كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي
إنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا لِضَرُورَةِ الثَّانِيَةِ .
وَنُوقِضَ بِمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً ثَانِيَةً لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ وَلَمْ يُضْطَرَّ فِيهِ إلَى الْأُولَى لِوُقُوعِ الثَّانِيَةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ ثَانِيَةً صَارَ لَغْوًا ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ فَإِنَّهُ كَلَامٌ مُعْتَبَرٌ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ وُقُوعِ الْأُولَى .
وَلَوْ نَوَى فِي قَوْلِهِ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ أَوْ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ وَأَشْبَاهِهِمَا وَاحِدَةً صُدِّقَ دِيَانَةً لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يُرَادُ بِهِ الْأَكْثَرُ مِنْ الْأَقَلِّ وَالْأَقَلُّ مِنْ الْأَكْثَرِ .
( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي ثِنْتَيْنِ وَنَوَى الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهِيَ وَاحِدَةٌ ) وَقَالَ زُفَرُ : تَقَعُ ثِنْتَانِ لِعُرْفِ الْحِسَابِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ .
وَلَنَا أَنَّ عَمَلَ الضَّرْبِ أَثَرُهُ فِي تَكْثِيرِ الْأَجْزَاءِ لَا فِي زِيَادَةِ الْمَضْرُوبِ ، وَتَكْثِيرُ أَجْزَاءِ الطَّلْقَةِ لَا يُوجِبُ تَعَدُّدَهَا ( فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ فَهِيَ ثَلَاثٌ ) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ فَإِنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ وَالظَّرْفَ يَجْمَعُ الْمَظْرُوفَ ، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا تَقَعُ وَاحِدَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً مَعَ ثِنْتَيْنِ تَقَعُ الثَّلَاثُ لِأَنَّ كَلِمَةَ " فِي " تَأْتِي بِمَعْنَى " مَعَ " كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } أَيْ مَعَ عِبَادِي ، وَلَوْ نَوَى الظَّرْفَ تَقَعُ وَاحِدَةً ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا فَيَلْغُوَ ذِكْرُ الثَّانِي ( وَلَوْ قَالَ اثْنَتَيْنِ فِي اثْنَتَيْنِ وَنَوَى الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ فَهِيَ ثِنْتَانِ ) وَعِنْدَ زُفَرَ ثَلَاثٌ لِأَنَّ قَضِيَّتَهُ أَنْ تَكُونَ أَرْبَعًا ، لَكِنْ لَا مَزِيدَ لِلطَّلَاقِ عَلَى الثَّلَاثِ .
وَعِنْدَنَا الِاعْتِبَارُ الْمَذْكُورُ الْأَوَّلُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ
( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي ثِنْتَيْنِ وَنَوَى الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهِيَ وَاحِدَةٌ .
وَقَالَ زُفَرُ : يَقَعُ ثِنْتَانِ لِعُرْفِ الْحِسَابِ ) فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنَّ وَاحِدَةً فِي ثِنْتَيْنِ ثِنْتَانِ ( وَلَنَا أَنَّ عَمَلَ الضَّرْبِ فِي تَكْثِيرِ الْأَجْزَاءِ لَا فِي زِيَادَةِ الْمَضْرُوبِ ) لِأَنَّ الْغَرَضَ بِهِ إزَالَةُ كَسْرٍ يَقَعُ عِنْدَ الْقِسْمَةِ ، فَمَعْنَى وَاحِدَةٍ فِي ثِنْتَيْنِ وَاحِدَةٌ ذَاتُ جُزْأَيْنِ ، ( وَتَكْثِيرُ أَجْزَاءِ الطَّلْقَةِ لَا يُوجِبُ تَعَدُّدَهَا ) كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَنِصْفَهَا وَثُلُثَهَا وَرُبُعَهَا وَسُدُسَهَا وَثُمُنَهَا لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ ( فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ فَهِيَ ثَلَاثٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ وَالظَّرْفُ يَجْمَعُ الْمَظْرُوفَ ) وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا ) وَاضِحٌ وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً مَعَ ثِنْتَيْنِ وَقَعَ الثَّلَاثُ ) سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ ( لِأَنَّ كَلِمَةَ فِي تَأْتِي بِمَعْنَى مَعَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } ) عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ ، وَهَذَا لِأَنَّ أَحَدَ الْعَدَدَيْنِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلْآخَرِ وَبَيْنَ الظَّرْفِ وَالْمَظْرُوفِ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ فَاسْتُعِيرَ لَهُ ( وَلَوْ نَوَى الظَّرْفَ تَقَعُ وَاحِدَةٌ ) لِأَنَّ الطَّلَاقَ مَعْنًى فِقْهِيٌّ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلْغَيْرِ فَيَلْغُو ذِكْرُ الثَّانِي ( وَلَوْ قَالَ اثْنَتَيْنِ فِي اثْنَتَيْنِ وَنَوَى الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ ) وَالضَّرْبُ تَضْعِيفُ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ بِقَدْرِ مَا فِي الْعَدَدِ الْآخَرِ كَالْأَرْبَعَةِ فِي الْخَمْسَةِ يَحْصُلُ عِشْرُونَ لِأَنَّ الْعِشْرِينَ تَضْعِيفُ الْأَرْبَعَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ أَوْ تَضْعِيفُ الْخَمْسَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ( فَهِيَ ثِنْتَانِ ) وَعِنْدَ زُفَرَ ثَلَاثٌ لِأَنَّ قَضِيَّتَهُ أَنْ تَكُونَ أَرْبَعًا بِعُرْفِ الْحِسَابِ ( لَكِنْ لَا مَزِيدَ لِلطَّلَاقِ عَلَى الثَّلَاثِ .
وَعِنْدَنَا الِاعْتِبَارُ لِلْمَذْكُورِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) يَعْنِي فِي قَوْلِهِ إنَّ
عَمَلَ الضَّرْبِ فِي تَكْثِيرِ الْأَجْزَاءِ لَا فِي زِيَادَةِ الْمَضْرُوبِ .
( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ هُنَا إلَى الشَّامِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بِمِلْكِ الرَّجْعَةِ ) وَقَالَ زُفَرُ : هِيَ بَائِنَةٌ لِأَنَّهُ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِالطُّولِ قُلْنَا : لَا بَلْ وَصَفَهُ بِالْقَصْرِ لِأَنَّهُ مَتَى وَقَعَ وَقَعَ فِي الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا .( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ هُنَا إلَى الشَّامِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بِمِلْكِ الرَّجْعَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ : هِيَ بَائِنَةٌ لِأَنَّهُ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِالطُّولِ ) وَالطُّولُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْقُوَّةِ وَقُوَّةُ الشَّيْءِ إنَّمَا تَظْهَرُ بِامْتِنَاعِهِ عَنْ قَبُولِ الْإِبْطَالِ ، وَذَلِكَ فِي الْبَائِنِ دُونَ الرَّجْعِيِّ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا صَرَّحَ بِذِكْرِ الطُّولِ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً طَوِيلَةً وَقَعَ رَجْعِيًّا عِنْدَهُ فَكَيْفَ صَحَّ تَعْلِيلُهُ بِالطُّولِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ إذَا قَالَ إلَى الشَّامِ كَنَّى عَنْ الطُّولِ وَالْكِنَايَةُ أَقْوَى مِنْ التَّصْرِيحِ لِكَوْنِهَا دَعْوَى الشَّيْءِ بِبَيِّنَةٍ وَمَوْضِعُهُ عِلْمُ الْبَيَانِ .
وَأَقُولُ : هَذِهِ خَطَابَةٌ لَا تَكَادُ تَنْهَضُ فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ ، وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ ، وَهَذَا أَقْرَبُ ( وَقُلْنَا لَا بَلْ وَصَفَهُ بِالْقَصْرِ لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ وَقَعَ فِي الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا ) فَتَخْصِيصُهُ بِذِكْرِ الشَّامِ تَقْصِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا وَرَاءَهُ .
( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ بِمَكَّةَ أَوْ فِي مَكَّةَ فَهِيَ طَالِقٌ فِي الْحَالِ فِي كُلِّ الْبِلَادِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي الدَّارِ ) لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَتَخَصَّصُ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان ، وَإِنْ عَنَى بِهِ إذَا أَتَيْت مَكَّةَ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ نَوَى الْإِضْمَارَ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ مَرِيضَةٌ ، وَإِنْ نَوَى إنْ مَرِضْت لَمْ يُدَيَّنْ فِي الْقَضَاءِ ( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إذَا دَخَلْت مَكَّةَ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَدْخُلَ مَكَّةَ ) لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالدُّخُولِ .
وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي دُخُولِ الدَّارِ يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ لِمُقَارَبَةٍ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالظَّرْفِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الظَّرْفِيَّةِ .( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ بِمَكَّةَ أَوْ فِي مَكَّةَ فَهِيَ طَالِقٌ فِي الْحَالِ فِي كُلِّ الْبِلَادِ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي الدَّارِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَتَخَصَّصُ بِمَكَانٍ دُونَ آخَرَ ) وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ عَنَى ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ ( عِنْدَ تَعَذُّرِ الظَّرْفِيَّةِ ) إنَّمَا تَعْذُرُ الظَّرْفِيَّةُ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا لِلطَّلَاقِ عَلَى أَنْ يَكُونَ شَاغِلًا لَهُ فَيُحْمَلُ عَلَى الشَّرْطِ لِمُقَارَبَةٍ : أَيْ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالظَّرْفِ لِأَنَّ الظَّرْفَ يَسْبِقُ الْمَظْرُوفَ كَمَا أَنَّ الشَّرْطَ يَسْبِقُ الْمَشْرُوطَ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : وَقِيلَ لِأَنَّ الظَّرْفَ يُجَامِعُ الْمَظْرُوفَ كَمَا أَنَّ الشَّرْطَ يُجَامِعُ الْمَشْرُوطَ .
( فَصْلٌ فِي إضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى الزَّمَانِ ) ( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ ) لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ الْغَدِ وَذَلِكَ بِوُقُوعِهِ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ .
وَلَوْ نَوَى بِهِ آخِرَ النَّهَارِ صُدِّقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي الْعُمُومِ ، وَهُوَ يَحْتَمِلُهُ لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ ( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ غَدًا أَوْ غَدًا الْيَوْمَ يُؤْخَذُ بِأَوَّلِ الْوَقْتَيْنِ الَّذِي تَفَوَّهَ بِهِ ) فَيَقَعَ فِي الْأَوَّلِ فِي الْيَوْمِ وَفِي الثَّانِي فِي الْغَدِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ : الْيَوْمَ كَانَ تَنْجِيزًا وَالْمُنَجَّزُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ ، وَإِذَا قَالَ : غَدًا كَانَ إضَافَةً وَالْمُضَافُ لَا يَتَنَجَّزُ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْإِضَافَةِ فَلَغَا اللَّفْظُ الثَّانِي فِي الْفَصْلَيْنِ .
فَصْلٌ فِي إضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى الزَّمَانِ ذَكَرَ هَاهُنَا فُصُولًا مُتَرَادِفَةً بِحَسَبِ إضَافَةِ الطَّلَاقِ وَتَنْوِيعِهِ ، وَتَشْبِيهُهُ إضَافَةَ الطَّلَاقِ تَأْخِيرَ حُكْمِهِ عَنْ وَقْتِ التَّكَلُّمِ إلَى زَمَانٍ يُذْكَرُ بَعْدَهُ بِغَيْرِ كَلِمَةِ شَرْطٍ ( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي الْعُمُومِ وَهُوَ ) أَيْ الْعُمُومُ ( يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ ) فَكَانَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ وَنِيَّةُ الْمُحْتَمَلِ صَحِيحَةٌ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً ( لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ ) لِأَنَّ الْغَدَ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَاءِ النَّهَارِ فَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْعَامُّ مَا يَتَنَاوَلُ أَفْرَادًا مُتَّفِقَةَ الْحُدُودِ وَلَفْظُ الْغَدِ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَمَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ مِنْ الْأَوَّلِ وَالْوَسَطِ وَالْآخِرِ فَهُوَ مِنْ أَجْزَائِهِ لَا مِنْ أَفْرَادِهِ ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ نِيَّةُ آخِرِ النَّهَارِ تَخْصِيصًا فَلَا عُمُومَ وَلَا تَخْصِيصَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ فَإِنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْكُلِّ وَإِرَادَةَ الْجُزْءِ مَجَازٌ لَا مَحَالَةَ ( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ غَدًا ) ظَاهِرٌ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لِمَ لَا يَجْعَلُ غَدًا ظَرْفًا لِطَلَاقٍ آخَرَ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيرِ أَنْتِ طَالِقٌ ، وَالْأَصْلُ خِلَافُهُ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ صَوْنَ كَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ الْإِلْغَاءِ نَوْعُ ضَرُورَةٍ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ وَصْفُهَا بِالطَّلَاقِ الْيَوْمَ وَغَدًا وَبِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ يُحَصِّلُ هَذَا الْمَقْصُودَ فَلَا حَاجَةَ إلَى غَيْرِهَا ، وَعَلَى هَذَا كَانَ كَلَامُهُ مَصُونًا عَنْ الْإِلْغَاءِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا لَا يَتِمُّ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا الْيَوْمَ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ غَدًا وَالْمَوْصُوفُ بِهِ غَدًا لَا يَكُونُ مَوْصُوفًا بِهِ الْيَوْمَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ إيقَاعَ الثَّانِيَةِ فِيهَا يُفْضِي إلَى الْمَكْرُوهِ وَهِيَ إيقَاعُ الطَّلْقَتَيْنِ
دَفْعَةً وَاحِدَةً فَلَا يَسْعَى لِإِثْبَاتِهَا فَيَكُونُ الثَّانِي لَغْوًا .
( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ وَقَالَ نَوَيْت آخِرَ النَّهَارِ دِينَ فِي الْقَضَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ خَاصَّةً ) لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ " فِي " جَمِيعِ الْغَدِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ غَدًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلِهَذَا يَقَعُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ حَذْفَ فِي وَإِثْبَاتَهُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ فِي الْحَالَيْنِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ لِأَنَّ كَلِمَةَ فِي لِلظَّرْفِ وَالظَّرْفِيَّةُ لَا تَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ وَتَعَيَّنَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْمُزَاحِمِ ، فَإِذَا عَيَّنَ آخِرَ النَّهَارِ كَانَ التَّعْيِينُ الْقَصْدِيُّ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الضَّرُورِيِّ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ غَدًا لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ حَيْثُ وَصَفَهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ مُضَافًا إلَى جَمِيعِ الْغَدِ .
نَظِيرُهُ إذَا قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ عُمْرِي ، وَنَظِيرُ الْأَوَّلِ : وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ فِي عُمْرِي ، وَعَلَى هَذَيْنِ الدَّهْرَ وَفِي الدَّهْرِ .
( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي الْعُمُومِ وَهُوَ يَحْتَمِلُهُ مُخَالِفًا لِلظَّاهِرِ وَقَدْ عَلِمْت مَا فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ) قِيلَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمَا مُخَالِفًا لِلظَّاهِرِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ خِلَافَ الظَّاهِرِ إنَّمَا لَا يُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ إذَا لَمْ تَكُنْ نِيَّتُهُ مُصَادِفَةً لِحَقِيقَةِ كَلَامِهِ ، وَهُنَا صَادَفَتْهَا فَيُدَيَّنُ قَضَاءً وَدِيَانَةً ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَنَوَى جَمِيعَ النِّسَاءِ صُدِّقَ قَضَاءً وَدِيَانَةً وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلظَّاهِرِ لِمُصَادَفَةِ نِيَّتِهِ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ .
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا مَا هُوَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ كَالْمَجَازِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنَّ فِي غَدٍ لَا يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ وَهُوَ حَقِيقَتُهُ ، وَغَدٌ يَقْتَضِيهِ وَهُوَ حَقِيقَتُهُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَاَلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } فَإِنَّهُ لَا اسْتِيعَابَ فِيمَا فِيهِ الْحَرْفُ ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِيمَا لَا حَرْفَ فِيهِ ، وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ نُصْرَةَ الرُّسُلِ وَالْمُرْسَلَ وَالْمُرْسَلَ إلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا مَقْرُونَةً بِحَرْفِ " فِي " وَذَكَرَ نُصْرَتَهُمْ فِي الْآخِرَةِ غَيْرَ مَقْرُونَةٍ بِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ نُصْرَةَ اللَّهِ إيَّاهُمْ فِي الْآخِرَةِ دَائِمَةٌ ، وَأَمَّا نُصْرَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَكَانَتْ تَقَعُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِأَنَّهَا دَارُ الِابْتِلَاءِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِي أَحَدِهِمَا فَهُوَ مَجَازٌ فِي الْآخَرِ .
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَيَكُونُ نِيَّةُ حَقِيقَةِ الْكَلَامِ مِنْ بَابِ بَيَانِ التَّقْرِيرِ وَهُوَ تَوْكِيدُ الْكَلَامِ بِمَا يَقْطَعُ احْتِمَالَ الْمَجَازِ فَكَانَ مِنْ الْجَائِزِ قَبْلَ بَيَانِ نِيَّتِهِ
أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ فِي غَدٍ مَجَازَهُ وَهُوَ الِاسْتِيعَابُ فَإِذَا بَيَّنَهَا قَطَعَ احْتِمَالَ الْمَجَازِ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ وَبَاقِي كَلَامِهِ وَاضِحٌ بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ .
( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ وَقَدْ تَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ ) لِأَنَّهُ أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِمَالِكِيَّةِ الطَّلَاقِ فَيَلْغُوَ ، كَمَا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إخْبَارًا عَنْ عَدَمِ النِّكَاحِ أَوْ عَنْ كَوْنِهَا مُطَلَّقَةً بِتَطْلِيقِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَزْوَاجِ ( وَلَوْ تَزَوَّجَهَا أَوَّلَ مِنْ أَمْسِ وَقَعَ السَّاعَةَ ) لِأَنَّهُ مَا أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إخْبَارًا أَيْضًا فَكَانَ إنْشَاءً ، وَالْإِنْشَاءُ فِي الْمَاضِي إنْشَاءٌ فِي الْحَالِ فَيَقَعَ السَّاعَةَ ( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ قِبَلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ ) لِأَنَّهُ أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ : طَلَّقْتُك وَأَنَا صَبِيٌّ أَوْ نَائِمٌ ، أَوْ يُصَحَّحُ إخْبَارًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ وَقَدْ تَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ لِأَنَّهُ أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ ) أَيْ مَعْلُومَةٍ ( مُنَافِيَةٍ لِمَالِكِيَّةِ الطَّلَاقِ ) لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي مِلْكِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي أَضَافَ إلَيْهِ الطَّلَاقَ ( فَيَلْغُو كَمَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ) أَوْ تُخْلَقِي ( وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ إخْبَارًا عَنْ عَدَمِ النِّكَاحِ ) فَكَأَنَّهُ قَالَ مَا كُنْت أَمْسِ فِي قَيْدِ نِكَاحِي ، وَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ صِيرَ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا لَهُ دُونَ الْإِنْشَاءِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الطَّالِقَ مَنْ اتَّصَفَتْ بِوُقُوعِ طَلَاقِهَا بِتَطْلِيقِ الزَّوْجِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ لِأَنَّ الْمُطَلِّقَ إنْ كَانَ هَذَا الزَّوْجَ فَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي قَيْدِ نِكَاحِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَهُوَ الْمَذْكُورُ بِقَوْلِهِ ( أَوْ عَنْ كَوْنِهَا مُطَلَّقَةً بِتَطْلِيقِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَزْوَاجِ ) فَيَكُونُ تَكْرَارًا ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ مَوْضُوعٌ لِلْإِخْبَارِ لُغَةً ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ إمْكَانَ الْمَصِيرِ إلَى الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ يَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى إبْطَالِ كَثِيرٍ مِنْ الْمَفْهُومَاتِ الشَّرْعِيَّةِ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ لِمَنْ تَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ إمَّا لَغْوًا لِعَدَمِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَقْتَ الطَّلَاقِ ، أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ عَدَمِ النِّكَاحِ مَجَازًا فَإِنَّ رَفْعَ النِّكَاحِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَهُ ، وَإِمْكَانُ الْمَصِيرِ إلَى الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ إنَّمَا لَا يَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ إذَا لَمْ يُفْضِ إلَى اللَّغْوِ ، فَأَمَّا إذَا أَفْضَى إلَيْهِ مَنَعَهُ صَوْنًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ الْإِلْغَاءِ .
وَقَوْلُهُ أَوْ عَنْ كَوْنِهَا مُطَلَّقَةً بِتَطْلِيقِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَزْوَاجِ ) يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةَ زَوْجٍ آخَرَ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ جُعِلَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ
إخْبَارًا عَنْ عَدَمِ النِّكَاحِ مَجَازًا ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ جُعِلَ إخْبَارًا عَنْ كَوْنِهَا مُطَلَّقَةَ ذَلِكَ الزَّوْجِ ( وَلَوْ تَزَوَّجَهَا أَوَّلُ مِنْ أَمْسِ وَقَعَ السَّاعَةَ لِأَنَّ مَا أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ ) وَهُوَ وَاضِحٌ ( وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إخْبَارًا أَيْضًا ) وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَاضِحٌ أَيْضًا .
وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُطَلَّقَةٍ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَزْوَاجِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُطَلَّقَةً فَلَا يَسْتَقِيمُ إلَّا إذَا جُعِلَ نِكَاحُ هَذَا الزَّوْجِ رَافِعًا لِتِلْكَ النِّسْبَةِ وَفِيهِ مَا فِيهِ وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك ) وَمَا بَعْدَهُ وَاضِحٌ
( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ أُطَلِّقْك أَوْ مَتَى لَمْ أُطَلِّقْك أَوْ مَتَى مَا لَمْ أُطَلِّقْك وَسَكَتَ طَلُقَتْ ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى زَمَانٍ خَالٍ عَنْ التَّطْلِيقِ وَقَدْ وُجِدَ حَيْثُ سَكَتَ ، وَهَذَا لِأَنَّ كَلِمَةَ مَتَى وَمَتَى مَا صَرِيحٌ فِي الْوَقْتِ لِأَنَّهُمَا مِنْ ظُرُوفِ الزَّمَانِ ، وَكَذَا كَلِمَةُ " مَا " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مَا دُمْت حَيًّا } أَيْ وَقْتَ الْحَيَاةِ .
( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أُطَلِّقْك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَمُوتَ ) لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْيَأْسِ عَنْ الْحَيَاةِ وَهُوَ الشَّرْطُ كَمَا فِي قَوْلِهِ إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ ، وَمَوْتُهَا بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ هُوَ الصَّحِيحُ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا فِي قَوْلِهِ إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ ) يَعْنِي كَمَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ حَتَّى يَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ الْإِتْيَانِ ، فَإِذَا انْتَهَى إلَى الْمَوْتِ فَقَدْ وَقَعَ الْيَأْسُ فَوُجِدَ الشَّرْطُ وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ وَالْمِلْكُ بَاقٍ فَوَقَعَ فَكَذَلِكَ هُنَا ( وَمَوْتُهَا بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ ) يَعْنِي يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمَوْتِهَا قُبَيْلَ مَوْتِهِ أَيْضًا .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمَوْتِهَا لِأَنَّ الزَّوْجَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا مَا لَمْ تَمُتْ ، وَإِنَّمَا عَجَزَ بِمَوْتِهَا ، فَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ لَوَقَعَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِيقَاعَ مِنْ حُكْمِهِ الْوُقُوعُ وَقَدْ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ إيقَاعِهِ قُبَيْلَ مَوْتِهَا لِأَنَّهُ لَا يَعْقُبُهُ الْوُقُوعُ ، كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ مَوْتِك فَيَقَعُ الطَّلَاقُ قُبَيْلَ مَوْتِهَا بِلَا فَصْلٍ ، وَلَا مِيرَاثَ لِلزَّوْجِ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا قَبْلَ مَوْتِهَا بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ رِوَايَةِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ حَيْثُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمَوْتِهَا فِيهِ ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ يَقَعُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ تَحَقَّقَ شَرْطُ الْوُقُوعِ وَهُوَ عَدَمُ التَّطْلِيقِ فِي زَمَانٍ يُمْكِنُ التَّطْلِيقُ وَهُوَ آخِرُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَتَطْلُقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ بِمَوْتِهَا لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إتْيَانِهِ الْبَصْرَةَ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الشَّرْطُ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ .
( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إذَا لَمْ أُطَلِّقْك ، أَوْ إذَا مَا لَمْ أُطَلِّقْك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَمُوتَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : تَطْلُقُ حِينَ سَكَتَ ) لِأَنَّ كَلِمَةَ إذَا لِلْوَقْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } وَقَالَ قَائِلُهُمْ : وَإِذَا تَكُونُ كَرِيهَةٌ أُدْعَى لَهَا وَإِذَا يُحَاسُ الْحَيْسُ يُدْعَى جُنْدُبٌ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَتَى وَمَتَى مَا ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْتِ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ مَتَى شِئْت .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَلِمَةَ إذَا تُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرْطِ أَيْضًا ، قَالَ قَائِلُهُمْ : وَاسْتَغْنِ مَا أَغْنَاك رَبُّك بِالْغِنَى وَإِذَا تُصِبْك خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلْ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الشَّرْطُ لَمْ تَطْلُقْ فِي الْحَالِ .
وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْوَقْتُ تَطْلُقُ فَلَا تَطْلُقُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ لِأَنَّهُ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ لِلْوَقْتِ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا ، وَعَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ لِلشَّرْطِ يَخْرُجُ وَالْأَمْرُ صَارَ فِي يَدِهَا فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَلْبَتَّةَ ، أَمَّا إذَا نَوَى الْوَقْتَ يَقَعُ فِي الْحَالِ وَلَوْ نَوَى الشَّرْطَ يَقَعُ فِي آخِرِ الْعُمُرِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُمَا .
قَالَ ( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا لَمْ أُطَلِّقْك أَوْ إذَا مَا لَمْ أُطَلِّقْك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَمُوتَ ) أَقُولُ : إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إذَا لَمْ أُطَلِّقْك أَوْ إذَا مَا لَمْ أُطَلِّقْك .
فَإِمَّا إنْ نَوَى شَيْئًا أَوْ لَمْ يَنْوِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ ، فَإِنْ نَوَى الْوَقْتَ وَقَعَ فِي الْحَالِ ، وَإِنْ نَوَى الشَّرْطَ وَقَعَ فِي آخِرِ الْعُمُرِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُمَا وَنِيَّةُ الْمُحْتَمَلِ صَحِيحَةٌ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَمُوتَ ، وَقَالَا : طَلُقَتْ حِينَ سَكَتَ الزَّوْجُ لِأَنَّ كَلِمَةَ إذَا مَوْضُوعَةٌ لِلْوَقْتِ وَتُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ سُقُوطِ الْوَقْتِ كَمَتَى وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ ، وَاسْتَدَلَّ لَهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } لِإِفَادَةِ الْوَقْتِ الْخَالِصِ فِي أَمْرٍ مُتَرَقَّبٍ : أَيْ مُنْتَظَرٍ لَا مَحَالَةَ ، وَبِقَوْلِهِ : وَإِذَا تَكُونُ كَرِيهَةٌ أُدْعَى لَهَا وَإِذَا يُحَاسُ الْحَيْسُ يُدْعَى جُنْدُبُ لِإِفَادَتِهِ فِي أَمْرٍ كَائِنٍ فِي الْحَالِ ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ مَتَى وَمَتَى مَا إلَى عَدَمِ سُقُوطِ مَعْنَى الْوَقْتِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ شَرْطًا .
وَاسْتَوْضَحَ كَوْنَهُ بِمَعْنَى مَتَى بِقَوْلِهِ ( وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا بِالْقِيَامِ ) كَمَا فِي قَوْلِهِ مَتَى شِئْت ، وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى إنْ يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ كَمَا فِي إنْ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَلِمَةَ إذَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الظَّرْفِ وَالشَّرْطِ تُسْتَعْمَلُ ) فِيهِمَا وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ فِي نَصِيحَةِ ابْنِهِ : وَاسْتَغْنِ مَا أَغْنَاك رَبُّك بِالْغِنَى وَإِذَا تُصِبْك خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلْ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ إصَابَةَ الْخَصَاصَةِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَرَدِّدَةِ وَهِيَ لَيْسَتْ مَوْضِعَ إذَا فَكَانَتْ بِمَعْنَى إنْ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى جَانِبِ الظَّرْفِيَّةِ اكْتِفَاءً بِدَلِيلِهَا .
وَإِذَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهَا فِيهِمَا دَفْعَةً ( فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الشَّرْطُ لَمْ تَطْلُقْ فِي الْحَالِ ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْوَقْتُ طَلُقَتْ فَلَا تَطْلُقُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ لِأَنَّهُ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ لِلْوَقْتِ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا ، وَعَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ لِلشَّرْطِ يَخْرُجُ وَالْأَمْرُ صَارَ فِي يَدِهَا فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ ) وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْأَمْرَ صَارَ بِيَدِهَا بِقَوْلِهِ إذَا شِئْت فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُخْرِجًا لِلْأَمْرِ عَنْ يَدِهَا ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ عِلَّةً لِلضِّدَّيْنِ .
وَالْجَوَابُ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ فَلْيُطْلَبْ ثَمَّةَ .
( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ أُطَلِّقْك أَنْتِ طَالِقٌ فَهِيَ طَالِقٌ بِهَذِهِ التَّطْلِيقَةِ ) مَعْنَاهُ قَالَ ذَلِكَ مَوْصُولًا بِهِ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَقَعَ الْمُضَافُ فَيَقَعَانِ إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ وُجِدَ زَمَانٌ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهِ وَإِنْ قَلَّ وَهُوَ زَمَانُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْهَا .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ زَمَانَ الْبِرِّ مُسْتَثْنًى عَنْ الْيَمِينِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ لِأَنَّ الْبِرَّ هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَلَا يُمْكِنُهُ تَحْقِيقُ الْبِرِّ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْقَدْرَ مُسْتَثْنًى ، أَصْلُهُ مَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ فَاشْتَغَلَ بِالنَّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ وَأَخَوَاتُهُ عَلَى مَا يَأْتِيك فِي الْأَيْمَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .( وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ أُطَلِّقْك أَنْتِ طَالِقٌ ) وَاضِحٌ وَأَوَّلَهُ بِقَوْلِهِ ( مَوْصُولًا ) لِأَنَّهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ مَفْصُولًا وَقَعَتَا قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ وَاجِدٌ الزَّمَانَ الْخَالِيَ عَنْ التَّطْلِيقِ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَخَوَاتُهُ ) يُرِيدُ بِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ لَابِسُهُ وَلَا يَرْكَبُ هَذِهِ الدَّابَّةَ وَهُوَ رَاكِبُهَا فَنَزَعَهُ فِي الْحَالِ وَنَزَلَ عَنْهَا لَا يَحْنَثُ وَإِنْ كَانَ اللُّبْسُ الْقَلِيلُ وَالرُّكُوبُ الْقَلِيلُ يُوجَدَانِ وَقْتَ الِاشْتِغَالِ بِالنَّزْعِ وَالنُّزُولِ .
( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَةٍ : يَوْمَ أَتَزَوَّجُك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا لَيْلًا طَلُقَتْ ) لِأَنَّ الْيَوْمَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ بَيَاضُ النَّهَارِ فَيُحْمَلَ عَلَيْهِ وَإِذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ يَمْتَدُّ كَالصَّوْمِ وَالْأَمْرِ بِالْيَدِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمِعْيَارُ ، وَهَذَا أَلْيَقُ بِهِ ، وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمئِذٍ دُبُرَهُ } وَالْمُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ لَا يَمْتَدُّ وَالطَّلَاقُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَيَنْتَظِمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ .
وَلَوْ قَالَ : عَنَيْت بِهِ بَيَاضَ النَّهَارِ خَاصَّةً دِينَ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَاللَّيْلُ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا السَّوَادَ وَالنَّهَارُ يَتَنَاوَلُ الْبَيَاضَ خَاصَّةً وَهَذَا هُوَ اللُّغَةُ .
.
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَوْمَ أَتَزَوَّجُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ) هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ : النَّهَارُ وَاللَّيْلُ وَالْيَوْمُ ، أَمَّا النَّهَارُ فَلِلْبَيَاضِ خَاصَّةً ، وَأَمَّا اللَّيْلُ فَلِلسَّوَادِ خَاصَّةً وَذَلِكَ حَقِيقَتُهُمَا اللُّغَوِيَّةُ ، وَأَمَّا الْيَوْمُ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي بَيَاضِ النَّهَارِ وَمُطْلَقِ الْوَقْتِ بِالِاشْتِرَاكِ عِنْدَ بَعْضٍ ، وَالصَّحِيحُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِ أَنَّ إطْلَاقَهُ عَلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ مَجَازٌ لِأَنَّ حَمْلَ الْكَلَامِ عَلَى الْمَجَازِ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِرَاكِ لِعَدَمِ اخْتِلَالِ الْفَهْمِ بِوُجُودِ الْقَرِينَةِ ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَخْلُو مِنْ الظَّرْفِيَّةِ فَيُرَجَّحُ أَحَدُ مَعْنَيَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِمَا قُرِنَ بِهِ .
فَإِنْ كَانَ مُمْتَدًّا وَهُوَ مَا يَصِحُّ فِيهِ ضَرْبُ الْمُدَّةِ كَاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ وَالْمُسَاكَنَةِ وَغَيْرِهَا لِصِحَّةِ أَنْ يُقَالَ لَبِسْت يَوْمًا أَوْ رَكِبْت يَوْمًا أَوْ سَكَنْت يَوْمًا يُحْمَلُ عَلَى بَيَاضِ النَّهَارِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمِعْيَارُ ، وَهَذَا أَلْيَقُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ كَالْخُرُوجِ وَالدُّخُولِ وَالْقُدُومِ لِعَدَمِ صِحَّةِ تَقْدِيرِهَا بِزَمَانٍ ، إذْ لَا يُقَالُ خَرَجْت أَوْ قَدِمْت أَوْ دَخَلْت يَوْمًا يُحْمَلُ عَلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ اعْتِبَارًا لِلتَّنَاسُبِ بَيْنَ الظَّرْفِ وَالْمَظْرُوفِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ } ، الْآيَةَ وَالْمُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ لِأَنَّ الْفَارَّ مِنْ الزَّحْفِ يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا .
وَقَوْلُهُ .
( وَالطَّلَاقُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ) يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا لَيْسَ يَمْتَدُّ فَيَنْتَظِمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ اُعْتُبِرَ الْمَظْرُوفُ دُونَ الْمُضَافِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لِتَمَيُّزِ الْمُضَافِ بَيْنَ سَائِرِ الْأَيَّامِ .
وَلِهَذَا لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ عَبْدِي حُرٌّ وَامْرَأَتِي طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ وَأَمْرُك بِيَدِك أَوْ اخْتَارِي يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ يَعْتِقُ
عَبْدُهُ وَتَطْلُقُ امْرَأَتُهُ بِقُدُومِهِ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا لِعُمُومِ الْمَجَازِ ، وَلَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ وَالِاخْتِيَارُ بِيَدِهَا بِقُدُومِهِ لَيْلًا مَعَ اتِّحَادِ الْمُضَافِ إلَيْهِ فِيهِمَا لِامْتِدَادِ الْمَظْرُوفِ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، وَفِي اعْتِبَارِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْجَوَابُ بِالنَّظَرِ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الْمَظْرُوفُ وَالْمُضَافُ إلَيْهِ كِلَاهُمَا مِمَّا لَا يَمْتَدُّ كَقَوْلِهِ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَلِهَذَا لَمْ يَعْتَبِرْ كُلَّهُمْ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ فِيهِ كَمَسْأَلَةِ الِاخْتِيَارِ وَالْأَمْرِ بِالْيَدِ إلَّا الْمَظْرُوفَ .
فَإِنْ قِيلَ : اعْتَبَرَ الْمُصَنِّفُ الْمُضَافَ إلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ مَعَ اخْتِلَافِ الْجَوَابِ لِأَنَّ الْكَلَامَ مِمَّا يَمْتَدُّ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَهُ غَيْرُ مُمْتَدٍّ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ ، وَحِينَئِذٍ لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فَيَجُوزُ اعْتِبَارُهُ لِاسْتِقَامَةِ الْجَوَابِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ ( وَلَوْ قَالَ عَنَيْت بِهِ بَيَاضَ النَّهَارِ خَاصَّةً دُيِّنَ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ صِحَّةِ نِيَّةِ الْحَقِيقَةِ مَعَ اسْتِغْنَائِهَا عَنْهَا
( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنَا مِنْك طَالِقٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا ، وَلَوْ قَالَ : أَنَا مِنْك بَائِنٌ أَوْ أَنَا عَلَيْك حَرَامٌ يَنْوِي الطَّلَاقَ فَهِيَ طَالِقٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيْضًا إذَا نَوَى ) لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى مَلَكَتْ هِيَ الْمُطَالَبَةَ بِالْوَطْءِ كَمَا يَمْلِكُ هُوَ الْمُطَالَبَةَ بِالتَّمْكِينِ ، وَكَذَا الْحِلُّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَالطَّلَاقُ وُضِعَ لِإِزَالَتِهِمَا فَيَصِحَّ مُضَافًا إلَيْهِ كَمَا صَحَّ مُضَافًا كَمَا فِي الْإِبَانَةِ وَالتَّحْرِيمِ .
وَلَنَا أَنَّ الطَّلَاقَ لِإِزَالَةِ الْقَيْدِ وَهُوَ فِيهَا دُونَ الزَّوْجِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا هِيَ الْمَمْنُوعَةُ عَنْ التَّزَوُّجِ وَالْخُرُوجِ وَلَوْ كَانَ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ فَهُوَ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ وَالزَّوْجَ مَالِكٌ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ مَنْكُوحَةً بِخِلَافِ الْإِبَانَةِ لِأَنَّهَا لِإِزَالَةِ الْوَصْلَةِ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ التَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ لِإِزَالَةِ الْحِلِّ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَصَحَّتْ إضَافَتُهُمَا إلَيْهِمَا وَلَا تَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَّا إلَيْهَا .
فَصْلٌ ) لَمَّا كَانَتْ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى النِّسَاءِ مُخَالِفَةً لِإِضَافَتِهِ إلَى الرِّجَالِ ذَكَرَهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ وَذَكَرَ فِيهِ مَسَائِلَ أُخَرَ مُتَنَوِّعَةً وَكَانَ حَقُّهَا أَنْ تُذْكَرَ فِي مَسَائِلَ شَتَّى ( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنَا مِنْك طَالِقٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا ، وَلَوْ قَالَ أَنَا مِنْك بَائِنٌ أَوْ عَلَيْك حَرَامٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ طَلُقَتْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيْضًا إذَا نَوَى ) لِأَنَّ الطَّلَاقَ وُضِعَ لِإِزَالَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَالْحِلِّ الْمُشْتَرَكَيْنِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، فَإِنَّ الْحِلَّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ لَمَّا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهَا تَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِالْوَطْءِ كَمَا أَنَّهُ يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِالتَّمْكِينِ وَلِأَنَّهُمَا يُسَمَّيَانِ مُتَنَاكِحَيْنِ وَيَذْكُرُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ( وَالطَّلَاقُ وُضِعَ لِرَفْعِ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ ) وَكُلُّ مَا وُضِعَ لِذَلِكَ صَحَّ مُضَافًا إلَيْهِ كَمَا فِي الْإِبَانَةِ وَالتَّحْرِيمِ .
وَقُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الطَّلَاقَ وُضِعَ لِإِزَالَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَالْحِلِّ الْمُشْتَرَكَيْنِ بَلْ وُضِعَ لِإِزَالَةِ الْقَيْدِ وَهُوَ فِيهَا دُونَ الزَّوْجِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا الْمَمْنُوعَةُ عَنْ التَّزَوُّجِ وَالْبُرُوزِ .
سَلَّمْنَا أَنَّهُ وُضِعَ لِذَلِكَ لَكِنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَهُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ وَالزَّوْجُ مَالِكٌ ، وَهَذَا لِأَنَّهَا تَمْلِكُ بِالنِّكَاحِ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ فِي مُقَابَلَةِ النِّكَاحِ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ ( قَوْلُهُ وَلِهَذَا ) أَيْ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ ( سُمِّيَتْ مَنْكُوحَةً ) أَيْ وَارِدًا عَلَيْهَا مِلْكُ النِّكَاحِ ( بِخِلَافِ الْإِبَانَةِ لِأَنَّهَا لِإِزَالَةِ الْوَصْلَةِ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ ، وَبِخِلَافِ التَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ لِإِزَالَةِ الْحِلِّ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ فَصَحَّ إضَافَتُهُمَا إلَى الزَّوْجَيْنِ ، وَلَا يَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَّا إلَيْهَا ) قِيلَ لَوْ كَانَ الزَّوْجَانِ فِي الْإِبَانَةِ
وَالْحِلِّ مُشْتَرَكَيْنِ لَاتَّحَدَا فِي حَقِّ إضَافَةِ الْإِبَانَةِ وَالْحُرْمَةِ إلَيْهِمَا وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَكَذَا الْمَلْزُومُ ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ وَقَعَ ، وَلَوْ قَالَ أَنَا بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ مَا لَمْ يَقُلْ مِنْك أَوْ عَلَيْك .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ لَمْ يَنْشَأْ مِنْ عَدَمِ الِاشْتِرَاكِ بَلْ مِنْ حَيْثُ تَعَدُّدُ الْمِلْكِ وَالْحِلِّ مِنْ جِهَتِهِ دُونَهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا مِلْكٌ غَيْرُهُ وَلَا تَحِلُّ عَلَى غَيْرِهِ مَا دَامَتْ فِي عِصْمَتِهِ فَكَانَتْ الْجِهَةُ مُتَعَيِّنَةً فَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ وَأَمَّا الزَّوْجُ فَلَهُ مِلْكٌ عَلَى غَيْرِهَا وَيَحِلُّ عَلَى غَيْرِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ فِي عِصْمَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مِنْك أَوْ عَلَيْك تَعْيِينًا لِلْجِهَةِ .
( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ لَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ) .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا .
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا تَطْلُقُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً ، ذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِيمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ لَا شَيْءَ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ .
وَلَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا قَوْلَ الْكُلِّ فَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ ، لَهُ أَنَّهُ أَدْخَلَ الشَّكَّ فِي الْوَاحِدَةِ لِدُخُولِ كَلِمَةِ " أَوْ " بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّفْيِ فَيَسْقُطَ اعْتِبَارُ الْوَاحِدَةِ وَيَبْقَى قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَوَّلًا لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الشَّكَّ فِي أَصْلِ الْإِيقَاعِ فَلَا يَقَعُ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْوَصْفَ مَتَى قُرِنَ بِالْعَدَدِ كَانَ الْوُقُوعُ بِذِكْرِ الْعَدَدِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا تَطْلُقُ ثَلَاثًا ، وَلَوْ كَانَ الْوُقُوعُ بِالْوَصْفِ لَلَغَا ذِكْرُ الثَّلَاثِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاقِعَ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ الْمَنْعُوتُ الْمَحْذُوفُ مَعْنَاهُ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً عَلَى مَا مَرَّ ، وَإِذَا كَانَ الْوَاقِعُ مَا كَانَ الْعَدَدُ نَعْتًا لَهُ كَانَ الشَّكُّ دَاخِلًا فِي أَصْلِ الْإِيقَاعِ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ لَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ ( وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ ) يَعْنِي بَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ لَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ لَا شَيْءَ فِي حَقِّ التَّشْكِيكِ فِي الْإِيقَاعِ أَوْ فِي حَقِّ الْوَضْعِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا ) أَيْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( قَوْلَ الْكُلِّ فَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِي وَضْعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ فَكَانَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا لَا يَقَعُ شَيْءٌ .
ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ فِي طَلَاقِ الْمَبْسُوطِ بِأَنَّ عِنْدَهُ تَطْلُقُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ لَا شَيْءَ وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ وُرُودَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ .
وَقَوْلَةُ ( لَهُ ) أَيْ لِمُحَمَّدٍ ( أَنَّهُ أَدْخَلَ الشَّكَّ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَهُمَا ) أَيْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ( أَنَّ الْوَصْفَ ) يَعْنِي : أَنْتِ طَالِقٌ ( مَتَى قُرِنَ بِالْعَدَدِ ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ( كَانَ الْوُقُوعُ بِذِكْرِ الْعَدَدِ ) وَأَطْلَقَ الْعَدَدَ عَلَى الْوَاحِدِ مَجَازًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَصْلُ الْعَدَدِ ، وَمَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ الْوَصْفَ مَتَى قُرِنَ بِالْعَدَدِ كَانَ الْكُلُّ كَلَامًا وَاحِدًا فِي الْإِيقَاعِ ، فَحِينَئِذٍ كَانَ الشَّكُّ الدَّاخِلُ فِي الْوَاحِدَةِ دَاخِلًا فِي الْإِيقَاعِ فَكَانَ نَظِيرَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ لَا ، وَهُنَاكَ لَا يَقَعُ شَيْءٌ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَاسْتَوْضَحَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( أَلَا تَرَى ) وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا مَرَّ ) أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ كَانَ الْوُقُوعُ بِذِكْرِ الْعَدَدِ .
( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ مَوْتِي أَوْ مَعَ مَوْتِك فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لَهُ لِأَنَّ مَوْتَهُ يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ وَمَوْتَهَا يُنَافِي الْمَحَلِّيَّةَ وَلَا بُدَّ مِنْهُمَا .
( وَإِذَا مَلَكَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ أَوْ شِقْصًا مِنْهَا أَوْ مَلَكَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا أَوْ شِقْصًا مِنْهُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ ) لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ .
أَمَّا مِلْكُهَا إيَّاهُ فَلِلِاجْتِمَاعِ بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّة ، وَأَمَّا مِلْكُهُ إيَّاهَا فَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ ضَرُورِيٌّ وَلَا ضَرُورَةَ مَعَ قِيَامِ مِلْكِ الْيَمِينِ فَيَنْتَفِيَ النِّكَاحُ ( وَلَوْ اشْتَرَاهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ ) لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَسْتَدْعِي قِيَامَ النِّكَاحِ ، وَلَا بَقَاءَ لَهُ مَعَ الْمُنَافِي لَا مِنْ وَجْهٍ وَلَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَكَذَا إذَا مَلَكَتْهُ أَوْ شِقْصًا مِنْهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْمُنَافَاةِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَقَعُ لِأَنَّ الْعِدَّةَ وَاجِبَةٌ .
بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ هُنَاكَ حَتَّى حَلَّ وَطْؤُهَا لَهُ .
( وَقَوْلُهُ فَلِلِاجْتِمَاعِ بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّة ) قَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ مُسْتَوْفًى ، وَقَوْلُهُ ( فَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ ضَرُورِيٌّ ) بَيَانُهُ أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ إثْبَاتُ الْمِلْكِ عَلَى الْحُرَّةِ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ ضَرُورِيٌّ ، فَإِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْحِلُّ الْقَوِيُّ وَهُوَ مِلْكُ الْيَمِينِ يَنْفِي الْحِلَّ الضَّرُورِيَّ لِضَعْفِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مُسَلَّمٌ فِيمَا إذَا مَلَكَ الزَّوْجُ جَمِيعَ مَنْكُوحَتِهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ .
فَأَمَّا إذَا مَلَكَ شِقْصًا مِنْهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْتَفِيَ الْحِلُّ الثَّابِتُ بَيْنَهُمَا بِالنِّكَاحِ لِأَنَّهُ لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ لَا حِلٌّ قَوِيٌّ وَلَا ضَعِيفٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ دَلِيلُ الْحِلِّ فَقَامَ مَقَامَهُ تَيْسِيرًا ( وَلَوْ اشْتَرَاهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَسْتَدْعِي قِيَامَ النِّكَاحِ وَلَا بَقَاءَ لَهُ مَعَ الْمُنَافِي لَا مِنْ وَجْهٍ ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الْعِدَّةُ لِأَنَّهَا أَثَرٌ مِنْ آثَارِهِ فَلَا يَجِبُ مَعَ وُجُودِ الْمُنَافِي وَإِلَّا لَكَانَ مِلْكُ النِّكَاحِ بَاقِيًا مِنْ وَجْهٍ ( وَلَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ مِلْكُ النِّكَاحِ ، وَعَلَى هَذَا كَانَ قَوْلُهُ لَا مِنْ وَجْهٍ وَلَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ وَلَا بَقَاءَ .
وَقِيلَ لَا مِنْ وَجْهٍ : يَعْنِي إذَا مَلَكَ الشِّقْصَ وَلَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ : يَعْنِي إذَا مَلَكَ الْجَمِيعَ ، وَعَلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ مَعَ الْمُنَافِي .
وَقَوْلُهُ ( لَا عِدَّةَ هُنَاكَ ) يَعْنِي فِي حَقِّ مَوْلَاهَا الَّذِي كَانَ زَوْجَهَا : أَيْ لَا يَظْهَرُ أَثَرُ عِدَّتِهَا بِدَلِيلِ حِلِّ وَطْئِهَا .
وَأَمَّا الْعِدَّةُ فِي نَفْسِهَا فَوَاجِبَةٌ ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِآخَرَ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا
( وَلَوْ قَالَ لَهَا وَهِيَ أَمَةٌ لِغَيْرِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ مَعَ عِتْقِ مَوْلَاك إيَّاكَ فَأَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا مَلَكَ الزَّوْجُ الرَّجْعَةَ ) لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّطْلِيقَ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الْعِتْقِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَنْتَظِمُهُمَا وَالشَّرْطُ مَا يَكُونُ مَعْدُومًا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ وَلِلْحُكْمِ تَعَلُّقٌ بِهِ وَالْمَذْكُورُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَالْمُعَلَّقُ بِهِ التَّطْلِيقُ لِأَنَّ فِي التَّعْلِيقَاتِ يَصِيرُ التَّصَرُّفُ تَطْلِيقًا عِنْدَ الشَّرْطِ عِنْدَنَا ، وَإِذَا كَانَ التَّطْلِيقُ مُعَلَّقًا بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الْعِتْقِ يُوجَدُ بَعْدَهُ ثُمَّ الطَّلَاقُ يُوجَدُ بَعْدَ التَّطْلِيقِ فَيَكُونَ الطَّلَاقُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعِتْقِ فَيُصَادِفَهَا وَهِيَ حُرَّةً فَلَا تَحْرُمُ حُرْمَةً غَلِيظَةً بِالثِّنْتَيْنِ .
بَقِيَ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلْقِرَانِ .
قُلْنَا : قَدْ تُذْكَرُ لِلتَّأَخُّرِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا .
إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } فَتُحْمَلَ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ .
قَالَ ( وَإِذَا قَالَ لَهَا وَهِيَ أَمَةٌ لِغَيْرِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ مَعَ عِتْقِ مَوْلَاك إيَّاكِ فَأَعْتَقَهَا مَلَكَ الزَّوْجُ الرَّجْعَةَ لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّطْلِيقَ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الْعِتْقِ ) وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ أَنَّهُ تَعْلِيقٌ مَعَ عَدَمِ شَيْءٍ مِنْ أَدَاتِهِ وَأَنَّهُ تَعْلِيقُ التَّطْلِيقِ الْمَذْكُورِ دُونَ الطَّلَاقِ وَأَنَّهُ تَعْلِيقُ التَّطْلِيقِ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الْعِتْقِ .
أَمَّا أَنَّهُ تَعْلِيقٌ فَلِمَا بَيَّنَّهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَالشَّرْطُ مَا يَكُونُ مَعْدُومًا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ وَلِلْحُكْمِ تَعَلُّقٌ بِهِ وَالْمَذْكُورُ : يَعْنِي بِقَوْلِهِ مَعَ عِتْقِ مَوْلَاك إيَّاكِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْ الْمَوْلَى أَمْرٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَالْحُكْمُ وَهُوَ الطَّلَاقُ تَعَلَّقَ بِهِ فَكَانَ الْعِتْقُ شَرْطًا وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ مَشْرُوطًا .
وَأَمَّا أَنَّهُ تَعْلِيقُ التَّطْلِيقِ فَلِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرْءِ إنَّمَا يَنْفُذُ فِيمَا يَمْلِكُهُ وَهُوَ التَّطْلِيقُ دُونَ الطَّلَاقِ لِكَوْنِهِ أَمْرًا شَرْعِيًّا لَيْسَ دَاخِلًا تَحْتَ قُدْرَتِهِ ، وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَالْمُعَلَّقُ بِهِ التَّطْلِيقُ لِأَنَّ فِي التَّعْلِيقَاتِ يَصِيرُ التَّصَرُّفُ تَطْلِيقًا عِنْدَ الشَّرْطِ عِنْدَنَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ عِنْدَنَا يَمْنَعُ عِلِّيَّةَ الْعِلَّةِ إلَى زَمَانِ وُجُودِهِ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ .
وَأَمَّا أَنَّهُ تَعْلِيقُ التَّطْلِيقِ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الْعِتْقِ فَلِمَا قَالَ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَنْتَظِمُهُمَا : أَيْ يَتَنَاوَلُهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ .
أَمَّا الْإِعْتَاقُ فَعَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ لِمَا أَنَّ الْعِتْقَ لَمَّا لَمْ يُتَصَوَّرْ فِي غَيْرِ الْقَرِيبِ إلَّا بِالْإِعْتَاقِ كَانَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْحُكْمِ وَإِرَادَةِ عِلَّتِهِ .
وَأَمَّا الْعِتْقُ فَعَلَى طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ الْمَلْفُوظُ فَثَبَتَ أَنَّهُ عَلَّقَ التَّطْلِيقَ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الْعِتْقِ ، وَإِذَا كَانَ التَّطْلِيقُ مُعَلَّقًا بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الْعِتْقِ يُوجَدُ بَعْدَهُ لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَعْقُبُ الشَّرْطَ ، ثُمَّ الطَّلَاقُ
يُوجَدُ بَعْدَ التَّطْلِيقِ بَعْدِيَّةً ذَاتِيَّةً لِكَوْنِهِ حُكْمَهُ فَيَكُونُ الطَّلَاقُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعِتْقِ فَيُصَادِفُهَا وَهِيَ حُرَّةٌ فَلَمْ تَحْرُمْ بِالثِّنْتَيْنِ حُرْمَةً غَلِيظَةً .
بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلْمُقَارَنَةِ فَيَكُونُ مُنَافِيًا لِمَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ .
وَأَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ قُلْنَا قَدْ تُذْكَرُ لِلتَّأَخُّرِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } فَتُحْمَلُ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ الْكَلَامِ .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ مَعَ عِتْقِ مَوْلَاك إيَّاكِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِمَعْنَى الْإِعْتَاقِ فَمَا وَجْهُ الشِّقِّ الثَّانِي مِنْ التَّرْدِيدِ ؟ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْرِيرِ يَجِبُ أَنْ يَقَعَ طَلَاقُ مَنْ قِيلَ لَهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ نِكَاحِك لِأَنَّهُ يَكُونُ بِمَعْنَى إنْ نَكَحْتُك لَكِنْ لَا يَقَعُ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ وَجْهَهُ النَّظَرُ إلَى لَفْظَةِ الْعِتْقِ لِيَتَبَيَّنَ أَثَرُهُ فِيمَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ عِتْقِك فِي عَدَمِ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْعُدُولَ عَنْ مَعْنَى الْقِرَانِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ " مَعَ " إنَّمَا كَانَ ضَرُورَةَ صِيَانَةِ كَلَامِ مَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي ذَلِكَ تَنْجِيزًا أَوْ تَعْلِيقًا مُطْلَقًا .
وَفِيمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّنْجِيزَ وَلَا التَّعْلِيقَ إلَّا بِالنِّكَاحِ بِصَرِيحِ الشَّرْطِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِيَانَةِ كَلَامِ الْقَادِرِ مُطْلَقًا صِيَانَةُ كَلَامِ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ .
( وَلَوْ قَالَ : إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ وَقَالَ الْمَوْلَى : إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَجَاءَ الْغَدُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : زَوْجُهَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ) عَلَيْهَا ، لِأَنَّ الزَّوْجَ قَرَنَ الْإِيقَاعَ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى حَيْثُ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الْمَوْلَى الْعِتْقَ ، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ الْمُعَلَّقُ سَبَبًا عِنْدَ الشَّرْطِ وَالْعِتْقُ يُقَارِنُ الْإِعْتَاقَ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ أَصْلُهُ الِاسْتِطَاعَةُ مَعَ الْفِعْلِ فَيَكُونَ التَّطْلِيقُ مُقَارِنًا لِلْعِتْقِ ضَرُورَةً فَتَطْلُقُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَصَارَ كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِهَذَا تُقَدَّرُ عِدَّتُهَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَا عَلَّقَ بِهِ الْمَوْلَى الْعِتْقَ ثُمَّ الْعِتْقُ يُصَادِفُهَا وَهِيَ أَمَةٌ فَكَذَا الطَّلَاقُ وَالطَّلْقَتَانِ تُحَرِّمَانِ الْأَمَةَ حُرْمَةً غَلِيظَةً ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّطْلِيقَ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى فَيَقَعَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الْعِتْقِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ ، وَبِخِلَافِ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ ، وَكَذَا الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ يُؤْخَذُ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ ، وَلَا وَجْهَ إلَى مَا قَالَ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَوْ كَانَ يُقَارِنُ الْإِعْتَاقَ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ فَالطَّلَاقُ يُقَارِنُ التَّطْلِيقَ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ فَيَقْتَرِنَانِ .
( وَإِذَا قَالَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ وَقَالَ الْمَوْلَى إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَجَاءَ الْغَدُ ) حُرِّمَتْ حُرْمَةً غَلِيظَةً ( لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : زَوْجُهَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ) كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ دَلِيلَ مُحَمَّدٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَا يَقْبَلُ الْإِصْلَاحَ بِالْعِنَايَةِ ، وَأَنَا أَذْكُرُهُ بِتَوْضِيحٍ تَبَعًا لِلْمُصَنِّفِ .
قَالَ ( لِأَنَّ الزَّوْجَ قَرَنَ الْإِيقَاعَ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى ) مَعْنًى يَعْنِي عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيقِ ( حَيْثُ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الْمَوْلَى ) فَكَانَا مُقْتَرِنَيْنِ فِي ذَلِكَ الشَّرْطِ وَهُوَ مَجِيءُ الْغَدِ ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ إنَّمَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا عِنْدَ الشَّرْطِ فَكَانَا مُقْتَرِنَيْنِ فِي السَّبَبِيَّةِ لِحُكْمِهِمَا أَيْضًا ( وَالْعِتْقُ يُقَارِنُ الْإِعْتَاقَ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ ) وَالْحُكْمُ لَا يَتَأَخَّرُ زَمَانًا عَنْ الْعِلَّةِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ سَوَاءٌ كَانَتْ الْعِلَّةُ شَرْعِيَّةً أَوْ عَقْلِيَّةً ( أَصْلُهُ الِاسْتِطَاعَةُ مَعَ الْفِعْلِ ) كَمَا عُرِفَ ( فَيَكُونُ التَّطْلِيقُ مُقَارِنًا لِلْعِتْقِ ) لِأَنَّ التَّطْلِيقَ مُقَارِنٌ لِلْإِعْتَاقِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَالْإِعْتَاقَ مُقَارِنٌ لِلْعِتْقِ وَالطَّلَاقَ يُقَارِنُ الْعِتْقَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عِلَّتُهُ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهَا فَالتَّطْلِيقُ يُقَارِنُ الْعِتْقَ ، وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ .
وَقَوْلُهُ فَتَطْلُقُ بَعْدَ الْعِتْقِ ) فَاسِدٌ لِأَنَّ الطَّلَاقَ حُكْمُ التَّطْلِيقِ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ وَالتَّطْلِيقُ يُقَارِنُ الْإِعْتَاقَ وَالْإِعْتَاقُ يُقَارِنُ الْعِتْقَ فَالطَّلَاقُ يُقَارِنُ الْعِتْقَ ، فَإِنَّ الْمُقَارِنَ لِلْمُقَارِنِ لِلشَّيْءِ مُقَارِنٌ لِذَلِكَ الشَّيْءِ فَكَيْفَ يَقَعُ بَعْدَهُ .
فَإِذَا كَانَ الْعِلَّتَانِ وَالْمَعْلُولَانِ مَعًا ، فَكَمَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَهَا وَهِيَ أَمَةٌ فَكَذَلِكَ التَّطْلِيقُ وَالطَّلْقَتَانِ تُحَرِّمَانِ الْأَمَهَ حُرْمَةً
غَلِيظَةً ، وَظَهَرَ مِنْ هَذَا جَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ ، وَقَدْ ذَكَرَ لِمُحَمَّدٍ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ حُرَّةٌ أَوْجَزُ مِنْ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ وَهُمَا : أَيْ الْإِعْتَاقُ وَالتَّطْلِيقُ يُوجَدَانِ بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فَيَتَقَدَّمُ أَوْجَزُهُمَا فِي الْوُجُودِ وَهُوَ قَوْلُهُ أَنْتِ حُرَّةٌ فَيُصَادِفُهَا التَّطْلِيقَتَانِ وَهِيَ حُرَّةٌ فَيَمْلِكُ الرَّجْعَةَ عَلَيْهَا وَهَذَا قَرِيبٌ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ فَيَتَقَدَّمُ أَوْجَزُهُمَا .
( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا يُشِيرُ بِالْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى فَهِيَ ثَلَاثٌ ) لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْأَصَابِعِ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْعَدَدِ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ إذَا اقْتَرَنَتْ بِالْعَدَدِ الْمُبْهَمِ ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا } الْحَدِيثَ ، وَإِنْ أَشَارَ بِوَاحِدَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ أَشَارَ بِثِنْتَيْنِ فَهِيَ ثِنْتَانِ لِمَا قُلْنَا ، وَالْإِشَارَةُ تَقَعُ بِالْمَنْشُورَةِ مِنْهَا ، وَقِيلَ : إذَا أَشَارَ بِظُهُورِهَا فَبِالْمَضْمُومَةِ مِنْهَا ، وَإِذَا كَانَ تَقَعُ الْإِشَارَةُ بِالْمَنْشُورَةِ مِنْهَا فَلَوْ نَوَى الْإِشَارَةَ بِالْمَضْمُومَتَيْنِ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً ، وَكَذَا إذَا نَوَى الْإِشَارَةَ بِالْكَفِّ حَتَّى يَقَعَ فِي الْأُولَى ثِنْتَانِ دِيَانَةً ، وَفِي الثَّانِيَةِ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ هَكَذَا تَقَعُ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْعَدَدِ الْمُبْهَمِ فَبَقِيَ الِاعْتِبَارُ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ
( فَصْلٌ فِي تَشْبِيهِ الطَّلَاقِ وَوَصْفِهِ ) ذَكَرَ وَصْفَ الطَّلَاقِ بَعْدَ ذِكْرِ أَصْلِهِ وَتَنْوِيعِهِ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ لِكَوْنِهِ تَابِعًا ( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا يُشِيرُ بِالْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى فَهِيَ ثَلَاثٌ ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْأُصْبُعِ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْعَدَدِ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ إذَا قُرِنَتْ بِالْعَدَدِ الْمُبْهَمِ ) لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ( قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَخَنَّسَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ } " : يَعْنِي أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، وَمَعْنَى خَنَّسَ قَبَضَ ( فَإِنْ أَشَارَ بِوَاحِدَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ أَشَارَ بِثِنْتَيْنِ فَهِيَ ثِنْتَانِ ) وَقَدْ طَعَنَ بَعْضُ الْجُهَّالِ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِهِ بِالسَّبَّابَةِ بِأَنَّهُ اسْمٌ جَاهِلِيٌّ وَالِاسْمُ الشَّرْعِيُّ الْمُسَبِّحَةُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ السَّبَّابَةُ ، رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ " { أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : كَيْفَ الطَّهُورُ ؟ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ، فَأَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ أُذُنَيْهِ فَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَ أُذُنَيْهِ وَبِالسِّبَابَتَيْنِ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ } " رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْأَصَابِعِ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْعَدَدِ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ إذَا اقْتَرَنَتْ بِالْعَدَدِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْإِشَارَةُ تَقَعُ بِالْمَنْشُورَةِ مِنْهَا ) ظَاهِرٌ .
( وَإِذَا وَصَفَ الطَّلَاقَ بِضَرْبٍ مِنْ الشِّدَّةِ أَوْ الزِّيَادَةِ كَانَ بَائِنًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ أَوْ أَلْبَتَّةَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَقَعُ رَجْعِيًّا إذَا كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ شُرِعَ مُعْقِبًا لِلرَّجْعَةِ فَكَانَ وَصْفُهُ بِالْبَيْنُونَةِ خِلَافَ الْمَشْرُوعِ فَيَلْغُو كَمَا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ لَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْك .
وَلَنَا أَنَّهُ وَصَفَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْنُونَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَبَعْدَ الْعِدَّةِ تَحْصُلُ بِهِ فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ لِتَعْيِينِ أَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ ، وَمَسْأَلَةُ الرَّجْعَةِ مَمْنُوعَةٌ فَتَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى الثِّنْتَيْنِ .
أَمَّا إذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ ، وَلَوْ عَنَى بِقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبِقَوْلِهِ بَائِنٌ أَوْ أَلْبَتَّةَ أُخْرَى تَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ بَائِنَتَانِ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يَصْلُحُ لِابْتِدَاءِ الْإِيقَاعِ ( وَكَذَا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَفْحَشَ الطَّلَاقِ ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يُوصَفُ بِهَذَا الْوَصْفِ بِاعْتِبَارِ أَثَرِهِ وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ فِي الْحَالِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ بَائِنٌ ، وَكَذَا إذَا قَالَ أَخْبَثَ الطَّلَاقِ ( أَوْ أَسْوَأَهُ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَكَذَا إذَا قَالَ طَلَاقَ الشَّيْطَانِ أَوْ طَلَاقَ الْبِدْعَةِ ) لِأَنَّ الرَّجْعِيَّ هُوَ السُّنِّيُّ فَيَكُونُ قَوْلُهُ : الْبِدْعَةَ وَطَلَاقَ الشَّيْطَانِ بَائِنًا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بَائِنًا إلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ حَيْثُ الْإِيقَاعُ فِي حَالَةِ حَيْضٍ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ أَوْ طَلَاقَ الشَّيْطَانِ يَكُونُ رَجْعِيًّا لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ قَدْ يَتَحَقَّقُ بِالطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ ( وَكَذَا إذَا قَالَ : كَالْجَبَلِ ) لِأَنَّ التَّشْبِيهَ بِهِ يُوجِبُ زِيَادَةً لَا مَحَالَةَ وَذَلِكَ
بِإِثْبَاتِ زِيَادَةِ الْوَصْفِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ : مِثْلَ الْجَبَلِ لِمَا قُلْنَا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَكُونُ رَجْعِيًّا لِأَنَّ الْجَبَلَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَكَانَ تَشْبِيهًا بِهِ فِي تَوَحُّدِهِ
وَقَوْلُهُ ( وَلَنَا أَنَّهُ وَصَفَهُ ) أَيْ وَصَفَ الطَّلَاقَ ( بِمَا يَحْتَمِلُهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْنُونَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ الْعِدَّةِ تَحْصُلُ بِهِ ) وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مُحْتَمَلَاتِهِ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ ( فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ لِتَعْيِينِ أَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ ) .
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُحْتَمِلًا لَهَا لَجَازَ نِيَّتُهَا فَيَقَعُ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَائِنَةً إذَا نَوَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَعْمَلُ إذَا لَمْ تَكُنْ مُغَيِّرَةً لِلْمَشْرُوعِ ، وَنِيَّةُ الْبَائِنِ مِنْ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ تُغَيِّرُ الْمَشْرُوعَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ شُرِعَ مُعَقِّبًا لِلرَّجْعَةِ .
وَرُدَّ بِأَنَّهُ تَسْلِيمٌ لِدَلِيلِ الْخَصْمِ وَمُحْوِجٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ عَدَمِ جَوَازِ كَوْنِ النِّيَّةِ مُغَيِّرَةً وَجَوَازِ كَوْنِ الْوَصْفِ مُغَيِّرًا لِلْمَشْرُوعِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْوَصْفَ الْمَلْفُوظَ أَقْوَى فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ مِنْ النِّيَّةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ تَطْلِيقٌ اعْتَبَرَ الشَّرْعُ ذَلِكَ طَلَاقًا وَغَيَّرَ بِهِ مَشْرُوعًا وَهُوَ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْكَذِبِ ، وَلَوْ نَوَى طَلَاقًا وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِلَفْظٍ لَمْ يُعْتَبَرْ طَلَاقًا لِئَلَّا يَتَغَيَّرَ الْمَشْرُوعُ وَهُوَ شَرْعِيَّةُ الْوُقُوعِ بِأَلْفَاظِ الطَّلَاقِ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَسْأَلَةُ الرَّجْعَةِ مَمْنُوعَةٌ ) أَيْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بَائِنًا بَلْ تَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ، وَلَئِنْ سُلِّمَ فَالْفَرْقُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ أَنْ لَا رَجْعَةَ تَصْرِيحًا بِنَفْيِ الْمَشْرُوعِ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا وَصَفَهُ بِالْبَيْنُونَةِ وَلَمْ يَنْفِ الرَّجْعَةَ صَرِيحًا فَيَلْزَمُ مِنْهَا نَفْيُ الرَّجْعَةِ ضِمْنًا ، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ قَصْدًا ، كَذَا أَفَادَهُ شَيْخُ شَيْخِي الْعَلَّامَةُ .
وَقَوْلُهُ ( فَتَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ) يَعْنِي فِيمَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ ( إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى الثِّنْتَيْنِ ، أَمَّا إذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ لِمَا
مَرَّ مِنْ قَبْلُ ) أَيْ فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ وَنَحْنُ نَقُولُ نِيَّةُ الثَّلَاثِ إنَّمَا صَحَّتْ لِكَوْنِهَا جِنْسًا .
وَقَوْلُهُ ( تَطْلِيقَتَانِ بَائِنَتَانِ ) يَعْنِي عِنْدَنَا .
وَقِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ تَطْلِيقَتَانِ رَجْعِيَّتَانِ .
وَقَوْلُهُ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ ) يَعْنِي قَوْلَهُ بَائِنٌ أَوْ أَلْبَتَّةَ يَصْلُحُ لِابْتِدَاءِ الْإِيقَاعِ بِأَنْ كَانَ يَقُولُ أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ أَلْبَتَّةَ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ ، وَكَذَا إذَا نَوَى بِبَتِّهِ تَطْلِيقَةً أُخْرَى وَيَكُونُ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ فَكَانَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ بَائِنٌ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا رَجْعِيًّا عَمَلًا بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا أَنَّا جَعَلْنَاهُ بَائِنًا لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ لِأَنَّ الثَّانِيَ يَكُونُ بَائِنًا لَا مَحَالَةَ عِنْدَنَا فَيَكُونُ الْأَوَّلُ كَذَلِكَ ضَرُورَةً إذْ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْأَوَّلِ رَجْعِيًّا إذَا صَارَ الثَّانِي بَائِنًا ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْأَوَّلَ يَقَعُ رَجْعِيًّا ابْتِدَاءً فَيَنْقَلِبُ بَائِنًا بِوُقُوعِ الثَّانِي بَائِنًا لِعَدَمِ تَصَوُّرِ بَقَائِهِ رَجْعِيًّا .
وَهَذَا صَحِيحٌ ظَاهِرٌ ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْأَوَّلَ يَقَعُ رَجْعِيًّا .
فَإِنْ أَرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا كَلَامَ فِيهِ ، وَإِنْ أَرَادَ بَقَاءَهُ رَجْعِيًّا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَفْحَشَ الطَّلَاقِ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ فِي الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ فَتَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى الثِّنْتَيْنِ .
وَلَوْ نَوَى الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ ، وَلَوْ نَوَى بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبِقَوْلِهِ أَفْحَشَ الطَّلَاقِ وَاحِدَةً أُخْرَى يَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ : وَكَذَا الْجَوَابُ فِي قَوْلِهِ أَخْبَثَ الطَّلَاقِ أَوْ أَشَرَّهُ أَوْ أَشَدَّهُ أَوْ أَكْبَرَهُ أَوْ أَسْوَأَهُ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا يُوصَفُ بِهَذَا الْوَصْفِ بِاعْتِبَارِ أَثَرِهِ وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ فِي الْحَالِ لَا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَحْسُوسٍ .
وَمَا هُوَ غَيْرُ
مَحْسُوسٍ فَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِأَثَرِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ بَائِنٌ .
فَإِنْ قِيلَ : أَفْحَشُ وَأَشَدُّ وَنَحْوُهُمَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ فَيَقْتَضِي فَاحِشًا وَأَفْحَشَ ، وَالْفَاحِشُ هُوَ الْبَائِنُ .
وَالْأَفْحَشُ مِنْهُ هُوَ الثَّلَاثُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَقَعَ الثَّلَاثُ بِهِ وَنَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ أَفْعَلَ قَدْ يَكُونُ لِإِثْبَاتِ أَصْلِ الْوَصْفِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ كَقَوْلِهِ : النَّاقِصُ وَالْأَشَجُّ أَعْدَلَا بَنِي مَرْوَانَ وَهُوَ مَشْهُورٌ سُمِّيَ لِلْإِضَافَةِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ ، وَذَكَرَ الْأَصْلَ الَّذِي يُبْتَنَى عَلَيْهِ أَقْوَالُهُمْ وَهُوَ أَيْضًا وَاضِحٌ .
.
( وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ أَشَدَّ الطَّلَاقِ أَوْ كَأَلْفٍ أَوْ مِلْءَ الْبَيْتِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ثَلَاثًا ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِالشِّدَّةِ وَهُوَ الْبَائِنُ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ وَالِارْتِفَاضَ ، أَمَّا الرَّجْعِيُّ فَيَحْتَمِلُهُ ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لِذِكْرِهِ الْمَصْدَرَ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهَذَا التَّشْبِيهِ فِي الْقُوَّةِ تَارَةً وَفِي الْعَدَدِ أُخْرَى ، يُقَالُ هُوَ كَأَلْفِ رَجُلٍ وَيُرَادُ بِهِ الْقُوَّةُ فَتَصِحُّ نِيَّةُ الْأَمْرَيْنِ ، وَعِنْدَ فِقْدَانِهَا يَثْبُتُ أَقَلُّهُمَا .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ لِأَنَّهُ عَدَدٌ فَيُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْعَدَدِ ظَاهِرًا فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ كَعَدَدِ أَلْفٍ ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَمْلَأُ الْبَيْتَ لِعِظَمِهِ فِي نَفْسِهِ وَقَدْ يَمْلَؤُهُ لِكَثْرَتِهِ ، فَأَيُّ ذَلِكَ نَوَى صَحَّتْ نِيَّتُهُ ، وَعِنْدَ انْعِدَامِ النِّيَّةِ يَثْبُتُ الْأَقَلُّ .
ثُمَّ الْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَتَى شَبَّهَ الطَّلَاقَ بِشَيْءٍ يَقَعُ بَائِنًا : أَيَّ شَيْءٍ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ ذَكَرَ الْعِظَمَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ لِمَا مَرَّ أَنَّ التَّشْبِيهَ يَقْتَضِي زِيَادَةَ وَصْفٍ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ ذَكَرَ الْعِظَمَ يَكُونُ بَائِنًا وَإِلَّا فَلَا أَيَّ شَيْءٍ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ قَدْ يَكُونُ فِي التَّوْحِيدِ عَلَى التَّجْرِيدِ .
أَمَّا ذِكْرُ الْعِظَمِ فَلِلزِّيَادَةِ لَا مَحَالَةَ .
وَعِنْدَ زُفَرَ إنْ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ مِمَّا يُوصَفُ بِالْعِظَمِ عِنْدَ النَّاسِ يَقَعُ بَائِنًا وَإِلَّا فَهُوَ رَجْعِيٌّ .
وَقِيلَ مُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقِيلَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ .
وَبَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ مِثْلُ رَأْسِ الْإِبْرَةِ مِثْلُ عِظَمِ رَأْسِ الْإِبْرَةِ وَمِثْلُ الْجَبَلِ مِثْلُ عِظَمِ الْجَبَلِ
وَقَوْلُهُ ( وَبَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ مِثْلَ رَأْسِ الْإِبْرَةِ ) يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ ، وَقِيلَ مِثْلُ عِظَمِ رَأْسِ الْإِبْرَةِ يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ .
( وَقَوْلُهُ مِثْلَ الْجَبَلِ ) يَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَمُحَمَّدٍ إنْ كَانَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَوْلُهُ ( مِثْلَ عِظَمِ الْجَبَلِ ) يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ بِالِاتِّفَاقِ ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِوُجُودِ التَّشْبِيهِ ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِذِكْرِ الْعِظَمِ ، وَأَمَّا عِنْدَ زُفَرَ فَلِكَوْنِ الْجَبَلِ مِمَّا يُوصَفُ بِالْعِظَمِ عِنْدَ النَّاسِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
.
( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً شَدِيدَةً أَوْ عَرِيضَةً أَوْ طَوِيلَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ) لِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ وَهُوَ الْبَائِنُ ، وَمَا يَصْعُبُ تَدَارُكُهُ يُقَالُ : لِهَذَا الْأَمْرِ طُولٌ وَعَرْضٌ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقَعُ بِهَا رَجْعِيَّةً لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَا يَلِيقُ بِهِ فَيَلْغُو ، وَلَوْ نَوَى الثَّلَاثَ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِتَنَوُّعِ الْبَيْنُونَةِ عَلَى مَا مَرَّ وَالْوَاقِعُ بِهَا بَائِنٌ .
( وَإِذَا طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَقَعْنَ عَلَيْهَا ) لِأَنَّ الْوَاقِعَ مَصْدَرٌ مَحْذُوفٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ طَلَاقًا ثَلَاثًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ إيقَاعًا عَلَى حِدَةٍ فَيَقَعْنَ جُمْلَةً : ( فَإِنْ فَرَّقَ الطَّلَاقَ بَانَتْ بِالْأُولَى وَلَمْ تَقَعْ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ ) وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ إيقَاعٌ عَلَى حِدَةٍ إذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ صَدْرَهُ حَتَّى يَتَوَقَّفَ عَلَيْهِ فَتَقَعُ الْأُولَى فِي الْحَالِ فَتُصَادِفُهَا الثَّانِيَةُ وَهِيَ مُبَانَةٌ ( وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى ( وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فَمَاتَتْ قَبْلَ قَوْلِهِ وَاحِدَةً كَانَ بَاطِلًا ) لِأَنَّهُ قَرَنَ الْوَصْفَ بِالْعَدَدِ فَكَانَ الْوَاقِعُ هُوَ الْعَدَدَ ، فَإِذَا مَاتَتْ قَبْلَ ذِكْرِ الْعَدَدِ فَاتَ الْمَحَلُّ قَبْلَ الْإِيقَاعِ فَبَطَلَ ( وَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ) لِمَا بَيَّنَّا وَهَذِهِ تُجَانِسُ مَا قَبْلَهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَ وَاحِدَةٍ أَوْ بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ ) وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى ذَكَرَ شَيْئَيْنِ وَأَدْخَلَ بَيْنَهُمَا حَرْفَ الظَّرْفِ إنْ قَرَنَهَا بِهَاءِ الْكِنَايَةِ كَانَ صِفَةً لِلْمَذْكُورِ آخِرًا كَقَوْلِهِ : جَاءَنِي زَيْدٌ قَبْلَهُ عَمْرٌو ، وَإِنْ لَمْ يَقْرِنْهَا بِهَاءِ الْكِنَايَةِ كَانَ صِفَةً لِلْمَذْكُورِ أَوَّلًا كَقَوْلِهِ : جَاءَنِي زَيْدٌ قَبْلَ عَمْرٍو ، وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي الْمَاضِي إيقَاعٌ فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْإِسْنَادَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ فَالْقَبْلِيَّةُ فِي قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَ وَاحِدَةٍ صِفَةٌ لِلْأُولَى فَتَبِينُ بِالْأُولَى فَلَا تَقَعُ الثَّانِيَةُ ، وَالْبَعْدِيَّةُ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ صِفَةٌ لِلْأَخِيرَةِ فَحَصَلَتْ الْإِبَانَةُ بِالْأُولَى ( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً
قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ تَقَعُ ثِنْتَانِ ) لِأَنَّ الْقَبْلِيَّةَ صِفَةٌ لِلثَّانِيَةِ لِاتِّصَالِهَا بِحَرْفِ الْكِنَايَةِ فَاقْتَضَى إيقَاعَهَا فِي الْمَاضِي وَإِيقَاعَ الْأُولَى فِي الْحَالِ ، غَيْرَ أَنَّ الْإِيقَاعَ فِي الْمَاضِي إيقَاعٌ فِي الْحَالِ أَيْضًا فَيَقْتَرِنَانِ فَيَقَعَانِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الْبَعْدِيَّةَ صِفَةٌ لِلْأُولَى فَاقْتَضَى إيقَاعَ الْوَاحِدَةِ فِي الْحَالِ وَإِيقَاعَ الْأُخْرَى قَبْلَ هَذِهِ فَتَقْتَرِنَانِ ( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً مَعَ وَاحِدَةٍ أَوْ مَعَهَا وَاحِدَةٌ تَقَعُ ثِنْتَانِ ) لِأَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلْقِرَانِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ : مَعَهَا وَاحِدَةٌ أَنَّهُ تَقَعُ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ تَقْتَضِي سَبْقَ الْمُكَنَّى عَنْهُ لَا مَحَالَةَ ، وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا تَقَعُ ثِنْتَانِ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا لِقِيَامِ الْمَحَلِّيَّةِ بَعْدَ وُقُوعِ الْأُولَى
( فَصْلٌ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ) لَمَّا كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ مِنْ الطَّلَاقِ بَعْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِضِ مِنْ الْأَصْلِ وَلَهُ أَحْكَامٌ جَمَّةٌ ذَكَرَهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ بَعْدَ ذِكْرِ مَا هُوَ الْأَصْلُ ( إذَا قَالَ لِغَيْرِ الْمَلْمُوسَةِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَقَعْنَ ) وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : يَقَعُ وَاحِدَةٌ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَتَبِينُ بِهَا لَا إلَى عِدَّةٍ .
وَقَوْلُهُ ثَلَاثًا يُصَادِفُهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ ، كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ .
وَلَنَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ لِأَنَّ الْوَاقِعَ مَصْدَرٌ مَحْذُوفٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ طَلَاقًا ثَلَاثًا عَلَى مَا بَيَّنَّا : يَعْنِي قَبْلَ هَذَا أَنَّ الْوَصْفَ مَتَى قُرِنَ بِالْعَدَدِ كَانَ الْوُقُوعُ بِذِكْرِ الْعَدَدِ إلَخْ ، وَإِنَّمَا يُقَدَّرُ الْمَصْدَرُ مَحْذُوفًا لِأَنَّ الْوَصْفَ نَعْتُ الْمَرْأَةِ وَهِيَ غَيْرُ مُتَعَدِّدَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ شَيْءٍ يَحْتَمِلُ التَّعَدُّدَ ، وَالْمَصْدَرُ أَوْلَى بِذَلِكَ لِدَلَالَةِ الْوَصْفِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا كَانَ الْوَاقِعُ مَصْدَرًا مَحْذُوفًا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ إيقَاعًا عَلَى حِدَةٍ وَإِلَّا لَزَادَ عَدَدُ الطَّلَاقِ وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَيَقَعْنَ جُمْلَةً وَصَارَ الْكُلُّ كَلَامًا وَاحِدًا ، وَلَا كَذَلِكَ أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ لِكَوْنِهَا جُمَلًا فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ إيقَاعًا عَلَى حِدَةٍ وَتَبِينُ بِالْأُولَى ، وَلَا تَقَعُ الثَّانِيَةُ إذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ صَدْرَهُ حَتَّى يَتَوَقَّفَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ صَادَفَتْهَا وَهِيَ مُبَانَةٌ ، كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً ( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فَمَاتَتْ قَبْلَ قَوْلِهِ وَاحِدَةً بَطَلَ لِأَنَّهُ قَرَنَ الْوَصْفَ بِالْعَدَدِ فَكَانَ الْوَاقِعُ هُوَ الْعَدَدُ ، فَإِذَا مَاتَتْ قَبْلَ ذِكْرِ الْعَدَدِ فَاتَ الْمَحَلُّ قَبْلَ الْإِيقَاعِ فَبَطَلَ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّهُ قَرَنَ الْوَصْفَ بِالْعَدَدِ فَكَانَ الْوَاقِعُ هُوَ
الْعَدَدُ ( وَهَذِهِ ) أَيْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ وَهِيَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فَمَاتَتْ قَبْلَ قَوْلِهِ وَاحِدَةً ، وَكَذَا لَوْ مَاتَتْ قَبْلَ قَوْلِهِ ثِنْتَيْنِ أَوْ مَاتَتْ قَبْلَ قَوْلِهِ ثَلَاثًا ( تُوَافِقُ مَا قَبْلَهَا ) وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَقَعْنَ ( مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلُ ) وَهُوَ أَنَّ الْوَاقِعَ فِيهِمَا جَمِيعًا ذِكْرُ الْعَدَدِ لَا ذِكْرُ الْوَصْفِ وَحْدَهُ ، إلَّا أَنَّ الْحُكْمَ اخْتَلَفَ لِمَا أَنَّ ذِكْرَ الْعَدَدِ الَّذِي هُوَ الْوَاقِعُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ صَادَفَ الْمَرْأَةَ وَهِيَ مَيِّتَةٌ فَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ أَصْلًا ، وَهُنَاكَ لَمَّا لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ بِذِكْرِ الْوَصْفِ نَفْسِهِ بَلْ بِالْعَدَدِ وَصَادَفَهَا الْعَدَدُ وَهِيَ مَنْكُوحَتُهُ حَيَّةً وَقَعَ الثَّلَاثُ لِكَوْنِ الْوَاقِعِ هُوَ الْعَدَدُ فَكَانَ الِاعْتِبَارُ فِي الصُّورَتَيْنِ لِلْعَدَدِ لَا لِلْوَصْفِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَ وَاحِدَةٍ ) اعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ قَبْلُ لِلتَّقْدِيمِ وَكَلِمَةَ بَعْدُ لِلتَّأْخِيرِ فَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَ وَاحِدَةٍ أَوْ بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ ، وَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ أَوْ بَعْدَ وَاحِدَةٍ وَقَعَتْ ثِنْتَانِ ، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ فِي الْكِتَابِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الظَّرْفَ إذَا قُيِّدَ بِالْكِنَايَةِ كَانَ صِفَةً لِمَا بَعْدَهُ ، وَإِذَا لَمْ يُقَيَّدْ كَانَ صِفَةً لِمَا قَبْلَهُ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْإِيقَاعَ فِي الْمَاضِي إيقَاعٌ فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْإِسْنَادَ لَيْسَ فِي سِعَتِهِ ، فَإِذَا قِيلَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَ وَاحِدَةٍ كَانَ الظَّرْفُ صِفَةً لِمَا قَبْلَهُ فَيَقَعُ وَاحِدَةٌ قَبْلَ الْأُخْرَى فَيَفُوتُ الْمَحَلُّ وَتَلْغُو الثَّانِيَةُ ، وَإِذَا قَالَ قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ يَكُونُ صِفَةً لِلثَّانِيَةِ فَاقْتَضَى إيقَاعَهَا فِي الْمَاضِي وَإِيقَاعَ الْأُولَى فِي الْحَالِ ، وَالْإِيقَاعُ فِي الْمَاضِي إيقَاعٌ فِي الْحَالِ فَيَقْتَرِنَانِ فِي
الْوُقُوعِ ، وَالْبَعْدِيَّةُ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ وَاحِدَةٍ صِفَةٌ لِمَا قَبْلَهُ فَيَقْتَضِي إيقَاعَ الْأُولَى فِي الْحَالِ وَإِيقَاعَ الثَّانِيَةِ قَبْلَهَا فَيَقْتَرِنَانِ كَمَا مَرَّ .
وَفِي قَوْلِهِ بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ صِفَةٌ لِلثَّانِيَةِ فَتَبِينُ بِالْأُولَى وَتَلْغُو الثَّانِيَةُ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّيَّةِ ( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً مَعَ وَاحِدَةٍ أَوْ مَعَهَا وَاحِدَةٌ وَقَعَتْ ثِنْتَانِ ) لِأَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلْقِرَانِ فَتَتَوَقَّفُ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ تَحْقِيقًا لِمُرَادِهِ فَوَقَعَا مَعًا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ مَعَهَا أَنَّهَا تَقَعُ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ تَسْتَدْعِي سَبْقَ الْمُكَنَّى عَنْهُ وُجُودًا ، وَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ بِالْوُقُوعِ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا يَقَعُ ثِنْتَانِ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا ) أَيْ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ قَبْلُ وَبَعْدُ بِالْكِنَايَةِ وَغَيْرِهَا لِقِيَامِ الْمَحَلِّيَّةِ بَعْدَ وُقُوعِ الْأُولَى .
.
( وَلَوْ قَالَ لَهَا : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً فَدَخَلَتْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : تَقَعُ ثِنْتَانِ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَدَخَلَتْ طَلُقَتْ ثِنْتَيْنِ ) بِالِاتِّفَاقِ .
لَهُمَا أَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَتَعَلَّقْنَ جُمْلَةً كَمَا إذَا نَصَّ عَلَى الثَّلَاثِ أَوْ أَخَّرَ الشَّرْطَ .
وَلَهُ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ الْقِرَانَ وَالتَّرْتِيبَ ، فَعَلَى اعْتِبَارِ الْأَوَّلِ تَقَعُ ثِنْتَانِ ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الثَّانِي لَا تَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ كَمَا إذَا نَجَّزَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ فَلَا يَقَعُ الزَّائِدُ عَلَى الْوَاحِدَةِ بِالشَّكِّ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَخَّرَ الشَّرْطَ لِأَنَّهُ مُغَيِّرٌ صَدْرَ الْكَلَامِ فَيَتَوَقَّفُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ فَيَقَعْنَ جُمْلَةً وَلَا مُغَيِّرَ فِيمَا إذَا قَدَّمَ الشَّرْطَ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ .
وَلَوْ عَطَفَ بِحَرْفِ الْفَاءِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّهُ يَقَعُ وَاحِدَةً بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
قَالَ ( وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً فَدَخَلَتْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ ) أَقُولُ : إذَا عَلَّقَ بِالشَّرْطِ عَدَدًا مِنْ الطَّلَاقِ وَعَطَفَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ بِالْوَاوِ ، فَإِمَّا أَنْ قَدَّمَ الشَّرْطَ أَوْ أَخَّرَهُ ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَمَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَدَخَلَتْ وَقَعَ الْجَمِيعُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَمَا إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقَعُ وَاحِدَةٌ ( لَهُمَا أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ ) وَقَدْ دَخَلَتْ بَيْنَ الْأَجْزِيَةِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَيَتَعَلَّقْنَ جَمِيعًا وَيَنْزِلْنَ جُمْلَةً ، كَمَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِأَنَّ الْجَمْعَ بِوَاوِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ ، وَكَمَا لَوْ أَخَّرَ الشَّرْطَ فَإِنَّ تَأْخِيرَهُ لَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ الْكَلَامِ .
وَلَهُ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ الْقِرَانَ وَالتَّرْتِيبَ لِأَنَّ تَحَقُّقَهُ فِي الْخَارِجِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .
وَعَلَى اعْتِبَارِ الْأَوَّلِ تَقَعُ الْجُمْلَةُ ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الثَّانِي لَا تَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ ، كَمَا إذَا نَجَّزَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ بِأَنْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَكَانَ فِي الزَّائِدِ عَلَى الْوَاحِدَةِ شَكٌّ فَلَا يَقَعُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَخَّرَ الشَّرْطَ لِأَنَّهُ مُغَيِّرٌ صَدْرَ الْكَلَامِ عَنْ التَّنْجِيزِ إلَى التَّعْلِيقِ ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ تَوَقَّفَ فِيهِ صَدْرُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فَيَقَعْنَ جُمْلَةً وَلَا مُغَيِّرَ فِيمَا إذَا قَدَّمَ الشَّرْطَ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ فَوَقَعَ عَلَى التَّرْتِيبِ وَبَانَتْ بِالْأُولَى فَلَا تَقَعُ الثَّانِيَةُ وَلَمْ يَجِبْ عَنْ التَّنْصِيصِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِظُهُورِهِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ عَطَفَ بِحَرْفِ الْفَاءِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ )
فَإِنَّهُ جَعَلَ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ وَالْفَاءِ سَوَاءً ، وَقَالَ إنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ يَجْعَلُهُمَا كَلَامًا وَاحِدًا فَتَعَلَّقَا كَمَا فِي صُورَةِ الْوَاوِ ، وَسَوَاءٌ قَدَّمَ الشَّرْطَ أَوْ أَخَّرَهُ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ ( وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّهُ يَقَعُ وَاحِدَةٌ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ وَهُوَ الْأَصَحُّ ) .
( وَأُمًّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ الْكِنَايَاتُ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إلَّا بِالنِّيَّةِ أَوْ بِدَلَالَةِ الْحَالِ ) لِأَنَّهَا غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِلطَّلَاقِ بَلْ تَحْتَمِلُهُ وَغَيْرَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ أَوْ دَلَالَتِهِ .
قَالَ ( وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ وَلَا يَقَعُ بِهَا إلَّا وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ ) أَمَّا الْأُولَى فَلِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الِاعْتِدَادَ عَنْ النِّكَاحِ وَتَحْتَمِلُ اعْتِدَادَ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنْ نَوَى الْأَوَّلَ تَعَيَّنَ بِنِيَّتِهِ فَيَقْتَضِي طَلَاقًا سَابِقًا وَالطَّلَاقُ يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ .
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الِاعْتِدَادِ لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَتِهِ وَتَحْتَمِلُ الِاسْتِبْرَاءَ لِيُطَلِّقَهَا ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَلِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ مَعْنَاهُ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَإِذَا نَوَاهُ جُعِلَ كَأَنَّهُ قَالَهُ ، وَالطَّلَاقُ يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ ، وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ قَوْمِهِ ، وَلَمَّا احْتَمَلَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ تَحْتَاجُ فِيهِ إلَى النِّيَّةِ وَلَا تَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ : أَنْتِ طَالِقٌ فِيهَا مُقْتَضًى أَوْ مُضْمَرٌ ، وَلَوْ كَانَ مُظْهَرًا لَا تَقَعُ بِهَا إلَّا وَاحِدَةٌ ، فَإِذَا كَانَ مُضْمَرًا أَوْلَى ، وَفِي قَوْلِهِ وَاحِدَةٌ وَإِنْ صَارَ الْمَصْدَرُ مَذْكُورًا لَكِنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْوَاحِدَةِ يُنَافِي نِيَّةَ الثَّلَاثِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِعْرَابِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْعَوَامَّ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ .
قَالَ ( وَبَقِيَّةُ الْكِنَايَاتِ إذَا نَوَى بِهَا الطَّلَاقَ كَانَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا كَانَتْ ثَلَاثًا ، وَإِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ كَانَتْ وَاحِدَةً ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ : أَنْتِ بَائِنٌ وَبَتَّةٌ وَبَتْلَةٌ وَحَرَامٌ وَحَبْلُكِ
عَلَى غَارِبِكِ وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ وَخَلِيَّةٌ وَبَرِيَّةٌ وَوَهَبْتُكِ لِأَهْلِكِ وَسَرَّحْتُك وَفَارَقْتُك وَأَمْرُك بِيَدِك وَاخْتَارِي وَأَنْتِ حُرَّةٌ وَتَقَنَّعِي وَتَخَمَّرِي وَاسْتَتِرِي وَاغْرُبِي وَاخْرُجِي وَاذْهَبِي وَقُومِي وَابْتَغِي الْأَزْوَاجَ ) لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ .
قَالَ ( إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ ) فَيَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ فِي الْقَضَاءِ ، وَلَا يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( سَوَّى بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَقَالَ : وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ إذَا كَانَ فِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ ) قَالُوا ( وَهَذَا فِيمَا لَا يَصْلُحُ رَدَّا ) وَالْجُمْلَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَحْوَالَ ثَلَاثَةٌ : حَالَةٌ مُطْلَقَةٌ وَهِيَ حَالَةُ الرِّضَا ، وَحَالَةُ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ ، وَحَالَةُ الْغَضَبِ .
وَالْكِنَايَاتُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : مَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَرَدًّا ، وَمَا يَصْلُحُ جَوَابًا لَا رَدَّا ، وَمَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَسَبًّا وَشَتِيمَةً .
فَفِي حَالَةِ الرِّضَا لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا طَلَاقًا إلَّا بِالنِّيَّةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي إنْكَارِ النِّيَّةِ لِمَا قُلْنَا ، وَفِي حَالَةِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ لَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَصْلُحُ جَوَابًا ، وَلَا يَصْلُحُ رَدَّا فِي الْقَضَاءِ مِثْلُ قَوْلِهِ خَلِيَّةٌ بَرِيَّةٌ بَائِنٌ بَتَّةٌ حَرَامٌ اعْتَدِّي أَمْرُك بِيَدِك اخْتَارِي ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مُرَادَهُ الطَّلَاقُ عِنْدَ سُؤَالِ الطَّلَاقِ ، وَيُصَدَّقُ فِيمَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَرَدًّا مِثْلُ قَوْلِهِ : اذْهَبِي اُخْرُجِي قُومِي تَقَنَّعِي تَخَمَّرِي وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الرَّدَّ وَهُوَ الْأَدْنَى فَحُمِلَ عَلَيْهِ .
وَفِي حَالَةِ الْغَضَبِ يُصَدَّقُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ الرَّدِّ وَالسَّبِّ ، إلَّا فِيمَا يَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ وَلَا يَصْلُحُ لِلرَّدِّ وَالشَّتْمِ كَقَوْلِهِ : اعْتَدِّي وَاخْتَارِي وَأَمْرُك بِيَدِك فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِيهَا لِأَنَّ الْغَضَبَ يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي
قَوْلِهِ : لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك وَلَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك وَخَلَّيْتُ سَبِيلَك وَفَارَقْتُك ، أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ لِمَا فِيهَا مِنْ احْتِمَالِ مَعْنَى السَّبِّ .
قَالَ ( وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ الْكِنَايَاتُ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الصَّرِيحُ شَرَعَ فِي بَيَانِ الضَّرْبِ الثَّانِي وَهُوَ الْكِنَايَاتُ .
الْكِنَايَةُ : مَا اسْتَتَرَ الْمُرَادُ بِهِ .
وَحُكْمُهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا إلَّا بِالنِّيَّةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِمَا اُسْتُعْمِلَتْ فِيهِ بَلْ تَحْتَمِلُهُ وَغَيْرَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ أَوْ دَلَالَتِهِ ( ثُمَّ الْكِنَايَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ ) مَا يَكُونُ الْوَاقِعُ بِهِ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً ، وَمَا يَكُونُ وَاحِدَةً بَائِنَةً ، فَالْأَوَّلُ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ هِيَ اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَك وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ ، وَلَا بُدَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مِنْ احْتِمَالِ مَعْنَيَيْنِ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ أَوْ بِمَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ذَلِكَ وَكَلَامُهُ فِيهِ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ فِيهَا ) أَيْ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ ( مُقْتَضًى ) أَيْ ثَابِتٌ بِالِاقْتِضَاءِ فِي قَوْلِهِ اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ فَيَقْتَضِي طَلَاقًا سَابِقًا ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالِاعْتِدَادِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ غَيْرُ صَحِيحٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الطَّلَاقِ سَابِقًا .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ مُضْمَرٌ ) يَعْنِي فِي قَوْلِهِ أَنْتِ وَاحِدَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِعْرَابِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ ) يَعْنِي سَوَاءً قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بِالنَّصْبِ أَوْ بِالرَّفْعِ أَوْ بِالسُّكُونِ ، فَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا نَصَبَ الْوَاحِدَةَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لِكَوْنِهِ صِفَةً لِلطَّلْقَةِ ، أَمَّا إذَا رَفَعَهَا فَلَا يَقَعُ وَإِنْ نَوَى لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ صِفَةَ شَخْصِهَا ، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَقَعُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِأَنَّ نِيَّةَ الطَّلَاقِ تُعْرِبُ عَنْ الْغَرَضِ وَإِنْ أَخْطَأَ فِي
الْإِعْرَابِ ، وَإِنْ أَسْكَنَ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى النِّيَّةِ لِاحْتِمَالِ الْمَعْنَيَيْنِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْكُلَّ سَوَاءٌ ( لِأَنَّ الْعَوَامَّ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ ) وَالثَّانِي هُوَ بَقِيَّةُ الْكِنَايَاتِ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ ( إذَا نَوَى بِهَا الطَّلَاقَ كَانَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا كَانَ ثَلَاثًا وَإِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ كَانَتْ وَاحِدَةً ) أَمَّا وُجُوبُ النِّيَّةِ فَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ احْتِمَالِهِ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَحْكُمُ بِالْوُقُوعِ وَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ عَدَمَ النِّيَّةِ .
وَأَمَّا جَوَازُ نِيَّةِ الثَّلَاثِ فَلِأَنَّ الْوَاقِعَ بِهَا إذَا كَانَ بَائِنًا فَالْبَيْنُونَةُ تَتَّصِلُ بِالْمَرْأَةِ لِلْحَالِ ، وَلِاتِّصَالِهَا وَجْهَانِ : انْقِطَاعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمِلْكِ ، وَانْقِطَاعٌ يَرْجِعُ إلَى الْحِلِّ فَيَتَعَدَّدُ الْمُقْتَضَى بِتَعَدُّدِ الْمُقْتَضِي عَلَى الِاحْتِمَالِ فَصَحَّ تَعْيِينُهُ وَالْمُسْتَثْنَى بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( سَوَّى ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ ( بَيْنَ أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ ) فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِلَا نِيَّةٍ حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ ، وَلَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ بَلْ إنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا لَا يَصْلُحُ رَدًّا ) فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانٍ ، وَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ ( وَالْجُمْلَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَحْوَالَ ثَلَاثَةٌ : حَالَةٌ مُطْلَقَةٌ وَهِيَ حَالَةُ الرِّضَا ، وَحَالَةُ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ ) بِأَنْ تَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ ( وَحَالَةُ غَضَبِ الزَّوْجِ .
وَالْكِنَايَاتُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : مَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَرَدًّا ) وَهُوَ سَبْعَةٌ : اُخْرُجِي اذْهَبِي اُغْرُبِي قُومِي تَقَنَّعِي اسْتَتِرِي تَخَمَّرِي ، أَمَّا صَلَاحِيَةُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِلرَّدِّ فَأَنْ يُرِيدَ الزَّوْجُ بِقَوْلِهِ اُخْرُجِي اُتْرُكِي سُؤَالَ الطَّلَاقِ وَكَذَلِكَ اذْهَبِي وَاغْرُبِي وَقُومِي .
وَأَمَّا تَقَنَّعِي فَمِنْ الْقَنَاعَةِ ، وَقِيلَ مِنْ الْقِنَاعِ وَهُوَ الْخِمَارُ ؛ وَمَعْنَى الرَّدِّ فِيهِ هُوَ أَنْ يَنْوِيَ وَاقْنَعِي بِمَا رَزَقَك اللَّهُ مِنِّي مِنْ
أَمْرِ الْمَعِيشَةِ وَاتْرُكِي سُؤَالَ الطَّلَاقِ وَاشْتَغِلِي بِالتَّقَنُّعِ الَّذِي هُوَ أَهَمُّ لَك مِنْ سُؤَالِ الطَّلَاقِ ، وَكَذَا قَوْلُهُ اسْتَتِرِي وَتَخَمَّرِي لِأَنَّهُمَا مِنْ السَّتْرِ وَالْخِمَارِ ( وَمَا يَصْلُحُ جَوَابًا لَا رَدًّا ) ثَمَانِيَةُ أَلْفَاظٍ : خَلِيَّةٌ .
بَرِيَّةٌ .
بَائِنٌ .
بَتَّةٌ حَرَامٌ .
اعْتَدِّي .
أَمْرُك بِيَدِك .
اخْتَارِي .
وَالْخَمْسَةُ الْأُولَى تَصْلُحُ لِلسَّبِّ وَالشَّتِيمَةِ أَيْضًا .
إذَا عُرِفَ هَذَا فَفِي حَالَةِ الرِّضَا لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا طَلَاقًا إلَّا بِالنِّيَّةِ لِمَا قُلْنَا إنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ بِتَعْيِينِ أَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي إنْكَارِ النِّيَّةِ مَعَ يَمِينِهِ وَفِي حَالَةِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ لَمْ يَصْدُقْ قَضَاءً فِي قَوْلِهِ لَمْ أَنْوِ الطَّلَاقَ فِيمَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَلَا يَصْلُحُ رَدًّا وَهُوَ الْأَلْفَاظُ الثَّمَانِيَةُ الْمَذْكُورَةُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مُرَادَهُ الطَّلَاقُ عِنْدَ سُؤَالِ الطَّلَاقِ ، وَالْحَاكِمُ إنَّمَا يَسْتَتْبِعُ الظَّاهِرَ وَيَصْدُقُ فِيمَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَرَدًّا وَهُوَ الْأَلْفَاظُ السَّبْعَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى ) يُرِيدُ بِهِ مِثْلَ اُغْرُبِي وَاسْتَتِرِي لِأَنَّهُ احْتَمَلَ الرَّدَّ وَهُوَ الْأَدْنَى فَحُمِلَ عَلَيْهِ ، وَفِي حَالَةِ الْغَضَبِ يَصْدُقُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ : يَعْنِي أَقْسَامَ الْكِنَايَاتِ لِاحْتِمَالِ الرَّدِّ أَوْ السَّبِّ إلَّا فِيمَا يَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ وَلَا يَصْلُحُ لِلرَّدِّ وَالشَّتْمِ ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ : اعْتَدِّي ، وَاخْتَارِي وَأَمْرُك بِيَدِك ، فَإِنَّهُ لَا يَصْدُقُ فِيهَا لِأَنَّ الْغَضَبَ يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قَالَ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك وَلَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك وَخَلَّيْت سَبِيلَك وَفَارَقْتُك وَقَالَ لَمْ أَنْوِ الطَّلَاقَ صَدَقَ لِمَا فِيهَا مِنْ احْتِمَالِ مَعْنَى السَّبِّ ، وَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ .
وَقِيلَ خَمْسَةُ أَلْفَاظٍ خَامِسُهَا الْحَقِي بِأَهْلِك أَلْحَقَهَا أَبُو يُوسُفَ
بِالْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلسَّبِّ مِنْ حَيْثُ احْتِمَالُهَا السَّبَّ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لِأَنَّك أَقَلُّ مِنْ أَنْ تُنْسَبِي إلَى مِلْكِي أَوْ أُنْسَبَ إلَيْك بِالْمِلْكِ وَلَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك لِسُوءِ خُلُقِك وَاجْتِمَاعِ أَنْوَاعِ الشَّرِّ فِيك وَخَلَّيْت سَبِيلَك لِقَذَارَتِك وَفَارَقْتُك فِي الْمَضْجَعِ لِذَفَرِك وَعَدَمِ نَظَافَتِك ، وَالْحَقِي بِأَهْلِك لِأَنَّك أَوْحَشُ مِنْ أَنْ تَكُونِي خَلِيلَتِي .
ثُمَّ وُقُوعُ الْبَائِنِ بِمَا سِوَى الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مَذْهَبُنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَقَعُ بِهَا رَجْعِيًّا لِأَنَّ الْوَاقِعَ بِهَا طَلَاقٌ ، لِأَنَّهَا كِنَايَاتٌ عَنْ الطَّلَاقِ وَلِهَذَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ وَيُنْتَقَصُ بِهِ الْعَدَدُ ، وَالطَّلَاقُ مُعْقِبٌ لِلرَّجْعَةِ كَالصَّرِيحِ .
وَلَنَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْإِبَانَةِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَلَا خَفَاءَ فِي الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى الْوِلَايَةِ أَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَى إثْبَاتِهَا كَيْ لَا يَنْسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ التَّدَارُكِ وَلَا يَقَعُ فِي عُهْدَتِهَا بِالْمُرَاجَعَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، وَلَيْسَتْ كِنَايَاتٍ عَلَى التَّحْقِيقِ لِأَنَّهَا عَوَامِلُ فِي حَقَائِقِهَا ، وَالشَّرْطُ تَعْيِينُ أَحَدِ نَوْعَيْ الْبَيْنُونَةِ دُونَ الطَّلَاقِ ، وَانْتِقَاصُ الْعَدَدِ لِثُبُوتِ الطَّلَاقِ بِنَاءً عَلَى زَوَالِ الْوَصْلَةِ ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِيهَا لِتَنَوُّعِ الْبَيْنُونَةِ إلَى غَلِيظَةٍ وَخَفِيفَةٍ ، وَعِنْدَ انْعِدَامِ النِّيَّةِ يَثْبُتُ الْأَدْنَى ، وَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الِاثْنَتَيْنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّهُ عَدَدٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .
قَالَ ( ثُمَّ وُقُوعُ الْبَائِنِ بِمَا سِوَى الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مَذْهَبُنَا ) وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَقَعُ بِهَا رَجْعِيٌّ ) وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ ( لِأَنَّ الْوَاقِعَ بِهَا طَلَاقٌ ) وَاحِدٌ ( لِأَنَّهَا كِنَايَاتٌ عَنْ الطَّلَاقِ وَلِهَذَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ ) وَالْكِنَايَاتُ عَنْ الطَّلَاقِ طَلَاقٌ وَلِهَذَا يُنْتَقَصُ بِهِ الْعَدَدُ ( وَالطَّلَاقُ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ كَالصَّرِيحِ ) فَإِنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ مُعَقِّبًا لِلرَّجْعَةِ لِكَوْنِهِ طَلَاقًا ( وَلَنَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْإِبَانَةِ صَدَرَ عَنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ ) وَكُلُّ مَا صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ كَذَلِكَ كَانَ صَحِيحًا لَا مَحَالَةَ .
أَمَّا الْأَهْلِيَّةُ فَلَا خَفَاءَ فِيهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَهْلِ ، وَأَمَّا الْمَحَلِّيَّةُ فَثَابِتَةٌ وَلِهَذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَحَلًّا لِلْبَيْنُونَةِ الْغَلِيظَةِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَأَمَّا الْوِلَايَةُ الشَّرْعِيَّةُ فَلِأَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى وِلَايَةِ الطَّلَاقِ شَرْعًا وَهُوَ مِسَاسُ الْحَاجَةِ إلَى إثْبَاتِهَا دَالٌّ عَلَى وِلَايَةِ الْإِبَانَةِ بِوَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ : أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ ( كَيْ لَا يَنْسَدَّ بَابُ التَّدَارُكِ ) وَالثَّانِي قَوْلُهُ ( وَلَا يَقَعُ فِي عُهْدَتِهَا بِالْمُرَاجَعَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ) وَقَوْلُهُ ( بَابُ التَّدَارُكِ ) أَيْ تَدَارُكِ دَفْعِ الْمَرْأَةِ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقَعْ الْبَيْنُونَةُ عِنْدَ نِيَّتِهِ عَسَى تُوقِعُ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا وَقَبَّلَتْهُ بِشَهْوَةٍ فَثَبَتَتْ الرَّجْعَةُ وَالزَّوْجُ يُرِيدُ فِرَاقَهَا ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ ، وَفِي هَذَا كَمَا تَرَى جَعَلَ الْوَجْهَيْنِ وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ بِعَيْنِهِ تَفْسِيرُ الْوَجْهِ الثَّانِي ، فَإِنْ جَعَلْت الثَّانِيَ تَفْسِيرًا لِلْأَوَّلِ بِالْعَطْفِ فَسَدَ النُّكْتَةُ جُمْلَةً لِأَنَّ وُقُوعَ الْمُرَاجَعَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِهِ ، وَإِذَا فَسَدَ التَّفْسِيرُ فَسَدَ الْمُفَسَّرُ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُفَسَّرَ قَوْلَهُ كَيْ لَا يَنْسَدَّ بَابُ التَّدَارُكِ
بِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ نَافِرًا عَنْ الْمَرْأَةِ جِدًّا بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ فَيُرِيدُ فِرَاقَهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَحِلُّ لَهُ الرُّجُوعُ ثُمَّ يَبْدُو لَهُ ، فَلَوْ لَمْ يُوجَدْ الْوَاحِدُ الْبَائِنُ لَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَلَا يَرْضَى بِالِاسْتِحْلَالِ فَيَنْسَدُّ عَلَيْهِ بَابُ التَّدَارُكِ ، وَأَمَّا إذَا وُجِدَ ذَلِكَ فَيَتَدَارَكُ بِتَجْدِيدِ النِّكَاحِ ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَتَفْسِيرُهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الْإِبَانَةِ قَدْ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ إلَخْ فَيَكُونُ صَحِيحًا ، وَالْمُدَّعِي أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ تَصَرُّفُ إبَانَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِهِ لِيَصِحَّ أَنْ يُقَالَ تَصَرُّفُ الْإِبَانَةِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِبَانَةَ الَّتِي يُمْكِنُ بِهَا التَّدَارُكُ وَلَا يَقَعُ فِي عُهْدَتِهَا بِالْمُرَاجَعَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا لَا بُدَّ مِنْهَا ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْبَيْنُونَةُ الْغَلِيظَةُ لِانْسِدَادِ بَابِ التَّدَارُكِ بِهَا فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْبَيْنُونَةُ الْخَفِيفَةُ بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَتْ كِنَايَاتٍ عَلَى التَّحْقِيقِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهَا كِنَايَاتٌ عَنْ الطَّلَاقِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْكِنَايَةَ عَنْ الطَّلَاقِ الصَّرِيحِ إنَّمَا تَكُونُ كَالصَّرِيحِ فِي الْعَمَلِ أَنْ لَوْ كَانَتْ حَقِيقَةً ، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا عَوَامِلُ فِي حَقَائِقِهَا ( وَقَوْلُهُ وَالشَّرْطُ تَعْيِينُ أَحَدِ نَوْعَيْ الْبَيْنُونَةِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ لَوْ كَانَ لِأَجْلِ الطَّلَاقِ كَانَ دَلِيلًا عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ لِتَعْيِينِ أَحَدِ نَوْعَيْ الْبَيْنُونَةِ الْغَلِيظَةِ وَالْخَفِيفَةِ لَا لِلطَّلَاقِ ، يَعْنِي : النِّيَّةُ شَرْطٌ لِلطَّلَاقِ الْبَائِنِ لَا لِلطَّلَاقِ الْمُجَرَّدِ .
وَقَوْلُهُ ( وَانْتِقَاصُ الْعَدَدِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَيُنْتَقَصُ بِهِ الْعَدَدُ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الطَّلَاقَ
الْبَائِنَ يُزِيلُ الْوَصْلَةَ وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يُنْتَقَصُ بِهِ الْعَدَدُ ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ نَقْصِ الْعَدَدِ وَالطَّلَاقِ الْبَائِنِ فَكَانَ النَّقْصُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ طَلَاقًا بَائِنًا .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنَّمَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَتْ عَوَامِلَ فِي حَقَائِقِهَا لَمَا صَحَّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ مَثَلًا كَمَا لَا تَصِحُّ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِأَنَّهُ عَامِلٌ بِنَفْسِهِ ، وَتَقْرِيرُهُ صِحَّةُ نِيَّةِ الثَّلَاثِ لَمْ تَكُنْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَامِلٌ فِي حَقِيقَتِهِ بَلْ مِنْ حَيْثُ تَنَوُّعُ الْبَيْنُونَةِ إلَى غَلِيظَةٍ وَخَفِيفَةٍ ، وَعِنْدَ انْعِدَامِ النِّيَّةِ يَثْبُتُ الْأَدْنَى وَهُوَ الْوَاحِدُ الْبَائِنُ ( وَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّهُ عَدَدٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ) يَعْنِي فِي أَوَائِلِ بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَنَحْنُ نَقُولُ نِيَّةُ الثَّلَاثِ إنَّمَا صَحَّتْ لِكَوْنِهَا جِنْسًا إلَخْ .
.
( وَإِنْ قَالَ لَهَا : اعْتَدِّي اعْتَدِّي اعْتَدِّي وَقَالَ : نَوَيْت بِالْأُولَى طَلَاقًا وَبِالْبَاقِي حَيْضًا دِينَ فِي الْقَضَاءِ ) لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَأْمُرُ امْرَأَتَهُ فِي الْعَادَةِ بِالِاعْتِدَادِ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ ( وَإِنْ قَالَ : لَمْ أَنْوِ بِالْبَاقِي شَيْئًا فَهِيَ ثَلَاثٌ ) لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى بِالْأُولَى الطَّلَاقَ صَارَ الْحَالُ حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَتَعَيَّنَ الْبَاقِيَانِ لِلطَّلَاقِ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي نَفْيِ النِّيَّةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : لَمْ أَنْوِ بِالْكُلِّ الطَّلَاقَ حَيْثُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَا ظَاهِرَ يُكَذِّبُهُ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : نَوَيْت بِالثَّالِثَةِ الطَّلَاقَ دُونَ الْأُولَيَيْنِ حَيْثُ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً لِأَنَّ الْحَالَ عِنْدَ الْأُولَيَيْنِ لَمْ تَكُنْ حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُصَدَّقُ الزَّوْجُ عَلَى نَفْيِ النِّيَّةِ إنَّمَا يُصَدَّقُ مَعَ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي الْإِخْبَارِ عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ قَالَ لَهَا اعْتَدِّي اعْتَدِّي اعْتَدِّي ) وَقَالَ نَوَيْت بِالْأُولَى طَلَاقًا وَبِالثَّانِيَةِ حَيْضًا دِينَ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ .
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا هَذَا تَفْصِيلُهَا : نَوَى بِالْجَمِيعِ طَلَاقًا وَقَعَتْ ثَلَاثٌ .
نَوَى بِالْجَمِيعِ حَيْضًا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ .
لَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ .
نَوَى بِالْأُولَى طَلَاقًا لَا غَيْرُ وَقَعَ ثَلَاثٌ نَوَى بِالثَّانِيَةِ طَلَاقًا لَا غَيْرُ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ .
نَوَى بِالْأُولَى حَيْضًا لَا غَيْرُ وَقَعَتْ ثَلَاثٌ .
نَوَى بِالثَّانِيَةِ حَيْضًا لَا غَيْرُ وَقَعَتْ ثِنْتَانِ .
نَوَى بِالثَّالِثَةِ حَيْضًا لَا غَيْرُ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ .
نَوَى بِالْأُولَى طَلَاقًا وَبِالثَّانِيَةِ حَيْضًا لَا غَيْرُ وَقَعَتْ ثِنْتَانِ .
نَوَى بِالْأُولَى طَلَاقًا وَبِالثَّالِثَةِ حَيْضًا لَا غَيْرُ وَقَعَتْ ثِنْتَانِ .
نَوَى بِالثَّانِيَةِ طَلَاقًا وَبِالثَّالِثَةِ حَيْضًا لَا غَيْرُ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ .
نَوَى بِالْأُولَيَيْنِ طَلَاقًا لَا غَيْرُ وَقَعَتْ ثَلَاثٌ .
نَوَى بِالْأُخْرَيَيْنِ طَلَاقًا لَا غَيْرُ وَقَعَتْ ثِنْتَانِ .
نَوَى بِالْأُولَيَيْنِ حَيْضًا لَا غَيْرُ وَقَعَتْ ثِنْتَانِ .
نَوَى بِالْأُخْرَيَيْنِ حَيْضًا لَا غَيْرُ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ .
نَوَى بِالْأُولَى وَالثَّالِثَةِ طَلَاقًا لَا غَيْرُ وَقَعَتْ ثَلَاثٌ .
نَوَى بِالْأُولَى وَالثَّالِثَةِ حَيْضًا لَا غَيْرُ وَقَعَتْ ثِنْتَانِ .
نَوَى بِالْأُولَى وَالثَّانِيَةِ طَلَاقًا وَبِالثَّالِثَةِ حَيْضًا وَقَعَتْ ثِنْتَانِ .
نَوَى بِالْأُولَى وَالثَّالِثَةِ طَلَاقًا وَبِالثَّانِيَةِ حَيْضًا وَقَعَتْ ثِنْتَانِ .
نَوَى بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ طَلَاقًا وَبِالْأُولَى حَيْضًا وَقَعَتْ ثَلَاثٌ .
نَوَى بِالْأُولَى وَالثَّانِيَةِ حَيْضًا وَبِالثَّالِثَةِ طَلَاقًا وَقَعَتْ ثِنْتَانِ .
نَوَى بِالْأُولَى وَالثَّالِثَةِ حَيْضًا وَبِالثَّانِيَةِ طَلَاقًا وَقَعَتْ ثِنْتَانِ .
نَوَى بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ حَيْضًا وَبِالْأُولَى طَلَاقًا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ .
وَبِنَاءُ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى الِاقْتِضَاءِ وَعَلَى حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ وَعَلَى أَنَّ النِّيَّةَ تُبْطِلُ مُذَاكَرَةَ الطَّلَاقِ
فَاعْتُبِرَ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ( وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَصْدُقُ الزَّوْجُ عَلَى نَفْيِ النِّيَّةِ إنَّمَا يَصْدُقُ مَعَ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي الْإِخْبَارِ عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ ) وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ : فَصْلٌ فِي الِاخْتِيَارِ : ( وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : اخْتَارِي يَنْوِي بِذَلِكَ الطَّلَاقَ أَوْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَك فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا ذَلِكَ ، فَإِنْ قَامَتْ مِنْهُ أَوْ أَخَذَتْ فِي عَمَلٍ آخَرَ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا ) لِأَنَّ الْمُخَيَّرَةَ لَهَا الْمَجْلِسُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، وَلِأَنَّهُ تَمْلِيكُ الْفِعْلِ مِنْهَا ، وَالتَّمْلِيكَاتُ تَقْتَضِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ اُعْتُبِرَتْ سَاعَةً وَاحِدَةً ، إلَّا أَنَّ الْمَجْلِسَ تَارَةً يَتَبَدَّلُ بِالذَّهَابِ عَنْهُ وَتَارَةً بِالِاشْتِغَالِ بِعَمَلٍ آخَرَ ، إذْ مَجْلِسُ الْأَكْلِ غَيْرُ مَجْلِسِ الْمُنَاظَرَةِ وَمَجْلِسُ الْقِتَالِ غَيْرُهُمَا .
وَيَبْطُلُ خِيَارُهَا بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ ، بِخِلَافِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ هُنَاكَ الِافْتِرَاقُ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ فِي قَوْلِهِ : اخْتَارِي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ تَخْيِيرَهَا فِي نَفْسِهَا وَيَحْتَمِلُ تَخْيِيرَهَا فِي تَصَرُّفٍ آخَرَ غَيْرِهِ ( فَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي قَوْلِهِ اخْتَارِي كَانَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً ) .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَقَعَ بِهَذَا شَيْءٌ ، وَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ الطَّلَاقَ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِهَذَا اللَّفْظِ فَلَا يَمْلِكُ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّاهُ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلِأَنَّهُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَنْ يَسْتَدِيمَ نِكَاحَهَا أَوْ يُفَارِقَهَا فَيَمْلِكُ إقَامَتَهَا مَقَامَ نَفْسِهِ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ ، ثُمَّ الْوَاقِعُ بِهَا بَائِنٌ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا بِثُبُوتِ اخْتِصَاصِهَا بِهَا وَذَلِكَ فِي الْبَائِنِ ( وَلَا يَكُونُ ثَلَاثًا وَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ ذَلِكَ ) لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَا يَتَنَوَّعُ ، بِخِلَافِ الْإِبَانَةِ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ قَدْ تَتَنَوَّعُ .
بَابُ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ ) : لَمَّا فَرَغَ مِنْ تَصَرُّفِ نَفْسِ الرَّجُلِ فِي الطَّلَاقِ شَرَعَ فِي بَيَانِ التَّصَرُّفِ الْحَاصِلِ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ ، وَأَخَّرَهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَصَرُّفُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ .
( فَصْلٌ فِي الِاخْتِيَارِ ) هَذَا الْبَابُ ثَلَاثُ فُصُولٍ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَذَكَرَهَا مُتَوَالِيَةً وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ فِيهِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا .
الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَقَعَ بِهَذَا شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ الطَّلَاقَ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِهَذَا اللَّفْظِ حَتَّى لَوْ قَالَ اخْتَرْتُك مِنْ نَفْسِي أَوْ اخْتَرْت نَفْسِي مِنْك لَا يَقَعُ شَيْءٌ ، وَمَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا لَا يَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ لِغَيْرِهِ ، لَكِنْ اسْتَحْسَنُوا تَرْكَ الْقِيَاسِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ .
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَزَيْدٍ وَعَائِشَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا : إذَا خَيَّرَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا ذَلِكَ ، فَإِذَا قَامَتْ فَلَا خِيَارَ لَهَا .
وَلَمْ يُقَلْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَ ذَلِكَ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَقْتَصِرَ الْجَوَابُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَبْطُلَ خِيَارُهَا بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ مِنْ الزَّوْجِ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ فِيمَا يَحْتَمِلُ التَّأْبِيدَ يَتَأَبَّدُ ، لَكِنْ تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ بِآثَارِ الصَّحَابَةِ ، وَالْمُصَنِّفُ جَعَلَهُ كَالْبَيْعِ فِي كَوْنِهِ تَمْلِيكًا ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ مِمَّا يَتَأَبَّدُ ، وَمِمَّا لَا يَتَأَبَّدُ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ بَطَلَ الْقِيَاسُ : أَعْنِي قِيَاسَ الْمُصَنِّفِ التَّخْيِيرَ عَلَى الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَانَ الِاخْتِيَارُ كَذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ الْقِيَاسُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ .
ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ
التَّمْلِيكِ وَالتَّوْكِيلِ بِأَنَّ التَّمْلِيكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُمَلَّكُ لَهُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ ، وَالتَّوْكِيلَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ عَامِلًا لِغَيْرِهِ ، وَالْمَرْأَةُ بَعْدَ التَّخْيِيرِ إنَّمَا تَعْمَلُ لِنَفْسِهَا فَكَانَ التَّخْيِيرُ تَمْلِيكًا لَا تَوْكِيلًا .
وَأَوْرَدَ عَلَى ذَلِكَ شُبَهًا : أَحَدُهَا أَنَّ رَبَّ الدَّيْنِ إذَا وَكَّلَ الْمَدْيُونَ بِإِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ عَنْ الدَّيْنِ فَهُوَ وَكِيلٌ وَإِنْ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي إبْرَاءِ ذِمَّتِهِ عَنْ الدَّيْنِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ وَكِيلٌ عَدَمُ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَجْلِسِ ، وَيَمْلِكُ صَاحِبُ الدَّيْنِ الرُّجُوعَ قَبْلَ الْإِبْرَاءِ .
وَالثَّانِيَةُ أَنَّ التَّخْيِيرَ لَوْ كَانَ تَمْلِيكًا تَوَارَدَ مِلْكُهُ وَمِلْكُهَا عَلَى الطَّلَاقِ دَفْعَةً وَهُوَ لَا يَصِحُّ .
وَالثَّالِثَةُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ طَلِّقِي نَفْسَك ثُمَّ حَلَفَ أَنْ لَا يُطَلِّقَ وَطَلَّقَتْ هِيَ نَفْسَهَا حَنِثَ الزَّوْجُ فِي يَمِينِهِ ، وَلَوْ مَلَكَتْ طَلَاقَهَا لَمَا حَنِثَ .
وَأَجَابَ عَنْ الْأَوَّلِ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ تَصَرُّفَ الْمَدْيُونِ لِنَفْسِهِ وَقَعَ فِي ضِمْنِ صِحَّةِ وَكَالَتِهِ وَالضِّمْنِيُّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَهُوَ لَيْسَ بِدَافِعٍ لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ مِثْلُهُ فِي التَّخْيِيرِ بِأَنَّهَا تَعْمَلُ لِنَفْسِهَا فِي ضِمْنِ صِحَّةِ وَكَالَتِهَا ، وَكَذَا بَقِيَّةُ كَلَامِهِ فِي الْأَجْوِبَةِ لَا يَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ يَطُولُ الْكَلَامُ بِذِكْرِهِ .
وَأَقُولُ : التَّمْلِيكُ هُوَ الْإِقْرَارُ الشَّرْعِيُّ عَلَى مَحَلِّ التَّصَرُّفِ وَالتَّوْكِيلُ هُوَ الْإِقْرَارُ عَلَى التَّصَرُّفِ وَحِينَئِذٍ تَنْدَفِعُ الشُّبْهَةُ الْأُولَى .
وَالْجَوَابُ عَنْ الثَّانِيَةِ أَنَّ التَّخْيِيرَ تَمْلِيكٌ لَكِنْ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ لَهَا إلَّا بِالْقَبُولِ ، فَقَبْلَهُ لَا مِلْكَ لَهَا وَبَعْدَهُ زَالَ مِلْكُهُ فَلَمْ يَتَوَارَدْ الْمِلْكَانِ عَلَيْهِ لَا قَبْلَ الْقَبُولِ وَلَا بَعْدَهُ .
وَعَنْ الثَّالِثَةِ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَمْنُوعَةٌ وَالْمَنْعُ مَذْكُورٌ فِي الزِّيَادَاتِ .
ثُمَّ إنَّ الْمَرْأَةَ إمَّا أَنْ تَخْتَارَ زَوْجَهَا أَوْ نَفْسَهَا ، فَإِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا
لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَقَعُ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ ، كَأَنَّهُ جَعَلَ عَيْنَ هَذَا اللَّفْظِ طَلَاقًا .
وَإِنَّمَا نَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ ، قَالَتْ عَائِشَةُ : { خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَرْنَاهُ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا } ، وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا بِثُبُوتِ اخْتِصَاصِهَا بِهَا ، وَذَلِكَ فِي الْبَائِنِ ، وَلَا يَقَعُ ثَلَاثٌ وَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَا يَتَنَوَّعُ ، بِخِلَافِ الْإِبَانَةِ فَإِنَّهَا تَتَنَوَّعُ كَمَا تَقَدَّمَ .
قَالَ ( وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ النَّفْسِ فِي كَلَامِهِ أَوْ فِي كَلَامِهَا ، حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا : اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ : اخْتَرْت فَهُوَ بَاطِلٌ ) لِأَنَّهُ عُرِفَ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ فِي الْمُفَسَّرَةِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ، وَلِأَنَّ الْمُبْهَمَ لَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِلْمُبْهَمِ الْآخَرِ وَلَا تَعْيِينَ مَعَ الْإِبْهَامِ ( وَلَوْ قَالَ لَهَا : اخْتَارِي نَفْسَك فَقَالَتْ : اخْتَرْت تَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ) لِأَنَّ كَلَامَهُ مُفَسَّرٌ ، وَكَلَامُهَا خَرَجَ جَوَابًا لَهُ فَيَتَضَمَّنُ إعَادَتَهُ ( وَكَذَا لَوْ قَالَ اخْتَارِي اخْتِيَارَةً فَقَالَتْ : اخْتَرْت ) لِأَنَّ الْهَاءَ فِي الِاخْتِيَارَةِ تُنْبِئُ عَنْ الِاتِّحَادِ وَالِانْفِرَادِ ، وَاخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا هُوَ الَّذِي يَتَّحِدُ مَرَّةً وَيَتَعَدَّدُ أُخْرَى فَصَارَ مُفَسَّرًا مِنْ جَانِبِهِ .
وَقَوْلُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ النَّفْسِ فِي كَلَامِهِ أَوْ كَلَامِهَا ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : هَذَا لَيْسَ بِمُنْحَصِرٍ بِذِكْرِ النَّفْسِ فِي حَقِّ إرَادَةِ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ مِنْ التَّخْيِيرِ ، فَإِنَّ الْبَيْنُونَةَ كَمَا تَقَعُ عِنْدَ ذِكْرِ النَّفْسِ فِي أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ فَكَذَلِكَ تَقَعُ بِذِكْرِ مَا يَقُومُ مَقَامَ النَّفْسِ فِي أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ كَالتَّطْلِيقَةِ وَالِاخْتِيَارَةِ .
وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ اخْتَرْت فَهُوَ بَاطِلٌ ) قِيلَ هَذَا إذَا لَمْ يُصَدِّقْهَا الزَّوْجُ بِأَنَّهَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا ، أَمَّا إذَا صَدَقَهَا طَلُقَتْ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامَانِ مُبْهَمَيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا تَعْيِينَ مَعَ الْإِبْهَامِ ) يَعْنِي أَنَّ اخْتَارِي مِنْ الْكِنَايَاتِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ وَلَا تَعْيِينَ مَعَ الْإِبْهَامِ ، وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَالَ اخْتَارِي نَفْسَك ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَيَتَضَمَّنُ إعَادَتَهُ ) أَيْ إعَادَةَ كَلَامِهِ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ اخْتَرْت مَا أَمَرْتنِي بِاخْتِيَارِهِ وَهُوَ النَّفْسُ .
وَقَوْلُهُ وَكَذَا لَوْ قَالَ اخْتَارِي اخْتِيَارَةً ) بَيَانُ مَا يَقُومُ مَقَامَ النَّفْسِ فِي التَّفْسِيرِ ( لِأَنَّ الْهَاءَ ) أَيْ التَّاءَ ( فِي الِاخْتِيَارَةِ تُنْبِئُ عَنْ الِاتِّحَادِ ) لِكَوْنِهَا لِلْمَرَّةِ ، وَالِاتِّحَادُ إنَّمَا يَكُونُ فِي اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا لِأَنَّهُ يَتَّحِدُ مَرَّةً بِأَنْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي نَفْسَك بِتَطْلِيقَةٍ ( وَيَتَعَدَّدُ أُخْرَى ) بِأَنْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي نَفْسَك بِمَا شِئْت أَوْ بِثَلَاثٍ ( فَصَارَ مُفَسِّرًا مِنْ جَانِبِهِ ) بِخِلَافِ اخْتِيَارِهَا الزَّوْجَ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ لِكَوْنِهِ عِبَارَةً عَنْ إبْقَاءِ النِّكَاحِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ .
.
( وَلَوْ قَالَ : اخْتَارِي فَقَالَتْ : قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا نَوَى الزَّوْجُ ) لِأَنَّ كَلَامَهَا مُفَسَّرٌ ، وَمَا نَوَاهُ الزَّوْجُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ ( وَلَوْ قَالَ : اخْتَارِي فَقَالَتْ : أَنَا أَخْتَارُ نَفْسِي فَهِيَ طَالِقٌ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَطْلُقَ لِأَنَّ هَذَا مُجَرَّدُ وَعْدٍ أَوْ يَحْتَمِلُهُ ، فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ : أَنَا أُطَلِّقُ نَفْسِي .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ حَدِيثُ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَإِنَّهَا قَالَتْ لَا بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } اعْتَبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَابًا مِنْهَا ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ وَتَجُوزُ فِي الِاسْتِقْبَالِ كَمَا فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ ، وَأَدَاءِ الشَّاهِدِ الشَّهَادَةَ ، بِخِلَافِ قَوْلِهَا : أُطَلِّقُ نَفْسِي لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الْحَالِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحِكَايَةٍ عَنْ حَالَةٍ قَائِمَةٍ ، وَلَا كَذَلِكَ قَوْلُهَا : أَنَا أَخْتَارُ نَفْسِي لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ حَالَةٍ قَائِمَةٍ وَهُوَ اخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي فَقَالَتْ : قَدْ اخْتَرْت الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ ( وَقَالَا : تَطْلُقُ وَاحِدَةً ) وَإِنَّمَا لَا يُحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ لِدَلَالَةِ التَّكْرَارِ عَلَيْهِ إذْ الِاخْتِيَارُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ هُوَ الَّذِي يَتَكَرَّرُ لَهُمَا إنْ ذَكَرَ الْأُولَى ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ إنْ كَانَ لَا يُفِيدُ مِنْ حَيْثُ التَّرْتِيبُ يُفِيدُ مِنْ حَيْثُ الْإِفْرَادُ فَيُعْتَبَرُ فِيمَا يُفِيدُ .
وَلَهُ أَنَّ هَذَا وَصْفٌ لَغْوٌ لِأَنَّ الْمُجْتَمِعَ فِي الْمِلْكِ لَا تَرْتِيبَ فِيهِ كَالْمُجْتَمِعِ فِي الْمَكَانِ ، وَالْكَلَامُ لِلتَّرْتِيبِ وَالْإِفْرَادُ مِنْ ضَرُورَاتِهِ ، فَإِذَا لَغَا فِي حَقِّ الْأَصْلِ لَغَا فِي حَقِّ الْبِنَاءِ ( وَلَوْ قَالَتْ اخْتَرْت اخْتِيَارَةً فَهِيَ ثَلَاثٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) لِأَنَّهَا لِلْمَرَّةِ
فَصَارَ كَمَا إذَا صَرَّحَتْ بِهَا وَلِأَنَّ الِاخْتِيَارَةَ لِلتَّأْكِيدِ وَبِدُونِ التَّأْكِيدِ تَقَعُ الثَّلَاثُ فَمَعَ التَّأْكِيدِ أَوْلَى ( وَلَوْ قَالَتْ قَدْ طَلَّقْت نَفْسِي أَوْ اخْتَرْت نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ) لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُوجِبُ الِانْطِلَاقَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَأَنَّهَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ ( وَإِنْ قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك فِي تَطْلِيقَةٍ أَوْ اخْتَارِي تَطْلِيقَةً فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ) لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهَا الِاخْتِيَارَ لَكِنْ بِتَطْلِيقَةٍ وَهِيَ مُعْقِبَةٌ لِلرَّجْعَةِ بِالنَّصِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي ) ظَاهِرٌ ، وَلَمْ يَذْكُرْ وُقُوعَ كَلَامِ الْمَرْأَةِ مُفَسَّرًا بِذِكْرِهَا الِاخْتِيَارَةَ ، كَمَا لَوْ قَالَ الزَّوْجُ اخْتَارِي فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ اخْتَرْت اخْتِيَارَةً ، وَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ ذِكْرَ الِاخْتِيَارَةِ لَمَّا صَلَحَ لِلتَّفْسِيرِ صَارَ ذِكْرُهَا بِمَنْزِلَةِ ذِكْرِ النَّفْسِ وَكِلَاهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ .
فَكَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى ذِكْرِ الِاخْتِيَارَةِ ( وَلَوْ قَالَ اخْتَارِي فَقَالَتْ أَنَا أَخْتَارُ نَفْسِي فَهِيَ طَالِقٌ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَطْلُقَ لِأَنَّ هَذَا مُجَرَّدُ وَعْدٍ ) يَعْنِي إنْ أَرَادَتْ الِاسْتِقْبَالَ ( أَوْ يَحْتَمِلُهُ ) إنْ لَمْ تُرِدْهُ ، ( فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ أَنَا أُطَلِّقُ نَفْسِي ) فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَذَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ حَدِيثُ عَائِشَةَ ) وَهُوَ مَا رُوِيَ " { أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَائِشَةَ فَقَالَ : إنِّي مُخْبِرُك بِأَمْرٍ فَلَا تُجِيبِينِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك ، ثُمَّ أَخْبَرَهَا بِالْآيَةِ ، فَقَالَتْ : أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ ؟ لَا ، بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ } " .
وَاعْتَبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَابًا مِنْهَا وَإِنْ كَانَ عَلَى صِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمُحْتَمِلِ الْوَعْدَ ( وَلِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ وَتَجَوُّزٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ ) وَالْحَقِيقَةُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُرَادَةً ( كَمَا فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ ) فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْهُ إيمَانًا لَا وَعْدًا بِالْإِيمَانِ ، وَكَذَا الشَّاهِدُ إذَا قَالَ : أَشْهَدُ بِكَذَا فَلَا يَصِيرُ إلَى الْمَجَازِ ( بِخِلَافِ قَوْلِهَا
أَنَا أُطَلِّقُ نَفْسِي لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ مُتَعَذِّرٌ ) إذْ لَيْسَ ثَمَّةَ حَالَةٌ قَائِمَةٌ بِالْمُتَكَلِّمِ يَقَعُ قَوْلُهُ أُطَلِّقُ نَفْسِي حِكَايَةً عَنْهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْإِيقَاعَ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ وَلَمْ يَصِحَّ فِعْلُ اللِّسَانِ حِكَايَةً عَنْ فِعْلٍ قَائِمٍ بِاللِّسَانِ عَلَى سَبِيلِ الْحَالِ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ بَعْدُ وَالْحِكَايَةُ تَقْتَضِي وُجُودَ الْمَحْكِيِّ عَنْهُ ( وَلَا كَذَلِكَ أَخْتَارُ نَفْسِي لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ حَالَةٍ قَائِمَةٍ وَهُوَ اخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا ) لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ فَيَكُونُ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ حِكَايَةً عَنْ أَمْرٍ قَائِمٍ لَا مَحَالَةَ .
وَاعْتَرَضَ الشَّارِحُونَ عَلَى قَوْلِهِ حَقِيقَةً فِي الْحَالِ بِأَنَّ النَّحْوِيِّينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ صِيغَةَ الْمُضَارِعِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَهُمْ أَعْرَفُ بِالْمَوْضُوعَاتِ .
وَأَجَابَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَتَابَعَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّ أَحَدَ مَعْنَيَيْ الْمُشْتَرَكِ يَتَرَجَّحُ بِدَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى وَقَدْ وُجِدَ هَاهُنَا دَلَالَةُ إرَادَةِ الْحَالِ بِهِ ، إذْ الْعَادَةُ الْعُرْفِيَّةُ وَالشَّرْعِيَّةُ تَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الصِّيغَةِ لِلْحَالِ يَقُولُ الرَّجُلُ فُلَانٌ يَخْتَارُ كَذَا وَأَنَا أَمْلِكُ كَذَا فِي الْعَادَةِ وَفِي الشَّرِيعَةِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ ، وَهَذَا كَمَا تَرَى لَيْسَ بِدَافِعٍ لِلسُّؤَالِ وَلَيْسَ لَهُ اتِّصَالٌ بِهَذَا الْمَحَلِّ .
وَأَقُولُ : بَحْثُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لَيْسَ بِوَظِيفَةِ النَّحْوِيِّ فَلَا مُعْتَبَرَ بِكَلَامِهِمْ فِيهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ وَظِيفَةُ الْأُصُولِ أَوْ وَظِيفَةُ الْبَيَانِ ، وَأَهْلُ الْبَيَانِ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِذِكْرِهِ فِيمَا وَصَلَ إلَيْنَا مِنْ كُتُبِهِمْ ، وَأَهْلُ الْأُصُولِ نَقَلُوا فِيهِ الْخِلَافَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ بِهِ الْمُصَنِّفُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْعَكْسِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالِاشْتِرَاكِ ، وَالْأَوَّلُ مُخْتَارُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُصَنِّفُ مِنْهُمْ لَا مَحَالَةَ ، وَالْقَوْلُ بِالِاشْتِرَاكِ
مَرْجُوحٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا دَارَ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ فَالْحَمْلُ عَلَى الْمَجَازِ أَوْلَى لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ مُخِلٌّ بِالْفَهْمِ عَلَى مَا عُرِفَ .
قَالَ ( وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ وَلَا إلَى ذِكْرِ النَّفْسِ ، وَعِنْدَهُمَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً ، وَإِنَّمَا لَا يُحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ ) وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْكِنَايَاتِ ( لِدَلَالَةِ التَّكْرَارِ عَلَيْهِ إذْ الِاخْتِيَارُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ هُوَ الَّذِي يَتَكَرَّرُ ) فَكَانَ مُتَعَيِّنًا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ النَّفْسِ لِزَوَالِ الْإِبْهَامِ ، قَالَ : الْأُولَى وَالْوُسْطَى وَالْأَخِيرَةَ كُلٌّ مِنْهَا اسْمٌ لِمُفْرَدٍ مُرَتَّبٍ ، وَلَيْسَ الْمَحَلُّ مَحَلَّ تَرْتِيبٍ فَيَلْغُو التَّرْتِيبُ وَيَبْقَى الْإِفْرَادُ ، وَكَأَنَّهَا قَالَتْ اخْتَرْت التَّطْلِيقَةَ الْأُولَى لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا اخْتَرْت الْأُولَى اخْتَرْت مَا صَارَ إلَيَّ بِالْكَلِمَةِ الْأُولَى ، وَاَلَّذِي صَارَ إلَيْهَا بِالْكَلِمَةِ الْأُولَى تَطْلِيقَةٌ فَكَأَنَّهَا صَرَّحَتْ بِذَلِكَ وَفِي ذَلِكَ يَقَعُ وَاحِدَةٌ فَكَذَا هَاهُنَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا وَصْفُ لَغْوٍ لِأَنَّ الْمُجْتَمِعَ فِي الْمِلْكِ لَا تَرْتِيبَ فِيهِ كَالْمُجْتَمِعِ فِي الْمَكَانِ فَإِنَّ الْقَوْمَ إذَا اجْتَمَعُوا فِي مَكَان لَا يُقَالُ هَذَا أَوَّلُ وَهَذَا آخِرُ وَإِنَّمَا التَّرْتِيبُ فِي فِعْلِ الْأَعْيَانِ يُقَالُ هَذَا جَاءَ أَوَّلًا وَهَذَا جَاءَ آخِرًا وَكُلُّ مَا لَا تَرْتِيبَ فِيهِ يَلْغُو فِيهِ الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ لِلتَّرْتِيبِ وَهُوَ الْأُولَى وَأُخْتَاهَا ، وَإِذَا لَغَا اللَّفْظُ مِنْ حَيْثُ التَّرْتِيبُ يَلْغُو مِنْ حَيْثُ الْإِفْرَادُ أَيْضًا لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِيهِ أَصْلٌ بِدَلَالَةِ الِاشْتِقَاقِ وَالْإِفْرَادُ مِنْ ضَرُورَاتِهِ ، وَإِذَا لَغَا فِي حَقِّ الْأَصْلِ لَغَا فِي حَقِّ الْبِنَاءِ ، وَإِذَا لَغَا فِي حَقِّهِمَا بَقِيَ قَوْلُهَا اخْتَرْت وَهُوَ يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْكُلِّ فَيَقَعُ الثَّلَاثُ ، وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ
وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَطْلَقَ الْكَلَامَ عَلَى الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةِ وَكُلٌّ مِنْهَا مُفْرَدٌ فَلَا يَكُونُ كَلَامًا .
وَالثَّانِي أَنَّ الْأُولَى اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ فَكَانَ الْإِفْرَادُ أَصْلًا وَالتَّرْتِيبُ بِنَاءً لِكَوْنِهِ يُفْهَمُ مِنْ وَصْفِهِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ رُبَّمَا يُطْلِقُونَ الْكَلَامَ عَلَى الْمُرَكَّبِ مِنْ الْحُرُوفِ الْمَسْمُوعَةِ الْمُتَمَيِّزَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا ، وَهَذَا عَلَى ذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْجُزْءِ ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ كُلًّا مِنْ ذَلِكَ صِفَةٌ وَالصِّفَةُ مَا دَلَّتْ عَلَى ذَاتٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى هُوَ الْمَقْصُودُ فَيَكُونُ الْأُولَى دَالًّا عَلَى الْفَرْدِ السَّابِقِ وَمَعْنَى السَّبْقِ هُوَ الْمَقْصُودُ فَصَحَّ أَنَّ التَّرْتِيبَ أَصْلٌ وَالْإِفْرَادَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَا تَقُومُ إلَّا بِالذَّاتِ الَّتِي لَزِمَتْهَا الْفَرْدِيَّةُ فِي الْوُجُودِ وَهَذَا كَمَا تَرَى مَعْنًى دَقِيقٌ جَزَاهُ اللَّهُ عَنْ الْمُحَصِّلِينَ خَيْرًا ( وَلَوْ قَالَتْ اخْتَرْت اخْتِيَارَةً فَهِيَ ثَلَاثٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) وَهُوَ وَاضِحٌ وَلَوْ قَالَتْ قَدْ طَلَّقْت نَفْسِي أَوْ اخْتَرْت نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ ) يَعْنِي فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ اخْتَارِي ( فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ ) يَعْنِي قَوْلَهَا قَدْ طَلَّقْت نَفْسِي أَوْ اخْتَرْت بِتَطْلِيقَةٍ ( يُوجِبُ الِانْطِلَاقَ ) أَيْ الْبَيْنُونَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِكَوْنِهِ مِنْ أَلْفَاظِ الصَّرِيحِ وَمَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَانَ عِنْدَ الْوُقُوعِ رَجْعِيًّا فَهَذَا اللَّفْظُ يُوجِبُ الرَّجْعِيَّ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَنْ لَا يَكُونُ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلتَّفْوِيضِ لِأَنَّ الْمُفَوَّضَ إلَيْهَا الِاخْتِيَارُ وَهُوَ يُفِيدُ الْبَيْنُونَةَ .
أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ ( فَكَأَنَّهَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ ) فَكَانَ مُطَابِقًا مِنْ حَيْثُ إنَّ الِاخْتِيَارَ قَدْ وُجِدَ مِنْهَا .
قَالَ الشَّارِحُونَ : وَقَوْلُهُ يَمْلِكُ
الرَّجْعَةَ غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ الْكَاتِبِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إنَّمَا تَتَصَرَّفُ حُكْمًا لِلتَّفْوِيضِ وَالتَّفْوِيضُ بِتَطْلِيقَةٍ بَائِنَةٍ لِكَوْنِهِ مِنْ الْكِنَايَاتِ فَتَمْلِكُ الْإِبَانَةَ لَا غَيْرُ ، وَالْأَصَحُّ مِنْ الرِّوَايَةِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ وَلَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ لِأَنَّ رِوَايَاتِ الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَالزِّيَادَاتِ وَعَامَّةَ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ هَكَذَا ، سِوَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِصَدْرِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ مِثْلَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَالدَّلِيلُ أَيْضًا يُسَاعِدُ مَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ النُّسَخِ ، فَإِنَّهُ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ ، أَمَّا وُقُوعُ الْوَاحِدَةِ فَلِمَا قُلْنَا وَهُوَ أَنَّ التَّطْلِيقَةَ لَا تَتَنَاوَلُ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاحِدَةِ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ بَائِنًا لِأَنَّ الْعَامِلَ تَخْيِيرُ الزَّوْجِ وَالْوَاقِعُ بِالتَّخْيِيرِ بَائِنٌ لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ النَّفْسِ مِنْهَا وَالرَّجْعِيُّ لَا يُثْبِتُ مِلْكَ النَّفْسِ ( وَإِنْ قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك فِي تَطْلِيقَةٍ أَوْ اخْتَارِي بِتَطْلِيقَةٍ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهَا الِاخْتِيَارَ لَكِنْ بِتَطْلِيقَةٍ وَهِيَ تَعْقُبُ الرَّجْعَةَ ) قِيلَ فَعَلَى هَذَا كَانَ قَوْلُهُ هَذَا فِي التَّقْدِيرِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَك ، وَقَوْلُهَا اخْتَرْت لَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِقَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَك بَلْ يَلْغُو .
وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهَا اخْتَرْت إنَّمَا لَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِقَوْلِهِ طَلِّقِي لِكَوْنِهِ أَضْعَفَ مِنْ الطَّلَاقِ فَإِنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ دُونَ لَفْظِ الِاخْتِيَارِ ؛ وَلِهَذَا صَحَّ بِالْعَكْسِ لِكَوْنِ الطَّلَاقِ أَقْوَى ، وَهَهُنَا لَمْ يَكُنْ أَضْعَفَ لِأَنَّ صِحَّةَ هَذَا الْجَوَابِ بِالنَّظَرِ إلَى ظَاهِرِ كَلَامِهِ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْيَدِ وَالِاخْتِيَارِ دُونَ مَا يَئُولُ إلَيْهِ مِنْ الْمَعْنَى وَهُمَا ضَعِيفَانِ كَالِاخْتِيَارِ ، فَجَازَ أَنْ يَقَعَ قَوْلُهَا اخْتَرْت جَوَابًا لَهُ .
( وَإِنْ قَالَ لَهَا : أَمْرُك بِيَدِك يَنْوِي ثَلَاثًا فَقَالَتْ : قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ فَهِيَ ثَلَاثٌ ) لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْأَمْرِ بِالْيَدِ لِكَوْنِهِ تَمْلِيكًا كَالتَّخْيِيرِ ، وَالْوَاحِدَةُ صِفَةٌ لِلِاخْتِيَارَةِ ، فَصَارَ كَأَنَّهَا قَالَتْ : اخْتَرْت نَفْسِي بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَبِذَلِكَ يَقَعُ الثَّلَاثُ ( وَلَوْ قَالَتْ : قَدْ طَلَّقْت نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ أَوْ اخْتَرْت نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ) لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ فِي الْأُولَى الِاخْتِيَارَةُ ، وَفِي الثَّانِيَةِ التَّطْلِيقَةُ إلَّا أَنَّهَا تَكُونُ بَائِنَةً لِأَنَّ التَّفْوِيضَ فِي الْبَائِنِ ضَرُورَةُ مِلْكِهَا أَمْرَهَا ، وَكَلَامُهَا خَرَجَ جَوَابًا لَهُ فَتَصِيرُ الصِّفَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي التَّفْوِيضِ مَذْكُورَةً فِي الْإِيقَاعِ وَإِنَّمَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي قَوْلِهِ : أَمْرُك بِيَدِك لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ وَنِيَّةُ الثَّلَاثِ نِيَّةُ التَّعْمِيمِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ : اخْتَارِي لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .
( فَصْلٌ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ ) أَخَّرَ فَصْلَ الْأَمْرِ بِالْيَدِ عَنْ فَصْلِ الِاخْتِيَارِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُؤَيَّدٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، إذَا جَعَلَ الرَّجُلُ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي التَّخْيِيرِ فِي الْمَسَائِلِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : إلَّا أَنَّ هَذَا صَحِيحٌ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الزَّوْجَ مَالِكٌ لِأَمْرِهَا فَإِنَّمَا يُمَلِّكُهَا بِهَذَا اللَّفْظِ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ فَيَصِحُّ مِنْهُ وَيَلْزَمُ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الرُّجُوعَ عَنْهُ اعْتِبَارًا بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ .
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الِاخْتِيَارِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِهَذَا اللَّفْظِ .
حَتَّى لَوْ قَالَ اخْتَرْتُك مِنْ نَفْسِي أَوْ اخْتَرْت نَفْسِي مِنْك لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَفِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ كَذَلِكَ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ قِيَاسًا كَمَا فِي الِاخْتِيَارِ إلَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ إذَا قَالَ أَمْرِي مِنْك بِيَدِك أَوْ أَمْرُك مِنِّي بِيَدِي وَقَعَ الطَّلَاقُ فَيَنْدَفِعُ ( وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَمْرُك بِيَدِك يَنْوِي بِذَلِكَ الثَّلَاثَ فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ فَهِيَ ثَلَاثٌ ) وَبَيَانُهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ صِحَّةِ جَوَابِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ بِالِاخْتِيَارِ وَإِلَى كَيْفِيَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَى الثَّلَاثَةِ ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْأَمْرِ بِالْيَدِ لِكَوْنِهِ تَمْلِيكًا كَالتَّخْيِيرِ فَكَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ فَجَازَ أَنْ يَقَعَ جَوَابًا لَهُ .
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الدَّلَالَةِ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَلِأَنَّ الْوَاحِدَةَ صِفَةُ الِاخْتِيَارَةِ ( فَصَارَتْ كَأَنَّهَا قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ) أَيْ بِاخْتِيَارَةٍ وَاحِدَةٍ بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَهِيَ فِي الْأُولَى الِاخْتِيَارَةُ ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهَا بِمَرَّةٍ لِأَنَّ الصِّيغَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْمَرَّةِ مِنْ الِاخْتِيَارِ هِيَ الِاخْتِيَارَةُ فَعَبَّرَ عَنْهَا بِمَفْهُومِهَا ، وَبِذَلِكَ : أَيْ بِقَوْلِهَا اخْتَرْت نَفْسِي بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ
يَقَعُ الثَّلَاثُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اخْتَرْت جَمِيعَ مَا فَوَّضْت إلَيَّ اخْتِيَارَةً وَاحِدَةً ، وَحِينَ نَوَى الزَّوْجُ الثَّلَاثَ فَقَدْ فَوَّضَ إلَيْهَا ذَلِكَ ( وَلَوْ قَالَتْ ) يَعْنِي فِي جَوَابِ قَوْلِهِ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك ( قَدْ طَلَّقْت نَفْسِي وَاحِدَةً أَوْ اخْتَرْت نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ لِأَنَّ الْوَاحِدَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ ) فَوَجَبَ إثْبَاتُهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ السَّابِقُ ، وَهُوَ فِي الْأُولَى الِاخْتِيَارَةُ لِدَلَالَةِ اخْتَرْت عَلَيْهَا ، وَفِي الثَّانِيَةِ التَّطْلِيقَةُ لِدَلَالَةِ طَلَّقْت عَلَيْهَا ، وَلَا يُتَوَهَّمُ التَّكْرَارُ فِي قَوْلِهِ وَهِيَ فِي الْأُولَى الِاخْتِيَارَةُ مَعَ تَقَدُّمِ قَوْلِهِ وَالْوَاحِدَةُ صِفَةٌ لِلِاخْتِيَارَةِ لِأَنَّهُ إعَادَةٌ لِبَيَانِ قَرِينَةِ الْمَحْذُوفِ ، وَكَأَنَّهُ قَالَ وَهُوَ فِي الْأُولَى الِاخْتِيَارَةُ لِدَلَالَةِ اخْتَرْت عَلَيْهَا فَتَكُونُ فِي الثَّانِيَةِ التَّطْلِيقَةُ لِدَلَالَةِ طَلَّقْت عَلَيْهَا إلَّا أَنَّهَا تَكُونُ بَائِنَةً لِأَنَّ أَمْرَك بِيَدِك مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ ، وَالْوَاقِعُ بِهَا بَائِنٌ فِيمَا سِوَى الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فَكَانَ التَّفْوِيضُ فِي الْبَائِنِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ مَلَّكَهَا أَمْرَهَا ، فَقَوْلُهُ فِي الْبَائِنِ خَبَرُ إنَّ وَتَقْرِيرُهُ التَّفْوِيضَ حَصَلَ فِي الْبَائِنِ لِضَرُورَةِ أَنَّهُ مَلَّكَهَا أَمْرَهَا ، وَأَنَّ تَمْلِيكَهُ إيَّاهَا أَمْرَهَا يَقْتَضِي الْبَيْنُونَةَ لِكَوْنِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ وَكَلَامُهَا خَرَجَ جَوَابًا لَهُ فَتَصِيرُ الصِّفَةُ الْمَذْكُورَةُ يَعْنِي الْبَيْنُونَةَ فِي التَّفْوِيضِ مَذْكُورَةً فِي إيقَاعِ الْمَرْأَةِ كَلَامَهَا مُطَابِقًا لِكَلَامِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهَا اخْتَرْت نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ فِي جَوَابِ اخْتَارِي وَبَيْنَ قَوْلِهِ ذَلِكَ فِي جَوَابِ أَمْرُك بِيَدِك عِنْدَ الْمُصَنِّفِ حَتَّى كَانَ الْوَاقِعُ فِي الْأَوَّلِ رَجْعِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ وَفِي الثَّانِي بَائِنًا كَمَا ذَكَرَهُ ، وَهَلْ هَذَا إلَّا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا تَقَدَّمَ كَانَ سَهْوًا مِنْ الْكَاتِبِ كَمَا ذَكَرَهُ
الشَّارِحُونَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الِاخْتِيَارَ الْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ لَا يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ ، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّاهُ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، وَالْإِجْمَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي مُجَرَّدِ الطَّلَاقِ لَا فِي الْبَائِنِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ صَرِيحَ الطَّلَاقِ الْوَارِدِ فِي كَلَامِهَا عَنْ مُوجِبِهِ بِخِلَافِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ لِأَنَّهُ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا عَلَى مَا نَقَلْنَا عَنْ صَاحِبِ النِّهَايَةِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ ( وَإِنَّمَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي قَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك دُونَ اخْتَارِي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : الْأَمْرُ اسْمٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ شَيْءٍ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } أَرَادَ بِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ اسْمًا عَامًّا صَلَحَ اسْمًا لِكُلِّ فِعْلٍ ، فَإِذَا نَوَى الطَّلَاقَ صَارَ كِنَايَةً عَنْ قَوْلِهِ طَلَاقُك بِيَدِك وَالطَّلَاقُ مَصْدَرٌ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ فَيَكُونُ نِيَّةُ الثَّلَاثِ نِيَّةَ التَّعْمِيمِ ( بِخِلَافِ قَوْلِهِ اخْتَارِي لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ) يَعْنِي فِي فَصْلِ الِاخْتِيَارِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَا يَتَنَوَّعُ .
.
( وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ اللَّيْلُ وَإِنْ رَدَّتْ الْأَمْرَ فِي يَوْمِهَا بَطَلَ أَمْرُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَكَانَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا بَعْدَ غَدٍ ) لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِذِكْرِ وَقْتَيْنِ بَيْنَهُمَا وَقْتٌ مِنْ جِنْسِهِمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْأَمْرُ إذْ ذِكْرُ الْيَوْمِ بِعِبَارَةِ الْفَرْدِ لَا يَتَنَاوَلُ اللَّيْلَ فَكَانَا أَمْرَيْنِ فَبِرَدِّ أَحَدِهِمَا لَا يَرْتَدُّ الْآخَرُ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : هُمَا أَمْرٌ وَاحِدٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ .
قُلْنَا : الطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْقِيتَ ، وَالْأَمْرُ بِالْيَدِ يَحْتَمِلُهُ ، فَيُوَقَّتُ الْأَمْرُ بِالْأَوَّلِ وَجَعَلَ الثَّانِيَ أَمْرًا مُبْتَدَأً ( وَلَوْ قَالَ أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَغَدًا يَدْخُلُ اللَّيْلُ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ رَدَّتْ الْأَمْرَ فِي يَوْمِهَا لَا يَبْقَى الْأَمْرُ فِي يَدِهَا فِي غَدٍ ) لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَقْتٌ مِنْ جِنْسِهِمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْكَلَامُ وَقَدْ يَهْجُمُ اللَّيْلُ وَمَجْلِسُ الْمَشُورَةِ لَا يَنْقَطِعُ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ : أَمْرُك بِيَدِك فِي يَوْمَيْنِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا إذَا رَدَّتْ الْأَمْرَ فِي الْيَوْمِ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا غَدًا لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ رَدَّ الْأَمْرِ كَمَا لَا تَمْلِكُ رَدَّ الْإِيقَاعِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهَا إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا الْيَوْمَ لَا يَبْقَى لَهَا الْخِيَارُ فِي الْغَدِ ، فَكَذَا إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا بِرَدِّ الْأَمْرِ لِأَنَّ الْمُخَيَّرَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لَا يَمْلِكُ إلَّا اخْتِيَارَ أَحَدِهِمَا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ : أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَأَمْرُك بِيَدِك غَدًا أَنَّهُمَا أَمْرَانِ لِمَا أَنَّهُ ذَكَرَ لِكُلِّ وَقْتٍ خَبَرًا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ اللَّيْلُ ) حَتَّى لَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي اللَّيْلِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ( وَإِنْ رَدَّتْ الْأَمْرَ فِي يَوْمِهَا بَطَلَ أَمْرُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَكَانَ الْأَمْرُ فِي يَدِهَا بَعْدَ غَدٍ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِذِكْرِ وَقْتَيْنِ ) يَعْنِي الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ ( بَيْنَهُمَا وَقْتٌ مِنْ جِنْسِهِمَا ) يَعْنِي الْغَدَ ( لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْأَمْرُ ) فَإِنَّهَا لَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي الْغَدِ لَا تَطْلُقُ فَكَانَا أَمْرَيْنِ ( فَبِرَدِّ أَحَدِهِمَا لَا يَرْتَدُّ الْآخَرُ ) وَهَذَا دَلِيلُ كَوْنِ الْأَمْرِ بِيَدِهَا بَعْدَ غَدٍ بَعْدَ رَدِّهِ فِي الْيَوْمِ .
وَقَوْلُهُ إذْ ذِكْرُ الْيَوْمِ بِعِبَارَةِ الْفَرْدِ لَا يَتَنَاوَلُ الْيَوْمَ ) دَلِيلُ قَوْلِهِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ اللَّيْلُ وَهُوَ كَمَا تَرَى الْإِدْلَاجُ مُلْبِسٌ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا .
وَقَالَ زُفَرُ : هُمَا أَمْرٌ وَاحِدٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ فِي كَوْنِ أَحَدِهِمَا مَعْطُوفًا عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ تَكْرَارِ لَفْظِ الْأَمْرِ .
وَقُلْنَا : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ ، وَهُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْقِيتَ فَكَانَتْ الطَّالِقُ الْيَوْمَ طَالِقًا غَدًا وَبَعْدَ غَدٍ وَغَيْرِهِ ، وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْيَدِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُهُ ، وَذِكْرُ وَقْتَيْنِ غَيْرُ مُتَّصِلٍ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ لِتَخَلُّلِ وَقْتٍ بَيْنَهُمَا غَيْرِ مَذْكُورٍ فَيُؤَقَّتُ بِالْأَوَّلِ ، وَجَعَلَ الثَّانِيَ أَمْرًا مُبْتَدَأً كَأَنَّهُ قَالَ وَأَمْرُك بِيَدِك بَعْدَ غَدٍ ( وَلَوْ قَالَ أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَغَدًا يَدْخُلُ اللَّيْلُ فِي ذَلِكَ ) وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ رَدَّ الْأَمْرِ كَمَا لَا تَمْلِكُ رَدَّ الْإِيقَاعِ ) مَعْنَاهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَرُدَّ الْأَمْرَ بِالْيَدِ الَّذِي صَدَرَ مِنْ زَوْجِهَا بِأَنْ تَقُولَ لَا أَقْبَلُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَرُدَّ الْإِيقَاعَ الَّذِي أَوْقَعَهُ زَوْجُهَا عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ بَاقِيًا فِي الْغَدِ كَمَا كَانَ
وَكَانَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا غَدًا .
وَقَوْلُهُ وَجْهُ الظَّاهِرِ ) ظَاهِرٌ وَكَذَا قَوْلُهُ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قَالَ أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ ) قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : هَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ ، وَجَعَلَ قَاضِي خَانْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ أَصْلَ الرِّوَايَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافَ أَحَدٍ .
( وَإِنْ قَالَ : أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَقَدِمَ فُلَانٌ فَلَمْ تَعْلَمْ بِقُدُومِهِ حَتَّى جَنَّ اللَّيْلُ فَلَا خِيَارَ لَهَا ) لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْيَدِ مِمَّا يَمْتَدُّ فَيَحْمِلُ الْيَوْمَ الْمَقْرُونَ بِهِ عَلَى بَيَاضِ النَّهَارِ وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فَيُتَوَقَّتُ بِهِ ثُمَّ يَنْقَضِي بِانْقِضَاءِ وَقْتِهِوَقَوْلُهُ ( وَإِنْ قَالَ أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَقَدِمَ فُلَانٌ فَلَمْ تَعْلَمْ بِقُدُومِهِ حَتَّى جَنَّ اللَّيْلُ فَلَا خِيَارَ لَهَا ) ظَاهِرٌ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ فِي آخِرِ فَصْلِ إضَافَةِ الطَّلَاقِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .
وَقَوْلُهُ ( فَيَتَوَقَّتُ بِهِ ) أَيْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَنْقَضِي بِانْقِضَائِهِ .
( وَإِذَا جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا أَوْ خَيَّرَهَا فَمَكَثَتْ يَوْمًا لَمْ تَقُمْ فَالْأَمْرُ فِي يَدِهَا مَا لَمْ تَأْخُذْ فِي عَمَلٍ آخَرَ ) لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكُ التَّطْلِيقِ مِنْهَا ( لِأَنَّ الْمَالِكَ مَنْ يَتَصَرَّفُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ وَهِيَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَالتَّمْلِيكُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ) ثُمَّ إنْ كَانَتْ تَسْمَعُ يُعْتَبَرُ مَجْلِسُهَا ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ فَمَجْلِسُ عِلْمِهَا وَبُلُوغِ الْخَبَرِ إلَيْهَا لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ مَجْلِسُهُ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ لَازِمٌ فِي حَقِّهِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مَحْضٌ لَا يَشُوبُهُ التَّعْلِيقُ ، وَإِذَا اُعْتُبِرَ مَجْلِسُهَا فَالْمَجْلِسُ تَارَةً يَتَبَدَّلُ بِالتَّحَوُّلِ وَمَرَّةً بِالْأَخْذِ فِي عَمَلٍ آخَرَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْخِيَارِ ، وَيَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ الْإِعْرَاضِ ، إذْ الْقِيَامُ يُفَرِّقُ الرَّأْيَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَكَثَتْ يَوْمًا لَمْ تَقُمْ وَلَمْ تَأْخُذْ فِي عَمَلٍ آخَرَ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ قَدْ يَطُولُ وَقَدْ يَقْصُرُ فَيَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ مَا يَقْطَعُهُ أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ .
وَقَوْلُهُ مَكَثَتْ يَوْمًا لَيْسَ لِلتَّقْدِيرِ بِهِ .
وَقَوْلُهُ مَا لَمْ تَأْخُذْ فِي عَمَلٍ آخَرَ يُرَادُ بِهِ عَمَلٌ يُعْرَفُ أَنَّهُ قَطْعٌ لِمَا كَانَ فِيهِ لَا مُطْلَقَ الْعَمَلِ ( وَلَوْ كَانَتْ قَائِمَةً فَجَلَسَتْ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا ) لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِقْبَالِ فَإِنَّ الْقُعُودَ أَجْمَعُ لِلرَّأْيِ ( وَكَذَا إذَا كَانَتْ قَاعِدَةً فَاتَّكَأَتْ أَوْ مُتَّكِئَةً فَقَعَدَتْ ) لِأَنَّ هَذَا انْتِقَالٌ مِنْ جِلْسَةٍ إلَى جِلْسَةٍ فَلَا يَكُونُ إعْرَاضًا ، كَمَا إذَا كَانَتْ مُحْتَبِيَةً فَتَرَبَّعَتْ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَذَا رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَذَكَرَ فِي غَيْرِهِ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ قَاعِدَةً فَاتَّكَأَتْ لَا خِيَارَ لَهَا لِأَنَّ الِاتِّكَاءَ إظْهَارُ التَّهَاوُنِ بِالْأَمْرِ فَكَانَ إعْرَاضًا ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ
.
وَلَوْ كَانَتْ قَاعِدَةً فَاضْطَجَعَتْ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَلَوْ قَالَتْ اُدْعُ أَبِي أَسْتَشِرْهُ أَوْ شُهُودًا أُشْهِدْهُمْ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا ) لِأَنَّ الِاسْتِشَارَةَ لِتَحَرِّي الصَّوَابِ ، وَالْإِشْهَادَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْإِنْكَارِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ ( وَإِنْ كَانَتْ تَسِيرُ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ فِي مَحْمَلٍ فَوَقَفَتْ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا ، وَإِنْ سَارَتْ بَطَلَ خِيَارُهَا ) لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ وَوُقُوفَهَا مُضَافٌ إلَيْهَا ( وَالسَّفِينَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْتِ ) لِأَنَّ سَيْرَهَا غَيْرُ مُضَافٍ إلَى رَاكِبِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إيقَافِهَا وَرَاكِبُ الدَّابَّةِ يَقْدِرُ .
.
( وَإِذَا جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا أَوْ خَيَّرَهَا فَمَكَثَتْ يَوْمًا لَمْ تَقُمْ فَالْأَمْرُ فِي يَدِهَا مَا لَمْ تَأْخُذْ فِي عَمَلٍ آخَرَ لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكُ التَّطْلِيقِ مِنْهَا لِأَنَّ الْمَالِكَ مَنْ يَتَصَرَّفُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ ) وَهَذِهِ تَتَصَرَّفُ بِرَأْيِ نَفْسِهَا فَهِيَ مَالِكَةٌ وَالتَّمْلِيكُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ ( وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ) يَعْنِي فِي فَصْلِ الِاخْتِيَارِ مِنْ قَوْلِهِ : التَّمْلِيكَاتُ تَقْتَضِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ كَمَا فِي الْبَيْعِ .
قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذَا إذَا قَالَ أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَغَدًا يَدْخُلُ اللَّيْلُ فِي ذَلِكَ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَمْرَ بِيَدِهَا لَا يَبْطُلُ فِي يَوْمَيْنِ وَإِنْ قَامَتْ عَنْ الْمَجْلِسِ ، لِأَنَّهُ لَوْ بَطَلَ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ لَمْ يَكُنْ لِتَقْيِيدِهِ بِيَوْمَيْنِ فَائِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا لَمْ تَقُمْ مِنْ مَجْلِسِهَا يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْمَجْلِسِ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ ثُمَّ إنْ كَانَتْ تَسْمَعُ يُعْتَبَرُ مَجْلِسُهَا ذَلِكَ ) أَيْ الَّذِي سَمِعَتْ فِيهِ ( وَإِنْ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ ) لِغَيْبَةٍ أَوْ لِصَمَمٍ ( فَمَجْلِسُ عِلْمِهَا ) وَبُلُوغُ الْخَبَرِ إلَيْهَا لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءِ الْمَجْلِسِ ، كَمَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَهَذَا لِأَنَّ مَعْنَى أَمْرُك بِيَدِك إنْ أَرَدْت طَلَاقَك فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ وَالتَّعْلِيقُ كَذَلِكَ ، وَالْأَمْرُ بِالْيَدِ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَيَيْهِمَا عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ فَكَيْفَ يَكُونُ مُحْتَمِلًا لَهُ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّمْلِيكَ الَّذِي هُوَ مُعْتَبَرٌ فِيهِ مِنْ بَابِ تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ كَالْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ ؛ وَإِذَا صَحَّ التَّوْقِيتُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي وَقَّتَهَا ، فَلَوْ بَطَلَ الْأَمْرُ بِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ لَمْ
يَكُنْ لِلتَّأْقِيتِ فَائِدَةٌ ، وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ النَّظَرِ الْمُتَقَدِّمِ أَيْضًا .
وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ التَّعْلِيقُ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْيَدِ مُطْلَقًا عَنْ التَّوْقِيتِ اعْتَبَرْنَا جَانِبَ التَّمْلِيكِ ، فَقُلْنَا بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَجْلِسِ لِعَدَمِ مَا يَدُلُّ عَلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ ، وَاعْتَبَرْنَا مَعْنَى التَّعْلِيقِ فَقُلْنَا بِبَقَاءِ الْإِيجَابِ إلَى مَا وَرَاءِ الْمَجْلِسِ إذَا كَانَتْ غَائِبَةً عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ مَجْلِسُهُ ، حَتَّى لَوْ قَامَ وَهِيَ جَالِسَةٌ ، فَالْخِيَارُ بَاقٍ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ حِينَئِذٍ لَازِمٌ فِي حَقِّهِ حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَى الرُّجُوعِ لِكَوْنِهِ تَصَرُّفَ يَمِينٍ مِنْ جَانِبِهِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ حَتَّى يُعْتَبَرَ مَجْلِسُهُمَا جَمِيعًا ، فَإِنْ أَيُّهُمَا قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ بَطَلَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مَحْضٌ لَا يَشُوبُهُ التَّعْلِيقُ ، وَلِهَذَا لَوْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا عَنْ كَلَامِهِ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ جَازَ إذَا اُعْتُبِرَ مَجْلِسُهَا ، فَالْمَجْلِسُ تَارَةً يَتَبَدَّلُ بِالتَّحَوُّلِ : يَعْنِي إلَى مَجْلِسٍ آخَرَ ، وَمَرَّةً بِالْأَخْذِ فِي عَمَلٍ آخَرَ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْخِيَارِ ، يَعْنِي فِي قَوْلِهِ إذْ مَجْلِسُ الْأَكْلِ غَيْرُ مَجْلِسِ الْمُنَاظَرَةِ إلَى آخِرِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ لِلتَّقْدِيرِ بِهِ ) أَيْ بِالْيَوْمِ لِأَنَّهُ لَوْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ فَهُوَ بَاقٍ ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَقَوْلُهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَتْ قَائِمَةً فَجَلَسَتْ ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ ( وَالْأَوَّلُ ) أَيْ رِوَايَةُ الْجَامِعِ ( أَصَحُّ ) لِأَنَّ مَنْ حَزَبَهُ أَمْرٌ قَدْ يَسْتَنِدُ لِلتَّفَكُّرِ لِمَا أَنَّ الِاسْتِنَادَ سَبَبٌ لِلرَّاحَةِ كَالْقُعُودِ .
وَقَوْلُهُ ( فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ) فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ لَا تَبْطُلُ ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي مَالِكٍ عَنْهُ
تَبْطُلُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَتَيْنِ مُنْدَرِجٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ .
قِيلَ خَصَّ أَبَا يُوسُفَ بِالذِّكْرِ وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ صَاحِبَيْهِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا نَقَلَا عَنْهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَالَتْ اُدْعُ أَبِي أَسْتَشِيرُهُ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالسَّفِينَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْتِ ) يَعْنِي أَنَّهَا إذَا سَارَتْ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا وَهُوَ ظَاهِرٌ .
( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : طَلِّقِي نَفْسَك وَلَا نِيَّةَ لَهُ أَوْ نَوَى وَاحِدَةً فَقَالَتْ : طَلَّقْت نَفْسِي فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ ، وَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَقَدْ أَرَادَ الزَّوْجُ ذَلِكَ وَقَعْنَ عَلَيْهَا ) وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلِّقِي مَعْنَاهُ افْعَلِي فِعْلَ التَّطْلِيقِ ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ فَيَقَعُ عَلَى الْأَدْنَى مَعَ احْتِمَالِ الْكُلِّ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ ، فَلِهَذَا تَعْمَلُ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ ، وَيَنْصَرِفُ إلَى وَاحِدَةٍ عِنْدَ عَدَمِهَا وَتَكُونُ الْوَاحِدَةُ رَجْعِيَّةً لِأَنَّ الْمُفَوَّضَ إلَيْهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ ، وَلَوْ نَوَى الثِّنْتَيْنِ لَا تَصِحُّ لِأَنَّهُ نِيَّةُ الْعَدَدِ إلَّا إذَا كَانَتْ الْمَنْكُوحَةُ أَمَةً لِأَنَّهُ جِنْسٌ فِي حَقِّهَا .فَصْلٌ فِي الْمَشِيئَةِ قَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ تَقْدِيمِ الِاخْتِيَارِ وَبَعْدَهُ السُّؤَالُ عَنْ تَقَدُّمِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ وَالْمَشِيئَةِ دَوْرِيٌّ فَيَسْقُطُ ( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك وَلَا نِيَّةَ لَهُ أَوْ نَوَى وَاحِدَةً فَقَالَتْ طَلَّقْت نَفْسِي فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ ، وَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَقَدْ أَرَادَ الزَّوْجُ ذَلِكَ وَقَعْنَ ) سَوَاءٌ طَلَّقَتْ جُمْلَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلِّقِي ) ظَاهِرٌ لَكِنْ تُرْجِمَ الْفَصْلُ بِفَصْلِ الْمَشِيئَةِ فَكَانَ الِابْتِدَاءُ فِيهِ بِمَسْأَلَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الْمَشِيئَةِ أَوْلَى .
( وَإِنْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَك قَالَتْ : أَبَنْت نَفْسِي طَلَقْت ) وَلَوْ قَالَتْ : قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي لَمْ تَطْلُقْ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَبَنْتُك يَنْوِي بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ قَالَتْ : أَبَنْت نَفْسِي فَقَالَ الزَّوْجُ : قَدْ أَجَزْت ذَلِكَ بَانَتْ فَكَانَتْ مُوَافِقَةً لِلتَّفْوِيضِ فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهَا زَادَتْ فِيهِ وَصْفًا وَهُوَ تَعْجِيلُ الْإِبَانَةِ فَيَلْغُو الْوَصْفُ الزَّائِدُ وَيَثْبُتُ الْأَصْلُ ، كَمَا إذَا قَالَتْ : طَلَّقْت نَفْسِي تَطْلِيقَةً بَائِنَةً ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَقَعَ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ .
بِخِلَافِ الِاخْتِيَارِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ اخْتَرْتُك أَوْ اخْتَارِي يَنْوِي الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ ، وَلَوْ قَالَتْ ابْتِدَاءً : اخْتَرْت نَفْسِي فَقَالَ الزَّوْجُ : قَدْ أَجَزْت لَا يَقَعُ شَيْءٌ إلَّا أَنَّهُ عُرِفَ طَلَاقًا بِالْإِجْمَاعِ إذَا حَصَلَ جَوَابًا لِلتَّخْيِيرِ ، وَقَوْلُهُ طَلِّقِي نَفْسَك لَيْسَ بِتَنْجِيزٍ فَيَلْغُو .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ بِقَوْلِهَا أَبَنْت نَفْسِي لِأَنَّهَا أَتَتْ بِغَيْرِ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا إذْ الْإِبَانَةُ تَغَايُرُ الطَّلَاقَ .
( وَإِنْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ أَبَنْت نَفْسِي طَلُقَتْ ، وَلَوْ قَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي لَمْ تَطْلُقْ ) وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْإِبَانَةَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِقَطْعِ وَصْلَةِ النِّكَاحِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَبَنْتُك يَنْوِي الطَّلَاقَ أَوْ قَالَتْ أَبَنْت نَفْسِي فَقَالَ الزَّوْجُ قَدْ اخْتَرْت ذَلِكَ بَانَتْ وَأَلْفَاظُ الطَّلَاقِ تُوَافِقُ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا لِكَوْنِهِ تَطْلِيقًا فَكَانَتْ الْإِبَانَةُ مُوَافِقَةً لِلتَّفْوِيضِ فِي الْأَصْلِ ، وَإِذَا كَانَ الْجَوَابُ مُوَافِقًا لِلسُّؤَالِ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ كَانَ صَحِيحًا مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ إلَّا أَنَّهَا زَادَتْ فِيهِ : أَيْ فِي الْجَوَابِ وَصْفًا وَهُوَ تَعْجِيلُ الْإِبَانَةِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ إنَّمَا تُفِيدُ الْإِبَانَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، فَإِمَّا أَنْ يَبْطُلَ الْأَصْلُ لِأَجْلِ مَا زِيدَ فِيهِ مِنْ الْوَصْفِ ، أَوْ يَلْغُوَ الْوَصْفُ لِرِعَايَةِ الْأَصْلِ ، وَإِلْغَاءُ الْوَصْفِ لِتَصْحِيحِ الْأَصْلِ أَوْلَى فَيُصَارُ إلَيْهِ كَمَا لَوْ قَالَتْ فِي جَوَابِ طَلِّقِي نَفْسَك تَطْلِيقَةً طَلَّقْت نَفْسِي تَطْلِيقَةً بَائِنَةً .
وَقَوْلُهُ ( وَيَنْبَغِي أَنْ تَقَعَ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ ) إنَّمَا قَالَ هَكَذَا تَفْسِيرًا لِكَلَامِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ قَالَ طَلُقَتْ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِشَيْءٍ آخَرَ ، وَأَرَى أَنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ لِأَنَّ كَوْنَهَا رَجْعِيَّةً يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ فَيَلْغُو الْوَصْفُ الزَّائِدُ وَيَثْبُتُ الْأَصْلُ .
وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ الِاخْتِيَارِ ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ وَهُوَ وَاضِحٌ ( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ بِقَوْلِهَا أَبَنْت نَفْسِي لِأَنَّهَا أَتَتْ بِغَيْرِ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا ) حَيْثُ كَانَ الْمُفَوَّضُ الطَّلَاقَ وَمَا أَتَتْ بِهِ الْإِبَانَةُ وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ لَا مَحَالَةَ ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إبْطَالُ الْأَصْلِ لِلْوَصْفِ وَهُوَ ضَعِيفٌ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تَطْلُقُ طَلَاقًا بَائِنًا لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَّكَهَا إيقَاعَ الطَّلَاقِ مُطْلَقًا وَهُوَ
يَمْلِكُ إيقَاعَ الْبَائِنِ وَالرَّجْعِيِّ فَكَذَا هِيَ ، وَفِي هَذَا تَرْكُ اعْتِبَارِ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ التَّفْوِيضِ وَالْجَوَابِ ، وَالْفِقْهُ هُوَ الْأَوَّلُ : أَعْنِي ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ .
( وَلَوْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَك فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ ) لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِتَطْلِيقِهَا وَالْيَمِينُ تَصَرُّفٌ لَازِمٌ ، وَلَوْ قَامَتْ عَنْ مَجْلِسِهَا بَطَلَ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا : طَلِّقِي ضَرَّتَك لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ وَإِنَابَةٌ فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ وَيَقْبَلُ الرُّجُوعَ( وَإِنْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك ) ظَاهِرٌ .
وَحُكْمُهُ اللُّزُومُ نَظَرًا إلَى الْيَمِينِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْمَجْلِسِ نَظَرًا إلَى التَّمْلِيكِ : وَفِيهِ مُطَالَبَتَانِ إحْدَاهُمَا مَا وَجْهُ اخْتِصَاصِ طَلِّقِي نَفْسَك بِالْيَمِينِ دُونَ طَلِّقِي ضَرَّتَك وَكَمَا كَانَ مَعْنَى طَلِّقِي نَفْسَك إنْ طَلَّقْت نَفْسَك فَأَنْتِ طَالِقٌ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى طَلِّقِي ضَرَّتَك إنْ أَرَدْت طَلَاقَهَا فَهِيَ طَالِقٌ .
وَالثَّانِيَةُ مَا وَجْهُ اخْتِصَاصِ الْأَوَّلِ بِالتَّمْلِيكِ وَالثَّانِي بِالتَّوْكِيلِ ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأُولَى أَنَّ الْيَمِينَ بِالتَّعْلِيقِ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا وُجُودُهُ مُتَرَدِّدٌ ، وَوُجُودُ طَلَاقِ الضَّرَّةِ إذَا فَوَّضَ إلَيْهَا أَمْرٌ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ طَبْعًا وَعَادَةً فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا .
وَأُجِيبَ عَنْ الثَّانِيَةِ بِمَا تَقَدَّمَ ، أَنَّ الْمَالِكَ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ وَالْوَكِيلَ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ ، وَالْمَرْأَةُ فِي طَلَاقِ نَفْسِهَا عَامِلَةٌ لِنَفْسِهَا بِتَخْلِيصِهَا عَنْ رِقِّ النِّكَاحِ وَفِي طَلَاقِ ضَرَّتِهَا عَامِلَةٌ لِلزَّوْجِ .
وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهَا فِي طَلَاقِ ضَرَّتِهَا أَعْمَلُ لِنَفْسِهَا مِنْهَا فِي طَلَاقِ نَفْسِهَا ؛ وَلِأَنَّ الصُّورَتَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ بَابِ الْمَشِيئَةِ أَوْ لَا .
وَالْمَآلُ شُمُولُ التَّمْلِيكِ أَوْ شُمُولُ التَّوْكِيلِ أَوْ التَّحْكِيمِ الْبَاطِلِ .
( وَإِنْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَك مَتَى شِئْت فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ ) لِأَنَّ كَلِمَةَ مَتَى عَامَّةٌ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْت .( وَإِنْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك مَتَى شِئْت ) وَاضِحٌ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ التَّمْلِيكُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَوْجُودٌ أَوَّلًا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الطَّلَاقِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ لَازِمَ التَّمْلِيكِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْمَجْلِسِ مِنْ أَحْكَامِ التَّمْلِيكِ ، وَالْحُكْمُ قَدْ يَتَأَخَّرُ لِمَانِعٍ كَمَا فِي شَرْطِ الْخِيَارِ وَهُوَ طَرِيقَةُ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَمَوْضِعُهُ الْأُصُولُ .
( وَإِذَا قَالَ لِرَجُلٍ : طَلِّقْ امْرَأَتِي فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ ) وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ وَأَنَّهُ اسْتِعَانَةٌ ، فَلَا يَلْزَمُ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ : طَلِّقِي نَفْسَك لِأَنَّهَا عَامِلَةٌ لِنَفْسِهَا فَكَانَ تَمْلِيكًا لَا تَوْكِيلًا ( وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ : طَلِّقْهَا إنْ شِئْت فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْمَجْلِسِ خَاصَّةً ) وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِالْمَشِيئَةِ كَعَدَمِهِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ عَنْ مَشِيئَتِهِ فَصَارَ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا قِيلَ لَهُ : بِعْهُ إنْ شِئْت .
وَلَنَا أَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ وَالْمَالِكُ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ عَنْ مَشِيئَتِهِ ، وَالطَّلَاقُ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهُ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا قَالَ لِرَجُلٍ طَلِّقْ امْرَأَتِي ) وَاضِحٌ ، وَمَنَاطُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّمْلِيكِ وَالتَّوْكِيلِ مِنْ أَنَّ الْمَالِكَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَالْوَكِيلَ لِغَيْرِهِ وَقَدْ عَلِمْت مَا عَلَيْهِ ( وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ طَلِّقْهَا إنْ شِئْت فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْمَجْلِسِ خَاصَّةً وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ .
وَقَالَ زُفَرُ : هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِالْمَشِيئَةِ كَعَدَمِ التَّصْرِيحِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ عَنْ مَشِيئَتِهِ ) لِأَنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهَا وَفِعْلُهُ اخْتِيَارِيٌّ ؛ وَإِذَا تَسَاوَيَا كَانَ الثَّانِي تَوْكِيلًا كَالْأَوَّلِ وَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ لِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ بِعْ إنْ شِئْت ، فَإِنَّ ذِكْرَ الْمَشِيئَةِ لَا يُخْرِجُ التَّوْكِيلَ إلَى التَّمْلِيكِ ( وَلَنَا أَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ وَالْمَالِكُ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ عَنْ مَشِيئَتِهِ ) .
لَا يُقَالُ : قَدْ بَيَّنَ آنِفًا أَنَّ الْوَكِيلَ أَيْضًا يَتَصَرَّفُ بِمَشِيئَتِهِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : الْمَشِيئَةُ نَوْعَانِ : مَشِيئَةٌ تَفْتَقِرُ إلَيْهَا الْحَرَكَةُ الْإِرَادِيَّةُ وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي كُلِّ مُتَحَرِّكٍ بِهَا ، وَمَشِيئَةٌ أُخْرَى يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا اسْتِحْسَانُ الْفِعْلِ وَتَرْكُهُ ، وَالْأُولَى ثَابِتَةٌ فِي التَّوْكِيلِ مَعَ جِهَةِ حَظْرٍ يَرْفَعُهَا قَوْلُهُ طَلِّقْهَا إيقَاعًا لِفِعْلِ الْمُوَكِّلِ ، وَالثَّانِيَةُ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْمُلَّاكِ وَقَدْ فَوَّضَهَا إلَيْهِ بِقَوْلِهِ إنْ شِئْت فَكَانَ تَمْلِيكًا ، هَذَا مَا أَمْكَنَنِي تَلْخِيصُهُ مِنْ كَلَامِ الْمَشَايِخِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : كَوْنُهُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ التَّمْلِيكِ وَقَدْ انْتَفَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ .
وَأَقُولُ : إذَا بَنَى الْكَلَامَ عَلَى مَا قَدْ ثَبَتَ أَنَّ التَّمْلِيكَ إقْرَارٌ شَرْعِيٌّ عَلَى مَحَلِّ التَّصَرُّفِ وَالتَّوْكِيلَ إقْرَارٌ شَرْعِيٌّ عَلَى نَفْسِ التَّصَرُّفِ لَا عَلَى أَنَّ الْمَالِكَ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ وَالْوَكِيلِ سَقَطَ هَذَا الِاعْتِرَاضُ ، وَالنَّظَرُ الْأَوَّلُ فِي طَلَاقِ الضَّرَّةِ عَلَى مَا مَرَّ .
ثُمَّ أَقُولُ :
وَالْوَكِيلُ فِي الطَّلَاقِ كَالرَّسُولِ ، وَحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ رَسُولًا إلَى نَفْسِهِ كَانَ قَوْلُهُ طَلِّقِي نَفْسَك تَمْلِيكًا ، وَأَمَّا قَوْلُهُ طَلِّقِي ضَرَّتَك وَقَوْلُهُ لِأَجْنَبِيٍّ طَلِّقْ امْرَأَتِي فَيَحْتَمِلَانِ الرِّسَالَةَ ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ كَلِمَةَ إنْ شِئْت كَانَ تَوْكِيلًا ، وَإِنْ ذَكَرَهَا كَانَ تَمْلِيكًا صَوْنًا لِلزِّيَادَةِ عَنْ الْإِلْغَاءِ ، إذْ التَّوْكِيلُ يَحْصُلُ بِدُونِهِ وَبِهِ يَنْدَفِعُ النَّظَرُ الثَّانِي فِي طَلَاقِ الضَّرَّةِ فَتَأَمَّلْهُ فَلَعَلَّهُ مَخْلَصٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالطَّلَاقُ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ زُفَرَ صُورَةَ النِّزَاعِ عَلَى الْبَيْعِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا تَوْكِيلٌ لِلْبَيْعِ لَا الْبَيْعُ نَفْسُهُ وَالتَّوْكِيلُ بِهِ قَابِلٌ لِلتَّعْلِيقِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ اُعْتُبِرَ التَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ بِأَصْلِ الْبَيْعِ .
( وَلَوْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ ) لِأَنَّهَا مَلَكَتْ إيقَاعَ الثَّلَاثِ فَتَمْلِكُ إيقَاعَ الْوَاحِدَةِ ضَرُورَةً ( وَلَوْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : تَقَعُ وَاحِدَةٌ ) لِأَنَّهَا أَتَتْ بِمَا مَلَكَتْهُ وَزِيَادَةٍ فَصَارَ كَمَا إذَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ أَلْفًا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا أَتَتْ بِغَيْرِ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا فَكَانَتْ مُبْتَدِئَةً ، وَهَذَا لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَّكَهَا الْوَاحِدَةَ وَالثَّلَاثُ غَيْرُ الْوَاحِدَةِ لِأَنَّ الثَّلَاثَ اسْمٌ لِعَدَدٍ مُرَكَّبٍ مُجْتَمِعٍ وَالْوَاحِدَةُ فَرْدٌ لَا تَرْكِيبَ فِيهِ فَكَانَتْ بَيْنَهُمَا مُغَايِرَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُضَادَّةِ ، بِخِلَافِ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ ، وَكَذَا هِيَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا مَلَكَتْ الثَّلَاثَ ، أَمَّا هَاهُنَا لَمْ تَمْلِكْ الثَّلَاثَ وَمَا أَتَتْ بِمَا فُوِّضَ إلَيْهَا فَلَغَتْ .
قَالَ ( وَإِنْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا ) هَذَا لِبَيَانِ مُخَالَفَةِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي إيقَاعِ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا ، وَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ظَاهِرَةٌ ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا فِيهَا وَاضِحٌ ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك وَطَلَّقَهَا وَضَرَّتَهَا وَكَمَا تَقَدَّمَ فِيمَا إذَا قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ أَبَنْت نَفْسِي فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ مَا زَادَتْ مِنْ صِفَةِ الْبَيْنُونَةِ مُعْدِمًا لِلْمُطَابَقَةِ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهَا طَلَّقْت نَفْسِي مِنْك مُمْتَثِلَةً وَيَلْغُو قَوْلُهَا ثَلَاثًا ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا أَتَتْ بِغَيْرِ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا ) وَمَنْ فَعَلَتْ كَذَلِكَ كَانَتْ مُبْتَدِئَةً كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك فَطَلَّقَتْ ضَرَّتَهَا فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ ، وَكَلَامُهُ فِيهِ ظَاهِرٌ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ ثَبَتَ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ الْعَشَرَةِ لَيْسَ عَيْنَهَا وَلَا غَيْرَهَا فَكَذَلِكَ الْوَاحِدُ مِنْ الثَّلَاثَةِ يَكُونُ لَا عَيْنَهَا وَلَا غَيْرَهَا ، فَمَا وَجْهُ إثْبَاتِ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَهُمَا ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْعَشَرَةِ الْمَوْجُودَةِ أَوْ الْمُتَصَوَّرَةِ ، وَأَمَّا الثَّلَاثُ هَاهُنَا فَمَعْدُومٌ ، وَالْوَاحِدُ الْمَوْجُودُ غَيْرُ الثَّلَاثِ الْمَعْدُومَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا الْمُغَايَرَةَ لَكِنْ إذَا قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك وَنَوَى الْوَاحِدَةَ وَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَقَعَتْ الْوَاحِدَةُ وَقَدْ أَتَتْ بِغَيْرِ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا إذْ الثَّلَاثُ غَيْرُ الْوَاحِدَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ التَّفْوِيضَ هُنَاكَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِشَيْءٍ ، فَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَقَدْ يَكُونُ عَامًّا ، فَإِذَا نَوَى الْوَاحِدَةَ فَقَدْ قَصَدَ تَفْوِيضًا خَاصًّا وَهُوَ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلظَّاهِرِ ، فَلَمَّا أَوْقَعَتْ ثَلَاثًا فَقَدْ وَافَقَتْهُ فِيمَا هُوَ أَصْلُ التَّفْوِيضِ وَهُوَ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ الْوَاحِدَةِ فَتَقَعُ الْوَاحِدَةُ .
( وَإِنْ أَمَرَهَا بِطَلَاقٍ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فَطَلَّقَتْ بَائِنَةً ، أَوْ أَمَرَهَا بِالْبَائِنِ فَطَلَّقَتْ رَجْعِيَّةً ) ( وَقَعَ مَا أَمَرَ بِهِ الزَّوْجُ ) فَمَعْنَى الْأَوَّلِ أَنْ يَقُولَ لَهَا الزَّوْجُ : طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً أَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فَتَقُولُ : طَلَّقْت نَفْسِي وَاحِدَةً بَائِنَةً فَتَقَعُ رَجْعِيَّةً لِأَنَّهَا أَتَتْ بِالْأَصْلِ وَزِيَادَةِ وَصْفٍ كَمَا ذَكَرْنَا فَيَلْغُو الْوَصْفُ وَيَبْقَى الْأَصْلُ ، وَمَعْنَى الثَّانِي أَنْ يَقُولَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً بَائِنَةً فَتَقُولُ طَلَّقْت نَفْسِي وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً فَتَقَعُ بَائِنَةً لِأَنَّ قَوْلَهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً لَغْوٌ مِنْهَا لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمَّا عَيَّنَ صِفَةَ الْمُفَوَّضِ إلَيْهَا فَحَاجَتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى إيقَاعِ الْأَصْلِ دُونَ تَعْيِينِ الْوَصْفِ فَصَارَ كَأَنَّهَا اقْتَصَرَتْ عَلَى الْأَصْلِ فَيَقَعُ بِالصِّفَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا الزَّوْجُ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا ( وَإِنْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا إنْ شِئْت فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ ) لِأَنَّ مَعْنَاهُ إنْ شِئْت الثَّلَاثَ وَهِيَ بِإِيقَاعِ الْوَاحِدَةِ مَا شَاءَتْ الثَّلَاثَ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ ( وَلَوْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً إنْ شِئْت فَطَلَّقَتْ ثَلَاثًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) لِأَنَّ مَشِيئَةَ الثَّلَاثِ لَيْسَتْ بِمَشِيئَةٍ لِلْوَاحِدَةِ كَإِيقَاعِهَا ( وَقَالَا : تَقَعُ وَاحِدَةٌ ) لِأَنَّ مَشِيئَةَ الثَّلَاثِ مَشِيئَةٌ لِلْوَاحِدَةِ ، كَمَا أَنَّ إيقَاعَهَا إيقَاعٌ لِلْوَاحِدَةِ فَوُجِدَ الشَّرْطُ .
( وَقَوْلُهُ وَإِنْ أَمَرَهَا بِطَلَاقٍ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ) ظَاهِرٌ ، وَكَذَا قَوْلُهُ إنْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا إنْ شِئْت لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ إنْ شِئْت إنْ شِئْت الثَّلَاثَ إذْ الشَّرْطُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ جَزَاءٍ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ أَوْ يُقَدَّرُ مِثْلُهُ مُتَأَخِّرًا ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَةِ الثَّلَاثِ وَلَمْ تُوجَدْ بِمَشِيئَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَكَذَا عَكْسُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَشِيئَةُ الْوَاحِدَةِ وَمَشِيئَةُ الثَّلَاثِ لَيْسَتْ مَشِيئَةً لِلْوَاحِدَةِ ، كَمَا أَنَّ إيقَاعَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِإِيقَاعٍ لِلْوَاحِدَةِ فِيمَا إذَا قَالَتْ طَلَّقْت نَفْسِي ثَلَاثًا ، وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا ظَاهِرٌ .
( وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ فَقَالَتْ : شِئْتُ إنْ شِئْتَ فَقَالَ الزَّوْجُ : شِئْتُ يَنْوِي الطَّلَاقَ بَطَلَ الْأَمْرُ ) لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِالْمَشِيئَةِ الْمُرْسَلَةِ وَهِيَ أَتَتْ بِالْمُعَلَّقَةِ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ وَهُوَ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يَعْنِيهَا فَخَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِقَوْلِهِ شِئْت وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْمَرْأَةِ ذِكْرُ الطَّلَاقِ لِيَصِيرَ الزَّوْجُ شَائِيًا طَلَاقَهَا ، وَالنِّيَّةُ لَا تَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْمَذْكُورِ حَتَّى لَوْ قَالَ : شِئْت طَلَاقَك يَقَعُ إذَا نَوَى لِأَنَّهُ إيقَاعٌ مُبْتَدَأٌ إذْ الْمَشِيئَةُ تُنْبِئُ عَنْ الْوُجُودِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَرَدْت طَلَاقَك لِأَنَّهُ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْوُجُودِ .
( وَكَذَا إذَا قَالَتْ شِئْتُ إنْ شَاءَ أَبِي أَوْ شِئْت إنْ كَانَ كَذَا لِأَمْرٍ لَمْ يَجِئْ بَعْدُ ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَأْتِيَّ بِهِ مَشِيئَةٌ مُعَلَّقَةٌ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَبَطَلَ الْأَمْرُ ( وَإِنْ قَالَتْ : قَدْ شِئْت إنْ كَانَ كَذَا لِأَمْرٍ قَدْ مَضَى طَلُقَتْ ) لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِشَرْطٍ كَائِنٍ تَنْجِيزٌ .
( وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت فَقَالَتْ شِئْت إنْ شِئْت فَقَالَ شِئْت يَنْوِي الطَّلَاقَ بَطَلَ الْأَمْرُ ) وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ ، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ بِقَوْلِهِ شِئْت لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ بِهَذَا اللَّفْظِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ إذَا قَالَ شِئْت طَلَاقَك : أَيْ بِلَفْظِ صَرِيحِ الطَّلَاقِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْتَاجَ إلَى النِّيَّةِ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ كَلَامَهُ بِنَاءٌ عَلَى كَلَامِهَا وَلَيْسَ فِي كَلَامِهَا ذِكْرُ الطَّلَاقِ وَإِنَّمَا فِيهِ ذِكْرُ الْمَشِيئَةِ فَيَكُونُ شَائِيًا بِمَشِيئَتِهَا لَا بِطَلَاقِهَا ، لَا يُقَالُ كَلَامُهَا مَبْنِيٌّ عَلَى كَلَامِهِ الْأَوَّلِ وَفِيهِ ذِكْرُ الطَّلَاقِ لِأَنَّ كَلَامَهَا لَغَا بِالِاشْتِغَالِ بِمَا لَا يَعْنِيهَا فَيَلْغُو مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ قَوْلَهُ شِئْت طَلَاقَك قَدْ يَقْصِدُ وُجُودَهُ مِلْكًا وَقَدْ يَقْصِدُ وُجُودَهُ وُقُوعًا فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ جِهَةِ الْوُجُودِ وُقُوعًا ( وَقَوْلُهُ إذْ الْمَشِيئَةُ تُنْبِئُ عَنْ الْوُجُودِ ) قِيلَ لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ فِي الْأَصْلِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الشَّيْءِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْمَوْجُودِ ، فَكَانَ قَوْلُهُ شِئْت بِمَنْزِلَةِ أَوْجَدْت وَإِيجَادُ الطَّلَاقِ بِإِيقَاعِهِ ، بِخِلَافِ الْإِرَادَةِ فَإِنَّهَا فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الطَّلَبِ ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { الْحُمَّى رَائِدُ الْمَوْتِ } " أَيْ طَالِبُهُ ، فَإِنْ قِيلَ : ذَهَبَ عُلَمَاؤُنَا فِي أُصُولِ الدِّينِ إلَى أَنَّ الْإِرَادَةَ وَالْمَشِيئَةَ وَاحِدَةٌ فَمَا هَذِهِ التَّفْرِقَةُ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا تَفْرِقَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِبَادِ وَتَسْوِيَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَكَذَا مَا يُرِيدُهُ بِخِلَافِ الْعِبَادِ .
وَقَوْلُهُ وَكَذَا إذَا قَالَتْ شِئْت إنْ شَاءَ أَبِي ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِأَمْرٍ كَائِنٍ تَنْجِيزٌ ) قِيلَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَفَرَ مَنْ قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا وَهُوَ يَعْلَمُ
أَنَّهُ فَعَلَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ بُطْلَانَ الثَّانِي مَمْنُوعٌ ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ نَقُولُ : هَذِهِ الْأَلْفَاظُ صَارَتْ كِنَايَةً عَنْ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى إذَا حَصَلَ التَّعْلِيقُ بِهَا بِفِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ ، فَكَذَا إذَا حَصَلَ بِفِعْلٍ فِي الْمَاضِي تَحَامِيًا عَنْ تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِ .
( وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت أَوْ إذَا مَا شِئْت أَوْ مَتَى شِئْت أَوْ مَتَى مَا شِئْت فَرَدَّتْ الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ رَدًّا وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ ) أَمَّا كَلِمَةُ مَتَى وَمَتَى مَا فَلِأَنَّهُمَا لِلْوَقْتِ وَهِيَ عَامَّةٌ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا ، كَأَنَّهُ قَالَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْت فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ رَدَّتْ الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ رَدًّا لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي شَاءَتْ فَلَمْ يَكُنْ تَمْلِيكًا قَبْلَ الْمَشِيئَةِ حَتَّى يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ ، وَلَا تُطَلِّقُ نَفْسَهَا إلَّا وَاحِدَةً لِأَنَّهَا تَعُمُّ الْأَزْمَانَ دُونَ الْأَفْعَالِ فَتَمْلِكُ التَّطْلِيقَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَلَا تَمْلِكُ تَطْلِيقًا بَعْدَ تَطْلِيقٍ ، وَأُمًّا كَلِمَةُ إذَا وَإِذَا مَا فَهُمَا وَمَتَى سَوَاءٌ عِنْدَهُمَا .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ يُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ لِلْوَقْتِ لَكِنَّ الْأَمْرَ صَارَ بِيَدِهَا فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ .وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت إلَخْ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ ) يَعْنِي لَوْ نَظَرْنَا إلَى كَوْنِهِ لِلشَّرْطِ يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا بِالْقِيَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ إنْ شِئْت ، وَلَوْ نَظَرْنَا إلَى كَوْنِهِ لِلْوَقْتِ لَا يَخْرُجُ فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ ) يَعْنِي فِي فَصْلِ إضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى الزَّمَانِ .
( وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّمَا شِئْت فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ حَتَّى تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا ) لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تُوجِبُ تَكْرَارَ الْأَفْعَالِ إلَّا أَنَّ التَّعْلِيقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمِلْكِ الْقَائِمِ ( حَتَّى لَوْ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ ) لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُسْتَحْدَثٌ ( وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ) لِأَنَّهَا تُوجِبُ عُمُومَ الِانْفِرَادِ لَا عُمُومَ الِاجْتِمَاعِ فَلَا تَمْلِكُ الْإِيقَاعَ جُمْلَةً وَجَمْعًا ( وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ حَيْثُ شِئْت أَوْ أَيْنَ شِئْت لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَشَاءَ ، وَإِنْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا فَلَا مَشِيئَةَ لَهَا ) لِأَنَّ كَلِمَةَ حَيْثُ وَأَيْنَ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَكَانِ وَالطَّلَاقُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَكَانِ فَيَلْغُو وَيَبْقَى ذِكْرُ مُطْلَقِ الْمَشِيئَةِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ ، بِخِلَافِ الزَّمَانِ لِأَنَّ لَهُ تَعَلُّقًا بِهِ حَتَّى يَقَعَ فِي زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ عُمُومًا وَخُصُوصًا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّمَا شِئْت ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَلَا تَمْلِكُ الْإِيقَاعَ جُمْلَةً وَجَمْعًا ) قِيلَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ .
وَقِيلَ الْجُمْلَةُ هُوَ أَنْ تَقُولَ طَلَّقْت نَفْسِي ثَلَاثًا ، وَالْجَمْعُ أَنْ تَقُولَ طَلَّقْت وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ حَيْثُ شِئْت ) ظَاهِرٌ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا لَغَا ذِكْرُ الْمَكَانِ .
بَقِيَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ شِئْت فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ دَخَلْت الدَّارَ فَإِنَّهُ يَقَعُ السَّاعَةَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ حَيْثُ وَأَيْنَ تُفِيدَانِ ضَرْبًا مِنْ التَّأْخِيرِ ، وَحَرْفَ الشَّرْطِ أَيْضًا يُفِيدُ ضَرْبًا مِنْ التَّأْخِيرِ فَيَشْتَرِكَانِ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى التَّأْخِيرِ فَيُجْعَلَانِ مَجَازًا عَنْ حَرْفِ الشَّرْطِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا جُعِلَا مَجَازًا عَنْ حَرْفِ الشَّرْطِ لِمَاذَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ وَإِنَّمَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ إذَا جُعِلَا مَجَازًا عَنْ حَرْفِ إنْ ، وَأَمَّا إذَا جُعِلَا مَجَازًا عَنْ كَلِمَةِ إذَا أَوْ مَتَى فَلَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْهُ فَلِمَ لَمْ يُجْعَلْ مَجَازًا عَنْ كَلِمَةِ إذَا أَوْ مَتَى ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ جَعْلَهُمَا مَجَازًا عَنْ إنْ أَوْلَى لِمَا أَنَّهَا لِمَحْضِ الشَّرْطِ فَكَانَتْ أَصْلًا فِي الْبَابِ ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْأَصْلِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ ، بِخِلَافِ الزَّمَانِ لِأَنَّ لِلطَّلَاقِ تَعَلُّقًا بِهِ لِوُقُوعِهِ فِي زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ وَاقِعًا فِي مَكَان كَانَ وَاقِعًا فِي جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ : أَيْ اعْتِبَارُ الزَّمَانِ خُصُوصًا ، كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا أَوْ عُمُومًا كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْت
( وَإِنْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْت طَلُقَتْ تَطْلِيقَةً يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ) وَمَعْنَاهُ قَبْلَ الْمَشِيئَةِ ، فَإِنْ قَالَتْ : قَدْ شِئْت وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا وَقَالَ الزَّوْجُ ذَلِكَ نَوَيْت فَهُوَ كَمَا قَالَ ، لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَثْبُتُ الْمُطَابَقَةُ بَيْنَ مَشِيئَتِهَا وَإِرَادَتِهِ ، أَمَّا إذَا أَرَادَتْ ثَلَاثًا وَالزَّوْجُ وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ عَلَى الْقَلْبِ تَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ لِأَنَّهُ لَغَا تَصَرُّفَهَا لِعَدَمِ الْمُوَافَقَةِ فَبَقِيَ إيقَاعُ الزَّوْجِ وَإِنْ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ تُعْتَبَرُ مَشِيئَتُهَا فِيمَا قَالُوا جَرْيًا عَلَى مُوجِبِ التَّخْيِيرِ ( قَالَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ) وَقَالَ فِي الْأَصْلِ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَعِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ مَا لَمْ تُوقِعْ الْمَرْأَةُ فَتَشَاءُ رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْعَتَاقُ لَهُمَا أَنَّهُ فَوَّضَ التَّطْلِيقَ إلَيْهَا عَلَى أَيِّ صِفَةٍ شَاءَتْ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْلِيقِ أَصْلِ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا لِتَكُونَ لَهَا الْمَشِيئَةُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ : أَعْنِي قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ كَلِمَةَ كَيْفَ لِلِاسْتِيصَافِ ، يُقَالُ كَيْفَ أَصْبَحْت وَالتَّفْوِيضُ فِي وَصْفِهِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ أَصْلِهِ وَوُجُودَ الطَّلَاقِ بِوُقُوعِهِ .
قَالَ ( وَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْت ) اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْت هَلْ يَتَعَلَّقُ أَصْلُ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا أَوْ لَا ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بَلْ تَقَعُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَا مَشِيئَةَ لَهَا إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَالْمَشِيئَةُ إلَيْهَا فِي الْمَجْلِسِ بَعْدَ ذَلِكَ .
ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَنْوِيَ الزَّوْجُ شَيْئًا أَوْ لَمْ يَنْوِ ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي اُعْتُبِرَتْ مَشِيئَتُهَا فِي الْكَمِّ وَالْكَيْفِ فِيمَا قَالُوا جَرْيًا عَلَى مُوجِبِ التَّخْيِيرِ .
وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ، فَإِنْ اتَّفَقَتْ نِيَّتُهُ وَمَشِيئَتُهَا فَذَاكَ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا بِأَنْ شَاءَتْ بَائِنَةً وَالزَّوْجُ ثَلَاثًا أَوْ بِالْعَكْسِ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ ، وَقَالَا : لَا يَقَعُ شَيْءٌ لَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَا بَعْدَهُ حَتَّى تَشَاءَ ، فَإِنْ شَاءَتْ أَوْقَعَتْ مَا شَاءَتْ مِنْ الرَّجْعِيِّ وَالْبَائِنِ وَالثَّلَاثِ لِأَنَّهُ فَوَّضَ التَّطْلِيقَ إلَيْهَا عَلَى أَيِّ صِفَةٍ شَاءَتْ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كَيْفَ لِلسُّؤَالِ عَنْ الْحَالِ مُطْلَقًا فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْلِيقِ الْأَصْلِ بِمَشِيئَتِهَا لِتَثْبُتَ لَهَا الْمَشِيئَةُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ ، كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت أَوْ حَيْثُ شِئْت أَوْ أَيْنَ شِئْت .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَلِمَةَ كَيْفَ لِطَلَبِ الْوَصْفِ لَا لِطَلَبِ الْأَصْلِ ، يُقَالُ كَيْفَ أَصْبَحْت : أَيْ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ مِنْ الصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَكَانَ التَّفْوِيضُ فِي وَصْفِ الطَّلَاقِ ، وَالتَّفْوِيضُ فِي وَصْفِهِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ أَصْلِهِ ، وَإِلَّا لَكَانَ كَيْفَ لِطَلَبِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَوُجُودُ الطَّلَاقِ بِوُقُوعِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَهَاهُنَا سُؤَالٌ مَشْهُورٌ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْقُولَ أَنْ لَا يَحْتَاجَ إلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَيْهَا وَجَبَ أَنْ تَسْتَقِلَّ بِإِثْبَاتِ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا اعْتِبَارًا بِعَامَّةِ التَّفْوِيضَاتِ .
وَجَوَابُهُ أَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا حَالَ الطَّلَاقِ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ
بَيْنَ الْكَمِّ وَالْكَيْفِ : يَعْنِي الْعَدَدَ وَالْبَيْنُونَةَ فَيَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ أَحَدِهِمَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَجْعَلَ الطَّلَاقَ بَائِنًا أَوْ ثَلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ نَاقِلًا عَنْ الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ : وَقَدْ رَاجَعْت الْفُحُولَ فِي جَوَابِ هَذَا الْإِشْكَالِ فَمَا قَرَعَ سَمْعِي جَوَابُهُ فَيَجِبُ التَّعْوِيلُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَا مُنَاسَبَةَ لِهَذَا التَّفْوِيضِ لِعَامَّةِ التَّفْوِيضَاتِ إلَّا فِي كَوْنِهِ تَفْوِيضًا وَذَلِكَ لَيْسَ بِجَامِعٍ لِوُجُودِ الْفَارِقِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُفَوِّضَ هَاهُنَا مُتَنَوِّعٌ دُونَهَا فَيَكُونُ فِي وُجُوبِ التَّعْوِيلِ نَظَرٌ .
تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ إلَى الْمَشِيئَةِ مَا عُلِّقَ بِهَا وَالتَّعْلِيقُ بِالْمَشِيئَةِ إنَّمَا حَصَلَ بِكَلِمَةِ كَيْفَ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُ وَهِيَ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْأَصْلِ أَصْلًا فَيَكُونُ مُنَجِّزًا أَصْلَ الطَّلَاقِ وَمُفَوِّضًا لِوَصْفِهِ الْمُتَنَوِّعِ .
وَتَفْوِيضُ وَصْفِ الشَّيْءِ مُبْهَمًا قَبْلَ وُجُودِ الْأَصْلِ مُمْتَنِعٌ إلَّا أَنَّ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا أَثَرَ لِمَشِيئَةِ الْوَصْفِ بَعْدَ وُقُوعِ الْأَصْلِ لِعَدَمِ الْمَحَلِّ فَيَلْغُو تَفْوِيضُ الصِّفَةِ إلَى مَشِيئَتِهَا ، وَفِي الْمَوْطُوءَةِ الْمَحَلُّ بَاقٍ بَعْدَ وُجُودِ الْأَصْلِ فَلَهَا الْمَشِيئَةُ بَعْدَ وُقُوعِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْعَتَاقُ ) يَعْنِي إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ كَيْفَ شِئْت عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا حَالَ لِلْعِتْقِ يُفَوَّضُ إلَيْهِ .
وَعِنْدَهُمَا لَا يَعْتِقُ حَتَّى يَشَاءَ وَإِنَّمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ ( قَالَ فِي الْأَصْلِ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ) لِأَنَّ مَا أَوْرَدَهُ فِي الْأَصْلِ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ قَوْلِهِمَا ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الرِّوَايَةَ فِيهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةِ لَا غَيْرُ فَذَكَرَهُ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ لَا
قَوْلُهُمَا بِدَلِيلِ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ .
( وَإِنْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ كَمْ شِئْت أَوْ مَا شِئْت طَلَّقَتْ نَفْسَهَا مَا شَاءَتْ ) لِأَنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ لِلْعَدَدِ فَقَدْ فَوَّضَ إلَيْهَا أَيَّ عَدَدٍ شَاءَتْ ( فَإِنْ قَامَتْ مِنْ الْمَجْلِسِ بَطَلَ ، وَإِنْ رَدَّتْ الْأَمْرَ كَانَ رَدًّا ) لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ خِطَابٌ فِي الْحَالِ فَيَقْتَضِي الْجَوَابَ فِي الْحَالِ .
( وَإِنْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ كَمْ شِئْت أَوْ مَا شِئْت طَلَّقَتْ نَفْسَهَا مَا شَاءَتْ ) ذَكَرَ فِي أَصْلِ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : إنْ شَاءَتْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا مَا لَمْ تَقُمْ مِنْ مَجْلِسِهَا ، فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يُبَاحُ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَالزَّوْجُ لَا يَسَعُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ إنْ شَاءَتْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا مَشِيئَةَ الْقُدْرَةِ لَا مَشِيئَةَ الْإِبَاحَةِ : يَعْنِي أَنَّهَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهَا فِي التَّخْيِيرِ .
وَوَجْهُ الِاخْتِصَاصِ اضْطِرَارُهَا ، فَإِنَّ التَّفْرِيقَ يُخْرِجُ الْأَمْرَ مِنْ يَدِهَا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُمَا يَعْنِي كَمْ وَمَا يُسْتَعْمَلَانِ لِلْعَدَدِ فَقَدْ فَوَّضَ إلَيْهَا أَيَّ عَدَدٍ شَاءَتْ ) فَإِنْ قِيلَ : هَذَا فِي " كَمْ " مُسَلَّمٌ ، وَأَمَّا فِي " مَا " فَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ لِلْوَقْتِ كَمَا تُسْتَعْمَلُ لِلْعَدَدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مَا دُمْتُ حَيًّا } فَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي تَفْوِيضِ الْعَدَدِ إلَيْهَا فَلَا يَثْبُتُ الْعَدَدُ بِالشَّكِّ .
أُجِيبَ بِأَنَّ جَانِبَ الْعَدَدِ مُرَجَّحٌ بِأَصْلٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ هَذَا تَفْوِيضٌ بِمَعْنَى التَّمْلِيكِ لِأَنَّهُ تَفْوِيضٌ إلَى الْمَرْأَةِ أَمْرَ نَفْسِهَا وَالتَّمْلِيكَاتُ تَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَتْ مَعْمُولَةً بِمَعْنَى الْعَدَدِ لَا بِمَعْنَى الْوَقْتِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءِ الْمَجْلِسِ فَتَعَارَضَ جِهَتَا التَّرْجِيحِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ ، وَالْأَوَّلُ كَالْأَصْلِ فَالتَّرْجِيحُ بِهِ أَوْلَى فَإِنْ قَامَتْ عَنْ الْمَجْلِسِ بَطَلَ الْأَمْرُ ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَمْلِيكٌ وَالتَّمْلِيكُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ ( وَإِنْ رَدَّتْ الْأَمْرَ كَانَ رَدًّا لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ
وَاحِدٌ ) إذْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ ، قِيلَ هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ كُلَّمَا ، وَكُلُّ مَا هُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ يَقْتَضِي جَوَابًا وَاحِدًا لِيَكُونَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ وَذَلِكَ الْجَوَابُ الْوَاحِدُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْحَالِ ، إذْ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَقْتِ مُرَادًا .
قِيلَ وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ إذَا وَمَتَى وَالْخِطَابُ فِي الْحَالِ يَقْتَضِي الْجَوَابَ فِي الْحَالِ لِمَا قُلْنَا ، فَإِذَا رَدَّتْ الْأَمْرَ فَقَدْ حَصَلَ الْجَوَابُ فِي الْحَالِ وَلَا جَوَابَ بَعْدَهُ لِعَدَمِ التَّكْرَارِ ، .
( وَإِنْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَك مِنْ ثَلَاثٍ مَا شِئْت فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ وَلَا تُطَلِّقَ ثَلَاثًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا : تُطَلِّقُ ثَلَاثًا إنْ شَاءَتْ ) لِأَنَّ كَلِمَةَ مَا مُحْكَمَةٌ فِي التَّعْمِيمِ وَكَلِمَةَ مَنْ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلتَّمْيِيزِ فَحُمِلَ عَلَى تَمْيِيزِ الْجِنْسِ ، كَمَا إذَا قَالَ : كُلْ مِنْ طَعَامِي مَا شِئْت أَوْ طَلِّقْ مِنْ نِسَائِي مَنْ شَاءَتْ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ حَقِيقَةٌ لِلتَّبْعِيضِ وَمَا لِلتَّعْمِيمِ فَعُمِلَ بِهِمَا ، وَفِيمَا اسْتَشْهَدَا بِهِ تَرْكُ التَّبْعِيضِ بِدَلَالَةِ إظْهَارِ السَّمَاحَةِ أَوْ لِعُمُومِ الصِّفَةِ وَهِيَ الْمَشِيئَةُ ، حَتَّى لَوْ قَالَ : مَنْ شِئْت كَانَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَإِنْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك مِنْ ثَلَاثٍ مَا شِئْت ، فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ دُونَ الثَّلَاثِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ ثَلَاثًا ( لِأَنَّ كَلِمَةَ مَا مُحْكَمَةٌ فِي التَّعْمِيمِ وَكَلِمَةَ مَنْ قَدْ تَكُونُ لِلتَّمْيِيزِ ) يَعْنِي لِلْبَيَانِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ } وَقَدْ تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ وَقَدْ تَكُونُ لِغَيْرِهِمَا كَمَا عُرِفَ ذَلِكَ فَاجْتَمَعَ فِي كَلَامِهِ الْمُحْكَمُ وَالْمُحْتَمَلُ فَيُحْمَلُ الْمُحْتَمَلُ عَلَى الْمُحْكَمِ وَيُجْعَلُ بَيَانًا ( كَمَا إذَا قَالَ كُلْ مِنْ طَعَامِي مَا شِئْت أَوْ طَلُقَ مِنْ نِسَائِي مَنْ شَاءَتْ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَلِمَةَ مَنْ حَقِيقَةٌ لِلتَّبْعِيضِ وَمَا لِلتَّعْمِيمِ وَالْعَمَلُ بِهِمَا مُمْكِنٌ ) مِنْ حَيْثُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُرَادُ بَعْضًا عَامًّا ، وَالثِّنْتَانِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَاحِدَةِ عَامٌّ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الثَّلَاثِ بَعْضٌ .
فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا لَا يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ دَلَالَةً ، وَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا مُمْكِنًا لَا يُهْمَلُ أَحَدُهُمَا ( وَفِيمَا اُسْتُشْهِدَ بِهِ تَرْكُ التَّبْعِيضِ ) بِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ ( وَهُوَ إظْهَارُ السَّمَاحَةِ أَوْ لِعُمُومِ الصِّفَةِ وَهِيَ الْمَشِيئَةُ ) فَإِنَّ النَّكِرَةَ إذَا اتَّصَفَتْ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ تَعُمُّ لِمَا عُرِفَ وَهَاهُنَا كَذَلِكَ ( حَتَّى لَوْ قَالَ مَنْ شِئْت كَانَ عَلَى الْخِلَافِ ) قِيلَ ثُمَّ إنَّهَا إنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا لَا يَقَعُ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْمُفَوَّضَ إلَيْهَا الْوَاحِدَةُ إذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا لَا يَقَعُ ، فَكَذَا الَّتِي فُوِّضَ إلَيْهَا ثِنْتَانِ إذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا لَا يَقَعُ وَقَدْ مَرَّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَإِذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى النِّكَاحِ وَقَعَ عَقِيبَ النِّكَاحِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَةٍ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا يَقَعُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ } وَلَنَا أَنَّ هَذَا تَصَرُّفُ يَمِينٍ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ قِيَامُ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْوُقُوعَ عِنْدَ الشَّرْطِ وَالْمِلْكُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ عِنْدَهُ وَقَبْلَ ذَلِكَ أَثَرُهُ الْمَنْعُ وَهُوَ قَائِمٌ بِالْمُتَصَرِّفِ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ التَّنْجِيزِ ، وَالْحَمْلُ مَأْثُورٌ عَنْ السَّلَفِ كَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا ( وَإِذَا أَضَافَهُ إلَى شَرْطٍ وَقَعَ عَقِيبَ الشَّرْطِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ) وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَائِمٌ فِي الْحَالِ ، وَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ
بَابُ الْأَيْمَانِ فِي الطَّلَاقِ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ تَنْجِيزِ الطَّلَاقِ صَرِيحًا وَكِنَايَةً أَعْقَبَهُ بِذِكْرِ بَيَانِ تَعْلِيقِهِ لِكَوْنِهِ مُرَكَّبًا مِنْ ذِكْرِ الطَّلَاقِ وَالشَّرْطِ ، وَالْمُرَكَّبُ مُؤَخَّرٌ عَنْ الْمُفْرَدِ .
وَالْيَمِينُ فِي الطَّلَاقِ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْلِيقِهِ بِأَمْرٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الشَّرْطِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ ، سُمِّيَ يَمِينًا مَجَازًا لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ .
إضَافَةُ مَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ فِي الشَّرْطِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ إلَى الْمِلْكِ جَائِزَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى الْخُصُوصِ ، كَمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَةٍ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ عَلَى الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي الظِّهَارِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَصِحُّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ } " رُوِيَ { عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً فَأَبَى أَوْلِيَاؤُهَا أَنْ يُزَوِّجُوهَا مِنْهُ ، فَقَالَ : إنْ نَكَحْتهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ } " وَلَنَا أَنَّ هَذَا تَصَرُّفُ يَمِينٍ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ قِيَامُ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْوُقُوعَ عِنْدَ الشَّرْطِ إذْ الْعِلَّةُ لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ فِي الْحَالِ عِنْدَنَا كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ( وَالْمِلْكُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ عِنْدَهُ ) أَيْ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ، وَإِذَا كَانَ مُتَيَقَّنًا بِهِ عِنْدَهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الْعِلَّةُ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمَلْفُوظِ لَدَى الشَّرْطِ ، وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ مَنْقُوضٌ بِقَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ تَصَرُّفُ يَمِينٍ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ ، وَقِيَامُ الْمِلْكِ
فِي الْحَالِ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمِلْكَ مُتَيَقَّنٌ بِهِ عِنْدَ الشَّرْطِ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى اشْتِرَاطِهِ فِي الْحَالِ ، بِخِلَافِ صُورَةِ النَّقْضِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهَا ذَلِكَ عَرِيَتْ عَنْ الْمِلْكِ ظَاهِرًا لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ مَا يَحْدُثُ فَضْلًا عَنْ التَّيَقُّنِ بِهِ ، وَهَذَا جَوَابٌ بِالْفَرْقِ وَالْمُصَنِّفُ قَائِلٌ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَبْلَ ذَلِكَ ) أَيْ وَقَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ أَثَرُهُ الْمَنْعُ وَهُوَ قَائِمٌ بِالْمُتَصَرِّفِ لِأَنَّهُ يَمِينٌ وَمَحَلُّهُ ذِمَّةُ الْحَالِفِ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَمَجَالُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاسِعٌ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَنْوَارِ وَالتَّقْرِيرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْحَدِيثُ ) يَعْنِي مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ التَّنْجِيزِ ، فَإِنَّ الْمُنَجَّزَ هُوَ الطَّلَاقُ حَقِيقَةً لَا الْمُعَلَّقُ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ كَوْنِ ذَلِكَ طَلَاقًا فَقَالَ " { لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ } " وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ جَائِزٌ أَوْ لَيْسَ بِجَائِزٍ ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ أَوْ إثْبَاتِهِ ( وَالْحَمْلُ عَلَى التَّنْجِيزِ مَأْثُورٌ عَنْ السَّلَفِ كَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا ) كَمَكْحُولٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ( وَإِذَا أَضَافَهُ إلَى شَرْطٍ وَقَعَ عَقِيبَ الشَّرْطِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَائِمٌ فِي الْحَالِ ، وَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ إلَى وَقْتِ الشَّرْطِ ) لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الشَّيْءِ عَلَى مَا كَانَ وَهُوَ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ .
لَا يُقَالُ : الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ عِنْدَ الشَّرْطِ ، وَالِاسْتِصْحَابُ حُجَّةٌ دَافِعَةٌ لَا مُثْبِتَةٌ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ .
فَيَصِحُّ يَمِينًا أَوْ إيقَاعًا ( وَلَا تَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ مَالِكًا أَوْ يُضِيفَهُ إلَى مِلْكٍ ) لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا لِيَكُونَ مُخِيفًا فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْقُوَّةُ وَالظُّهُورُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ ، وَالْإِضَافَةُ إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ عِنْدَ سَبَبِهِ ( فَإِنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَدَخَلَتْ الدَّارَ لَمْ تَطْلُقْ ) لِأَنَّ الْحَالِفَ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا أَضَافَهُ إلَى الْمِلْكِ أَوْ سَبَبِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
قَوْلُهُ فَيَصِحُّ يَمِينًا ) يَعْنِي عِنْدَنَا عَلَى مَا مَرَّ ( أَوْ إيقَاعًا ) يَعْنِي عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، فَإِنَّ عِنْدَهُ كَوْنَهُ طَلَاقًا مُعَلَّقٌ لَا التَّطْلِيقُ فَكَانَ إيقَاعًا فِي الْحَالِ وَلَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ حُكْمُهُ ( وَلَا تَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ مَالِكًا ) لِلْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ( أَوْ يُضِيفُهُ إلَى مِلْكٍ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا ) أَيْ غَالِبَ الْوُجُودِ ( وَالظُّهُورُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ ) الْأَمْرَيْنِ ، أَمَّا أَنَّ الْجَزَاءَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا ( فَلِيَكُونَ مُخِيفًا بِوُقُوعِهِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْقُوَّةُ ) فَإِنَّ الْحَامِلَ عَلَى الْحَمْلِ أَوْ الْمَنْعِ اللَّذَيْنِ عُقِدَ الْيَمِينُ لِأَجْلِهِمَا هُوَ قُوَّةُ خَوْفِ نُزُولِ الْجَزَاءِ ، وَالْخَوْفُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ الْجَزَاءُ غَالِبَ الْوُجُودِ عِنْدَ الشَّرْطِ ، وَأَمَّا أَنَّ ظُهُورَهُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَلِأَنَّهُ إذَا انْعَدَمَ مَا انْعَدَمَ الْخَوْفُ فَانْعَدَمَ مَعْنَى الْيَمِينِ : أَعْنِي الْحَمْلَ أَوْ الْمَنْعَ ( وَالْإِضَافَةُ إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ ) كَقَوْلِهِ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ ( بِمَنْزِلَةِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمِلْكِ ) كَقَوْلِهِ إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْجَزَاءَ ( ظَاهِرٌ عِنْدَ سَبَبِهِ ) يَعْنِي سَبَبَ الْمِلْكِ ( قَوْلُهُ فَإِنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ ) تَفْرِيعٌ عَلَى مَا مُهِّدَ مِنْ الْأَصْلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ تَزَوَّجْتُك حَتَّى يَئُولَ مَعْنَاهُ إنْ تَزَوَّجْتُك وَدَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ صِيَانَةً عَنْ الْإِلْغَاءِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِعْلَ الْيَمِينِ مِمَّا يُذَمُّ بِهِ فَلَا يَجُوزُ تَصْحِيحُ قَوْلِهِ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى مَذَمَّتِهِ ، كَذَا قَالَ عَامَّةُ الشَّارِحِينَ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ لَيْسَ بِيَمِينٍ حَقِيقَةً .
وَلَئِنْ كَانَ فَقَدْ يَقَعُ فِيمَا يَكُونُ مَحْمُودًا شَرْعًا ، كَمَا إذَا قَالَ إنْ اشْتَرَيْتُك وَدَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ عِنَايَةً بِوُقُوعِ الْحُرِّيَّةِ .
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : الْمُقَدَّرُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْذُوفًا أَوْ مُقْتَضًى ، وَلَيْسَ بِمَحْذُوفٍ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ لَيْسَ بِمُتَوَقِّفٍ عَلَيْهِ لُغَةً وَلَا مُقْتَضَى لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُقَدَّرُ أَحَطَّ رُتْبَةً مِنْ الْمَذْكُورِ وَأَنْ لَا يَتَغَيَّرَ الْمَذْكُورُ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِالْمُقَدَّرِ ، وَالشَّرْطَانِ مُنْتَفِيَانِ ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ التَّزَوُّجَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْ دُخُولِ الدَّارِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الشَّرْطَ قَبْلَ التَّصْرِيحِ دُخُولُ الدَّارِ وَحْدَهُ وَبَعْدَهُ التَّزَوُّجُ وَالدُّخُولُ ، فَمَا كَانَ شَرْطًا صَارَ بَعْضَهُ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ .
( وَأَلْفَاظُ الشَّرْطِ إنْ وَإِذَا وَإِذَا مَا وَكُلُّ وَكُلَّمَا وَمَتَى وَمَتَى مَا ) لِأَنَّ الشَّرْطَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعَلَامَةِ ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مِمَّا تَلِيهَا أَفْعَالٌ فَتَكُونُ عَلَامَاتٍ عَلَى الْحِنْثِ ، ثُمَّ كَلِمَةُ إنْ حَرْفٌ لِلشَّرْطِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الْوَقْتِ وَمَا وَرَاءَهَا مُلْحَقٌ بِهَا ، وَكَلِمَةُ كُلٍّ لَيْسَتْ شَرْطًا حَقِيقَةً لِأَنَّ مَا يَلِيهَا اسْمٌ وَالشَّرْطُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَزَاءُ وَالْأَجْزِيَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالشَّرْطِ لِتَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ الَّذِي يَلِيهَا مِثْلُ قَوْلِك كُلُّ عَبْدٍ اشْتَرَيْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : ( فَفِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ انْحَلَّتْ وَانْتَهَتْ الْيَمِينُ ) لِأَنَّهَا غَيْرُ مُقْتَضِيَةٍ لِلْعُمُومِ وَالتَّكْرَارِ لُغَةً ، فَبِوُجُودِ الْفِعْلِ مَرَّةً يَتِمُّ الشَّرْطُ وَلَا بَقَاءَ لِلْيَمِينِ بِدُونِهِ
( قَالَ وَأَلْفَاظُ الشَّرْطِ ) عَبَّرَ بِأَلْفَاظِ الشَّرْطِ وَلَمْ يَقُلْ حُرُوفَ الشَّرْطِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ عَامَّتَهَا أَسْمَاءٌ ، وَلَمْ يُورِدْ أَحَدَ حَرْفَيْ الشَّرْطِ وَضْعًا وَهُوَ لَوْ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : لِأَنَّ كَلِمَةَ لَوْ تَعْمَلُ عَمَلَ الشَّرْطِ مَعْنًى لَا لَفْظًا ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ تَعْمَلُ عَمَلَهُ لَفْظًا وَمَعْنًى ، فَإِنَّهَا فِي مَوَاضِعِ الْجَزْمِ تَجْزِمُ وَفِي غَيْرِ مَوَاضِعِ الْجَزْمِ لَزِمَ دُخُولُ الْفَاءِ فِي جَزَائِهِنَّ ، بِخِلَافِ كَلِمَةِ لَوْ ، وَهَذَا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ .
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّعْلِيقَ يَمِينٌ تُعْقَدُ لِلْحَمْلِ أَوْ الْمَنْعِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَلَوْ مَوْضُوعَةٌ لِامْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ فِي الْمَاضِي فَأَنَّى لَهُ مَدْخَلٌ فِي ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الشَّرَطَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعَلَامَةِ ) قَالَ فِي الصِّحَاحِ : الشَّرَطُ بِالتَّحْرِيكِ الْعَلَامَةُ ، وَأَشْرَاطُ السَّاعَةِ عَلَامَاتُهَا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الشَّرَطَ مُشْتَقٌّ مِنْ الشَّرَطِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاشْتِقَاقِ هُوَ الِاشْتِقَاقُ الْكَبِيرُ ، وَهُوَ أَنْ تَجِدَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ تَنَاسُبًا فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى ، وَلَيْسَ بَيْنَ الشَّرَطِ وَالْعَلَامَةِ تَنَاسُبٌ لَفْظِيٌّ فَيُقَدَّرُ ذَلِكَ لِيَسْتَقِيمَ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مِمَّا تَلِيهَا الْأَفْعَالُ ) يَعْنِي غَيْرَ كَلِمَةِ كُلٍّ فَإِنَّهُ يُذْكَرُ فِيمَا يَلِيهَا اسْمٌ ، وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى الْمَوْضُوعَاتِ اللُّغَوِيَّةِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ طَرِيقَ مَعْرِفَتِهَا وَإِنَّمَا طَرِيقُ ذَلِكَ السَّمَاعُ ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ سُمِعَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي مَوْضِعِ الشَّرْطِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ ، وَلَئِنْ صَحَّ الِاسْتِدْلَال فَدَلِيلُهُ هَاهُنَا لَا يُفِيدُ مَطْلُوبَهُ لِأَنَّ مَطْلُوبَهُ أَنَّ هَذِهِ أَلْفَاظُ الشَّرْطِ وَدَلِيلُهُ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعَلَامَةِ وَهُوَ مُسَلَّمٌ عَلَى الْوَجْهِ
الَّذِي قَرَّرْنَاهُ ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مِمَّا يَلِيهَا الْأَفْعَالُ ، وَهَذَا أَيْضًا مُسَلَّمٌ لَكِنَّ قَوْلَهُ فَتَكُونُ عَلَامَاتٍ عَلَى الْحِنْثِ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِلْمُقَدَّمَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
( إلَّا فِي كُلَّمَا فَإِنَّهَا تَقْتَضِي تَعْمِيمَ الْأَفْعَالِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } الْآيَةُوَقَوْلُهُ ( إلَّا فِي كُلَّمَا فَإِنَّهَا تَقْتَضِي تَعْمِيمَ الْأَفْعَالِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } الْآيَةَ ) ، .
وَمِنْ ضَرُورَةِ التَّعْمِيمِ التَّكْرَارُ .
قَالَ ( فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ وَتَكَرَّرَ الشَّرْطُ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ ) لِأَنَّ بِاسْتِيفَاءِ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ الْمَمْلُوكَاتِ فِي هَذَا النِّكَاحِ لَمْ يَبْقَ الْجَزَاءُ وَبَقَاءُ الْيَمِينِ بِهِ وَبِالشَّرْطِ .
وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَلَوْ دَخَلَتْ عَلَى نَفْسِ التَّزَوُّجِ بِأَنْ قَالَ : كُلَّمَا تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ يَحْنَثُ بِكُلِّ مَرَّةٍ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ ) لِأَنَّ انْعِقَادَهَا بِاعْتِبَارِ مَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا مِنْ الطَّلَاقِ بِالتَّزَوُّجِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَحْصُورٍ .
( وَمِنْ ضَرُورَةِ التَّعْمِيمِ التَّكْرَارُ ) فِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَدَّ كَلِمَةَ كُلٍّ مِنْ أَلْفَاظِ الشَّرْطِ وَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَمْ يَنْتَهِ الْيَمِينُ ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً طَلُقَتْ ، وَلَوْ تَزَوَّجَ أُخْرَى طَلُقَتْ كَذَلِكَ ، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ إلَّا فِي كُلٍّ وَكُلَّمَا .
وَالثَّانِي أَنَّهُ قَالَ وَمِنْ ضَرُورَةِ التَّعْمِيمِ التَّكْرَارُ ، وَالتَّعْمِيمُ فِي كَلِمَةِ كُلٍّ مَوْجُودٌ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا وَلَا تَكْرَارَ فِيهِ ، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ الَّتِي طَلُقَتْ ثَانِيًا لَمْ يَقَعْ الْجَزَاءُ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ شَرْطِيَّةَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ مَا يَلِيهَا مِنْ الْأَفْعَالِ لِأَنَّ الْخَطَرَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِاعْتِبَارِهِ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ قَدْ انْتَهَتْ الْيَمِينُ ، وَلِهَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا ثَانِيًا لَمْ تَطْلُقْ ، وَعَدَمُ الِانْتِهَاءِ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ الْأَسْمَاءِ لَمْ يَنْشَأْ مِنْ مَنْشَأِ الشَّرْطِ فَلَا يَكُونُ مُنَاقِضًا .
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ وَمِنْ ضَرُورَةِ التَّعْمِيمِ تَعْمِيمُ الْأَفْعَالِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ ، وَالتَّعْمِيمُ فِي الْأَفْعَالِ إنَّمَا يَكُونُ بِتَجَدُّدِ الْأَفْعَالِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالتَّكْرَارِ ، فَإِذَا قَالَ كُلَّمَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الثَّلَاثِ ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ وَتَكَرَّرَ الشَّرْطُ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ لِأَنَّ الْجَزَاءَ طَلْقَاتُ هَذَا الْمِلْكِ وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْهَا ، وَبَقَاءُ الْيَمِينِ بِبَقَاءِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَإِذَا انْتَفَى الْجَزَاءُ يَنْتَفِي الْكُلُّ ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ وَسَيَجِيءُ ( وَلَوْ دَخَلَتْ عَلَى نَفْسِ التَّزَوُّجِ بِأَنْ قَالَ كُلَّمَا تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ يَحْنَثُ بِكُلِّ مَرَّةٍ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ انْعِقَادَهَا بِاعْتِبَارِ مَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا مِنْ الطَّلَاقِ بِالتَّزَوُّجِ ) وَهُوَ غَيْرُ مَحْصُورٍ .
قَالَ ( وَزَوَالُ الْمِلْكِ بَعْدَ الْيَمِينِ لَا يُبْطِلُهَا ) لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فَبَقِيَ وَالْجَزَاءُ بَاقٍ لِبَقَاءِ مَحَلِّهِ فَبَقِيَ الْيَمِينُ ( ثُمَّ إنْ وُجِدَ الشَّرْطُ فِي مِلْكِهِ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ ) لِأَنَّهُ وُجِدَ الشَّرْطُ وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلْجَزَاءِ فَيَنْزِلُ الْجَزَاءُ وَلَا تَبْقَى الْيَمِينُ لِمَا قُلْنَا ( وَإِنْ وُجِدَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ ( وَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ ) لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّيَّةِ .قَالَ ( وَزَوَالُ الْمِلْكِ بَعْدَ الْيَمِينِ لَا يُبْطِلُهَا ) إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ ثُمَّ أَبَانَهَا لَمْ يَبْطُلْ الْيَمِينُ لِمَا مَرَّ أَنَّ بَقَاءَ الْيَمِينِ بِالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ .
وَالْفَرْضُ أَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يُوجَدْ فَهُوَ بَاقٍ ، وَالْجَزَاءُ أَيْضًا بَاقٍ لِبَقَاءِ الْمَحَلِّ وَهُوَ الْمَرْأَةُ فَتَبْقَى الْيَمِينُ كَمَا كَانَتْ فِي مَحَلِّهِ وَهِيَ ذِمَّةُ الْحَالِفِ .
فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا أَنَّ مَحَلَّ الْجَزَاءِ بَاقٍ وَلَكِنْ مِنْ شَرْطِ وُقُوعِهِ الْمِلْكُ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِي الْوُقُوعِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي بَقَائِهِ يَمِينًا وَالْيَمِينُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْمِلْكِ ابْتِدَاءً بِدَلِيلِ جَوَازِ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَفِي الْبَقَاءِ أَوْلَى إذْ الْبَقَاءُ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ .
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُوجَدَ الشَّرْطُ فِي الْمِلْكِ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا ثَانِيًا ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطُ أَوْ فِي غَيْرِهِ كَمَا إذَا وُجِدَ قَبْلَ التَّزَوُّجِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ .
أَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ فَلِأَنَّ الشَّرْطَ وُجِدَ فِي الْمِلْكِ فَنَزَلَ الْجَزَاءُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ ، وَأَمَّا انْحِلَالُ الْيَمِينِ فَلِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ فَبِوُجُودِ الشَّرْطِ مَرَّةً انْتَهَتْ الْيَمِينُ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي انْحَلَّتْ الْيَمِينُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّيَّةِ .
( وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي وُجُودِ الشَّرْطِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ إلَّا أَنْ تُقِيمَ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ ) لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ الشَّرْطِ ، وَلِأَنَّهُ يُنْكِرُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَزَوَالَ الْمِلْكِ وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِيهِ ( فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : إنْ حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ فَقَالَتْ : قَدْ حِضْت طَلُقَتْ هِيَ وَلَمْ تَطْلُقْ فُلَانَةُ ) وَوَقَعَ الطَّلَاقُ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَقَعَ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَلَا تُصَدَّقُ كَمَا فِي الدُّخُولِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهَا إذْ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا كَمَا قُبِلَ فِي حَقِّ الْعِدَّةِ وَالْغَشَيَانِ لَكِنَّهَا شَاهِدَةٌ فِي حَقِّ ضَرَّتِهَا بَلْ هِيَ مُتَّهَمَةٌ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي حَقِّهَا
( وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي وُجُودِ الشَّرْطِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ ) عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ قَوْلُهُ وَلَمْ تَطْلُقْ فُلَانَةُ ) لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ بَلْ فِيمَا إذَا كَذَّبَهَا الزَّوْجُ فِي قَوْلِهَا حِضْت ، وَأَمَّا إذَا صَدَّقَهَا فَإِنَّهُ يَقَعُ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا قُبِلَ فِي حَقِّ الْعِدَّةِ وَالْغَشَيَانِ ) أَمَّا قَبُولُهَا فِي الْعِدَّةِ فَبِأَنْ تَقُولَ قَدْ انْقَضَتْ أَوْ لَمْ تَنْقَضِ .
وَأَمَّا فِي الْغَشَيَانِ فَيَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدَهُمَا أَنْ تَقُولَ الْمُطَلَّقَةُ الثَّلَاثُ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَتَزَوَّجْت بِزَوْجٍ آخَرَ وَدَخَلَ بِي الزَّوْجُ الثَّانِي .
وَالثَّانِي أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهَا فِي حَقِّ حِلِّ الْجِمَاعِ وَحُرْمَتِهِ بِقَوْلِهَا أَنَا طَاهِرٌ أَوْ حَائِضٌ .
وَقَوْلُهُ ( لَكِنَّهَا شَاهِدَةٌ فِي حَقِّ ضَرَّتِهَا بَلْ هِيَ مُتَّهَمَةٌ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي حَقِّهَا ) وَفِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ الْحَيْضِ وَعَدَمِهِ ، وَالْمَآلُ شُمُولُ طَلَاقِهِمَا أَوْ شُمُولُ عَدَمِهِ ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ حَاضَتْ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَقَعُ طَلَاقُهُمَا جَمِيعًا ، وَإِنْ لَمْ تَحِضْ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فَلَا يَقَعُ طَلَاقُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا .
فَأَمَّا أَنْ يُوجَدَ الْحَيْضُ فِي حَقِّهَا دُونَ ضَرَّتِهَا فَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الشَّيْءِ مَوْجُودًا وَمَعْدُومًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ مُحَالٌ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ بِقَوْلِهَا حِضْت فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَصْفَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ : الْأَمَانَةَ وَالشَّهَادَةَ ، وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ اقْتِضَائِهِمَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِبِدْعٍ فِي الشَّرْعِ فَإِنَّهُ رَتَّبَ عَلَى النِّكَاحِ وَهُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ الْحِلُّ لِلزَّوْجِ وَالْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ لَا يَقْتَضِي أَحَدُهُمَا الْوُجُودَ وَالْآخَرُ الْعَدَمَ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ اقْتِضَاءَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَيْضِ نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ لَا يُطَّلَعُ
عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْأَمْرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهَا حِضْت ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ اخْتِلَافٌ فِي مُقْتَضَى وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : إنْ كُنْت تُحِبِّينَ أَنْ يُعَذِّبَك اللَّهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ فَقَالَتْ أُحِبُّهُوَقَوْلُهُ ( وَكَذَا لَوْ قَالَ إنْ كُنْت تُحِبِّينَ أَنْ يُعَذِّبَك اللَّهُ بِنَارِ جَهَنَّمَ ) ظَاهِرٌ .
أَوْ قَالَ : ( إنْ كُنْت تُحِبِّينِي فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهَذِهِ مَعَك فَقَالَتْ : أُحِبُّك طَلُقَتْ هِيَ وَلَمْ يُعْتَقْ الْعَبْدُ وَلَا تَطْلُقُ صَاحِبَتُهَا ) لِمَا قُلْنَا ، وَلَا يُتَيَقَّنُ بِكَذِبِهَا لِأَنَّهَا لِشِدَّةِ بُغْضِهَا إيَّاهُ قَدْ تُحِبُّ التَّخْلِيصَ مِنْهُ بِالْعَذَابِ ، وَفِي حَقِّهَا إنْ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِإِخْبَارِهَا وَإِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً ، فَفِي حَقِّ غَيْرِهَا بَقِيَ الْحُكْمُ عَلَى الْأَصْلِ وَهِيَ الْمَحَبَّةُوَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ أَمِينَةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهَا شَاهِدَةٌ فِي حَقِّ ضَرَّتِهَا .
وَقَوْلُهُ وَلَا يَتَيَقَّنُ بِكَذِبِهَا ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إخْبَارُهَا عَنْ مَحَبَّتِهَا تَعْذِيبَ اللَّهِ إيَّاهَا بِنَارِ جَهَنَّمَ مَقْطُوعٌ بِكَذِبِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهَا أَصْلًا .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَا يَتَيَقَّنُ بِكَذِبِهَا لِأَنَّهَا لِشِدَّةِ بُغْضِهَا إيَّاهُ قَدْ تُحِبُّ التَّخْلِيصَ مِنْهُ بِالْعَذَابِ فَلَمْ يَكُنْ كَذِبُهَا مَقْطُوعًا بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي حَقِّهَا إنْ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِإِخْبَارِهَا ) ظَاهِرٌ .
( وَإِذَا قَالَ لَهَا : إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَرَأَتْ الدَّمَ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ حَتَّى يَسْتَمِرَّ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ) لِأَنَّ مَا يَنْقَطِعُ دُونَهَا لَا يَكُونُ حَيْضًا ( فَإِذَا تَمَّتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ حَكَمْنَا بِالطَّلَاقِ مِنْ حِينِ حَاضَتْ ) لِأَنَّهُ بِالِامْتِدَادِ عُرِفَ أَنَّهُ مِنْ الرَّحِمِ فَكَانَ حَيْضًا مِنْ الِابْتِدَاءِ ( وَلَوْ قَالَ لَهَا : إذَا حِضْت حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضَتِهَا ) لِأَنَّ الْحَيْضَةَ بِالْهَاءِ هِيَ الْكَامِلَةُ مِنْهَا ، وَلِهَذَا حُمِلَ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ الِاسْتِبْرَاءِ وَكَمَالُهَا بِانْتِهَائِهَا وَذَلِكَ بِالطُّهْرِ ( وَإِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إذَا صُمْت يَوْمًا طَلُقَتْ حِينَ تَغِيبَ الشَّمْسُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي تَصُومُ ) لِأَنَّ الْيَوْمَ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ مُمْتَدٍّ يُرَادُ بِهِ بَيَاضُ النَّهَارِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إذَا صُمْت لِأَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرْهُ بِمِعْيَارٍ وَقَدْ وُجِدَ الصَّوْمُ بِرُكْنِهِ وَشَرْطِهِ .
وَقَوْلُهُ ( إذَا قَالَ إذَا حِضْت حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ ) وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ ظَاهِرٌ ، وَمِنْ الْفَرْقِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهَذَا الْعَبْدُ حُرٌّ كَانَ حُرًّا مِنْ حِينِ رَأَتْ الدَّمَ حَتَّى كَانَ الْأَكْسَابُ لَهُ وَكَانَ الطَّلَاقُ بِدْعِيًّا .
وَقَوْلُهُ وَإِذَا قَالَ إذَا حِضْت حَيْضَةً كَانَ الطَّلَاقُ سُنِّيًّا لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا بَعْدَ مَا طَهُرَتْ .
وَقَوْلُهُ ( فِي حَدِيثِ الِاسْتِبْرَاءِ ) يُرِيدُ بِهِ مَا قَالَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ " { وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يَسْتَبْرِئْنَ بِحَيْضَةٍ } " أَرَادَ بِهِ كَمَالَ الْحَيْضِ وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِانْتِهَائِهِ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ إذَا كَانَ أَيَّامُهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ ، وَبِالِانْقِطَاعِ وَالْغُسْلِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا صُمْت يَوْمًا ) ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ .
وَإِذَا قَالَ إذَا صُمْت صَوْمًا فَحُكْمُهُ كَذَلِكَ ( بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إذَا صُمْت ) فَإِنَّهَا إذَا صَامَتْ سَاعَةً مَقْرُونَةً بِالنِّيَّةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إذَا وَلَدْت غُلَامًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَإِذَا وَلَدْت جَارِيَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً وَلَا يَدْرِي أَيَّهُمَا أَوَّلُ لَزِمَهُ فِي الْقَضَاءِ تَطْلِيقَةٌ ، وَفِي التَّنَزُّهِ تَطْلِيقَتَانِ وَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ ) لِأَنَّهَا لَوْ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْجَارِيَةِ ثُمَّ لَا تَقَعُ أُخْرَى بِهِ لِأَنَّهُ حَالُ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَلَوْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا وَقَعَتْ تَطْلِيقَتَانِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْغُلَامِ ثُمَّ لَا يَقَعُ شَيْءٌ آخَرُ بِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ حَالُ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، فَإِذًا فِي حَالٍ تَقَعُ وَاحِدَةٌ وَفِي حَالٍ تَقَعُ ثِنْتَانِ فَلَا تَقَعُ الثَّانِيَةُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِالثِّنْتَيْنِ تَنَزُّهًا وَاحْتِيَاطًا ، وَالْعِدَّةُ مُنْقَضِيَةٌ بِيَقِينٍ لِمَا بَيَّنَّا .
قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت غُلَامًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا تَخْلُو عَنْ أَوْجُهٍ : إنْ عَلِمَ أَنَّ الْغُلَامَ وَلَدَتْهُ أَوَّلًا طَلُقَتْ وَاحِدَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْجَارِيَةِ ، وَلَا يَقَعُ شَيْءٌ بَعْدَهُ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْجَارِيَةَ وُلِدَتْ أَوَّلًا طَلُقَتْ ثِنْتَيْنِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ لِلزَّوْجِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ ، وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَيُّهُمَا أَوَّلُ لَزِمَهُ فِي الْقَضَاءِ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ وَفِي الثَّانِيَةِ شَكٌّ ، وَفِي التَّنَزُّهِ وَهُوَ التَّبَاعُدُ عَنْ السُّوءِ تَطْلِيقَتَانِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ هَذَا وَاحِدَةً لَا يَطَؤُهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ ثَلَاثًا ، وَتَرْكُ وَطْءِ امْرَأَةٍ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَطَأَ امْرَأَةً مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ ( وَالْعِدَّةُ مُنْقَضِيَةٌ بِيَقِينٍ لِمَا بَيَّنَّا ) يُرِيدُ قَوْلَهُ لِأَنَّهَا لَوْ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا إلَخْ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ انْقِضَاءَ عِدَّةِ الْحَامِلِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ .
( وَإِنْ قَالَ لَهَا : إنْ كَلَّمْت أَبَا عَمْرٍو وَأَبَا يُوسُفَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَبَانَتْ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَكَلَّمَتْ أَبَا عَمْرٍو ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَكَلَّمَتْ أَبَا يُوسُفَ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا مَعَ الْوَاحِدَةِ الْأُولَى ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَقَعُ ، وَهَذِهِ عَلَى وُجُوهٍ : ( أَمَّا إنْ وُجِدَ الشَّرْطَانِ فِي الْمِلْكِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَهَذَا ظَاهِرٌ ، أَوْ وُجِدَا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَلَا يَقَعُ ، أَوْ وُجِدَ الْأَوَّلُ فِي الْمِلْكِ وَالثَّانِي فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَلَا يَقَعُ أَيْضًا لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَنْزِلُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَلَا يَقَعُ ) أَوْ وُجِدَ الْأَوَّلُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَالثَّانِي فِي الْمِلْكِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ الْخِلَافِيَّةُ .
لَهُ اعْتِبَارُ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي إذْ هُمَا فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ .
وَلَنَا أَنَّ صِحَّةَ الْكَلَامِ بِأَهْلِيَّةِ الْمُتَكَلِّمِ ، إلَّا أَنَّ الْمِلْكَ يُشْتَرَطُ حَالَةُ التَّعْلِيقِ لِيَصِيرَ الْجَزَاءُ غَالِبَ الْوُجُودِ لِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَتَصِحُّ الْيَمِينُ وَعِنْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ لِيَنْزِلَ الْجَزَاءُ لِأَنَّهُ لَا يَنْزِلُ إلَّا فِي الْمِلْكِ ، وَفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ الْحَالُ حَالُ بَقَاءِ الْيَمِينِ فَيُسْتَغْنَى عَنْ قِيَامِ الْمِلْكِ إذْ بَقَاؤُهُ بِمَحَلِّهِ وَهُوَ الذِّمَّةُ .
وَقَوْلُهُ ( إنْ كَلَّمْت أَبَا عَمْرٍو ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ سِوَى أَلْفَاظٍ نَذْكُرُهَا .
وَقَوْلُهُ ( فِي حَقِّ الطَّلَاقِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إلَّا بِهِمَا ، فَصَارَ الشَّرْطَانِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ وَاحِدٍ ، وَلَوْ كَانَ شَرْطًا وَاحِدًا لَمَا وَقَعَ بِدُونِ الْمِلْكِ فَكَذَلِكَ هَذَا ( وَلَنَا أَنَّ صِحَّةَ الْكَلَامِ ) أَيْ صِحَّةَ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ الْيَمِينُ ( بِأَهْلِيَّةِ الْمُتَكَلِّمِ ) وَهِيَ قَائِمَةٌ بِهِ فَتَكُونُ صِحَّتُهُ قَائِمَةً بِهِ بِأَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ ذِمَّتَهُ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى مِلْكٍ ، لَكِنْ شَرَطْنَا الْمِلْكَ حَالَةَ التَّعْلِيقِ لِيَصِيرَ الْجَزَاءُ غَالِبَ الْوُجُودِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ إذَا كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ التَّعْلِيقِ فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مُخِيفًا حَامِلًا أَوْ مَانِعًا ، وَحَالَةُ تَمَامِ الشَّرْطِ لِنُزُولِ الْجَزَاءِ لِكَوْنِهِ لَا يَنْزِلُ إلَّا فِي الْمِلْكِ ، وَفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ ، فَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْيَمِينَ يَقُومُ بِمَحَلِّهِ وَهُوَ الذِّمَّةُ ، كَمَا إذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِالشَّرْطِ فَأَبَانَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَأَتَتْ بِالشَّرْطِ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَمْ تَبْطُلْ الْيَمِينُ بِزَوَالِ الْمِلْكِ فَكَانَ كَالنِّصَابِ إذَا انْتَقَصَ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ .
( وَإِنْ قَالَ لَهَا : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ وَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا آخَرَ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ فَدَخَلَتْ الدَّارَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ : هِيَ طَالِقٌ مَا بَقِيَ مِنْ الطَّلَاقِ ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ .
وَأَصْلُهُ أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ عِنْدَهُمَا فَتَعُودُ إلَيْهِ بِالثَّلَاثِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ فَتَعُودُ إلَيْهِ مَا بَقِيَ ، وَسَنُبَيِّنُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَإِنْ قَالَ لَهَا : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ رَجَعْت إلَى الْأَوَّلِ فَدَخَلَتْ الدَّارَ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ ) وَقَالَ زُفَرُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ : يَقَعُ الثَّلَاثُ لِأَنَّ الْجَزَاءَ ثَلَاثٌ مُطْلَقٌ لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ ، وَقَدْ بَقِيَ حَتَّى وُقُوعِهَا فَتَبْقَى الْيَمِينُ .
وَلَنَا أَنَّ الْجَزَاءَ طَلَقَاتُ هَذَا الْمِلْكِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَانِعَةُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ مَا يَحْدُثُ وَالْيَمِينُ تُعْقَدُ لِلْمَنْعِ أَوْ الْحَمْلِ ، وَإِذَا كَانَ الْجَزَاءُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَدْ فَاتَ بِتَنْجِيزِ الثَّلَاثِ الْمُبْطِلِ لِلْمَحَلِّيَّةِ فَلَا تَبْقَى الْيَمِينُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَبَانَهَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ بَاقٍ لِبَقَاءِ مَحَلِّهِ
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ قَالَ لَهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ) مَسْأَلَةُ الْهَدْمِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ .
وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ لَا تَظْهَرُ فِيمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ؛ فَإِنَّهَا إذَا تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَعَادَتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ يَقَعُ عَلَيْهَا الثَّلَاثُ بِالِاتِّفَاقِ .
أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِعَدَمِ الْهَدْمِ .
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا وَإِنْ وُجِدَ الْهَدْمُ فَبِالدُّخُولِ فِي الدَّارِ يَقَعُ الثَّلَاثُ لِأَنَّ الثَّلَاثَ مُعَلَّقَةٌ بِدُخُولِ الدَّارِ ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ فِيمَا إذَا عَلَّقَ الطَّلْقَةَ الْوَاحِدَةَ بِدُخُولِ الدَّارِ ثُمَّ طَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ فَدَخَلَتْ الدَّارَ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِعَدَمِ الْهَدْمِ ، وَعِنْدَهُمَا لَا لِتَحَقُّقِهِ ( وَإِنْ قَالَ لَهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ رَجَعَتْ إلَى الْأَوَّلِ فَدَخَلَتْ الدَّارَ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ .
وَقَالَ زُفَرُ : يَقَعُ الثَّلَاثُ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مُطْلَقٌ لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ ) إذْ لَمْ يُقَيِّدْ تَطْلِيقَاتٍ فِي مِلْكٍ دُونَ مِلْكٍ فَلَا يَتَقَيَّدُ ( قَوْلُهُ وَقَدْ بَقِيَ احْتِمَالُ وُقُوعِهَا ) أَيْ بِنِكَاحِهَا ثَانِيًا بَعْدَ تَزَوُّجِهَا بِزَوْجٍ آخَرَ ( فَتَبْقَى الْيَمِينُ ) فَإِذَا وُجِدَ الْمَحَلُّ يَقَعُ الْجَزَاءُ ( وَلَنَا أَنَّ الْجَزَاءَ طَلْقَاتُ هَذَا الْمِلْكِ ) بِدَلَالَةِ الْحَالِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْجَزَاءَ طَلْقَاتُ هَذَا الْمِلْكِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَانِعَةُ ؛ إذْ الظَّاهِرُ عَدَمُ مَا يَحْدُثُ ، وَكُلُّ مَا كَانَ مَانِعًا عَنْ وُجُودِ الشَّرْطِ أَوْ حَامِلًا عَلَيْهِ فَهُوَ الْجَزَاءُ لِأَنَّ الْيَمِينَ لِلْمَنْعِ أَوْ الْحَمْلِ وَهَاهُنَا عُقِدَتْ لِلْمَنْعِ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ طَلْقَاتِ هَذَا الْمِلْكِ ، وَإِذَا كَانَ الْجَزَاءُ ذَلِكَ وَقَدْ فَاتَ بِالتَّنْجِيزِ الْمُبْطِلِ لِلْمَحَلِّيَّةِ فَاتَ الْيَمِينُ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ بَقَاءَ الْيَمِينِ بِالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَقَدْ فَاتَ
الْجَزَاءُ وَالْكُلُّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ انْعِقَادَ الْيَمِينِ لَوْ انْحَصَرَ فِي الْمَنْعِ وَالْحَمْلِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ إنْ حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ لَا مَنْعٌ وَلَا حَمْلٌ لِكَوْنِ الْحَيْضِ عَارِضًا سَمَاوِيًّا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْغَالِبِ الشَّائِعِ دُونَ النَّادِرِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ السُّؤَالَ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي صُورَةِ الْحَيْضِ حَتَّى يَكُونَ نَادِرًا ، وَإِنَّمَا هُوَ آتٍ فِي الْوِجْدَانِيَّاتِ كَالْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْجُوعِ وَغَيْرِهَا .
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : الشَّرْطُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ هُوَ إخْبَارُهَا عَنْ ذَلِكَ وَالْحَمْلُ وَالْمَنْعُ فِيهِ مُتَصَوَّرٌ .
وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَبَانَهَا ) يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ وَقَدْ فَاتَ بِتَنْجِيزِ الثَّلَاثِ أَيْ فَاتَ الْجَزَاءُ بِتَنْجِيزِ الثَّلَاثِ الْمُبْطِلِ لِلْمَحَلِّيَّةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَبَانَهَا بِطَلْقَةٍ أَوْ طَلْقَتَيْنِ حَيْثُ لَا يَفُوتُ الْجَزَاءُ لِبَقَاءِ الْمَحَلِّ ، وَلِهَذَا إذَا عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ عَادَتْ بِثَلَاثِ طَلْقَاتٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْهَدْمِ ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَدَخَلَ الدَّارَ عَتَقَ مَعَ أَنَّهُ بِالْبَيْعِ لَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِلْيَمِينِ ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الظِّهَارِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ لَوْ كَانَ قَالَ لَهَا زَوْجُهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهَا إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْعَبْدَ بِصِفَةِ الرِّقِّ كَانَ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ وَبِالْبَيْعِ لَمْ تَفُتْ تِلْكَ الصِّفَةُ ، حَتَّى لَوْ فَاتَتْ بِالْعِتْقِ لَمْ تَبْقَ الْيَمِينُ ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ مَحَلِّيَّةَ الظِّهَارِ لَا تَنْعَدِمُ بِالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِالظِّهَارِ غَيْرُ الْحُرْمَةِ بِالطَّلَاقِ ، فَإِنَّ تِلْكَ
الْحُرْمَةَ حُرْمَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ بِوُجُودِ التَّكْفِيرِ وَهَذِهِ بِوُجُودِ الزَّوْجِ الثَّانِي إلَّا أَنَّهَا إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ إنَّمَا لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا لِأَنَّ الظِّهَارَ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَلَا حِلَّ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا يُوجَدُ بَعْدَ التَّزَوُّجِ بِهَا ، فَإِذَا دَخَلَتْ الدَّارَ حِينَئِذٍ ثَبَتَ الظِّهَارُ .
( وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إذَا جَامَعْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَجَامَعَهَا فَلَمَّا الْتَقَى الْخِتَانَانِ طَلُقَتْ ثَلَاثًا ، وَإِنْ لَبِثَ سَاعَةً لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْمَهْرُ ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ ثُمَّ أَدْخَلَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ ) وَكَذَا إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ : إذَا جَامَعْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنَّهُ أَوْجَبَ الْمَهْرَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَيْضًا لِوُجُودِ الْجِمَاعِ بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِلِاتِّحَادِ ) وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْجِمَاعَ إدْخَالُ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ وَلَا دَوَامَ لِلْإِدْخَالِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَخْرَجَ ثُمَّ أَوْلَجَ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْإِدْخَالُ بَعْدَ الطَّلَاقِ إلَّا أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ بِشُبْهَةِ الِاتِّحَادِ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَجْلِسِ وَالْمَقْصُودِ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ وَجَبَ الْعُقْرُ إذْ الْوَطْءُ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِهِمَا ، وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا يَصِيرُ مُرَاجِعًا بِاللَّبَاثِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِوُجُودِ الْمِسَاسِ ، وَلَوْ نَزَعَ ثُمَّ أَوْلَجَ صَارَ مُرَاجِعًا بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا جَامَعْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ) يَعْنِي إذَا لَمْ يُخْرِجْهُ .
وَقَوْلُهُ ( وُجُودُ الْجِمَاعِ بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ ) مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَعَلَ الدَّوَامَ عَلَى اللَّبَاثِ بَعْدَ الدُّخُولِ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ الِابْتِدَائِيِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا دَوَامَ لِلْإِدْخَالِ ) مَعْنَاهُ أَنَّ لِلدَّوَامِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ فِيمَا لَهُ دَوَامٌ ، وَالْجِمَاعُ هُوَ الْإِدْخَالُ وَلَا دَوَامَ لَهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَجَبَ الْعُقْرُ ) قَالَ فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ : الْعُقْرُ مَهْرُ الْمَرْأَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ وَالْمُرَادُ بِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَبِهِ فَسَّرَ الْإِمَامُ الْعَتَّابِيُّ الْعُقْرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَقَوْلُهُ لِوُجُودِ الْمِسَاسِ ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا لَهُ حُكْمُ دَوَامِ الْجِمَاعِ فَيَكُونُ الْبَقَاءُ كَابْتِدَاءِ الْوُجُودِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَأَمَّا دَوَامُ الْمِسَاسِ فَهُوَ مَوْجُودٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَعَنْ هَذَا قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَصِيرَ مُرَاجِعًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ الْكُلِّ لِوُجُودِ الْمِسَاسِ بِشَهْوَةٍ .
( فَصْلٌ فِي ) ( الِاسْتِثْنَاءِ )( فَصْلٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ ) الِاسْتِثْنَاءُ هُوَ التَّكَلُّمُ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا ، وَأَلْحَقَهُ بِفَصْلِ التَّعْلِيقِ لِتَآخِيهِمَا فِي كَوْنِهِمَا بَيَانَ التَّغَيِّ .
وَلَمَّا كَانَ التَّعْلِيقُ لِكَوْنِهِ يَمْنَعُ كُلَّ الْكَلَامِ أَقْوَى مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ بَعْضَهُ قَدَّمَهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ
( وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَّصِلًا لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ وَقَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَّصِلًا بِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ } وَلِأَنَّهُ أَتَى بِصُورَةٍ الشَّرْطِ فَيَكُونُ تَعْلِيقًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِنَّهُ إعْدَامٌ قَبْلَ الشَّرْطِ وَالشَّرْطُ لَا يُعْلَمُ هَاهُنَا فَيَكُونُ إعْدَامًا مِنْ الْأَصْلِ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِهِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الشُّرُوطِ ( وَلَوْ سَكَتَ ثَبَتَ حُكْمُ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ ) فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ أَوْ ذِكْرُ الشَّرْطِ بَعْدَهُ رُجُوعًا عَنْ الْأَوَّلِ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ :
وَلَمَّا كَانَتْ مَسْأَلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَعْلِيقًا صُورَةً ذَكَرَهَا بِقُرْبٍ مِنْ التَّعْلِيقِ فِي أَوَّلِ فَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ لِقُوَّةِ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْنَعُ أَوَّلَ الْكَلَامِ ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً قَالَ { وَلَا يَسْتَثْنُونَ } وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْدَ ذِكْرِ الْجُمَلِ لِلْإِبْطَالِ أَوْ لِلتَّعْلِيقِ ؛ فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إلَى الْأَوَّلِ وَمُحَمَّدٌ إلَى الثَّانِي ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ إقْرَارِ هَذَا الْكِتَابِ فَقَالَ : لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إمَّا إبْطَالٌ أَوْ تَعْلِيقٌ ، وَسَنَذْكُرُ ثَمَرَةَ هَذَا الِاخْتِلَافِ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَّصِلًا بِهِ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ } " ) .
وَلِأَنَّهُ أَتَى بِصُورَةِ الشَّرْطِ ) أَيْ بِحَرْفِ الشَّرْطِ صَرِيحًا دُونَ حَقِيقَتِهِ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الشَّرْطِ عِبَارَةٌ عَمَّا يَكُونُ عَلَى خَطَرٍ وَتَرَدُّدٍ وَمَشِيئَةُ اللَّهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِثُبُوتِهَا قَطْعًا أَوْ انْتِفَائِهَا كَذَلِكَ ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ تَعْلِيقٌ ( فَيَكُونُ تَعْلِيقًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ ( وَالتَّعْلِيقُ إعْدَامٌ ) أَيْ إعْدَامُ الْعِلِّيَّةِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالشَّرْطُ هَاهُنَا غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا أَصْلًا ( فَيَكُونُ إعْدَامًا مِنْ الْأَصْلِ ) فَكَانَ إبْطَالًا لِلْكَلَامِ ( وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِهِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الشُّرُوطِ ) لِكَوْنِهِ بَيَانَ تَغْيِيرٍ وَشَرْطُهُ الِاتِّصَالُ ( فَلَوْ سَكَتَ ثَبَتَ حُكْمُ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ ) فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ أَوْ ذِكْرُ الشَّرْطِ بَعْدَهُ رُجُوعًا عَنْ الْأَوَّلِ .
وَقَوْلُهُ ( فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ ) يَعْنِي عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ( أَوْ ذِكْرُ الشَّرْطِ )
يَعْنِي عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ
( وَكَذَا إذَا مَاتَتْ قَبْلَ قَوْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) لِأَنَّ بِالِاسْتِثْنَاءِ خَرَجَ الْكَلَامُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيجَابًا وَالْمَوْتُ يُنَافِي الْمُوجِبَ دُونَ الْمُبْطِلِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الزَّوْجُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُوَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا مَاتَتْ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ يَعْنِي إذَا مَاتَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ قَوْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيجَابًا ؛ وَإِذَا بَطَلَ الْإِيجَابُ بَطَلَ الْحُكْمُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْإِيجَابُ وُجِدَ فِي حَيَاتِهَا وَالِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَهَا فَيَكُونُ بَاطِلًا لِعَدَمِ الْمَحَلِّ ؛ وَإِذَا بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ صَحَّ الْإِيجَابُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَالْمَوْتُ يُنَافِي الْمُوجِبَ دُونَ الْمُبْطِلِ ) يَعْنِي أَنَّ الْإِيجَابَ لَوْ اتَّصَلَ بِالْمَوْتِ بِأَنْ تَمُوتَ قَبْلَ تَمَامِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ بَطَلَ .
وَأَمَّا الْمُبْطِلُ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ أَوْ الشَّرْطُ فَلَا يَبْطُلُ لِأَنَّ مُبْطِلَ الشَّيْءِ مَا يُنَافِيهِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مُبْطِلٍ وَمُبْطِلٍ ، بِخِلَافِ الْمُوجِبِ فَإِنَّ الْمُبْطِلَ يُنَافِيهِ فَيَرْفَعُهُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الزَّوْجُ ) بَعْدَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ قَوْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهُوَ يُرِيدُ الِاسْتِثْنَاءَ حَيْثُ يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ ، وَإِنَّمَا تُعْلَمُ إرَادَتُهُ الِاسْتِثْنَاءَ بِقَوْلِهِ قَبْلَ ذَلِكَ إنِّي أُطَلِّقُ امْرَأَتِي وَاسْتَثْنَى .
( وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً طَلُقَتْ ثِنْتَيْنِ ، وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثِنْتَيْنِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً ) وَالْأَصْلُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثُّنْيَا هُوَ الصَّحِيحُ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ لِفُلَانِ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ عَشَرَةٌ إلَّا تِسْعَةً فَيَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْبَعْضِ مِنْ الْجُمْلَةِ لِأَنَّهُ يَبْقَى التَّكَلُّمُ بِالْبَعْضِ بَعْدَهُ ، وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَهُ شَيْءٌ لِيَصِيرَ مُتَكَلَّمًا بِهِ وَصَارِفًا لِلَّفْظِ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ إذَا كَانَ مَوْصُولًا بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ثِنْتَانِ فَيَقَعَانِ وَفِي الثَّانِي وَاحِدَةٌ ، فَتَقَعُ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قَالَ : إلَّا ثَلَاثًا يَقَعُ الثَّلَاثُ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
( وَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً طَلُقَتْ ثِنْتَيْنِ ، وَإِنْ قَالَ إلَّا ثِنْتَيْنِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً ) وَفِي ذِكْرِ الْمِثَالَيْنِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ سَوَاءٌ ، خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ فَإِنَّهُ لَا يُجَوِّزُ الْأَكْثَرَ وَيَدَّعِي أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ ( وَالْأَصْلُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثُّنْيَا ) أَيْ بِمَا بَقِيَ مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ إخْرَاجٌ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ ، وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَأَنْ يُقَالَ عَشَرَةٌ إلَّا تِسْعَةً ، فَيَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْبَعْضِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ الْجُمْلَةِ لِبَقَاءِ التَّكَلُّمِ بِالْبَعْضِ بَعْدَهُ ( وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ عَشَرَةٌ إلَّا عَشَرَةً لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ شَيْءٌ ( يَصِيرُ مُتَكَلِّمًا بِهِ وَصَارِفًا لِلَّفْظِ إلَيْهِ ) فَبَقِيَ كَلَامُهُ الْأَوَّلُ كَمَا كَانَ وَيَقَعُ الثَّلَاثُ ، وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رُجُوعٌ وَالرُّجُوعُ عَنْ الطَّلَاقِ بَاطِلٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا أَنَّهُ أَبْطَلَ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ فِي الْوَصِيَّةِ مَعَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي زِيَادَاتِهِ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ إنَّمَا لَا يَصِحُّ إذَا كَانَ بِعَيْنِ ذَلِكَ اللَّفْظِ ، وَأَمَّا إذَا اسْتَثْنَى بِغَيْرِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فَيَصِحُّ وَإِنْ كَانَ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ كُلُّ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا كُلَّ نِسَائِي لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ بَلْ يَطْلُقْنَ كُلُّهُنَّ .
وَلَوْ قَالَ كُلُّ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا زَيْنَبَ وَعَمْرَةَ وَبَكْرَةَ وَسَلْمَى لَا تَطْلُقُ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ وَإِنْ كَانَ هُوَ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ ، وَهَذَا لِأَنَّ
الِاسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٌ لَفْظِيٌّ فَيَصِحُّ فِيمَا صَحَّ فِيهِ اللَّفْظُ ، فَلَمَّا اسْتَثْنَى الْجُزْءَ مِنْ الْكُلِّ صَحَّ لَفْظًا فَكَذَا فِيمَا بَقِيَ ، إذْ لَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ يَتْبَعُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ لَمَا صَحَّ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ عَشَرَةً إلَّا تِسْعَةً لِمَا أَنَّهُ لَا مَزِيدَ عَلَى الثَّلَاثِ شَرْعًا وَهُوَ صَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ مَوْصُولًا بِهِ ) ظَاهِرٌ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ طَلَاقًا بَائِنًا فَمَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَرِثَتْهُ ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تَرِثُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَدْ بَطَلَتْ بِهَذَا الْعَارِضِ وَهِيَ السَّبَبُ وَلِهَذَا لَا يَرِثُهَا إذَا مَاتَتْ .
وَلَنَا أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ سَبَبُ إرْثِهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَالزَّوْجُ قَصَدَ إبْطَالَهُ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ بِتَأْخِيرِ عَمَلِهِ إلَى زَمَانِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا ، وَقَدْ أَمْكَنَ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي الْعِدَّةِ يَبْقَى فِي حَقِّ بَعْضِ الْآثَارِ فَجَازَ أَنْ يَبْقَى فِي حَقِّ إرْثِهَا عَنْهُ ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الِانْقِضَاءِ لِأَنَّهُ لَا إمْكَانَ ، وَالزَّوْجِيَّةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِإِرْثِهِ عَنْهَا فَتَبْطُلُ فِي حَقِّهِ خُصُوصًا إذَا رَضِيَ بِهِ .
( بَابُ طَلَاقِ الْمَرِيضِ ) : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ طَلَاقِ الصَّحِيحِ سُنِّيًّا وَبِدْعِيًّا صَرِيحًا وَكِنَايَةً تَنْجِيزًا وَتَعْلِيقًا كُلًّا وَجُزْءًا شَرَعَ فِي بَيَانِ طَلَاقِ الْمَرِيضِ مُتَعَرِّضًا لِبَعْضِ مَا ذُكِرَ إذْ الْمَرَضُ مِنْ الْعَوَارِضِ السَّمَاوِيَّةِ فَأَخَّرَ بَيَانَهُ عَنْ بَيَانِ حُكْمِ مَنْ بِهِ الْأَصْلُ وَهُوَ الصِّحَّةُ ( وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ) وَهَذَا يُسَمَّى طَلَاقَ الْفَارِّ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَنْ أَبَانَ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِغَيْرِ رِضَاهَا وَهِيَ مِمَّنْ تَرِثُهُ ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَرِثَتْهُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .
قَيَّدَ بِالْإِبَانَةِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إذَا كَانَ رَجْعِيًّا كَانَ تَوْرِيثُهَا مِنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ حُكْمَ النِّكَاحِ بَاقٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا بِاعْتِبَارِ الْفِرَارِ .
وَقَيَّدَ بِمَرَضِ مَوْتِهِ لِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا بَائِنًا فِي مَرَضٍ فَصَحَّ مِنْهُ ثُمَّ مَاتَ لَا تَرِثُ ، وَبِغَيْرِ الرِّضَا لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِرِضَاهَا لَا تَرِثُهُ وَمِمَّنْ تَرِثُهُ ، لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً أَوْ أَمَةً لَا تَرِثُ وَبِالْمَوْتِ فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّهَا إنْ مَاتَتْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا لَمْ تَرِثْ خِلَافًا لِمَالِكٍ ، وَحُكْمُ الْفِرَارِ كَمَا ثَبَتَ مِنْ جَانِبِهِ يَثْبُتُ مِنْ جَانِبِهَا كَمَا إذَا ارْتَدَّتْ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَهِيَ مَرِيضَةٌ فَإِنَّهُ يَرِثُهَا ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَرِثُ فِي الْوَجْهَيْنِ ) يَعْنِي قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا لِأَنَّ سَبَبَ إرْثِهَا مِنْهُ الزَّوْجِيَّةُ وَالزَّوْجِيَّةُ قَدْ بَطَلَتْ بِهَذَا الْعَارِضِ وَهُوَ الطَّلَاقُ ( وَلِهَذَا لَا يَرِثُهَا إذَا مَاتَتْ .
وَلَنَا أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ سَبَبُ إرْثِهَا مِنْهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ) وَهُوَ ظَاهِرٌ ( وَالزَّوْجُ قَصَدَ إبْطَالَ هَذَا السَّبَبِ ) بِالطَّلَاقِ وَهُوَ أَيْضًا ظَاهِرٌ ( فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ بِتَأْخِيرِ عَمَلِهِ ) أَيْ عَمَلِ الطَّلَاقِ ( إلَى زَمَانِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا ) فَإِنْ قِيلَ : إنْ كَانَ سَبَبُ تَأْخِيرِ الْعَمَلِ دَفْعَ الضُّرِّ
عَنْهَا وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطُوءَةُ وَغَيْرُهَا وَمَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَمَا بَعْدَهُ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَقَدْ أَمْكَنَ ) يَعْنِي إنَّمَا يَصِحُّ تَوْرِيثُهَا مِنْهُ إذَا أَمْكَنَ تَأْخِيرُ عَمَلِ الطَّلَاقِ لِيَكُونَ السَّبَبُ وَهُوَ النِّكَاحُ قَائِمًا ، وَقَدْ أَمْكَنَ ذَلِكَ إلَى زَمَانِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي الْعِدَّةِ بَاقٍ فِي حَقِّ بَعْضِ الْآثَارِ مِنْ حُرْمَةِ التَّزَوُّجِ وَحُرْمَةِ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ وَحُرْمَةِ نِكَاحِ الْأُخْتِ وَحُرْمَةِ نِكَاحِ أَرْبَعَةٍ سِوَاهَا ، فَجَازَ أَنْ يَبْقَى فِي حَقِّ إرْثِهَا مِنْهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَوْطُوءَةِ وَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ فِيهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِعَدَمِ بَقَاءِ النِّكَاحِ أَصْلًا .
وَقَوْلُهُ ( وَالزَّوْجِيَّةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِهَذَا لَا يَرِثُهَا إذَا مَاتَتْ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا كَانَ مَرِيضًا لَا يَتَعَلَّقُ لَهُ حَقٌّ فِي مَالِ الْمَرْأَةِ لِكَوْنِهَا صَحِيحَةً فَلَا يَرِثُهَا إذَا مَاتَتْ ، إمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُ بِمَالِهَا ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ رَضِيَ بِحِرْمَانِهَا عَنْ الْإِرْثِ حَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى الطَّلَاقِ ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ قَائِمًا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ( وَقَوْلُهُ فَتَبْطُلَ فِي حَقِّهِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ بِالنَّصْبِ لِأَنَّهُ جَوَابُ النَّفْيِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ بِالرَّفْعِ لَا غَيْرُ ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا وَجْهٌ خَلَا قَوْلَهُ لَا غَيْرُ فَإِنَّهُ لَا وَجْهَ لَهُ .
( وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِأَمْرِهَا أَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَوْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَمْ تَرِثْهُ ) لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِإِبْطَالِ حَقِّهَا وَالتَّأْخِيرِ لِحَقِّهَا .
وَإِنْ قَالَتْ طَلِّقْنِي لِلرَّجْعَةِ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَرِثَتْهُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُزِيلُ النِّكَاحَ فَلَمْ تَكُنْ بِسُؤَالِهَا رَاضِيَةً بِبُطْلَانِ حَقِّهَاوَقَوْلُهُ ( وَإِنْ طَلَّقَهَا بِأَمْرِ ) هَا ظَاهِرٌ .
قِيلَ سُؤَالُهَا لِلطَّلَاقِ لَا يَرْبُو عَلَى قَوْلِهَا أَسْقَطْت مِيرَاثِي مِنْ فُلَانٍ وَثَمَّةَ لَا يَسْقُطُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ مَقْصُودًا ، وَلَكِنْ سَبَبُهُ وَهُوَ الزَّوْجِيَّةُ يَحْتَمِلُ الرَّفْضَ ، فَإِذَا لَمْ تَرْضَ بِرَفْضِهَا جَعَلْنَاهَا قَائِمَةً فِي حَقِّهَا حُكْمًا ، وَإِذَا رَضِيَتْ حَكَمْنَا بِارْتِفَاضِهَا فَيَسْقُطُ الْإِرْثُ ضِمْنًا لَهُ ، وَكَمْ مِنْ حُكْمٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَلَا يَثْبُتُ قَصْدًا ، وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا لِأَنَّهُ دَلِيلُ الرِّضَا بِالْفُرْقَةِ ، وَبِالْخُلْعِ قَدْ الْتَزَمَتْ الْمَالَ لِتَحْصُلَ لَهَا الْفُرْقَةُ وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى الرِّضَا بِهَا .
( وَإِنْ قَالَ لَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ كُنْت طَلَّقْتُك ثَلَاثًا فِي صِحَّتِي وَانْقَضَتْ عِدَّتُك فَصَدَّقَتْهُ ، ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنٍ أَوْ أَوْصَى لَهَا بِوَصِيَّةٍ فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ الْمِيرَاثِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : يَجُوزُ إقْرَارُهُ وَوَصِيَّتُهُ .
وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ بِأَمْرِهَا ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنٍ أَوْ أَوْصَى لَهَا بِوَصِيَّةٍ فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ الْمِيرَاثِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ لَهَا جَمِيعَ مَا أَوْصَى وَمَا أَقَرَّ بِهِ ، لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَمَّا بَطَلَ بِسُؤَالِهَا زَالَ الْمَانِعُ مِنْ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّهُمَا لَمَّا تَصَادَقَا عَلَى الطَّلَاقِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً عَنْهُ حَتَّى جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا فَانْعَدَمَتْ التُّهْمَةُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهَا وَيَجُوزُ وَضْعُ الزَّكَاةِ فِيهَا ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْعِدَّةَ بَاقِيَةٌ وَهِيَ سَبَبُ التُّهْمَةِ ، وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ التُّهْمَةِ وَلِهَذَا يُدَارُ عَلَى النِّكَاحِ وَالْقَرَابَةِ ، وَلَا عِدَّةَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ التُّهْمَةَ قَائِمَةٌ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَخْتَارُ الطَّلَاقَ لِيَنْفَتِحَ بَابُ الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ عَلَيْهَا فَيَزِيدَ حَقُّهَا ، وَالزَّوْجَانِ قَدْ يَتَوَاضَعَانِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْفُرْقَةِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِيَبَرَّهَا الزَّوْجُ بِمَالِهِ زِيَادَةً عَلَى مِيرَاثِهَا وَهَذِهِ التُّهْمَةُ فِي الزِّيَادَةِ فَرَدَدْنَاهَا ، وَلَا تُهْمَةَ فِي قَدْرِ الْمِيرَاثِ فَصَحَّحْنَاهُ ، وَلَا مُوَاضَعَةَ عَادَةً فِي حَقِّ الزَّكَاةِ وَالتَّزَوُّجِ وَالشَّهَادَةِ ، فَلَا تُهْمَةَ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ قَالَ لَهَا فِي مَرَضِهِ ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا يَجِبُ الْأَقَلُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَيَجِبُ مَا أَقَرَّ وَأَوْصَى بَالِغًا مَا بَلَغَ فِيهِمَا عِنْدَ زُفَرَ ، وَقَوْلُهُمَا فِي الْأُولَى كَقَوْلِ زُفَرَ ، وَفِي الثَّانِيَةِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
قَالَ زُفَرُ ( وَالْمِيرَاثُ لَمَّا بَطَلَ بِسُؤَالِهَا أَوْ تَصْدِيقِهَا زَالَ الْمَانِعُ مِنْ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ ) وَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ يَعْمَلُ الْمُقْتَضَى عَمَلَهُ .
وَ ( وَجْهُ قَوْلِهِمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّهُمَا لَمَّا تَصَادَقَا عَلَى الطَّلَاقِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً فَانْعَدَمَتْ التُّهْمَةُ ) وَاسْتَوْضَحَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ أَلَا تَرَى .
وَقَوْلُهُ وَهِيَ سَبَبُ التُّهْمَةِ ) أَيْ الْعِدَّةُ سَبَبُ تُهْمَةِ إيثَارِ الزَّوْجِ الزَّوْجَةَ عَلَى سَائِرِ الْوَرَثَةِ بِزِيَادَةِ نَصِيبِهَا كَمَا فِي حَقِيقَةِ الزَّوْجِيَّةِ ( وَالْحُكْمُ ) وَهُوَ عَدَمُ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ ( يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ التُّهْمَةِ وَلِهَذَا يُدَارُ ) الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ ( عَلَى النِّكَاحِ وَالْقَرَابَةِ ) حَيْثُ لَا يَجُوزُ وَصِيَّتُهُ وَلَا إقْرَارُهُ لِمَنْكُوحَتِهِ وَذَوِي قَرَابَتِهِ .
وَتَحْقِيقُ هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَخْتَارُ الطَّلَاقَ لِيَنْفَتِحَ عَلَيْهِ بَابُ الْوَصِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ ، وَكَذَا قَدْ يَتَوَاضَعُ مَعَ بَعْضِ قَرَابَتِهِ بِدَيْنٍ إيثَارًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ مُبْطَنٌ وَلَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ وَهُوَ النِّكَاحُ وَالْقَرَابَةُ فَأَقَامَهُ الشَّرْعُ مَقَامَهُ وَلَمْ يُجَوِّزْ الْإِقْرَارَ وَالْوَصِيَّةَ لِمَنْكُوحَتِهِ وَقَرِيبِهِ ، فَكَذَا فِي الْمُعْتَدَّةِ لِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنْ أَسْبَابِ التُّهْمَةِ ( وَلَا عِدَّةَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ) لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى انْقِضَائِهَا .
وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّ ذِكْرَ أَنَّ الْعِدَّةَ سَبَبُ التُّهْمَةِ ثُمَّ جَعْلَهُ دَلِيلَ التُّهْمَةِ ، وَإِقَامَةَ الشَّيْءِ مَقَامَ غَيْرِهِ إقَامَةَ السَّبَبِ الدَّاعِي مَقَامَ الْمَدْعُوِّ ، وَإِقَامَةَ الدَّلِيلِ مَقَامَ الْمَدْلُولِ فَهُمَا قَسِيمَانِ (
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ التُّهْمَةَ قَائِمَةٌ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَخْتَارُ الطَّلَاقَ لِيَنْفَتِحَ بَابُ الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ عَلَيْهَا فَيَزِيدُ حَقُّهَا ، وَالزَّوْجَانِ قَدْ يَتَوَاضَعَانِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْفُرْقَةِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِيَبَرَّهَا الزَّوْجُ بِمَالِهِ زِيَادَةً عَلَى مِيرَاثِهَا ، وَهَذِهِ التُّهْمَةُ فِي الزِّيَادَةِ فَرَدَدْنَاهَا ، وَلَا تُهْمَةَ فِي قَدْرِ الْمِيرَاثِ فَصَحَّحْنَاهُ ) وَقَوْلُهُ ( وَلَا مُوَاضَعَةَ عَادَةً ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ لَهَا وَهُوَ وَاضِحٌ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( وَمَنْ كَانَ مَحْصُورًا أَوْ فِي صَفِّ الْقِتَالِ فَطَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا لَمْ تَرِثْهُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَارَزَ رَجُلًا أَوْ قُدِّمَ لِيُقْتَلَ فِي قِصَاصٍ أَوْ رَجْمٍ وَرِثَتْ إنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ أَوْ قُتِلَ ) وَأَصْلُهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ امْرَأَةَ الْفَارِّ تَرِثُ اسْتِحْسَانًا ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْفِرَارِ بِتَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَالِهِ ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَرَضٍ يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ غَالِبًا كَمَا إذَا كَانَ صَاحِبَ الْفِرَاشِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ لَا يَقُومُ بِحَوَائِجِهِ كَمَا يَعْتَادُهُ الْأَصِحَّاءُ ، وَقَدْ يَثْبُتُ حُكْمُ الْفِرَارِ بِمَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَرَضِ فِي تَوَجُّهِ الْهَلَاكِ الْغَالِبِ ، وَمَا يَكُونُ الْغَالِبُ مِنْهُ السَّلَامَةَ لَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ الْفِرَارِ ، فَالْمَحْصُورُ وَاَلَّذِي فِي صَفِّ الْقِتَالِ الْغَالِبُ مِنْهُ السَّلَامَةُ لِأَنَّ الْحِصْنَ لِدَفْعِ بَأْسِ الْعَدُوِّ وَكَذَا الْمَنَعَةُ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ الْفِرَارِ ، وَاَلَّذِي بَارَزَ أَوْ قُدِّمَ لَيُقْتَلَ الْغَالِبُ مِنْهُ الْهَلَاكُ فَيَتَحَقَّقُ بِهِ الْفِرَارُ وَلِهَذَا أَخَوَاتٌ تَخْرُجُ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ ، وَقَوْلُهُ إذَا مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ أَوْ قُتِلَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا مَاتَ بِذَلِكَ السَّبَبِ أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ كَصَاحِبِ الْفِرَاشِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ إذَا قُتِلَ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ كَانَ مَحْصُورًا أَوْ فِي صَفِّ الْقِتَالِ ) هَذَا لِبَيَانِ أَنَّ حُكْمَ الْفِرَارِ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي الْمَرَضِ بَلْ كُلُّ شَيْءٍ يُقَرِّبُهُ إلَى الْهَلَاكِ غَالِبًا فَهُوَ فِي مَعْنَى مَرَضِ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ مَرَضَ الْمَوْتِ هُوَ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ غَالِبًا فَكَانَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءً ، وَفَسَّرَ الْمَرَضَ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ غَالِبًا أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ فِرَاشٍ ، وَفَسَّرَهُ بِمِنْ يَكُونُ بِحَالٍ لَا يَقُومُ بِحَوَائِجِهِ كَالْأَصِحَّاءِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِهَذَا أَخَوَاتٌ تَخْرُجُ عَلَى هَذَا ) مِنْهَا رَاكِبُ السَّفِينَةِ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ ، فَإِنْ تَلَاطَمَتْ الْأَمْوَاجُ وَخِيفَ الْغَرَقُ صَارَ كَالْمَرِيضِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ .
وَمِنْهَا الْمَرْأَةُ الْحَامِلُ فَإِنَّهَا كَالصَّحِيحَةِ فَإِذَا أَخَذَهَا الطَّلْقُ فَهِيَ كَالْمَرِيضَةِ .
وَمِنْهَا الْمُقْعَدُ وَالْمَفْلُوجُ مَا دَامَ يَزْدَادُ مَا بِهِ فَهُوَ كَالْمَرِيضِ ، فَإِنْ صَارَ بِحَيْثُ لَا يَزْدَادُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ فِي الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ مَا دَامَ يَزْدَادُ فِي عِلَّتِهِ فَالْغَالِبُ أَنَّ آخِرَهُ الْمَوْتُ ، وَإِذَا صَارَ بِحَالٍ لَا يَزْدَادُ فَلَا يَخَافُ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ وَقَوْلُهُ إذَا مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ ) بَيَانُهُ : إذَا طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ثُمَّ قُتِلَ أَوْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَرَضِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فَلَهَا الْمِيرَاثُ ، وَكَانَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ يَرَى أَنْ لَا مِيرَاثَ لَهَا لِأَنَّ مَرَضَ الْمَوْتِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْمَوْتِ ، وَلَمَّا مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ عَلِمْنَا أَنَّ مَرَضَهُ لَمْ يَكُنْ مَرَضَ الْمَوْتِ وَأَنَّ حَقَّهَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِمَالِهِ يَوْمئِذٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا فِي صِحَّتِهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : قَدْ اتَّصَلَ الْمَوْتُ بِمَرَضِهِ حِينَ لَمْ يَصِحَّ حَتَّى مَاتَ ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْمَوْتِ سَبَبَانِ فَلَا يَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّ مَرَضَهُ لَمْ يَكُنْ مَرَضَ الْمَوْتِ وَأَنَّ حَقَّهَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي مَالِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إرْثَهَا عَنْهُ بِحُكْمِ
الْفِرَارِ وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ هَاهُنَا .
.
( وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ أَوْ إذَا دَخَلْت الدَّارَ أَوْ إذَا صَلَّى فُلَانٌ الظُّهْرَ أَوْ إذَا دَخَلَ فُلَانٌ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَالزَّوْجُ مَرِيضٌ لَمْ تَرِثْ ، وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ إلَّا فِي قَوْلِهِ إذَا دَخَلْت الدَّارَ ) وَهَذَا عَلَى وُجُوهٍ : إمَّا أَنْ يُعَلِّقَ الطَّلَاقَ بِمَجِيءِ الْوَقْتِ أَوْ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ أَوْ بِفِعْلِ نَفْسِهِ أَوْ بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَمَّا إنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ أَوْ كِلَاهُمَا فِي الْمَرَضِ .
أَمَّا الْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بِمَجِيءِ الْوَقْتِ بِأَنْ قَالَ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ بِأَنْ قَالَ إذَا دَخَلَ فُلَانٌ الدَّارَ أَوْ صَلَّى فُلَانٌ الظُّهْرَ ، فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ فَلَهَا الْمِيرَاثُ لِأَنَّ الْقَصْدَ إلَى الْفِرَارِ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ بِمُبَاشَرَةٍ التَّعْلِيقِ فِي حَالِ تَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ لَمْ تَرِثْ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَرِثُ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ فَكَانَ إيقَاعًا فِي الْمَرَضِ .
وَلَنَا أَنَّ التَّعْلِيقَ السَّابِقَ يَصِيرُ تَطْلِيقًا عِنْدَ الشَّرْطِ حُكْمًا لَا قَصْدًا وَلَا ظُلْمَ إلَّا عَنْ قَصْدٍ فَلَا يُرَدُّ تَصَرُّفُهُ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَا إذَا عَلَّقَهُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ فَسَوَاءٌ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ أَوْ كَانَا فِي الْمَرَضِ وَالْفِعْلُ مِمَّا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ أَوْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ يَصِيرُ فَارًّا لِوُجُودِ قَصْدِ الْإِبْطَالِ ، إمَّا بِالتَّعْلِيقِ أَوْ بِمُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ فِي الْمَرَضِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ فِعْلِ الشَّرْطِ بُدٌّ فَلَهُ مِنْ التَّعْلِيقِ أَلْفُ بُدٍّ فَيُرَدُّ تَصَرُّفُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ
وَهُوَ مَا إذَا عَلَّقَهُ بِفِعْلِهَا ، فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ وَالْفِعْلُ مِمَّا لَهَا مِنْهُ بُدٌّ كَكَلَامِ زَيْدٍ وَنَحْوِهِ لَمْ تَرِثْ لِأَنَّهَا رَاضِيَةٌ بِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مِمَّا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ كَأَكْلِ الطَّعَامِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ وَكَلَامِ الْأَبَوَيْنِ تَرِثُ لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ فِي الْمُبَاشَرَةِ لِمَا لَهَا فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ خَوْفِ الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْعُقْبَى وَلَا رِضًا مَعَ الِاضْطِرَارِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ ، فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مِمَّا لَهَا مِنْهُ بُدٌّ فَلَا إشْكَالَ أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لَهَا ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الزَّوْجِ صُنْعٌ بَعْدَمَا تَعَلَّقَ حَقُّهَا بِمَالِهِ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَرِثُ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَلْجَأَهَا إلَى الْمُبَاشَرَةِ فَيَنْتَقِل الْفِعْلُ إلَيْهِ كَأَنَّهَا آلَةٌ لَهُ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ .