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ فَنَقَصَا مِنْهُ سَوْطًا ) وَهَذَا حَقٌّ لِأَنَّ مَنْ اعْتَبَرَ حَدَّ الْأَحْرَارِ فَقَدْ بَلَغَ حَدًّا وَهُوَ حَدُّ الْعَبْدِ ، وَالتَّنْكِيرُ فِي الْحَدِيثِ يُنَافِيهِ .
وَوَجْهُ نُقْصَانِ السَّوْطِ الْوَاحِدِ فِي الْمَذْهَبَيْنِ جَمِيعًا هُوَ أَنَّ الْبُلُوغَ إلَى تَمَامِ الْحَدِّ تَعَذَّرَ وَلَيْسَ بَعْدَهُ قَدْرٌ مُعَيَّنٌ كَرُبُعٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ عُشْرٍ فَيُصَارُ إلَى أَقَلِّ مَا يُمْكِنُ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ وَنَظِيرُهُ وَقْتُ الصَّلَاةِ ، فَإِنَّ الْكُلَّ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا وَلَيْسَ بَعْدَهُ جُزْءٌ مُعَيَّنٌ صُيِّرَ إلَى أَقَلَّ مَا يُمْكِنُ وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَيَقْرَبُ اللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ مِنْ حَدِّ الزِّنَا ) يَعْنِي فَيَكُونُ فِيهِ أَكْثَرُ الْجَلَدَاتِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْقَذْفُ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ ) يَعْنِي فَيَكُونُ فِيهِ أَقَلُّ الْجَلَدَاتِ .
قَالَ ( وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَضُمَّ إلَى الضَّرْبِ فِي التَّعْزِيرِ الْحَبْسَ فَعَلَ ) لِأَنَّهُ صَلُحَ تَعْزِيرًا وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى جَازَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ فَجَازَ أَنْ يُضَمَّ إلَيْهِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُشْرَعْ فِي التَّعْزِيرِ بِالتُّهْمَةِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ كَمَا شُرِعَ فِي الْحَدِّ لِأَنَّهُ مِنْ التَّعْزِيرِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ ) يَعْنِي الْحَبْسَ ( صَلَحَ تَعْزِيرًا ) وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ ) أَيْ بِالْحَبْسِ وَهُوَ مَا رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ رَجُلًا لِلتَّعْزِيرِ } ( وَقَوْلُهُ وَلِهَذَا لَمْ يَشْرَعْ فِي التَّعْزِيرِ بِالتُّهْمَةِ ) لِإِيضَاحِ أَنَّ الْحَبْسَ يَصْلُحُ لِلتَّعْزِيرِ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ : أَيْ لَمْ يُشْرَعْ الْحَبْسُ بِسَبَبِ التُّهْمَةِ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يُوجِبُ التَّعْزِيرَ لَوْ ثَبَتَ قَبْلَ ثُبُوتِهِ بِأَنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ مَسْتُورَانِ عَلَى أَنَّهُ قَذَفَ مُحْصَنًا فَقَالَ يَا فَاسِقُ أَوْ يَا كَافِرُ فَلَا يُحْبَسُ الْمُتَّهَمُ قَبْلَ تَعْدِيلِ الشُّهُودِ .
وَفِي فَصْلِ الْحَدِّ يُحْبَسُ بِالتُّهْمَةِ لِأَنَّ فِي بَابِ الْحَدِّ شَيْئًا آخَرَ فَوْقَ الْحَبْسِ وَهُوَ إقَامَةُ الْحَدِّ عِنْدَ وُجُودِ مُوجِبِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ فِي تُهْمَتِهِ لِتَنَاسُبِ إقَامَةِ الْعُقُوبَةِ الْأَدْنَى بِمُقَابَلَةِ الذَّنْبِ الْأَدْنَى .
وَفِي بَابِ الْأَمْوَالِ وَالتَّعْزِيرِ لَا يُحْبَسُ بِالتُّهْمَةِ لِأَنَّ الْأَقْصَى فِيهِمَا عُقُوبَةُ الْحَبْسِ ، فَلَوْ حُبِسَا بِالتُّهْمَةِ فِيهِمَا لَكَانَ إقَامَةُ الْعُقُوبَةِ الْأَعْلَى بِمُقَابَلَةِ الذَّنْبِ الْأَدْنَى وَهُوَ مِمَّا يَأْبَاهُ الشَّرْعُ ، وَلَمَّا لَمْ يُشْرَعْ الْحَبْسُ عِنْدَ تُهْمَةِ مُوجِبِ التَّعْزِيرِ عُلِمَ أَنَّ الْحَبْسَ مِنْ التَّعْزِيرِ ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْحَبْسُ مِنْ التَّعْزِيرِ لَحُبِسَ عِنْدَ تُهْمَةِ مُوجِبِ التَّعْزِيرِ كَمَا يُحْبَسُ عِنْدَ تُهْمَةِ مُوجِبِ الزِّنَا فَلَمَّا كَانَ الْحَبْسُ مِنْ التَّعْزِيرِ بِهَذَا الدَّلِيلِ جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى الضَّرْبِ إنْ رَأَى ذَلِكَ ، كَمَا أَنَّ لِلْإِمَامِ الرَّأْيَ فِي تَقْدِيرِ الضَّرَبَاتِ فَكَذَلِكَ فِي ضَمِّ الْحَبْسِ إلَى الضَّرْبِ .
قَالَ : وَأَشَدُّ الضَّرْبِ التَّعْزِيرُ .
قَالَ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي : وَضَرْبُ التَّعْزِيرِ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الزَّانِي ، وَضَرْبُ الزَّانِي أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الشَّارِبِ ، وَضَرْبُ الشَّارِبِ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الْقَاذِفِ ، وَضَرْبُ الْقَاذِفِ أَخَفُّ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا كَانَ
ضَرْبُ التَّعْزِيرِ أَشَدَّ لِأَنَّهُ نَاقِصُ الْمِقْدَارِ وَهُوَ تَخْفِيفٌ .
قَالَ ( وَأَشَدُّ الضَّرْبِ التَّعْزِيرُ ) لِأَنَّهُ جَرَى التَّخْفِيفُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ فَلَا يُخَفَّفُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى فَوَاتِ الْمَقْصُودِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُخَفَّفْ مِنْ حَيْثُ التَّفْرِيقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ قَالَ ( ثُمَّ حَدُّ الزِّنَا ) لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ ، وَحَدُّ الشُّرْبِ ثَبَتَ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ ، وَلِأَنَّهُ أَعْظَمُ جِنَايَةً حَتَّى شُرِعَ فِيهِ الرَّجْمُ ( ثُمَّ حَدُّ الشُّرْبِ ) لِأَنَّ سَبَبَهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ ( ثُمَّ حَدُّ الْقَذْفِ ) لِأَنَّ سَبَبَهُ مُحْتَمِلٌ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ صَادِقًا وَلِأَنَّهُ جَرَى فِيهِ التَّغْلِيظُ مِنْ حَيْثُ رَدُّ الشَّهَادَةِ فَلَا يُغَلَّظُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ .( فَلَا يُخَفَّفُ ثَانِيًا فِي وَصْفِهِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْوِيتِ الْمَقْصُودِ ) وَهُوَ الزَّجْرُ .
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي شِدَّتِهِ ، قَالَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ : قَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ الْجَمْعُ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ بِجَمْعِ الْأَسْوَاطِ بِعُضْوٍ وَاحِدٍ وَلَا يُفَرَّقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا بَلْ شِدَّتُهُ فِي الضَّرْبِ لَا فِي الْجَمْعِ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَجُلًا أَقْسَمَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَضَرَبَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَلَاثِينَ سَوْطًا كُلُّهَا يُبْضِعُ وَيَحْدُرُ : أَيْ يَشُقُّ وَيُوَرِّمُ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَرَبَهُ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ رَحِمَهُ اللَّهُ اخْتَارَهُ يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ وَلِهَذَا لَمْ يُخَفَّفْ مِنْ حَيْثُ التَّفْرِيقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ ، فَلَوْ كَانَ الشِّدَّةُ عِبَارَةً عَنْ عَدَمِ التَّفْرِيقِ لَزِمَ تَوْضِيحُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ حَدُّ الزِّنَا ) ظَاهِرٌ .
( وَمَنْ حَدَّهُ الْإِمَامُ أَوْ عَزَّرَهُ فَمَاتَ فَدَمُهُ هَدَرٌ ) لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ بِأَمْرِ الشَّرْعِ ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْفِصَادِ وَالْبَزَّاغِ ، بِخِلَافِ الزَّوْجِ إذَا عَزَّرَ زَوْجَتَهُ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فِيهِ ، وَالْإِطْلَاقَاتُ تَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ خَطَأٌ فِيهِ ، إذْ التَّعْزِيرُ لِلتَّأْدِيبِ غَيْرَ أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ نَفْعَ عَمَلِهِ يَرْجِعُ عَلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الْغُرْمُ فِي مَالِهِمْ .
قُلْنَا لَمَّا اسْتَوْفَى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ صَارَ كَأَنَّ اللَّهَ أَمَاتَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ حَدَّهُ الْإِمَامُ أَوْ عَزَّرَهُ فَمَاتَ فَدَمُهُ هَدَرٌ ) ذَكَرَ مَسْأَلَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَمْرِ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي السَّلَامَةَ فِي إتْيَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، وَالْأُخْرَى عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ نَقِيضُهَا .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَمْرَ لِطَلَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ مِنْ الْإِثْبَاتَاتِ وَهِيَ لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُشْبِهُ الْقِمَارَ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الْمَأْمُورِ ذَلِكَ الْفِعْلُ بِالْأَمْرِ فَيَأْتِي الْمَأْمُورُ بِمَا فِي وُسْعِهِ غَيْرَ مُرَاقِبٍ لِلسَّلَامَةِ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَتَحَقَّقُ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ فَيَبْقَى الْمَأْمُورُ فِي ضَرْبِ الْوُجُوبِ ، وَأَمَّا الْإِطْلَاقُ فَإِسْقَاطٌ لِكَوْنِهِ رَفْعُ الْقَيْدِ وَهُوَ قَابِلٌ لِلتَّعْلِيقِ فَيَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ ، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُطْلَقَ فِي اخْتِيَارِ فَاعِلِهِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْفَاعِلِ إنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَيَّدَ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي تَرْكِ وَصْفِ السَّلَامَةِ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي التَّعْزِيرِ : تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ خَطَأٌ فِيهِ إذْ التَّعْزِيرُ لِلتَّأْدِيبِ ، غَيْرَ أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ نَفْعَ عَمَلِهِ يَعُودُ إلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الْغُرْمُ فِي مَالِهِمْ .
قُلْنَا : إنَّهُ لَمَّا اسْتَوْفَى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ صَارَ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَاتَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ ) وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كِتَابُ السَّرِقَةِ السَّرِقَةُ فِي اللُّغَةِ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَالِاسْتِسْرَارِ ، وَمِنْهُ اسْتِرَاقُ السَّمْعِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إلَّا مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ } وَقَدْ زِيدَتْ عَلَيْهِ أَوْصَافٌ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى مَا يَأْتِيك بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ مُرَاعًى فِيهَا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً أَوْ ابْتِدَاءً لَا غَيْرَ ، كَمَا إذَا نَقَبَ الْجِدَارَ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ وَأَخَذَ الْمَالَ مِنْ الْمَالِكِ مُكَابَرَةً عَلَى الْجِهَارِ .
وَفِي الْكُبْرَى : أَعْنِي قَطْعَ الطَّرِيقِ مُسَارَقَةُ عَيْنِ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَصَدِّي لِحِفْظِ الطَّرِيقِ بِأَعْوَانِهِ .
وَفِي الصُّغْرَى : مُسَارَقَةُ عَيْنِ الْمَالِكِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ .
كِتَابُ السَّرِقَةِ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الزَّوَاجِرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِصِيَانَةِ النُّفُوسِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ الزَّوَاجِرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ ، لِأَنَّ صِيَانَةَ النَّفْسِ أَقْدَمُ مِنْ صِيَانَةِ الْمَالِ ، وَالسَّرِقَةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وقَوْله تَعَالَى { إلَّا مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ } مَعْنَاهُ اسْتَمَعَ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ زِيدَتْ عَلَيْهِ أَوْصَافٌ فِي الشَّرِيعَةِ ) هِيَ أَنْ يُقَالَ : السَّرِقَةُ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ نِصَابًا مُحْرَزًا لِلتَّمَوُّلِ غَيْرَ مُتَسَارِعٍ إلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلَا شُبْهَةٍ ( وَالْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ ) وَهُوَ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَالِاسْتِسْرَارِ أَمْرٌ ( مُرَاعًى فِيهَا ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : اعْلَمْ أَنَّ مَا نَقَلَهُ الشَّارِعُ إلَيْنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا مَا هُوَ الْمُقَرَّرُ عَلَى مَا أَنْبَأَنَا بِهِ اللُّغَةُ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَجَاءَ إخْوَةُ يُوسُفَ } { وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ } وَالثَّانِي مَا هُوَ الْمَعْدُولُ عَمَّا أَنْبَأَنَا بِهِ اللُّغَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ شَرْعًا عِبَارَةٌ عَنْ الْأَرْكَانِ الْمَعْهُودَةِ وَلَيْسَ لَهَا إنْبَاءٌ لُغَوِيٌّ وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهَا .
وَالثَّالِثُ مَا أَنْبَأَنَا بِهِ اللُّغَةُ مُقَرَّرٌ مَعَ زِيَادَةِ شَيْءٍ فِيهِ شَرْعًا كَالسَّرِقَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءُ وَهِيَ مُقَرَّرَةٌ فِي الشَّرْعِ مَعَ زِيَادَةِ أَوْصَافٍ ، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ وَالزَّكَاةُ هُوَ النَّمَاءُ وَالْحَجُّ هُوَ الْقَصْدُ ، وَالْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةُ فِي كُلِّ ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ مَعَ زِيَادَةِ أَوْصَافٍ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ نَظَرٌ عَلَى الْمِثَالِ وَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ وَقَوْلُهُ ( كَمَا إذَا نَقَبَ الْجِدَارَ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ ) نَظِيرُ مَا يَكُونُ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ
مَوْجُودًا فِيهِ ابْتِدَاءً وَتَرَكَ نَظِيرَ الْأَوَّلِ لِظُهُورِهِ ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَقْطَعَ فِيمَا إذَا نَقَبَ الْجِدَارَ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ وَأَخَذَ الْمَالَ مِنْ الْمَالِكِ مُكَابَرَةً : أَيْ مُقَاتَلَةً بِسِلَاحٍ لِأَنَّ رُكْنَ السَّرِقَةِ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَالِاسْتِسْرَارِ ، وَالْخُفْيَةُ إنْ وُجِدَتْ وَقْتَ الدُّخُولِ لَمْ تُوجَدْ وَقْتَ الْأَخْذِ فَإِنَّ الْأَخْذَ حَصَلَ بِطَرِيقِ الْمُغَالَبَةِ لَكِنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَقَالُوا بِوُجُوبِ الْقَطْعِ لِأَنَّهُمْ لَوْ اعْتَبَرُوا الْخُفْيَةَ وَقْتَ الْأَخْذِ لَامْتَنَعَ الْقَطْعُ فِي أَكْثَرِ السَّرِقَاتِ لِأَنَّ أَكْثَرَهَا فِي اللَّيَالِيِ يَصِيرُ مُغَالَبَةً فِي الِانْتِهَاءِ لِأَنَّهُ وَقْتٌ لَا يَلْحَقُ الْغَوْثُ وَقَوْلُهُ ( أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ ) يَعْنِي الْمُودِعَ وَالْمُسْتَعِيرَ وَالْمُضَارِبَ وَالْغَاصِبَ وَالْمُرْتَهِنَ .
قَالَ ( وَإِذَا سَرَقَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَجَبَ الْقَطْعُ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } الْآيَةَ وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَتَحَقَّقُ دُونَهُمَا وَالْقَطْعُ جَزَاءُ الْجِنَايَةِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْدِيرِ بِالْمَالِ الْخَطِيرِ لِأَنَّ الرَّغَبَاتِ تَفْتُرُ فِي الْحَقِيرِ ، وَكَذَا أَخْذُهُ لَا يَخْفَى فَلَا يَتَحَقَّقُ رُكْنُهُ وَلَا حِكْمَةُ الزَّجْرِ لِأَنَّهَا فِيمَا يَغْلِبُ ، وَالتَّقْدِيرُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مَذْهَبُنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّقْدِيرُ بِرُبْعِ دِينَارٍ .
وَعِنْدَ مَالِكٍ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ .
لَهُمَا أَنَّ الْقَطْعَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ إلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ ، وَأَقَلُّ مَا نُقِلَ فِي تَقْدِيرِهِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ ، وَالْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ الْمُتَيَقَّنِ بِهِ أَوْلَى ، غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : { كَانَتْ قِيمَةُ الدِّينَارِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا } وَالثَّلَاثَةُ رُبْعُهَا .
وَلَنَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَكْثَرِ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْلَى احْتِيَالًا لِدَرْءِ الْحَدِّ .
وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْأَقَلِّ شُبْهَةَ عَدَمِ الْجِنَايَةِ وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْحَدِّ ، وَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا قَطْعَ إلَّا فِي دِينَارٍ ، أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ } وَاسْمُ الدَّرَاهِمِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَضْرُوبَةِ عُرْفًا فَهَذَا يُبَيِّنُ لَك اشْتِرَاطَ الْمَضْرُوبِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ رِعَايَةً لِكَمَالِ الْجِنَايَةِ ، حَتَّى لَوْ سَرَقَ عَشَرَةً تِبْرًا قِيمَتُهَا أَنْقَصُ مِنْ عَشَرَةٍ مَضْرُوبَةٍ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ ، وَالْمُعْتَبَرُ وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي عَامَّةِ الْبِلَادِ .
وَقَوْلُهُ أَوْ
مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ غَيْرَ الدَّرَاهِمِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِهَا وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا ، وَلَا بُدَّ مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ دَارِئَةٌ ، وَسَنُبَيِّنُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ ( وَإِذَا سَرَقَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ ذَلِكَ مَضْرُوبَةً مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ ) عَلَى مَا سَيَظْهَرُ لَك مَعْنَاهُ ( وَجَبَ الْقَطْعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } ) فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا تَرَتَّبَ عَلَى صِفَةٍ كَانَ مَصْدَرُهَا عِلَّةً لَهُ كَمَا عُرِفَ ، وَالْآيَةُ كَمَا تَرَى عَامٌّ ، لَكِنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لِأَنَّهُ خِطَابُ الشَّرْعِ فَهُوَ تَكْلِيفٌ ، وَلَا تَكْلِيفَ إلَّا مَعَ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهِمَا لِتَحَقُّقِ الْجِنَايَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْجَزَاءِ .
وَأَمَّا تَقْدِيرُ الْمَالِ فَلِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ .
وَأَمَّا أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ فَلَا يَعْتَبِرُونَ النِّصَابَ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُسْتَدِلًّا بِظَاهِرِ الْآيَةِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى النِّصَابِ أَصْلًا ، بِخِلَافِ كَوْنِهِ مَالًا مُحْرَزًا فَإِنَّ لَفْظَ السَّرِقَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْمُبَاحِ يُسَمَّى اصْطِيَادًا أَوْ احْتِطَابًا لَا سَرِقَةً ، وَكَذَلِكَ مَا لَيْسَ بِمُحْرَزٍ فَأَخْذُهُ لَا يُسَمَّى سَرِقَةً لِانْعِدَامِ مُسَارَقَةِ عَيْنِ الْحَافِظِ .
وَقُلْنَا : مَعْنَى اسْمِ السَّارِقِ يَدُلُّ عَلَى خَطَرِ الْمَأْخُوذِ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ السَّرِقَةِ وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنْ الْحَرِيرِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْدِيرِ بِالْمَالِ الْخَطِيرِ مُحَافَظَةً عَلَى الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ ، وَالتَّقْدِيرُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا قَطْعَ إلَّا فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَاسْمُ الدَّرَاهِمِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَضْرُوبَةِ عُرْفًا ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٌ .
وَاسْتِدْلَالٌ عَلَيْهِ بِلَفْظِ الدَّرَاهِمِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُدُورِيُّ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ الْأَصَحُّ ) احْتِرَازٌ عَمَّا رَوَى الْحَسَنُ
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَضْرُوبَةَ وَغَيْرَهَا سَوَاءٌ ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
فَإِنْ قُلْت : رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ يَدَ السَّارِقِ لَمْ تُقْطَعْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا فِي ثَمَنِ مِجَنِّ حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ } ، وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَطَعَ سَارِقًا فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ } .
وَقَدْ أَخَذَ بِهِ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَرَوَتْ عَمْرَةُ عَنْ عَائِشَةَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْطَعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا } ، وَبِهِ أَخَذَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمَا وَجْهُ دَفْعِ ذَلِكَ ؟ قُلْت : مَدْلُولُ الْحَدِيثَيْنِ وَاحِدٌ لِأَنَّ قِيمَةَ الدِّينَارِ كَانَتْ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثَلَاثُ دَرَاهِمَ كَانَتْ رُبُعَ دِينَارٍ ، وَيُعَارِضُهُمَا مَا رُوِيَ فِي السُّنَنِ وَشَرْحِ الْآثَارِ مُسْنَدًا إلَى عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ رَجُلًا فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ } ، وَلَمَّا تَعَارَضَا وَلَا مُرَجِّحَ صِرْنَا إلَى إطْلَاقِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا قَطَعَ إلَّا فِي دِينَارٍ } الْحَدِيثَ ، وَإِلَى الْمَعْقُولِ وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ بِمَذْهَبِنَا يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ بِمَذْهَبِهِمَا مَعَ اشْتِمَالِهِ عَلَى الِاحْتِيَالِ لِلدَّرْءِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ .
قَالَ ( وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ فِي الْقَطْعِ سَوَاءٌ ) لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يُفَصِّلْ ، وَلِأَنَّ التَّنْصِيفَ مُتَعَذِّرٌ فَيَتَكَامَلُ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ .قَالَ ( وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ فِي الْقَطْعِ سَوَاءٌ ) قَدَّمَ ذِكْرَ الْعَبْدِ عَلَى الْحُرِّ لِكَوْنِهِ أَهَمَّ لِأَنَّ عَدَمَ التَّسَاوِي إنَّمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ جِهَتِهِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ وَبَيَانٌ .
( وَيَجِبُ الْقَطْعُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يُقْطَعُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ مَرَّتَيْنِ ) وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُمَا فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِأَنَّهُ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ فَيُعْتَبَرُ بِالْأُخْرَى وَهِيَ الْبَيِّنَةُ كَذَلِكَ اعْتَبَرْنَا فِي الزِّنَا .
وَلَهُمَا أَنَّ السَّرِقَةَ قَدْ ظَهَرَتْ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً فَيُكْتَفَى بِهِ كَمَا فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالشَّهَادَةِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تُفِيدُ فِيهَا تَقْلِيلَ تُهْمَةِ الْكَذِبِ وَلَا تُفِيدُ فِي الْإِقْرَارِ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ .
وَبَابُ الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْحَدِّ لَا يَنْسَدُّ بِالتَّكْرَارِ وَالرُّجُوعُ فِي حَقِّ الْمَالِ لَا يَصِحُّ أَصْلًا لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يُكَذِّبُهُ ، وَاشْتِرَاطُ الزِّيَادَةِ فِي الزِّنَا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ .
قَالَ ( وَيَجِبُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ) لِتَحَقُّقِ الظُّهُورِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُمَا الْإِمَامُ عَنْ كَيْفِيَّةِ السَّرِقَةِ وَمَاهِيَّتِهَا وَزَمَانِهَا وَمَكَانِهَا لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ كَمَا مَرَّ فِي الْحُدُودِ ، وَيَحْبِسُهُ إلَى أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ لِلتُّهْمَةِ .
قَوْلُهُ ( أَنَّ السَّرِقَةَ ، قَدْ ظَهَرَتْ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً ) السَّرِقَةُ ظَهَرَتْ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا تَظْهَرُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ، وَكُلُّ مَا يَظْهَرُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ يَظْهَرُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَغَيْرِهِمَا ، وَكُلُّ مَا يَظْهَرُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً يُكْتَفَى بِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الزِّيَادَةِ ، وَإِذَا تَلَمَّحْتَ هَذَا الْبَيَانَ وَجَدْت الِاعْتِرَاضَ بِأَنَّ الزِّنَا أَيْضًا يَظْهَرُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً سَاقِطًا قَوْلُهُ وَلَا اعْتِبَارَ بِالشَّهَادَةِ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ بِالْأُخْرَى بِبَيَانِ الْفَارِقِ ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ تُفِيدُ فِيهَا تَقْلِيلُ تُهْمَةِ الْكَذِبِ وَلَا تُفِيدُ فِي الْإِقْرَارِ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَبَابُ الرُّجُوعِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّمَا يُشْتَرَطُ التَّكْرَارُ لِقَطْعِ احْتِمَالِ الرُّجُوعِ كَمَا فِي الزِّنَا .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ مِرَارًا كَثِيرَةً ثُمَّ رَجَعَ صَحَّ رُجُوعُهُ فِي حَقِّ الْحَدِّ لِأَنَّهُ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فِيهِ ، بِخِلَافِ الرُّجُوعِ عَنْ الْمَالِ فَإِنَّ لَهُ فِيهِ مُكَذِّبًا وَهُوَ صَاحِبُ الْمَالِ فَلَا يَصِحُّ ، فَظَهَرَ بِهَذَا أَنْ لَا فَائِدَةَ فِي تَكْرَارِ الْإِقْرَارِ لَا فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَلَا فِي حَقِّ إسْقَاطِ ضَمَانِ الْمَالِ بِالْإِقْرَارِ .
وَقَوْلُهُ ( وَاشْتِرَاطُ الزِّيَادَةِ فِي الزِّنَا ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ اعْتَبَرْنَا فِي الزِّنَا ، ( وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُمَا الْإِمَامُ عَنْ كَيْفِيَّةِ السَّرِقَةِ ) فَيَقُولَ لَهُ كَيْفَ سَرَقْت لِجَوَازِ أَنَّهُ نَقَبَ الْبَيْتَ وَأَدْخَلَ يَدَهُ وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ( وَعَنْ مَاهِيَّتِهَا ) لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ شَيْئًا تَافِهًا وَلَا قَطْعَ فِيهِ ، وَهَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّ مَاهِيَّةَ السَّرِقَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا لَا يَذْكُرُهَا إلَّا آحَادُ الْفُقَهَاءِ فَيَحْتَاجُ إلَى حُضُورِ الْفُقَهَاءِ شَرْطًا لِظُهُورِهِ ، وَفِي ذَلِكَ سَدُّ بَابِ
الْقَطْعِ ( وَعَنْ زَمَانِهَا ) فِيمَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ لِجَوَازِ تَقَادُمِ الْعَهْدِ الْمَانِعِ عَنْ الْقَطْعِ لِوُجُودِ التُّهْمَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ ، فَإِنَّ التَّقَادُمَ فِيهِ لَيْسَ بِمَانِعٍ لِعَدَمِهَا فَلَا يَسْأَلُ عَنْ الزَّمَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : الشَّاهِدُ فِي تَأْخِيرِ الشَّهَادَةِ هُنَا غَيْرُ مُتَّهَمٍ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ بِدُونِ الدَّعْوَى فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْأَلَ فِيمَا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ كَمَا لَا يَسْأَلُ فِيمَا إذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ .
قُلْنَا : إنَّ الْجَوَابَ قَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا ( وَعَنْ مَكَانِهَا ) لِجَوَازِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ : وَيَسْأَلُهُمَا عَنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَيْضًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ أَوْ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ ، وَلَعَلَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ حَاضِرٌ يُخَاصِمُ وَالشُّهُودُ تَشْهَدُ بِالسَّرِقَةِ مِنْهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى السُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ ( وَيَحْبِسُهُ ) أَيْ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِالسَّرِقَةِ فَيُحْبَسُ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ } .
( قَالَ وَإِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي سَرِقَةٍ فَأَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ ، وَإِنْ أَصَابَهُ أَقَلُّ لَا يُقْطَعُ ) لِأَنَّ الْمُوجِبَ سَرِقَةُ النِّصَابِ وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِجِنَايَتِهِ فَيُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ فِي حَقِّهِوَقَوْلُهُ ( وَإِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ ) ظَاهِرٌ .
وَاسْتُشْكِلَ بِمَا إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ كُلُّهُمْ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْقَتْلُ عَلَى الْكَمَالِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقِصَاصَ يَتَعَلَّقُ بِإِخْرَاجِ الرُّوحِ وَهُوَ لَا يَتَجَزَّأُ فَيُضَافُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَلًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ مَا يُقْطَعُ فِيهِ وَمَا لَا يُقْطَعُ ( وَلَا قَطْعَ فِيمَا يُوجَدُ تَافِهًا مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْخَشَبِ وَالْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ وَالسَّمَكِ وَالطَّيْرِ وَالصَّيْدِ وَالزِّرْنِيخِ وَالْمَغَرَةِ وَالنُّورَةِ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ { عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَتْ الْيَدُ لَا تُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ } ، أَيْ الْحَقِيرِ ، وَمَا يُوجَدُ جِنْسُهُ مُبَاحًا ، فِي الْأَصْلِ بِصُورَتِهِ غَيْرُ مَرْغُوبٍ فِيهِ حَقِيرٌ تَقِلُّ الرَّغَبَاتُ فِيهِ وَالطِّبَاعُ لَا تَضَنُّ بِهِ ، فَقَلَّمَا يُوجَدُ أَخْذُهُ عَلَى كُرْهٍ مِنْ الْمَالِكِ فَلَا حَاجَةَ إلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ فِي سَرِقَةِ مَا دُونَ النِّصَابِ وَلِأَنَّ الْحِرْزَ فِيهَا نَاقِصٌ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْخَشَبَ يُلْقَى عَلَى الْأَبْوَابِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الدَّارِ لِلْعِمَارَةِ لَا لِلْإِحْرَازِ وَالطَّيْرُ يَطِيرُ وَالصَّيْدُ يَفِرُّ وَكَذَا الشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ تُورِثُ الشُّبْهَةَ ، وَالْحَدُّ يَنْدَرِئُ بِهَا .
وَيَدْخُلُ فِي السَّمَكِ الْمَالِحُ وَالطَّرِيُّ ، وَفِي الطَّيْرِ الدَّجَاجُ وَالْبَطُّ وَالْحَمَامُ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا قَطْعَ فِي الطَّيْرِ } وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا الطِّينَ وَالتُّرَابَ وَالسِّرْقِينَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمَا مَا ذَكَرْنَا .
بَابُ مَا يُقْطَعُ فِيهِ وَمَا لَا يُقْطَعُ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ تَفْسِيرِ السَّرِقَةِ وَشُرُوطِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ مَسْرُوقًا يُوجِبُ الْقَطْعَ وَمَسْرُوقًا لَا يُوجِبُهُ وَإِنْ وُجِدَ فِيهِ النِّصَابُ ، وَلَا يَرِدُ مَا قِيلَ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَهُ وَإِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي سَرِقَةٍ فِي هَذَا الْبَابِ ، لِأَنَّهُ .
إنْ أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابٌ كَانَ مِمَّا يُقْطَعُ فِيهِ ، وَإِنْ أَصَابَهُ أَقَلُّ كَانَ مِمَّا لَا يُقْطَعُ فِيهِ لِأَنَّ هَذَا الْبَابَ لِبَيَانِ مَا يُقْطَعُ فِيهِ وَمَا لَا يُقْطَعُ بَعْدَ وُجُودِ النِّصَابِ ( قَوْلُهُ لَا قَطْعَ فِيمَا يُوجَدُ تَافِهًا ) ظَاهِرٌ ، وَالْمَغَرَةُ بِالْفَتَحَاتِ الثَّلَاثِ الطِّينُ الْأَحْمَرُ ، وَتَسْكِينُ الْغَيْنِ فِيهِ لُغَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا يُوجَدُ جِنْسُهُ ) مُبْتَدَأٌ ، وَقَوْلُهُ حَقِيرٌ خَبَرُهُ .
وَقَوْلُهُ ( بِصُورَتِهِ ) احْتِرَازٌ عَنْ الْأَبْوَابِ وَالْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْخَشَبِ وَالْحُصْرِ الْبَغْدَادِيَّةِ ، فَإِنَّ فِي سَرِقَتِهَا الْقَطْعَ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا مِنْ الْخَشَبِ ، وَأَصْلُ الْحَصِيرِ يُوجَدُ مُبَاحًا لِتَغَيُّرِهَا عَنْ صُورَتِهَا الْأَصْلِيَّةِ بِالصَّنْعَةِ الْمُتَقَوِّمَةِ .
وَقَوْلُهُ ( غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهِ ) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوَاهِرِ فَإِنَّهَا تُوجَدُ مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَكِنَّهَا مَرْغُوبٌ فِيهَا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ .
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ : إذَا سَرَقَهَا عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي تُوجَدُ مُبَاحَةً وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مُخْتَلِطَةً بِالْحَجَرِ وَالتُّرَابِ لَا يُقْطَعُ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَافِهٍ جِنْسًا ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ لَا يَتْرُكُهُ عَادَةً .
وَقَوْلُهُ ( تَقِلُّ الرَّغَبَاتُ فِيهِ ) جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالطِّبَاعُ لَا تَضَنُّ بِهِ ) أَيْ لَا تَبْخَلُ بِفَتْحِ الضَّادِ وَهُوَ الْأَصْلُ وَجَاءَ بِالْكَسْرِ أَيْضًا .
وَقَوْلُهُ ( فَقَلَّمَا يُوجَدُ أَخْذُهُ عَلَى كُرْهٍ مِنْ الْمَالِكِ ) أَيْ قَلِيلٌ وُجُودُ
لُحُوقِ الْمَلَالَةِ بِالْمَالِكِ عِنْدَ أَخْذِ الْأَشْيَاءِ مِنْهُ ، بَلْ يَرْضَى بِالْأَخْذِ تَوَقِّيًا عَنْ لُحُوقِ سِمَةِ خَسَاسَةِ الْهِمَّةِ وَتَفَادِيًا عَنْ نِسْبَتِهِ إلَى دَنَاءَةِ الطَّبِيعَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى شَرْعِ الزَّوَاجِرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالطَّيْرُ يَطِيرُ وَالصَّيْدُ يَفِرُّ ) يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ قَلَّتْ الرَّغْبَةُ فَلَا تُشْرَعُ الزَّوَاجِرُ فِي مِثْلِهِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ الْخَشَبُ يُلْقَى عَلَى الْأَبْوَابِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا الشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ ) أَيْ فِيمَا يُوجَدُ جِنْسُهُ مُبَاحًا ( وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ ) أَيْ الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ يُحْتَرَزُ بِهِ عَنْ الْأَبْوَابِ وَالْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْخَشَبِ كَمَا ذَكَرْنَا ( تُورِثُ الشُّبْهَةَ ) أَيْ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ بَعْدَ إحْرَازِهِ ( وَالْحَدُّ يَنْدَرِئُ بِهَا ) وَفِي التَّعْبِيرِ بِالشَّرِكَةِ الْعَامَّةِ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ : فِي الْكَلَأِ ، وَالْمَاءِ ، وَالنَّارِ } وَقَوْلُهُ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَالطَّيْرُ يَطِيرُ وَالصَّيْدُ يَفِرُّ وَالسَّمَكُ الْمَالِحُ هُوَ الْمُقَدَّدُ الَّذِي فِيهِ الْمِلْحُ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمَا مَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي حَدِيثَ عَائِشَةَ وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ وَالْجِمَارُ شَحْمُ النَّخْلِ وَهُوَ شَيْءٌ أَبْيَضُ يُقْطَعُ مِنْ رُءُوسِ النَّخْلِ وَيُؤْكَلُ ، وَالْوَدْيُ صِغَارُ النَّخْلِ .
قَالَ : ( وَلَا قَطْعَ فِيمَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَاللَّبَنِ وَاللَّحْمِ وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا فِي كَثَرٍ } وَالْكَثَرُ الْجُمَّارُ ، وَقِيلَ الْوَدِيُّ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا قَطْعَ فِي الطَّعَامِ } وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَالْمُهَيَّإِ لِلْأَكْلِ مِنْهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَاللَّحْمِ وَالثَّمَرِ لِأَنَّهُ يُقْطَعُ فِي الْحِنْطَةِ وَالسُّكَّرِ إجْمَاعًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقْطَعُ فِيهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ فَإِذَا آوَاهُ الْجَرِينُ أَوْ الْجِرَانُ قُطِعَ } قُلْنَا : أَخْرَجَهُ عَنْ وِفَاقِ الْعَادَةِ ، وَاَلَّذِي يُؤْوِيهِ الْجَرِينُ فِي عَادَتِهِمْ هُوَ الْيَابِسُ مِنْ الثَّمَرِ وَفِيهِ الْقَطْعُ .
قَالَ ( وَلَا قَطْعَ فِي الْفَاكِهَةِ عَلَى الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ الَّذِي لَمْ يُحْصَدْ ) لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ
وَقَوْلُهُ ( كَالْمُهَيَّإِ لِلْأَكْلِ ) يَعْنِي مِثْلَ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَأَمْثَالَهُمَا لِأَنَّهُ يُقْطَعُ فِي الْحِنْطَةِ وَالسُّكَّرِ بِالْإِجْمَاعِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَامُ عَامَ مَجَاعَةٍ وَقَحْطٍ ، أَمَّا إذَا كَانَ فَلَا قَطْعَ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ أَوْ لَا .
وَقَوْلُهُ ( كَاللَّحْمِ وَالثَّمَرِ ) اللَّحْمُ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ كَالْمُهَيَّإِ لِلْأَكْلِ مِنْهُ ، وَالثَّمَرُ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فَكَانَ كَلَامُهُ لَفًّا وَنَشْرًا ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يُقْطَعُ فِيهَا ) أَيْ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ اللَّبَنِ وَاللَّحْمِ وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ وَالطَّعَامِ ( وَالْجَرِينُ ) الْمِرْبَدُ : وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُلْقَى فِيهِ الرُّطَبُ لِيَجِفَّ ، وَقِيلَ هُوَ مَوْضِعٌ يُدَّخَرُ فِيهِ التَّمْرُ ( وَالْجِرَانُ ) مُقَدَّمُ عُنُقِ الْبَعِيرِ مِنْ مَذْبَحِهِ إلَى مَنْخَرِهِ ، وَالْجَمْعُ جُرُنٌ فَجَازَ أَنْ يُسَمَّى الْجِرَابُ الْمُتَّخَذُ مِنْهُ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَحَدَ الظَّرْفَيْنِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مِنْ الرَّاوِي قُلْنَا : أَخْرَجَهُ عَلَى وِفَاقِ الْعَادَةِ ) فَإِنَّ فِي عَادَتِهِمْ أَنَّ الْجَرِينَ لَا يُؤْوِي إلَّا الْيَابِسَ مِنْ الثَّمَرِ وَفِيهِ الْقَطْعُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ .
قَالَ ( وَلَا قَطْعَ فِي الْفَاكِهَةِ عَلَى الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ ) وَكَانَ هَذَا مَعْلُومًا مِنْ قَوْلِهِ وَالْفَاكِهَةُ الرَّطْبَةُ ، لَكِنْ أَعَادَهُ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ وَالزَّرْعُ الَّذِي لَمْ يُحْصَدْ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ فِيهَا .
( وَلَا قَطْعَ فِي الْأَشْرِبَةِ الْمُطْرِبَةِ ) لِأَنَّ السَّارِقَ يَتَأَوَّلُ فِي تَنَاوُلِهَا الْإِرَاقَةَ ، وَلِأَنَّ بَعْضَهَا لَيْسَ بِمَالٍ ، وَفِي مَالِيَّةِ بَعْضِهَا اخْتِلَافٌ فَتَتَحَقَّقُ شُبْهَةُ عَدَمِ الْمَالِيَّةِ .
قَالَ ( وَلَا فِي الطُّنْبُورِ ) لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعَازِفِ ( وَلَا فِي سَرِقَةِ الْمُصْحَفِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حِلْيَةٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى يَجُوزُ بَيْعُهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُهُ .
وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ يُقْطَعُ إذَا بَلَغَتْ الْحِلْيَةُ نِصَابًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمُصْحَفِ فَتُعْتَبَرُ بِانْفِرَادِهَا .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْآخِذَ يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهِ الْقِرَاءَةَ وَالنَّظَرَ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا مَالِيَّةَ لَهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَكْتُوبِ وَإِحْرَازُهُ لِأَجْلِهِ لَا لِلْجِلْدِ وَالْأَوْرَاقِ وَالْحِلْيَةِ وَإِنَّمَا هِيَ تَوَابِعُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّبَعِ ، كَمَنْ سَرَقَ آنِيَةً فِيهَا خَمْرٌ وَقِيمَةُ الْآنِيَةِ تَرْبُو عَلَى النِّصَابِ .
وَلَا قَطْعَ فِي الْأَشْرِبَةِ الْمُطْرِبَةِ ) أَيْ الْمُسْكِرَةِ : قَالَ فِي الصِّحَاحِ : الطَّرَبُ خِفَّةٌ تُصِيبُ الْإِنْسَانَ لِشِدَّةِ حُزْنٍ أَوْ سُرُورٍ ، وَفَسَّرَ السُّكْرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِأَنَّهُ غَلَبَةُ سُرُورٍ فِي الْعَقْلِ فَالْتَقَيَا فِي مَعْنَى السُّرُورِ فَلِذَلِكَ اُسْتُعِيرَ الْإِطْرَابُ لِلْإِسْكَارِ .
قَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ : لَا قَطْعَ فِي الْأَشْرِبَةِ الْمُطْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ وَهُوَ يُؤْذِنُ بِصِحَّةِ تَفْسِيرِ الْمُطْرِبَةِ بِالْمُسْكِرَةِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ بَعْضَهَا لَيْسَ بِمَالٍ ) أَيْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ كَالْخَمْرِ ( وَفِي مَالِيَّةِ بَعْضِهَا اخْتِلَافٌ ) يَعْنِي كَالْمُنَصَّفِ وَالْبَاذِقِ وَمَاءِ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ لِأَنَّهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُتَقَوِّمَةٌ خِلَافًا لَهُمَا ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْأَشْرِبَةَ بِكَوْنِهَا مُطْرِبَةً لِمَا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ ، وَيُقْطَعُ فِي الْخَلِّ لِأَنَّهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
وَنَقَلَ النَّاطِفِيُّ عَنْ كِتَابِ الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا قَطْعَ فِي الْخَلِّ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ خَمْرًا مَرَّةً ( وَلَا فِي الطُّنْبُورِ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعَازِفِ ) وَالْمَعَازِفُ آلَاتُ اللَّهْوِ الَّتِي يُضْرَبُ بِهَا الْوَاحِدُ عَزْفٌ رِوَايَةٌ عَنْ الْعَرَبِ .
قَوْلُهُ ( وَلَا فِي سَرِقَةِ الْمُصْحَفِ ) ظَاهِرٌ .
( وَلَا قَطْعَ فِي أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ ) لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ فَصَارَ كَبَابِ الدَّارِ بَلْ أَوْلَى ، لِأَنَّهُ يُحَرَّزُ بِبَابِ الدَّارِ مَا فِيهَا وَلَا يُحَرَّزُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ مَا فِيهِ حَتَّى لَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ مَتَاعِهِ .
قَالَ ( وَلَا الصَّلِيبِ مِنْ الذَّهَبِ وَلَا الشِّطْرَنْجِ وَلَا النَّرْدِ ) لِأَنَّهُ يَتَأَوَّلُ مَنْ أَخَذَهَا الْكَسْرَ نَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ ، بِخِلَافِ الدِّرْهَمِ الَّذِي عَلَيْهِ التِّمْثَالُ لِأَنَّهُ مَا أُعِدَّ لِلْعِبَادَةِ فَلَا تَثْبُتُ شُبْهَةُ إبَاحَةِ الْكَسْرِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الصَّلِيبُ فِي الْمُصَلَّى لَا يُقْطَعُ لِعَدَمِ الْحِرْزِ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتٍ آخَرَ يُقْطَعُ لِكَمَالِ الْمَالِيَّةِ وَالْحِرْزِ .وَالصَّلِيبُ ) شَيْءٌ مُثَلَّثٌ كَالتِّمْثَالِ يَعْبُدُهُ النَّصَارَى ( وَالشِّطْرَنْجُ ) بِكَسْرِ الشِّينِ ( وَالنَّرْدُ ) مَعْرُوفَانِ ، وَلَا قَطْعَ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ .
وَقَوْلُهُ ( إنْ كَانَ الصَّلِيبُ فِي الْمُصَلَّى ) أَيْ فِي مَوْضِعِ صَلَاةِ النَّصَارَى وَهُوَ مَعْبَدُهُمْ .
( وَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِ الصَّبِيِّ الْحُرِّ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ ) لِأَنَّ الْحُرَّ لَيْسَ بِمَالٍ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُلِيِّ تَبَعٌ لَهُ ، وَلِأَنَّهُ يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهِ الصَّبِيَّ إسْكَاتَهُ أَوْ حَمْلَهُ إلَى مُرْضِعَتِهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُقْطَعُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ هُوَ نِصَابٌ لِأَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ وَحْدَهُ فَكَذَا مَعَ غَيْرِهِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا سَرَقَ إنَاءَ فِضَّةٍ فِيهِ نَبِيذٌ أَوْ ثَرِيدٌ .
وَالْخِلَافُ فِي الصَّبِيِّ لَا يَمْشِي وَلَا يَتَكَلَّمُ كَيْ لَا يَكُونَ فِي يَدِ نَفْسِهِ .وَقَوْلُهُ ( وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُلِيِّ تَابِعٌ ) لَا يُقَالُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ مِنْ الْأَخْذِ هُوَ الْحُلِيُّ فَلَا يَكُونُ تَابِعًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَقْصُودَهُ لَأَخَذَ الْحُلِيَّ وَتَرَكَ الصَّبِيَّ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ وَحْدَهُ فَكَذَا مَعَ غَيْرِهِ ) مَعْنَاهُ سَرَقَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ وَمَا لَا يَجِبُ ، وَضَمُّ مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ إلَى مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ لَا يُسْقِطُهُ ، كَمَا لَوْ سَرَقَ ثَوْبًا خَلَقًا لَا يُسَاوِي نِصَابًا وَفِيهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى هَذَا إذَا سَرَقَ إنَاءَ فِضَّةٍ ) ظَاهِرٌ .
( وَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْعَبْدِ الْكَبِيرِ ) لِأَنَّهُ غَصْبٌ أَوْ خِدَاعٌ ( وَيُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ ) لِتَحَقُّقِهَا بِحَدِّهَا إلَّا إذَا كَانَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ هُوَ وَالْبَالِغُ سَوَاءٌ فِي اعْتِبَارِ يَدِهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يُقْطَعُ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ وَلَا يَتَكَلَّمُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مِنْ وَجْهٍ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَلَهُمَا أَنَّهُ مَالٌ مُطْلَقٌ لِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ أَوْ بِعَرْضِ أَنْ يَصِيرَ مُنْتَفَعًا بِهِ إلَّا أَنَّهُ انْضَمَّ إلَيْهِ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ .
( وَلَا قَطْعَ فِي الدَّفَاتِرِ كُلِّهَا ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِيهَا وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ ( إلَّا فِي دَفَاتِرِ الْحِسَابِ ) لِأَنَّ مَا فِيهَا لَا يُقْصَدُ بِالْأَخْذِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْكَوَاغِدَ .
قَالَ ( وَلَا فِي سَرِقَةِ كَلْبٍ وَلَا فَهْدٍ ) لِأَنَّ مِنْ جِنْسِهَا يُوجَدُ مُبَاحُ الْأَصْلِ غَيْرُ مَرْغُوبٍ فِيهِ وَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ظَاهِرٌ فِي مَالِيَّةِ الْكَلْبِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً .( وَالدَّفَاتِرُ ) جَمْعُ دَفْتَرٍ وَهِيَ الْكَرَارِيسُ ، وَلَا قَطْعَ فِيهَا كُلِّهَا سَوَاءٌ كَانَتْ لِلتَّفْسِيرِ أَوْ لِلْحَدِيثِ أَوْ لِلْفِقْهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا مَا فِيهَا وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ إلَّا فِي دَفَاتِرِ الْحِسَابِ ؛ لِأَنَّ مَا فِيهَا لَا يُقْصَدُ بِالْأَخْذِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْأَوْرَاقُ وَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ، فَإِذَا بَلَغَ قِيمَتُهُ نِصَابًا يُقْطَعُ .
وَعُمُومُ كَلَامِهِ يُشْعِرُ بِأَنَّ دَفَاتِرَ الْأَشْعَارِ كَدَفَاتِرِ الْفِقْهِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْقَطْعِ لِكَوْنِهَا مُحْتَاجًا إلَيْهَا لِمَعْرِفَةِ اللُّغَةِ وَمَعَانِي الْقُرْآنِ ، وَالْحَاجَةُ وَإِنْ قَلَّتْ كَفَتْ لِإِيرَاثِ الشُّبْهَةِ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَلْحَقَهَا بِدَفَاتِرِ الْحِسَابِ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا فِي مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ ( وَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ كَلْبٍ وَلَا فَهْدٍ ) وَهُوَ ظَاهِرٌ .
( وَلَا قَطْعَ فِي دُفٍّ وَلَا طَبْلٍ وَلَا بِرَبْطٍ وَلَا مِزْمَارٍ ) لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَا قِيمَةَ لَهَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ آخِذُهَا يَتَأَوَّلُ الْكَسْرَ فِيهَا .( وَلَا فِي دُفٍّ وَلَا طَبْلٍ ) وَالدُّفُّ بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِهَا الَّذِي يُلْعَبُ بِهِ ، وَهُوَ نَوْعَانِ مُدَوَّرٌ وَمُرَبَّعٌ ، وَالْمُرَادُ بِالطَّبْلِ طَبْلُ اللَّهْوِ ، وَأَمَّا طَبْلُ الْغُزَاةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ .
وَاخْتَارَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ عَدَمَ وُجُوبِ الْقَطْعِ لِأَنَّهُ كَمَا يَصْلُحُ لِلْغَزْوِ يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ فَتَتَمَكَّنُ فِيهِ الشُّبْهَةُ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَا قِيمَةَ لَهَا ) بِدَلِيلِ أَنَّ مُتْلِفَهُ لَا يَضْمَنُهُ ( وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَإِنْ كَانَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتْلِفِ فَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ ، لَكِنْ ( آخِذُهَا يَتَأَوَّلُ الْكَسْرَ فِيهَا ) فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً .
( وَيُقْطَعُ فِي السَّاجِ وَالْقَنَا وَالْآبَنُوسِ وَالصَّنْدَلِ ) لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ مُحَرَّزَةٌ لِكَوْنِهَا عَزِيزَةً عِنْدَ النَّاسِ وَلَا تُوجَدُ بِصُورَتِهَا مُبَاحَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
قَالَ ( وَيُقْطَعُ فِي الْفُصُوصِ الْخُضْرِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ ) لِأَنَّهَا مِنْ أَعَزِّ الْأَمْوَالِ وَأَنْفَسِهَا وَلَا تُوجَدُ مُبَاحَةَ الْأَصْلِ بِصُورَتِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهَا فَصَارَتْ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .( وَالسَّاجُ ) خَشَبٌ يُجْلَبُ مِنْ الْهِنْدِ ( وَالْقِنَاءُ ) بِالْكَسْرِ جَمْعُ قَنَاةٍ وَهِيَ خَشَبَةُ الرُّمْحِ ( وَالْآبَنُوسُ ) بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْبَاءِ مَعْرُوفٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا تُوجَدُ بِصُورَتِهَا مُبَاحَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ) وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ كُلَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
( وَإِذَا اتَّخَذَ مِنْ الْخَشَبِ أَوَانِيَ وَأَبْوَابًا قُطِعَ فِيهَا ) لِأَنَّهُ بِالصَّنْعَةِ الْتَحَقَ بِالْأَمْوَالِ النَّفِيسَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُحَرَّزُ بِخِلَافِ الْحَصِيرِ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ فِيهِ لَمْ تَغْلِبْ عَلَى الْجِنْسِ حَتَّى يُبْسَطُ فِي غَيْرِ الْحِرْزِ ، وَفِي الْحُصْرِ الْبَغْدَادِيَّةِ قَالُوا يَجِبُ الْقَطْعُ فِي سَرِقَتِهَا لِغَلَبَةِ الصَّنْعَةِ عَلَى الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَطْعُ فِي غَيْرِ الْمُرَكَّبِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ إذَا كَانَ خَفِيفًا لَا يَثْقُلُ عَلَى الْوَاحِدِ حَمْلُهُ لِأَنَّ الثَّقِيلَ مِنْهُ لَا يُرْغَبُ فِي سَرِقَتِهِوَقَوْلُهُ ( وَإِذَا اُتُّخِذَ مِنْ الْخَشَبِ أَوَانٌ ) فَرَّقَ بَيْنَ الْعَمَلِ الْمُتَّصِلِ بِالْخَشَبِ وَالْعَمَلِ الْمُتَّصِلِ بِالْحَشِيشِ بِغَلَبَةِ الصَّنْعَةِ عَلَى الْأَصْلِ فَفِي الْخَشَبِ تَغْلِبُ الصَّنْعَةُ عَلَى الْجِنْسِ فَتُخْرِجُهُ عَنْ الْجِنْسِ الْمُبَاحِ بِازْدِيَادٍ يَحْصُلُ فِي قِيمَتِهِ وَيُعَزِّزُهُ بِحَيْثُ إنَّهُمْ يُدْخِلُونَهُ فِي الْحِرْزِ .
وَأَمَّا فِي الْحَشِيشِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلِهَذَا يَفْرِشُونَهُ فِي غَيْرِ الْحِرْزِ ، حَتَّى لَوْ غَلَبَ الصَّنْعَةُ عَلَى الْأَصْلِ كَالْحُصْرِ الْبَغْدَادِيَّةِ يَجِبُ الْقَطْعُ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَطْعُ ) أَيْ فِي الْأَبْوَابِ ( فِي غَيْرِ الْمُرَكَّبِ ) بِالْجِدَارِ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ مُرَكَّبَةً فِي الْجِدَارِ فَقَلَعَهَا فَأَخَذَهَا فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا يَكُونُ فِي مَالٍ مُحْرَزٍ لَا فِيمَا يُحْرَزُ بِهِ ، وَمَا فِي الْبَيْتِ مِنْ الْمَتَاعِ فَإِنَّمَا يُحْرَزُ بِالْأَبْوَابِ الْمُرَكَّبَةِ فَلَا تَكُونُ مُحْرَزَةً ، قِيلَ هَذَا فِي الْبَابِ الْبَرَانِيِّ ، وَأَمَّا فِي الْبَابِ الثَّانِي فِي الدَّاخِلِ فَفِيهِ الْقَطْعُ لِأَنَّهُ مُحْرَزٌ بِالْبَرَانِيِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنَّمَا يَجِبُ إذَا كَانَ خَفِيفًا ) ظَاهِرٌ .
( وَلَا قَطْعَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ ) لِقُصُورٍ فِي الْحِرْزِ ( وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ ) لِأَنَّهُ يُجَاهِرُ بِفِعْلِهِ ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا قَطْعَ فِي مُخْتَلِسٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا خَائِنٍ }وَقَوْلُهُ ( وَلَا قَطْعَ عَلَى خَائِنٍ ) الْخِيَانَةُ هُوَ أَنْ يَخُونَ الْمُودِعُ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الشَّيْءِ الْمَأْمُونِ .
وَالِانْتِهَابُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى وَجْهِ الْعَلَانِيَةِ قَهْرًا مِنْ ظَاهِرِ بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ .
وَالِاخْتِلَاسُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْبَيْتِ سُرْعَةً جَهْرًا ، وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
( وَلَا قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ : عَلَيْهِ الْقَطْعُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ نَبَشَ قَطَعْنَاهُ } وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مُحْرَزٌ يُحْرَزُ مِثْلُهُ فَيُقْطَعُ فِيهِ .
وَلَهُمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَفِي } وَهُوَ النَّبَّاشُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ تَمَكَّنَتْ فِي الْمِلْكِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَيِّتِ حَقِيقَةً وَلَا لِلْوَارِثِ لِتَقَدُّمِ حَاجَةِ الْمَيِّتِ ، وَقَدْ تَمَكَّنَ الْخَلَلُ فِي الْمَقْصُودِ وَهُوَ الِانْزِجَارُ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِي نَفْسِهَا نَادِرَةُ الْوُجُودِ وَمَا رَوَاهُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ مُقْفَلٍ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الصَّحِيحِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا إذَا سَرَقَ مِنْ تَابُوتٍ فِي الْقَافِلَةِ وَفِيهِ الْمَيِّتُ لِمَا بَيَّنَّاهُ .
قَالَ ( وَلَا قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ ) اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي مَسْأَلَةِ النَّبَّاشِ ؛ فَقَالَ عُمَرُ وَعَائِشَةُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِوُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَى النَّبَّاشِ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ مَنْ بَقِيَ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي عَهْدِ مَرْوَانَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ نَبَّاشًا أَتَى بِهِ مَرْوَانُ .
فَسَأَلَ الصَّحَابَةَ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَثْبُتُوا فِيهِ شَيْئًا ، فَعَزَّرَهُ أَسْوَاطًا وَلَمْ يَقْطَعْهُ .
وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ .
وَبِالْأَوَّلِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ ( لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَمَنْ نَبَشَ قَطَعْنَاهُ } وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مُحْرَزٌ بِحِرْزٍ مِثْلِهِ فَيُقْطَعُ فِيهِ ) أَمَّا أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَلَا شُبْهَةَ فِيهِ ، فَإِنَّ إلْبَاسَ الثَّوْبِ لِلْمَيِّتِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ التَّقَوُّمِ ، وَأَمَّا أَنَّهُ مُحْرَزٌ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُضَيِّعٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ إذَا كَفَّنَا الصَّبِيَّ مِنْ مَالِهِ لَا يَضْمَنَانِ ، وَمَا لَا يَكُونُ مُحْرَزًا يَكُونُ مُضَيَّعًا وَفِيهِ الضَّمَانُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ ( بِحِرْزٍ مِثْلِهِ ) بِحَرْفِ الْجَرِّ ، فَلِمَا بَيَّنَهُ الطَّحَاوِيُّ : حِرْزُ كُلِّ شَيْءٍ مُعْتَبَرٌ بِحِرْزِ مِثْلِهِ ، حَتَّى أَنَّهُ إذَا سَرَقَ دَابَّةً مِنْ إصْطَبْلٍ يُقْطَعُ ، وَلَوْ سَرَقَ لُؤْلُؤَةً مِنْ الْإِصْطَبْلِ لَمْ يُقْطَعْ .
وَإِذَا سَرَقَ شَاةً مِنْ الْحَظِيرَةِ يُقْطَعُ ، وَلَوْ كَانَ فِيهَا ثَوْبٌ فَسَرَقَهُ لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّ الشَّاةَ لَا تُحْرَزُ بِأَحْصَنَ مِنْهَا إذَا كَانَ بَابُهَا بِحَيْثُ يَمْنَعُ إخْرَاجَ الشَّاةِ دُونَ دُخُولِ الْآدَمِيِّ وَإِخْرَاجِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَهُمَا ) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ مُقْفَلٍ ) بِسُكُونِ الْقَافِ مِنْ أَقْفَلَ الْبَابَ .
وَقَوْلُهُ ( فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الصَّحِيحِ ) بَيَانُهُ مَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيمَا إذَا كَانَ
الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ مُقْفَلٍ ثُمَّ قَالَ : وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ سَوَاءٌ كَانَ نَبْشُ الْقَبْرِ لِلْكَفَنِ أَوْ سَرَقَ مَالًا آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ لِأَنَّ بِوَضْعِ الْقَبْرِ فِيهِ اخْتَلَّ صِفَةُ الْحِرْزِ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ ، فَإِنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ تَأْوِيلًا بِالدُّخُولِ فِيهِ لِزِيَارَةِ الْقَبْرِ .
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا سَرَقَ مِنْ تَابُوتٍ فِي الْقَافِلَةِ وَفِيهِ الْمَيِّتُ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مُحْرَزٌ بِالْقَافِلَةِ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ لِاخْتِلَالِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّة فِي الْكَفَنِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّاهُ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَفِي } وَالْمَعْقُولُ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَيِّتِ حَقِيقَةً .
( وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ) لِأَنَّهُ مَالُ الْعَامَّةِ وَهُوَ مِنْهُمْ .
قَالَ ( وَلَا مِنْ مَالٍ لِلسَّارِقِ فِيهِ شَرِكَةٌ ) لِمَا قُلْنَا .وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) إشَارَةٌ إلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مَالُ الْعَامَّةِ وَهُوَ مِنْهُمْ ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ لِلسَّارِقِ فِيهِ حَقًّا وَلِمَا قُلْنَا إشَارَةٌ إلَيْهِ .
( وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ فَسَرَقَ مِنْهُ مِثْلَهَا لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ لِحَقِّهِ ) ، وَالْحَالُّ وَالْمُؤَجَّلُ فِيهِ سَوَاءٌ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ ، وَكَذَا إذَا سَرَقَ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ لِأَنَّهُ بِمِقْدَارِ حَقِّهِ يَصِيرُ شَرِيكًا فِيهِ ( وَإِنْ سَرَقَ مِنْهُ عُرُوضًا قُطِعَ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ إلَّا بَيْعًا بِالتَّرَاضِي .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ قَضَاءً مِنْ حَقِّهِ أَوْ رَهْنًا بِحَقِّهِ .
قُلْنَا : هَذَا قَوْلٌ لَا يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ فَلَا يُعْتَبَرُ بِدُونِ اتِّصَالِ الدَّعْوَى بِهِ ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى ذَلِكَ دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ لِأَنَّهُ ظَنٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ ، وَلَوْ كَانَ حَقُّهُ دَرَاهِمَ فَسَرَقَ مِنْهُ دَنَانِيرَ قِيلَ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ ، وَقِيلَ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ النُّقُودَ جِنْسٌ وَاحِدٌ
قَالَ ( وَالْحَالُّ وَالْمُؤَجَّلُ فِيهِ ) أَيْ فِي عَدَمِ الْقَطْعِ ( سَوَاءٌ ) أَمَّا إذَا كَانَ حَالًّا فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا فَلِأَنَّ التَّأْجِيلَ لَيْسَ إلَّا لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ ، وَأَمَّا نَفْسُ وُجُوبِ الدَّيْنِ فَثَابِتٌ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ أَيْضًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ لِأَنَّهُ سَرَقَ مَا لَا يُبَاحُ لَهُ الْأَخْذُ كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْأَخْذَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا لِمَكَانِ الْأَجَلِ كَانَ لَهُ شُبْهَةُ الْأَخْذِ وَهِيَ كَافِيَةٌ لِلدَّرْءِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا سَرَقَ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ ) يُرِيدُ بِهِ ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ يَقُولُ : وَإِنْ ظَفِرَ بِخِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ .
وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ : لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ رَهْنًا بِحَقِّهِ ، وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ يُورِثُ الشُّبْهَةَ ( قُلْنَا : هَذَا الْقَوْلُ لَا يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ ) الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَأْخُذَ جِنْسَ حَقِّهِ فِي الدَّيْنِ الْحَالِّ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْوَصْفِ فِي الْحَقِيقَةِ .
وَهَذَا عَيْنٌ لَكِنْ تَرَكْنَاهُ فِيهِ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا ، وَلَا كَذَلِكَ خِلَافُ الْجِنْسِ لِفُحْشِ التَّفَاوُتِ فَلَا يُتْرَكُ الْقِيَاسُ ( وَلَا يُعْتَبَرُ بِدُونِ اتِّصَالِ الدَّعْوَى بِهِ ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى ذَلِكَ ) أَيْ أَنَّهُ أَخَذَهُ قَضَاءً لِحَقِّهِ أَوْ رَهْنًا بِهِ ( دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُ ) لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ شُبْهَةٍ وَإِنْ كَانَ هُوَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ التَّأْوِيلِ عِنْدَنَا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَ حَقُّهُ دَرَاهِمَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَقِيلَ لَا يُقْطَعُ ) قِيلَ : هُوَ الْأَصَحُّ ( لِأَنَّ النُّقُودَ جِنْسٌ وَاحِدٌ ) كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَالشُّفْعَةِ .
( وَمَنْ سَرَقَ عَيْنًا فَقُطِعَ فِيهَا فَرَدَّهَا ثُمَّ عَادَ فَسَرَقَهَا وَهِيَ بِحَالِهَا لَمْ يُقْطَعْ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُتَكَامِلَةٌ كَالْأُولَى بَلْ أَقْبَحُ لِتَقَدُّمِ الزَّاجِرِ ، وَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ الْمَالِكُ مِنْ السَّارِقِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ ثُمَّ كَانَتْ السَّرِقَةُ .
وَلَنَا أَنَّ الْقَطْعَ أَوْجَبَ سُقُوطَ عِصْمَةِ الْمَحَلِّ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَبِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ إنْ عَادَتْ حَقِيقَةُ الْعِصْمَةِ بَقِيَتْ شُبْهَةُ السُّقُوطِ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الْمِلْكِ وَالْمَحَلِّ ، وَقِيَامُ الْمُوجِبِ وَهُوَ الْقَطْعُ فِيهِ ، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ سَبَبِهِ ، وَلِأَنَّ تَكْرَارَ الْجِنَايَةِ مِنْهُ نَادِرٌ لِتَحَمُّلِهِ مَشَقَّةَ الزَّاجِرِ فَتُعَرَّى الْإِقَامَةُ عَنْ الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَقْلِيلُ الْجِنَايَةِ ، وَصَارَ كَمَا إذَا قَذَفَ الْمَحْدُودُ فِي قَذْفٍ الْمَقْذُوفَ الْأَوَّلَ .
قَالَ ( فَإِنْ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ غَزْلًا فَسَرَقَهُ وَقُطِعَ فَرَدَّهُ ثُمَّ نُسِجَ فَعَادَ فَسَرَقَهُ قُطِعَ ) لِأَنَّ الْعَيْنَ قَدْ تَبَدَّلَتْ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ بِهِ ، وَهَذَا هُوَ عَلَامَةُ التَّبَدُّلِ فِي كُلِّ مَحَلٍّ ، وَإِذَا تَبَدَّلَتْ انْتَفَتْ الشُّبْهَةُ النَّاشِئَةُ مِنْ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ ، وَالْقَطْعُ فِيهِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ ثَانِيًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ سَرَقَ عَيْنًا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُتَكَامِلَةٌ كَالْأُولَى ) وَجْهُ التَّشْبِيهِ هُوَ أَنَّ الْمَتَاعَ بَعْدَ رَدِّهِ عَلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فِي حَقِّ السَّارِقِ كَعَيْنٍ أُخْرَى فِي حُكْمِ الضَّمَانِ ، حَتَّى لَوْ غَصَبَهَا أَوْ أَتْلَفَهَا كَانَ ضَامِنًا ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْقَطْعِ لِمَا أَنَّهُ مَالٌ مَعْصُومٌ كَامِلُ الْمِقْدَارِ أُخِذَ مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ .
وَبِهَذِهِ الْأَوْصَافِ لَزِمَهُ الْقَطْعُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَكَذَلِكَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ .
وَأَمَّا كَوْنُهُ أَقْبَحَ فَظَاهِرٌ لِتَقَدُّمِ الزَّاجِرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَنَا أَنَّ الْقَطْعَ أَوْجَبَ سُقُوطَ عِصْمَةِ الْمَحَلِّ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ بَعْدُ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ بَعْدَ أَوْرَاقٍ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا غُرْمَ عَلَى السَّارِقِ بَعْدَمَا قُطِعَتْ يَمِينُهُ } إلَخْ .
وَسُقُوطُ عِصْمَةِ الْمَحَلِّ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْقَاطِعِ ، فَإِنْ قِيلَ : الْعِصْمَةُ وَإِنْ سَقَطَتْ بِالْقَطْعِ لَكِنَّهَا عَادَتْ بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ ، أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَبِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ إنْ عَادَتْ حَقِيقَةُ الْعِصْمَةِ بَقِيَتْ شُبْهَةُ السُّقُوطِ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الْمِلْكِ وَالْمَحَلِّ وَقِيَامِ الْمُوجِبِ وَهُوَ الْقَطْعُ فِيهِ ) فَقَوْلُهُ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الْمِلْكِ احْتِرَازٌ عَمَّا لَوْ تَبَدَّلَ الْمِلْكُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَا إذَا بَاعَهُ الْمَالِكُ مِنْ السَّارِقِ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ وَالْمَحَلُّ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا تَبَدَّلَ الْمَحَلُّ كَمَا فِي صُورَةِ الْغَزْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ فِيمَا يَجِيءُ بِقَوْلِهِ فَإِنْ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ غَزْلًا إلَخْ ( وَقَوْلُهُ وَقِيَامُ الْمُوجِبِ ) أَيْ مُوجِبُ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ وَهُوَ احْتِرَازٌ عَمَّا كَانَ قَبْلَ الْقَطْعِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ ) يَعْنِي أَبَا يُوسُفَ مِنْ صُورَةِ الْبَيْعِ ( لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ سَبَبِهِ ) ، وَأَصْلُهُ حَدِيثُ بَرِيرَةَ وَهُوَ مَعْرُوفٌ .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ لِأَنَّ تَكْرَارَ الْجِنَايَةِ )
مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّ الْقَطْعَ فَهُوَ دَلِيلٌ آخَرُ .
وَتَقْرِيرُهُ تَكْرَارُ الْجِنَايَةِ مِنْهُ بِالْعَوْدِ إلَى سَرِقَةِ مَا قُطِعَ فِيهِ نَادِرٌ جِدًّا لِتَحَمُّلِهِ مَشَقَّةَ الزَّاجِرِ ، وَالنَّادِرُ يَعْرَى عَنْ مَقْصُودِ الْإِقَامَةِ وَهُوَ تَقْلِيلُ الْجِنَايَةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا ( وَصَارَ كَمَا إذَا قَذَفَ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ الْمَقْذُوفَ الْأَوَّلَ ) بِالزِّنَا الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ نَظَرًا إلَى عَرَائِهِ عَنْ مَقْصُودِ الْإِقَامَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا حَدُّ الزِّنَا فِي كَوْنِ الْحَدِّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ حَدُّ الزِّنَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ ، حَتَّى أَنَّ مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَحُدَّ ثُمَّ زَنَى بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ مَرَّةً أُخْرَى يُحَدُّ ثَانِيًا ، بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ فَإِنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ خُصُوصًا عَلَى أَصْلِ الْخَصْمِ ، وَخُصُومَةُ الْمَقْذُوفِ فِي الْحَدِّ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إظْهَارُ كَذِبِ الْقَاذِفِ وَدَفْعُ الْعَارِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالْمَرَّةِ الْأُولَى .
أُجِيبَ بِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا مِنْ حَيْثُ إنَّ هَذَا حَدٌّ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِخُصُومَةٍ فَلَا يَتَكَرَّرُ إلَّا بِتَكْرَارِ الْخُصُومَةِ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ كَحَدِّ الْقَذْفِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَصُورَةِ الزِّنَا أَنَّ الْحَدَّ فِي الزِّنَا إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَوْفَى ، وَالْمُسْتَوْفَى فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ الْمُسْتَوْفَى فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَلَاشَى وَاضْمَحَلَّ .
وَالْمَسْرُوقُ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ هُوَ بِعَيْنِهِ الْمَسْرُوقُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا ) ظَاهِرٌ ، وَالْقَطْعِ بِالْجَرِّ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ اتِّحَادِ .
فَصْلٌ فِي الْحِرْزِ وَالْأَخْذِ مِنْهُفَصْلٌ فِي الْحِرْزِ وَالْأَخْذِ مِنْهُ : لَمَّا كَانَ تَحَقُّقُ السَّرِقَةِ مَوْقُوفًا عَلَى كَوْنِ الْمَسْرُوقِ مَالًا مُحْرَزًا وَفَرَغَ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْصُوفِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْحِرْزِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْوَصْفُ ، ثُمَّ الْعِلَّةُ فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ عَنْ قَرَابَةِ الْوِلَادِ أَمْرَانِ : الْبُسُوطَةُ فِي الْمَالِ وَفِي حَقِّ الدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ وَعَنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ أَمْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْبُسُوطَةُ فِي الدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ .
( وَمَنْ سَرَقَ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ ) فَالْأَوَّلُ وَهُوَ الْوِلَادُ لِلْبُسُوطَةِ فِي الْمَالِ وَفِي الدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ .
وَالثَّانِي لِلْمَعْنَى الثَّانِي ، وَلِهَذَا أَبَاحَ الشَّرْعُ النَّظَرَ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ مِنْهَا ، بِخِلَافِ الصَّدِيقَيْنِ لِأَنَّهُ عَادَاهُ بِالسَّرِقَةِ .
وَفِي الثَّانِي خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ أَلْحَقَهَا بِالْقَرَابَةِ الْبَعِيدَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْعَتَاقِ ( وَلَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مَتَاعَ غَيْرِهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ ، وَلَوْ سَرَقَ مَالَهُ مِنْ بَيْتِ غَيْرِهِ يُقْطَعُ ) اعْتِبَارًا لِلْحِرْزِ وَعَدَمِهِ ( وَإِنْ سَرَقَ مِنْ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ قُطِعَ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَحِشْمَةٍ ، بِخِلَافِ الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ لِانْعِدَامِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهَا عَادَةً .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا قَرَابَةَ وَالْمَحْرَمِيَّةُ بِدُونِهَا لَا تُحْتَرَمُ كَمَا إذَا ثَبَتَتْ بِالزِّنَا وَالتَّقْبِيلِ عَنْ شَهْوَةٍ ، وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْأُخْتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الرَّضَاعَ قَلَّمَا يَشْتَهِرُ فَلَا بُسُوطَةَ تَحَرُّزًا عَنْ مَوْقِفِ التُّهْمَةِ بِخِلَافِ النَّسَبِ .
( وَلِهَذَا أَبَاحَ الشَّرْعُ النَّظَرَ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ ) الْوَجْهِ وَالْكَفِّ عَلَى مَا سَيَجِيءُ فِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي الثَّانِي ) يَعْنِي وَفِي ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ( خِلَافُ الشَّافِعِيِّ ) فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودَيْنِ يَجِبُ الْقَطْعُ ( لِأَنَّهُ أَلْحَقَهَا بِالْغَرَابَةِ الْبَعِيدَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْعَتَاقِ ) وَلَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مَتَاعَ غَيْرِهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ لِعَدَمِ الْحِرْزِ ( وَلَوْ سَرَقَ مَالَهُ ) أَيْ مَالَ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ( مِنْ بَيْتِ غَيْرِهِ قُطِعَ ) لِوُجُودِ الْحِرْزِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ سَرَقَ مِنْ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمَحْرَمِيَّةُ بِدُونِهَا ) أَيْ بِدُونِ الْقَرَابَةِ ( لَا تُحْتَرَمُ ) أَيْ لَا تُجْعَلُ حُرْمَةً قَوِيَّةً عَادَةً ( كَمَا إذَا ثَبَتَتْ ) يَعْنِي الْمَحْرَمِيَّةَ ( بِالزِّنَا ) فَإِنَّهُ إذَا سَرَقَ مِنْ بَيْتِ بِنْتِ الْمَرْأَةِ الَّتِي زَنَى بِهَا لَا يُعَدُّ شُبْهَةً فِي قَطْعِ الْيَدِ بَلْ تُقْطَعُ وَإِنْ كَانَتْ الْمَحْرَمِيَّةُ مَوْجُودَةً ، وَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَتْ بِالتَّقْبِيلِ عَنْ شَهْوَةٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ ) أَيْ مِنْ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالزِّنَا ( الْأُخْتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ ) يَعْنِي : أَنَّ الْأُمَّ مِنْ الرَّضَاعِ أَشْبَهُ إلَى الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ مِنْ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالزِّنَا ، ثُمَّ السَّرِقَةُ مِنْ بَيْتِ الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ مُوجِبَةٌ لِلْقَطْعِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَيْتِ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ كَذَلِكَ .
وَوَجْهُ الْأَقْرَبِيَّةِ أَنَّ إلْحَاقَ الرَّضَاعِ بِالرَّضَاعِ أَقْرَبُ مِنْ إلْحَاقِهِ بِالزِّنَا .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) أَيْ الْقَطْعُ مَعَ الدُّخُولِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَحِشْمَةٍ ( لِأَنَّ الرَّضَاعَ قَلَّمَا يُشْتَهَرُ فَلَا بُسُوطَةَ تَحَرُّزًا عَنْ مَوْقِفِ التُّهْمَةِ بِخِلَافِ النَّسَبِ ) .
( وَإِذَا سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ الْآخَرِ أَوْ الْعَبْدُ مِنْ سَيِّدِهِ أَوْ مِنْ امْرَأَةِ سَيِّدِهِ أَوْ مِنْ زَوْجِ سَيِّدَتِهِ لَمْ يُقْطَعْ ) لِوُجُودِ الْإِذْنِ بِالدُّخُولِ عَادَةً ، وَإِنْ سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ حِرْزٍ الْآخَرِ خَاصَّةً لَا يَسْكُنَانِ فِيهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِبُسُوطَةٍ بَيْنَهُمَا فِي الْأَمْوَالِ عَادَةً وَدَلَالَةً وَهُوَ نَظِيرُ الْخِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ .وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ الْآخَرِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَدَلَالَةُ ) مَعْنَاهُ أَنَّهَا لَمَّا بَذَلَتْ نَفْسَهَا وَهِيَ أَنْفَسُ مِنْ الْأَمْوَالِ فَلَأَنْ تَبْذُلَ الْمَالَ أَوْلَى ( وَهُوَ نَظِيرُ الْخِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ ) فَإِنَّ شَهَادَةَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ تُقْبَلُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ بَلْ هَذَا أَوْلَى لِأَنَّ هَذِهِ الْبُسُوطَةَ لَمَّا مَنَعَتْ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فَلَأَنْ تَمْنَعَ الْقَطْعَ وَهُوَ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ أَوْلَى .
( وَلَوْ سَرَقَ الْمَوْلَى مِنْ مُكَاتَبِهِ لَمْ يُقْطَعْ ) لِأَنَّ لَهُ فِي أَكْسَابِهِ حَقًّا ( وَكَذَلِكَ السَّارِقُ مِنْ الْمَغْنَمِ ) لِأَنَّ لَهُ فِيهِ نَصِيبًا ، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ دَرْءًا وَتَعْلِيلًا .( قَوْلُهُ وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَرْءًا وَتَعْلِيلًا ) يُرِيدُ بِهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ سَرَقَ مِنْ الْمَغْنَمِ فَدَرَأَ عَنْهُ الْحَدَّ وَقَالَ إنَّ لَهُ فِيهِ نَصِيبًا .
وَقَالَ ( وَالْحِرْزُ عَلَى نَوْعَيْنِ حِرْزٌ لِمَعْنًى فِيهِ كَالْبُيُوتِ وَالدُّورِ .
وَحِرْزٌ بِالْحَافِظِ ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ : الْحِرْزُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّ الِاسْتِسْرَارَ لَا يَتَحَقَّقُ دُونَهُ ، ثُمَّ هُوَ قَدْ يَكُونُ بِالْمَكَانِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِإِحْرَازِ الْأَمْتِعَةِ كَالدُّورِ وَالْبُيُوتِ وَالصُّنْدُوقِ وَالْحَانُوتِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْحَافِظِ كَمَنْ جَلَسَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ وَعِنْدَهُ مَتَاعُهُ فَهُوَ مُحَرَّزٌ بِهِ ، وَقَدْ { قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَرَقَ رِدَاءَ صَفْوَانَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ } ( وَفِي الْمُحَرَّزِ بِالْمَكَانِ لَا يُعْتَبَرُ الْإِحْرَازُ بِالْحَافِظِ هُوَ الصَّحِيحُ ) لِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ بِدُونِهِ وَهُوَ الْبَيْتُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَابٌ أَوْ كَانَ وَهُوَ مَفْتُوحٌ حَتَّى يُقْطَعَ السَّارِقُ مِنْهُ ، لِأَنَّ الْبِنَاءَ لِقَصْدِ الْإِحْرَازِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ مِنْهُ لِقِيَامِ يَدِهِ فِيهِ قَبْلَهُ .
بِخِلَافِ الْمُحَرَّزِ بِالْحَافِظِ حَيْثُ يَجِبُ الْقَطْعُ فِيهِ ، كَمَا أُخِذَ لِزَوَالِ يَدِ الْمَالِكِ بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ فَتَتِمُّ السَّرِقَةُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَافِظُ مُسْتَيْقِظًا أَوْ نَائِمًا وَالْمَتَاعُ تَحْتَهُ أَوْ عِنْدَهُ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَدُّ النَّائِمُ عِنْدَ مَتَاعِهِ حَافِظًا لَهُ فِي الْعَادَةِ .
وَعَلَى هَذَا لَا يَضْمَنُ الْمُودَعُ وَالْمُسْتَعِيرُ بِمِثْلِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَضْيِيعٍ ، بِخِلَافِ مَا اخْتَارَهُ فِي الْفَتَاوَى .
قَالَ ( وَالْحِرْزُ عَلَى نَوْعَيْنِ ) الْحِرْزُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَكَانِ الْحَصِينِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هُوَ مَا يُرَادُ بِهِ حِفْظُ الْأَمْوَالِ .
وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ ( حِرْزٍ لِمَعْنًى فِيهِ ) وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِحِفْظِ الْأَمْتِعَةِ وَالْأَمْوَالِ ، وَيَخْتَلِفُ ، ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَمْوَالِ ( كَالدُّورِ وَالْبُيُوتِ وَالصُّنْدُوقِ وَالْحَانُوتِ ) وَالْحَظِيرَةِ لِلْغَنَمِ وَالْبَقَرِ ( وَحِرْزٍ بِالْحَافِظِ كَمَنْ جَلَسَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ وَعِنْدَهُ مَتَاعُهُ فَإِنَّهُ مُحْرَزٌ بِهِ ) وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفَكُّ عَنْ الْآخَرِ ( وَقَدْ ثَبَتَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ مَنْ سَرَقَ رِدَاءَ صَفْوَانَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ } ) وَهُوَ لَيْسَ بِحِرْزٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْإِحْرَازَ ، وَإِذَا سَرَقَ مِنْ الْبَيْتِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَابٌ أَوْ لَهُ بَابٌ وَلَكِنَّهُ مَفْتُوحٌ وَصَاحِبُهُ لَيْسَ عِنْدَهُ يُقْطَعُ ( فَفِي الْحِرْزِ بِالْمَكَانِ لَا يُعْتَبَرُ ، الْإِحْرَازُ بِالْحَافِظِ ) فَلَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتٍ مَأْذُونٍ لَهُ بِالدُّخُولِ فِيهِ لَكِنْ مَالِكُهُ يَحْفَظُهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْحِرْزُ بِالْمَكَانِ .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا ذُكِرَ فِي الْعُيُونِ أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُقْطَعُ فِيهِ .
وَوَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الْحِرْزَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْحِرْزُ بِالْمَكَانِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ وُصُولَ الْيَدِ إلَى الْمَالِ وَيَكُونُ الْمَالُ مُخْتَفِيًا بِهِ ، وَأَمَّا الْحِرْزُ بِالْحَافِظِ فَإِنَّهُ وَإِنْ مَنَعَ وُصُولَ الْيَدِ إلَيْهِ لَكِنْ الْمَالُ لَا يَخْتَفِي بِهِ ، ثُمَّ الْمُحْرَزُ بِالْمَكَانِ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِهَتْكِهِ إلَّا بِإِخْرَاجِ الْمَتَاعِ مِنْهُ لِقِيَامِ يَدِهِ قَبْلَهُ ، وَالْمُحْرَزُ بِالْحَافِظِ يَجِبُ الْقَطْعُ فِيهِ إذَا أَخَذَ الْمَالَ ( لِزَوَالِ يَدِ الْمَالِكِ بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ فَتَتِمُّ السَّرِقَةُ ) وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ الْحِرْزَ بِالْمَكَانِ أَقْوَى ( وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ
الْحَافِظُ مُسْتَيْقِظًا أَوْ نَائِمًا وَالْمَتَاعُ عِنْدَهُ أَوْ تَحْتَهُ ) هُوَ الصَّحِيحُ ( لِأَنَّ النَّائِمَ عِنْدَ مَتَاعِهِ يُعَدُّ حَافِظًا لِمَتَاعِهِ ) وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا إنَّ صَاحِبَ الْمَتَاعِ إنَّمَا يَكُونُ مُحْرِزًا لِمَتَاعِهِ فِي حَالِ نَوْمِهِ إذَا جَعَلَ الْمَتَاعَ تَحْتَ رَأْسِهِ أَوْ تَحْتَ جَنْبِهِ ، أَمَّا إذَا كَانَ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُحْرِزًا فِي حَالِ نَوْمِهِ ، أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْأَصْلِ الْمُسَافِرُ يَنْزِلُ فِي الصَّحْرَاءِ فَيَجْمَعُ مَتَاعَهُ وَيَبِيتُ عَلَيْهِ فَسَرَقَ مِنْهُ رَجُلٌ قُطِعَ .
قَالُوا : قَوْلُهُ يَبِيتُ عَلَيْهِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُقْطَعُ إذَا نَامَ عَلَيْهِ ، وَمَالَ إلَى الْأَوَّلِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ .
وَقَالَ ( الْمُودِعُ وَالْمُسْتَعِيرُ لَا يَضْمَنَانِ بِمِثْلِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَضْيِيعٍ ، بِخِلَافِ مَا قَالَهُ فِي الْفَتَاوَى ) يَعْنِي قَالَ فِيهَا إنَّهُمَا يَضْمَنَانِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَلَكِنْ ذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ ثُمَّ قَالَ : وَقَالُوا إنَّمَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ إذَا وَضَعَ الْوَدِيعَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَنَامَ فِيمَا إذَا نَامَ قَاعِدًا ، وَأَمَّا إذَا نَامَ مُضْطَجِعًا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ ، وَهَذَا إذَا كَانَ فِي الْحَضَرِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي السَّفَرِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ نَامَ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
قَالَ ( وَمَنْ سَرَقَ شَيْئًا مِنْ حِرْزٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ وَصَاحِبُهُ عِنْدَهُ يَحْفَظُهُ قُطِعَ ) لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مُحَرَّزًا بِأَحَدِ الْحِرْزَيْنِ ( وَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مَالًا مِنْ حَمَّامٍ أَوْ مِنْ بَيْتٍ أُذِنَ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ ) لِوُجُودِ الْإِذْنِ عَادَةً أَوْ حَقِيقَةً فِي الدُّخُولِ فَاخْتَلَّ الْحِرْزُ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ حَوَانِيتُ التُّجَّارِ وَالْخَانَاتُ ، إلَّا إذَا سَرَقَ مِنْهَا لَيْلًا لِأَنَّهَا بُنِيَتْ لِإِحْرَازِ الْأَمْوَالِ ، وَإِنَّمَا الْإِذْنُ يَخْتَصُّ بِالنَّهَارِ ( وَمَنْ سَرَقَ مِنْ الْمَسْجِدِ مَتَاعًا وَصَاحِبُهُ عِنْدَهُ قُطِعَ ) لِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ بِالْحَافِظِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَا بُنِيَ لِإِحْرَازِ الْأَمْوَالِ فَلَمْ يَكُنْ الْمَالُ مُحَرَّزًا بِالْمَكَانِ ، بِخِلَافِ الْحَمَّامِ وَالْبَيْتِ الَّذِي أُذِنَ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ حَيْثُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ بُنِيَ لِلْإِحْرَازِ فَكَانَ الْمَكَانُ حِرْزًا فَلَا يُعْتَبَرُ الْإِحْرَازُ بِالْحَافِظِ .وَقَوْلُهُ ( وَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ حَمَّامٍ ) يَعْنِي فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ ( أَوْ مِنْ بَيْتٍ أُذِنَ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ لِوُجُودِ الْإِذْنِ عَادَةً ) يَعْنِي فِي الْحَمَّامِ ( أَوْ حَقِيقَةً ) يَعْنِي فِي الْبَيْتِ الَّذِي أُذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ) أَيْ فِي قَوْلِهِ أَوْ مِنْ بَيْتٍ أُذِنَ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا إذَا سَرَقَ مِنْهَا لَيْلًا ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا قَطْعَ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ سَرَقَ مِنْ الْمَسْجِدِ مَتَاعًا ) ظَاهِرٌ .
( وَلَا قَطْعَ عَلَى الضَّيْفِ إذَا سَرَقَ مِمَّنْ أَضَافَهُ ) لِأَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يَبْقَ حِرْزًا فِي حَقِّهِ لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا فِي دُخُولِهِ ، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الدَّارِ فَيَكُونُ فِعْلُهُ خِيَانَةً لَا سَرِقَةً .
( وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَةً فَلَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ الدَّارِ لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّ الدَّارَ كُلَّهَا حِرْزٌ وَاحِدٌ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِخْرَاجِ مِنْهَا ، وَلِأَنَّ الدَّارَ وَمَا فِيهَا فِي يَدِ صَاحِبِهَا مَعْنًى فَتَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ عَدَمِ الْأَخْذِ فَإِنْ كَانَتْ دَارٌ فِيهَا مَقَاصِيرُ فَأَخْرَجَهَا مِنْ الْمَقْصُورَةِ إلَى صَحْنِ الدَّارِ قُطِعَ ) لِأَنَّ كُلَّ مَقْصُورَةٍ بِاعْتِبَارِ سَاكِنِهَا حِرْزٌ عَلَى حِدَةٍ ( وَإِنْ أَغَارَ إنْسَانٌ مِنْ أَهْلِ الْمَقَاصِيرِ عَلَى مَقْصُورَةٍ فَسَرَقَ مِنْهَا قُطِعَ ) لِمَا بَيَّنَّا .
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَةً ) أَيْ مَالًا وَسَمَّى الشَّيْءَ الْمَسْرُوقَ سَرِقَةً مَجَازًا ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ : إذَا كَانَتْ السَّرِقَةُ مُصْحَفًا .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا ) أَيْ فِي الدَّارِ ( مَقَاصِيرُ ) يَعْنِي حُجُرَاتٌ وَبُيُوتٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ أَغَارَ إنْسَانٌ ) أَيْ دَخَلَ بِسُرْعَةٍ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ نَاقِلًا عَنْ الْمُغْرِبِ : إنْ أَغَارَ لَفْظُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ وَالضَّمْرِيِّ ، وَأَمَّا لَفْظُ مُحَمَّدٍ فَهُوَ وَإِنْ أَعَانَ إنْسَانٌ مِنْ أَهْلِ الْمَقَاصِيرِ إنْسَانًا عَلَى مَتَاعِ مَنْ يَسْكُنُ مَقْصُورَةً أُخْرَى .
وَلَفْظُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ كَذَلِكَ ، وَكَأَنَّهُ أَصَحُّ لِأَنَّ الْإِغَارَةَ فِي بَابِ السَّرِقَةِ غَيْرُ لَائِقَةٍ ، لِأَنَّ السَّرِقَةَ أَخْذُ مَالٍ فِي خَفَاءٍ وَحِيلَةٍ فَلِذَلِكَ سَمَّى السَّارِقَ بِهِ لِأَنَّهُ يُسَارِقُ عَيْنَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ، وَالْإِغَارَةُ أَخْذٌ فِي الْمُجَاهَرَةِ مُكَابَرَةً وَمُغَالَبَةً .
وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَقَاصِيرِ يَدْخُلُ عَلَى بَعْضٍ آخَرَ بِاللَّيْلِ جَهْرًا وَمُكَابَرَةً وَمُخْتَفِيًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ ، وَمِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَلِيقُ بِهِ إلَّا الْإِغَارَةُ ، وَإِذَا صَحَّ الْمَعْنَى جَازَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْإِغَارَةِ مَرْوِيًّا عَنْ مُحَمَّدٍ ، وَكَانَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فَسَرَقَ مِنْهَا بَعْدَ قَوْلِهِ أَغَارَ إشَارَةٌ إلَى هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ كُلَّ مَقْصُورَةٍ إلَخْ .
( وَإِذَا نَقَبَ اللِّصُّ الْبَيْتَ فَدَخَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ وَنَاوَلَهُ آخَرَ خَارِجَ الْبَيْتِ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِمَا ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِخْرَاجُ لِاعْتِرَاضِ يَدٍ مُعْتَبَرَةٍ عَلَى الْمَالِ قَبْلَ خُرُوجِهِ .
وَالثَّانِي لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ هَتْكُ الْحِرْزِ فَلَمْ تَتِمَّ السَّرِقَةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ أَخْرَجَ الدَّاخِلُ يَدَهُ وَنَاوَلَهَا الْخَارِجَ فَالْقَطْعُ عَلَى الدَّاخِلِ ، وَإِنْ أَدْخَلَ الْخَارِجُ يَدَهُ فَتَنَاوَلَهَا مِنْ يَدِ الدَّاخِلِ فَعَلَيْهِمَا الْقَطْعُ .
وَهِيَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةٍ تَأْتِي بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي الطَّرِيقِ وَخَرَجَ فَأَخَذَهُ قُطِعَ ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَطْعِ كَمَا لَوْ خَرَجَ وَلَمْ يَأْخُذْ ، وَكَذَا الْأَخْذُ مِنْ السِّكَّةِ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ .
وَلَنَا أَنَّ الرَّمْيَ حِيلَةٌ يَعْتَادُهَا السُّرَّاقُ لِتَعَذُّرِ الْخُرُوجِ مَعَ الْمَتَاعِ ، أَوْ لِيَتَفَرَّغَ لِقِتَالِ صَاحِبِ الدَّارِ أَوْ لِلْفِرَارِ وَلَمْ تَعْتَرِضْ عَلَيْهِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فَاعْتُبِرَ الْكُلُّ فِعْلًا وَاحِدًا ، فَإِذَا خَرَجَ وَلَمْ يَأْخُذْهُ فَهُوَ مُضَيِّعٌ لَا سَارِقٌ .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ إنْ حَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ فَسَاقَهُ وَأَخْرَجَهُ ) لِأَنَّ سَيْرَهُ مُضَافٌ إلَيْهِ لِسَوْقِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا نَقَبَ اللِّصُّ الْبَيْتَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَهِيَ بِنَاءٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ تَأْتِي بَعْدَ هَذَا ) إشَارَةٌ إلَى مَسْأَلَةِ نَقْبِ الْبَيْتِ ( قَوْلُهُ وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي الطَّرِيقِ ) وَاضِحٌ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ يَدَهُ تَثْبُتُ عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ ثُمَّ بِالرَّمْيِ إلَى الطَّرِيقِ لَمْ تَزُلْ يَدُهُ حُكْمًا لِعَدَمِ اعْتِرَاضِ يَدٍ أُخْرَى عَلَى يَدِهِ .
وَإِذَا بَقِيَتْ يَدُهُ حُكْمًا وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِالْأَخْذِ الثَّانِي وَجَبَ الْقَطْعُ ( قَوْلُهُ وَلَمْ تَعْتَرِضْ عَلَيْهِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ فَإِنَّ هُنَاكَ يَدًا مُعْتَبَرَةً اعْتَرَضَتْ عَلَيْهِ فَأَوْجَبَتْ سُقُوطَ الْيَدِ الْحُكْمِيَّةِ لِلسَّارِقِ فَلَمَّا لَمْ تَسْقُطْ الْيَدُ الْحُكْمِيَّةُ هُنَا لَمْ يَرِدْ مَا ذَكَرَهُ زُفَرُ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْحِرْزِ وَلَا مَالَ فِي يَدِهِ .
وَقَوْلُهُ ( فَاعْتُبِرَ الْكُلُّ ) أَيْ إلْقَاؤُهُ فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ أَخْذُهُ مِنْهُ ( فِعْلًا وَاحِدًا ) كَمَا إذَا أَخَذَ الْمَالَ وَخَرَجَ مَعَهُ مِنْ الْحِرْزِ فَإِنَّهُ فِعْلٌ وَاحِدٌ كَذَلِكَ .
هَذَا وَقَوْلُهُ ( فَإِذَا خَرَجَ وَلَمْ يَأْخُذْهُ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَا لَوْ خَرَجَ وَلَمْ يَأْخُذْ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إنْ حَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ ) ظَاهِرٌ .
( وَإِذَا دَخَلَ الْحِرْزَ جَمَاعَةٌ فَتَوَلَّى بَعْضُهُمْ الْأَخْذَ قُطِعُوا جَمِيعًا ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ : هَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ الْحَامِلُ وَحْدَهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ وُجِدَ مِنْهُ فَتَمَّتْ السَّرِقَةُ بِهِ .
وَلَنَا أَنَّ الْإِخْرَاجَ مِنْ الْكُلِّ مَعْنًى لِلْمُعَاوَنَةِ كَمَا فِي السَّرِقَةِ الْكُبْرَى ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَادَ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنْ يَحْمِلَ الْبَعْضُ الْمَتَاعَ وَيَتَشَمَّرَ الْبَاقُونَ لِلدَّفْعِ ، فَلَوْ امْتَنَعَ الْقَطْعُ لَأَدَّى إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ .
قَالَ ( وَإِذَا دَخَلَ الْحِرْزَ جَمَاعَةٌ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَإِنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي دُخُولِ جَمِيعِهِمْ لِأَنَّهُمْ إذَا اشْتَرَكُوا وَاتَّفَقُوا عَلَى فِعْلِ السَّرِقَةِ لَكِنْ دَخَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ الْبَيْتَ وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ وَلَمْ يَدْخُلْ غَيْرُهُ فَالْقَطْعُ عَلَى مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ إنْ عُرِفَ بِعَيْنِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ فَعَلَيْهِمْ التَّعْزِيرُ ، وَلَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ الدَّاخِلِ يُعِينُ الدَّاخِلَ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَدْخُلُوا الْبَيْتَ لَمْ يَتَأَكَّدْ مُعَاوَنَتُهُمْ بِهَتْكِ الْحِرْزِ بِالدُّخُولِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ اشْتِرَاكُهُمْ لِمَا أَنَّ كَمَالَ هَتْكِ الْحِرْزِ إنَّمَا يَكُونُ بِالدُّخُولِ وَقَدْ وُجِدَ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَاعْتُبِرَ اشْتِرَاكُهُمْ ، قَالُوا : هَذَا إذَا كَانَ الْآخِذُ الْحَامِلُ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ بِأَنْ كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْآخِذُ الْحَامِلُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَلَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَامِلِ فِي هَذَا الْفِعْلِ تَبَعٌ لِلْآخِذِ الْحَامِلِ ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ عَلَى مَنْ هُوَ أَصْلٌ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ هُوَ تَبَعٌ وَإِنْ كَانَ الَّذِي تَوَلَّى الْحَمْلَ وَالْإِخْرَاجَ كَبِيرًا لَكِنْ فِيهِمْ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الْكُلِّ وَاحِدٌ وَقَدْ تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي فِعْلِ بَعْضِهِمْ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْبَاقِينَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَجِبُ الْقَطْعُ إلَّا عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ .
قَالَ ( وَمَنْ نَقَبَ الْبَيْتَ وَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ وَأَخَذَ شَيْئًا لَمْ يُقْطَعْ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الْمَالَ مِنْ الْحِرْزِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا يُشْتَرَطُ الدُّخُولُ فِيهِ ، كَمَا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي صُنْدُوقِ الصَّيْرَفِيِّ فَأَخْرَجَ الْغِطْرِيفِيَّ .
وَلَنَا أَنَّ هَتْكَ الْحِرْزِ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْكَمَالُ تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ الْعَدَمِ وَالْكَمَالِ فِي الدُّخُولِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ وَالدُّخُولُ هُوَ الْمُعْتَادُ .
بِخِلَافِ الصُّنْدُوقِ لِأَنَّ الْمُمْكِنَ فِيهِ إدْخَالُ الْيَدِ دُونَ الدُّخُولِ ، وَبِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَمْلِ الْبَعْضِ الْمَتَاعَ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَادُ .
قَالَ ( وَإِنْ طَرَّ صُرَّةً خَارِجَةً مِنْ الْكُمِّ لَمْ يُقْطَعْ ، وَإِنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْكُمِّ يُقْطَعُ ) لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الرِّبَاطَ مِنْ خَارِجٍ ، فَبِالطَّرِّ يَتَحَقَّقُ الْأَخْذُ مِنْ الظَّاهِرِ فَلَا يُوجَدُ هَتْكُ الْحِرْزِ .
وَفِي الثَّانِي الرِّبَاطُ مِنْ دَاخِلٍ ، فَبِالطَّرِّ يَتَحَقَّقُ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ وَهُوَ الْكُمُّ ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الطَّرِّ حَلُّ الرِّبَاطِ ، ثُمَّ الْأَخْذُ فِي الْوَجْهَيْنِ يَنْعَكِسُ الْجَوَابُ لِانْعِكَاسِ الْعِلَّةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُقْطَعُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ إمَّا بِالْكُمِّ أَوْ بِصَاحِبِهِ .
قُلْنَا : الْحِرْزُ هُوَ الْكُمُّ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُهُ ، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ أَوْ الِاسْتِرَاحَةِ فَأَشْبَهَ الْجُوَالِقَ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ نَقَبَ الْبَيْتَ ) وَاضِحٌ .
وَالْغِطْرِيفِيُّ هُوَ الدِّرْهَمُ الْمَنْسُوبُ إلَى غِطْرِيفِ بْنِ عَطَاءٍ الْكِنْدِيِّ أَمِيرِ خُرَاسَانَ أَيَّامَ الرَّشِيدِ ، وَالدَّرَاهِمُ الْغِطْرِيفِيَّةُ كَانَتْ مِنْ أَعَزِّ النُّقُودِ بِبُخَارَى كَذَا فِي الْمُغْرِبِ .
وَيُؤَيِّدُ وَجْهَ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : اللِّصُّ إذَا كَانَ ظَرِيفًا لَا يُقْطَعُ ، قِيلَ : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : أَنْ يَنْقُبَ الْبَيْتَ وَيُدْخِلَ يَدَهُ وَيُخْرِجَ الْمَتَاعَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الصُّنْدُوقِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي صُنْدُوقِ الصَّيْرَفِيِّ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ الْكَمَالُ فِي هَتْكِ الْحِرْزِ شَرْطًا تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ الْعَدَمِ لَمَا وَجَبَ الْقَطْعُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَمْلِ بَعْضِ الْقَوْمِ الْمَتَاعَ دُونَ بَعْضٍ لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْعَدَمِ .
أَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَادُ ( وَإِنْ طَرَّ صُرَّةً ) الطَّرَّارُ هُوَ الَّذِي يَطُرُّ الْهِمْيَانَ : أَيْ يَشُقُّهَا وَيَقْطَعُهَا ، وَالصُّرَّةُ وِعَاءُ الدَّرَاهِمِ ، يُقَالُ صَرَرْت الصُّرَّةَ : أَيْ شَدَدْتهَا ، وَالْمُرَادُ بِالصُّرَّةِ هُنَا نَفْسُ الْكُمِّ الْمَشْدُودِ فِيهِ الدَّرَاهِمُ .
وَفِي هَذَا التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِأَنَّ الطَّرَّارَ يُقْطَعُ لَيْسَ بِمُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ ، وَهِيَ مَا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْكُمِّ فَطَرَّهَا ( قَوْلُهُ فَلَا يُوجَدُ هَتْكُ الْحِرْزِ ) يَعْنِي إدْخَالَ الْيَدِ فِي الْكُمِّ وَإِخْرَاجَ الدَّرَاهِمِ مِنْهُ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الْوَجْهَيْنِ ) أَيْ مِنْ الْخَارِجِ وَالدَّاخِلِ .
وَقَوْلُهُ ( يَنْعَكِسُ الْجَوَابُ ) يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ حَلَّ الرِّبَاطَ خَارِجَ الْكُمِّ يَجِبُ الْقَطْعُ ، لِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّ الرِّبَاطَ الَّذِي كَانَ خَارِجَ الْكُمِّ وَقَعَتْ الدَّرَاهِمُ فِي الْكُمِّ فَاحْتَاجَ فِي أَخْذِ الدَّرَاهِمِ إلَى إدْخَالِ الْيَدِ فِي الْكُمِّ ، فَلَمَّا أَخْرَجَ الدَّرَاهِمَ مِنْ الْكُمِّ فَقَدْ هَتَكَ
الْحِرْزَ .
بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ حَلَّ الرِّبَاطَ فِي دَاخِلِ الْكُمِّ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ ، لِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّ الرِّبَاطَ فِي دَاخِلِ الْكُمِّ بَقِيَتْ الدَّرَاهِمُ خَارِجَ الْكُمِّ ظَاهِرَةً مَحْلُولَةً ، فَكَانَ الْأَخْذُ مِنْ خَارِجِ الْكُمِّ فَلَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّهُ لَمْ يَهْتِكْ الْحِرْزَ فِي أَخْذِ الْمَالِ ، لِأَنَّهُ وَإِنْ أَدْخَلَ الْيَدَ فِي الْكُمِّ إلَّا أَنَّهُ أَدْخَلَهَا لِحَلِّ الرِّبَاطِ لَا لِأَخْذِ الْمَالِ مِنْ الْكُمِّ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ يَنْعَكِسُ الْجَوَابُ لِانْعِكَاسِ الْعِلَّةِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُهُ ) أَيْ لِأَنَّ صَاحِبَ الْكُمِّ يَعْتَمِدُ الْكُمَّ فِي حِفْظِ الْمَالِ لَا قِيَامَ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ قَصْدَ صَاحِبِ الْكُمِّ مِنْ وُجُودِهِ عِنْدَ الْمَالِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : قَطْعِ الْمَسَافَةِ ، أَوْ الِاسْتِرَاحَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ الْمَشْيِ أَوْ فِي غَيْرِ حَالَتِهِ ، فَفِي الْأَوَّلِ قَصْدُهُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ لَا حِفْظُ الْمَالِ ، وَفِي الثَّانِي قَصْدُهُ الِاسْتِرَاحَةُ ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذَا الْبَابِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ شَقَّ الْجُوَالِقَ الَّذِي عَلَى إبِلٍ تَسِيرُ وَأَخَذَ الدَّرَاهِمَ مِنْهُ يُقْطَعُ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ اعْتَمَدَ الْجُوَالِقَ حِرْزًا لَهَا فَكَانَ سَارِقُ الدَّرَاهِمِ مِنْ الْجُوَالِقِ هَاتِكًا لِلْحِرْزِ فَيُقْطَعُ .
وَمَنْ سَرَقَ الْجُوَالِقَ بِمَا فِيهِ وَالْجُوَالِقُ عَلَى إبِلٍ تَسِيرُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ السَّائِقَ وَالْقَائِدَ إنَّمَا يَقْصِدُ بِفِعْلِهِ قَطْعَ الْمَسَافَةِ وَالسَّوْقَ لَا الْحِفْظَ فَلَمْ يَصِرْ الْجُوَالِقُ مُحْرَزًا بِهِ مَقْصُودًا عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ .
( وَإِنْ سَرَقَ مِنْ الْقِطَارِ بَعِيرًا أَوْ حِمْلًا لَمْ يُقْطَعْ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّزٍ مَقْصُودًا فَتَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ الْعَدَمِ ، وَهَذَا لِأَنَّ السَّائِقَ وَالْقَائِدَ وَالرَّاكِبَ يَقْصِدُونَ قَطْعَ الْمَسَافَةِ وَنَقْلَ الْأَمْتِعَةِ دُونَ الْحِفْظِ .
حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَ الْأَحْمَالِ مَنْ يَتْبَعُهَا لِلْحِفْظِ قَالُوا يُقْطَعُ ( وَإِنْ شَقَّ الْحِمْلَ وَأَخَذَ مِنْهُ قُطِعَ ) لِأَنَّ الْجُوَالِقَ فِي مِثْلِ هَذَا حِرْزٌ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِوَضْعِ الْأَمْتِعَةِ فِيهِ صِيَانَتَهَا كَالْكُمِّ فَوُجِدَ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ فَيُقْطَعُ ( وَإِنْ سَرَقَ جُوَالِقًا فِيهِ مَتَاعٌ وَصَاحِبُهُ يَحْفَظُهُ أَوْ نَائِمٌ عَلَيْهِ قُطِعَ ) وَمَعْنَاهُ إنْ كَانَ الْجُوَالِقُ فِي مَوْضِعٍ هُوَ لَيْسَ بِحِرْزٍ كَالطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ حَتَّى يَكُونَ مُحَرَّزًا بِصَاحِبِهِ لِكَوْنِهِ مُتَرَصِّدًا لِحِفْظِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْحِفْظُ الْمُعْتَادُ وَالْجُلُوسُ عِنْدَهُ وَالنَّوْمُ عَلَيْهِ يُعَدُّ حِفْظًا عَادَةً وَكَذَا النَّوْمُ بِقُرْبٍ مِنْهُ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .
وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ، وَصَاحِبُهُ نَائِمٌ عَلَيْهِ أَوْ حَيْثُ يَكُونُ حَافِظًا لَهُ ، وَهَذَا يُؤَكِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ سَرَقَ مِنْ الْقِطَارِ بَعِيرًا ) الْقِطَارُ : الْإِبِلُ تَقْطُرُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ وَالْجَمْعُ قُطُرٌ ، وَمِنْهُ تَقَاطَرَ الْقَوْمُ إذَا جَاءُوا أَرْسَالًا .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا يُؤَكِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ ) يُرِيدُ قَوْلَهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَافِظُ مُسْتَيْقِظًا إلَى قَوْلِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَطْعِ وَإِثْبَاتِهِ قَالَ ( وَيُقْطَعُ يَمِينُ السَّارِقِ مِنْ الزَّنْدِ وَيُحْسَمُ ) فَالْقَطْعُ لِمَا تَلَوْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ، وَالْيَمِينُ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنْ الزَّنْدِ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ الْيَدَ إلَى الْإِبِطِ ، وَهَذَا الْمَفْصِلُ : أَعْنِي الرُّسْغَ مُتَيَقَّنٌ بِهِ ، كَيْفَ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ مِنْ الزَّنْدِ ، وَالْحَسْمُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَاقْطَعُوهُ وَاحْسِمُوهُ ، } " وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْسَمْ يُفْضِي إلَى التَّلَفِ وَالْحَدُّ زَاجِرٌ لَا مُتْلِفٌ ( فَإِنْ سَرَقَ ثَانِيًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى ، فَإِنْ سَرَقَ ثَالِثًا لَمْ يُقْطَعْ وَخُلِّدَ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَتُوبَ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَيُعَزَّرُ أَيْضًا ، ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فِي الثَّالِثَةِ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى ، وَفِي الرَّابِعَةِ تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُمْنَى لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ } وَيُرْوَى مُفَسَّرًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ ، وَلِأَنَّ الثَّالِثَةَ مِثْلُ الْأُولَى فِي كَوْنِهَا جِنَايَةً بَلْ فَوْقَهَا فَتَكُونُ أَدْعَى إلَى شَرْعِ الْحَدِّ .
وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ : إنِّي لَأَسْتَحِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا أَدَعَ لَهُ يَدًا يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِي بِهَا وَرِجْلًا يَمْشِي عَلَيْهَا ، وَبِهَذَا حَاجَّ بَقِيَّةَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَحَجَّهُمْ فَانْعَقَدَ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّهُ إهْلَاكٌ مَعْنًى لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَالْحَدُّ زَاجِرٌ ، وَلِأَنَّهُ نَادِرُ الْوُجُودِ وَالزَّجْرُ فِيمَا يَغْلِبُ وُقُوعُهُ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُسْتَوْفَى مَا أَمْكَنَ جَبْرًا لِحَقِّهِ .
وَالْحَدِيثُ طَعَنَ فِيهِ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى السِّيَاسَةِ
( فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَطْعِ وَإِثْبَاتِهِ ) : لَمَّا ذَكَرَ وُجُوبَ قَطْعِ الْيَدِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ وَهَذَا الْفَصْلُ فِي بَيَانِهِ .
الزَّنْدُ مَفْصِلُ طَرَفِ الذِّرَاعِ مِنْ الْكَفِّ .
وَالْحَسْمُ مِنْ حَسَمَ الْعِرْقَ : كَوَاهُ بِحَدِيدَةٍ مُحْمَاةٍ لِئَلَّا يَسِيلَ دَمُهُ ( فَالْقَطْعُ لِمَا تَلَوْنَاهُ ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } الْآيَةَ ( وَالْيَمِينُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ ) فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا وَهِيَ مَشْهُورَةٌ جَازَتْ الزِّيَادَةُ بِهَا عَلَى الْكِتَابِ وَقَدْ عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ( وَمِنْ الزَّنْدِ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ الْيَدَ إلَى الْإِبِطِ ، وَهَذَا الْمَفْصِلُ : أَعْنِي الرُّسْغَ مُتَيَقَّنٌ بِهِ ) مِنْ حَيْثُ الْقَطْعُ وَالْمَقْطُوعُ لِكَوْنِهِ أَقَلَّ ، فَقَوْلُنَا مِنْ حَيْثُ الْقَطْعُ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ إنَّ الْمُسْتَحَقَّ قَطْعُ الْأَصَابِعِ فَقَطْ لِأَنَّ بَطْشَهُ كَانَ بِالْأَصَابِعِ فَتُقْطَعُ أَصَابِعُهُ لِيَزُولَ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْبَطْشِ بِهَا ؛ لِأَنَّ فِيهِ قَطْعًا مُكَرَّرًا ، وَفِيمَا قُلْنَا قَطْعٌ وَاحِدٌ عَلَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ الْيَدُ ، وَقَوْلُنَا مِنْ حَيْثُ الْمَقْطُوعُ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْخَوَارِجِ تُقْطَعُ يَمِينُ السَّارِقِ مِنْ الْمَنْكِبِ لِأَنَّ الْيَدَ اسْمٌ لِلْجَارِحَةِ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْآبَاطِ لِأَنَّ فِيهِ تَكْثِيرًا لِلْمَقْطُوعِ .
وَقَوْلُهُ ( كَيْفَ وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَطْعِ السَّارِقِ مِنْ الزَّنْدِ وَالْحَسْمِ } ) رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا سَرَقَ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : مَا إخَالُهُ سَرَقَ .
فَقَالَ السَّارِقُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ .
ثُمَّ احْسِمُوهُ } " الْحَدِيثَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْسَمْ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَخُلِّدَ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَتُوبَ ) حَاصِلُهُ أَنَّ
السَّارِقَ لَا يُؤْتَى عَلَى أَطْرَافِهِ الْأَرْبَعَةِ بِالْقَطْعِ ؛ وَإِنَّمَا يُقْطَعُ يَمِينُهُ أَوَّلَ سَرِقَةٍ .
وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى ثَانِيهَا ، ثُمَّ يُعَزَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيُحْبَسُ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بَعْدَ الرَّابِعَةِ يُحْبَسُ .
وَعِنْدَ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ يُقْتَلُ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُرْوَى مُفَسَّرًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ هُوَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى .
وَفِي الثَّانِيَةِ الرِّجْلُ الْيُسْرَى ، وَفِي الثَّالِثَةِ الْيَدُ الْيُسْرَى ، وَفِي الرَّابِعَةِ الرِّجْلُ الْيُمْنَى } " ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الثَّالِثَةَ ) ظَاهِرٌ .
قَوْلُهُ فَحَجَّهُمْ ) أَيْ غَلَبَهُمْ فِي الْحُجَّةِ ، يُقَالُ حَاجَّهُ فَحَجَّهُ : أَيْ نَاظَرَهُ فِي الْحُجَّةِ فَغَلَبَهُ بِهَا ( وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ ) جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ : لَوْ قَطَعَ رَجُلٌ أَرْبَعَةَ أَطْرَافٍ اُقْتُصَّ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ هُنَاكَ مَوْجُودٌ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُ يَدٌ يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِي بِهَا وَرِجْلٌ يَمْشِي عَلَيْهَا .
وَفِيهِ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَنَادِرُ الْوُجُودِ .
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْعِبَادِ ، وَحَقُّ الْعَبْدِ يُرَاعَى فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ بِالنَّصِّ ( وَالْحَدِيثُ ) الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ دَلِيلًا عَلَى دَعْوَاهُ هَذِهِ ( طَعَنَ فِيهِ الطَّحَاوِيُّ ) قَالَ : تَتَبَّعْنَا هَذِهِ الْآثَارَ فَلَمْ نَجِدْ لِشَيْءٍ مِنْهَا أَصْلًا أَشَارَ بِهَا إلَى مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ الْبَغْدَادِيُّ : قَالَ الطَّحَاوِيُّ : إنَّهُ حَدِيثٌ لَا أَصْلَ لَهُ ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَقِينَاهُ مِنْ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ يُنْكِرُونَهُ وَيَقُولُونَ : لَمْ نَجِدْ لَهُ أَصْلًا ( أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى السِّيَاسَةِ ) بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْقَتْلِ فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ .
( وَإِذَا كَانَ السَّارِقُ أَشَلَّ الْيَدِ الْيُسْرَى أَوْ أَقْطَعَ أَوْ مَقْطُوعَ الرِّجْلِ الْيُمْنَى لَمْ يُقْطَعْ ) لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بَطْشًا أَوْ مَشْيًا ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى شَلَّاءَ لِمَا قُلْنَا ( وَكَذَا إذَا كَانَتْ إبْهَامُهُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً أَوْ شَلَّاءَ أَوْ الْأُصْبُعَانِ مِنْهَا سِوَى الْإِبْهَامِ ) لِأَنَّ قِوَامَ الْبَطْشِ بِالْإِبْهَامِ ( فَإِنْ كَانَتْ أُصْبُعٌ وَاحِدَةٌ سِوَى الْإِبْهَامِ مَقْطُوعَةً أَوْ شَلَّاءَ قُطِعَ ) لِأَنَّ فَوَاتَ الْوَاحِدَةِ لَا يُوجِبُ خَلَلًا ظَاهِرًا فِي الْبَطْشِ ، بِخِلَافِ فَوَاتِ الْأُصْبُعَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَتَنَزَّلَانِ مَنْزِلَةَ الْإِبْهَامِ فِي نُقْصَانِ الْبَطْشِ .وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بَطْشًا ) يَعْنِي إنْ كَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى مُؤَفَّةً ( أَوْ مَشْيًا ) إنْ كَانَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى كَذَلِكَ وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ .
قَالَ ( وَإِذَا قَالَ الْحَاكِمُ لِلْحَدَّادِ اقْطَعْ يَمِينَ هَذَا فِي سَرِقَةٍ سَرَقَهَا فَقَطَعَ يَسَارَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَالَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْخَطَأِ وَيَضْمَنُ فِي الْعَمْدِ ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَضْمَنُ فِي الْخَطَأِ أَيْضًا وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَالْمُرَادُ بِالْخَطَأِ هُوَ الْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ ، وَأَمَّا الْخَطَأُ فِي مَعْرِفَةِ الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ لَا يُجْعَلُ عَفْوًا .
وَقِيلَ يُجْعَلُ عُذْرًا أَيْضًا .
لَهُ أَنَّهُ قَطَعَ يَدًا مَعْصُومَةً وَالْخَطَأُ فِي حَقِّ الْعِبَادِ غَيْرُ مَوْضُوعٍ فَيَضْمَنَا .
قُلْنَا إنَّهُ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ ، إذْ لَيْسَ فِي النَّصِّ تَعْيِينُ الْيَمِينِ ، وَالْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ مَوْضُوعٌ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ قَطَعَ طَرَفًا مَعْصُومًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا تَأْوِيلٍ لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ الظُّلْمَ فَلَا يُعْفَى وَإِنْ كَانَ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ لِلشُّبْهَةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَتْلَفَ وَأَخْلَفَ مِنْ جِنْسِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ فَلَا يُعَدُّ إتْلَافًا كَمَنْ شَهِدَ عَلَى غَيْرِهِ بِبَيْعِ مَالِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ ثُمَّ رَجَعَ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَطَعَهُ غَيْرُ الْحَدَّادِ لَا يَضْمَنُ أَيْضًا هُوَ الصَّحِيحُ .
وَلَوْ أَخْرَجَ السَّارِقُ يَسَارَهُ وَقَالَ هَذِهِ يَمِينِي لَا يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ قَطْعَهُ بِأَمْرِهِ .
ثُمَّ فِي الْعَمْدِ عِنْدَهُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ حَدًّا .
وَفِي الْخَطَأِ كَذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ ، وَعَلَى طَرِيقَةِ الِاجْتِهَادِ لَا يَضْمَنُ
قَالَ ( وَإِذَا قَالَ الْحَاكِمُ لِلْحَدَّادِ اقْطَعْ يَمِينَ هَذَا السَّارِقِ ) الْحَدَّادُ هُوَ الَّذِي يُقِيمُ الْحَدَّ فَعَّالٌ مِنْهُ كَالْجَلَّادِ مِنْ الْجَلْدِ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ يَمِينَ هَذَا لِأَنَّهُ إذَا قَالَ اقْطَعْ يَدَهُ مُطْلَقًا فَقَطَعَ الْحَدَّادُ يَدَهُ الْيُسْرَى فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ .
فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِقَطْعِ الْيَدِ وَالْيُسْرَى يَدٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ مَا إذَا قَطَعَ الْيَمِينَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ لَهُ اقْطَعْ .
وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْيَدِ قَدْ سَقَطَتْ بِقَضَاءِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ .
فَالْقَاطِعُ اسْتَوْفَى يَدًا لَا قِيمَةَ لَهَا فَلَمْ يَكُنْ ضَامِنًا ، لَكِنْ أَدَّبَهُ الْإِمَامُ لِأَنَّهُ أَسَاءَ الْأَدَبَ حِينَ قَطَعَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ الْإِمَامُ بِهِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( بِغَيْرِ حَقٍّ ) دَلِيلُهُ أَنَّ الْحَقَّ فِي الْيَمِينِ فِي السَّرِقَةِ وَهُوَ أَيْضًا لَمْ يَقْطَعْ يَسَارَ أَحَدٍ لِيَكُونَ حَقُّ الْقَطْعِ الْيَسَارِ قِصَاصًا ( وَلَا تَأْوِيلَ ) حَيْثُ لَمْ يُخْطِئْ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا تَعَمَّدَ فِي قَطْعِ الْيَسَارِ ( فَلَا يُعْفَى ) كَمَا لَوْ قَطَعَ رِجْلَهُ أَوْ أَنْفَهُ ( وَإِنْ كَانَ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ ) لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُعَذَّرُ فِيمَا إذَا أَخْطَأَ إذَا كَانَ الدَّلِيلُ ظَاهِرًا كَالْحُكْمِ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا ( وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ لِلشُّبْهَةِ ) وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يُوجِبُ تَنَاوُلَ الْيَدَيْنِ جَمِيعًا فَصَارَ شُبْهَةً فِي حَقِّ الْقِصَاصِ ، إذْ الْقِصَاصُ لَا يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ ، بِخِلَافِ ضَمَانِ الْمَالِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ) تَقْرِيرُهُ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ .
سَلَّمْنَا أَنَّهُ قَطَعَ طَرَفًا مَعْصُومًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا تَأْوِيلَ ، لَكِنَّهُ أَخْلَفَ مِنْ جِنْسِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ فَلَا يُعَدُّ إتْلَافًا ( وَعَلَى هَذَا ) التَّقْرِيرِ ( لَوْ قَطَعَهُ
غَيْرُ الْحَدَّادِ ) أَيْ لَوْ قَطَعَ يَسَارَ السَّارِقِ غَيْرُ الْحَدَّادِ بَعْدَ حُكْمِ الْقَاضِي بِقَطْعِ يَمِينِهِ ( لَا يَضْمَنُ ) شَيْئًا لِأَنَّ امْتِنَاعَ قَطْعِ الْيَمِينِ بَعْدَ قَطْعِ الْيَسَارِ لَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَاطِعُ الْيَسَارِ مَأْمُورَ الْحَاكِمِ أَوْ أَجْنَبِيًّا غَيْرَ مَأْمُورٍ ( وَقَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فَقَالَ فِيهِ : وَلَوْ قَطَعَ غَيْرُهُ يَدَهُ الْيُسْرَى فَإِنَّ فِي الْعَمْدِ الْقِصَاصَ وَفِي الْخَطَإِ الدِّيَةَ ، وَسَقَطَ الْقَطْعُ عَنْهُ فِي الْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ أَدَّى إلَى الِاسْتِهْلَاكِ ، وَيَرُدُّ السَّرِقَةَ إنْ كَانَ قَائِمًا وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ فِي الْهَالِكِ قَوْلُهُ وَلَوْ أَخْرَجَ السَّارِقُ يَسَارَهُ ) ظَاهِرٌ ( قَوْلُهُ ثُمَّ فِي الْعَمْدِ عِنْدَهُ ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى السَّارِقِ ( ضَمَانُ الْمَالِ ) الْمَسْرُوقِ إنْ كَانَ هَالِكًا ( لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ حَدًّا ) وَإِنَّمَا خَصَّ أَبَا حَنِيفَةَ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى السَّارِقِ بِالِاتِّفَاقِ دَفْعًا لِمَا عَسَى أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ قَطْعَ الْيَسَارِ وَقَعَ حَدًّا عِنْدَهُ حَيْثُ لَمْ يُوجِبْ الضَّمَانَ عَلَى الْحَدَّادِ ، فَأَزَالَ ذَلِكَ بِبَيَانِ وُجُوبِ الضَّمَانِ إيذَانًا بِأَنَّ الْقَطْعَ لَمْ يَقَعْ حَدًّا ، إذْ الْقَطْعُ حَدًّا وَالضَّمَانُ لَا يَجْتَمِعَانِ وَعَدَمُ الضَّمَانِ عَلَى الْحَدَّادِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَخْلَفَ خَيْرًا لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْقَطْعَ وَقَعَ حَدًّا ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِهِمَا فَظَاهِرٌ لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهِ لِأَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ الْحَدَّادَ فِي الْعَمْدِ فَلَا يَقَعُ الْقَطْعُ حَدًّا لَا مَحَالَةَ فَيَضْمَنُ السَّارِقُ لِعَدَمِ لُزُومِ الْجَمْعِ بَيْنَ الضَّمَانِ وَالْقَطْعِ حَدًّا .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي الْخَطَإِ كَذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ ) أَيْ عَلَى طَرِيقَةِ أَنَّ الْقَطْعَ لَمْ يَقَعْ حَدًّا لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقَعْ حَدًّا لَمْ يُوجَدْ مَا يُنَافِي الضَّمَانَ وَالْمُقْتَضِي وَهُوَ الْإِتْلَافُ مَوْجُودٌ فَيَجِبُ الضَّمَانُ أَلْبَتَّةَ ( وَعَلَى
طَرِيقَةِ الِاجْتِهَادِ ) الَّذِي قُلْنَا فِي طَرِيقِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ ضَمَانَ الْيَدِ عَلَى الْحَدَّادِ بَطَلَ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ( لَا يَضْمَنُ ) السَّارِقُ الْمَالَ لِوُقُوعِ الْقَطْعِ مَوْقِعَ الْحَدِّ بِالِاجْتِهَادِ وَالضَّمَانُ وَالْقَطْعُ حَدًّا لَا يَجْتَمِعَانِ .
( وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ فَيُطَالِبُ بِالسَّرِقَةِ ) لِأَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِهَا ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الْإِقْرَارِ ، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ لَا تَظْهَرُ إلَّا بِخُصُومَتِهِ ، وَكَذَا إذَا غَابَ عِنْدَ الْقَطْعِ عِنْدَنَا ، لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي بَابِ الْحُدُودِ
قَالَ ( وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اشْتِرَاطِ حُضُورِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَطَلَبِهِ السَّرِقَةَ لِلْقَطْعِ ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى السَّرِقَةِ حِسْبَةً كَالزِّنَا ، لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ أَقَرَّ السَّارِقُ بِالسَّرِقَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَنْبَنِي عَلَى الدَّعْوَى فِي الْحَالِ ، فَمَا لَمْ يَحْضُرْ هُوَ أَوْ نَائِبُهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ غَابَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاءُ الْقَطْعِ .
وَعِنْدَنَا حُضُورُهُ شَرْطٌ فِي الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ جَمِيعًا عِنْدَ الْأَدَاءِ وَعِنْدَ الْقَطْعِ ، لِأَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ لِقِيَامِ احْتِمَالِ رَدِّ الْإِقْرَارِ وَالْإِقْرَارُ لَهُ بِالْمِلْكِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ وَبِهِ تَنْتَفِي السَّرِقَةُ ، وَكُلُّ مَا هُوَ شَرْطُ الشَّيْءِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ فَكَانَ الْقَطْعُ قَبْلَ حُضُورِهِ اسْتِيفَاءَ الْحَدِّ مَعَ قِيَامِ الشُّبْهَةِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ ، وَكَلَامُهُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ خَلَا أَنَّ فِيهِ تَوَهُّمَ التَّكْرَارِ ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ لَا تَظْهَرُ إلَّا بِخُصُومَةٍ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِهَا : أَيْ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ وَهِيَ الْجِنَايَةُ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُدْفَعَ بِأَنَّ الْأَوَّلَ تَعْلِيلٌ لِاشْتِرَاطِ الْحُضُورِ ، وَالثَّانِيَ لِعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ وَإِنْ كَانَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ ؛ وَمَعْنَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي بَابِ الْحُدُودِ قَدْ تَقَدَّمَ .
( وَلِلْمُسْتَوْدَعِ وَالْغَاصِبِ وَصَاحِبِ الرِّبَا أَنْ يَقْطَعُوا السَّارِقَ مِنْهُمْ ) وَلِرَبِّ الْوَدِيعَةِ أَنْ يَقْطَعَهُ أَيْضًا ، وَكَذَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ .
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْغَاصِبِ وَالْمُسْتَوْدَعِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْمُسْتَعِيرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُضَارِبُ وَالْمُسْتَبْضِعُ وَالْقَابِضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمُرْتَهِنُ وَكُلُّ مَنْ لَهُ يَدٌ حَافِظَةٌ سِوَى الْمَالِكِ ، وَيُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ فِي السَّرِقَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ إلَّا أَنَّ الرَّاهِنَ إنَّمَا يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ حَالَ قِيَامِ الرَّهْنِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْعَيْنِ بِدُونِهِ .
وَالشَّافِعِيُّ بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ أَنْ لَا خُصُومَةَ لِهَؤُلَاءِ فِي الِاسْتِرْدَادِ عِنْدَهُ .
وَزُفَرُ يَقُولُ : وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ فِي حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ ضَرُورَةُ الْحِفْظِ فَلَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ الصِّيَانَةِ .
وَلَنَا أَنَّ السَّرِقَةَ مُوجِبَةٌ لِلْقَطْعِ فِي نَفْسِهَا ، وَقَدْ ظَهَرَتْ عِنْدَ الْقَاضِي بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهِيَ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَقِيبَ خُصُومَةٍ مُعْتَبَرَةٍ مُطْلَقًا إذْ الِاعْتِبَارُ لِحَاجَتِهِمْ إلَى الِاسْتِرْدَادِ فَيَسْتَوْفِي الْقَطْعَ .
وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْخُصُومَةِ إحْيَاءُ حَقِّهِ وَسُقُوطُ الْعِصْمَةِ ضَرُورَةُ الِاسْتِيفَاءِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِشُبْهَةٍ مَوْهُومَةِ الِاعْتِرَاضِ كَمَا إذَا حَضَرَ الْمَالِكُ وَغَابَ الْمُؤْتَمَنُ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ كَانَتْ شُبْهَةُ الْإِذْنِ فِي دُخُولِ الْحِرْزِ ثَابِتَةً
( قَوْلُهُ وَصَاحِبُ الرِّبَا ) قِيلَ صُورَتُهُ : رَجُلٌ بَاعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَقَبَضَهُ فَسُرِقَ مِنْهُ يُقْطَعُ السَّارِقُ بِخُصُومَتِهِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْعَاقِدَ الْآخَرَ مِنْ عَاقِدَيْ الرِّبَا فَكَأَنَّهُ بِالتَّسْلِيمِ لَمْ يَبْقَ لَهُ مِلْكٌ وَلَا يَدٌ فَلَا يَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ ، بِخِلَافِ رَبِّ الْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَإِنَّ الْمِلْكَ لَهُمَا بَاقٍ ( قَوْلُهُ وَكُلُّ مَنْ لَهُ يَدٌ حَافِظَةٌ ) يُرِيدُ مُتَوَلِّيَ الْوَقْفِ وَالْأَبَ وَالْوَصِيَّ ، وَلَوْ سَرَقَ سَارِقٌ مِنْ أَحَدِ هَؤُلَاءِ وَخَاصَمَ الْمَالِكُ قُطِعَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ السَّرِقَةُ مِنْ عِنْدِهِ لِقِيَامِ الْمِلْكِ ( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ الرَّاهِنَ ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ نُسَخُ الْهِدَايَةِ فِيهِ ، فَفِي بَعْضِهَا إلَّا أَنَّ الرَّاهِنَ إنَّمَا يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ حَالَ قِيَامِ الرَّهْنِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ بَعْدَهُ ، وَفِي بَعْضِهَا حَالَ قِيَامِ الرَّهْنِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ .
وَاسْتَصْوَبَهُ الشَّارِحُونَ نَقْلًا وَعَقْلًا ؛ أَمَّا نَقْلًا فَلِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ الْإِيضَاحِ وَالْمُحِيطِ .
قَالَ فِي الْمُحِيطِ : إذَا سُرِقَ الرَّهْنُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَقْطَعَهُ وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَقْطَعَهُ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى أَخْذِ الرَّهْنِ .
قَالَ : وَإِنْ قَضَى الرَّاهِنُ الدَّيْنَ فَلَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ .
وَكَذَا فِي الْإِيضَاحِ .
وَأَمَّا عَقْلًا فَلِأَنَّ السَّارِقَ إنَّمَا تُقْطَعُ يَدُهُ بِخُصُومَةِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ ذَلِكَ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَالْمُرَادُ بِالرَّهْنِ الْمَرْهُونُ ، وَالضَّمِيرُ فِي ( بِدُونِهِ ) رَاجِعٌ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَعَلَى النُّسْخَةِ الْأُولَى إلَى قِيَامِ الرَّهْنِ فَكَانَ شَرْطُ جَوَازِ الْقَطْعِ بِخُصُومَةِ الرَّاهِنِ أَمْرَيْنِ : قِيَامَ الْمَرْهُونِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ لَا سَبِيلَ لِلرَّاهِنِ عَلَيْهِ لِبُطْلَانِ دَيْنِهِ عَنْهُ .
وَقَضَاءُ الدَّيْنِ لِحُصُولِ وِلَايَةِ الِاسْتِرْدَادِ حِينَئِذٍ ،
وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ اتَّفَقَا فِي الْحُكْمِ وَاخْتَلَفَا فِي تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ ( فَالشَّافِعِيُّ بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ أَنْ لَا خُصُومَةَ لِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي الِاسْتِرْدَادِ عِنْدَهُ ) إذَا جَحَدَ مَنْ فِي يَدِهِ الْمَالُ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْمَالِكُ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ لَا يُلْتَفَتُ إلَى خُصُومِهِمْ ( وَزُفَرُ يَقُولُ : وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ فِي الِاسْتِرْدَادِ ضَرُورَةُ الْحِفْظِ ) وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا ( فَلَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ لِأَنَّ فِيهِ ) أَيْ فِي ظُهُورِهَا فِي حَقِّ الْقَطْعِ ( تَفْوِيتَ الصِّيَانَةِ ) لِأَنَّ الْمَالَ مَضْمُونٌ عَلَى السَّارِقِ ، فَلَوْ اسْتَوْفَى الْقَطْعَ سَقَطَ الضَّمَانُ فَيَكُونُ فِيهِ تَضْيِيعٌ لَا صِيَانَةٌ وَهُمْ مَأْمُورُونَ بِالْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ ( وَلَنَا أَنَّ السَّرِقَةَ مُوجِبَةٌ لِلْقَطْعِ فِي نَفْسِهَا ) وَهَذَا ظَاهِرٌ ( وَ ) السَّرِقَةُ ( قَدْ ظَهَرَتْ عِنْدَ الْقَاضِي بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهِيَ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَقِيبَ خُصُومَةٍ مُعْتَبَرَةٍ مُطْلَقًا ) أَيْ غَيْرِ ضَرُورِيَّةٍ ، فَالْمُوجِبُ لِلْقَطْعِ قَدْ ظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ ، وَإِنَّمَا قَالَ إنَّ الْخُصُومَةَ غَيْرُ ضَرُورِيَّةٍ ( لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِحَاجَتِهِمْ إلَى اسْتِرْدَادِ الْيَدِ ) وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْمَالِكِ ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ خُصُومَةِ الْمَالِكِ لِحَاجَتِهِ إلَى إظْهَارِ السَّرِقَةِ لِإِعَادَةِ الْيَدِ عَلَى الْمَحَلِّ تَحْصِيلًا لِلْأَغْرَاضِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْيَدِ .
وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي هَؤُلَاءِ ، أَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُسْتَعِيرُ فَلِاحْتِيَاجِهِمَا إلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمَحَلِّ ، وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ وَالْمُودَعُ فَلِلرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ تَخْلِيصًا لِلذِّمَّةِ عَنْ عُهْدَةِ الضَّمَانِ وَالْتِزَامِ الْحِفْظِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْخُصُومَةَ مُطْلَقَةٌ انْدَفَعَ مَا قَالَ زُفَرُ إنَّهَا ضَرُورَةُ الْحِفْظِ فَلَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْخُصُومَةِ ) أَيْ مَقْصُودُ صَاحِبِ الْيَدِ ( إحْيَاءُ حَقِّ
الْمَالِكِ وَسُقُوطُ ) الضَّمَانِ بِسُقُوطِ ( الْعِصْمَةِ ) مِنْ ضَرُورَةِ الْقَطْعِ فَكَانَ ضِمْنِيًّا وَالضِّمْنِيُّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ زُفَرَ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ الصِّيَانَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا مُعْتَبَرَ بِشُبْهَةٍ مَوْهُومَةِ الِاعْتِرَاضِ ) جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ أَنْ يُقَالَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ السَّارِقُ بِدُونِ حَضْرَةِ الْمَالِكِ كَمَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةٍ قُبَيْلَ هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَوْ حَضَرَ أَقَرَّ لِلسَّارِقِ بِالْمَسْرُوقِ .
وَتَوْجِيهُ الْجَوَابِ هَذِهِ شُبْهَةٌ مَوْهُومَةُ الِاعْتِرَاضِ فَلَا تُعْتَبَرُ ( كَمَا إذَا حَضَرَ الْمَالِكُ وَغَابَ الْمُؤْتَمَنُ ) فَإِنَّ فِيهِ شُبْهَةً مَوْهُومَةً أَيْضًا وَهُوَ أَنْ يَحْضُرَ الْمُؤْتَمَنُ وَيَقُولَ إنَّهُ كَانَ ضَيْفًا عِنْدِي فِي الْوَقْتِ الَّذِي سُرِقَ ذَلِكَ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَشْتَرِطْ حُضُورَ الْمُؤْتَمَنِ بَلْ يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ) وَقَيَّدَ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ احْتِرَازًا عَنْ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَالِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ حَالَ غَيْبَةِ الْمُودِعِ لِأَنَّ السَّارِقَ لَمْ يَسْرِقْ مِنْ الْمَالِكِ وَإِنَّمَا سُرِقَ مِنْ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَالِبَ بِذَلِكَ غَيْرُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
وَبَيْنَ مَا إذَا أَقَرَّ السَّارِقُ بِالسَّرِقَةِ فِي غَيْبَةِ الْمَالِكِ حَيْثُ لَا يُقْطَعُ مَا لَمْ يَحْضُرْ مَعَ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ إنَّ السَّرِقَةَ مُوجِبَةٌ لِلْقَطْعِ فِي نَفْسِهَا وَقَدْ ظَهَرَتْ عِنْدَ الْقَاضِي بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهِيَ الْإِقْرَارُ مَوْجُودَةٌ وَشُبْهَةُ الْإِذْنِ بِالدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ أَوْ الْإِقْرَارِ بِالْمَسْرُوقِ لِلسَّارِقِ مَوْهُومَةُ الِاعْتِرَاضِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقْطَعُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَرْقَ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ قَدْ ظَهَرَتْ فِيهِ السَّرِقَةُ عَقِيبَ خُصُومَةٍ مُعْتَبَرَةٍ فَلَمْ تُؤَثِّرْ الشُّبْهَةُ فِي دَفْعِ الْعِلَّةِ عَنْ مُقْتَضَاهَا لِقُوَّتِهَا ، بِخِلَافِ صُورَةِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ
كَذَلِكَ .
.
( وَإِنْ قُطِعَ سَارِقٌ بِسَرِقَةٍ فَسُرِقَتْ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَا لِرَبِّ السَّرِقَةِ أَنْ يَقْطَعَ السَّارِقَ الثَّانِي ) لِأَنَّ الْمَالَ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ السَّارِقِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِالْهَلَاكِ فَلَمْ تَنْعَقِدْ مُوجِبَةً فِي نَفْسِهَا ، وَلِلْأَوَّلِ وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ فِي الِاسْتِرْدَادِ فِي رِوَايَةٍ لِحَاجَتِهِ إذْ الرَّدُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ( وَلَوْ سَرَقَ الثَّانِي قَبْلَ أَنْ يُقْطَعَ الْأَوَّلُ أَوْ بَعْدَ مَا دُرِئَ الْحَدُّ بِشُبْهَةٍ يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْأَوَّلِ ) لِأَنَّ سُقُوطَ التَّقَوُّمِ ضَرُورَةُ الْقَطْعِ وَلَمْ يُوجَدْ فَصَارَ كَالْغَاصِبِقَالَ ( وَإِنْ قُطِعَ سَارِقٌ بِسَرِقَةٍ ) الْمَسْرُوقُ إذَا سُرِقَ مِنْ السَّارِقِ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ أَنْ قُطِعَ يَدُهُ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَمْ يَكُنْ لَهُ : أَيْ لِلسَّارِقِ وَلَا لِلْمَالِكِ أَنْ يَقْطَعَ يَدَ السَّارِقِ الثَّانِي ، أَمَّا السَّارِقُ فَلِوَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا ( أَنَّ الْمَالَ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّهِ حَتَّى لَا يَجِبَ الضَّمَانُ بِالْهَلَاكِ فَلَمْ تَنْعَقِدْ مُوجِبَةً فِي نَفْسِهَا ) وَالثَّانِيَ أَنَّ يَدَهُ لَمْ تَبْقَ مِنْ الْأَيْدِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ مِلْكٍ وَضَمَانٍ الْوَدِيعَةٍ وَخُصُومَةٍ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ لَا تُعْتَبَرُ فِي الْقَطْعِ وَأَمَّا الْمَالِكُ فَلِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِلْأَوَّلِ ) أَيْ السَّارِقِ الْأَوَّلِ ( وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ فِي الِاسْتِرْدَادِ فِي رِوَايَةٍ لِحَاجَتِهِ إذْ الرَّدُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ) وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ لِكَوْنِ الْيَدِ الصَّحِيحَةِ عِبَارَةً عَنْ أَنْ تَكُونَ يَدَ مَالِكٍ أَوْ ضَمَانٍ أَوْ أَمَانَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ سُقُوطَ التَّقَوُّمِ كَانَ لِضَرُورَةِ الْقَطْعِ ، وَكَذَا خُرُوجُ يَدِهِ عَنْ كَوْنِهَا يَدَ ضَمَانٍ كَانَ لِذَلِكَ وَقَدْ انْتَفَى ذَلِكَ فَصَارَ كَالْغَاصِبِ وَالدَّرْءُ بِالشُّبْهَةِ لِعَدَمِ الْقَطْعِ هَاهُنَا وَلِهَذَا قَرَنَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَهُمَا .
( وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَةً فَرَدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ قَبْلَ الِارْتِفَاعِ ) إلَى الْحَاكِمِ ( لَمْ يُقْطَعْ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْطَعُ اعْتِبَارًا بِمَا إذَا رَدَّهُ بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا جُعِلَتْ حُجَّةَ ضَرُورَةِ قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَقَدْ انْقَطَعَتْ الْخُصُومَةُ ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ لِانْتِهَاءِ الْخُصُومَةِ لِحُصُولِ مَقْصُودِهَا فَتَبْقَى تَقْدِيرًا
( وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَةً فَرَدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ ) فَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهَا ( قَبْلَ الِارْتِفَاعِ إلَى الْحَاكِمِ ) أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَمْ يُقْطَعْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْطَعُ اعْتِبَارًا بِمَا إذَا رَدَّهُ بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ ) بِجَامِعِ أَنَّ الْقَطْعَ حَقُّ اللَّهِ فَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْخُصُومَةِ فَكَانَ مَا قَبْلَ الِارْتِفَاعِ وَمَا بَعْدَهُ سَوَاءً ( وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا جُعِلَتْ حُجَّةً ضَرُورَةَ قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ ) يَعْنِي أَنَّ السَّرِقَةَ تَظْهَرُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةُ ضَرُورَةِ قَطْعِ الْخُصُومَةِ وَقَطْعُ الْخُصُومَةِ بِدُونِهَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ ( وَالْخُصُومَةُ قَدْ انْقَطَعَتْ ) بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ فَشَرْطُ ظُهُورِ السَّرِقَةِ قَدْ انْقَطَعَ ، وَإِذَا انْقَطَعَ شَرْطُ ظُهُورِهَا انْقَطَعَ ظُهُورُهَا وَلَا قَطْعَ بِدُونِ ظُهُورِهَا ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ قُطِعَ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَنْقَطِعْ بَلْ انْتَهَى بِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَهُوَ اسْتِرْدَادُ الْمَالِ إلَى الْمَالِكِ ، وَالشَّيْءُ يَتَقَرَّرُ بِانْتِهَائِهِ لَا أَنَّهُ يَبْطُلُ كَالنِّكَاحِ يَتَقَرَّرُ بِالْمَوْتِ لَا أَنَّهُ يَبْطُلُ ، لَكِنَّهَا أَعْنِي الْخُصُومَةَ تُجْعَلُ بَاقِيَةً تَقْدِيرًا لِاسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ ، وَالرَّدُّ إلَى ابْنِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَإِلَى أَخِيهِ وَعَمِّهِ وَخَالِهِ وَهُمْ فِي عِيَالِهِ وَكَذَا إلَى امْرَأَتِهِ أَوْ أَجِيرِهِ مُشَاهَرَةً أَوْ عَبْدِهِ ، وَكَذَا الرَّدُّ إلَى أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ جَدِّهِ سَوَاءٌ كَانُوا فِي عِيَالِهِ أَوْ لَمْ يَكُونُوا كَالرَّدِّ إلَى نَفْسِهِ اسْتِحْسَانًا .
( وَإِذَا قُضِيَ عَلَى رَجُلٍ بِالْقَطْعِ فِي سَرِقَةٍ فَوُهِبَتْ لَهُ لَمْ يُقْطَعْ ) مَعْنَاهُ إذَا سُلِّمَتْ إلَيْهِ ( وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهَا الْمَالِكُ إيَّاهُ ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : يُقْطَعُ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، لِأَنَّ السَّرِقَةَ قَدْ تَمَّتْ انْعِقَادًا وَظُهُورًا ، وَبِهَذَا الْعَارِضِ لَمْ يَتَبَيَّنْ قِيَامُ الْمِلْكِ وَقْتَ السَّرِقَةِ فَلَا شُبْهَةَ .
وَلَنَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالِاسْتِيفَاءِ ، إذْ الْقَضَاءُ لِلْإِظْهَارِ وَالْقَطْعُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ظَاهِرٌ عِنْدَهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْخُصُومَةِ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ وَصَارَ كَمَا إذَا مَلَكَهَا مِنْهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ .
( وَإِذَا قَضَى عَلَى رَجُلٍ بِالْقَطْعِ فِي سَرِقَةٍ فَوَهَبَهُ الْمَالِكُ ) وَسَلَّمَهُ إيَّاهُ ( أَوْ بَاعَهُ إيَّاهُ لَمْ يُقْطَعْ ) وَإِنَّمَا فَسَّرَ الْمُصَنِّفُ كَلَامَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِقَوْلِهِ مَعْنَاهُ إذَا سُلِّمَتْ لِأَنَّ الْهِبَةَ إذَا لَمْ تَتَّصِلْ بِالتَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ لَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ ( وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : يُقْطَعُ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، قَالُوا : لِأَنَّ السَّرِقَةَ قَدْ تَمَّتْ انْعِقَادًا ) بِأَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ إذْ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِي ذَلِكَ ( وَظُهُورًا ) لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ قَضَى عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ ظُهُورِهَا ( وَبِهَذَا الْعَارِضِ ) يَعْنِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلسَّارِقِ بِسَبَبِ الْهِبَةِ أَوْ الْبَيْعِ ( لَمْ يَتَبَيَّنْ قِيَامُ الْمِلْكِ وَقْتَ السَّرِقَةِ ) لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ بِهِمَا إنَّمَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِصَارِ عَلَى وَقْتِ ثُبُوتِ الْهِبَةِ وَالْبَيْعِ ، وَهَذَا احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا أَقَرَّ بِهِ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ لِلسَّارِقِ ، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ يَظْهَرُ مَا كَانَ ثَابِتًا لِلْمُقِرِّ لَهُ مِنْ الْمِلْكِ ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلسَّارِقِ وَقْتَ وُجُودِ السَّرِقَةِ فَيَكُونُ شُبْهَةً ( وَلَنَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ ) يَعْنِي أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْحَدِّ مِنْ تَتِمَّةِ قَوْلِ الْقَاضِي حَكَمْت أَوْ قَضَيْت بِالْقَطْعِ أَوْ بِالرَّجْمِ أَوْ بِالْحَدِّ ( فِي هَذَا الْبَابِ ) يَعْنِي بَابَ الْحُدُودِ ( لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ ) أَيْ عَنْ الْقَضَاءِ ( بِالِاسْتِيفَاءِ ) يَعْنِي أَنَّ الْقَضَاءَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا يُغْنِي غِنَاءَهُ : أَيْ لَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ إلَّا بِالِاسْتِيفَاءِ ( لِأَنَّ الْقَضَاءَ لِلْإِظْهَارِ ) وَلَا إظْهَار هَاهُنَا ( لِأَنَّ الْقَطْعَ حَقُّ اللَّهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ عِنْدَهُ ) فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ الِاسْتِيفَاءُ قَضَاءً فِي هَذَا الْبَابِ لَعَرَى عَنْ الْفَائِدَةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ بَاطِلٌ .
بِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَإِنَّ الْقَضَاءَ فِيهَا يُفِيدُ إظْهَارَ الْحَقِّ لِلطَّالِبِ عَلَى
الْمَطْلُوبِ فَلَا حَاجَةَ إلَى جَعْلِ الْإِمْضَاءِ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَضَاءِ ، وَهَذَا فِقْهُ تَفْوِيضِ اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ إلَى الْأَئِمَّةِ دُونَ سَائِرِ الْحُقُوقِ ( وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ) أَيْ إذَا كَانَ الْإِمْضَاءُ مِنْ الْقَضَاءِ ( يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْخُصُومَةِ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ ) كَمَا يُشْتَرَطُ وَقْتَ ابْتِدَاءِ الْقَاضِي الْقَضَاءَ وَقَدْ انْتَفَى ذَلِكَ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَهَذَا لِأَنَّ مَا يَكُونُ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ يُرَاعَى وُجُودُهُ إلَى وَقْتِ الِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ السَّبَبِ بِدَلِيلِ الْعَمَى وَالْخَرَسِ وَالرِّدَّةِ وَالْفِسْقِ فِي الشُّهُودِ ، فَإِنَّ الْحُدُودَ لَا تُسْتَوْفَى إذَا كَانَتْ الشُّهُودُ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَقْتَ الِاسْتِيفَاءِ بِالْإِجْمَاعِ ذَكَرَهُ فِي الْأَسْرَارِ ( وَقَوْلُهُ وَصَارَ كَمَا إذَا مَلَكَهَا قَبْلَ الْقَضَاءِ ) يَعْنِي صَارَ الْمِلْكُ الْحَادِثُ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمِلْكِ الْحَادِثِ قَبْلَ الْقَضَاءِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْضِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْضِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : جَعَلْتُمْ الْخُصُومَةَ بَاقِيَةً تَقْدِيرًا فِي صُورَةِ رَدِّ الْمَسْرُوقِ بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ وَلَمْ يَكُنْ الِاسْتِيفَاءُ ثَمَّةَ مِنْ الْقَضَاءِ حَتَّى أَوْجَبْتُمْ الْقَطْعَ ، وَهَاهُنَا جَعَلْتُمْ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي بَابِ الْحَدِّ وَجَعَلْتُمْ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ دَافِعًا لِوُجُوبِ الْحَدِّ وَمَا ذَلِكَ إلَّا تَنَاقُضٌ صِرْفٌ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي بَابِ الْحُدُودِ مُطْلَقًا ، لَكِنْ فِي صُورَةِ الرَّدِّ لَمْ يَحْصُلْ بِالرَّدِّ سَرَى الْوَاجِبُ عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ ، وَهَاهُنَا حَدَثَ بَيْنَهُمَا تَصَرُّفٌ مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ وَكَانَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ .
قَالَ ( وَكَذَا إذَا نَقَصَتْ قِيمَتُهَا مِنْ النِّصَابِ ) يَعْنِي قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ الْقَضَاءِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُقْطَعُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ اعْتِبَارًا بِالنُّقْصَانِ فِي الْعَيْنِ .
وَلَنَا أَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ لَمَّا كَانَ شَرْطًا يُشْتَرَطُ قِيَامُهُ عِنْدَ الْإِمْضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا ، بِخِلَافِ النُّقْصَانِ فِي الْعَيْنِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فَكَمُلَ النِّصَابُ عَيْنًا وَدَيْنًا ، كَمَا إذَا اُسْتُهْلِكَ كُلُّهُ ، أَمَّا نُقْصَانُ السِّعْرِ فَغَيْرُ مَضْمُونٍ فَافْتَرَقَا .( وَكَذَلِكَ إذَا نَقَصَتْ قِيمَتُهَا مِنْ النِّصَابِ ) هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَوَهَبْت لَهُ .
وَقَوْلُهُ ( يَعْنِي قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ الْقَضَاءِ ) بَيَانٌ لِذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَانَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ .
وَقَوْلُهُ ( اعْتِبَارًا بِالنُّقْصَانِ فِي الْعَيْنِ ) يَعْنِي بِأَنْ هَلَكَ دِرْهَمٌ مِنْ الْعَشَرَةِ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ السَّرِقَةِ وَيَوْمَ الْقَطْعِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، فَإِنْ نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَطْعِ فِي الْعَيْنِ لَمْ يَمْنَعْ عَنْ الِاسْتِيفَاءِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ لِتَرَاجُعِ السِّعْرِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ اعْتِبَارًا بِالْأَوَّلِ بِجَامِعِ وُجُودِ سَرِقَةِ النِّصَابِ فِيهِمَا .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ ( أَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ لَمَّا كَانَ شَرْطًا ) فِي الِابْتِدَاءِ ( يُشْتَرَطُ قِيَامُهُ عِنْدَ الْإِمْضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا ) أَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النُّقْصَانِ فِي الْعَيْنِ ( أَنَّ النُّقْصَانَ فِي الْعَيْنِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى السَّارِقِ وَالضَّمَانُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَضْمُونِ فَكَانَ النِّصَابُ كَامِلًا عَيْنًا وَقْتَ الْأَخْذِ وَدَيْنًا وَقْتَ الِاسْتِيفَاءِ ( كَمَا إذَا اسْتَهْلَكَ كُلَّهُ ، أَمَّا نُقْصَانُ السِّعْرِ فَغَيْرُ مَضْمُونٍ ) فَكَانَ النِّصَابُ نَاقِصًا عِنْدَ الْقَطْعِ فَصَارَ شُبْهَةً ( فَافْتَرَقَا ) .
( وَإِذَا ادَّعَى السَّارِقُ أَنَّ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ مِلْكُهُ سَقَطَ الْقَطْعُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً ) مَعْنَاهُ بَعْدَمَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ بِالسَّرِقَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لِأَنَّهُ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ سَارِقٌ فَيُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ .
وَلَنَا أَنَّ الشُّبْهَةَ دَارِئَةٌ وَتَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لِلِاحْتِمَالِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا قَالَ بِدَلِيلِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ( وَإِذَا ادَّعَى السَّارِقُ أَنَّ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ مِلْكُهُ سَقَطَ الْقَطْعُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ ) وَفَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( مَعْنَاهُ بَعْدَمَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ بِالسَّرِقَةِ ) وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْقَطْعُ بِالِاتِّفَاقِ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لِإِفْضَائِهِ إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ حَيْثُ لَا يَعْجِزُ سَارِقٌ عَنْ ذَلِكَ .
وَلَنَا أَنَّ الشُّبْهَةَ دَارِئَةٌ وَ ) الشُّبْهَةُ ( تَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى ) لِاحْتِمَالِ الصِّدْقِ ( وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا قَالَ ) إنَّهُ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ سَارِقٌ ( بِدَلِيلِ أَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ صَحِيحٌ ) وَمَا مِنْ مُقِرٍّ إلَّا وَيَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ ، وَكَانَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ فَكَذَا هَذَا ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ وَالْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ كَامِلَةٌ لِمَا عُرِفَ ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُورِثُ الشُّبْهَةِ فِي الْحُجَّةِ الْقَاصِرَةِ مُورِثًا لَهَا فِي الْكَامِلَةِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْكَمَالَ وَالْقُصُورَ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّعَدِّي إلَى الْغَيْرِ وَعَدَمِهِ وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُقِرِّ فَهُمَا سَوَاءٌ .
( وَإِذَا أَقَرَّ رَجُلَانِ بِسَرِقَةٍ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا هُوَ مَالِي لَمْ يُقْطَعَا ) لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَامِلٌ فِي حَقِّ الرَّاجِعِ وَمُورِثٌ لِلشُّبْهَةِ فِي حَقِّ الْآخَرِ ، لِأَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِمَا عَلَى الشَّرِكَةِ( قَوْلُهُ وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلَانِ بِسَرِقَةٍ ) مَبْنَاهُ عَلَى صِحَّةِ الرُّجُوعِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَامِلٌ فِي حَقِّ الرَّاجِعِ ) يَعْنِي لِعَدَمِ الْمُكَذِّبِ ( وَمُورِثٌ لِلشُّبْهَةِ فِي حَقِّ الْآخَرِ لِأَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِمَا عَلَى الشَّرِكَةِ ) فَيَكُونُ فِعْلًا وَاحِدًا .
( فَإِنْ سَرَقَا ثُمَّ غَابَ أَحَدُهُمَا وَشَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى سَرِقَتِهِمَا قُطِعَ الْآخَرُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا ) وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا : لَا يُقْطَعُ ، لِأَنَّهُ لَوْ حَضَرَ رُبَّمَا يَدَّعِي الشُّبْهَةَ .
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْغَيْبَةَ تَمْنَعُ ثُبُوتَ السَّرِقَةِ عَلَى الْغَائِبِ فَيَبْقَى مَعْدُومًا وَالْمَعْدُومُ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَوَهُّمِ حُدُوثِ الشُّبْهَةِ عَلَى مَا مَرَّ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَوْ حَضَرَ رُبَّمَا يَدَّعِي الشُّبْهَةَ ) يَعْنِي وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْحَدِّ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْحَاضِرِ ، فَلَوْ قَطَعْنَا الْحَاضِرَ قَطَعْنَاهُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ ( وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ الْغَيْبَةَ تَمْنَعُ ثُبُوتَ السَّرِقَةِ عَلَى الْغَائِبِ ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ ، وَلِأَنَّ الْغَائِبَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ كَأَنَّهُ مَعْدُومٌ ( وَالْمَعْدُومُ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ ) فِي حَقِّ الْمَوْجُودِ وَهَذَا لِأَنَّ الشُّبْهَةَ هِيَ الْمُحَقَّقَةُ الْمَوْجُودَةُ لَا الْمَوْهُومَةُ ( عَلَى مَا مَرَّ ) يُرِيدُ قَوْلَهُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِشُبْهَةٍ مَوْهُومَةِ الِاعْتِرَاضِ .
( وَإِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَرِقَةِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ بِعَيْنِهَا فَإِنَّهُ يُقْطَعُ وَتُرَدُّ السَّرِقَةُ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُقْطَعُ وَالْعَشَرَةُ لِلْمَوْلَى .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يُقْطَعُ وَالْعَشَرَةُ لِلْمَوْلَى وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ .
وَمَعْنَاهُ إذَا كَذَّبَهُ الْمَوْلَى ( وَلَوْ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالٍ مُسْتَهْلَكٍ قُطِعَتْ يَدُهُ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ يُقْطَعُ فِي الْوَجْهَيْنِ ) وَقَالَ زُفَرُ : لَا يُقْطَعُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ أَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يَرِدُ عَلَى نَفْسِهِ وَطَرَفِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَالُ الْمَوْلَى ، وَالْإِقْرَارُ عَلَى الْغَيْرِ غَيْرُ مَقْبُولٍ إلَّا أَنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ وَالْمَالِ لِصِحَّةِ إقْرَارِهِ بِهِ لِكَوْنِهِ مُسَلَّطًا عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ .
وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ أَيْضًا ، وَنَحْنُ نَقُولُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى الْمَالِيَّةِ فَيَصِحُّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ ، وَلِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَضْرَارِ ، وَمِثْلُهُ مَقْبُولٌ عَلَى الْغَيْرِ .
لِمُحَمَّدٍ فِي الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمَالِ بَاطِلٌ ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالْغَصْبِ فَيَبْقَى مَالُ الْمَوْلَى ، وَلَا قَطْعَ عَلَى الْعَبْدِ فِي سَرِقَةِ مَالِ الْمَوْلَى .
يُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْمَالَ أَصْلٌ فِيهَا وَالْقَطْعُ تَابِعٌ حَتَّى تُسْمَعَ الْخُصُومَةُ فِيهِ بِدُونِ الْقَطْعِ وَيَثْبُتُ الْمَالُ دُونَهُ ، وَفِي عَكْسِهِ لَا تُسْمَعُ وَلَا يَثْبُتُ ، وَإِذَا بَطَلَ فِيمَا هُوَ الْأَصْلُ بَطَلَ فِي التَّبَعِ ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ صَحِيحٌ فَيَصِحُّ فِي حَقِّ الْقَطْعِ تَبَعًا .
وَلِأَبِي يُوسُف أَنَّهُ أَقَرَّ بِشَيْئَيْنِ : بِالْقَطْعِ وَهُوَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَصِحُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَبِالْمَالِ وَهُوَ عَلَى الْمَوْلَى فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ فِيهِ ، وَالْقَطْعُ يُسْتَحَقُّ بِدُونِهِ ؛ كَمَا إذَا قَالَ الْحُرُّ الثَّوْبُ الَّذِي فِي يَدِ زَيْدٍ سَرَقْته مِنْ عَمْرٍو وَزَيْدٌ يَقُولُ هُوَ ثَوْبِي يُقْطَعُ يَدُ الْمُقِرِّ وَإِنْ كَانَ لَا يُصَدَّقُ فِي تَعْيِينِ الثَّوْبِ حَتَّى لَا يُؤْخَذَ مِنْ زَيْدٍ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَطْعِ قَدْ صَحَّ مِنْهُ لِمَا بَيَّنَّا فَيَصِحُّ بِالْمَالِ بِنَاءً عَلَيْهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يُلَاقِي حَالَةَ الْبَقَاءِ ، وَالْمَالُ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ تَابِعٌ لِلْقَطْعِ حَتَّى تَسْقُطَ عِصْمَةُ الْمَالِ بِاعْتِبَارِهِ وَيُسْتَوْفَى الْقَطْعُ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ .
بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحُرِّ لِأَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا يَجِبُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ الْمُودَعِ .
أَمَّا لَا يَجِبُ بِسَرِقَةِ الْعَبْدِ مَالَ الْمَوْلَى فَافْتَرَقَا وَلَوْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى يُقْطَعُ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا لِزَوَالِ الْمَانِعِ .
قَالَ ( وَإِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَرِقَةِ مَالٍ ) إذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ بِسَرِقَةٍ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَالُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ أَوْ مُسْتَهْلَكًا ، وَكُلٌّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ كَذَّبَهُ الْمَوْلَى أَوْ صَدَّقَهُ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ يُقْطَعُ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ وَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ قُطِعَتْ يَدُهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فَالثَّلَاثَةُ سَوَاءٌ كَانَ الْإِقْرَارُ بِمَالٍ قَائِمٍ أَوْ مُسْتَهْلَكٍ ، وَيُرَدُّ الْقَائِمُ عَلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ .
وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ مُسْتَهْلَكٍ قُطِعَتْ يَدُهُ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ ، وَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ قَائِمٍ بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُقْطَعُ يَدُهُ وَيُرَدُّ الْمَالُ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : تُقْطَعُ يَدُهُ وَالْمَالُ لِلْمَوْلَى ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا تُقْطَعُ يَدُهُ وَالْمَالُ لِلْمَوْلَى .
حُكِيَ عَنْ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْت أُسْتَاذِي ابْنَ أَبِي عِمْرَانَ يَقُولُ : الْأَقَاوِيلُ الثَّلَاثَةُ كُلُّهَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
فَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ أَخَذَ بِهِ مُحَمَّدٌ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ ، فَأَخَذَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ .
وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَطْعَ أَصْلٌ أَوْ الْمَالَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْقَطْعُ أَصْلٌ وَالْمَالُ تَابِعٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ ، وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَبْغِي الْمَالَ وَلَا أَبْغِي الْقَطْعَ لَمْ يَسْقُطْ الْقَطْعُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : كُلٌّ مِنْهُمَا أَصْلٌ ، أَمَّا أَصَالَةُ الْقَطْعِ فِيمَا قَالُوا فِي الْحُرِّ إذَا أَقَرَّ وَقَالَ سَرَقْت هَذَا الْمَالَ مِنْ زَيْدٍ وَهُوَ فِي يَدِ عَمْرٍو وَكَذَّبَهُ عَمْرٌو ، وَيَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ دُونَ الْمَالِ ، وَأَمَّا أَصَالَةُ الْمَالِ فَلِأَنَّهُ إذَا سَرَقَ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَا يُقْطَعُ
وَالْخُصُومَةُ شَرْطٌ ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَالَ أَصْلٌ لَوَجَبَ الْقَطْعُ بِدُونِهَا لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ يُسْتَوْفَى بِلَا طَلَبٍ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : الْمَالُ أَصْلٌ وَالْقَطْعُ تَبَعٌ ، وَوَجْهُهُ وَجْهُ أَبِي يُوسُفَ فِي أَصَالَةِ الْمَالِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ مَا فِي الْكِتَابِ سِوَى أَلْفَاظٍ نُبَيِّنُهَا ، فَقَوْلُهُ ( فِي الْوَجْهَيْنِ ) يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ الْمَالُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ أَوْ مُسْتَهْلَكًا .
وَقَوْلُهُ ( فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا ) أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ مَأْذُونًا لَهُ ، وَفِيمَا إذَا كَانَ الْمَالُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ أَوْ مُسْتَهْلَكًا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى نَفْسِهِ ) يَعْنِي فِيمَا إذَا أَقَرَّ بِقَتْلِ الْغَيْرِ عَمْدًا ( أَوْ طَرَفِهِ ) يَعْنِي فِيمَا إذَا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ .
وَقَوْلُهُ ( يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ ) يَعْنِي فِي الْمُسْتَهْلَكِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمَالُ ) يَعْنِي إذَا كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ .
وَقَوْلُهُ ( مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ آدَمِيٌّ مُخَاطَبٌ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَالٌ مَمْلُوكٌ ، وَالْعَبْدُ فِي ذَلِكَ كَالْحُرِّ فَإِقْرَارُهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْحُرِّ كَإِقْرَارِ الْحُرِّ ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ، وَمَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى الْإِقْرَارَ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ فَالْعَبْدُ فِيهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْحُرِّ كَالطَّلَاقِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى الْمَالِيَّةِ فَيَصِحُّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ ) يَعْنِي لَمَا صَحَّ إقْرَارُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ يَصِحُّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ أَيْضًا بِالسِّرَايَةِ إلَيْهَا لِأَنَّ آدَمِيَّتَهُ لَا تَنْفَكُّ عَنْ مَالِيَّتِهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْعَبْدِ ( مِنْ الْأَضْرَارِ ) لِأَنَّ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ بِاسْتِيفَاءِ الْعُقُوبَةِ مِنْهُ فَوْقَ مَا يَلْحَقُ الْمَوْلَى ( وَمِثْلُهُ مَقْبُولٌ عَلَى الْغَيْرِ ) أَيْ وَمِثْلُ مَا كَانَ ضَرَرُ الْإِقْرَارِ فِيهِ سَارِيًا إلَى الْمُقِرِّ وَإِلَى الْغَيْرِ
يُسْمَعُ عَلَى الْغَيْرِ أَيْضًا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِانْعِدَامِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ فِي ذَلِكَ الْإِقْرَارِ ، كَمَا إذَا شَهِدَ الْوَاحِدُ عِنْدَ الْإِمَامِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ وَفِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ يَقْبَلُ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ حَيْثُ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ كَمَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ ، وَكَذَلِكَ الْحُرُّ الْمَدْيُونُ الْمُفْلِسُ إذَا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إبْطَالُ دُيُونِ الْغُرَمَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا قَطْعَ عَلَى الْعَبْدِ فِي سَرِقَتِهِ ) أَيْ فِي سَرِقَةِ مَالِ مَوْلَاهُ .
وَقَوْلُهُ ( يُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْمَالَ أَصْلٌ فِيهَا ) إشَارَةٌ إلَى مَا مَهَّدْنَا مِنْ الْأَصْلِ .
وَقَوْلُهُ ( حَتَّى تُسْمَعَ فِيهِ الْخُصُومَةُ بِدُونِ الْقَطْعِ ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَطْلُبُ مِنْهُ الْمَالَ دُونَ الْقَطْعِ وَيَثْبُتُ الْمَالُ دُونَهُ كَمَا إذَا شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ ثُمَّ رَجَعَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْمَالَ وَلَا يُقْطَعُ ( وَفِي عَكْسِهِ ) بِأَنْ قَالَ أَطْلُبُ الْقَطْعَ دُونَ الْمَالِ ( لَا تُسْمَعُ ) الْخُصُومَةُ ( وَلَا يَثْبُتُ ) الْقَطْعُ دُونَ الْمَالِ .
وَقَوْلُهُ ( فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ فِيهِ ) أَيْ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فِي الْمَالِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْقَطْعُ يُسْتَحَقُّ بِدُونِهِ ) أَيْ بِدُونِ الْمَالِ لِأَنَّ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ الْمَالُ دُونَ الْقَطْعِ كَمَا إذَا شَهِدَ بِهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ، وَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْقَطْعُ دُونَ الْمَالِ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالٍ مُسْتَهْلَكٍ .
قَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَنَحْنُ نَقُولُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ .
وَقَوْلُهُ ( فَيَصِحُّ بِالْمَالِ بِنَاءً عَلَيْهِ ) أَيْ لِمَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِالْقَطْعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ آدَمِيٌّ مُكَلَّفٌ صَحَّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ أَنَّهُ لِغَيْرِ الْمَوْلَى بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ إقْرَارِهِ بِالْقَطْعِ لِمَا مَهَّدْنَاهُ
مِنْ أَصْلِهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يُلَاقِي حَالَةَ الْبَقَاءِ ) يُرِيدُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالشَّيْءِ إظْهَارُ أَمْرٍ قَدْ كَانَ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ سَابِقًا عَلَى الْإِخْبَارِ .
وَقَوْلُهُ ( حَتَّى تَسْقُطُ ) بِالرَّفْعِ لِأَنَّ حَتَّى بِمَعْنَى الْفَاءِ .
قَوْلُهُ ( بِاعْتِبَارِهِ ) أَيْ بِاعْتِبَارِ الْقَطْعِ لِمَا يَجِيءُ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الضَّمَانِ ، ثُمَّ سُقُوطُ الْعِصْمَةِ وَالتَّقَوُّمُ فِي حَقِّ السَّارِقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَالَ تَابِعٌ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَصْلًا لَمَا تَغَيَّرَ حَالُهُ مِنْ التَّقَوُّمِ إلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ مَقْصُودِيَّتَهُ إنَّمَا تَكُونُ بِالتَّقَوُّمِ ، وَكَذَلِكَ اسْتِيفَاءُ الْقَطْعِ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ الْمَالِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، إذْ لَا وُجُودَ لِلتَّابِعِ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الْأَصْلِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحُرِّ ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ بِقَوْلِهِ إذَا قَالَ الْحُرُّ الثَّوْبُ الَّذِي فِي يَدِ زَيْدٍ إلَخْ .
وَبَيَانُهُ أَنَّ الْحُرَّ لَمَّا لَمْ يَسْمَعْ قَوْلَهُ سَرَقْته مِنْ عَمْرٍو فِي حَقِّ الرَّدِّ إلَى عَمْرٍو لَا يَلْزَمُهُ عَدَمُ الْقَطْعِ ، بَلْ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْمُقَرَّ لَهُ وَهُوَ عَمْرٌو بِمَنْزِلَةِ الْمُودِعِ فَلَا يُوجِبُ رَدَّ الْمَالِ إلَيْهِ لِمَا مَرَّ أَنَّ السَّارِقَ إذَا سَرَقَ الْمَالَ مِنْ الْمُودَعِ يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ إلَيْهِ الْمَالَ ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَلَوْ لَمْ يَرُدَّ الْمَالَ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَالُ مَالَ الْمَوْلَى .
فَحِينَئِذٍ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ لِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا سَرَقَ مَالَ الْمَوْلَى لَا تُقْطَعُ يَدُهُ .
ثُمَّ اتَّفَقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ عَلَى قَطْعِ يَدِ الْعَبْدِ ، فَقَدْ جَعَلَاهُ سَارِقًا مَالَ غَيْرِ الْمَوْلَى فَيَرُدُّ إلَى الَّذِي أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ مِنْهُ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى ) قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْبَحْثِ .
قَالَ ( وَإِذَا قُطِعَ السَّارِقُ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ فِي يَدِهِ رُدَّتْ عَلَى صَاحِبِهَا ) لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ ( وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً لَمْ يَضْمَنْ ) وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَشْمَلُ الْهَلَاكَ وَالِاسْتِهْلَاكَ ، وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَضْمَنُ فِيهِمَا لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ قَدْ اخْتَلَفَ سَبَبَاهُمَا فَلَا يَمْتَنِعَانِ فَالْقَطْعُ حَقُّ الشَّرْعِ وَسَبَبُهُ تَرْكُ الِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ .
وَالضَّمَانُ حَقُّ الْعَبْدِ وَسَبَبُهُ أَخْذُ الْمَالِ فَصَارَ كَاسْتِهْلَاكِ صَيْدٍ مَمْلُوكٍ فِي الْحَرَمِ أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ مَمْلُوكَةٍ لِذِمِّيٍّ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا غُرْمَ عَلَى السَّارِقِ بَعْدَمَا قُطِعَتْ يَمِينُهُ } وَلِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يُنَافِي الْقَطْعَ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْأَخْذِ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ فَيَنْتَفِي الْقَطْعُ لِلشُّبْهَةِ وَمَا يُؤَدِّي إلَى انْتِفَائِهِ فَهُوَ الْمُنْتَفِي ، وَلِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَبْقَى مَعْصُومًا حَقًّا لِلْعَبْدِ ، إذْ لَوْ بَقِيَ لَكَانَ مُبَاحًا فِي نَفْسِهِ فَيَنْتَفِي الْقَطْعُ لِلشُّبْهَةِ فَيَصِيرُ مُحَرَّمًا حَقًّا لِلشَّرْعِ كَالْمَيْتَةِ وَلَا ضَمَانَ فِيهِ إلَّا أَنَّ الْعِصْمَةَ لَا يَظْهَرُ سُقُوطُهَا فِي حَقِّ الِاسْتِهْلَاكِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ آخَرُ غَيْرِ السَّرِقَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّهِ ، وَكَذَا الشُّبْهَةُ تُعْتَبَرُ فِيمَا هُوَ السَّبَبُ دُونَ غَيْرِهِ .
وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ أَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ إتْمَامُ الْمَقْصُودِ فَتُعْتَبَرُ الشُّبْهَةُ فِيهِ ، وَكَذَا يَظْهَرُ سُقُوطُ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ سُقُوطِهَا فِي حَقِّ الْهَلَاكِ لِانْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ .
قَالَ ( وَإِذَا قُطِعَ السَّارِقُ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ فِي يَدِهِ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( كَاسْتِهْلَاكِ صَيْدٍ مَمْلُوكٍ فِي الْحَرَمِ ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَجِبُ قِيمَتُهُ لِلْمَالِكِ وَقِيمَةٌ أُخْرَى جَزَاءَ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ لِلَّهِ تَعَالَى .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ لِلذِّمِّيِّ ) يَعْنِي عَلَى أَصْلِكُمْ ، فَإِنَّ ضَمَانَ الْخَمْرِ بِالِاسْتِهْلَاكِ لَا يَجِبُ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ لِلذِّمِّيِّ ( وَلَنَا مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا غُرْمَ عَلَى السَّارِقِ بَعْدَمَا قُطِعَتْ يَمِينُهُ } " ) لَا يُقَالُ : هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَيْنَ إذَا كَانَتْ قَائِمَةً لَا تُرَدُّ إلَى صَاحِبِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى غُرْمًا .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا يُؤَدِّي إلَى انْتِفَائِهِ ) إنَّمَا كَانَ مَا يُؤَدِّي إلَى انْتِفَائِهِ هُوَ الْمُنْتَفِي لِكَوْنِهِ ثَابِتًا بِالْإِجْمَاعِ .
وَقَوْلُهُ ( إذْ لَوْ بَقِيَ ) يَعْنِي مَعْصُومًا حَقًّا لِلْعَبْدِ ( لَكَانَ مُبَاحًا فِي نَفْسِهِ ) لِأَنَّهُ عَرَفَ بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ مَا هُوَ حَرَامٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَهُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ وَكَانَ الْمَالُ لِلسَّارِقِ حَرَامًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ( فَيَنْتَفِي الْقَطْعُ لِلشُّبْهَةِ ) إذْ الشُّبْهَةُ هُوَ أَنْ تَكُونَ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَحِينَئِذٍ يُدْرَأُ بِالْحَدِيثِ ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ مَعْصُومًا حَقًّا لِلْعَبْدِ يَصِيرُ مُحَرَّمًا ( حَقًّا لِلشَّرْعِ كَالْمَيْتَةِ وَلَا ضَمَانَ فِيهِ ) وَهَذَا مَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ إذَا صَارَتْ الْمَالِيَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَحَلِّ لَمْ يَبْقَ لِلْعَبْدِ فَالْتُحِقَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ ، وَلَكِنْ هَذَا لَا يَتَقَرَّرُ إلَّا بِاسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ لَا مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَتَمَامُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ ، فَكَانَ حُكْمُ الْأَخْذِ مُرَاعًى إنْ اسْتَوْفَى بِهِ الْقَطْعَ يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَحَلِّ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ كَانَتْ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجِبُ ضَمَانُ الْعَبْدِ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ
تَبَيَّنَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ كَانَ لِلْعَبْدِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّ الْعِصْمَةَ ) جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ الْعِصْمَةُ لَمَّا انْتَقَلَتْ لِلَّهِ تَعَالَى وَصَارَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ كَالْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ عِنْدَ الِاسْتِهْلَاكِ .
وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وُجُوبَ الضَّمَانِ فِيهِ ، وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ سُقُوطَ الْعِصْمَةِ إنَّمَا كَانَ ضَرُورَةَ تَحَقُّقِ الْقَطْعِ ، وَمَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَقْتَصِرُ عَلَى مَحَلِّهَا فَلَا يَتَعَدَّى إلَى فِعْلٍ آخَرَ هُوَ الِاسْتِهْلَاكُ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْقَطْعَ وَلَا مِنْ لَوَازِمِهِ ( وَكَذَا الشُّبْهَةُ ) وَهُوَ كَوْنُهُ حَرَامًا لِغَيْرِهِ ( تُعْتَبَرُ فِيمَا هُوَ السَّبَبُ ) وَهُوَ السَّرِقَةُ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الشُّبْهَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِجَعْلِ السَّبَبِ فِي الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ غَيْرَ مُوجِبٍ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ وَالِاسْتِهْلَاكُ لَيْسَ بِسَبَبٍ فَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الشُّبْهَةُ ( وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ ) وَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الِاسْتِهْلَاكِ كَمَا فِي الْهَلَاكِ ( أَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ إتْمَامُ الْمَقْصُودِ ) بِالسَّبَبِ وَهُوَ السَّرِقَةُ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَرَقَ لِيَصْرِفَهُ إلَى بَعْضِ حَوَائِجِهِ فَكَانَ تَتِمَّةً لِلسَّبَبِ لَا أَنَّهُ فِعْلٌ آخَرُ ( فَتُعْتَبَرُ الشُّبْهَةُ فِيهِ ) لِإِسْقَاطِ الضَّمَانِ كَاعْتِبَارِهَا فِي نَفْسِ السَّبَبِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا يَظْهَرُ سُقُوطُ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ سُقُوطِهَا فِي حَقِّ الْهَلَاكِ لِانْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : أَيْ لِأَنَّ سُقُوطَ الْعِصْمَةِ فِي فَصْلِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ ضَرُورَةِ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ فِي فَصْلِ الْهَلَاكِ .
وَأَقُولُ : مَعْنَاهُ سُقُوطُ الْعِصْمَةِ فِي الِاسْتِهْلَاكِ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ سُقُوطِهَا فِي الْهَلَاكِ وَالْمَلْزُومُ ثَابِتٌ فَاللَّازِمُ كَذَلِكَ ، وَبَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَتْ الْعِصْمَةُ بَاقِيَةً فِي الِاسْتِهْلَاكِ مُوجِبَةً وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛
لِأَنَّ الضَّمَانَ يَسْتَوْجِبُ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْمَضْمُونِ وَالْمَضْمُونِ بِهِ بِالنَّصِّ ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ بِهِ مَالٌ مَعْصُومٌ فِي الْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ ، حَتَّى لَوْ غَصَبَهُ أَحَدٌ ضَمِنَهُ هَلَكَ عِنْدَهُ أَوْ اسْتَهْلَكَ ، وَالْمَضْمُونُ وَهُوَ الْمَسْرُوقُ مَعْصُومٌ فِي الِاسْتِهْلَاكِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ دُونَ الْهَلَاكِ ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْمَعْصُومِ فِي الْحَالَتَيْنِ وَالْمَعْصُومِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ قَالَ لِأَنَّهُ أَيْ لِأَنَّ سُقُوطَ الضَّمَانِ مِنْ ضَرُورَاتِ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ : يَعْنِي أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ سُقُوطُ الضَّمَانِ .
وَهَذَا لِأَنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْمَسْرُوقِ وَضَمَانِهِ فَيَنْتَفِي الضَّمَانُ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ سَاقِطُ الْعِصْمَةِ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ حَقًّا لِلشَّرْعِ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ .
وَاَلَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ السَّارِقِ مَالٌ مَعْصُومٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ لَيْسَ بِحَرَامٍ لِعَيْنِهِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ لِانْتِفَاءِ الْمُعَادَلَةِ ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ لَا يُسَاعِدُهُ فَتَأَمَّلْ .
قَالَ ( وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَاتٍ فَقُطِعَ فِي إحْدَاهَا فَهُوَ لِجَمِيعِهَا ، وَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا : يَضْمَنُ كُلَّهَا إلَّا الَّتِي قُطِعَ لَهَا ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا حَضَرَ أَحَدُهُمْ ، فَإِنْ حَضَرُوا جَمِيعًا وَقُطِعَتْ يَدُهُ لِخُصُومَتِهِمْ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا بِالِاتِّفَاقِ فِي السَّرِقَاتِ كُلِّهَا .
لَهُمَا أَنَّ الْحَاضِرَ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْغَائِبِ .
وَلَا بُدَّ مِنْ الْخُصُومَةِ لِتَظْهَرَ السَّرِقَةُ فَلَمْ تَظْهَرْ السَّرِقَةُ مِنْ الْغَائِبَيْنِ فَلَمْ يَقَعْ الْقَطْعُ لَهَا فَبَقِيَتْ أَمْوَالُهُمْ مَعْصُومَةً .
وَلَهُ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْكُلِّ قَطْعٌ وَاحِدٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ عَلَى التَّدَاخُلِ وَالْخُصُومَةُ شَرْطٌ لِلظُّهُورِ عِنْدَ الْقَاضِي ، فَإِذَا اسْتَوْفَى فَالْمُسْتَوْفَى كُلُّ الْوَاجِبِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَرْجِعُ نَفْعُهُ إلَى الْكُلِّ فَيَقَعُ عَنْ الْكُلِّ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا كَانَتْ النُّصُبُ كُلُّهَا لِوَاحِدٍ فَخَاصَمَ فِي الْبَعْضِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَاتٍ فَقُطِعَ فِي إحْدَاهَا فَهُوَ بِجَمِيعِهَا ) كَلَامُهُ وَاضِحٍ ( وَقَوْلُهُ لَهُمَا أَنَّ الْحَاضِرَ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْغَائِبِ ) تَقْرِيرُهُ الْحَاضِرُ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْغَائِبِ ، وَمَنْ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْغَائِبِ لَيْسَ لَهُ الْخُصُومَةُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْخُصُومَةِ لِأَنَّهَا شَرْطُ ظُهُورِ السَّرِقَةِ فَلَمْ تَظْهَرْ السَّرِقَةُ مِنْ الْغَائِبِينَ فَلَمْ يَقَعْ الْقَطْعُ لَهَا ، وَإِذَا لَمْ يَقَعْ الْقَطْعُ لَهَا بَقِيَتْ أَمْوَالُهُمْ مَعْصُومَةً وَالْمَالُ الْمَعْصُومُ مَضْمُونٌ لَا مَحَالَةَ ( وَلَهُ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْكُلِّ ) أَيْ بِكُلِّ السَّرِقَاتِ ( قَطْعٌ وَاحِدٌ ) لِأَنَّهُ يَجِبُ ( حَقًّا لِلَّهِ ) وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَدَاخَلُ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ ( وَالْخُصُومَةُ شَرْطُ الظُّهُورِ عِنْدَ الْحَاكِمِ ) وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَمِيعِ لِأَنَّ الشَّرْطَ يُرَاعَى وُجُودُهُ لَا وُجُودُهُ قَصْدًا ( فَإِذَا اسْتَوْفَى ) يَعْنِي ذَلِكَ الْقَطْعَ الْوَاحِدَ ( فَالْمُسْتَوْفَى كُلُّ الْوَاجِبِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ نَفْعَهُ ) وَهُوَ الِانْزِجَارُ يَرْجِعُ إلَى الْكُلِّ .
فَإِنْ قِيلَ : الْحُكْمُ الثَّابِتُ ضِمْنًا لَا يَرْبُو عَلَى الثَّابِتِ صَرِيحًا ، وَالْقَطْعُ يَتَضَمَّنُ الْبَرَاءَةَ عَنْ ضَمَانِ الْمَسْرُوقِ ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ الْوَاحِدُ عَنْ ضَمَانِ الْكُلِّ نَصًّا لَمْ يَبْرَأْ فَكَيْفَ يَبْرَأُ إذَا ثَبَتَ ضِمْنًا ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ كَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَلَا يَثْبُتُ قَصْدًا كَبَيْعِ الشُّرْبِ وَوَقْفِ الْمَنْقُولِ ، ثُمَّ هَاهُنَا لَمَّا وَقَعَ الْقَطْعُ فِي حَقِّ الْكُلِّ بِالْإِجْمَاعِ تَبِعَهُ مَا هُوَ الثَّابِتُ فِي ضِمْنِهِ وَهُوَ سُقُوطُ الضَّمَانِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ وُقُوعَ الْقَطْعِ بِجَمِيعِ السَّرِقَاتِ بِالْإِجْمَاعِ ، فَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الضَّمَانِ .
فَالْقَوْلُ بِالضَّمَانِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالضَّمَانِ فَذَلِكَ تَنَاقُضٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا كَانَ النُّصُبُ كُلُّهَا لِوَاحِدٍ ) يَعْنِي لَوْ سَرَقَ النُّصُبَ
مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ مِرَارًا فَخَاصَمَ فِي الْبَعْضِ فَقُطِعَ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَضْمَنُ النُّصُبَ الْبَاقِيَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
( بَابُ مَا يُحْدِثُ السَّارِقُ فِي السَّرِقَةِ ) ( وَمَنْ سَرَقَ ثَوْبًا فَشَقَّهُ فِي الدَّارِ بِنِصْفَيْنِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ وَهُوَ يُسَاوِي عَشَرَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ سَبَبَ الْمِلْكِ وَهُوَ الْخَرْقُ الْفَاحِشُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْقِيمَةَ وَتَمَلُّكَ الْمَضْمُونِ وَصَارَ كَالْمُشْتَرِي إذَا سَرَقَ مَبِيعًا فِيهِ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ ( وَلَهُمَا أَنَّ الْأَخْذَ وُضِعَ سَبَبًا لِلضَّمَانِ لَا لِلْمِلْكِ ، وَإِنَّمَا الْمِلْكُ يُثْبِتُ ضَرُورَةَ أَدَاءِ الضَّمَانِ كَيْ لَا يَجْتَمِعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ ، وَمِثْلُهُ لَا يُوَرِّثُ ) الشُّبْهَةَ كَنَفْسِ الْأَخْذِ ، وَكَمَا إذَا سَرَقَ الْبَائِعُ مَعِيبًا بَاعَهُ ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ النُّقْصَانِ وَأَخْذَ الثَّوْبِ ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْقِيمَةِ وَتَرْكَ الثَّوْبِ عَلَيْهِ لَا يُقْطَعُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْأَخْذِ فَصَارَ كَمَا إذَا مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ النُّقْصَانُ فَاحِشًا ، فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا يُقْطَعُ بِالِاتِّفَاقِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْمِلْكِ إذْ لَيْسَ لَهُ اخْتِيَارُ تَضْمِينِ كُلِّ الْقِيمَةِ
بَابُ مَا يُحْدِثُ السَّارِقُ فِي السَّرِقَةِ : لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ السَّرِقَةِ وَكَيْفِيَّةَ الْقَطْعِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا يَسْقُطُ بِهِ الْقَطْعُ بِسَبَبِ إحْدَاثِ الصَّنْعَةِ لِلشُّبْهَةِ وَالشُّبْهَةُ أَبَدًا تَتْلُو الثَّابِتَ ذِكْرًا ( وَمَنْ سَرَقَ ثَوْبًا فَشَقَّهُ فِي الدَّارِ بِنِصْفَيْنِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ وَهُوَ يُسَاوِي ) بَعْدَ الشَّقِّ ( عَشَرَةَ دَرَاهِمَ قُطِعَ ) قَيَّدَ بِقَيْدَيْنِ : أَنْ يَكُونَ الشَّقُّ فِي الدَّارِ ، وَأَنْ يُسَاوِيَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بَعْدَ الشَّقِّ فِي الدَّارِ ، لِأَنَّهُ إذَا أَخْرَجَهُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ وَهُوَ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ شَقَّهُ وَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ بِالشَّقِّ مِنْ الْعَشَرَةِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا شَقَّ فِي الدَّارِ وَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ عَنْ الْعَشَرَةِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّ السَّرِقَةَ قَدْ تَمَّتْ عَلَى النِّصَابِ الْكَامِلِ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ لَهُ فِي شُبْهَةِ الْمِلْكِ وَهُوَ الْخَرْقُ الْفَاحِشُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْقِيمَةَ وَتَمَلُّكَ الْمَضْمُونِ ) وَلِهَذَا قُلْنَا الْمَالِكُ بَعْدَ الشَّقِّ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ مَلَّكَهُ الثَّوْبَ بِالضَّمَانِ لِانْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ لَمَا وَجَبَ التَّمْلِيكُ بِكُرْهٍ مِنْ السَّارِقِ ( وَصَارَ كَالْمُشْتَرِي إذَا سَرَقَ مَبِيعًا فِيهِ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ ) ثُمَّ فَسَخَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ هُنَاكَ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ السَّرِقَةَ تَمَّتْ عَلَى عَيْنٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لِلسَّارِقِ لَكِنْ وَرَدَ عَلَيْهِ سَبَبُ الْمِلْكِ وَلَهُمَا أَنَّ الْأَخْذَ ) أَيْ هَذَا الْأَخْذَ الَّذِي فِيهِ خَرْقٌ فَاحِشٌ ، وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَمِثْلُهُ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ كَنَفْسِ الْأَخْذِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَهُ فِيهِ سَبَبَ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْأَخْذَ الْمَعْهُودَ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لَهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْضُوعٌ سَبَبًا لِلضَّمَانِ فَكَانَ لَهُ سَبَبُ الضَّمَانِ لَا سَبَبُ الْمِلْكِ ( وَإِنَّمَا الْمِلْكُ
يُثْبِتُ لَهُ ضَرُورَةَ أَدَاءِ الضَّمَانِ كَيْ لَا يَجْتَمِعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ وَمِثْلُهُ ) أَيْ وَمِثْلُ هَذَا الْأَخْذِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الضَّمَانِ ( لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لِلْمِلْكِ ( كَنَفْسِ الْأَخْذِ ) فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَصِيرَ سَبَبًا بَعْدَ الضَّمَانِ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ تُعْتَبَرْ شُبْهَةً ( وَكَمَا إذَا سَرَقَ الْبَائِعُ مَعِيبًا بَاعَهُ ) وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ وَإِنْ انْعَقَدَ سَبَبُ الرَّدِّ وَهُوَ الْعَيْبُ ، وَكَذَلِكَ هَاهُنَا يُقْطَعُ وَإِنْ انْعَقَدَ سَبَبُ الضَّمَانِ وَهُوَ الشَّقُّ ( بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ ) أَيْ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُهُ كَالْمُشْتَرِي إذَا سَرَقَ مَبِيعًا فِيهِ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ مَوْجُودٌ فِيهِ ( إذْ الْبَيْعُ مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ النُّقْصَانِ وَأَخَذَ الثَّوْبَ ) لَا يُقَالُ : الْأَصْلُ عِنْدَكُمْ أَنَّ الْقَطْعَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ ؛ فَإِذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ النُّقْصَانِ كَيْفَ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَطْعِ لِأَنَّ ضَمَانَ النُّقْصَانِ وَجَبَ بِجِنَايَةٍ أُخْرَى قَبْلَ الْإِخْرَاجِ وَهِيَ مَا فَاتَ مِنْ الْعَيْنِ وَالْقَطْعِ بِإِخْرَاجِ الْبَاقِي كَمَا لَوْ أَخَذَ ثَوْبَيْنِ ، فَأَحْرَقَ أَحَدَهُمَا فِي الْبَيْتِ وَأَخْرَجَ الْآخَرَ وَقِيمَتُهُ نِصَابٌ .
وَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ الِاسْتِهْلَاكَ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَإِنَّهُ فِعْلٌ غَيْرُ السَّرِقَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ .
وَعَنْ هَذَا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ إنْ اخْتَارَ الْقَطْعَ لَا يَضْمَنُ النُّقْصَانَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَطْعَ لِلْبَاقِي بَعْدَ الْحَرْقِ وَلَيْسَ فِيهِ ضَمَانٌ ، بِخِلَافِ الْمُسْتَهْلَكِ فَإِنَّ الْقَطْعَ كَانَ لِأَجْلِهِ لَا لِشَيْءٍ آخَرَ ( فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ قِيمَةِ الثَّوْبِ كُلَّهَا وَتَرَكَ الثَّوْبَ عَلَيْهِ لَا يُقْطَعُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْأَخْذِ فَصَارَ كَمَا إذَا مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ ) فَإِنَّهُ إذَا وَهَبَ لَهُ بَعْدَ تَمَامِ السَّرِقَةِ يَسْقُطُ
الْقَطْعُ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ إذَا مَلَكَهُ قَبْلَ تَمَامِ السَّرِقَةِ أَوْلَى ( وَهَذَا كُلُّهُ ) أَيْ هَذَا الْخِلَافُ مَعَ هَذِهِ التَّفْصِيلَاتِ ( إذَا كَانَ النُّقْصَانُ فَاحِشًا ) وَهُوَ الَّذِي يَفُوتُ بِهِ بَعْضُ الْعَيْنِ وَبَعْضُ الْمَنْفَعَةِ ( فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا ) وَهُوَ مَا يَفُوتُ بِهِ بَعْضُ الْمَنْفَعَةِ فِي الصَّحِيحِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ تَمَامُ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ الْفَاحِشِ وَالْيَسِيرِ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ ( يُقْطَعُ بِالِاتِّفَاقِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْمِلْكِ إذْ لَيْسَ لَهُ اخْتِيَارُ تَضْمِينِ كُلِّ الْقِيمَةِ )
( وَإِنْ سَرَقَ شَاةً فَذَبَحَهَا ثُمَّ أَخْرَجَهَا لَمْ يُقْطَعْ ) لِأَنَّ السَّرِقَةَ تَمَّتْ عَلَى اللَّحْمِ وَلَا قَطْعَ فِيهِقَوْلُهُ وَإِنْ سَرَقَ شَاةً فَذَبَحَهَا ) ظَاهِرٌ .
( وَمَنْ سَرَقَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ فَصَنَعَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ قُطِعَ فِيهِ وَتَرَكَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : لَا سَبِيلَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ عَلَيْهِمَا ) وَأَصْلُهُ فِي الْغَصْبِ فَهَذِهِ صَنْعَةٌ مُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ ، ثُمَّ وُجُوبُ الْحَدِّ لَا يُشْكِلُ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ ، وَقِيلَ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَجِبُ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ قَبْلَ الْقَطْعِ ، وَقِيلَ يَجِبُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِالصَّنْعَةِ شَيْئًا آخَرَ فَلَمْ يَمْلِكْ عَيْنَهُ
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ سَرَقَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ ) أَيْ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ( فَصَنَعَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ قُطِعَ فِيهِ ) وَهُوَ ظَاهِرٌ ( قَوْلُهُ وَأَصْلُهُ فِي الْغَصْبِ ) يُرِيدُ أَنَّ مَا يَقْطَعُ حَقَّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْ الْمَغْصُوبِ مِنْ الصَّنْعَةِ يَقْطَعُ حَقَّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ مِنْ الْمَسْرُوقِ ، وَهَذِهِ الصَّنْعَةُ تَقْطَعُهُ ( عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ ) لَهُمَا أَنَّ هَذِهِ الصَّنْعَةَ تُبَدَّلُ الْعَيْنَ اسْمًا وَحُكْمًا وَمَقْصُودًا ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ ، كَمَا إذَا كَانَ الْمَغْصُوبُ صُفْرًا فَضَرَبَهُ قَمْقَمَةً أَوْ حَدِيدًا فَجَعَلَهُ ذِرَاعًا فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ .
وَلَهُ أَنَّ عَيْنَ الْمَسْرُوقِ بَاقٍ وَالصَّنْعَةُ الْحَادِثَةُ وَالِاسْمُ الْحَادِثُ لَيْسَا بِلَازِمَيْنِ ، فَإِنَّ إعَادَتَهَا إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى مُمْكِنَةٌ ، وَالصَّنْعَةُ هَاهُنَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ حَتَّى لَوْ كَسَرَ إبْرِيقَ فِضَّةٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ أَخْذُهُ وَتَضْمِينُ الصَّنْعَةِ وَالْعَيْنُ الْمَسْرُوقَةُ مُتَقَوِّمَةٌ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اعْتِبَارُ الْبَاقِي الْمُتَقَوِّمِ أَوْلَى مِنْ الزَّائِلِ الْغَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ ( قَوْلُهُ فَلَمْ يَمْلِكْ عَيْنَهُ ) أَيْ عَيْنَ الْمَسْرُوقِ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَيْنَهُمَا أَيْ عَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .
وَإِنَّمَا مَلَكَ شَيْئًا غَيْرَهُمَا فَإِنَّ الْأَعْيَانَ تَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الصِّفَاتِ أَصْلُهُ حَدِيثُ بَرِيرَةَ .
( فَإِنْ سَرَقَ ثَوْبًا فَصَبْغَهُ أَحْمَرَ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ الثَّوْبُ وَلَمْ يَضْمَنْ قِيمَةَ الثَّوْبِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يُؤْخَذُ مِنْهُ الثَّوْبُ وَيُعْطَى مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ ) اعْتِبَارًا بِالْغَصْبِ ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا كَوْنُ الثَّوْبِ أَصْلًا قَائِمًا وَكَوْنُ الصَّبْغِ تَابِعًا .
وَلَهُمَا أَنَّ الصَّبْغَ قَائِمٌ صُورَةً وَمَعْنًى ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَخْذَهُ مَصْبُوغًا يَضْمَنُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ ، وَحَقُّ الْمَالِكِ فِي الثَّوْبِ قَائِمٌ صُورَةً لَا مَعْنًى ؛ أَلَّا تَرَى أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى السَّارِقِ بِالْهَلَاكِ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ السَّارِقِ ، بِخِلَافِ الْغَصْبِ ، لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ صُورَةً وَمَعْنًى فَاسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ الْمَالِكِ بِمَا ذَكَرْنَا ( وَإِنْ صَبَغَهُ أَسْوَدَ أُخِذَ مِنْهُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ ) يَعْنِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِأَنَّ السَّوَادَ زِيَادَةٌ عِنْدَهُ كَالْحُمْرَةِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ زِيَادَةٌ أَيْضًا كَالْحُمْرَةِ وَلَكِنَّهُ لَا يَقْطَعُ حَقَّ الْمَالِكِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ السَّوَادُ نُقْصَانٌ فَلَا يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْمَالِكِ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ سَرَقَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ سَرَقَ ثَوْبًا فَقُطِعَ فِيهِ ثُمَّ صَبَغَهُ أَحْمَرَ إلَخْ ، فَإِنَّ لَفْظَ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي السَّارِقِ يَسْرِقُ الثَّوْبَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَقَدْ صَبَغَ الثَّوْبَ أَحْمَرَ قَالَ : لَيْسَ لِصَاحِبِهِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّارِقِ .
وَهَذَا كَمَا تَرَى لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ ثُمَّ صَبَغَهُ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ وَهِيَ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّعْقِيبِ ، وَلَكِنْ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ ( أَلَا تَرَى أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ إلَى آخِرِهِ ) إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا كَانَتْ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ مَا قَالَ ، وَتَحْرِيرُ الْمَذْهَبَيْنِ وَاعْتِبَارُ مُحَمَّدٍ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَهُمَا ) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ( أَنَّ الصَّبْغَ قَائِمٌ صُورَةً وَمَعْنًى ) أَمَّا صُورَةً فَظَاهِرٌ فَإِنَّ الْحُمْرَةَ فِيهِ مَحْسُوسَةٌ ، وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ لَوْ أَخَذَ الثَّوْبَ مَصْبُوغًا ضَمِنَ الصَّبْغَ ( وَحَقُّ الْمَالِكِ فِي الثَّوْبِ قَائِمٌ صُورَةً ) لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ ( لَا مَعْنًى ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى السَّارِقِ بِالْهَلَاكِ أَوْ الِاسْتِهْلَاكِ ، فَكَانَ جَانِبُ السَّارِقِ مُرَجَّحًا كَالْمَوْهُوبِ لَهُ إذَا صَبَغَ فَإِنَّ حَقَّ الْوَاهِبِ يَنْقَطِعُ عَنْهُ ( بِخِلَافِ ) مَسْأَلَةِ ( الْغَصْبِ ) يَعْنِي الَّتِي اعْتَبَرَ بِهَا صُورَةَ النِّزَاعِ ( لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ صُورَةً وَمَعْنًى فَاسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ) يَعْنِي الْوُجُودَ ( فَرَجَّحْنَا جَانِبَ الْمَالِكِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ الثَّوْبِ أَصْلًا قَائِمًا وَكَوْنِ الصَّبْغِ تَابِعًا ) وَإِنْ صَبَغَهُ أَسْوَدَ أُخِذَ مِنْهُ الثَّوْبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَلَا يُؤْخَذُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ السَّوَادَ زِيَادَةٌ عِنْدَهُ كَالْحُمْرَةِ ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ السَّوَادَ عِنْدَهُ نُقْصَانٌ فَلَمْ يَكُنْ حَقُّ السَّارِقِ قَائِمًا فِيهِ مَعْنًى ( فَلَا يُوجِبُ
انْقِطَاعَ حَقِّ الْمَالِكِ ) وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّ السَّوَادَ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَيْضًا كَالْحُمْرَةِ لَكِنْ لَا يَقْطَعُ حَقَّ الْمَالِكِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( بَابُ قَطْعِ الطَّرِيقِ ) : قَالَ ( وَإِذَا خَرَجَ جَمَاعَةٌ مُمْتَنِعِينَ أَوْ وَاحِدٌ يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ فَقَصَدُوا قَطْعَ الطَّرِيقِ فَأُخِذُوا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوا مَالًا وَيَقْتُلُوا نَفْسًا حَبَسَهُمْ الْإِمَامُ حَتَّى يُحْدِثُوا تَوْبَةً ، وَإِنْ أَخَذُوا مَالَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ، وَالْمَأْخُوذُ إذَا قُسِّمَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا أَوْ مَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ ذَلِكَ قَطَعَ الْإِمَامُ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ ، وَإِنْ قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا قَتَلَهُمْ الْإِمَامُ حَدًّا ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الْآيَةَ .
وَالْمُرَادُ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ التَّوْزِيعُ عَلَى الْأَحْوَالِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ : هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ ، وَالرَّابِعَةُ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ الْجِنَايَاتِ تَتَفَاوَتُ عَلَى الْأَحْوَالِ فَاللَّائِقُ تَغَلُّظُ الْحُكْمِ بِتَغَلُّظِهَا .
أَمَّا الْحَبْسُ فِي الْأُولَى فَلِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ نَفْيٌ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ بِدَفْعِ شَرِّهِمْ عَنْ أَهْلِهَا ، وَيُعَزَّرُونَ أَيْضًا لِمُبَاشَرَتِهِمْ مُنْكَرَ الْإِخَافَةِ .
وَشَرْطُ الْقُدْرَةِ عَلَى الِامْتِنَاعِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَارَبَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْمَنَعَةِ .
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ كَمَا بَيَّنَّاهَا لِمَا تَلَوْنَاهُ .
وَشَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مَالَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ لِتَكُونَ الْعِصْمَةُ مُؤَبَّدَةً ، وَلِهَذَا لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ .
وَشَرْطُ كَمَالِ النِّصَابِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ كَيْ لَا يُسْتَبَاحَ طَرَفُهُ إلَّا بِتَنَاوُلِهِ مَالَهُ خَطَرٌ ، وَالْمُرَادُ قَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ .
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ كَمَا بَيَّنَّاهَا لِمَا تَلَوْنَاهُ ( وَيُقْتَلُونَ حَدًّا ، حَتَّى لَوْ عَفَا الْأَوْلِيَاءُ عَنْهُمْ لَا يُلْتَفَت إلَى عَفْوِهِمْ ) لِأَنَّهُ حَقُّ الشَّرْعِ .
( وَ ) الرَّابِعَةُ
( إذَا قَتَلُوا وَأَخْذُو الْمَالَ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ وَقَتَلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ ، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُمْ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ وَلَا يُقْطَعُ ) لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا تُوجِبُ حَدَّيْنِ ، وَلِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ يَدْخُلُ فِي النَّفْسِ فِي بَابِ الْحَدِّ كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَالرَّجْمِ .
وَلَهُمَا أَنَّ هَذِهِ عُقُوبَةٌ وَاحِدَةٌ تَغَلَّظَتْ لِتَغَلُّظِ سَبَبِهَا ، وَهُوَ تَفْوِيتُ الْأَمْنِ عَلَى التَّنَاهِي بِالْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ ، وَلِهَذَا كَانَ قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مَعًا فِي الْكُبْرَى حَدًّا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَا فِي الصُّغْرَى حَدَّيْنِ ، وَالتَّدَاخُلُ فِي الْحُدُودِ لَا فِي حَدٍّ وَاحِدٍ .
ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ التَّخْيِيرَ بَيْن الصَّلْبِ وَتَرْكِهِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُهُ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ ، وَالْمَقْصُودُ التَّشْهِيرُ لِيَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ .
وَنَحْنُ نَقُولُ أَصْلُ التَّشْهِيرِ بِالْقَتْلِ وَالْمُبَالَغَةِ بِالصَّلْبِ فَيُخَيَّرُ فِيهِ .
ثُمَّ قَالَ ( وَيُصْلَبُ حَيًّا وَيُبْعَجُ بَطْنُهُ بِرُمْحٍ إلَى أَنْ يَمُوتَ ) وَمِثْلَهُ عَنْ الْكَرْخِيِّ .
وَعَنْ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يُقْتَلُ ثُمَّ يُصْلَبُ تَوَقِّيًا عَنْ الْمُثْلَةِ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الصَّلْبَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَبْلَغُ فِي الرَّدْعِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ .
قَالَ ( وَلَا يُصْلَبُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ) لِأَنَّهُ يَتَغَيَّرُ بَعْدَهَا فَيَتَأَذَّى النَّاسُ بِهِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُتْرَكُ عَلَى خَشَبَةٍ حَتَّى يَتَقَطَّعَ فَيَسْقُطَ لِيَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ .
قُلْنَا : حَصَلَ الِاعْتِبَارُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ وَالنِّهَايَةُ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ .
بَابُ قَطْعِ الطَّرِيقِ : اعْلَمْ أَنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ يُسَمَّى سَرِقَةً كُبْرَى ، أَمَّا تَسْمِيَتُهَا سَرِقَةً فَلِأَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ يَأْخُذُ الْمَالَ سِرًّا مِمَّنْ إلَيْهِ حِفْظُ الطَّرِيقِ وَهُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ ، كَمَا أَنَّ السَّارِقَ يَأْخُذُ الْمَالَ سِرًّا مِمَّنْ إلَيْهِ حِفْظُ الْمَكَانِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَهُوَ الْمَالِكُ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا كُبْرَى فَلِأَنَّ ضَرَرَ قَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ وَعَلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِانْقِطَاعِ الطَّرِيقِ ، وَضَرَرَ السَّرِقَةِ الصُّغْرَى يَخُصُّ الْمُلَّاكَ بِأَخْذِ مَالِهِمْ وَهَتْكِ حِرْزِهِمْ وَلِهَذَا غَلَّظَ الْحَدَّ فِي حَقِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ، وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ عَنْ السَّرِقَةِ الصُّغْرَى لِأَنَّهَا أَكْثَرُ وُجُودًا مِنْهُ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا خَرَجَ جَمَاعَةٌ ) قِيلَ ذَكَرَ لَفْظَ الْجَمَاعَةِ لِيَتَنَاوَلَ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ وَالْحَرْبِيَّ وَالْحُرَّ وَالْعَبْدَ ، وَأَرَادَ بِالِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يُدَافِعَ تَعَرُّضَ الْغَيْرِ عَنْ نَفْسِهِ بِقُوَّتِهِ وَشَجَاعَتِهِ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( قَتَلَهُمْ حَدًّا ) أَيْ لَا يَسْقُطُ الْقَتْلُ بِعَفْوِ الْأَوْلِيَاءِ وَيُسَمَّى قُطَّاعُ الطَّرِيقِ مُحَارَبِينَ لِأَنَّ الْمَالَ فِي الْبَرَارِيِّ مَحْفُوظٌ بِحِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِذَا أَخَذُوهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ كَانَ فِي صُورَةِ الْمُحَارَبِ ( قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ التَّوْزِيعُ عَلَى الْأَحْوَالِ ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ كَلِمَةِ أَوْ .
وَقَوْلُهُ ( وَهِيَ أَرْبَعَةٌ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ فَأُخِذُوا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوا مَالًا وَيَقْتُلُوا نَفْسًا ، وَقَوْلُهُ وَإِنْ أَخَذُوا مَالَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ، وَقَوْلُهُ وَإِنْ قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا .
وَالرَّابِعَةُ مَا يُذْكَرُ بُعَيْدَ هَذَا مِنْ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْجِنَايَاتِ
تَتَفَاوَتُ عَلَى الْأَحْوَالِ ) أَيْ عَلَى حَسَبِ الْأَحْوَالِ الْوَاقِعَةِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ ( فَاللَّائِقُ تَغَلُّظُ الْحُكْمِ ) أَيْ الْجَزَاءِ ( بِتَغَلُّظِ الْجِنَايَةِ ) بِتَفَاوُتِ الْأَحْوَالِ لَا التَّخْيِيرِ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مُقَابَلَةَ الْجِنَايَةِ الْغَلِيظَةِ بِجَزَاءٍ خَفِيفٍ أَوْ بِالْعَكْسِ ، وَهُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَحْثِ قَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ مُسْتَوْفًى ( قَوْلُهُ فَلِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ الْمَذْكُورِ ) يَعْنِي عِنْدَنَا ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : الْمُرَادُ بِهِ الطَّلَبُ لِيَهْرُبُوا مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ ، وَمَا قُلْنَاهُ أَوْلَى لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ بِالْحَبْسِ مَشْرُوعَةٌ وَالْأَخْذُ بِمَا يُوجَدُ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِمَا لَا نَظِيرَ لَهُ ( قَوْلُهُ وَشَرْطُ كَمَالِ النِّصَابِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ إلَخْ ) قَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَصَاعِدًا ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْعَشَرَةِ فِي مَوْضِعٍ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ بِأَخْذِهَا عُضْوًا وَاحِدًا وَهَا هُنَا الْمُسْتَحَقُّ عُضْوَانِ ، وَلَا يُقْطَعُ عُضْوَانِ فِي السَّرِقَةِ إلَّا فِي عِشْرِينَ دِرْهَمًا .
وَقُلْنَا : يُغَلَّظُ الْحَدُّ هَاهُنَا بِاعْتِبَارِ تَغَلُّظِ فِعْلِهِمْ بِاعْتِبَارِ الْمُحَارَبَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ لَا بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْمَالِ الْمَأْخُوذِ ، فَفِي النِّصَابِ هَذَا الْحَدُّ وَحَدُّ السَّرِقَةِ سَوَاءٌ .
وَقَوْلُهُ ( كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ ) حَتَّى إذَا كَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى شَلَّاءَ أَوْ مَقْطُوعَةً لَمْ تُقْطَعْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةً فَإِنَّهُ تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى .
وَقَوْلُهُ ( فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ ) حَاصِلُهُ أَنَّ الْإِمَامَ بِالْخِيَارِ فِي جَمْعِ الْعُقُوبَتَيْنِ بَيْنَ قَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ مَعَ الْقَتْلِ أَوْ الصَّلْبِ وَبَيْنَ الْقَتْلِ أَوْ الصَّلْبِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ قَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ ، وَكَذَلِكَ لِلْإِمَامِ الْخِيَارُ عِنْدَ اخْتِيَارِ
تَرْكِ قَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ ، وَكَانَ الْخِيَارُ لِلْإِمَامِ فِي مَوْضِعَيْنِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَهُ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ وَلَا يُقْطَعُ ) وَذَكَرَ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَهُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ قَطْعَ الطَّرِيقِ ( جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا تُوجِبُ حَدَّيْنِ ، وَلِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ دَخَلَ فِي النَّفْسِ فِي بَابِ الْحَدِّ كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَالرَّجْمِ ) فَإِنَّ السَّارِقَ إذَا زَنَى وَهُوَ مُحْصَنٌ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ لَا غَيْرُ لِأَنَّ الْقَتْلَ يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ .
قَوْلُهُ ( وَلَهُمَا ) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ( وَالتَّدَاخُلُ فِي الْحُدُودِ لَا فِي حَدٍّ وَاحِدٍ ) أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَلَدَاتِ فِي الزِّنَا لَا تَتَدَاخَلُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ حَدًّا وَاحِدًا لَمَا جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَدَعَ الْقَطْعَ كَمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ بَعْضَ الْجَلَدَاتِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ وِلَايَةَ تَرْكِ الْقَطْعِ لَيْسَ بِطَرِيقِ التَّدَاخُلِ بَلْ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَيْهِ فِي إجْزَاءِ حَدٍّ وَاحِدٍ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْقَتْلِ لِذَلِكَ ، ثُمَّ إذَا قَتَلَهُ فَلَا فَائِدَةَ فِي اشْتِغَالِهِ بِالْقَطْعِ بَعْدَهُ كَمَا إذَا ضَرَبَ الزَّانِيَ ، خَمْسِينَ جَلْدَةً فَمَاتَ فَإِنَّهُ يَتْرُكُ مَا بَقِيَ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إقَامَتِهِ وَالْبَعْجُ الشَّقُّ مِنْ حَدٍّ مُنِعَ .
قَوْلُهُ ( وَعَنْ الْكَرْخِيِّ مِثْلُهُ ) أَيْ مِثْلُ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : يُصْلَبُ وَهُوَ حَيٌّ وَيُطْعَنُ بِالرُّمْحِ حَتَّى يَمُوتَ .
وَقَوْلُهُ ( تَوَقِّيًا عَنْ الْمُثْلَةِ ) لِأَنَّهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُثْلَةِ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ } .
وَقَوْلُهُ ( بِمَا ذَكَرْنَا ) أَيْ بِالصَّلْبِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ .
قَالَ ( وَإِذَا قَتَلَ الْقَاطِعُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي مَالٍ أَخَذَهُ ) اعْتِبَارًا بِالسَّرِقَةِ الصُّغْرَى وَقَدْ بَيَّنَّاهُقَالَ ( وَإِذَا قَتَلَ الْقَاطِعَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) إذَا قَتَلَ قَاطِعَ الطَّرِيقِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي مَالٍ أَخَذَهُ كَمَا لَوْ سَرَقَ فَقَطَعَ يَدَهُ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
( فَإِنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ أَحَدُهُمْ أَجْرَى الْحَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَجْمَعِهِمْ ) لِأَنَّهُ جَزَاءَ الْمُحَارَبَةِ ، وَهِيَ تَتَحَقَّقُ بِأَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ رِدْءًا لِلْبَعْضِ حَتَّى إذَا زَلَّتْ أَقْدَامُهُمْ انْحَازُوا إلَيْهِمْ ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ الْقَتْلُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَقَدْ تَحَقَّقَ .
قَالَ ( وَالْقَتْلُ وَإِنْ كَانَ بِعَصًا أَوْ بِحَجَرٍ أَوْ بِسَيْفٍ فَهُوَ سَوَاءٌ ) لِأَنَّهُ يَقَعُ قَطْعًا لِلطَّرِيقِ بِقَطْعِ الْمَارَّةِوَقَوْلُهُ ( انْحَازُوا إلَيْهِمْ ) أَيْ انْضَمُّوا .
( وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ الْقَاطِعُ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا وَقَدْ جَرَحَ اُقْتُصَّ مِنْهُ فِيمَا فِيهِ الْقِصَاصُ ، وَأُخِذَ الْأَرْشُ مِنْهُ فِيمَا فِيهِ الْأَرْشُ وَذَلِكَ إلَى الْأَوْلِيَاءِ ) لِأَنَّهُ لَا حَدَّ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ فَظَهَرَ حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَيَسْتَوْفِيهِ الْوَلِيُّ ( وَإِنْ أَخَذَ مَالًا ثُمَّ جَرَحَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرَجْلُهُ وَبَطَلَتْ الْجِرَاحَاتُ ) لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْحَدُّ حَقًّا لِلَّهِ سَقَطَتْ عِصْمَةُ النَّفْسِ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا تَسْقُطُ عِصْمَةُ الْمَالِ ( وَإِنْ أُخِذَ بَعْدَ مَا تَابَ وَقَدْ قَتَلَ عَمْدًا فَإِنْ شَاءَ الْأَوْلِيَاءُ قَتَلُوهُ وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا عَنْهُ ) لِأَنَّ الْحَدَّ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ لَا يُقَامُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِلِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ ، وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى رَدِّ الْمَالِ وَلَا قَطْعَ فِي مِثْلِهِ ، فَظَهَرَ حَقُّ الْعَبْدِ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ أَوْ يَعْفُوَ ، وَيَجِبُ الضَّمَانُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ الْقَاطِعُ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا وَقَدْ جَرَحَ ) جَعَلَهُ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ حَالَةً خَامِسَةً مِنْ أَحْوَالِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ، وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْإِجْمَالِ بَلْ قَالَ هِيَ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ الْأَحْوَالُ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الْأَجْزِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي النَّصِّ حَدًّا وَهِيَ أَرْبَعَةٌ كَمَا ذَكَرَهُ .
قَوْلُهُ ( سَقَطَتْ عِصْمَةُ النَّفْسِ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا تَسْقُطُ عِصْمَةُ الْمَالِ ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ يَجْرِي مَجْرَى الْأَمْوَالِ فَكَانَ سُقُوطُ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ الْمَالِ سُقُوطَ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ الْجُرْحِ لِأَنَّ مُوجِبَ الْأَرْشِ هُوَ الْمَالُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْقُطْ لَصَارَتْ شُبْهَةً فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ ؛ إذْ الْجِنَايَةُ وَاحِدَةٌ وَهِيَ قَطْعُ الطَّرِيقِ ، فَإِذَا ظَهَرَ حَقُّ الْعَبْدِ عُلِمَ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِيهِ وَقَدْ ظَهَرَ حَقُّ اللَّهِ حَيْثُ وَجَبَ الْقَطْعُ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ شَاءَ الْأَوْلِيَاءُ قَتَلُوهُ ) يَعْنِي قِصَاصًا .
وَقَوْلُهُ ( لِلِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْله تَعَالَى { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } الْآيَةَ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ قَوْلَهُ { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا } هَاهُنَا نَظِيرُهُ { وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا } قِيلَ : هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ { وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا جُمْلَتَانِ كَامِلَتَانِ عُطِفَتَا عَلَى جُمْلَتَيْنِ كَامِلَتَيْنِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ { وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } لَا يَصْلُحُ جَزَاءً ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ { وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وَاعْتُرِضَ أَيْضًا بِأَنَّ التَّوْبَةَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى أَدَاءِ الْمَالِ أَوَّلًا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَا يَسْتَقِيمُ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى رَدِّ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ الْوَجْهُ الثَّانِي دَاخِلًا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ
عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً ، إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ جُزْءَ عِلَّةٍ وَعِلَّةً مُسْتَقِلَّةً بِالنِّسْبَةِ إلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ بِنَفْسِ التَّوْبَةِ وَهِيَ الْإِقْلَاعُ فِي الْحَالِ وَالِاجْتِنَابُ فِي الْمَآلِ وَالنَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إلَيْهِ أَبَدًا ، وَلَمْ يَجْعَلُوا التَّوْبَةَ بِهَذَا الْمَعْنَى مَوْقُوفَةً عَلَى رَدِّ الْمَالِ .
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ مَا لَمْ يَرُدَّ الْمَالَ فَجَعَلُوا الرَّدَّ مِنْ تَمَامِهَا ، فَالْمُصَنِّفُ جَمَعَ بَيْنَ قَوْلَيْ الْمَشَايِخِ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ ، ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا قَطْعَ فِي مِثْلِهِ ) أَيْ فِي مِثْلِ مَا إذَا رَدَّ الْمَالَ إلَى الْمَالِكِ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ تَنْقَطِعُ بِرَدِّ الْمَالِ إلَيْهِ وَهِيَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ .
وَقَوْلُهُ ( فَظَهَرَ حَقُّ الْعَبْدِ ) يَعْنِي لَمَّا انْتَفَى حَقُّ الشَّرْعِ وَهُوَ الْقَطْعُ بِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْخُصُومَةُ بِرَدِّ الْمَالِ ( ظَهَرَ حَقُّ الْعَبْدِ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ أَوْ يَعْفُوَ ) وَقَوْلُهُ ( وَيَجِبُ الضَّمَانُ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ وَلِيُّ الْقِصَاصِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ وُجُودَ الضَّمَانِ لِسُقُوطِ الْحَدِّ وَسُقُوطُ الْحَدِّ بِالتَّوْبَةِ وَالتَّوْبَةُ تَتَوَقَّفُ عَلَى رَدِّ الْمَالِ عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْهَلَاكُ أَوْ الِاسْتِهْلَاكُ بَعْدَ الرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّا نَفْرِضُ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا تَابَ رَدَّ بَعْضَ الْمَالِ بِأَنْ يَرُدَّ مَالَ بَعْضِ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقُ وَاسْتَهْلَكَ مَالَ الْبَعْضِ الْآخَرِ أَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ حَيْثُ تَصِحُّ تَوْبَتُهُ وَيَجِبُ الضَّمَانُ .
وَأَقُولُ : هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ أَنْ لَوْ كَانَتْ التَّوْبَةُ مُتَوَقِّفَةً عَلَى رَدِّ الْمَالِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُتَوَقِّفَةً عَلَى