كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَةً وَيَسْتَثْنِيَ مِنْهَا ، أَرْطَالًا مَعْلُومَةً ) خِلَافًا لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مَجْهُولٌ ، .
بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ وَاسْتَثْنَى نَخْلًا مُعَيَّنًا ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَالُوا هَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ وَهُوَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ ؛ أَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْعَقْدِ ، وَبَيْعُ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ جَائِزٌ فَكَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ ، بِخِلَافِ اسْتِثْنَاءِ الْحِمْلِ وَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، فَكَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ .
( قَالَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَةً ) إذَا بَاعَ ثَمَرَةً ( وَاسْتَثْنَى مِنْهَا أَرْطَالًا مَعْلُومَةً لَمْ يَجُزْ خِلَافًا لِمَالِكٍ ) وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ مُرَادَهُ الثَّمَرَةُ عَلَى رُءُوسِ النَّخِيلِ أَوْ ثَمَرَةٌ مَجْذُوذَةٌ ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِ فَوَائِدِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ مُرَادَهُ مَا كَانَ عَلَى النَّخِيلِ .
وَأَمَّا بَيْعُ الْمَجْذُوذِ فَجَائِزٌ ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ : إذَا بَاعَ الثَّمَرَ عَلَى رُءُوسِ النَّخِيلِ إلَّا صَاعًا مِنْهَا يَجُوزُ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومٌ ، كَمَا إذَا كَانَ الثَّمَرُ مَجْذُوذًا مَوْضُوعًا عَلَى الْأَرْضِ فَبَاعَ الْكُلَّ إلَّا صَاعًا يَجُوزُ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيهِمَا سَوَاءٌ ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مَجْهُولٌ ) وَالْمَجْهُولُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ ، وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيهِمَا سَوَاءٌ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَثْنَى نَخْلًا مُعَيَّنًا لِأَنَّ الْبَاقِيَ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ ) كَمْ هِيَ نَخْلَةٌ ، قَالَ الْمُصَنِّفُ ( قَالُوا هَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ وَهُوَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْمَانِعَةَ مِنْ الْجَوَازِ مَا كَانَتْ مُفْضِيَةً إلَى النِّزَاعِ ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِتَرَاضِيهِمَا بِذَلِكَ فَلَا تَكُونُ مَانِعَةً .
وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَرُبَّمَا كَانَ الْبَائِعُ يَطْلُبُ صَاعًا مِنْ الثَّمَرِ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ وَالْمُشْتَرِي يَدْفَعُ إلَيْهِ مَا هُوَ أَرَادَ الثَّمَرَ فَيُفْضِي إلَى النِّزَاعِ .
سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ بِجَوَازِ تَرَاضِيهِمَا عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ قَدْ لَا يَكُونُ الثَّمَرُ إلَّا قَدْرَ الْمُسْتَثْنَى فَيَخْلُو الْعَقْدُ عَنْ الْفَائِدَةِ فَلَا يَصِحُّ ، كَمَا لَا يَصِحُّ مِثْلُهُ فِي الْمُضَارَبَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى ، وَعَنْ هَذَا قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ يُشِيرُ إلَى هَذَا قَوْلُهُ أَرْطَالًا مَعْلُومَةً .
وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى صَاعًا وَاحِدًا أَوْ رِطْلًا وَاحِدًا فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ ، وَبِأَنَّهُ لَا
يَخْلُو إمَّا أَنَّهُ بَقِيَ شَيْءٌ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ أَوْ لَا ، وَكُلٌّ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ يَقْتَضِي صِحَّةَ الْعَقْدِ ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مَعْلُومٌ لِكَوْنِ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومًا ، سَلَّمْنَا أَنَّ الْبَاقِيَ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَزْنًا لَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ إلَّا إذَا بَاعَ مُوَازَنَةً وَلَيْسَ الْفَرْضُ ذَلِكَ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ فِي الْبَاقِي مُجَازَفَةً وَهُوَ مَعْلُومٌ مُشَاهَدَةً .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ فَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَجُوزُ الْبَيْعُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ ، وَأَمَّا فِي الْحَالِ فَلَا يُعْرَفُ هَلْ يَبْقَى بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ شَيْءٌ أَوْ لَا فَصَارَ مَجْهُولًا ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُفْضِيَةً إلَى النِّزَاعِ فَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ ، ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( أَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ ) يُرِيدُ بِهِ عَلَى قِيَاسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، فَإِنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ صَرِيحًا وَلِهَذَا قَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْعَقْدِ وَبَيْعُ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ جَائِزٌ فَكَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ ، وَيَنْعَكِسُ إلَى أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ ، وَفِي بَيْعِ أَطْرَافِ الْحَيَوَانِ فِيهِ وَحَمْلِهِ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ بِانْفِرَادِهِ فَكَذَا لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مَقْصُودًا مَعْلُومًا ، وَإِفْرَادُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْصُودًا مَعْلُومًا فَتَشَارَكَا فِي الْقَصْدِ وَالْعِلْمِ ، فَمَا جَازَ أَنْ يَقَعَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ جَازَ أَنْ يُسْتَثْنَى وَبِالْعَكْسِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِكَذَا إلَّا قَفِيزًا مِنْهَا بِدِرْهَمٍ صَحَّ فِي جَمِيعِ الصُّبْرَةِ إلَّا فِي
قَفِيزٍ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى مَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا لَوْ قَالَ بِعْتُك هَذَا الْقَطِيعَ مِنْ الْغَنَمِ إلَّا شَاةً مِنْهَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى مَا لَا يَجُوزُ إفْرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ قَالَ إلَّا هَذِهِ الشَّاةَ بِعَيْنِهَا جَازَ لِأَنَّهُ يَجُوزُ إفْرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي جَمِيعِ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ كَالثِّيَابِ وَالْعَبِيدِ ، بِخِلَافِ الْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ فَإِنَّ اسْتِثْنَاءَ قَدْرٍ مِنْهُ وَإِيرَادَ الْعَقْدِ عَلَيْهِ جَائِزٌ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ .
قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ بِعْتُك هَذَا الْقَطِيعَ مِنْ الْغَنَمِ إلَّا هَذِهِ الشَّاةَ بِعَيْنِهَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ بِعْتُك هَذَا الْقَطِيعَ مِنْ الْغَنَمِ كُلَّهُ عَلَى أَنَّ لِي هَذِهِ الشَّاةَ الْوَاحِدَةَ مِنْهُ بِعَيْنِهَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ اسْتَثْنَى الشَّاةَ الْمُعَيَّنَةَ مِنْ الْقَطِيعِ مَعْنًى .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُسْتَثْنَى لِبَيَانِ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ فَلَمْ يَكُنْ إفْرَادُهَا إخْرَاجًا بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ فَلَا جَهَالَةَ فِيهِ ، وَأَمَّا فِي الشَّرْطِ فَلِأَنَّ الشَّاةَ دَخَلَتْ أَوَّلًا فِي الْجُمْلَةِ ثُمَّ خَرَجَتْ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ ، وَنَظِيرُهُ مَا لَوْ قَالَ بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ إلَّا عُشْرَهُ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ فِي تِسْعَةِ أَعْشَارِهِ ، وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنَّ لِي عُشْرَهُ لَمْ يَصِحَّ .
قِيلَ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : سَلَّمْنَا أَنَّ إيرَادَ الْعَقْدِ عَلَى الْأَرْطَالِ الْمَعْلُومَةِ وَاسْتِثْنَاءَهَا جَائِزٌ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ جَوَازَ بَيْعِ الْبَاقِي وَهُوَ مَجْهُولٌ .
وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَاقِيَ مَجْهُولٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْتَثْنَى إذَا كَانَ مَعْلُومًا لَمْ تَسْرِ مِنْهُ جَهَالَةٌ
إلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ إلَّا بِحَسَبِ الْوَزْنِ فَيَكُونُ الْبَيْعُ فِي الْبَاقِي مُجَازَفَةً وَهِيَ لَا تَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْمَبِيعِ .
( وَيَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا وَالْبَاقِلَاءِ فِي قِشْرِهِ ) وَكَذَا الْأُرْزُ وَالسِّمْسِمُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْبَاقِلَاءِ الْأَخْضَرِ ، وَكَذَا الْجَوْزُ وَاللَّوْزُ وَالْفُسْتُقُ فِي قِشْرِهِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُ .
وَلَهُ فِي بَيْعِ السُّنْبُلَةِ قَوْلَانِ ، وَعِنْدَنَا يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ .
لَهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَسْتُورٌ بِمَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ فَأَشْبَهَ تُرَابَ الصَّاغَةِ إذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ ، وَعَنْ بَيْعِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ } " ؛ وَلِأَنَّهُ حَبٌّ مُنْتَفَعٌ بِهِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ فِي سُنْبُلِهِ كَالشَّعِيرِ وَالْجَامِعُ كَوْنُهُ مَالًا مُتَقَوِّمًا ، بِخِلَافِ تُرَابِ الصَّاغَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا ، حَتَّى لَوْ بَاعَهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ جَازَ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَوْ بَاعَهُ بِجِنْسِهِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِشُبْهَةِ الرِّبَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي قَدْرَ مَا فِي السَّنَابِلِ .
قَالَ ( وَيَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا ) بَيْعُ الشَّيْءِ فِي غِلَافِهِ لَا يَجُوزُ إلَّا بَيْعَ الْحُبُوبِ كَالْحِنْطَةِ وَالْبَاقِلَاءِ ( وَالْأُرْزِ وَالسِّمْسِمِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْبَاقِلَاءِ الْأَخْضَرِ وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْفُسْتُقِ فِي قِشْرِهِ فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ ) وَكَذَا بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَسْتُورٌ بِمَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُ ، وَالْعَقْدُ فِي مِثْلِهِ لَا يَصِحُّ كَمَا إذَا بِيعَ تُرَابُ الصَّاغَةِ بِمِثْلِهِ .
وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّهُ { نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ ، وَعَنْ بَيْعِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ } ، وَحُكْمُ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ خِلَافُ حُكْمِ مَا قَبْلَهَا .
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ نَهَى فَإِنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْمَشْرُوعِيَّةَ كَمَا عُرِفَ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ حَبٌّ مُنْتَفَعٌ بِهِ ) كَأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ مَسْتُورٌ بِمَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُ .
وَتَقْرِيرُهُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ بَلْ هُوَ أَيْ الْمَبِيعُ بِقِشْرِهِ حَبٌّ مُنْتَفَعٌ بِهِ ، وَمَنْ أَكَلَ الْفُولِيَّةَ شَهِدَ بِذَلِكَ وَأَنَّ الْحُبُوبَ الْمَذْكُورَةَ تُدَّخَرُ فِي قِشْرِهَا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ } وَهُوَ انْتِفَاعٌ لَا مَحَالَةَ .
فَجَازَ الْبَيْعُ كَبَيْعِ الشَّعِيرِ بِجَامِعِ كَوْنِهِمَا مَالَيْنِ مُتَقَوِّمَيْنِ يُنْتَفَعُ بِهِمَا .
وَبَيْعُ تُرَابِ الصَّاغَةِ إنَّمَا لَا يَجُوزُ إذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا حَتَّى إذَا بِيعَ بِخِلَافِ جِنْسِهِ جَازَ .
وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَوْ بِيعَ بِجِنْسِهِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِشُبْهَةِ الرِّبَا لِجَهَالَةِ قَدْرِ مَا فِي السُّنْبُلَةِ .
فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا وَبَيْنَ مَا إذَا بَاعَ حَبَّ قُطْنٍ فِي قُطْنٍ بِعَيْنِهِ أَوْ نَوَى تَمْرٍ فِي تَمْرٍ بِعَيْنِهِ وَهُمَا سِيَّانِ فِي كَوْنِ
الْمَبِيعِ مُغَلَّفًا ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْغَالِبَ فِي السُّنْبُلَةِ الْحِنْطَةُ ، يُقَالُ هَذِهِ حِنْطَةٌ وَهِيَ فِي سُنْبُلِهَا وَلَا يُقَالُ هَذَا حَبٌّ وَهُوَ فِي الْقُطْنِ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا قُطْنٌ وَكَذَلِكَ فِي التَّمْرِ إلَيْهِ أَشَارَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
( وَمَنْ بَاعَ دَارًا دَخَلَ فِي الْبَيْعِ مَفَاتِيحُ إغْلَاقِهَا ) ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِغْلَاقُ ؛ لِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ فِيهَا لِلْبَقَاءِ وَالْمِفْتَاحُ يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْغَلْقِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ بَعْضٍ مِنْهُ إذْ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِدُونِهِ .قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ دَارًا إلَخْ ) الْإِغْلَاقُ جَمْعُ غَلَقٍ بِفَتْحِ اللَّامِ وَهُوَ مَا يُغْلَقُ وَيُفْتَحُ بِالْمِفْتَاحِ إذَا بَاعَ دَارًا دَخَلَ فِي الْبَيْعِ إغْلَاقُهَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَا كَانَ مَوْضُوعًا فِيهِ لِلْقَرَارِ كَانَ دَاخِلًا ، وَالْإِغْلَاقُ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ فِيهَا لِلْبَقَاءِ ، وَالْمِفْتَاحُ يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْغَلَقِ بِلَا تَسْمِيَةٍ لِأَنَّهُ كَالْجُزْءِ مِنْهُ إذْ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِدُونِهِ ، وَالدَّاخِلُ فِي الدَّاخِلِ فِي الشَّيْءِ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ .
فَإِنْ قِيلَ : عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِدُونِ شَيْءٍ لَا يَسْتَلْزِمُ دُخُولَهُ فِي بَيْعِهِ فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِالدَّارِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِطَرِيقٍ وَلَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الدَّارِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الدَّاخِلَ فِي الدَّاخِلِ فِي الشَّيْءِ دَاخِلٌ لَا مَحَالَةَ ، وَقَوْلُهُ الِانْتِفَاعُ بِالدَّارِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالطَّرِيقِ قُلْنَا : الِانْتِفَاعُ بِهَا لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالطَّرِيقِ مُطْلَقًا أَوْ مِنْ حَيْثُ السُّكْنَى ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُشْتَرِي أَخْذَ الشُّفْعَةِ بِسَبَبِ مِلْكِ الدَّارِ وَهُوَ انْتِفَاعٌ بِهَا لَا مَحَالَةَ ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ وَلِهَذَا دَخَلَ الطَّرِيقُ فِي الْإِجَارَةِ وَلَكِنْ لَيْسَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ ، وَالْقُفْلُ وَمِفْتَاحُهُ لَا يَدْخُلَانِ وَالسُّلَّمُ إنْ اتَّصَلَ بِالْبِنَاءِ مِنْ خَشَبٍ كَانَ أَوْ حَجَرٍ يَدْخُلُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ لَا يَدْخُلُ .
قَالَ ( وَأُجْرَةُ الْكَيَّالِ وَنَاقِدِ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ ) أَمَّا الْكَيْلُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ لِلتَّسْلِيمِ وَهُوَ عَلَى الْبَائِعِ وَمَعْنَى هَذَا إذَا بِيعَ مُكَايَلَةً ، وَكَذَا أُجْرَةُ الْوَزَّانِ وَالزَّرَّاعِ وَالْعَدَّادِ ، وَأَمَّا النَّقْدُ فَالْمَذْكُورُ رِوَايَةُ ابْنِ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ النَّقْدَ يَكُونُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ الْوَزْنِ وَالْبَائِعُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ لِيُمَيِّزَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ لِيَعْرِفَ الْمَعِيبَ لِيَرُدَّهُ .
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْهُ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمِ الْجَيِّدِ الْمُقَدَّرِ ، وَالْجُودَةُ تُعْرَفُ بِالنَّقْدِ كَمَا يُعْرَفُ الْقَدْرُ بِالْوَزْنِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ .
قَالَ ( وَأُجْرَةُ وَزَّانِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ وَبِالْوَزْنِ يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ .
قَالَ : وَأُجْرَةُ الْكَيَّالِ وَنَاقِدُ الثَّمَنِ إذَا بَاعَ الْمَكِيلَ مُكَايَلَةً أَوْ الْمَوْزُونَ مُوَازَنَةً أَوْ الْمَعْدُودَ عَدَدًا وَاحْتَاجَ إلَى أُجْرَةِ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ وَالْعَدَّادِ فَهِيَ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ .
وَأَمَّا أُجْرَةُ نَاقِدِ الثَّمَنِ فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ هِيَ عَلَى الْبَائِعِ ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمُخْتَصَرِ ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْهُ عَلَى الْمُشْتَرِي .
وَجْهُ الْأُولَى أَنَّ النَّقْدَ يَكُونُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْوَزْنِ وَبِهِ يَحْصُلُ التَّسْلِيمُ وَالْبَائِعُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى النَّقْدِ لِتَمْيِيزِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ يَعْرِفُ الْمَعِيبَ لِيَرُدَّهُ .
وَوَجْهُ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمِ الْجَيِّدِ الْمُقَدَّرِ ، وَالْجَوْدَةُ تُعْرَفُ بِالنَّقْدِ كَمَا يُعْرَفُ الْقَدْرُ بِالْوَزْنِ ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَأُجْرَةُ وَزْنِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ وَبِالْوَزْنِ يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ قِيلَ لِلْمُشْتَرِي ادْفَعْ الثَّمَنَ أَوَّلًا ) ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي تَعَيَّنَ فِي الْمَبِيعِ فَيُقَدَّمُ دَفْعُ الثَّمَنِ لِيَتَعَيَّنَ حَقُّ الْبَائِعِ بِالْقَبْضِ لِمَا أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِسِلْعَةٍ أَوْ ثَمَنًا بِثَمَنٍ قِيلَ لَهُمَا سُلِّمَا مَعًا ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّعَيُّنِ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا فِي الدَّفْعِ .قَالَ : ( وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً ) بَيْعُ السِّلْعَةِ مُعَجَّلًا إمَّا أَنْ يَكُونَ بِثَمَنٍ أَوْ بِسِلْعَةٍ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي ادْفَعْ الثَّمَنَ أَوَّلًا لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي تَعَيَّنَ فِي الْمَبِيعِ فَيُقَدَّمُ دَفْعُ الثَّمَنِ لِيَتَعَيَّنَ حَقُّ الْبَائِعِ بِالْقَبْضِ لِكَوْنِهِ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعَيُّنِ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ فِي تَعَيُّنِ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَفِي الْمَالِيَّةِ أَيْضًا لِأَنَّ الدَّيْنَ أَنْقَصُ مِنْ الْعَيْنِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ غَائِبًا عَنْ حَضْرَتِهِمَا فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ حَتَّى يُحْضَرَ الْمَبِيعُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ قَبْضِهِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي يُقَالُ لَهُمَا سَلِّمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّعْيِينِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا بِالدَّفْعِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( بَابُ خِيَارِ الشَّرْطِ ) .
قَالَ : ( خِيَارُ الشَّرْطِ جَائِزٌ فِي الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَلَهُمَا الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا ) وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ : { أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُغْبَنُ فِي الْبِيَاعَاتِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ وَلِيَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ } " .
( وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ .
وَقَالَا ( يَجُوزُ إذَا سَمَّى مُدَّةً مَعْلُومَةً لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّهُ أَجَازَ الْخِيَارَ إلَى شَهْرَيْنِ " ) ؛ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّرَوِّي لِيَنْدَفِعَ الْغَبْنُ ، وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الْأَكْثَرِ فَصَارَ كَالتَّأْجِيلِ فِي الثَّمَنِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ اللُّزُومُ ، وَإِنَّمَا جَوَّزْنَاهُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ النَّصِّ ، فَيُقْتَصَرُ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ وَانْتَفَتْ الزِّيَادَةُ .
( إلَّا أَنَّهُ إذَا أَجَازَ فِي الثَّلَاثِ ) جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِزُفَرِ ، هُوَ يَقُولُ : إنَّهُ انْعَقَدَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا .
وَلَهُ أَنَّهُ أَسْقَطَ الْمُفْسِدَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ فَيَعُودُ جَائِزًا كَمَا إذَا بَاعَ بِالرَّقْمِ وَأَعْلَمَهُ فِي الْمَجْلِسِ .
وَلِأَنَّ الْفَسَادَ بِاعْتِبَارِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ ، فَإِذَا أَجَازَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَتَّصِلْ الْمُفْسِدُ بِالْعَقْدِ ، وَلِهَذَا قِيلَ : إنَّ الْعَقْدَ يَفْسُدُ بِمُضِيِّ جُزْءٍ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ ، وَقِيلَ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا ثُمَّ يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ بِحَذْفِ الشَّرْطِ ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ .
بَابُ خِيَارِ الشَّرْطِ : قَالَ ( خِيَارُ الشَّرْطِ جَائِزُ الْبَيْعِ ، تَارَةً يَكُونُ لَازِمًا وَأُخْرَى غَيْرَ لَازِمٍ ) وَاللَّازِمُ مَا لَا خِيَارَ فِيهِ بَعْدَ وُجُودِ شَرَائِطِهِ وَغَيْرُ اللَّازِمِ مَا فِيهِ الْخِيَارُ ، وَلَمَّا كَانَ اللَّازِمُ أَقْوَى فِي كَوْنِهِ بَيْعًا قَدَّمَهُ عَلَى غَيْرِهِ ، ثُمَّ قَدَّمَ خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى سَائِرِ الْخِيَارَاتِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ ، ثُمَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ تَمَامَ الْحُكْمِ ، ثُمَّ خِيَارَ الْعَيْبِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ لُزُومَ الْحُكْمِ ، وَإِنَّمَا كَانَ عَمَلُهُ فِي مَنْعِ الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ لِأَنَّ مِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي الْبَيْعِ لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ ، وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ فَأَظْهَرْنَا عَمَلَهُ فِي مَنْعِ الْحُكْمِ تَقْلِيلًا لِعَمَلِهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ لِأَنَّ دُخُولَهُ فِي السَّبَبِ مُسْتَلْزِمٌ الدُّخُولَ فِي الْحُكْمِ دُونَ الْعَكْسِ ، وَهُوَ عَلَى أَنْوَاعٍ : فَاسِدٌ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا إذَا قَالَ اشْتَرَيْت عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ أَوْ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ أَيَّامًا أَوْ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ أَبَدًا .
وَجَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا .
وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ ، فَإِنَّهُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ ، جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ سَوَاءٌ كَانَ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا أَوْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْخِلَافِيَّةِ مَا رُوِيَ : { أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذٍ كَانَ يُغْبَنُ فِي الْبِيَاعَاتِ لِمَأْمُومَةٍ أَصَابَتْ رَأْسَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ وَلِيَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ } وَالْخِلَابَةُ : الْخِدَاعُ .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ اللُّزُومُ ، وَكُلُّ مَا هُوَ
كَذَلِكَ فَهُوَ مُفْسِدٌ إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَاهُ بِهَذَا النَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ جَازَ لِلْبَائِعِ وَالْمَذْكُورُ فِي النَّصِّ هُوَ الْمُشْتَرِي فَكَمَا عَدَّيْتُمْ فِيمَنْ لَهُ الْخِيَارُ فَلْيَتَعَدَّ فِي مُدَّتِهِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ فِي النَّصِّ إشَارَةً إلَى ذَلِكَ وَهُوَ لَفْظُ الْمُفَاعَلَةِ ، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ فِي مَعْنَى الْمُشْتَرِي فِي مَعْنَى الْمَنَاطِ فَيُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً ، وَكَثِيرُ الْمُدَّةِ كَقَلِيلِهَا لِأَنَّ مَعْنَى الْفَرْقِ يَتَمَكَّنُ بِزِيَادَةِ الْمُدَّةِ فَيَزْدَادُ الْغَرَرُ وَهُوَ مُفْسِدٌ وَلَهُمَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ الْخِيَارَ إلَى شَهْرَيْنِ } وَلِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّأَمُّلِ لِيَنْدَفِعَ الْغَبْنُ وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الْأَكْثَرِ فَكَانَ كَثِيرُ الْمُدَّةِ كَقَلِيلِهَا فَيُلْحَقُ بِهِ وَصَارَ كَالتَّأْجِيلِ فِي الثَّمَنِ ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ قَلَّتْ الْمُدَّةُ أَوْ كَثُرَتْ لِلْحَاجَةِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ حَدِيثَ حِبَّانَ مَشْهُورٌ فَلَا يُعَارِضُهُ حِكَايَةُ حَالِ ابْنِ عُمَرَ ، سَلَّمْنَا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لَكِنَّ الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مُطْلَقُ الْخِيَارِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ ، وَأَنَّهُ أَجَازَ الرَّدَّ بِهِمَا بَعْدَ الشَّهْرَيْنِ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَثِيرَ الْمُدَّةِ كَالْقَلِيلِ فِي الْحَاجَةِ ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْخِلَابَةِ كَانَ مُصَابًا فِي الرَّأْسِ فَكَانَ أَحْوَجَ إلَى الزِّيَادَةِ ، فَلَوْ زَادَتْ كَانَ أَوْلَى بِهَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُقَدَّرَ لِنَفْيِ الزِّيَادَةِ سَلَّمْنَاهُ ، لَكِنْ فِي الْكَثِيرِ مَعْنَى الْغَرَرِ أَزْيَدُ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَالْقِيَاسُ عَلَى التَّأْجِيلِ فِي الثَّمَنِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْأَجَلَ يُشْتَرَطُ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ .
وَهِيَ إنَّمَا تَكُونُ بِالْكَسْبِ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ فِي كُلِّ مُدَّةٍ فَقَدْ يُحْتَاجُ إلَى مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ .
( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَجَازَ )
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْهَا ، وَمَعْنَاهُ : لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْهَا ، لَكِنْ لَوْ ذُكِرَ أَكْثَرُ مِنْهَا وَأَجَازَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فِي الثَّلَاثِ جَازَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ بِالتَّوْجِيهِ الْمَذْكُورِ ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ خِلَافًا لِزُفَرَ فَتَأَمَّلْ ، وَزُفَرُ يَقُولُ : إنَّ هَذَا عَقْدٌ قَدْ انْعَقَدَ فَاسِدًا وَالْفَاسِدُ لَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا لِأَنَّ الْبَقَاءَ عَلَى وَفْقِ الثُّبُوتِ ، فَكَانَ كَمَنْ بَاعَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ أَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفٍ وَرِطْلِ خَمْرٍ ثُمَّ أَسْقَطَ الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ وَأَبْطَلَ الْخَمْرَ ؛ وَكَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَتَحْتَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ ثُمَّ طَلَّقَ الرَّابِعَةَ لَا يُحْكَمُ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْخَامِسَةِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَسْقَطَ الْمُفْسِدَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَشَايِخَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ هَذَا الْعَقْدِ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَذَهَبَ الْعِرَاقِيُّونَ إلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا ثُمَّ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِحَذْفِ خِيَارِ الشَّرْطِ قَبْلَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ ، وَذَهَبَ أَهْلُ خُرَاسَانَ وَإِلَيْهِ مَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إلَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ ، فَإِذَا مَضَى جُزْءٌ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَسَدَ ، فَقَوْلُهُ إنَّهُ أَسْقَطَ الْمُفْسِدَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ أَيْ قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَعْلِيلٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعَقْدَ فَاسِدٌ فِي الْحَالِ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ دَوَامُهَا عَلَى الشَّرْطِ ، فَإِذَا أَسْقَطَ الْخِيَارَ قَبْلَ دُخُولِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ زَالَ الْمُوجِبُ لِلْفَسَادِ فَيَعُودُ جَائِزًا ، وَهَذَا لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَمْ يَكُنْ فَاسِدًا لِعَيْنِهِ بَلْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْيِيرِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ ، فَإِذَا زَالَ الْمُغَيَّرُ عَادَ جَائِزًا فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ بِالرَّقْمِ وَهُوَ أَنْ يُعَلِّمَ الْبَائِعُ عَلَى الثَّوْبِ بِعَلَامَةٍ
كَالْكِتَابَةِ يَعْلَمُ بِهَا الدَّلَّالُ أَوْ غَيْرُهُ ثَمَنَ الثَّوْبِ وَلَا يَعْلَمُ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ ، فَإِذَا قَالَ بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ بِرَقْمِهِ وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ الْمِقْدَارَ انْعَقَدَ الْبَيْعُ فَاسِدًا ، فَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي قَدْرَ الرَّقْمِ فِي الْمَجْلِسِ وَقَبِلَهُ انْقَلَبَ جَائِزًا بِالِاتِّفَاقِ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْفَسَادَ بِاعْتِبَارِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ ) تَعْلِيلٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْعَقْدِ ، وَإِنَّمَا الْمُفْسِدُ اتِّصَالُ الْيَوْمِ الرَّابِعِ بِالْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ ، فَإِذَا جَازَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَتَّصِلْ الْمُفْسِدُ بِالْعَقْدِ فَكَانَ صَحِيحًا .
وَالْجَوَابُ عَمَّا قَاسَ عَلَيْهِ زُفَرُ مِنْ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْفَسَادَ فِيهَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْبَدَلُ فَلَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُ وَفِي مَسْأَلَتِنَا فِي شَرْطِهِ فَأَمْكَنَ .
( وَلَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا جَازَ .
وَإِلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَجُوزُ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ ، فَإِنْ نَقَدَ فِي الثَّلَاثِ جَازَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ إذْ الْحَاجَةُ مَسَّتْ إلَى الِانْفِسَاخِ عِنْدَ عَدَمِ النَّقْدِ تَحَرُّزًا عَنْ الْمُمَاطَلَةِ فِي الْفَسْخِ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِهِ .
وَقَدْ مَرَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْمُلْحَقِ بِهِ ، وَنَفَى الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ وَكَذَا مُحَمَّدٌ فِي تَجْوِيزِ الزِّيَادَةِ .
وَأَبُو يُوسُفَ أَخَذَ فِي الْأَصْلِ بِالْأَثَرِ .
وَفِي هَذَا بِالْقِيَاسِ ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قِيَاسٌ آخَرُ وَإِلَيْهِ مَال زُفَرُ وَهُوَ أَنَّهُ بَيْعٌ شُرِطَ فِيهِ إقَالَةٌ فَاسِدَةٌ لِتَعَلُّقِهَا بِالشَّرْطِ ، وَاشْتِرَاطُ الصَّحِيحِ مِنْهَا فِيهِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ ، فَاشْتِرَاطُ الْفَاسِدِ أَوْلَى وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا بَيَّنَّا .
قَالَ ( وَلَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ ) إذَا اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ عَلَى وُجُوهٍ ، فَأَمَّا إنْ قَالَ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ فَلَا بَيْعَ ، أَوْ قَالَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ أَيَّامًا فَلَا بَيْعَ وَهُمَا فَاسِدَانِ ، أَوْ قَالَ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ .
وَالْقِيَاسُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَا أَنَّهُ بَيْعُ شَرْطٍ فِيهِ إقَالَةٌ فَاسِدَةٌ لِتُعَلِّقهَا بِالشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ النَّقْدِ ، وَاشْتِرَاطُ الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك هَذَا بِشَرْطِ أَنْ تُقِيلَ الْبَيْعَ مُفْسِدٌ لِكَوْنِهِ عَلَى خِلَافِ الْعَقْدِ ، فَاشْتِرَاطُ فَاسِدِهَا أَوْلَى أَنْ يَفْسُدَ ، وَاسْتَحْسَنَ الْعُلَمَاءُ جَوَازَهُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى شَرْطِ الْخِيَارِ مِنْ حَيْثُ الْحَاجَةُ ، إذْ الْحَاجَةُ مَسَّتْ إلَى الِانْفِسَاخِ عِنْدَ عَدَمِ النَّقْدِ تَحَرُّزًا عَنْ الْمُمَاطَلَةِ فِي الْفَسْخِ ، وَإِذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ كَانَ مُلْحَقًا بِهِ .
وَرُدَّ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ هُنَاكَ لَوْ سَكَتَ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ تَمَّ الْعَقْدُ وَهَاهُنَا لَوْ سَكَتَ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ بَطَلَ الْعَقْدُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ النَّظَرَ فِي الْإِلْحَاقِ إنَّمَا هُوَ إلَى الْمَعْنَى الْمُنَاطِ لِلْحُكْمِ وَهِيَ الْحَاجَةُ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا ، وَأَمَّا الزَّائِدُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ انْفَسَخَ الْعَقْدُ حَتَّى يَجُوزَ الْبَيْعُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِيهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْفَسْخِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إلَّا بِحَضْرَةِ الْآخَرِ .
وَعَسَى يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ بَاقِيَةً .
وَأَمَّا إذَا زَادَ
عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ : لَمْ يُجَوِّزْهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ .
وَجَوَّزَهُ مُحَمَّدٌ .
أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْمُلْحَقِ بِهِ وَنَفَى الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ ، وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ فِي تَجْوِيزِ الزِّيَادَةِ فِي الْمُلْحَقِ بِهِ ، وَأَبُو يُوسُفَ احْتَاجَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُلْحَقِ وَالْمُلْحَقِ بِهِ فِي جَوَازِ الزِّيَادَةِ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ وَأَبُو يُوسُفَ أَخَذَ فِي الْأَصْلِ بِالْأَثَرِ ، وَفِي هَذَا بِالْقِيَاسِ .
وَتَفْسِيرُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَصْلِ شَرْطُ الْخِيَارِ ، وَبِقَوْلِهِ فِي هَذَا قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ، وَالْمُرَادَ بِالْأَثَرِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ " أَنَّهُ أَجَازَ الْخِيَارَ إلَى شَهْرَيْنِ " وَمَعْنَاهُ : تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي الْمُلْحَقِ بِهِ وَهُوَ شَرْطُ الْخِيَارِ بِأَثَرِ ابْنِ عُمَرَ ، وَعَمِلْنَا بِالْقِيَاسِ فِي الْمُلْحَقِ وَهُوَ التَّعْلِيقُ بِنَقْدِ الثَّمَنِ لِعَدَمِ النَّصِّ فِيهِ .
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَخْذُ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَصْلِ : أَيْ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِأَثَرِ ابْنِ عُمَرَ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بَاعَ نَاقَةً لَهُ مِنْ رَجُلٍ بِشَرْطِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا " ( وَفِي هَذَا ) أَيْ فِي الزَّائِدِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ( بِالْقِيَاسِ ) وَهُوَ يَقْتَضِي عَدَمَ الْجَوَازِ كَمَا مَرَّ ( قَوْلُهُ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قِيَاسٌ آخَرُ ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ .
قَالَ ( وَخِيَارُ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ ) ؛ لِأَنَّ تَمَامَ هَذَا السَّبَبِ بِالْمُرَاضَاةِ وَلَا يَتِمُّ مَعَ الْخِيَارِ وَلِهَذَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ .
وَلَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي التَّصَرُّفَ فِيهِ وَإِنْ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ ( وَلَوْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَهَلَكَ فِي يَدِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ضَمِنَهُ بِالْقِيمَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِالْهَلَاكِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَوْقُوفًا ، وَلَا نَفَاذَ بِدُونِ الْمَحَلِّ فَبَقِيَ مَقْبُوضًا فِي يَدِهِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَفِيهِ الْقِيمَةُ ، وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ الصَّحِيحِ الْمُطْلَقِ .
قَالَ ( وَخِيَارُ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ قَدْ يَكُونُ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ لَهُمَا جَمِيعًا ، فَإِذَا كَانَ لِلْبَائِعِ فَالْمَبِيعُ لَا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ بِالِاتِّفَاقِ وَالثَّمَنُ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي فَالْمَبِيعُ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَالثَّمَنُ لَا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ ، فَإِذَا كَانَ لَهُمَا لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بِالِاتِّفَاقِ ، فَإِذَا خَرَجَ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَالثَّمَنُ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي هَلْ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعِ ؟ فِيهِ خِلَافٌ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَدْخُلُ ، وَقَالَا : يَدْخُلُ .
أَمَّا دَلِيلُ عَدَمِ خُرُوجِ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَلِمَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ ( لِأَنَّ تَمَامَ هَذَا السَّبَبِ ) أَيْ الْعِلَّةِ ( بِالْمُرَاضَاةِ ) لِكَوْنِ الرِّضَا دَاخِلًا فِي حَقِيقَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ .
وَلَا تَتِمُّ الْمُرَاضَاةُ بِالْخِيَارِ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِهِ يَصِيرُ عِلَّةً اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا فَمَنَعَ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ وَهُوَ الْمِلْكُ فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ ( وَلِهَذَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ ) وَلَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي التَّصَرُّفَ فِيهِ وَإِنْ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ ، فَإِنْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ضَمِنَهُ بِالْقِيمَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا ، خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى هُوَ يَقُولُ : قَبَضَ مِلْكَ الْبَائِعِ بِإِذْنِهِ فَكَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : الْبَيْعُ يَنْفَسِخُ بِالْهَلَاكِ وَالْمُنْفَسِخُ بِهِ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِالْهَلَاكِ صَارَ إلَى حَالَةٍ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ فِيهَا فَلَا تَلْحَقُهَا الْإِجَازَةُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ ( لِأَنَّهُ كَانَ مَوْقُوفًا ) وَلَا نَفَاذَ بِدُونِ الْمَحَلِّ وَقَدْ فَاتَ بِالْهَلَاكِ ، وَأَمَّا أَنَّ الْمُنْفَسِخَ بِهِ مَضْمُونٌ
بِالْقِيمَةِ فَلِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِجِهَةِ الْعَقْدِ ، وَذَلِكَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الضَّمَانَ الْأَصْلِيَّ الثَّابِتَ بِالْعَقْدِ فِي الْقِيَمِيَّاتِ هُوَ الْقِيمَةُ ، وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ مِنْهَا إلَى الثَّمَنِ عِنْدَ تَمَامِ الرِّضَا ، وَلَمْ يُوجَدْ حِينَ شَرَطَ الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فَبَقِيَ الضَّمَانُ الْأَصْلِيُّ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، وَأَمَّا إذَا هَلَكَ بَعْدَهَا فَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ لَا الْقِيمَةُ لِبُطْلَانِ الْخِيَارِ إذْ ذَاكَ بِتَمَامِ الرِّضَا ، وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي كَمَا لَوْ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا مُطْلَقًا عَنْ الْخِيَارِ .
قِيلَ : وَإِنَّمَا ذُكِرَ الصَّحِيحُ مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْفَاسِدِ كَذَلِكَ حَمْلًا لِحَالِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّلَاحِ .
قَالَ ( وَخِيَارُ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ ) ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي جَانِبِ الْآخَرِ لَازِمٌ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا يَمْنَعُ خُرُوجَ الْبَدَلِ .
عَنْ مِلْكِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ نَظَرًا لَهُ دُونَ الْآخَرِ .
قَالَ : إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَمْلِكُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ فَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي يَكُونُ زَائِلًا لَا إلَى مَالِكٍ وَلَا عَهْدَ لَنَا بِهِ فِي الشَّرْعِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَخْرُجْ الثَّمَنُ عَنْ مِلْكِهِ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَدْخُلُ الْمَبِيعُ فِي مِلْكِهِ لَاجْتَمَعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ حُكْمًا لِلْمُعَاوَضَةِ ، وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ ؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ ؛ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ شُرِعَ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي لِيَتَرَوَّى فَيَقِفَ عَلَى الْمَصْلَحَةِ ، وَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ رُبَّمَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ بِأَنْ كَانَ قَرِيبَهُ فَيَفُوتُ النَّظَرُ .
قَالَ ( فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ هَلَكَ بِالثَّمَنِ ، وَكَذَا إذَا دَخَلَهُ عَيْبٌ ) بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُ إذَا دَخَلَهُ عَيْبٌ يَمْتَنِعُ الرَّدُّ ، وَالْهَلَاكُ لَا يَعْرَى عَنْ مُقَدِّمَةِ عَيْبٍ فَيَهْلِكُ ، وَالْعَقْدُ قَدْ انْبَرَمَ فَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ بِدُخُولِ الْعَيْبِ لَا يَمْتَنِعُ الرَّدُّ حُكْمًا بِخِيَارِ الْبَائِعِ فَيَهْلِكُ وَالْعَقْدُ مَوْقُوفٌ .
وَأَمَّا دَلِيلُ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَهُوَ أَنَّ الْبَيْعَ لَازِمٌ مِنْ جَانِبِهِ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا يَمْنَعُ خُرُوجَ الْبَدَلِ عَنْ مِلْكِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ شُرِعَ نَظَرًا لَهُ دُونَ الْآخَرِ ، وَأَمَّا أَنَّ الْبَدَلَ إذَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِ مَنْ لَيْسَ لَهُ الْخِيَارُ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ مَنْ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَخْرُجْ مَالُهُ عَنْ مِلْكِهِ لَوْ دَخَلَ لَزِمَ اجْتِمَاعُ الْبَدَلَيْنِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ حُكْمًا لِلْمُعَاوَضَةِ ، وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ وَنُوقِضَ بِالْمُدَبَّرِ ، فَإِنَّ غَاصِبَهُ إذَا ضَمِنَ لِصَاحِبِهِ مِلْكَ الْبَدَلِ وَلَمْ يَخْرُجْ الْمُدَبَّرُ عَنْ مِلْكِهِ فَكَانَ الْبَدَلَانِ مُجْتَمِعَيْنِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ ( حُكْمًا لِلْمُعَاوَضَةِ ) يَدْفَعُ النَّقْضَ ، فَإِنَّ ضَمَانَ الْمُدَبَّرِ ضَمَانُ جِنَايَةٍ وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ ، وَيَدْخُلُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ فَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْآخَرِ يَكُونُ زَائِلًا لَا إلَى مَالِكٍ ، يَعْنِي سَائِبَةً وَلَا عَهْدَ لَنَا بِهِ فِي الشَّرْعِ .
وَنُوقِضَ بِمَا إذَا اشْتَرَى مُتَوَلِّي الْكَعْبَةِ عَبْدًا لِسَدَانَةِ الْكَعْبَةِ يَخْرُجُ الْعَبْدُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ كَلَامَنَا فِي التِّجَارَةِ وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ مِنْهَا بَلْ هُوَ مُلْحَقٌ بِتَوَابِعِ الْأَوْقَافِ ، وَحُكْمُ الْأَوْقَافِ قَدْ تَقَدَّمَ ، وَرُجِّحَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْخِيَارِ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي لِيَتَرَوَّى فَيَقِفَ عَلَى الْمَصْلَحَةِ ، فَلَوْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ رُبَّمَا يَكُونُ عَلَيْهِ لَا لَهُ بِأَنْ كَانَ الْمَبِيعُ قَرِيبَهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَعَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ ( قَوْلُهُ فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ ) أَيْ إنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِيمَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُ هَلَكَ بِالثَّمَنِ ، وَكَذَا إذَا دَخَلَهُ
عَيْبٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا .
وَمُرَادُهُ عَيْبٌ لَا يَرْتَفِعُ كَأَنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ .
وَأَمَّا مَا جَازَ ارْتِفَاعُهُ كَالْمَرَضِ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ إذَا زَالَ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ بَعْدَ الِارْتِفَاعِ .
وَأَمَّا إذَا مَضَتْ وَالْعَيْبُ قَائِمٌ لَزِمَ الْعَقْدُ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ ، وَتَبَيَّنَ بِمَا ذُكِرَ أَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ وَتَعَيُّبَهُ يُوجِبُ الْقِيمَةَ عَلَى الْمُشْتَرِي إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ ، وَيُوجِبُ الثَّمَنَ إذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي فَاحْتَاجَ إلَى التَّصْرِيحِ بِبَيَانِ الْفَرْقِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَبِيعَ إذَا تَعَيَّبَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَالْخِيَارُ لَهُ تَعَذَّرَ الرَّدُّ كَمَا قُبِضَ ، وَكَذَلِكَ إذَا هَلَكَ وَالْهَلَاكُ لَا يَعْرَى عَنْ مُقَدِّمَةِ عَيْبٍ فَيَهْلَكُ وَالْعَقْدُ قَدْ لَزِمَ وَتَمَّ فَيَلْزَمُ الثَّمَنُ الْمُسَمَّى .
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْتَرِي بِدُخُولِ الْعَيْبِ لِأَنَّ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ لَا لَهُ فَيَهْلَكُ وَالْمَبِيعُ مَوْقُوفٌ فَيَلْزَمُ الْقِيمَةُ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى امْرَأَتَهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا لِمَا لَهُ مِنْ الْخِيَارِ ( وَإِنْ وَطِئَهَا لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا ) ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ بِحُكْمِ النِّكَاحِ ( إلَّا إذَا كَانَتْ بِكْرًا ) ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُنْقِصُهَا ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَقَالَا : يَفْسُدُ النِّكَاحُ ) ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا ( وَإِنْ وَطِئَهَا لَمْ يَرُدَّهَا ) ؛ لِأَنَّ وَطْأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا ؛ وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَخَوَاتٌ كُلُّهَا تَبْتَنِي عَلَى وُقُوعِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَعَدَمِهِ : مِنْهَا عِتْقُ الْمُشْتَرَى عَلَى الْمُشْتَرِي إذَا كَانَ قَرِيبًا لَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، وَمِنْهَا : عِتْقُهُ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي حَلَفَ إنْ مَلَكْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ .
بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : إنْ اشْتَرَيْت فَهُوَ حُرٌّ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُنْشِئِ لِلْعِتْقِ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ ، وَمِنْهَا أَنَّ حَيْضَ الْمُشْتَرَاةِ فِي الْمُدَّةِ لَا يُجْتَزَأُ بِهِ عَنْ الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا يُجْتَزَأُ ؛ وَلَوْ رُدَّتْ بِحُكْمِ الْخِيَارِ إلَى الْبَائِعِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ إذَا رُدَّتْ بَعْدَ الْقَبْضِ .
وَمِنْهَا إذَا وَلَدَتْ الْمُشْتَرَاةُ فِي الْمُدَّةِ بِالنِّكَاحِ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، .
وَمِنْهَا إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ ثُمَّ أَوْدَعَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فِي الْمُدَّةِ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ لِارْتِفَاعِ الْقَبْضِ بِالرَّدِّ لِعَدَمِ الْمِلْكِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي لِصِحَّةِ الْإِيدَاعِ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الْمِلْكِ .
وَمِنْهَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَبْدًا مَأْذُونًا لَهُ فَأَبْرَأَهُ الْبَائِعُ مِنْ الثَّمَنِ فِي الْمُدَّةِ بَقِيَ عَلَى خِيَارِهِ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ امْتِنَاعٌ عَنْ التَّمَلُّكِ وَالْمَأْذُونُ لَهُ يَلِيهِ ، وَعِنْدَهُمَا بَطَلَ خِيَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَهُ كَانَ
الرَّدُّ مِنْهُ تَمْلِيكًا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ .
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثُمَّ أَسْلَمَ بَطَلَ الْخِيَارُ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا فَلَا يَمْلِكُ رَدَّهَا وَهُوَ مُسْلِمٌ .
وَعِنْدَهُ يَبْطُلُ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا فَلَا يَتَمَلَّكُهَا بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ بَعْدَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى امْرَأَتَهُ ) هَذِهِ مَسَائِلُ تَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ ، وَهُوَ أَنَّ الْخِيَارَ إذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي يَخْرُجُ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلُ ، فَعَلَى هَذَا إذَا اشْتَرَى امْرَأَتَهُ ( عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يُفْسَخُ النِّكَاحُ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا ، وَإِنْ وَطِئَهَا لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا لِأَنَّ الْوَطْءَ لَمْ يَكُنْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ حَتَّى يَسْقُطَ الْخِيَارُ ، إلَّا إذَا كَانَتْ بِكْرًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا لِأَنَّ الْوَطْءَ يَنْقُصُهَا ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ قَوْلَهُ ( وَإِنْ وَطِئَهَا لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا ) مَعْنَاهُ : إذَا لَمْ يَنْقُصْهَا الْوَطْءُ ، فَأَمَّا إذَا نَقَصَهَا فَلَا يَرُدَّهَا وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا .
إلَيْهِ أُشِيرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ .
وَعِنْدَهُمَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ وَإِنْ وَطِئَهَا لَمْ يَرُدَّهَا وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لِأَنَّهُ مَلَكَهَا وَوَطِئَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ .
وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَائِرُ فِي كَوْنِهَا مُتَرَتِّبَةً عَلَى الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْهَا عِتْقُ الْمُشْتَرَى عَلَى الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ إذَا كَانَ قَرِيبًا لِلْمُشْتَرِي لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا .
وَمِنْهَا مَا إذَا قَالَ إنْ مَلَكْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى بِالْخِيَارِ لَا يَعْتِقُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إنْ اشْتَرَيْت ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُنْشِئِ لِلْعِتْقِ بَعْدَ الشِّرَاءِ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُرْسَلِ عِنْدَهُ ، وَلَوْ أَنْشَأَ الْعِتْقَ بَعْدَ شِرَائِهِ بِالْخِيَارِ عَتَقَ وَسَقَطَ الْخِيَارُ كَذَا هَذَا .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ كَالْمُنْشِئِ وَجَبَ أَنْ يَنُوبَ عَنْ الْكَفَّارَةِ إذَا اشْتَرَى الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِعِتْقِهِ نَاوِيًا عَنْ الْكَفَّارَةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ جُعِلَ كَالْمُنْشِئِ تَصْحِيحًا لِقَوْلِهِ فَهُوَ حُرٌّ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْوُقُوعِ عَنْ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ الْحُرِّيَّةَ وَقْتَ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ كَالْمُدَبَّرِ فِي
الِاسْتِحْقَاقِ ، وَفِيهِ يَعْمَلُ الْإِنْشَاءُ لِلْعِتْقِ لَا عَنْ الْكَفَّارَةِ كَذَلِكَ هَذَا .
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُشْتَرَاةَ إذَا حَاضَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ حَيْضَةً أَوْ بَعْضَهَا فَاخْتَارَهَا لَا يَجْتَزِئُ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، وَلَوْ رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ عِنْدَهُ سَوَاءٌ كَانَ الرَّدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ .
وَعِنْدَهُمَا إذَا كَانَ الرَّدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ الِاسْتِبْرَاءُ اسْتِحْسَانًا .
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ لِتَجَدُّدِ الْمِلْكِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْبَائِعِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا ، وَأَجْمَعُوا فِي الْبَيْعِ الْبَاتِّ يُفْسَخُ بِإِقَالَةٍ أَوْ غَيْرِهَا أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ وَاجِبٌ عَلَى الْبَائِعِ إذَا كَانَ الْفَسْخُ قَبْلَ الْقَبْضِ قِيَاسًا وَبَعْدَهُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا .
وَمِنْهَا إذَا وُلِدَتْ الْمُشْتَرَاةُ فِي الْمُدَّةِ بِالنِّكَاحِ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ عِنْدَهُ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ اشْتَرَى مَنْكُوحَتَهُ وَوَلَدَتْ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ ، أَوْ يَكُونَ اشْتَرَى الْأَمَةَ الَّتِي كَانَتْ مَنْكُوحَتَهُ وَوَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا قَبْلَ الشِّرَاءِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، وَعَلَى هَذَا كَانَ قَوْلُهُ فِي الْمُدَّةِ ظَرْفًا لِقَوْلِهِ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لَا ظَرْفَ الْوِلَادَةِ .
وَتَقْرِيرُ كَلَامِهِ : إذَا وَلَدَتْ الْمُشْتَرَاةُ بِالنِّكَاحِ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، وَفِيهِ تَعْقِيدٌ لَفْظِيٌّ كَمَا تَرَى .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَإِنَّمَا احْتَجْنَا إلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ .
لِأَنَّا لَوْ أَجْرَيْنَا عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَقُلْنَا إنَّهُ إذَا اشْتَرَى مَنْكُوحَتَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَقَبَضَهَا ثُمَّ وَلَدَتْ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ يَلْزَمُ الْبَيْعُ بِالِاتِّفَاقِ وَيَبْطُلُ
خِيَارُ الشَّرْطِ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ عَيْبٌ فَلَا يُمْكِنُ رَدُّهَا بَعْدَمَا تَعَيَّنَتْ الْجَارِيَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ .
وَمِنْهَا إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ ثُمَّ أَوْدَعَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ أَوْ بَعْدَهَا هَلَكَ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ الْقَبْضَ قَدْ ارْتَفَعَ بِالرَّدِّ إذْ الْوَدِيعَةُ لَمْ تَصِحَّ لِعَدَمِ مِلْكِ الْمُودَعِ ، وَإِذَا ارْتَفَعَ الْقَبْضُ كَانَ هَلَاكُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَأَنَّهُ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ ، وَعِنْدَهُمَا لَمَّا مَلَكَهُ الْمُشْتَرِي صَحَّتْ الْوَدِيعَةُ وَصَارَ هَلَاكُهُ فِي يَدِ الْمُودَعِ كَهَلَاكِهِ فِي يَدِهِ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَبْدًا مَأْذُونًا لَهُ فَأَبْرَأَهُ الْبَائِعُ عَنْ الثَّمَنِ فِي الْمُدَّةِ بَقِيَ خِيَارُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْهُ كَانَ الرَّدُّ امْتِنَاعًا مِنْهُ عَنْ التَّمَلُّكِ وَلِلْمَأْذُونِ لَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ ، وَعِنْدَهُمَا بَطَلَ خِيَارُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَهُ كَانَ الرَّدُّ مِنْهُ تَمْلِيكًا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالْمَأْذُونُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ .
فَإِنْ قُلْت : إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَالثَّمَنُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ فَمَا وَجْهُ إبْرَاءِ الْبَائِعِ عَنْ الثَّمَنِ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهُ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ يَنْفِي صِحَّةَ هَذَا الْإِبْرَاءِ ، وَجَوَازُهُ اسْتِحْسَانٌ لِحُصُولِهِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ وَهُوَ الْعَقْدُ .
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا بِالْخِيَارِ ثُمَّ أَسْلَمَ بَطَلَ الْخِيَارُ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَهُ بَطَلَ الْخِيَارُ وَالْبَيْعُ ، وَوَجْهُ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ ؛ وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَأَسْلَمَ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَأَسْلَمَ الْبَائِعُ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْعَقْدَ مِنْ جَانِبِهِ بَاتٌّ ، فَإِنْ اخْتَارَهُ الْمُشْتَرِي صَارَ لَهُ ، وَإِنْ رُدَّ صَارَ الْخَمْرُ لِلْبَائِعِ وَالْمُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْخَمْرَ حُكْمًا .
قَالَ ( وَمَنْ شُرِطَ لَهُ الْخِيَارُ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ فِي الْمُدَّةِ وَلَهُ أَنْ يُجِيزَ ، فَإِنْ أَجَازَهُ بِغَيْرِ حَضْرَةِ صَاحِبِهَا جَازَ .
وَإِنْ فَسَخَ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ حَاضِرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَجُوزُ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالشَّرْطُ هُوَ الْعِلْمُ ، وَإِنَّمَا كَنَّى بِالْحَضْرَةِ عَنْهُ .
لَهُ أَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى الْفَسْخِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ فَلَا يُتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ كَالْإِجَازَةِ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُ وَصَارَ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَهُوَ الْعَقْدُ بِالرَّفْعِ ، وَلَا يَعْرَى عَنْ الْمَضَرَّةِ ؛ لِأَنَّهُ .
عَسَاهُ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الْبَيْعِ السَّابِقِ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ فَتَلْزَمُهُ غَرَامَةُ الْقِيمَةِ بِالْهَلَاكِ فِيمَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ ، أَوْ لَا يَطْلُبُ لِسِلْعَتِهِ مُشْتَرِيًا فِيمَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي ، وَهَذَا نَوْعُ ضَرَرٍ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ وَصَارَ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ ، بِخِلَافِ .
الْإِجَازَةِ لِأَنَّهُ لَا إلْزَامَ فِيهِ ، وَلَا نَقُولُ إنَّهُ مُسَلَّطٌ ، وَكَيْفَ يُقَالُ ذَلِكَ وَصَاحِبُهُ لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ وَلَا تَسْلِيطَ فِي غَيْرِ .
مَا يَمْلِكُهُ الْمُسَلَّطُ ، وَلَوْ كَانَ فَسَخَ فِي حَالِ غَيْبَةِ صَاحِبِهِ وَبَلَغَهُ فِي الْمُدَّةِ تَمَّ الْفَسْخُ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ ، وَلَوْ بَلَغَهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ تَمَّ الْعَقْدُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ قَبْلَ الْفَسْخِ .
قَالَ ( وَمَنْ شُرِطَ لَهُ الْخِيَارُ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ فِي الْمُدَّةِ ) هَذَا الْعُمُومُ يَتَنَاوَلُ الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ وَالْأَجْنَبِيَّ ، لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَصِحُّ مِنْهُمْ جَمِيعًا ، فَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَالْإِجَازَةُ تَحْصُلُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : بِأَنْ يَقُولَ أَجَزْت وَبِمَوْتِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ لَا يُورَثُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فَيَكُونُ الْعَقْدُ بِهِ نَافِذًا ، وَبِأَنْ تَمْضِيَ مُدَّةُ الْخِيَارِ مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ وَإِذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي فَبِذَلِكَ ، وَبِأَنْ يَصِيرَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي إلَى حَالٍ لَا يَمْلِكُ فَسْخَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ كَهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَانْتِقَاصِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا الْفَسْخُ فَقَدْ يَكُونُ حَقِيقَةً وَقَدْ يَكُونُ حُكْمًا .
وَالثَّانِي هُوَ مَا يَكُونُ بِالْفِعْلِ كَأَنْ يَتَصَرَّفَ الْبَائِعُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ ، كَمَا إذَا أَعْتَقَ الْمَبِيعَ أَوْ بَاعَهُ أَوْ كَانَتْ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ عَيْنًا فَتَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي فِيهِ تَصَرُّفُ الْمُلَّاكِ فِيمَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَإِنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حُضُورُ الْآخَرِ وَعَدَمُهُ لِأَنَّهُ فَسْخٌ حُكْمِيٌّ ، وَالشَّيْءُ قَدْ يَثْبُتُ حُكْمًا وَإِنْ كَانَ يَبْطُلُ قَصْدًا .
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ مَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي فَسَخْتُ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْآخَرِ أَيْ بِعِلْمِهِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ مُسَلَّطٌ عَلَى فَسْخِ الْعَقْدِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ ، وَكُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ فِعْلُهُ عَلَى عِلْمِ صَاحِبِهِ كَالْإِجَازَةِ ، وَهُوَ قِيَاسٌ مِنْهُ لِأَحَدِ شَطْرَيْ الْعَقْدِ عَلَى الْآخَرِ ، وَوَضَحَ ذَلِكَ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الرِّضَا ، وَجُعِلَ ذَلِكَ
كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا وُكِّلَ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ غَائِبًا لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ مِنْ جِهَتِهِ ( وَلَهُمَا أَنَّ الْفَسْخَ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَهُوَ الْعَقْدُ بِالرَّفْعِ وَ ) هُوَ ( لَا يَعْرَى عَنْ الْمَضَرَّةِ ) أَمَّا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَالْمُشْتَرِي عَسَاهُ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الْبَيْعِ السَّابِقِ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ فَيَلْزَمُهُ غَرَامَةُ الْقِيمَةِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ وَقَدْ تَكُونُ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ وَلَا خَفَاءَ فِي كَوْنِهِ ضَرَرًا .
وَأَمَّا إذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي فَالْبَائِعُ عَسَى يَعْتَمِدُ تَمَامَهُ فَلَا يَطْلُبُ لِسِلْعَتِهِ مُشْتَرِيًا ، وَقَدْ تَكُونُ الْمُدَّةُ أَيَّامَ رَوَاجِ بَيْعِ الْمَبِيعِ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ لَا يَخْفَى ، وَالتَّصَرُّفُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى ضَرَرٍ فِي حَقِّ الْغَيْرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ لَا مَحَالَةَ كَمَا فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ .
وَالْقِيَاسُ عَلَى شَطْرِ الْآخَرِ فَاسِدٌ لِقِيَامِ الْفَارِقِ وَهُوَ الْإِلْزَامُ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُسَلَّطٌ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ عَلَى الْفَسْخِ لِأَنَّ التَّسْلِيطَ عَلَى الْفَسْخِ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلَا مَشْرُوعٍ كَالتَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ ، وَعَدَمُ اشْتِرَاطِ الرِّضَا لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ لِأَنَّ مَبْنَى الْإِلْزَامِ عَلَى الْعِلْمِ لَا عَلَى الرِّضَا ، وَكَوْنُهُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْبِيَاعَاتِ لِأَنَّهُ لَا إلْزَامَ فِيهَا ، وَعُورِضَ بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ إلْزَامِ الضَّرَرِ وَإِنْ دَلَّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ وَلَكِنْ عِنْدَنَا مَا يَنْفِيهِ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْفَرِدْ بِالْفَسْخِ لَرُبَّمَا اخْتَفَى مَنْ لَيْسَ لَهُ الْخِيَارُ إلَى مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَيَلْزَمُ الْبَيْعُ ، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ضَرَرٌ مَرْضِيٌّ بِهِ مِنْهُ حَيْثُ تَرَكَ الِاسْتِيثَاقَ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ مَخَافَةَ الْغَيْبَةِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَدَارَ دَلِيلِهِمَا إلْزَامُ ضَرَرٍ زَائِدٍ غَيْرِ مَرْضِيٍّ بِهِ ، فَإِذَا فَاتَ الْمَجْمُوعُ أَوْ بَعْضُهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لَا يَكُونُ نَقْضًا ،
فَلَا يُرَدُّ مَا قِيلَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ يَلْزَمُ مِنْهَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْفَاعِلِ إلْزَامٌ ، وَهُوَ مُسَوِّغٌ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْإِسْقَاطَاتِ ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِلْزَامِ كَإِسْقَاطِ الْحِمْلِ عَنْ الدَّابَّةِ ، وَلَا مَا قِيلَ الزَّوْجُ يَنْفَرِدُ بِالرَّجْعَةِ وَحُكْمُهَا يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إلْزَامٌ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يَرْفَعُ النِّكَاحَ حَتَّى تَكُونَ الرَّجْعَةُ إلْزَامَ أَمْرٍ جَدِيدٍ ، سَلَّمْنَاهُ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ إلْزَامُ ضَرَرٍ لِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ عَوَالِي النِّعَمِ فَاسْتِدَامَتُهُ بِالرَّجْعَةِ لَا تَكُونُ ضَرَرًا وَلَا مَا قِيلَ اخْتِيَارُ الْمُخَيَّرَةِ يَنْفُذُ عَلَى زَوْجِهَا وَفِيهِ إلْزَامُ حُكْمِ الِاخْتِيَارِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لِعَدَمِ الْإِلْزَامِ بَلْ لِذَلِكَ بِالْتِزَامِهِ أَوْ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ ، فَإِنَّ الْإِيجَابَ فِيهِ حَصَلَ مِنْهُ ، وَلَوْ رَأَى ضَرَرًا مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ أَوْ لِأَنَّهُ غَيْرُ زَائِدٍ عَلَى مُوجِبِ التَّخْيِيرِ وَلَا مَا قِيلَ اخْتِيَارُ الْأَمَةِ الْمُعْتَقَةِ الْفُرْقَةَ يَلْزَمُ الزَّوْجَ بِدُونِ عِلْمِهِ وَفِيهِ إلْزَامٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ زَائِدٍ عَلَى مُوجَبِ نِكَاحِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ أَوْ هُوَ مَرْضِيٌّ بِهِ بِالْإِقْدَامِ عَلَى سَبَبِهِ ، وَلَا مَا قِيلَ اخْتِيَارُ الْمَالِكِ رَفْعَ عَقْدِ الْفُضُولِيِّ يَلْزَمُ الْعَاقِدَيْنِ بِلَا عِلْمٍ ، وَفِيهِ إلْزَامٌ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ امْتِنَاعٌ عَنْ الْعَقْدِ لَا إلْزَامٌ مِنْهُ ، وَلَا مَا قِيلَ الطَّلَاقُ يَلْزَمُ الْعِدَّةُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي الْعِدَّةِ أَوْ لِكَوْنِهِ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ نَصًّا دُونَ الطَّلَاقِ ، بِخِلَافِ الضَّرَرِ الْمَذْكُورِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ زَائِدٌ عَلَى مُوجَبِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَهُوَ الرَّدُّ أَوْ الْإِجَازَةُ ، وَهُوَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ بِهِ مِنْ جَانِبِ الْآخَرِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِعِلْمِهِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ فُسِخَ فِي حَالِ غَيْبَةِ صَاحِبِهِ ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الْعِلْمُ دُونَ
الْحُضُورِ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " كَنَّى " الْكِنَايَةَ الِاصْطِلَاحِيَّةَ لِأَرْبَابِ الْبَلَاغَةِ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا اسْتَتَرَ بِهِ الْمُرَادُ
قَالَ : ( وَإِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ بَطَلَ خِيَارُهُ وَلَمْ يَنْتَقِلْ إلَى وَرَثَتِهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُورَثُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَازِمٌ ثَابِتٌ فِي الْبَيْعِ فَيَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَالتَّعْيِينِ .
وَلَنَا أَنَّ الْخِيَارَ لَيْسَ إلَّا مَشِيئَةً وَإِرَادَةً وَلَا يُتَصَوَّرُ انْتِقَالُهُ ، وَالْإِرْثُ فِيمَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ .
بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ ؛ لِأَنَّ الْمُوَرِّثَ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعِ سَلِيمًا فَكَذَا الْوَارِثُ ، فَأَمَّا نَفْسُ الْخِيَارِ لَا يُوَرَّثُ ، وَأَمَّا خِيَارُ التَّعْيِينِ يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً لِاخْتِلَاطِ مِلْكِهِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ لَا أَنْ يُوَرَّثَ الْخِيَارُ .
قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ بَطَلَ خِيَارُهُ ) إذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ سَوَاءٌ كَانَ الْبَائِعَ أَوْ الْمُشْتَرِيَ أَوْ غَيْرَهُمَا سَقَطَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فَإِنَّهُ بَاقٍ بِالْإِجْمَاعِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ انْتَقَلَ الْخِيَارُ إلَى وَارِثِهِ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لَازِمٌ فِي الْبَيْعِ فَيَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَكَخِيَارِ تَعْيِينِ الْمَبِيعِ بِأَنْ اشْتَرَى أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ يَأْخُذُ أَيَّهمَا شَاءَ .
وَلَنَا أَنَّ الْخِيَارَ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَّا مَشِيئَةً وَإِرَادَةً وَهُمَا عَرْضَانِ ، وَالْعَرْضُ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ ، وَالْإِرْثُ فِيمَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ لِأَنَّهُ خِلَافَةٌ عَنْ الْمُوَرَّثِ بِنَقْلِ الْأَعْيَانِ إلَى الْوَارِثِ ، وَهَذَا مَعْقُولٌ لَا مُعَارِضَ لَهُ مِنْ الْمَنْقُولِ فَيَكُونُ مَعْمُولًا بِهِ لَا يُقَالُ : قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ تَرَكَ مَالًا أَوْ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ } وَالْخِيَارُ حَقٌّ فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَقٌّ قَابِلٌ لِلِانْتِقَالِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ { فَلِوَرَثَتِهِ } عَلَى مَا مَرَّ ، وَالْخِيَارُ لَيْسَ كَذَلِكَ .
قِيلَ : الْمَالِكِيَّةُ صِفَةٌ تَنْتَقِلُ مِنْ الْمَوْرُوثِ إلَيْهِ فِي الْأَعْيَانِ فَهَلَّا يَكُونُ الْخِيَارُ كَذَلِكَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُنْتَقِلَ هُوَ الْعَيْنُ وَنَقْلُ الْمَالِكِيَّةِ ضِمْنِيٌّ .
قِيلَ : فَلْيَكُنْ خِيَارُ الشَّرْطِ كَذَلِكَ بِأَنْ يَنْتَقِلَ الْمَبِيعُ مِنْ الْمُوَرِّثِ إلَى الْوَارِثِ ثُمَّ الْخِيَارُ يَتْبَعُهُ ضِمْنًا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْخِيَارَ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الْمَبِيعِ بَلْ الْأَصْلُ عَدَمُهُ ، وَكَمْ مِنْ مَبِيعٍ لَا خِيَارَ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْمَمْلُوكِ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَالِكِيَّةَ مَالِكٍ ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْمَبِيعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَا فِي مُطْلَقِهِ ، وَالْخِيَارُ يَلْزَمُهُ ، وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ مِنْ نَقْلِ الْأَعْيَانِ
مِلْكِيَّتُهَا ، وَلَيْسَ الْخِيَارُ فِي الْمَبِيعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ كَذَلِكَ ، فَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ انْتِقَالِ مَا هُوَ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ انْتِقَالُ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : الْقِصَاصُ يَنْتَقِلُ مِنْ الْمُوَرَّثِ إلَى الْوَارِثِ بِذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ تَبَعِيَّةِ الْعَيْنِ فَلْيَكُنْ الْخِيَارُ كَذَلِكَ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ ثَبَتَ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ شُرِعَ لِلتَّشَفِّي ، وَهُمَا فِي ذَلِكَ سِيَّانِ ، إلَّا أَنَّ الْمُوَرَّثَ مُتَقَدِّمٌ فَإِذَا مَاتَ زَالَ التَّقَدُّمُ وَثَبَتَ لِلْوَارِثِ بِمَا ثَبَتَ لِلْمُوَرَّثِ : أَعْنِي التَّشَفِّيَ ، وَالْخِيَارُ يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ وَالشَّرْطِ ، وَالْوَارِثُ لَيْسَ بِعَاقِدٍ وَلَا شَارِطٍ .
لَا يُقَالُ : الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ غَيْرُ لَازِمٍ فَيُورَثُ كَذَلِكَ لَا بِطَرِيقِ النَّقْلِ فَلَا يَنْفِيه مَا ذَكَرْتُمْ لِأَنَّ كَلَامَنَا مَعَ مَنْ يَقُولُ بِالنَّقْلِ ، وَمَا ذَكَرْنَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَائِهِ وَلَوْ الْتَزَمَ مُلْتَزِمٌ مَا ذَكَرْتُمْ قُلْنَا : الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّ الْعَاقِدِ أَوْ فِي حَقِّ الْوَارِثِ ، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَا كَلَامَ فِيهِ ، وَالثَّانِي عَيْنُ النِّزَاعِ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ ) جَوَابٌ عَمَّا قَاسَ عَلَيْهِ .
وَتَقْرِيرُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ بِطَرِيقِ النَّقْلِ بَلْ الْمُوَرِّثُ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ سَلِيمًا ، فَكَذَا الْوَارِثُ فَكَانَ ذَلِكَ نَقْلًا فِي الْأَعْيَانِ دُونَ الْخِيَارِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبَبَ خِيَارِ الْعَيْبِ اسْتِحْقَاقُ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ مِنْ الْمَالِ مُسْتَحَقٌّ لِلْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ ، فَإِذَا طَالَبَ الْبَائِعُ بِالتَّسْلِيمِ وَعَجَزَ عَنْ التَّسْلِيمِ فُسِخَ الْعَقْدُ لِأَجْلِهِ ، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي حَقِّ الْوَارِثِ لِأَنَّهُ يَخْلُفُ الْمُشْتَرِيَ فِي مِلْكِ ذَلِكَ الْجُزْءِ ، بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ فَإِنَّ السَّبَبَ وَهُوَ الشَّرْطُ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ ، وَكَذَا خِيَارُ التَّعْيِينِ لَا يَنْتَقِلُ بَلْ الْخِيَارُ سَقَطَ بِالْمَوْتِ ، لَكِنَّ الْوَارِثَ وَرِثَ الْمَبِيعَ
وَهُوَ مَجْهُولٌ فَثَبَتَ لَهُ خِيَارُ التَّعْيِينِ ، وَكَمَنْ اخْتَلَطَ مَالُهُ بِمَالِ رَجُلٍ ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ التَّعْيِينِ ، وَهَذَا الْخِيَارُ غَيْرُ ذَلِكَ الْخِيَارِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُوَرِّثَ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ قَوْلَهُ وَكَانَ خِيَارُهُ مُؤَقَّتًا ، وَالْوَارِثُ لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ وَلَيْسَ خِيَارُهُ بِمُؤَقَّتٍ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ فَأَيُّهُمَا أَجَازَ الْخِيَارَ وَأَيُّهُمَا نَقَضَ انْتَقَضَ ) وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ لِغَيْرِهِ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ مِنْ مَوَاجِبِ الْعَقْدِ وَأَحْكَامِهِ ، فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ لِغَيْرِهِ كَاشْتِرَاطِ الثَّمَنِ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي .
.
وَلَنَا أَنَّ الْخِيَارَ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْعَاقِدِ فَيُقَدَّرُ الْخِيَارُ لَهُ اقْتِضَاءً ثُمَّ يُجْعَلُ هُوَ نَائِبًا عَنْهُ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ ، فَأَيُّهُمَا أَجَازَ جَازَ ، وَأَيُّهُمَا نَقَضَ انْتَقَضَ ( وَلَوْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا وَفَسَخَ الْآخَرُ يُعْتَبَرُ السَّابِقُ ) لِوُجُودِهِ فِي زَمَانٍ لَا يُزَاحِمُهُ فِيهِ غَيْرُهُ ، وَلَوْ خَرَجَ الْكَلَامَانِ مِنْهُمَا مَعًا يُعْتَبَرُ تَصَرُّفُ الْعَاقِدِ فِي رِوَايَةٍ وَتَصَرُّفُ الْفَاسِخِ فِي أُخْرَى .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِدِ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ النَّائِبَ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْهُ .
وَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْفَسْخَ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ وَالْمَفْسُوخُ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ ، وَلَمَّا مَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّصَرُّفَ رَجَّحْنَا بِحَالِ التَّصَرُّفِ .
وَقِيلَ الْأَوَّلُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَالثَّانِي قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ، وَاسْتِخْرَاجُ ذَلِكَ مِمَّا إذَا بَاعَ الْوَكِيلُ مِنْ رَجُلٍ وَالْمُوَكِّلُ مِنْ غَيْرِهِ مَعًا ؛ فَمُحَمَّدٌ يَعْتَبِرُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُوَكِّلِ ، وَأَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرُهُمَا .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ ) تَقْرِيرُ كَلَامِهِ : وَمَنْ اشْتَرَى وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ جَازَ حَذْفُهُ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ فَأَيَّهُمَا أَجَازَ جَازَ : يَعْنِي مِنْ الْمُشْتَرِي وَذَلِكَ الْغَيْرِ عَلَى الْمَحْذُوفِ ، وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِلْغَيْرِ لَا يَجُوزُ فِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، لِأَنَّ الْخِيَارَ إذَا شُرِطَ فِي الْعَقْدِ صَارَ حَقًّا مِنْ حُقُوقِهِ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِهِ بِمُقْتَضَى الشَّرْطِ الْمُسَوِّغِ شَرْعًا ، وَمَا كَانَ مِنْ مَوَاجِبِ الْعَقْدِ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِدِ كَاشْتِرَاطِ الثَّمَنِ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي أَوْ اشْتِرَاطِ تَسْلِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ اشْتِرَاطِ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ ، لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ الثَّلَاثَةَ اسْتَحْسَنُوا جَوَازَهُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَدْعُو إلَى اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِلْأَجْنَبِيِّ لِكَوْنِهِ أَعْرَفَ بِالْمَبِيعِ أَوْ بِالْعَقْدِ فَصَارَ كَالِاحْتِيَاجِ إلَى نَفْسِ الْخِيَارِ .
وَطَرِيقُ ذَلِكَ أَنْ يَثْبُتَ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْعَاقِدِ اقْتِضَاءً ، إذْ لَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِهِ لِلْغَيْرِ أَصَالَةً فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ شَرَطَهُ لِنَفْسِهِ وَجُعِلَ الْأَجْنَبِيُّ نَائِبًا عَنْهُ فِي التَّصَرُّفِ تَصْحِيحًا لَهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ شَرْطَ الِاقْتِضَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضِي أَدْنَى مَنْزِلَةً مِنْ الْمُقْتَضَى ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِعَبْدٍ لَهُ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ كَفِّرْ عَنْ يَمِينِك بِالْمَالِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ تَحْرِيرًا اقْتِضَاءً لِأَنَّ التَّحْرِيرَ أَقْوَى مِنْ تَصَرُّفِ التَّكْفِيرِ لِكَوْنِهِ أَصْلًا فَلَا يَثْبُتُ تَبَعًا لِفَرْعِهِ ، وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْعَاقِدَ أَعْلَى مَرْتَبَةً فَكَيْفَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لَهُ اقْتِضَاءً .
وَالثَّانِي أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ لِلْغَيْرِ لَوْ جَازَ اقْتِضَاءً تَصْحِيحًا لَجَازَ اشْتِرَاطُ وُجُوبِ الثَّمَنِ عَلَى الْغَيْرِ بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ بِأَنْ يَجِبَ الثَّمَنُ عَلَى الْعَاقِدِ أَوَّلًا ثُمَّ عَلَى الْغَيْرِ كَفَالَةً عَنْهُ كَذَلِكَ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ
الِاعْتِبَارَ لِلْمَقَاصِدِ ، وَالْغَيْرُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فَكَانَ هُوَ الْأَصْلَ نَظَرًا إلَى الْخِيَارِ وَالْعَاقِدُ أَصْلٌ مِنْ حَيْثُ التَّمَلُّكُ لَا مِنْ حَيْثُ الْخِيَارُ فَلَا يَلْزَمُ ثُبُوتُ الْأَصْلِ بِتَبَعِيَّةِ فَرْعِهِ .
وَأَمَّا التَّحْرِيرُ فَإِنَّهُ الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ الْمَالِيَّةِ فَلَا يَثْبُتُ تَبَعًا لِفَرْعِهِ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ فِي الصَّحِيحِ بَلْ هِيَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ ، وَالْمَذْكُورُ هَاهُنَا هُوَ الثَّمَنُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَثُبُوتُ الْمُقْتَضِي لِتَصْحِيحِ الْمُقْتَضَى ، وَلَوْ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ كَانَ مُبْطِلًا لِلْمُقْتَضَى وَعَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلْيَكُنْ بِطَرِيقِ الْحَوَالَةِ فَإِنَّ الْحَوَالَةَ فِيهَا الْمُطَالَبَةُ بِالدَّيْنِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَصْلٌ فِي وُجُوبِ الثَّمَنِ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِفَرْعِهِ وَهُوَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ ( وَإِذَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَيَّهُمَا أَجَازَ جَازَ وَأَيَّهُمَا نَقَضَ انْتَقَضَ ) وَلَوْ اخْتَلَفَ فِعْلُهُمَا فِي الْإِجَازَةِ وَالنَّقْضِ اُعْتُبِرَ السَّابِقُ لِعَدَمِ مَا يُزَاحِمُهُ ( وَلَوْ خَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعًا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ ) فَفِي رِوَايَةِ بُيُوعِ الْمَبْسُوطِ ( يُعْتَبَرُ تَصَرُّفُ الْعَاقِدِ ) فَسْخًا كَانَ أَوْ إجَازَةً ( وَ ) فِي رِوَايَةِ مَا دُونَ الْمَبْسُوطِ يُعْتَبَرُ ( تَصَرُّفُ الْفَسْخِ ) سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْعَاقِدِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ( وَجْهُ ) الْقَوْلِ ( الْأَوَّلِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِدِ أَقْوَى ) وَالْأَقْوَى : يُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَفِقْهُ ذَلِكَ أَنَّ تَصَرُّفَ النَّائِبِ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ انْتِفَاءِ تَصَرُّفِ الْمَنُوبِ ، وَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِهِ فَلَا احْتِيَاجَ إلَيْهِ .
وَاسْتَشْكَلَ بِمَا إذَا وَكَّلَ رَجُلًا آخَرَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لِلسُّنَّةِ فَطَلَّقَهَا الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ مَعًا فَإِنَّ الْوَاقِعَ طَلَاقُ أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّرْجِيحَ يُحْتَاجُ إلَيْهِ
عِنْدَ تَنَافِي الْفِعْلَيْنِ كَالْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ ، وَأَمَّا إذَا اتَّحَدَا فَالْمَطْلُوبُ حَاصِلٌ بِدُونِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ .
( وَوَجْهُ ) الْقَوْلِ ( الثَّانِي أَنَّ الْفَسْخَ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَجَازَ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ ) كَمَا لَوْ أَجَازَ وَالْمَبِيعُ هَلَكَ عِنْدَ الْبَائِعِ ( وَالْمَفْسُوخُ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ ) فَإِنَّ الْعَقْدَ إذَا انْفَسَخَ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ عِنْدَ الْبَائِعِ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ ، وَلَا خَفَاءَ فِي قُوَّةِ مَا يَطْرَأُ عَلَى غَيْرِهِ فَيُزِيلُهُ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَنُوقِضَ بِمَا إذَا لَاقَى مَنْ لَهُ الْخِيَارُ غَيْرَهُ فَتَنَاقَضَا الْمَبِيعَ ثُمَّ هَلَكَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِ الْبَائِعِ بِحُكْمِ الْإِقَالَةِ فَإِنَّ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُ ، وَالْقِيمَةَ إنْ كَانَ لِلْبَائِعِ فَكَانَ ذَلِكَ فَسْخًا لِلْفَسْخِ وَهُوَ إجَازَةٌ لِلْمَفْسُوخِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ الْإِجَازَةَ لَا تَلْحَقُ الْمَفْسُوخَ وَمَا ذَكَرْتُمْ فَسْخٌ لَا إجَازَةٌ ( وَقِيلَ الْأَوَّلُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، وَالثَّانِي قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ) فِي الْمَبْسُوطِ .
قِيلَ وَالثَّانِي أَصَحُّ ، وَلَعَلَّ قَوْلَهُ وَلَمَّا مَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّصَرُّفَ رَجَّحْنَا بِحَالِ التَّصَرُّفِ إشَارَةً إلَى ذَلِكَ : يَعْنِي لَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَصْلًا فِي التَّصَرُّفِ مِنْ وَجْهٍ : الْعَاقِدُ مِنْ حَيْثُ التَّمَلُّكُ وَالْأَجْنَبِيُّ مِنْ حَيْثُ شَرْطُ الْخِيَارِ لَهُ لَمْ يَتَرَجَّحْ الْأَمْرُ مِنْ حَيْثُ التَّصَرُّفُ فَرَجَّحْنَا مِنْ حَيْثُ حَالُ التَّصَرُّفِ .
لَا يُقَالُ : الْفَسْخُ وَالْإِجَازَةُ مِنْ تَوَابِعِ الْخِيَارِ فَكَانَ الْقِيَاسُ تَرْجِيحَ تَصَرُّفِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ جِهَةَ تَمَلُّكِ الْعَقْدِ عَارَضَتْهُ فِي ذَلِكَ ( قَوْلُهُ وَاسْتُخْرِجَ ذَلِكَ ) يَعْنِي أَنَّ الْمَنْسُوبَ إلَيْهِمَا لَيْسَ بِمَنْقُولٍ عَنْهُمَا ( وَ ) إنَّمَا ( اُسْتُخْرِجَ بِمَا إذَا بَاعَ الْوَكِيلُ مِنْ أَحَدٍ وَالْمُوَكِّلُ مِنْ غَيْرِهِ مَعًا ، فَمُحَمَّدٌ يَعْتَبِرُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُوَكِّلِ ، وَأَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرُ تَصَرُّفَهُمَا )
وَيُجْعَلُ الْعَبْدُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا بِالنِّصْفِ وَيُخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ ، إنْ شَاءَ أَخَذَ النِّصْفَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ .
وَوَجْهُ الِاسْتِخْرَاجِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْفَاسِخِ أَقْوَى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَمْ يُرَجِّحْ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ كَمَا رَجَّحَهُ مُحَمَّدٌ ، فَلَمَّا لَمْ يُرَجِّحْ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ ظَهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ يَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ بِالنِّصْفِ ، فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ الرُّجْحَانُ هُنَاكَ لِتَصَرُّفِ الْمَالِكِ لِمَالِكِيَّتِهِ وَالرُّجْحَانُ ثَابِتٌ هُنَا لِتَصَرُّفِ الْفَسْخِ فِي نَفْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ وَارِدٌ عَلَى الْإِجَازَةِ لَا عَلَى الْعَكْسِ رَجَّحْنَا بِحَالِ التَّصَرُّفِ وَهُوَ تَصَرُّفُ الْفَسْخِ لِأَنَّهُ لَا مُعَارِضَ لِهَذَا الرُّجْحَانِ بَعْدَ مُسَاوَاةِ تَصَرُّفِ الْمَالِكِ مَعَ تَصَرُّفِ غَيْرِ الْمَالِكِ فَقُلْنَا بِهِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
وَهُوَ كَلَامٌ لَا وُضُوحَ فِيهِ لِأَنَّ عَدَمَ رُجْحَانِ تَصَرُّفِ الْمَالِكِ لِمَالِكِيَّتِهِ هُنَاكَ لَا يَسْتَلْزِمُ رُجْحَانَ الْفَسْخِ هُنَا وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ، نَعَمْ هُوَ يَدُلُّ عَلَى تَرْجِيحِ الْفَسْخِ عَلَى الْإِجَازَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْرَاجِ ، وَلَعَلَّ الْأَوْضَحَ فِي وَجْهِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : الْوَكِيلُ مِنْ الْمُوَكِّلِ هُنَاكَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ مِنْ الْعَاقِدِ هَاهُنَا فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ غَيْرِهِ فَيَتَرَجَّحُ تَصَرُّفُ الْعَاقِدِ مِنْ مُحَمَّدٍ كَتَرْجِيحِ تَصَرُّفِ الْمُوَكِّلِ مِنْهُ وَتُرِكَ تَرْجِيحُ تَصَرُّفِ الْمَالِكِ مِنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَاعْتِبَارُهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُنْظَرُ إلَى أَحْوَالِ الْمُتَصَرِّفِينَ لِتَسَاوِيهِمَا فِيهِ فَبَقِيَ النَّظَرُ فِي حَالِ التَّصَرُّفِ نَفْسِهِ ، وَالْفَسْخُ أَقْوَى لِمَا ذَكَرْنَا .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ ، وَإِنْ بَاعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ جَازَ الْبَيْعُ ) وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنْ لَا يُفَصِّلَ الثَّمَنَ وَلَا يُعَيِّنَ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فِي الْكِتَابِ وَفَسَادُهُ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ كَالْخَارِجِ عَنْ الْعَقْدِ ، إذْ الْعَقْدُ مَعَ الْخِيَارِ لَا يَنْعَقِدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَبَقِيَ الدَّاخِلُ فِيهِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُفَصِّلَ الثَّمَنَ وَيُعَيِّنَ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ ثَانِيًا فِي الْكِتَابِ ، وَإِنَّمَا جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَعْلُومٌ وَالثَّمَنَ مَعْلُومٌ ، وَقَبُولُ الْعَقْدِ فِي الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي الْآخَرِ وَلَكِنَّ هَذَا غَيْرُ مُكْسِدٍ لِلْعَقْدِ لِكَوْنِهِ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ قِنٍّ وَمُدَبَّرٍ .
وَالثَّالِثُ أَنْ يُفَصِّلَ وَلَا يُعَيِّنَ .
وَالرَّابِعُ أَنْ يُعَيِّنَ وَلَا يُفَصِّلَ ، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ فِي الْوَجْهَيْنِ : إمَّا لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ أَوْ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ لِأَنَّ فِيهَا تَفْصِيلَ الثَّمَنِ وَتَعْيِينَ مَنْ فِيهِ الْخِيَارُ فَإِمَّا أَنْ لَا يَحْصُلَا أَوْ حَصَلَا جَمِيعًا ، أَوْ حَصَلَ التَّفْصِيلُ دُونَ التَّعْيِينِ ، أَوْ الْعَكْسُ مِنْ ذَلِكَ .
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ بِأَنْ بَاعَ عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَسَدَ الْبَيْعُ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ وَجَهَالَةُ أَحَدِهِمَا مُفْسِدَةٌ فَجَهَالَتُهُمَا أَوْلَى ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ كَالْخَارِجِ عَنْ الْعَقْدِ إذْ الْعَقْدُ مَعَ الْخِيَارِ لَا يَنْعَقِدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَكَانَ الدَّاخِلُ فِي الْعَقْدِ أَحَدَهُمَا وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَثَمَنُهُ مِثْلُهُ .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ جَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ مَعْلُومٌ ، فَإِنْ قِيلَ : الْعَبْدُ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْحُكْمِ وَقَبُولُ الْعَقْدِ فِيهِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ الْآخَرِ وَهُوَ شَرْطٌ مُفْسِدٌ كَقَبُولِ الْحُرِّ فِي عَقْدِ الْقِنِّ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْبَيْعِ .
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْعَقْدِ لِكَوْنِ مَنْ فِيهِ الْخِيَارُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ فَكَانَ دَاخِلًا فِي الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْحُكْمِ ، فَصَارَ كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ قِنٍّ وَمُدَبَّرٍ فِي الْبَيْعِ ، فَإِنَّ الْمُدَبَّرَ مَحَلٌّ لِلْبَيْعِ فَلَمْ يَكُنْ شَرْطُ قَبُولِ الْعَقْدِ فِيهِ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ فِي الْآخَرِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَقِنٍّ فَإِنَّ الْحُرَّ لَيْسَ بِمَحَلِّ الْبَيْعِ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي الْعَقْدِ وَلَا فِي الْحُكْمِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : فِي الْجُمْلَةِ هُوَ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ فَكَانَ مُفْسِدًا .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَفْعٌ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ وَلَا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُفْسِدًا .
وَلَهُ
لِمَظِنَّةِ فَضْلِ تَأَمُّلٍ مِنْك فَاحْتَطْ .
وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ بِعْتهمَا بِأَلْفٍ ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ أَيْضًا لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ ، وَإِنْ كَانَ الرَّابِعُ فَلِجَهَالَةِ الثَّمَنِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ عَدَمُ التَّفْصِيلِ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ فِي الْآخَرِ لَفَسَدَ فِي الْقِنِّ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَبَّرِ أَوْ أُمِّ الْوَلَدِ وَلَمْ يُفَصِّلْ الثَّمَنَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ التَّفْصِيلِ مُفْسِدٌ إذَا أَدَّى إلَى الْبَيْعِ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً فِيمَا إذَا مَنَعَ عَنْ انْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ مَانِعٌ كَشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْعَقْدَ فِيمَا شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَالْمَعْدُومِ ، فَلَوْ انْعَقَدَ فِي حَقِّ الْآخَرِ انْعَقَدَ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً وَهِيَ مَجْهُولَةٌ ، وَلَيْسَ فِيمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْقَنِّ وَالْمُدَبَّرِ مَا يَمْنَعُ عَنْ انْعِقَادِهِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ ، وَلِهَذَا لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِهِ نَفَذَ فَكَانَ قِسْمَةُ الثَّمَنِ فِي الْبَقَاءِ صِيَانَةً لِحَقٍّ مُحْتَرَمٍ عِنْدَ فَسْخِ الْعَقْدِ عَلَى الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لَا ابْتِدَاءً بِالْحِصَّةِ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمَا شَاءَ بِعَشْرَةٍ وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَكَذَا الثَّلَاثَةُ ، فَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعَةَ أَثْوَابٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ شَرْعَ الْخِيَارِ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ لِيَخْتَارَ مَا هُوَ الْأَرْفَقُ وَالْأَوْفَقُ ، وَالْحَاجَةُ إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْبَيْعِ مُتَحَقِّقَةٌ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى اخْتِيَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَوْ اخْتِيَارِ مَنْ يَشْتَرِيهِ لِأَجْلِهِ ، وَلَا يُمَكِّنُهُ الْبَائِعُ مِنْ الْحَمْلِ إلَيْهِ إلَّا بِالْبَيْعِ فَكَانَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِالثَّلَاثِ لِوُجُودِ الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ وَالرَّدِيءِ فِيهَا ، وَالْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فِي الثَّلَاثَةِ لِتَعْيِينِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ ، وَكَذَا فِي الْأَرْبَعِ ، إلَّا أَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهَا غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ وَالرُّخْصَةُ ثُبُوتُهَا بِالْحَاجَةِ وَكَوْنُ الْجَهَالَةِ غَيْرَ مُفْضِيَةٍ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَلَا تَثْبُتُ بِأَحَدِهِمَا .
ثُمَّ قِيلَ : يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الْعَقْدِ خِيَارُ الشَّرْطِ مَعَ خِيَارِ التَّعْيِينِ ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
( وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ ) ، فَيَكُونُ ذِكْرُهُ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ وِفَاقًا لَا شَرْطًا ؛ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا بُدَّ مِنْ تَوْقِيتِ خِيَارِ التَّعْيِينِ بِالثَّلَاثِ عِنْدَهُ وَبِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ أَيَّتُهَا كَانَتْ عِنْدَهُمَا .
ثُمَّ ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ : اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ وَفِي بَعْضِهَا اشْتَرَى أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي الْحَقِيقَةِ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ أَمَانَةٌ ، وَالْأَوَّلُ تَجَوُّزٌ وَاسْتِعَارَةٌ .
وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا أَوْ تَعَيَّبَ لَزِمَهُ الْبَيْعُ فِيهِ بِثَمَنِهِ وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْأَمَانَةِ لِامْتِنَاعِ الرَّدِّ
بِالتَّعَيُّبِ ، وَلَوْ هَلَكَا جَمِيعًا مَعًا يَلْزَمُهُ نِصْفُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِشُيُوعِ الْبَيْعِ وَالْأَمَانَةِ فِيهِمَا .
وَلَوْ كَانَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا جَمِيعًا .
وَلَوْ مَاتَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فَلِوَارِثِهِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ خِيَارُ التَّعْيِينِ لِلِاخْتِلَاطِ ، وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ .
وَأَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ لَا يُورَثُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمَا شَاءَ ) وَمَنْ قَالَ اشْتَرَيْت أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ عَلَى أَنَّ لِي أَنْ آخُذَ أَيَّهمَا شِئْت بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا ، وَكَذَا الْأَثْوَابُ الثَّلَاثَةُ ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْأَثْوَابُ أَرْبَعَةً فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ الْبَيْعُ فِي الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فَسَادَهُ فِي الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ أَحَدُ الْأَثْوَابِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَهُوَ مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى النِّزَاعِ لِتَفَاوُتِهَا فِي نَفْسِهَا ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ فِيهِ الشَّرْعُ وَهُوَ خِيَارُ الشَّرْطِ فَجَازَ إلْحَاقًا بِهِ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ شَرْعَ خِيَارِ الشَّرْطِ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ لِيَخْتَارَ مَا هُوَ الْأَوْفَقُ لَهُ وَالْأَوْفَقُ وَالْحَاجَةُ إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْبَيْعِ مُتَحَقِّقَةٌ ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا ( يَحْتَاجُ إلَى اخْتِيَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ ) لِخِبْرَتِهِ أَوْ اخْتِيَارِ مَنْ يَشْتَرِيهِ لِأَجْلِهِ كَامْرَأَتِهِ وَبِنْتِهِ ( وَالْبَائِعُ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْحَمْلِ إلَيْهِ إلَّا بِالْبَيْعِ ) فَكَانَ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ ( فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ ) وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ ( الْجَهَالَةَ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ) لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ اسْتَبَدَّ بِالتَّعْيِينِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مُنَازِعٌ فَكَانَ عِلَّةُ جَوَازِهِ مُرَكَّبَةً مِنْ الْحَاجَةِ وَعَدَمِ كَوْنِ الْجَهَالَةِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، فَأَمَّا عَدَمُ الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْأَثْوَابُ ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ ، وَأَمَّا الْحَاجَةُ فَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الثَّلَاثَةِ لِوُجُودِ الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ وَالرَّدِيءِ فِيهِ ، وَالزَّائِدُ يَقَعُ مُكَرَّرًا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَانْتَفَى عَنْهُ جُزْءُ الْعِلَّةِ ، وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِتَمَامِ عِلَّتِهِ
، وَاعْلَمْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَفِي الْمَأْذُونِ وَقَالَ وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ .
وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَسَكَتَ عَنْ ذَلِكَ .
وَعَلَى ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ؛ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ : لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ وَقْتًا مَعْلُومًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَزِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِمَا ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَصِحُّ الْعَقْدُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الزِّيَادَةَ ، وَذِكْرُهَا فِيمَا ذُكِرَ كَانَ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا وَهُوَ اخْتِيَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ حُجَّةِ الْأَوَّلِينَ أَنَّ جَوَازَهُ بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ بِمَوْضِعِ السُّنَّةِ فَلَا يَصِحُّ بِدُونِهِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ عَدَمَ انْفِكَاكِ الْمُلْحَقِ عَنْ الْمُلْحَقِ بِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْإِلْحَاقِ ، كَمَا أَنَّ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ يَحْتَاجَانِ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَامِدًا فِي رَمَضَانَ مِنْ جِمَاعٍ مَعَ أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا وَرَدَ بِهِ ، وَحُجَّةُ الْآخَرِينَ أَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ مِمَّا لَا يَتَوَقَّفُ فَلَا يَتَعَلَّقُ جَوَازُ الْعَقْدِ بِتَمَلُّكِ الزِّيَادَةِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْعَقْدَ فِي خِيَارِ التَّعْيِينِ مَعَ خِيَارِ الشَّرْطِ لَازِمٌ فِي غَيْرِ عَيْنٍ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ عَلَى الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِيَارِ الشَّرْطِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَالَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَذْكُرَ خِيَارَ الشَّرْطِ مَعَ خِيَارِ التَّعْيِينِ أَوْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْقِيتِ خِيَارِ التَّعْيِينِ بِالثَّلَاثَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَبِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ أَيَّ مُدَّةٍ كَانَتْ عِنْدَهُمَا كَمَا فِي الْمُلْحَقِ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ خِيَارُ التَّعْيِينِ فِي الزَّائِدِ عَلَى الثَّلَاثَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ فِي قَوْلِهِ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَلَا
بَيْعَ بَيْنَهُمَا .
أُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ تَعْلِيقٌ فَلَا يُلْحَقُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ فَلَا يَكُونُ الْأَثَرُ الْوَارِدُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَارِدًا فِيهِ ، بِخِلَافِ خِيَارِ التَّعْيِينِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ خِيَارِ الشَّرْطِ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا خِيَارًا بِغَيْرِ حَرْفِ التَّعْلِيقِ ، فَكَانَ الْأَثَرُ الْوَارِدُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَارِدًا فِيهِ ( وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا أَوْ تَعَيَّبَ لَزِمَ الْبَيْعُ فِيهِ بِثَمَنِهِ وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْأَمَانَةِ ) حَتَّى إذَا هَلَكَ الْآخَرُ بَعْدَ هَلَاكِ الْأَوَّلِ أَوْ تَعَيَّبَ لَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَتِهِ شَيْءٌ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعِيبَ مُمْتَنِعُ الرَّدِّ لِأَنَّ رَدَّهُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مَبِيعًا وَهُوَ فِي دَعْوَاهُ ذَلِكَ مُتَّهَمٌ فَكَانَ التَّعَيُّبُ اخْتِيَارًا دَلَالَةً .
فَإِنْ قِيلَ : قَبْضُ الْآخَرِ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَهُنَا تَجِبُ الْقِيمَةُ عِنْدَ الْهَلَاكِ ، أُجِيبَ بِأَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ مَقْبُوضٌ عَلَى جِهَةِ الْبَيْعِ ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ الْآخَرَ لِيَشْتَرِيَهُ وَقَدْ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَكَانَ أَمَانَةً .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ انْعَكَسَ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ أَوْ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ فَمَاتَتْ إحْدَاهُمَا فَإِنَّ الْبَاقِيَةَ تَتَعَيَّنُ لِلطَّلَاقِ دُونَ الْهَالِكَةِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَتَاقِ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَشْرَفَتْ عَلَى الْهَلَاكِ خَرَجَتْ عَنْ مَحَلِّيَّةِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَتَعَيَّنَتْ الْبَاقِيَةُ لِذَلِكَ ، وَالثَّوْبُ إذَا أَشْرَفَ عَلَيْهِ خَرَجَ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الرَّدِّ لِتَعَيُّبِهِ فَتَعَيَّنَ لِكَوْنِهِ مَبِيعًا ، وَلَوْ هَلَكَا جَمِيعًا مَعًا لَزِمَهُ نِصْفُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ أَحَدِهِمَا لِكَوْنِهِ مَبِيعًا فَشَاعَ الْبَيْعُ وَالْأَمَانَةُ فِيهِمَا وَأَمَّا إذَا ذُكِرَ خِيَارُ الشَّرْطِ ، فَيَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الشَّرْطِ ،
وَخِيَارُ التَّعْيِينِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَيَّامِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا بِخِيَارِ الشَّرْطِ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي أَحَدِهِمَا فَيَرُدُّهُ بِحُكْمِ الْأَمَانَةِ ، وَفِي الْآخَرِ مُشْتَرٍ قَدْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهِ ، فَإِذَا مَضَتْ الْأَيَّامُ بَطَلَ خِيَارُ الشَّرْطِ فَلَا يَمْلُكُ رَدَّهُمَا وَبَقِيَ لَهُ خِيَارُ التَّعْيِينِ فَيَرُدُّ أَحَدَهُمَا ، وَإِنْ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا لَزِمَهُ ثَمَنُهُ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْمَبِيعِ فِيهِ وَلَزِمَهُ وَكَانَ فِي الْآخَرِ أَمِينًا ، فَإِنْ ضَاعَ عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ .
وَلَوْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ بَطَلَ خِيَارُ الشَّرْطِ ، وَبَقِيَ لِلْوَارِثِ خِيَارُ التَّعْيِينِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ أَحَدَهُمَا ، أَمَّا بُطْلَانُ خِيَارِ الشَّرْطِ فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَا يُورَثُ ، وَأَمَّا بَقَاءُ خِيَارِ التَّعْيِينِ فَلِاخْتِلَاطِ مِلْكِهِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَلْ لِعُمُومِ قَوْلِهِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فَائِدَةٌ ؟ قُلْت : كَأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ قَدْ يَكُونُ لِلْبَائِعِ ، فَإِنَّ الْكَرْخِيَّ ذَكَرَ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا .
قَالُوا : وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِي الْمَأْذُونِ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ يَجُوزُ مَعَ خِيَارِ الْمُشْتَرِي فَيَجُوزُ مَعَ خِيَارِ الْبَيْعِ قِيَاسًا عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ ، وَذُكِرَ فِي الْمُجَرَّدِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مَعَ خِيَارِ الْمُشْتَرِي إنَّمَا جُوِّزَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ إلَى اخْتِيَارِ مَا هُوَ الْأَرْفَقُ بِحَضْرَةِ مَنْ يَقَعُ الشِّرَاءُ لَهُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَأَتَّى فِي جَانِبِ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُ إلَى اخْتِيَارِ الْأَرْفَقِ ، إذْ الْمَبِيعُ كَانَ مَعَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ ، فَيُرَدُّ جَانِبُ الْبَائِعِ إلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ لَا فِي بُيُوعِ الْأَصْلِ وَلَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَتَبَيَّنَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَبِيعَ أَحَدُ الثَّوْبَيْنِ وَالْآخَرَ أَمَانَةٌ ، وَالتَّرْكِيبُ الدَّالُّ عَلَى
ذَلِكَ حَقِيقَةً : وَمَنْ اشْتَرَى أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ نُسَخُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، فَفِي بَعْضِهَا اشْتَرَى أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْذِرَةٍ ، وَفِي بَعْضِهَا ثَوْبَيْنِ وَهُوَ مَجَازٌ ، وَأَثْبَتَهَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَقَالَ فِي وَجْهِ الْمَجَازِ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَّا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا قَالَ : اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } أَضَافَ الْخُرُوجَ إلَيْهِمَا وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَبِيعَتْ دَارٌ أُخْرَى بِجَنْبِهَا فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ رِضًا ) ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الشُّفْعَةِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهِ الْمِلْكَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ إلَّا لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ وَذَلِكَ بِالِاسْتِدَامَةِ فَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ سُقُوطَ الْخِيَارِ سَابِقًا عَلَيْهِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجِوَارَ كَانَ ثَابِتًا ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ) رَجُلٌ اشْتَرَى دَارًا بِخِيَارِ الشَّرْطِ ( فَبِيعَتْ دَارٌ أُخْرَى بِجَانِبِهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ فَذَلِكَ الْأَخْذُ رِضًا ) يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ لِأَنَّ أَخْذَهُ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ وَطَلَبُهُ الشُّفْعَةَ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِيَارِ الْمِلْكِ ، لِأَنَّ طَلَبَ الشُّفْعَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ ، وَالْجِوَارُ يَثْبُتُ بِاسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ ، وَاسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ تَقْتَضِي الْمِلْكَ وَلَا مِلْكَ مَعَ الْخِيَارِ فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ ، وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ فَكَانَ الْجِوَارُ ثَابِتًا عِنْدَ بَيْعِ الدَّارِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ مُوجَبُ الشُّفْعَةِ ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ دُخُولَ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِهِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ لِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَإِنَّ الْمَبِيعَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ وَيَسْقُطَ بِذَلِكَ خِيَارُهُ ، لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجَارِ الدَّخِيلِ وَالْإِنْسَانُ لَا يَدْفَعُ ضَرَرَ الْجَارِ فِي دَارٍ يُرِيدُ رَدَّهَا .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : أَمَّا وُجُوبُ الشُّفْعَةِ لِلْمُشْتَرِي فَوَاضِحٌ عَلَى مَذْهَبِهِمَا لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلدَّارِ الْمَبِيعَةِ ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا وَذَلِكَ يَكْفِيهِ لِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ بِهَا كَالْمَأْذُونِ الْمُسْتَغْرَقِ بِالدَّيْنِ وَالْمُكَاتَبِ إذَا بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ دَارِهِمَا فَإِنَّهُمَا يَسْتَحِقَّانِ الشُّفْعَةَ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكَا رَقَبَةَ دَارِهِمَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَصِرْ أَحَقَّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا .
وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا لَمْ يَرَهَا فَبِيعَتْ بِجَنْبِهَا دَارٌ أُخْرَى فَأَخَذَ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ بِدُونِ الرُّؤْيَةِ فَكَذَا بِدَلَالَتِهِ وَسَيَأْتِي .
قَالَ ( وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلَانِ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فَرَضِيَ أَحَدُهُمَا فَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَرُدَّهُ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ خِيَارُ الْعَيْبِ وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ ، لَهُمَا أَنَّ إثْبَاتَ الْخِيَارِ لَهُمَا إثْبَاتُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ صَاحِبِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ .
وَلَهُ أَنَّ الْمَبِيعَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ غَيْرَ مَعِيبٍ بِعَيْبِ الشَّرِكَةِ ، فَلَوْ رَدَّهُ أَحَدُهُمَا رَدَّهُ مَعِيبًا بِهِ وَفِيهِ إلْزَامُ ضَرَرٍ زَائِدٍ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُمَا الرِّضَا بِرَدِّ أَحَدِهِمَا لِتَصَوُّرِ اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الرَّدِّ .
قَالَ ( وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلَانِ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَرَضِيَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَرُدَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ ) وَكَذَا إذَا اشْتَرَيَاهُ وَرَضِيَ أَحَدُهُمَا بِعَيْبٍ فِيهِ ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَيَاهُ وَلَمْ يَرَيَاهُ ثُمَّ رَأَيَاهُ ( لَهُمَا أَنَّ إثْبَاتَ الْخِيَارِ لَهُمَا إثْبَاتُ الْخِيَارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ) وَكُلُّ مَا هُوَ ثَابِتٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ صَاحِبِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ .
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ إثْبَاتَ الْخِيَارِ لَهُمَا إثْبَاتٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ أَثْبَتَ الْوَكَالَةَ لَهُمَا وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ دُونَ الْآخَرِ .
وَلَهُ أَنَّ الْمَبِيعَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ غَيْرَ مَعِيبٍ بِعَيْبِ الشَّرِكَةِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْأَعْيَانِ الْمُجْتَمِعَةِ عَيْبٌ فَإِنَّ الْبَائِعَ قَبْلَ الْبَيْعِ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِانْتِفَاعِ مَتَى شَاءَ ، وَبَعْدَهُ إذَا رَدَّ الْبَعْضَ لَا يَتَمَكَّنُ إلَّا مُهَايَأَةً ، وَالْخِيَارُ يَثْبُتُ نَظَرًا لِمَنْ هُوَ لَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْحَقُ الضَّرَرُ مِنْهُ بِغَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الضَّرَرَ بِالزَّائِدِ لِأَنَّ فِي امْتِنَاعِ الرَّدِّ ضَرَرًا أَيْضًا لِلرَّادِّ ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْغَيْرِ بَلْ لِعَجْزِهِ عَنْ إيجَادِ شَرْطِ الرَّدِّ كَانَ دُونَ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّ الضَّرَرَ الْحَاصِلَ مِنْ الْغَيْرِ أَقْطَعُ وَأَفْجَعُ مِنْ الْحَاصِلِ مِنْ نَفْسِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : بَيْعُهُ مِنْهُمَا رِضًا مِنْهُ لِعَيْبِ التَّبْعِيضِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنْ سَلَّمَ فَهُوَ رِضًا بِهِ فِي مِلْكِهِمَا لَا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : حَصَلَ الْعَيْبُ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِفِعْلِهِ لِأَنَّ تَفَرُّقَ الْمِلْكِ إنَّمَا هُوَ بِالْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ قُلْنَا : بَلْ حَصَلَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي بِرَدِّ نِصْفِهِ ، وَالْمُشْتَرِي إذَا عَيَّبَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِحُكْمِ
خِيَارِهِ ، لَكِنَّ هَذَا الْعَيْبَ بِعَرْضِ الزَّوَالِ لِمُسَاعَدَةِ الْآخَرِ عَلَى الرَّدِّ فَإِذَا امْتَنَعَ ظَهَرَ عَمَلُهُ ( قَوْلُهُ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِ الْخِيَارِ ) جَوَابٌ لَهُمَا .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ إثْبَاتَ الْخِيَارِ لَهُمَا لَيْسَ عَيْنَ الرِّضَا بِرَدِّ أَحَدِهِمَا وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَلَا الرِّضَا بِرَدِّ أَحَدِهِمَا لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُمَا لِتَصَوُّرِ الِانْفِكَاكِ بِتَصَوُّرِ اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الرَّدِّ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُمَا الرِّضَا بِرَدِّ أَحَدِهِمَا .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ خَبَّازٌ أَوْ كَاتِبٌ وَكَانَ بِخِلَافِهِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ) ؛ لِأَنَّ هَذَا وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ فَيُسْتَحَقُّ فِي الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ ، ثُمَّ فَوَاتُهُ يُوجِبُ التَّخْيِيرَ ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِهِ دُونَهُ ، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى اخْتِلَافِ النَّوْعِ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ فِي الْأَغْرَاضِ ، فَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِعَدَمِهِ بِمَنْزِلَةِ وَصْفِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَصَارَ كَفَوَاتِ وَصْفِ السَّلَامَةِ ، وَإِذَا أَخَذَهُ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ لِكَوْنِهَا تَابِعَةً فِي الْعَقْدِ عَلَى مَا عُرِفَ .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ خَبَّازٌ أَوْ كَاتِبٌ ) رَجُلٌ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ خَبَّازٌ أَوْ كَاتِبٌ فَكَانَ بِخِلَافِهِ بِأَنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ الْخُبْزِ وَالْكِتَابَةِ مَا يُسَمَّى بِهِ الْفَاعِلُ خَبَّازًا أَوْ كَاتِبًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَبَيْنَ رَدِّهِ إذَا لَمْ يَمْتَنِعْ الرَّدُّ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ ، فَإِنْ امْتَنَعَ بِذَلِكَ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُقَوَّمُ الْعَبْدُ كَاتِبًا أَوْ خَبَّازًا عَلَى أَدْنَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ إذْ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ بِمُطْلَقِ الشَّرْطِ لَا النِّهَايَةِ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي وَصْفِ السَّلَامَةِ الْمُسْتَحَقِّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَيُقَوَّمُ غَيْرُ كَاتِبٍ وَخَبَّازٍ فَيُنْظَرُ إلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَهُمَا فَيُرْجَعُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ، أَمَّا رَدُّهُ فَلِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَمَّا لَيْسَ بِمَرْغُوبٍ فِيهِ كَمَا إذَا بَاعَ عَلَى أَنَّهُ أَعْوَرُ فَإِذَا هُوَ سَلِيمٌ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْخِيَارَ ، وَكُلُّ مَا هُوَ وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ يُسْتَحَقُّ فِي الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ لِأَنَّهُ لِرُجُوعِهِ إلَى صِفَةِ الثَّمَنِ أَوْ الْمُثَمَّنِ كَانَ مُلَائِمًا لِلْعَقْدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْمَبِيعِ لَدَخَلَ فِي الْعَقْدِ بِلَا ذِكْرٍ فَلَا يَكُونُ مُفْسِدًا لَهُ ، وَنُوقِضَ بِمَا إذَا بَاعَ شَاةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ أَوْ عَلَى أَنَّهَا تَحْلُبُ كَذَا فَإِنَّ الْبَيْعَ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ فَاسِدٌ وَالْوَصْفُ مَرْغُوبٌ فِيهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَصْفٍ بَلْ اشْتِرَاطُ مِقْدَارٍ مِنْ الْمَبِيعِ مَجْهُولٌ وَضَمُّ الْمَعْلُومِ إلَى الْمَجْهُولِ يُصَيِّرُ الْكُلَّ مَجْهُولًا ، وَلِهَذَا لَوْ شَرَطَ أَنَّهَا حَلُوبٌ أَوْ لَبُونٌ لَا يَفْسُدُ لِكَوْنِهِ وَصْفًا مَرْغُوبًا فِيهِ ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ ، سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ مَجْهُولٌ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْبَائِعِ تَحْصِيلُهُ وَلَا إلَى مَعْرِفَتِهِ سَبِيلٌ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْخَبْزِ
وَالْكِتَابَةِ فَيَظْهَرُ حَالُهُ ، وَأَمَّا انْتِفَاخُ الْبَطْنِ فَقَدْ يَكُونُ مِنْ رِيحٍ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ وَلِذَا لَا نَعْلَمُ حَيَاتَهُ وَمَوْتَهُ وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَفَوَاتُهُ يُوجِبُ التَّخْيِيرَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَا رَضِيَ بِالْمَبِيعِ دُونَ ذَلِكَ الْوَصْفِ فَيَتَخَيَّرُ وَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ لِأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ أَيْ الَّذِي يَكُونُ مِنْ حَيْثُ فَوَاتُ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ هُنَا رَاجِعٌ إلَى اخْتِلَافِ النَّوْعِ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ فِي الْأَغْرَاضِ فَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِعَدَمِ ذَلِكَ الْوَصْفِ ، كَمَا إذَا اشْتَرَى شَاةً عَلَى أَنَّهَا نَعْجَةٌ فَإِذَا هِيَ حَمَلٌ فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْحَاصِلَ بِالْوَصْفِ إنْ كَانَ مِمَّا يُوجِبُ التَّفَاوُتَ الْفَاحِشَ فِي الْأَغْرَاضِ كَانَ رَاجِعًا إلَى الْجِنْسِ ، كَمَا إذَا بَاعَ عَبْدًا فَإِذَا هِيَ جَارِيَةٌ وَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُوجِبُهُ كَانَ رَاجِعًا إلَى النَّوْعِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمِثَالِ فَلَا يُفْسِدُهُ ، لَكِنَّهُ يُوجِبُ التَّخْيِيرَ لِفَوَاتِ وَصْفِ السَّلَامَةِ ، وَأَمَّا أَخْذُهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَلِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ لِكَوْنِهَا تَابِعَةً فِي الْعَقْدِ تَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( بَابُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ ) قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ، وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ ) بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ( وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَجْهُولٌ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ } ؛ وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوَافِقْهُ يَرُدُّهُ ، فَصَارَ كَجَهَالَةِ الْوَصْفِ فِي الْمُعَايِنِ الْمُشَارِ إلَيْهِ .
( بَابُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ ) قَدَّمَ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ عَلَى خِيَارِ الْعَيْبِ لِكَوْنِهِ أَقْوَى مِنْهُ ، إذْ كَانَ تَأْثِيرُهُ فِي مَنْعِ تَمَامِ الْبَيْعِ وَتَأْثِيرُ خِيَارِ الْعَيْبِ فِي مَنْعِ لُزُومِ الْحُكْمِ ، قَالَ الْقُدُورِيُّ : مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ، مَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ بِعْتُك الثَّوْبَ الَّذِي فِي كُمِّي هَذَا وَصِفَتُهُ كَذَا أَوْ الذُّرَةَ الَّتِي فِي كُمِّي هَذِهِ وَصِفَتُهَا كَذَا أَوْ لَمْ يَذْكُرْ الصِّفَةَ أَوْ يَقُولَ بِعْت مِنْك هَذِهِ الْجَارِيَةَ الْمُنْتَقِبَةَ فَإِنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا ، وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ وَكَذَا الْعَيْبُ الْغَائِبُ الْمُشَارُ إلَى مَكَانِهِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ بِذَلِكَ الِاسْمِ غَيْرُ مَا سَمَّى وَالْمَكَانُ مَعْلُومٌ بِاسْمِهِ وَالْعَيْنُ مَعْلُومَةٌ .
قَالَ صَاحِبُ الْأَسْرَارِ : لِأَنَّ كَلَامَنَا فِي عَيْنٍ هُوَ بِحَالٍ لَوْ كَانَتْ الرُّؤْيَةُ حَاصِلَةً لَكَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا : أَيْ بِالْإِجْمَاعِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْمَبِيعُ مَجْهُولٌ وَالْمَجْهُولُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ كَالْبَيْعِ بِالرَّقْمِ ( وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ } ) وَهُوَ نَصٌّ فِي الْبَابِ فَلَا يُتْرَكُ بِلَا مُعَارِضٍ ، فَإِنْ قِيلَ : هُوَ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك } وَالْمُرَادُ مَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ لِلْمُشْتَرِي لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا كَانَ قَدْ رَآهُ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا عِنْدَ الْعَقْدِ .
قُلْنَا : بَلْ الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ بِدَلِيلِ قِصَّةِ الْحَدِيثِ ، فَإِنَّ { حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الرَّجُلَ يَطْلُبُ مِنِّي سِلْعَةً لَيْسَتْ عِنْدِي فَأَبِيعُهَا مِنْهُ ثُمَّ أَدْخُلُ السُّوقَ فَأَسْتَجِيدُهَا فَأَشْتَرِيهَا فَأُسَلِّمُهَا إلَيْهِ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا
تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك } وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ عَيْنًا مَرْئِيًّا لَمْ يَمْلِكْهُ ثُمَّ مَلَكَهُ فَلِمَ لَمْ يَجُزْ ؟ وَذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ ، وَالْمَعْقُولُ وَهُوَ أَنَّ الْجَهَالَةَ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ مَعَ وُجُودِ الْخِيَارِ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُوَافِقْهُ رَدَّهُ وَلَا نِزَاعَ ثَمَّةَ يَقْتَضِي خِيَارَهُ ، وَإِنَّمَا أَفْضَتْ إلَيْهَا لَوْ قُلْنَا بِانْبِرَامِ الْعَقْدِ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ فَصَارَ ذَلِكَ كَجَهَالَةِ الْوَصْفِ فِي الْمُعَايَنِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِأَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا مُشَارًا إلَيْهِ غَيْرَ مَعْلُومٍ عَدَدُ ذُرْعَانِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومَ الْعَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ جَهَالَةٌ لِكَوْنِهَا لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَعُورِضَ بِأَنَّ الْبَيْعَ نَوْعَانِ : بَيْعُ عَيْنٍ ، وَبَيْعُ دَيْنٍ ، وَطَرِيقُ الْمَعْرِفَةِ فِي الثَّانِي هُوَ الْوَصْفُ وَفِي الْأَوَّلِ الْمُشَاهَدَةُ ، ثُمَّ مَا هُوَ طَرِيقٌ إلَى الثَّانِي إذَا تَرَاخَى عَنْ حَالَةِ الْعَقْدِ فَسَدَ الْعَقْدُ ، وَكَذَلِكَ مَا هُوَ طَرِيقٌ إلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمُشَاهَدَةُ إذَا تَرَاخَى فَسَدَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ سَاقِطَةٌ لِأَنَّ السَّلَمَ إنَّمَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ تَرْكِ الْوَصْفِ لِإِفْضَاءِ الْجَهَالَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ
( وَكَذَا إذَا قَالَ رَضِيت ثُمَّ رَآهُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ ) لِأَنَّ الْخِيَارَ مُعَلَّقٌ بِالرُّؤْيَةِ لِمَا رَوَيْنَا فَلَا يَثْبُتُ قَبْلَهَا ، وَحَقُّ الْفَسْخِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ بِحُكْمِ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ لَا بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ ، وَلِأَنَّ الرِّضَا بِالشَّيْءِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِأَوْصَافِهِ لَا يَتَحَقَّقُ فَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ رَضِيت قَبْلَ الرُّؤْيَةِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ رَدَدْت .
( قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا قَالَ ) تَفْرِيعٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ : يَعْنِي كَمَا أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ إذَا لَمْ يَقُلْ رَضِيت فَكَذَا إذَا قَالَ ذَلِكَ وَلَمْ يَرَهُ ثُمَّ رَآهُ ، لِأَنَّ الْخِيَارَ مُعَلَّقٌ بِالرُّؤْيَةِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّيْءِ لَا يَثْبُتُ قَبْلَهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ بِدُونِ الشَّرْطِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ الْعَقْدُ بِالرِّضَا قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لَزِمَ امْتِنَاعُ الْخِيَارِ عِنْدَهَا ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ عِنْدَهَا فَمَا أَدَّى إلَى إبْطَالِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ ( قَوْلُهُ وَحَقُّ الْفَسْخِ ) جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْرِيرُهُ : لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْخِيَارُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لَمَا كَانَ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ مِنْ نَتَائِجِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ كَالْقَبُولِ فَكَانَ مُعَلَّقًا بِهَا فَلَا يُوجَدُ قَبْلَهَا .
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ بِحُكْمِ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مُنْبَرِمًا فَجَازَ فَسْخُهُ لِوَهَاءٍ فِيهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ فِي عَقْدِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ يَمْلِكُ الْفَسْخَ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ لُزُومِ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ لَا شَرْطًا وَلَا شَرْعًا ، بِخِلَافِ الرِّضَا فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى بُطْلَانِهِ كَمَا مَرَّ آنِفًا ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ عَدَمَ لُزُومِ هَذَا الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ الْخِيَارِ فَهُوَ مَلْزُومٌ لِلْخِيَارِ وَالْخِيَارُ مُعَلَّقٌ بِالرُّؤْيَةِ لَا يُوجَدُ بِدُونِهَا فَكَذَا مَلْزُومُهُ لِأَنَّ مَا هُوَ شَرْطُ اللَّازِمِ فَهُوَ شَرْطٌ لِلْمَلْزُومِ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الرِّضَا بِالشَّيْءِ ) جَوَابُ سُؤَالٍ آخَرَ ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْإِمْضَاءَ لِلرِّضَا وَالرِّضَا بِالشَّيْءِ ( لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِأَوْصَافِهِ ) لِأَنَّ الرِّضَا اسْتِحْسَانُ الشَّيْءِ وَاسْتِحْسَانُ مَا لَمْ يُعْلَمْ مَا يُحَسِّنُهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ .
وَأَمَّا الْفَسْخُ فَإِنَّمَا هُوَ لِعَدَمِ الرِّضَا ، وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ
الْمُحْسِنَاتِ .
لَا يُقَالُ : عَدَمُ الرِّضَا لِاسْتِقْبَاحِ الشَّيْءِ وَاسْتِقْبَاحُ مَا لَمْ يُعْلَمْ مَا يُقَبِّحُهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ ، لِأَنَّ عَدَمَ الرِّضَا قَدْ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ مَا بَدَا لَهُ مِنْ انْتِفَاءِ احْتِيَاجِهِ إلَى الْمَبِيعِ أَوْ ضَيَاعِ ثَمَنِهِ أَوْ اسْتِغْلَائِهِ فَلَا يَلْزَمُ الِاسْتِقْبَاحُ .
ذَكَرَ فِي التُّحْفَةِ أَنَّ جَوَازَ الْفَسْخِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لَا رِوَايَةَ فِيهِ ، وَلَكِنَّ الْمَشَايِخَ اخْتَلَفُوا ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَصِحُّ قِيَاسًا عَلَى الْإِجَازَةِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَصِحُّ دُونَ الْإِجَازَةِ وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ .
قَالَ : ( وَمَنْ بَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ ) وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : أَوَّلًا لَهُ الْخِيَارُ اعْتِبَارًا بِخِيَارِ الْعَيْبِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْعَقْدِ بِتَمَامِ الرِّضَا زَوَالًا وَثُبُوتًا وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالْعِلْمِ بِأَوْصَافِ الْمَبِيعِ ، وَذَلِكَ بِالرُّؤْيَةِ فَلَمْ يَكُنْ الْبَائِعُ رَاضِيًا بِالزَّوَالِ .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالشِّرَاءِ لِمَا رَوَيْنَا فَلَا يَثْبُتُ دُونَهُ .
وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بَاعَ أَرْضًا لَهُ بِالْبَصْرَةِ مِنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقِيلَ لِطَلْحَةَ : إنَّك قَدْ غُبِنْت ، فَقَالَ : لِي الْخِيَارُ ؛ لِأَنِّي اشْتَرَيْت مَا لَمْ أَرَهُ .
وَقِيلَ لِعُثْمَانَ : إنَّك قَدْ غُبِنْت ، فَقَالَ : لِي الْخِيَارُ ؛ لِأَنِّي بِعْت مَا لَمْ أَرَهُ .
فَحَكَّمَا بَيْنَهُمَا جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ .
فَقَضَى بِالْخِيَارِ لِطَلْحَةَ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ ) مَنْ وَرِثَ شَيْئًا فَبَاعَهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ صَحَّ الْبَيْعُ وَلَا خِيَارَ لَهُ عِنْدَنَا .
وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ أَوَّلًا : لَهُ الْخِيَارُ اعْتِبَارًا بِخِيَارِ الْعَيْبِ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِجَانِبِ الْمُشْتَرِي ، بَلْ إذَا وَجَدَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ زَيْفًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ جَوَّزَهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ كَالْمُشْتَرِي وَإِذَا وَجَدَ الْمَبِيعَ مَعِيبًا ، لَكِنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ بِرَدِّ الثَّمَنِ وَيَنْفَسِخُ بِرَدِّ الْمَبِيعِ لِأَنَّهُ أَصْلٌ دُونَ الثَّمَنِ ، وَبِخِيَارِ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ ( وَهَذَا ) أَيْ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ ( أَنَّ لُزُومَ الْعَقْدِ بِتَمَامِ الرِّضَا زَوَالًا ) أَيْ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ ( وَثُبُوتًا ) أَيْ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي ( وَتَمَامُ الرِّضَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْعِلْمِ بِأَوْصَافِ الْمَبِيعِ وَذَلِكَ بِالرُّؤْيَةِ ) فَإِنَّ بِالرُّؤْيَةِ يَحْصُلُ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى دَقَائِقَ لَا تَحْصُلُ بِالْعِبَارَةِ ( فَلَمْ يَكُنْ الْبَائِعُ رَاضِيًا بِالزَّوَالِ ) فَيَكُونُ الْعَقْدُ غَيْرَ لَازِمٍ مِنْ جِهَتِهِ فَلَهُ الْفَسْخُ .
( وَجْهُ الْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالشِّرَاءِ فَلَا يَثْبُتُ دُونَهُ ) كَمَا تَقَدَّمَ .
فَإِنْ قِيلَ : الْبَائِعُ مِثْلُ الْمُشْتَرِي فِي الِاحْتِيَاجِ لِتَمَامِ الرِّضَا فَيُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً .
أُجِيبَ بِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِسَبَبَيْنِ فِيهِ ، لِأَنَّ الرَّدَّ مِنْ جَانِبِ الْمُشْتَرِي بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ كَانَ يَظُنُّهُ خَيْرًا مِمَّا اشْتَرَى فَيَرُدُّهُ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ ، وَالْبَائِعُ لَوْ رَدَّ لَرَدَّهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَبِيعَ أَزْيَدُ مِمَّا ظُنَّ فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا بِشَرْطِ أَنَّهُ مَعِيبٌ فَإِذَا هُوَ صَحِيحٌ لَمْ يَثْبُتْ لِلْبَائِعِ خِيَارٌ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ ، قِيلَ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يُوجَدُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِسَبَبٍ آخَرَ وَهَاهُنَا وُجِدَ الْقِيَاسُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَالْخِيَارَيْنِ فَلْيَجُزْ
مِنْ الْبَائِعِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْقِيَاسُ ، سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّ الْقِيَاسَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ ، وَتَحْكِيمُ جُبَيْرٍ بَيْنَ عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمَتْنِ فَبَطَلَ الْإِلْحَاقُ دَلَالَةً وَقِيَاسًا ، وَلِهَذَا رَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ حِينَ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ .
ثُمَّ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بَلْ يَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ مَا يُبْطِلُهُ ، وَمَا يُبْطِلُ خِيَارَ الشَّرْطِ مِنْ تَعَيُّبٍ أَوْ تَصَرُّفٍ يُبْطِلُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ تَصَرُّفًا لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ كَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ أَوْ تَصَرُّفًا يُوجِبُ حَقًّا لِلْغَيْرِ كَالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ يُبْطِلُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ وَبَعْدَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ تَعَذُّرُ الْفَسْخِ فَبَطَلَ الْخِيَارُ وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا لَا يُوجِبُ حَقًّا لِلْغَيْرِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ، وَالْمُسَاوَمَةُ وَالْهِبَةُ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ لَا يُبْطِلُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْبُو عَلَى صَرِيحِ الرِّضَا وَيُبْطِلُهُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ لِوُجُودِ دَلَالَةِ الرِّضَا .
قَالَ ( ثُمَّ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ غَيْرُ مُوَقَّتٍ ) قِيلَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ يُوَقَّتُ بِوَقْتِ إمْكَانِ الْفَسْخِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ ، حَتَّى لَوْ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْسَخْ سَقَطَ حَقُّهُ لِأَنَّهُ خِيَارٌ تَعَلَّقَ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى حَالِ الْمَبِيعِ فَأَشْبَهَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ .
وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ بَاقٍ مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يُبْطِلُهُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ حُكْمًا لِانْعِدَامِ الرِّضَا فَيَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ مَا يُبْطِلُ عَدَمَ الرِّضَا ، ثُمَّ مَا يُبْطِلُ خِيَارَ الشَّرْطِ مِنْ تَعَيُّبٍ أَوْ تَصَرُّفٍ يُبْطِلُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ .
وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يُبْطِلُ خِيَارَ الشَّرْطِ فِي بَابِهِ .
وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إذَا فَعَلَ فِي الْمَبِيعِ مَا يُمْتَحَنُ بِهِ مَرَّةً وَيَحِلُّ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ بِحَالٍ لَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ الِاخْتِيَارِ ، وَإِلَّا لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْخِيَارِ لِأَنَّهَا إمْكَانُ الرَّدِّ عِنْدَ عَدَمِ الْمُوَافَقَةِ بَعْدَ الِامْتِحَانِ ، فَإِنْ لَزِمَهُ الْبَيْعُ بِفِعْلٍ مَا يُمْتَحَنُ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاتَتْ فَائِدَةُ الْخِيَارِ .
وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ إذَا فَعَلَ مَا لَا يُمْتَحَنُ بِهِ أَوْ يُمْتَحَنُ بِهِ لَكِنَّهُ لَا يَحِلُّ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ بِحَالٍ أَوْ يُمْتَحَنُ بِهِ وَيَحِلُّ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَكِنْ فَعَلَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً كَانَ دَلِيلَ الِاخْتِيَارِ ، فَعَلَى هَذَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً لِلْخِدْمَةِ بِالْخِيَارِ فَاسْتَخْدَمَهَا مَرَّةً لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهُ لِأَنَّهُ مِمَّا يُمْتَحَنُ بِهِ وَيَحِلُّ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فِي الْجُمْلَةِ ، فَلَوْ اسْتَخْدَمَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً فِي ذَلِكَ النَّوْعِ مِنْ الْخِدْمَةِ كَانَ اخْتِيَارًا لِلْمِلْكِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا وَلِحُصُولِ الِامْتِحَانِ بِالْأُولَى ، وَلَوْ وَطِئَهَا بَطَلَ خِيَارُهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْتَحَنُ بِهِ لِأَنَّ صَلَاحَهَا لِلْوَطْءِ قَدْ لَا يُعْلَمُ بِالنَّظَرِ ، لَكِنْ لَا يَحِلُّ الْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَكَانَ اخْتِيَارًا لَهُ .
قِيلَ : يُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْكُلِّيِّ مَسْأَلَتَانِ : إحْدَاهُمَا : أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى
دَارًا لَمْ يَرَهَا فَبِيعَتْ بِجَنْبِهَا دَارٌ فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَبَطَلَ خِيَارُ الشَّرْطِ .
وَالثَّانِيَةُ إذَا عَرَضَ الْمَبِيعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ عَلَى الْبَيْعِ بَطَلَ خِيَارُ الشَّرْطِ وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ .
وَالْمَسْأَلَتَانِ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِمَا هُوَ أَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ لَا يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الرِّضَا قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَبْطُلُ بِدَلِيلِ الرِّضَا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ دُونَهُ .
ثُمَّ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ وَالْعَرْضُ عَلَى الْبَيْعِ دَلِيلُ الرِّضَا فَلِذَلِكَ لَا يَعْمَلَانِ فِي إبْطَالِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَافِعٍ .
وَالْحَقُّ أَنَّ الْإِشْكَالَ لَيْسَ بِوَارِدٍ لِأَنَّهُ قَالَ : وَمَا يُبْطِلُ خِيَارَ الشَّرْطِ مِنْ تَعَيُّبٍ أَوْ تَصَرُّفٍ يُبْطِلُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ ، وَهُوَ لَيْسَ بِكُلِّيٍّ مُطْلَقٍ بَلْ مُقَيَّدٌ بِأَنْ يَكُونَ تَعَيُّبًا أَوْ تَصَرُّفًا : يَعْنِي فِي الْمَبِيعِ ، وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ وَالْعَرْضُ عَلَى الْبَيْعِ لَيْسَا مِنْهُمَا فَلَا يَكُونَانِ وَارِدَيْنِ .
ثُمَّ التَّصَرُّفُ الَّذِي يُبْطِلُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : تَصَرُّفٌ يُبْطِلُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ وَبَعْدَهَا ، وَتَصَرُّفٌ لَا يُبْطِلُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ وَيُبْطِلُهُ بَعْدَهَا .
فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ كَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ ، أَوْ الَّذِي يُوجِبُ حَقًّا لِلْغَيْرِ كَالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ ، وَالْبَيْعِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ لِلْمُشْتَرِي وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ وَمِلْكُ الْمُتَصَرِّفِ فِي الْعَيْنِ قَائِمٌ فَصَادَفَ الْمَحَلَّ وَنَفَذَ وَبَعْدَ نُفُوذِهِ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ وَالرَّفْعَ فَتَعَذَّرَ الْفَسْخُ وَبَطَلَ الْخِيَارُ ضَرُورَةً ، وَكَذَلِكَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ مَانِعٌ مِنْ الْفَسْخِ فَيَبْطُلُ الْخِيَارُ ، حَتَّى لَوْ افْتَكَّ الرَّهْنَ أَوْ مَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ أَوْ رَدَّ الْمُشْتَرَى عَلَيْهِ
بِخِيَارِ الشَّرْطِ ثُمَّ رَآهُ لَا يَكُونُ لَهُ الرَّدُّ .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا قِيلَ إنَّ بُطْلَانَ الْخِيَارِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ النَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَاهُ .
وَالثَّانِي أَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ إمَّا أَنْ تَكُونَ صَرِيحَ الرِّضَا أَوْ دَلَالَتَهُ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يُبْطِلُ الْخِيَارَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ فَكَيْفَ أَبْطَلَتْهُ ؟ وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ ذَاكَ فِيمَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِحُكْمِ النَّصِّ ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لِصُدُورِهَا عَنْ أَهْلِهَا مُضَافَةً إلَى مَحَلِّهَا انْعَقَدَتْ صَحِيحَةً ، وَبَعْدَ صِحَّتِهَا لَا يُمْكِنُ رَفْعُهَا فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ ضَرُورَةً .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ دَلَالَةَ الرِّضَا لَا تَرْبُو عَلَى صَرِيحِهِ إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ ضَرُورَاتِ صَرِيحٍ آخَرَ ، وَهَاهُنَا هَذِهِ الدَّلَالَةُ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَالْقَوْلُ بِصِحَّتِهَا مَعَ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ مُحَالٌ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ الَّذِي لَا يُوجِبُ حَقًّا لِلْغَيْرِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ وَالْمُسَاوَمَةُ وَالْهِبَةُ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ لَا يُبْطِلُ الْخِيَارَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ لَا يَرْبُو عَلَى صَرِيحِ الرِّضَا : أَيْ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ ، وَصَرِيحُ الرِّضَا لَا يُبْطِلُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ فَدَلَالَتُهُ أَوْلَى : يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَاتِ الْغَيْرِ وَيُبْطِلُهُ بَعْدَهَا لِوُجُودِ الدَّلَالَةِ مَعَ عَدَمِ الْمَانِعِ
( قَالَ : وَمَنْ نَظَرَ إلَى وَجْهِ الصُّبْرَةِ ، أَوْ إلَى ظَاهِرِ الثَّوْبِ مَطْوِيًّا أَوْ إلَى وَجْهِ الْجَارِيَةِ أَوْ إلَى وَجْهِ الدَّابَّةِ وَكَفَلِهَا فَلَا خِيَارَ لَهُ ) وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ رُؤْيَةَ جَمِيعِ الْمَبِيعِ غَيْرُ مَشْرُوطٍ لِتَعَذُّرِهِ فَيَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ .
وَلَوْ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ أَشْيَاءُ ، فَإِنْ كَانَ لَا تَتَفَاوَتُ آحَادُهَا كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، وَعَلَامَتُهُ أَنْ يَعْرِضَ بِالنَّمُوذَجِ يَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ وَاحِدٍ مِنْهَا إلَّا إذَا كَانَ الْبَاقِي أَرْدَأَ مِمَّا رَأَى فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ .
وَإِنْ كَانَ تَتَفَاوَت آحَادُهَا كَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ، وَالْجَوْزُ وَالْبَيْضُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لِكَوْنِهَا مُتَقَارِبَةً .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : النَّظَرُ إلَى وَجْهِ الصُّبْرَةِ كَافٍ ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ وَصْفَ الْبَقِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ مَكِيلٌ يُعْرَضُ بِالنَّمُوذَجِ ، وَكَذَا النَّظَرُ إلَى ظَاهِرِ الثَّوْبِ مِمَّا يَعْلَمُ بِهِ الْبَقِيَّةَ إلَّا إذَا كَانَ فِي طَيِّهِ مَا يَكُونُ مَقْصُودًا كَمَوْضِعِ الْعَلَمِ ، وَالْوَجْهُ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْآدَمِيِّ ، وَهُوَ وَالْكَفَلُ فِي الدَّوَابِّ فَيُعْتَبَرُ رُؤْيَةِ الْمَقْصُودِ وَلَا يُعْتَبَرُ رُؤْيَةُ غَيْرِهِ .
وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ رُؤْيَةَ الْقَوَائِمِ .
وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَفِي شَاةِ اللَّحْمِ لَا بُدَّ مِنْ الْجَسِّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ اللَّحْمُ يُعْرَفُ بِهِ .
وَفِي شَاةِ الْقِنْيَةِ لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ الضَّرْعِ .
وَفِيمَا يُطْعَمُ لَا بُدَّ مِنْ الذَّوْقِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُعَرِّفُ لِلْمَقْصُودِ .
( قَالَ وَمَنْ نَظَرَ إلَى وَجْهِ الصُّبْرَةِ ) اعْلَمْ أَنَّ الْمَبِيعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا وَاحِدًا أَوْ أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةً ، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَفَاوِتَ الْآحَادِ أَوْ لَا ، فَذَلِكَ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ رُؤْيَةُ الْجَمِيعِ شَرْطًا لِبُطْلَانِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْجَمِيعِ قَدْ تَكُونُ مُتَعَذِّرَةً كَمَا إذَا كَانَ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً فَإِنَّ فِي رُؤْيَةِ جَمِيعِ بَدَنِهِمَا رُؤْيَةَ عَوْرَتِهِمَا ، وَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ لَا يَجُوزُ أَصْلًا فُسِخَ الْعَقْدُ أَوْ لَمْ يُفْسَخْ ، وَفِي الْأَمَةِ لَوْ فُسِخَ الْعَقْدُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ بَعْدَ رُؤْيَةِ عَوْرَتِهَا كَانَ النَّظَرُ فِي عَوْرَتِهَا وَاقِعًا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْعَقْدَ ارْتَفَعَ بِالْفَسْخِ مِنْ أَصْلِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَكَانَ النَّظَرُ الْوَاقِعُ حَرَامًا ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْبًا مَطْوِيًّا فَإِنَّ الْبَائِعَ يَتَضَرَّرُ بِانْكِسَارِ ثَوْبِهِ بِالطَّيِّ وَالنَّشْرِ فَيُكْتَفَى بِرُؤْيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَالْبَيْضِ وَالْجَوْزِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فَلَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ ، لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ لَا تُعَرِّفُ الْبَاقِيَ لِتَفَاوُتٍ فِي آحَادِهِ .
وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ وَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ عَلَى مَا مَالَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ يُكْتَفَى بِرُؤْيَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، لِأَنَّ بِرُؤْيَةِ الْبَعْضِ يُعْرَفُ الْبَاقِي لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ ، وَعَلَامَةُ عَدَمِ التَّفَاوُتِ أَنْ يُعْرَضَ بِالنَّمُوذَجِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي أَرْدَأَ مِنْهَا ، فَعَلَى هَذَا إذَا نَظَرَ إلَى وَجْهِ الصُّبْرَةِ بَطَلَ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ الْبَاقِي لِأَنَّهُ مَكِيلٌ يُعْرَضُ بِالنَّمُوذَجِ وَالنَّظَرُ إلَى ظَاهِرِ الثَّوْبِ مَطْوِيًّا مِمَّا يُعَرِّفُ الْبَقِيَّةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي طَيِّهِ مَا كَانَ مَقْصُودًا كَمَوْضِعِ الْعِلْمِ ) وَإِذَا نَظَرَ إلَى وَجْهِ الْآدَمِيِّ
بَطَلَ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ تَبَعًا لَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَفَاوُتَ الْقِيمَةِ بِتَفَاوُتِ الْوَجْهِ مَعَ التَّسَاوِي فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ ، وَإِذَا نَظَرَ إلَى الْوَجْهِ أَوْ الْكِفْلِ فِي الدَّابَّةِ بَطَلَ الْخِيَارُ لِأَنَّهُمَا مَقْصُودَانِ فِي الدَّوَابِّ .
هَذَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ رُؤْيَةَ الْقَوَائِمِ لِأَنَّهَا مَقْصُودَةٌ فِي الدَّوَابِّ ، فَإِنْ كَانَ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ وَالْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ فِي وِعَاءَيْنِ فَرَآهَا فِي أَحَدِهِمَا فَإِنْ كَانَ مَا فِي الْآخَرِ مِثْلَ مَا رَأَى أَوْ فَوْقَهُ بَطَلَ الْخِيَارُ ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فَهُوَ عَلَى الْخِيَارِ ، لَكِنْ إذَا رَدَّ رَدَّ الْكُلَّ لِئَلَّا تَتَفَرَّقَ الصَّفْقَةُ ، وَإِذَا اشْتَرَى شَاةً فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلَّحْمِ أَوْ لِلْقُنْيَةِ أَيْ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ ، فَفِي الْأَوَّلِ لَا بُدَّ مِنْ الْجَسِّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِهِ ، وَفِي الثَّانِي لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ الضَّرْعِ ، وَفِي الْمَطْعُومَاتِ لَا بُدَّ مِنْ الذَّوْقِ لِأَنَّهُ الْمُعَرِّفُ لِلْمَقْصُودِ .
( قَالَ وَإِنْ رَأَى صَحْنَ الدَّارِ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْ بُيُوتَهَا ) وَكَذَلِكَ إذَا رَأَى خَارِجَ الدَّارِ أَوْ رَأَى أَشْجَارَ الْبُسْتَانِ مِنْ خَارِجٍ .
وَعِنْدَ زُفَرَ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ دَاخِلِ الْبُيُوتِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ جَوَابَ الْكِتَابِ عَلَى وِفَاقِ عَادَتِهِمْ فِي الْأَبْنِيَةِ ، فَإِنَّ دُورَهُمْ لَمْ تَكُنْ مُتَفَاوِتَةً يَوْمَئِذٍ ، فَأَمَّا الْيَوْمُ فَلَا بُدَّ مِنْ الدُّخُولِ فِي دَاخِلِ الدَّارِ لِلتَّفَاوُتِ ، وَالنَّظَرُ إلَى الظَّاهِرِ لَا يُوقِعُ الْعِلْمَ بِالدَّاخِلِ .( قَالَ : وَمَنْ رَأَى صَحْنَ الدَّارِ فَلَا خِيَارَ لَهُ ) رُؤْيَةُ صَحْنِ الدَّارِ أَوْ خَارِجَهَا وَرُؤْيَةُ أَشْجَارِ الْبُسْتَانِ مِنْ خَارِجٍ تُسْقِطُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ .
لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا مُتَعَذِّرُ الرُّؤْيَةِ كَمَا تَحْتَ السُّرَرِ وَبَيْنَ الْحِيطَانِ مِنْ الْجُذُوعِ وَالْأُسْطُوَانَات وَحِينَئِذٍ سَقَطَ شَرْطُ رُؤْيَةِ الْكُلِّ فَأَقَمْنَا رُؤْيَةَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الدَّارِ مَقَامَ رُؤْيَةِ الْكُلِّ ، فَإِذَا كَانَ فِي الدَّارِ بَيْتَانِ شَتْوِيَّانِ وَبَيْتَانِ صَيْفِيَّانِ يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ الْكُلِّ كَمَا يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ صَحْنِ الدَّارِ وَلَا يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ الْمَطْبَخِ وَالْمَزْبَلَةِ وَالْعُلْوِ إلَّا فِي بَلَدٍ يَكُونُ الْعُلْوُ مَقْصُودًا كَمَا فِي سَمَرْقَنْدَ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى : لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ دَاخِلِ الْبُيُوت وَالْأَصَحُّ أَنَّ جَوَابَ الْكِتَابِ : أَيْ الْقُدُورِيِّ عَلَى وِفَاقِ عَادَتِهِمْ بِالْكُوفَةِ أَوْ بَغْدَادَ فِي الْأَبْنِيَةِ ، فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ بِالضِّيقِ وَالسَّعَةِ ، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَكُونُ كَصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهَذَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالنَّظَرِ إلَى جُدْرَانِهَا مِنْ خَارِجٍ ، فَأَمَّا الْيَوْمُ يُرِيدُ بِهِ دِيَارَهُمْ فَلَا بُدَّ مِنْ الدُّخُولِ فِي دَاخِلِ الدَّارِ لِلتَّفَاوُتِ فِي مَالِيَّةِ الدُّورِ بِقِلَّةِ مَرَافِقِهَا وَكَثْرَتِهَا ، فَالنَّظَرُ إلَى الظَّاهِرِ لَا يُوقِعُ الْعِلْمَ بِالْبَاطِنِ وَهَذِهِ نُكْتَةُ زُفَرَ .
قَالَ ( وَنَظَرُ الْوَكِيلِ كَنَظَرِ الْمُشْتَرِي حَتَّى لَا يَرُدَّهُ إلَّا مِنْ عَيْبٍ ، وَلَا يَكُونُ نَظَرُ الرَّسُولِ كَنَظَرِ الْمُشْتَرِي ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا : هُمَا سَوَاءٌ ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ ) قَالَ مَعْنَاهُ الْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ ، فَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ فَرُؤْيَتُهُ تُسْقِطُ الْخِيَارَ بِالْإِجْمَاعِ ، لَهُمَا أَنَّهُ تَوَكَّلَ بِالْقَبْضِ دُونَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ فَلَا يَمْلِكُ مَا لَمْ يَتَوَكَّلْ بِهِ وَصَارَ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَالشَّرْطِ وَالْإِسْقَاطِ قَصْدًا .
وَلَهُ أَنَّ الْقَبْضَ نَوْعَانِ : تَامٌّ وَهُوَ أَنْ يَقْبِضَهُ وَهُوَ يَرَاهُ .
وَنَاقِصٌ ، وَهُوَ أَنْ يَقْبِضَهُ مَسْتُورًا وَهَذَا ؛ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِتَمَامِ الصَّفْقَةِ وَلَا تَتِمُّ مَعَ بَقَاءِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْمُوَكِّلُ مَلَكَهُ بِنَوْعَيْهِ ، فَكَذَا الْوَكِيلُ .
وَمَتَى قَبَضَ الْمُوَكِّلُ وَهُوَ يَرَاهُ سَقَطَ الْخِيَارُ فَكَذَا الْوَكِيلُ لِإِطْلَاقِ التَّوْكِيلِ .
وَإِذَا قَبَضَهُ مَسْتُورًا انْتَهَى التَّوْكِيلُ بِالنَّاقِصِ مِنْهُ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ قَصْدًا بَعْدَ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ فَيَتِمُّ الْقَبْضُ مَعَ بَقَائِهِ ، وَخِيَارُ الشَّرْطِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ .
وَلَوْ سُلِّمَ فَالْمُوَكِّلُ لَا يَمْلِكُ التَّامَّ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِقَبْضِهِ ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْخِيَارِ يَكُونُ بَعْدَهُ ، فَكَذَا لَا يَمْلِكُهُ وَكِيلُهُ ، وَبِخِلَافِ الرَّسُولِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَإِنَّمَا إلَيْهِ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ ، وَالتَّسْلِيمَ إذَا كَانَ رَسُولًا فِي الْبَيْعِ .
قَالَ ( وَنَظَرُ الْوَكِيلِ كَنَظَرِ الْمُشْتَرِي ) قِيلَ صُورَةُ التَّوْكِيلِ أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي لِغَيْرِهِ كُنْ وَكِيلًا عَنِّي فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ أَوْ وَكَّلْتُك بِذَلِكَ .
وَصُورَةُ الْإِرْسَالِ أَنْ يَقُولَ كُنْ رَسُولًا عَنِّي أَوْ أَرْسَلْتُك أَوْ أَمَرْتُك بِقَبْضِهِ .
وَقِيلَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالرَّسُولِ فِيمَا إذَا قَالَ أَمَرْتُك بِقَبْضِهِ إذَا نَظَرَ الْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ إلَى الْمَبِيعِ وَقَبْضُهُ يُسْقِطُ خِيَارَ الْمُشْتَرِي فَلَا يَرُدُّهُ إلَّا بِعَيْبٍ عَلِمَهُ الْوَكِيلُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ .
وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ : إذَا كَانَ عَيْبًا يَعْلَمُهُ الْوَكِيلُ يَجِبُ أَنْ يَبْطُلَ خِيَارُ الْعَيْبِ بِالْقَبْضِ إلَيْهِ ، فَإِذَا نَظَرَ الرَّسُولُ وَقَبَضَهُ لَا يَسْقُطُ خِيَارُ الْمُشْتَرِي فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : نَظَرُ الرَّسُولِ لَا يَسْقُطُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَنَظَرُ الْوَكِيلِ كَنَظَرِهِ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي عَدَمِ سُقُوطِ خِيَارِ الْمُشْتَرِي وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَلَمَّا كَانَتْ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُطْلَقَةً فِي الْوَكِيلِ وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَيْسَ حُكْمُهُ كَذَلِكَ فَسَّرَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ مَعْنَاهُ الْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ ، فَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ فَرُؤْيَتُهُ تُسْقِطُ الْخِيَارَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَيْهِ ( لَهُمَا أَنَّهُ تَوَكَّلَ ) أَيْ قَبْلَ الْوَكَالَةِ ( بِالْقَبْضِ دُونَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ ) وَمَا لَمْ يَتَوَكَّلْ بِهِ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَكَالَةً ( فَلَا يَمْلِكُ ) إسْقَاطَ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِيمَا لَمْ يَتَوَكَّلْ بِهِ فَصَارَ كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا ثُمَّ وَكَّلَ وَكِيلًا بِقَبْضِهِ فَقَبَضَ الْوَكِيلُ مَعِيبًا رَائِيًا عَيْبَهُ لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُ الْعَيْبِ لِلْمُوَكِّلِ ، وَكَمَنْ اشْتَرَى بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَوَكَّلَ بِقَبْضِهِ فَقَبَضَهُ لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُ الشَّرْطِ لِلْمُوَكِّلِ ، وَكَمَا إذَا وَكَّلَ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ فَقَبَضَهُ مَسْتُورًا ثُمَّ رَآهُ الْوَكِيلُ فَأَسْقَطَ الْخِيَارَ قَصْدًا لَا يَسْقُطُ خِيَارُ الْمُوَكِّلِ .
وَدَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَةٍ هِيَ ( أَنَّ الْقَبْضَ عَلَى نَوْعَيْنِ : تَامٌّ وَهُوَ أَنْ يَقْبِضَهُ وَهُوَ يَرَاهُ ، وَنَاقِصٌ وَهُوَ أَنْ يَقْبِضَهُ وَهُوَ مَسْتُورٌ ) ( قَوْلُهُ وَهَذَا ) إشَارَةٌ إلَى تَنَوُّعِهِ بِالنَّوْعَيْنِ ، وَبَيَانُهُ ( أَنَّ تَمَامَ الْقَبْضِ بِتَمَامِ الصَّفْقَةِ وَلَا تَتِمُّ ) الصَّفْقَةُ ( مَعَ بَقَاءِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ ) لِأَنَّ تَمَامَهَا تَنَاهِيهَا فِي اللُّزُومِ بِحَيْثُ لَا يَرْتَدُّ إلَّا بِرِضَاهُ أَوْ قَضَاءً ، وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ يَمْنَعَانِ عَنْ ذَلِكَ ، وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا قُلْنَا : الْمُوَكِّلُ مَلَكَ الْقَبْضَ بِنَوْعَيْهِ ، وَكُلُّ مَنْ مَلَكَهُ بِنَوْعَيْهِ مَلَكَهُ وَكِيلُهُ كَذَلِكَ عِنْدَ إطْلَاقِ التَّوْكِيلِ عَمَلًا بِإِطْلَاقِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْوَكِيلَ إذَا قَبَضَهُ قَبْضًا نَاقِصًا ثُمَّ رَآهُ أَسْقَطَ الْخِيَارَ قَصْدًا لَمْ يَسْقُطْ وَالْمُوَكِّلُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ يَسْقُطُ الْخِيَارُ فَلَيْسَ الْوَكِيلُ كَالْمُوَكِّلِ فِي الْقَبْضِ النَّاقِصِ لَا مَحَالَةَ .
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّ الْوَكِيلَ إذَا قَبَضَهُ مَسْتُورًا انْتَهَى التَّوْكِيلُ بِالْقَبْضِ النَّاقِصِ فَبَقِيَ أَجْنَبِيًّا فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ ، وَفِي هَذَا الْجَوَابِ تَعَرُّضٌ إلَى رَدِّ قِيَاسِهِمَا عَلَى الْإِسْقَاطِ الْقَصْدِيِّ ، وَإِلَى رَدِّ قَوْلِهِمَا دُونَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَكَّلْ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ قَصْدًا أَوْ ضِمْنًا وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنَّ إسْقَاطَ الْخِيَارِ فِي الْقَبْضِ التَّامِّ يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ فِي ضِمْنِ الْمُتَوَكَّلِ بِهِ وَهُوَ الْقَبْضُ حَتَّى لَوْ رَأَى قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْخِيَارُ ، بِخِلَافِ الْمُوَكِّلِ ، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَلَا يَثْبُتُ قَصْدًا .
وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ فَإِنَّ مَنْ تَوَكَّلَ بِشَيْءٍ تَوَكَّلَ بِمَا يُتِمُّهُ لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا فَصَارَ كَخِيَارِ الْعَيْبِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ حَيْثُ لَا
يَرْتَدُّ بِهِ إلَّا بِرِضًا أَوْ قَضَاءٍ ، وَمَا لَمْ يَمْنَعْ تَمَامَ الصَّفْقَةِ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ وَلِهَذَا مَلَكَ رَدَّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَلَمْ يُجْعَلْ تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ لِأَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ قَبْلَ تَمَامِهَا مُمْتَنِعٌ ، وَلَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ هَاهُنَا دَلَّ أَنَّهَا كَانَتْ تَامَّةً ، وَهُوَ مِنْ مُوَضِّحَاتِ ذَلِكَ أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ لِثُبُوتِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِالْجُزْءِ الْفَائِتِ وَذَلِكَ لِلْمُوَكِّلِ وَلَمْ يَصْدُرْ التَّوْكِيلُ بِالْقَبْضِ لِإِسْقَاطِهِ وَلَا يَسْتَلْزِمُهُ فَلَا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ ، وَخِيَارُ الشَّرْطِ لَا يَصْلُحُ مَقِيسًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَوَكَّلَ وَكِيلًا بِقَبْضِهِ بَعْدَمَا رَآهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، وَلَوْ سَلَّمَ بَقَاءَ الْخِيَارِ فَالْمُوَكِّلُ لَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ التَّامَّ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِتَمَامِ الصَّفْقَةِ وَلَا تَتِمُّ الصَّفْقَةُ مَعَ بَقَاءِ خِيَارِ الشَّرْطِ ، وَالْخِيَارُ لَا يَسْقُطُ بِقَبْضِهِ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْخِيَارِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَكَذَا وَكِيلُهُ ، وَقَيَّدَ بِالتَّامِّ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ يَمْلِكُ النَّاقِصَ فَإِنَّ الْقَبْضَ مَعَ بَقَاءِ الْخِيَارِ نَاقِصٌ كَمَا أَنَّهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ نَاقِصٌ ، وَالرَّسُولُ لَيْسَ كَالْوَكِيلِ فَإِنَّ إتْمَامَ مَا أُرْسِلَ بِهِ لَيْسَ إلَيْهِ وَإِنَّمَا إلَيْهِ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ كَالرَّسُولِ بِالْعَقْدِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ وَالتَّسْلِيمَ .
قَالَ ( وَبَيْعُ الْأَعْمَى وَشِرَاؤُهُ جَائِزٌ وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا اشْتَرَى ) لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ( ثُمَّ يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِجَسِّهِ الْمَبِيعَ إذَا كَانَ يُعْرَفُ بِالْجَسِّ ، وَيَشُمُّهُ إذَا كَانَ يُعْرَفُ بِالشَّمِّ ، وَيَذُوقُهُ إذَا كَانَ يُعْرَفُ بِالذَّوْقِ ) كَمَا فِي الْبَصِيرِ ( وَلَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ فِي الْعَقَارِ حَتَّى يُوصَفَ لَهُ ) لِأَنَّ الْوَصْفَ يُقَامُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ كَمَا فِي السَّلَمِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا وَقَفَ فِي مَكَان لَوْ كَانَ بَصِيرًا لَرَآهُ وَقَالَ : قَدْ رَضِيتُ سَقَطَ خِيَارُهُ ، لِأَنَّ التَّشَبُّهَ يُقَامُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعِ الْعَجْزِ كَتَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ يُقَامُ مَقَامَ الْقِرَاءَةِ فِي حَقِّ الْأَخْرَسِ فِي الصَّلَاةِ ، وَإِجْرَاءُ الْمُوسَى مَقَامَ الْحَلْقِ فِي حَقِّ مَنْ لَا شَعْرَ لَهُ فِي الْحَجِّ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : يُوَكِّلُ وَكِيلًا بِقَبْضِهِ وَهُوَ يَرَاهُ وَهَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْوَكِيلِ كَرُؤْيَةِ الْمُوَكِّلِ عَلَى مَا مَرَّ آنِفًا .
قَالَ ( وَبَيْعُ الْأَعْمَى وَشِرَاؤُهُ جَائِزٌ ) بَيْعُ الْأَعْمَى وَشِرَاؤُهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا ( وَلَهُ الْخِيَارُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ كَانَ بَصِيرًا فَعَمِيَ فَكَذَا الْجَوَابُ ، وَإِنْ كَانَ أَكْمَهَ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْأَلْوَانِ وَالصِّفَاتِ ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِمُعَامَلَةِ النَّاسِ الْعُمْيَانِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، وَبِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ لَا يَمْلِكُ الْأَمْرَ بِهِ لِغَيْرِهِ ، فَإِذَا احْتَاجَ الْأَعْمَى إلَى مَا يَأْكُلُ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ شِرَاءِ الْمَأْكُولِ وَلَا التَّوْكِيلِ بِهِ مَاتَ جُوعًا وَفِيهِ مِنْ الْقُبْحِ مَا لَا يَخْفَى .
وَلَنَا ( أَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ ، وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ بِالْحَدِيثِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ) وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " لَمْ يَرَهُ سَلْبٌ " وَهُوَ يَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْإِيجَابِ وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْبَصِيرِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ مُعَامَلَةِ النَّاسِ الْعُمْيَانِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَإِنَّ ذَلِكَ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ الْإِجْمَاعِ ، وَيَسْقُطُ خِيَارُهُ بِمُبَاشَرَةِ مَا هُوَ سَبَبُ الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا يُعْلَمُ بِمَسِّهِ فَخِيَارُهُ يَسْقُطُ بِجَسِّهِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُعْلَمُ بِالشَّمِّ فَبِشَمِّهِ وَبِذَوْقِهِ فِي الْمَذُوقَاتِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ شَجَرًا أَوْ ثَمَرًا عَلَى شَجَرٍ أَوْ عَقَارًا فَإِنَّ خِيَارَهُ لَا يَسْقُطُ حَتَّى يُوصَفَ لَهُ لِأَنَّ الْوَصْفَ يُقَامُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ كَمَا فِي السَّلَمِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ بَلْخِي : يَمَسُّ الْحَائِطَ وَالْأَشْجَارَ ، فَإِذَا بَاشَرَ بِسَبَبِ الْعِلْمِ أَوْ وُصِفَ لَهُ أَوْ وُصِفَ وَمَسَّ وَقَالَ رَضِيت سَقَطَ الْخِيَارُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا وَقَفَ فِي مَكَان لَوْ كَانَ الْوَاقِفُ بَصِيرًا لَرَآهُ وَقَدْ قَالَ رَضِيت سَقَطَ خِيَارُهُ ، لِأَنَّ التَّشَبُّهَ يَقُومُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعِ
الْعَجْزِ كَتَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ وَإِجْرَاءِ الْمُوسَى فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ وَالْأَصْلَعِ ، وَإِطْلَاقُ الرِّوَايَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَقُولُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْوَصْفِ .
قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَعْمَى : يَشْتَرِي الشَّيْءَ لَمْ يَرَهُ فَيَقُولُ قَدْ رَضِيت قَالَ : لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي مَكَان لَوْ كَانَ بَصِيرًا لَرَآهُ ثُمَّ قَالَ قَدْ رَضِيته لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ .
وَقَالَ الْفَقِيهُ : قَالَ بَعْضُهُمْ : يُوقَفُ فِي مَكَان لَوْ كَانَ بَصِيرًا لَرَآهُ وَمَعَ ذَلِكَ يُوصَفُ لَهُ ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقَاوِيلِ ، قَالَ : وَبِهِ نَأْخُذُ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : يُوَكِّلُ وَكِيلًا يَقْبِضُهُ وَهُوَ يَرَاهُ .
وَهَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ كَرُؤْيَةِ الْمُوَكِّلِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَلَوْ وُصِفَ لَهُ فَقَالَ رَضِيت ثُمَّ أَبْصَرَ فَلَا خِيَارَ لَهُ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ تَمَّ وَسَقَطَ الْخِيَارُ فَلَا يَعُودُ .
وَلَوْ اشْتَرَى بَصِيرًا ثُمَّ عَمِيَ انْتَقَلَ الْخِيَارُ إلَى الصِّفَةِ لِأَنَّ النَّاقِلَ لِلْخِيَارِ مِنْ النَّظَرِ إلَى صِفَةِ الْعَجْزِ ، وَقَدْ اسْتَوَى فِي ذَلِكَ كَوْنُهُ أَعْمَى وَقْتَ الْعَقْدِ وَصَيْرُورَتُهُ أَعْمَى بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ .
قَالَ ( وَمَنْ رَأَى أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ فَاشْتَرَاهُمَا ثُمَّ رَأَى الْآخَرَ جَازَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا ) لِأَنَّ رُؤْيَةَ أَحَدِهِمَا لَا تَكُونُ رُؤْيَةَ الْآخَرِ لِلتَّفَاوُتِ فِي الثِّيَابِ فَبَقِيَ الْخِيَارُ فِيمَا لَمْ يَرَهُ ، ثُمَّ لَا يَرُدُّهُ وَحْدَهُ بَلْ يَرُدُّهُمَا كَيْ لَا يَكُونَ تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَتِمُّ مَعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ ، وَلِهَذَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرَّدِّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا وَيَكُونُ فَسْخًا مِنْ الْأَصْلِ .
قَالَ ( وَمَنْ رَأَى أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ فَاشْتَرَاهُمَا ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْمُتَفَاوِتَةِ الْآحَادِ فِي الْبَيْعِ رُؤْيَةَ بَعْضِهَا لَا يُعَرِّفُ الْبَاقِيَ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ، وَعَلَى هَذَا إذَا رَأَى أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ فَاشْتَرَاهُمَا ثُمَّ رَأَى الْآخَرَ فَلَهُ الْخِيَارُ ، لَكِنْ لَا يَرُدُّ الَّذِي رَآهُ وَحْدَهُ ، بَلْ يَرُدُّهُمَا إنْ شَاءَ كَيْ لَا يَلْزَمَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا مَعْنَى تَمَامِ الصَّفْقَةِ ، وَأَنَّهَا لَا تَتِمُّ مَعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ ، وَلِكَوْنِهَا غَيْرَ تَامَّةٍ يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي مِنْ الرَّدِّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا فَيَكُونُ الرَّدُّ فَسْخًا مِنْ الْأَصْلِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِصِفَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .
فَإِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { نَهَى النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ } " قِيلَ : تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَهُوَ يَقْتَضِي رَدَّهُمَا جَمِيعًا إنْ شَاءَ ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ } الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الَّذِي لَمْ يَرَهُ وَحْدَهُ ، فَمَا وَجْهُ تَرْجِيحِ حَدِيثِ النَّهْيِ عَلَى الْمُجِيزِ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ مُوجِبَ النَّهْيِ مُطَّرِدٌ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ ، وَمُوجِبَ الْمُجِيزِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرَّدَّ إذَا تَعَيَّبَ أَوْ أَعْتَقَ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ أَوْ دَبَّرَهُ وَالْمُطَّرِدُ رَاجِحٌ وَبِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَالْمُحَرَّمُ رَاجِحٌ عَلَى الْمُبِيحِ ، أَوْ لِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْمُبِيحِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَكْرِيرُ النَّسْخِ وَبِأَنَّ الرَّدَّ كَمَا كَانَ غَيْرَ مُمْكِنٍ ؟ لِأَنَّ رَدَّ أَحَدِ الثَّوْبَيْنِ لَا يَكُونُ رَدًّا لِأَنَّهُ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لَا أَحَدَهُمَا ، وَالرَّدُّ إنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمَرْدُودُ عَلَى الْحَالَةِ الْأُولَى قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ تَفْرِيقِهَا مُطْلَقًا ، وَقَدْ قَيَّدْتُمْ بِمَا قَبْلَ التَّمَامِ
فَيَكُونُ مَتْرُوكَ الظَّاهِرِ ، وَمِثْلُهُ مَرْجُوحٌ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا هُوَ عَنْ التَّفْرِيقِ وَالتَّقْيِيدِ بِمَا قَبْلَ التَّمَامِ بِالْقِيَاسِ عَلَى ابْتِدَاءِ الصَّفْقَةِ ، فَإِنَّهُ إذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِي شَيْئَيْنِ لَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الْقَبُولَ فِي أَحَدِهِمَا لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْبَائِعِ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ بِضَمِّ الرَّدِيءِ إلَى الْجَيِّدِ تَرْوِيجًا لَهُ بِالْجَيِّدِ ، فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ رَدِّ أَحَدِهِمَا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ يَنْدَفِعُ مَا اسْتَشْكَلَ بِالِاسْتِحْقَاقِ ، فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ فَاسْتُحِقَّ أَحَدُهُمَا لَا يَرُدُّ الْبَاقِيَ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ إذَا رَدَّ أَحَدَهُمَا فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّ الْآخَرِ أَيْضًا لِأَنَّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ رَدَّ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ لِأَنَّهَا لَا تَتِمُّ مَعَ بَقَاءِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ .
وَفِي فَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ تَتَفَرَّقْ عَلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ التَّمَامِ بَلْ تَمَّتْ فِيمَا كَانَ مِلْكُ الْبَائِعِ غَيْرَ مَعِيبٍ بِعَيْبِ الشَّرِكَةِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ عَبْدًا وَاحِدًا فَاسْتُحِقَّ بَعْضُهُ كَانَ لَهُ رَدُّ الْبَاقِي كَمَا فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْأَعْيَانِ الْمُجْتَمِعَةِ عَيْبٌ وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَرْضَ بِهِ ، لَكِنْ فِي صُورَةِ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ وِلَايَةُ رَدِّ الْبَاقِي لِدَفْعِ ضَرَرٍ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ ، فَإِنْ شَاءَ رَضِيَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ .
وَفِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ عَلَيْهِ رَدُّ الْآخَرِ لِدَفْعِ ضَرَرٍ يَلْزَمُ الْبَائِعَ .
وَمَنْ مَاتَ وَلَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ بَطَلَ خِيَارُهُ ) لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ عِنْدَنَا ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ ( وَمَنْ رَأَى شَيْئًا ثُمَّ اشْتَرَاهُ بَعْدَ مُدَّةٍ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي رَآهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ ) لِأَنَّ الْعِلْمَ بِأَوْصَافِهِ حَاصِلٌ لَهُ بِالرُّؤْيَةِ السَّابِقَةِ ، وَبِفَوَاتِهِ يَثْبُتُ الْخِيَارُ إلَّا إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُهُ مَرْئِيَّهُ لِعَدَمِ الرِّضَا بِهِ ( وَإِنْ وَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا فَلَهُ الْخِيَارُ ) لِأَنَّ تِلْكَ الرُّؤْيَةَ لَمْ تَقَعْ مُعْلِمَةً بِأَوْصَافِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي التَّغَيُّرِ فَالْقَوْلُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ حَادِثٌ وَسَبَبُ اللُّزُومِ ظَاهِرٌ ، إلَّا إذَا بَعُدَتْ الْمُدَّةُ عَلَى مَا قَالُوا لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْمُشْتَرِي ، بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهَا أَمْرٌ حَادِثٌ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ .
قَالَ ( وَمَنْ مَاتَ وَلَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ بَطَلَ خِيَارُهُ ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ لِأَنَّهُ مَشِيئَةٌ ، وَهُوَ عَرْضٌ وَالْعَرْضُ لَا يَنْتَقِلُ وَالْإِرْثُ فِيمَا يَنْتَقِلُ ، فَكَذَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْبَحْثَ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ مُسْتَوْفًى فَلَا يُحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهِ .
قَالَ ( وَمَنْ رَأَى شَيْئًا ثُمَّ اشْتَرَاهُ بَعْدَ مُدَّةٍ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ الَّتِي رَآهُ ) عَلَيْهَا سَقَطَ الْخِيَارُ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِأَوْصَافِهِ حَاصِلٌ لَهُ بِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ السَّابِقَةِ ، وَبِفَوَاتِ الْعِلْمِ بِالْأَوْصَافِ يَثْبُتُ الْخِيَارُ ، فَبَيْنَ الْعِلْمِ بِالْأَوْصَافِ وَثُبُوتِ الْخِيَارِ مُنَافَاةٌ ، وَيَثْبُتُ أَحَدُ الْمُتَنَافِيَيْنِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْأَوْصَافِ بِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ فَيَنْتَفِي الْآخَرُ وَهُوَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ إلَّا إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي رَآهُ كَمَا إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا مَلْفُوفًا كَانَ رَآهُ مِنْ قَبْلُ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْمُشْتَرَى ذَلِكَ الْمَرْئِيُّ فَإِنَّ لَهُ الْخِيَارَ حِينَئِذٍ لِعَدَمِ الرِّضَا بِهِ ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى هَذِهِ الصُّورَةَ لِدَفْعِ مَا عَسَى أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ عِلَّةَ انْتِفَاءِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَوْصَافِ ، وَهَاهُنَا لَمَّا كَانَ الْمَبِيعُ مَرْئِيًّا مِنْ قَبْلُ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْهَا كَانَ الْعِلْمُ بِهَا حَاصِلًا فَلَا يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَكِنَّ شَرْطَهُ الرِّضَا بِهِ وَحَيْثُ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مَرْئِيُّهُ لَمْ يَرْضَ بِهِ فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ وَإِنْ وَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا فَلَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ تِلْكَ الرُّؤْيَةَ لَمْ تَقَعْ مُعَلَّمَةً بِأَوْصَافِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي التَّغَيُّرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّ التَّغَيُّرَ حَادِثٌ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِعَيْبٍ أَوْ تَبَدُّلِ هَيْئَةٍ وَكُلٌّ مِنْهُمَا عَارِضٌ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِيهِ وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ وَمُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ ، لِأَنَّ سَبَبَ لُزُومِ الْعَقْدِ وَهُوَ
رُؤْيَةُ جُزْءٍ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَقِيلَ هُوَ الرُّؤْيَةُ السَّابِقَةُ ، وَقِيلَ هُوَ الْبَيْعُ الْبَاتُّ الْخَالِي عَنْ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ ظَاهِرٌ ، وَالْأَصْلُ لُزُومُ الْعَقْدِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مُدَّعِي الْعَارِضِ ( قَوْلُهُ إلَّا إذَا بَعُدَتْ الْمُدَّةُ عَلَى مَا قَالُوا ) أَيْ الْمُتَأَخِّرُونَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لَهُ ، فَإِنَّ الشَّيْءَ يَتَغَيَّرُ بِطُولِ الزَّمَانِ ، وَمَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَإِلَيْهِ مَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَقَالَ : أَرَأَيْت لَوْ كَانَتْ جَارِيَةً شَابَّةً رَآهَا فَاشْتَرَاهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِعِشْرِينَ سَنَةً وَزَعَمَ الْبَائِعُ أَنَّهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ كَانَ يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الرُّؤْيَةِ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ : يَعْنِي إذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي رُؤْيَةِ الْمُشْتَرِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْعِلْمَ بِالصِّفَاتِ وَأَنَّهُ حَادِثٌ ، وَالْمُشْتَرِيَ مُنْكِرٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ الْيَمِينِ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى عِدْلَ زُطِّيٍّ وَلَمْ يَرَهُ فَبَاعَ مِنْهُ ثَوْبًا أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ لَمْ يَرُدَّ شَيْئًا مِنْهَا إلَّا مِنْ عَيْبٍ ، وَكَذَلِكَ خِيَارُ الشَّرْطِ ) ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الرَّدُّ فِيمَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ ، وَفِي رَدِّ مَا بَقِيَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ يَمْنَعَانِ تَمَامَهَا ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَتِمُّ مَعَ خِيَارِ الْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتِمُّ قَبْلَهُ وَفِيهِ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ .
فَلَوْ عَادَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ هُوَ فَسْخٌ فَهُوَ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، كَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَعُودُ بَعْدَ سُقُوطِهِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ ، وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الْقُدُورِيُّ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى عِدْلَ زُطِّيٍّ ) الْعِدْلُ بِالْكَسْرِ الْمِثْلُ ، وَمِنْهُ عِدْلُ الْمَتَاعِ .
وَالزُّطُّ : جِيلٌ مِنْ الْهِنْدِ يُنْسَبُ إلَيْهِمْ الثِّيَابُ الزُّطِّيَّةُ .
وَمَنْ اشْتَرَى عِدْلَ زُطِّيٍّ وَلَمْ يَرَهُ وَقَبَضَهُ فَبَاعَ مِنْهُ ثَوْبًا ، كَذَا لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَهُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْبِضْ لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ ، فَإِذَا قَبَضَهُ فَبَاعَ مِنْهُ ثَوْبًا أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ لَمْ يَرُدَّ شَيْئًا مِنْهَا : أَيْ مِنْ الثِّيَابِ الزُّطِّيَّةِ إلَّا مِنْ عَيْبٍ .
ذَكَّرَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ وَلَمْ يَرَهُ وَغَيْرِهِ نَظَرًا إلَى الْعِدْلِ ، وَأَنَّثَ فِي قَوْلِهِ مِنْهَا نَظَرًا إلَى الثِّيَابِ ، فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ مِنْهُ ثَوْبًا لَمْ يَبْقَ عِدْلًا بَلْ ثِيَابًا مِنْ الْعِدْلِ ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَى عِدْلَ زُطِّيٍّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ فَقَبَضَهُ وَبَاعَ ثَوْبًا مِنْهُ أَوْ وَهَبَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّدَّ تَعَذَّرَ فِيمَا خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ ، وَفِي رَدِّ مَا بَقِيَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ لِأَنَّ الْخِيَارَيْنِ يَمْنَعَانِ تَمَامَهَا كَمَا مَرَّ .
وَأَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَهَا بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَفِيهِ وَضْعُ مُحَمَّدٍ الْمَسْأَلَةَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمَا جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ ( فَلَوْ عَادَ ) الثَّوْبُ الَّذِي بَاعَهُ ( إلَى الْمُشْتَرِي بِسَبَبٍ هُوَ فَسْخٌ ) بِأَنْ رَدَّ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِالْعَيْبِ بِالْقَضَاءِ أَوْ رَجَعَ فِي الْهِبَةِ فَهُوَ أَيْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ أَوْ الْوَاهِبُ عَلَى خِيَارِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَرُدَّ الْكُلَّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لِارْتِفَاعِ الْمَانِعِ مِنْ الْأَصْلِ وَهُوَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ ( كَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ لَا يَعُودُ بَعْدَ سُقُوطِهِ ) لِأَنَّ السَّاقِطَ لَا يَعُودُ ( كَخِيَارِ الشَّرْطِ وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الْقُدُورِيُّ ) .
( بَابُ خِيَارِ الْعَيْبِ ) .
.
( وَإِذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ فِي الْمَبِيعِ ) فَهُوَ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي وَصْفَ السَّلَامَةِ ، فَعِنْدَ فَوْتِهِ يَتَخَيَّرُ كَيْ لَا يَتَضَرَّرَ بِلُزُومِ مَا لَا يَرْضَى بِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ وَيَأْخُذَ النُّقْصَانَ ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فِي مُجَرَّدِ الْعَقْدِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِأَقَلَّ مِنْ الْمُسَمَّى فَيَتَضَرَّرُ بِهِ ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي مُمْكِنٌ بِالرَّدِّ بِدُونِ تَضَرُّرِهِ ، وَالْمُرَادُ عَيْبٌ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ وَلَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْبَيْعِ وَلَا عِنْدَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رِضًا بِهِ .
( بَابُ خِيَارِ الْعَيْبِ ) : أَخَّرَ خِيَارَ الْعَيْبِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ اللُّزُومَ بَعْدَ التَّمَامِ ، وَإِضَافَةُ الْخِيَارِ إلَى الْعَيْبِ مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى سَبَبِهِ .
إذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ فِي الْمَبِيعِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي وَصْفَ السَّلَامَةِ : أَيْ سَلَامَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَنْ الْعَيْبِ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ عَدَّاءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ عَبْدًا وَكَتَبَ فِي عُهْدَتِهِ هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ عَبْدًا لَا دَاءَ وَلَا غَائِلَةَ وَلَا خِبْثَةَ بَيْعَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ } وَتَفْسِيرُ الدَّاءِ فِيمَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَرَضُ فِي الْجَوْفِ وَالْكَبِدِ وَالرِّئَةِ فَإِنَّ الْمَرَضَ مَا يَكُونُ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ وَالدَّاءُ مَا يَكُونُ فِي الْجَوْفِ وَالْكَبِدِ وَالرِّئَةِ .
وَفِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : الدَّاءُ الْمَرَضُ ، وَالْغَائِلَةُ مَا تَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْأَفْعَالِ كَالْإِبَاقِ وَالسَّرِقَةِ ، وَالْخِبْثَةُ هِيَ الِاسْتِحْقَاقُ ، وَقِيلَ هِيَ الْجُنُونُ ، وَفِي هَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمَبِيعِ عَنْ الْعَيْبِ ، وَوَصْفُ السَّلَامَةِ يَفُوتُ بِوُجُودِ الْعَيْبِ ، فَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَتَخَيَّرُ لِأَنَّ الرِّضَا دَاخِلٌ فِي حَقِيقَةِ الْبَيْعِ ، وَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَنْتَفِي الرِّضَا فَيَتَضَرَّرُ بِلُزُومِ مَا لَا يَرْضَى بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : تَقْرِيرُ كَلَامِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْبَيْعِ ، لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ إذَا اقْتَضَى وَصْفَ السَّلَامَةِ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لَهُ ، فَإِذَا فَاتَ اللَّازِمُ انْتَفَى الْمَلْزُومُ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَهُوَ الْعَقْدُ اللَّازِمُ ، وَمِنْ انْتِفَائِهِ لَا يَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْعَقْدِ ( وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ وَيَأْخُذَ النُّقْصَانَ ) لِأَنَّ الْفَائِتَ وَصْفٌ ، إذْ
الْعَيْبُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَا يُوجِبُ فَوَاتَ جُزْءٍ مِنْ الْمَبِيعِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ كَالْعَمَى وَالْعَوَرِ وَالشَّلَلِ وَالزَّمَانَةِ وَالْأُصْبُعِ النَّاقِصَةِ وَالسِّنِّ السَّوْدَاءِ وَالسِّنِّ السَّاقِطَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَا يُوجِبُ النُّقْصَانَ مَعْنًى لَا صُورَةً كَالسُّعَالِ الْقَدِيمِ وَارْتِفَاعِ الْحَيْضِ فِي زَمَانِهِ وَالزِّنَا وَالدَّفَرِ وَالْبَخَرِ فِي الْجَارِيَةِ وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَوَاتُ وَصْفٍ وَالْأَوْصَافُ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ، لِأَنَّ الثَّمَنَ إمَّا أَنْ يُقَابَلَ بِالْوَصْفِ وَالْأَصْلِ أَوْ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي أَوْ بِالْعَكْسِ ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى مُزَاحَمَةِ التَّبَعِ الْأَصْلَ فَتَعَيَّنَ الثَّالِثُ ( قَوْلُهُ فِي مُجَرَّدِ الْعَقْدِ ) احْتِرَازًا عَمَّا إذَا كَانَتْ الْأَوْصَافُ مَقْصُودَةً بِالتَّنَاوُلِ كَمَا تَقَدَّمَ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِهِ ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إمْسَاكِهِ بِأَخْذِ النُّقْصَانِ أَيْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشِهِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ بِأَقَلَّ مِنْ الْمُسَمَّى ، وَفِي إمْسَاكِهِ وَأَخْذِ النُّقْصَانِ زَوَالُهُ بِالْأَقَلِّ فَلَمْ يَكُنْ مَرْضِيَّهُ ، وَعَدَمُ رِضَا الْبَائِعِ بِزَوَالِ الْمَبِيعِ مُنَافٍ لِوُجُودِ الْبَيْعِ فَيَكُونُ إلْزَامًا عَلَى الْبَائِعِ بِلَا بَيْعٍ ، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى ، وَالْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِالْعَيْبِ أَيْضًا لَكِنْ يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ بِرَدِّ الْمَبِيعِ بِدُونِ مَضَرَّةٍ فَلَا ضَرُورَةَ فِي أَخْذِ النُّقْصَانِ .
قِيلَ : الْبَائِعُ إذَا بَاعَ مَعِيبًا فَإِذَا هُوَ سَلِيمٌ الْبَائِعُ يَتَضَرَّرُ لِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ نَقَصَ الثَّمَنُ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مَعِيبٌ وَلَا خِيَارَ لَهُ .
وَعَلَى هَذَا فَالْوَاجِبُ إمَّا شُمُولُ الْخِيَارِ لَهُمَا أَوْ عَدَمُهُ لَهُمَا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَتَصَرُّفِهِ وَمُمَارَسَتِهِ طُولَ زَمَانِهِ فَأُنْزِلَ عَالِمًا بِصِفَةِ مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ وَإِنْ
ظَهَرَ بِخِلَافِهِ .
وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ مَا رَأَى الْمَبِيعَ ، فَلَوْ أَلْزَمْنَا الْعَقْدَ مَعَ الْعَيْبِ تَضَرَّرَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ حَصَلَ لَهُ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ الْعَيْبِ الْمُوجِبِ لِلْخِيَارِ عَيْبٌ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ وَلَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْبَيْعِ وَلَا عِنْدَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ : أَيْ رُؤْيَةَ الْعَيْبِ عِنْدَ إحْدَى الْحَالَيْنِ رِضًا بِالْعَيْبِ دَلَالَةً
قَالَ ( وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ الثَّمَنِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ فَهُوَ عَيْبٌ ) ؛ لِأَنَّ التَّضَرُّرَ بِنُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ ، وَذَلِكَ بِانْتِقَاصِ الْقِيمَةِ وَالْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَتِهِ عُرْفُ أَهْلِهِ .قَالَ ( وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ الثَّمَنِ ) الْعَيْبُ مَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ .
وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ضَابِطَةً كُلِّيَّةً يُعْلَمُ بِهَا الْعُيُوبُ الْمُوجِبَةُ لِلْخِيَارِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فَقَالَ ( وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ الثَّمَنِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ فَهُوَ عَيْبٌ لِأَنَّ التَّضَرُّرَ بِنُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ ) وَنُقْصَانُ الْمَالِيَّةِ ( بِانْتِقَاصِ الْقِيمَةِ ، فَالنَّقْصُ بِانْتِقَاصِ الْقِيمَةِ وَالْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَتِهِ عُرْفُ أَهْلِهِ ) .
( وَالْإِبَاقُ وَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ وَالسَّرِقَةُ فِي الصَّغِيرِ عَيْبٌ مَا لَمْ يَبْلُغْ ، فَإِذَا بَلَغَ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَيْبٍ حَتَّى يُعَاوِدَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ ) وَمَعْنَاهُ : إذَا ظَهَرَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ فِي صِغَرِهِ ثُمَّ حَدَثَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فِي صِغَرِهِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ ذَلِكَ ، وَإِنْ حَدَثَتْ بَعْدَ بُلُوغِهِ لَمْ يَرُدَّهُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ ، فَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ فِي الصِّغَرِ لِضَعْفِ الْمَثَانَةِ ، وَبَعْدَ الْكِبَرِ لِدَاءٍ فِي بَاطِنِهِ ، وَالْإِبَاقُ فِي الصِّغَرِ لِحُبِّ اللَّعِبِ وَالسَّرِقَةُ لِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ ، وَهُمَا بَعْدَ الْكِبَرِ لِخُبْثٍ فِي الْبَاطِنِ ، وَالْمُرَادُ مِنْ الصَّغِيرِ مَنْ يَعْقِلُ ، فَأَمَّا الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَهُوَ ضَالٌّ لَا آبِقٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ عَيْبًا .
قَالَ ( وَالْإِبَاقُ وَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ وَالسَّرِقَةُ عَيْبٌ فِي الصَّغِيرِ ) الَّذِي يَعْقِلُ إذَا أَبَقَ مِنْ مَوْلَاهُ مَا دُونَ السَّفَرِ مِنْ الْمِصْرِ إلَى الْقَرْيَةِ أَوْ بِالْعَكْسِ ، فَذَلِكَ عَيْبٌ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ الْمَنَافِعَ عَلَى الْمَوْلَى ، وَالسَّفَرُ وَمَا دُونَهُ فِيهِ سَوَاءٌ ، فَلَوْ أَبَقَتْ الْجَارِيَةُ مِنْ الْغَاصِبِ إلَى مَوْلَاهَا فَلَيْسَ بِإِبَاقٍ ، وَإِنْ أَبَقَتْ مِنْهُ وَلَمْ تَرْجِعْ إلَى مَوْلَاهَا عَالِمَةً بِمَنْزِلِهِ وَتَقْوَى عَلَى الرُّجُوعِ إلَيْهِ فَهُوَ عَيْبٌ ، وَإِنْ فَاتَ أَحَدُهُمَا فَلَيْسَ بِعَيْبٍ ، وَإِذَا بَالَ فِي الْفِرَاشِ وَهُوَ مُمَيِّزٌ يَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيَشْرَبُ وَحْدَهُ فَكَذَلِكَ ، وَإِذَا سَرَقَ دِرْهَمًا مِنْ مَوْلَاهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ لِإِخْلَالِهَا بِالْمَقْصُودِ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُهُ عَلَى مَالِهِ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُ مَالِهِ عَلَى الدَّوَامِ وَتُقْطَعُ يَدُهُ فِي سَرِقَةِ مَالِ غَيْرِهِ فَيَكُونُ عَيْبًا بِلَا تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الْمَوْلَى وَغَيْرِهِ إلَّا فِي الْمَأْكُولَاتِ لِلْأَكْلِ ، فَإِنْ سَرَقَهَا مِنْ مَوْلَاهَا لَيْسَتْ بِعَيْبٍ ، فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ الصَّغِيرِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي حَالِ صِغَرِهِ فَهُوَ عَيْبٌ يُرَدُّ بِهِ ، وَإِذَا وُجِدَتْ عِنْدَهُمَا فِي حَالِ كِبَرِهِ فَكَذَلِكَ .
وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَ فَكَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ فِي صِغَرِهِ وَعِنْدَ الْمُشْتَرِي فِي كِبَرِهِ فَلَا يُرَدُّ بِهِ لِأَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُخْتَلِفٌ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ .
قَالَ ( وَالْجُنُونُ فِي الصِّغَرِ عَيْبٌ أَبَدًا ) وَمَعْنَاهُ : إذَا جُنَّ فِي الصِّغَرِ فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ عَاوَدَهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِيهِ أَوْ فِي الْكِبَرِ يَرُدُّهُ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْأَوَّلِ ، إذْ السَّبَبُ فِي الْحَالَيْنِ مُتَّحِدٌ وَهُوَ فَسَادُ الْبَاطِنِ ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ الْمُعَاوَدَةَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إزَالَتِهِ وَإِنْ كَانَ قَلَّمَا يَزُولُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُعَاوَدَةِ لِلرَّدِّ .قَالَ ( وَالْجُنُونُ فِي الصِّغَرِ عَيْبٌ أَبَدًا ) مَعْنَاهُ : أَنَّ الْجُنُونَ فَارَقَ الْعُيُوبَ الْمَذْكُورَةَ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْحَالَتَيْنِ ، لِأَنَّ السَّبَبَ فِي الْحَالَتَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ فَسَادُ الْبَاطِنِ ، فَإِذَا جُنَّ فِي يَدِ الْبَائِعِ فِي صِغَرِهِ يَوْمًا أَوْ سَاعَةً ثُمَّ عَاوَدَهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فِي كِبَرِهِ يُرَدُّ بِهِ ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُعَاوَدَةَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِشَرْطٍ كَمَا مَالَ إلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْمُنْتَقَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ آثَارَهُ لَا تَرْتَفِعُ ، وَذَلِكَ تَبَيَّنَ فِي حَمَالِيقِ عَيْنَيْهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إزَالَتِهِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مِنْ أَثَرِهِ شَيْءٌ ، وَالْأَصْلُ فِي الْعَقْدِ اللُّزُومُ فَلَا يَثْبُتُ وِلَايَةُ الرَّدِّ إلَّا بِالْمُعَاوَدَةِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ .
( قَالَ : وَالْبَخَرُ وَالدَّفْرُ عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ يَكُونُ الِاسْتِفْرَاشَ وَطَلَبَ الْوَلَدِ وَهُمَا يُخِلَّانِ بِهِ ، وَلَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْغُلَامِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِاسْتِخْدَامُ وَلَا يُخِلَّانِ بِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ دَاءٍ ؛ لِأَنَّ الدَّاءَ عَيْبٌ ( وَالزِّنَا وَوَلَدُ الزِّنَا عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ دُونَ الْغُلَامِ ) ؛ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ فِي الْجَارِيَةِ وَهُوَ الِاسْتِفْرَاشُ وَطَلَبُ الْوَلَدِ ، وَلَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ فِي الْغُلَامِ وَهُوَ الِاسْتِخْدَامُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الزِّنَا عَادَةً لَهُ عَلَى مَا قَالُوا ؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَهُنَّ يُخِلُّ بِالْخِدْمَةِ .قَالَ ( وَالدَّفَرُ وَالْبَخَرُ عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ ) الدَّفَرُ : رَائِحَةٌ مُؤْذِيَةٌ تَجِيءُ مِنْ الْإِبِطِ ، وَالذَّفَرُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ : شِدَّةُ الرَّائِحَةِ طَيِّبَةً كَانَتْ أَوْ كَرِيهَةً ، وَمِنْهُ مِسْكٌ أَذْفَرُ وَإِبِطٌ دَفْرَاءُ وَهُوَ مُرَادُ الْفُقَهَاءِ مِنْ قَوْلِهِمْ الدَّفَرُ عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ ، وَهَكَذَا فِي الرِّوَايَةِ .
وَالْبَخَرُ : نَتْنُ رَائِحَةِ الْفَمِ ، كُلٌّ مِنْهَا عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ لِلْإِخْلَالِ بِمَا عَسَى يَكُونُ مَقْصُودًا وَهُوَ الِاسْتِفْرَاشُ ، وَلَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْغُلَامِ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْخِدْمَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا لَا يَكُونُ فِي النَّاسِ مِثْلُهُ .
لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مِنْ دَاءٍ وَالدَّاءُ نَفْسُهُ يَكُونُ عَيْبًا ، وَالزِّنَا وَوَلَدُ الزِّنَا عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ دُونَ الْغُلَامِ ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُخِلُّ بِالِاسْتِفْرَاشِ وَالثَّانِي بِطَلَبِ الْوَلَدِ ، فَإِنَّ الْوَلَدَ يُعَيَّرُ بِزِنَا أُمِّهِ وَلَيْسَا بِمُخِلَّيْنِ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ الْغُلَامِ وَهُوَ الِاسْتِخْدَامُ ، إلَّا أَنْ يَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى مَا قَالَ الْمَشَايِخُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ عَادَةً وَيُحْتَاجُ إلَى اتِّبَاعِهِنَّ وَهُوَ مُخِلٌّ بِالْخِدْمَةِ .
قَالَ ( وَالْكُفْرُ عَيْبٌ فِيهِمَا ) ؛ لِأَنَّ طَبْعَ الْمُسْلِمِ يَنْفِرُ عَنْ صُحْبَتِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ صَرْفُهُ فِي بَعْضِ الْكَفَّارَاتِ فَتَخْتَلُّ الرَّغْبَةُ ، فَلَوْ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ فَوَجَدَهُ مُسْلِمًا لَا يَرُدُّهُ ؛ لِأَنَّهُ زَوَالُ الْعَيْبِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَرُدُّهُ ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْمُسْلِمُ ، وَفَوَاتُ الشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ .قَالَ ( وَالْكُفْرُ عَيْبٌ فِيهِمَا ) الْكُفْرُ عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ لِأَنَّ طَبْعَ الْمُسْلِمِ يَنْفِرُ عَنْ صُحْبَتِهِ ، وَالنُّفْرَةُ عَنْ الصُّحْبَةِ تُؤَدِّي إلَى قِلَّةِ الرَّغْبَةِ وَهِيَ تُؤَثِّرُ فِي نُقْصَانِ الثَّمَنِ فَيَكُونُ عَيْبًا ، وَلِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَرْفَهُ عَنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَعَنْ كَفَّارَتَيْ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ عِنْدَ بَعْضٍ فَيُخِلُّ بِالرَّغْبَةِ ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَوَجَدَهُ كَافِرًا فَلَا شُبْهَةَ فِي الرَّدِّ ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ فَوَجَدَهُ مُسْلِمًا لَمْ يُرَدَّ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ زَوَالُ الْعَيْبِ وَزَوَالُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إيَّاهُ ، كَمَا إذَا اشْتَرَى مَعِيبًا فَإِذَا هُوَ سَلِيمٌ ، فَعَلَى هَذَا ذَكَرَ الْكُفْرَ فِيمَا اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ لِلْبَرَاءَةِ عَنْ عَيْبِ الْكُفْرِ لَا لِلشَّرْطِ بِأَنْ يُوجَدَ فِيهِ هَذَا الْوَصْفُ الْقَبِيحُ لَا مَحَالَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُرَدُّ بِهِ لِأَنَّهُ فَاتَ شَرْطٌ مَرْغُوبٌ ، لِأَنَّ الْأَوْلَى بِالْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَعْبِدَ الْكَافِرَ وَكَانَ السَّلَفُ يَسْتَعْبِدُونَ الْعُلُوجَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ رَاجِعٌ إلَى الدِّيَانَةِ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ .
( قَالَ : فَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَالِغَةً لَا تَحِيضُ أَوْ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ فَهُوَ عَيْبٌ ) ؛ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الدَّمِ وَاسْتِمْرَارَهُ عَلَامَةُ الدَّاءِ ، وَيُعْتَبَرُ فِي الِارْتِفَاعِ أَقْصَى غَايَةِ الْبُلُوغِ وَهُوَ سَبْعَ عَشَرَةَ سَنَةً فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِقَوْلِ الْأَمَةِ فَتُرَدُّ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ نُكُولُ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
فَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَالِغَةً لَا تَحِيضُ بِأَنْ ارْتَفَعَ عَنْهَا فِي أَقْصَى غَايَةِ الْبُلُوغِ وَهُوَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً فِيهَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَادَّعَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فِيمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَوْ سَنَتَيْنِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهَا لَمْ تَحِضْ لِحَبَلٍ بِهَا أَوْ لِدَاءٍ كَانَ ذَلِكَ عَيْبًا تُرَدُّ بِهِ ، وَالْمَرْجِعُ فِي الْحَبَلِ قَوْلُ النِّسَاءِ .
وَيُكْتَفَى بِقَوْلِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي حَقِّ سَمَاعِ الْخُصُومَةِ ، وَفِي الدَّاءِ قَوْلُ الْأَطِبَّاءِ يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ عَدْلَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو الْمُعِينِ : يَكْفِي قَوْلُ عَدْلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ .
وَقَيَّدْنَا بِأَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ ، لِأَنَّهُ إذَا ادَّعَى فِي مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ لَا يَلْزَمُ الْقَاضِيَ الْإِصْغَاءُ إلَى ذَلِكَ ، وَبِأَنْ تَكُونَ دَعْوَاهُ مُشْتَمِلَةً عَلَى انْضِمَامِ الْحَبَلِ إلَى انْقِطَاعِ الْحَيْضِ ، أَوْ عَلَى انْضِمَامِ الدَّاءِ إلَيْهِ لِأَنَّ الِارْتِفَاعَ بِدُونِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَا يُعَدُّ عَيْبًا ، وَكَذَا إذَا بَلَغَتْ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ وَحَاضَتْ وَلَمْ يَنْقَطِعْ كَانَ ذَلِكَ عَيْبًا ، لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الدَّمِ وَاسْتِمْرَارَهُ عَلَامَةُ الدَّاءِ ، لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الَّتِي خُلِقَتْ عَلَى السَّلَامَةِ الْحَيْضُ فِي أَوَانِهِ وَالْمُعَاوَدَةُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَدُومُ ، فَإِذَا جَاوَزَتْ أَقْصَى الْعَدَدِ وَهُوَ سَبْعَةَ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَمْ تَحِضْ أَوْ حَاضَتْ وَلَمْ يَنْقَطِعْ كَانَ ذَلِكَ لِدَاءٍ فِي بَطْنِهَا وَالدَّاءُ عَيْبٌ ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ : أَيْ الِارْتِفَاعُ وَالِاسْتِمْرَارُ بِقَوْلِ الْأَمَةِ ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ ذَلِكَ لَا تُرَدُّ عَلَيْهِ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَلَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْأَمَةِ وَحْدَهَا فَيُسْتَحْلَفُ الْبَائِعُ ، فَإِنْ نَكَلَ تُرَدُّ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِيمَا لَا
يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مَقْبُولَةٌ فِي تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ فَقَطْ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تُرَدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ بِقَوْلِ الْأَمَةِ وَبِشَهَادَةِ النِّسَاءِ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَتَأَكَّدْ فَجَازَ أَنْ يُفْسَخَ بِشَهَادَتِهِنَّ
( قَالَ : وَإِذَا حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِيَ عَيْبٌ فَاطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ وَلَا يَرُدُّ الْمَبِيعَ ) ؛ لِأَنَّ فِي الرَّدِّ إضْرَارًا بِالْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ سَالِمًا ، وَيَعُودُ مَعِيبًا فَامْتَنَعَ ، وَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ فَتَعَيَّنَ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِعَيْبِهِ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالضَّرَرِ .( قَالَ : وَإِذَا حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ ) إذَا حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ بِأَنْ يُقَوَّمَ الْمَبِيعُ سَلِيمًا عَنْ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ وَمَعِيبًا بِهِ فَمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنْ عُشْرٍ أَوْ ثُمُنٍ أَوْ سُدُسٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ ( وَلَا يُرَدُّ الْمَبِيعُ لِأَنَّ فِي الرَّدِّ إضْرَارًا بِالْبَائِعِ ) بِخُرُوجِ الْمَبِيعِ مِنْ مِلْكِهِ سَلِيمًا مِنْ الْعَيْبِ الْحَادِثِ وَعَوْدِهِ إلَيْهِ مَعِيبًا بِهِ وَالْإِضْرَارُ مُمْتَنِعٌ ( وَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ ) أَيْ عَنْ الْبَائِعِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ أَيْضًا يَتَضَرَّرُ بِالْمَعِيبِ ، لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ ، وَالرُّجُوعُ طَرِيقٌ صَالِحٌ لِلدَّفْعِ فَتَعَيَّنَ مِدْفَعًا ، إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِعَيْبِهِ الْحَادِثِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالضَّرَرِ ، وَالرِّضَا إسْقَاطٌ لِحَقِّهِ كَمَا أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْضَى أَنْ يَأْخُذَهُ بِعَيْبِهِ الْقَدِيمِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَيْنَ قَوْلُكُمْ الْأَوْصَافُ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهَا إذَا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالتَّنَاوُلِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا كَانَ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ ، وَهَاهُنَا كَذَلِكَ كَمَا مَرَّ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَطَعَهُ فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا رَجَعَ بِالْعَيْبِ ) ؛ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ الرَّدُّ بِالْقَطْعِ فَإِنَّهُ عَيْبٌ حَادِثٌ ( فَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ : أَنَا أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّهِ وَقَدْ رَضِيَ بِهِ ( فَإِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ ) ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ بِرِضَا الْبَائِعِ فَيَصِيرُ هُوَ بِالْبَيْعِ حَابِسًا لِلْمَبِيعِ فَلَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ ( فَإِنْ قَطَعَ الثَّوْبَ وَخَاطَهُ أَوْ صَبَغَهُ أَحْمَرَ ، أَوْ لَتَّ السَّوِيقَ بِسَمْنٍ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ رَجَعَ بِنُقْصَانِهِ ) لِامْتِنَاعِ الرَّدِّ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى الْفَسْخِ فِي الْأَصْلِ بِدُونِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ ، وَلَا وَجْهَ إلَيْهِ مَعَهَا ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ فَامْتَنَعَ أَصْلًا ( وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَهُ ) ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّ الشَّرْعِ لَا لِحَقِّهِ ( فَإِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَمَا رَأَى الْعَيْبَ رَجَعَ بِالنُّقْصَانِ ) لِأَنَّ الرَّدَّ مُمْتَنِعٌ أَصْلًا قَبْلَهُ فَلَا يَكُونُ بِالْبَيْعِ حَابِسًا لِلْمَبِيعِ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَطَعَهُ ) وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَطَعَهُ ( فَوَجَدَهُ مَعِيبًا رَجَعَ بِالْعَيْبِ لِامْتِنَاعِ الرَّدِّ بِالْقَطْعِ ) الَّذِي هُوَ عَيْبٌ حَادِثٌ .
لَا يُقَالُ : الْبَائِعُ يَتَضَرَّرُ بِرَدِّهِ مَعِيبًا وَالْمُشْتَرِي بِعَدَمِ رَدِّهِ ، فَكَانَ الْوَاجِبُ تَرْجِيحَ جَانِبِ الْمُشْتَرِي فِي دَفْعِ الضَّرَرِ لِأَنَّ الْبَائِعَ غَرَّهُ بِتَدْلِيسِ الْعَيْبِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : الْمَعْصِيَةُ لَا تَمْنَعُ عِصْمَةَ الْمَالِ كَالْغَاصِبِ إذَا صَبَغَ الْمَغْصُوبَ فَكَانَ فِي شَرْعِ الرُّجُوعِ بِالْعَيْبِ نَظَرٌ لَهُمَا ، وَفِي إلْزَامِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ إضْرَارٌ لِلْبَائِعِ لَا لِفِعْلٍ بَاشَرَهُ ، وَفِي عَدَمِ الرَّدِّ وَإِنْ كَانَ إضْرَارًا بِالْمُشْتَرِي لَكِنْ لِعَجْزِهِ بِمَا بَاشَرَهُ فَكَانَا سَوَاءً فَاعْتُبِرَ مَا هُوَ أَنْظَرُ لَهُمَا ، إلَّا إذَا قَالَ الْبَائِعُ أَنَا أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ فَإِنَّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ الرَّدِّ كَانَ لِحَقِّهِ وَقَدْ رَضِيَ بِهِ فَكَانَ إسْقَاطًا لِحَقِّهِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا اشْتَرَى بَعِيرًا فَنَحَرَهُ فَلَمَّا شَقَّ بَطْنَهُ وَجَدَ أَمْعَاءَهُ فَاسِدَةً فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ النَّحْرَ إفْسَادٌ لِلْمَالِيَّةِ لِصَيْرُورَةِ الْبَعِيرِ بِهِ عُرْضَةً لِلنَّتْنِ وَالْفَسَادِ ، وَلِهَذَا لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ بِسَرِقَتِهِ فَيَخْتَلُّ مَعْنَى قِيَامِ الْمَبِيعِ ، فَإِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي يَعْنِي بَعْدَ الْقَطْعِ ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ جَازَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ كُنْت أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ الرَّدُّ مُمْتَنِعًا بِرِضَا الْبَائِعِ ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَصِيرُ بِالْعَيْبِ حَابِسًا الْمَبِيعَ وَلَا رُجُوعَ بِالنُّقْصَانِ إذْ ذَاكَ لِإِمْكَانِ رَدِّ الْمَبِيعِ وَأَخْذِ الثَّمَنِ لَوْلَا الْبَيْعُ ، وَلَوْ قَطَعَ الثَّوْبَ وَخَاطَهُ أَوْ صَبَغَهُ أَحْمَرَ أَوْ لَتَّ السَّوِيقَ بِسَمْنٍ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ لِأَنَّ الرَّدَّ قَدْ
امْتَنَعَ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ ، لِأَنَّ الْفَسْخَ إمَّا أَنْ يَرِدَ عَلَى الْأَصْلِ بِدُونِ الزِّيَادَةِ أَوْ عَلَيْهِ مَعَهَا وَلَا سَبِيلَ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ وَالْفَسْخُ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى مَحَلِّ الْعَقْدِ وَالِامْتِنَاعُ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ فِي حَقِّ الشَّرْعِ لِكَوْنِهِ رِبًا فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقُولَ أَنَا آخُذُهُ فَتَعَيَّنَ الرُّجُوعُ بِالْعَيْبِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ .
وَلَا يُشْكِلُ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ الْبَيْعِ كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ فِي الزِّيَادَةِ مُمْكِنٌ تَبَعًا لِلْأَصْلِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ هُنَا تَمَحَّضَتْ تَبَعًا لِلْأَصْلِ بِاعْتِبَارِ التَّوَلُّدِ .
بِخِلَافِ الصَّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الزِّيَادَةَ إمَّا مُتَّصِلَةٌ أَوْ مُنْفَصِلَةٌ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْمَبِيعِ أَوْ غَيْرُ مُتَوَلِّدَةٍ .
فَالْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنْ الْمَبِيعِ كَالْجَمَالِ وَالْحُسْنِ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَغَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَالصَّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ تَمْنَعُ عَنْهُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ تَمْنَعُ مِنْهُ لِمَا مَرَّ مِنْ التَّعْلِيلِ ، وَغَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَالْكَسْبِ لَا تَمْنَعُ ، لَكِنَّ طَرِيقَ ذَلِكَ أَنْ يُفْسَخَ الْعَقْدُ فِي الْأَصْلِ دُونَ الزِّيَادَةِ وَتُسَلَّمُ الزِّيَادَةُ لِلْمُشْتَرِي مَجَّانًا ، بِخِلَافِ الْوَلَدِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْكَسْبَ لَيْسَ بِمَبِيعٍ بِحَالٍ مَا لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ الْمَنَافِعِ ، وَالْمَنَافِعُ غَيْرُ الْأَعْيَانِ وَلِهَذَا كَانَتْ مَنَافِعُ الْحُرَّةِ مَالًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحُرُّ مَالًا وَالْوَلَدُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْمَبِيعِ فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْمَبِيعِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُسَلَّمَ لَهُ مَجَّانًا لِمَا فِيهِ مِنْ الرِّبَا ، فَإِنْ بَاعَ الْمُشْتَرِي الثَّوْبَ الْمَخِيطَ أَوْ الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ بِالْحُمْرَةِ أَوْ
السَّوِيقَ الْمَلْتُوتَ بِالسَّمْنِ بَعْدَ مَا رَأَى الْعَيْبَ رَجَعَ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ الرَّدَّ كَانَ مُمْتَنِعًا قَبْلَ الْبَيْعِ فَلَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْبَيْعِ حَابِسًا بِالْمَبِيعِ ، وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ قَبْلَ الْخِيَاطَةِ كَانَ حَابِسًا ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الْمَبِيعُ قَائِمًا فِيهِ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَيُمْكِنُهُ الرَّدُّ بِرِضَا الْبَائِعِ ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ لَا يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الْمَبِيعُ قَائِمًا فِيهِ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَيُمْكِنُهُ الرَّدُّ وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْبَائِعُ ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ
وَعَنْ هَذَا ( قُلْنَا : إنَّ مَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَطَعَهُ لِبَاسًا لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَخَاطَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ لَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ ، وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ كَبِيرًا يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ حَصَلَ فِي الْأَوَّلِ قَبْلَ الْخِيَاطَةِ ، وَفِي الثَّانِيَ بَعْدَهَا بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ ) .( وَعَنْ هَذَا ) أَيْ عَمَّا قُلْنَا إنَّ الْمُشْتَرِيَ مَتَى كَانَ حَابِسًا لِلْمَبِيعِ لَا يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وَمَتَى لَمْ يَكُنْ حَابِسًا يَرْجِعُ ( قُلْنَا : إنَّ مَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَطَعَهُ لِبَاسًا لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَخَاطَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ لَمْ يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ ) لِأَنَّ التَّمْلِيكَ حَصَلَ قَبْلَ الْخِيَاطَةِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَطَعَهُ لِبَاسًا لَهُ كَانَ وَاهِبًا لَهُ وَقَابِضًا لِأَجَلِهِ فَتَتِمُّ الْهِبَةُ بِنَفْسِ الْإِيجَابِ وَقَامَتْ يَدُهُ مَقَامَ يَدِ الصَّغِيرِ .
فَالْقَطْعُ عَيْبٌ حَادِثٌ وَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَقُولَ أَنَا أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ ، لَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْقَطْعَ لِلْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَهُوَ تَمْلِيكٌ لَهُ صَارَ حَابِسًا لِلْمَبِيعِ فَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ بِالْعَيْبِ ، وَهَذِهِ نَظِيرُ مَا إذَا بَاعَ بَعْدَ الْقَطْعِ قَبْلَ الْخِيَاطَةِ ، وَعَلَى هَذَا ذَكَرَ الْخِيَاطَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهَا بِمُقَابَلَةِ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ ( وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ كَبِيرًا رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ ) لِأَنَّ الْقَطْعَ عَيْبٌ حَادِثٌ ، فَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِالْعَيْبِ وَبِالْخِيَاطَةِ امْتَنَعَ الرُّجُوعُ حَقًّا لِلشَّرْعِ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ ، فَبِالتَّمْلِيكِ وَالتَّسْلِيمِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ حَابِسًا لِلْمَبِيعِ لِامْتِنَاعِ الرَّدِّ قَبْلَهُ ، وَهَذِهِ نَظِيرُ مَا إذَا بَاعَهُ بَعْدَ الْخِيَاطَةِ وَالصَّبْغِ وَاللَّتِّ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ أَوْ مَاتَ عِنْدَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ رَجَعَ بِنُقْصَانِهِ ) أَمَّا الْمَوْتُ ؛ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَهِي بِهِ وَالِامْتِنَاعُ حُكْمِيٌّ لَا يَفْعَلُهُ ، وَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ لَا يَرْجِعَ ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ بِفِعْلِهِ فَصَارَ كَالْقَتْلِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ إنْهَاءُ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَا خُلِقَ فِي الْأَصْلِ مَحَلًّا لِلْمِلْكِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ مُوَقَّتًا إلَى الْإِعْتَاقِ فَكَانَ إنْهَاءً فَصَارَتْ كَالْمَوْتِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَتَقَرَّرُ بِانْتِهَائِهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ وَالرَّدَّ مُتَعَذِّرٌ .
وَالتَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ بِمَنْزِلَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ النَّقْلُ مَعَ بَقَاءِ الْمَحَلِّ بِالْأَمْرِ الْحُكْمِيِّ ( وَإِنْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ ) لِأَنَّهُ حَبَسَ بَدَلَهُ وَحَبْسُ الْبَدَلِ كَحَبْسِ الْمُبْدَلِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّهُ إنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ وَإِنْ كَانَ بِعِوَضٍ .
قَالَ : وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ ) اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ ( أَوْ مَاتَ عِنْدَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ أَمَّا الْمَوْتُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَهِي بِهِ ) أَيْ يَتِمُّ ، وَكُلُّ مَا انْتَهَى فَقَدْ لَزِمَ لِامْتِنَاعِ الرَّدِّ حِينَئِذٍ ، وَفِيهِ إضْرَارٌ لِلْمُشْتَرِي بِمَا لَيْسَ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الْمَوْتُ فَيَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ ( وَالِامْتِنَاعُ حُكْمِيٌّ لَا بِفِعْلِهِ ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِامْتِنَاعَ إذَا كَانَ بِفِعْلِهِ لَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ وَهُوَ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ أَحْمَرَ فَإِنَّهُ امْتَنَعَ الرَّدُّ بِفِعْلِهِ وَيُوجِبُ الرُّجُوعَ بِالْعَيْبِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ هُنَاكَ بِسَبَبِ وُجُودِ زِيَادَةٍ فِي الْمَبِيعِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَكَانَ الِامْتِنَاعُ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَهُوَ شُبْهَةُ الرِّبَا .
وَرُدَّ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ : وَالِامْتِنَاعُ حُكْمِيٌّ لَا يَفْعَلُهُ الَّذِي لَا يُوجِبُ الزِّيَادَةَ ، وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ فِي الْجَوَابِ عَدَمُ الرَّدِّ فِي الصَّبْغِ بِمَا حَصَلَ مِنْ فِعْلِهِ مِنْ وُجُودِ الزِّيَادَةِ فِي الْمَبِيعِ لَا بِفِعْلِهِ ، وَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ لَا يَرْجِعَ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ بِفِعْلِهِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ ، لِأَنَّهُ لَمَّا اكْتَسَبَ بِسَبَبِ تَعَذُّرِ الرَّدِّ كَانَ حَابِسًا حُكْمًا فَكَأَنَّهُ فِي يَدِهِ يَحْبِسُهُ وَيُرِيدُ الرُّجُوعَ فَصَارَ كَالْقَتْلِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : يَرْجِعُ لِأَنَّ الْعِتْقَ إنْهَاءُ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَا خَلَفَ فِي الْأَصْلِ مَحَلًّا لِلْمِلْكِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ مُوَقَّتًا إلَى وَقْتِ الْإِعْتَاقِ وَالْمُوَقَّتُ إلَى وَقْتٍ يَنْتَهِي بِانْتِهَائِهِ ، فَكَانَ الْإِعْتَاقُ إنْهَاءً كَالْمَوْتِ ( قَوْلُهُ وَهَذَا ) أَيْ جَوَازُ الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَتَقَرَّرُ بِانْتِهَائِهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ وَالرَّدُّ فَصَارَ حَابِسًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَلَاءَ يَثْبُتُ بِالْعِتْقِ وَالْوَلَاءُ أَثَرٌ
مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ فَبَقَاؤُهُ كَبَقَاءِ أَصْلِ الْمِلْكِ ( وَالتَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ ) لِأَنَّ النَّقْلَ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ تَعَذَّرَ بِالرَّدِّ بِالْأَمْرِ الْحُكْمِيِّ مَعَ بَقَاءِ الْمَحَلِّ وَالْمِلْكِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَكُونَانِ كَالْإِعْتَاقِ وَهُوَ مِنْهُ دُونَهُمَا فَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِنْهَاءَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِتَقْرِيرِ الْمِلْكِ بِجَعْلِ مَا لَمْ يَكُنْ كَائِنًا ، وَهَاهُنَا مُتَقَرِّرٌ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ ( وَإِنْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ ) أَوْ كَاتَبَهُ
( فَإِنْ قَتَلَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ أَوْ كَانَ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَمَّا الْقَتْلُ فَالْمَذْكُورُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَرْجِعُ ) لِأَنَّ قَتْلَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ دُنْيَاوِيٌّ فَصَارَ كَالْمَوْتِ حَتْفَ أَنْفِهِ فَيَكُونُ إنْهَاءً .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يُوجَدُ إلَّا مَضْمُونًا ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ هَاهُنَا بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَفِيدِ بِهِ عِوَضًا ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ لَا مَحَالَةً كَإِعْتَاقِ الْمُعْسِرِ عَبْدًا مُشْتَرَكًا ، وَأَمَّا الْأَكْلُ فَعَلَى الْخِلَافِ ، فَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ وَعِنْدَهُ لَا يَرْجِعُ اسْتِحْسَانًا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا لَبِسَ الثَّوْبَ حَتَّى تَخَرَّقَ لَهُمَا أَنَّهُ صَنَعَ فِي الْمَبِيعِ مَا يُقْصَدُ بِشِرَائِهِ وَيُعْتَادُ فِعْلُهُ فِيهِ فَأَشْبَهَ الْإِعْتَاقَ .
وَلَهُ أَنَّهُ تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ مِنْهُ فِي الْمَبِيعِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَالْقَتْلَ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِكَوْنِهِ مَقْصُودًا ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْبَيْعَ مِمَّا يُقْصَدُ بِالشِّرَاءِ ثُمَّ هُوَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ ، فَإِنْ أَكَلَ بَعْضَ الطَّعَامِ ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ فَكَذَا الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَصَارَ كَبَيْعِ الْبَعْضِ ، وَعِنْدَهُمَا أَنَّهُ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِي الْكُلِّ ، وَعَنْهُمَا أَنَّهُ يَرُدُّ مَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ .
( لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ ) لِأَنَّهُ حَبَسَ بَدَلَهُ ، وَحَبْسُ الْبَدَلِ كَحَبْسِ الْمُبْدَلِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَرْجِعُ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إنْهَاءُ الْمِلْكِ وَإِنْ كَانَ بِعِوَضٍ لِأَنَّ الْمَالَ فِيهِ لَيْسَ بِأَمْرٍ أَصْلِيٍّ بَلْ مِنْ الْعَوَارِضِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ بِهِ ، وَإِنْ قَتَلَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمَبِيعَ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ لَمْ يَرْجِعْ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ ، وَذَكَرَ فِي الْيَنَابِيعِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَهُ لِأَنَّ قَتْلَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ دُنْيَوِيٌّ يُفِيدُ بَدَلًا كَالْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فَصَارَ كَالْمَوْتِ بِمَرَضٍ عَلَى فِرَاشِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يُوجَدُ إلَّا مَضْمُونًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ دَمٌ مُفَرَّجٌ } أَيْ مُبْطَلٌ ، وَسُقُوطُ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ عَنْ الْمَوْلَى فِي قَتْلِ عَبْدِهِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ فَصَارَ كَالْمُسْتَفِيدِ بِالْمِلْكِ عِوَضًا ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلضَّمَانِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ مُطْلَقًا لِعَدَمِ نُفُوذِهِ ، وَمِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إذَا كَانَ مُعْسِرًا فَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْ الضَّمَانِ فَلَمْ يَصِرْ بِهِ مُسْتَقْضِيًا فَيَمْنَعُ الرُّجُوعَ ، وَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ طَعَامًا فَأَكَلَهُ أَوْ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ حَتَّى تَخَرَّقَ لَا يَرْجِعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا ، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ فَعَلَ بِالْمَبِيعِ مَا يُقْصَدُ بِشِرَائِهِ وَيُعْتَادُ فِعْلُهُ فِيهِ فَأَشْبَهَ الْإِعْتَاقَ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الرَّدَّ تَعَذَّرَ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ مِنْ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ كَمَا إذَا بَاعَ أَوْ قَتَلَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَكْلَ وَاللُّبْسَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ، وَبِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ عِوَضٍ سُلِّمَ لَهُ .
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِكَوْنِهِ مَقْصُودًا لِأَنَّ الْبَيْعَ مِمَّا يُقْصَدُ
بِالشِّرَاءِ ثُمَّ هُوَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ أَكَلَ بَعْضَهُ ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ ، فَكَذَا الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الطَّعَامَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَصَارَ كَبَيْعِ الْبَعْضِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِي الْكُلِّ لِأَنَّ الطَّعَامَ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَلَا يُرَدُّ بَعْضُهُ بِالْعَيْبِ وَأَكْلُ الْكُلِّ عِنْدَهُمَا لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالْعَيْبِ فَأَكْلُ الْبَعْضِ أَوْلَى .
وَفِي رِوَايَةٍ : يُرَدُّ مَا بَقِيَ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الرَّدِّ فِي الْبَعْضِ كَمَا قَبَضَهُ وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِيمَا أَكَلَهُ .
وَفِي بَيْعِ الْبَعْضِ عَنْهُمَا رِوَايَتَانِ : فِي إحْدَاهُمَا لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا لِأَنَّ الطَّعَامَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَبَيْعُ الْبَعْضِ فِيهِ كَبَيْعِ الْكُلِّ .
وَفِي الْأُخْرَى يُرَدُّ مَا بَقِيَ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ وَلَكِنْ لَا يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِيمَا بَاعَ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ .
( قَالَ : وَمَنْ اشْتَرَى بَيْضًا أَوْ بِطِّيخًا أَوْ قِثَّاءً أَوْ خِيَارًا أَوْ جَوْزًا فَكَسَرَهُ فَوَجَدَهُ فَاسِدًا فَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ رَجَعَ بِالثَّمَنِ كُلُّهُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْجَوْزِ صَلَاحُ قِشْرِهِ عَلَى مَا قِيلَ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ بِاعْتِبَارِ اللُّبِّ ( وَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ مَعَ فَسَادِهِ لَمْ يَرُدَّهُ ) ؛ لِأَنَّ الْكَسْرَ عَيْبٌ حَادِثٌ ( وَ ) لَكِنَّهُ ( يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ ) دَفْعًا لِلضَّرَرِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَرُدُّهُ ؛ لِأَنَّ الْكَسْرَ بِتَسْلِيطِهِ .
قُلْنَا : التَّسْلِيطُ عَلَى الْكَسْرِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي لَا فِي مِلْكِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ ، وَلَوْ وَجَدَ الْبَعْضَ فَاسِدًا وَهُوَ قَلِيلٌ جَازَ الْبَيْعُ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ قَلِيلٍ فَاسِدٍ .
وَالْقَلِيلُ مَا لَا يَخْلُو عَنْهُ الْجَوْزُ عَادَةً كَالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ فِي الْمِائَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْفَاسِدُ كَثِيرًا لَا يَجُوزُ وَيَرْجِعُ بِكُلِّ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ فَصَارَ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى بَيْضًا أَوْ بِطِّيخًا ) إذَا اشْتَرَى بَيْضًا أَوْ بِطِّيخًا ( أَوْ قِثَّاءً أَوْ جَوْزًا ) أَوْ شَيْئًا مِنْ الْفَوَاكِهِ ( فَكَسَرَهُ ) غَيْرَ عَالِمٍ بِعَيْبِهِ ( فَوَجَدَ الْكُلَّ فَاسِدًا ) بِأَنْ كَانَ مُنْتِنًا أَوْ مُرًّا أَوْ خَالِيًا بِحَيْثُ لَا يَصْلُحُ لِأَكْلِ النَّاسِ وَلَا لِعَلَفِ الدَّوَابِّ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَمَا ذَاقَهُ ( فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ ) لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِالْكَسْرِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ إذْ الْمَالُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ إمَّا فِي الْحَالِ وَإِمَّا فِي الْمَآلِ وَالْمَذْكُورُ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَتَفَطَّنْ مِنْ الْقُيُودِ بِأَضْدَادِهَا ، فَإِنَّهُ إذَا كَسَرَهُ عَالِمًا بِعَيْبِهِ صَارَ رَاضِيًا .
وَإِذَا صَلَحَ لِأَكْلِ بَعْضِ النَّاسِ أَوْ الدَّوَابِّ أَوْ وَجَدَهُ قَلِيلَ اللُّبِّ كَانَ مِنْ الْعُيُوبِ لَا مِنْ الْفَسَادِ ، وَإِنْ تَنَاوَلَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَمَا ذَاقَهُ صَارَ رَاضِيًا ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَالًا لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ فَيَكُونُ بَاطِلًا .
فَإِنْ قِيلَ : التَّعْلِيلُ صَحِيحٌ فِي الْبَيْضِ لِأَنَّ قِشْرَهُ لَا قِيمَةَ لَهُ ، وَأَمَّا الْجَوْزُ فَرُبَّمَا يَكُونُ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ فِي مَوْضِعٍ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحَطَبِ لِعِزَّتِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ صَحِيحًا فِي الْقِشْرِ بِحِصَّتِهِ لِمُصَادَفَتِهِ الْمَحَلِّ وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّةِ اللُّبِّ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ مَشَايِخِنَا .
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْجَوْزِ صَلَاحُ قِشْرِهِ عَلَى مَا قِيلَ ، لِأَنَّ مَالِيَّةَ الْجَوْزِ قَبْلَ الْكَسْرِ بِاعْتِبَارِ اللُّبِّ دُونَ الْقِشْرِ ، وَإِذَا كَانَ اللُّبُّ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لَمْ يُوجَدْ مَحَلُّ الْبَيْعِ فَيَقَعُ بَاطِلًا فَيُرَدُّ الْقِشْرُ وَيَرْجِعُ بِكُلِّ الثَّمَنِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ بَيْضَ النَّعَامَةِ فَوَجَدَهَا بِالْكَسْرِ مَذِرَةً ذَكَرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ ، وَهَذَا الْفَصْلُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ مَالِيَّةَ بَيْضِ النَّعَامَةِ قَبْلَ الْكَسْرِ بِاعْتِبَارِ الْقِشْرِ
وَمَا فِيهِ جَمِيعًا ، وَإِذَا كَانَ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ لَمْ يَرُدَّهُ لِتَعَيُّبِهِ بِالْكَسْرِ الْحَادِثِ لَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَرُدُّهُ لِأَنَّ الْكَسْرَ وَإِنْ كَانَ عَيْبًا حَادِثًا لَكِنَّهُ بِتَسْلِيطِهِ .
قُلْنَا : التَّسْلِيطُ عَلَى الْكَسْرِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي لَا فِي مِلْكِ الْبَائِعِ لِأَنَّ بِالْبَيْعِ لَمْ يَبْقَ مِلْكُهُ فَلَمْ يَكُنْ التَّسْلِيطُ إلَّا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي ، وَذَلِكَ هَدَرٌ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ مَعِيبًا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ حَصَلَ التَّسْلِيطُ مِنْهُ لِكَوْنِهِ هَدَرًا ، وَلَوْ وَجَدَ الْبَعْضَ فَاسِدًا فَالْفَاسِدُ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا كَاثْنَيْنِ فِي الْمِائَةِ أَوْ كَثِيرًا كَمَا فَوْقَهُ .
فَفِي الْأَوَّلِ جَازَ الْبَيْعُ اسْتِحْسَانًا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْبَائِعَ لِأَجْلِهِ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْعَقْدِ الظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِ الرِّضَا بِالْمُعْتَادِ وَالْجَوْزُ فِي الْعَادَةِ لَا يَخْلُو عَنْ هَذَا .
وَفِي الثَّانِي لَا يَجُوزُ وَيَرْجِعُ بِكُلِّ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْقِنِّ .
( قَالَ : وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا فَبَاعَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ فَإِنْ قَبِلَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ أَوْ بِإِبَاءِ يَمِينٍ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ فَجَعَلَ الْبَيْعَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ أَنْكَرَ قِيَامَ الْعَيْبِ لَكِنَّهُ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا بِالْقَضَاءِ ، وَمَعْنَى الْقَضَاءِ بِالْإِقْرَارِ أَنَّهُ أَنْكَرَ الْإِقْرَارَ فَأُثْبِتَ بِالْبَيِّنَةِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِالْبَيِّنَةِ حَيْثُ يَكُونُ رَدًّا عَلَى الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ هُنَاكَ وَاحِدٌ وَالْمَوْجُودُ هَاهُنَا بَيْعَانِ ، فَيُفْسَخُ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ لَا يَنْفَسِخُ ( وَإِنْ قَبِلَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ ) ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ وَإِنْ كَانَ فَسْخًا فِي حَقِّهِمَا وَالْأَوَّلُ ثَالِثُهُمَا ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بِعَيْبٍ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الَّذِي بَاعَهُ ) وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجَوَابَ فِيمَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ وَفِيمَا لَا يَحْدُثُ سَوَاءٌ .
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْبُيُوعِ : إنْ كَانَ فِيمَا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لِلتَّيَقُّنِ بِقِيَامِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا فَبَاعَهُ الْمُشْتَرِي ) وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا فَبَاعَهُ الْمُشْتَرِي ( ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ فَ ) إمَّا ( أَنْ قَبِلَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ) أَوْ بِغَيْرِ قَضَائِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِقْرَارٍ ، وَمَعْنَى الْقَضَاءِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّ الْخَصْمَ ادَّعَى عَلَى الْمُشْتَرِي الْإِقْرَارَ بِالْعَيْبِ وَالْمُشْتَرِي أَنْكَرَ ذَلِكَ فَأَثْبَتَ الْخَصْمُ بِالْبَيِّنَةِ ، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُنْكِرْ إقْرَارَهُ لَا يَكُونُ الرَّدُّ مُحْتَاجًا إلَى الْقَضَاءِ بَلْ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِالْعَيْبِ ، وَحِينَئِذٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ لِأَنَّهُ إقَالَةٌ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ( بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِبَاءِ يَمِينٍ ) وَفِي كُلِّ ذَلِكَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ ( لِأَنَّهُ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ فَجُعِلَ الْبَيْعُ الثَّانِي كَالْمَعْدُومِ ) وَالْبَيْعُ الْأَوَّلُ قَائِمٌ فَلَهُ الْخُصُومَةُ وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ ( قَوْلُهُ غَايَةُ الْأَمْرِ ) إشَارَةٌ إلَى جَوَابِ زُفَرَ عَمَّا قَالَ : إذَا جَحَدَ الْعَيْبَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ أَنَّ بِهِ عَيْبًا لِكَوْنِ كَلَامِهِ مُتَنَاقِضًا .
وَوَجْهُهُ أَنَّ غَايَةَ أَمْرِ الْمُشْتَرِي إنْكَارُهُ قِيَامَ الْعَيْبِ ، لَكِنَّهُ لَمَّا صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي ارْتَفَعَتْ الْمُنَاقَضَةُ وَصَارَ كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَأَقَرَّ أَنَّ الْبَائِعَ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ ثُمَّ جَاءَ إنْسَانٌ وَاسْتَحَقَّهُ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ ( قَوْلُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ ) إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ إذَا رُدَّ الْمَبِيعُ بِعَيْبٍ عَلَى الْوَكِيلِ بِالْبَيِّنَةِ كَانَ ذَلِكَ رَدًّا عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْتَرِي لَيْسَ رَدًّا عَلَى الْبَائِعِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْبَيْعَ فِي صُورَةِ الْوَكِيلِ بَيْعٌ وَاحِدٌ فَرَدُّهُ عَلَى الْوَكِيلِ رَدٌّ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَيْعَانِ وَبِرَدِّ أَحَدِهِمَا لَا يَرْتَدُّ
الْآخَرُ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ لِأَنَّهُ إقَالَةٌ وَهِيَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ وَالْبَائِعُ الْأَوَّلُ ثَالِثُهُمَا هَذَا إذَا رَدَّ الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَأَمَّا إذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الرَّدُّ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِهِ ، لِأَنَّ الرَّدَّ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالْعَيْبِ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ فِي حَقِّ الْكُلِّ فَصَارَ كَالرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ أَوْ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، وَصَرَّحَ بِذِكْرِ وَضْعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجِوَارَ فِي عَيْبٍ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ كَالْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ أَوْ النَّاقِصَةِ ، وَفِي عَيْبٍ يَحْدُثُ مِثْلُهُ كَالْقُرُوحِ وَالْأَمْرَاضِ سَوَاءٌ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْعَيْبَ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَحْدُثُ وَقَدْ رَدَّهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ لِتَيَقُّنِهِ بِوُجُودِهِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَهُوَ الَّذِي ذُكِرَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ بُيُوعِ الْأَصْلِ ، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَنَّ الرَّدَّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ إقَالَةٌ تَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ جَدِيدٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا وَهُوَ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ فَلَا يَعُودُ الْمِلْكُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ لِيُخَاصِمَهُ .
( قَالَ : وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَقَبَضَهُ فَادَّعَى عَيْبًا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ حَتَّى يَحْلِفَ الْبَائِعُ أَوْ يُقِيمَ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً ) لِأَنَّهُ أَنْكَرَ وُجُوبَ دَفْعِ الثَّمَنِ حَيْثُ أَنْكَرَ تَعَيُّنَ حَقِّهِ بِدَعْوَى الْعَيْبِ ، وَدَفْعُ الثَّمَنِ أَوَّلًا لِيَتَعَيَّنَ حَقُّهُ بِإِزَاءِ تَعَيُّنِ الْمَبِيعِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ قُضِيَ بِالدَّفْعِ فَلَعَلَّهُ يَظْهَرُ الْعَيْبُ فَيُنْتَقَضُ الْقَضَاءُ فَلَا يَقْضِي بِهِ صَوْنًا لِقَضَائِهِ ( فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي شُهُودِي بِالشَّامِ اُسْتُحْلِفَ الْبَائِعُ وَدَفَعَ الثَّمَنَ ) يَعْنِي إذَا حَلَفَ وَلَا يُنْتَظَرُ حُضُورُ الشُّهُودِ ؛ لِأَنَّ فِي الِانْتِظَارِ ضَرَرًا بِالْبَائِعِ ، وَلَيْسَ فِي الدَّفْعِ كَثِيرُ ضَرَرٍ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى حُجَّتِهِ ، أَمَّا إذَا نَكَلَ أُلْزِمَ الْعَيْبَ ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ فِيهِ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَقَبَضَهُ فَادَّعَى عَيْبًا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ حَتَّى يَحْلِفَ الْبَائِعُ أَوْ يُقِيمَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ ) فَإِنْ حَلَفَ الْبَائِعُ دَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ ، وَإِنْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ فَهُوَ إنْ شَاءَ يَدْفَعُ الثَّمَنَ أَوْ الْمَبِيعَ .
وَاسْتَشْكَلَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ لِأَنَّهُ جَعَلَ غَايَةَ عَدَمِ الْإِجْبَارِ إمَّا يَمِينَ الْبَائِعِ أَوْ بَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي ، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُولَى صَحِيحٌ ، لِأَنَّ بِالْيَمِينِ يَتَوَجَّهُ الْإِجْبَارُ ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الثَّانِي لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يَسْتَمِرُّ عَدَمُ الْإِجْبَارِ لَا يَنْتَهِي بِهِ .
وَأَجَابُوا بِأَوْجُهٍ : بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ : عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا تَقْدِيرُهُ وَسَقَيْتهَا مَاءً بَارِدًا ، وَبِأَنْ يُجْعَلَ الْكَلَامُ مُتَضَمِّنًا لِلَفْظٍ عَامٍّ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الْغَايَتَانِ فَيُقَالُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ حَتَّى يَظْهَرَ وَجْهُ الْحُكْمِ : أَيْ حُكْمِ الْإِجْبَارِ أَوْ حُكْمِ عَدَمِ الْإِجْبَارِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَلِفِ وَإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ عَلَفْتهَا تِبْنًا أَنَّهُ بِمَعْنَى أَطْعَمْتهَا ، فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي السَّقْيِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّعْمِ فِي مَعْنَى الشُّرْبِ ، قَالَ تَعَالَى { وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي } أَيْ وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْهُ وَبِأَنَّ الِانْتِظَارَ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ الْإِجْبَارِ ، وَذِكْرُ اللَّازِمِ وَإِرَادَةُ الْمَلْزُومِ كِنَايَةٌ .
وَالْحَقُّ أَنَّ الِاسْتِشْكَالَ إنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إلَى مَفْهُومِ الْغَايَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِلَازِمٍ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ وُجُوبَ دَفْعِ الثَّمَنِ ) تَعْلِيلٌ لِعَدَمِ الْإِجْبَارِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَنْكَرَ وُجُوبَ دَفْعِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ تَعَيُّنَ حَقِّهِ بِدَعْوَى الْعَيْبِ ، وَإِنْكَارُ تَعَيُّنِ الْحَقِّ إنْكَارُ عِلَّةِ وُجُوبِ دَفْعِ الثَّمَنِ ، لِأَنَّ وُجُوبَ دَفْعِ الثَّمَنِ أَوَّلًا لَيْسَ إلَّا لِتَعَيُّنِ حَقِّ الْبَائِعِ
بِإِزَاءِ تَعَيُّنِ الْمَبِيعِ فَحَيْثُ أَنْكَرَ تَعَيُّنَ حَقِّهِ فِي الْمَبِيعِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي السَّلِيمِ فَقَدْ أَنْكَرَ عِلَّةَ وُجُوبِ دَفْعِ الثَّمَنِ أَوَّلًا وَفِي إنْكَارِ الْعِلَّةِ إنْكَارُ الْمَعْلُولِ فَانْتَصَبَ خَصْمًا وَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ حُجَّةٍ ، وَهِيَ إمَّا بَيِّنَةٌ أَوْ يَمِينُ الْبَائِعِ .
فَإِنْ قِيلَ : فِي هَذَا التَّعْلِيلِ فَسَادُ الْوَضْعِ لِأَنَّ صِفَةَ الْإِنْكَارِ تَقْتَضِي إسْنَادَ الْيَمِينِ إلَيْهِ لَا إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ بِالْحَدِيثِ .
فَالْجَوَابُ الِاعْتِبَارُ بِالْمَعْنَى لَا بِالصُّورَةِ ، وَهُوَ فِيهِ مُدَّعٍ يَدَّعِي مَا يُوجِبُ دَفْعَ الثَّمَنِ أَوَّلًا وَإِنْ كَانَ فِي الصُّورَةِ مُنْكِرًا ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَوْ قَضَى بِالدَّفْعِ ) دَلِيلٌ آخَرُ يَتَضَمَّنُ جَوَابَ مَا قَبْلَ الْمُوجِبِ لِلْجَبْرِ وَهُوَ الْبَيْعُ مَعَ الْقَبْضِ مُتَحَقِّقٌ ، وَمَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَيْبِ مَوْهُومٌ ، وَالْمَوْهُومُ لَا يُعَارِضُ الْمُتَحَقِّقَ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ مَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ مَوْهُومًا لَكِنْ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي اعْتِبَارُهُ صَوْنًا لِقَضَائِهِ عَنْ النَّقْضِ ، فَإِنَّهُ إذَا قَضَى بِالدَّفْعِ فَلَعَلَّهُ يَظْهَرُ الْعَيْبُ فَيَنْتَقِضُ الْقَضَاءُ .
قَالَ ( فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي شُهُودِي بِالشَّامِ ) إذَا طُلِبَ مِنْ الْمُشْتَرِي إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ فَقَالَ شُهُودِي بِالشَّامِ غُيَّبٌ ( اُسْتُحْلِفَ الْبَائِعُ ) فَإِنْ حَلَفَ دُفِعَ إلَيْهِ الثَّمَنُ لِأَنَّ فِي الِانْتِظَارِ ضَرَرًا بِالْبَائِعِ .
فَإِنْ قِيلَ : فِي إلْزَامِ الْمُشْتَرِي دَفْعَ الثَّمَنِ ضَرَرٌ لَهُ أَيْضًا .
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( وَلَيْسَ فِي دَفْعِ الثَّمَنِ كَبِيرُ ضَرَرٍ بِهِ لِأَنَّهُ عَلَى حُجَّتِهِ ) يَعْنِي هُوَ بِسَبِيلٍ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عِنْدَ حُضُورِ شُهُودِهِ .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ مَا قِيلَ فِي بَقَاءِ الْمُشْتَرِي عَلَى حُجَّتِهِ بُطْلَانُ قَضَاءِ الْقَاضِي وَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُهُ .
وَالثَّانِي أَنَّ الِانْتِظَارَ وَإِقَامَةَ الْحُجَّةِ بَعْدَ الدَّفْعِ مُؤَقَّتَانِ بِحُضُورِ الشُّهُودِ فَكَيْفَ كَانَ أَحَدُهُمَا
ضَرَرًا وَالْآخَرُ دُونَهُ ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقَاضِيَ هَاهُنَا قَدْ قَضَى بِأَدَاءِ الثَّمَنِ إلَى حِينِ حُضُورِ الشُّهُودِ لَا مُطْلَقًا فَلَا يَلْزَمُ الْبُطْلَانُ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ فِي دَعْوَى غَيْبَةِ الشُّهُودِ مُتَّهَمٌ .
لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُمَاطَلَةً فَلَا يُسْمَعُ قَوْلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، وَإِذَا طَلَبَ الْمُشْتَرِي يَمِينَ الْبَائِعِ فَنَكَلَ أُلْزِمَ الْعَيْبَ لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةٌ فِي ثُبُوتِ الْعَيْبِ .
قِيلَ هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ النُّكُولِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِالْإِجْمَاعِ وَعَنْ النُّكُولِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
( قَالَ : وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَادَّعَى إبَاقًا لَمْ يُحَلَّفْ الْبَائِعُ حَتَّى يُقِيمَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَبَقَ عِنْدَهُ ) وَالْمُرَادُ التَّحْلِيفُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْبَقْ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ وَإِنْ كَانَ قَوْلَهُ وَلَكِنَّ إنْكَارَهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ قِيَامِ الْعَيْبِ بِهِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَمَعْرِفَتِهِ بِالْحُجَّةِ ( فَإِذَا أَقَامَهَا حَلَفَ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ وَمَا أَبَقَ عِنْدَهُ قَطُّ ) كَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ ، وَإِنْ شَاءَ حَلَّفَهُ بِاَللَّهِ مَا لَهُ حَقُّ الرَّدِّ عَلَيْك مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَدَّعِي أَوْ بِاَللَّهِ مَا أَبَقَ عِنْدَك قَطُّ أَمَّا لَا يُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ وَلَا بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكُ النَّظَرِ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ قَدْ يَحْدُثُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلرَّدِّ ، وَالْأَوَّلُ ذُهُولٌ عَنْهُ وَالثَّانِي يُوهِمُ تَعَلُّقَهُ بِالشَّرْطَيْنِ فَيَتَأَوَّلُهُ فِي الْيَمِينِ عِنْدَ قِيَامِهِ وَقْتَ التَّسْلِيمِ دُونَ الْبَيْعِ ، وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً عَلَى قِيَامِ الْعَيْبِ عِنْدَهُ وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْبَائِعِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَبَقَ عِنْدَهُ يُحَلَّفُ عَلَى قَوْلِهِمَا .
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُمَا أَنَّ الدَّعْوَى مُعْتَبَرَةٌ حَتَّى يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ فَكَذَا يَتَرَتَّبُ التَّحْلِيفُ .
وَلَهُ عَلَى مَا قَالَهُ الْبَعْضُ أَنَّ الْحَلِفَ يَتَرَتَّبُ عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ ، وَلَيْسَتْ تَصِحُّ إلَّا مِنْ خَصْمٍ وَلَا يَصِيرُ خَصْمًا فِيهِ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْعَيْبِ .
وَإِذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ عِنْدَهُمَا يَحْلِفُ ثَانِيًا لِلرَّدِّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَادَّعَى إبَاقًا ) إذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي إبَاقَ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى وَكَذَّبَهُ الْبَائِعُ فَالْقَاضِي لَا يَسْمَعُ دَعْوَى الْمُشْتَرِي حَتَّى يَثْبُتَ وُجُودُ الْعَيْبِ عِنْدَهُ ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ أَبَقَ عِنْدَهُ يَسْمَعُ دَعْوَاهُ وَقَالَ الْبَائِعُ هَلْ كَانَ عِنْدَك هَذَا الْعَيْبُ فِي الْحَالَةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَإِنْ قَالَ نَعَمْ رَدَّهُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَدَّعِ الرِّضَا أَوْ الْإِبْرَاءَ ، وَإِنْ أَنْكَرَ وُجُودَهُ عِنْدَهُ أَوْ ادَّعَى اخْتِلَافَ الْحَالَةِ قَالَ الْقَاضِي لِلْمُشْتَرِي أَلَك بَيِّنَةٌ فَإِنْ أَقَامَهَا عَلَيْهِ رَدَّهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَطَلَبَ الْيَمِينَ يُسْتَحْلَفُ أَنَّهُ لَمْ يَأْبَقْ عِنْدَهُ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْلِفْ قَبْلَ إقَامَةِ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ لِأَنَّ الْقَوْلَ وَإِنْ كَانَ قَوْلَ الْبَائِعِ لِكَوْنِهِ مُنْكِرًا لَكِنَّ إنْكَارَهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ قِيَامِ الْعَيْبِ بِهِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، لِأَنَّ السَّلَامَةَ أَصْلٌ وَالْعَيْبَ عَارِضٌ ، وَمَعْرِفَتُهُ إنَّمَا لَا تَكُونُ بِالْحُجَّةِ ، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا تُقْبَلُ مِنْ الْمُدَّعِي وَالْمُشْتَرِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَ بِمُدَّعٍ ، بَلْ فِيمَا إذَا ادَّعَى الْعَيْبَ فِي يَدِ الْبَائِعِ .
وَالثَّانِي أَنَّ سَلَامَةَ الذِّمَمِ عَنْ الدَّيْنِ أَصْلٌ وَالشُّغْلَ بِهِ عَارِضٌ ، كَمَا أَنَّ السَّلَامَةَ عَنْ الْعَيْبِ أَصْلٌ وَالْعَيْبَ عَارِضٌ ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبَيْنَ مَا إذَا ادَّعَى عَلَى آخَرَ دَيْنًا فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَسْمَعُ دَعْوَاهُ وَيَأْمُرُ الْخَصْمَ بِالْجَوَابِ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ قِيَامُ الدَّيْنِ فِي الْحَالِ وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ إقَامَةَ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ مِنْ تَتِمَّةِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّ الْعَيْبَ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ تِلْكَ إلَّا بِهَذِهِ فَكَانَتْ مِنْ الْمُدَّعِي بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ قِيَامَ الدَّيْنِ فِي الْحَالِ لَوْ
كَانَ شَرْطًا لِاسْتِمَاعِ الْخُصُومَةِ لَمْ يَتَوَسَّلْ الْمُدَّعِي إلَى إحْيَاءِ حَقِّهِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَكُونُ لَهُ بَيِّنَةٌ ، أَوْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَكِنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إقَامَتِهَا لِمَوْتٍ أَوْ غَيْبَةٍ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ تَوَسُّلَ الْمُشْتَرِي إلَى إحْيَاءِ حَقِّهِ مُمْكِنٌ لِأَنَّ الْعَيْبَ إذَا كَانَ مِمَّا يُعَايَنُ وَيُشَاهَدُ أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ بِالتَّعَرُّفِ عَنْ آثَارِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالْآثَارِ أَمْكَنَ التَّعَرُّفُ عَنْهُ بِالرُّجُوعِ إلَى الْأَطِبَّاءِ وَالْقَوَابِلِ ، وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا فَإِذَا أَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ حَلَفَ الْبَائِعُ عَلَى الْبَتَاتِ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ وَمَا أَبَقَ عِنْدَهُ قَطُّ ، كَذَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ .
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هَاهُنَا الْجَامِعُ الصَّغِيرُ ، وَإِنْ شَاءَ حَلَّفَهُ بِاَللَّهِ مَا لَهُ حَقُّ الرَّدِّ عَلَيْك مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُدَّعَى أَوْ بِاَللَّهِ مَا أَبَقَ عِنْدَك قَطُّ ، وَلَا يَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ لِأَنَّ هَذَا الْعَيْبَ قَدْ يَكُونُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلرَّدِّ ، وَفِي ذَلِكَ غَفْلَةٌ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى ، وَبِهِ يَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي ، وَكَذَلِكَ لَا يَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ لِأَنَّهُ يُوهِمُ تَعَلُّقَهُ بِالشَّرْطَيْنِ جَمِيعًا ، وَلِجَوَازِ أَنْ يَحْدُثَ الْعَيْبُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَيَكُونُ غَرَضُ الْبَائِعِ عَدَمَ وُجُودِ الْعَيْبِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا ، فَفِي وُجُودِهِ فِي أَحَدِهِمَا يَكُونُ بَارًّا لِأَنَّ الْكُلَّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ وَبِهِ يَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي .
وَإِنَّمَا قَالَ يُوهِمُ تَعَلُّقَهُ بِالشَّرْطَيْنِ جَمِيعًا إشَارَةً إلَى أَنَّ تَأْوِيلَ الْبَائِعِ ذَلِكَ فِي يَمِينِهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَلَكِنَّهُ يُتَوَهَّمُ لِذَلِكَ بِمَا ذُكِرَ لِأَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ ذَكَرَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ فِي التَّحْلِيفِ وَقَالَ : إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا : النَّظَرُ لِلْمُشْتَرِي يَنْعَدِمُ إذَا اسْتَحْلَفَهُ بِهَذِهِ
الصِّفَةِ .
وَذَكَرَ الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ ثُمَّ قَالَ : وَالْأَصَحُّ عِنْدِي الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَنْفِي الْعَيْبَ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ فَلَا يَكُونُ بَارًّا فِي يَمِينِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَيْبُ مُنْتَفِيًا فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا ، وَعَلَى هَذَا فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ قَالَ ( أَمَّا لَا يُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ ) وَعَلَّلَهُ ( بِأَنَّهُ يُوهِمُ تَعَلُّقَهُ بِالشَّرْطَيْنِ فَيَتَأَوَّلُهُ ) وَقَالُوا : إنَّمَا قَالَ يُوهِمُ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ التَّأْوِيلُ صَحِيحًا كَانَ التَّحْلِيفُ بِهِ جَائِزًا .
وَهُوَ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ لَا يُحَلِّفُهُ إلَّا إذَا حُمِلَ النَّفْيُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَحْوَطِ فَيَسْتَقِيمُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْإِبَاقُ فِعْلُ الْغَيْرِ وَالتَّحْلِيفُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتَاتِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فِي الْمَعْنَى وَهُوَ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ سَلِيمًا كَمَا الْتَزَمَهُ .
وَقِيلَ التَّحْلِيفُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ إذَا ادَّعَى الَّذِي يَحْلِفُ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِذَلِكَ ، أَمَّا إذَا ادَّعَى أَنَّ لِي عِلْمًا بِذَلِكَ فَيَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ لِادِّعَائِهِ الْعِلْمَ بِذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً عَلَى قِيَامِ الْعَيْبِ عِنْدَهُ وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْبَائِعِ بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَبَقَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي هَلْ لَهُ ذَلِكَ أَوْ لَا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمَا .
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي النَّوَادِرِ ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ ، وَقِيلَ لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( لَهُمَا أَنَّ الدَّعْوَى مُعْتَبَرَةٌ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ ) وَكُلُّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ( يَتَرَتَّبُ ) عَلَيْهِ ( التَّحْلِيفُ ) بِالِاسْتِقْرَاءِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَا تَحْلِيفَ عَلَى
مَذْهَبِهِ أَنَّ الْحَلِفَ يَتَرَتَّبُ عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ ، وَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى إلَّا مِنْ خَصْمٍ ، وَلَا يَصِيرُ الْمُدَّعِي وَهُوَ الْمُشْتَرِي هَاهُنَا خَصْمًا إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْعَيْبِ بِالْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَقَدْ عَجَزَ عَنْهَا ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّحْلِيفُ ؛ فَإِنَّ دَعْوَى الْوَكَالَةِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ دُونَ التَّحْلِيفِ ، وَالْبَيِّنَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الدَّعْوَى فَضْلًا عَنْ صِحَّتِهَا بَلْ قَدْ تَقُومُ عَلَى مَا لَا دَعْوَى فِيهِ أَصْلًا كَمَا فِي الْحُدُودِ ، بِخِلَافِ التَّحْلِيفِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ التَّحْلِيفَ شُرِعَ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ فَكَانَ مُقْتَضِيًا سَابِقَةَ الْخَصْمِ وَأَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي هُنَا خَصْمًا إلَّا بَعْدَ إثْبَاتِ قِيَامِ الْعَيْبِ فِي يَدِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ هَاهُنَا فَمَشْرُوعَةٌ لِإِثْبَاتِ كَوْنِهِ خَصْمًا فَلَا تَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ خَصْمًا ( وَإِذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ عِنْدَهُمَا يَحْلِفُ ثَانِيًا لِلرَّدِّ ) عَلَى الْبَتَاتِ ( عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ ) عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي إبَاقِ الْكَبِيرِ يَحْلِفُ مَا أَبَقَ مُنْذُ بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ ؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ فِي الصِّغَرِ لَا يُوجِبُ رَدَّهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ .قَالَ الْمُصَنِّفُ ( إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي إبَاقِ الْكَبِيرِ يَحْلِفُ مَا أَبَقَ مُنْذُ بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ لِأَنَّ الْإِبَاقَ فِي الصِّغَرِ لَا يُوجِبُ رَدَّهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ ) لِمَا تَقَدَّمَ ، فَلَوْ حَلَفَ مُطْلَقًا كَانَ تَرْكُ النَّظَرِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ ، لِأَنَّهُ إذَا أَبَقَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقَدْ كَانَ أَبَقَ عِنْدَ الْبَائِعِ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ وَمِثْلُ هَذَا الْإِبَاقِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلرَّدِّ امْتَنَعَ الْبَائِعُ عَنْ الْيَمِينِ حَذَرًا عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ لِنُكُولِهِ وَيَتَضَرَّرُ بِهِ .
( قَالَ : وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَتَقَابَضَا فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَقَالَ الْبَائِعُ : بِعْتُك هَذِهِ وَأُخْرَى مَعَهَا وَقَالَ الْمُشْتَرِي : بِعْتنِيهَا وَحْدَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ) ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لِلْقَابِضِ كَمَا فِي الْغَصْبِ ( وَكَذَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى مِقْدَارِ الْمَبِيعِ وَاخْتَلَفَا فِي الْمَقْبُوضِ ) لِمَا بَيَّنَّا .قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَتَقَابَضَا ) وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَتَقَابَضَ الْمُتَبَايِعَانِ الثَّمَنَ وَالْمَبِيعَ ( فَوَجَدَ ) الْمُشْتَرِي ( بِهَا عَيْبًا ) فَأَرَادَ الْبَائِعُ تَخْصِيصَ الثَّمَنِ عَلَى تَقْدِيرِ الرَّدِّ ( فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْتُك هَذِهِ وَأُخْرَى مَعَهَا وَقَالَ الْمُشْتَرِي بِعْتَنِيهَا وَحْدَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْقَابِضِ ) لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمَا قُبِضَ كَمَا فِي الْغَصْبِ ) فَإِنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ الْغَاصِبُ وَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ فَقَالَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ غَصَبْت مِنِّي غُلَامَيْنِ وَقَالَ الْغَاصِبُ غُلَامًا وَاحِدًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ الْقَابِضُ ( وَكَذَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى مِقْدَارِ الْمَبِيعِ وَاخْتَلَفَا فِي الْمَقْبُوضِ ) فِي مِقْدَارِهِ بِأَنْ كَانَ الْمَبِيعُ جَارِيَتَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْبَائِعُ قَبَضْتهمَا وَقَالَ الْمُشْتَرِي مَا قَبَضْت إلَّا إحْدَاهُمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ( لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّ فِي الِاخْتِلَافِ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَابِضِ ، بَلْ هَاهُنَا أَوْلَى لِأَنَّ كَوْنَ الْمَبِيعِ شَيْئَيْنِ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْبُوضَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَيْهِمَا سَبَبٌ مُطْلَقًا لِقَبْضِهِمَا ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْقَابِضِ فَهَاهُنَا أَوْلَى .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً فَقَبَضَ أَحَدَهُمَا وَوَجَدَ بِالْآخَرِ عَيْبًا فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُمَا أَوْ يَدْعُهُمَا ) ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَتِمُّ بِقَبْضِهِمَا فَيَكُونُ تَفْرِيقُهَا قَبْلَ التَّمَامِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ لَهُ شَبَهٌ بِالْعَقْدِ فَالتَّفْرِيقُ فِيهِ كَالتَّفْرِيقِ فِي الْعَقْدِ .
وَلَوْ وَجَدَ بِالْمَقْبُوضِ عَيْبًا اخْتَلَفُوا فِيهِ .
وَيُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَرُدُّهُ خَاصَّةً ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَأْخُذُهُمَا أَوْ يَرُدُّهُمَا ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ تَعَلَّقَ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْكُلِّ فَصَارَ كَحَبْسِ الْمَبِيعِ لَمَّا تَعَلَّقَ زَوَالُهُ بِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ لَا يَزُولُ دُونَ قَبْضِ جَمِيعِهِ ( وَلَوْ قَبَضَهُمَا ثُمَّ وَجَدَ ) بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا يَرُدُّهُ خَاصَّةً خِلَافًا لِزُفَرَ .
هُوَ يَقُولُ : فِيهِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ وَلَا يَعْرَى عَنْ ضَرَرٍ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِضَمِّ الْجَيِّدِ إلَى الرَّدِيءِ فَأَشْبَهَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَخِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ .
وَلَنَا أَنَّهُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ بَعْدَ التَّمَامِ ؛ لِأَنَّ بِالْقَبْضِ تَتِمُّ الصَّفْقَةُ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ وَفِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ لَا تَتِمُّ بِهِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَلِهَذَا لَوْ اُسْتُحِقَّ أَحَدُهُمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْآخَرَ .
.
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً ) رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ بِعْتُك هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَ ( وَقَبَضَ أَحَدَهُمَا ) وَهُوَ سَلِيمٌ ( فَوَجَدَ بِالْآخَرِ عَيْبًا ) لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً ( بَلْ يَأْخُذُهُمَا أَوْ يَدَعُهُمَا ) جَمِيعًا ( لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَتِمُّ بِقَبْضِهِمَا ) لِمَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ تَمَامِ الصَّفْقَةِ حِينَئِذٍ ، وَمَا تَتِمُّ بِقَبْضِهِ الصَّفْقَةُ لَا تَتِمُّ بِقَبْضِ بَعْضِهِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى قَبْضِ الْكُلِّ إذْ ذَاكَ ، فَالتَّفْرِيقُ قَبْلَ قَبْضِهِمَا تَفْرِيقٌ ( قَبْلَ التَّمَامِ ) وَهُوَ لَا يَجُوزُ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي قُبَيْلَ بَابِ خِيَارِ الْعَيْبِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَتِمُّ مَعَ خِيَارِ الْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتِمُّ قَبْلَهُ ( وَهَذَا ) أَيْ التَّفْرِيقُ فِي الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ ( لِأَنَّ لِلْقَبْضِ شَبَهًا بِالْعَقْدِ ) مِنْ حَيْثُ إنَّ الْقَبْضَ يُثْبِتُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ وَمِلْكَ الْيَدِ ، كَمَا أَنَّ الْعَقْدَ يُثْبِتُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ ، وَالْغَرَضُ مِنْ مِلْكِ الرَّقَبَةِ مِلْكُ التَّصَرُّفِ وَمِلْكُ الْيَدِ ( فَالتَّفْرِيقُ فِي الْقَبْضِ كَالتَّفْرِيقِ فِي الْعَقْدِ ) وَلَوْ قَالَ بِعْت مِنْك هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ فَقَالَ قَبِلْت أَحَدَهُمَا لَمْ يَصِحَّ فَكَذَا هَذَا .
قَالَ ( وَلَوْ وَجَدَ بِالْمَقْبُوضِ عَيْبًا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) إذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَقْبُوضِ عَيْبًا ، قَالُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، فَإِنَّهُ قَالَ ( وَيُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرُدُّهُ خَاصَّةً ) .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الصَّفْقَةَ تَامَّةٌ فِي حَقِّ الْمَقْبُوضِ فَبِالنَّظَرِ إلَيْهِ لَا يَلْزَمُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ ) لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ( لِأَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْكُلِّ فَهُوَ كَحَبْسِ الْمَبِيعِ ) لِأَجْلِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ لَا يَزُولُ بِقَبْضِ بَعْضِ الثَّمَنِ
لِتَعَلُّقِهِ بِالْكُلِّ اعْتِبَارًا لِأَحَدِ الْبَدَلَيْنِ بِالْآخَرِ ( وَلَوْ قَبَضَهُمَا ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ خَاصَّةً ) وَقَالَ زُفَرُ : لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ فِيهِ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ ( وَلَا يَعْرَى عَنْ ضَرَرٍ إذْ الْعَادَةُ جَرَتْ بِضَمِّ الْجَيِّدِ إلَى الرَّدِيءِ فَأَشْبَهَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ ) بِجَامِعِ دَفْعِ الضَّرَرِ ( وَأَشْبَهَ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ ) وَلَنَا أَنَّهُ إذَا قَبَضَهُمَا جَمِيعًا فَقَدْ تَمَّتْ الصَّفْقَةُ وَالتَّفْرِيقُ بَعْدَهُ غَيْرُ ضَائِرٍ ، بِخِلَافِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ فَإِنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَتِمُّ بِالْقَبْضِ فِيهِمَا عَلَى مَا مَرَّ فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ أَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَتِمُّ مَعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ ، وَخِيَارُ الْعَيْبِ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ لِوُجُودِ تَمَامِ الرِّضَا مِنْ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْقَبْضِ عَلَى صِفَةِ السَّلَامَةِ كَمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ .
وَالْأَصْلُ صِفَةُ السَّلَامَةِ فَكَانَتْ الصَّفْقَةُ تَامَّةً بِظَاهِرِ الْعَقْدِ ، وَتَضَرُّرُ الْبَائِعِ إنَّمَا لَزِمَ مِنْ تَدْلِيسِهِ فَلَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ .
لَا يُقَالُ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ التَّمَكُّنُ مِنْ رَدِّ الْمَعِيبِ قَبْلَ قَبْضِهِمَا أَيْضًا لِوُجُودِ التَّدْلِيسِ مِنْهُ ، لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّفْرِيقَ قَبْلَ التَّمَامِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ .
قِيلَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي شَيْئَيْنِ يُمْكِنُ إفْرَادُ أَحَدِهِمَا بِالِانْتِفَاعِ كَالْعَبْدَيْنِ .
وَأَمَّا إذَا لَا يُمْكِنُ كَزَوْجَيْ الْخُفِّ وَمِصْرَاعَيْ الْبَابِ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُمَا أَوْ يُمْسِكُهُمَا ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْرَيْنِ قَدْ أَلِفَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ بِحَيْثُ لَا يَعْمَلُ بِدُونِهِ لَا يُمْكِنُ رَدُّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً ( قَوْلُهُ وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَتِمُّ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَا تَتِمُّ قَبْلَهُ ( لَوْ اُسْتُحِقَّ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ ) بَعْدَ قَبْضِهِمَا ( لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ الْآخَرَ ) بَلْ الْعَقْدُ قَدْ لَزِمَ فِيهِ لِأَنَّهُ تَفْرِيقٌ بَعْدَ التَّمَامِ
( قَالَ : وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَوَجَدَ بِبَعْضِهِ عَيْبًا رَدَّهُ كُلَّهُ أَوْ أَخَذَهُ كُلَّهُ ) وَمُرَادُهُ بَعْدَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَهُوَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُسَمَّى بِاسْمٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْكُرُّ وَنَحْوُهُ .
وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ فِي وِعَاءٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا كَانَ فِي وِعَاءَيْنِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدَيْنِ حَتَّى يَرُدَّ الْوِعَاءَ الَّذِي وَجَدَ فِيهِ الْعَيْبَ دُونَ الْآخَرِ .
( وَلَوْ اُسْتُحِقَّ بَعْضُهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي رَدِّ مَا بَقِيَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ ، وَالِاسْتِحْقَاقُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ ؛ لِأَنَّ تَمَامَهَا بِرِضَا الْعَاقِدِ لَا بِرِضَا الْمَالِكِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ ، أَمَّا لَوْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ .
قَالَ ( وَإِنْ كَانَ ثَوْبًا فَلَهُ الْخِيَارُ ) ؛ لِأَنَّ التَّشْقِيصَ فِيهِ عَيْبٌ وَقَدْ كَانَ وَقْتَ الْبَيْعِ حَيْثُ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ ، بِخِلَافِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ .
( قَالَ : وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ ) تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ لَا يَجُوزُ إذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي سَائِرِ الْأَعْيَانِ ، وَبَعْدَهُ يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، وَأَمَّا فِيهِمَا فَلَا يَجُوزُ إذَا كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا سَوَاءٌ كَانَ فِي وِعَاءٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي وِعَاءَيْنِ عَلَى اخْتِيَارِ الْمَشَايِخِ .
وَقِيلَ إذَا كَانَ فِي وِعَاءَيْنِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدَيْنِ يَجُوزُ رَدُّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ يَرُدُّهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ .
وَوَجْهُ الْأَظْهَرِ أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَهُوَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ اسْمًا وَحُكْمًا .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ يُسَمَّى بِاسْمٍ وَاحِدٍ كَكُرٍّ وَقَفِيزٍ وَنَحْوِهِمَا ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَالِيَّةَ وَالتَّقَوُّمَ فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ الِاجْتِمَاعِ ، لِأَنَّ الْحَبَّةَ بِانْفِرَادِهَا لَيْسَتْ لَهَا صِفَةُ التَّقَوُّمِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَجَعْلُ رُؤْيَةِ بَعْضِهَا كَرُؤْيَةِ كُلِّهَا كَالثَّوْبِ الْوَاحِدِ ، وَفِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ إذَا وَجَدَ بَعْضَهُ مَعِيبًا لَيْسَ لَهُ إلَّا رَدُّ الْكُلِّ أَوْ إمْسَاكُهُ ، لِأَنَّ رَدَّ الْجُزْءِ الْمَعِيبِ فِيهِ يَسْتَلْزِمُ شَرِكَةَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَهِيَ فِي الْأَعْيَانِ الْمُجْتَمَعَةِ عَيْبٌ ، فَرَدُّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً رَدٌّ بِعَيْبٍ زَائِدٍ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ رَدُّ الْبَاقِي إذَا اُسْتُحِقَّ الْبَعْضُ بَعْدَ الْقَبْضِ كَمَا فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ سَاقِطٌ ، وَعَلَى الْأُخْرَى إنَّمَا لَزِمَ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي وَلَمْ يَبْقَ لَهُ خِيَارُ الرَّدِّ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ ، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْبَعْضِ لَا يُوجِبُ عَيْبًا فِي الْمُسْتَحَقِّ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُمَا فِي الْمَالِيَّةِ سَوَاءٌ ، وَالِانْتِفَاعُ بِالْبَاقِي مُمْكِنٌ ، وَمَا لَا يُوجِبُ عَيْبًا فِي الْمَالِيَّةِ وَالِانْتِفَاعِ لَا يُوجِبُ ضَرَرًا بِخِلَافِ مَا لَوْ وَجَدَ
بِالْبَعْضِ عَيْبًا وَمَيَّزَهُ لِيَرُدَّهُ لِأَنَّ تَمْيِيزَ الْمَعِيبِ مِنْ غَيْرِ الْمَعِيبِ يُوجِبُ زِيَادَةَ عَيْبٍ ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَإِنَّ التَّبْعِيضَ يَضُرُّهُ وَالشَّرِكَةُ عَيْبٌ فِيهِ زَائِدٌ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا رَدُّ الْكُلِّ أَوْ إمْسَاكُهُ ( قَوْلُهُ وَالِاسْتِحْقَاقُ ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ سُؤَالٍ .
تَقْرِيرُهُ انْتِفَاءَ الْخِيَارِ فِي رَدِّ مَا بَقِيَ يَسْتَلْزِمُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ لِأَنَّ تَمَامَهَا بِالرِّضَا وَالْمُسْتَحِقُّ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ لِأَنَّ تَمَامَهَا بِرِضَا الْعَاقِدِ لَا بِرِضَا الْمَالِكِ ، لِأَنَّ الْعَقْدَ حَقُّ الْعَاقِدِ فَتَمَامُهُ يَسْتَدْعِي تَمَامَ رِضَاهُ وَبِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ إذَا أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ بَعْدَمَا افْتَرَقَ بَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا ، فَعُلِمَ أَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ يَسْتَدْعِي تَمَامَ رِضَا الْعَاقِدِ لَا الْمَالِكِ ( وَهَذَا ) أَيْ كَوْنُ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يُوجِبُ خِيَارَ الرَّدِّ إذَا كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ قَبْلَهُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْبَاقِيَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ ، وَهَذَا يُرْشِدُك إلَى أَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ يَحْتَاجُ إلَى رِضَا الْعَاقِدِ وَقَبْضِ الْمَبِيعِ ، وَانْتِفَاءُ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ عَدَمَ تَمَامِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْبًا وَاحِدًا وَقَدْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اُسْتُحِقَّ بَعْضُ الثَّوْبِ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي رَدِّ مَا بَقِيَ ، لِأَنَّ التَّشْقِيصَ فِي الثَّوْبِ عَيْبٌ لِأَنَّهُ يَضُرُّ فِي مَالِيَّتِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : حَدَثَ بِالِاسْتِحْقَاقِ عَيْبٌ جَدِيدٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَمِثْلُهُ يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ .
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( وَقَدْ كَانَ وَقْتَ الْبَيْعِ ) يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ بِحَادِثٍ فِي يَدِهِ بَلْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ حَيْثُ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ فَلَا يَكُونُ مَانِعًا ، بِخِلَافِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَإِنَّ التَّشْقِيصَ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِيهِمَا حَيْثُ لَا
يَضُرُّ ، وَتَنَبَّهْ لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَجِدْ حُكْمَ الْعَيْبِ وَالِاسْتِحْقَاقِ سِيَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ : أَعْنِي فِيمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَوْ غَيْرِهِمَا .
أَمَّا الْعَيْبُ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا الِاسْتِحْقَاقُ فَلِقَوْلِهِ أَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْبَاقِيَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ ، وَتَجِدُ حُكْمَهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ كَذَلِكَ إلَّا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي الْعَبْدَيْنِ وَلِهَذَا لَوْ اُسْتُحِقَّ أَحَدُهُمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْآخَرَ ، وَقَالَ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ رَدَّهُ كُلَّهُ أَوْ أَخَذَهُ ، وَمُرَادُهُ بَعْدَ الْقَبْضِ .
ثُمَّ قَالَ : وَلَوْ اُسْتُحِقَّ الْبَعْضُ لَا خِيَارَ لَهُ فِي رَدِّ مَا بَقِيَ .
( قَالَ : وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَ بِهَا قُرْحًا فَدَاوَاهُ أَوْ كَانَتْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا فِي حَاجَةٍ فَهُوَ رِضًا ) ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ قَصْدِهِ الِاسْتِبْقَاءَ بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ هُنَاكَ لِلِاخْتِبَارِ وَأَنَّهُ بِالِاسْتِعْمَالِ فَلَا يَكُونُ الرُّكُوبُ مُسْقِطًا ( وَإِنْ رَكِبَهَا لِيَرُدَّهَا عَلَى بَائِعِهَا أَوْ لِيَسْقِيَهَا أَوْ لِيَشْتَرِيَ لَهَا عَلَفًا فَلَيْسَ بِرِضًا ) أَمَّا الرُّكُوبُ لِلرَّدِّ ؛ فَلِأَنَّهُ سَبَبُ الرَّدِّ وَالْجَوَابُ فِي السَّقْيِ وَاشْتِرَاءِ الْعَلَفِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْهُ ، إمَّا لِصُعُوبَتِهَا أَوْ لِعَجْزِهِ أَوْ لِكَوْنِ الْعَلَفِ فِي عِدْلٍ وَاحِدٍ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ يَجِدُ بُدًّا مِنْهُ لِانْعِدَامِ مَا ذَكَرْنَاهُ يَكُونُ رِضًا .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَ بِهَا قُرْحًا فَدَاوَاهُ الْمُشْتَرِي ) جُرْحُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ وَرُكُوبُ الدَّابَّةِ فِي حَاجَتِهِ عُدَّ رِضًا بِالْعَيْبِ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ قَصْدِ الِاسْتِبْقَاءِ لِأَنَّ الْمُدَاوَاةَ إزَالَةُ الْعَيْبِ وَهِيَ تَمْنَعُ الرَّدَّ .
لِأَنَّ نَقِيضَهُ وَهُوَ قِيَامُ الْعَيْبِ شَرْطُ التَّمَكُّنِ مِنْ الرَّدِّ فَكَانَتْ دَلِيلَ قَصْدِ الْإِمْسَاكِ ، وَدَلِيلُ الشَّيْءِ فِي الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ يَقُومُ مَقَامَهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرَّدِّ بِذَلِكَ الْعَيْبِ ، وَلَهُ ذَلِكَ بِعَيْبٍ آخَرَ لِأَنَّ الرِّضَا بِعَيْبٍ لَا يَسْتَلْزِمُ رِضَاهُ بِغَيْرِهِ .
وَكَذَلِكَ الرُّكُوبُ لِحَاجَتِهِ ، بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ لِلِاخْتِبَارِ ، وَالِاخْتِبَارُ بِالرُّكُوبِ فَلَا يَكُونُ مُسْقِطًا ( وَإِنْ رَكِبَهَا لِيَرُدَّهَا عَلَى بَائِعِهَا أَوْ لِيَسْقِيَهَا أَوْ لِيَشْتَرِيَ لَهَا عَلَفًا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِرِضًا ، أَمَّا الرُّكُوبُ لِلرَّدِّ فَلَا فَرْقَ ) فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ أَوْ لَا ، لِأَنَّ فِي الرُّكُوبِ ضَبْطَ الدَّابَّةِ وَهُوَ أَحْفَظُ لَهَا مِنْ حُدُوثِ عَيْبٍ آخَرَ ، وَأَمَّا لِلسَّقْيِ وَالْعَلَفِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَجِدْ مِنْهُ بُدًّا لِصُعُوبَةِ الدَّابَّةِ لِكَوْنِهَا شَمُوسًا ، أَوْ لِعَجْزِهِ عَنْ الْمَشْيِ لِضَعْفٍ أَوْ كِبَرٍ ، أَوْ لِكَوْنِ الْعَلَفِ فِي عِدْلٍ وَاحِدٍ ، أَمَّا إذَا وُجِدَ مِنْهُ بُدٌّ لِانْعِدَامِ الْأَوَّلَيْنِ أَوْ لِكَوْنِ الْعَلَفِ فِي عِدْلَيْنِ وَرَكِبَ كَانَ الرُّكُوبُ رِضًا ، لِأَنَّ حَمْلَهُ حِينَئِذٍ مُمْكِنٌ بِدُونِ الرُّكُوبِ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا قَدْ سَرَقَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَقُطِعَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا : يَرْجِعُ بِمَا بَيْنَ قِيمَتِهِ سَارِقًا إلَى غَيْرِ سَارِقٍ ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قُتِلَ بِسَبَبٍ وُجِدَ فِي يَدِ الْبَائِعِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَهُ وَبِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ عِنْدَهُمَا .
لَهُمَا أَنَّ الْمَوْجُودَ فِي يَدِ الْبَائِعِ سَبَبُ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي الْمَالِيَّةَ فَنَفَذَ الْعَقْدُ فِيهِ لَكِنَّهُ مُتَعَيِّبٌ فَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّهِ وَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً حَامِلًا فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ بِالْوِلَادَةِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا حَامِلًا إلَى غَيْرِ حَامِلٍ .
وَلَهُ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَالْوُجُوبُ يُفْضِي إلَى الْوُجُودِ فَيَكُونُ الْوُجُودُ مُضَافًا إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ ، وَصَارَ كَمَا إذَا قُتِلَ الْمَغْصُوبُ أَوْ قُطِعَ بَعْدَ الرَّدِّ بِجِنَايَةٍ وُجِدَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَمْنُوعٌ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا قَدْ سَرَقَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ إلَخْ ) رَجُلٌ اشْتَرَى عَبْدًا قَدْ سَرَقَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي لَا وَقْتَ الْعَقْدِ وَلَا وَقْتَ الْقَبْضِ فَقُطِعَ عِنْدَهُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ كُلَّهُ ، وَلَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ وَيَرْجِعَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : إنَّهُ يُقَوَّمُ سَارِقًا وَغَيْرَ سَارِقٍ فَيَرْجِعُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الثَّمَنِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قُتِلَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ مِنْ الْقَتْلِ الْعَمْدِ أَوْ الرِّدَّةِ : لَهُمَا أَنَّ الْمَوْجُودَ فِي يَدِ الْبَائِعِ سَبَبُ الْقَطْعِ أَوْ الْقَتْلِ وَهُوَ لَا يُنَافِي الْمَالِيَّةَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ تَقَرَّرَ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَتَصَرُّفُهُ فِيهِ نَافِذٌ فَتَكُونُ الْمَالِيَّةُ بَاقِيَةً فَيَنْفُذُ الْعَقْدُ فِيهِ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُهَا لَكِنَّهُ مُتَعَيِّبٌ لِأَنَّ مُبَاحَ الْيَدِ أَوْ الدَّمِ لَا يُشْتَرَى كَالسَّالِمِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ مِنْ الْمَرَضِ الَّذِي هُوَ عَيْبٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَالْمَبِيعُ الْمُتَعَيَّبُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ يَرْجِعُ فِيهِ بِنُقْصَانِهِ ، وَهَاهُنَا قَدْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ .
أَمَّا فِي صُورَةِ الْقَتْلِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا فِي صُورَةِ الْقَطْعِ فَلِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ وَقَعَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ غَيْرُ الْوُجُوبِ فَكَانَ كَعَيْبٍ حَدَثَ فِي يَدِهِ ، وَمِثْلُهُ مَانِعٌ مِنْ الرَّدِّ بِعَيْبٍ سَابِقٍ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ ، كَمَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً حَامِلًا وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْحَمْلِ وَقْتَ الشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِالْوِلَادَةِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا حَامِلًا وَمَا بَيْنَ قِيمَتِهَا غَيْرَ حَامِلٍ .
وَلَهُ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَسَبَبُ الْوُجُوبِ يُفْضِي إلَى الْوُجُوبِ وَالْوُجُوبُ يُفْضِي إلَى الْوُجُودِ فَيَكُونُ الْوُجُودُ مُضَافًا إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ فَصَارَ كَالْمُسْتَحَقِّ ، وَالْمُسْتَحَقُّ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ فَيَنْتَقِضُ الْقَبْضُ مِنْ الْأَصْلِ لِعَدَمِ مُصَادَفَةِ الْعَقْدِ
مَحَلَّهُ ، أَوْ لِأَنَّهُ بَاعَ مَقْطُوعَ الْيَدِ فَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إنْ رَدَّهُ ، كَمَا لَوْ اُسْتُحِقَّ بَعْضُ الْعَبْدِ فَرَدَّهُ وَصَارَ كَمَا إذَا غَصَبَ عَبْدًا فَقَتَلَ الْعَبْدُ عِنْدَ الْغَاصِبِ رَجُلًا عَمْدًا فَرَدَّهُ عَلَى الْمَوْلَى فَاقْتُصَّ مِنْهُ فِي يَدِهِ ، فَإِنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ كَمَا لَوْ قَتَلَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ مَسْأَلَةِ الْحَمْلِ أَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ قَوْلُهَا .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْمُشْتَرِي يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِكُلِّ الثَّمَنِ إذَا مَاتَتْ مِنْ الْوِلَادَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِيمَا إذَا اُقْتُصَّ مِنْ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَنَقُولُ : ثُمَّ سَبَبُ الْمَوْتِ هُوَ الْمَرَضُ الْمُتْلِفُ وَهُوَ حَصَلَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ، وَعَنْ قَوْلِهِمَا سَبَبُ الْقَتْلِ لَا يُنَافِي الْمَالِيَّةَ بِأَنَّهُ كَذَلِكَ لَكِنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفْسِ بِسَبَبِ الْقَتْلِ وَالْقَتْلُ مُتْلِفٌ لِلْمَالِيَّةِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ فَكَانَ بِمَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ وَهِيَ تُقَامُ مَقَامَ الْعِلَّةِ فِي الْحُكْمِ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَارَتْ الْمَالِيَّةُ كَأَنَّهَا هِيَ الْمُسْتَحَقَّةُ ، وَأَمَّا إذَا مَاتَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَتَقَرَّرَ الثَّمَنُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ الِاسْتِحْقَاقُ فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ فَلِهَذَا هَلَكَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي ، وَإِذَا قُتِلَ فَقَدْ تَمَّ الِاسْتِحْقَاقُ ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَظْهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ دُونَ غَيْرِهِ كَمِلْكِ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي نَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ ، حَتَّى لَوْ قُتِلَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ خَطَأً كَانَتْ الدِّيَةُ لِوَرَثَتِهِ دُونَ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ .
وَلَوْ سَرَقَ فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَقُطِعَ بِهِمَا عِنْدَهُمَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ كَمَا ذَكَرْنَا .
وَعِنْدَهُ لَا يَرُدُّهُ بِدُونِ رِضَا الْبَائِعِ لِلْعَيْبِ الْحَادِثِ وَيَرْجِعُ بِرُبْعِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ قَبِلَهُ الْبَائِعُ فَبِثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ وَقَدْ تَلِفَتْ بِالْجِنَايَتَيْنِ وَفِي إحْدَاهُمَا رُجُوعٌ فَيَتَنَصَّفُ ؛ وَلَوْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي ثُمَّ قُطِعَ فِي يَدِ الْأَخِيرِ رَجَعَ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَهُ كَمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ الْأَخِيرُ عَلَى بَائِعِهِ وَلَا يَرْجِعُ بَائِعُهُ عَلَى بَائِعِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الْكِتَابِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي ) يُفِيدُ عَلَى مَذْهَبِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَيْبِ رِضًا بِهِ ، وَلَا يُفِيدُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ .
قَالَ ( وَلَوْ سَرَقَ فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي إلَخْ ) إذَا كَانَ الْعَبْدُ الْمَبِيعُ سَرَقَ فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ سَرَقَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَقُطِعَ بِهِمَا عِنْدَهُمَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَرُدُّهُ إلَّا بِرِضَا الْبَائِعِ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ وَهُوَ الْقَطْعُ بِالسَّرِقَةِ الْحَادِثَةِ عِنْدَهُ ؛ ثُمَّ الْأَمْرُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَقْبَلَهُ الْبَائِعُ كَذَلِكَ وَأَنْ لَا يَقْبَلَ ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِرُبْعِ الثَّمَنِ لِأَنَّهَا قُطِعَتْ بِالسَّبَبَيْنِ فَيَرْجِعُ بِمَا يُقَابِلُ نِصْفَ الْيَدِ ، وَإِنْ قَبِلَ يَرْجِعُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْيَدَ نِصْفُ الْآدَمِيِّ وَتَلِفَتْ بِالْجِنَايَتَيْنِ ، وَفِي إحْدَاهُمَا الرُّجُوعُ عَلَى الْبَائِعِ فَيُقْسَمُ النِّصْفُ عَلَيْهِمَا بِنِصْفَيْنِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَرْجِعُ فِيهِ عَلَى الْبَائِعِ فَيَرُدُّهُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَقَبِلَهُ الْبَائِعُ كَذَلِكَ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَلِمَ لَمْ يَكُنْ هُنَا كَذَلِكَ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ نَظَرًا إلَى جَرَيَانِهِ مَجْرَى الِاسْتِحْقَاقِ ، وَمَا ذَكَرْتُمْ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَلَا تَذْكُرُونَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ حُكْمَ الْعَيْبِ وَالِاسْتِحْقَاقِ يَسْتَوِيَانِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ الِاخْتِلَافَ هَاهُنَا بَيْنَهُمَا ؟ قُلْنَا : بَلَى لَكِنْ لَيْسَ كَلَامُنَا الْآنَ فِيهِمَا بَلْ فِيمَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْمَعِيبِ ، وَمَا يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الشَّيْءِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُسَاوِيَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَعَسَى يَكْفِي شَبَهًا بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَالِاسْتِحْقَاقُ كَوْنُ الْعَقْدِ غَيْرَ مُتَنَاوِلٍ لِيَنْتَقِضَ الْقَبْضُ مِنْ الْأَصْلِ لِمَا مَرَّ آنِفًا .
قَالَ : وَلَوْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي : يَعْنِي بَعْدَ وُجُودِ السَّرِقَةِ مِنْ
الْعَبْدِ فِي يَدِ الْبَائِعِ .
إذَا تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي بِالْبِيَاعَاتِ ثُمَّ قُطِعَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْأَخِيرِ تَرْجِعُ الْبَاعَةُ وَهُوَ جَمْعُ بَائِعٍ كَالْحَاكَةِ جَمْعُ حَائِكٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ ، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ الْأَخِيرُ عَلَى بَائِعِهِ وَلَا يَرْجِعُ بَائِعُهُ عَلَى بَائِعِهِ كَمَا فِي الْعَيْبِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَخِيرَ لَمْ يَصِرْ حَابِسًا حَيْثُ لَمْ يَبِعْهُ ، وَلَا كَذَلِكَ الْآخَرُونَ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ لِنُقْصَانِ الْعَيْبِ لِمَا تَقَدَّمَ ( قَوْلُهُ وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ ) أَيْ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي يُفِيدُ عَلَى مَذْهَبِهِمَا لِأَنَّ ) هَذَا يَجْرِي مَجْرَى الْعَيْبِ عِنْدَهُمَا وَالْعِلْمُ بِالْعَيْبِ رِضًا بِهِ ، وَلَا يُفِيدُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْعِلْمُ بِهِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الصَّحِيحِ ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ لِأَنَّ حِلَّ الدَّمِ مِنْ وَجْهٍ كَالِاسْتِحْقَاقِ وَمِنْ وَجْهٍ كَالْعَيْبِ حَتَّى لَا يَمْنَعَ صِحَّةَ الْبَيْعِ فَلِشَبَهِهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ قُلْنَا عِنْدَ الْجَهْلِ بِهِ يَرْجِعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَلِشَبَهِهِ بِالْعَيْبِ قُلْنَا لَا يَرْجِعُ عِنْدَ الْعِلْمِ بِشَيْءٍ ، لِأَنَّهُ إنَّمَا جُعِلَ هَذَا كَالِاسْتِحْقَاقِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي وَقَدْ انْدَفَعَ حِينَ عَلِمَ بِهِ وَاشْتَرَاهُ .
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : إذَا اشْتَرَاهُ وَهُوَ يَعْلَمُ بِحِلِّ دَمِهِ فَفِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ أَيْضًا إذَا قُتِلَ عِنْدَهُ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ .
وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : الصَّحِيحُ أَنَّ الْجَهْلَ وَالْعِلْمَ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَالْعِلْمُ بِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ .
قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ الْعِلْمَ بِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يَمْنَعُ
الرُّجُوعَ ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَيْبِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ ، وَهَذَا عَيْبٌ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِنُقْصَانِ الثَّمَنِ ، وَلَكِنَّهُ أُجْرِيَ مَجْرَى الِاسْتِحْقَاقِ وَنُزِّلَ مَنْزِلَتَهُ لَا حَقِيقَتَهُ ، لِأَنَّ فِي حَقِيقَتِهِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ أَوْ جَاهِلًا قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ ، وَهُنَا لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ كَوْنَهَا أَصَحَّ أَوْ صَحِيحًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ صِحَّةُ النَّقْلِ وَشُهْرَتُهُ فَلَا يُرَدُّ السُّؤَالُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلُ .
وَقَوْلُهُ فِي النَّظَرِ وَهَذَا عَيْبٌ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ أَوْ أَنَّهُ عَيْبٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْعَيْبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَقَدْ تَرَجَّحَ جَانِبُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالدَّلَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَأُجْرِيَ مَجْرَاهُ
( قَالَ : وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وَشَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِعَيْبٍ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْعُيُوبَ بِعَدَدِهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ لَا يَصِحُّ .
هُوَ يَقُولُ : إنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ حَتَّى يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ ، وَتَمْلِيكُ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ .
وَلَنَا أَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْإِسْقَاطِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَإِنْ كَانَ فِي ضِمْنِهِ التَّمْلِيكُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى التَّسْلِيمِ فَلَا تَكُونُ مُفْسِدَةً ، وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْبَرَاءَةِ الْعَيْبُ الْمَوْجُودُ وَالْحَادِثُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْحَادِثُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ تَتَنَاوَلُ الثَّابِتَ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْغَرَضَ إلْزَامُ الْعَقْدِ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ عَنْ صِفَةِ السَّلَامَةِ وَذَلِكَ بِالْبَرَاءَةِ عَنْ الْمَوْجُودِ وَالْحَادِثِ .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وَشَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ ) الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ صَحِيحٍ سَمَّى الْعُيُوبَ وَعَدَدَهَا أَوْ لَا عَلِمَهُ الْبَائِعُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ وَقَفَ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَقِفْ أَشَارَ إلَيْهِ أَوْ لَا مَوْجُودًا كَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ أَوْ حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَدْخُلُ الْحَادِثُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ .
وَقَالَ زُفَرُ : إذَا كَانَ مَجْهُولًا صَحَّ الْبَيْعُ وَفَسَدَ الشَّرْطُ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ ) مَا لَمْ يَقُلْ مِنْ عَيْبِ كَذَا وَمِنْ عَيْبِ كَذَا .
وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ : لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْ الْعَيْبِ مَعَ التَّسْمِيَةِ مَا لَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي .
وَقَدْ جَرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَجْلِسِ أَبِي جَعْفَرٍ الدَّوَانِيقِيِّ ، فَقَالَ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ : أَرَأَيْت لَوْ بَاعَ جَارِيَةً فِي الْمَأْتِيِّ مِنْهَا عَيْبٌ أَكَانَ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يُرِيَ الْمُشْتَرِيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْهَا ؟ أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ بَعْضَ حَرَمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بَاعَ عَبْدًا بِرَأْسِ ذَكَرِهِ بَرَصٌ أَكَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُرِيَ الْمُشْتَرِيَ ذَلِكَ ؟ وَمَا زَالَ حَتَّى أَفْحَمَهُ وَضَحِكَ الْخَلِيفَةُ مِمَّا صَنَعَ بِهِ .
الشَّافِعِيُّ يَقُولُ : إذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لَهُ : الْبَيْعُ صَحِيحٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ لَا تَصِحُّ ، لِأَنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ ، وَلِهَذَا لَوْ أَبْرَأَ الْمَدْيُونَ عَنْ دَيْنِهِ فَرَدَّ الْإِبْرَاءَ لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ ، وَتَمْلِيكُ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ .
وَلَنَا أَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ لَا تَمْلِيكٌ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ وَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ
بِأَسْقَطْت عَنْك دَيْنِي ، وَلِأَنَّهُ يَتِمُّ بِلَا قَبُولٍ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَتِمُّ بِدُونِهِ ، وَالْإِسْقَاطُ لَا تُفْضِي الْجَهَالَةُ فِيهِ إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا أَبْطَلَتْ التَّمْلِيكَاتِ لِفَوَاتِ التَّسْلِيمِ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْإِسْقَاطِ فَلَا يَكُونُ مُبْطِلًا لَهُ ، وَلِهَذَا جَازَ طَلَاقُ نِسَائِهِ وَإِعْتَاقُ عَبِيدِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي عَدَدَهُمْ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ فِي ضِمْنِهِ التَّمْلِيكُ ) إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ ضِمْنًا ، وَهُوَ لَا يُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ مَا قُلْنَاهُ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مَحْضَ التَّمْلِيكِ لَا يَبْطُلُ بِجَهَالَةٍ لَا تُفَوِّتُ التَّسْلِيمَ ، كَمَا إذَا بَاعَ قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةِ فُلَانٍ لَا يَبْطُلُ الْإِسْقَاطُ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ ، وَالْمُسْقِطُ مُتَلَاشٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّسْلِيمِ أَوْلَى .
وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْبَرَاءَةَ تَتَنَاوَلُ الثَّابِتَ حَالَ الْبَرَاءَةِ لِأَنَّ مَا يُحْبَسُ مَجْهُولٌ لَا يُعْلَمُ أَيَحْدُثُ أَمْ لَا وَأَيُّ مِقْدَارٍ يَحْدُثُ وَالثَّابِتُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ .
وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ : الْغَرَضُ مِنْ الْإِبْرَاءِ إلْزَامُ الْعَقْدِ بِإِسْقَاطِ حَقِّ الْمُشْتَرِي عَنْ صِفَةِ السَّلَامَةِ لِيَقْدِرَ عَلَى التَّسْلِيمِ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ وَذَلِكَ بِالْبَرَاءَةِ عَنْ الْمَوْجُودِ وَالْحَادِثِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ نَصَّ بِالْحَادِثِ فَقَالَ بِعْت بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ أَوْ مَا يَحْدُثُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَالْحُكْمُ الَّذِي يَفْسُدُ تَنْصِيصُهُ كَيْفَ يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ الْبَرَاءَةِ ؟ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ الْإِجْمَاعَ فَإِنَّهُ ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّهُ يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ، سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ الْفَرْقَ لِأَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِهِ هَاهُنَا يَتَنَاوَلُ الْعُيُوبَ الْمَوْجُودَةَ ثُمَّ يَدْخُلُ فِيهَا مَا يَحْدُثُ قَبْلَ الْقَبْضِ تَبَعًا ، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي التَّصَرُّفِ تَبَعًا مَا لَا يَجُوزُ