كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي
أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا .
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إنَّ مَا يَحْدُثُ مَجْهُولٌ أَنَّ مِثْلَهُ مِنْ الْجَهَالَةِ غَيْرُ مَانِعٍ فِي الْإِسْقَاطِ كَمَا تَقَدَّمَ ( قَوْلُهُ وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْبَرَاءَةِ ) احْتِرَازٌ عَمَّا لَوْ قَالَ بِعْت هَذَا الْعَبْدَ عَلَى أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَبْرَأُ عَنْ الْحَادِثِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ بِهِ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَوْجُودِ
( بَابُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ) .
.
بَابُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ) : تَأْخِيرُ غَيْرِ الصَّحِيحِ عَنْ الصَّحِيحِ لَعَلَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى تَنْبِيهٍ ، وَلُقِّبَ الْبَابُ بِالْفَاسِدِ وَإِنْ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَيْهِ وَعَلَى الْبَاطِلِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ بِتَعَدُّدِ أَسْبَابِهِ .
وَالْبَاطِلُ هُوَ مَا لَا يَكُونُ صَحِيحًا أَصْلًا وَوَصْفًا ، وَالْفَاسِدُ هُوَ مَا لَا يَصِحُّ وَصْفًا ، وَكُلُّ مَا أَوْرَثَ خَلَلًا فِي رُكْنِ الْمَبِيعِ فَهُوَ مُبْطِلٌ ، وَمِمَّا أَوْرَثَهُ فِي غَيْرِهِ كَالتَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ الْوَاجِبَيْنِ بِهِ وَالِانْتِفَاعِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَعَدَمِ الْإِطْلَاقِ عَنْ شَرْطٍ لَا يَقْتَضِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ مُفْسِدٌ ، وَعَلَى هَذَا تُفَصَّلُ الْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ فَيُقَالُ : الْبَيْعُ بِالْمَيْتَةِ لُغَةٌ وَهُوَ الَّذِي مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ ، وَالدَّمُ وَالْحُرُّ بَاطِلٌ لِانْعِدَامِ الرُّكْنِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُعَدُّ مَالًا عِنْدَ أَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ دِينٌ سَمَاوِيٌّ ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا لُغَةٌ لِتَخْرُجَ الْمَخْنُوقَةُ وَأَمْثَالُهَا كَالْمَجْرُوحَةِ بِالْمَذْبُوحَةِ فِي غَيْرِ الْمَذْبَحِ فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الذَّبِيحَةِ عِنْدَنَا ، وَلِهَذَا إذَا بَاعُوا ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ جَازَ .
ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ وَإِنْ كَانَ مَيْتَةً عِنْدَنَا ، بِخِلَافِ الْمَيْتَةِ حَتْفَ أَنْفِهِ فَإِنَّ بَيْعَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ عِنْدَهُمْ ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فَاللَّامُ الِاسْتِغْرَاقِ عَلَى عُمُومِهِ فِي بِيَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَالْبَيْعُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَاسِدٌ لِوُجُودِ حَقِيقَتِهِ وَهِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ ، فَإِنَّهُ أَيْ الْمَذْكُورَ مِنْ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْكُفْرِ ، وَإِنَّمَا أَوَّلْنَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَالٌ عِنْدَنَا بِلَا خِلَافٍ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ تَقَوُّمَهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يَتَمَوَّلُوهَا كَمَا
أَبْطَلَ قِيمَةَ الْجَوْدَةِ بِانْفِرَادِهَا فِي حَقِّ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، وَلَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ عِنْدَ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَأْوِيلٍ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ .
( وَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ أَوْ كِلَاهُمَا مُحَرَّمًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ كَالْبَيْعِ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ مَمْلُوكٍ كَالْحُرِّ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَذِهِ فُصُولُ جَمْعِهَا ، وَفِيهَا تَفْصِيلٌ نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَنَقُولُ : الْبَيْعُ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ بَاطِلٌ ، وَكَذَا بِالْحُرِّ لِانْعِدَامِ رُكْنِ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُعَدُّ مَالًا عِنْدَ أَحَدٍ وَالْبَيْعُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَاسِدٌ لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَإِنَّهُ مَالٌ عِنْدَ الْبَعْضِ وَالْبَاطِلُ لَا يُفِيدُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ .وَقَوْلُهُ ( وَالْبَاطِلُ لَا يُفِيدُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ ) كَأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ ، وَالْبَاطِلُ لَا يُفِيدُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ وَمَا لَا يُفِيدُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ فَالْبَاطِلُ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ .
وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِيهِ يَكُونُ أَمَانَةً عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ لِأَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَبَقِيَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَعِنْدَ الْبَعْضِ يَكُونُ مَضْمُونًا لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ أَدْنَى حَالًا مِنْ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ .
وَقِيلَ الْأَوَّلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالثَّانِي قَوْلُهُمَا كَمَا فِي بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَالْفَاسِدُ يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ وَيَكُونُ الْمَبِيعُ مَضْمُونًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِيهِ .
وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا .
وَكَذَا بَيْعُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْحُرِّ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَمْوَالًا فَلَا تَكُونُ مَحِلًّا لِلْبَيْعِ .
( وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِي الْبَاطِلِ يَكُونُ أَمَانَةً عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ) أَبِي أَحْمَدَ الطَّوَاوِيسِيِّ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ ، نَقَلَهُ أَبُو الْمُعِينِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ ( لِأَنَّ الْعَقْدَ ) بَاطِلٌ وَالْبَاطِلَ ( غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ) وَالْقَبْضَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَيَكُونُ أَمَانَةً ( وَعِنْدَ بَعْضٍ آخَرَ ) شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ ( يَكُونُ مَضْمُونًا لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ أَدْنَى حَالًا مِنْ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ ) لِوُجُودِ صُورَةِ الْعِلَّةِ هَاهُنَا دُونَ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَفِيهِ الْقِيمَةُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ؛ وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ هُوَ أَنْ يُسَمِّيَ الثَّمَنَ فَيَقُولَ اذْهَبْ بِهَذَا فَإِنْ رَضِيته اشْتَرَيْته بِعَشَرَةٍ .
أَمَّا إذَا لَمْ يُسَمِّ الثَّمَنَ فَذَهَبَ بِهِ فَهَلَكَ عِنْدَهُ لَا يَضْمَنُ ، نَصَّ عَلَيْهِ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي الْعُيُونِ .
قِيلَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْبَلْخِيُّ ( الْأَوَّلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّانِي قَوْلُهُمَا كَمَا فِي بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَالْفَاسِدُ يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ ) أَيْ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ ، وَأَمَّا إذَا قَبَضَهُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ ذُكِرَ فِي الْمَأْذُونِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ .
قَالُوا : ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ شَيْئًا لَا يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ بِالْقَبْضِ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ شَيْئًا يَمْلِكُهُ فَقَبْضُ الثَّمَنِ مِنْهُ يَكُونُ إذْنًا بِالْقَبْضِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ أَفَادَ ذَلِكَ الْمِلْكَ لَجَازَ لِلْمُشْتَرِي وَطْءُ جَارِيَةٍ اشْتَرَاهَا شِرَاءً فَاسِدًا وَجَازَ أَخْذُ الشُّفْعَةِ لِلشَّفِيعِ فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ وَيَحِلُّ أَكْلُ طَعَامٍ
اشْتَرَاهُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُطْلَقٌ لَهُ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا لَمْ يَحِلَّ وَطْؤُهَا وَأَكْلُهُ لَمْ تَثْبُتْ الشُّفْعَةُ فِيمَا ذُكِرَتْ لِأَنَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِالْوَطْءِ وَالْأَكْلِ إعْرَاضًا عَنْ الرَّدِّ ، وَفِي الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ تَقْرِيرَ الْفَسَادِ وَتَأْكِيدَهُ فَلَا يَجُوزُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَشَايِخَ اخْتَلَفُوا فِي مَبْنَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمُشْتَرَى بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ : فَذَهَبَ الْعِرَاقِيُّونَ إلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَسْلِيطِ الْبَائِعِ عَلَى ذَلِكَ لَا عَلَى مِلْكِ الْعَيْنِ ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ .
قَالُوا لَوْ مَلَكَ الْعَيْنَ لَمَلَكَ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ وَلَمْ يَمْلِكْهَا .
وَذَهَبَ مَشَايِخُ بَلْخِي إلَى أَنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ بِنَاءٌ عَلَى مِلْكِ الْعَيْنِ .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا إذَا اشْتَرَى دَارًا بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ وَقَبَضَهَا فَبِيعَ بِجَنْبِهَا دَارٌ أُخْرَى فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِالشُّفْعَةِ لِنَفْسِهِ .
وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ وَقَبَضَهَا ثُمَّ رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ وَلَوْ بَاعَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ عَبْدَ يَتِيمٍ بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَعْتَقَهُ جَازَ عِتْقُهُ ، وَلَوْ كَانَ عِتْقُهُ عَلَى وَجْهِ التَّسْلِيطِ لَمَا جَازَ لِأَنَّ عِتْقَهُمَا أَوْ تَسْلِيطَهُمَا عَلَى الْعِتْقِ لَا يَجُوزُ فَعُلِمَ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْعَيْنَ .
وَأَجَابُوا عَنْ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ بِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
وَإِذَا كَانَ مُفِيدًا لِلْمِلْكِ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ كَانَ الْمَبِيعُ مَضْمُونًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِيهِ : أَيْ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَابَ ( قَوْلُهُ وَكَذَا بَيْعُ الْمَيْتَةِ ) يَعْنِي كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَاطِلٌ فَكَذَا بَيْعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَمْوَالًا فَلَا تَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ ، وَأَمَّا بَيْعُ الْخَمْرِ
وَالْخِنْزِيرِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالدَّيْنِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَوْ بِالْعَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الْخَمْرِ وَلَا مَا يُقَابِلُهَا .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الْخَمْرِ وَيُفِيدُ مِلْكَ مَا يُقَابِلُهَا مِنْ الْبَدَلِ بِالْقَبْضِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ وَكَذَا الْخِنْزِيرُ عِنْدَ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ : أَيْ غَيْرُ مُعَزَّزٍ يُقَابِلُهُ قِيمَةٌ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِإِهَانَتِهِ وَتَرْكِ إعْزَازِهِ ، وَمَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِتَرْكِ إعْزَازِهِ لَا يَكُونُ مَعْزُوزًا فَلَا يَكُونُ مُتَقَوِّمًا ، وَفِي تَمَلُّكِهِ بِالْعَقْدِ مَقْصُودًا : أَيْ يَجْعَلُهُ مَبِيعًا إعْزَازًا لَهُ وَهُوَ خِلَافُ الْمَأْمُورِ بِهِ ، وَبَيَانُهُ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ مَتَى اشْتَرَاهَا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَالدَّرَاهِمُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِكَوْنِهَا وَسِيلَةً لِمَا أَنَّهَا تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْخَمْرُ ، وَفِي جَعْلِهِ كَذَلِكَ خِلَافُ الْمَأْمُورِ بِهِ فَيَسْقُطُ التَّقَوُّمُ أَصْلًا لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى خِلَافِ الْمَأْمُورِ بِهِ .
وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْبَيْعُ بَاطِلًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى الثَّوْبَ بِالْخَمْرِ لِأَنَّ مُشْتَرِيَ الثَّوْبِ يَجْعَلُهُ مَبِيعًا إنَّمَا يَقْصِدُ تَمَلُّكَ الثَّوْبِ بِوَسِيلَةِ الْخَمْرِ ، وَفِيهِ إعْزَازٌ لِلثَّوْبِ دُونَ الْخَمْرِ فَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُهَا لِنَفْسِهَا بَلْ لِغَيْرِهَا وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إعْزَازُهَا وَلَا خِلَافُ مَا أَمَرَ بِهِ فَلَا يَكُونُ بَاطِلًا وَفَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ وَوَجَبَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ دُونَ الْخَمْرِ ، وَكَذَا إذَا بَاعَ الْخَمْرَ بِالثَّوْبِ يَكُونُ الْبَيْعُ فَاسِدًا ، وَإِنْ وَقَعَ الْخَمْرُ مَبِيعًا وَالثَّوْبُ ثَمَنًا بِدُخُولِ الْبَائِعِ لِكَوْنِهِ مُقَايَضَةً وَفِيهَا كُلٌّ مِنْ الْعِوَضَيْنِ يَكُونُ ثَمَنًا وَمُثَمَّنًا ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْخَمْرِ جِهَةُ الثَّمَنِيَّةِ رُجِّحَ جَانِبُ الْفَسَادِ عَلَى جَانِبِ الْبُطْلَانِ صَوْنًا لِلتَّصَرُّفِ عَنْ
الْبُطْلَانِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .
وَأَمَّا بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إنْ كَانَ قُوبِلَ بِالدَّيْنِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ، وَإِنْ كَانَ قُوبِلَ بِعَيْنٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ حَتَّى يَمْلِكَ مَا يُقَابِلُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ عَيْنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ وَكَذَا الْخِنْزِيرُ مَالٌ عِنْدَ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ لِمَا أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِإِهَانَتِهِ وَتَرْكِ إعْزَازِهِ ، وَفِي تَمَلُّكِهِ بِالْعَقْدِ مَقْصُودًا إعْزَازٌ لَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مَتَى اشْتَرَاهُمَا بِالدَّرَاهِمِ فَالدَّرَاهِمُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ ؛ لِكَوْنِهَا وَسِيلَةً لِمَا أَنَّهَا تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْخَمْرُ فَسَقَطَ التَّقَوُّمُ أَصْلًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى الثَّوْبَ بِالْخَمْرِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلثَّوْبِ إنَّمَا يَقْصِدُ تَمَلُّكَ الثَّوْبِ بِالْخَمْرِ .
وَفِيهِ إعْزَازٌ لِلثَّوْبِ دُونَ الْخَمْرِ فَبَقِيَ ذِكْرُ الْخَمْرِ مُعْتَبَرًا فِي تَمَلُّكِ الثَّوْبِ لَا فِي حَقِّ نَفْسِ الْخَمْرِ حَتَّى فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ وَوَجَبَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ دُونَ الْخَمْرِ ، وَكَذَا إذَا بَاعَ الْخَمْرَ بِالثَّوْبِ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ شِرَاءُ الثَّوْبِ بِالْخَمْرِ لِكَوْنِهِ مُقَايَضَةً .
قَالَ ( وَبَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ فَاسِدٌ ) وَمَعْنَاهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ قَدْ ثَبَتَ لِأُمِّ الْوَلَدِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } وَسَبَبُ الْحُرِّيَّةِ انْعَقَدَ فِي الْمُدَبَّرِ فِي الْحَالِ لِبُطْلَانِ الْأَهْلِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْمُكَاتَبُ اسْتَحَقَّ يَدًا عَلَى نَفْسِهِ لَازِمَةً فِي حَقِّ الْمَوْلَى ، وَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ بِالْبَيْعِ لَبَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ فَلَا يَجُوزُ ، وَلَوْ رَضِيَ الْمُكَاتَبُ بِالْبَيْعِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ، وَالْأَظْهَرُ الْجَوَازُ ، وَالْمُرَادُ الْمُدَبَّرُ الْمُطْلَقُ دُونَ الْمُقَيَّدِ ، وَفِي الْمُطْلَقِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْعَتَاقِ .
قَالَ ( وَبَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ فَاسِدٌ ) أَيْ بَاطِلٌ ، وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِاتِّصَالِ الْقَبْضِ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ قَدْ ثَبَتَ إلَخْ ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ الْعِتْقِ وَثُبُوتِ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ مُنَافَاةً لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ عِبَارَةٌ عَنْ جِهَةِ حُرِّيَّةٍ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا الْإِبْطَالُ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ يُبْطِلُهُمَا ، وَأَحَدُ الْمُتَنَافِيَيْنِ وَهُوَ الِاسْتِحْقَاقُ ثَابِتٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } " فَيَنْتَفِي الْآخَرُ .
لَا يُقَالُ : وَهُوَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ حَقِيقَةَ الْعِتْقِ وَأَنْتُمْ تَحْمِلُونَهُ عَلَى حَقِّهِ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا لِأَنَّ الْمَجَازَ مُرَادٌ بِالْإِجْمَاعِ .
وَكَذَلِكَ الْمُنَافَاةُ ثَابِتَةٌ بَيْنَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الْمُدَبَّرِ فِي الْحَالِ وَبَيْنَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ لِتَنَافِي اللَّوَازِمِ لِأَنَّ الْمِلْكَ مَعَ الْحُرِّيَّةِ لَا يَجْتَمِعَانِ ، فَكَذَلِكَ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ وَالْبَيْعِ وَأَحَدُ الْمُتَنَافِيَيْنِ وَهُوَ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي الْحَالِ لَكَانَ إمَّا غَيْرَ ثَابِتٍ مُطْلَقًا أَوْ ثَابِتًا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ إهْمَالَ لَفْظِ الْمُتَكَلِّمِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ وَالْإِعْمَالُ أَوْلَى ، وَكَذَلِكَ الثَّانِي لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حَالَ بُطْلَانِ الْأَهْلِيَّةِ .
فَمَتَى قُلْنَا إنَّهُ يَنْعَقِدُ سَبَبًا بَعْدَ الْمَوْتِ احْتَجْنَا إلَى بَقَاءِ الْأَهْلِيَّةِ ، وَالْمَوْتُ يُنَافِيهَا فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْقَوْلِ بِانْعِقَادِ التَّدْبِيرِ سَبَبًا فِي الْحَالِ وَتَأَخَّرَ الْحُكْمُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَكَذَلِكَ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ الْمُكَاتَبِ يَدًا عَلَى نَفْسِهِ لَازِمَةً فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَبَيْنَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ مُنَافَاةٌ ، لَكِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ اللَّازِمَةِ فِي
حَقِّ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ فَسْخَ الْكِتَابَةِ بِدُونِ رِضَا الْمُكَاتَبِ فَيَنْتَفِي الْآخَرُ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِأَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى فَسْخِهَا بِتَعْجِيزِهِ نَفْسَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ بَطَلَ بَيْعُ هَؤُلَاءِ لَكَانَ كَبَيْعِ الْحُرِّ وَحِينَئِذٍ بَطَلَ بَيْعُ الْقِنِّ الْمَضْمُومِ إلَيْهِمْ فِي الْبَيْعِ كَالْمَضْمُومِ إلَى الْحُرِّ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ بَيْعَ الْحُرِّ بَاطِلٌ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً لِعَدَمِ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ أَصْلًا بِثُبُوتِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ ، وَبَيْعُ هَؤُلَاءِ بَاطِلٌ بَقَاءً لِحَقِّ الْحُرِّيَّةِ لَا ابْتِدَاءً لِعَدَمِ حَقِيقَتِهَا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بَيِّنٌ وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ نَفَذَ قَضَاؤُهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ دَخَلُوا فِي الْبَيْعِ ابْتِدَاءً لِكَوْنِهِمْ مَحَلًّا لَهُ فِي الْجُمْلَةِ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ فَبَقِيَ الْقِنُّ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَالْبَيْعُ بِالْحِصَّةِ بَقَاءٌ جَائِزٌ بِخِلَافِ الْحُرِّ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَدْخُلْ لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ لَزِمَ الْبَيْعُ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً وَأَنَّهُ بَاطِلٌ عَلَى مَا يَجِيءُ .
قَالَ ( وَلَوْ رَضِيَ الْمُكَاتَبُ بِالْبَيْعِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ وَالْأَظْهَرُ الْجَوَازُ إلَخْ ) لِأَنَّ عَدَمَهُ كَانَ لِحَقِّهِ ، فَلَمَّا أَسْقَطَ حَقَّهُ بِرِضَاهُ انْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ وَجَازَ الْبَيْعُ .
وَرُوِيَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ .
وَالْمُرَادُ مِنْ الْمُدَبَّرِ هُوَ الْمُطْلَقُ دُونَ الْمُقَيَّدِ بِالتَّفْسِيرِ الْمَارِّ فِي التَّدْبِيرِ ، وَفِي الْمُطْلَقِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ
قَالَ ( وَإِنْ مَاتَتْ أُمُّ الْوَلَدِ أَوْ الْمُدَبَّرُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : عَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ لَهُمَا أَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِجِهَةِ الْبَيْعِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُدَبَّرُ وَأُمَّ الْوَلَدِ يَدْخُلَانِ تَحْتَ الْبَيْعِ حَتَّى يَمْلِكَ مَا يُضَمُّ إلَيْهِمَا فِي الْبَيْعِ ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ الْقَبْضُ وَهَذَا الضَّمَانُ بِهِ وَلَهُ أَنَّ جِهَةَ الْبَيْعِ إنَّمَا تَلْحَقُ بِحَقِيقَةٍ فِي مَحِلٍّ يَقْبَلُ الْحَقِيقَةَ وَهُمَا لَا يَقْبَلَانِ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ فَصَارَا كَالْمُكَاتَبِ ، وَلَيْسَ دُخُولُهُمَا فِي الْبَيْعِ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمَا ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِيَثْبُتَ حُكْمُ الْبَيْعِ فِيمَا ضُمَّ إلَيْهِمَا فَصَارَ كَمَالِ الْمُشْتَرِي لَا يَدْخُلُ فِي حُكْمِ عَقْدِهِ بِانْفِرَادِهِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الدُّخُولِ فِيمَا ضَمَّهُ إلَيْهِ ، كَذَا هَذَا .
وَإِنْ مَاتَتْ أُمُّ الْوَلَدِ أَوْ الْمُدَبَّرُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَهَذَا لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ بَلْ الرِّوَايَتَانِ عَنْهُ فِي حَقِّ الْمُدَبَّرِ .
رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْمُدَبَّرِ بِالْبَيْعِ كَمَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ ، وَأَمَّا فِي حَقِّ أُمِّ الْوَلَدِ فَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تُضْمَنُ بِالْبَيْعِ وَالْغَصْبِ لِأَنَّهَا لَا تَقَوُّمَ لِمَالِيَّتِهَا .
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ ضَمَانِ الْغَصْبِ فِي الْمُدَبَّرِ وَضَمَانِ بَيْعِهِ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْمُعَلَّى أَنَّ ضَمَانَ الْبَيْعِ وَإِنْ أَشْبَهَ ضَمَانَ الْغَصْبِ مِنْ حَيْثُ الدُّخُولُ فِي ضَمَانِهِ بِالْقَبْضِ ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ جِهَةِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ انْهَدَرَتْ هَذِهِ الْجِهَةُ فَبَقِيَ قَبْضًا بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ .
لَهُمَا أَنَّهُ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ مَقْبُوضٌ بِجِهَةِ الْبَيْعِ ، لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ وَأُمَّ الْوَلَدِ يَدْخُلَانِ تَحْتَ الْعَقْدِ حَتَّى يَمْلِكَ بِالضَّمِّ إلَيْهِمَا فِي الْبَيْعِ كَمَا مَرَّ آنِفًا ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَضْمُونٌ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الْمَقْبُوضَةِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ الدُّخُولُ تَحْتَ الْبَيْعِ وَتَمَلُّكُ مَا يُضَمُّ إلَيْهِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لَكَانَ فِي الْمُكَاتَبِ كَذَلِكَ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ الْقَبْضُ وَهَذَا الضَّمَانُ بِالْقَبْضِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمَدَارَ هُوَ الْقَبْضُ لَا الدُّخُولُ فِي الْعَقْدِ وَتَمَلُّكُ الْمَضْمُومِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جِهَةَ الْبَيْعِ إنَّمَا تُوجِبُ الضَّمَانَ فِي الْأَمْوَالِ إلْحَاقًا بِحَقِيقَتِهِ فِي مَحَلٍّ يَقْبَلُ الْحَقِيقَةَ ، وَهُمَا : أَيْ أُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ لَا يَقْبَلَانِ
حَقِيقَةَ الْبَيْعِ فَلَا تُلْحَقُ الْجِهَةُ بِهَا فَصَارَا كَالْمُكَاتَبِ فِي كَوْنِهِ غَيْرَ قَابِلٍ لِلْحَقِيقَةِ ( قَوْلُهُ وَلَيْسَ دُخُولُهُمَا ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا يَدْخُلَانِ تَحْتَ الْبَيْعِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ فَائِدَةَ الدُّخُولِ لَا تَنْحَصِرُ فِي نَفْسِ الدَّاخِلِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إلَى غَيْرِهِ كَثُبُوتِ حُكْمِ الْبَيْعِ فِيمَا ضُمَّ إلَيْهِمَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَبْعَدٍ بَلْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ مَا إذَا بَاعَ عَبْدًا مَعَ عَبْدِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهِمَا فَيَأْخُذُ الْمُشْتَرِي عَبْدَ الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي حَقِّ عَبْدِ الْبَائِعِ فَكَذَلِكَ هَذَا .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ السَّمَكِ قَبْلَ أَنْ يُصْطَادَ ) لِأَنَّهُ بَاعَ مَالًا يَمْلِكُهُ ( وَلَا فِي حَظِيرَةٍ إذَا كَانَ لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِصَيْدٍ ) ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ ، وَمَعْنَاهُ إذَا أَخَذَهُ ثُمَّ أَلْقَاهُ فِيهَا لَوْ كَانَ يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ حِيلَةٍ جَازَ ، إلَّا إذَا اجْتَمَعَتْ فِيهَا بِأَنْفُسِهَا وَلَمْ يَسُدَّ عَلَيْهَا الْمَدْخَلَ لِعَدَمِ الْمِلْكِ
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَصْطَادَهُ ) بَيْعُ السَّمَكِ قَبْلَ الِاصْطِيَادِ بَيْعُ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ فَلَا يَجُوزُ ، وَإِذَا اصْطَادَهُ ثُمَّ أَلْقَاهُ فِي الْحَظِيرَةِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً لَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ مِنْهَا إلَّا بِتَكَلُّفٍ وَاحْتِيَالٍ ، فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً جَازَ لِأَنَّهُ بَاعَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ ، وَإِذَا سَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي فَلَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَإِنْ رَآهَا فِي الْمَاءِ لِأَنَّ السَّمَكَ يَتَفَاوَتُ خَارِجَ الْمَاءِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ ( قَوْلُهُ إلَّا إذَا اجْتَمَعَتْ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ جَازَ : يَعْنِي الْحَظِيرَةَ إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً تُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ حِيلَةٍ جَازَ إلَّا إذَا اجْتَمَعَتْ فِيهَا بِأَنْفُسِهَا وَلَمْ يُسَدَّ عَلَيْهَا الْمَدْخَلُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْمَأْخُوذِ الْمُلْقَى فِي الْحَظِيرَةِ وَالْمُجْتَمَعُ بِنَفْسِهِ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِيهِ ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ سَدَّ صَاحِبُ الْحَظِيرَةِ عَلَيْهَا مَلَكَهَا ، أَمَّا بِمُجَرَّدِ الِاجْتِمَاعِ فِي مِلْكِهِ فَلَا ، كَمَا لَوْ بَاضَ الطَّيْرُ فِي أَرْضِ إنْسَانٍ أَوْ فَرَّخَتْ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ .
لَا يُشْكِلُ بِمَا إذَا عَسَّلَ النَّحْلُ فِي أَرْضِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ بِمُجَرَّدِ اتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْرِزَهُ أَوْ يُهَيِّئَ لَهُ مَوْضِعًا ، لِأَنَّ الْعَسَلَ إذْ ذَاكَ قَائِمٌ بِأَرْضِهِ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ فَصَارَ كَالشَّجَرِ النَّابِتِ فِيهَا ، بِخِلَافِ بَيْضِ الطَّيْرِ وَفَرْخِهَا وَالسَّمَكُ الْمُجْتَمِعُ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ .
قَالَ ( وَلَا بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ قَبْلَ الْأَخْذِ ، وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَهُ مِنْ يَدِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِقَالَ ( وَلَا ) يَجُوزُ ( بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ ) بَيْعُ الطَّيْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ بَيْعُهُ فِي الْهَوَاءِ قَبْلَ أَنْ يَصْطَادَهُ وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ .
وَالثَّانِي بَيْعُهُ بَعْدَ أَنْ أَخَذَهُ وَأَرْسَلَهُ مِنْ يَدِهِ وَهُوَ أَيْضًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ .
وَالثَّالِثُ بَيْعُ طَيْرٍ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ كَالْحَمَامِ وَهُوَ أَيْضًا لَا يَجُوزُ فِي الظَّاهِرِ .
وَذُكِرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَإِنْ بَاعَ طَيْرًا لَهُ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ إنْ كَانَ دَاجِنًا يَعُودُ إلَى بَيْتِهِ وَيَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ جَازَ بَيْعُهُ وَإِلَّا فَلَا
قَالَ ( وَلَا بَيْعُ الْحَمْلِ وَلَا النِّتَاجِ ) { لِنَهْيِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيْعِ الْحَبَلِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ } وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرًا .( وَلَا ) يَجُوزُ ( بَيْعُ الْحَمْلِ ) أَيْ الْجَنِينِ ( وَلَا نِتَاجِ الْحَمْلِ ) وَهُوَ حَبَلُ الْحَبَلِ ، " وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْحَبَلِ وَحَبَلِ الْحَبَلِ } " .
وَالنِّتَاجُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ نَتَجَتْ النَّاقَةُ بِالضَّمِّ وَلَكِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَنْتُوجُ هَاهُنَا .
وَالْحَبَلُ مَصْدَرُ حَبِلَتْ الْمَرْأَةُ حَبَلًا فَهِيَ حُبْلَى فَسُمِّيَ بِهِ الْمَحْمُولُ كَمَا سُمِّيَ بِالْحَمْلِ ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ التَّاءُ إشْعَارًا لِمَعْنَى الْأُنُوثَةِ فِيهِ .
قِيلَ مَعْنَاهُ : أَنْ يَبِيعَ مَا سَوْفَ يَحْمِلُهُ الْجَنِينُ إنْ كَانَ أُنْثَى ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَادُونَ ذَلِكَ فَأَبْطَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرًا وَهُوَ مَا طُوِيَ عَنْك عِلْمُهُ .
قَالَ الْمُغْرِبُ فِي الْحَدِيثِ : " { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ } : وَهُوَ الْخَطَرُ الَّذِي لَا يَدْرِي أَيَكُونُ أَمْ لَا كَبَيْعِ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ .
( وَلَا اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ لِلْغَرَرِ ) فَعَسَاهُ انْتِفَاخٌ ، وَلِأَنَّهُ يُنَازَعُ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَلْبِ ، وَرُبَّمَا يَزْدَادُ فَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ .قَالَ ( وَلَا اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ لِلْغَرَرِ إلَخْ ) وَبَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ لَا يَجُوزُ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ لِلْغَرَرِ : لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الضَّرْعُ مُنْتَفِخًا يُظَنُّ لَبَنًا وَالْغَرَرُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَلِلنِّزَاعِ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَلْبِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَسْتَقْصِي فِي الْحَلْبِ وَالْبَائِعُ يُطَالِبُهُ بِأَنْ يَتْرُكَ دَاعِيَةَ اللَّبَنِ وَلِأَنَّهُ يَزْدَادُ سَاعَةً فَسَاعَةً وَالْبَيْعُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الزِّيَادَةَ لِعَدَمِهَا عِنْدَهُ فَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ ، وَاخْتِلَاطُ الْمَبِيعِ بِمَا لَيْسَ بِمَبِيعٍ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ تَمْيِيزُهُ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ .
قَالَ ( وَلَا الصُّوفُ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ ) لِأَنَّهُ مِنْ أَوْصَافِ الْحَيَوَانِ ، وَلِأَنَّهُ يَنْبُتُ مِنْ أَسْفَلَ فَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ ، بِخِلَافِ الْقَوَائِمِ ؛ لِأَنَّهَا تَزِيدُ مِنْ أَعْلَى ، وَبِخِلَافِ الْقَصِيلِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ قَلْعُهُ ، وَالْقَطْعُ فِي الصُّوفِ مُتَعَيِّنٌ فَيَقَعُ التَّنَازُعُ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ ، وَقَدْ صَحَّ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ ، وَعَنْ لَبَنٍ فِي ضَرْعٍ ، وَعَنْ سَمْنٍ فِي لَبَنٍ } وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الصُّوفِ حَيْثُ جَوَّزَ بَيْعَهُ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ .
وَبَيْعُ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ لَا يَجُوزُ لِوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ أَوْصَافِ الْحَيَوَانِ لِأَنَّ مَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ فَهُوَ وَصْفٌ مَحْضٌ ، بِخِلَافِ مَا يَكُونُ مُتَّصِلًا بِالشَّجَرِ فَإِنَّهُ عَيْنُ مَالٍ مَقْصُودٍ مِنْ وَجْهٍ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَلِأَنَّهُ يَنْبُتُ مِنْ أَسْفَلَ فَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ وَهُوَ مُبْطِلٌ كَمَا مَرَّ .
فَإِنْ قِيلَ : الْقَوَائِمُ مُتَّصِلَةٌ بِالشَّجَرِ وَجَازَ بَيْعُهَا .
أَجَابَ بِأَنَّهَا تَزِيدُ مِنْ أَعْلَاهَا فَلَا يَلْزَمُ الِاخْتِلَاطُ ، حَتَّى لَوْ رَبَطْت خَيْطًا فِي أَعْلَاهَا وَتُرِكَتْ أَيَّامًا يَبْقَى الْخَيْطُ أَسْفَلَ مِمَّا فِي رَأْسِهَا الْآنَ ، وَالْأَعْلَى مِلْكُ الْمُشْتَرِي ، وَمَا وَقَعَ مِنْ الزِّيَادَةِ وَقَعَ فِي مِلْكِهِ .
أَمَّا الصُّوفُ فَإِنَّ نُمُوَّهُ مِنْ أَسْفَلِهِ ، فَإِنْ خَضَّبَ الصُّوفَ عَلَى ظَهْرِ الشَّاةِ ثُمَّ تُرِكَ حَتَّى نَمَا فَالْمَخْضُوبُ يَبْقَى عَلَى رَأْسِهِ لَا فِي أَصْلِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْقَصِيلُ كَالصُّوفِ وَجَازَ بَيْعُهُ .
أَجَابَ بِأَنَّ الْقَصِيلَ وَإِنْ أَمْكَنَ وُقُوعُ التَّنَازُعِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْقَطْعُ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ مِنْ حَيْثُ الْقَطْعُ فَيُقْلَعُ ، وَأَمَّا الْقَطْعُ فِي الصُّوفِ فَمُتَعَيَّنٌ إذْ لَمْ يُعْهَدْ فِيهِ الْقَلْعُ : أَيْ النَّتْفُ فَبَعْدَ ذَلِكَ يَقَعُ التَّنَازُعُ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ ، وَقَدْ صَحَّ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَعَنْ لَبَنٍ فِي ضَرْعٍ وَعَنْ سَمْنٍ فِي لَبَنٍ } " وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي يُوسُفَ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ .
قَالَ ( وَجِذْعٍ فِي سَقْفٍ وَذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ ذَكَرَا الْقَطْعَ أَوْ لَمْ يَذْكُرَاهُ ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّسْلِيمُ إلَّا بِضَرَرٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ نُقْرَةٍ فِضَّةً لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِلْجَهَالَةِ أَيْضًا ، وَلَوْ قَطَعَ الْبَائِعُ الذِّرَاعَ أَوْ قَلَعَ الْجِذْعَ قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَ الْمُشْتَرِي يَعُودُ صَحِيحًا لِزَوَالِ الْمُفْسِدِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ النَّوَى فِي التَّمْرِ أَوْ الْبَذْرَ فِي الْبِطِّيخِ حَيْثُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا .
وَإِنْ شَقَّهُمَا وَأَخْرَجَ الْمَبِيعَ لِأَنَّ فِي وُجُودِهِمَا احْتِمَالًا ، أَمَّا الْجِذْعُ فَعَيْنٌ مَوْجُودٌ .
قَالَ ( وَجِذْعٍ فِي سَقْفٍ ) إذَا بَاعَ جِذْعًا فِي سَقْفٍ أَوْ ذِرَاعًا مِنْ ثَوْبٍ : يَعْنِي ثَوْبًا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ كَالْقَمِيصِ لَا الْكِرْبَاسِ فَالْبَيْعُ لَا يَجُوزُ ذَكَرَ الْقَطْعَ أَوْ لَا ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّسْلِيمُ إلَّا بِضَرَرٍ لَمْ يُوجِبْهُ الْعَقْدُ ، وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ لَازِمًا فَيَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ وَتَتَحَقَّقُ الْمُنَازَعَةُ ، بِخِلَافِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي التَّبْعِيضِ مَضَرَّةٌ كَبَيْعِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْ نُقْرَةِ فِضَّةٍ وَذِرَاعٍ مِنْ كِرْبَاسٍ فَإِنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ ( وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْجِذْعُ مُعَيَّنًا لَا يَجُوزُ لِلُزُومِ الضَّرَرِ وَلِلْجَهَالَةِ أَيْضًا .
وَلَوْ قَطَعَ الْبَائِعُ الذِّرَاعَ أَوْ قَلَعَ الْجِذْعَ قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَ الْمُشْتَرِي عَادَ الْبَيْعُ صَحِيحًا لِزَوَالِ الْمُفْسِدِ ) وَهُوَ الضَّرَرُ ( وَلَوْ بَاعَ النَّوَى فِي التَّمْرِ أَوْ الْبِزْرِ فِي الْبِطِّيخِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ شَقَّهُمَا وَأَخْرَجَ الْمَبِيعَ لِأَنَّ فِي وُجُودِهِمَا احْتِمَالًا ) أَيْ هُوَ شَيْءٌ مُغَيَّبٌ وَهُوَ فِي غِلَافِهِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا وَأَمْثَالِهَا بَيْعُ مَا فِي وُجُودِهِ احْتِمَالٌ فَإِنَّهُ شَيْءٌ مُغَيَّبٌ فِي غِلَافِهِ وَهُوَ جَائِزٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّ جَوَازَهُ بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ انْطِلَاقِ اسْمِ الْمَبِيعِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا يَتَّصِلُ بِهِ ، فَإِنَّ الْحِنْطَةَ إذَا بِيعَتْ فِي سُنْبُلِهَا إنَّمَا يُقَالُ بِعْت هَذِهِ الْحِنْطَةَ فَالْمَذْكُورُ صَرِيحًا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فَصَحَّ الْعَقْدُ إعْمَالًا لِتَصْحِيحِ لَفْظِهِ ، وَأَمَّا بِزْرُ الْبِطِّيخِ وَنَوَى التَّمْرِ وَحَبُّ الْقُطْنِ فَاسْمُ الْمَبِيعِ وَهُوَ الْبِزْرُ وَالنَّوَى وَالْحَبُّ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ ، إذْ لَا يُقَالُ هَذَا بِزْرٌ وَنَوًى وَحَبٌّ بَلْ يُقَالُ هَذَا بِطِّيخٌ وَتَمْرٌ وَقُطْنٌ ، فَلَمْ يَكُنْ الْمَبِيعُ مَذْكُورًا ، وَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فَلَيْسَ بِمَبِيعٍ ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ وَاضِحٌ وَطَرِيقُ مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَقَوْلُهُ ( أَمَّا الْجِذْعُ
فَعَيْنٌ مَوْجُودَةٌ ) إشَارَةٌ إلَى إتْمَامِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبِزْرِ وَالنَّوَى وَالْجِذْعِ الْمُعَيَّنُ فِي السَّقْفِ بِأَنَّ الْجِذْعَ مُعَيَّنٌ مَوْجُودٌ إذْ الْفَرْضُ فِيهِ وَالْبِزْرُ وَالنَّوَى لَيْسَ كَذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا بَاعَ جِلْدَ الشَّاةِ الْمَعِيبَةِ قَبْلَ الذَّبْحِ لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ ذَبَحَ الشَّاةَ وَسَلَخَ جِلْدَهَا وَسَلَّمَهُ لَا يَنْقَلِبُ الْبَيْعُ جَائِزًا وَإِنْ كَانَ الْجِلْدُ عَيْنًا مَوْجُودًا كَالْجِذْعِ فِي السَّقْفِ ، وَكَذَا بَيْعُ كَرِشِهَا وَأَكَارِعِهَا .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَبِيعَ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِ لَكِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِغَيْرِهِ اتِّصَالَ خِلْقَةٍ فَكَانَ تَابِعًا لَهُ ، فَكَانَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ هُنَاكَ مَعْنًى أَصْلِيًّا لَا أَنَّهُ اُعْتُبِرَ عَاجِزًا حُكْمًا لِمَا فِيهِ مِنْ إفْسَادِ شَيْءٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ ، وَأَمَّا الْجِذْعُ فَإِنَّهُ عَيْنُ مَالٍ فِي نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الِاتِّصَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِعَارِضِ فِعْلِ الْعِبَادِ ، وَالْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ حُكْمِيٌّ لِمَا فِيهِ مِنْ إفْسَادِ بِنَاءٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ ، فَإِذَا قُلِعَ وَالْتَزَمَ الضَّرَرُ زَالَ الْمَانِعُ فَيَجُوزُ ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ وَطَرِيقِ مَنْ لَا يَرَى بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
قَالَ ( وَضَرْبَةِ الْقَانِصِ ) وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الصَّيْدِ بِضَرْبِ الشَّبَكَةِ مَرَّةً لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرًا .قَالَ ( وَضَرْبَةُ الْقَانِصِ ) الْقَانِصُ الصَّائِدُ ، يُقَالُ قَنَصَ إذَا صَادَ .
وَضَرْبَةُ الْقَانِصِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الصَّيْدِ بِضَرْبِ الشَّبَكَةِ .
يُقَالُ ضَرَبَ الشَّبَكَةَ عَلَى الطَّائِرِ أَلْقَاهَا ، وَمِنْهُ نَهَى عَنْ ضَرْبِهِ .
وَفِي تَهْذِيبِ الْأَزْهَرِيِّ عَنْ ضَرْبَةِ الْغَائِصِ وَهُوَ الْغَوَّاصُ عَلَى اللَّآلِئِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِلتَّاجِرِ أَغُوصُ لَك غَوْصَةً فَمَا أَخْرَجْت فَهُوَ لَك بِكَذَا ، وَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّهُ مَجْهُولٌ وَأَنَّ فِيهِ غَرَرًا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي الشَّبَكَةِ شَيْءٌ مِنْ الصَّيْدِ وَأَنْ لَا يُخْرِجَ مِنْ الْغَوْصَةِ شَيْئًا .
قَالَ ( وَبَيْعِ الْمُزَابَنَةِ ، وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَرِ عَلَى النَّخِيلِ بِتَمْرٍ مَجْذُوذٍ مِثْلِ كَيْلِهِ خَرْصًا ) { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ } فَالْمُزَابَنَةُ مَا ذَكَرْنَا ، وَالْمُحَاقَلَةُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ مِثْلِ كَيْلِهَا خَرْصًا ؛ وَلِأَنَّهُ بَاعَ مَكِيلًا بِمَكِيلٍ مِنْ جِنْسِهِ فَلَا تَجُوزُ بِطَرِيقِ الْخَرْصِ كَمَا إذَا كَانَا مَوْضُوعَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ ، وَكَذَا الْعِنَبُ بِالزَّبِيبِ عَلَى هَذَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجُوزُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا وَهُوَ أَنْ يُبَاعَ بِخَرْصِهَا تَمْرًا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ } " .
قُلْنَا : الْعَرِيَّةُ : الْعَطِيَّةُ لُغَةً ، وَتَأْوِيلُهُ أَنْ يَبِيعَ الْمُعْرَى لَهُ مَا عَلَى النَّخِيلِ مِنْ الْمُعْرِي بِتَمْرٍ مَجْذُوذٍ ، وَهُوَ بَيْعٌ مَجَازًا لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ فَيَكُونُ بُرًّا مُبْتَدَأً .
قَالَ ( وَبَيْعُ الْمُزَابَنَةِ ) الرَّفْعُ فِيهِ وَالْجَرُّ وَالرَّفْعُ فِيمَا تَقَدَّمَ جَائِزٌ ، وَالْمُزَابَنَةُ وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَرِ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ عَلَى النَّخْلِ بِتَمْرٍ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مَجْذُوذَةٍ مِثْلُ كَيْلِ مَا عَلَى النَّخْلِ مِنْ الثَّمَرِ حَرْزًا وَظَنًّا لَا حَقِيقِيًّا ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِثْلُهُ كَيْلًا حَقِيقِيًّا لَمْ يَبْقَ مَا عَلَى الرَّأْسِ ثَمَرًا بَلْ تَمْرًا مَجْذُوذًا كَاَلَّذِي يُقَابِلُهُ مِنْ الْمَجْذُوذِ لَا يَجُوزُ " لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ } " وَالْمُحَاقَلَةُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ مِثْلِ كَيْلِهَا خَرْصًا ، وَلِأَنَّهُ بَاعَ مَكِيلًا بِمَكِيلٍ مِنْ جِنْسِهِ فَلَا يَجُوزُ خَرْصًا لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الرِّبَا الْمُلْحَقَةَ بِالْحَقِيقَةِ فِي التَّحْرِيمِ ، كَمَا لَوْ كَانَا مَوْضُوعَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ وَبَاعَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ خَرْصًا ، وَبَيْعُ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ عَلَى هَذَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَلَا يَجُوزُ فِيمَا زَادَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ ، وَلَهُ فِي مِقْدَارِ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ قَوْلَانِ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا ، وَفَسَّرَهَا بِأَنْ يُبَاعَ الثَّمَرُ الَّذِي عَلَى رَأْسِ النَّخْلِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ ، وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ بِخَرْصِهَا عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ الثَّمَرَةِ .
قُلْنَا بِالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : سَلَّمْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا فَإِنَّ فِي الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ كَثْرَةً لَا يُمْكِنُ مَنْعُهَا ، لَكِنْ لَيْسَ حَقِيقَةُ مَعْنَاهَا مَا ذَكَرْتُمْ بَلْ مَعْنَاهَا الْعَطِيَّةُ لُغَةً .
وَتَأْوِيلُهَا أَنْ يَهَبَ الرَّجُلُ ثَمَرَةَ نَخْلَةٍ مِنْ بُسْتَانِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ يَشُقُّ عَلَى الْمُعْرِي دُخُولُ الْمُعْرَى لَهُ فِي بُسْتَانِهِ كُلَّ يَوْمٍ لِكَوْنِ أَهْلِهِ فِي الْبُسْتَانِ وَلَا يَرْضَى
مِنْ نَفْسِهِ خُلْفَ الْوَعْدِ وَالرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ فَيُعْطِيهِ مَكَانَ ذَلِكَ تَمْرًا مَجْذُوذًا بِالْخَرْصِ لِيَدْفَعَ ضَرَرَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَكُونُ مُخْلِفًا لِوَعْدِهِ ، وَبِهِ نَقُولُ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَمْ يَصِرْ مِلْكًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مَا دَامَ مُتَّصِلًا بِمِلْكِ الْوَاهِبِ ، فَمَا يُعْطِيهِ مِنْ التَّمْرِ لَا يَكُونُ عِوَضًا بَلْ هِبَةً مُبْتَدَأَةً ، وَيُسَمَّى بَيْعًا مَجَازًا لِأَنَّهُ فِي الصُّورَةِ عِوَضٌ يُعْطِيهِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ خُلْفِ الْوَعْدِ ، وَاتَّفَقَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ الرُّخْصَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى هَذَا فَنُقِلَ كَمَا وَقَعَ عِنْدَهُ .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ أَنَّهُ جَاءَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا } " فَسِيَاقُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَرَايَا بَيْعُ ثَمَرٍ بِتَمْرٍ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ جَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِلَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَّا الْعَرَايَا ، وَالْأَصْلُ حَمْلُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْبَيْعِ حَقِيقَةُ بَيْعٍ لِوُجُوبِ دُخُولِهِ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ .
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يُنَافِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَشْهُورَ " { التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ } " وَالْمَشْهُورُ قَاضٍ عَلَيْهِ .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَزَةِ ) .
وَهَذِهِ بُيُوعٌ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَهُوَ أَنْ يَتَرَاوَضَ الرَّجُلَانِ عَلَى سِلْعَةٍ : أَيْ يَتَسَاوَمَانِ ، فَإِذَا لَمَسَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ نَبَذَهَا إلَيْهِ الْبَائِعُ أَوْ وَضَعَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهَا حَصَاةً لَزِمَ الْبَيْعُ ؛ فَالْأَوَّلُ بَيْعُ الْمُلَامَسَةِ وَالثَّانِي الْمُنَابَذَةُ ، وَالثَّالِثُ إلْقَاءُ الْحَجَرِ ، { وَقَدْ نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ } وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْلِيقًا بِالْخَطَرِ .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ ) سَامَ الْبَائِعُ السِّلْعَةَ : أَيْ عَرَضَهَا وَذَكَرَ ثَمَنَهَا ، وَسَامَهَا الْمُشْتَرِي بِمَعْنَى اسْتَامَهَا .
بَيْعُ الْمُلَامَسَةِ هُوَ أَنْ يَتَسَاوَمَ الرَّجُلَانِ فِي السِّلْعَةِ فَيَلْمِسُهَا الْمُشْتَرِي بِيَدِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ ابْتِيَاعًا لَهَا رَضِيَ مَالِكُهَا بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَرْضَ .
وَبَيْعُ الْمُنَابَذَةِ هُوَ أَنْ يَتَرَاوَضَ الرَّجُلَانِ عَلَى السِّلْعَةِ فَيُحِبُّ مَالِكُهَا إلْزَامَ الْمُسَاوِمِ لَهُ عَلَيْهَا إيَّاهَا فَيَنْبِذُهَا إلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ بِذَلِكَ وَلَا يَكُونُ لَهُ رَدُّهَا عَلَيْهِ .
وَبَيْعُ إلْقَاءِ الْحَجَرِ هُوَ أَنْ يَتَسَاوَمَ الرَّجُلَانِ عَلَى السِّلْعَةِ فَإِذَا وَضَعَ الطَّالِبُ لِشِرَائِهَا حَصَاةً عَلَيْهَا تَمَّ الْبَيْعُ فِيهَا عَلَى صَاحِبِهَا وَلَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهَا ارْتِجَاعٌ فِيهَا .
وَهَذِهِ كَانَتْ بُيُوعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَعِبَارَةُ الْكِتَابِ تُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بَيْعُ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَبَيْعُ إلْقَاءِ الْحَجَرِ مُلْحَقٌ بِهِمَا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُمَا ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْلِيقًا بِالْخَطَرِ وَالتَّمْلِيكَاتُ لَا تَحْتَمِلُهُ لِأَدَائِهِ إلَى مَعْنَى الْقِمَارِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي : أَيُّ ثَوْبٍ أَلْقَيْت عَلَيْهِ الْحَجَرَ فَقَدْ بِعْته ، وَأَيُّ ثَوْبٍ لَمَسْته بِيَدِك فَقَدْ بِعْته ، وَأَيُّ ثَوْبٍ نَبَذْته إلَيَّ فَقَدْ اشْتَرَيْته .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ ثَوْبٍ مِنْ ثَوْبَيْنِ ) لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ ؛ وَلَوْ قَالَ : عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ جَازَ الْبَيْعُ اسْتِحْسَانًا ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِفُرُوعِهِ .( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ ثَوْبٍ مِنْ ثَوْبَيْنِ ) لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ ، إلَّا أَنْ يَقُولَ عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ أَنْ تَأْخُذَ أَيَّهمَا شِئْت فَإِنَّهُ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَرَاعِي وَلَا إجَارَتُهَا ) الْمُرَادُ الْكَلَأُ ، أَمَّا الْبَيْعُ فَلِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَا لَا يَمْلِكُهُ لِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِيهِ بِالْحَدِيثِ ، وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَلِأَنَّهَا عُقِدَتْ عَلَى اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ مُبَاحٍ ، وَلَوْ عَقَدَ عَلَى اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ مَمْلُوكٍ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ بَقَرَةً لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا لَا يَجُوزُ فَهَذَا أَوْلَى .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَرَاعِي وَلَا إجَارَتُهَا ) وَالْمُرَادُ بِهِ الْكَلَأُ وَهُوَ مَا لَيْسَ لَهُ سَاقٌ مِنْ الْحَشِيشِ ، كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ ، وَقِيلَ مَا لَيْسَ لَهُ سَاقٌ وَمَا لَهُ سَاقٌ فَهُوَ كَلَأٌ ، وَإِنَّمَا فَسَّرَ الْمَرَاعِيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَرْعَى يَقَعُ عَلَى مَوْضِعِ الرَّعْيِ وَهُوَ الْأَرْضُ وَعَلَى الْكَلَأِ وَعَلَى مَصْدَرِ رَعَى ، وَلَوْ لَمْ يُفَسَّرْ بِذَلِكَ لَتُوُهِّمَ أَنَّ بَيْعَ الْأَرْضِ وَإِجَارَتَهَا لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ بَيْعَ الْأَرَاضِي وَإِجَارَتَهَا صَحِيحٌ سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا الْكَلَأُ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، أَمَّا عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِ الْكَلَأِ غَيْرِ الْمُحْرَزِ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِيهِ بِالْحَدِيثِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ : الْمَاءِ ، وَالْكَلَأِ ، وَالنَّارِ } " وَمَا هُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ .
وَمَعْنَى شَرِكَتِهِمْ فِيهَا أَنَّ لَهُمْ الِانْتِفَاعَ بِضَوْئِهَا وَالِاصْطِلَاءَ بِهَا وَالشُّرْبَ وَسَقْيَ الدَّوَابِّ وَالِاسْتِقَاءَ مِنْ الْآبَارِ وَالْحِيَاضِ الْمَمْلُوكَةِ وَالْأَنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ مِنْ الْأَرَاضِي الْمَمْلُوكَةِ وَالِاحْتِشَاشَ مِنْ الْأَرَاضِي الْمَمْلُوكَةِ ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ الدُّخُولِ فِي أَرْضِهِ ، فَإِنْ مَنَعَ كَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ لَهُ إنَّ لِي فِي أَرْضِك حَقًّا ، فَإِمَّا أَنْ تُوَصِّلَنِي إلَى حَقِّي أَوْ تَحْتَشَّهُ فَتَدْفَعَهُ إلَيَّ أَوْ تَدَعَنِي آخُذُهُ ، كَثَوْبٍ لِرَجُلٍ وَقَعَ فِي دَارِ إنْسَانٍ هَذَا إذَا نَبَتَ ظَاهِرًا ، وَأَمَّا إذَا أَنْبَتَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ بِالسَّقْيِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ .
وَذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ وَالنَّوَازِلِ أَنَّ صَاحِبَهَا يَمْلِكُهُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَجَازَ بَيْعُهُ .
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْكَلَإِ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ ، وَإِنَّمَا تَنْقَطِعُ بِالْحِيَازَةِ وَسَوْقُ الْمَاءِ إلَى أَرْضِهِ لَيْسَ بِحِيَازَةٍ لِلْكَلَأِ فَبَقِيَ عَلَى الشَّرِكَةِ
فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَأَمَّا عَدَمُ جَوَازِ الْإِجَارَةِ فَلِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا وُقُوعُ الْإِجَارَةِ فِي عَيْنٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ .
وَالثَّانِي انْعِقَادُهَا عَلَى اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ مُبَاحٍ وَانْعِقَادُهَا عَلَى اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ بَقَرَةً لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا لَا يَصِحُّ ، فَعَلَى اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ مُبَاحٍ أَوْلَى ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْآجِرِ الْمَنَافِعُ لَا الْأَعْيَانُ إلَّا إذَا كَانَتْ الْأَعْيَانُ آلَةً لِإِقَامَةِ الْعَمَلِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْإِجَارَةِ كَالصَّبْغِ فِي اسْتِئْجَارِ الصَّبَّاغِ وَاللَّبَنِ فِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ لِكَوْنِهِ آلَةً لِلْحَضَانَةِ وَالظُّئُورَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ إجَارَةَ الْكَلَأِ وَقَعَتْ فَاسِدَةً أَوْ بَاطِلَةً ، وَذُكِرَ فِي الشُّرْبِ أَنَّهَا فَاسِدَةٌ حَتَّى يَمْلِكَ الْآجِرُ الْأُجْرَةَ بِالْقَبْضِ وَيَنْفُذَ عِتْقُهُ فِيهَا .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ النَّحْلِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجُوزُ إذَا كَانَ مُحْرَزًا ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُؤْكَلُ كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُمَا مِنْ الْهَوَامِّ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالزَّنَابِيرِ وَالِانْتِفَاعُ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ لَا بِعَيْنِهِ فَلَا يَكُونُ مُنْتَفَعًا بِهِ قَبْلَ الْخُرُوجِ ، حَتَّى لَوْ بَاعَ كُوَّارَةً فِيهَا عَسَلٌ بِمَا فِيهَا مِنْ النَّحْلِ يَجُوزُ تَبَعًا لَهُ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ النَّحْلِ ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ : لَا يَجُوزُ بَيْعُ النَّحْلِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَجُوزُ إذَا كَانَ مُحَرَّزًا : أَيْ مَجْمُوعًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً بِاسْتِيفَاءِ مَا يَحْدُثُ مِنْهُ ، وَشَرْعًا لِعَدَمِ مَا يَمْنَعُ عَنْهُ شَرْعًا ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَكَوْنُهُ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ لَا يُنَافِيهِ كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ مِنْ الْهَوَامِّ وَهِيَ الْمَخُوفَةُ مِنْ الْأَحْنَاشِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا .
قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : أَرَأَيْت إنْ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا بِكَمْ يَرُدُّهَا ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّحْلَ لَا قِيمَةَ لَهَا وَلَا رَغْبَةَ فِي عَيْنِهَا ( قَوْلُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ حَيَوَانٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ : يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ بِعَيْنِهِ ، بَلْ الِانْتِفَاعُ بِمَا سَيَحْدُثُ مِنْهُ وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ .
قِيلَ قَوْلُهُ لَا بِعَيْنِهِ احْتِرَازٌ عَنْ الْمُهْرِ وَالْجَحْشِ فَإِنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِمَا فِي الْحَالِ لَكِنْ يُنْتَفَعُ بِهِمَا فِي الْمَآلِ بِأَعْيَانِهِمَا ، وَفِيهِ بُعْدٌ لِخُرُوجِهِمَا بِقَوْلِهِ يَخْرُجُ مِنْهُ ، وَإِذَا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِمَا يَخْرُجُ فَقَبْلَ خُرُوجِهِ لَا يَكُونُ مُنْتَفَعًا بِهِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ مِنْهُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِأَنْ بَاعَ كِوَارَةً بِضَمِّ الْكَافِ وَكَسْرِهَا وَهِيَ مَعْسَلُ النَّحْلِ إذَا سُوِّيَ مِنْ طِينٍ فِيهَا عَسَلٌ بِمَا فِيهَا مِنْ النَّحْلِ يَجُوزُ تَبَعًا لَهُ .
كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ .
وَقَالَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ لِهَذَا الْمُخْتَصَرِ : وَأَمَّا إذَا بَاعَ الْعَسَلَ مَعَ النَّحْلِ فَالْعَقْدُ يَقَعُ عَلَى الْعَسَلِ وَيَدْخُلُ النَّحْلُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ كَالشِّرْبِ وَالطَّرِيقِ .
ثُمَّ قَالَ : وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَيَقُولُ : إنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ مَا
هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ وَأَتْبَاعِهِ وَالنَّحْلُ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ الْعَسَلِ ، إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي جَامِعِهِ هَذَا التَّعْلِيلَ بِعَيْنِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ
( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ دُودِ الْقَزِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) لِأَنَّهُ مِنْ الْهَوَامِّ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ إذَا ظَهَرَ فِيهِ الْقَزُّ تَبَعًا لَهُ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ لِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ ( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ بَيْضَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ ) لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ .
وَقِيلَ أَبُو يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا فِي دُودِ الْقَزِّ وَالْحَمَامِ إذَا عَلِمَ عَدَدَهَا وَأَمْكَنَ تَسْلِيمُهَا جَازَ بَيْعُهَا لِأَنَّهُ مَالٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ ..
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ دُودِ الْقَزِّ وَبَيْضِهِ ) وَهُوَ الْبِزْرُ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ الدُّودُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مِنْ الْهَوَامِّ وَبَيْضُهُ مِمَّا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِعَيْنِهِ بَلْ بِمَا سَيَحْدُثُ مِنْهُ وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ .
وَجَازَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ وَلِمَكَانِ الضَّرُورَةِ فِي بَيْعِهِ ، قِيلَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ، وَأَجَازَ أَبُو يُوسُفَ بَيْعَ دُودِ الْقَزِّ إذَا ظَهَرَ فِيهِ الْقَزُّ تَبَعًا لَهُ كَبَيْعِ النَّحْلِ مَعَ الْعَسَلِ وَبَيْعِ بَيْضِهِ مُطْلَقًا لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي دُودِهِ ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تُشِيرُ إلَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا لَمْ يُجَوِّزْ بَيْعَهُ بِانْفِرَادِهِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ تَبَعًا فَيَجُوزُ ، وَالْحَمَامُ إذَا عُلِمَ عَدَدُهَا وَأَمْكَنَ تَسْلِيمُهَا جَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ مَالٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ وَكَانَ مَوْضِعُ ذِكْرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَا بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا هُنَا تَبَعًا لِمَا ذَكَرَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ وَضَعَهُ ثَمَّةَ كَذَلِكَ .
( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْآبِقِ ) لِنَهْيِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْهُ وَلِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ ( إلَّا أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ رَجُلٍ زَعَمَ أَنَّهُ عِنْدَهُ ) لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بَيْعُ آبِقٍ مُطْلَقٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ آبِقًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَهَذَا غَيْرُ آبِقٍ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي انْتَفَى الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ وَهُوَ الْمَانِعُ ، ثُمَّ لَا يَصِيرُ قَابِضًا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ وَكَانَ أَشْهَدَ عِنْدَهُ أَخَذَهُ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْبَيْعِ ، وَلَوْ كَانَ لَمْ يُشْهِدْ يَجِبُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا لِأَنَّهُ قَبْضُ غَصْبٍ ، لَوْ قَالَ هُوَ عِنْدَ فُلَانٍ فَبِعْهُ مِنِّي فَبَاعَهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ آبِقٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ .
وَلَوْ بَاعَ الْآبِقَ ثُمَّ عَادَ مِنْ الْإِبَاقِ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّيَّةِ كَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَتِمُّ الْعَقْدُ إذَا لَمْ يُفْسَخْ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ وَالْمَانِعَ قَدْ ارْتَفَعَ وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ ، كَمَا إذَا أَبَقَ بَعْدَ الْبَيْعِ ، وَهَكَذَا يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْآبِقِ ) بَيْعُ الْآبِقِ الْمُطْلَقِ لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ بِقَوْلِهِ " { بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَعَنْ بَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِقِ } " وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ ، وَالْآبِقُ الَّذِي لَا يَكُونُ مُطْلَقًا وَهُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ آبِقًا فِي حَقِّ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ جَازَ بَيْعُهُ كَمَنْ بَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بَيْعُ الْمُطْلَقِ مِنْهُ ، وَهَذَا غَيْرُ آبِقٍ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي فَيَنْتَفِي الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ الْمَانِعِ مِنْ الْجَوَازِ ثُمَّ هَلْ يَصِيرُ قَابِضًا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ أَوْ لَا ، إنْ كَانَ قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ يَصِيرُ قَابِضًا عَقِبَ الشِّرَاءِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ وَإِنْ قَبَضَهُ لِلرَّدِّ ، فَإِمَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْمَوْلَى هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى ( وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْبَيْعِ ) لِأَنَّ قَبْضَ الضَّمَانِ أَقْوَى لِتَأَكُّدِهِ بِاللُّزُومِ وَالْمِلْكِ ، أَمَّا اللُّزُومُ فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ امْتَنَعَ عَنْ قَبْضِ الْمَبِيعِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ لَيْسَ لِلْبَائِعِ فَسْخُهُ ، بِخِلَافِ الْأَمَانَةِ .
وَأَمَّا الْمِلْكُ فَلِأَنَّ الضَّمَانَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ .
بِخِلَافِ قَبْضِ الْهِبَةِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي يَجِبُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا لِأَنَّهُ قَبْضُ غَصْبٍ وَهُوَ قَبْضُ ضَمَانٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ قَابِضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ يَجِبُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا كَأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ أَبَا يُوسُفَ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ قَابِضًا نَظَرًا إلَى الْقَاعِدَةِ .
وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي هُوَ عِنْدَ فُلَانٍ فَبِعْهُ مِنِّي فَبَاعَهُ لَا يَجُوزُ لِكَوْنِهِ آبِقًا فِي حَقِّ
الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَغَيْرَ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ ، إذْ الْبَائِعُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِ مَا لَيْسَ فِي يَدِهِ ، وَلَوْ بَاعَ الْآبِقُ ثُمَّ عَادَ مِنْ الْإِبَاقِ هَلْ يَتِمُّ ذَلِكَ الْعَقْدُ أَوْ يَحْتَاجُ إلَى عَقْدٍ جَدِيدٍ ؟ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَبِهِ أَخَذَ مَشَايِخُ بَلْخِي أَنَّ ذَلِكَ الْعَقْدَ لَا يَتِمُّ وَيَحْتَاجُ إلَى عَقْدٍ جَدِيدٍ لِوُقُوعِهِ بَاطِلًا ، فَإِنَّ جُزْءَ الْمَحَلِّ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَقَدْ فَاتَ وَقْتُ الْعَقْدِ فَانْعَدَمَ الْمَحَلُّ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ الطَّيْرَ فِي الْهَوَاءِ ثُمَّ أَخَذَهُ وَسَلَّمَهُ فِي الْمَجْلِسِ .
وَعُورِضَ بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ يَجُوزُ .
وَلَوْ فَاتَ الْمَحَلُّ لَمَا جَازَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إبْطَالُ الْمِلْكِ وَهُوَ يُلَائِمُ النَّوَى بِالْإِبَاقِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فِيهِ فَإِنَّهُ إثْبَاتُهُ ، وَالنَّوَى يُنَافِيهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَقْدَ يَتِمُّ إذَا لَمْ يُفْسَخْ ، وَالْبَائِعُ إنْ امْتَنَعَ عَنْ تَسْلِيمِهِ وَالْمُشْتَرِي عَنْ قَبْضِهِ أُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْعَقَدَ لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ لِأَنَّ مَالَ الْمَوْلَى لَا يَزُولُ بِالْإِبَاقِ وَلِهَذَا جَازَ إعْتَاقُهُ وَتَدْبِيرُهُ ، وَالْمَانِعُ وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ قَدْ ارْتَفَعَ فَتَحَقَّقَ الْمُقْتَضَى وَانْتَفَى الْمَانِعُ فَيَجُوزُ وَصَارَ كَمَا إذَا أَبَقَ الْعَبْدُ بَعْدَ الْبَيْعِ ، وَهَكَذَا يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدٍ وَبِهِ أَخَذَ الْكَرْخِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ مَشَايِخِنَا .
وَأَمَّا إذَا رَفَعَهُ الْمُشْتَرِي إلَى الْقَاضِي وَطَلَبَ مِنْهُ التَّسْلِيمَ وَعَجَزَ الْبَائِعُ عَنْهُ وَفَسَخَ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى بَيْعٍ جَدِيدٍ .
قَالَ ( وَلَا بَيْعُ لَبَنِ امْرَأَةٍ فِي قَدَحٍ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ مَشْرُوبٌ طَاهِرٌ ، وَلَنَا أَنَّهُ جُزْءُ الْآدَمِيِّ وَهُوَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُكَرَّمٌ مَصُونٌ عَنْ الِابْتِذَالِ بِالْبَيْعِ ، وَلَا فَرْقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ لَبَنِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهَا فَكَذَا عَلَى جُزْئِهَا .
قُلْنَا : الرِّقُّ قَدْ حَلَّ نَفْسَهَا ، فَأَمَّا اللَّبَنُ فَلَا رِقَّ فِيهِ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِمَحِلٍّ يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْقُوَّةُ الَّتِي هِيَ ضِدُّهُ وَهُوَ الْحَيُّ وَلَا حَيَاةَ فِي اللَّبَنِ .
قَالَ ( وَلَا لَبَنِ امْرَأَةٍ فِي قَدَحٍ ) قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي قَدَحٍ لِدَفْعِ مَا عَسَى أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ بَيْعَهُ فِي الضَّرْعِ لَا يَجُوزُ كَسَائِرِ أَلْبَانِ الْحَيَوَانَاتِ ، وَفِي الْقَدَحِ يَجُوزُ فَقَالَ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي قَدَحٍ .
وَجَوَّزَ الشَّافِعِيُّ بَيْعَهُ لِأَنَّهُ مَشْرُوبٌ طَاهِرٌ وَبَيْعُ مِثْلِهِ جَائِزٌ كَسَائِرِ الْأَلْبَانِ ، وَعَقَّبَ بِقَوْلِهِ طَاهِرًا احْتِرَازًا عَنْ الْخَمْرِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِطَاهِرَةٍ .
وَلَنَا أَنَّهُ جُزْءُ الْآدَمِيِّ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ حُرْمَةَ الرَّضَاعِ لِمَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ ، وَجُزْءُ الْآدَمِيِّ لَيْسَ بِمَالٍ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَتَمَوَّلُونَهُ وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ .
وَعُورِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جُزْءُ الْآدَمِيِّ لَكَانَ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ كَبَقِيَّةِ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ .
أُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَجْزَاءَ تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ بَلْ الْمَضْمُونُ مَا انْتَقَصَ مِنْ الْأَصْلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجُرْحَ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْبُرْءُ يَسْقُطُ الضَّمَانُ وَكَذَا السِّنُّ إذَا نَبَتَتْ ( قَوْلُهُ وَهُوَ ) أَيْ الْآدَمِيُّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُكَرَّمٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا آخَرَ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْآدَمِيَّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُكَرَّمٌ مَصُونٌ عَنْ الِابْتِذَالِ ، وَمَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ لَيْسَ بِمُكَرَّمٍ وَلَا مَصُونٍ عَنْ الِابْتِذَالِ ، وَلَا فَرْقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ لَبَنِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ إيرَادُ الْبَيْعِ عَلَى نَفْسِهَا فَيَجُوزُ عَلَى جُزْئِهَا اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ اعْتِبَارٌ مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ فَلَا يَجُوزُ .
وَبَيَانُهُ أَنَّ الرِّقَّ حِلُّ نَفْسِهَا وَمَا حَلَّ فِيهِ الرِّقُّ جَازَ بَيْعُهُ ، وَأَمَّا اللَّبَنُ فَلَا رِقَّ فِيهِ لِأَنَّ الرِّقَّ يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْقُوَّةِ الَّتِي هِيَ ضِدُّ الرِّقِّ : يَعْنِي الْعِتْقَ ، وَهُوَ أَيْ الْمَحَلُّ هُوَ الْحَيُّ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمَا صِفَتَانِ يَتَعَاقَبَانِ عَلَى مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَهُمَا ضِدَّانِ ،
وَإِذْ لَا حَيَاةَ فِي اللَّبَنِ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ الرِّقُّ وَلَا الْعِتْقُ لِانْتِفَاءِ الْمَوْضُوعِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ مَشْرُوبٌ طَاهِرٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كَوْنُهُ مَشْرُوبًا مُطْلَقًا أَوْ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ .
فَإِنَّهُ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ حَرُمَ شُرْبُهُ .
وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ لِأَنَّهُ غِذَاءٌ فِي تَرْبِيَةِ الصِّغَارِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَإِنَّهُمْ لَا يَتَرَبُّونَ إلَّا بِلَبَنِ الْجِنْسِ عَادَةً ، وَلَكِنْ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ مَالًا كَالْمَيْتَةِ تَكُونُ غِذَاءً عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلَيْسَتْ بِمَالٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ ) لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إهَانَةً لَهُ ، وَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلْخَرْزِ لِلضَّرُورَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهِ ، وَيُوجَدُ مُبَاحَ الْأَصْلِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْبَيْعِ ، وَلَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ أَفْسَدَهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُفْسِدُهُ لِأَنَّ إطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ بِهِ دَلِيلُ طَهَارَتِهِ وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِطْلَاقَ لِلضَّرُورَةِ فَلَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَحَالَةُ الْوُقُوعِ تُغَايِرُهَا .قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ ) وَنَجِسُ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إهَانَةً لَهُ ، وَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلْخَرْزِ لِلضَّرُورَةِ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهُ .
أَجَابَ بِأَنَّهُ يُوجَدُ مُبَاحَ الْأَصْلِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى بَيْعِهِ ، وَعَلَى هَذَا قِيلَ : إذَا كَانَ لَا يُوجَدُ إلَّا بِالْبَيْعِ جَازَ بَيْعُهُ لَكِنَّ الثَّمَنَ لَا يَطِيبُ لِلْبَائِعِ .
وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ : إنْ كَانَتْ الْأَسَاكِفَةُ لَا يَجِدُونَ شَعْرَ الْخِنْزِيرِ إلَّا بِالشِّرَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لَهُمْ الشِّرَاءُ ، وَلَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ أَفْسَدَهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ إلَّا فِي حَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَحَالَةُ الْوُقُوعِ غَيْرُ حَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يُفْسِدُهُ لِأَنَّ إطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ بِهِ دَلِيلُ طَهَارَتِهِ ، وَوُقُوعُ الطَّاهِرِ فِي الْمَاءِ لَا يُنَجِّسُهُ ، وَكَانَ الْمُصَنِّفُ اخْتَارَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ حَيْثُ أَخَّرَهُ ، قِيلَ : هَذَا إذَا كَانَ مَنْتُوفًا ، وَأَمَّا الْمَجْزُوزُ فَطَاهِرٌ كَذَا فِي التُّمُرْتَاشِيِّ وَقَاضِي خَانْ .
( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شُعُورِ الْإِنْسَانِ وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهَا ) لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مُكَرَّمٌ لَا مُبْتَذَلٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ مُهَانًا وَمُبْتَذَلًا وَقَدْ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَة } الْحَدِيثُ ، وَإِنَّمَا يُرَخَّصُ فِيمَا يُتَّخَذُ مِنْ الْوَبَرِ فَيَزِيدُ فِي قُرُونِ النِّسَاءِ وَذَوَائِبِهِنَّ .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شُعُورِ الْإِنْسَانِ إلَخْ ) بَيْعُ شُعُورِ الْآدَمِيِّينَ وَالِانْتِفَاعُ بِهَا لَا يَجُوزُ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَلَقَ رَأْسَهُ قَسَمَ شَعْرَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَكَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِهِ } " وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا فَعَلَهُ ، إذْ النَّجِسُ لَا يُتَبَرَّكُ بِهِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْآدَمِيَّ مُكَرَّمٌ غَيْرُ مُبْتَذَلٍ ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ مُبْتَذَلًا مُهَانًا وَفِي الْبَيْعِ وَالِانْتِفَاعِ ذَلِكَ ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " { لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَة } " وَالْوَاصِلَةُ مَنْ تَصِلُ الشَّعْرَ ، وَالْمُسْتَوْصِلَة مَنْ يُفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : جَعَلَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْعَ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ إعْزَازًا فِيمَا تَقَدَّمَ وَجَعَلَ شَعْرَ الْآدَمِيِّ إهَانَةً لَهُ وَالْبَيْعُ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِأَمْرَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةٌ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْمَبِيعِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا حَقَّرَهُ الشَّرْعُ فَبَيْعُهُ وَمُبَادَلَتُهُ بِمَا لَمْ يُحَقِّرْهُ إعْزَازٌ لَهُ فَلَا يَجُوزُ لِإِفْضَائِهِ إلَى إعْزَازِ مَا حَقَّرَهُ الشَّرْعُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا كَرَّمَهُ وَعَظَّمَهُ فَبَيْعُهُ وَمُبَادَلَتُهُ بِمَا لَيْسَ كَذَلِكَ إهَانَةٌ لَهُ فَلَا يَجُوزُ لِإِفْضَائِهِ إلَى تَحْقِيرِ مَا عَظَّمَهُ الشَّرْعُ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْبَيْعِ فِي شَيْءٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ وَصْفِ الْمَحَلِّ شَرْعًا ، ثُمَّ إنَّ عَدَمَ جَوَازِهِمَا لَيْسَ لِلنَّجَاسَةِ عَلَى الصَّحِيحِ لِأَنَّ شَعْرَ غَيْرِ الْإِنْسَانِ لَا يَنْجُسُ بِالْمُزَايَلَةِ فَشَعْرُهُ وَهُوَ طَاهِرٌ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ فِي تَنَاثُرِ الشُّعُورِ ضَرُورَةً وَهِيَ تُنَافِي النَّجَاسَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : نَجِسٌ لِحُرْمَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِالضَّرُورَةِ ، وَلَا بَأْسَ بِاِتِّخَاذِ الْقَرَامِيلِ وَهِيَ مَا يُتَّخَذُ مِنْ
الْوَبَرِ لِزَيْدٍ فِي قُرُونِ النِّسَاءِ : أَيْ فِي أُصُولِ شَعْرِهِنَّ بِالتَّكْثِيرِ وَفِي ذَوَائِبِهِنَّ بِالتَّطْوِيلِ .
قَالَ ( وَلَا بَيْعُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْبَغَ ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ } وَهُوَ اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ ( وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ الدِّبَاغِ ) لِأَنَّهَا قَدْ طَهُرَتْ بِالدِّبَاغِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ ( وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ عِظَامِ الْمَيْتَةِ وَعَصَبِهَا وَصُوفِهَا وَقَرْنِهَا وَشَعْرِهَا وَوَبَرِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ كُلِّهِ ) ؛ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ لَا يَحِلُّهَا الْمَوْتُ ؛ لِعَدَمِ الْحَيَاةِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .
وَالْفِيلُ كَالْخِنْزِيرِ نَجِسُ الْعَيْنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ السِّبَاعِ حَتَّى يُبَاعُ عَظْمُهُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ .
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْبَغَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهَا لِنَجَاسَتِهَا .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ } " وَهُوَ اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ ، كَذَا رُوِيَ عَنْ الْخَلِيلِ وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ .
فَإِنْ قِيلَ : نَجَاسَتُهَا مُجَاوِرَةٌ بِاتِّصَالِ الرُّسُومَاتِ وَمِثْلُ ذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهَا خَلْفِيَّةٌ فَمَا لَمْ يُزَايَلْ بِالدِّبَاغِ فَهِيَ كَعَيْنِ الْجِلْدِ ، بِخِلَافِ نَجَاسَةِ الثَّوْبِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَنْتَفِعُوا ) وَهُوَ يَقْتَضِي الْمَشْرُوعِيَّةَ فَمِنْ أَيْنَ اللَّاجَوَازُ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ وَهُوَ يُفِيدُهُ ، طَالِعْ التَّقْرِيرَ تَطَّلِعُ عَلَيْهِ ( وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ الدِّبَاغِ لِأَنَّهَا طَهُرَتْ بِهِ ) لِأَنَّ تَأْثِيرَهُ فِي إزَالَةِ الرُّطُوبَاتِ كَالذَّكَاةِ وَالْجِلْدِ يَطْهُرُ بِهَا فَيَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ .
وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ عِظَامِ الْمَيْتَةِ وَعَصَبِهَا وَصُوفِهَا وَقَرْنِهَا وَشَعْرِهَا وَوَبَرِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ لَا يُحِلُّهَا الْمَوْتُ لِعَدَمِ الْحَيَاةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ ( وَالْفِيلُ كَالْخِنْزِيرِ نَجِسُ الْعَيْنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ) اعْتِبَارًا بِهِ فِي حُرْمَةِ اللَّحْمِ وَغَيْرِهَا .
قَالَ لَا تَقَعُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ، وَإِذَا دُبِغَ جِلْدُهُ لَمْ يَطْهُرْ .
وَعِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ السِّبَاعِ يُبَاعُ عَظْمُهُ لِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ بِالرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَلَمْ يَكُنْ نَجِسَ الْعَيْنِ بَلْ كَانَ كَالْكَلْبِ وَسَائِرِ السِّبَاعِ .
قَالُوا : بَيْعُ عَظْمِهِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ دُسُومَةٌ ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ فَهُوَ نَجِسٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ .
قَالَ ( وَإِذَا كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ وَعُلُوُّهُ لِآخَرَ فَسَقَطَا أَوْ سَقَطَ الْعُلُوُّ وَحْدَهُ فَبَاعَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ عُلُوَّهُ لَمْ يَجُزْ ) لِأَنَّ حَقَّ التَّعَلِّي لَيْسَ بِمَالٍ لِأَنَّ الْمَالَ مَا يُمْكِنُ إحْرَازُهُ وَالْمَالُ هُوَ الْمَحِلُّ لِلْبَيْعِ ، بِخِلَافِ الشِّرْبِ حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ وَمُفْرَدًا فِي رِوَايَةٍ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ بَلْخِي رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِأَنَّهُ حَظٌّ مِنْ الْمَاءِ وَلِهَذَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ وَلَهُ قِسْطٌ مِنْ الثَّمَنِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ .قَالَ ( وَإِذَا كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ وَعُلْوُهُ لِآخَرَ فَسَقَطَا أَوْ سَقَطَ الْعُلْوُ وَحْدَهُ فَبَاعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ عُلْوَهُ لَمْ يَجُزْ ) لِأَنَّ حَقَّ التَّعَلِّي لَيْسَ بِمَالٍ لِعَدَمِ إمْكَانِ إحْرَازِهِ ( وَالْمَالُ هُوَ الْمَحَلُّ لِلْبَيْعِ ) فَإِنْ قِيلَ : الشِّرْبُ حَقُّ الْأَرْضِ وَلِهَذَا قَالَ فِي كِتَابِ الشِّرْبِ : إذَا اشْتَرَى أَرْضًا لَمْ يَكُنْ لَهُ شِرْبٌ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الشِّرْبِ حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ .
وَمُفْرَدًا فِي رِوَايَةٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ بَلْخِي لِأَنَّهُ حَظٌّ مِنْ الْمَاءِ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ ، فَإِنَّ مَنْ سَقَى أَرْضَ نَفْسِهِ بِمَاءِ غَيْرِهِ يَضْمَنُ ، وَلِأَنَّ لَهُ حَظًّا مِنْ الثَّمَنِ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الشِّرْبِ .
قَالَ فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِشِرَاءِ أَرْضٍ بِشِرْبِهَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِشِرَائِهَا بِأَلْفٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الشِّرْبَ لَمْ تُقْبَلْ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي ثَمَنِ الْأَرْضِ لِأَنَّ بَعْضَ الثَّمَنِ يُقَابِلُ الشِّرْبَ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الشِّرْبِ وَحْدَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِلْجَهَالَةِ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ ، بِخِلَافِ بَيْعِهِ مَعَهَا تَبَعًا لِزَوَالِهَا بِاعْتِبَارِ التَّبَعِيَّةِ .
قَالَ ( وَبَيْعُ الطَّرِيقِ وَهِبَتُهُ جَائِزٌ وَبَيْعُ مَسِيلِ الْمَاءِ وَهِبَتُهُ بَاطِلٌ ) وَالْمَسْأَلَةُ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : بَيْعُ رَقَبَةِ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ ، وَبَيْعُ حَقِّ الْمُرُورِ وَالتَّسْيِيلِ .
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ الطَّرِيقَ مَعْلُومٌ لِأَنَّ لَهُ طُولًا وَعَرْضًا مَعْلُومًا ، وَأَمَّا الْمَسِيلُ فَمَجْهُولٌ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى قَدْرُ مَا يَشْغَلُهُ مِنْ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَفِي بَيْعِ حَقِّ الْمُرُورِ رِوَايَتَانِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى إحْدَاهُمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَقِّ التَّسْيِيلِ أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ مَعْلُومٌ لِتَعَلُّقِهِ بِمَحِلٍّ مَعْلُومٍ وَهُوَ الطَّرِيقُ ، أَمَّا الْمَسِيلُ عَلَى السَّطْحِ فَهُوَ نَظِيرُ حَقِّ التَّعَلِّي وَعَلَى الْأَرْضِ مَجْهُولٌ لِجَهَالَةِ مَحِلِّهِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ حَقِّ الْمُرُورِ وَحَقِّ التَّعَلِّي عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ حَقَّ التَّعَلِّي يَتَعَلَّقُ بِعَيْنٍ لَا تَبْقَى وَهُوَ الْبِنَاءُ فَأَشْبَهَ الْمَنَافِعَ ، أَمَّا حَقُّ الْمُرُورِ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنٍ تَبْقَى وَهُوَ الْأَرْضُ فَأَشْبَهَ الْأَعْيَانَ .
قَالَ ( وَبَيْعُ الطَّرِيقِ وَهِبَتُهُ جَائِزَةٌ ) بَيْعُ رَقَبَةِ الطَّرِيقِ وَهِبَتُهُ جَائِزٌ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا بِطُولِهِ وَعَرْضِهِ إنْ بَيَّنَ ذَلِكَ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَإِلَّا قُدِّرَ بِعَرْضِ بَابِ الدَّارِ الْعُظْمَى ، وَهُوَ مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ لَا يَقْبَلُ النِّزَاعَ .
وَبَيْعُ رَقَبَةِ الْمَسِيلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَسِيلٌ وَهِبَتُهُ إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الطُّولَ وَالْعَرْضَ لَا يَجُوزُ لِلْجَهَالَةِ حَيْثُ لَا يَدْرِي قَدْرَ مَا يَشْغَلُهُ الْمَاءُ ، وَالْقَيْدُ الْأَوَّلُ لِإِخْرَاجِ بَيْعِ رَقَبَتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَهْرٌ فَإِنَّهُ أَرْضٌ مَمْلُوكَةٌ جَازَ بَيْعُهَا .
ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ .
وَالثَّانِي لِإِخْرَاجِ بَيْعِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَسِيلٌ إذَا بَيَّنَ حُدُودَهُ وَمَوْضِعَهُ فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَيْضًا .
ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ .
وَهَذَا أَحَدُ مُحْتَمَلَيْ الْمَسْأَلَةِ ، وَبَيْعُ حَقِّ الْمُرُورِ وَهُوَ حَقُّ التَّطَرُّقِ دُونَ رَقَبَةِ الْأَرْضِ جَائِزٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ ، وَجُعِلَ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ لِحَقِّ الْمُرُورِ قِسْطًا مِنْ الثَّمَنِ حَيْثُ قَالَ : دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فِيهَا طَرِيقٌ لِرَجُلٍ آخَرَ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُمَا مِنْ الْقِسْمَةِ وَيَتْرُكُ لِلطَّرِيقِ مِقْدَارَ بَابِ الدَّارِ الْعُظْمَى لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ ، فَإِنْ بَاعُوا الدَّارَ وَالطَّرِيقَ بِرِضَاهُمْ يَضْرِبُ صَاحِبُ الْأَصْلِ بِثُلُثَيْ ثَمَنِ الطَّرِيقِ وَصَاحِبُ الْمَمَرِّ بِثُلُثِ الثَّمَنِ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ اثْنَانِ وَصَاحِبُ الْمَمَرِّ وَاحِدٌ ، وَقِسْمَةُ الطَّرِيقِ تَكُونُ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ يُسَاوِي صَاحِبَ الْكَثِيرِ فِي الِانْتِفَاعِ ، فَقَدْ جَعَلَ لِحَقِّ الْمُرُورِ قِسْطًا مِنْ الثَّمَنِ وَهُوَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ ، وَفِي رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ : لَا يَجُوزُ ، وَصَحَّحَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ وَبَيْعُ الْحُقُوقِ بِالِانْفِرَادِ لَا يَجُوزُ .
وَبَيْعُ التَّسْيِيلِ وَهُوَ حَقُّ الْمَسِيلِ لَا يَجُوزُ ، وَهَذَا مُحْتَمَلُهُمَا الْآخَرُ .
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ
الْمُحْتَمَلَ الْأَوَّلَ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ كَمَا مَرَّ آنِفًا ، وَإِنْ كَانَ الْمُحْتَمَلَ الثَّانِيَ فَعَلَى رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ لِشُمُولِ عَدَمِ الْجَوَازِ .
وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ مَعْلُومٌ لِتَعَلُّقِهِ بِمَحَلٍّ مَعْلُومٍ إمَّا بِالْبَيَانِ أَوْ التَّقْدِيرِ كَمَا مَرَّ وَهُوَ الطَّرِيقُ ، وَأَمَّا الْمَسِيلُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى السَّطْحِ أَوْ عَلَى الْأَرْضِ ، وَالْأَوَّلُ حَقُّ التَّعَلِّي وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا مُتَعَلِّقًا بِهِ مَعَ كَوْنِهِ مَجْهُولًا لِاخْتِلَافِ التَّسْيِيلِ بِقِلَّةِ الْمَاءِ وَكَثْرَتِهِ ، وَالثَّانِي مَجْهُولٌ فَعَادَ إلَى الْفَرْقِ فِي الْمُحْتَمَلِ الْأَوَّلِ .
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ : أَعْنِي رِوَايَةَ ابْنِ سِمَاعَةَ فِي جَوَازِ بَيْعِ حَقِّ الْمُرُورِ تُلْجِئُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّعَلِّي ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ إنَّ حَقَّ التَّعَلِّي تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ لَا تَبْقَى وَهُوَ الْبِنَاءُ فَأَشْبَهَ الْمَنَافِعَ وَعَقْدَ الْبَيْعِ لَا يَرِدُ عَلَيْهَا ، أَمَّا حَقُّ الْمُرُورِ فَيَتَعَلَّقُ بِعَيْنٍ تَبْقَى وَهُوَ الْأَرْضُ فَأَشْبَهَ الْأَعْيَانَ وَالْبَيْعُ يَرِدُ عَلَيْهَا ، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ إمَّا الْأَعْيَانُ الَّتِي هِيَ أَمْوَالٌ أَوْ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِهَا .
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ السُّكْنَى مِنْ الدَّارِ مَثَلًا حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنٍ تَبْقَى هُوَ مَالٌ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً فَإِذَا هُوَ غُلَامٌ ) فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ كَبْشًا فَإِذَا هُوَ نَعْجَةٌ حَيْثُ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ وَيَتَخَيَّرُ .
وَالْفَرْقُ يَنْبَنِي عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي النِّكَاحِ لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ أَنَّ الْإِشَارَةَ مَعَ التَّسْمِيَةِ إذَا اجْتَمَعَتَا فَفِي مُخْتَلِفِي الْجِنْسِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى وَيَبْطُلُ لِانْعِدَامِهِ ، وَفِي مُتَّحِدِي الْجِنْسِ يَتَعَلَّقُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ وَيَنْعَقِدُ لِوُجُودِهِ وَيَتَخَيَّرُ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ خَبَّازٌ فَإِذَا هُوَ كَاتِبٌ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مِنْ بَنِي آدَمَ جِنْسَانِ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْأَغْرَاضِ ، وَفِي الْحَيَوَانَاتِ جِنْسٌ وَاحِدٌ لِلتَّقَارُبِ فِيهَا وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذَا دُونَ الْأَصْلِ كَالْخَلِّ وَالدِّبْسِ جِنْسَانِ .
وَالْوَذَارِيُّ والزندنيجي عَلَى مَا قَالُوا جِنْسَانِ مَعَ اتِّحَادِ أَصْلِهِمَا .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً فَإِذَا هُوَ غُلَامٌ ) اعْلَمْ أَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى قَدْ يَكُونَانِ جِنْسَيْنِ لِفُحْشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا ، وَقَدْ يَكُونَانِ جِنْسًا وَاحِدًا لِقِلَّتِهِ ، فَالْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ جِنْسَانِ لِأَنَّ الْغُلَامَ يَصْلُحُ لِخِدْمَةِ خَارِجِ الْبَيْتِ كَالتِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَغَيْرِهِمَا وَالْجَارِيَةُ لِخِدْمَةِ دَاخِلِ الْبَيْتِ كَالِاسْتِفْرَاشِ وَالِاسْتِيلَادِ اللَّذَيْنِ لَمْ يَصْلُحْ لَهُمَا الْغُلَامُ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَالْكَبْشُ وَالنَّعْجَةُ جِنْسٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْكُلِّيَّ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْأَكْلُ وَالرُّكُوبُ وَالْحَمْلُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، فَالْمُعْتَبَرُ فِي اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَاتِّحَادِهِ تَفَاوُتُ الْأَغْرَاضِ دُونَ الْأَصْلِ كَالْخَلِّ وَالدِّبْسِ فَإِنَّهُمَا جِنْسَانِ مَعَ اتِّحَادِ أَصْلِهِمَا لِعِظَمِ التَّفَاوُتِ .
وَالْوَذَارِيُّ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا : ثَوْبٌ مَنْسُوبٌ إلَى وَذَارَ قَرْيَةٌ بِسَمَرْقَنْدَ ، والزندنيجي ثَوْبٌ مَنْسُوبٌ إلَى زَنْدَنَةَ : قَرْيَةٌ بِبُخَارَى جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ عَلَى مَا قَالَ الْمَشَايِخُ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَإِذَا وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ عَلَى مَبِيعٍ ذُكِرَ بِتَسْمِيَةٍ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ جِنْسَيْنِ كَبَنِي آدَمَ فَالْعَقْدُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى وَيَبْطُلُ بِانْعِدَامِهِ .
وَإِذَا قَالَ بِعْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَإِذَا هِيَ غُلَامٌ بَطَلَ الْبَيْعُ لِفَوَاتِ التَّسْمِيَةِ الَّتِي هِيَ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ مِنْ الْإِشَارَةِ ، فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ لِبَيَانِ الْمَاهِيَّةِ يَعْنِي مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ ، وَالْإِشَارَةُ لِتَعْرِيفِ الذَّاتِ يَعْنِي مُجَرَّدًا عَنْ بَيَانِ صِفَةٍ ، وَالْأَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ أَقْوَى ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَكُونَانِ جِنْسًا وَاحِدًا فَالْعَقْدُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ وَيَنْعَقِدُ لِوُجُودِهِ ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ إذْ ذَاكَ لِلْإِشَارَةِ لَا لِلتَّسْمِيَةِ ، لِأَنَّ مَا سُمِّيَ وُجِدَ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ فَصَارَ حَقُّ التَّسْمِيَةِ مَقْضِيًّا بِالْمُشَارِ
إلَيْهِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَمَامَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فِي تَعْلِيمِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا بَاعَ كَبْشًا فَإِذَا هُوَ نَعْجَةٌ صَحَّ الْبَيْعُ لَكِنَّهُ يَتَخَيَّرُ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ ، فَإِنَّهُ إذَا خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُعَرِّفًا جُعِلَ لِلتَّرْغِيبِ حَذَرًا عَنْ الْإِلْغَاءِ فَصَارَ كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ خَبَّازٌ فَإِذَا هُوَ كَاتِبٌ فَهُوَ بِالْخِيَارِ .
وَقَدْ يُشِيرُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ إلَى ثُبُوتِ خِيَارِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ فَوَاتِ الْوَصْفِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِهِ أَنْقَصَ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ صِفَةَ الْخَبْزِ لَا تَرْبُو عَلَى الْكِتَابَةِ .
وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ وَالْعَتَّابِيُّ كَذَلِكَ .
وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَأَخُوهُ صَدْرُ الْإِسْلَامِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ : إنَّ الْمَوْجُودَ إنْ كَانَ أَنْقَصَ مِنْ الْمَشْرُوطِ الْفَائِتِ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ ، وَإِنْ كَانَ زَائِدًا فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي .
وَنَصَّ الْكَرْخِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي مُخْتَصَرِهِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجْهٌ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ يَكُونُ مُحْتَاجًا إلَى خَبَّازٍ فَبِإِلْزَامِ الْكَاتِبِ يَتَضَرَّرُ فَلَا يَتِمُّ مِنْهُ الرِّضَا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا وَجَدَ الثَّوْبَ الْمُسَمَّى عَشَرَةً تِسْعَةً خُيِّرَ ، وَإِنْ وَجَدَ أَحَدَ عَشَرَ فَهُوَ لَهُ بِلَا خِيَارٍ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَالَّةً أَوْ نَسِيئَةً فَقَبَضَهَا ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ الْبَائِعِ بِخَمْسِمِائَةٍ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ الثَّانِي ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجُوزُ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ تَمَّ فِيهَا بِالْقَبْضِ فَصَارَ الْبَيْعُ مِنْ الْبَائِعِ وَمِنْ غَيْرِهِ سَوَاءً وَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِالزِّيَادَةِ أَوْ بِالْعَرْضِ .
وَلَنَا قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ وَقَدْ بَاعَتْ بِسِتِّمِائَةٍ بَعْدَمَا اشْتَرَتْ بِثَمَانِمِائَةٍ : بِئْسَمَا شَرَيْت وَاشْتَرَيْت ، أَبْلَغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْطَلَ حَجَّهُ وَجِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ لَمْ يَتُبْ ؛ وَلِأَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ الْمَبِيعُ وَوَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ بَقِيَ لَهُ فَضْلُ خَمْسِمِائَةِ وَذَلِكَ بِلَا عِوَضٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ بِالْعَرْضِ لِأَنَّ الْفَضْلَ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْمُجَانَسَةِ .
.
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ) مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ( حَالَّةٍ أَوْ نَسِيئَةٍ فَقَبَضَهُ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ الْبَائِعِ بِخَمْسِمِائَةٍ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ ) فَالْبَيْعُ الثَّانِي فَاسِدٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .
هُوَ يَقُولُ : الْمِلْكُ قَدْ تَمَّ فِيهِ بِالْقَبْضِ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ جَائِزٌ مَعَ غَيْرِ الْبَائِعِ فَكَذَا مَعَهُ ، وَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِالْعَرْضِ وَقِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ الْأَلْفِ .
وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ شِرَاءَ مَا بَاعَ لَا يَخْلُو مِنْ أَوْجُهٍ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُشْتَرِي بِلَا وَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ .
وَالثَّانِي جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ مُطْلَقًا : أَعْنِي سَوَاءٌ اشْتَرَى بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِأَنْقَصَ أَوْ بِأَكْثَرَ أَوْ بِالْعَرْضِ .
وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِأَقَلَّ أَوْ بِغَيْرِهِ ، وَالثَّانِي بِأَقْسَامِهِ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ .
وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ .
فَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَّزَهُ قِيَاسًا عَلَى الْأَقْسَامِ الْبَاقِيَةِ ، وَبِمَا إذَا بَاعَ مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ ، وَنَحْنُ لَمْ نُجَوِّزْهُ بِالْأَثَرِ وَالْمَعْقُولِ .
أَمَّا الْأَثَرُ فَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ : حَدَّثَنَا أَبُو حَنِيفَةَ يَرْفَعُهُ إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْهَا فَقَالَتْ : إنِّي اشْتَرَيْت مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ جَارِيَةً بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ ثُمَّ بِعْتهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ قَبْلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : بِئْسَمَا شَرَيْت وَبِئْسَمَا اشْتَرَيْت ، أَبْلِغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّ اللَّهَ أَبْطَلَ حَجَّهُ وَجِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ لَمْ يَتُبْ ، فَأَتَاهَا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ مُعْتَذِرًا ، فَتَلَتْ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهَا جَعَلَتْ جَزَاءَ مُبَاشَرَةِ هَذَا
الْعَقْدِ بُطْلَانَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْزِيَةُ الْأَفْعَالِ لَا تُعْلَمُ بِالرَّأْيِ فَكَانَ مَسْمُوعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَقْدُ الصَّحِيحُ لَا يُجَازَى بِذَلِكَ فَكَانَ فَاسِدًا ، وَأَنَّ زَيْدًا اعْتَذَرَ إلَيْهَا وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ مَسْمُوعًا لِأَنَّ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ كَانَ بَعْضُهُمْ يُخَالِفُ بَعْضًا وَمَا كَانَ أَحَدُهُمَا يَعْتَذِرُ إلَى صَاحِبِهِ .
وَفِيهِ بَحْثٌ لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ : إلْحَاقُ الْوَعِيدِ لِكَوْنِ الْبَيْعِ إلَى الْعَطَاءِ وَهُوَ أَجَلٌ مَجْهُولٌ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ مَذْهَبِهَا جَوَازُ الْبَيْعِ إلَى الْعَطَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ ، وَلِأَنَّهَا كَرِهَتْ الْعَقْدَ الثَّانِيَ حَيْثُ قَالَتْ : بِئْسَ مَا شَرَيْت مَعَ عَرَائِهِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى ، فَلَا يَكُونُ لِذَلِكَ بَلْ لِأَنَّهُمَا تَطَرَّقَا بِهِ إلَى الثَّانِي .
فَإِنْ قِيلَ : الْقَبْضُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْحَدِيثِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْوَعِيدُ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ تِلَاوَتَهَا آيَةَ الرِّبَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لِلرِّبَا لَا لِعَدَمِ الْقَبْضِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْوَعِيدُ قَدْ لَا يَسْتَلْزِمُ الْفَسَادَ كَمَا فِي تَفْرِيقِ الْوَلَدِ عَنْ الْوَالِدِ بِالْبَيْعِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ مَعَ وُجُودِ الْوَعِيدِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْوَعِيدَ لَيْسَ لِلْبَيْعِ ثَمَّةَ بَلْ لِنَفْسِ التَّفْرِيقِ ، حَتَّى لَوْ فُرِّقَ بِدُونِ الْبَيْعِ كَانَ الْوَعِيدُ لَاحِقًا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ مَا قَالَ إنَّ الثَّمَنَ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ لِعَدَمِ الْقَبْضِ ، فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ الْمَبِيعُ وَوَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَ الثَّمَنَيْنِ بَقِيَ لَهُ فَضْلُ خَمْسِمِائَةٍ بِلَا عِوَضٍ وَهُوَ رِبًا فَلَا يَجُوزُ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَحْصُلُ لِلْبَائِعِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ بِوَاسِطَةِ مُشْتَرٍ آخَرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْبَابِ
بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِعَدَمِ الرِّبَا ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِأَكْثَرَ فَإِنَّ الرِّبْحَ هُنَاكَ يَحْصُلُ لِلْمُشْتَرِي وَالْمَبِيعُ قَدْ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ بِالْعُرُوضِ لِأَنَّ الْفَضْلَ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْمُجَانَسَةِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ النُّقْصَانَ يُجْعَلُ فِي مُقَابَلَةِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ الَّذِي احْتَبَسَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِدَنَانِيرَ قِيمَتُهَا أَقَلُّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قِيَاسًا ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ رِبَا الْفَضْلِ لَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمَا مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَيَثْبُتُ فِيهِ شُبْهَةُ الرِّبْحِ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ بَاعَهَا وَأُخْرَى مَعَهَا مِنْ الْبَائِعِ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ بِخَمْسِمِائَةٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ فِي الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا مِنْ الْبَائِعِ وَيَبْطُلُ فِي الْأُخْرَى ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَةِ الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا مِنْهُ فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لِلْأُخْرَى بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ وَهُوَ فَاسِدٌ عِنْدَنَا ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي صَاحِبَتِهَا وَلَا يَشِيعُ الْفَسَادُ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ فِيهَا لِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا فِيهِ أَوْ ؛ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الرِّبَا ، أَوْ ؛ لِأَنَّهُ طَارِئٌ ؛ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ بِانْقِسَامِ الثَّمَنِ أَوْ الْمُقَاصَّةِ فَلَا يَسْرِي إلَى غَيْرِهَا .
.
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِخَمْسِمِائَةٍ ) هَذِهِ مِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ فِي الَّتِي اشْتَرَاهَا مِنْ الْبَائِعِ ، وَبَيَانُهُ مَا قَالَ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَةِ الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا مِنْهُ فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لِأُخْرَى بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فَسَادُهُ .
وَنُوقِضَ بِمَا إذَا بَاعَهُمَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَإِنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ .
ذَكَرَهَا فِي جَامِعِهِمَا الْعَلَمَانِ فِي الْإِتْقَانِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ ، وَلَوْ كَانَ الْفَسَادُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الْكِتَابِ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَمَا فَسَدَ الْبَيْعُ لِأَنَّ عِنْدَ الْقِسْمَةِ يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ فَلَا يَجْرِي فِيهِ الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَسَادَ لِتَعَذُّرِ جِهَاتِ الْجَوَازِ .
وَبَيَانُهُ أَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ بِإِزَاءِ مَا بَاعَهَا أَلْفًا جَازَ ، وَإِنْ جَعَلْنَا أَلْفًا وَجُبَّةً جَازَ وَهَلُمَّ جَرًّا ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ بِالْحَمْلِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ بَعْضِ فَامْتَنَعَ الْجَوَازُ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ إضَافَةَ الْفَسَادِ إلَى تَعَدُّدِ جِهَاتِ الْجَوَازِ يُشْبِهُ الْفَسَادَ فِي الْوَضْعِ فَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً ، عَلَى أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِأَنْ تُجْعَلَ الْجَارِيَةُ الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا مِنْهُ فِي مُقَابَلَةِ مِائَةٍ وَمِائَتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَتَتَعَدَّدُ جِهَاتُ الْجَوَازِ .
وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى ، وَبِأَنَّ كُلَّ جِهَةٍ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً لِلْجَوَازِ .
فَاعْتِبَارُ الْجِهَاتِ فِي مُقَابَلَةِ جِهَةِ الْجَوَازِ مُرْبِحَةٌ عَلَيْهَا تَرْجِيحًا بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَا عُرِفَ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : جِهَاتُ الْجَوَازِ تَقْتَضِيهِ وَجِهَاتُ الْفَسَادِ تَقْتَضِيهِ ، وَالتَّرْجِيحُ هُنَا لِلْمُفْسِدِ تَرْجِيحٌ لِلْمُحْرِمِ ، وَلَا يَسْرِي الْفَسَادُ مِنْهَا إلَى غَيْرِ الْمُشْتَرَاةِ لِأَنَّ
الْفَسَادَ ضَعِيفٌ فِيهَا لِأُمُورٍ : إمَّا لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ بِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ الْمُتَقَدِّمِ وَفِيهِ نَظَرٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَوْنَهُ مُجْتَهَدًا فِيهِ إنْ كَانَ لِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَكَادُ يَصِحُّ لِأَنَّ خِلَافَ الشَّافِعِيِّ كَانَ بَعْدَ وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فَكَيْفَ تُوضَعُ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ ، وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَبْطَلَ إسْلَامَ الْقُوهِيَّةِ فِي الْقُوهِيَّةِ وَالْمَرْوِيَّةِ مَعَ أَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ بِسَبَبِ الْجِنْسِيَّةِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ ، فَإِنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ قُوهِيًّا فِي قُوهِيٍّ جَازَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَمَعَ ذَلِكَ تَعَدَّى فَسَادُ ذَلِكَ إلَى الْمَقْرُونِ بِهِ وَهُوَ إسْلَامُ الْقُوهِيِّ فِي الْمَرْوِيِّ ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي الْمُشْتَرَاةِ بِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الرِّبَا ، فَلَوْ اعْتَبَرْنَاهَا فِي الَّتِي ضُمَّتْ إلَيْهَا كَانَ ذَلِكَ اعْتِبَارًا لِشُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ ، وَبَيَانُهُ أَنَّ فِي الْمُشْتَرَاةِ شُبْهَةَ الرِّبَا أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إنَّمَا لَمْ يَصِحَّ شِرَاءُ مَا بَاع بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ لِشُبْهَةِ الرِّبَا ، لِأَنَّ الْأَلْفَ وَإِنْ وَجَبَ لِلْبَائِعِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَكِنَّهَا عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَجِدَ الْمُشْتَرِي بِهَا عَيْبًا فَيَرُدَّهَا فَيَسْقُطَ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي وَبِالْبَيْعِ الثَّانِي يَقَعُ الْأَمْنُ عَنْهُ فَيَصِيرُ الْبَائِعُ بِالْعَقْدِ الثَّانِي مُشْتَرِيًا أَلْفًا بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَالشُّبْهَةُ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِي بَابِ الرِّبَا ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْفَسَادَ طَارِئٌ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَابَلَ الثَّمَنَ بِالْجَارِيَتَيْنِ وَهِيَ مُقَابَلَةٌ صَحِيحَةٌ ، إذْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا أَنْ يَكُونَ بِإِزَاءِ مَا بَاعَهُ أَقَلُّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، لَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ انْقَسَمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهِمَا فَصَارَ الْبَعْضُ بِإِزَاءِ مَا بَاعَ وَالْبَعْضُ بِإِزَاءِ مَا لَمْ يُبَعْ فَفَسَدَ الْبَيْعُ فِيمَا بَاعَ .
وَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ
طَارِئًا فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْأُخْرَى .
وَلَا يُشْكِلُ بِمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ الْمُفْسِدَ مُقَارِنٌ لِأَنَّ قَبُولَ كُلٍّ مِنْهُمَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ فِي الْآخَرِ ، وَالْعَقْدُ جَائِزٌ فِي الْعَبْدِ لِأَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ قَدْ قَالَ الْبَيْعُ فِي الْمُدَبَّرِ غَيْرُ فَاسِدٍ ، وَلِهَذَا لَوْ أَجَازَ الْقَاضِي بَيْعَهُ جَازَ ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ نَافِذٍ لِحَقِّ الْمُدَبَّرِ وَذَلِكَ لِمَعْنًى فِيهِ لَا فِي الْعَقْدِ فَلِهَذَا لَا يَتَعَدَّى إلَى الْآخَرِ .
وَالثَّانِي الْمُقَاصَّةُ فَإِنَّهُ لَمَّا بَاعَهَا بِأَلْفٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ بِخَمْسِمِائَةٍ فَتَقَاصَّا خَمْسَمِائَةٍ بِخَمْسِمِائَةٍ مِثْلِهَا بَقِيَ لِلْبَائِعِ خَمْسُمِائَةٍ أُخْرَى مَعَ الْجَارِيَةِ ، وَالْمُقَاصَّةُ تَقَعُ عَقِيبَ وُجُوبِ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ بِالْعَقْدِ الثَّانِي فَيَفْسُدُ عِنْدَهَا وَذَلِكَ لَا شَكَّ فِي طَرْدِهِ فَلَا يَسْرِي إلَى غَيْرِهَا .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى زَيْتًا عَلَى أَنْ يَزِنَهُ بِظَرْفِهِ فَيَطْرَحَ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ ظَرْفٍ خَمْسِينَ رَطْلًا فَهُوَ فَاسِدٌ ، وَلَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنْ يَطْرَحَ عَنْهُ بِوَزْنِ الظَّرْفِ جَازَ ) ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَالثَّانِي يَقْتَضِيهِ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى سَمْنًا فِي زِقٍّ فَرَدَّ الظَّرْفَ وَهُوَ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ ) فَقَالَ الْبَائِعُ الزِّقُّ غَيْرُ هَذَا وَهُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ، لِأَنَّهُ إنْ اُعْتُبِرَ اخْتِلَافًا فِي تَعْيِينِ الزِّقِّ الْمَقْبُوضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ ضَمِينًا كَانَ أَوْ أَمِينًا ، وَإِنْ اُعْتُبِرَ اخْتِلَافًا فِي السَّمْنِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اخْتِلَافٌ فِي الثَّمَنِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الزِّيَادَةَ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى زَيْتًا عَلَى أَنْ يَزِنَهُ بِظَرْفِهِ إلَخْ ) اشْتَرَى زَيْتًا عَلَى أَنْ يَزِنَهُ وَيَطْرَحَ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ ظَرْفٍ خَمْسِينَ رِطْلًا فَهُوَ فَاسِدٌ ، فَإِنَّهُ شَرْطٌ مَا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ ، فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ يُطْرَحَ عَنْهُ دُونَ الظَّرْفِ مَا يُوجَدُ وَعَسَى يَكُونُ وَزْنُهُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ فَشَرْطُ مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَاهُ ، وَإِنْ اشْتَرَى عَلَى أَنْ يَزِنَ وَيُطْرَحَ عَنْهُ بِوَزْنِ الظَّرْفِ جَازَ لِكَوْنِهِ مُوَافِقًا لِمُقْتَضَاهُ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى سَمْنًا فِي زِقٍّ إلَخْ ) وَمَنْ اشْتَرَى سَمْنًا فِي زِقٍّ وَرُدَّ الظَّرْفُ فَوُزِنَ فَجَاءَ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ فَقَالَ الْبَائِعُ الزِّقُّ غَيْرُ هَذَا وَهُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ، لِأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فِي تَعْيِينِ الزِّقِّ الْمَقْبُوضِ أَوْ فِي مِقْدَارِ السَّمْنِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْمُشْتَرِي قَابِضٌ ( وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ ضَمِينًا ) كَانَ كَالْغَاصِبِ ( أَوْ أَمِينًا ) كَالْمُودَعِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اخْتِلَافٌ فِي الثَّمَنِ ( فَيَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الزِّيَادَةَ ) وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ فَمَا وَجْهُ الْعُدُولِ إلَى الْحَلِفِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ يُوجِبُهُ إذَا كَانَ قَصْدًا وَهَذَا ضِمْنِيٌّ لِوُقُوعِهِ فِي ضِمْنِ الِاخْتِلَافِ فِي الزِّقِّ .
وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ الِابْتِدَائِيَّ فِي الثَّمَنِ إنَّمَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ ضَرُورَةَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ عَقْدًا آخَرَ ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمَا فِي الزِّقِّ فَلَا يُوجِبُ اخْتِلَافَهُمَا فِي الْعَقْدِ فَلَا يُوجِبُهُ .
قَالَ : ( وَإِذَا أَمَرَ الْمُسْلِمُ نَصْرَانِيًّا بِبَيْعِ خَمْرٍ أَوْ شِرَائِهَا فَفَعَلَ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا لَا يَجُوزُ : عَلَى الْمُسْلِمِ ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْخِنْزِيرُ ، وَعَلَى هَذَا تَوْكِيلُ الْمُحْرِمِ غَيْرَهُ بِبَيْعِ صَيْدِهِ .
لَهُمَا أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَا يَلِيهِ فَلَا يُوَلِّيهِ غَيْرَهُ ؛ وَلِأَنَّ مَا يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَاقِدَ هُوَ الْوَكِيلُ بِأَهْلِيَّتِهِ وَوِلَايَتِهِ ، وَانْتِقَالُ الْمِلْكِ إلَى الْآمِرِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَمْتَنِعُ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ كَمَا إذَا وَرِثَهُمَا ، ثُمَّ إنْ كَانَ خَمْرًا يُخَلِّلُهَا وَإِنْ كَانَ خِنْزِيرًا يُسَيِّبُهُ .
قَالَ ( وَإِذَا أَمَرَ الْمُسْلِمُ نَصْرَانِيًّا بِبَيْعِ خَمْرٍ أَوْ شِرَائِهَا فَفَعَلَ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا ) وَحُكْمُ التَّوْكِيلِ فِي الْخِنْزِيرِ وَتَوْكِيلِ الْمُحْرِمِ حَلَالًا بِبَيْعِ صَيْدِهِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ قَالَا : الْمُوَكِّلُ لَا يَلِي هَذَا التَّصَرُّفَ فَلَا يُوَلِّي غَيْرَهُ كَتَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ مَجُوسِيًّا بِتَزْوِيجِ مَجُوسِيَّةٍ .
وَلِأَنَّ مَا يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ ، وَلَوْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ فَكَذَا التَّوْكِيلُ بِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمُعْتَبَرُ فِي هَذَا الْبَابِ أَهْلِيَّتَانِ : أَهْلِيَّةُ الْوَكِيلِ وَأَهْلِيَّةُ الْمُوَكِّلِ ، فَالْأُولَى أَهْلِيَّةُ الْعَاقِدِ وَهِيَ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ وَلِلنَّصْرَانِيِّ ذَلِكَ ، وَالثَّانِيَةُ أَهْلِيَّةُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ لَهُ وَلِلْمُوَكِّلِ ذَلِكَ حُكْمًا لِلْعَقْدِ لِئَلَّا يَلْزَمَ انْفِكَاكُ الْمَلْزُومِ عَنْ اللَّازِمِ ، أَلَا تَرَى إلَى صِحَّةِ ثُبُوتِ مِلْكِ الْخَمْرِ لِلْمُسْلِمِ إرْثًا إذَا أَسْلَمَ مُوَرِّثُهُ النَّصْرَانِيُّ وَمَاتَ عَنْ خَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ .
لَا يُقَالُ : الْوَارِثَةُ أَمْرٌ جَبْرِيٌّ وَالتَّوْكِيلُ اخْتِيَارِيٌّ فَأَنَّى يَتَشَابَهَانِ ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ : أَعْنِي الْمِلْكَ لِلْمُوَكِّلِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْعِلَّةِ : أَعْنِي مُبَاشَرَةَ الْوَكِيلِ جَبْرِيٌّ كَذَلِكَ تَثْبُتُ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ كَمَا فِي الْمَوْتِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ النَّصْرَانِيَّ إذَا اشْتَرَى خَمْرًا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا لِمَوْلَاهُ الْمُسْلِمِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِذَا ثَبَتَتْ الْأَهْلِيَّتَانِ لَمْ يَمْتَنِعْ الْعَقْدُ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ جَالِبٌ لَا سَالِبٌ ، ثُمَّ الْمُوَكَّلُ بِهِ إنْ كَانَ خَمْرًا خَلَّلَهَا ، وَإِنْ كَانَ خِنْزِيرًا سَيَّبَهُ ، لَكِنْ قَالُوا : هَذِهِ الْوَكَالَةُ مَكْرُوهَةٌ أَشَدَّ كَرَاهَةٍ ، وَقَوْلُهُمَا الْمُوَكِّلُ لَا يَلِيهِ فَلَا يُوَلِّيهِ غَيْرَهُ مَنْقُوضٌ بِالْوَكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ إذَا وَكَّلَ آخَرَ بِشِرَائِهِ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ
الْمِلْكُ لِلْوَكِيلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ بِنَفْسِهِ لَا يَلِي الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ وَبِالْقَاضِي إذَا أَمَرَ ذِمِّيًّا بِبَيْعِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ خَلَّفَهُ ذِمِّيٌّ آخَرُ وَهُوَ لَا يَلِي التَّصَرُّفَ بِنَفْسِهِ ، وَبِالذِّمِّيِّ إذَا أَوْصَى لِمُسْلِمٍ وَقَدْ تَرَكَهُمَا فَإِنَّ الْوَصِيَّ يُوَكِّلُ ذِمِّيًّا بِالْبَيْعِ وَالْقِسْمَةِ وَهُوَ لَا يَلِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ .
وَالْقِيَاسُ عَلَى تَزْوِيجِ الْمَجُوسِيِّ مَدْفُوعٌ ، فَإِنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي النِّكَاحِ تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلُ سَفِيرٌ لَا غَيْرُ .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنْ يُعْتِقَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ يُدَبِّرَهُ أَوْ يُكَاتِبَهُ أَوْ أَمَةً عَلَى أَنْ يَسْتَوْلِدَهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ ) ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ وَشَرْطٌ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ .
ثُمَّ جُمْلَةُ الْمَذْهَبِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ : كُلُّ شَرْطٍ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ كَشَرْطِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ لِثُبُوتِهِ بِدُونِ الشَّرْطِ ، وَكُلُّ شَرْطٍ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ يُفْسِدُهُ كَشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمَبِيعَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً عَارِيَّةً عَنْ الْعِوَضِ فَيُؤَدِّي إلَى الرِّبَا ، أَوْ ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ بِسَبَبِهِ الْمُنَازَعَةُ فَيَعْرَى الْعَقْدُ عَنْ مَقْصُودِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَارَفًا ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ قَاضٍ عَلَى الْقِيَاسِ ، وَلَوْ كَانَ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَحَدِ لَا يُفْسِدُهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ كَشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَ الْمُشْتَرِي الدَّابَّةَ الْمَبِيعَةَ لِأَنَّهُ انْعَدَمَتْ الْمُطَالَبَةُ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا ، وَلَا إلَى الْمُنَازَعَةِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : إنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ لَا يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ قَضِيَّتَهُ الْإِطْلَاقُ فِي التَّصَرُّفِ وَالتَّخْيِيرُ لَا الْإِلْزَامُ حَتْمًا ، وَالشَّرْطُ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنْ كَانَ يُخَالِفُنَا فِي الْعِتْقِ وَيَقِيسُهُ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ نَسَمَةً فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَتَفْسِيرُ الْمَبِيعِ نَسَمَةً أَنْ يُبَاعَ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُعْتِقُهُ لَا أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ ، فَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَمَا اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْعِتْقِ صَحَّ الْبَيْعُ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا : يَبْقَى فَاسِدًا حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ وَقَعَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا
كَمَا إذَا تَلِفَ بِوَجْهٍ آخَرَ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِ لَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ حُكْمِهِ يُلَائِمُهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُ لِلْمِلْكِ وَالشَّيْءُ بِانْتِهَائِهِ يَتَقَرَّرُ ، وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ الْعِتْقُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ ، فَإِذَا تَلِفَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُلَاءَمَةُ فَيَتَقَرَّرُ الْفَسَادُ ، وَإِذَا وُجِدَ الْعِتْقُ تَحَقَّقَتْ الْمُلَاءَمَةُ فَيُرَجَّحُ جَانِبُ الْجَوَازِ فَكَانَ الْحَالُ قَبْلَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ الْبَائِعُ شَهْرًا أَوْ دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا أَوْ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ الْمُشْتَرِي دِرْهَمًا أَوْ عَلَى أَنْ يُهْدِيَ لَهُ هَدِيَّةً ) ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ؛ وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخِدْمَةُ وَالسُّكْنَى يُقَابِلُهُمَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ يَكُونُ إجَارَةً فِي بَيْعٍ ، وَلَوْ كَانَ لَا يُقَابِلُهُمَا يَكُونُ إعَارَةً فِي بَيْعٍ .
{ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ }
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنْ يُعْتِقَهُ الْمُشْتَرِي ) شَرَعَ فِي بَيَانِ الْفَسَادِ الْوَاقِعِ فِي الْعَقْدِ بِسَبَبِ الشَّرْطِ وَذَكَرَ أَصْلًا جَامِعًا لِفُرُوعِ أَصْحَابِنَا .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشَّرْطَ يَنْقَسِمُ أَوَّلًا إلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَهُوَ الَّذِي يُفِيدُ مَا يَثْبُتُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ كَشَرْطِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي وَشَرْطِ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ أَوْ الْمَبِيعِ ، وَإِلَى مَا لَا يَقْتَضِيهِ وَهُوَ مَا كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ ، وَهَذَا يَنْقَسِمُ إلَى مَا كَانَ مُتَعَارَفًا وَإِلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَهَذَا يَنْقَسِمُ إلَى مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَإِلَى مَا لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ ، وَهَذَا يَنْقَسِمُ إلَى مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ وَإِلَى مَا هُوَ بِخِلَافِهِ ، فَفِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ جَازَ الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ يَزِيدُهُ وَكَادَةً .
لَا يُقَالُ : نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِهِ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَيْثُ أَفَادَ مَا أَفَادَهُ الْعَقْدُ الْمُطْلَقُ .
وَفِي الْأَوَّلِ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ مَا كَانَ مُتَعَارَفًا كَبَيْعِ النَّعْلِ مَعَ شَرْطِ التَّشْرِيكِ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْعُرْفِ قَاضٍ عَلَى الْقِيَاسِ .
لَا يُقَالُ : فَسَادُ الْبَيْعِ شَرْطٌ ثَابِتٌ بِالْحَدِيثِ وَالْعُرْفُ لَيْسَ بِقَاضٍ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ مَعْلُولٌ بِوُقُوعِ النِّزَاعِ الْمُخْرِجِ لِلْعَقْدِ عَنْ الْمَقْصُودِ بِهِ وَهُوَ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ وَالْعُرْفُ يَنْفِي النِّزَاعَ فَكَانَ مُوَافِقًا لِمَعْنَى الْحَدِيثِ ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ الْمَوَانِعِ إلَّا الْقِيَاسُ عَلَى مَا لَا عُرْفَ فِيهِ بِجَامِعِ كَوْنِهِ شَرْطًا ، وَالْعُرْفُ قَاضٍ عَلَيْهِ ، وَفِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَارَفًا وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَبَيْعِ عَبْدٍ بِشَرْطِ اسْتِخْدَامِ الْبَائِعِ مُدَّةً يَكُونُ الْعَقْدُ فَاسِدًا لِوَجْهَيْنِ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً عَارِيَّةً عَنْ الْعِوَضِ ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا قَصَدَا الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ الْمَبِيعِ
وَالثَّمَنِ خَلَا الشَّرْطُ عَنْ الْعِوَضِ وَهُوَ الرِّبَا .
لَا يُقَالُ : لَا تُطْلَقُ الزِّيَادَةُ إلَّا عَلَى الْمُجَانِسِ لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَالْمَشْرُوطُ مَنْفَعَةٌ فَكَيْفَ يَكُونُ رِبًا لِأَنَّهُ مَالٌ جَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُعَوَّضْ عَنْهُ بِشَيْءٍ فَكَانَ رِبًا ، وَلِأَنَّهُ يَقَعُ بِسَبَبِهِ الْمُنَازَعَةُ فِي مَقْصُودِهِ فَيَعْرَى الْعَقْدُ عَنْ مَقْصُودِهِ مِنْ قَطْعِ النِّزَاعِ لِمَا عُرِفَ فِي بَيَانِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ وَفِيمَا إذَا كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمَبِيعَ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يُعْجِبُهُ أَنْ لَا تَتَدَاوَلَهُ الْأَيْدِي وَتَمَامُ الْعَقْدِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، حَتَّى لَوْ زَعَمَ أَنَّهُ حُرٌّ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا فَاشْتِرَاطُ مَنْفَعَتِهِ كَاشْتِرَاطِ مَنْفَعَةِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَهُوَ فَاسِدٌ بِالْوَجْهَيْنِ ، وَفِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدٍ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ، كَشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَ الدَّابَّةَ الْمَبِيعَةَ لِأَنَّهُ لَا مُطَالِبَ لَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا وَلَا إلَى الْمُنَازَعَةِ ، فَكَانَ الشَّرْطُ لَغْوًا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهِ ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْمُزَارَعَةِ لِتَضَرُّرِ الْمُشْتَرِي بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِ ، وَالشَّرْطُ الَّذِي فِيهِ ضَرَرٌ كَالشَّرْطِ الَّذِي فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْمُطَالَبَةُ وَهِيَ تَتَوَجَّهُ بِالْمَنْفَعَةِ فِي الشَّرْطِ دُونَ الضَّرَرِ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ بِشَرْطِ أَنْ يُعْتِقَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ يُدَبِّرَهُ أَوْ يُكَاتِبَهُ أَوْ أَمَةً عَلَى أَنْ يَسْتَوْلِدَهَا الْمُشْتَرِي فَاسِدٌ لِأَنَّهَا شُرُوطٌ لَا يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ وَفِيهَا مَنْفَعَةٌ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ قَضِيَّتَهُ الْإِطْلَاقُ فِي التَّصَرُّفِ وَالتَّخَيُّرُ لَا الْإِلْزَامُ ، وَالشَّرْطُ يَقْتَضِي الْإِلْزَامَ حَتْمًا ،
وَالْمُنَافَاةُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرَةٌ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْعَقْدِ وَالشَّرْطِ أَوْلَى بِالْعَمَلِ مِنْ الْآخَرِ فَعَمَلُنَا بِهِمَا ، وَقُلْنَا إنَّهُ فَاسِدٌ وَالْفَاسِدُ مَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ فَبِالنَّظَرِ إلَى وُجُودِ رُكْنِ الْعَقْدِ كَانَ مَشْرُوعًا ، وَبِالنَّظَرِ إلَى عُرُوضِ الشَّرْطِ كَانَ غَيْرَ مَشْرُوعٍ فَكَانَ فَاسِدًا .
وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ إلَّا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ فِي قَوْلٍ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُهُ وَيَقِيسُهُ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ نَسَمَةً ، وَفَسَّرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ بِالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ ، وَفَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنْ يُبَاعَ مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يُعْتِقُهُ لَا أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ صَحَّ قَوْلُهُ يَقِيسُهُ لِأَنَّهُمَا غَيْرَانِ فَيَصِحُّ قِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إنْ ظَهَرَ جَامِعٌ ، وَإِنْ كَانَ تَفْسِيرُهُ عِنْدَهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُفَسَّرَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ يَقِيسُهُ بِيَلْحَقُهُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لِئَلَّا يَلْزَمَ قِيَاسُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ .
وَبَيَانُ إلْحَاقِهِ بِالدَّلَالَةِ أَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ نَسَمَةً عَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرِ ثَبَتَ بِحَدِيثِ { بَرِيرَةَ ، إذْ جَاءَتْ إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَسْتَعِينُهَا فِي الْمُكَاتَبَةِ فَقَالَتْ : إنْ شِئْت عَدَدْتهَا لِأَهْلِك وَأَعْتَقْتُك ، فَرَضِيَتْ بِذَلِكَ فَاشْتَرَاهَا وَأَعْتَقَهَا .
وَإِنَّمَا اشْتَرَتْهَا بِشَرْطِ الْعِتْقِ وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ، وَغَيْرُهَا فِي مَعْنَاهَا فِي هَذَا الشَّرْطِ فَأُلْحِقَ بِهِ دَلَالَةً وَإِنَّمَا عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ عَنْ الدَّلَالَةِ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ قِيَاسٌ جَلِيٌّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ وَالْمَعْقُولِ .
فَالْحَدِيثُ " { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ } " .
رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَالْمَعْقُولُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُقُوعِ الْمُنَازَعَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الشَّرْطِ وَكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ بَرِيرَةَ أَنَّ تَفْسِيرَ النَّسَمَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَلَيْسَ فِيهِ اشْتِرَاطُ الْعِتْقِ فِي الْعَقْدِ .
وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ مُطْلَقًا وَوَعَدَتْ لَهَا أَنْ تُعْتِقَهَا لِتَرْضَى بِذَلِكَ ، فَإِنَّ بَيْعَ الْمُكَاتَبَةِ لَا يَجُوزُ بِدُونِ رِضَاهَا .
النَّسَمَةُ مِنْ نَسِيمِ الرِّيحِ ، وَسُمِّيَتْ بِهَا النَّفْسُ ، وَانْتِصَابُ قَوْلِهِ نَسَمَةً عَلَى الْحَالِ عَلَى مَعْنَى مُعَرَّضًا لِلْعِتْقِ .
وَإِنَّمَا صَحَّ هَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ ذِكْرُهَا فِي بَابِ الْعِتْقِ خُصُوصًا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { فَكَّ رَقَبَةً وَأَعْتَقَ نَسَمَةً } " صَارَتْ كَأَنَّهَا اسْمٌ لِمَا هُوَ بِعَرْضِ الْعِتْقِ فَعُومِلَتْ مُعَامَلَةَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِمَعْنَى الْأَفْعَالِ .
كَذَا فِي الْمُغْرِبِ .
فَإِنْ وَفَّى بِالشَّرْطِ وَأَعْتَقَ بَعْدَمَا اشْتَرَاهُ صَحَّ الْبَيْعُ وَيَجِبُ الثَّمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : يَبْقَى فَاسِدًا كَمَا كَانَ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ وَقَعَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا .
كَمَا إذَا تَلِفَ بِوَجْهٍ آخَرَ كَالْقَتْلِ وَالْمَوْتِ وَالْبَيْعِ ، وَكَمَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ التَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالْكِتَابَةِ وَقَدْ وَفَّى الْمُشْتَرِي بِمَا شَرَطَ أَوْ لَمْ يَفِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ اعْتِبَارًا لِحَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ بِحَقِّ الْحُرِّيَّةِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ لَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ) مِنْ تَقْيِيدِ التَّصَرُّفِ بِهِ الْمُغَايِرِ لِلْإِطْلَاقِ ( وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ حُكْمُهُ يُلَائِمُهُ لِأَنَّهُ مِنْهُ لِلْمِلْكِ وَالْمَنْهِيُّ لِلشَّيْءِ مُقَرِّرٌ لَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ ) فَبِالنَّظَرِ إلَى الْجِهَتَيْنِ تَوَقَّفَتْ الْحَالُ
بَيْنَ بَقَائِهِ فَاسِدًا كَمَا كَانَ وَبَيْنَ أَنْ يَنْقَلِبَ جَائِزًا بِوُجُودِ الشَّرْطِ ( فَإِذَا وُجِدَ فَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْمُلَاءَمَةُ فَيُرَجَّحُ جَانِبُ الْجَوَازِ ) عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ .
وَتَأَمَّلْ حَقَّ التَّأَمُّلِ تَخْلُصُ مِنْ وَرْطَةِ شُبْهَةٍ لَا تَكَادُ تَنْحَلُّ ، وَهِيَ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ فِي نَفْسِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَتَحْقِيقُهُ يُقَرِّرُ الْفَسَادَ لِئَلَّا يَلْزَمَ فَسَادُ الْوَضْعِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَ الْعَقْدُ بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ جَائِزًا ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فَاسِدٌ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ وَالصُّورَةُ لِعَدَمِ الْمُلَاءَمَةِ جَائِزٌ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ ، فَقُلْنَا بِالْفَسَادِ فِي الِابْتِدَاءِ عَمَلًا بِالذَّاتِ وَالصُّورَةِ .
وَبِالْجَوَازِ عِنْدَ الْوَفَاءِ عَمَلًا بِالْحُكْمِ وَالْمَعْنَى ، وَلَمْ نَعْكِسْ لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ جَائِزًا يَنْقَلِبُ فَاسِدًا وَوَجَدْنَا فَاسِدًا يَنْقَلِبُ جَائِزًا كَالْبَيْعِ بِالرَّقْمِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَتْلَفَهُ بِوَجْهٍ آخَرَ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقَلِبْ جَائِزًا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ وَالْكَلَامُ فِيهِ فَتَقَرَّرَ الْفَسَادُ .
وَبِخِلَافِ التَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالْكِتَابَةِ .
فَإِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَهِي بِهَا بِيَقِينٍ لِاحْتِمَالِ الْقَضَاءِ الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ، وَالْمُكَاتَبُ مُخَيَّرٌ فِي الْإِجَازَةِ ، وَالْإِنْهَاءُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا وَقَعَ الْأَمْنُ عَنْ الزَّوَالِ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ كَمَا فِي الْإِعْتَاقِ وَالْمَوْتِ .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ الْبَائِعُ شَهْرًا إلَخْ ) الْبَيْعُ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ فَاسِدٌ ، لِأَنَّهَا شُرُوطٌ لَا يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَلَمْ يُسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَذَا الْمَذْكُورُ .
وَإِنَّمَا قَالَ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ الْمُشْتَرِي دِرْهَمًا احْتِرَازًا عَمَّا إذَا قَالَ بِعْتُك هَذِهِ الدَّارَ عَلَى أَنْ يُقْرِضَنِي فُلَانٌ الْأَجْنَبِيُّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَبِلَهُ الْمُشْتَرِي صَحَّ الْبَيْعُ
لِأَنَّهَا لَمْ تَلْزَمْ الْأَجْنَبِيَّ لَا ضَمَانًا عَنْ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي ذِمَّتِهِ فَيَتَحَمَّلُهَا الْكَفِيلُ ، وَلَا زِيَادَةَ فِي الثَّمَنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ الْإِقْرَاضِ عَلَى الْمُشْتَرِي " لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ } " وَأَيْضًا اشْتِرَاطُ الْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى يَسْتَلْزِمُ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَتْنِ .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ عَيْنًا عَلَى أَنْ لَا يُسَلِّمَهُ إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ ) ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الْمَبِيعِ الْعَيْنِ بَاطِلٌ فَيَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ شُرِعَ تَرْفِيهًا فَيَلِيقُ بِالدُّيُونِ دُونَ الْأَعْيَانِ .قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ عَيْنًا عَلَى أَنْ لَا يُسَلِّمَهَا إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ إلَخْ ) الْأَجَلُ فِي الْمَبِيعِ الْعَيْنِ بَاطِلٌ لِإِفْضَائِهِ إلَى تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ فَإِنَّهُ شُرِعَ تَرْفِيهًا فِي تَحْصِيلِهِ بِاتِّسَاعِ الْمُدَّةِ ، فَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ أَوْ الثَّمَنُ حَاصِلًا كَانَ الْأَجَلُ لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْعَيْنِ احْتِرَازًا عَنْ السَّلَمِ فَإِنَّ تَرْكَ أَجَلٍ فِيهِ مُفْسِدٌ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّحْصِيلِ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ ) وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْعَقْدِ ، وَالْحَمْلُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَطْرَافِ الْحَيَوَانِ لِاتِّصَالِهِ بِهِ خِلْقَةً وَبَيْعُ الْأَصْلِ يَتَنَاوَلُهُمَا فَالِاسْتِثْنَاءُ يَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْمُوجِبِ فَلَا يَصِحُّ فَيَصِيرُ شَرْطًا فَاسِدًا ، وَالْبَيْعُ يَبْطُلُ بِهِ وَالْكِتَابَةُ وَالْإِجَارَةُ وَالرَّهْنُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهَا تُبْطِلُ الشُّرُوطَ الْفَاسِدَةَ ، غَيْرَ أَنَّ الْمُفْسِدَ فِي الْكِتَابَةِ مَا يَتَمَكَّنُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ مِنْهَا ، وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ لَا تَبْطُلُ بِاسْتِثْنَاءِ الْحَمْلِ ، بَلْ يَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَا تُبْطِلُ الشُّرُوطَ الْفَاسِدَةَ ، وَكَذَا الْوَصِيَّةُ لَا تَبْطُلُ بِهِ ، لَكِنْ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ حَتَّى يَكُونَ الْحَمْلُ مِيرَاثًا وَالْجَارِيَةُ وَصِيَّةً ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَالْمِيرَاثَ يَجْرِي فِيمَا فِي الْبَطْنِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَثْنَى خِدْمَتَهَا ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَجْرِي فِيهَا .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا إلَخْ ) .
ذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْعَقْدَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : الْأُولَى مَا فَسَدَ فِيهِ الْعَقْدُ وَالِاسْتِثْنَاءُ وَالثَّانِي مَا صَحَّ فِيهِ الْعَقْدُ وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ .
وَالثَّالِثُ مَا صَحَّ فِيهِ كِلَاهُمَا .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالرَّهْنِ ، فَإِذَا بَاعَ جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا أَوْ آجَرَ دَارِهِ عَلَى جَارِيَةٍ إلَّا حَمْلَهَا أَوْ رَهَنَ جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا أَوْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى جَارِيَةٍ إلَّا حَمْلَهَا فَسَدَ الْعَقْدُ لِأَنَّهَا عُقُودٌ تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، لِأَنَّ غَيْرَ الْبَيْعِ فِي مَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُعَاوَضَةٌ وَالْبَيْعُ يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ لِمَا تَقَدَّمَ ، فَكَذَا مَا فِي مَعْنَاهُ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَصِيرُ شَرْطًا فَاسِدًا فِيهَا فَيُفْسِدُهَا ، وَذَلِكَ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَصْلِ فِيهِ أَنَّ مَا لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْعَقْدِ ، وَالْحَمْلُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَمْلَ بِمَنْزِلَةِ أَطْرَافِ الْحَيَوَانِ لِاتِّصَالِهِ بِهِ يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِهِ وَيُقَرُّ بِقَرَارِهِ وَبَيْعُ الْأَصْلِ يَتَنَاوَلُهُ .
فَالِاسْتِثْنَاءُ يَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْمُوجِبِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مَقْصُودٌ وَدَلَالَةُ الْعَقْدِ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ تَابِعٌ فَيَصِيرُ ذِكْرُهُ شَرْطًا فَاسِدًا ( قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ الْمُفْسِدَ فِي الْكِتَابَةِ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ فِي الْكِتَابَةِ إنَّمَا يَكُونُ مُفْسِدًا لَهَا إذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ مِنْهَا كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ أَوْ عَلَى قِيمَتِهِ حَيْثُ دَخَلَ فِي الْبَدَلِ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي صُلْبِهِ كَمَا إذَا شَرَطَ عَلَى الْمُكَاتَبِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ الْكُوفَةِ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُشْبِهُ الْبَيْعَ
انْتِهَاءً لِأَنَّهُ مَالٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَلَا تَصِحُّ إلَّا بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ وَتَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ابْتِدَاءً وَتُشْبِهُ النِّكَاحَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَلَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِ الْمَقْصُودِ فَأَلْحَقْنَاهُ بِالْبَيْعِ فِي شَرْطٍ تَمَكَّنَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَبِالنِّكَاحِ فِيمَا لَمْ يَتَمَكَّنْ فِيهِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَكَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ لِأَنَّ الْفَسَادَ بِاعْتِبَارِ إفْضَائِهِ إلَى الرِّبَا ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْمُعَاوَضَاتِ ، وَهَذِهِ تَبَرُّعَاتٌ وَإِسْقَاطَاتٌ وَالْهِبَةُ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ قَبِيلِ التَّمْلِيكَاتِ لَكِنَّا عَرَفْنَا بِالنَّصِّ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ لَا يُفْسِدُهَا ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ الْعُمْرَى وَأَبْطَلَ شَرْطَهُ لِلْمُعَمِّرِ حَتَّى يَصِيرَ لِوَرَثَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَا لِوَرَثَةِ الْمُعْمِرِ إذَا شُرِطَ عَوْدُهُ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَكَالْوَصِيَّةِ إذَا أَوْصَى بِجَارِيَتِهِ لِرَجُلٍ وَاسْتَثْنَى حَمْلَهَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ ، وَالْجَارِيَةُ وَصِيَّةٌ وَالْحَمْلُ مِيرَاثٌ .
أَمَّا عَدَمُ بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ فَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ حَتَّى تَبْطُلَ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ .
وَأَمَّا صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ فَلِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَالْمِيرَاثُ يَجْرِي فِيمَا فِي الْبَطْنِ لِأَنَّهُ عَيْنٌ .
بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَثْنَى خِدْمَتَهَا لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَجْرِي فِيهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَيْنٍ ، وَذَكَّرَ ضَمِيرَ الْخِدْمَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ وَاعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِهِ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَا لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْعَقْدِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ .
وَالْخِدْمَةُ فِي الْوَصِيَّةِ مِمَّا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ بِأَنْ قَالَ أَوْصَيْت بِخِدْمَةِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ
لِفُلَانٍ فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا الْعَكْسَ غَيْرُ لَازِمٍ ؛ وَلَئِنْ سُلِّمَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ قَبُولُ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَيَدْخُلُ الْمُوصَى بِهِ فِي مِلْكِ وَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ بِدُونِ الْقَبُولِ بِأَنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْعَقْدِ مُطْلَقًا .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : اعْتَبَرْتُمْ الْوَصِيَّةَ عَقْدًا وَعَكَسْتُمْ الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْجَارِيَةِ وَاسْتِثْنَاءُ الْحَمْلِ حَيْثُ جَعَلْتُمْ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْحَمْلِ صَحِيحًا لِصِحَّةِ إفْرَادِهِ بِالْعَقْدِ وَلَمْ تَعْتَبِرُوا ذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْجَارِيَةِ ، وَاسْتِثْنَاءُ الْخِدْمَةِ مَعَ صِحَّةِ إفْرَادِهِ بِالْعَقْدِ ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّا مَا مَنَعْنَا الْعَكْسَ وُجُوبًا ، وَإِنَّمَا مَنَعْنَا لُزُومَهُ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَصْحِيحَ الِاسْتِثْنَاءِ يَقْتَضِي بَقَاءَ الْمُسْتَثْنَى لِوَارِثِ الْمُوصِي .
فَمَا صَلَحَ أَنْ يَكُونَ مَوْرُوثًا كَالْحَمْلِ صَحَّحْنَاهُ وَمَا لَمْ يَصْلُحْ كَالْخِدْمَةِ مَنَعْنَاهُ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَقْطَعَهُ الْبَائِعُ وَيَخِيطَهُ قَمِيصًا أَوْ قَبَاءً فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ ) ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ؛ وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ صَفْقَةً فِي صَفْقَةٍ عَلَى مَا مَرَّ ( وَمَنْ اشْتَرَى نَعْلًا عَلَى أَنْ يَحْذُوَهَا الْبَائِعُ قَالَ أَوْ يُشَرِّكَهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا ذَكَرَهُ جَوَابُ الْقِيَاسِ ، وَوَجْهُهُ مَا بَيَّنَّا ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : يَجُوزُ لِلتَّعَامُلِ فِيهِ فَصَارَ كَصَبْغِ الثَّوْبِ ، وَلِلتَّعَامُلِ جَوَّزْنَا الِاسْتِصْنَاعَ .قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَقْطَعَهُ الْبَائِعُ إلَخْ ) قَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ ذَلِكَ فَلَا نُعِيدُهُ ، قَالَ هَاهُنَا صَفْقَةٌ فِي صَفْقَةٍ وَفِيمَا تَقَدَّمَ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَكَأَنَّهُمَا سَوَاءٌ ، يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَى مَا مَرَّ وَقِيلَ قَالَ هُنَاكَ صَفْقَتَيْنِ لِأَنَّ فِيهِ احْتِمَالَ الْإِجَارَةِ ، وَالْعَارِيَّةُ هَاهُنَا صَفْقَةٌ إذْ لَيْسَ فِيهِ احْتِمَالُ الْعَارِيَّةِ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى نَعْلًا ) حَذَا النَّعْلَ بِالْمِثَالِ قَطَعَهَا بِهِ فَهِيَ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ إذْ الصِّرْمُ هُوَ الَّذِي يُقْطَعُ بِالْمِثَالِ ، وَشَرَّكَ النَّعْلَ وَضَعَ عَلَيْهَا الشِّرَاكَ وَهُوَ سَيْرُهَا الَّذِي عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ ، فَمَنْ اشْتَرَى صِرْمًا وَاشْتَرَطَ أَنْ يَحْذُوَهُ أَوْ نَعْلًا عَلَى أَنْ يُشَرِّكَهَا الْبَائِعُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ .
وَوَجْهُهُ مَا بَيَّنَّاهُ أَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : يَجُوزُ لِلتَّعَامُلِ ، وَالتَّعَامُلُ قَاضٍ عَلَى الْقِيَاسِ لِكَوْنِهِ إجْمَاعًا فِعْلِيًّا كَصَبْغِ الثَّوْبِ ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الصَّبَّاغِ لِصَبْغِ الثَّوْبِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ لَا الْأَعْيَانِ وَفِيهِ عَقْدٌ عَلَى الْعَيْنِ وَهُوَ الصَّبْغُ لَا الصَّبْغُ وَحْدَهُ لَكِنْ جُوِّزَ لِلتَّعَامُلِ جَوَازُ الِاسْتِصْنَاعِ .
قَالَ ( وَالْبَيْعُ إلَى النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ وَصَوْمِ النَّصَارَى وَفِطْرِ الْيَهُودِ إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْمُتَبَايِعَانِ ذَلِكَ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ ) وَهِيَ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ فِي الْبَيْعِ لِابْتِنَائِهَا عَلَى الْمُمَاكَسَةِ إلَّا إذَا كَانَا يَعْرِفَانِهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا عِنْدَهُمَا ، أَوْ كَانَ التَّأْجِيلُ إلَى فِطْرِ النَّصَارَى بَعْدَمَا شَرَعُوا فِي صَوْمِهِمْ ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ صَوْمِهِمْ مَعْلُومَةٌ بِالْأَيَّامِ فَلَا جَهَالَةَ فِيهِ .( وَالْبَيْعُ إلَى النَّيْرُوزِ ) مُعَرَّبُ نَوْرُوزَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ الرَّبِيعِ ( وَالْمِهْرَجَانِ ) مُعَرَّبُ مهركان يَوْمٌ فِي طَرَفِ الْخَرِيفِ ( وَصَوْمُ النَّصَارَى وَفِطْرُ الْيَهُودِ ) وَمَعْنَاهُ تَأْجِيلُ الثَّمَنِ إلَى هَذِهِ الْأَيَّامِ فَاسِدٌ إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْمُتَبَايِعَانِ مِقْدَارَ ذَلِكَ الزَّمَانِ ( لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ ) الْمُفْضِيَةِ إلَى النِّزَاعِ لِابْتِنَاءِ الْمُبَايَعَةِ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ أَيْ الْمُجَادَلَةِ فِي النُّقْصَانِ .
وَالْمُمَاكَسَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْمُبَايَعَةِ إلَى هَذَا الْأَجَلِ فَتَكُونُ الْجَهَالَةُ فِيهِ مُفْضِيَةً إلَى النِّزَاعِ وَمِثْلُهَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ ( وَإِنْ كَانَا يَعْرِفَانِ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا عِنْدَهُمَا أَوْ كَانَ التَّأْجِيلُ إلَى فِطْرِ النَّصَارَى بَعْدَمَا شَرَعُوا فِي صَوْمِهِمْ ) جَازَ ( لِأَنَّ مُدَّةَ صَوْمِهِمْ بِالْأَيَّامِ مَعْلُومَةٌ ) وَهِيَ خَمْسُونَ يَوْمًا فَلَا جَهَالَةَ .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَى قُدُومِ الْحَاجِّ ) ، وَكَذَلِكَ إلَى الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَالْقِطَافِ وَالْجِزَازِ ؛ لِأَنَّهَا تَتَقَدَّمُ وَتَتَأَخَّرُ ، وَلَوْ كَفَلَ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْيَسِيرَةَ مُتَحَمَّلَةٌ فِي الْكَفَالَةِ وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ يَسِيرَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِيهَا وَلِأَنَّهُ مَعْلُومُ الْأَصْلِ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ فِي أَصْلِ الدَّيْنِ بِأَنْ تُكْفَلُ بِمَا ذَابَ عَلَى فُلَانٍ فَفِي الْوَصْفِ أَوْلَى ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهَا فِي أَصْلِ الثَّمَنِ ، فَكَذَا فِي وَصْفِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ مُطْلَقًا ثُمَّ أَجَّلَ الثَّمَنَ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ حَيْثُ جَازَ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَأْجِيلٌ فِي الدَّيْنِ وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ فِيهِ مُتَحَمَّلَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ ، وَلَا كَذَلِكَ اشْتِرَاطُهُ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَى قُدُومِ الْحَاجِّ إلَخْ ) الْحَصَادُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا قَطْعُ الزُّرُوعِ ، وَالدِّيَاسُ أَنْ يُوطَأَ الْمَحْصُودُ بِقَوَائِمِ الدَّوَابِّ مِنْ الدَّوْسِ وَهُوَ شِدَّةُ وَطْءِ الشَّيْءِ بِالْقَدَمِ ، وَالْقِطَافُ بِكَسْرِ الْقَافِ قَطْعُ الْعِنَبِ مِنْ الْكَرْمِ وَالْفَتْحُ فِيهِ لُغَةٌ ، وَالْجِزَازُ قَطْعُ الصُّوفِ وَالنَّخْلِ وَالزَّرْعِ وَالشَّعْرِ وَالْبَيْعِ إلَى وَقْتِ قُدُومِ الْحَاجِّ وَإِلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ غَيْرُ جَائِزٍ لِلْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى النِّزَاعِ بِتَقَدُّمِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَتَأَخُّرِهَا ، وَالْكَفَالَةُ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَائِزَةٌ ( لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْيَسِيرَةَ مُتَحَمَّلَةٌ فِي الْكَفَالَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ فِي أَصْلِ الدَّيْنِ بِأَنْ يَكْفُلَ بِمَا ذَابَ عَلَى فُلَانٍ فَفِي وَصْفِهِ أَوْلَى ) لِكَوْنِ الْأَصْلِ أَقْوَى مِنْ الْوَصْفِ ( وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ يَسِيرَةٌ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِيهَا ) فَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تُجِيزُ الْبَيْعَ إلَى الْعَطَاءِ وَإِنْ احْتَمَلَ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ لِكَوْنِهَا يَسِيرَةً ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَنَعَهُ وَنَحْنُ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِ ، وَهَذَا قَدْ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْجَهَالَةَ الْيَسِيرَةَ مَا كَانَتْ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ ، وَالْفَاحِشَةُ مَا كَانَ فِي الْوُجُودِ كَهُبُوبِ الرِّيحِ مَثَلًا ، وَالْبَيْعُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلْجَهَالَةِ فِي أَصْلِ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لَهَا فِي وَصْفِهِ .
وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ تَحَمُّلِ أَصْلِ الثَّمَنِ عَدَمُ تَحَمُّلِ وَصْفِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَقْوَى إذْ هُوَ يُوجَدُ بِدُونِ الْوَصْفِ الْخَاصِّ دُونَ عَكْسِهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ تَحَمُّلِ أَصْلِ الثَّمَنِ الْجَهَالَةَ هُوَ إفْضَاؤُهَا إلَى النِّزَاعِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي جَهَالَةِ الْوَصْفِ فَيَمْنَعُهُ .
وَإِذَا بَاعَ مُطْلَقًا ثُمَّ أَجَّلَ الثَّمَنَ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ صَحَّ لِكَوْنِهِ تَأْجِيلَ الدَّيْنِ ( وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ مُتَحَمَّلَةٌ فِيهِ
بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ ) لِعَدَمِ ابْتِنَائِهِ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ ، وَلَا كَذَلِكَ اشْتِرَاطُهُ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ ( لِأَنَّهُ يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ )
( وَلَوْ بَاعَ إلَى هَذِهِ الْآجَالِ ثُمَّ تَرَاضَيَا بِإِسْقَاطِ الْأَجَلِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ النَّاسُ فِي الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَقَبْلَ قُدُومِ الْحَاجِّ جَازَ الْبَيْعُ أَيْضًا .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا وَصَارَ كَإِسْقَاطِ الْأَجَلِ فِي النِّكَاحِ إلَى أَجَلٍ ) وَلَنَا أَنَّ الْفَسَادَ لِلْمُنَازَعَةِ وَقَدْ ارْتَفَعَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ فِي شَرْطٍ زَائِدٍ لَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ فَيُمْكِنُ إسْقَاطُهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ ثُمَّ أَسْقَطَا الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ ، وَبِخِلَافِ النِّكَاحِ إلَى أَجَلٍ ؛ لِأَنَّهُ مُتْعَةٌ وَهُوَ عَقْدٌ غَيْرُ عَقْدِ النِّكَاحِ ، وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ ثُمَّ تَرَاضَيَا خَرَجَ وِفَاقًا ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ الْأَجَلُ يَسْتَبِدُّ بِإِسْقَاطِهِ ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِ .
( وَلَوْ بَاعَ إلَى هَذِهِ الْآجَالِ ) أَعْنِي النَّيْرُوزَ وَالْمِهْرَجَانَ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقِطَافِ وَالْجِزَازِ ثُمَّ تَرَاضَيَا بِإِسْقَاطِ الْأَجَلِ قَبْلَ تَحَقُّقِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ انْقَلَبَ الْبَيْعُ جَائِزًا ، خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَهُوَ يَقُولُ : انْعَقَدَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا كَإِسْقَاطِ الْأَجَلِ فِي النِّكَاحِ : يَعْنِي عَلَى أَصْلِكُمْ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ فَالنِّكَاحُ إلَى أَجَلٍ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي النِّكَاحِ ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ مِنْ جَانِبِ زُفَرَ بِمَا لَمْ يَقُلْ بِهِ وَلَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ وَقُلْنَا الْفَسَادُ لِلْمُنَازَعَةِ ، وَالْمُنَازَعَةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ ، فَإِذَا أَسْقَطَهُ ارْتَفَعَ الْمُفْسِدُ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ فَيَعُودُ جَائِزًا .
فَإِنْ قِيلَ : الْجَهَالَةُ تَقَرَّرَتْ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فَلَا يُفِيدُ سُقُوطَهَا كَمَا إذَا بَاعَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ ثُمَّ أَسْقَطَا الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ .
أَجَابَ بِأَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ فِي شَرْطٍ زَائِدٍ وَهُوَ الْأَجَلُ لَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ فَيُمْكِنُ إسْقَاطُهُ ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرْت فَإِنَّ الْفَسَادَ فِيهِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ إذَا نَكَحَ بِغَيْرِ شُهُودٍ ثُمَّ أَشْهَدَ بَعْدَ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا وَلَيْسَ الْفَسَادُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ .
فَإِذَا بَاعَ إلَى أَنْ يَهَبَ الرِّيحَ ثُمَّ أَسْقَطَ الْأَجَلَ لَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْفَسَادَ فِيهِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ فَهُوَ قَوِيٌّ كَمَا لَوْ كَانَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ ثُمَّ تَطَهَّرَ لَمْ تَنْقَلِبْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ هُبُوبَ الرِّيحِ لَيْسَ بِأَجَلٍ لِأَنَّ الْأَجَلَ مَا يَكُونُ مُنْتَظَرًا وَالْهُبُوبُ قَدْ يَكُونُ مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ قَوْلُهُ وَبِخِلَافِ النِّكَاحِ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ زُفَرَ عَلَى النِّكَاحِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا قَدْ قُلْنَا إنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ قَدْ يَنْقَلِبُ جَائِزًا
قَبْلَ تَقْرِيرِ الْمُفْسِدِ ، وَلَمْ نَقُلْ إنَّ عَقْدًا يَنْقَلِبُ عَقْدًا آخَرَ ، وَالنِّكَاحُ إلَى أَجَلٍ مُتْعَةٌ وَهِيَ عَقْدٌ غَيْرُ عَقْدِ النِّكَاحِ فَلَا يَنْقَلِبُ نِكَاحًا ( قَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ ) أَيْ الْقُدُورِيِّ ثُمَّ تَرَاضَيَا خَرَجَ وِفَاقًا لِأَنَّ مَنْ لَهُ الْأَجَلُ يَسْتَبِدُّ بِإِسْقَاطِهِ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِ .
قَالَ ( وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ أَوْ شَاةٍ ذَكِيَّةٍ وَمَيِّتَةٍ بَطَل الْبَيْعُ فِيهِمَا ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : إنْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا جَازَ فِي الْعَبْدِ وَالشَّاةِ الذَّكِيَّةِ ( وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ أَوْ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْعَبْدِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ) عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَسَدَ فِيهِمَا ، وَمَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا كَالْمَيْتَةِ ، وَالْمُكَاتَبُ وَأُمُّ الْوَلَدِ كَالْمُدَبَّرِ لَهُ الِاعْتِبَارُ بِالْفَصْلِ الْأَوَّلِ ، إذْ مَحَلِّيَّةُ الْبَيْعِ مُنْتَفِيَةٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْكُلِّ وَلَهُمَا أَنَّ الْفَسَادَ بِقَدْرِ الْمُفْسِدِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْقِنِّ ، كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَأُخْتِهِ فِي النِّكَاحِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُسَمِّ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّ الْحُرَّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَالْبَيْعُ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَانَ الْقَبُولُ فِي الْحُرِّ شَرْطًا لِلْبَيْعِ فِي الْعَبْدِ وَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، وَأَمَّا الْبَيْعُ فِي هَؤُلَاءِ مَوْقُوفٌ وَقَدْ دَخَلُوا تَحْتَ الْعَقْدِ لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا يَنْفُذُ فِي عَبْدِ الْغَيْرِ بِإِجَازَتِهِ ، وَفِي الْمُكَاتَبِ بِرِضَاهُ فِي الْأَصَحِّ ، وَفِي الْمُدَبَّرِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَكَذَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، إلَّا أَنَّ الْمَالِكَ بِاسْتِحْقَاقِهِ الْمَبِيعَ وَهَؤُلَاءِ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ أَنْفُسَهُمْ رَدُّوا الْبَيْعَ فَكَانَ هَذَا إشَارَةً إلَى الْبَقَاءِ ، كَمَا إذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ وَهَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَهَذَا لَا يَكُونُ شَرْطَ الْقَبُولِ فِي غَيْرِ الْمَبِيعِ وَلَا بَيْعًا بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ
بَيَانُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ فِيهِ
قَالَ ( وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ أَوْ شَاةٍ ذَكِيَّةٍ وَمَيْتَةٍ إلَخْ ) إذَا جَمَعَ فِي الْبَيْعِ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ أَوْ شَاةٍ ذَكِيَّةٍ وَمَيْتَةٍ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيهِمَا مُطْلَقًا أَعْنِي سَوَاءً فَصَّلَ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يُفَصِّلْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : إنْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَمَنًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْتهمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ جَازَ الْعَقْدُ فِي الْعَبْدِ وَالذَّكِيَّةِ ( وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ أَوْ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ صَحَّ الْعَقْدُ فِي الْعَبْدِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَهُمْ خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِمَا ) أَيْ فِي الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ .
أَوْ فِي الْجَمْعَيْنِ جَمِيعًا ( وَمَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا كَالْمَيْتَةِ وَالْمُكَاتَبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ كَالْمُدَبَّرِ ) ، فَإِنْ قِيلَ : مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَصَارَ كَالْمُدَبَّرَةِ فَيَجِبُ جَوَازُ بَيْعِهِ مَعَ الْمُذَكَّى كَبَيْعِ الْقِنِّ مَعَ الْمُدَبَّرِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُجْتَهَدٍ فِيهِ بَلْ خَطَأٌ بَيِّنٌ لِمُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } حَتَّى أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِحِلِّهِ لَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي الْبَيْعِ ( لِزُفَرَ الِاعْتِبَارُ بِالْفَصْلِ ) الْأَوَّلِ : يَعْنِي بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ بِجَامِعِ انْتِفَاءِ الْمَحَلِّيَّةِ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ : إذَا سَمَّى لِكُلٍّ ثَمَنًا أَنَّ الْفَسَادَ بِقَدْرِ الْمُفْسِدِ إذْ الْحُكْمُ يَثْبُتُ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ وَالْمُفْسِدُ فِي الْحُرِّ كَوْنُهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْبَيْعِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ دُونَ الْقِنِّ فَلَا يَتَعَدَّاهُ كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَأُخْتِهِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُسَمِّ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ لِأَنَّ ثَمَنَ الْعَبْدِ مَجْهُولٌ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْفَرْقُ
بَيْنَ فَصْلِ الْحُرِّ وَالْمُدَبَّرِ مَعَ الْقِنِّ أَنَّ الْحُرَّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَالْبَيْعُ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ قَوْلَ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَبُولُ الْعَقْدِ فِيمَا لَا يَصِحُّ فِيهِ الْعَقْدُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ فَكَانَ شَرْطًا فَاسِدًا ، وَفِيهِ نَظَرٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ إذَا بَيَّنَ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَتْ الصَّفْقَةُ مُتَقَرِّرَةً وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ قَوْلُ الْعَقْدِ فِي الْحُرِّ شَرْطًا لِلْبَيْعِ فِي الْعَبْدِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ هُوَ مَا يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ فِي مَعْنَى الرِّبَا ، وَلَيْسَ فِي قَبُولِ الْعَقْدِ فِي الْحُرِّ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِهِمَا وَلَا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا .
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي الْحُرِّ إنَّمَا يَكُونُ شَرْطًا لِقَبُولِ الْعَقْدِ فِي الْعَبْدِ إذَا صَحَّ الْإِيجَابُ فِيهِمَا لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ الْبَائِعُ بِقَبُولِ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَلَمْ يُوجَدْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَصَارَ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الصَّفْقَةَ مُتَحَدِّدَةٌ فِي مِثْلِهِ إذَا لَمْ يُكَرَّرْ الْبَيْعُ أَوْ الشِّرَاءُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ فِي قَبُولِ الْعَقْدِ فِي الْحُرِّ مَنْفَعَةً لِلْبَائِعِ ، فَإِنَّهُ إذَا بَاعَهُمَا بِأَلْفٍ وَالْحُرُّ لَيْسَ بِمَالٍ يُقَابِلُهُ بَدَلٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ بِعْت هَذَا الْعَبْدَ بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنْ يُسَلَّمَ إلَيَّ خَمْسُمِائَةٍ أُخْرَى فَيُنْتَفَعُ بِفَضْلٍ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ الرِّبَا .
وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْإِيجَابَ إذَا صَحَّ فِيهَا صَحَّ الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ جَمِيعًا فَلَا يَكُونُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَثَمَّ جَوَابُ زُفَرَ عَنْ التَّسْوِيَةِ
بَيْنَهُمَا ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ النِّكَاحِ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمَا عَلَى النِّكَاحِ بِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ .
وَقَوْلُهُ أَمَّا الْبَيْعُ فِي هَؤُلَاءِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ ، وَأَرَادَ بِهَؤُلَاءِ الْمُدَبَّرَ وَالْمُكَاتَبَ وَأُمَّ الْوَلَدِ وَعَبْدَ الْغَيْرِ فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا تَحْتَ الْعَقْدِ لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ فَإِنَّهَا بِاعْتِبَارِ الرِّقِّ وَالتَّقَوُّمِ وَهُمَا مَوْجُودَانِ ( قَوْلُهُ وَلِهَذَا يَنْفُذُ ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْضِيحًا لِقَوْلِهِ مَوْقُوفٌ ، فَإِنَّ الْبَيْعَ فِي عَبْدٍ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى إجَازَتِهِ ، وَفِي الْمُكَاتَبِ عَلَى رِضَاهُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ ، وَفِي الْمُدَبَّرِ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي ، وَكَذَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ اللَّاحِقَ يَرْفَعُ الِاخْتِلَافَ السَّابِقَ عِنْدَهُ فَيَكُونُ الْقَضَاءُ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ فَلَا يَنْفُذُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُرْفَعُ فَيَكُونُ الْقَضَاءُ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ فَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ مَوْقُوفٌ وَقَدْ قَالَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَبَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ بَاطِلٌ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ بَاطِلٌ إذَا لَمْ يُجِزْ الْمُكَاتَبُ وَلَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَمَامُ كَلَامِهِ هُنَاكَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْضِيحًا لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ ، فَإِنَّ الْإِجَازَةَ وَقَضَاءَ الْقَاضِي لَا يَنْفُذُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ ، وَإِذَا نَفَذَ هَاهُنَا عَرَفْنَا الْمَحَلِّيَّةَ فِيهَا وَلَا مَحَلَّ لِلْبَيْعِ إلَّا بِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْعَقْدِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَقْدُ فِيهِمْ فَاسِدًا ، إلَّا أَنَّ الْمَالِكَ بِاسْتِحْقَاقِهِ الْمَبِيعَ وَهَؤُلَاءِ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ أَنْفُسَهُمْ رَدُّوا الْبَيْعَ .
وَهَذَا أَيْ الرَّدُّ بِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْبَقَاءِ ، فَكَانَ كَمَا إذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ وَهَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَقِيَ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ بَقَاءً فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ الصِّحَّةِ ، وَهَذَا أَيْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقِنِّ وَأَحَدِ الْمَذْكُورِينَ لَا يَكُونُ شَرْطًا لِلْقَبُولِ فِي غَيْرِ الْمَبِيعِ وَلَا بَيْعًا بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً بَعْدَمَا ثَبَتَ دُخُولُهُمْ فِي الْمَبِيعِ ، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ حَالَةَ الْعَقْدِ بَيَانُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ فِيهِ : أَيْ فِيمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ
.
( فَصْلٌ فِي أَحْكَامِهِ ) .
( وَإِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِأَمْرِ الْبَائِعِ وَفِي الْعَقْدِ عِوَضَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ مَلَكَ الْمَبِيعَ وَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَمْلِكُهُ وَإِنْ قَبَضَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ فَلَا يَنَالُ بِهِ نِعْمَةَ الْمِلْكِ ؛ وَلِأَنَّ النَّهْيَ نَسْخٌ لِلْمَشْرُوعِيَّةِ لِلتَّضَادِّ ، وَلِهَذَا لَا يُفِيدُهُ قَبْضُ الْقَبْضِ ، وَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ بِالْمَيْتَةِ أَوْ بَاعَ الْخَمْرَ بِالدَّرَاهِمِ .
وَلَنَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ .
مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِانْعِقَادِهِ ، وَلَا خَفَاءَ فِي الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ .
وَرُكْنُهُ : مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ ، وَفِيهِ الْكَلَامُ وَالنَّهْيُ يُقَرِّرُ الْمَشْرُوعِيَّةَ عِنْدَنَا لِاقْتِضَائِهِ التَّصَوُّرَ فَنَفْسُ الْبَيْعِ مَشْرُوعٌ ، وَبِهِ تُنَالُ نِعْمَةُ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا الْمَحْظُورُ مَا يُجَاوِرُهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ ، وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَقْرِيرِ الْفَسَادِ الْمُجَاوِرِ إذْ هُوَ وَاجِبُ الرَّفْعِ بِالِاسْتِرْدَادِ فَبِالِامْتِنَاعِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ ضَعُفَ لِمَكَانِ اقْتِرَانِهِ بِالْقَبِيحِ فَيُشْتَرَطُ اعْتِضَادُهُ بِالْقَبْضِ فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ ، وَالْمَيْتَةِ لَيْسَتْ بِمَالٍ فَانْعَدَمَ الرُّكْنُ ، وَلَوْ كَانَ الْخَمْرُ مُثَمَّنًا فَقَدْ خَرَّجْنَاهُ وَشَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ فِي الْخَمْرِ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِيمَةُ وَهِيَ تَصْلُحُ ثَمَنًا لَا مُثَمَّنًا .
ثُمَّ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ وَهُوَ الظَّاهِرُ ، إلَّا أَنَّهُ يَكْتَفِي بِهِ دَلَالَةً كَمَا إذَا قَبَضَهُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ اسْتِحْسَانًا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَسْلِيطٌ مِنْهُ عَلَى الْقَبْضِ ، فَإِذَا قَبَضَهُ بِحَضْرَتِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَلَمْ يَنْهَهُ كَانَ بِحُكْمِ التَّسْلِيطِ السَّابِقِ ، وَكَذَا الْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا
، وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَقْدِ عِوَضَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ لِيَتَحَقَّقَ رُكْنُ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ فَيَخْرُجُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْحُرِّ وَالرِّيحِ وَالْبَيْعِ مَعَ نَفْيِ الثَّمَنِ ، وَقَوْلُهُ لَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ ، فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ ، فَأَمَّا فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيَلْزَمُهُ الْمِثْلُ ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ بِالْقَبْضِ فَشَابَهُ الْغَصْبَ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ صُورَةً وَمَعْنًى أَعْدَلُ مِنْ الْمِثْلِ مَعْنًى .
فَصْلٌ فِي أَحْكَامِهِ ) وَإِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ .
لَمَّا كَانَ حُكْمُ الشَّيْءِ لِكَوْنِهِ أَثَرًا ثَابِتًا بِهِ يَعْقُبُهُ ذَكَرَ أَحْكَامَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عَقِيبَهُ ، وَالْبَيْعُ عِنْدَنَا يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ غَيْرِ مَا مَرَّ إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ وَبَاطِلٍ وَمَوْقُوفٍ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إلَى صَحِيحٍ وَبَاطِلٍ لَا غَيْرُ ( وَإِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِأَمْرِ الْبَائِعِ ) يَعْنِي بِإِذْنِهِ ( وَفِي الْعَقْدِ عِوَضَانِ مَالَانِ مَلَكَ الْمَبِيعَ وَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ ) ذَكَرَ الْقَبْضَ لِتَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ ، وَذَكَرَ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لِأَنَّ الْبَاطِلَ لَا يُفِيدُ شَيْئًا وَإِنْ اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ وَأَمْرُ الْبَائِعِ ، يَعْنِي بِهِ : الْإِذْنُ فِي الْقَبْضِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً ، وَالْمَعْنَى بِدَلَالَةِ الْإِذْنِ هُوَ أَنْ يَقْبِضَهُ عَقِيبَ الْعَقْدِ بِحَضْرَةِ الْبَائِعِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَةِ الْبَائِعِ لَمْ يَمْلِكْهُ بِخِلَافِ الصَّرِيحِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ مُطْلَقًا ، وَقَيَّدَ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَقْدِ عِوَضَانِ مَالَانِ لِفَائِدَةٍ سَنَذْكُرُهَا .
وَقَوْلُهُ مَلَكَ الْمَبِيعَ هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ سِوَى أَهْلِ الْعِرَاقِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ الْمَبِيعُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مَمْلُوكُ التَّصَرُّفِ لَا مَمْلُوكُ الْعَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْقَبْضُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ ) وَالْمَحْظُورُ ( لَا تُنَالُ بِهِ نِعْمَةُ الْمِلْكِ ) لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ لَا بُدَّ مِنْهَا وَلِأَنَّ النَّهْيَ نَسْخٌ لِلْمَشْرُوعِيَّةِ ( لِلتَّضَادِّ ) بَيْنَ النَّهْيِ وَالْمَشْرُوعِيَّة إذْ النَّهْيُ يَقْتَضِي الْقُبْحَ وَالْمَشْرُوعِيَّة تَقْتَضِي الْحُسْنَ وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ وَالْمَنْسُوخُ الْمَشْرُوعِيَّةِ لَا يُفِيدُ حُكْمًا شَرْعِيًّا ( وَلِهَذَا لَا يُفِيدُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ الْخَمْرَ بِالدَّرَاهِمِ ) أَوْ الدَّنَانِيرِ أَوْ بِالْمَيْتَةِ وَقَبَضَهَا
الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ .
وَلَنَا أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ ، لِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِطَرِيقِ الِاكْتِسَابِ بِالتَّرَاضِي صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ .
إذْ الْكَلَامُ فِي أَنْ لَا خَلَلَ فِي الْعَاقِدَيْنِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ كَذَلِكَ ، وَكُلُّ بَيْعٍ كَانَ كَذَلِكَ يُفِيدُ الْمِلْكَ فَهَذَا الْبَيْعُ يُفِيدُهُ .
لَا يُقَالُ قَدْ يَكُونُ النَّهْيُ مَانِعًا عَنْ ذَلِكَ ، لِأَنَّ النَّهْيَ يُقَرِّرُ الْمَشْرُوعِيَّةَ عِنْدَنَا لِاقْتِضَائِهِ التَّصَوُّرَ لِيَكُونَ النَّهْيُ عَمَّا يَتَكَوَّنُ لِيَكُونَ الْعَبْدُ مُبْتَلًى بَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ بِاخْتِيَارِهِ فَيُثَابَ وَبَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ فَيُعَاقَبَ عَلَيْهِ .
فَنَفْسُ الْبَيْعِ مَشْرُوعٌ وَبِهِ تُنَالُ نِعْمَةُ الْمِلْكِ .
لَكِنْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قُبْحِ مُقْتَضَى النَّهْيِ فَجَعَلْنَاهُ فِي وَصْفِهِ مُجَاوِرًا كَمَا فِي الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ عَمَلًا بِالْوَجْهَيْنِ ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي التَّقْرِيرِ عَلَى وَجْهٍ أَتَمَّ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمَحْظُورَ فِي الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ مُجَاوِرٌ ، وَأَمَّا فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا اتَّصَلَ بِهِ وَصْفًا فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ صَحِيحًا ، وَأَيْضًا الْحُكْمُ هُنَاكَ الْكَرَاهَةُ وَفِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ الْفَسَادُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ غَرَضَ الْمُصَنِّفِ مِنْ ذِكْرِ الْمُجَاوَرَةِ بَيَانُ أَنَّ الْمَحْظُورَ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي عَيْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَمَا زَعَمَهُ الْخَصْمُ .
وَالْمُجَاوَرُ جَمْعًا وَالْمُتَّصِلُ وَصْفًا سِيَّانِ فِي ذَلِكَ وَبِأَنَّ غَرَضَهُ أَنَّ حُكْمَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَيْسَ الْبُطْلَانَ كَمَا يَدَّعِيهِ الْخَصْمُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْفَسَادُ يَشْتَرِكَانِ فِي عَدَمِ الْبُطْلَانِ .
طَالِعْ التَّقْرِيرَ تَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ .
( قَوْلُهُ وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَقْرِيرِ الْفَسَادِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِهَذَا لَا يُفِيدُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِوُجُوبِ
تَسْلِيمِ الثَّمَنِ وَوَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ لِأَنَّهُمَا مِنْ مَوَاجِبِ الْعَقْدِ فَيَتَقَرَّرُ الْفَسَادُ وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ وَاجِبُ الرَّفْعِ بِالِاسْتِرْدَادِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ وَاجِبُ الرَّفْعِ بِالِاسْتِرْدَادِ لَا يَجُوزُ تَقْرِيرُهُ ، وَإِذَا كَانَ وَاجِبُ الرَّفْعِ الِاسْتِرْدَادَ : يَعْنِي إذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَقْبُوضًا فَلَأَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الرَّفْعِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ مُطَالَبَةِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَسْهَلَ لِسَلَامَتِهِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ وَالْإِحْضَارِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ .
ثُمَّ الرَّفْعُ بِالِاسْتِرْدَادِ .
وَعُورِضَ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُفِدْ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يُفِدْهُ بَعْدَهُ ، لِأَنَّ كُلَّ مَا يَمْنَعُ عَنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَمْنَعُ بَعْدَهُ كَخِيَارِ الشَّرْطِ ، وَبِأَنَّهُ لَوْ أَفَادَ بَعْدَ الْقَبْضِ كَانَ تَقْرِيرًا لِلْفَسَادِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَعَ غَيْرِهِ كَالشَّيْءِ لَا مَعَ غَيْرِهِ وَهُوَ مُحَالٌ ، وَخِيَارُ الشَّرْطِ إنَّمَا اسْتَوَى فِيهِ الْقَبْضُ وَعَدَمُهُ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِيهِ مُعَلَّقٌ بِسُقُوطِ الْخِيَارِ مَعْنًى ، لِأَنَّهُ يَقُولُ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ .
وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِهِ .
وَتَعَلُّقُهُ بِالشَّرْطِ لَمْ يَخْتَلِفْ بَيْنَ وُجُودِ الْقَبْضِ وَعَدَمِهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَعَ غَيْرِهِ كَالشَّيْءِ لَا مَعَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الشَّرْطَ أَهْدَرَ الْغَيْرَ : أَعْنِي الْقَبْضَ .
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ تَقْرِيرَ الْفَسَادِ بَعْدَ الْقَبْضِ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ الضَّمَانِ ، فَإِنَّ الْقَبْضَ يُوجِبُ الضَّمَانَ فَإِنْ لَمْ يَنْتَقِلْ الْمِلْكُ مِنْ الْمَضْمُونِ لَهُ إلَى الضَّامِنِ لَاجْتَمَعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَهُوَ لَا يَجُوزُ .
وَالضِّمْنِيَّاتُ لَا مُعْتَبَرَ بِهَا ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ السَّبَبَ ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى إفَادَةِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ الْمِلْكَ بَعْدَ الْقَبْضِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ السَّبَبَ : يَعْنِي الْبَيْعَ الْفَاسِدَ ( قَدْ ضَعُفَ
لِمَكَانِ اقْتِرَانِهِ بِالْقَبِيحِ فَيُشْتَرَطُ اعْتِمَادُهُ بِالْقَبْضِ فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ ) لِأَنَّ لِلْقَبْضِ شَبَهًا بِالْإِيجَابِ فَصَارَ كَأَنَّ إيجَابَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ازْدَادَ قُوَّةً فِي نَفْسِهِ فَهُوَ كَالْهِبَةِ فِي احْتِيَاجِهِ إلَى مَا يُعَضِّدُهُ الْعَقْدُ مِنْ الْقَبْضِ ( قَوْلُهُ وَالْمَيْتَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الْخَصْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ عَلَى الْبَيْعِ بِالْمَيْتَةِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَيْتَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يَجُوزُ فِيهِ الْبَيْعُ لِفَوَاتِ رُكْنِهِ ، وَلَوْ كَانَ الْخَمْرُ مُثَمَّنًا وَهُوَ مَا إذَا اشْتَرَى الْخَمْرَ بِالدَّرَاهِمِ فَقَدْ خَرَّجْنَاهُ : يَعْنِي فِي أَوَائِلِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَأَرَادَ بِهِ مَا قَالَهُ ، وَأَمَّا بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إنْ كَانَ بِالدَّيْنِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ الْبَيْعِ فِيمَا إذَا كَانَ الْخَمْرُ مُثَمَّنًا بُطْلَانُ الْبَيْعِ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَفِي شَيْءٍ آخَرَ : أَيْ دَلِيلٍ آخَرَ سِوَى مَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ وَهُوَ أَنَّ الْعَقْدَ الْوَاقِعَ عَلَى الْخَمْرِ يُوجِبُ الْقِيمَةَ لَا عَيْنَ الْخَمْرِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْخَمْرِ وَتَسَلُّمِهَا ، فَلَوْ قُلْنَا بِانْعِقَادِ الْبَيْعِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ لَجَعَلْنَا الْقِيمَةَ مُثَمَّنًا لِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ يُقَابِلُهُ الدَّرَاهِمُ أَوْ الدَّنَانِيرُ فِي الْبَيْعِ هُوَ مُثَمَّنٌ لِتَعَيُّنِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِلثَّمَنِيَّةِ خِلْقَةً وَشَرْعًا .
وَلَا عَهْدَ لَنَا بِذَلِكَ فِي صُورَةِ مَنْ صَوَّرَ الْبِيَاعَاتِ فَالْقَوْلُ بِهِ تَغْيِيرٌ لِلْمَشْرُوعِ فَحَكَمْنَا بِبُطْلَانِهِ ( قَوْلُهُ ثُمَّ شُرِطَ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ ) إشَارَةٌ إلَى صِحَّةِ الْإِذْنِ بِالدَّلَالَةِ ، كَمَا إذَا قَبَضَهُ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ بِحَضْرَتِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَلَمْ يَنْهَهُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا ( قَوْلُهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ ، وَسَمَّاهُ الرِّوَايَةَ الْمَشْهُورَةَ فَقَالَ : وَمَا قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ
الْبَائِعِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَهُوَ كَمَا لَمْ يُقْبَضْ ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الْمَشْهُورَةُ .
وَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الْبَيْعَ تَسْلِيطٌ مِنْهُ عَلَى الْقَبْضِ ، فَإِذَا قَبَضَهُ بِحَضْرَتِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَلَمْ يَنْهَهُ كَانَ بِحُكْمِ التَّسْلِيطِ السَّابِقِ فَيُكْتَفَى بِهِ ، وَعَلَى هَذَا الْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا ، وَعَلَى رِوَايَةِ صَاحِبِ الْإِيضَاحِ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْهِبَةِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَذَلِكَ بِأَنَّ الْعَقْدَ إذَا وَقَعَ فَاسِدًا لَمْ يَتَضَمَّنْ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَبْضِ لِأَنَّ التَّسْلِيطَ لَوْ ثَبَتَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِمُقْتَضَاهُ شَرْعًا وَالْفَاسِدُ يَجِبُ إعْدَامُهُ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمُقْتَضَى وَهُوَ التَّسْلِيطُ عَلَى الْقَبْضِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ فَإِنَّهُ يَكُونُ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَبْضِ اسْتِحْسَانًا مَا دَامَ فِي الْمَجْلِسِ ، لِأَنَّ التَّصَرُّفَ وَقَعَ صَحِيحًا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ تَسْلِيطًا بِمُقْتَضَاهُ ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَجْلِسِ لِأَنَّ الْقَبْضَ رُكْنٌ فِي بَابِ الْهِبَةِ وَأَنَّهُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْقَبُولِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ ، فَكَمَا أَنَّ الْقَبُولَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَجْلِسِ فَكَذَا التَّسْلِيطُ عَلَى الْقَبْضِ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ، وَشُرِطَ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَقْدِ عِوَضَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ لِيَتَحَقَّقَ رُكْنُ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ ، فَيَخْرُجُ عَنْ هَذَا الِاشْتِرَاطِ الْبَيْعُ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْحُرِّ وَالرِّيحِ الَّتِي تَهُبُّ وَالْبَيْعُ مَعَ نَفْيِ الثَّمَنِ وَيُجْعَلُ الْكُلُّ بَاطِلًا لِعَدَمِ الْمَالِيَّةِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ سَوَاءٌ كَانَتْ ثَمَنًا أَوْ مُثَمَّنًا ، لَكِنْ ذَكَرَ جِهَةَ الْأَثْمَانِ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مَبِيعَةً كَانَ الْبَيْعُ أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ .
وَقَوْلُهُ أَيْ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ لَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ : مَعْنَاهُ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ كَالْحَيَوَانِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ ، فَأَمَّا فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ
الْمُتَقَارِبَةِ فَيَجِبُ الْمِثْلُ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ بِالْقَبْضِ فَشَابَهَ الْغَصْبَ ، وَالْحُكْمُ فِي الْغَصْبِ كَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِثْلَ صُورَةً وَمَعْنًى أَعْدَلُ مِنْ الْمِثْلِ مَعْنًى فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ .
قَالَ ( وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ ) رَفْعًا لِلْفَسَادِ ، وَهَذَا قَبْلَ الْقَبْضِ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفِدْ حُكْمَهُ فَيَكُونُ الْفَسْخُ امْتِنَاعًا مِنْهُ ، وَكَذَا بَعْدَ الْقَبْضِ إذَا كَانَ الْفَسَادُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ لِقُوَّتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْفَسَادُ بِشَرْطٍ زَائِدٍ فَلِمَنْ لَهُ الشَّرْطُ ذَلِكَ دُونَ مَنْ عَلَيْهِ لِقُوَّةِ الْعَقْدِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُرَاضَاةُ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الشَّرْطُ .
قَالَ ( فَإِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي نَفَذَ بَيْعُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ فَمَلَكَ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَسَقَطَ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَبْدِ بِالثَّانِي وَنُقِضَ الْأَوَّلُ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ لِحَاجَتِهِ وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ ، وَالثَّانِيَ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ فَلَا يُعَارِضُهُ مُجَرَّدُ الْوَصْفِ ؛ وَلِأَنَّهُ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ ، بِخِلَافِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فِي الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْعَبْدِ وَيَسْتَوِيَانِ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ وَمَا حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ الشَّفِيعِ .
قَالَ ( وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ رَفْعًا لِلْفَسَادِ إلَخْ ) لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُتَعَاقِدَيْ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ ، أَمَّا إذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُفِدْ الْحُكْمَ فَكَانَ الْفَسْخُ امْتِنَاعًا مِنْ أَنْ يُفِيدَ الْحُكْمَ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَهُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَسَادُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ : أَيْ لِمَعْنًى فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ وَبَيْعِ ثَوْبٍ بِخَمْرٍ ، أَوْ لِشَرْطٍ فَاسِدٍ زَائِدٍ كَاشْتِرَاطِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَالْبَيْعِ إلَى النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فَسْخُهُ بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِقُوَّةِ الْفَسَادِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِحَضْرَتِهِ وَغَيْبَتِهِ .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا ذَلِكَ إذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَهُ فَلِلَّذِي لَهُ الشَّرْطُ أَنْ يَفْسَخَهُ بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي عَلَى حَالِهِ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُطْلَبُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ ، قِيلَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ .
وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ الْعَقْدَ قَوِيٌّ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ حَقُّ الْفَسْخِ لَكِنَّ الرِّضَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الشَّرْطُ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ حَقُّ الْفَسْخِ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَانْتَفَى اللُّزُومُ عَنْ الْعَقْدِ ، وَفِي الْعَقْدِ الْغَيْرِ اللَّازِمِ يَتَمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِنْ فَسْخِهِ ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ وَالْإِيضَاحِ وَالْكَافِي ، فَإِنْ بَاعَ الْمُشْتَرِي الْمَقْبُوضَ بِالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ نَفَذَ بَيْعُهُ
لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ ، وَكُلُّ مَنْ مَلَكَ بِالْقَبْضِ شَيْئًا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ ، سَوَاءٌ كَانَ تَصَرُّفًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ كَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ ، أَوْ يَحْتَمِلُهُ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ .
وَرُدَّ بِأَنَّ الْمَبِيعَ لَوْ كَانَ مَأْكُولًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ ، وَلَوْ كَانَتْ جَارِيَةً لَمْ يَحِلَّ وَطْؤُهَا ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ ، فَلَمْ يَمْلِكْ التَّصَرُّفَ مُطْلَقًا .
وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ .
فَإِنَّ مُحَمَّدًا نَصَّ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى حِلِّ تَنَاوُلِهِ قَالَ لِأَنَّ الْبَائِعَ سَلَّطَهُ عَلَى ذَلِكَ .
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ : يُكْرَهُ الْوَطْءُ وَلَا يَحْرُمُ ، فَالْمَذْكُورُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ يُحْمَلُ عَلَى عَدَمِ الطَّيِّبِ ، وَلَئِنْ سُلِّمَ فَالْوَطْءُ مِمَّا لَا يُسْتَبَاحُ بِصَرِيحِ التَّسْلِيطِ فَبِدَلَالَتِهِ أَوْلَى ، وَجَوَازُ التَّصَرُّفِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْمِلْكِ وَهُوَ يَنْفَكُّ عَنْ صِفَةِ الْحِلِّ .
وَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ نَافِذًا سَقَطَ حَقُّ ارْتِدَادِ الْبَائِعِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَبْدِ ؟ وَهُوَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِالْبَيْعِ الثَّانِي وَنَقْضُ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ لِحَقِّ الشَّرْعِ .
وَإِذَا اجْتَمَعَ حَقُّ الشَّرْعِ وَحَقُّ الْعَبْدِ يُقَدَّمُ حَقُّ الْعَبْدِ لِحَاجَتِهِ وَغِنَى الشَّرْعِ ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ إنْ كَانَ إجَارَةً أَوْ تَزْوِيجًا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ اسْتِرْدَادِهِ ، وَكَذَا إذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي وَوَرِثَ وَارِثُهُ الْمُشْتَرَى وَإِنْ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ حَقُّ الْعَبْدِ فَكَانَ ذَلِكَ تَحَكُّمًا .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ ضَعِيفٌ يُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ وَفَسَادُ الشِّرَاءِ عُذْرٌ فِي فَسْخِهَا كَمَا يَأْتِي ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ مَنْ يَفْسَخُهَا .
وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَفْسَخُهَا ، وَالتَّزْوِيجُ يُشْبِهُ الْإِجَارَةَ لِوُرُودِهِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ ، وَالْبَيْعُ يَرِدُ عَلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَالْفَسْخُ كَذَلِكَ ، فَتَعَلُّقُ حَقُّ الزَّوْجِ بِالْمَنْفَعَةِ لَا يَمْنَعُ الْفَسْخَ عَلَى الرَّقَبَةِ وَالنِّكَاحُ عَلَى حَالِهِ قَائِمٌ .
وَعَنْ
الثَّانِي بِأَنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ فِي حُكْمِ عَيْنِ مَا كَانَ لِلْمَوْرُوثِ وَلِهَذَا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ الْمِلْكُ كَانَ مُسْتَحَقَّ النَّقْضِ فَانْتَقَلَ إلَى الْوَارِثِ كَذَلِكَ ، حَتَّى لَوْ مَاتَ الْبَائِعُ كَانَ لِوَارِثِهِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ مِنْ الْمُشْتَرِي بِحُكْمِ الْفَسَادِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى الْمُشْتَرِي بِالْمُشْتَرَى لِشَخْصٍ ثُمَّ مَاتَ حَيْثُ لَمْ يَبْقَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ مِنْ الْمُوصَى لَهُ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي فِي ثُبُوتِ مِلْكٍ مُتَجَدِّدٍ لَهُ سَبَبٌ اخْتِيَارِيٌّ لَيْسَ فِي حُكْمِ عَيْنِ مَا كَانَ لِلْمُوصِي وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُمْ إذَا اجْتَمَعَ الْحَقَّانِ يُقَدَّمُ حَقُّ الْعَبْدِ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا كَانَ فِي يَدِ حَلَالٍ صَيْدٌ ثُمَّ أَحْرَمَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ وَفِيهِ تَقْدِيمُ حَقِّ الشَّرْعِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ لِإِمْكَانِهِ أَنَّهُ بِالْإِرْسَالِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَضِيعُ مِلْكُهُ لَا التَّرْجِيحُ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ إذَا امْتَنَعَ الْجَمْعُ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ اسْتِرْدَادِ الْبَائِعِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَعْرِفَةِ مَاهِيَّةِ الْفَاسِدِ عِنْدَنَا ، وَالْبَيْعُ الثَّانِي مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ إذْ لَا خَلَلَ فِيهِ لَا فِي رُكْنِهِ وَلَا فِي عَوَارِضِهِ فَلَا يُعَارِضُهُ مُجَرَّدُ الْوَصْفِ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْفَاسِدَ لَا يُعَارِضُ الصَّحِيحَ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى ذَلِكَ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ حَصَلَ بِتَسْلِيطِ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ حَيْثُ كَانَ الْقَبْضُ بِإِذْنِهِ ، فَاسْتِرْدَادُهُ نَقْضُ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ .
وَنُوقِضَ بِاسْتِرْدَادِهِ قَبْلَ وُجُودِ الْبَيْعِ الثَّانِي فَإِنَّهُ نَقَضَ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ التَّمَامَ فِيهِ ،
فَإِنَّ كُلًّا مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَمْلِكُ الْفَسْخَ فَأَيْنَ التَّمَامُ ، فَإِذَا بَاعَ الْمُشْتَرِي فَقَدْ انْتَهَى مِلْكُهُ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ وَالْمَنْهِيُّ مُقَرَّرٌ .
وَإِذَا تَقَرَّرَ فَقَدْ تَمَّ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا مِنْهُ ابْتِدَاءً فَيَكُونُ الِاسْتِرْدَادُ نَقْضًا لِمَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِالْمُشْتَرِي مَانِعًا عَنْ نَقْضِ التَّصَرُّفِ لَمْ يَنْقُضْ تَصَرُّفَاتِ الْمُشْتَرِي فِي الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْبِنَاءِ وَغَيْرِهَا لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهَا لَكِنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَهَا .
وَتَوْجِيهُ الْجَوَابِ مَا قَالَ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعِ حَقُّ الْعَبْدِ وَيَسْتَوِيَانِ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ فَيَجُوزُ نَقْضُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ بِدَلِيلٍ يَقْتَضِيهِ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْغَيْرِ إنَّمَا يَمْنَعُ النَّقْضَ إذَا كَانَ فِي مُقَابَلَتِهِ مَا هُوَ مَرْجُوحٌ عِنْدَهُ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مَا هُوَ رَاجِحٌ فَلَا يَمْنَعُ وَحَقُّ الشَّفِيعِ رَاجِحٌ لِأَنَّهُ عِنْدَ صِحَّةِ الْأَخْذِ تَتَحَوَّلُ الصَّفْقَةُ إلَيْهِ فَتَبْقَى تَصَرُّفَاتُ الْمُشْتَرِي بِلَا سَنَدٍ فَيُنْقَضُ ، وَلِأَنَّهُ مَا حَصَلَ التَّسْلِيطُ مِنْ جِهَةِ الشَّفِيعِ لِيَكُونَ نَقْضُهُ نَقْضًا لِمَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّسْلِيطَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْإِذْنِ أَوْ بِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الشَّفِيعِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَقَبَضَهُ وَأَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ فَتَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ ، وَبِالْإِعْتَاقِ قَدْ هَلَكَ فَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ ، وَبِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ انْقَطَعَ الِاسْتِرْدَادُ عَلَى مَا مَرَّ ، وَالْكِتَابَةُ وَالرَّهْنُ نَظِيرُ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَازِمَانِ .
إلَّا أَنَّهُ يَعُودُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ وَفَكِّ الرَّهْنِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ .
وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ ؛ لِأَنَّهَا تُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ ، وَرَفْعُ الْفَسَادِ عُذْرٌ ؛ وَلِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيَكُونُ الرَّدُّ امْتِنَاعًا .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَقَبَضَهُ إلَخْ ) وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَقَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ وَأَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ بَيْعًا صَحِيحًا وَأَعَادَ لَفْظَ الْبَيْعِ كَرَاهَةَ أَنْ يُغَيِّرَ لَفْظَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْ تَرَكَهُ ( أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ فَهُوَ ) أَيْ مَا فَعَلَ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ ( جَائِزٌ وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ ) أَمَّا جَوَازُهُ فَ ( لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ ) وَالْمِلْكُ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ فَيَنْفُذُ ، وَأَمَّا وُجُوبُ الْقِيمَةِ فَلِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ بِالْقَبْضِ فَشَابَهُ الْغَصْبَ ( وَبِالْإِعْتَاقِ قَدْ هَلَكَ ) فَصَارَ كَمَغْصُوبٍ هَلَكَ وَفِيهِ الْقِيمَةُ ( وَبِالْهِبَةِ ) وَالتَّسْلِيمِ ( وَالْبَيْعِ انْقَطَعَ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ عَلَى مَا مَرَّ ) آنِفًا مِنْ قَوْلِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَبْدِ بِالثَّانِي ( وَالْكِتَابَةُ وَالرَّهْنُ نَظِيرُ الْبَيْعِ لِأَنَّهُمَا لَازِمَانِ ) فَإِنَّ الرَّهْنَ إذْ اتَّصَلَ بِالْقَبْضِ صَارَ لَازِمًا فِي حَقِّ الرَّاهِنِ كَالْكِتَابَةِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ( إلَّا أَنَّ حَقَّ الِاسْتِرْدَادِ يَعُودُ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ وَفَكِّ الرَّهْنِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ ) وَهُوَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْعَبْدِ .
قِيلَ وَلَيْسَ لِتَخْصِيصِهِمَا فِي عَوْدِ الِاسْتِرْدَادِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ .
فَإِنَّهُ ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ إذَا نَقَضَ التَّصَرُّفَاتِ .
حَتَّى لَوْ رُدَّ الْمَبِيعُ بِعَيْبٍ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ أَوْ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ عَادَ لِلْبَائِعِ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ لِعَوْدِ قَدِيمِ مِلْكِهِ إلَيْهِ ، ثُمَّ عَوْدُ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا لَمْ يَقْضِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِذَلِكَ فَقَدْ تَحَوَّلَ الْحَقُّ إلَى الْقِيمَةِ فَلَا يَعُودُ إلَى الْعَيْنِ كَمَا إذَا قَضَى عَلَى الْغَائِبِ بِقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ الْآبِقِ ثُمَّ عَادَ ( قَوْلُهُ وَهَذَا ) أَيْ انْقِطَاعُ الِاسْتِرْدَادِ بِالتَّصَرُّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ ( بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ ) فَإِنَّ حَقَّ
الِاسْتِرْدَادِ فِيهَا لَا يَنْقَطِعُ لِمَا ذَكَرْنَا ( أَنَّهَا تُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ ، وَرَفْعُ الْفَسَادِ مِنْ أَقْوَى الْأَعْذَارِ وَلِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيَكُونُ الرَّدُّ امْتِنَاعًا ) وَلَعَلَّ فِي الْجَوَابَيْنِ إشَارَةً إلَى الْمَذْهَبَيْنِ فِيهَا .
قَالَ ( وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَرُدَّ الثَّمَنَ ) ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعُ مُقَابَلٌ بِهِ فَيَصِيرُ مَحْبُوسًا بِهِ كَالرَّهْنِ ( وَإِنْ مَاتَ الْبَائِعُ فَالْمُشْتَرِي أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ ) ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ ، فَكَذَا عَلَى وَرَثَتِهِ وَغُرَمَائِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَالرَّاهِنِ ثُمَّ إنْ كَانَتْ دَرَاهِمُ الثَّمَنِ قَائِمَةً يَأْخُذُهَا بِعَيْنِهَا ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً أَخَذَ مِثْلَهَا لِمَا بَيَّنَّا .
قَالَ ( وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَرُدَّ الثَّمَنَ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : أَيْ الْقِيمَةَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ ، بَلْ الْمُرَادُ بِهِ مَا أَخَذَهُ الْبَائِعُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَبِيعِ عَرْضًا كَانَ أَوْ نَقْدًا ثَمَنًا كَانَ أَوْ قِيمَةً .
وَهَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَيْضًا وَغَيْرِهَا ( فَيَصِيرُ الْمَبِيعُ مَحْبُوسًا بِالْمَقْبُوضِ ) فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ أَنْ لَا يَدْفَعَ الْمَبِيعَ إلَى أَنْ يَأْخُذَ الثَّمَنَ مِنْ الْبَائِعِ كَمَا فِي الرَّهْنِ ، لَكِنَّهُ يُفَارِقُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِقَدْرِ الدَّيْنِ لَا غَيْرُ ، وَهَاهُنَا الْمَبِيعُ مَضْمُونٌ بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ كَمَا فِي الْغَصْبِ ( وَإِنْ مَاتَ الْبَائِعُ فَالْمُشْتَرِي أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ حَالَ حَيَاتِهِ ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي حَقَّ مَنْعِ الْبَائِعِ مِنْ الْمَبِيعِ إلَى أَنْ يَأْخُذَ مَا أَدَّى إلَيْهِ ، وَكُلُّ مَنْ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ حَالَ حَيَاتِهِ يُقَدَّمُ عَلَى غُرَمَائِهِ وَوَرَثَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَالْمُرْتَهِنِ ، فَإِنَّ الرَّاهِنَ إذَا مَاتَ وَلَهُ وَرَثَةٌ وَغُرَمَاءُ فَالْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِالرَّهْنِ مِنْ الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاءِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الدَّيْنَ ( ثُمَّ إنْ كَانَتْ دَرَاهِمُ الثَّمَنِ قَائِمَةً يَأْخُذُهَا بِعَيْنِهَا لِأَنَّهَا ) فِيهِ ( تَتَعَيَّنُ ) بِالتَّعْيِينِ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ ( وَهُوَ الْأَصَحُّ ) وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ لَا تَتَعَيَّنُ ، وَالْقَبْضُ الْفَاسِدُ وَهُوَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ إلَى أَجَلٍ فِي تَعْيِينِ الْمَقْبُوضِ لِلرَّدِّ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ الِاعْتِبَارُ بِالْبَيْعِ الصَّحِيحِ .
وَوَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الثَّمَنَ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ فِي كَوْنِهِمَا مَقْبُوضَيْنِ لَا عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ .
وَقِيلَ فِي حُكْمِ النَّقْضِ وَالِاسْتِرْدَادِ وَالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ تَتَعَيَّنُ لِلرَّدِّ
يَجِبُ رَدُّ عَيْنِهَا إذَا كَانَتْ قَائِمَةً ( وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً أَخَذَ مِثْلَهَا لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ وَالْحُكْمُ فِيهِ كَذَلِكَ .
وَذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّ الْمَبِيعَ يُبَاعُ لِحَقِّ الْمُشْتَرِي .
فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ يُصْرَفُ إلَى الْغُرَمَاءِ كَمَا فِي بَيْعِ الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ دَارًا بَيْعًا فَاسِدًا فَبَنَاهَا الْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَوَاهُ يَعْقُوبُ عَنْهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ثُمَّ شَكَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ .
( وَقَالَا : يُنْقَضُ الْبِنَاءُ وَتُرَدُّ الدَّارُ ) وَالْغَرْسُ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ .
لَهُمَا أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ أَضْعَفُ مِنْ حَقِّ الْبَائِعِ حَتَّى يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَضَاءِ وَيَبْطُلُ بِالتَّأْخِيرِ ، بِخِلَافِ حَقِّ الْبَائِعِ ، ثُمَّ أَضْعَفُ الْحَقَّيْنِ لَا يَبْطُلُ بِالْبِنَاءِ فَأَقْوَاهُمَا أَوْلَى ، وَلَهُ أَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ الدَّوَامُ وَقَدْ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ فَيَنْقَطِعُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ كَالْبَيْعِ ، بِخِلَافِ حَقِّ الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّسْلِيطُ وَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ بِهِبَةِ الْمُشْتَرِي وَبَيْعِهِ فَكَذَا بِبِنَائِهِ وَشَكَّ يَعْقُوبُ فِي حِفْظِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ فَإِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ بِالْبِنَاءِ وَثُبُوتِهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ دَارًا بَيْعًا فَاسِدًا فَبَنَاهَا الْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يُنْقَضُ الْبِنَاءُ وَتُرَدُّ الدَّارُ ) وَكَذَا إذَا اشْتَرَى أَرْضًا وَغَرَسَ فِيهَا .
وَذُكِرَ فِي الْإِيضَاحِ أَنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا هُوَ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ وَقَوْلُهُ آخِرًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ( لَهُمَا أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ أَضْعَفُ مِنْ حَقِّ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَضَاءِ ) أَوْ الرِّضَا ( وَيَبْطُلُ بِالتَّأْخِيرِ ) وَلَا يُورَثُ ( بِخِلَافِ حَقِّ الْبَائِعِ ) فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبَائِعَ بَيْعًا فَاسِدًا إذَا مَاتَ كَانَ لِوَرَثَتِهِ الِاسْتِرْدَادُ ، وَالْأَضْعَفُ إذَا لَمْ يَبْطُلْ بِشَيْءٍ فَالْأَقْوَى لَا يَبْطُلُ بِهِ وَهُوَ بَدِيهِيٌّ ، وَحَقُّ الشَّفِيعِ لَا يُبْطِلُ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ فَحَقُّ الْبَائِعِ كَذَلِكَ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ حَصَلَ لِلْمُشْتَرِي بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ ) وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ ( يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ كَالْبَيْعِ ) الْحَاصِلِ مِنْ الْمُشْتَرِي ( بِخِلَافِ الشَّفِيعِ إذْ التَّسْلِيطُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ ) وَلِهَذَا لَوْ وَهَبَهَا الْمُشْتَرِي لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الشَّفِيعِ ، وَكَذَا لَوْ بَاعَهَا مِنْ آخَرَ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ بِالْبَيْعِ الثَّانِي بِالثَّمَنِ أَوْ بِالْأَوَّلِ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ كَانَ لَا شُفْعَةَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ قَدْ انْقَطَعَ هَاهُنَا ، وَعَلَى هَذَا صَارَ حَقُّ الشَّفِيعِ لِعَدَمِ التَّسْلِيطِ مِنْهُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْبَائِعِ لِوُجُودِهِ مِنْهُ ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ يُنَبِّئُك أَنَّ قَوْلَهُ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ الدَّوَامُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْحُجَّةِ .
قِيلَ : وَإِنَّمَا أَدْخَلَهُ فِيهَا إشَارَةً إلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ الْإِجَارَةِ ، فَإِنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ بِالْإِجَارَةِ لَا يُقْصَدُ بِهِمَا الدَّوَامُ ، وَلَعَلَّهُ ذَكَرَهُ لَأَنْ يَلْحَقَهُ بِالْبَيْعِ فِي كَوْنِهِ مَنْهِيًّا مُقَرَّرًا لِأَنَّهُ لَمَّا قُصِدَ بِهِ الدَّوَامُ أَشْبَهَ الْبَيْعَ
فَكَانَ مَنْهِيًّا لِلْمِلْكِ فَيَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ كَالْبَيْعِ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لِانْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ بِالْبِنَاءِ لِصَيْرُورَتِهِ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ فَيَنْقُضُ الشَّفِيعُ بِنَاءَ الْمُشْتَرِي .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ نَقْضُ الْبِنَاءِ لِحَقِّ الشَّفِيعِ وَفِيهِ تَقْرِيرُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَجَبَ نَقْضُهُ لِحَقِّ الْبَائِعِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ فِيهِ إعْدَامَ الْفَاسِدِ .
وَإِذَا تُؤُمِّلَ مَا ذُكِرَ فَلَيْسَ بِوَارِدٍ ، إذْ الْبَائِعُ مُسَلَّطٌ دُونَ الشَّفِيعِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَقْضِهِ لِمَنْ لَيْسَ بِمُسَلَّطٍ نَقْضُهُ لِمُسَلَّطٍ فَانْتَفَتْ الْأَوْلَوِيَّةُ وَبَطَلَتْ الْمُلَازَمَةُ .
وَاعْتُرِضَ أَيْضًا بِأَنَّهُ إذَا نُقِضَ الْبِنَاءُ لِحَقِّ الشَّفِيعِ وَجَبَ عَوْدُ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ وَهُوَ الْبِنَاءُ ، كَمَا إذَا بَاعَ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا بَيْعًا صَحِيحًا وَرُدَّ عَلَيْهِ الْمَبِيعُ بِمَا هُوَ فَسْخٌ .
وَأُجِيبَ بِوُجُودِ مَانِعٍ آخَرَ فَإِنَّ الْمَانِعَ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ إنَّمَا يَنْتَفِي بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلشَّفِيعِ وَأَنَّهُ مَانِعٌ آخَرُ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ ، وَهَذَا لِأَنَّ النَّقْضَ إنَّمَا وَجَبَ ضَرُورَةَ إبْقَاءِ حَقِّ الشَّفِيعِ فَصَارَ النَّقْضُ مُقْتَضَى صِحَّةِ التَّسْلِيمِ إلَى الشَّفِيعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ الْمُقْتَضِي عَلَى وَجْهٍ يَبْطُلُ بِهِ الْمُقْتَضَى وَهُوَ التَّسْلِيمُ إلَى الشَّفِيعِ .
رُوِيَ وُجُوبُ الْقِيمَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، ثُمَّ شُكَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حِفْظِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا فِي مَذْهَبِهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ ذَلِكَ تَنْصِيصُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ أَنَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةَ فِي هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي اشْتَرَاهَا الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا وَبَنَى فِيهَا أَوْ غَرَسَ ،
وَعِنْدَهُمَا لَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا وَحَقُّ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَثُبُوتُهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، فَمَنْ قَالَ بِثُبُوتِهِ قَالَ بِانْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ ، وَمَنْ قَالَ بِانْتِفَائِهِ قَالَ بِعَدَمِ انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ لِأَنَّ وُجُودَ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازِمِهِ مُحَالٌ ، وَعَلَى هَذَا فَمَنْ حَفِظَ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لَا يَشُكُّ فِي مَذْهَبِهِ فِي انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ فَلَمْ يَبْقَ الشَّكُّ إلَّا فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي جَرَتْ الْمُحَاوَرَةُ فِيهَا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : مَا رَوَيْت عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَأْخُذُ قِيمَتَهَا ، وَإِنَّمَا رَوَيْت لَك أَنْ يُنْقَضَ الْبِنَاءُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : بَلْ رَوَيْت لِي عَنْهُ أَنَّهُ يَأْخُذُ قِيمَتَهَا ، وَهَذَا كَمَا تَرَى يُشِيرُ إلَى أَنَّ الشَّكَّ كَانَ فِي الرِّوَايَةِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ كَذَا ، وَإِنَّمَا قَالَ مَا رَوَيْت وَفِيهِ تَأَمُّلٌ .
وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَوْضِعُ مُحْتَاجًا إلَى تَوْكِيدٍ كَرَّرَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ ( شَكَّ يَعْقُوبُ فِي الرِّوَايَةِ ) وَفِي كَلَامِهِ نَوْعُ انْغِلَاقٍ لِأَنَّهُ قَالَ : رَوَاهُ يَعْقُوبُ عَنْهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَالرَّاوِي فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْهُ مُحَمَّدٌ لِأَنَّهُ تَصْنِيفُهُ ، إلَّا إذَا أُرِيدَ بِالْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْمَسَائِلُ الَّتِي رَوَاهَا يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِمُحَمَّدٍ
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بَيْعًا فَاسِدًا وَتَقَابَضَا فَبَاعَهَا وَرَبِحَ فِيهَا تَصَدَّقَ بِالرِّبْحِ وَيَطِيبُ لِلْبَائِعِ مَا رَبِحَ فِي الثَّمَنِ ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْجَارِيَةَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِهَا فَيَتَمَكَّنُ الْخُبْثُ فِي الرِّبْحِ ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا يَتَعَيَّنَانِ عَلَى الْعُقُودِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ الْعَقْدُ الثَّانِي بِعَيْنِهَا فَلَمْ يَتَمَكَّنْ الْخُبْثُ فَلَا يَجِبُ التَّصَدُّقُ ، وَهَذَا فِي الْخُبْثِ الَّذِي سَبَبُهُ فَسَادُ الْمِلْكِ ، أَمَّا الْخُبْثُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَشْمَلُ النَّوْعَيْنِ لِتَعَلُّقِ الْعَقْدِ فِيمَا يَتَعَيَّنُ حَقِيقَةً ، وَفِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ شُبْهَةً مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ سَلَامَةُ الْمَبِيعِ أَوْ تَقْدِيرُ الثَّمَنِ ، وَعِنْدَ فَسَادِ الْمِلْكِ تَنْقَلِبُ الْحَقِيقَةُ شُبْهَةً وَالشُّبْهَةُ تَنْزِلُ إلَى شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ ، وَالشُّبْهَةُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ النَّازِلِ عَنْهَا .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا فَقَضَاهُ إيَّاهُ ، ثُمَّ تَصَادَقَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَقَدْ رَبِحَ الْمُدَّعِي فِي الدَّرَاهِمِ يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ ) ؛ لِأَنَّ الْخُبْثَ لِفَسَادِ الْمِلْكِ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَجَبَ بِالتَّسْمِيَةِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ بِالتَّصَادُقِ ، وَبَدَلُ الْمُسْتَحِقِّ مَمْلُوكٌ فَلَا يَعْمَلُ فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بَيْعًا فَاسِدًا وَتَقَابَضَا ) اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْوَالَ عَلَى نَوْعَيْنِ : نَوْعٌ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، وَنَوْعٌ يَتَعَيَّنُ كَخِلَافِهِمَا وَالْخَبَثُ أَيْضًا عَلَى نَوْعَيْنِ : خَبَثٌ لِفَسَادِ الْمِلْكِ ، وَخَبَثٌ لِعَدَمِ الْمِلْكِ .
فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ دُونَ مَا لَا يَتَعَيَّنُ .
وَالثَّانِي يُؤَثِّرُ فِيهِمَا جَمِيعًا .
وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا فَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بَيْعًا فَاسِدًا وَتَقَابَضَا فَبَاعَهَا وَرَبِحَ فِيهَا تَصَدَّقَ بِالرِّبْحِ وَإِنْ اشْتَرَى الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ شَيْئًا وَرَبِحَ فِيهِ طَابَ لَهُ الرِّبْحُ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِهَا وَيُؤَثِّرُ الْخَبَثُ فِي الرِّبْحِ وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا يَتَعَيَّنَانِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ الْعَقْدُ الثَّانِي بِعَيْنِهَا فَلَمْ يُؤَثِّرْ الْخَبَثُ فِيهِ لِأَنَّهُ لِفَسَادِ الْمِلْكِ لَا لِعَدَمِهِ ، وَمَعْنَى عَدَمِ التَّعَيُّنِ فِيهَا أَنَّهُ لَوْ أَشَارَ إلَيْهَا وَقَالَ اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ كَانَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهَا وَيَدْفَعَ إلَى الْبَائِعِ غَيْرَهَا لِمَا أَنَّ الثَّمَنَ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي لَا يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ الْمُشَارِ إلَيْهَا فِي الْبِيَاعَاتِ ، وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ ، وَهِيَ أَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ لَا عَلَى الْأَصَحِّ وَهِيَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ .
وَمَنْ غَصَبَ جَارِيَةً وَبَاعَهَا بَعْدَ ضَمَانِ قِيمَتِهَا فَرَبِحَ فِيهَا أَوْ غَصَبَ دَرَاهِمَ وَأَدَّى ضَمَانَهَا وَاشْتَرَى بِهَا شَيْئًا وَبَاعَهُ وَرَبِحَ فِيهِ تَصَدَّقَ بِالرِّبْحِ فِي الْفَصْلَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
لِأَنَّ الْخَبَثَ لَمَّا كَانَ لِعَدَمِ الْمِلْكِ أَثَرٌ فِيمَا يَتَعَيَّنُ وَفِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ لِأَنَّ شَرْطَ الطِّيبِ الضَّمَانُ ، وَالْفَرْضُ وُجُودُهُ .
وَلَهُمَا أَنَّ
الْعَقْدَ يَتَعَلَّقُ بِمَا يَتَعَيَّنُ حَقِيقَةً لِعَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ ( وَفِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ شُبْهَةٌ مِنْ حَيْثُ سَلَامَةُ الْمَبِيعِ أَوْ تَقْدِيرُ الثَّمَنِ ) وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى بِهَا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ أَشَارَ إلَيْهَا وَنَقَدَ مِنْهَا أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا وَنَقَدَ مِنْ غَيْرِهَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ سَلَامَةُ الْمَبِيعِ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَاقِعُ ثَمَنًا ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ حَيْثُ تَقْدِيرُ الثَّمَنِ وَالرِّبْحُ فِي الْأَوَّلِ حَصَلَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
وَفِي الثَّانِي تَوَسَّلَ إلَيْهِ بِمَالِ الْغَيْرِ لِأَنَّ بَيَانَ جِنْسِ الثَّمَنِ وَقَدْرِهِ وَوَصْفِهِ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ لِجَوَازِ الْعَقْدِ وَذَلِكَ حَصَلَ بِمَالِ الْغَيْرِ فَيَجِبُ التَّصَدُّقُ بِالرِّبْحِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالشُّبْهَةِ جَمِيعًا ، وَإِذَا كَانَ الْخَبَثُ لِفَسَادِ الْمِلْكِ انْقَلَبَ حَقِيقَةُ الْخَبَثِ وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ إلَى شُبْهَتِهِ ، لِأَنَّ حُصُولَ الرِّبْحِ لَمْ يَكُنْ بِمَا هُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، بَلْ بِمَا لَهُ فِيهِ شَائِبَةُ مِلْكٍ تُنَزَّلُ ، وَشُبْهَةُ الْخَبَثِ وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ إلَى شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ ، لِأَنَّ تَعَلُّقَ سَلَامَةِ الْمَبِيعِ أَوْ تَقْدِيرَ الثَّمَنِ اللَّذَيْنِ كَانَا شُبْهَةَ خَبَثٍ لِحُصُولِهِمَا بِمَالِ الْغَيْرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَمْ يَبْقَ كَذَلِكَ بَلْ بِمَا لَهُ فِيهِ شَائِبَةُ مِلْكٍ وَالشُّبْهَةُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ لَا النَّازِلُ عَنْهَا .
قِيلَ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ مَا رُوِيَ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الرِّبَا وَالرِّيبَةِ } " وَالرِّيبَةُ هِيَ الشُّبْهَةُ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشُّبْهَةَ مُعْتَبَرَةٌ .
وَإِمَّا أَنَّ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ اخْتِصَاصِ الرِّيبَةِ بِالشُّبْهَةِ لَا غَيْرُ وَأَمَّا إذَا كَانَ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ أَيْضًا دَاخِلَةً فِي الرِّيبَةِ فَقَدْ يَثْبُتُ بِهِ خِلَافُ الْمُدَّعِي وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ
شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ لَوْ اُعْتُبِرَتْ لَاعْتُبِرَ مَا دُونَهَا أَيْضًا دَفْعًا لِلتَّحَكُّمِ ، لَكِنْ لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ لِئَلَّا يَنْسَدَّ بَابُ التِّجَارَةِ ، إذْ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ شُبْهَةِ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ فَمَا دُونَهَا .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى إلَخْ ) رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَاقْضِهَا فَقَضَاهَا ثُمَّ تَصَادَقَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَقَدْ تَصَرَّفَ فِيهَا الْمُدَّعِي ( وَرَبِحَ طَابَ لَهُ الرِّبْحُ ) وَلَا يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ لِأَنَّ الْخَبَثَ فِيهِ لِفَسَادِ الْمِلْكِ لِأَنَّ الدَّيْنَ ثَبَتَ بِالتَّسْمِيَةِ بِدَعْوَى الْمُدَّعِي وَأَدَاءِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَمِلْكِ مَا قَبَضَهُ بَدَلًا عَنْهُ فَكَانَ تَصَرُّفُهُ مُصَادِفًا لِمِلْكِهِ ، لَكِنْ لَمَّا تَصَادَقَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ اسْتَحَقَّ الْمُبْدَلَ وَاسْتِحْقَاقُ الْمُبْدَلِ لَا يُخْرِجُ الْبَدَلَ عَنْ الْمِلْكِ لِأَنَّ بَدَلَ الْمُسْتَحَقِّ مَمْلُوكٌ بِهِ إذَا كَانَ عَيْنًا يَتَعَيَّنُ ، كَمَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِجَارِيَةٍ وَأَعْتَقَهُ فَاسْتُحِقَّتْ الْجَارِيَةُ فَإِنَّ الْعِتْقَ نَافِذٌ ، لَوْ لَمْ يَكُنْ بَدَلُ الْمُسْتَحَقِّ مَمْلُوكًا لَمَا نَفَذَ لِامْتِنَاعِهِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ بِالنَّصِّ ، فَإِذَا كَانَ مَا لَا يَتَعَيَّنُ أَوْلَى ، لَكِنَّهُ يُفْسِدُ الْمِلْكُ إذْ الِاسْتِحْقَاقُ قَصْدًا فِي مُقَابِلِهِ لَا فِيهِ ، فَلَوْ كَانَ فِيهِ كَانَ بَاطِلًا وَالْخَبَثُ لِفَسَادِ الْمِلْكِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ .
( فَصْلٌ فِيمَا يُكْرَهُ ) .
قَالَ ( وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّجْشِ ) وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي الثَّمَنِ وَلَا يُرِيدُ الشِّرَاءَ لِيُرَغِّبَ غَيْرَهُ وَقَالَ " { لَا تَنَاجَشُوا } " .
قَالَ ( وَعَنْ السَّوْمِ عَلَى سَوْمِ غَيْرِهِ ) قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : لَا يَسْتَمِ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ } " ؛ وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ إيحَاشًا وَإِضْرَارًا ، وَهَذَا إذَا تَرَاضَى الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَى مَبْلَغٍ ثَمَنًا فِي الْمُسَاوَمَةِ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَرْكَنْ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فَهُوَ بَيْعُ مَنْ يَزِيدُ وَلَا بَأْسَ بِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مَحْمَلُ النَّهْيِ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا .
قَالَ ( وَعَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ ) وَهَذَا إذَا كَانَ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، إلَّا إذَا لَبَّسَ السِّعْرَ عَلَى الْوَارِدِينَ فَحِينَئِذٍ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغُرُورِ وَالضَّرَرِ .
( فَصْلٌ فِيمَا يُكْرَهُ ) : قِيلَ الْمَكْرُوهُ أَدْنَى دَرَجَةً مِنْ الْفَاسِدِ ، وَلَكِنْ هُوَ شُعْبَةٌ فَلِذَلِكَ أُلْحِقَ بِهِ وَأُخِّرَ عَنْهُ ، وَلَعَلَّ تَحْقِيقَ ذَلِكَ مَا ذُكِرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْقُبْحَ إذَا كَانَ لِأَمْرٍ مُجَاوِرٍ كَانَ مَكْرُوهًا ، وَإِذَا كَانَ بِوَصْفٍ مُتَّصِلٍ كَانَ فَاسِدًا وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ ( وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّجْشِ ) بِفَتْحَتَيْنِ ( وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ الرَّجُلُ فِي الثَّمَنِ وَلَا يُرِيدُ الشِّرَاءَ لِيُرَغِّبَ غَيْرَهُ ) وَيَجْرِي فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ حَيْثُ { قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تَنَاجَشُوا } أَيْ لَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ وَسَبَبُ ذَلِكَ إيقَاعُ رَجُلٍ فِيهِ بِأَزْيَدَ مِنْ الثَّمَنِ وَهُوَ خِدَاعٌ وَالْخِدَاعُ قَبِيحٌ جَاوَرَ هَذَا الْبَيْعَ فَكَانَ مَكْرُوهًا ، وَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الرَّاغِبَ فِي السِّلْعَةِ إذَا طَلَبَهَا مِنْ صَاحِبِهَا بِأَنْقَصَ مِنْ ثَمَنِهَا فَزَادَ شَخْصٌ لَا يُرِيدُ الشِّرَاءَ إلَى مَا بَلَغَ تَمَامَ قِيمَتِهَا لَا يَكُونُ مَكْرُوهًا لِانْتِفَاءِ الْخِدَاعِ ( وَنَهَى عَنْ السَّوْمِ عَلَى سَوْمِ غَيْرِهِ ) قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَا يَسْتَامُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ } " وَهُوَ نَفْيٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ فَيُفِيدُ الْمَشْرُوعِيَّةَ .
وَصُورَتُهُ أَنْ يَتَسَاوَمَ الرَّجُلَانِ عَلَى السِّلْعَةِ وَالْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي رَضِيَا بِذَلِكَ وَلَمْ يَعْقِدَا عَقْدَ الْبَيْعِ حَتَّى دَخَلَ آخَرُ عَلَى سَوْمِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ ، لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْإِيحَاشِ وَالْإِضْرَارِ وَهُمَا قَبِيحَانِ يَنْفَكَّانِ عَنْ الْبَيْعِ فَكَانَ مَكْرُوهًا إذَا جَنَحَ الْبَائِعُ إلَى الْبَيْعِ بِمَا طَلَبَ بِهِ الْأَوَّلُ مِنْ الثَّمَنِ ، وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ .
أَمَّا إذَا لَمْ يَجْنَحْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَنْ يَزِيدُ .
وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ قَدَحًا وَحِلْسًا بَيْعَ مَنْ يَزِيدُ } " .
قَالَ : وَعَنْ تَلَقِّي الْجَلْبِ :
أَيْ وَنَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ تَلَقِّي الْجَلْبِ : أَيْ الْمَجْلُوبِ .
وَصُورَتُهُ الْمِصْرِيُّ أُخْبِرَ بِمَجِيءِ قَافِلَةٍ بِمِيرَةٍ فَتَلَقَّاهُمْ وَاشْتَرَى الْجَمِيعَ وَأَدْخَلَهُ الْمِصْرَ لِيَبِيعَهُ عَلَى مَا أَرَادَ فَذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَضُرَّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ أَوْ لَا ، وَالثَّانِي لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُلَبِّسَ السِّعْرَ عَلَى الْوَارِدِينَ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ بِأَنْ كَانَ أَهْلُ الْمِصْرِ فِي قَحْطٍ وَضِيقٍ فَهُوَ مَكْرُوهٌ بِاعْتِبَارِ قُبْحِ التَّضْيِيقِ الْمُجَاوِرِ الْمُنْفَكِّ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَقَدْ لَبَّسَ السِّعْرَ عَلَى الْوَارِدِينَ فَقَدْ غَرَّ وَضَرَّ وَهُوَ قَبِيحٌ فَيُكْرَهُ ، وَإِلَّا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ .
قَالَ ( وَعَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي ) فَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَبِعْ الْحَاضِرُ لِلْبَادِي } وَهَذَا إذَا كَانَ أَهْلُ الْبَلَدِ فِي قَحْطٍ وَعَوَزٍ ، وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ طَمَعًا فِي الثَّمَنِ الْغَالِي لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِمْ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ .
قَالَ : ( وَالْبَيْعُ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَذَرُوا الْبَيْعَ } ثُمَّ فِيهِ إخْلَالٌ بِوَاجِبِ السَّعْيِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَذَانَ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ .
قَالَ ( وَكُلُّ ذَلِكَ يُكْرَهُ ) لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي مَعْنًى خَارِجٍ زَائِدٍ لَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَلَا فِي شَرَائِطِ الصِّحَّةِ .
قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ ) وَتَفْسِيرُهُ مَا ذَكَرْنَا .
وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَاعَ قَدَحًا وَحِلْسًا بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ } ؛ وَلِأَنَّهُ بَيْعُ الْفُقَرَاءِ وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى نَوْعٍ مِنْهُ .
( قَالَ وَبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي ) أَيْ وَنَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِلْبَادِي } " وَصُورَتُهُ الرَّجُلُ لَهُ طَعَامٌ لَا يَبِيعُهُ لِأَهْلِ الْمِصْرِ وَيَبِيعُهُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ بِثَمَنٍ غَالٍ ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْمِصْرِ فِي سَعَةٍ لَا يَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ أَوْ فِي قَحْطٍ يَتَضَرَّرُونَ ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ مَكْرُوهٌ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ .
وَعَلَى هَذَا تَكُونُ اللَّامُ لِلْبَادِي بِمَعْنَى مِنْ .
وَقِيلَ فِي صُورَتِهِ نَظَرًا إلَى اللَّامِ أَنْ يَتَوَلَّى الْمِصْرِيُّ الْبَيْعَ لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ لِيُغَالِيَ فِي الْقِيمَةِ .
قَالَ ( وَالْبَيْعُ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ ) أَيْ وَنَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ الْبَيْعِ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَذَرُوا الْبَيْعَ } " وَتَسْمِيَتُهُ مَنْهِيًّا بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ لَا بِاعْتِبَارِ الصِّيغَةِ ( قَوْلُهُ ثُمَّ فِيهِ ) بَيَانٌ لِلْقُبْحِ الْمُجَاوِرِ ، فَإِنَّ الْبَيْعَ قَدْ يُخِلُّ بِوَاجِبِ السَّعْيِ إذْ قَعَدَا أَوْ وَقَفَا يَتَبَايَعَانِ ، وَأَمَّا إذَا تَبَايَعَا يَمْشِيَانِ فَلَا إخْلَالَ فَيَصِحُّ بِلَا كَرَاهَةٍ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ هُوَ الْأَذَانُ الْأَوَّلُ إذَا كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ ( وَكُلُّ ذَلِكَ ) أَيْ الْمَذْكُورِ مِنْ أَوَّلِ الْفَصْلِ إلَى هُنَا مَكْرُوهٌ لِمَا ذَكَرْنَا لَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ الْفَسَادَ : أَيْ الْقُبْحَ لِأَمْرٍ خَارِجٍ زَائِدٍ : أَيْ مُجَاوِرٍ ، وَلَيْسَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَلَا فِي شَرَائِطِ الصِّحَّةِ وَتُفَسَّرُ بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ ، وَرَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ مَرَّ آنِفًا ( نَوْعٌ مِنْهُ ) أَيْ هَذَا الَّذِي يَشْرَعُ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ الْمَكْرُوهِ .
قَالَ ( وَمَنْ مَلَكَ مَمْلُوكَيْنِ صَغِيرَيْنِ أَحَدُهُمَا ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْآخَرِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَبِيرًا ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
{ وَوَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ غُلَامَيْنِ أَخَوَيْنِ صَغِيرَيْنِ ثُمَّ قَالَ لَهُ : مَا فَعَلَ الْغُلَامَانِ ؟ فَقَالَ : بِعْت أَحَدَهُمَا ، فَقَالَ : أَدْرِكْ أَدْرِكْ ، وَيُرْوَى : رُدَّهُ رُدَّهُ } ؛ وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ يَسْتَأْنِسُ بِالصَّغِيرِ وَبِالْكَبِيرِ وَالْكَبِيرَ يَتَعَاهَدُهُ فَكَانَ فِي بَيْعِ أَحَدِهِمَا قَطْعُ الِاسْتِئْنَاسِ ، وَالْمَنْعُ مِنْ التَّعَاهُدِ وَفِيهِ تَرْكُ الْمَرْحَمَةِ عَلَى الصِّغَارِ ، وَقَدْ أَوْعَدَ عَلَيْهِ ثُمَّ الْمَنْعُ مَعْلُولٌ بِالْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلنِّكَاحِ حَتَّى لَا يَدْخُلَ فِيهِ مَحْرَمٌ غَيْرُ قَرِيبٍ وَلَا قَرِيبٌ غَيْرُ مَحْرَمٍ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجَانِ حَتَّى جَازَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِهِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا فِي مِلْكِهِ لِمَا ذَكَرْنَا ، حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُ الصَّغِيرَيْنِ لَهُ وَالْآخَرُ لِغَيْرِهِ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَوْ كَانَ التَّفْرِيقُ بِحَقِّ مُسْتَحِقٍّ لَا بَأْسَ بِهِ كَدَفْعِ أَحَدِهِمَا بِالْجِنَايَةِ وَبَيْعِهِ بِالدَّيْنِ وَرَدِّهِ بِالْعَيْبِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ غَيْرِهِ لَا الْإِضْرَارُ بِهِ .
قَالَ ( فَإِنْ فَرَّقَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَجَازَ الْعَقْدُ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهَا .
وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِمَا رَوَيْنَا ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْإِدْرَاكِ وَالرَّدِّ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ .
وَلَهُمَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ ، وَإِنَّمَا الْكَرَاهَةُ لِمَعْنًى
مُجَاوِرٍ فَشَابَهُ كَرَاهَةَ الِاسْتِيَامِ ( وَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ ، وَقَدْ صَحَّ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَرَّقَ بَيْنَ مَارِيَةَ وَسِيرِينَ وَكَانَتَا أَمَتَيْنِ أُخْتَيْنِ } .
وَمَنْ مَلَكَ صَغِيرَيْنِ أَوْ صَغِيرًا وَكَبِيرًا أَحَدُهُمَا ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْآخَرِ كُرِهَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْبُلُوغِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } " قَوْلُهُ وَوَهَبَ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، لِأَنَّ تَقْرِيرَهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { وَوَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ غُلَامَيْنِ أَخَوَيْنِ صَغِيرَيْنِ ثُمَّ قَالَ لَهُ : مَا فَعَلَ الْغُلَامَانِ ؟ فَقَالَ : بِعْت أَحَدَهُمَا ، فَقَالَ : أَدْرِكْ أَدْرِكْ .
وَيُرْوَى : اُرْدُدْ اُرْدُدْ } " .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَوَّلِ هُوَ الْوَعِيدُ ، وَبِالثَّانِي تَكْرَارُ الْأَمْرِ بِالْإِدْرَاكِ وَالرَّدِّ ، وَالْوَعِيدُ جَاءَ لِلتَّفْرِيقِ وَالْأَمْرُ بِالْإِدْرَاكِ عَلَى بَيْعِ أَحَدِهِمَا وَهُوَ تَفْرِيقٌ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْبَيْعِ ، فَقُلْنَا بِكَرَاهَةِ الْبَيْعِ لِإِفْضَائِهِ إلَى التَّفْرِيقِ وَهُوَ مُجَاوِرٌ يَنْفَكُّ عَنْهُ لِجَوَازِ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ بِالْهِبَةِ ، وَالْمَعْنَى الْمُؤْثِرُ فِي ذَلِكَ اسْتِئْنَاسُ الصَّغِيرِ بِالصَّغِيرِ وَبِالْكَبِيرِ ، وَتَعَاهُدُ الْكَبِيرِ لِلصَّغِيرِ ، وَفِي بَيْعِ أَحَدِهِمَا قَطْعُ الِاسْتِئْنَاسِ وَالْمَنْعُ مِنْ التَّعَاهُدِ ، وَفِيهِ تَرْكُ الْمَرْحَمَةِ عَلَى الصِّغَارِ ، وَقَدْ أَوْعَدَ النَّبِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } " إنْ كَانَ الْمُرَادُ تَرْكَ الْمَرْحَمَةِ تَرَكَهَا بِالتَّفْرِيقِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِي قَطْعِ الِاسْتِئْنَاسِ وَالْمَنْعِ مِنْ التَّعَاهُدِ وَتَرْكِ الْمَرْحَمَةِ وَذَلِكَ مُتَوَعَّدٌ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا } ثُمَّ الْمَنْعُ عَنْ التَّفْرِيقِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ اسْتِئْنَاسٍ وَتَعَاهُدٍ يَحْصُلُ بِالْقَرَابَةِ
الْمُحَرَّمَةِ لِلنِّكَاحِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْآخَرِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي صَدْرِ الْكَلَامِ بِلَا ضَرَرٍ لِلْمَوْلَى أَوْ الصَّغِيرِ قَصْدًا فَلَا يَدْخُلُ مَحْرَمٌ غَيْرُ قَرِيبٍ وَلَا قَرِيبٌ غَيْرُ مَحْرَمٍ وَلَا مَا لَا مَحْرَمِيَّةَ بَيْنَهُمَا أَصْلًا ، حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَخًا رِضَاعِيًّا لِلْآخَرِ أَوْ كَانَ أَمَةً وَالْآخَرُ ابْنَهَا رَضَاعًا أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا وَلَدَ عَمٍّ أَوْ خَالٍ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا زَوْجَ الْآخَرِ جَازَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ النَّصَّ النَّافِيَ وَرَدَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّفْرِيقِ بِوُجُودِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ مِنْ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ كَمَا فِي الْكَبِيرَيْنِ ، وَكُلُّ مَا وَرَدَ مِنْ النَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ يَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِهِ وَمَوْرِدُهُ الْوَالِدَةُ وَوَلَدُهَا وَالْأَخَوَانِ .
قِيلَ : فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَنَاقُضٌ ، لِأَنَّهُ عُلِّلَ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ يَسْتَأْنِسُ بِالصَّغِيرِ ، وَقَالَ : ثُمَّ الْمَنْعُ مَعْلُولٌ بِالْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلنِّكَاحِ ، ثُمَّ قَالَ : لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَعْلُولًا فَجَاءَ التَّنَاقُضُ .
وَالْجَوَابُ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِهِ أَنَّ مَنَاطَ حُكْمِ الْمَنْعِ عَنْ التَّفْرِيقِ إنَّمَا هُوَ اسْتِئْنَاسٌ وَتَعَاهُدٌ يَحْصُلُ بِالْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلنِّكَاحِ بِدُونِ ضَرَرٍ لِلْمَوْلَى أَوْ الصَّغِيرِ قَصْدًا فَهُوَ بَيَانٌ لِمَا عَسَى يَجُوزُ بِهِ إلْحَاقُ الْغَيْرِ بِالدَّلَالَةِ إذَا سَاوَاهُ ، لَا بَيَانُ الْوَصْفِ الْجَامِعِ بَيْنَ الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ ، فَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ مَعْلُولٌ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَرَدَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ .
وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقَرَابَةِ وَالْمَحْرَمِيَّةِ ، وَلَا مَا فِيهِ ضَرَرٌ مَا يُسَاوِي الْقَرَابَةَ الْمُحَرِّمَةَ لِلنِّكَاحِ وَمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ حَتَّى يُلْحَقَ بِهَا .
فَلَا يُرَدُّ مَا قِيلَ فِي الْكُتُبِ لَوْ كَانَ مَنْعُ التَّفْرِيقِ
مَعْلُولًا بِالْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلنِّكَاحِ لَمَا جَازَ التَّفْرِيقُ عِنْدَ وُجُودِ هَذِهِ الْعِلَّةِ ، لَكِنَّهُ جَازَ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا صَغِيرًا فَكَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْقُوضَةً وَلَزِمَ الْتِزَامُ الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعِلَلِ الْفَاسِدَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ .
وَالْأَوَّلُ مِنْ الْمَوَاضِعِ السَّبْعَةِ مَا إذَا صَارَ أَحَدُهُمَا فِي مِلْكِهِ إلَى حَالٍ لَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهُ كَمَا إذَا دَبَّرَهُ أَوْ اسْتَوْلَدَهُ إنْ كَانَتْ أَمَةً فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْآخَرِ وَإِنْ حَصَلَ التَّفْرِيقُ .
وَالثَّانِي إذَا جَنَى أَحَدُهُمَا جِنَايَةَ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَإِنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَ وَفِيهِ تَفْرِيقٌ مَعَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ، وَلَهُ وِلَايَةُ الْمَنْعِ عَنْ الْبَيْعِ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ .
وَالثَّالِثُ إذَا كَانَ الْمَالِكُ حَرْبِيًّا جَازَ لِلْمُسْلِمِ شِرَاءُ أَحَدِهِمَا ، وَكَمَا يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بِالْبَيْعِ يُكْرَهُ بِالشِّرَاءِ .
وَالرَّابِعُ إذَا مَلَكَ صَغِيرًا وَكَبِيرَيْنِ جَازَ بَيْعُ أَحَدِ الْكَبِيرَيْنِ اسْتِحْسَانًا وَإِنْ لَزِمَ التَّفْرِيقُ .
وَالْخَامِسُ إذَا اشْتَرَاهُمَا وَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا كَانَ لَهُ رَدُّ الْمَعِيبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَزِمَ التَّفْرِيقُ وَالسَّادِسُ جَازَ إعْتَاقُ أَحَدِهِمَا عَلَى مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ تَفْرِيقٌ .
وَالسَّابِعُ إذَا كَانَ الصَّغِيرُ مُرَاهِقًا جَازَ بَيْعُهُ بِرِضَاهُ وَرِضَا أُمِّهِ وَلَزِمَ التَّفْرِيقُ .
وَإِذَا تَأَمَّلْت مَا مُهِّدَ لَك آنِفًا ظَهَرَ لَك عَدَمُ وُرُودِهَا فَإِنَّ مَا خَلَا الْأَخِيرَيْنِ يَشْتَمِلُ عَلَى الضَّرَرِ ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ بَيْعَ أَحَدِهِمَا لَمَّا امْتَنَعَ لِمَعْنًى شَرْعِيٍّ لَوْ مَنَعَ عَنْ بَيْعِ الْآخَرِ تَضَرَّرَ الْمَوْلَى وَالْمَنْظُورُ إلَيْهِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ غَيْرِهِ لَا الْإِضْرَارُ بِهِ .
لَا يُقَالُ : الْمَنْعُ عَنْ تَصَرُّفِ التَّفْرِيقِ مَعَ وُجُودِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لَهُ أَضْرَارٌ فَكَيْفَ تُحْمَلُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَحَمَّلْ ذَلِكَ لَزِمَ إهْمَالُ الْحَدِيثِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَوْ أُلْزِمَ
الْمَوْلَى الْفِدَاءَ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ تَضَرَّرَ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ مَنْعَ التَّفْرِيقِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الصَّغِيرِ وَلَوْ مُنِعَ الْمُسْلِمُ مِنْ شِرَائِهِ تَضَرَّرَ الصَّغِيرُ قَصْدًا وَعَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ يُدْخِلُهُمَا دَارَ الْحَرْبِ فَيَنْشَآنِ فِيهَا ، وَضَرَرُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الدُّنْيَا لِعَرْضِيَّةِ الْأَسْرِ وَالْقَتْلِ وَفِي الْآخِرَةِ ، لِأَنَّ ظَاهِرَ مَنْ يَنْشَأُ مِنْ صِغَرِهِ بَيْنَهُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى دِينِهِمْ .
وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلِأَنَّ مَنْعَ بَيْعِ أَحَدِ الْكَبِيرَيْنِ مَعَ دَفْعِ ضَرَرِ الصَّغِيرِ بِالْآخَرِ إضْرَارٌ لِلْمَوْلَى .
وَأَمَّا الْخَامِسُ فَجَوَازُ التَّفْرِيقِ فِيهِ مَمْنُوعٌ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إنَّمَا جَازَ لِأَنَّ رَدَّ السَّالِمِ عَنْ الْعَيْبِ حَرَامٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَفِي إلْزَامِ الْمَعِيبِ إضْرَارٌ لِلْمُشْتَرِي فَيَتَعَيَّنُ رَدُّهُ دَفْعًا لِلْإِضْرَارِ عَنْهُ .
وَأَمَّا فِي السَّادِسِ فَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ هُوَ عَيْنُ الْجَمْعِ بِأَكْمَلِ الْوُجُوهِ ، لِأَنَّ الْمُعْتَقَ أَوْ الْمُكَاتَبَ صَارَ أَحَقَّ بِنَفْسِهِ فَيَدُورُ هُوَ حَيْثُمَا دَارَ أَخُوهُ وَيَتَعَاهَدُ أُمُورَهُ عَلَى مَا أَرَادَ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ بَعْدَمَا حَصَلَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ فِي إبْقَائِهِمَا جَمِيعًا مَعَ زِيَادَةِ وَصْفٍ وَهِيَ اسْتِبْدَادُهُ بِنَفْسِهِ .
وَأَمَّا فِي السَّابِعِ فَلِأَنَّ الْمَنْعَ عَنْ التَّفْرِيقِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الضَّرَرِ بِهِمَا فَلَمَّا رَضِيَا بِالتَّفْرِيقِ انْدَفَعَ الضَّرَرُ ، فَفِيمَا عَدَا الْأَخِيرَيْنِ ضَرَرٌ فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُلْحَقُ بِهِ .
وَأَمَّا السَّادِسُ فَلَا تَفْرِيقَ فِيهِ ، وَأَمَّا السَّابِعُ فَمِنْ قَبِيلِ إسْقَاطِ الْحَقِّ ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا لَهُ وَالْآخَرُ لِغَيْرِهِ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ التَّفْرِيقَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ وَذَكَرَ الْغَيْرَ مُطْلَقًا لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ مَنْ كَانَ غَيْرَهُ سَوَاءٌ كَانَ
الْغَيْرُ ابْنًا صَغِيرًا لَهُ أَوْ كَبِيرًا وَهُمَا فِي مُؤْنَتِهِ أَوَّلًا وَسَوَاءٌ كَانَ زَوْجَتَهُ أَوْ مُكَاتَبَتَهُ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا مِنْ أَحَدِ هَؤُلَاءِ إذَا كَانَا فِي مِلْكِهِ لِحُصُولِ التَّفْرِيقِ بِذَلِكَ ( قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ التَّفْرِيقُ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ ) تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي أَثْنَاءِ الْأَسْئِلَةِ وَجَوَابِهَا .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : إذَا جَنَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْفِدَاءُ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ أَوْ يَفْدِيَ فَكَانَ الْفِدَاءُ أَوْلَى .
قَالَ ( فَإِنْ فَرَّقَ كُرِهَ ذَلِكَ وَجَازَ الْعَقْدُ إلَخْ ) فَإِنْ فَرَّقَ كُرِهَ ذَلِكَ ، وَإِطْلَاقُ التَّفْرِيقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ سَوَاءٌ كَانَ بِالْبَيْعِ أَوْ الْقِسْمَةِ فِي الْمِيرَاثِ أَوْ الْغَنَائِمِ أَوْ الْهِبَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَالْبَيْعُ جَائِزٌ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ لِقُوَّتِهَا وَضَعْفِ غَيْرِهَا .
وَعَنْهُ لَا يَجُوزُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ { قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَلِيٍّ أَدْرِكْ أَدْرِكْ وَلِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ اُرْدُدْ اُرْدُدْ } " فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْإِدْرَاكِ وَالرَّدِّ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ .
وَلَهُمَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ ، وَالْكَرَاهَةُ لِمَعْنًى مُجَاوِرٍ وَهُوَ الْوَحْشَةُ الْحَاصِلَةُ بِالتَّفْرِيقِ فَكَانَ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لَا فَاسِدٌ كَالِاسْتِيَامِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى طَلَبِ الْإِقَالَةِ أَوْ بَيْعِ الْآخَرِ مِمَّنْ بَاعَ مِنْهُ أَحَدُهُمَا ( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا ) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ يُشِيرُ إلَى أَنَّ مُرَادَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ الْإِلْحَاقُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ كَمَا قَرَّرْنَاهُ ، وَقَدْ صَحَّ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ مَارِيَةَ وَسِيرِينَ وَكَانَتَا أَمَتَيْنِ أُخْتَيْنِ } " رُوِيَ " { أَنَّ أَمِيرَ
الْقِبْطِ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَارِيَتَيْنِ أُخْتَيْنِ وَبَغْلَةً ، فَكَانَ يَرْكَبُ الْبَغْلَةَ بِالْمَدِينَةِ وَاِتَّخَذَ إحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ سُرِّيَّةً فَوَلَدَتْ لَهُ إبْرَاهِيمَ وَهِيَ مَارِيَةُ ، وَوَهَبَ الْأُخْرَى لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَكَانَ اسْمُهَا سِيرِينَ } " بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ الِاسْتِيعَابِ ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْمَالِكُ مُسْلِمًا حُرًّا كَانَ أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ مَأْذُونًا لَهُ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ كَافِرًا فَلَا يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ أَعْظَمُ وَالْكُفَّارُ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالشَّرَائِعِ .
( بَابُ الْإِقَالَةِ ) .
( الْإِقَالَةُ جَائِزَةٌ فِي الْبَيْعِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَلِأَنَّ الْعَقْدَ حَقُّهُمَا فَيَمْلِكَانِ رَفْعَهُ دَفْعًا لِحَاجَتِهِمَا ( فَإِنْ شَرَطَا أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ أَقَلَّ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَيَرُدُّ مِثْلَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ) .
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ جَعْلُهُ فَسْخًا فَتَبْطُلُ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ بَيْعٌ إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ جَعْلُهُ بَيْعًا فَيُجْعَلُ فَسْخًا إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ فَتَبْطُلُ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ فَسْخٌ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ جَعْلُهُ فَسْخًا فَيُجْعَلُ بَيْعًا إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ فَتَبْطُلُ .
لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ اللَّفْظَ لِلْفَسْخِ وَالرَّفْعِ .
وَمِنْهُ يُقَالُ : أَقِلْنِي عَثَرَاتِي فَتُوَفِّرُ عَلَيْهِ قَضِيَّتَهُ .
وَإِذَا تَعَذَّرَ يُحْمَلُ عَلَى مُحْتَمَلِهِ وَهُوَ الْبَيْعُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَيْعٌ فِي حَقِّ الثَّالِثِ : وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي .
وَهَذَا هُوَ حَدُّ الْبَيْعِ وَلِهَذَا يَبْطُلُ بِهَلَاكِ السِّلْعَةِ وَيُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَتَثْبُتُ بِهِ الشُّفْعَةُ وَهَذِهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْ الرَّفْعِ وَالْفَسْخِ كَمَا قُلْنَا ، وَالْأَصْلُ إعْمَالُ الْأَلْفَاظِ فِي مُقْتَضَيَاتِهَا الْحَقِيقِيَّةِ ، وَلَا يُحْتَمَلُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ لِيُحْمَلَ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ وَاللَّفْظُ لَا يَحْتَمِلُ ضِدَّهُ فَتَعَيَّنَ الْبُطْلَانُ ، وَكَوْنُهُ بَيْعًا فِي حَقِّ الثَّالِثِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مِثْلُ حُكْمِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْمِلْكُ لَا مُقْتَضَى الصِّيغَةِ ، إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا ، إذَا ثَبَتَ هَذَا نَقُولُ : إذَا شَرَطَ الْأَكْثَرَ
فَالْإِقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ عَلَى الزِّيَادَةِ ، إذْ رَفْعُ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا مُحَالٌ فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا فِي الْعَقْدِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا أَوْ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا فِي الرَّفْعِ ، وَكَذَا إذَا شَرَطَ الْأَقَلَّ لِمَا بَيَّنَّاهُ إلَّا أَنْ يَحْدُثَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ فَحِينَئِذٍ جَازَتْ الْإِقَالَةُ بِالْأَقَلِّ ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ يُجْعَلُ بِإِزَاءِ مَا فَاتَ بِالْعَيْبِ ، وَعِنْدَهُمَا فِي شَرْطِ الزِّيَادَةِ يَكُونُ بَيْعًا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ جَعْلُهُ بَيْعًا مُمْكِنٌ فَإِذَا زَادَ كَانَ قَاصِدًا بِهَذَا ابْتِدَاءَ الْبَيْعِ ، وَكَذَا فِي شَرْطِ الْأَقَلِّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ فَسْخٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ لَا سُكُوتٌ عَنْ بَعْضِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، وَلَوْ سَكَتَ عَنْ الْكُلِّ وَأَقَالَ يَكُونُ فَسْخًا فَهَذَا أَوْلَى ، بِخِلَافِ مَا إذَا زَادَ ، وَإِذَا دَخَلَهُ عَيْبٌ فَهُوَ فَسْخٌ بِالْأَقَلِّ لِمَا بَيَّنَّاهُ .
[ .
بَابُ الْإِقَالَةِ ) ( الْإِقَالَةُ ) الْخَلَاصُ عَنْ خَبَثِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْمَكْرُوهِ .
لَمَّا كَانَ بِالْفَسْخِ كَانَ لِلْإِقَالَةِ تَعَلُّقٌ خَاصٌّ بِهِمَا فَأَعْقَبَ ذِكْرَهَا إيَّاهُمَا ، وَهِيَ مِنْ الْقِيلِ لَا مِنْ الْقَوْلِ ، وَالْهَمْزَةُ لِلسَّلْبِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضٌ بِدَلِيلِ قُلْت الْبَيْعَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَهِيَ جَائِزَةٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } نَدَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهَا بِمَا يُوجِبُ التَّحْرِيضَ عَلَّهَا مِنْ الثَّوَابِ إخْبَارًا أَوْ ادِّعَاءً ، وَكِلَاهُمَا لَا يَكُونُ إلَّا لِمَشْرُوعٍ ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ حَقُّهُمَا وَكُلُّ مَا هُوَ حَقُّهُمَا يَمْلِكَانِ رَفْعَهُ لِحَاجَتِهِمَا ، وَشَرْطُهَا أَنْ تَكُونَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ ( فَإِنْ شَرَطَا أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ أَقَلَّ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَيُرَدُّ مِثْلُ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ) وَلِهَذَا بَطَلَ مَا نَطَقَا بِهِ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ .
وَلَوْ بَاعَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ مِنْ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ جَازَ وَلَوْ كَانَ بَيْعًا لَمَا جَازَ لِكَوْنِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا وَلِهَذَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ لِلشَّفِيعِ فِيمَا إذَا بَاعَ دَارًا فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ثُمَّ تَقَايَلَا وَعَادَ الْمَبِيعُ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ ، وَلَوْ كَانَ فَسْخًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَشَرْطُ التَّقَابُضِ إذَا كَانَ الْبَيْعُ صَرْفًا فَكَانَتْ فِي حَقِّ الشَّرِيعَةِ بَيْعًا جَدِيدًا .
وَهَذَا لِأَنَّ لَفْظَهَا يُنْبِئُ عَنْ الْفَسْخِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ ، وَمَعْنَاهَا يُنْبِئُ عَنْ الْبَيْعِ لِكَوْنِهَا مُبَادَلَةَ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي ، وَجَعْلُهَا فَسْخًا أَوْ بَيْعًا فَقَطْ إهْمَالٌ لِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَإِعْمَالُهُمَا وَلَوْ بِوَجْهٍ أَوْلَى ، فَجَعَلْنَاهَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَسْخًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِقِيَامِهِ بِهِمَا
فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَجَعَلَهَا فَسْخًا بَطَلَتْ كَمَا إذَا وَلَدَتْ الْمَبِيعَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَدًا فَإِنَّ الزِّيَادَةَ الْمُنْفَصِلَةَ تَمْنَعُ فَسْخَ الْعَقْدِ حَقًّا لِلشَّرْعِ .
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هِيَ بَيْعٌ إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ جَعْلُهَا بَيْعًا ، كَمَا إذَا تَقَايَلَا فِي الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيُجْعَلُ فَسْخًا إلَّا إنْ تَعَذَّرَ جَعْلُهَا فَسْخًا فَتَبْطُلُ ، كَمَا إذَا تَقَايَلَا فِي الْعُرُوضِ الْمَبِيعَةِ بِالدَّرَاهِمِ بَعْدَ هَلَاكِهَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ فَسْخٌ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ ، كَمَا إذَا تَقَايَلَا بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَيُجْعَلُ بَيْعًا إلَّا إذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَتَبْطُلُ كَمَا فِي صُورَةِ بَيْعِ الْعَرْضِ بِالدَّرَاهِمِ بَعْدَ هَلَاكِهِ .
اسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فَقَالَ : إنَّ اللَّفْظَ لِلْفَسْخِ وَالدَّفْعِ : يَعْنِي أَنَّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ أَقِلْنِي عَثْرَتِي ، وَإِذَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ لَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ فَيُعْمَلُ بِهَا ، وَإِذَا تَعَذَّرَ يُحْمَلُ عَلَى مُحْتَمَلِهِ وَهُوَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ بَيْعٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ .
وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَعْنَاهُ فَإِنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي وَلَيْسَ الْبَيْعُ إلَّا ذَلِكَ ، وَاعْتَضَدَ بِثُبُوتِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ مِنْ بُطْلَانِهَا بِهَلَاكِ السِّلْعَةِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَثُبُوتِ الشُّفْعَةِ .
وَعُورِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ بَيْعًا أَوْ مُحْتَمَلَةً لَهُ لَانْعَقَدَ الْبَيْعُ بِلَفْظِ الْإِقَالَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَأُجِيبَ بِمَنْعِ بُطْلَانِ اللَّازِمِ عَلَى الْمَرْوِيِّ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ، وَبِالْفَرْقِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ بِأَنَّهُ إذَا قَالَ ابْتِدَاءً أَقَلْتُك الْعَقْدَ فِي هَذَا الْعَبْدِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا عَقْدٌ أَصْلًا تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهَا بَيْعًا لِأَنَّ الْإِقَالَةَ إنَّمَا أُضِيفَتْ إلَى مَا لَا وُجُودَ لَهُ فَتَبْطُلُ فِي مَخْرَجِهَا ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا أُضِيفَتْ إلَى
مَا لَهُ وُجُودٌ : أَعْنِي بِهِ سَابِقَةَ الْعَقْدِ قَبْلَهَا فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ إرَادَةِ الْمَجَازِ مِنْ اللَّفْظِ فِي مَوْضِعٍ لِوُجُودِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ الْمَجَازِ إرَادَةُ الْمَجَازِ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ عِنْدَ عَدَمِ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى الْمَجَازِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَجْعَلُ الْإِقَالَةَ بَيْعًا مَجَازًا وَذَلِكَ مَصِيرٌ إلَى الْمَجَازِ مَعَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ .
وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ أَقَلْتُك الْعَقْدَ فِي هَذَا الْعَبْدِ مَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي نَفْيَ سَابِقَةِ الْعَقْدِ .
وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْ الْفَسْخِ وَالرَّفْعِ كَمَا قُلْنَا فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ ، وَالْأَصْلُ إعْمَالُ الْأَلْفَاظِ فِي حَقَائِقِهَا ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ صِيرَ إلَى الْمَجَازِ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا بَطَلَا ، وَهَاهُنَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا عَنْ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهُ لِكَوْنِهَا ضِدَّهُ ، وَاسْتِعَارَةُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ لِلْآخَرِ لَا تَجُوزُ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْإِقَالَةُ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ الثَّالِثِ وَلَوْ لَمْ يُحْتَمَلْ الْبَيْعُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ .
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ ، إذْ الثَّابِتُ بِالْمَجَازِ ثَابِتٌ بِقَضِيَّةِ الصِّيغَةِ ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا لِيَكُونَ لَفْظُهُمَا عَامِلًا فِي حَقِّهِ ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ ، لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ مِثْلُ حُكْمِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ تَبَدَّلَ ظَاهِرُ مُوجَبِهِ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ دُونَهُمَا لِامْتِنَاعِ ثُبُوتِ الضِّدَّيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ ، وَتَقْرِيرُهُ بِوَجْهِ الْبَسْطِ أَنَّ الْبَيْعَ وُضِعَ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ قَصْدًا ، وَزَوَالُ الْمِلْكِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ ، وَالْإِقَالَةُ وُضِعَتْ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ وَإِبْطَالِهِ ، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ ، فَيَثْبُتُ
الْمِلْكُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا كَانَ لِصَاحِبِهِ كَمَا يَثْبُتُ فِي الْمُبَايَعَةِ ، فَاعْتُبِرَ مُوجَبُ الصِّيغَةِ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِأَنَّ لَهُمَا وِلَايَةً عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَتَعَيَّنَ اعْتِبَارُ الْحُكْمِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَى غَيْرِهِمَا .
وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّ الْمُدَّعَى أَنْ كَوْنَ الْإِقَالَةِ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقٍّ ثَالِثٍ لَيْسَ مُقْتَضَى الصِّيغَةِ لِأَنَّ كَوْنَهَا فَسْخًا بِمُقْتَضَاهَا ، فَلَوْ كَانَ كَوْنُهَا بَيْعًا كَذَلِكَ لَزِمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَهُوَ مُحَالٌ ، وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو يُوسُفَ مِنْ ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ مَا قِيلَ : الشَّارِعُ يُبَدِّلُ الْأَحْكَامَ فَلَا يُغَيِّرُ الْحَقَائِقَ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ عَنْ كَوْنِهِ حَدَثًا ، وَفَسَادُ الْإِقَالَةِ عِنْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ وَثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ مِنْ الْأَحْكَامِ فَجَازَ أَنْ يُغَيَّرَ وَيَثْبُتَ فِي ضِمْنِ الْإِقَالَةِ ، وَأَمَّا الْإِقَالَةُ فَمِنْ الْحَقَائِقِ فَلَا يُخْرِجُهَا عَنْ حَقِيقَتِهَا الَّتِي هِيَ الْفَسْخُ ، إذَا ثَبَتَ هَذَا : أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَصْلِ نَقُولُ : إذَا شُرِطَ الْأَكْثَرُ فَالْإِقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ عَلَى الزِّيَادَةِ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِهِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ ، وَالْفَسْخُ عَلَى الزِّيَادَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ رَفْعَ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا وَهُوَ مُحَالٌ فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ لَا الْإِقَالَةُ لِأَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، لِأَنَّ الشَّرْطَ يُشْبِهُ الرِّبَا لِأَنَّ فِيهِ نَفْعًا لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ ، وَالْإِقَالَةُ تُشْبِهُ الْبَيْعَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَكَانَ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ فِيهَا شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْإِقَالَةِ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ إثْبَاتُ مَا لَمْ يَكُنْ بِالْعَقْدِ فَيَسْتَحِقُّ
الرِّبَا ، وَلِأَنَّ فِي الشَّرْطِ شُبْهَةَ الرِّبَا وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ ، وَكَذَا إذَا شَرَطَ الْأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ رَفْعَ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا مُحَالٌ ، وَالنُّقْصَانُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَرَفْعُهُ يَكُونُ مُحَالًا إلَّا أَنْ يَحْدُثَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ فَجَازَتْ الْإِقَالَةُ بِالْأَقَلِّ لِأَنَّ الْحَطَّ يُجْعَلُ بِإِزَاءِ مَا فَاتَ بِالْعَيْبِ .
وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ : مَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَتَقَايَلَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ صَحَّتْ الْإِقَالَةُ ، وَإِنْ تَقَايَلَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ صَحَّتْ بِالْأَلْفِ وَلَغَا ذِكْرُ الْبَاقِي ، وَإِنْ تَقَايَلَا بِأَلْفٍ إلَّا مِائَةً ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا عَيْبٌ صَحَّتْ بِأَلْفٍ وَلَغَا النَّقْصُ وَوَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ رَدُّ الْأَلْفِ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ دَخَلَهَا عَيْبٌ صَحَّتْ الْإِقَالَةُ بِمَا شُرِطَ وَيَصِيرُ الْمَحْطُوطُ بِإِزَاءِ نُقْصَانِ الْعَيْبِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَبَسَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي جُزْءٌ مِنْ الْمَبِيعِ جَازَ أَنْ يَحْتَبِسَ عِنْدَ الْبَائِعِ جُزْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ، وَجَوَابُ الْكِتَابِ مُطْلَقٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْحَطُّ بِمِقْدَارِ حِصَّةِ الْعَيْبِ أَوْ أَكْثَرَ بِمِقْدَارِ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ أَوْ لَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ : تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ ذَلِكَ هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا فِي شَرْطِ الزِّيَادَةِ يَكُونُ بَيْعًا لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كَانَتْ فَسْخًا ، لَكِنَّهُ فِي الزِّيَادَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَجَعْلُهَا بَيْعًا مُمْكِنٌ ، فَإِذَا زَادَ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ فَيُصَارُ إلَى الْمَجَازِ صَوْنًا لِكَلَامِ الْعُقَلَاءِ عَنْ الْإِلْغَاءِ .
وَلَا فَرْقَ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ هُوَ الْبَيْعُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْفَسْخُ مُمْكِنٌ فِي فَصْلِ النُّقْصَانِ لِأَنَّهُ لَوْ سَكَتَ عَنْ جَمِيعِ الثَّمَنِ وَأَقَالَ كَانَ فَسْخًا فَهَذَا أَوْلَى ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ كَوْنَهُ فَسْخًا إذَا سَكَتَ عَنْ كُلِّ الثَّمَنِ
إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى مَذْهَبِهِ خَاصَّةً أَوْ عَلَى الِاتِّفَاقِ ، وَالْأَوَّلُ رَدُّ الْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ ، وَالثَّانِي غَيْرُ نَاهِضٍ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ إنَّمَا يَجْعَلُهُ فَسْخًا لِامْتِنَاعِ جَعْلِهِ بَيْعًا لِانْتِفَاءِ ذِكْرِ الثَّمَنِ ، بِخِلَافِ صُورَةِ النُّقْصَانِ .
فَإِنَّ فِيهَا مَا يَصْلُحُ ثَمَنًا .
فَإِذَا دَخَلَهُ عَيْبٌ فَهُوَ فَسْخٌ بِالْأَقَلِّ : يَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحَطَّ يُجْعَلُ بِإِزَاءِ مَا فَاتَ بِالْعَيْبِ .
وَلَوْ أَقَالَ بِغَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَهُوَ فَسْخٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَجْعَلُ التَّسْمِيَةَ لَغْوًا عِنْدَهُمَا بَيْعٌ لِمَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ وَلَدَتْ الْمَبِيعَةُ وَلَدًا ثُمَّ تَقَايَلَا فَالْإِقَالَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَانِعٌ مِنْ الْفَسْخِ ، وَعِنْدَهُمَا تَكُونُ بَيْعًا وَالْإِقَالَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْمَنْقُولِ ، وَغَيْرِهِ فَسْخٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمَنْقُولِ لِتَعَذُّرِ الْبَيْعِ ، وَفِي الْعَقَارِ يَكُونُ بَيْعًا عِنْدَهُ لِإِمْكَانِ الْبَيْعِ ، فَإِنَّ بَيْعَ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ عِنْدَهُ .
وَلَوْ أَقَالَ بِغَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَهُوَ فَسْخٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَتُجْعَلُ التَّسْمِيَةُ لَغْوًا ، وَعِنْدَهُمَا بَيْعٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ وَجْهِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي فَصْلِ الزِّيَادَةِ .
وَلَوْ وُلِدَتْ الْمَبِيعَةُ ثُمَّ تَقَايَلَا بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَانِعٌ مِنْ الْفَسْخِ ، هَذَا إذَا وَلَدَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ ، أَمَّا إذَا وَلَدَتْ قَبْلَهُ فَالْإِقَالَةُ صَحِيحَةٌ عِنْدَهُ .
وَحَاصِلُهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ الْجَارِيَةَ إذَا ازْدَادَتْ ثُمَّ تَقَايَلَا ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ صَحَّتْ الْإِقَالَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ أَوْ مُنْفَصِلَةً كَالْوَلَدِ وَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ مُنْفَصِلَةً كَانَتْ أَوْ مُتَّصِلَةً ، وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ ، إنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً فَالْإِقَالَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يُصَحِّحُهَا إلَّا فَسْخًا وَقَدْ تَعَذَّرَ حَقًّا لِلشَّرْعِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً فَهِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَهُ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ بِرِضَا مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الزِّيَادَةِ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ فِيهَا ، وَالتَّقَايُلُ دَلِيلُ الرِّضَا فَأَمْكَنَ تَصْحِيحُهَا فَسْخًا ، وَالْإِقَالَةُ فِي الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسْخٌ بِالِاتِّفَاقِ لِامْتِنَاعِ الْبَيْعِ ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ كَالْعَقَارِ فَإِنَّهُ فَسْخٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَبَيْعٌ لِجَوَازِ الْمَبِيعِ فِي الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُ .
( قَالَ وَهَلَاكُ الثَّمَنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ يَمْنَعُ مِنْهَا ) لِأَنَّ رَفْعَ الْبَيْعِ يَسْتَدْعِي قِيَامَهُ وَهُوَ قَائِمٌ بِالْبَيْعِ دُونَ الثَّمَنِ ( فَإِنْ هَلَكَ بَعْضُ الْمَبِيعِ جَازَتْ الْإِقَالَةُ فِي الْبَاقِي ) ؛ لِقِيَامِ الْبَيْعِ فِيهِ ، وَإِنْ تَقَايَضَا تَجُوزُ الْإِقَالَةُ بَعْدَ هَلَاكِ أَحَدِهِمَا وَلَا تَبْطُلُ بِهَلَاكِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ فَكَانَ الْمَبِيعُ بَاقِيًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
قَالَ ( وَهَلَاكُ الثَّمَنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ إلَخْ ) هَلَاكُ الثَّمَنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ .
وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ يَمْنَعُ مِنْهَا لِأَنَّ رَفْعَ الْبَيْعِ يَسْتَدْعِي قِيَامَ الْبَيْعِ ، فَإِنَّ رَفْعَ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ وَقِيَامُ الْبَيْعِ بِالْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْمَبِيعُ وَلِهَذَا شُرِطَ وُجُودُهُ عِنْدَ الْبَيْعِ ، بِخِلَافِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ وَلِهَذَا جَازَ الْعَقْدُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ .
وَلَوْ هَلَكَ بَعْضُ الْمَبِيعِ جَازَتْ الْإِقَالَةُ فِي الْبَاقِي لِقِيَامِ الْمَبِيعِ فِيهِ ، وَلَوْ تَقَايَضَا جَازَتْ الْإِقَالَةُ بَعْدَ هَلَاكِ أَحَدِهِمَا : أَيْ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ ابْتِدَاءً بِأَنْ تَبَايَعَا عَبْدًا بِجَارِيَةٍ فَهَلَكَ الْعَبْدُ فِي يَدِ بَائِعِ الْجَارِيَةِ ثُمَّ أَقَالَا الْبَيْعَ فِي الْجَارِيَةِ وَجَبَ رَدُّ قِيمَةِ الْعَبْدِ ، وَلَا تَبْطُلُ بِهَلَاكِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ وُجُودِهِمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ فَكَانَ الْبَيْعُ قَائِمًا ، أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا هَالِكًا وَقْتَ الْإِقَالَةِ وَالْآخَرُ قَائِمًا وَصَحَّتْ الْإِقَالَةُ ثُمَّ هَلَكَ الْقَائِمُ قَبْلَ الرَّدِّ فَقَدْ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ ، وَلَا يُشْكِلُ بِالْمُقَايَضَةِ فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى إذَا هَلَكَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا هَالِكًا وَقْتَ الْبَيْعِ فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ ، مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَعْنَى الْآخَرِ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ وَإِنْ كَانَ لَهَا حُكْمُ الْبَيْعِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِبَيْعٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَتَجُوزُ بَعْدَ هَلَاكِ الْعِوَضَيْنِ ، بِخِلَافِ الْمُقَايَضَةِ فَإِنَّهَا بَيْعٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ جِهَةُ كَوْنِهِ مَبِيعًا فَأُلْحِقَ بِالْبَيْعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ إذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهَلَاكِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ هَلَاكَهُمَا جَمِيعًا مُبْطِلٌ لِلْإِقَالَةِ ، بِخِلَافِ التَّصَارُفِ فَإِنَّ هَلَاكَ الْبَدَلَيْنِ جَمِيعًا فِيهِ غَيْرُ
مَانِعٍ عَنْ الْإِقَالَةِ ، مَعَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ فِيهِ حُكْمَ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ كَمَا فِي الْمُقَايَضَةِ ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنَا لَمْ تَتَعَلَّقْ الْإِقَالَةُ بِأَعْيَانِهِمَا لَوْ كَانَا قَائِمَيْنِ بَلْ رَدُّ الْمَقْبُوضِ وَرَدُّ مِثْلِهِ سِيَّانِ ، فَصَارَ هَلَاكُهُمَا كَقِيَامِهِمَا ، وَفِي الْمُقَايَضَةِ تَعَلَّقَتْ بِأَعْيَانِهِمَا قَائِمَيْنِ فَمَتَى هَلَكَ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تُرَدُّ الْإِقَالَةُ عَلَيْهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِقَالَةَ تَصِحُّ بِلَفْظَيْنِ : أَحَدُهُمَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ أَقِلْنِي فَيَقُولُ الْآخَرُ أَقَلْت عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا تَصِحُّ إلَّا بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَقَلْت الْبَيْعَ فَيَقُولُ الْآخَرُ قَبِلْت اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ أَقِلْنِي مُسَاوَمَةً بَلْ كَانَ تَحْقِيقًا لِلتَّصَرُّفِ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ .
( بَابُ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ ) .
قَالَ ( الْمُرَابَحَةُ نَقْلُ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ ، وَالتَّوْلِيَةُ نَقْلُ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ رِبْحٍ ) وَالْبَيْعَانِ جَائِزَانِ ؛ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ ، وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْغَبِيَّ الَّذِي لَا يَهْتَدِي فِي التِّجَارَةِ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَعْتَمِدَ فِعْلَ الذَّكِيِّ الْمُهْتَدِي وَتَطِيبُ نَفْسُهُ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَى وَبِزِيَادَةِ رِبْحٍ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهِمَا ، وَلِهَذَا كَانَ مَبْنَاهُمَا عَلَى الْأَمَانَةِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ الْخِيَانَةِ وَعَنْ شُبْهَتِهَا ، وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ ابْتَاعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعِيرَيْنِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَلِّنِي أَحَدَهُمَا ، فَقَالَ : هُوَ لَك بِغَيْرِ شَيْءٍ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَمَّا بِغَيْرِ ثَمَنٍ فَلَا } .
( بَابُ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ ) : لَمَّا فَرَغَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْمَبِيعُ مِنْ الْبُيُوعِ اللَّازِمَةِ وَغَيْرِ اللَّازِمَةِ وَمَا يَرْفَعُهُمَا شَرَعَ فِي بَيَانِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالثَّمَنِ مِنْ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَغَيْرِهِمَا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ وَوَعَدْنَا تَفْصِيلَهَا وَهَذَا مَوْضِعُهُ .
وَعَرَّفَ الْمُرَابَحَةَ بِنَقْلِ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ .
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ وَلَا مُنْعَكِسٌ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مَنْ اشْتَرَى دَنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ مُرَابَحَةً لَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّنَانِيرِ مُرَابَحَةً مَعَ صِدْقِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَغْصُوبَ الْآبِقَ إذَا عَادَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْغَاصِبِ جَازَ بَيْعُهُ مِنْ الْغَاصِبِ مُرَابَحَةً ، وَالتَّعْرِيفُ لَيْسَ بِصَادِقٍ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا عَقْدَ فِيهِ ، وَبِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى إبْهَامٍ يَجِبُ عَنْهُ خُلُوُّ التَّعْرِيفِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ عَيْنُ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ مِثْلُهُ ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ عَيْنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ صَارَ مِلْكًا لِلْبَائِعِ الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ عَيْنُهُ مُرَادًا فِي الْبَيْعِ الثَّانِي ، وَلَا إلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُرَادَ الْمِثْلُ مِنْ حَيْثُ الْجِنْسُ أَوْ الْمِقْدَارُ ، وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِمَا ذُكِرَ فِي الْإِيضَاحِ وَالْمُحِيطِ أَنَّهُ إذَا بَاعَهُ مُرَابَحَةً فَإِنْ كَانَ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ لَهُ مِثْلٌ جَازَ سَوَاءٌ جَعَلَ الرِّبْحَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ الدَّرَاهِمَ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ مِنْ غَيْرِ الدَّرَاهِمِ مِنْ الدَّنَانِيرِ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ إذَا كَانَ مَعْلُومًا يَجُوزُ بِهِ الشِّرَاءُ لِأَنَّ الْكُلَّ ثَمَنٌ .
وَالثَّانِي يَقْتَضِي أَنْ لَا يُضَمَّ إلَى رَأْسِ الْمَالِ أُجْرَةُ الْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ وَالطَّرَّازِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِثَمَنٍ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ ، عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ
لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْمُرَابَحَةِ أَصْلًا ، فَإِنَّهُ لَوْ مَلَكَ ثَوْبًا بِهِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ فَقَوَّمَهُ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى تِلْكَ الْقِيمَةِ جَازَ ، وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْمَبْسُوطِ .
قِيلَ : فَعَلَى هَذَا الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ نَقْلُ مَا مَلَكَهُ مِنْ السِّلَعِ بِمَا قَامَ عِنْدَهُ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ صِدْقَ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُجِزْ الْبَيْعَ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ النَّقْلُ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَقْدِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً أَوْ انْتِهَاءً ، وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ عَادَ ذَلِكَ عَقْدًا حَتَّى لَا يَقْدِرَ الْمَالِكُ عَلَى رَدِّ الْقِيمَةِ وَأَخْذِ الْمَغْصُوبِ ، وَالْمُرَادُ بِالْمِثْلِ هُوَ الْمِثْلُ فِي الْمِقْدَارِ ، وَالْعَادَةُ جَرَتْ بِإِلْحَاقِ مَا يَزِيدُ فِي الْمَبِيعِ أَوْ قِيمَتِهِ إلَى رَأْسِ الْمَالِ فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ عَادَةً ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ نَفْسُهُ مُرَادًا يُجْعَلُ مَجَازًا عَمَّا قَامَ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ خِيَانَةٍ فَتَدْخُلُ فِيهِ مَسْأَلَةُ الْمَبْسُوطِ ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالثَّمَنِ لِكَوْنِهِ الْعَادَةَ الْغَالِبَةَ فِي الْمُرَابَحَاتِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْحَقِيقَةِ لِلْعَادَةِ ( قَوْلُهُ وَالتَّوْلِيَةُ نَقْلُ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ رِبْحٍ ) يَرِدُ عَلَيْهِ مَا كَانَ يَرِدُ عَلَى الْمُرَابَحَةِ مِنْ حَيْثُ لَفْظُ الْعَقْدِ وَالثَّمَنُ الْأَوَّلُ ، وَالْجَوَابُ ( وَالْبَيْعَانِ جَائِزَانِ ) لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ ، وَلِتَعَامُلِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ وَلِمِسَاسِ الْحَاجَةِ ، لِأَنَّ الْغَبِيَّ الَّذِي لَا يَهْتَدِي فِي التِّجَارَةِ وَالصِّفَةُ كَاشِفَةٌ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى فِعْلِ الذَّكِيِّ الْمُهْتَدِي وَتَطِيبُ نَفْسُهُ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَاهُ وَبِزِيَادَةِ رِبْحٍ ، وَقَدْ صَحَّتْ التَّوْلِيَةُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهِمَا لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ (
وَلِهَذَا ) أَيْ لِلِاحْتِيَاجِ إلَى الِاعْتِمَادِ كَانَ مَبْنَى الْمَبِيعَيْنِ : أَيْ بِنَاؤُهُمَا عَلَى الْأَمَانَةِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ الْخِيَانَةِ وَشَبَهِهَا ، وَأَكَّدَ بِقَوْلِهِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ الْخِيَانَةِ وَأَصَابَ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ ذَلِكَ ، وَعَنْ هَذَا لَمْ تَصِحَّ الْمُرَابَحَةُ وَالتَّوْلِيَةُ فِيمَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ لِأَنَّ الْمُعَادَلَةَ وَالْمُمَاثَلَةَ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَكَانَ فِيهِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ بِشُبْهَةِ الْخِيَانَةِ كَمَا لَمْ تَجُزْ الْمُجَازَفَةُ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ لِذَلِكَ ، وَكُلُّ مَا حَرُمَ حَرُمَ مَا يُشْبِهُهُ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهِ .
قَالَ ( وَلَا تَصِحُّ الْمُرَابَحَةُ وَالتَّوْلِيَةُ حَتَّى يَكُونَ الْعِوَضُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ لَوْ مَلَكَهُ مَلَكَهُ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ ( وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي بَاعَهُ مُرَابَحَةً مِمَّنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ الْبَدَلَ وَقَدْ بَاعَهُ بِرِبْحِ دِرْهَمٍ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَكِيلِ مَوْصُوفٍ جَازَ ) لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ ( وَإِنْ بَاعَهُ بِرِبْحٍ الإل يازده لَا يَجُوزُ ) لِأَنَّهُ بَاعَهُ بِرَأْسِ الْمَالِ وَبِبَعْضِ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، ( وَيَجُوزُ أَنْ يُضِيفَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ أُجْرَةَ الْقَصَّارِ وَالطَّرَّازِ وَالصَّبْغِ وَالْقَتْلِ وَأُجْرَةَ حَمْلِ الطَّعَامِ ) لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِإِلْحَاقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِرَأْسِ الْمَالِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا يَزِيدُ فِي الْمَبِيعِ أَوْ فِي قِيمَتِهِ يَلْحَقُ بِهِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ ، وَمَا عَدَدْنَاهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ؛ لِأَنَّ الصَّبْغَ وَأَخَوَاتِهِ يَزِيدُ فِي الْعَيْنِ وَالْحَمْلَ يَزِيدُ فِي الْقِيمَةِ إذْ الْقِيمَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ ( وَيَقُولُ قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا وَلَمْ يَقُلْ اشْتَرَيْته بِكَذَا ) كَيْ لَا يَكُونَ كَاذِبًا وَسَوْقُ الْغَنَمِ بِمَنْزِلَةِ الْحَمْلِ ، بِخِلَافِ أُجْرَةِ الرَّاعِي وَكِرَاءِ بَيْتِ الْحِفْظِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ فِي الْعَيْنِ وَالْمَعْنَى ، وَبِخِلَافِ أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الزِّيَادَةِ لِمَعْنًى فِيهِ وَهُوَ حَذَاقَتُهُ .
،
قَالَ ( وَلَا تَصِحُّ الْمُرَابَحَةُ وَالتَّوْلِيَةُ حَتَّى يَكُونَ الْعِوَضُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ إلَخْ ) لَا تَصِحُّ الْمُرَابَحَةُ وَالتَّوْلِيَةُ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ مَبْنَاهُمَا عَلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ الْخِيَانَةِ وَشَبَهِهَا وَالِاحْتِرَازُ عَنْ الْخِيَانَةِ فِي الْقِيَمِيَّاتِ إنْ أَمْكَنَ ، وَقَدْ لَا يُمْكِنُ عَنْ شَبَهِهَا لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَشْتَرِي الْمَبِيعَ إلَّا بِقِيمَةِ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ الثَّمَنِ ، إذْ لَا يُمْكِنُ دَفْعُ عَيْنِهِ حَيْثُ لَمْ يَمْلِكْهُ وَلَا دَفْعُ مِثْلِهِ إذْ الْفَرْضُ عَدَمُهُ فَتَعَيَّنَتْ الْقِيمَةُ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْخِيَانَةِ ، إلَّا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي بَاعَهُ مُرَابَحَةً مِمَّنْ مَلَكَ ذَلِكَ الْبَدَلَ مِنْ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ فَإِنَّهُ يَشْتَرِيهِ مُرَابَحَةً بِرِبْحٍ مَعْلُومٍ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الْمَوْصُوفِ لِاقْتِدَارِهِ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ .
وَأَمَّا إذَا اشْتَرَاهُ بِرِبْحِ ده يازده مَثَلًا : أَيْ بِرِبْحِ مِقْدَارِ دِرْهَمٍ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا كَانَ الرِّبْحُ دِرْهَمَيْنِ وَإِنْ كَانَ ثَلَاثِينَ كَانَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِرَأْسِ الْمَالِ ، وَبِبَعْضِ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَصَارَ الْبَائِعُ بَائِعًا لِلْمَبِيعِ بِذَلِكَ الثَّمَنِ الْقِيَمِيِّ كَالثَّوْبِ مَثَلًا أَوْ بِجُزْءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الثَّوْبِ وَالْجُزْءُ الْحَادِيَ عَشَرَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْقِيمَةِ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ فَلَا يَجُوزُ ، ثُمَّ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ إنْ كَانَ نَقْدَ الْبَلَدِ فَالرِّبْحُ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُطْلَقَ الرِّبْحُ أَوْ يُنْسَبَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَمَا إذَا قَالَ بِعْتُك بِالْعَشَرَةِ وَرِبْحِ دِرْهَمٍ فَالرِّبْحُ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَقَوْلِهِ بِعْتُك بِرِبْحِ الْعَشَرَةِ أَوْ ده يازده
فَالرِّبْحُ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ عَرَّفَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ فَكَانَ عَلَى صِفَتِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُضِيفَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ أُجْرَةَ الْقِصَارِ وَالصَّبْغِ وَالطِّرَازِ وَالْفَتْلِ وَأُجْرَةَ حَمْلِ الطَّعَامِ ، لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِإِلْحَاقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِرَأْسِ الْمَالِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ ، لِأَنَّ كُلَّ مَا يَزِيدُ فِي الْمَبِيعِ أَوْ فِي قِيمَتِهِ يُلْحَقُ بِهِ ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَزِيدُ فِي ذَلِكَ ، فَالصَّبْغُ وَأَخَوَاتُهُ يَزِيدُ فِي الْعَيْنِ وَالْحَمْلُ يَزِيدُ فِي الْقِيمَةِ لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ فَيُلْحَقُ بِهِ ، وَيَقُولُ قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا وَلَا يَقُولُ اشْتَرَيْته بِكَذَا كَيْ لَا يَكُونَ كَاذِبًا لِأَنَّ الْقِيَامَ عَلَيْهِ عِبَارَةٌ عَنْ الْحُصُولِ بِمَا غَرِمَ وَقَدْ غَرِمَ فِيهِ الْقَدْرَ الْمُسَمَّى .
وَإِذَا بَاعَ بِالرَّقْمِ يَقُولُ رَقْمُهُ كَذَا فَأَنَا أَبِيعُهُ مُرَابَحَةً وَسَوْقُ الْغَنَمِ بِمَنْزِلَةِ الْحَمْلِ ، بِخِلَافِ أُجْرَةِ الرَّاعِي وَكِرَاءِ بَيْتِ الْحِفْظِ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ فِي الْعَيْنِ وَلَا فِي الْقِيمَةِ ، وَبِخِلَافِ أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ ، فَإِذَا أَنْفَقَ عَلَى عَبْدِهِ فِي تَعَلُّمِ عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ دَرَاهِمَ لَمْ يُلْحِقْهَا بِرَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْحَاصِلَةَ فِي الْمَالِيَّةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِي الْمُتَعَلِّمِ وَهُوَ الْحِذْقُ وَالذَّكَاءُ لَا بِمَا أَنْفَقَ عَلَى الْمُعَلِّمِ ، وَعَلَى هَذِهِ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ وَالرَّائِضِ وَالْبَيْطَارِ وَجُعْلُ الْآبِقِ وَالْحَجَّامِ وَالْخَتَّانِ
( فَإِنْ اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى خِيَانَةٍ فِي الْمُرَابَحَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَإِنْ اطَّلَعَ عَلَى خِيَانَةٍ فِي التَّوْلِيَةِ أَسْقَطَهَا مِنْ الثَّمَنِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَحُطُّ فِيهِمَا ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُخَيَّرُ فِيهِمَا ) لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلتَّسْمِيَةِ ؛ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا ، وَالتَّوْلِيَةُ وَالْمُرَابَحَةُ تَرْوِيجٌ وَتَرْغِيبٌ فَيَكُونُ وَصْفًا مَرْغُوبًا فِيهِ كَوَصْفِ السَّلَامَةِ فَيَتَخَيَّرُ بِفَوَاتِهِ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ كَوْنُهُ تَوْلِيَةً وَمُرَابَحَةً وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ وَلَّيْتُك بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِعْتُك مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَوَّلِ وَذَلِكَ بِالْحَطِّ ، غَيْرَ أَنَّهُ يُحَطُّ فِي التَّوْلِيَةِ قَدْرُ الْخِيَانَةِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَفِي الْمُرَابَحَةِ مِنْهُ وَمِنْ الرِّبْحِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَحُطُّ فِي التَّوْلِيَةِ لَا تَبْقَى تَوْلِيَةً ؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَيَتَغَيَّرُ التَّصَرُّفُ فَتَعَيَّنَ الْحَطُّ وَفِي الْمُرَابَحَةِ لَوْ لَمْ يُحَطَّ تَبْقَى مُرَابَحَةً وَإِنْ كَانَ يَتَفَاوَتُ الرِّبْحُ فَلَا يَتَغَيَّرُ التَّصَرُّفُ فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِالتَّخْيِيرِ ، فَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ أَوْ حَدَثَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ الْفَسْخَ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ فِي الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ خِيَارٍ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْفَائِتِ فَيَسْقُطُ مَا يُقَابِلُهُ عِنْدَ عَجْزِهِ .
.
فَإِنْ اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى خِيَانَةٍ فِي الْمُرَابَحَةِ ) إمَّا بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ أَوْ بِنُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ ( فَهُوَ بِالْخِيَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ ، وَإِنْ اطَّلَعَ عَلَى خِيَانَةٍ فِي التَّوْلِيَةِ أَسْقَطَهَا مِنْ الثَّمَنِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُحَطُّ فِيهِمَا ) أَيْ فِي الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يُخَيَّرُ فِيهِمَا ) لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلتَّسْمِيَةِ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَلَا يُعْلَمُ لَا بِالتَّسْمِيَةِ ، وَإِذَا كَانَ الِاعْتِبَارُ لَهَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى ( وَالتَّوْلِيَةُ وَالْمُرَابَحَةُ تَرْغِيبٌ وَتَرْوِيجٌ فَيَكُونُ وَصْفًا مَرْغُوبًا فِيهِ كَوَصْفِ السَّلَامَةِ ) وَفَوَاتُهُ يُوجِبُ التَّخْيِيرَ ( وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا الْعَقْدِ كَوْنُهُ مُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً ) لَا التَّسْمِيَةَ ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ وَلَّيْتُك بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِعْتُك مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَالْحَالُ أَنَّهُ مَعْلُومٌ وَاقْتَصَرَ عَلَى التَّسْمِيَةِ صَحَّ الْعَقْدُ ، وَالتَّسْمِيَةُ كَالتَّفْسِيرِ فَإِذَا ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ بَطَلَتْ صَلَاحِيَّتُهَا لِذَلِكَ فَبَقِيَ ذِكْرُ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ بِنَاءِ الْعَقْدِ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فَيُحَطُّ الْخِيَانَةُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا ، غَيْرَ أَنَّهُ يُحَطُّ فِي التَّوْلِيَةِ قَدْرُ الْخِيَانَةِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَفِي الْمُرَابَحَةِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ جَمِيعًا ، كَمَا إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ عَلَى رِبْحِ خَمْسَةٍ ثُمَّ ظَهَرَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ ثَمَانِيَةً يَحُطُّ قَدْرَ الْخِيَانَةِ مِنْ الْأَصْلِ وَهُوَ دِرْهَمَانِ ، وَيَحُطُّ مِنْ الرِّبْحِ دِرْهَمًا فَيَأْخُذُ الثَّوْبَ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحَطَّ فِي التَّوْلِيَةِ لَا تَبْقَى تَوْلِيَةٌ ) لِأَنَّهَا تَكُونُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا تَبْقَى تَوْلِيَةٌ
لِئَلَّا يَتَغَيَّرَ التَّصَرُّفُ فَيَتَعَيَّنُ الْحَطُّ ، وَفِي الْمُرَابَحَةِ لَوْ لَمْ يُحَطَّ تَبْقَى مُرَابَحَةً كَمَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرِ الصَّرْفِ لَكِنْ يَتَفَاوَتُ الرِّبْحُ فَيَتَخَيَّرُ بِذَلِكَ لِفَوَاتِ الرِّضَا ، فَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ أَوْ حَدَثَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ الْفَسْخَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ ، فَمَنْ قَالَ بِالْحَطِّ كَانَ لَهُ الْحَطُّ ( وَمَنْ قَالَ بِالْفَسْخِ لَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ فِي الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ خِيَارٍ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ ) وَقَدْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِالْهَلَاكِ أَوْ غَيْرِهِ فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ حَيْثُ لَا يَجِبُ كُلُّ الثَّمَنِ بَلْ يَنْقُصُ مِنْهُ مِقْدَارُ الْعَيْبِ لِأَجْلِ الْعَيْبِ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ لِلْمُشْتَرِي ثَمَّةَ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ فَسَقَطَ مَا يُقَابِلُهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِهِ ، وَقَيَّدَ بِالرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ احْتِرَازًا عَمَّا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يُفْسَخُ الْبَيْعُ عَلَى الْقِيمَةِ إنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَبَاعَهُ بِرِبْحٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ، فَإِنْ بَاعَهُ مُرَابَحَةً طَرَحَ عَنْهُ كُلَّ رِبْحٍ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ اسْتَغْرَقَ الثَّمَنَ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا : يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَخِيرِ ) .
صُورَتُهُ : إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ وَبَاعَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً بِخَمْسَةٍ وَيَقُولُ قَامَ عَلَيَّ بِخَمْسَةٍ ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ وَبَاعَهُ بِعِشْرِينَ مُرَابَحَةً ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً أَصْلًا ، وَعِنْدَهُمَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الْعَشَرَةِ فِي الْفَصْلَيْنِ ، لَهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ عَقْدٌ مُتَجَدِّدٌ مُنْقَطِعُ الْأَحْكَامِ عَنْ الْأَوَّلِ فَيَجُوزُ بِنَاءُ الْمُرَابَحَةِ عَلَيْهِ ، كَمَا إذَا تَخَلَّلَ ثَالِثٌ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ شُبْهَةَ حُصُولِ الرِّبْحِ بِالْعَقْدِ الثَّانِي ثَابِتَةٌ ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَكَّدُ بِهِ بَعْدَمَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ بِالظُّهُورِ عَلَى عَيْبِ الشُّبْهَةِ كَالْحَقِيقَةِ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ احْتِيَاطًا وَلِهَذَا لَمْ تَجُزْ الْمُرَابَحَةُ فِيمَا أُخِذَ بِالصُّلْحِ لِشُبْهَةِ الْحَطِيطَةِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ اشْتَرَى خَمْسَةً وَثَوْبًا بِعَشَرَةٍ فَيُطْرَحُ عَنْهُ خَمْسَةٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَلَّلَ ثَالِثٌ ؛ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ حَصَلَ بِغَيْرِهِ .