كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي
وَلَمْ يُجِزْهُ الْمُرْتَهِنُ ثُمَّ بَاعَهُ بَيْعًا ثَانِيًا فَالثَّانِي مَوْقُوفٌ كَالْأَوَّلِ ، لِأَنَّ الْمَوْقُوفَ لَا يَمْنَعُ عَنْ التَّوَقُّفِ ، فَلَوْ أَجَازَ الْمُرْتَهِنُ الْبَيْعَ الثَّانِي جَازَ الثَّانِي كَالْأَوَّلِ ، وَلَوْ أَجَازَ الْأَوَّلَ جَازَ الْأَوَّلُ .
وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ يَتَعَلَّقُ بِالثَّمَنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَرْهَنُ لِيُبَاعَ فَأَيَّهمَا أَجَازَهُ الْمُرْتَهِنُ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ نَفَذَ وَيَأْخُذُ الثَّمَنَ وَيَكُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ ، وَإِنَّمَا خَصَّ إجَازَةَ الْبَيْعِ الثَّانِي لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُقُودِ الْبَاقِيَةِ الْمَذْكُورَةِ ، فَإِنَّهُ بِإِجَازَتِهَا يَصِحُّ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْبَيْعُ وَلَمْ تَصِحَّ هِيَ ، وَبِإِجَازَةِ الْبَيْعِ الثَّانِي لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ سَابِقًا وَيَصِحُّ هُوَ .
وَالْفَرْقُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِشَيْءٍ وَتَبَدَّلَ بِإِجَازَتِهِ إلَى غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ الْبَدَلُ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ ، وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ ، فَعَلَى هَذَا إذَا بَاعَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ ثَانِيًا وَأَجَازَهُ الْمُرْتَهِنُ كَانَ الثَّمَنُ رَهْنًا عِنْدَهُ فَكَانَ ذَا حَظٍّ مِنْ الْعَقْدِ الثَّانِي لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِبَدَلِهِ فَيَصِحُّ تَعْيِينُهُ .
وَإِذَا آجَرَ بَعْدَ الْبَيْعِ أَوْ رَهَنَ وَسَلَّمَ أَوْ وَهَبَ وَسَلَّمَ وَأَجَازَ هَذِهِ الْعُقُودَ جَازَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ وَسَمَّاهُ أَوَّلًا لِوُقُوعِهِ قَبْلَهَا ، لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ بَعْضُهَا لَا بَدَلَ فِيهِ كَمَا فِي الْهِبَةِ وَالرَّهْنِ وَبَعْضُهَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ بَدَلٌ لَكِنْ لَيْسَ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ فِيهَا بَدَلٌ عَنْ الْمَنْفَعَةِ وَحَقُّهُ فِي مَالِيَّةِ الْعَيْنِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا حَظٌّ لَمْ يَصِحَّ تَعْيِينُهُ وَكَانَتْ إجَازَتُهُ إسْقَاطًا لِحَقِّهِ فَنَفَذَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ .
وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ اشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ فِي الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ
اعْتِمَادًا عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُومًا
( وَلَوْ بَاعَ الرَّاهِنُ ثُمَّ أَجَّرَ أَوْ وَهَبَ أَوْ رَهَنَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَأَجَازَ الْمُرْتَهِنُ هَذِهِ الْعُقُودَ جَازَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ ذُو حَظٍّ مِنْ الْبَيْعِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِبَدَلِهِ فَيَصِحُّ تَعْيِينُهُ لِتَعَلُّقِ فَائِدَتِهِ بِهِ ، أَمَّا لَا حَقَّ لَهُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بَدَلَ فِي الْهِبَةِ وَالرَّهْنِ ، وَاَلَّذِي فِي الْإِجَارَةِ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ لَا بَدَلُ الْعَيْنِ ، وَحَقُّهُ فِي مَالِيَّةِ الْعَيْنِ لَا فِي الْمَنْفَعَةِ فَكَانَتْ إجَازَتُهُ إسْقَاطًا لِحَقِّهِ فَزَالَ الْمَانِعُ فَنَفَذَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ فَوَضَحَ الْفَرْقُ قَالَ ( وَلَوْ أَعْتَقَ الرَّاهِنُ عَبْدَ الرَّهْنِ نَفَذَ عِتْقُهُ ) وَفِي بَعْضِ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ لَا يَنْفُذُ إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا ؛ لِأَنَّ فِي تَنْفِيذِهِ إبْطَالَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُوسِرًا حَيْثُ يَنْفُذُ عَلَى بَعْضِ أَقْوَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ مَعْنًى بِالتَّضْمِينِ ، وَبِخِلَافِ إعْتَاقِ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَبْقَى مُدَّتُهَا ؛ إذْ الْحُرُّ يَقْبَلُهَا ، أَمَّا مَا لَا يَقْبَلُ الرَّهْنَ فَلَا يَبْقَى وَلَنَا أَنَّهُ مُخَاطَبٌ أَعْتَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَلَا يَلْغُو بِصَرْفِهِ بِعَدَمِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ كَمَا إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدُ الْمُشْتَرَى قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ أَعْتَقَ الْآبِقَ أَوْ الْمَغْصُوبَ ، وَلَا خَفَاءَ فِي قِيَامِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ لِقِيَامِ الْمُقْتَضِي ، وَعَارِضُ الرَّهْنِ لَا يُنْبِئُ عَنْ زَوَالِهِ ثُمَّ إذَا زَالَ مِلْكُهُ فِي الرَّقَبَةِ بِإِعْتَاقِهِ يَزُولُ مِلْكُ الْمُرْتَهِنِ فِي الْيَدِ بِنَاءً عَلَيْهِ كَإِعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ ، بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ أَقْوَى مِنْ مِلْكِ الْيَدِ ، فَلَمَّا لَمْ يُمْنَعْ الْأَعْلَى لَا يُمْنَعُ الْأَدْنَى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ، وَامْتِنَاعُ النَّفَاذِ فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لِانْعِدَامِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ ، وَإِعْتَاقُ الْوَارِثِ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ لَا يَلْغُو بَلْ يُؤَخَّرُ إلَى أَدَاءِ
السِّعَايَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِذَا نَفَذَ الْإِعْتَاقُ بَطَلَ الرَّهْنُ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ ( ثُمَّ ) بَعْدَ ذَلِكَ ( إنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا ، وَالدَّيْنُ حَالًّا طُولِبَ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ طُولِبَ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ ( وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا أُخِذَتْ مِنْهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ وَجُعِلَتْ رَهْنًا مَكَانَهُ حَتَّى يَحِلَّ الدَّيْنُ ) ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ مُتَحَقِّقٌ ، وَفِي التَّضْمِينِ فَائِدَةٌ فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ اقْتَضَاهُ بِحَقِّهِ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ وَرَدَّ الْفَضْلَ ( وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ وَقَضَى بِهِ الدَّيْنَ إلَّا إذَا كَانَ بِخِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إلَى عَيْنِ حَقِّهِ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَقِ يَرْجِعُ إلَى مَنْ يَنْتَفِعُ بِعِتْقِهِ وَهُوَ الْعَبْدُ ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَتَأْوِيلُهُ إذَا كَانَتْ الْقِيمَةُ أَقَلَّ مِنْ الدَّيْنِ ، أَمَّا إذَا كَانَ الدَّيْنُ أَقَلَّ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( ثُمَّ يَرْجِعُ بِمَا سَعَى عَلَى مَوْلَاهُ إذَا أَيْسَرَ ) ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ وَهُوَ مُضْطَرٌّ فِيهِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا تَحَمَّلَ عَنْهُ ، بِخِلَافِ الْمُسْتَسْعَى فِي الْإِعْتَاقِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي ضَمَانًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْعَى لِتَحْصِيلِ الْعِتْقِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لِتَكْمِيلِهِ ، وَهُنَا يَسْعَى فِي ضَمَانٍ عَلَى غَيْرِهِ بَعْدَ تَمَامِ إعْتَاقِهِ فَصَارَ كَمُعِيرِ الرَّهْنِ ثُمَّ أَبُو حَنِيفَةَ أَوْجَبَ السِّعَايَةَ فِي الْمُسْتَسْعَى الْمُشْتَرَكِ فِي حَالَتَيْ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ ، وَفِي الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ شَرَطَ الْإِعْسَارَ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْمِلْكِ وَأَنَّهُ أَدْنَى مِنْ حَقِيقَتِهِ الثَّابِتَةِ لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ فَوَجَبَ السِّعَايَةُ هُنَا فِي حَالَةِ وَاحِدَةٍ إظْهَارُ النُّقْصَانِ رُتْبَتَهُ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَى قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي حَيْثُ لَا يَسْعَى لِلْبَائِعِ إلَّا
رِوَايَةً عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَالْمَرْهُونُ يَسْعَى ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الْحَبْسِ أَضْعَفُ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَمْلِكُهُ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُسْتَوْفَى مِنْ عَيْنِهِ ، وَكَذَلِكَ يَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الْحَبْسِ بِالْإِعَارَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي ، وَالْمُرْتَهِنُ يَنْقَلِبُ حَقُّهُ مِلْكًا ، وَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ بِالْإِعَارَةِ مِنْ الرَّاهِنِ حَتَّى يُمْكِنَهُ الِاسْتِرْدَادُ ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا السِّعَايَةَ فِيهِمَا لَسَوَّيْنَا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ
قَالَ ( وَلَوْ أَعْتَقَ الرَّاهِنُ عَبْدَ الرَّهْنِ نَفَذَ عِتْقُهُ إلَخْ ) إذَا أَعْتَقَ الرَّاهِنُ عَبْدَهُ الْمَرْهُونَ نَفَذَ عِتْقُهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا .
وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَقْوَالٌ شُمُولُ النُّفُوذِ وَعَدَمُهُ وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ .
قَالَ فِي الْمُعْسِرِ : فِي تَنْفِيذِهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَلَا يَجُوزُ كَالْبَيْعِ ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَسْرَعُ نُفُوذًا مِنْ الْعِتْقِ حَيْثُ جَازَ مِنْ الْمُكَاتَبِ دُونَ الْعِتْقِ .
وَلَنَا أَنَّهُ مُخَاطَبٌ أَعْتَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ ، وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ صَحَّ كَمَا إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمُشْتَرَى قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ الْآبِقَ أَوْ الْمَغْصُوبَ فَإِنَّهَا تُشْرِكُ الْمَرْهُونَ فِي فَوَاتِ يَدِ الْمَالِكِ وَفِي انْتِفَاءِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ إنْ بَاعَ ، فَكَانَ الْمُقْتَضَى مُتَحَقِّقًا وَالْمَانِعُ مُنْتَفِيًا فَثَبَتَ الْحُكْمُ .
أَمَّا تَحَقُّقُ الْمُقْتَضَى فَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ صَدَرَ عَنْ أَهْلِهِ ، وَلَا نِزَاعَ فِيهِ مُضَافٌ إلَى مَحَلِّهِ ، لِأَنَّهُ لَا خَفَاءَ فِي قِيَامِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ لِقِيَامِ مُقْتَضِيهِ وَهُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِتَمَلُّكِهِ قَبْلَ الرَّهْنِ .
وَأَمَّا انْتِفَاءُ الْمَانِعِ فَلِأَنَّ عَارِضَ النَّهْيِ لَا يُنْبِئُ عَنْ زَوَالِهِ لِأَنَّ مُوجَبَ عَقْدِ الرَّهْنِ إمَّا ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ كَمَا هُوَ عِنْدَنَا أَوْ هُوَ حَقُّ الْبَيْعِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْخَصْمِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يُزِيلُ مِلْكَ الْعَيْنِ فَيَبْقَى الْعَيْنُ عَلَى مَا كَانَ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ ، وَإِذَا كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ وَقَدْ أَزَالَهُ بِالْإِعْتَاقِ صَحَّ ، وَيَزُولُ مِلْكُ الْمُرْتَهِنِ فِي الْيَدِ بِنَاءً عَلَيْهِ كَمَا إذَا أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ أَقْوَى مِنْ مِلْكِ الْيَدِ فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ الْأَعْلَى وَهُوَ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ لِلشَّرِيكِ عَنْ صِحَّةِ الْعِتْقِ فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ الْأَدْنَى وَهُوَ يَدُ الْمُرْتَهِنِ أَوْلَى .
فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ الْمَانِعُ مُنْحَصِرًا فِيمَا يُزِيلُ الْمِلْكَ بَلْ
مُجَرَّدُ تَعَلُّقِ الْحَقِّ مَانِعٌ وَلِهَذَا مَنَعَ النَّفَاذَ فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَامْتِنَاعُ النَّفَاذِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ إنَّمَا صَلَحَ مَانِعًا فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لِإِعْدَامِهِ قُدْرَةَ الْعَاقِدِ عَلَى التَّسْلِيمِ الْمَشْرُوطِ بِصِحَّةِ الْعَقْدَيْنِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ فِي الْإِعْتَاقِ فَلَا يَصْلُحُ مَانِعًا .
وَقَوْلُهُ ( وَإِعْتَاقُ الْوَارِثِ ) جَوَابٌ عَمَّا تَمَسَّكَ بِهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَادَّعَى أَنَّ إعْتَاقَهُ لَغْوٌ .
وَصُورَتُهُ مَرِيضٌ أَوْ وَصِيٌّ بِرَقَبَةِ عَبْدِهِ لِشَخْصٍ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ ثُمَّ مَاتَ وَأَعْتَقَ الْوَارِثُ الْعَبْدَ لَمْ يَنْفُذْ لِحَقِّ الْمُوصَى لَهُ فَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الرَّهْنِ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْغُو بَلْ يُؤَخَّرُ إلَى أَدَاءِ السِّعَايَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلَا إشْكَالَ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ فِي الْحَالِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا نَفَذَ الْإِعْتَاقُ ) رَاجِعٌ إلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ : يَعْنِي فَإِذَا ثَبَتَ تَحَقُّقُ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ نَفَذَ الْإِعْتَاقُ ، وَإِذَا نَفَذَ الْإِعْتَاقُ بَطَلَ الرَّهْنُ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ وَمَا بَعْدَهُ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا إذَا كَانَ بِخِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ ) يَعْنِي إلَّا إذَا كَانَ الْحَاصِلُ مِنْ السِّعَايَةِ بِخِلَافِ جِنْسِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَإِنَّهُ لَا يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ بَلْ يُبْدِلُ بِهِ جِنْسَ حَقِّهِ وَيَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْوُصُولُ ) دَلِيلُ وُجُوبِ السِّعَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ .
وَقَوْلُهُ ( نَذْكُرُهُ ) يَعْنِي فِي هَذَا الْبَابِ فِي مَسْأَلَةِ اسْتِيلَادِ الْأَمَةِ الْمَرْهُونَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَعِنْدَهُمَا لِتَكْمِيلِهِ ) يَعْنِي وَإِنْ عَتَقَ عِنْدَهُمَا لَكِنْ فِي عِتْقِهِ نُقْصَانٌ لِكَوْنِهِ مَطْلُوبًا بِالسِّعَايَةِ ، فَإِذَا أَدَّاهَا كَمُلَ الْعِتْقُ .
وَقَوْلُهُ إلَّا رِوَايَةً عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ الْمَبِيعَ مَحْبُوسٌ فِي يَدِ الْبَائِعِ كَالرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُرْتَهِنُ يَنْقَلِبُ حَقُّهُ مِلْكًا ) يَعْنِي أَنَّ الرَّهْنَ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ كَانَ مَالِكًا مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ ، وَبَاقِي كَلَامِهِ وَاضِحٌ
( وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِرَهْنِ عَبْدِهِ ) بِأَنْ قَالَ ( لَهُ رَهَنْتُك عِنْدَ فُلَانٍ وَكَذَّبَهُ الْعَبْدُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ تَجِبُ السِّعَايَةُ ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ ، وَهُوَ يُعْتَبَرُ ، بِإِقْرَارِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَنَحْنُ نَقُولُ أَقَرَّ بِتَعَلُّقِ الْحَقِّ فِي حَالٍ يَمْلِكُ التَّعْلِيقَ فِيهِ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فَيَصِحُّ ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّهُ حَالَ انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ قَالَ ( وَلَوْ دَبَّرَهُ الرَّاهِنُ صَحَّ تَدْبِيرُهُ بِالِاتِّفَاقِ ) أَمَّا عِنْدَنَا فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَمْنَعُ الْبَيْعَ عَلَى أَصْلِهِ ( وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا الرَّاهِنُ صَحَّ الِاسْتِيلَادُ بِالِاتِّفَاقِ ) ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ بِأَدْنَى الْحَقَّيْنِ وَهُوَ مَا لِلْأَبِ فِي جَارِيَةِ الِابْنِ فَيَصِحُّ بِالْأَعْلَى ( وَإِذَا صَحَّا خَرَجَا مِنْ الرَّهْنِ ) لِبُطْلَانِ الْمَحَلِّيَّةِ ؛ إذْ لَا يَصِحُّ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُمَا ( فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا ضَمِنَ قِيمَتَهُمَا ) عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِعْتَاقِ ( وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا اسْتَسْعَى الْمُرْتَهِنُ الْمُدَبَّرَ وَأُمَّ الْوَلَدِ فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ ) ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُمَا مَالُ الْمَوْلَى ، بِخِلَافِ الْمُعْتَقِ حَيْثُ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ الدَّيْنِ وَمِنْ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ حَقُّهُ ، وَالْمُحْتَبَسُ عِنْدَهُ لَيْسَ إلَّا قَدْرَ الْقِيمَةِ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ ، وَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ فَلَا تَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ وَلَا يَرْجِعَانِ بِمَا يُؤَدِّيَانِ عَلَى الْمَوْلَى بَعْدَ يَسَارِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَدَّيَاهُ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى ، وَالْمُعْتَقُ يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مِلْكَهُ عَنْهُ وَهُوَ مُضْطَرٌّ عَلَى مَا مَرَّ وَقِيلَ الدَّيْنُ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا يَسْعَى الْمُدَبَّرُ فِي قِيمَتِهِ قِنًّا ؛ لِأَنَّهُ عِوَضُ الرَّهْنِ حَتَّى تُحْبَسَ مَكَانَهُ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْعِوَضِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ حَالًّا ؛ لِأَنَّهُ يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ ، وَلَوْ أَعْتَقَ الرَّاهِنُ الْمُدَبَّرَ وَقَدْ قَضَى عَلَيْهِ بِالسِّعَايَةِ أَوْ لَمْ يَقْضِ
لَمْ يَسْعَ إلَّا بِقَدْرِ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ مِلْكُهُ ، وَمَا أَدَّاهُ قَبْلَ الْعِتْقِ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ مِنْ مَالِ الْمَوْلَىقَالَ ( وَلَوْ دَبَّرَهُ الرَّاهِنُ صَحَّ تَدْبِيرُهُ إلَخْ ) الرَّاهِنُ إذَا دَبَّرَ الرَّهْنَ صَحَّ تَدْبِيرُهُ بِالِاتِّفَاقِ ، أَمَّا عِنْدَنَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ وَحَقِيقَتُهُ لَمْ تُمْنَعْ فَحَقُّهُ أَوْلَى ، وَأَمَّا عِنْدَهُ : أَيْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْبَيْعَ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا صَحَّا ) يَعْنِي التَّدْبِيرَ وَالِاسْتِيلَادَ ( خَرَجَا ) أَيْ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ : يَعْنِي عِنْدَنَا .
وَأَمَّا عِنْدَهُ فَإِنَّ الْمُدَبَّرَ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ لِقَبُولِهِ حُكْمِ الرَّهْنِ كَمَا مَرَّ آنِفًا ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ
قَالَ ( وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَهْلَكَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ ) ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مُحْتَرَمٌ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْإِتْلَافِ ، وَالضَّمَانُ رَهْنٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْعَيْنِ ( فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ فَالْمُرْتَهِنُ هُوَ الْخَصْمُ فِي تَضْمِينِهِ فَيَأْخُذُ الْقِيمَةَ وَتَكُونُ رَهْنًا فِي يَدِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِعَيْنِ الرَّهْنِ حَالَ قِيَامِهِ فَكَذَا فِي اسْتِرْدَادِ مَا قَامَ مَقَامَهُ ، وَالْوَاجِبُ عَلَى هَذَا الْمُسْتَهْلِكِ قِيمَتُهُ يَوْمَ هَلَكَ ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ اسْتَهْلَكَهُ خَمْسَمِائَةٍ وَيَوْمَ رَهَنَ أَلْفًا غَرِمَ خَمْسَمِائَةٍ وَكَانَتْ رَهْنًا وَسَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُمِائَةٍ فَصَارَ الْحُكْمُ فِي الْخَمْسِمِائَةِ الزِّيَادَةَ كَأَنَّهَا هَلَكَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي ضَمَانِ الرَّهْنِ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَبْضِ لَا يَوْمَ الْفِكَاكِ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ السَّابِقَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ اسْتِيفَاءً ، إلَّا أَنَّهُ يَتَقَرَّرُ عِنْدَ الْهَلَاكِ ( وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُرْتَهِنُ وَالدَّيْنُ مُؤَجَّلٌ غَرِمَ الْقِيمَةَ ) ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ ( وَكَانَتْ رَهْنًا فِي يَدِهِ حَتَّى يَحِلَّ الدَّيْنُ ) ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بَدَلُ الْعَيْنِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ ( وَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ وَهُوَ عَلَى صِفَةِ الْقِيمَةِ اسْتَوْفَى الْمُرْتَهِنُ مِنْهَا قَدْرَ حَقِّهِ ) ؛ لِأَنَّهُ جِنْسُ حَقِّهِ ( ثُمَّ إنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ يَرُدُّهُ عَلَى الرَّاهِنِ ) ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ وَقَدْ فَرَغَ عَنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ( وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ الدَّيْنِ بِتَرَاجُعِ السِّعْرِ إلَى خَمْسِمِائَةٍ وَقَدْ كَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ الرَّهْنِ أَلْفًا وَجَبَ بِالِاسْتِهْلَاكِ خَمْسُمِائَةٍ وَسَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُمِائَةٍ ) ؛ لِأَنَّ مَا انْتَقَصَ كَالْهَالِكِ وَسَقَطَ الدَّيْنُ بِقَدْرِهِ ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ لَا بِتَرَاجُعِ السِّعْرِ ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْبَاقِي بِالْإِتْلَافِ وَهُوَ قِيمَتُهُ يَوْمَ أُتْلِفَ
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَهْلَكَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا ضَمِنَ قِيمَتَهُمَا .
وَقَوْلُهُ وَالْوَاجِبُ عَلَى هَذَا الْمُسْتَهْلِكِ : يَعْنِي الْأَجْنَبِيَّ ، وَقَيَّدَهُ بِذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ اسْتِهْلَاكِ الْمُرْتَهِنِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ قَبَضَ لَا يَوْمَ هَلَكَ كَمَا سَيَجِيءُ .
وَقَوْلُهُ ( كَأَنَّهَا هَلَكَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ ) يَعْنِي تَكُونُ الزِّيَادَةُ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُرْتَهِنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُعْتَبَرُ فِي ضَمَانِ الرَّهْنِ ) تَعْلِيلُ ذَلِكَ ، قِيلَ عَلَيْهِ النُّقْصَانُ إنَّمَا هُوَ بِتَرَاجُعِ السِّعْرِ وَأَنَّهُ لَا يُسْقِطُ مِنْ الدَّيْنِ شَيْئًا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَيْنَ قَدْ تَغَيَّرَتْ فَكَانَتْ بِمَثَابَةِ لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً تَرْجِعُ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ ، فَبِالْهَلَاكِ فَاتَتْ تِلْكَ الصَّلَاحِيَةُ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي ابْتِدَاءِ الْقَبْضِ ضَمَانُ تِلْكَ الْقِيمَةِ فَسَقَطَ قَدْرُ النُّقْصَانِ مِنْ الْعَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ تَتَغَيَّرْ الْعَيْنُ وَقَدْ تَرَاجَعَ السِّعْرُ ، لِأَنَّ الْعَيْنَ الَّتِي قَبَضَهَا بِحَالِهَا مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ الدَّيْنِ بِتَرَاجُعِ السِّعْرِ ) إشَارَةٌ إلَى هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ .
قَالَ ( وَإِذَا أَعَارَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ لِلرَّاهِنِ لِيَخْدُمَهُ أَوْ لِيَعْمَلَ لَهُ عَمَلًا فَقَبَضَهُ خَرَجَ مِنْ ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ ) لِمُنَافَاةٍ بَيْنَ يَدِ الْعَارِيَّةِ وَيَدِ الرَّهْنِ ( فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ هَلَكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ ) لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمَضْمُونِ ( وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ إلَى يَدِهِ ) ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ بَاقٍ إلَّا فِي حُكْمِ الضَّمَانِ فِي الْحَالِّ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الرَّاهِنُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ كَانَ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعَارِيَّةِ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ وَالضَّمَانُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الرَّهْنِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ ثَابِتٌ فِي وَلَدِ الرَّهْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْهَلَاكِ ، وَإِذَا بَقِيَ عَقْدُ الرَّهْنِ فَإِذَا أَخَذَهُ عَادَ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّهُ عَادَ الْقَبْضُ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ فَيَعُودُ بِصِفَتِهِ ( وَكَذَلِكَ لَوْ أَعَارَهُ أَحَدُهُمَا أَجْنَبِيًّا بِإِذْنِ الْآخَرِ سَقَطَ حُكْمُ الضَّمَانِ ) لِمَا قُلْنَا ( وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرُدَّهُ رَهْنًا كَمَا كَانَ ) ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًّا مُحْتَرَمًا فِيهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ إذَا بَاشَرَهَا أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ الْآخَرِ حَيْثُ يَخْرُجُ عَنْ الرَّهْنِ فَلَا يَعُودُ إلَّا بِعَقْدٍ مُبْتَدَإٍ
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا أَعَارَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ لِلرَّاهِنِ ) فِيهِ تَسَامُحٌ ، لِأَنَّ الْإِعَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالْمُرْتَهِنُ لَا يَمْلِكُهَا فَكَيْفَ يَمْلِكُهَا غَيْرُهُ ، وَلَكِنْ لَمَّا عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْإِعَارَةِ مِنْ عَدَمِ الضَّمَانِ وَتَمَكَّنَ اسْتِرْدَادُ الْمُعِيرِ أَطْلَقَ الْإِعَارَةَ .
وَقَوْلُهُ ( لِمُنَافَاةٍ بَيْنَ يَدِ الْعَارِيَّةِ وَيَدِ الرَّهْنِ ) لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ يُوجِبُ الضَّمَانَ وَقَبْضَ الْعَارِيَّةِ لَا يُوجِبُهُ .
وَفِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ الْإِعَارَةِ يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ مُمْتَنِعٌ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ إذَا كَانَ يَدُ الرَّاهِنِ بَعْدَ الْإِعَارَةِ يَدَ الْمُرْتَهِنِ ، وَيَدُهُ إذْ ذَاكَ يَدُ عَارِيَّةٍ وَفِي ذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَهُمَا لَا مَحَالَةَ ، فَاعْتَبَرْنَا يَدَ الرَّاهِنِ يَدَ رَهْنٍ لِلُزُومِ عَقْدِ الرَّهْنِ وَأَزَلْنَا الضَّمَانَ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُوجِبِ لَهُ وَهُوَ مَحْسُوسٌ لَا يَرِدُ ، وَلِجَوَازِ انْفِكَاكِ الرَّهْنِ عَنْ كَوْنِهِ مَضْمُونًا فِي الْجُمْلَةِ كَمَا فِي وَلَدِ الرَّهْنِ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ شَكَرَ اللَّهُ سَعْيَهُ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِمُنَافَاةٍ بَيْنَ يَدِ الْعَارِيَّةِ وَيَدِ الرَّهْنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إعَارَةِ أَحَدِهِمَا بِإِذْنِ الْآخَرِ أَجْنَبِيًّا ( بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ ) وَجُمْلَةُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ سِتَّةٌ : الْعَارِيَّةُ ، الْوَدِيعَةُ ، وَالرَّهْنُ ، وَالْإِجَارَةُ ، وَالْبَيْعُ ، وَالْهِبَةُ فَالْعَارِيَّةُ تُوجِبُ سُقُوطَ الضَّمَانِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعِيرُ هُوَ الرَّاهِنَ أَوْ الْمُرْتَهِنَ إذَا هَلَكَ حَالَةَ الِاسْتِعْمَالِ أَوْ أَجْنَبِيًّا وَلَا يُرْفَعُ عَقْدُ الرَّهْنِ ، وَحُكْمُ الْوَدِيعَةِ كَحُكْمِ الْعَارِيَّةِ ، وَالرَّهْنُ يُبْطِلُ عَقْدَ الرَّهْنِ ، وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَالْمُسْتَأْجِرُ إنْ كَانَ هُوَ الرَّاهِنَ فَهِيَ بَاطِلَةٌ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَعَارَ مِنْهُ أَوْ أَوْدَعَهُ فَلَهُ أَنْ
يَسْتَرِدَّهُ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُرْتَهِنَ وَجَدَّدَ الْقَبْضَ لِلْإِجَارَةِ أَوْ أَجْنَبِيًّا بِمُبَاشَرَةِ أَحَدِهِمَا الْعَقْدَ بِإِذْنِ الْآخَرِ بَطَلَ الرَّهْنُ وَالْأُجْرَةُ لِلرَّاهِنِ وَوِلَايَةُ الْقَبْضِ لِلْعَاقِدِ وَلَا يَعُودُ رَهْنًا إلَّا بِالِاسْتِئْنَافِ ، وَأَمَّا الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ فَإِنَّ الْعَقْدَ يَبْطُلُ بِهِمَا إذَا كَانَا مِنْ الْمُرْتَهِنِ أَوْ أَجْنَبِيٍّ بِمُبَاشَرَةِ أَحَدِهِمَا بِإِذْنِ الْآخَرِ ، وَأَمَّا مِنْ الرَّاهِنِ فَلَا يُتَصَوَّرُ
( وَلَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ قَبْلَ الرَّدِّ إلَى الْمُرْتَهِنِ يَكُونُ الْمُرْتَهِنُ أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ ) ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِالرَّهْنِ حَقٌّ لَازِمٌ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَيَبْطُلُ بِهِ حُكْمُ الرَّهْنِ ، أَمَّا بِالْعَارِيَّةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لَازِمٌ فَافْتَرَقَا
( وَإِذَا اسْتَعَارَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ مِنْ الرَّاهِنِ لِيَعْمَلَ بِهِ فَهَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْعَمَلِ هَلَكَ عَلَى ضَمَانِ الرَّهْنِ ) لِبَقَاءِ يَدِ الرَّهْنِ ( وَكَذَا إذَا هَلَكَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ ) لِارْتِفَاعِ يَدِ الْعَارِيَّةِ ( وَلَوْ هَلَكَ فِي حَالَةِ الْعَمَلِ هَلَكَ بِغَيْرِ ضَمَانٍ ) لِثُبُوتِ يَدِ الْعَارِيَّةِ بِالِاسْتِعْمَالِ ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِيَدِ الرَّاهِنِ فَانْتَفَى الضَّمَانُ ( وَكَذَا إذَا أَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ بِالِاسْتِعْمَالِ ) لِمَا بَيَّنَّاهُ( وَقَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي فِي صُورَةِ الْعَارِيَّةِ ، ثُمَّ لَوْ اخْتَلَفَا فِي وَقْتِ الْهَلَاكِ فَالْقَوْلُ لِلْمُرْتَهِنِ وَالْبَيِّنَةُ لِلرَّاهِنِ .
( وَمَنْ اسْتَعَارَ مِنْ غَيْرِهِ ثَوْبًا لِيَرْهَنَهُ فَمَا رَهَنَهُ بِهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَهُوَ جَائِزٌ ) ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِإِثْبَاتِ مِلْكِ الْيَدِ فَيُعْتَبَرُ بِالتَّبَرُّعِ بِإِثْبَاتِ مِلْكِ الْعَيْنِ وَالْيَدِ وَهُوَ قَضَاءُ الدَّيْنِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْفَصِلَ مِلْكُ الْيَدِ عَنْ مِلْكِ الْعَيْنِ ثُبُوتًا لِلْمُرْتَهِنِ كَمَا يَنْفَصِلُ زَوَالًا فِي حَقِّ الْبَائِعِ ، وَالْإِطْلَاقُ وَاجِبُ الِاعْتِبَارِ خُصُوصًا فِي الْإِعَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهَا لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ( وَلَوْ عَيَّنَ قَدْرًا لَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَرْهَنَهُ بِأَكْثَرَ مِنْهُ ، وَلَا بِأَقَلَّ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ مُفِيدٌ ، وَهُوَ يَنْفِي الزِّيَادَةَ ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ الِاحْتِبَاسُ بِمَا تَيَسَّرَ أَدَاؤُهُ ، وَيَنْفِي النُّقْصَانَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ أَنْ يَصِيرَ مُسْتَوْفِيًا لِلْأَكْثَرِ بِمُقَابَلَتِهِ عِنْدَ الْهَلَاكِ لِيَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ ( وَكَذَلِكَ التَّقْيِيدُ بِالْجِنْسِ وَبِالْمُرْتَهِنِ وَبِالْبَلَدِ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُفِيدٌ لِتَيَسُّرِ الْبَعْضِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْبَعْضِ وَتَفَاوُتِ الْأَشْخَاصِ فِي الْأَمَانَةِ وَالْحِفْظِ ( فَإِذَا خَالَفَ كَانَ ضَامِنًا ، ثُمَّ إنْ شَاءَ الْمُعِيرُ ضَمَّنَ الْمُسْتَعِيرَ وَيَتِمُّ عَقْدُ الرَّهْنِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْتَهِنِ ) ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ رَهَنَ مِلْكَ نَفْسِهِ ( وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ ، وَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ بِمَا ضَمِنَ وَبِالدَّيْنِ عَلَى الرَّاهِنِ ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ( وَإِنْ وَافَقَ ) بِأَنْ رَهَنَهُ بِمِقْدَارِ مَا أَمَرَهُ بِهِ ( إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَهَلَكَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ يَبْطُلُ الْمَالُ عَنْ الرَّاهِنِ ) لِتَمَامِ الِاسْتِيفَاءِ بِالْهَلَاكِ ( وَوَجَبَ مِثْلُهُ لِرَبِّ الثَّوْبِ عَلَى الرَّاهِنِ ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِمَالِهِ بِهَذَا الْقَدْرِ وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلرُّجُوعِ دُونَ الْقَبْضِ بِذَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِرِضَاهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَصَابَهُ عَيْبٌ ذَهَبَ مِنْ الدَّيْنِ
بِحِسَابِهِ وَوَجَبَ مِثْلُهُ لِرَبِّ الثَّوْبِ عَلَى الرَّاهِنِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ .
( وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ الدَّيْنِ ذَهَبَ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ وَعَلَى الرَّاهِنِ بَقِيَّةُ دَيْنِهِ لِلْمُرْتَهِنِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الِاسْتِيفَاءُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى قِيمَتِهِ وَعَلَى الرَّاهِنِ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ مَا صَارَ بِهِ مُوفِيًا لِمَا بَيَّنَّاهُ ( وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ فَأَرَادَ الْمُعِيرُ أَنْ يَفْتَكَّهُ جَبْرًا عَنْ الرَّاهِنِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ إذَا قَضَى دَيْنَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ ) ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَبَرِّعٍ حَيْثُ يُخَلِّصُ مِلْكَهُ وَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا أَدَّى الْمُعِيرُ فَأُجْبِرَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الدَّفْعِ ( بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ إذَا قَضَى الدَّيْنَ ) ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ ؛ إذْ هُوَ لَا يَسْعَى فِي تَخْلِيصِ مِلْكِهِ وَلَا فِي تَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ فَكَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ لَا يَقْبَلَهُ ( وَلَوْ هَلَكَ الثَّوْبُ الْعَارِيَّةُ عِنْدَ الرَّاهِنِ قَبْلَ أَنْ يَرْهَنَهُ أَوْ بَعْدَ مَا افْتَكَّهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ قَاضِيًا بِهَذَا ، وَهُوَ الْمُوجِبُ عَلَى مَا بَيَّنَّا ( وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ فَالْقَوْلُ لِلرَّاهِنِ ) لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْإِيفَاءَ بِدَعْوَاهُ الْهَلَاكَ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ .
( كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ مَا أَمَرَهُ بِالرَّهْنِ بِهِ فَالْقَوْلُ لِلْمُعِيرِ ) ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِي إنْكَارِ أَصْلِهِ فَكَذَا فِي إنْكَارِ وَصْفِهِ ( وَلَوْ رَهَنَهُ الْمُسْتَعِيرُ بِدَيْنٍ مَوْعُودٍ وَهُوَ أَنْ يَرْهَنَهُ بِهِ لِيُقْرِضَهُ كَذَا فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ قَبْلَ الْإِقْرَاضِ وَالْمُسَمَّى وَالْقِيمَةُ سَوَاءٌ يَضْمَنُ قَدْرَ الْمَوْعُودِ الْمُسَمَّى ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ كَالْمَوْجُودِ وَيَرْجِعُ الْمُعِيرُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمِثْلِهِ ؛ لِأَنَّ سَلَامَةَ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ الْمُرْتَهِنِ كَسَلَامَتِهِ بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ عَنْهُ
قَالَ ( وَمَنْ اسْتَعَارَ مِنْ غَيْرِهِ ثَوْبًا إلَخْ ) وَمَنْ اسْتَعَارَ ثَوْبًا لِيَرْهَنَهُ فَالْمُعِيرُ إمَّا أَنْ يُطْلِقَ فِي ذَلِكَ أَوْ يُقَيِّدَهُ بِشَيْءٍ .
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَمَا رَهَنَهُ الْمُسْتَعِيرُ بِهِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ جَائِزٌ عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ وَكَانَ ذَلِكَ تَبَرُّعًا مِنْ الْمُعِيرِ بِإِثْبَاتِ مِلْكِ الْيَدِ فَيُعْتَبَرُ بِإِثْبَاتِ مِلْكِ الْعَيْنِ وَالْيَدِ جَمِيعًا بِأَنْ اسْتَأْذَنَ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنًا عَلَيْهِ بِمَالِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : اعْتِبَارٌ غَيْرُ صَحِيحٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ صِحَّةُ ذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ الْعَيْنِ وَالْيَدِ فِيهِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الِاتِّصَالَ غَيْرُ مَانِعٍ لِعَدَمِ اسْتِلْزَامِ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَصِلَ مِلْكُ الْيَدِ عَنْ مِلْكِ الْعَيْنِ ثُبُوتًا كَالصَّبِيِّ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ مِلْكُ الْعَيْنِ دُونَ الْيَدِ ، وَزَوَالًا كَالْبَائِعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ يَزُولُ مِلْكُ الْيَدِ دُونَ مِلْكِ الْعَيْنِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ لِلْمُرْتَهِنِ مِلْكُ الْيَدِ دُونَ الْعَيْنِ .
قَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهَا لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ) يَعْنِي الْمُنَازَعَةَ الْمَانِعَةَ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فَإِنَّهَا هِيَ الْمُفْسِدَةُ لِلْعَقْدِ ، فَصَارَ كَمَا إذَا أَعَارَ ثَوْبًا وَأَطْلَقَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي سَوَاءٌ كَانَ التَّقْيِيدُ بِالْقَدْرِ أَوْ الْجِنْسِ أَوْ الْمُرْتَهِنِ أَوْ الْبَلَدِ ضَمِنَ الْقِيمَةَ بِالْمُخَالَفَةِ لِصَيْرُورَتِهِ غَاصِبًا بِالتَّصَرُّفِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَإِنْ كَانَ التَّقْيِيدُ بِالْقَدْرِ هِيَ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ الْغَرَضِ فَإِنَّ غَرَضَهُ الِاحْتِبَاسُ بِمَا تَيَسَّرَ أَدَاؤُهُ إنْ احْتَاجَ إلَى فِكَاكِهِ وَهُوَ أَقَلُّ الْمَالَيْنِ ، فَالزِّيَادَةُ زِيَادَةُ ضَرَرٍ وَبَقِيَ النُّقْصَانُ لِأَنَّ غَرَضَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ أَكْثَرَ الْمَالَيْنِ إنْ هَلَكَ الرَّهْنُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ ، فَإِنَّ الرَّاهِنَ يَرُدُّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا تَمَّ الِاسْتِيفَاءُ بِهِ بِالْهَلَاكِ ، وَيَفُوتُ ذَلِكَ إذَا رَهَنَ بِالْأَقَلِّ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَوَجَبَ
مِثْلُهُ ) أَيْ مِثْلُ مَا تَمَّ الِاسْتِيفَاءُ بِهِ بِالْهَلَاكِ وَهُوَ مِقْدَارُ الدَّيْنِ الْمُسَمَّى لَا مِثْلُ قِيمَةِ الثَّوْبِ إنْ كَانَتْ أَكْثَرَ ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ عِنْدَ الْهَلَاكِ أَمَانَةٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، وَهُوَ مَا إذَا وَافَقَ الْمُسْتَعِيرُ الْمُعِيرَ فِيمَا شَرَطَهُ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّهُ صَارَ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِمَالِهِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّاهُ إشَارَةٌ إلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( أَنْ يَفْتَكَّهُ جَبْرًا عَنْ الرَّاهِنِ ) قِيلَ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ .
وَقِيلَ نِيَابَةً وَلَعَلَّهُ مِنْ الْجُبْرَانِ : يَعْنِي جُبْرَانًا لِمَا فَاتَ عَنْ الرَّاهِنِ مِنْ الْقَضَاءِ بِنَفْسِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا أَدَّى ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : لَيْسَ مُجْرًى عَلَى إطْلَاقِهِ ، بَلْ مَعْنَاهُ يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا أَدَّى إذَا كَانَ مَا أَدَّاهُ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ لَا مَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْهَا : يَعْنِي إنْ كَانَ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَلْفًا وَرَهَنَهُ بِأَلْفَيْنِ فَافْتَكَّهُ الْمُعِيرُ بِأَلْفَيْنِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا زَادَ عَلَى قِيمَتِهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ لَمْ يَضْمَنْ الرَّاهِنُ لِلْمُعِيرِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَى الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْقِيمَةُ مِثْلَ الدَّيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ صَارَ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِمَالِهِ ( وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ ) أَيْ فِي كَوْنِ الْهَلَاكِ حَالَ الرَّهْنِ أَوْ غَيْرَهُ فَقَالَ الْمُعِيرُ هَلَكَ حَالَ الرَّهْنِ وَقَالَ الْمُسْتَعِيرُ هَلَكَ قَبْلَ الرَّهْنِ أَوْ بَعْدَ الِافْتِكَاكِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ لِمَا ذُكِرَ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُعِيرِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الضَّمَانَ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا ادَّعَى الرَّاهِنُ الْهَلَاكَ بَعْدَ الْفِكَاكِ فَقَدْ أَقَرَّ بِسَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَهُوَ رَهْنُهُ الثَّوْبَ بِدَيْنِهِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يَنْسَخُهُ وَهُوَ الْفِكَاكُ فَلَا بُدَّ لَهُ
مِنْ حُجَّةٍ كَمَا إذَا ادَّعَى الْغَاصِبُ رَدَّ الْمَغْصُوبِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ فَرَاغُ ذِمَّتِهِ عَنْ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ الرَّهْنِ وَلَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ اخْتَلَفَا ) هَكَذَا فِي نُسْخَةِ قِرَاءَتِي عَلَى الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ وَقَعَ فِي النُّسَخِ كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ الشُّرُوحِ : لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَالصَّوَابُ بِالْوَاوِ لِأَنَّ فِي لَفْظٍ كَمَا يَخْتَلِفُ الْغَرَضُ ، إذْ فِي الْأَوَّلِ الْقَوْلُ لِلرَّاهِنِ وَهُوَ الْمُسْتَعِيرُ وَفِي الثَّانِي لِلْمُعِيرِ فَكَيْفَ يَصِحُّ التَّشْبِيهُ .
وَقَوْلُهُ ( فِي إنْكَارِ أَصْلِهِ ) يُرِيدُ عَقْدَ الْعَارِيَّةِ
( وَلَوْ كَانَتْ الْعَارِيَّةُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْمُعِيرُ جَازَ ) لِقِيَامِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ ( ثُمَّ الْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَجَعَ بِالدَّيْنِ عَلَى الرَّاهِنِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِهِ ( وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُعِيرُ قِيمَتَهُ ) ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ بِرِضَاهُ وَقَدْ أَتْلَفَهُ بِالْإِعْتَاقِ ( وَتَكُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ إلَى أَنْ يَقْبِضَ دَيْنَهُ فَيَرُدَّهَا إلَى الْمُعِيرِ ) ؛ لِأَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِوَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ ) يَعْنِي أَنَّ الْمُرْتَهِنَ اسْتَرَدَّ قِيمَةَ الرَّهْنِ مِنْ الْمُعِيرِ وَاسْتِرْدَادُ الْقِيمَةِ كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ ، وَلَوْ اسْتَرَدَّ الْعَيْنَ ثُمَّ اسْتَوْفَى دَيْنَهُ مِنْ الرَّاهِنِ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الْعَيْن فَكَذَلِكَ رَدُّ قِيمَتِهِ
( وَلَوْ اسْتَعَارَ عَبْدًا أَوْ دَابَّةً لِيَرْهَنَهُ فَاسْتَخْدَمَ الْعَبْدَ أَوْ رَكِبَ الدَّابَّةَ قَبْلَ أَنْ يَرْهَنَهُمَا ثُمَّ رَهَنَهُمَا بِمَالٍ مِثْلِ قِيمَتِهِمَا ثُمَّ قَضَى الْمَالَ فَلَمْ يَقْبِضْهُمَا حَتَّى هَلَكَا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاهِنِ ) ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ حِينَ رَهَنَهُمَا ، فَإِنَّهُ كَانَ أَمِينًا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ ( وَكَذَا إذَا افْتَكَّ الرَّهْنَ ثَمَّ رَكِبَ الدَّابَّةَ أَوْ اسْتَخْدَمَ الْعَبْدَ فَلَمْ يَعْطَبْ ثُمَّ عَطِبَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ لَا يَضْمَنُ ) ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْفِكَاكِ بِمَنْزِلَةِ الْمُودَعِ لَا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَعِيرِ لِانْتِهَاءِ حُكْمِ الِاسْتِعَارَةِ بِالْفِكَاكِ وَقَدْ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ فَيَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ نَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْوُصُولِ إلَى يَدِ الْمَالِكِ ، أَمَّا الْمُسْتَعِيرُ فِي الرَّهْنِ فَيَحْصُلُ مَقْصُودُ الْآمِرِ وَهُوَ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْهَلَاكِ وَتَحَقُّقِ الِاسْتِيفَاءِ
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ اسْتَعَارَ عَبْدًا أَوْ دَابَّةً لِيَرْهَنَهُ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ ( أَمَّا الْمُسْتَعِيرُ فِي الرَّهْنِ فَيَحْصُلُ مَقْصُودُ الْآمِرِ ) يَعْنِي بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ إلَى الْمُرْتَهِنِ سَعَى فِي جَعْلِ الْمُسْتَعِيرِ فِي الرَّهْنِ بِمَعْنَى الْمُودَعِ لِيَكُونَ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُرْتَهِنِ بِمَنْزِلَةِ رَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ فَيَبْرَأَ مِنْ الضَّمَانِ ، وَهُوَ صَحِيحٌ ظَاهِرٌ إذَا كَانَ الِاسْتِعْمَالُ قَبْلَ الرَّهْنِ ، أَمَّا بَعْدَ فِكَاكِهِ فَلَيْسَ ثَمَّةَ تَحْصِيلُ مَقْصُودِ الْآمِرِ فَلَا يَكُونُ دَافِعًا لِمَا يَرِدُ مِنْ صُورَةِ الْمُسْتَعِيرِ فِي غَيْرِ الرَّهْنِ .
وَقَدْ أُجِيبَ بِأَنَّ ثَمَّ الرَّدُّ إلَى نَائِبِ الْمُعِيرِ وَهُوَ الْمُسْتَعِيرُ نَفْسُهُ قَدْ وُجِدَ ، لِأَنَّ الرَّاهِنَ الَّذِي هُوَ الْمُسْتَعِيرُ بَعْدَ الْفِكَاكِ مُودَعٌ وَالْمُودَعُ يَبْرَأُ بِالْعَوْدِ إلَى الْوِفَاقِ .
فَالْعَوْدُ إلَى الْوِفَاقِ قَبْلَ الرَّهْنِ كَأَنَّهُ رَدَّ إلَى صَاحِبِهِ حُكْمًا وَبَعْدَهُ إلَى نَائِبِهِ كَذَلِكَ وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ مُخْتَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَأَمَّا اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ بِالْعَوْدِ إلَى الْوِفَاقِ دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ
قَالَ ( وَجِنَايَةُ الرَّاهِنِ عَلَى الرَّهْنِ مَضْمُونَةٌ ) ؛ لِأَنَّهُ تَفْوِيتُ حَقٍّ لَازِمٍ مُحْتَرَمٍ ، وَتَعَلُّقُ مِثْلِهِ بِالْمَالِ يَجْعَلُ الْمَالِكَ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي حَقِّ الضَّمَانِ كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ يَمْنَعُ نَفَاذَ تَبَرُّعِهِ فِيمَا وَرَاءَ الثُّلُثِ ، وَالْعَبْدُ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ إذَا أَتْلَفَهُ الْوَرَثَةُ ضَمِنُوا قِيمَتَهُ لِيُشْتَرَى بِهَا عَبْدٌ يَقُومُ مَقَامَهُقَالَ ( وَجِنَايَةُ الرَّاهِنِ عَلَى الرَّهْنِ مَضْمُونَةٌ ) مَعْنَاهُ وَاضِحٌ وَعَنَى بِاللَّازِمِ مَا لَا يُقْدَرُ عَلَى إسْقَاطِهِ بِانْفِرَادِهِ وَبِالْمُحْتَرَمِ هُوَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مَمْنُوعًا عَنْ إبْطَالِهِ
قَالَ ( وَجِنَايَةُ الْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِ تَسْقُطُ مِنْ دَيْنِهِ بِقَدْرِهَا ) وَمَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَى صِفَةِ الدَّيْنِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مِلْكُ الْمَالِكِ ، وَقَدْ تَعَدَّى عَلَيْهِ الْمُرْتَهِنُ فَيَضْمَنُهُ لِمَالِكِهِ
قَالَ ( وَجِنَايَةُ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ وَعَلَى مَالِهِمَا هَدْرٌ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : جِنَايَتُهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مُعْتَبَرَةٌ ، وَالْمُرَادُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ مَا يُوجِبُ الْمَالَ ، أَمَّا الْوِفَاقِيَّةُ فَلِأَنَّهَا جِنَايَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ كَانَ الْكَفَنُ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ جِنَايَةِ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ يَثْبُتُ لِلْغَاصِبِ مُسْتَنِدًا حَتَّى يَكُونَ الْكَفَنُ عَلَيْهِ ، فَكَانَتْ جِنَايَةً عَلَى غَيْرِ الْمَالِكِ فَاعْتُبِرَتْ وَلَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ عَلَى غَيْرِ مَالِكِهِ وَفِي الِاعْتِبَارِ فَائِدَةٌ وَهُوَ دَفْعُ الْعَبْدِ إلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ فَتُعْتَبَرُ ثُمَّ إنْ شَاءَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ أَبْطَلَا الرَّهْنَ وَدَفَعَاهُ بِالْجِنَايَةِ إلَى الْمُرْتَهِنِ ، وَإِنْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ لَا أَطْلُبُ الْجِنَايَةَ فَهُوَ رَهْنٌ عَلَى حَالِهِ وَلَهُ أَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ لَوْ اعْتَبَرْنَا لِلْمُرْتَهِنِ كَانَ عَلَيْهِ التَّطْهِيرُ مِنْ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ فِي ضَمَانِهِ فَلَا يُفِيدُ وُجُوبُ الضَّمَانِ لَهُ مَعَ وُجُوبِ التَّخْلِيصِ عَلَيْهِ ، وَجِنَايَتُهُ عَلَى مَالِ الْمُرْتَهِنِ لَا تُعْتَبَرُ بِالِاتِّفَاقِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ وَالدَّيْنُ سَوَاءً ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي اعْتِبَارِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَلَّكُ الْعَبْدَ وَهُوَ الْفَائِدَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ ؛ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِقَدْرِ الْأَمَانَةِ ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ لَيْسَ فِي ضَمَانِهِ فَأَشْبَهَ جِنَايَةُ الْعَبْدِ الْوَدِيعَةَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ وَعَنْهُ أَنَّهَا لَا تُعْتَبَرُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ وَهُوَ الْحَبْسُ فِيهِ ثَابِتٌ فَصَارَ كَالْمَضْمُونِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ جِنَايَةِ الرَّهْنِ عَلَى ابْنِ الرَّاهِنِ أَوْ ابْنِ الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ حَقِيقَةٌ مُتَبَايِنَةٌ فَصَارَ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُرَادُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ مَا يُوجِبُ الْمَالَ ) يَعْنِي أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ فِي النَّفْسِ أَوْ مَا دُونَهَا خَطَأً أَمَّا مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْإِجْمَاعِ .
وَقَوْلُهُ ( أَمَّا الْوِفَاقِيَّةُ ) يَعْنِي أَمَّا وَجْهُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي اتَّفَقُوا فِي حُكْمِهَا وَهِيَ أَنَّ جِنَايَةَ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ هَدَرٌ ( فَلِأَنَّهَا جِنَايَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ ) فِيمَا يُوجِبُ الْمَالَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا مَاتَ وَجَبَ الْكَفَنُ عَلَى مَوْلَاهُ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ هَدَرٌ لِأَنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَى غَيْرِهِ وَجَبَ عَلَى مَوْلَاهُ مِنْ مَالِهِ ، فَإِذَا جَنَى عَلَيْهِ شَيْءٌ لَكَانَ وَاجِبًا لَهُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ .
وَنُوقِضَ بِالْمَغْصُوبِ إذَا جَنَى عَلَى مَالِكِهِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَإِنَّهَا تُوجِبُ الضَّمَانَ .
وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَا فِي الْكِتَابِ ، بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِهَا دَمُهُ وَالْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّ إقْرَارَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَبِالْمُوجِبَةِ لِلْمَالِ صَحِيحٌ وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ .
وَلَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ عَلَى غَيْرِ مَالِكِهِ .
إذْ الْمُرْتَهِنُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْعَيْنِ وَحُصُولُهَا عَلَى غَيْرِ الْمَالِكِ يُوجِبُ الضَّمَانَ كَمَا لَوْ حَصَلَتْ عَلَى أَجْنَبِيٍّ آخَرَ .
فَإِنْ قِيلَ : مَالِيَّتُهُ مُحْتَبِسَةٌ بِدَيْنِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَفِي الِاعْتِبَارِ فَائِدَةٌ وَهُوَ دَفْعُ الْعَبْدِ إلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ فَتُعْتَبَرُ ) وَإِنْ كَانَ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الدَّيْنِ فَإِنَّ إبْقَاءَهُ رَهْنًا وَجَعْلَهُ بِالدَّيْنِ لَا يُثْبِتُ لَهُ مِلْكَ الْعَيْنِ ، وَرُبَّمَا يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي مِلْكِ الْعَيْنِ فَيَحْصُلُ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْجِنَايَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي ذَلِكَ يَتْرُكُ طَلَبَ الْجِنَايَةِ وَيَسْتَبْقِيهِ رَهْنًا كَمَا كَانَ .
وَقَوْلُهُ ( وَدَفَعَاهُ ) فِيهِ
تَسَامُحٌ ، لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَدْفَعُ الْعَبْدَ إلَى نَفْسِهِ ، وَمُخَلِّصُهُ الْمُشَاكَلَةُ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَابِلًا ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الدَّافِعِ لِوُقُوعِهِ فِي صُحْبَتِهِ أَوْ التَّغْلِيبِ سَمَّاهُ دَافِعًا وَثَنَّاهُ ( وَلَهُ أَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ لَوْ اعْتَبَرْنَاهَا لِلْمُرْتَهِنِ كَانَ التَّطْهِيرُ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ فِي ضَمَانِهِ ) لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ كَالرَّاهِنِ ، فَكَانَ حُكْمُ الدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ لَهُ وَعَلَيْهِ فِي حَقِّ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ ، وَلَا فَائِدَةَ فِي ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ ) بِأَنْ كَانَ الْعَيْنُ وَالدَّيْنُ أَلْفًا وَأَتْلَفَ مَتَاعَ الْمُرْتَهِنِ فَقَالَ لِلرَّاهِنِ إمَّا أَنْ تَقْضِيَ نِصْفَ دَيْنِهِ أَوْ يُبَاعَ عَلَيْك الْعَبْدُ ، فَإِنْ امْتَنَعَ عَنْ الْقَضَاءِ بِيعَ الْعَبْدُ وَيَسْتَوْفِي الْمُرْتَهِنُ مِنْ ثَمَنِهِ تَمَامَ قِيمَةِ الْمَتَاعِ ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ أَخَذَ الرَّاهِنُ نِصْفَهُ وَالْمُرْتَهِنُ نِصْفَهُ ، لِأَنَّهُ بَدَلُ عَبْدٍ نِصْفُهُ أَمَانَةٌ وَنِصْفُهُ مَضْمُونٌ ، وَبَدَلُ الْأَمَانَةِ لِلرَّاهِنِ وَبَدَلُ الْمَضْمُونِ لِلْمُرْتَهِنِ ، وَإِنْ قَضَى النِّصْفَ زَالَ الدَّيْنُ وَبَقِيَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِحَالِهِ ، وَهَذَا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَوَجْهُ غَيْرِهِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ الْجِنَايَةِ عَلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ هَدَرًا ( بِخِلَافِ جِنَايَةِ الرَّهْنِ عَلَى ابْنِ الرَّاهِنِ أَوْ ابْنِ الْمُرْتَهِنِ ) لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ حَقِيقَةٌ مُتَبَايِنَةٌ فَصَارَ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ
قَالَ ( وَمَنْ رَهَنَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا بِأَلْفٍ إلَى أَجَلٍ فَنَقَصَ فِي السِّعْرِ فَرَجَعَتْ قِيمَتُهُ إلَى مِائَةٍ ثُمَّ قَتَلَهُ رَجُلٌ وَغَرِمَ قِيمَتَهُ مِائَةً ثُمَّ حَلَّ الْأَجَلُ فَإِنَّ الْمُرْتَهِنَ يَقْبِضُ الْمِائَةَ قَضَاءً عَنْ حَقِّهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِشَيْءٍ ) وَأَصْلُهُ أَنَّ النُّقْصَانَ مِنْ حَيْثُ السِّعْرُ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الدَّيْنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ ، وَهُوَ يَقُولُ : إنَّ الْمَالِيَّةَ قَدْ انْتَقَصَتْ فَأَشْبَهَ انْتِقَاصَ الْعَيْنِ وَلَنَا أَنَّ نُقْصَانَ السِّعْرِ عِبَارَةٌ عَنْ فُتُورِ رَغَبَاتِ النَّاسِ وَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْبَيْعِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ بِهِ الْخِيَارُ وَلَا فِي الْغَصْبِ حَتَّى لَا يَجِبَ الضَّمَانُ ، بِخِلَافِ نُقْصَانِ الْعَيْنِ ؛ لِأَنَّ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْهُ يَتَقَرَّرُ الِاسْتِيفَاءُ فِيهِ ؛ إذْ الْيَدُ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ ، وَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بِنُقْصَانِ السِّعْرِ بَقِيَ مَرْهُونًا بِكُلِّ الدَّيْنِ ، فَإِذَا قَتَلَهُ حُرٌّ غَرِمَ قِيمَتَهُ مِائَةً ؛ لِأَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْإِتْلَافِ فِي ضَمَانِ الْإِتْلَافِ ؛ لِأَنَّ الْجَابِرَ بِقَدْرِ الْفَائِتِ ، وَأَخَذَهُ الْمُرْتَهِنُ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَالِيَّةِ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ وَإِنْ كَانَ مُقَابَلًا بِالدَّمِ عَلَى أَصْلِنَا حَتَّى لَا يُزَادَ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى اسْتَحَقَّهُ بِسَبَبِ الْمَالِيَّةِ وَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَالِيَّةِ فَكَذَا فِيمَا قَامَ مَقَامَهُ ، ثُمَّ لَا يُرْجَعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ يَدَ الرَّهْنِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَبِالْهَلَاكِ يَتَقَرَّرُ ، وَقِيمَتُهُ كَانَتْ فِي الِابْتِدَاءِ أَلْفًا فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِلْكُلِّ مِنْ الِابْتِدَاءِ أَوْ نَقُولُ : لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَوْفِيًا الْأَلْفَ بِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا الْمِائَةَ وَبَقِيَ تِسْعُمِائَةٍ فِي الْعَيْنِ ، فَإِذَا هَلَكَ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا تِسْعَمِائَةٍ بِالْهَلَاكِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ قَتْلِ أَحَدٍ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا
الْكُلَّ بِالْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا قَالَ ( وَإِنْ كَانَ أَمَرَهُ الرَّاهِنُ أَنْ يَبِيعَهُ فَبَاعَهُ بِمِائَةٍ وَقَبَضَ الْمِائَةَ قَضَاءً مِنْ حَقِّهِ فَيَرْجِعُ بِتِسْعِمِائَةٍ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ صَارَ كَأَنَّ الرَّاهِنَ اسْتَرَدَّهُ وَبَاعَهُ بِنَفْسِهِ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَبْطُلُ الرَّهْنُ وَيَبْقَى الدَّيْنُ إلَّا بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى ، وَكَذَا هَذَا قَالَ ( وَإِنْ قَتَلَهُ عَبْدٌ قِيمَتُهُ مِائَةٌ فَدُفِعَ مَكَانَهُ افْتَكَّهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ ، وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ الْعَبْدَ الْمَدْفُوعَ إلَى الْمُرْتَهِنِ بِمَالِهِ وَقَالَ زُفَرُ : يَصِيرُ رَهْنًا بِمِائَةٍ لَهُ أَنَّ يَدَ الرَّهْنِ يَدُ اسْتِيفَاءٍ وَقَدْ تَقَرَّرَ بِالْهَلَاكِ ، إلَّا أَنَّهُ أَخْلَفَ بَدَلًا بِقَدْرِ الْعُشْرِ فَيَبْقَى الدَّيْنُ بِقَدْرِهِ وَلِأَصْحَابِنَا عَلَى زُفَرَ أَنَّ الْعَبْدَ الثَّانِيَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ لَحْمًا وَدَمًا ، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ قَائِمًا وَانْتُقِضَ السِّعْرُ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا ، فَكَذَلِكَ إذَا قَامَ الْمَدْفُوعُ مَكَانَهُ وَلِمُحَمَّدٍ فِي الْخِيَارِ أَنَّ الْمَرْهُونَ تَغَيَّرَ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ فَيُخَيَّرُ الرَّاهِنُ كَالْمَبِيعِ إذَا قُتِلَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْمَغْصُوبِ إذَا قُتِلَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي ، وَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ كَذَا هَذَا وَلَهُمَا أَنَّ التَّغَيُّرَ لَمْ يَظْهَرْ فِي نَفْسِ الْعَبْدِ لِقِيَامِ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ لَحْمًا وَدَمًا كَمَا ذَكَرْنَاهُ مَعَ زُفَرَ ، وَعَيْنُ الرَّهْنِ أَمَانَةٌ عِنْدَنَا فَلَا يَجُوزُ تَمْلِيكُهُ مِنْهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، وَلِأَنَّ جَعْلَ الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ حُكْمٌ جَاهِلِيٌّ ، وَأَنَّهُ مَنْسُوخٌ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ فِيهِ حُكْمُهُ الْفَسْخُ وَهُوَ مَشْرُوعٌ وَبِخِلَافِ الْغَصْبِ ؛ لِأَنَّ تَمَلُّكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ مَشْرُوعٌ ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ تَرَاجَعَ سِعْرُهُ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي مِائَةً
ثُمَّ قَتَلَهُ عَبْدٌ يُسَاوِي مِائَةً فَدُفِعَ بِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ
قَالَ ( وَمَنْ رَهَنَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا بِأَلْفٍ ) نُقْصَانُ الْقِيمَةِ بِتَرَاجُعِ السِّعْرِ بَعْدَ مَا قَبَضَ الرَّهْنَ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فَلَا يُوجِبُ سُقُوطَ الدَّيْنِ ، وَلِهَذَا لَوْ نَقَصَ بِهِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ فَالرَّاهِنُ يُطَالَبُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ عِنْدَ رَدِّ الْمُرْتَهِنِ الرَّهْنَ إلَى الرَّاهِنِ .
وَقَوْلُهُ ( حَتَّى لَا يُزَادَ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ ) نَتِيجَةُ قَوْلِهِ كَانَ مُقَابَلًا بِالدَّمِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْمَوْلَى اسْتَحَقَّهُ ) دَلِيلُ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَالِيَّةِ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ نَقُولُ ) دَلِيلٌ آخَرُ : أَيْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا لِأَلْفِ الدَّيْنِ بِالْمِائَةِ الَّتِي غَرِمَهَا الْحُرُّ بِقَتْلِ الرَّهْنِ وَجُعِلَتْ رَهْنًا مَكَانَهُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا الْمِائَةَ وَبَقِيَ تِسْعُمِائَةٍ فِي الْعَيْنِ ، وَإِذَا هَلَكَ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا تِسْعَمِائَةٍ بِالْهَلَاكِ وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ .
وَاعْلَمْ أَنَّ صُوَرَ الْمَسَائِلِ هَاهُنَا ثَلَاثٌ : تَرَاجُعُ قِيمَةِ الرَّهْنِ مِنْ أَلْفٍ إلَى مِائَةٍ مَعَ قِيَامِ عَيْنِهِ بِحَالِهِ .
وَقَتْلُ حُرٍّ الْعَبْدَ الَّذِي قِيمَتُهُ مِائَةٌ بَعْدَ التَّرَاجُعِ ، وَضَمَانُ قِيمَتِهِ مِائَةٌ .
وَقَتْلُ عَبْدِ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ وَدَفْعُهُ بِهِ .
وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا أَيْضًا ثَلَاثَةٌ ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَحُكْمُ الصُّورَةِ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَنَّ الرَّاهِنَ يَفْتَكُّهَا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ بِلَا خِيَارٍ ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأُولَى كَقَوْلِهِمَا وَفِي الثَّالِثَةِ أَنَّ الرَّاهِنَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الرَّهْنَ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ كَالْأُولَى وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ بِمَالِهِ كَالثَّانِيَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ .
وَقَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ حُكْمَ الصُّورَةِ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ وَاحِدٌ فِي أَنَّ الرَّاهِنَ يَفْتَكُّهَا بِالْمِائَةِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ التِّسْعُمِائَةِ قِيَاسًا عَلَى الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ ،
فَإِنَّ حُكْمَهَا أَنَّ التِّسْعَمِائَةِ سَاقِطَةٌ عَنْ الرَّاهِنِ بِالِاتِّفَاقِ وَلِلْمُرْتَهِنِ تِلْكَ الْمِائَةُ الَّتِي ضَمِنَهَا الْحُرُّ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ ، وَوُجُوهُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَذْكُورَةٌ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( لَحْمًا وَدَمًا ) يَعْنِي صُورَةً وَمَعْنًى ، أَمَّا صُورَةً فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّ الْقَاتِلَ كَالْمَقْتُولِ فِي الْآدَمِيَّةِ وَالشَّرْعُ اعْتَبَرَهُ جُزْءًا مِنْ حَيْثُ الْآدَمِيَّةُ دُونَ الْمَالِيَّةِ أَلَا تَرَى إلَى اسْتِوَائِهِمَا فِي حَقِّ الْقِصَاصِ فَكَذَا فِي حَقِّ الدَّفْعِ أَيْضًا .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّ نُقْصَانَ السِّعْرِ عِبَارَةٌ عَنْ فُتُورِ رَغَبَاتِ النَّاسِ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( كَالْمَبِيعِ إذَا قَتَلَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ) يَعْنِي إذَا قَتَلَهُمَا عَبْدٌ وَدَفَعَ مَكَانَهُمَا فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِكُلِّ الثَّمَنِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ لِتَغَيُّرِ الْمَبِيعِ وَفِي الْغَصْبِ يَتَخَيَّرُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَدْفُوعَ مَكَانَهُ وَبَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ الْغَاصِبَ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَنَّهُ مَفْسُوخٌ ) يَعْنِي بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ ثَلَاثًا } وَقَوْلُهُ ( لَوْ كَانَ الْعَبْدُ تَرَاجَعَ سِعْرُهُ إلَى قَوْلِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ) قِيلَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ : هَذَا تَكْرَارٌ لَا مَحَالَةَ ، لِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ : يَعْنِي مَا عَبَّرْنَا عَنْهُ هَاهُنَا بِالصُّورَةِ الثَّالِثَةِ فِيمَا إذَا تَرَاجَعَ سِعْرُ الرَّهْنِ إلَى مِائَةٍ فَقَتَلَهُ عَبْدٌ قِيمَتُهُ مِائَةٌ فَدُفِعَ بِهِ وَقَدْ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِيهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يَقُولَ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهِ بِعَيْنِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ جَعَلَ الصُّورَةَ الثَّالِثَةَ فِيمَا إذَا تَرَاجَعَ السِّعْرُ لَكِنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِوُقُوعِ التَّكْرَارِ وَهُوَ لَازِمٌ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَفِي ذَلِكَ سُوءُ ظَنٍّ بِمِثْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ الَّذِي
حَازَ قَصَبَاتِ السَّبْقِ فِي مِضْمَارِ التَّحْقِيقِ ، وَإِنَّمَا الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ فِي غَيْرِ تَرَاجُعِ السِّعْرِ كَمَا ذَكَرْنَا .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي صُورَةِ التَّرَاجُعِ وَلَا تَكْرَارَ ثَمَّةَ .
( وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ الرَّهْنُ قَتِيلًا خَطَأً فَضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّمْلِيكَ ( وَلَوْ فُدِيَ طَهُرَ الْمَحَلُّ فَبَقِيَ الدَّيْنُ عَلَى حَالِهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِشَيْءٍ مِنْ الْفِدَاءِ ) ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ فِي ضَمَانِهِ فَكَانَ عَلَيْهِ إصْلَاحُهَا ( وَلَوْ أَبَى الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَفْدِيَ قِيلَ لِلرَّاهِنِ ادْفَعْ الْعَبْدَ أَوْ افْدِهِ بِالدِّيَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الرَّقَبَةِ قَائِمٌ لَهُ ، وَإِنَّمَا إلَى الْمُرْتَهِنِ الْفِدَاءُ لِقِيَامِ حَقِّهِ ( فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْ الْفِدَاءِ يُطَالَبُ الرَّاهِنُ بِحُكْمِ الْجِنَايَةِ وَمِنْ حُكْمِهَا التَّخْيِيرُ ) بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ( فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ سَقَطَ الدَّيْنُ ) ؛ لِأَنَّهُ اُسْتُحِقَّ لِمَعْنًى فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ فَصَارَ كَالْهَلَاكِ ( وَكَذَلِكَ إنْ فَدَى ) ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كَالْحَاصِلِ لَهُ بِعِوَضٍ كَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ، وَهُوَ الْفِدَاءُ ، بِخِلَافِ وَلَدِ الرَّهْنِ إذَا قَتَلَ إنْسَانًا أَوْ اسْتَهْلَكَ مَالًا حَيْثُ يُخَاطَبُ الرَّاهِنُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ فِي الِابْتِدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ، فَإِنْ دَفَعَ خَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ وَلَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ كَمَا لَوْ هَلَكَ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَإِنْ فَدَى فَهُوَ رَهْنٌ مَعَ أُمِّهِ عَلَى حَالِهِمَا
( وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ الرَّهْنُ قَتِيلًا خَطَأً فَضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ) يَعْنِي إذَا كَانَتْ الْقِيمَةُ وَالدَّيْنُ سَوَاءً ، أَمَّا إذَا كَانَتْ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ فَسَيَأْتِي ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي ضَمَانِهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْعَبْدَ كَالْحَاصِلِ لَهُ بِعِوَضٍ كَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ) يَعْنِي وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَقَدْ أَدَّاهُ الرَّاهِنُ وَجَبَ لَهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مِثْلُ مَا أَدَّى إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَلِلْمُرْتَهِنِ عَلَى الرَّاهِنِ دَيْنٌ فَالْتَقَيَا قِصَاصًا فَيُسَلَّمُ الرَّهْنُ لِلرَّاهِنِ وَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِي أَدَاءِ الْفِدَاءِ لِأَنَّهُ يَسْعَى فِي تَخْلِيصِ مِلْكِهِ كَمُعِيرِ الرَّهْنِ .
( وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ مَالًا يَسْتَغْرِقُ رَقَبَتَهُ ، فَإِنْ أَدَّى الْمُرْتَهِنُ الدَّيْنَ الَّذِي لَزِمَ الْعَبْدَ فَدَيْنُهُ عَلَى حَالِهِ كَمَا فِي الْفِدَاءِ ، وَإِنْ أَبَى قِيلَ لِلرَّاهِنِ بِعْهُ فِي الدَّيْنِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ ، فَإِنْ أَدَّى بَطَلَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ ) كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْفِدَاءِ ( وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ وَبِيعَ الْعَبْدُ فِيهِ يَأْخُذُ صَاحِبُ دَيْنِ الْعَبْدِ دَيْنَهُ ) ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ وَحَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى ، ( فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ وَدَيْنُ غَرِيمِ الْعَبْدِ مِثْلُ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ أَكْثَرُ فَالْفَضْلُ لِلرَّاهِنِ وَبَطَلَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ ) ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ اُسْتُحِقَّتْ لِمَعْنًى هُوَ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ فَأَشْبَهَ الْهَلَاكَ ( وَإِنْ كَانَ دَيْنُ الْعَبْدِ أَقَلَّ سَقَطَ مِنْ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ بِقَدْرِ دَيْنِ الْعَبْدِ وَمَا فَضَلَ مِنْ دَيْنِ الْعَبْدِ يَبْقَى رَهْنًا كَمَا كَانَ ، ثُمَّ إنْ كَانَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ قَدْ حَلَّ أَخَذَهُ بِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ ( وَإِنْ كَانَ لَمْ يَحِلَّ أَمْسَكَهُ حَتَّى يَحِلَّ ، وَإِنْ كَانَ ثَمَنُ الْعَبْدِ لَا يَفِي بِدَيْنِ الْغَرِيمِ أَخَذَ الثَّمَنَ وَلَمْ يَرْجِعْ بِمَا بَقِيَ عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يُعْتَقَ الْعَبْدُ ) ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي دَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَقَدْ اُسْتُوْفِيَتْ فَيَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ ( ثُمَّ إذَا أَدَّى بَعْدَهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ ) ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ
وَقَوْلُهُ ( وَحَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ) بِالْجَرِّ مَعْطُوفٌ عَلَى دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ : يَعْنِي أَنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ وَعَلَى حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ أَيْضًا ، حَتَّى لَوْ جَنَى الْعَبْدُ الْمَدْيُونُ دُفِعَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ثُمَّ يُبَاعُ لِلْغُرَمَاءِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي الدِّيَاتِ .
وَقَوْلُهُ ( لِتَقَدُّمِهِ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى ) أَيْ لِتَقَدُّمِ دَيْنِ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى ، وَإِذَا كَانَ مُقَدِّمًا عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ وَهُوَ الْمُرْتَهِنُ وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ ، فَإِنَّ الْمُرْتَهِنَ يَقُومُ مَقَامَ الْمَوْلَى فِي الْمَالِيَّةِ وَوَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي مِلْكِ الْعَيْنِ
( وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَيْنِ وَهُوَ رَهْنٌ بِأَلْفٍ وَقَدْ جَنَى الْعَبْدُ يُقَالُ لَهُمَا افْدِيَاهُ ) ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مِنْهُ مَضْمُونٌ ، وَالنِّصْفُ أَمَانَةٌ ، وَالْفِدَاءُ فِي الْمَضْمُونِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ، وَفِي الْأَمَانَةِ عَلَى الرَّاهِنِ ، فَإِنْ أَجْمَعَا عَلَى الدَّفْعِ دَفَعَاهُ وَبَطَلَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ ، وَالدَّفْعُ لَا يَجُوزُ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ الْمُرْتَهِنِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَإِنَّمَا مِنْهُ الرِّضَا بِهِ ( فَإِنْ تَشَاحَّا فَالْقَوْلُ لِمَنْ قَالَ أَنَا أَفْدِي رَاهِنًا كَانَ أَوْ مُرْتَهِنًا ) أَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْفِدَاءِ إبْطَالُ حَقِّ الرَّاهِنِ ، وَفِي الدَّفْعِ الَّذِي يَخْتَارُهُ الرَّاهِنُ إبْطَالُ الْمُرْتَهِنِ ، وَكَذَا فِي جِنَايَةِ الرَّهْنِ إذَا قَالَ الْمُرْتَهِنُ أَنَا أَفْدِي لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ يَخْتَارُ الدَّفْعَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا فَهُوَ مَحْبُوسٌ بِدَيْنِهِ وَلَهُ فِي الْفِدَاءِ غَرَضٌ صَحِيحٌ ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى الرَّاهِنِ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَفْدِيَ ، وَأَمَّا الرَّاهِنُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ وِلَايَةُ الدَّفْعِ لِمَا بَيَّنَّا فَكَيْفَ يَخْتَارُهُ ( وَيَكُونُ الْمُرْتَهِنُ فِي الْفِدَاءِ مُتَطَوِّعًا فِي حِصَّةِ الْأَمَانَةِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ ) ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ لَا يَخْتَارَهُ فَيُخَاطَبُ الرَّاهِنُ ، فَلَمَّا الْتَزَمَهُ ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَانَ مُتَبَرِّعًا ، وَهَذَا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ مَعَ الْحُضُورِ ، وَسَنُبَيِّنُ الْقَوْلَيْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَلَوْ أَبَى الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَفْدِيَ وَفَدَاهُ الرَّاهِنُ فَإِنَّهُ يَحْتَسِبُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ نِصْفَ الْفِدَاءِ مِنْ دَيْنِهِ ) ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الدَّيْنِ أَمْرٌ لَازِمٌ فَدَى أَوْ دَفَعَ فَلَمْ يُجْعَلْ الرَّاهِنُ فِي الْفِدَاءِ مُتَطَوِّعًا ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ نِصْفُ الْفِدَاءِ مِثْلَ الدَّيْنِ أَوْ أَكْثَرَ بَطَلَ الدَّيْنُ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِ نِصْفِ الْفِدَاءِ ، وَكَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِمَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ
الْفِدَاءَ فِي نِصْفٍ كَانَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَدَّاهُ الرَّاهِنُ ، وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَطَوِّعٍ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ كَأَنَّهُ أَوْفَى نِصْفَهُ فَيَبْقَى الْعَبْدُ رَهْنًا بِمَا بَقِيَ ( وَلَوْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ فَدَى ، وَالرَّاهِنُ حَاضِرٌ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَكُنْ مُتَطَوِّعًا ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ وَزُفَرُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : الْمُرْتَهِنُ مُتَطَوِّعٌ فِي الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ فَدَى مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَأَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ وَلَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الرَّاهِنُ حَاضِرًا أَمْكَنَهُ مُخَاطَبَتُهُ ، فَإِذَا فَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ فَقَدْ تَبَرَّعَ كَالْأَجْنَبِيِّ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الرَّاهِنُ غَائِبًا تَعَذَّرَ مُخَاطَبَتُهُ ، وَالْمُرْتَهِنُ يَحْتَاجُ إلَى إصْلَاحِ الْمَضْمُونِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِصْلَاحِ الْأَمَانَةِ فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّمْلِيكَ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ تَشَاحَّا ) بِأَنْ اخْتَارَ الرَّاهِنُ الْفِدَاءَ وَالْمُرْتَهِنُ الدَّفْعَ أَوْ بِالْعَكْسِ فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْفِدَاءُ ، وَذَكَرَ جَانِبَ الْمُرْتَهِنِ إذَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ وَالْمُرْتَهِنُ الدَّفْعَ أَوْ بِالْعَكْسِ فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْفِدَاءُ ، وَذَكَرَ جَانِبَ الْمُرْتَهِنِ إذَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ ، ثُمَّ ذَكَرَ جَانِبَ الرَّاهِنِ إذَا اخْتَارَ ذَلِكَ بَعْدَ ذِكْرِهِ جِنَايَةَ وَلَدِ الرَّهْنِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ سُقُوطَ الدَّيْنِ أَمْرٌ لَازِمٌ فُدِيَ أَوْ دُفِعَ ) يَعْنِي أَنَّ الرَّاهِنَ إذَا خُوطِبَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا ، وَأَيَّهمَا كَانَ سَقَطَ الدَّيْنُ فَلَمْ يُجْعَلْ الرَّاهِنُ فِي الْفِدَاءِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ مُتَطَوِّعًا .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ غَائِبًا ) ذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْغَيْبَةُ الْمُنْقَطِعَةُ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَمَا بَعْدَهُ هُوَ الْمَوْعُودُ بِقَوْلِهِ وَسَنُبَيِّنُ الْقَوْلَيْنِ وَمَا بَعْدَهُ وَاضِحٌ إلَخْ .
قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ الرَّاهِنُ بَاعَ وَصِيُّهُ الرَّهْنَ وَقَضَى الدَّيْنَ ) ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مَقَامَهُ ، وَلَوْ تَوَلَّى الْمُوصَى حَيًّا بِنَفْسِهِ كَانَ لَهُ وِلَايَةُ الْبَيْعِ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَكَذَا لِوَصِيِّهِ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَصِيٌّ نَصَّبَ الْقَاضِي لَهُ وَصِيًّا وَأَمَرَهُ بِبَيْعِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَصَّبَ نَاظِرًا لِحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إذَا عَجَزُوا عَنْ النَّظَرِ لِأَنْفُسِهِمْ ، وَالنَّظَرُ فِي نَصْبِ الْوَصِيِّ لِيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ وَيَسْتَوْفِيَ مَالَهُ مِنْ غَيْرِهِ ( وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَرَهَنَ الْوَصِيُّ بَعْضَ التَّرِكَةِ عِنْدَ غَرِيمٍ مِنْ غُرَمَائِهِ لَمْ يَجُزْ وَلِلْآخَرِينَ أَنْ يَرُدُّوهُ ) ؛ لِأَنَّهُ آثَرَ بَعْضَ الْغُرَمَاءِ بِالْإِيفَاءِ الْحُكْمِيِّ فَأَشْبَهَ الْإِيثَارَ بِالْإِيفَاءِ الْحَقِيقِيِّ ( فَإِنْ قَضَى دَيْنَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَرُدُّوهُ جَازَ ) لِزَوَالِ الْمَانِعِ بِوُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ ( وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ غَرِيمٌ آخَرُ جَازَ الرَّهْنُ ) اعْتِبَارًا بِالْإِيفَاءِ الْحَقِيقِيِّ ( وَبِيعَ فِي دَيْنِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ يُبَاعُ فِيهِ قَبْلَ الرَّهْنِ فَكَذَا بَعْدَهُ ( وَإِذَا ارْتَهَنَ الْوَصِيُّ بِدَيْنٍ لِلْمَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ جَازَ ) ؛ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ وَهُوَ يَمْلِكُهُ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي رَهْنِ الْوَصِيِّ تَفْصِيلَاتٌ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ الْوَصَايَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
قَالَ ( وَمَنْ رَهَنَ عَصِيرًا بِعَشَرَةٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ فَتَخَمَّرَ ثُمَّ صَارَ خَلًّا يُسَاوِي عَشَرَةً فَهُوَ رَهْنٌ بِعَشَرَةٍ ) ؛ لِأَنَّ مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ يَكُونُ مَحَلًّا لِلرَّهْنِ ، إذْ الْمَحَلِّيَّةُ بِالْمَالِيَّةِ فِيهِمَا ، وَالْخَمْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ ابْتِدَاءً فَهُوَ مَحَلٌّ لَهُ بَقَاءً حَتَّى إنَّ مَنْ اشْتَرَى عَصِيرًا فَتَخَمَّرَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْقَى الْعَقْدُ إلَّا أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ فِي الْبَيْعِ لِتَغَيُّرِ وَصْفِ الْمَبِيعِ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا تَعَيَّبَا
( فَصْلٌ ) هَذَا الْفَصْلُ كَالْمَسَائِلِ الْمُتَفَرِّقَةِ الَّتِي تُذْكَرُ فِي أَوَاخِرِ الْكُتُبِ ( وَمَنْ رَهَنَ عَصِيرًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ ثُمَّ صَارَ خَلًّا وَلَمْ يَنْقُصْ مِقْدَارُهُ فَهُوَ رَهْنٌ بِعَشَرَةٍ ) وَإِنْ نَقَصَ سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِهِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِنُقْصَانِ الْقِيمَةِ لِأَنَّ الْفَائِتَ مُجَرَّدُ وَصْفٍ ، وَبِفَوَاتِهِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ عِنْدَهُمْ ، وَإِنَّمَا يَتَخَيَّرُ الرَّاهِنُ بَيْنَ أَنْ يَفْتَكَّهُ نَاقِصًا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَبَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ قِيمَتَهُ وَيَجْعَلَهَا رَهْنًا عِنْدَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بَيْنَ أَنْ يَفْتَكَّهُ نَاقِصًا وَبَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهُ بِالدَّيْنِ كَمَا فِي الْقَلْبِ إذَا انْكَسَرَ فَقَوْلُهُ يُسَاوِي عَشَرَةً وَقَعَ اتِّفَاقًا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ ) يَعْنِي أَنَّ الرَّهْنَ كَالْبَيْعِ فِي الِاحْتِيَاجِ إلَى الْمَحَلِّ فَيُعْتَبَرُ مَحَلُّهُ بِمَحَلِّهِ ، وَالْخَمْرُ لَا يَصْلُحُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ ابْتِدَاءً وَيَصْلُحُ بَقَاءً ، حَتَّى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى عَصِيرًا فَتَخَمَّرَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَبْطُلْ عَقْدُهُ فَكَذَا فِي الرَّهْنِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : مَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ فَالِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ ، فَمَا بَالُ هَذَا تَخَلَّفَ عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ كَذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ الْمَحَلُّ بَاقِيًا ، وَهَاهُنَا يَتَبَدَّلُ الْمَحَلُّ حُكْمًا بِتَبَدُّلِ الْوَصْفِ فَلِذَلِكَ تَخَلَّفَ عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَصِيرَ الْمَرْهُونَ إذَا تَخَمَّرَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ مُسْلِمَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ أَوْ يَكُونَ الرَّاهِنُ وَحْدَهُ مُسْلِمًا أَوْ بِالْعَكْسِ ، فَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ فَالرَّهْنُ بِحَالِهِ تَخَلَّلَ أَوْ لَمْ يَتَخَلَّلْ ، وَفِي الْأَقْسَامِ الْبَاقِيَةِ إنْ تَخَلَّلَ فَكَذَلِكَ ، وَإِلَيْهِ يَلُوحُ إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ قَالَ : ثُمَّ صَارَ خَلًّا : يَعْنِي بِنَفْسِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَخَلَّلْ
بِنَفْسِهِ فَهَلْ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُخَلِّلَهُ أَوْ لَا ؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ ، إنْ كَانَا مُسْلِمِينَ أَوْ كَانَ الرَّاهِنُ مُسْلِمًا جَازَ تَخْلِيلُهُ ، لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ وَإِنْ تَلِفَتْ بِالتَّخَمُّرِ بِحَيْثُ لَا يُضْمَنُ وَذَلِكَ يُسْقِطُ الدَّيْنَ ، لَكِنَّ إعَادَتَهَا مُمْكِنَةٌ بِالتَّخَلُّلِ فَصَارَ كَتَخْلِيصِ الرَّهْنِ مِنْ الْجِنَايَةِ وَلِلْمُرْتَهِنِ ذَلِكَ ، وَإِذَا أَجَازَ ذَلِكَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْخَمْرُ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ فَلَأَنْ يَجُوزَ فِي الْمُرْتَهِنِ الْكَافِرِ أَوْلَى لِأَنَّهَا مَحَلٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الرَّاهِنُ كَافِرًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الرَّهْنَ وَالدَّيْنُ عَلَى حَالِهِ ، لِأَنَّ صِفَةَ الْخَمْرِيَّةِ لَا تَعْدَمُ الْمَالِيَّةَ فِي حَقِّهِ فَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ الْمُسْلِمِ تَخْلِيلُهَا ، فَإِنْ خَلَّلَهَا ضَمِنَ قِيمَتَهَا يَوْمَ خَلَّلَهَا لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا بِمَا صَنَعَ ، كَمَا لَوْ غَصَبَ خَمْرَ ذِمِّيٍّ فَخَلَّلَهَا فَالْخَلُّ لَهُ ، وَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ إنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ جِنْسِ الْقِيمَةِ ، وَيَرْجِعُ بِالزِّيَادَةِ إنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا يَوْمَ التَّخْلِيلِ مِنْ دَيْنِهِ .
( وَلَوْ رَهَنَ شَاةً قِيمَتُهَا عَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ فَمَاتَتْ فَدُبِغَ جِلْدُهَا فَصَارَ يُسَاوِي دِرْهَمًا فَهُوَ رَهْنٌ بِدِرْهَمٍ ) ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ يَتَقَرَّرُ بِالْهَلَاكِ ، فَإِذَا حَيِيَ بَعْضُ الْمَحَلِّ يَعُودُ حُكْمُهُ بِقَدْرِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَتْ الشَّاةُ الْمَبِيعَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَدُبِغَ جِلْدُهَا حَيْثُ لَا يَعُودُ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُنْتَقَضُ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْمُنْتَقَضُ لَا يَعُودُ ، أَمَّا الرَّهْنُ يَتَقَرَّرُ بِالْهَلَاكِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ يَمْنَعُ مَسْأَلَةَ الْبَيْعِ وَيَقُولُ : يَعُودُ الْبَيْعُوَقَوْلُهُ ( فَهُوَ رَهْنٌ بِدِرْهَمٍ ) يَعْنِي إنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْجِلْدِ يَوْمَ الرَّهْنِ دِرْهَمًا ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَئِذٍ دِرْهَمَيْنِ فَهُوَ رَهْنٌ بِدِرْهَمَيْنِ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِأَنْ يُنْظَرَ إلَى قِيمَةِ الشَّاةِ حَيَّةً وَمَسْلُوخَةً فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا حَيَّةً عَشَرَةً وَقِيمَتُهَا مَسْلُوخَةً تِسْعَةٌ كَانَتْ قِيمَةُ الْجِلْدِ يَوْمَ الِارْتِهَانِ دِرْهَمًا ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا مَسْلُوخَةً ثَمَانِيَةً كَانَتْ دِرْهَمَيْنِ ، هَذَا إذَا كَانَتْ الْقِيمَةُ مِثْلَ الدَّيْنِ ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ فَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي النِّهَايَةِ
قَالَ ( وَنَمَاءُ الرَّهْنِ لِلرَّاهِنِ وَهُوَ مِثْلُ الْوَلَدِ وَالثَّمَرِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ ) ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ مِلْكِهِ وَيَكُونُ رَهْنًا مَعَ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ ، وَالرَّهْنُ حَقٌّ لَازِمٌ فَيَسْرِي إلَيْهِ ( فَإِنْ هَلَكَ يَهْلَكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ ) ؛ لِأَنَّ الْأَتْبَاعَ لَا قِسْطَ لَهَا مِمَّا يُقَابَلُ بِالْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ مَقْصُودًا ؛ إذْ اللَّفْظُ لَا يَتَنَاوَلُهَا ( وَإِنْ هَلَكَ الْأَصْلُ وَبَقِيَ النَّمَاءُ افْتَكَّهُ الرَّاهِنُ بِحِصَّتِهِ يُقَسَّمُ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ يَوْمَ الْقَبْضِ وَقِيمَةِ النَّمَاءِ يَوْمَ الْفِكَاكِ ) ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالْقَبْضِ ، وَالزِّيَادَةُ تَصِيرُ مَقْصُودَةً بِالْفِكَاكِ إذَا بَقِيَ إلَى وَقْتِهِ ، وَالتَّبَعُ يُقَابِلُهُ شَيْءٌ إذَا صَارَ مَقْصُودًا كَوَلَدِ الْمَبِيعِ ، فَمَا أَصَابَ الْأَصْلَ يَسْقُطُ مِنْ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يُقَابِلُهُ الْأَصْلُ مَقْصُودًا ، وَمَا أَصَابَ النَّمَاءَ افْتَكَّهُ الرَّاهِنُ لِمَا ذَكَرْنَا وَصُوَرُ الْمَسَائِلِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ تُخَرَّجُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى ، وَتَمَامُهُ فِي الْجَامِعِ وَالزِّيَادَاتِ
قَالَ ( وَنَمَاءُ الرَّهْنِ لِلرَّاهِنِ إلَخْ ) الْأَصْلُ أَنَّ الْأَوْصَافَ الْقَارَّةَ فِي الْأُمَّهَاتِ تَسْرِي إلَى الْأَوْلَادِ إذَا كَانَتْ صَالِحَةً لِأَحْكَامِهَا ، وَالرَّهْنُ مِنْهَا لِكَوْنِهِ حَقًّا لَازِمًا إذْ اللَّازِمُ هُوَ الْقَارُّ ، وَالْقَارُّ مَا يَكُونُ ثَابِتًا فِي جُمْلَةِ الْأُمِّ ، وَلَا يَنْفَرِدُ مَنْ عَلَيْهِ بِإِبْطَالِ حُكْمِهِ كَكَوْنِهَا حُرَّةً وَقِنَّةً وَمَبِيعَةً وَمُكَاتَبَةً وَمُدَبَّرَةً ، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا بِذَلِكَ لِئَلَّا تَرِدَ كَفَالَةُ الْحُرَّةِ فَإِنَّهَا مَا تَسْرِي إلَى الْأَوْلَادِ ، وَالزَّكَاةُ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُمَا يَثْبُتَانِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ وَالْمَالِكِ لَا فِي عَيْنِ الْأُمَّهَاتِ ، وَلِئَلَّا يَرِدَ وَلَدُ الْجَانِيَةِ فَإِنَّ مَنْ عَلَيْهِ يَنْفَرِدُ بِالْإِبْطَالِ بِاخْتِيَارِ الْفِدَاءِ ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا الْأَوْلَادَ بِصَلَاحِيَتِهَا لِأَحْكَامِ الْأَوْصَافِ لِئَلَّا يَرِدَ وَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمُسْتَأْجَرَة وَالْمَنْكُوحَةِ وَالْمُوصَى بِخِدْمَتِهَا ، لِأَنَّ الْأَوْلَادَ حِينَ الْوِلَادَةِ لَمْ تَصْلُحْ لِأَحْكَامِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ .
أَمَّا فِي غَيْرِ الْغَصْبِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا فِي الْغَصْبِ فَلِأَنَّ الضَّمَانَ بِهِ يَعْتَمِدُ قَبْضًا مَقْصُودًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِي الْوَلَدِ ، وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا عُلِمَ أَنَّ نَمَاءَ الرَّهْنِ كَاللَّبَنِ وَالثَّمَرِ وَالصُّوفِ وَالْوَلَدِ لِلرَّاهِنِ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ مِلْكِهِ وَيَكُونُ رَهْنًا مَعَ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ .
فَفِي الْأَصْلِ وَصْفَانِ لَازِمَانِ : الْمَلِكُ ، وَكَوْنُهُ رَهْنًا فَيَسْرِيَانِ إلَى الْوَلَدِ ، فَإِنْ هَلَكَ الْوَلَدُ هَلَكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّ الْأَتْبَاعَ لَا قِسْطَ لَهَا مِمَّا يُقَابَلُ بِالْأَصْلِ إذَا لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ مَقْصُودًا إذْ اللَّفْظُ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا ، وَإِنْ هَلَكَ الْأَصْلُ وَبَقِيَ النَّمَاءُ افْتَكَّهُ الرَّاهِنُ بِحِصَّتِهِ يُقْسَمُ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ يَوْمَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقَبْضِ كَمَا تَقَدَّمَ وَقِيمَةُ النَّمَاءِ يَوْمَ الْفِكَاكِ ،
لِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ مَضْمُونًا بِهِ ، وَلَوْ هَلَكَ قَبْلَهُ هَلَكَ مَجَّانًا ، وَالتَّبَعُ يُقَابِلُهُ شَيْءٌ إذَا صَارَ مَقْصُودًا كَوَلَدِ الْمَبِيعِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ إذْ صَارَ مَقْصُودًا بِالْقَبْضِ ، وَالزِّيَادَةُ هَاهُنَا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالْفِكَاكِ فَيَخُصُّهُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ ، فَمَا أَصَابَ الْأَصْلَ يَسْقُطُ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِهِ لِأَنَّهُ يُقَابِلُهُ الْأَصْلُ مَقْصُودًا ، وَمَا أَصَابَ النَّمَاءَ افْتَكَّهُ الرَّاهِنُ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَصُوَرُ الْمَسَائِلِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ) يَعْنِي مَا ذَكَرْنَا مِنْ قِسْمَةِ الدَّيْنِ عَلَى قِيمَتِهِمَا يَوْمَ الْقَبْضِ وَالْفِكَاكِ ( تَخْرُجُ ) وَفِي ذَلِكَ كَثْرَةٌ وَتَطْوِيلٌ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَتَابَعْنَاهُ فِي ذَلِكَ
( وَلَوْ رَهَنَ شَاةً بِعَشَرَةٍ وَقِيمَتُهَا عَشَرَةٌ وَقَالَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ : احْلِبْ الشَّاةَ فَمَا حَلَبَتْ فَهُوَ لَك حَلَالٌ فَحَلَبَ وَشَرِبَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ) أَمَّا الْإِبَاحَةُ فَيَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ وَالْخَطَرِ ؛ لِأَنَّهَا إطْلَاقٌ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ فَتَصِحُّ مَعَ الْخَطَرِ ( وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ ) ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ ( فَإِنْ لَمْ يَفْتَكَّ الشَّاةَ حَتَّى مَاتَتْ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ قُسِّمَ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَةِ اللَّبَنِ الَّذِي شَرِبَ وَعَلَى قِيمَةِ الشَّاةِ ، فَمَا أَصَابَ الشَّاةَ سَقَطَ ، وَمَا أَصَابَ اللَّبَنَ أَخَذَهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ الرَّاهِنِ ) ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ تَلِفَ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ بِفِعْلِ الْمُرْتَهِنِ وَالْفِعْلُ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ قِبَلِهِ فَصَارَ كَأَنَّ الرَّاهِنَ أَخَذَهُ وَأَتْلَفَهُ فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَيَكُونُ لَهُ حِصَّتُهُ مِنْ الدَّيْنِ فَبَقِيَ بِحِصَّتِهِ ، وَكَذَلِكَ وَلَدُ الشَّاةِ إذَا أَذِنَ لَهُ الرَّاهِنُ فِي أَكْلِهِ ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ النَّمَاءِ الَّذِي يَحْدُثُ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِوَقَوْلُهُ ( فَيَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ ) يُرِيدُ بِالشَّرْطِ قَوْلَهُ فَمَا حَلَبَتْ فَإِنَّ كَلِمَةَ " مَا " تَضَمَّنَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ وَلِهَذَا دَخَلَ الْفَاءُ فِي خَبَرِهَا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ بِغَيْرِ إذْنِهِ ضَمِنَ وَكَانَتْ الْقِيمَةُ رَهْنًا مَعَ الشَّاةِ ، وَكَذَا لَوْ فَعَلَ الرَّاهِنُ ذَلِكَ بِدُونِ إجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ
قَالَ ( وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ وَلَا تَجُوزُ فِي الدَّيْنِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا يَصِيرُ الرَّهْنُ رَهْنًا بِهَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الدَّيْنِ أَيْضًا وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا تَجُوزُ فِيهِمَا ، وَالْخِلَافُ مَعَهُمَا فِي الرَّهْنِ ، وَالثَّمَنُ وَالْمُثَمَّنُ وَالْمَهْرُ وَالْمَنْكُوحَةُ سَوَاءٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ وَلِأَبِي يُوسُفَ فِي الْخِلَافِيَّةِ الْأُخْرَى أَنَّ الدَّيْنَ فِي بَابِ الرَّهْنِ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ ، وَالرَّهْنُ كَالْمُثَمَّنِ فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِمَا كَمَا فِي الْبَيْعِ ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الِالْتِحَاقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لِلْحَاجَةِ وَالْإِمْكَانِ وَلَهُمَا وَهُوَ الْقِيَاسُ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الدَّيْنِ تُوجِبُ الشُّيُوعَ فِي الرَّهْنِ ، وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ عِنْدَنَا ، وَالزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ تُوجِبُ الشُّيُوعَ فِي الدَّيْنِ ، وَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَهَنَ عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ الدَّيْنِ جَازَ ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ أَلْفًا وَهَذَا شُيُوعٌ فِي الدَّيْنِ ، وَالِالْتِحَاقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي طَرَفِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ وَلَا مَعْقُودٍ بِهِ بَلْ وُجُوبُهُ سَابِقٌ عَلَى الرَّهْنِ ، وَكَذَا يَبْقَى بَعْدَ انْفِسَاخِهِ ، وَالِالْتِحَاقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فِي بَدَلَيْ الْعَقْدِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلٌ يَجِبُ بِالْعَقْدِ ، ثُمَّ إذَا صَحَّتْ الزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ وَتُسَمَّى هَذِهِ زِيَادَةً قَصْدِيَّةً يُقَسَّمُ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَةِ الْأَوَّلِ يَوْمَ الْقَبْضِ ، وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ يَوْمَ قُبِضَتْ ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الزِّيَادَةِ يَوْمَ قَبْضِهَا خَمْسَمِائَةٍ ، وَقِيمَةُ الْأَوَّلِ يَوْمَ الْقَبْضِ أَلْفًا وَالدَّيْنُ أَلْفًا يُقَسَّمُ الدَّيْنُ أَثْلَاثًا ، فِي الزِّيَادَةِ ثُلُثُ الدَّيْنِ ، وَفِي الْأَصْلِ ثُلُثَا الدَّيْنِ اعْتِبَارًا بِقِيمَتِهِمَا فِي وَقْتَيْ الِاعْتِبَارِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ
فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الْقَبْضِ
قَالَ ( وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ إلَخْ ) الزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ مِثْلُ أَنْ يَرْهَنَ ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ يُسَاوِي عَشَرَةً ثُمَّ يَزِيدُ الرَّاهِنُ ثَوْبًا آخَرَ لِيَكُونَ مَعَ الْأَوَّلِ رَهْنًا بِالْعَشَرَةِ جَازَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَالزِّيَادَةُ عَلَى الدَّيْنِ لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا ، وَالْخِلَافُ مَعَهُمَا فِي الرَّهْنِ وَالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ وَالْمَهْرِ وَالْمَنْكُوحَةِ ، وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الْمَوْلَى أَمَتَهُ مِنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ ثُمَّ زَوَّجَ أَمَةً أُخْرَى بِذَلِكَ الْأَلْفِ وَقَبِلَ الزَّوْجُ يَصِحُّ الْعَقْدَانِ وَيُقْسَمُ الْأَلْفُ عَلَيْهِمَا .
وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ وَطَرِيقَةِ الْبَرْغَزِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ ، وَنَقَلَ عَنْ حَمِيدِ الدِّينِ الضَّرِيرِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الْمَنْكُوحَةِ أَنْ يَقُولَ الْمَوْلَى زِدْت لَك أَمَةً أُخْرَى بِذَلِكَ الْمَهْرِ ، أَمَّا لَوْ قَالَ زَوَّجْتُك هَذِهِ الْأَمَةَ الْأُخْرَى بِذَلِكَ الْمَهْرِ لَزِمَ أَنْ يَصِحَّ .
وَقَوْلُهُ ( أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَهَنَ عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ ) يَعْنِي مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ أَلْفٌ فَيَكُونُ بِنِصْفِ الدَّيْنِ كَانَ جَائِزًا ، وَلَوْ رَهَنَ ثَوْبًا بِعِشْرِينَ نِصْفُهُ بِعَشَرَةٍ وَنِصْفُهُ بِعَشَرَةٍ لَمْ يَصِحَّ .
وَقَوْلُهُ ( وَالِالْتِحَاقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ) إفْسَادٌ لِلْجَامِعِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الِالْتِحَاقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ الْمَعْقُودِ بِهِ وَالزِّيَادَةُ فِي الدَّيْنِ لَيْسَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، أَمَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ بِهِ فَلِوُجُوبِهِ بِسَبَبِهِ قَبْلَ عَقْدِ الرَّهْنِ ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَحْبُوسًا قَبْلَ
عَقْدِ الرَّهْنِ وَلَا يَبْقَى بَعْدَهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَتُسَمَّى هَذِهِ زِيَادَةً قَصْدِيَّةً ) يَعْنِي بِخِلَافِ نَمَاءِ الرَّهْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ زِيَادَةً قَصْدِيَّةً بَلْ ضِمْنِيَّةً وَلِهَذَا اخْتَلَفَ حُكْمًا .
( وَإِذَا وَلَدَتْ الْمَرْهُونَةُ وَلَدًا ثُمَّ إنَّ الرَّاهِنَ زَادَ مَعَ الْوَلَدِ عَبْدًا ، وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِد أَلْفٌ فَالْعَبْدُ رَهْنٌ مَعَ الْوَلَدِ خَاصَّةً يُقَسَّمُ مَا فِي الْوَلَدِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْعَبْدِ الزِّيَادَةُ ) ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ زِيَادَةً مَعَ الْوَلَدِ دُونَ الْأُمِّ ( وَلَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مَعَ الْأُمِّ يُقَسَّمُ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَةِ الْأُمِّ يَوْمَ الْعَقْدِ وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ ، فَمَا أَصَابَ الْأُمَّ قُسِّمَ عَلَيْهَا وَعَلَى وَلَدِهَا ) ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ دَخَلَتْ عَلَى الْأُمِّ
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا وَلَدَتْ الْمَرْهُونَةُ وَلَدًا ) يَعْنِي إذَا رَهَنَ جَارِيَةً بِأَلْفٍ تُسَاوِي أَلْفًا فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَقَالَ الرَّاهِنُ زِدْتُك هَذَا الْعَبْدَ مَعَ الْوَلَدِ رَهْنًا وَهُوَ أَيْضًا يُسَاوِي أَلْفًا جَازَ الْعَقْدُ وَيَكُونُ الْعَبْدُ رَهْنًا مَعَ الْوَلَدِ دُونَ الْأُمِّ ، فَيُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ الْوَلَدِ يَوْمَ الْفِكَاكِ وَإِلَى قِيمَةِ الْأُمِّ يَوْمَ الْعَقْدِ ، فَمَا أَصَابَ الْوَلَدَ قُسِمَ عَلَى قِيمَتِهِ يَوْمَ الْفِكَاكِ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ يَوْمَ قَبْضِهِ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ بِالْقَبْضِ ، فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ بَطَلَتْ لِأَنَّهُ إذَا هَلَكَ خَرَجَ مِنْ الْعَقْدِ وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَبَطَلَ الْحُكْمُ فِي الزِّيَادَةِ .
وَلَوْ قَالَ الرَّاهِنُ زِدْتُك هَذَا الْعَبْدَ مَعَ الْأُمِّ قُسِمَ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَةِ الْأُمِّ يَوْمَ الْعَقْدِ وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ ، فَمَا أَصَابَ الْأُمَّ قُسِمَ عَلَيْهَا وَعَلَى وَلَدِهَا ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ دَخَلَتْ عَلَى الْأُمِّ فَصَارَتْ كَأَنَّهَا كَانَتْ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ فَيَكُونُ الْوَلَدُ دَاخِلًا فِي حِصَّةِ الْأُمِّ خَاصَّةً ، فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ بَعْدَ الزِّيَادَةِ ذَهَبَ مَا كَانَ فِيهَا وَبَقِيَ الْوَلَدُ وَالزِّيَادَةُ نَمَاءٌ فِيهِمَا لِأَنَّ هَلَاكَ الْأُمِّ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الضَّمَانِ بَلْ يُقَرِّرُهُ فَلَا يَبْطُلُ الْحُكْمُ فِي الزِّيَادَةِ ، وَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ ذَهَبَ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَكَانَ الْعَقْدُ فِي الْأُمِّ وَلَا وَلَدَ مَعَهَا
قَالَ ( فَإِنْ رَهَنَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا بِأَلْفٍ ثُمَّ أَعْطَاهُ عَبْدًا آخَرَ قِيمَتُهُ أَلْفٌ رَهْنًا مَكَانَ الْأَوَّلِ ، فَالْأَوَّلُ رَهْنٌ حَتَّى يَرُدَّهُ إلَى الرَّاهِنِ ، وَالْمُرْتَهِنُ فِي الْآخَرِ أَمِينٌ حَتَّى يَجْعَلَهُ مَكَانَ الْأَوَّلِ ) ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ إنَّمَا دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ بِالْقَبْضِ وَالدَّيْنِ وَهُمَا بَاقِيَانِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ الضَّمَانِ إلَّا بِنَقْضِ الْقَبْضِ مَا دَامَ الدَّيْنُ بَاقِيًا ، وَإِذَا بَقِيَ الْأَوَّلُ فِي ضَمَانِهِ لَا يَدْخُلُ الثَّانِي فِي ضَمَانِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا رَضِيَا بِدُخُولِ أَحَدِهِمَا فِيهِ لَا بِدُخُولِهِمَا فَإِذَا رُدَّ الْأَوَّلُ دَخَلَ الثَّانِي فِي ضَمَانِهِ ثُمَّ قِيلَ : يُشْتَرَطُ تَجْدِيدُ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ عَلَى الثَّانِي يَدُ أَمَانَةٍ وَيَدُ الرَّهْنِ بَعْدَ اسْتِيفَاءٍ وَضَمَانٍ فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ ، كَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ جِيَادٌ فَاسْتَوْفَى زُيُوفًا ظَنَّهَا جِيَادًا ثُمَّ عَلِمَ بِالزِّيَافَةِ وَطَالَبَهُ بِالْجِيَادِ وَأَخَذَهَا فَإِنَّ الْجِيَادَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ مَا لَمْ يَرُدَّ الزُّيُوفَ وَيُجَدِّدَ الْقَبْضَ وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ تَبَرُّعٌ كَالْهِبَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ عَيْنَهُ أَمَانَةٌ ، وَالْقَبْضُ يُرَدُّ عَلَى الْعَيْنِ فَيَنُوبُ قَبْضُ الْأَمَانَةِ عَنْ قَبْضِ الْعَيْنِقَالَ ( فَإِنْ رَهَنَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا إلَخْ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ) يَعْنِي فِي صَدْرِ كِتَابِ الرَّهْنِ فِي تَعْلِيلِ أَنَّ تَمَامَ الرَّهْنِ بِالْقَبْضِ .
( وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ عَنْ الدَّيْنِ أَوْ وَهَبَهُ مِنْهُ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ يَهْلَكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ اسْتِحْسَانًا ) خِلَافًا لِزُفَرَ ، ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ أَوْ بِجِهَتِهِ عِنْدَ تَوَهُّمِ الْوُجُودِ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمَوْعُودِ وَلَمْ يَبْقَ الدَّيْنُ بِالْإِبْرَاءِ أَوْ الْهِبَةِ وَلَا جِهَتِهِ لِسُقُوطِهِ ، إلَّا إذَا أَحْدَثَ مَنْعًا ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ غَاصِبًا إذَا لَمْ تَبْقَ لَهُ وِلَايَةُ الْمَنْعِوَقَوْلُهُ ( خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) هُوَ يَقُولُ : إنَّ الضَّمَانَ فِي بَابِ الرَّهْنِ إنَّمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ وَهُوَ قَائِمٌ فَكَانَ مَا بَعْدَ الْإِبْرَاءِ وَمَا قَبْلَهُ سَوَاءً ، وَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ الدَّيْنُ بَعْدَهُ .
وَلَنَا مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ أَوْ بِجِهَتِهِ عِنْدَ تَوَهُّمِ الْوُجُودِ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمَوْعُودِ ، وَلَمْ يَبْقَ الدَّيْنُ بِالْإِبْرَاءِ : أَيْ بِسَبَبِهِ وَلَا جِهَتِهِ لِسُقُوطِهِ فَلَمْ يَبْقَ الرَّهْنُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : سُقُوطُ الدَّيْنِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الضَّمَانِ ، فَإِنَّهُ إذَا طَلَبَهُ الرَّاهِنُ وَمَنَعَ الْمُرْتَهِنَ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ وَقَدْ سَقَطَ الدَّيْنُ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ إلَّا إذَا أَحْدَثَ مَنْعًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ غَاصِبًا لِانْتِفَاءِ وِلَايَةِ مَنْعِهِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ صُورَةِ الِاسْتِيفَاءِ مَا ذَكَرَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَرْقِ بِقَوْلِهِ إنَّ بِالْإِبْرَاءِ يَسْقُطُ الدَّيْنُ أَصْلًا كَمَا ذَكَرْنَا ، وَبِالِاسْتِيفَاءِ لَا يَسْقُطُ لِقِيَامِ الْمُوجِبِ وَهُوَ الْعَقْدُ الَّذِي لَزِمَ الدَّيْنُ بِهِ ، إلَّا أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الِاسْتِيفَاءُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ لِأَنَّهُ يَعْقُبُ مُطَالَبَةَ مِثْلِهِ فَيُفْضِي إلَى الدَّوْرِ
( وَكَذَا إذَا ارْتَهَنَتْ الْمَرْأَةُ رَهْنًا بِالصَّدَاقِ فَأَبْرَأَتْهُ أَوْ وَهَبَتْهُ أَوْ ارْتَدَّتْ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ عَلَى صَدَاقِهَا ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهَا يَهْلَكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ فِي هَذَا كُلِّهِ وَلَمْ تَضْمَنْ شَيْئًا لِسُقُوطِ الدَّيْنِ كَمَا فِي الْإِبْرَاءِ ، وَلَوْ اسْتَوْفَى الْمُرْتَهِنُ الدَّيْنَ بِإِيفَاءِ الرَّاهِنِ أَوْ بِإِيفَاءِ مُتَطَوِّعٍ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ يَهْلَكُ بِالدَّيْنِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مَا اسْتَوْفَى إلَى مَا اسْتَوْفَى مِنْهُ وَهُوَ مَنْ عَلَيْهِ أَوْ الْمُتَطَوِّعُ بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ ) وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ بِالْإِبْرَاءِ يَسْقُطُ الدَّيْنُ أَصْلًا كَمَا ذَكَرْنَا ، وَبِالِاسْتِيفَاءِ لَا يَسْقُطُ لِقِيَامِ الْمُوجِبِ ، إلَّا أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الِاسْتِيفَاءُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْقُبُ مُطَالَبَةَ مِثْلِهِ ، فَأَمَّا هُوَ فِي نَفْسِهِ فَقَائِمٌ ، فَإِذَا هَلَكَ يَتَقَرَّرُ الِاسْتِيفَاءُ الْأَوَّلُ فَانْتَقَضَ الِاسْتِيفَاءُ الثَّانِي .وَقَوْلُهُ ( فَأَمَّا هُوَ ) يَعْنِي تَعَذُّرُ الِاسْتِيفَاءِ ، فَأَمَّا الدَّيْنُ فَهُوَ قَائِمٌ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ تَكْرِيرٌ لِلتَّوْكِيدِ ( فَإِذَا هَلَكَ ) يَعْنِي الرَّهْنَ بِتَقَرُّرِ الِاسْتِيفَاءِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْحُكْمِيُّ فَانْتَقَضَ الِاسْتِيفَاءُ الثَّانِي وَهُوَ الْحَقِيقِيُّ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ الِاسْتِيفَاءُ ،
( وَكَذَا إذَا اشْتَرَى بِالدَّيْنِ عَيْنًا أَوْ صَالَحَ عَنْهُ عَلَى عَيْنٍ ) ؛ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ ( وَكَذَلِكَ إذَا أَحَالَ الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ بِالدَّيْنِ عَلَى غَيْرِهِ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ بَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَيَهْلَكُ بِالدَّيْنِ ) ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَرَاءَةِ بِطَرِيقِ الْأَدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يَزُولُ بِهِ عَنْ مِلْكِ الْمُحِيلِ مِثْلَ مَا كَانَ لَهُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ ، أَوْ مَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ ( وَكَذَا لَوْ تَصَادَقَا عَلَى أَنْ لَا دَيْنَ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ يَهْلَكُ بِالدَّيْنِ ) لِتَوَهُّمِ وُجُوبِ الدَّيْنِ بِالتَّصَادُقِ عَلَى قِيَامِهِ فَتَكُونُ الْجِهَةُ بَاقِيَةً بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا اشْتَرَى ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَلَوْ اسْتَوْفَى .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشِّرَاءِ وَالصُّلْحِ عَلَى عَيْنٍ اسْتِيفَاءٌ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ الرَّهْنِ إنْ كَانَ بَاقِيًا أَوْ قِيمَتِهِ إنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ الرَّدِّ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ ) يَعْنِي الْبَرَاءَةَ بِطَرِيقِ الْأَدَاءِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ ذِمَّةُ الْمُحِيلِ تَبْرَأُ بِالْحَوَالَةِ عَمَّا عَلَيْهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْإِبْرَاءِ فَيَهْلِكُ أَمَانَةً .
وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ أَنَّ الْحَوَالَةَ وَإِنْ كَانَتْ إبْرَاءً لَكِنَّهَا بِطَرِيقِ الْأَدَاءِ دُونَ الْإِسْقَاطِ ( لِأَنَّهُ يَزُولُ بِهِ ) أَيْ : بِعَقْدِ الْحَوَالَةِ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ ) يَعْنِي الْمُحَالَ عَلَيْهِ ( بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ ) عَنْ الْمُحِيلِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَلِكَ لَوْ تَصَادَقَا عَلَى أَنْ لَا دَيْنَ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ إلَخْ ) اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إذَا كَانَ التَّصَادُقُ بَعْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ وَالدَّيْنِ كَانَ وَاجِبًا ظَاهِرًا فَهُوَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ وُجُوبَهُ ظَاهِرًا يَكْفِي لِضَمَانِ الرَّهْنِ فَكَانَ مُسْتَوْفِيًا ، فَأَمَّا إذَا كَانَ قَبْلَهُ هَلَكَ أَمَانَةً لِأَنَّهُ بِتَصَادُقِهِمَا يَنْتَفِي الدَّيْنُ مِنْ الْأَصْلِ وَضَمَانُ الرَّهْنِ لَا يَبْقَى بِدُونِ الدَّيْنِ .
وَوَجْهُ مُخْتَارِ الْمُصَنِّفِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَوَهُّمِ وُجُوبِ الدَّيْنِ بِالتَّصَادُقِ عَلَى قِيَامِهِ يَعْنِي بَعْدَ التَّصَادُقِ عَلَى عَدَمِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَتَذَكَّرَا وُجُوبَهُ بَعْدَ التَّصَادُقِ عَلَى انْتِفَائِهِ فَتَكُونَ الْجِهَةُ بَاقِيَةً ، وَضَمَانُ الرَّهْنِ مُتَحَقِّقٌ بِتَوَهُّمِ الْوُجُوبِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ ) رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ وَلَوْ اسْتَوْفَى ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ ثَمَّةَ إلَى هَاهُنَا نُقُوضٌ عَلَى جَوَابِ الِاسْتِحْسَانِ فِي صُورَةِ الْإِبْرَاءِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ إلَى قَوْلِهِ فَتَكُونُ الْجِهَةُ بَاقِيَةً .
قَالَ ( الْقَتْلُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : عَمْدٌ ، وَشِبْهُ عَمْدٍ ، وَخَطَأٌ ، وَمَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ ، وَالْقَتْلُ بِسَبَبٍ ) وَالْمُرَادُ بَيَانُ قَتْلٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ قَالَ ( فَالْعَمْدُ مَا تَعَمَّدَ ضَرْبَهُ بِسِلَاحٍ أَوْ مَا أُجْرِيَ مَجْرَى السِّلَاحِ كَالْمُحَدَّدِ مِنْ الْخَشَبِ وَلِيطَةِ الْقَصَبِ وَالْمَرْوَةِ الْمُحَدَّدَةِ وَالنَّارِ ) ؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ هُوَ الْقَصْدُ ، وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلِهِ وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْآلَةِ الْقَاتِلَةِ فَكَانَ مُتَعَمِّدًا فِيهِ عِنْدَ ذَلِكَ
كِتَابُ الْجِنَايَاتِ ) ذَكَرَ الْجِنَايَاتِ عَقِبَ الرَّهْنِ لِأَنَّ الرَّهْنَ لِصِيَانَةِ الْمَالِ وَحُكْمُ الْجِنَايَاتِ لِصِيَانَةِ الْأَنْفُسِ وَالْمَالُ وَسِيلَةٌ لِلنَّفْسِ فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَيْهَا ، وَمَحَاسِنُ أَجْزَيَتْهَا مَحَاسِنُ الْحُدُودِ .
وَالْجِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ : اسْمٌ لِمَا يُكْتَسَبُ مِنْ الشَّرِّ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ مِنْ جَنَى عَلَيْهِ شَرًّا ، وَهُوَ عَامٌّ إلَّا أَنَّهُ فِي الشَّرْعِ خُصَّ بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ شَرْعًا حَلَّ بِالنُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ ، وَالْأَوَّلُ يُسَمَّى قَتْلًا وَهُوَ فِعْلٌ مِنْ الْعِبَادِ تَزُولُ بِهِ الْحَيَاةُ ، وَالثَّانِي يُسَمَّى قَطْعًا وَجَرْحًا .
وَسَبَبُهَا سَبَبُ الْحُدُودِ .
وَشَرْطُهَا كَوْنُ الْمَحَلِّ حَيَوَانًا ، قَالَ ( الْقَتْلُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ ) الْقَتْلُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ مِنْ قِصَاصٍ وَدِيَةٍ وَكَفَّارَةٍ وَحِرْمَانِ إرْثٍ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ اسْتَقْرَيْنَا فَوَجَدْنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ حَصَلَ بِسِلَاحٍ أَوْ بِغَيْرِ سِلَاحٍ ، فَإِنْ حَصَلَ بِسِلَاحٍ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ بِهِ قَصْدُ الْقَتْلِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ فَهُوَ الْعَمْدُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ الْخَطَأُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِسِلَاحٍ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مَعَهُ قَصْدُ التَّأْدِيبِ وَالضَّرْبِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ فَهُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ جَارِيًا مَجْرَى الْخَطَأِ أَمْ لَا ، فَإِنْ كَانَ فَهُوَ هُوَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ الْقَتْلُ بِالسَّبَبِ ، وَبِهَذَا الِانْحِصَارِ تَعْرِفُ أَيْضًا تَفْسِيرَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ، وَضَعْفُهُ وَرَكَاكَتُهُ ظَاهِرَانِ .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ مَا أُجْرِيَ مَجْرَى السِّلَاحِ ) يَعْنِي فِي تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ كَالْمُحَدَّدِ مِنْ الْخَشَبِ وَلِيطَةِ الْقَصَبِ وَهِيَ قِشْرُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ
( وَمُوجِبُ ذَلِكَ الْمَأْثَمُ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } الْآيَةَ ، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السُّنَّةِ ، وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ قَالَ ( وَالْقَوَدُ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } إلَّا أَنَّهُ تَقَيَّدَ بِوَصْفِ الْعَمْدِيَّةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْعَمْدُ قَوَدٌ } أَيْ مُوجِبُهُ ، وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ بِهَا تَتَكَامَلُ وَحِكْمَةُ الزَّجْرِ عَلَيْهَا تَتَوَفَّرُ ، وَالْعُقُوبَةُ الْمُتَنَاهِيَةُ لَا شَرْعَ لَهَا دُونَ ذَلِكَ قَالَ ( إلَّا أَنْ يَعْفُوَ الْأَوْلِيَاءُ أَوْ يُصَالِحُوا ) ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ ثُمَّ هُوَ وَاجِبٌ عَيْنًا ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَخْذُ الدِّيَةِ إلَّا بِرِضَا الْقَاتِلِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، إلَّا أَنَّ لَهُ حَقَّ الْعُدُولِ إلَى الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مَرْضَاةِ الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مَدْفَعًا لِلْهَلَاكِ فَيَجُوزُ بِدُونِ رِضَاهُ ، وَفِي قَوْلِ الْوَاجِبِ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ وَيَتَعَيَّنُ بِاخْتِيَارِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ شُرِعَ جَابِرًا وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ نَوْعُ جَبْرٍ فَيَتَخَيَّرُ وَلَنَا مَا تَلَوْنَا مِنْ الْكِتَابِ وَرَوَيْنَا مِنْ السُّنَّةِ ، وَلِأَنَّ الْمَالَ لَا يَصْلُحُ مُوجِبًا لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ ، وَالْقِصَاصُ يَصْلُحُ لِلتَّمَاثُلِ ، وَفِيهِ مَصْلَحَةُ الْأَحْيَاءِ زَجْرًا وَجَبْرًا فَيَتَعَيَّنُ ، وَفِي الْخَطَإِ وُجُوبُ الْمَالِ ضَرُورَةَ صَوْنِ الدَّمِ عَنْ الْإِهْدَارِ ، وَلَا يُتَيَقَّنُ بِعَدَمِ قَصْدِ الْوَلِيِّ بَعْدَ أَخْذِ الْمَالِ فَلَا يَتَعَيَّنُ مَدْفَعًا لِلْهَلَاكِ ، وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَنَا : وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَجِبُ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّكْفِيرِ فِي الْعَمْدِ أَمَسُّ مِنْهَا إلَيْهِ فِي الْخَطَأِ فَكَانَ أَدْعَى إلَى إيجَابِهَا وَلَنَا أَنَّهُ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ ، وَفِي الْكَفَّارَةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَلَا تُنَاطُ بِمِثْلِهَا ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مِنْ الْمَقَادِيرِ ، وَتَعَيُّنُهَا فِي الشَّرْعِ لِدَفْعِ الْأَدْنَى لَا يُعَيِّنُهَا لِدَفْعِ
الْأَعْلَى وَمِنْ حُكْمِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ }
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ نَطَقَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السُّنَّةِ ) مِنْهَا مَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي خُطْبَتِهِ بِعَرَفَاتٍ { أَلَا إنَّ دِمَاءَكُمْ وَنُفُوسَكُمْ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِي هَذَا فِي شَهْرِي هَذَا فِي مَقَامِي هَذَا } وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ } .
وَقَوْلُهُ ( وَالْقَوَدُ ) يَعْنِي الْقِصَاصَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ الْمَأْثَمُ : أَيْ مُوجَبُ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْإِثْمُ فِي الْآخِرَةِ وَالْقِصَاصُ فِي الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ } الْآيَةَ وَهُوَ بِظَاهِرِهِ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ لَكِنَّهُ تَقَيَّدَ بِوَصْفِ الْعَمْدِيَّةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْعَمْدُ قَوَدٌ } أَيْ مُوجَبُهُ ، وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ ، وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ بِهَا : أَيْ بِالْعَمْدِيَّةِ تَتَكَامَلُ .
وَقَوْلُهُ ( لَا شَرْعَ لَهَا دُونَ ذَلِكَ ) أَيْ لَا شَرْعِيَّةَ لِلْعُقُوبَةِ الْمُتَنَاهِيَةِ بِدُونِ الْعَمْدِيَّةِ .
وَتَقْرِيرُ حُجَّتِهِ أَنَّ الْعَمْدِيَّةَ تَتَكَامَلُ بِهَا الْجِنَايَةُ ، وَكُلُّ مَا تَتَكَامَلُ بِهِ الْجِنَايَةُ كَانَتْ حِكْمَةُ الزَّجْرِ عَلَيْهَا أَكْمَلَ ، وَقَوْلُهُ ( وَالْعُقُوبَةُ الْمُتَنَاهِيَةُ إلَخْ ) حُجَّةٌ أُخْرَى .
وَتَقْرِيرُهَا : الْقَوَدُ عُقُوبَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ وَالْعُقُوبَةُ الْمُتَنَاهِيَةُ لَا شَرْعَ لَهَا دُونَ الْعَمْدِيَّةِ ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ هُوَ ) يَعْنِي الْقَوَدَ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مِدْفَعًا لِلْهَلَاكِ ) يَعْنِي لِأَنَّ الْقَاتِلَ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الدِّيَةِ بَعْدَمَا اُسْتُحِقَّتْ نَفْسُهُ قِصَاصًا يُسَفَّهُ وَيُلْقِي نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ وَيُمْنَعُ عَنْهُ شَرْعًا ( وَلَنَا مَا تَلَوْنَا ) مِنْ قَوْله تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْخَطَأِ الدِّيَةَ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ الْمَذْكُورُ فِيهِ
فِيمَا هُوَ ضِدُّ الْخَطَأِ وَهُوَ الْعَمْدُ ، وَلَمَّا تَعَيَّنَ بِالْعَمْدِ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ لِئَلَّا تَلْزَمَ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ بِالرَّأْيِ .
وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ الْعَمْدُ قَوَدٌ لِلْجِنْسِ ، إذْ لَا مَعْهُودَ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ ، فَفِيهِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ جِنْسِ الْعَمْدِ ذَلِكَ ، فَمَنْ عَدَلَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ زَادَ عَلَى النَّصِّ أَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ : الْعَمْدُ قَوَدٌ لَا مَالَ فِيهِ إلَى ذَلِكَ .
وَوَجْهُ الْمَعْقُولِ أَنَّ الْمَالَ لَا يَصْلُحُ مُوجَبًا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ ، لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَالِكٌ مُبْتَذِلٌ وَالْمَالَ مَمْلُوكٌ مُبْتَذَلٌ فَأَنَّى يَتَمَاثَلَانِ ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَصْلُحُ مُوجَبًا لِلتَّمَاثُلِ ، وَفِيهِ زِيَادَةُ حِكْمَةٍ وَهِيَ مَصْلَحَةُ الْإِحْيَاءِ زَجْرًا لِلْغَيْرِ عَنْ وُقُوعِهِ فِيهِ وَجَبْرًا لِلْوَرَثَةِ فَيَتَعَيَّنُ ، فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ صَلَحَ مُوجَبًا فِي الْخَطَأِ وَالْفَائِتُ فِيهِ مِثْلُ الْفَائِتِ فِي الْعَمْدِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَفِي الْخَطَأِ وُجُوبُ الْمَالِ ضَرُورَةَ صَوْنِ الدَّمِ عَنْ الْإِهْدَارِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ الِاقْتِصَاصُ فِيهِ هُدِرَ الدَّمُ لَوْ لَمْ يَجِبْ الْمَالُ وَالْآدَمِيُّ مُكَرَّمٌ لَا يَجِبُ إهْدَارُ دَمِهِ ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَالْعَمْدُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ حَتَّى يَلْحَقَ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُتَيَقَّنُ بِعَدَمِ قَصْدِ الْوَلِيِّ بَعْدَ أَخْذِ الْمَالِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مِدْفَعًا لِلْهَلَاكِ وَذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَأْخُذَ الْوَلِيُّ الْمَالَ مِنْ الْقَاتِلِ بِدُونِ رِضَاهُ ثُمَّ يَقْتُلُهُ .
قِيلَ هَذَا الْوَهْمُ مَوْجُودٌ فِيمَا إذَا أَخَذَ الْمَالَ صُلْحًا وَقَدْ جَازَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ فِي الصُّلْحِ الْمُرَاضَاةَ وَالْقَتْلُ بَعْدَهُ ظَاهِرُ الْعَدَمِ .
وَعُورِضَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ : إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا ، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا
الدِّيَةَ } وَبِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ الْقِصَاصَ لِمَعْنَى الِانْتِقَامِ وَتَشَفِّي صُدُورِ الْأَوْلِيَاءِ ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ تُقْتَلُ بِوَاحِدٍ وَالْقِيَاسُ لَا يَقْتَضِيهِ ، فَكَانَ لِمَعْنَى النَّظَرِ لِلْوَلِيِّ وَذَلِكَ بِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْقِصَاصِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَدِيثَ خَبَرُ وَاحِدٍ فَلَا يُعَارِضُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَأَنَّ الْقِصَاصَ لِمَعْنَى النَّظَرِ لِلْوَلِيِّ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ وَهُوَ الِانْتِقَامُ وَتَشَفِّي الصُّدُورِ ، فَإِنَّهُ شُرِعَ زَجْرًا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ إفْنَاءِ قَبِيلَةٍ بِوَاحِدٍ لَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً عِنْدَ قَتْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، بَلْ الْقَاتِلُ وَأَهْلُهُ لَوْ بَذَلُوا مَا مَلَكُوهُ وَأَمْثَالَهُ مَا رَضِيَ بِهِ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ ، فَكَانَ إيجَابُ الْمَالِ فِي مُقَابَلَةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ تَضْيِيعُ حِكْمَةِ الْقِصَاصِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْقِصَاصُ لَمْ يَجُزْ الْمَصِيرُ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ مِثْلُ أَنْ يَعْفُوَ أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنَّهُ تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ حِينَئِذٍ ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْقِصَاصِ نَاقِصًا بِأَنْ تَكُونَ يَدُ قَاطِعِ الْيَدِ أَقَلَّ أُصْبُعًا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَنَا ) أَيْ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ سَوَاءٌ وَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ أَوْ لَمْ يَجِبْ كَالْأَبِ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَجِبُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّكْفِيرِ فِي الْعَمْدِ أَمَسُّ مِنْهَا إلَيْهِ فِي الْخَطَأِ لِأَنَّهَا لِسَتْرِ الذَّنْبِ وَالذَّنْبُ فِي الْعَمْدِ أَعْظَمُ ( وَلَنَا أَنَّهُ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ ) وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِمَا فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْكَفَّارَةُ فِيهَا ذَلِكَ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ وَاضِحٌ .
فَإِنْ قِيلَ : هَبْ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَصِحُّ فَلْيَلْحَقْ دَلَالَةً لِأَنَّهُمَا مِثْلَانِ فِي الْمَنَاطِ
وَهُوَ السَّتْرُ وَلَا مُعْتَبَرَ لِصِفَةِ الْعَمْدِيَّةِ كَالْمُحْرِمِ إذَا قَتَلَ الصَّيْدَ عَمْدًا فَإِنَّهُ كَقَتْلِهِ خَطَأً .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ مَمْنُوعَةٌ ، فَإِنَّ ذَنْبَ الْعَمْدِ مِمَّا لَا يُسْتَرُ بِهَا لِعَدَمِ صَلَاحِيَّتِهِ لَعَلَّهَا كَمَا مَرَّ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ صِفَةِ الْعَمْدِيَّةِ وَهُوَ حَدِيثُ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ { أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَاحِبٍ لَنَا قَدْ اسْتَوْجَبَ النَّارَ بِالْقَتْلِ ، فَقَالَ : أَعْتِقُوا عَنْهُ رَقَبَةً يُعْتِقُ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ } وَإِيجَابُ النَّارِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ .
قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ اسْتَوْجَبَهَا بِشِبْهِ الْعَمْدِ كَالْقَتْلِ بِالْحَجَرِ أَوْ الْعَصَا الْكَبِيرَيْنِ .
سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ لَا يُعَارِضُ إشَارَةَ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا } فَإِنَّ الْفَاءَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ كُلَّ الْجَزَاءِ ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا الْكَفَّارَةَ لَكَانَ الْمَذْكُورُ بَعْضَهُ وَهُوَ خَلَفٌ
قَالَ ( وَشِبْهُ الْعَمْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَتَعَمَّدَ الضَّرْبَ بِمَا لَيْسَ بِسِلَاحٍ وَلَا مَا أُجْرِيَ مَجْرَى السِّلَاحِ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : إذَا ضَرَبَهُ بِحَجَرٍ عَظِيمٍ أَوْ بِخَشَبَةٍ عَظِيمَةٍ فَهُوَ عَمْدٌ وَشِبْهُ الْعَمْدِ أَنْ يَتَعَمَّدَ ضَرْبَهُ بِمَا لَا يُقْتَلُ بِهِ غَالِبًا ؛ لِأَنَّهُ يَتَقَاصَرُ مَعْنَى الْعَمْدِيَّةِ بِاسْتِعْمَالِ آلَةٍ صَغِيرَةٍ لَا يُقْتَلُ بِهَا غَالِبًا لِمَا أَنَّهُ يَقْصِدُ بِهَا غَيْرَهُ كَالتَّأْدِيبِ وَنَحْوِهِ فَكَانَ شِبْهَ الْعَمْدِ ، وَلَا يَتَقَاصَرُ بِاسْتِعْمَالِ آلَةٍ لَا تَلْبَثُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِهِ إلَّا الْقَتْلَ كَالسَّيْفِ فَكَانَ عَمْدًا مُوجِبًا لِلْقَوَدِ وَلَهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَأِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا ، وَفِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } وَلِأَنَّ الْآلَةَ غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِلْقَتْلِ وَلَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِيهِ ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهَا عَلَى غِرَّةٍ مِنْ الْمَقْصُودِ قَتْلُهُ ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْقَتْلُ غَالِبًا فَقُصِرَتْ الْعَمْدِيَّةُ نَظَرًا إلَى الْآلَةِ ، فَكَانَ شِبْهُ الْعَمْدِ كَالْقَتْلِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا الصَّغِيرَةِ
قَالَ ( وَشِبْهُ الْعَمْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَخْ ) اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْقَتْلِ ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ شِبْهُ الْعَمْدِ هُوَ أَنْ يَتَعَمَّدَ الضَّرْبَ بِمَا لَيْسَ بِسِلَاحٍ وَلَا أُجْرِيَ مَجْرَاهُ سَوَاءٌ كَانَ الْهَلَاكُ بِهِ غَالِبًا كَالْحَجَرِ وَالْعَصَا الْكَبِيرَيْنِ وَمِدَقَّةِ الْقَصَّارِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَالْعَصَا الصَّغِيرَةِ .
وَقَالَا : هُوَ أَنْ يَتَعَمَّدَ الضَّرْبَ بِمَا لَا يَحْصُلُ الْهَلَاكُ بِهِ غَالِبًا كَالْعَصَا الصَّغِيرَةِ إذَا لَمْ يُوَالِ فِي الضَّرَبَاتِ .
فَأَمَّا إذَا وَالَى فِيهَا فَقِيلَ شِبْهُ عَمْدٍ عِنْدَهُمَا وَقِيلَ عَمْدٌ مَحْضٌ ، قَالَا : سُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ شِبْهَ الْعَمْدِ لِاقْتِصَارِ مَعْنَى الْعَمْدِ فِيهِ وَإِلَّا لَكَانَ عَمْدًا ، وَاقْتِصَارُهُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي اسْتِعْمَالِ آلَةٍ لَا يُقْتَلُ بِهَا غَالِبًا كَالْعَصَا الصَّغِيرَةِ فَإِنَّهُ يُقْصَدُ بِاسْتِعْمَالِهَا غَيْرُ الْقَتْلِ كَالتَّأْدِيبِ وَنَحْوِهِ .
لَا فِي اسْتِعْمَالِ آلَةٍ لَا تَلْبَثُ فَإِنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِاسْتِعْمَالِهَا إلَّا الْقَتْلُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا ، وَفِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } رَوَاهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ قَتِيلَ السَّوْطِ وَالْعَصَا مُطْلَقًا شِبْهَ عَمْدٍ فَتَخْصِيصُهُ بِهِ بِالصَّغِيرَةِ إبْطَالٌ لِلْإِطْلَاقِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ ، وَلِأَنَّ الْعَصَا الْكَبِيرَةَ وَالصَّغِيرَةَ تَسَاوَيَا فِي كَوْنِهِمَا غَيْرَ مَوْضُوعَتَيْنِ لِلْقَتْلِ وَلَا مُسْتَعْمَلَتَيْنِ لَهُ ، إذْ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِعْمَالُ عَلَى غُرَّةٍ مِنْ الْمَقْصُودِ قَتْلُهُ ، وَبِالِاسْتِعْمَالِ عَلَى غُرَّةٍ يَحْصُلُ الْقَتْلُ غَالِبًا ، وَإِذَا تَسَاوَيَا وَالْقَتْلُ بِالْعَصَا الصَّغِيرَةِ شِبْهُ عَمْدٍ فَكَذَا بِالْكَبِيرَةِ .
قَالَ ( وَمُوجِبُ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْإِثْمُ ) ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ وَهُوَ قَاصِدٌ فِي الضَّرْبِ ( وَالْكَفَّارَةُ ) لِشَبَهِهِ بِالْخَطَأِ ( وَالدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ ) وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً لَا بِمَعْنًى يَحْدُثُ مِنْ بُعْدٍ فَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ اعْتِبَارًا بِالْخَطَأِ ، وَتَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِقَضِيَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَتَجِبُ مُغَلَّظَةً ، وَسَنُبَيِّنُ صِفَةَ التَّغْلِيظِ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَيَتَعَلَّقُ بِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ ) ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْقَتْلِ ، وَالشُّبْهَةُ تُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ دُونَ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَمَالِكٌ وَإِنْ أَنْكَرَ مَعْرِفَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا أَسْلَفْنَاهُ
وَقَوْلُهُ ( وَمُوجَبُ ذَلِكَ ) أَيْ مُوجَبُ شِبْهِ الْعَمْدِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ : يَعْنِي قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلَهُمَا ( الْإِثْمُ لِأَنَّهُ قَتْلٌ وَهُوَ قَاصِدٌ فِي الضَّرْبِ ) عَلَى مَا مَرَّ مِنْ تَفْسِيرِهِ ( وَالْكَفَّارَةُ لِشَبَهِهِ بِالْخَطَأِ ، وَالدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ .
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً لَا بِمَعْنًى يَحْدُثُ مِنْ بَعْدُ فَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ ) احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ لَا بِمَعْنًى يَحْدُثُ مِنْ بَعْدُ عَمَّا تَصَالَحُوا فِيهِ عَلَى الدِّيَةِ وَعَنْ قَتْلِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ عَمْدًا وَعَنْ إقْرَارِ الْقَاتِلِ بِالْقَتْلِ خَطَأً وَقَدْ كَانَ قَتْلُهُ عَمْدًا فَإِنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِقَضِيَّةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) يَعْنِي مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ كَالْمَرْوِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ .
وَقَوْلُهُ ( فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا أَسْلَفْنَاهُ ) قِيلَ أَرَادَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَأِ الْعَمْدِ قَتِيلَ السَّوْطِ وَالْعَصَا } الْحَدِيثَ ، وَلَكِنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يَقُولَ مَا رَوَيْنَا وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ : إنَّمَا قَالَ أَسْلَفْنَا نَظَرًا إلَى الْحَدِيثِ وَالْمَعْنَى الْمَعْقُولِ
قَالَ ( وَالْخَطَأُ عَلَى نَوْعَيْنِ : خَطَأٌ فِي الْقَصْدِ ، وَهُوَ أَنْ يَرْمِيَ شَخْصًا يَظُنُّهُ صَيْدًا ، فَإِذَا هُوَ آدَمِيٌّ ، أَوْ يَظُنُّهُ حَرْبِيًّا فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ وَخَطَأٌ فِي الْفِعْلِ ، وَهُوَ أَنْ يَرْمِيَ غَرَضًا فَيُصِيبَ آدَمِيًّا ، وَمُوجَبُ ذَلِكَ الْكَفَّارَةُ ، وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } الْآيَةَ ، وَهِيَ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، لِمَا بَيَّنَّاهُ ( وَلَا إثْمَ فِيهِ ) يَعْنِي فِي الْوَجْهَيْنِ قَالُوا : الْمُرَادُ إثْمُ الْقَتْلِ ، فَأَمَّا فِي نَفْسِهِ فَلَا يَعْرَى عَنْ الْإِثْمِ مِنْ حَيْثُ تَرْكُ الْعَزِيمَةِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي التَّثَبُّتِ فِي حَالِ الرَّمْيِ ، إذْ شَرْعُ الْكَفَّارَةِ يُؤْذِنُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى ( وَيُحْرَمُ عَنْ الْمِيرَاثِ ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ إثْمًا فَيَصِحُّ تَعْلِيقُ الْحِرْمَانِ بِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَعَمَّدَ الضَّرْبَ مَوْضِعًا مِنْ جَسَدِهِ فَأَخْطَأَ فَأَصَابَ مَوْضِعًا آخَرَ فَمَاتَ حَيْثُ يَجِبُ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ قَدْ وُجِدَ بِالْقَصْدِ إلَى بَعْضِ بَدَنِهِ ، وَجَمِيعُ الْبَدَنِ كَالْمَحَلِّ الْوَاحِدِ
قَالَ ( وَالْخَطَأُ عَلَى نَوْعَيْنِ ) إنَّمَا انْحَصَرَ الْخَطَأُ فِي نَوْعَيْنِ ، لِأَنَّ الرَّمْيَ إلَى شَيْءٍ مَثَلًا مُشْتَمِلٌ عَلَى فِعْلِ الْقَلْبِ وَهُوَ الْقَصْدُ وَالْجَارِحَةُ وَهُوَ الرَّمْيُ ، فَإِنْ اتَّصَلَ الْخَطَأُ بِالْأَوَّلِ فَهُوَ الْأَوَّلُ ، وَإِنْ اتَّصَلَ بِالثَّانِي فَهُوَ الثَّانِي .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّاهُ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَتَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِقَضِيَّةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( وَلَا إثْمَ فِيهِ فِي الْوَجْهَيْنِ ) أَيْ النَّوْعَيْنِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ } الْحَدِيثَ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُحْرَمُ عَنْ الْمِيرَاثِ لِأَنَّ فِيهِ إثْمًا ) بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ ، وَالْحِرْمَانُ يَجِبُ بِأَنْوَاعِ الْقَتْلِ فِيمَا هُوَ جِنَايَةٌ ، قِيلَ عَلَى الْمُوَرِّثِ تَضَمَّنَتْ تُهْمَةَ الِاسْتِعْجَالِ عَلَى الْمِيرَاثِ ، وَهَذَا كَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ قَصَدَهُ ، إلَّا أَنَّهُ أَظْهَرَ الْخَطَأَ مِنْ نَفْسِهِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ وَمُخْتَصَرِ الضَّوْءِ فِي الْفَرَائِضِ مُسْتَوْفًى بِتَأْيِيدِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا تَعَمَّدَ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَمُوجَبُ ذَلِكَ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ .
وَصُورَةُ ذَلِكَ رَجُلٌ تَعَمَّدَ أَنْ يَضْرِبَ يَدَ رَجُلٍ فَأَخْطَأَ فَأَصَابَ عُنُقَهُ فَقَتَلَهُ فَهُوَ عَمْدٌ فِيهِ الْقَوَدُ .
وَلَوْ أَرَادَ يَدَ رَجُلٍ فَأَصَابَ عُنُقَ غَيْرِهِ وَأَبَانَهُ فَهُوَ خَطَأٌ ، وَمَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ مِثْلُ النَّائِمِ يَنْقَلِبُ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ لِأَنَّ النَّائِمَ لَا يُوصَفُ فِعْلُهُ بِالْعَمْدِ وَلَا بِالْخَطَأِ ، إلَّا أَنَّهُ كَالْخَطَأِ فِي الْأَحْكَامِ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَاتَ بِثِقَلِهِ فَكَأَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِ
قَالَ ( وَمَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ مِثْلُ النَّائِمِ يَنْقَلِبُ عَلَى رَجُلٍ فَيَقْتُلُهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْخَطَأِ فِي الشَّرْعِ ، وَأَمَّا الْقَتْلُ بِسَبَبٍ كَحَافِرِ الْبِئْرِ وَوَاضِعِ الْحَجَرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ، وَمُوجِبُهُ إذَا تَلِفَ فِيهِ آدَمِيٌّ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ) ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ التَّلَفِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ فَأُنْزِلَ مَوْقِعًا دَافِعًا فَوَجَبَتْ الدِّيَةُ ( وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُلْحَقُ بِالْخَطَإِ فِي أَحْكَامِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَنْزَلَهُ قَاتِلًا وَلَنَا أَنَّ الْقَتْلَ مَعْدُومٌ مِنْهُ حَقِيقَةً فَأُلْحِقَ بِهِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ فَبَقِيَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَى الْأَصْلِ ، وَهُوَ إنْ كَانَ يَأْثَمُ بِالْحَفْرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَا يَأْثَمُ بِالْمَوْتِ عَلَى مَا قَالُوا ، وَهَذِهِ كَفَّارَةُ ذَنْبِ الْقَتْلِ وَكَذَا الْحِرْمَانُ بِسَبَبِهِ ( وَمَا يَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ فِي النَّفْسِ فَهُوَ عَمْدٌ فِيمَا سِوَاهَا ) ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ النَّفْسِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْآلَةِ ، وَمَا دُونَهَا لَا يَخْتَصُّ إتْلَافُهُ بِآلَةٍ دُونَ آلَةٍ
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الشَّرْعَ أَنْزَلَهُ قَاتِلًا ) يَعْنِي فِي حَقِّ الضَّمَانِ فَكَذَا فِي الْكَفَّارَةِ وَالْحِرْمَانِ .
وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِالْقَتْلِ وَهُوَ مَعْدُومٌ مِنْهُ حَقِيقَةً لِعَدَمِ اتِّصَالِ فِعْلِهِ بِهِ ، وَإِنَّمَا أُلْحِقَ بِهِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ صِيَانَةً لِلدِّمَاءِ عَنْ الْهَدَرِ فَيَبْقَى فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَى الْأَصْلِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْحَافِرُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ يَأْثَمُ وَمَا فِيهِ إثْمٌ مِنْ الْقَتْلِ يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْحِرْمَانِ بِهِ كَمَا ذَكَرْتُمْ فِي الْخَطَأِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَهُوَ إنْ كَانَ يَأْثَمُ بِالْحَفْرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ) أَيْ الْإِثْمُ الْحَاصِلُ بِالْقَتْلِ يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْحِرْمَانِ بِهِ ، وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ إثْمَهُ إثْمُ الْحَفْرِ لَا الْمَوْتِ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا يَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ فِي النَّفْسِ فَهُوَ عَمْدٌ فِيمَا سِوَاهَا ) يَعْنِي لَيْسَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ إنَّمَا هُوَ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ ( لِأَنَّ إتْلَافَ النَّفْسِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْآلَةِ ) فَإِنَّ إتْلَافَ النَّفْسِ لَا يُقْصَدُ إلَّا بِالسِّلَاحِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ ، وَأَمَّا مَا دُونَهَا فَإِنَّهُ يَقْصِدُ إتْلَافَهُ بِغَيْرِهِ كَمَا يَقْصِدُ بِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ فَقْءَ الْعَيْنِ كَمَا يُقْصَدُ بِالسِّكِّينِ يُقْصَدُ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا الصَّغِيرَةِ
قَالَ ( الْقِصَاصُ وَاجِبٌ بِقَتْلِ كُلِّ مَحْقُونِ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ إذَا قَتَلَ عَمْدًا ) أَمَّا الْعَمْدِيَّةُ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ ، وَأَمَّا حَقْنُ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَلِتَنْتَفِيَ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ وَتَتَحَقَّقَ الْمُسَاوَاةُ قَالَ ( وَيُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْحُرُّ بِالْعَبْدِ ) لِلْعُمُومَاتِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ } وَمِنْ ضَرُورَةِ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ أَنْ لَا يُقْتَلَ حُرٌّ بِعَبْدٍ ، وَلِأَنَّ مَبْنَى الْقِصَاصِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكِ وَلِهَذَا لَا يُقْطَعُ طَرَفُ الْحُرِّ بِطَرَفِهِ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ بِالْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ ، وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ حَيْثُ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ ؛ لِأَنَّهُ تَفَاوُتٌ إلَى نُقْصَانٍ وَلَنَا أَنَّ الْقِصَاصَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْعِصْمَةِ وَهِيَ بِالدِّينِ وَبِالدَّارِ وَيَسْتَوِيَانِ فِيهِمَا ، وَجَرَيَانُ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ يُؤْذِنُ بِانْتِفَاءِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ ، وَالنَّصُّ تَخْصِيصٌ بِالذِّكْرِ فَلَا يَنْفِي مَا عَدَاهُ قَالَ ( وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لَهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ } وَلِأَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا وَقْتَ الْجِنَايَةِ ، وَكَذَا الْكُفْرُ مُبِيحٌ فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ مُسْلِمًا بِذِمِّيٍّ } وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْعِصْمَةِ ثَابِتَةٌ نَظَرًا إلَى التَّكْلِيفِ وَالدَّارِ وَالْمُبِيحُ كُفْرُ الْمُحَارِبِ دُونَ الْمُسَالِمِ ، وَالْقَتْلُ بِمِثْلِهِ يُؤْذِنُ بِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ ، وَالْمُرَادُ بِمَا رَوَى الْحَرْبِيَّ لِسِيَاقِهِ { وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ } وَالْعَطْفُ لِلْمُغَايَرَةِ قَالَ ( وَلَا يُقْتَلُ بِالْمُسْتَأْمَنِ ) ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْقُونِ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَكَذَلِكَ كُفْرُهُ بَاعِثٌ عَلَى الْحِرَابِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ
( بَابُ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَمَا لَا يُوجِبُهُ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَقْسَامِ الْقَتْلِ وَكَانَ مِنْ جُمْلَتِهَا الْعَمْدُ وَهُوَ قَدْ يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَقَدْ لَا يُوجِبُهُ احْتَاجَ إلَى تَفْصِيلِ ذَلِكَ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ .
قَالَ ( الْقِصَاصُ وَاجِبٌ بِقَتْلِ كُلِّ مَحْقُونِ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ إلَخْ ) هَذِهِ ضَابِطَةٌ كُلِّيَّةٌ لِمَعْرِفَةِ مَنْ يَجِبُ لَهُ الْقِصَاصُ ، وَحَقْنُ الدَّمِ مَنَعَهُ أَنْ يَسْفِكَ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى التَّأْبِيدِ ) احْتِرَازٌ عَنْ الْمُسْتَأْمَنِ ، فَإِنَّ فِي دَمِهِ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ بِالْعَوْدِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ الْمُزِيلَةِ لِلْمُسَاوَاةِ الْمُنْبِئِ عَنْهَا الْقِصَاصُ ، وَلَا بُدَّ مِنْ صِفَةِ الْعَمْدَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْعَمْدُ قَوَدٌ } وَمِنْ أَنَّ الْجِنَايَةَ بِهَا تَتَكَامَلُ ، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ أَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَذَلِكَ يُنَافِي وَصْفَ الْقِصَاصِ بِالْوُجُوبِ .
الثَّانِي أَنَّ حَقْنَ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ لِأَنَّ أَنْهَى مَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ يَزُولُ بِالِارْتِدَادِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
الثَّالِثُ أَنَّهَا مَنْقُوضَةٌ بِمُسْلِمٍ قَتَلَ ابْنَهُ الْمُسْلِمَ فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِيهِ وَلَا قِصَاصَ ، الرَّابِعُ أَنَّ قَيْدَ التَّأْبِيدِ لِثُبُوتِ الْمُسَاوَاةِ ، وَإِذَا قَتَلَ الْمُسْتَأْمَنُ مُسْلِمًا وَجَبَ الْقِصَاصُ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فَأَجَابَ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُجُوبِ ثُبُوتُ حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَفْوِ .
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقْنِ عَلَى التَّأْبِيدِ مَا هُوَ بِحَسَبِ الْأَصْلِ وَالِارْتِدَادُ عَارِضٌ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ وَرُجُوعُ الْحَرْبِيِّ إلَى دَارِهِ أَصْلٌ لَا عَارِضٌ .
وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْقِصَاصَ ثَابِتٌ لَكِنَّهُ انْقَلَبَ مَالًا لِشُبْهَةِ الْأُبُوَّةِ .
وَعَنْ الرَّابِعِ بِأَنَّ التَّفَاوُتَ إلَى نُقْصَانٍ غَيْرُ مَانِعٍ عَنْ الِاسْتِيفَاءِ ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ .
وَقَوْلُهُ لِلْعُمُومَاتِ
يُرِيدُ بِهِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } وَقَوْلُهُ { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } وَقَوْلَهُ { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } وَقَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْعَمْدُ قَوَدٌ } وَذَكَرَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَوَجْهَهُ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَهِيَ ) أَيْ الْعِصْمَةُ ( بِالدَّيْنِ ) يَعْنِي عِنْدَهُ ( أَوْ بِالدَّارِ ) يَعْنِي عِنْدَنَا ( وَ ) الْعَبْدُ وَالْحُرُّ ( يَسْتَوِيَانِ فِيهِمَا ) فَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ قَالَ جَازَ أَنْ تَكُونَ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ مَانِعَةً وَهِيَ ثَابِتَةٌ لِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرُ الْكُفْرِ وَحَقِيقَةُ الْكُفْرِ تَمْنَعُ مِنْهُ كَمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُسْتَأْمَنِ فَكَذَا أَثَرُهُ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَجَرَيَانُ الْقِصَاصِ ) مَعْنَاهُ لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ مَانِعًا ، إذْ لَوْ صَلَحَ لَمَا جَرَى بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ كَمَا لَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُسْتَأْمَنِينَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَالنَّصُّ تَخْصِيصٌ بِالذَّكَرِ ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ الْمُقَابَلَةِ فِي الْآيَةِ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ ذَلِكَ تَخْصِيصٌ بِالذَّكَرِ وَهُوَ لَا يَنْفِي مَا عَدَاهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ { وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } فَإِنَّهُ لَا يَنْفِي الذَّكَرَ بِالْأُنْثَى وَلَا الْعَكْسَ بِالْإِجْمَاعِ ، وَفَائِدَةُ التَّخْصِيصِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ أَرَادَ قَتْلَ غَيْرِ الْقَاتِلِ بِالْمَقْتُولِ ، وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَوَى أَنَّ قَبِيلَتَيْنِ مِنْ الْعَرَبِ تَدَّعِي إحْدَاهُمَا فَضْلًا عَلَى الْأُخْرَى اقْتَتَلَتَا ، فَقَالَتْ مُدَّعِيَةُ الْفَضْلِ : لَا نَرْضَى إلَّا بِقَتْلِ الذَّكَرِ مِنْهُمْ بِالْأُنْثَى مِنَّا وَالْحَرِّ مِنْهُمْ بِقَتْلِ الْعَبْدِ مِنَّا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ رَدًّا عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَوَابَ عَنْ الْأَطْرَافِ .
وَقَدْ أُجِيبَ بِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي الْأَطْرَافِ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْجُزْءِ الْمُبَانِ ، فَإِنَّهُ لَا تُقْطَعُ الْيَدُ الصَّحِيحَةُ بِالشَّلَّاءِ ، وَلَا
مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الرِّقَّ ثَابِتٌ فِي أَجْزَاءِ الْجِسْمِ ، بِخِلَافِ النُّفُوسِ فَإِنَّ الْقِصَاصَ فِيهَا يَعْتَمِدُهَا فِي الْعِصْمَةِ وَقَدْ تَسَاوَيَا فِيهَا عَلَى مَا مَرَّ .
قَالَ ( وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِيهِ سَوَاءٌ ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي ثُبُوتِ اقْتِصَاصِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ ، فَذَهَبَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إلَى عَدَمِهِ ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إلَى ثُبُوتِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ .
اسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا رَوَى أَبُو جُحَيْفَةَ قَالَ : { سَأَلْت عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ عِنْدَك مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَى الْقُرْآنِ ؟ قَالَ لَا ، وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إلَّا أَنْ يُعْطَى فَهْمًا فِي كِتَابِهِ وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ ، قُلْت : وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ ؟ قَالَ : الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ } .
وَبِأَنَّ الْقِصَاصَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي وَقْتِ الْجِنَايَةِ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِيهِ .
وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِوَقْتِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ الْقَاتِلَ إذَا كَانَ ذِمِّيًّا وَقْتَ الْقَتْلِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَبِأَنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ لِدَمِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } أَيْ فِتْنَةُ الْكُفْرِ فَيُورِثُ شُبْهَةَ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ .
وَلَنَا مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ } وَفِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ جَلَاءٌ لَا يُمَارَى .
وَرُدَّ بِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى ابْنِ السَّلْمَانِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ .
قَالَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ رَحِمَهُ اللَّهُ ابْنُ السَّلْمَانِيِّ حَدِيثُهُ مُنْكَرٌ ، رُوِيَ عَنْهُ رَبِيعَةُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَتَلَ مُسْلِمًا بِمُعَاهَدٍ } وَهُوَ مُرْسَلٌ مُنْكَرٌ .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : ابْنُ السَّلْمَانِيِّ لَا يَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ إذَا وَصَلَ فَكَيْفَ إذَا أَرْسَلَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الطَّعْنَ بِالْإِرْسَالِ وَالطَّعْنُ الْمُبْهَمُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ غَيْرُ مَقْبُولٍ ، وَقَدْ عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ( وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْعِصْمَةِ وَهِيَ ثَابِتَةٌ نَظَرًا إلَى التَّكْلِيفِ ) يَعْنِي عِنْدَهُ ( أَوْ الدَّارِ ) يَعْنِي عِنْدَنَا فَيَثْبُتُ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُبِيحُ كُفْرُ الْمُحَارِبِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَكَذَا الْكُفْرُ مُبِيحٌ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُطْلَقَ الْكُفْرِ مُبِيحٌ بَلْ الْمُبِيحُ كُفْرُ الْمُحَارِبِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } وَقَوْلُهُ وَالْقَتْلُ بِمِثْلِهِ لِدَفْعِ قَوْلِهِ فَيُورِثُ الشُّبْهَةُ : أَيْ قَتْلُ الذِّمِّيِّ بِالذِّمِّيِّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُفْرَ الذِّمِّيِّ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ إذْ لَوْ أَوْرَثَهَا لَمَا جَرَى الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَا يَجْرِي بَيْنَ الْحَرْبِيِّينَ .
فَإِنْ قِيلَ : يُورِثُ الشُّبْهَةَ إذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ .
قُلْنَا : فَيَكُونُ قَبْلَ قَتْلِهِ الْمُسْلِمَ مَعْصُومًا كَالْمُسْلِمِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ الْآثَارِ أَنَّ الَّذِي حَكَاهُ أَبُو جُحَيْفَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مُفْرَدًا ، وَلَوْ كَانَ مُفْرَدًا لَاحْتَمَلَ مَا قَالُوا وَلَكِنْ مَوْصُولًا بِغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ { وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ } وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ ( لِسِيَاقِهِ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ ) وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَطَفَ هَذَا عَلَى الْأَوَّلِ وَالْعَطْفُ لِلْمُغَايَرَةِ فَيَكُونُ كَلَامًا تَامًّا فِي نَفْسِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَدَائِهِ إلَى أَنْ لَا يُقْتَلَ ذُو عَهْدٍ مُدَّةَ عَهْدِهِ وَإِنْ قَتَلَ مُسْلِمًا
، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بِالْإِجْمَاعِ فَيُقَدَّرُ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِكَافٍ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْله تَعَالَى { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } ثُمَّ الْكَافِرُ الَّذِي لَا يُقْتَلُ بِهِ ذُو عَهْدٍ هُوَ الْحَرْبِيُّ فَيُقَدَّرُ بِكَافِرٍ حَرْبِيٍّ ، وَإِذْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ حَرْبِيٍّ يُقَدَّرُ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ ، وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ أَعَمَّ وَالْأَعَمُّ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْأَخَصِّ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ، فَمَا فَرَضْنَاهُ دَلِيلًا لَا يَكُونُ دَلِيلًا هَذَا خَلَفٌ بَاطِلٌ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا كَيْفِيَّةُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْحَرْبِيِّ حَتَّى صَحَّ نَفْيُهُ وَقَتْلُهُمْ وَاجِبٌ ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ جِهَتَيْنِ : أَحَدُهُمَا الْمُسْلِمُ دَخَلَ دَارَهُمْ بِأَمَانٍ فَقَتَلَ كَافِرًا حَرْبِيًّا فَهُوَ حَرَامٌ لَكِنْ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ .
وَالثَّانِي أَنْ يَقْتُلَ مَنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَعَارِكِ الْآرَاءِ لَا طَائِلَ تَحْتَ تَطْوِيلِهَا فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُقْتَلُ ) يَعْنِي الْمُسْلِمَ ( بِالْمُسْتَأْمَنِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْقُونِ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ ( وَلِأَنَّ كُفْرَهُ بَاعِثٌ عَلَى الْحِرَابِ لِأَنَّهُ عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ ) إلَى دَارِهِ فَكَانَ كَالْحَرْبِيِّ
( وَلَا يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْتَأْمَنِ ) لِمَا بَيَّنَّا( وَلَا يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْتَأْمَنِ لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّهُ لَيْسَ مَحْقُونَ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ .
وَقِيلَ هُوَ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ } وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ مِنْهُ مِثْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّا قَدَّرْنَا ذَلِكَ بِكَافِرٍ حَرْبِيٍّ إلَّا إذَا أُرِيدَ هُنَاكَ بِالْحَرْبِيِّ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْمَنًا أَوْ مُحَارِبًا وَهُوَ الْحَقُّ ، وَيُغْنِينَا عَنْ السُّؤَالِ عَنْ كَيْفِيَّةِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ الْحَرْبِيِّ وَالْجَوَابِ عَنْهُ .
وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ لِمَا بَيَّنَّا لِأَنَّ التَّقْدِيرَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ بِمَرْوِيٍّ وَإِنَّمَا هُوَ تَأْوِيلٌ فَلَمْ يَقُلْ لِمَا رَوَيْنَا
( وَيُقْتَلُ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْتَأْمَنِ ) قِيَاسًا لِلْمُسَاوَاةِ ، وَلَا يُقْتَلُ اسْتِحْسَانًا لِقِيَامِ الْمُبِيحِ
( وَيُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ ، وَالْكَبِيرُ بِالصَّغِيرِ ، وَالصَّحِيحُ بِالْأَعْمَى وَالزَّمِنُ وَبِنَاقِصِ الْأَطْرَافِ وَبِالْمَجْنُونِ ) لِلْعُمُومَاتِ ، وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ التَّفَاوُتِ فِيمَا وَرَاءَ الْعِصْمَةِ امْتِنَاعَ الْقِصَاصِ وَظُهُورَ التَّقَاتُلِ وَالتَّفَانِيوَقَوْلُهُ ( لِلْعُمُومَاتِ ) يَعْنِي الْآيَاتِ الدَّالَّةَ بِعُمُومِهَا عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ التَّفَاوُتِ إلَخْ ) يَصْلُحُ لِجَمِيعِ مَا خَالَفْنَا فِيهِ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ
قَالَ ( وَلَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِابْنِهِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ } وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ يُقَادُ إذَا ذَبَحَهُ ذَبْحًا ، وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِإِحْيَائِهِ ، فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُسْتَحَقَّ لَهُ إفْنَاؤُهُ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ ، وَإِنْ وَجَدَهُ فِي صَفِّ الْأَعْدَاءِ مُقَاتِلًا أَوْ زَانِيًا وَهُوَ مُحْصَنٌ ، وَالْقِصَاصُ يَسْتَحِقُّهُ الْمَقْتُولُ ثُمَّ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ ، وَالْجَدُّ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ أَوْ النِّسَاءِ ، وَإِنْ عَلَا فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ ، وَكَذَا الْوَالِدَةُ وَالْجَدَّةُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَوْ الْأُمِّ قَرُبَتْ أَوْ بَعُدَتْ لِمَا بَيَّنَّا ، وَيُقْتَلُ الْوَلَدُ بِالْوَالِدِ لِعَدَمِ الْمُسْقِطِ
قَالَ ( وَلَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِابْنِهِ إلَخْ ) لَا يُقْتَلُ الْإِنْسَانُ بِوَلَدِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ } وَهُوَ مَعْلُولٌ بِكَوْنِهِ سَبَبًا لِإِحْيَائِهِ وَهُوَ وَصْفٌ مُعَلَّلٌ ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ بِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَ وَالِدَهُ وَإِنْ وَجَدَهُ فِي صَفِّ الْأَعْدَاءِ مُقَاتِلًا أَوْ وَجَدَهُ زَانِيًا وَهُوَ مُحْصَنٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّى بِهِ الْحُكْمُ مِنْ الْوَالِدِ إلَى الْجَدِّ مُطْلَقًا وَإِلَى الْأُمِّ وَالْجَدَّاتِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُمْ أَسْبَابٌ لِإِحْيَائِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِإِفْنَائِهِمْ .
قَوْلُهُ ( وَالْقِصَاصُ يَسْتَحِقُّهُ الْمَقْتُولُ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْوَارِثُ يَسْتَحِقُّ إفْنَاءَهُ لَا الْوَلَدُ وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ ، وَلَوْ قَالَ فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَتَسَبَّبَ لِفَنَائِهِ لَاسْتَغْنَى عَنْ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ ذَبَحَهُ يُقَادُ بِهِ لِانْتِفَاءِ شُبْهَةِ الْخَطَأِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَمَاهُ بِسَيْفٍ أَوْ سِكِّينٍ فَإِنَّ فِيهِ تَوَهُّمَ التَّأْدِيبِ ، لِأَنَّ شَفَقَةَ الْأُبُوَّةِ تَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ نَوْعُ شُبْهَةٍ ، قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَنْ زَنَى بِابْنَتِهِ وَهُوَ مُحْصَنٌ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الرَّجْمَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ .
لَا يُقَالُ : فَيَجِبُ أَنْ يُحَدَّ إذَا زَنَى بِجَارِيَةِ ابْنِهِ ، لِأَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } صَارَ شُبْهَةً فِي الدَّرْءِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِإِحْيَائِهِ
قَالَ ( وَلَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِعَبْدِهِ وَلَا مُدَبَّرِهِ وَلَا مُكَاتَبِهِ وَلَا بِعَبْدِ وَلَدِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ لِنَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ الْقِصَاصَ وَلَا وَلَدِهِ عَلَيْهِ ، وَكَذَا لَا يُقْتَلُ بِعَبْدٍ مَلَكَ بَعْضَهُ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَتَجَزَّأُوَقَوْلُهُ ( وَلَا وَلَدُهُ ) بِالرَّفْعِ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي يَسْتَوْجِبُ ، وَجَازَ ذَلِكَ بِلَا تَأْكِيدٍ بِمُنْفَصِلٍ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ : يَعْنِي وَلَا يَسْتَوْجِبُ وَلَدُهُ عَلَى أَبِيهِ إذَا قَتَلَ الْأَبُ عَبْدَ وَلَدِهِ
قَالَ ( وَمَنْ وَرِثَ قِصَاصًا عَلَى أَبِيهِ سَقَطَ ) لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِوَقَوْلُهُ ( وَمَنْ وَرِثَ قِصَاصًا عَلَى أَبِيهِ ) مِثْلُ أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلُ أُمَّ ابْنِهِ مَثَلًا
قَالَ ( وَلَا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ إلَّا بِالسَّيْفِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ إنْ كَانَ فِعْلًا مَشْرُوعًا ، فَإِنْ مَاتَ وَإِلَّا تُحَزَّ رَقَبَتُهُ ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْقِصَاصِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ } وَالْمُرَادُ بِهِ السِّلَاحُ ، وَلِأَنَّ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ اسْتِيفَاءُ الزِّيَادَةِ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ بِمِثْلِ مَا فَعَلَ فَيُحَزُّ فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ كَمَا فِي كَسْرِ الْعَظْمِ
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ إلَّا بِالسَّيْفِ ) يَعْنِي إذَا وُجِدَ الْقَتْلُ الْمُوجَبُ لِلْقَوَدِ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِالسَّيْفِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ قَتْلٌ بِفِعْلٍ مَشْرُوعٍ مِثْلُ أَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ فَمَاتَ مِنْهُ فُعِلَ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَيُمْهَلُ مِثْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ فَإِنْ مَاتَ وَإِلَّا تُحَزُّ رَقَبَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ مَشْرُوعٍ كَأَنْ سَقَاهُ الْخَمْرَ حَتَّى قَتَلَهُ أَوْ لَاطَ بِصَغِيرٍ فَقَتَلَهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ ، لِأَنَّ مَبْنَى الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ وَذَلِكَ فِيمَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ فِيهِ مُسَاوَاةً فِي أَصْلِ الْوَصْفِ وَالْفِعْلِ الْمَقْصُودِ بِهِ ( وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ } وَهُوَ نَصٌّ عَلَى نَفْيِ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ بِغَيْرِهِ وَيَلْحَقُ بِهِ مَا كَانَ سِلَاحًا ) فَإِنْ قِيلَ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا قَوَدَ يَجِبُ إلَّا بِالسَّيْفِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْقَوَدَ اسْمٌ لِفِعْلٍ هُوَ جَزَاءُ الْفِعْلِ كَالْقِصَاصِ دُونَ مَا يَجِبُ شَرْعًا وَالْحَمْلُ عَلَيْهِ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ ، وَهَذَا مُخْتَارُ صَاحِبِ الْأَسْرَارِ .
فَخْرِ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدَّرَهُ بِلَا قَوَدٍ يَجِبُ إلَّا بِالسَّيْفِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي نَفْيِ الْقِصَاصِ عَنْ الْقَتْلِ بِالْمُثْقِلِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ يَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ عَنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ مَبْنَى الْقِصَاصِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ .
وَوَجْهُهُ لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ لِأَنَّ فِيهِ الزِّيَادَةَ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ بِمِثْلِ مَا فَعَلَ ، لِأَنَّ فِيهِ الْحَزَّ بَعْدَ فِعْلِ مِثْلِ مَا فَعَلَ بِهِ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَدَائِهِ إلَى انْتِفَاءِ الْقِصَاصِ فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ كَمَا فِي كَسْرِ الْعَظْمِ ، فَإِنَّ مَنْ كَسَرَ عَظْمَ إنْسَانٍ سِوَى السِّنِّ عَمْدًا فَإِنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ ، وَإِذَا جَازَ تَرْكُ الْقِصَاصِ كُلِّهِ عِنْدَ تَوَهُّمِ
الزِّيَادَةِ فَلَأَنْ يَجُوزَ تَرْكُ الْبَعْضِ أَوْلَى
قَالَ ( وَإِذَا قُتِلَ الْمُكَاتَبُ عَمْدًا وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ إلَّا الْمَوْلَى وَتَرَكَ وَفَاءً فَلَهُ الْقِصَاصُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا أَرَى فِي هَذَا قِصَاصًا ) ؛ لِأَنَّهُ اشْتَبَهَ سَبَبُ الِاسْتِيفَاءِ فَإِنَّهُ الْوَلَاءُ إنْ مَاتَ حُرًّا وَالْمِلْكُ إنْ مَاتَ عَبْدًا ، وَصَارَ كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْنِي هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِكَذَا ، وَقَالَ الْمَوْلَى زَوَّجْتُهَا مِنْك لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ كَذَا هَذَا وَلَهُمَا أَنَّ حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمَوْلَى بِيَقِينٍ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَهُوَ مَعْلُومٌ وَالْحُكْمُ مُتَّحِدٌ ، وَاخْتِلَافُ السَّبَبِ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَلَا إلَى اخْتِلَافِ حُكْمٍ فَلَا يُبَالَى بِهِ ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ مِلْكِ الْيَمِينِ يُغَايِرُ حُكْمَ النِّكَاحِ ( وَلَوْ تَرَكَ وَفَاءً وَلَهُ وَارِثٌ غَيْرُ الْمَوْلَى فَلَا قِصَاصَ ، وَإِنْ اجْتَمَعُوا مَعَ الْمَوْلَى ) ؛ لِأَنَّهُ اشْتَبَهَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ؛ لِأَنَّهُ الْمَوْلَى إنْ مَاتَ عَبْدًا ، وَالْوَارِثُ إنْ مَاتَ حُرًّا إذْ ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي مَوْتِهِ عَلَى نَعْتِ الْحُرِّيَّةِ أَوْ الرِّقِّ ، بِخِلَافِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُتَعَيَّنٌ فِيهَا ( وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَلَهُ وَرَثَةٌ أَحْرَارٌ وَجَبَ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا بِلَا رَيْبٍ لِانْفِسَاخِ الْكِتَابَةِ ، بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ إذَا مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْبَعْضِ لَا يَنْفَسِخُ بِالْعَجْزِ
قَالَ ( وَإِذْ قَتَلَ الْمُكَاتَبُ عَمْدًا وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ إلَى الْمَوْلَى إلَخْ ) إذَا قَتَلَ الْمُكَاتَبُ عَمْدًا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَرَكَ وَفَاءً أَوْ لَمْ يَتْرُكْ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُ الْمَوْلَى أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلِلْمَوْلَى الْقِصَاصُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا أَرَى فِي هَذَا قِصَاصًا .
وَاسْتَدَلَّ بِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَكَأَنَّهُ حَامَ حَوْلَ الدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ وَلَهُمَا أَنَّ حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمَوْلَى بِيَقِينٍ إلَخْ ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَفْيُ اعْتِبَارِ مِثْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ لِانْحِطَاطِهَا عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ ، لِأَنَّ السَّبَبَيْنِ إذَا رَجَعَا إلَى شَخْصٍ وَحُكْمُهُمَا لَمْ يَخْتَلِفْ صَارَا كَسَبَبٍ وَاحِدٍ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ .
وَأَمَّا إذَا رَجَعَا إلَى شَخْصَيْنِ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُ الْمَوْلَى وَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا كَالْمَسْأَلَةِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا قِصَاصَ وَإِنْ اجْتَمَعُوا لِوُجُودِ الِاشْتِبَاهِ عَلَى مَا ذُكِرَ ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اخْتَلَفُوا فِي مَوْتِهِ عَلَى نَعْتِ الْحُرِّيَّةِ أَوْ الرِّقِّ ، فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَمُوتُ حُرًّا إذَا أُدِّيَتْ كِتَابَتُهُ فَيَكُونُ الِاسْتِيفَاءُ لِوَرَثَتِهِ ، وَعَلَى قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَمُوتُ عَبْدًا فَيَكُونُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِلْمَوْلَى ( بِخِلَافِ الْأُولَى فَإِنَّ الْمَوْلَى مُتَعَيِّنٌ فِيهَا ) وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَوَاضِحٌ كَمَا ذُكِرَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَلَا وَارِثَ لَهُ أَوْ لَهُ وَرَثَةٌ أَرِقَّاءُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي ذِكْرِهِ ، لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ إذَا مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً ) يَعْنِي لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِأَنَّ مِلْكَ
الْمَوْلَى لَا يَعُودُ بِمَوْتِهِ وَلَا يَنْفَسِخُ بِالْعَجْزِ مَا عَتَقَ مِنْهُ
( وَإِذَا قُتِلَ عَبْدُ الرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ حَتَّى يَجْتَمِعَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ ) ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا مِلْكَ لَهُ فَلَا يَلِيهِ ، وَالرَّاهِنُ لَوْ تَوَلَّاهُ لَبَطَل حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فِي الدَّيْنِ فَيُشْتَرَطُ اجْتِمَاعُهُمَا لِيَسْقُطَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ بِرِضَاهُ
قَالَ ( وَإِذَا قُتِلَ وَلِيُّ الْمَعْتُوهِ فَلِأَبِيهِ أَنْ يَقْتُلَ ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْوِلَايَةِ عَلَى النَّفْسِ شُرِعَ لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إلَيْهَا وَهُوَ تَشَفِّي الصَّدْرِ فَيَلِيهِ كَالْإِنْكَاحِ ( وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ ) ؛ لِأَنَّهُ أَنْظَرُ فِي حَقِّ الْمَعْتُوهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّهِ ( وَكَذَلِكَ إنْ قُطِعَتْ يَدُ الْمَعْتُوهِ عَمْدًا ) لِمَا ذَكَرْنَا ( وَالْوَصِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْتُلُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى نَفْسِهِ وَهَذَا مِنْ قَبِيلِهِ ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا الْإِطْلَاقِ الصُّلْحُ عَنْ النَّفْسِ وَاسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ فَإِنَّهُ لَمْ يُسْتَثْنَ إلَّا الْقَتْلُ وَفِي كِتَابِ الصُّلْحِ أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَمْلِكُ الصُّلْحَ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي النَّفْسِ بِالِاعْتِيَاضِ عَنْهُ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الِاسْتِيفَاءِ وَوَجْهُ الْمَذْكُورِ هَاهُنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الصُّلْحِ الْمَالُ وَأَنَّهُ يَجِبُ بِعَقْدِهِ كَمَا يَجِبُ بِعَقْدِ الْأَبِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّشَفِّي وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْأَبِ وَلَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَا يَمْلِكُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِبْطَالِ فَهُوَ أَوْلَى وَقَالُوا الْقِيَاسُ أَلَّا يَمْلِكَ الْوَصِيُّ الِاسْتِيفَاءَ فِي الطَّرَفِ كَمَا لَا يَمْلِكُهُ فِي النَّفْسِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مُتَّحِدٌ وَهُوَ التَّشَفِّي وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَمْلِكُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فَإِنَّهَا خُلِقَتْ وِقَايَةً لِلْأَنْفُسِ كَالْمَالِ عَلَى مَا عُرِفَ فَكَانَ اسْتِيفَاؤُهُ بِمَنْزِلَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ ، وَالصَّبِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْتُوهِ فِي هَذَا ، وَالْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي الصَّحِيحِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قُتِلَ وَلَا وَلِيَّ لَهُ يَسْتَوْفِيهِ السُّلْطَانُ ، وَالْقَاضِي بِمَنْزِلَتِهِ فِيهِ
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا قَتَلَ وَلِيُّ الْمَعْتُوهِ ) يَعْنِي ابْنَهُ ( فَلِأَبِيهِ ) وَهُوَ جَدُّ الْمَقْتُولِ الِاسْتِيفَاءُ ( لِأَنَّهُ مِنْ ) بَابِ ( الْوِلَايَةِ عَلَى النَّفْسِ شُرِعَ لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إلَيْهَا ) أَيْ إلَى النَّفْسِ ( وَهُوَ تَشَفِّي الصَّدْرِ فَيَلِيهِ كَالْإِنْكَاحِ ) وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ الْإِنْكَاحَ مَلَكَ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ كَالْأَخِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الْإِنْكَاحَ دُونَ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِلتَّشَفِّي وَلِلْأَبِ شَفَقَةٌ كَامِلَةٌ يُعَدُّ ضَرَرُ الْوَلَدِ ضَرَرَ نَفْسِهِ فَجُعِلَ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ التَّشَفِّي كَالْحَاصِلِ لِلِابْنِ بِخِلَافِ الْأَخِ ( وَلَهُ ) أَيْ لِوَلِيِّ الْمَعْتُوهِ ( أَنْ يُصَالِحَ ) لَكِنْ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ ، فَإِنْ نَقَصَ يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ أَنْظَرُ فِي حَقِّ الْمَعْتُوهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مِنْ الْوِلَايَةِ عَلَى النَّفْسِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى نَفْسِهِ ) أَيْ نَفْسِ الْمَعْتُوهِ ( وَهَذَا ) أَيْ الِاسْتِيفَاءُ ( مِنْ قَبِيلِهِ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا الْإِطْلَاقِ ) يُرِيدُ قَوْلَهُ وَالْوَصِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( إنَّ الْوَصِيَّ لَا يَمْلِكُ الصُّلْحَ ) يَعْنِي عَنْ النَّفْسِ ، وَأَمَّا عَمَّا دُونَهَا فَيَمْلِكُهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَنَّهُ ) أَيْ الْمَالُ يَجِبُ بِعَقْدِهِ أَيْ بِعَقْدِ الْوَصِيِّ
قَالَ ( وَمَنْ قُتِلَ وَلَهُ أَوْلِيَاءٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ فَلِلْكِبَارِ أَنْ يَقْتُلُوا الْقَاتِلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى يُدْرِكَ الصِّغَارُ ) ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْبَعْضِ لِعَدَمِ التَّجَزِّي ، وَفِي اسْتِيفَائِهِمْ الْكُلَّ إبْطَالُ حَقِّ الصِّغَارِ فَيُؤَخَّرُ إلَى إدْرَاكِهِمْ كَمَا إذَا كَانَ بَيْنَ الْكَبِيرَيْنِ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ أَوْ كَانَ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ وَلَهُ أَنَّهُ حَقٌّ لَا يَتَجَزَّأُ لِثُبُوتِهِ بِسَبَبٍ لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ الْقَرَابَةُ ، وَاحْتِمَالُ الْعَفْوِ مِنْ الصَّغِيرِ مُنْقَطِعٌ فَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَلًا كَمَا فِي وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ ، بِخِلَافِ الْكَبِيرَيْنِ ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْعَفْوِ مِنْ الْغَائِبِ ثَابِتٌ وَمَسْأَلَةُ الْمَوْلَيَيْنِ مَمْنُوعَةٌ
قَالَ ( وَمَنْ قُتِلَ وَلَهُ أَوْلِيَاءٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ إلَخْ ) إذَا كَانَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ صِغَارًا وَكِبَارًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ الْأَبُ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ فَلَهُمْ الِاسْتِيفَاءُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا : لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى يُدْرِكَ الصِّغَارُ وَوَجْهُهُمَا ظَاهِرٌ عَلَى مَا ذُكِرَ .
وَوَجْهُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الصِّغَارِ وَالْغُيَّبِ مِنْ حَيْثُ احْتِمَالُ الْعَفْوِ فِي الْحَالِ وَعَدَمِهِ ، فَإِنَّهُ فِي الْغَائِبِ مَوْهُومٌ فَالِاسْتِيفَاءُ يَقَعُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ ، وَفِي الصَّغِيرِ مَأْيُوسٌ حَالَ الِاسْتِيفَاءِ فَانْتَفَى الشُّبْهَةُ ، وَإِذَا انْتَفَى الشُّبْهَةُ وَهُوَ حَقٌّ لَا يَتَجَزَّى لِثُبُوتِهِ بِسَبَبٍ لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ الْقَرَابَةُ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ كَمَلًا كَالْوِلَايَةِ فِي الْإِنْكَاحِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا ، كَمَا لَوْ تَعَدَّدَ الْقَتِيلُ وَعَفَا أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنَّ لِغَيْرِهِ وِلَايَةَ اسْتِيفَاءِ قِصَاصِ قَتِيلِهِ لَا مَحَالَةَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ ، فَلَوْ لَمْ يَسْقُطْ كَانَ ثَابِتًا سَاقِطًا وَهُوَ مُحَالٌ فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَيَنْقَلِبُ مَالًا نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَعَدَّدَ الْقَتِيلُ فَإِنَّ الْحَقَّ ثَمَّةَ مُتَعَدِّدٌ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ بَعْضٍ سُقُوطُ غَيْرِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَسْأَلَةُ الْمَوْلَيَيْنِ مَمْنُوعَةٌ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ أَوْ كَانَ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ ، وَسَنَدُ مَنْعِهِ مَا ذُكِرَ فِي الْأَسْرَارِ لَا رِوَايَةَ فِي عَبْدٍ أَعْتَقَهُ رَجُلَانِ ثُمَّ قَتَلَ أَوْ قُتِلَ وَلَهُ مَوْلَيَانِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَنْفَرِدُ بِالِاسْتِيفَاءِ ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَأَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ إنَّمَا لَمْ يَنْفَرِدْ بِالِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَكْمُلْ فِي حَقِّهِ ، لِأَنَّ بَعْضَ الْمِلْكِ وَبَعْضَ الْوَلَاءِ
لَيْسَ بِسَبَبٍ أَصْلًا فَكَانَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ ، وَالْوَاحِدُ مِنْهُمَا كَنِصْفِ رَجُلٍ وَشَطْرِ عِلَّةٍ
قَالَ ( وَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا بِمَرٍّ فَقَتَلَهُ ، فَإِنْ أَصَابَهُ بِالْحَدِيدِ قُتِلَ بِهِ وَإِنْ أَصَابَهُ بِالْعُودِ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا إذَا أَصَابَهُ بِحَدِّ الْحَدِيدِ لِوُجُودِ الْجُرْحِ فَكَمُلَ السَّبَبُ ، وَإِنْ أَصَابَهُ بِظَهْرِ الْحَدِيدِ فَعِنْدَهُمَا يَجِبُ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا مِنْهُ لِلْآلَةِ ، وَهُوَ الْحَدِيدُ وَعَنْهُ إنَّمَا يَجِبُ إذَا جَرَحَ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعَلَى هَذَا الضَّرْبُ بِسِنْجَاتِ الْمِيزَانِ ؛ وَأَمَّا إذَا ضَرَبَهُ بِالْعُودِ فَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ لِوُجُودِ قَتْلِ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ وَامْتِنَاعِ الْقِصَاصِ حَتَّى لَا يُهْدَرَ الدَّمُ ، ثُمَّ قِيلَ : هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَصَا الْكَبِيرَةِ فَيَكُونُ قَتْلًا بِالْمُثْقَلِ ، وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا نُبَيِّنُ ، وَقِيلَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّوْطِ ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْمُوَالَاةِ لَهُ أَنَّ الْمُوَالَاةَ فِي الضَّرَبَاتِ إلَى أَنْ مَاتَ دَلِيلُ الْعَمْدِيَّةِ فَيَتَحَقَّقُ الْمُوجِبُ وَلَنَا مَا رَوَيْنَا { أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ } وَيُرْوَى " شِبْهِ الْعَمْدِ " الْحَدِيثَ وَلِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ عَدَمِ الْعَمْدِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلتَّأْدِيبِ أَوْ لَعَلَّهُ اعْتَرَاهُ الْقَصْدُ فِي خِلَالِ الضَّرَبَاتِ فَيَعْرَى أَوَّلُ الْفِعْلِ عَنْهُ وَعَسَاهُ أَصَابَ الْمَقْتَلَ ، وَالشُّبْهَةُ دَارِئَةٌ لِلْقَوَدِ فَوَجَبَ الدِّيَةُوَقَوْلُهُ ( وَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا بِمَرٍّ إلَخْ ) وَاضِحٌ
قَالَ ( وَمَنْ غَرَّقَ صَبِيًّا أَوْ بَالِغًا فِي الْبَحْرِ فَلَا قِصَاصَ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ : يُقْتَصُّ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، غَيْرَ أَنَّ عِنْدَهُمَا يُسْتَوْفَى حَزًّا وَعِنْدَهُ يُغَرَّقُ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ لَهُمْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ } وَلِأَنَّ الْآلَةَ قَاتِلَةٌ فَاسْتِعْمَالُهَا أَمَارَةُ الْعَمْدِيَّةِ ، وَلَا مِرَاءَ فِي الْعِصْمَةِ وَلَهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا } وَفِيهِ { وَفِي كُلِّ خَطَإٍ أَرْشٌ } ؛ لِأَنَّ الْآلَةَ غَيْرُ مُعَدَّةٍ لِلْقَتْلِ ، وَلَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِيهِ لِتَعَذُّرِ اسْتِعْمَالِهِ فَتَمَكَّنَتْ شُبْهَةُ عَدَمِ الْعَمْدِيَّةِ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ يُنْبِئُ عَنْ الْمُمَاثَلَةِ ، وَمِنْهُ يُقَالُ : اقْتَصَّ أَثَرَهُ ، وَمِنْهُ الْقُصَّةُ لِلْجَلَمَيْنِ ، وَلَا تَمَاثُلَ بَيْنَ الْجَرْحِ وَالدَّقِّ لِقُصُورِ الثَّانِي عَنْ تَخْرِيبِ الظَّاهِرِ ، وَكَذَا لَا يَتَمَاثَلَانِ فِي حِكْمَةِ الزَّجْرِ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بِالسِّلَاحِ غَالِبٌ وَبِالْمُثْقَلِ نَادِرٌ ، وَمَا رَوَاهُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ ، وَقَدْ أَوْمَتْ إلَيْهِ إضَافَتُهُ إلَى نَفْسِهِ فِيهِ وَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ وَجَبَتْ الدِّيَةُ ، وَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَاخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْكَفَّارَةِ .
وَكَذَا قَوْلُهُ وَمَنْ غَرَّقَ صَبِيًّا ) وَ ( كَمَا بَيَّنَّاهُ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ يُفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ إنْ كَانَ فِعْلًا مَشْرُوعًا .
وَقَوْلُهُ ( لَهُمْ ) أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، لَكِنَّ اسْتِدْلَالَ الشَّافِعِيِّ بِالْحَدِيثِ وَاسْتِدْلَالهمَا بِالْمَعْقُولِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا مِرَاءَ فِي الْعِصْمَةِ ) أَيْ لَا شَكَّ فِيهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَمِنْهُ الْمَقَصَّةُ لِلْجَلَمَيْنِ ) الْجَلَمُ الَّذِي يُجَزُّ بِهِ وَهُمَا جَلَمَانِ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا رَوَاهُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ ) لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ التَّحْرِيقُ بِالتَّحْرِيقِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُعَذِّبُوا أَحَدًا بِعَذَابِ اللَّهِ } ( أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ وَقَدْ أَوْمَتْ ) أَيْ أَشَارَتْ ( إلَيْهِ ) أَيْ إلَى كَوْنِهِ مَحْمُولًا عَلَى السِّيَاسَةِ ( إضَافَتُهُ إلَى نَفْسِهِ ) حَيْثُ قَالَ غَرَّقْنَا وَلَمْ يَقُلْ غَرِّقُوهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَاخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ ) مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الْكَفَّارَةِ ) خَيَّرَهُ : يَعْنِي أَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا كَانَ فِي الْكَفَّارَةِ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنْ لَا كَفَّارَةَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ ، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّ فِيهِ الْكَفَّارَةَ عِنْدَهُ ، وَأَمَّا الدِّيَةُ فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ
قَالَ ( وَمَنْ جَرَحَ رَجُلًا عَمْدًا فَلَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ ) لِوُجُودِ السَّبَبِ وَعَدَمِ مَا يُبْطِلُ حُكْمَهُ فِي الظَّاهِرِ فَأُضِيفَ إلَيْهِوَقَوْلُهُ ( لِوُجُودِ السَّبَبِ ) يَعْنِي سَفْكَ دَمٍ مَحْقُونٍ عَلَى التَّأْبِيدِ عَمْدًا ( وَعَدَمُ مَا يُبْطِلُ حُكْمَهُ ) يَعْنِي مِنْ عَفْوٍ أَوْ شُبْهَةٍ
قَالَ ( وَإِذَا الْتَقَى الصَّفَّانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَقَتَلَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا ظَنَّ أَنَّهُ مُشْرِكٌ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ) ؛ لِأَنَّ هَذَا أَحَدُ نَوْعَيْ الْخَطَإِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَالْخَطَأُ بِنَوْعَيْهِ لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ وَيُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ، وَكَذَا الدِّيَةُ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ نَصُّ الْكِتَابِ { وَلَمَّا اخْتَلَفَتْ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْيَمَانِ أَبِي حُذَيْفَةَ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالدِّيَةِ } قَالُوا : إنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ إذَا كَانُوا مُخْتَلَطِينَ ، فَإِنْ كَانَ فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ لَا تَجِبُ لِسُقُوطِ عِصْمَتِهِ بِتَكْثِيرِ سَوَادِهِمْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ }وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا الْتَقَى الصَّفَّانِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( أَحَدُ نَوْعَيْ الْخَطَأِ ) يُرِيدُ بِهِ الْخَطَأَ فِي الْقَصْدِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا الدِّيَةُ ) مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى الْكَفَّارَةِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً } الْآيَةَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَمَّا اخْتَلَفَتْ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ ) أَيْ تَوَالَتْ رَوَى { أَنَّ سُيُوفَ الْمُسْلِمِينَ تَوَالَتْ عَلَى الْيَمَانِ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِيِ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ فَقَتَلُوهُ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مُشْرِكٌ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدِّيَةِ فَوَهَبَهَا لَهُمْ حُذَيْفَةُ }
قَالَ ( وَمَنْ شَجَّ نَفْسَهُ وَشَجَّهُ رَجُلٌ وَعَقَرَهُ أَسَدٌ وَأَصَابَتْهُ حَيَّةٌ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ ثُلُثُ الدِّيَةِ ) ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْأَسَدِ وَالْحَيَّةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ لِكَوْنِهِ هَدَرًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَفِعْلُهُ بِنَفْسِهِ هَدَرٌ فِي الدُّنْيَا مُعْتَبَرٌ فِي الْآخِرَةِ حَتَّى يَأْثَمَ عَلَيْهِ وَفِي النَّوَادِرِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَفِي شَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ ذَكَرَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ عَلَى مَا كَتَبْنَاهُ فِي كِتَابِ التَّجْنِيسِ وَالْمَزِيدِ فَلَمْ يَكُنْ هَدَرًا مُطْلَقًا وَكَانَ جِنْسًا آخَرَ ، وَفِعْلُ الْأَجْنَبِيِّ مُعْتَبَرٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَصَارَتْ ثَلَاثَةَ أَجْنَاسٍ فَكَأَنَّ النَّفْسَ تَلِفَتْ بِثَلَاثَةِ أَفْعَالٍ فَيَكُونُ التَّالِفُ بِفِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُوَقَوْلُهُ ( وَمَنْ شَجَّ نَفْسَهُ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِعْلُهُ بِنَفْسِهِ هَدَرٌ فِي الدُّنْيَا ) يَعْنِي فَلَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الضَّمَانِ لِمَكَانِ الِاسْتِحَالَةِ وَالتَّنَافِي .
وَقَوْلُهُ ( يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ) أَثَرُ كَوْنِ فِعْلِهِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ صَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ بِمَرَضٍ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ فِي نَفْسِهِ وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ) لِأَنَّ جِنَايَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرَةٌ فَصَارَ كَالْبَاغِي .
وَقَوْلُهُ ( فَلَمْ يَكُنْ هَدَرًا مُطْلَقًا ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ هَدَرٌ فِي الدُّنْيَا مُعْتَبَرٌ فِي الْآخِرَةِ وَالْبَاقِي وَاضِحٌ
قَالَ ( وَمَنْ شَهَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ سَيْفًا فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ شَهَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ سَيْفًا فَقَدْ أَطَلَّ دَمَهُ } وَلِأَنَّهُ بَاغٍ فَتَسْقُطُ عِصْمَتُهُ بِبَغْيِهِ ، وَلِأَنَّهُ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِدَفْعِ الْقَتْلِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَهُ قَتْلُهُ وَقَوْلُهُ فَعَلَيْهِمْ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَحَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْتُلُوهُ إشَارَةٌ إلَى الْوُجُوبِ ، وَالْمَعْنَى وُجُوبُ دَفْعِ الضَّرَرِ وَفِي سَرِقَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَمَنْ شَهَرَ عَلَى رَجُلٍ سِلَاحًا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا أَوْ شَهَرَ عَلَيْهِ عَصًا لَيْلًا فِي مِصْرٍ أَوْ نَهَارًا فِي طَرِيقٍ فِي غَيْرِ مِصْرٍ فَقَتَلَهُ الْمَشْهُورُ عَلَيْهِ عَمْدًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ السِّلَاحَ لَا يَلْبَثُ فَيَحْتَاجُ إلَى دَفْعِهِ بِالْقَتْلِ وَالْعَصَا الصَّغِيرَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ تَلْبَثُ وَلَكِنْ فِي اللَّيْلِ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ فَيُضْطَرُّ إلَى دَفْعِهِ بِالْقَتْلِ ، وَكَذَا فِي النَّهَارِ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ فِي الطَّرِيقِ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ فَإِذَا قَتَلَهُ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا قَالُوا : فَإِنْ كَانَ عَصًا لَا تَلْبَثُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِثْلَ السِّلَاحِ عِنْدَهُمَافَصْلٌ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْمَسَائِلِ الَّتِي تُوجِبُ الْقِصَاصَ أَلْحَقَ بِهَا فَصْلًا يَشْتَمِلُ عَلَى الْمَسَائِلِ الَّتِي لَهَا عَرْضِيَّةُ إيجَابِ الْقِصَاصِ وَهِيَ كُلُّهَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( أُطِلَّ دَمُهُ ) أَيْ أُهْدِرَ ، وَقَوْلُهُ ( وَالْمَعْنَى ) أَيْ وَمَعْنَى الْوُجُوبِ ( دَفْعُ الضَّرَرِ ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ دَفْعُ الشَّرِّ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ لَا عَيْنُ الْقَتْلِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْحَدِيثِ وَالْمَعْقُولِ
قَالَ ( وَإِنْ شَهَرَ الْمَجْنُونُ عَلَى غَيْرِهِ سِلَاحًا فَقَتَلَهُ الْمَشْهُورُ عَلَيْهِ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيُّ وَالدَّابَّةُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ فِي الدَّابَّةِ وَلَا يَجِبُ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَتَلَهُ دَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ فَيُعْتَبَرُ بِالْبَالِغِ الشَّاهِرِ ، وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ مَحْمُولًا عَلَى قَتْلِهِ بِفِعْلِهِ فَأَشْبَهَ الْمُكْرَهَ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ فِعْلَ الدَّابَّةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَصْلًا حَتَّى لَوْ تَحَقَّقَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ أَمَّا فِعْلُهُمَا مُعْتَبَرٌ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى لَوْ حَقَّقْنَاهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الضَّمَانُ ، وَكَذَا عِصْمَتُهُمَا لِحَقِّهِمَا وَعِصْمَةُ الدَّابَّةِ لِحَقِّ مَالِكِهَا فَكَانَ فِعْلُهُمَا مُسْقِطًا لِلْعِصْمَةِ دُونَ فِعْلِ الدَّابَّةِ ، وَلَنَا أَنَّهُ قَتَلَ شَخْصًا مَعْصُومًا أَوْ أَتْلَفَ مَالًا مَعْصُومًا حَقًّا لِلْمَالِكِ وَفِعْلُ الدَّابَّةِ لَا يَصْلُحُ مُسْقِطًا وَكَذَا فِعْلُهُمَا ، وَإِنْ كَانَتْ عِصْمَتُهُمَا حَقَّهُمَا لِعَدَمِ اخْتِيَارٍ صَحِيحٍ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِتَحَقُّقِ الْفِعْلِ مِنْهُمَا ، بِخِلَافِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ ؛ لِأَنَّ لَهُ اخْتِيَارًا صَحِيحًا ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِوُجُودِ الْمُبِيحِ وَهُوَ دَفْعُ الشَّرِّ فَتَجِبُ الدِّيَةُوَقَوْلُهُ ( وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيُّ وَالدَّابَّةُ ) يَعْنِي إذَا صَالَا عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ عَمْدًا يَضْمَنُ الدِّيَةَ وَالْقِيمَةَ .
وَقَوْلُهُ ( فَأَشْبَهَ الْمُكْرَهَ ) يَعْنِي أَنَّ الْمُكْرَهَ لَمَّا صَارَ مَسْلُوبَ الِاخْتِيَارِ مِنْ جِهَةِ الْمُكْرِهِ أُضِيفَ التَّلَفُ إلَى الْمُكْرِهِ فَكَذَلِكَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ فَأَشْبَهَ الْمُكْرَهَ يَعُودُ عَلَى الْمُكْرِهِ فَيَقْتُلُهُ .
قَالَ ( وَمَنْ شَهَرَ عَلَى غَيْرِهِ سِلَاحًا فِي الْمِصْرِ فَضَرَبَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ الْآخَرُ فَعَلَى الْقَاتِلِ الْقِصَاصُ ) مَعْنَاهُ : إذَا ضَرَبَهُ فَانْصَرَفَ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحَارِبًا بِالِانْصِرَافِ فَعَادَتْ عِصْمَتُهُ
قَالَ ( وَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ لَيْلًا وَأَخْرَجَ السَّرِقَةَ فَاتَّبَعَهُ وَقَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَاتِلْ دُونَ مَالِك } وَلِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْقَتْلُ دَفْعًا فِي الِابْتِدَاءِ فَكَذَا اسْتِرْدَادًا فِي الِانْتِهَاءِ ، وَتَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ إلَّا بِالْقَتْلِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .وَقَوْلُهُ ( قَاتِلْ دُونَ مَالِك ) أَيْ لِأَجْلِ مَالِك .
وَقَوْلُهُ ( فَكَذَا اسْتِرْدَادًا فِي الِانْتِهَاءِ ) لِأَنَّهُ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ : ( وَمَنْ قَطَعَ يَدَ غَيْرِهِ عَمْدًا مِنْ الْمِفْصَلِ قُطِعَتْ يَدُهُ وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ أَكْبَرَ مِنْ الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } وَهُوَ يُنْبِئُ عَنْ الْمُمَاثَلَةِ ، فَكُلُّ مَا أَمْكَنَ رِعَايَتُهَا فِيهِ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَمَا لَا فَلَا ، وَقَدْ أَمْكَنَ فِي الْقَطْعِ مِنْ الْمِفْصَلِ فَاعْتُبِرَ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِكِبَرِ الْيَدِ وَصِغَرِهَا لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْيَدِ لَا تَخْتَلِفُ بِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الرِّجْلُ وَمَارِنُ الْأَنْفِ وَالْأُذُنُ لِإِمْكَانِ رِعَايَةِ الْمُمَاثَلَةِ .بَابُ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ أَتْبَعَهُ بِمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّبَعِ وَهُوَ الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ قَوْلُهُ ( وَلَا مُعْتَبَرَ بِكِبَرِ الْيَدِ وَصِغَرِهَا ) لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْيَدِ وَهُوَ الْبَطْشِ لَا يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ وَلَا تَرِدُ الشَّجَّةُ الْمُوضِحَةُ إذَا أَخَذَتْ مَا بَيْنِ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ وَلَمْ تَأْخُذْهُ مِنْ الشَّاجِّ لِكِبَرِ رَأْسِهِ فَإِنَّ الْكِبَرَ قَدْ اُعْتُبِرَ وَخُيِّرَ الْمَشْجُوجِ بَيْنِ الْقِصَاصِ بِمِقْدَارِ شَجَّتِهِ وَبَيْنِ أَخْذِهِ أَرْشَ الْمُوضِحَةِ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الشَّيْنُ ، وَفِي الِاقْتِصَاصِ بِمِقْدَارِهَا يَقِلُّ شَيْنُ الشَّاجِّ وَيَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْهِ بِالشَّجَّةِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ فَانْتَفَى الْمُمَاثَلَةُ الْوَاجِبَةُ فِي الْقِصَاصِ صُورَةً وَمَعْنًى ، فَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَاهُ مَعْنًى وَهُوَ مِقْدَارُ شَجَّتِهِ وَيَتْرُكُ الصُّورَةَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَرْشَهَا .
قَالَ : ( وَمَنْ ضَرَبَ عَيْنَ رَجُلٍ فَقَلَعَهَا لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ ) لِامْتِنَاعِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَلْعِ ، وَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً فَذَهَبَ ضَوْءُهَا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِإِمْكَانِ الْمُمَاثَلَةِ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ : تُحْمَى لَهُ الْمِرْآةُ وَيُجْعَلُ عَلَى وَجْهِهِ قُطْنٌ رَطْبٌ وَتُقَابَلُ عَيْنُهُ بِالْمِرْآةِ فَيَذْهَبُ ضَوْءُهَا ، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْوَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ ، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
رُوِيَ أَنَّ هَذَا حَدَثَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَأَلَ عَنْهُ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِيهِ شَيْءٌ حَتَّى جَاءَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَضَى بِذَلِكَ وَعَمِلَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
قَالَ : ( وَفِي السِّنِّ الْقِصَاصُ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ } ( وَإِنْ كَانَ سِنُّ مَنْ يُقْتَصُّ مِنْهُ أَكْبَرَ مِنْ سِنِّ الْآخَرِ ) لِأَنَّ مَنْفَعَةَ السِّنِّ لَا تَتَفَاوَتُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ .
قَالَ : ( وَفِي كُلِّ شَجَّةٍ تَتَحَقَّقُ فِيهَا الْمُمَاثَلَةُ الْقِصَاصُ ) لِمَا تَلَوْنَا .
قَالَ ( وَلَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ إلَّا فِي السِّنِّ ) وَهَذَا اللَّفْظُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ } وَالْمُرَادُ غَيْرُ السِّنِّ ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمُمَاثَلَةِ فِي غَيْرِ السِّنِّ مُتَعَذِّرٌ لِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ، بِخِلَافِ السِّنِّ لِأَنَّهُ يُبْرَدُ بِالْمِبْرَدِ ، وَلَوْ قَلَعَ مِنْ أَصْلِهِ يُقْلَعُ الثَّانِي فَيَتَمَاثَلَانِ .قَوْلُهُ ( لِمَا تَلَوْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْله تَعَالَى { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لِمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَهُوَ يُنْبِئُ عَنْ الْمُمَاثَلَةِ ، وَقَوْلُهُ ( وَلَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ إلَّا فِي السِّنِّ ، وَهَذَا اللَّفْظُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) فَإِنْ كَانَ السِّنُّ عَظْمًا فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ وَلَا بُدَّ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنْ الْعِظَامِ وَهُوَ إمْكَانُ الْقِصَاصِ فِيهَا بِأَنْ يُبْرَدَ بِالْمِبْرَدِ بِقَدْرِ مَا كُسِرَ مِنْهَا أَوْ إلَى أَصْلِهَا إنْ قَلَعَهَا وَلَا يُقْلَعُ لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ فَرُبَّمَا تَفْسُدُ بِهِ لِثَاتُهُ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَظْمٍ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ } حَيْثُ لَمْ يُسْتَثْنَ السِّنُّ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْأَطِبَّاءُ فِي ذَلِكَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ طَرَفُ عَصَبٍ يَابِسٍ لِأَنَّهُ يَحْدُثُ وَيَنْمُو بَعْدَ تَمَامِ الْخِلْقَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ عَظْمٌ وَكَأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ عَظْمٌ حَتَّى قَالَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ غَيْرُ السِّنِّ .
قَالَ : ( وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ إنَّمَا هُوَ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ ) لِأَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ يَعُودُ إلَى الْآلَةِ ، وَالْقَتْلُ هُوَ الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهَا دُونَ مَا دُونَ النَّفْسِ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ إتْلَافُهُ بِاخْتِلَافِ الْآلَةِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ .وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ ) قَدْ ذَكَرَهُ مَرَّةً ، لَكِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ هُنَاكَ أَنَّهُ عَمْدٌ وَهَاهُنَا أَنَّهُ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إنْ أَمْكَنَ الْقِصَاصُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ إذَا حَصَلَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَأَمْكَنَ الْقِصَاصُ جُعِلَ عَمْدًا .
رُوِيَ { أَنَّ الرُّبَيِّعَ عَمَّةَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ بِلَطْمَةٍ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ } وَاللَّطْمَةُ إذَا أَتَتْ عَلَى النَّفْسِ لَا تُوجِبُ الْقَوَدَ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الْقِصَاصُ جُعِلَ خَطَأً وَوَجَبَ الْأَرْشُ
( وَلَا قِصَاصَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، وَلَا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ، وَلَا بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا فِي الْحُرِّ يَقْطَعُ طَرَفَ الْعَبْدِ .
وَيُعْتَبَرُ الْأَطْرَافُ بِالْأَنْفُسِ لِكَوْنِهَا تَابِعَةً لَهَا .
وَلَنَا أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ فَيَنْعَدِمُ التَّمَاثُلُ بِالتَّفَاوُتِ فِي الْقِيمَةِ ، وَهُوَ مَعْلُومٌ قَطْعًا بِتَقْوِيمِ الشَّرْعِ فَأَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ .
بِخِلَافِ التَّفَاوُتِ فِي الْبَطْشِ لِأَنَّهُ لَا ضَابِطَ لَهُ فَاعْتُبِرَ أَصْلُهُ ، وَبِخِلَافِ الْأَنْفُسِ لِأَنَّ الْمُتْلَفَ إزْهَاقُ الرُّوحِ وَلَا تَفَاوَتَ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا قِصَاصَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا فِي الْحُرِّ يَقْطَعُ طَرَفَ الْعَبْدِ ) يَعْنِي لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِ عِنْدَهُ أَيْضًا ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَخَذَ بِقَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَسَلَكَا فِي الْبَابِ طَرِيقًا سَهْلًا وَهُوَ اعْتِبَارُ الْأَطْرَافِ بِالنُّفُوسِ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلنُّفُوسِ فَكَمَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي النُّفُوسِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَطْرَافِ لِكَوْنِهَا تَابِعَةً لَهَا ( وَلَنَا أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فَيَنْعَدِمُ التَّمَاثُلُ بِالتَّفَاوُتِ فِي الْقِيمَةِ وَهُوَ ) أَيْ التَّفَاوُتُ ( مَعْلُومٌ قَطْعًا بِتَقْوِيمِ الشَّرْعِ ) فَإِنَّ الشَّرْعَ قَوَّمَ الْيَدَ الْوَاحِدَةَ لِلْحُرِّ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ قَطْعًا وَيَقِينًا ، وَلَا تَبْلُغُ قِيمَةُ يَدِ الْعَبْدِ إلَى ذَلِكَ ، فَإِنْ بَلَغَتْ كَانَ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا تَكُونُ مُسَاوِيَةً لِيَدِ الْحُرِّ يَقِينًا ، فَإِذَا كَانَ التَّفَاوُتُ مَعْلُومًا قَطْعًا أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ ( بِخِلَافِ التَّفَاوُتِ فِي الْبَطْشِ لِأَنَّهُ لَا ضَابِطَ لَهُ فَاعْتُبِرَ أَصْلُهُ ) فَإِنْ قِيلَ : إنْ اسْتَقَامَ فِي الْحُرِّ وَالْعَبْدِ لَمْ يَسْتَقِمْ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ لِإِمْكَانِ التَّسَاوِي فِي قِيمَتِهِمَا بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّسَاوِيَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ ، وَالْمُمَاثَلَةُ الْمَشْرُوطَةُ شَرْعًا لَا تَثْبُتُ بِذَلِكَ كَالْمُمَاثَلَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا وُجُودَ التَّفَاوُتِ فِي الْبَدَلِ وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ لَكِنَّ الْمَعْقُولَ مِنْهُ مَنْعُ اسْتِيفَاءِ الْأَكْمَلِ بِالْأَنْقَصِ دُونَ الْعَكْسِ فَإِنَّ الشَّلَّاءَ تُقْطَعُ بِالصَّحِيحَةِ وَأَنْتُمْ لَا تَقْطَعُونَ يَدَ الْمَرْأَةِ بِيَدِ الرَّجُلِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ وِقَايَةً لِلْأَنْفُسِ كَالْمَالِ ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ التَّفَاوُتُ الْمَالِيُّ مَانِعًا
مُطْلَقًا ، وَالشَّلَلُ لَيْسَ مِنْهُ فَيُعْتَبَرُ مَانِعًا مِنْ جِهَةِ الْأَكْمَلِ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ تَفَاوُتًا مَالِيًّا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِيمَا يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُوجِبُ تَفَاوُتًا فِي الْمَنْفَعَةِ تَنْتَفِي بِهِ الْمُمَاثَلَةُ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ ، فَقُلْنَا : يُعْتَبَرُ مِنْ جِهَةِ الْأَكْمَلِ لِئَلَّا يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ بَاذِلًا لِلزِّيَادَةِ فِي الْأَطْرَافِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ مِنْ جِهَةِ الْأَنْقَصِ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ وَالْإِسْقَاطُ جَائِزٌ دُونَ الْبَدَلِ بِالْأَطْرَافِ ، وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ
( وَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ) لِلتَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فِي الْأَرْشِ .
قَالَ : ( وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ أَوْ جَرَحَهُ جَائِفَةً فَبَرَأَ مِنْهَا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ ، إذْ الْأَوَّلُ كَسْرُ الْعَظْمِ وَلَا ضَابِطَ فِيهِ ، وَكَذَا الْبُرْءُ نَادِرٌ فَيُفْضِي الثَّانِي إلَى الْهَلَاكِ ظَاهِرًا .
قَالَ : ( وَإِذَا كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعِ صَحِيحَةً وَيَدُ الْقَاطِعِ شَلَّاءَ أَوْ نَاقِصَةَ الْأَصَابِعِ فَالْمَقْطُوعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ الْيَدَ الْمَعِيبَةَ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ كَامِلًا ) لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْحَقِّ كَامِلًا مُتَعَذَّرٌ فَلَهُ أَنْ يَتَجَوَّزَ بِدُونِ حَقِّهِ وَلَهُ أَنْ يَعْدِلَ إلَى الْعِوَضِ كَالْمِثْلِيِّ إذَا انْصَرَمَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ بَعْدَ الْإِتْلَافِ ثُمَّ إذَا اسْتَوْفَاهَا نَاقِصًا فَقَدْ رَضِيَ بِهِ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ كَمَا إذَا رَضِيَ بِالرَّدِيءِ مَكَانَ الْجَيِّدِ ( وَلَوْ سَقَطَتْ الْمُؤْنَةُ قَبْلَ اخْتِيَارِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ قُطِعَتْ ظُلْمًا فَلَا شَيْءَ لَهُ ) عِنْدَنَا لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَيِّنٌ فِي الْقِصَاصِ ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْمَالِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَسْقُطُ بِفَوَاتِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ بِحَقٍّ عَلَيْهِ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ سَرِقَةٍ حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَرْشُ لِأَنَّهُ أَوْفَى بِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا فَصَارَتْ سَالِمَةً لَهُ مَعْنًى .( قَالَ وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَيِّنٌ فِي الْقِصَاصِ ) لِأَنَّهُ لَوْ زَالَ الشَّلَلُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى الْأَرْشُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا الْقِصَاصُ ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ : إمَّا الْقِصَاصُ ، أَوْ الْأَرْشُ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ أَحَدُهُمَا لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ تَعَيَّنَ الْآخَرُ
قَالَ : ( وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا فَاسْتَوْعَبَتْ الشَّجَّةُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْهِ وَهِيَ لَا تَسْتَوْعِبُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ فَالْمَشْجُوجُ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ اقْتَصَّ بِمِقْدَارِ شَجَّتِهِ يَبْتَدِئُ مِنْ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ ) لِأَنَّ الشَّجَّةَ مُوجِبَةٌ لِكَوْنِهَا مَشِينَةٌ فَقَطْ فَيَزْدَادُ الشَّيْنُ بِزِيَادَتِهَا ، وَفِي اسْتِيفَائِهِ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فَعَلَ ، وَلَا يَلْحَقُهُ مِنْ الشَّيْنِ بِاسْتِيفَائِهِ قَدْرَ حَقِّهِ مَا يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ فَيَنْتَقِصُ فَيُخَيَّرُ كَمَا فِي الشَّلَّاءِ وَالصَّحِيحَةِ ، وَفِي عَكْسِهِ يُخَيَّرُ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الِاسْتِيفَاءُ كَامِلًا لِلتَّعَدِّي إلَى غَيْرِ .
حَقِّهِ ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الشَّجَّةُ فِي طُولِ الرَّأْسِ وَهِيَ تَأْخُذُ مِنْ جَبْهَتِهِ إلَى قَفَاهُ وَلَا تَبْلُغُ إلَى قَفَا الشَّاجِّ فَهُوَ بِالْخِيَارِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا ) قَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ وَيَدُ الْقَاطِعِ أَكْبَرُ مِنْ يَدِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَتِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي عَكْسِهِ يُخَيَّرُ أَيْضًا ) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَشْجُوجِ أَكْبَرَ مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ لِأَنَّهُ إنْ اسْتَوْفَى الْمَشْجُوجُ مِثْلَ حَقِّهِ مِسَاحَةً كَانَ أَزْيَدَ فِي الشَّيْنِ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى مَا يَكُونُ مِثْلُ الْأَوَّلِ فِي الشَّيْنِ كَانَ دُونَ حَقِّهِ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الِاقْتِصَاصِ وَأَخْذِ الْأَرْشِ ، وَالْبَاقِي إلَى آخِرِهِ ظَاهِرٌ
قَالَ : ( وَلَا قِصَاصَ فِي اللِّسَانِ وَلَا فِي الذَّكَرِ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قُطِعَ مِنْ أَصْلِهِ يَجِبُ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ .
وَلَنَا أَنَّهُ يَنْقَبِضُ وَيَنْبَسِطُ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ ( إلَّا أَنْ تُقْطَعَ الْحَشَفَةُ ) لِأَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ مَعْلُومٌ كَالْمَفْصِلِ ، وَلَوْ قَطَعَ بَعْضَ الْحَشَفَةِ أَوْ بَعْضَ الذَّكَرِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِأَنَّ الْبَعْضَ لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُهُ ، بِخِلَافِ الْأُذُنِ إذَا قُطِعَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَبِضُ وَلَا يَنْبَسِطُ وَلَهُ حَدٌّ يُعْرَفُ فَيُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ ، وَالشَّفَةُ إذَا اسْتَقْصَاهَا بِالْقَطْعِ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِإِمْكَانِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَ بَعْضُهَا لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُهَا .
قَالَ : ( وَإِذَا اصْطَلَحَ الْقَاتِلُ وَأَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ عَلَى مَالٍ سَقَطَ الْقِصَاصُ وَوَجَبَ الْمَالُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } الْآيَةُ عَلَى مَا قِيلَ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الصُّلْحِ .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ } الْحَدِيثُ ، وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْأَخْذُ بِالرِّضَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَهُوَ الصُّلْحُ بِعَيْنِهِ ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِلْوَرَثَةِ يَجْرِي فِيهِ الْإِسْقَاطُ عَفْوًا فَكَذَا تَعْوِيضًا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى إحْسَانِ الْأَوْلِيَاءِ وَإِحْيَاءِ الْقَاتِلِ فَيَجُوزُ بِالتَّرَاضِي .
وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ فِيهِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ مُقَدَّرٌ فَيُفَوَّضُ إلَى اصْطِلَاحِهِمَا كَالْخُلْعِ وَغَيْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا حَالًّا وَلَا مُؤَجَّلًا فَهُوَ حَالٌّ لِأَنَّهُ مَالٌ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ ، وَالْأَصْلُ فِي أَمْثَالِهِ الْحُلُولُ نَحْوُ الْمَهْرِ وَالثَّمَنِ ، بِخِلَافِ الدِّيَةِ لِأَنَّهَا مَا وَجَبَتْ بِالْعَقْدِ .
( فَصْلٌ ) لَمَّا كَانَ تَصَوُّرُ الصُّلْحِ بَعْدَ تَصَوُّرِ الْجِنَايَةِ وَمُوجَبِهَا أَتْبَعَهُ ذَلِكَ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ ( إذَا اصْطَلَحَ الْقَاتِلُ وَأَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ سَقَطَ الْقِصَاصُ وَوَجَبَ الْمَالُ الْمُسَمَّى قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا زَائِدًا عَلَى مِقْدَارِ الدِّيَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } الْآيَةَ عَلَى مَا قِيلَ إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصُّلْحِ ) وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْأُمِّ ، فَإِنْ عَفَا إذَا اُسْتُعْمِلَ بِاللَّامِ كَانَ مَعْنَاهُ الْبَدَلَ : أَيْ فَمَنْ أُعْطِيَ مِنْ جِهَةِ أَخِيهِ الْمَقْتُولِ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ فَاتِّبَاعٌ : أَيْ فَمَنْ أُعْطِيَ وَهُوَ وَلِيُّ الْقَتْلِ مُطَالَبَةَ بَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ مُجَامَلَةٍ وَحُسْنِ مُعَامَلَةٍ .
وَإِنَّمَا قَالَ عَلَى مَا قِيلَ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا فِي عَفْوِ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ شَيْءٌ فَإِنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْبَعْضُ ، وَتَقْرِيرُهُ فَمَنْ عُفِيَ عَنْهُ وَهُوَ الْقَاتِلُ مِنْ أَخِيهِ فِي الدِّينِ وَهُوَ الْمَقْتُولُ شَيْءٌ مِنْ الْقِصَاصِ بِأَنْ كَانَ لِلْقَتِيلِ أَوْلِيَاءٌ فَعَفَا بَعْضُهُمْ فَقَدْ صَارَ نَصِيبُ الْبَاقِينَ مَالًا وَهُوَ الدِّيَةُ عَلَى حِصَصِهِمْ مِنْ الْمِيرَاثِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ : أَيْ فَلْيَتَّبِعْ غَيْرُ الْعَافِي بِطَلَبِ حِصَّتِهِ بِقَدْرِ حَقِّهِ ، وَلِيُؤَدِّ الْقَاتِلُ إلَيْهِ حَقَّهُ وَافِيًا مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ : إنْ شَاءُوا قَادُوا ، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ } قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْأَخْذُ بِالرِّضَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ الْعُدُولُ إلَى الْمَالِ إلَّا بِرِضَا الْقَاتِلِ وَهُوَ الصُّلْحُ بِعَيْنِهِ وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( نَصُّ
مُقَدِّرٍ ) بِكَسْرِ الدَّالِ .
وَقَوْلُهُ ( كَالْخُلْعِ وَغَيْرُهُ ) يَعْنِي كَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ
قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا وَعَبْدًا فَأَمَرَ الْحُرُّ وَمَوْلَى الْعَبْدِ رَجُلًا بِأَنْ يُصَالِحَ عَنْ دَمِهِمَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَفَعَلَ فَالْأَلْفُ عَلَى الْحُرِّ وَالْمَوْلَى نِصْفَانِ ) لِأَنَّ عَقْدَ الصُّلْحِ أُضِيفَ إلَيْهِمَا .
( وَإِذَا عَفَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ مِنْ الدَّمِ أَوْ صَالَحَ مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى عِوَضٍ سَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ عَنْ الْقِصَاصِ وَكَانَ لَهُمْ نُصِيبُهُمْ مِنْ الدِّيَةِ ) .
وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ ، وَكَذَا الدِّيَةَ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الزَّوْجَيْنِ .
لَهُمَا أَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ وَهِيَ بِالنَّسَبِ دُونَ السَّبَبِ لِانْقِطَاعِهِ بِالْمَوْتِ ، وَلَنَا { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِتَوْرِيثِ امْرَأَةِ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ عَقْلِ زَوْجِهَا أَشْيَمَ } ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ ، حَتَّى أَنَّ مَنْ قُتِلَ وَلَهُ ابْنَانِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا عَنْ ابْنٍ كَانَ الْقِصَاصُ بَيْنَ الصُّلْبِيِّ وَابْنِ الِابْنِ فَيَثْبُتُ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ ، وَالزَّوْجِيَّةُ تَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ حُكْمًا فِي حَقِّ الْإِرْثِ أَوْ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ مُسْتَنِدًا إلَى سَبَبِهِ وَهُوَ الْجُرْحُ ، وَإِذَا ثَبَتَ لِلْجَمِيعِ فَكُلٌّ مِنْهُمْ يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ وَالْإِسْقَاطِ عَفْوًا وَصُلْحًا وَمِنْ ضَرُورَةِ سُقُوطِ حَقِّ الْبَعْضِ فِي الْقِصَاصِ سُقُوطُ حَقِّ الْبَاقِينَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُتِلَ رَجُلَيْنِ وَعَفَا أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ قِصَاصَانِ مِنْ غَيْرِ شُبْهَةٍ لِاخْتِلَافِ الْقَتْلِ وَالْمَقْتُولِ وَهَاهُنَا وَاحِدٌ لِاتِّحَادِهِمَا ، وَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ يَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْبَاقِينَ مَالًا لِأَنَّهُ امْتَنَعَ لِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى الْقَاتِلِ ، وَلَيْسَ لِلْعَافِي شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِفِعْلِهِ وَرِضَاهُ ، ثُمَّ يَجِبُ مَا يَجِبُ مِنْ الْمَالِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَقَالَ زُفَرُ : يَجِبُ فِي سَنَتَيْنِ فِيمَا إذَا كَانَ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ وَعَفَا أَحَدُهُمَا ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ نِصْفُ الدِّيَةِ فَيُعْتَبَرُ بِمَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ خَطَأً .
وَلَنَا أَنَّ هَذَا بَعْضُ بَدَلِ الدَّمِ وَكُلَّهُ مُؤَجَّلٌ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ فَكَذَلِكَ بَعْضُهُ ، وَالْوَاجِبُ فِي الْيَدِ كُلُّ بَدَلِ الطَّرَفِ وَهُوَ فِي سَنَتَيْنِ فِي الشَّرْعِ وَيَجِبُ فِي مَالِهِ
لِأَنَّهُ عَمْدٌ .
وَقَوْلُهُ ( خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الزَّوْجَيْنِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : هَذَا اللَّفْظُ كَمَا تَرَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجَيْنِ حَقٌّ فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ جَمِيعًا عِنْدَهُمَا .
وَنُقِلَ عَنْ الْمَبْسُوطِ وَالْإِيضَاحِ وَالْأَسْرَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَالِكٍ فِي الدِّيَةِ خَاصَّةً وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : النِّسَاءُ لَا تَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ وَلَهُنَّ حَقُّ الْعَفْوِ .
ثُمَّ قَالَ : وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ لَا حَظَّ لِلزَّوْجَيْنِ فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ وَالْإِيضَاحِ وَالْأَسْرَارِ ، وَهُوَ مُؤَاخَذَةٌ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لَهَا عَدَمُ صِحَّةِ مَا نَقَلَهُ ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِمَا مَا نَقَلَهُ .
وَقَوْلُهُ ( لَهُمَا أَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ ) يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ تَوْرِيثِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مِنْ الْآخَرِ شَيْئًا وَهُوَ بَاطِلٌ ، وَلَكِنْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ الْوِرَاثَةُ فِيمَا يَجِبُ بَعْدَ الْمَوْتِ خِلَافًا وَهِيَ فِيهِ بِالنَّسَبِ لَا السَّبَبِ لِانْقِطَاعِهِ بِالْمَوْتِ وَالْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ إنَّمَا يَجِبَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَقُلْنَا : إنَّهُ فَاسِدٌ بِالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَحَدِيثُ امْرَأَةِ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُمَا مَوْرُوثَانِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ بِالِاتِّفَاقِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَا فِي حَقِّ الزَّوْجَيْنِ كَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُوبَهُمَا أَوَّلًا لِلْمَيِّتِ ثُمَّ يَثْبُتُ لِلْوَرَثَةِ وَلَا يَقَعُ لِلْمَيِّتِ إلَّا بِأَنْ يُسْنَدَ الْوُجُوبُ إلَى سَبَبِهِ وَهُوَ الْجَرْحُ فَكَانَا كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ فِي ثُبُوتِهِمَا قَبْلَ الْمَوْتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ دَخَلَتْ دِيَتُهُ فِيهَا وَتُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ .
وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْسِمُ الدِّيَةَ عَلَى مَنْ أَحْرَزَ الْمِيرَاثَ وَكَفَى بِهِ قُدْوَةً ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَكُلٌّ
مِنْهُمْ يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ وَالْعَفْوِ وَالْبَاقِي وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْوَاجِبَ نِصْفُ الدِّيَةِ ) يَعْنِي بِالْعَفْوِ فَيَكُونُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى الثُّلُثُ وَفِي الثَّانِيَةِ السُّدُسُ كَمَا إذَا قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ خَطَأً .
وَقُلْنَا : الْوَاجِبُ بَعْضُ بَدَلِ الدَّمِ لَا بَدَلِ الْجُزْءِ ، وَكُلُّهُ مُؤَجَّلٌ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ ، فَكَذَا بَعْضُهُ كَالْأَلْفِ الْمُؤَجَّلَةِ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ ، فَإِنَّ كُلَّ دِرْهَمٍ مِنْهَا كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْوَاجِبُ فِي الْيَدِ ) جَوَابُ اعْتِبَارِهِ وَهُوَ وَاضِحٌ
قَالَ : ( وَإِذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا عَمْدًا اُقْتُصَّ مِنْ جَمِيعِهِمْ ) لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ : لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ بِطَرِيقِ التَّغَالُبِ غَالِبٌ ، وَالْقِصَاصُ مَزْجَرَةٌ لِلسُّفَهَاءِ فَيَجِبُ تَحْقِيقًا لِحِكْمَةِ الْإِحْيَاءِ .
قَالَ ( وَإِذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا إلَخْ ) إذَا تَعَدَّدَ الْقَاتِلُ اُقْتُصَّ مِنْ جَمِيعِهِمْ ، وَالْقِيَاسُ لَا يَقْتَضِيهِ لِانْتِفَاءِ الْمُسَاوَاةِ ، لَكِنَّهُ تَرْكٌ بِمَا رُوِيَ أَنَّ سَبْعَةً مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ قَتَلُوا رَجُلًا فَقَضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ وَقَالَ : لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتهمْ .
وَالتَّمَالُؤُ التَّعَاوُنُ ، وَصَنْعَاءُ الْيَمَنِ : قَصَبَتُهَا .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَتَلَ ثَلَاثَةً بِوَاحِدٍ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَتَلَ جَمَاعَةً بِوَاحِدٍ ، وَكَانَتْ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مُتَوَافِرِينَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ بِطَرِيقِ التَّغَالُبِ غَالِبٌ فَإِنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَتَحَقَّقُ غَالِبًا إلَّا بِالِاجْتِمَاعِ ، لِأَنَّ الْوَاحِدَ يُقَاوِمُ الْوَاحِدَ ، وَمَا غَلَبَ وُقُوعُهُ مِنْ الْفَسَادِ يُوجِبُ مَزْجَرَةً فَيَجِبُ الْقِصَاصُ تَحْقِيقًا لِحِكْمَةِ الْإِحْيَاءِ ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ لَمَا عَجَزَ الْمُفْسِدُ عَنْ أَنْ يَجْمَعَ عَلَيْهِ أَمْثَالَهُ وَيَقْتُلَ لِعِلْمِهِ أَنْ لَا قِصَاصَ فَيُؤَدِّيَ إلَى سَدِّ بَابِ الْقِصَاصِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْمَعْقُولِ إنْ لَمْ يَكُنْ قِيَاسًا عَلَى مُجْمَعٍ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي الشَّرْعِ ، وَإِنْ كَانَ فَلَا يَرْبُو عَلَى الْقِيَاسِ الْمُقْتَضِي لِعَدَمِهِ الْمُؤَيَّدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } وَالْجَوَابُ أَنَّهُ قِيَاسٌ عَلَى سَائِرِ أَبْوَابِ الْعُقُوبَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى مَا يُوجِبُ الْفَسَادَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ ، وَيَرْبُو عَلَى ذَلِكَ بِقُوَّةِ أَثَرِهِ الْبَاطِنِ وَهُوَ إحْيَاءُ حِكْمَةِ الْإِحْيَاءِ .
وقَوْله تَعَالَى { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } لَا يُنَافِيهِ لِأَنَّهُمْ فِي إزْهَاقِ الرُّوحِ الْغَيْرِ الْمُتَجَزِّئِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ ، وَإِذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِالْعَكْسِ وَحَضَرَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِينَ قُتِلَ بِجَمَاعَتِهِمْ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
( وَإِذَا قَتَلَ وَاحِدٌ جَمَاعَةً فَحَضَرَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِينَ قُتِلَ لِجَمَاعَتِهِمْ وَلَا شَيْءَ لَهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ ، فَإِنْ حَضَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قُتِلَ لَهُ وَسَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقْتَلُ بِالْأَوَّلِ مِنْهُمْ وَيَجِبُ لِلْبَاقِينَ الْمَالُ ، وَإِنْ اجْتَمَعُوا وَلَمْ يُعْرَفْ الْأَوَّلُ قُتِلَ لَهُمْ وَقُسِمَتْ الدِّيَاتُ بَيْنَهُمْ ، وَقِيلَ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فَيُقْتَلُ لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ .
لَهُ أَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْوَاحِدِ قِتْلَاتٌ وَاَلَّذِي تَحَقَّقَ فِي حَقِّهِ قَتْلُ وَاحِدٍ فَلَا تَمَاثُلَ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ، إلَّا أَنَّهُ عُرِفَ بِالشَّرْعِ .
وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ بِوَصْفِ الْكَمَالِ فَجَاءَ التَّمَاثُلُ أَصْلُهُ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا وَجَبَ الْقِصَاصُ ، وَلِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُرْحٌ صَالِحٌ لِلْإِزْهَاقِ فَيُضَافُ إلَى كُلٍّ مِنْهُمْ إذْ هُوَ لَا يَتَجَزَّأُ ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ شُرِعَ مَعَ الْمُنَافِي لِتَحْقِيقِ الْإِحْيَاءِ وَقَدْ حَصَلَ بِقَتْلِهِ فَاكْتَفَى بِهِ .
( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُقْتَلُ بِالْأَوَّلِ مِنْهُمْ وَيَجِبُ الْمَالُ لِلْبَاقِينَ ) يَعْنِي أَنَّ قَتْلَهُمْ عَلَى التَّعَاقُبِ ، وَإِنْ قَتَلَهُمْ جُمْلَةً أَوْ جُهِلَ الْأَوَّلُ قُتِلَ بِهِمْ وَقُسِمَ الدِّيَاتُ بَيْنَهُمْ أَوْ يُقْرَعُ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ) وَهُوَ مَا إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا ( إلَّا أَنَّهُ عُرِفَ بِالشَّرْعِ ) يُرِيدُ قَضِيَّةَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ) أَيْ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقَتْلَى ( قَاتِلٌ قِصَاصًا بِوَصْفِ الْكَمَالِ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ أَصْلُهُ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ ) فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ تُقْتَلُ بِالْوَاحِدِ اتِّفَاقًا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُمَاثَلَةٌ لَمَا جَازَ ذَلِكَ ، وَإِذَا كَانَتْ الْجَمَاعَةُ مَثَلًا لِلْوَاحِدِ كَانَ الْعَكْسُ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
قَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُرْحٌ إلَخْ ) يَعْنِي أَنَّ الْقَتْلَ جُرْحٌ صَالِحٌ لِإِزْهَاقِ الرُّوحِ وَقَدْ وُجِدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، بِحَيْثُ إنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ عَنْ الْبَاقِينَ كَانَ قَاتِلًا بِصِفَةِ الْكَمَالِ ، وَالْحُكْمُ إذَا حَصَلَ عَقِيبَ عِلَلٍ لَا بُدَّ مِنْ الْإِضَافَةِ إلَيْهَا ، فَإِمَّا أَنْ يُضَافَ إلَيْهَا تَوْزِيعًا أَوْ كَمَلًا ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِعَدَمِ التَّجَزُّؤِ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي ، وَلِهَذَا إذَا حَلَفَ جَمَاعَةٌ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَقْتُلَ فُلَانًا فَاجْتَمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ حَنِثُوا ( وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ شُرِعَ مَعَ الْمُنَافِي ) وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْآدَمِيُّ بُنْيَانُ الرَّبِّ ، مَلْعُونٌ مَنْ هَدَمَ بُنْيَانَ الرَّبِّ } ( لِتَحْقِيقِ الْإِحْيَاءِ وَتَحْقِيقُ الْإِحْيَاءِ قَدْ حَصَلَ بِقَتْلِهِ ) أَيْ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ ( فَاكْتَفَى بِهِ ) وَلَا شَيْءَ لَهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ
قَالَ : ( وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إذَا مَاتَ سَقَطَ الْقِصَاصُ ) لِفَوَاتِ مَحِلِّ الِاسْتِيفَاءِ فَأَشْبَهَ مَوْتَ الْعَبْدِ الْجَانِي ، وَيَتَأَتَّى فِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ إذْ الْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ) ظَاهِرٌ .
قَالَ ( وَإِذَا قَطَعَ رَجُلَانِ يَدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَلَيْهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُقْطَعُ يَدَاهُمَا ، وَالْمُفْرِضُ إذَا أَخَذَ سِكِّينًا وَأَمَرَّهُ عَلَى يَدِهِ حَتَّى انْقَطَعَتْ لَهُ الِاعْتِبَارُ بِالْأَنْفُسِ ، وَالْأَيْدِي تَابِعَةٌ لَهَا فَأَخَذَتْ حُكْمَهَا ، أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِجَامِعِ الزَّجْرِ .
وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعٌ بَعْضَ الْيَدِ ، لِأَنَّ الِانْقِطَاعَ حَصَلَ بِاعْتِمَادِيِّهِمَا وَالْمَحَلُّ مُتَجَزِّئٌ فَيُضَافُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَعْضُ فَلَا مُمَاثَلَةَ ، بِخِلَافِ النَّفْسِ لِأَنَّ الِانْزِهَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ بِطَرِيقِ الِاجْتِمَاعِ غَالِبٌ حَذَارِ الْغَوْثِ ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ مِنْ الْمِفْصَلِ فِي حَيِّزِ النُّدْرَةِ لِافْتِقَارِهِ إلَى مُقَدَّمَاتٍ بَطِيئَةٍ فَيَلْحَقُهُ الْغَوْثُ .
قَالَ ( وَعَلَيْهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ ) لِأَنَّهُ دِيَةُ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ وَهُمَا قَطَعَاهَا .
قَالَ ( وَإِذَا قَطَعَ رَجُلَانِ يَدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ إلَخْ ) تَعَدُّدُ الْجَانِي فِي الْأَطْرَافِ لَيْسَ كَتَعَدُّدِهِ فِي النَّفْسِ عِنْدَنَا ، فَإِذَا قَطَعَ يَدًا فَلَا قِصَاصَ أَصْلًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ وَضَعَ أَحَدُهُمَا السِّكِّينَ مِنْ جَانِبٍ وَالْآخَرُ مِنْ آخَرَ وَأَمَرَّا حَتَّى الْتَقَى السِّكِّينَانِ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَمْ يَقْطَعْ إلَّا بَعْضَ الْيَدِ فَلَا يُقْطَعُ بِهِ كُلُّ يَدِهِ ، وَإِنْ أَخَذَا سِكِّينًا وَأَمَرَّاهَا عَلَى يَدِهِ حَتَّى انْقَطَعَتْ قُطِعَتْ أَيْدِيهِمَا اعْتِبَارًا بِالْأَنْفُسِ ، إمَّا لِكَوْنِهَا تَابِعَةً لَهَا ، وَإِمَّا أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِجَامِعِ الزَّجْرِ .
وَلَنَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَاطِعٌ بَعْضَ الْيَدِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَحَلُّ مُتَّحِدًا أَوْ مُخْتَلِفًا ، لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَا انْقَطَعَ بِفِعْلِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِفِعْلِ الْآخَرِ ، وَقَاطِعُ بَعْضِ الْيَدِ لَا يُقْطَعُ كُلُّ يَدِهِ قِصَاصًا لِانْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَحَلَّ مُتَجَزِّئٌ فَإِنَّ قَطْعَ بَعْضٍ وَتَرْكَ بَعْضٍ مُتَصَوَّرٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ فَاعِلًا كَمَلًا ، بِخِلَافِ النَّفْسِ فَإِنَّ الِانْزِهَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ وَقَدْ مَرَّ ، وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ .
( وَإِنْ قَطَعَ وَاحِدٌ يَمِينَيْ رَجُلَيْنِ فَحَضَرَا فَلَهُمَا أَنْ يَقْطَعَا يَدَهُ وَيَأْخُذَا مِنْهُ نِصْفَ الدِّيَةِ يَقْسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ سَوَاءٌ قَطَعَهُمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي التَّعَاقُبِ يُقْطَعُ بِالْأَوَّلِ ، وَفِي الْقِرَانِ يُقْرَعُ لِأَنَّ الْيَدَ اسْتَحَقَّهَا الْأَوَّلُ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ فِيهَا لِلثَّانِي كَالرَّهْنِ بَعْدَ الرَّهْنِ ، وَفِي الْقِرَانِ الْيَدُ الْوَاحِدَةُ لَا تَفِي بِالْحَقَّيْنِ فَتُرَجَّحُ بِالْقُرْعَةِ .
وَلَنَا أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي حُكْمِهِ كَالْغَرِيمَيْنِ فِي التَّرِكَةِ ، وَالْقِصَاصُ مِلْكُ الْفِعْلِ يَثْبُتُ مَعَ الْمُنَافِي فَلَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ .
أَمَّا الْمَحِلُّ فَخُلُوٌّ عَنْهُ فَلَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الثَّانِي ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ .
فَصَارَ كَمَا إذَا قَطَعَ الْعَبْدُ يَمِينَيْهِمَا عَلَى التَّعَاقُبِ فَتُسْتَحَقُّ رَقَبَتُهُ لَهُمَا ، وَإِنْ حَضَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَقَطَعَ يَدَهُ فَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، لِأَنَّ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ لِثُبُوتِ حَقِّهِ وَتَرَدُّدِ حَقِّ الْغَائِبِ ، وَإِذَا اسْتَوْفَى لَمْ يَبْقَ مَحِلُّ الِاسْتِيفَاءِ فَيَتَعَيَّنُ حَقُّ الْآخَرِ فِي الدِّيَةِ لِأَنَّهُ أَوْفَى بِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ قَطَعَ وَاحِدٌ يَمِينَيْ رَجُلَيْنِ ) قَيَّدَ بِذَلِكَ ، لِأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يَمِينَ أَحَدِهِمَا وَيَسَارَ الْآخَرِ قُطِعَتْ يَدَاهُ .
لَا يُقَالُ : تَنْتَفِي الْمُمَاثَلَةُ حِينَئِذٍ ، لِأَنَّهُ مَا فَوَّتَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنْسَ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ فَوَّتَاهُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مَا اسْتَوْفَاهُ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَلَا زِيَادَةَ عَلَى حَقِّهِ .
قَوْلُهُ ( وَالْقِصَاصُ مِلْكُ الْفِعْلِ ثَبَتَ مَعَ الْمُنَافِي ) يَعْنِي لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ حُرٌّ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْيَدَ اسْتَحَقَّهَا الْأَوَّلُ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْقِصَاصَ مِلْكُ الْفِعْلِ ثَبَتَ ضَرُورَةَ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى شَغْلِ الْمَحَلِّ الْخَالِي بِتَجْزِئَتِهِ عَنْهُ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَحَلُّ مَشْغُولًا لَمْ يَمْنَعْ عَنْ ثُبُوتِ الثَّانِي ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْمَحَلِّ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا .
وَقَوْلُهُ ( وَلِتَرَدُّدِ حَقِّ الْآخَرِ ) يَعْنِي أَنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ ثَابِتٌ فِي الْيَدِ وَمُزَاحَمَةُ الْآخَرِ لَهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ مَوْهُومَةٌ عَسَى أَنْ يَعْفُوَ أَوْ لَا يَحْضُرَ فَلَا يُؤَخَّرُ الْمَعْلُومُ لِلْمَوْهُومِ كَأَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ إذَا ادَّعَى الشُّفْعَةَ وَالْآخَرُ غَائِبٌ يُقْضَى بِالْجَمِيعِ لَهُ كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ أَوْفَى بِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا ) يَعْنِي أَنَّهُ إذَا قُضِيَ بِجَمِيعِ طَرَفِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَيُقْضَى لِلْآخَرِ بِالْأَرْشِ .
قَالَ : ( وَإِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ بِقَتْلِ الْعَمْدِ لَزِمَهُ الْقَوَدُ ) وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ يُلَاقِي حَقَّ الْمَوْلَى بِالْإِبْطَالِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالْمَالِ .
وَلَنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهِ لِأَنَّهُ مُضِرٌّ بِهِ فَيُقْبَلُ ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مُبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الدَّمِ عَمَلًا بِالْآدَمِيَّةِ حَتَّى لَا يَصِحَّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ ، وَبُطْلَانُ حَقِّ الْمَوْلَى بِطَرِيقِ الضِّمْنِ فَلَا يُبَالَى بِهِ .وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ بِقَتْلِ الْعَمْدِ لَزِمَهُ الْقَوَدُ ) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْعَمْدِ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْخَطَأِ لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ كَانَ مَأْذُونًا أَوْ مَحْجُورًا ، أَمَّا الْمَحْجُورُ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا الْمَأْذُونُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ .
وَقَوْلُهُ ( حَتَّى لَا يَصِحَّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ ) تَوْضِيحٌ لِبَقَائِهِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ ، وَكُلُّ مَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ فِيهِ فَهُوَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ ، وَلِهَذَا وَقَعَ طَلَاقُ زَوْجَتِهِ بِالْإِقْرَارِ لِوُقُوعِهِ بِالْإِيقَاعِ ، وَإِذَا أَقَرَّ بِسَبَبٍ يُوجِبُ الْحَدَّ يُؤْخَذُ بِهِ .
( وَمَنْ رَمَى رَجُلًا عَمْدًا فَنَفَذَ السَّهْمُ مِنْهُ إلَى آخَرَ فَمَاتَا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِلْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ لِلثَّانِي عَلَى عَاقِلَتِهِ ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَمْدٌ وَالثَّانِي أَحَدُ نَوْعَيْ الْخَطَأِ ، كَأَنَّهُ رَمَى إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ آدَمِيًّا وَالْفِعْلُ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْأَثَرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْفِعْلُ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْأَثَرِ ) قِيلَ : فَإِنَّ الرَّمْيَ إذَا أَصَابَ حَيَوَانًا وَمَزَّقَ جِلْدَهُ سُمِّيَ جَرْحًا ، وَإِنْ قَتَلَهُ سُمِّيَ قَتْلًا ، وَإِنْ أَصَابَ الْكُوزَ وَكَسَرَهُ سُمِّيَ كَسْرًا ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَحَلٍّ عَمْدًا وَبِالنِّسْبَةِ إلَى آخَرَ خَطَأً ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ تَسْمِيَةُ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ بِأَسَامٍ مُخْتَلِفَةٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَحَالِّ وَلَا نِزَاعَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنْ يَتَعَدَّدَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ فَيَصِيرُ فِعْلَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : مَعْنَاهُ أَنَّ الْفِعْلَ يُوصَفُ بِوَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَمْرَيْنِ ، كَالْحَرَكَةِ مَثَلًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُوصَفَ بِالسُّرْعَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَرَكَةٍ وَبِالْبُطْءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أُخْرَى ، فَكَذَا هَذَا الْفِعْلُ يُوصَفُ بِالْعَمْدِ نَظَرًا إلَى قَصْدِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّخْصِ الْأَوَّلِ وَبِالْخَطَأِ نَظَرًا إلَى عَدَمِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الثَّانِي .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْخَطَأُ يَسْتَلْزِمُ إبَاحَةً لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ ، وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا أَمْرًا دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَلَمْ يُوجَدْ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْخَطَأَ هُوَ تَحَقُّقُ الْجِنَايَةِ فِي إنْسَانٍ مُخَالِفٍ لِظَنِّ الْجَانِي ، كَمَنْ رَمَى إلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ صَيْدًا فَإِذَا هُوَ إنْسَانٌ ، أَوْ لِقَصْدِهِ مُطْلَقًا كَمَنْ رَمَى إلَى هَدَفٍ فَأَصَابَ إنْسَانًا ، وَكَاَلَّذِي نَحْنُ فِيهِ ، وَالرَّمْيُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُخَالِفِ لَهُمَا كَالرَّمْيِ لَا إلَى مُعَيَّنٍ وَذَلِكَ مُبَاحٌ لَا مَحَالَةَ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا مُطْلَقًا لِيَخْرُجَ مَنْ قَصَدَ قَطْعَ يَدِ رَجُلٍ بِسَيْفٍ فَأَصَابَ عُنُقَهُ وَمَاتَ فَإِنَّهُ عَمْدٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِلْمَقْصُودِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، فَإِنَّ قَطْعَ الْيَدِ قَدْ يَكُونُ قَتْلًا بِالسِّرَايَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَصَدَ ذَلِكَ فَأَصَابَ رَقَبَةَ غَيْرِهِ فَحَزَّهَا أَوْ رَمَى إلَى شَخْصٍ فَأَصَابَ غَيْرَهُ فَمَاتَ فَإِنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ ، لِأَنَّ قَطْعَ يَدِ
رَجُلٍ أَوْ قَتْلَهُ لَا يَكُونُ قَتْلًا لِغَيْرِهِ فَكَانَ مُخَالِفًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
قَالَ : ( وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا قَبْلَ أَنْ تَبْرَأَ يَدُهُ أَوْ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً أَوْ قَطَعَ يَدَهُ خَطَأً فَبَرِئَتْ يَدُهُ ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً أَوْ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا فَبَرَأَتْ ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجِرَاحَاتِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ تَتْمِيمًا لِلْأَوَّلِ ، لِأَنَّ الْقَتْلَ فِي الْأَعَمِّ يَقَعُ بِضَرَبَاتٍ مُتَعَاقِبَةٍ ، وَفِي اعْتِبَارِ كُلِّ ضَرْبَةٍ بِنَفْسِهَا بَعْضُ الْحَرَجِ ، إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ الْجَمْعُ فَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ حُكْمَ نَفْسِهِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ فِي الْأَوَّلَيْنِ لِاخْتِلَافِ حُكْمِ الْفِعْلَيْنِ ، وَفِي الْآخَرَيْنِ لِتَخَلُّلِ الْبُرْءِ وَهُوَ قَاطِعٌ لِلسَّرَايَةِ ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَخَلَّلْ وَقَدْ تَجَانَسَا بِأَنْ كَانَا خَطَأَيْنِ يَجْمَعُ بِالْإِجْمَاعِ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ وَاكْتَفَى بِدِيَةٍ وَاحِدَةٍ ( وَإِنْ كَانَ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا قَبْلَ أَنْ تَبْرَأَ يَدُهُ ، فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَالَ : اقْطَعُوهُ ثُمَّ اُقْتُلُوهُ ، وَإِنْ شَاءَ قَالَ : اُقْتُلُوهُ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يُقْتَلُ وَلَا تُقْطَعُ يَدُهُ لِأَنَّ الْجَمْعَ مُمْكِنٌ لِتَجَانُسِ الْفِعْلَيْنِ وَعَدَمِ تَخَلُّلِ الْبُرْءِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا .
وَلَهُ أَنَّ الْجَمْعَ مُتَعَذِّرٌ ، إمَّا لِلِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ هَذَيْنِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْقَوَدُ وَهُوَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْفِعْلِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ بِالْقَتْلِ وَالْقَطْعُ بِالْقَطْعِ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ ، أَوْ لِأَنَّ الْحَزَّ يَقْطَعُ إضَافَةَ السِّرَايَةِ إلَى الْقَطْعِ ، حَتَّى لَوْ صَدَرَ مِنْ شَخْصَيْنِ يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْحَازِّ فَصَارَ كَتَخَلُّلِ الْبُرْءِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَطَعَ وَسَرَى لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا خَطَأَيْنِ لِأَنَّ الْمُوجَبَ الدِّيَةُ وَهِيَ بَدَلُ النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ ، وَلِأَنَّ أَرْشَ الْيَدِ إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ اسْتِحْكَامِ
أَثَرِ الْفِعْلِ وَذَلِكَ بِالْحَزِّ الْقَاطِعِ لِلسِّرَايَةِ فَيَجْتَمِعُ ضَمَانُ الْكُلِّ وَضَمَانُ الْجُزْءِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَجْتَمِعَانِ .
أَمَّا الْقَطْعُ وَالْقَتْلُ قِصَاصًا يَجْتَمِعَانِ .
( فَصْلٌ ) ذَكَرَ حُكْمَ الْفِعْلَيْنِ عَقِيبَ فِعْلٍ وَاحِدٍ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ رِعَايَةً لِلتَّنَاسُبِ ( وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا ) الْقَطْعُ وَالْقَتْلُ إذَا حَصَلَا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ كَانَا عَلَى وُجُوهٍ : أَنْ يَكُونَا خَطَأَيْنِ أَوْ عَمْدَيْنِ ، أَوْ يَكُونَ الْقَتْلُ خَطَأً وَالْقَطْعُ عَمْدًا أَوْ بِالْعَكْسِ ، فَذَلِكَ بِالْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ أَرْبَعَةٌ .
ثُمَّ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْبُرْءِ أَوْ بَعْدَهُ فَذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَوْجُهٍ ، وَكُلُّ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ أَوْ شَخْصَيْنِ فَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ وَجْهًا ، فَإِنْ كَانَا مِنْ شَخْصَيْنِ يُفْعَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجَبُ فِعْلِهِ مِنْ الْقِصَاصِ وَأَخْذِ الْأَرْشِ مُطْلَقًا ، لِأَنَّ التَّدَاخُلَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ لَا غَيْرُ ، وَإِنْ كَانَا مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَإِيجَابُ مُوجَبِ الْفِعْلَيْنِ أَوْ إهْدَارُ أَحَدِهِمَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ ( وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْجَمْعَ ) يَعْنِي الِاكْتِفَاءَ بِمُوجَبِ أَحَدِهِمَا وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ تَتْمِيمًا لِلْأَوَّلِ ، لِأَنَّ الْقَتْلَ فِي الْأَعَمِّ : يَعْنِي فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ يَقَعُ بِضَرَبَاتٍ مُتَعَاقِبَةٍ ، وَفِي اعْتِبَارِ كُلِّ ضَرْبَةٍ بِنَفْسِهَا بَعْضُ الْحَرَجِ فَيُجْعَلُ الثَّانِي مُتَمِّمًا لِلْأَوَّلِ وَيُجْعَلُ الْكُلُّ وَاحِدًا ، إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ الْجَمْعُ إمَّا بِاخْتِلَافِ الْفِعْلَيْنِ وَصْفًا أَوْ مُوجَبًا أَوْ بِتَخَلُّلِ الْبُرْءِ ، فَحِينَئِذٍ يُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ حُكْمَ نَفْسِهِ .
فَإِنْ تَخَلَّلَ الْبُرْءُ فَلَا جَمْعَ أَصْلًا لِأَنَّ الْفِعْلَ الْأَوَّلَ قَدْ انْتَهَى فَيَكُونُ الْقَتْلُ بَعْدَهُ ابْتِدَاءً ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يَتَخَلَّلْ وَقَدْ اخْتَلَفَا جِنْسًا فَكَذَلِكَ كَمَا فِي الصُّورَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ ، وَإِنْ تَجَانَسَا خَطَأً جُمِعَ بِالْإِجْمَاعِ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَهُوَ تَخَلُّلُ الْبُرْءِ وَالِاخْتِلَافِ وَاكْتُفِيَ بِدِيَةٍ
وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ تَجَانُسًا عَمْدًا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْطَعَ ثُمَّ يَقْتُلَ وَبَيْنَ أَنْ يَقْتُلَ وَقَالَا يَقْتُلُ وَلَا يَقْطَعُ ، وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَالَ اقْطَعُوهُ ) قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْخِيَارَ لِلْإِمَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْخِيَارُ لِلْوَلِيِّ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ مَعْنَاهُ يُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ لَهُمْ الْخِيَارَ ، قَالَا : الْجَمْعُ مُمْكِنٌ لِتَجَانُسِ الْفِعْلَيْنِ وَعَدَمِ تَخَلُّلِ الْبُرْءِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا ، وَقَالَ : بَلْ الْجَمْعُ مُتَعَذِّرٌ إمَّا لِلِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ لِأَنَّ الْمُوجَبَ الْقَوَدُ وَهُوَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْفِعْلِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ بِالْقَتْلِ وَالْقَطْعُ بِالْقَطْعِ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ لِخُلُوِّ الْقَطْعِ إذْ ذَاكَ عَنْ الْجَزَاءِ ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْحَزَّ يَقْطَعُ إضَافَةَ السِّرَايَةِ إلَى الْقَطْعِ حَتَّى لَوْ صَدَرَا مِنْ شَخْصَيْنِ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى الْحَازِّ ، وَإِذَا انْقَطَعَ إضَافَةُ السِّرَايَةِ إلَيْهِ صَارَ كَتَخَلُّلِ الْبُرْءِ وَلَا جَمْعَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَطَعَ وَسَرَى لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا خَطَأَيْنِ لِأَنَّ الْمُوجَبَ هُوَ الدِّيَةُ وَهُوَ بَدَلُ النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ أَرْشَ الْيَدِ ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ إذَا كَانَا خَطَأَيْنِ .
وَتَقْرِيرُهُ : أَرْشُ الْيَدِ إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ اسْتِحْكَامِ أَثَرِ الْفِعْلِ : يَعْنِي الْقَطْعَ بِانْقِطَاعِ تَوَهُّمِ السِّرَايَةِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْجَزِّ الْقَاطِعِ لِلسِّرَايَةِ ، فَأَرْشُ الْيَدِ إنَّمَا يَجِبُ بِالْحَزِّ الْقَاطِعِ لِلسِّرَايَةِ ، وَبِهِ يَجِبُ ضَمَانُ الْكُلِّ فَيَجْتَمِعُ ضَمَانُ الْكُلِّ وَضَمَانُ الْجُزْءِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ حَالَةُ الْحَزِّ ، وَفِي ذَلِكَ تَكْرَارُ دِيَةِ الْيَدِ لِأَنَّ ضَمَانَ الْكُلِّ
يَشْمَلُهَا وَالتَّكْرَارُ فِيهِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَا يَجْتَمِعَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : قِصَاصُ الْيَدِ إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ اسْتِحْكَامِ أَثَرِ الْفِعْلِ وَذَلِكَ بِالْحَزِّ الْقَاطِعِ لِلسَّرَايَةِ فَيَجْتَمِعُ قِصَاصُ الْكُلِّ وَالْجُزْءِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَجْتَمِعَانِ .
قُلْنَا : بَلْ يَجْتَمِعَانِ لِأَنَّ مَبْنَى الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ ، وَهِيَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِاجْتِمَاعِهِمَا ، وَهَذَا فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ لِأَنَّ الْعَمْدَ مَبْنَاهُ عَلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ وَلِهَذَا تُقْتَلُ الْعَشَرَةُ بِالْوَاحِدِ ، وَفِي مُرَاعَاةِ صُورَةِ الْفِعْلِ مَعْنَى التَّغْلِيظِ فَيَجُوزُ اعْتِبَارُهُ فِيهِ ، وَأَمَّا الْخَطَأُ فَمَبْنَاهُ عَلَى التَّخْفِيفِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الدِّيَةَ لَا تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْقَاتِلِينَ ، فَاعْتِبَارُ التَّغْلِيظِ فِيهِ لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا .
قَالَ ( وَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا مِائَةَ سَوْطٍ فَبَرَأَ مِنْ تِسْعِينَ وَمَاتَ مِنْ عَشَرَةٍ فَفِيهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ) لِأَنَّهُ لَمَّا بَرَأَ مِنْهَا لَا تَبْقَى مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ الْأَرْشِ وَإِنْ بَقِيَتْ مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ التَّعْزِيرِ فَبَقِيَ الِاعْتِبَارُ لِلْعَشَرَةِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ جِرَاحَةٍ انْدَمَلَتْ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي مِثْلِهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ تَجِبُ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ ( وَإِنْ ضَرَبَ رَجُلًا مِائَةَ سَوْطٍ وَجَرَحَتْهُ وَبَقِيَ لَهُ أَثَرٌ تَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ ) لِبَقَاءِ الْأَثَرِ وَالْأَرْشِ إنَّمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ الْأَثَرِ فِي النَّفْسِ .
قَالَ ( وَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا مِائَةَ سَوْطٍ فَبَرَأَ إلَخْ ) وَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا تِسْعِينَ سَوْطًا فِي مَكَان وَعَشَرَةً فِي مَكَان فَبَرِئَ مِنْ تِسْعِينَ وَسَرَى مَوْضِعُ الْعَشَرَةِ وَمَاتَ مِنْهُ فَفِيهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا كُلُّ جِرَاحَةٍ انْدَمَلَتْ ) يَعْنِي مِثْلَ أَنْ كَانَتْ شَجَّةً فَالْتَحَمَتْ وَنَبَتَ الشَّعْرُ فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى مُعْتَبَرَةً لَا فِي حَقِّ الْأَرْشِ وَلَا فِي حَقِّ حُكُومَةِ عَدْلٍ ، وَإِنَّمَا تَبْقَى فِي حَقِّ التَّعْزِيرِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مِثْلِهِ حُكُومَة عَدْلٍ ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا فِي آخِرِ فَصْلِ الشِّجَاجِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَجِبُ أَجْرُ الطَّبِيبِ ( وَإِنْ ضَرَبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ وَجَرَحَتْهُ وَبَقِيَ لَهُ أَثَرٌ يَجِبُ لَهُ حُكُومَة عَدْلٍ ) دُونَ الْأَرْشِ لِأَنَّ حُكُومَةَ عَدْلٍ إنَّمَا تَكُونُ لِبَقَاءِ الْأَثَرِ وَهُوَ مَوْجُودٌ ، وَالْأَرْشُ إنَّمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ الْأَثَرِ فِي النَّفْسِ بِأَنْ لَمْ يَبْرَأْ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَجْرَحْ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ جَرَحَ وَانْدَمَلَ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ فَكَذَلِكَ كَمَا هُوَ أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إلَّا مُجَرَّدُ الْأَلَمِ وَهُوَ لَا يُوجِبُ شَيْئًا كَمَا لَوْ ضَرَبَهُ ضَرْبًا مُؤْلِمًا ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ ، وَدَلِيلُهَا يَأْتِي قَبْلَ فَصْلِ الْجَنِينِ .
قَالَ : ( وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ فَعَفَا الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ عَنْ الْقَطْعِ ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى الْقَاطِعِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ، وَإِنْ عَفَا عَنْ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ عَفْوٌ عَنْ النَّفْسِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ خَطَأً فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَهُوَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : إذَا عَفَا عَنْ الْقَطْعِ فَهُوَ عَفْوٌ عَنْ النَّفْسِ أَيْضًا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا عَفَا عَنْ الشَّجَّةِ ثُمَّ سَرَى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ ، لَهُمَا أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقَطْعِ عَفْوٌ عَنْ مُوجِبِهِ ، وَمُوجِبُهُ الْقَطْعُ لَوْ اقْتَصَرَ أَوْ الْقَتْلُ إذَا سَرَى ، فَكَانَ الْعَفْوُ عَنْهُ عَفْوًا عَنْ أَحَدِ مُوجِبَيْهِ أَيُّهُمَا كَانَ ، وَلِأَنَّ اسْمَ الْقَطْعِ يَتَنَاوَلُ السَّارِيَ وَالْمُقْتَصَرَ فَيَكُونُ الْعَفْوُ عَنْ قَطْعٍ عَفْوًا عَنْ نَوْعَيْهِ وَصَارَ كَمَا إذَا عَفَا عَنْ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْجِنَايَةَ السَّارِيَةَ وَالْمُقْتَصِرَةَ .
كَذَا هَذَا .
وَلَهُ أَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ قَتْلُ نَفْسٍ مَعْصُومَةٍ مُتَقَوِّمَةٍ وَالْعَفْوُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ بِصَرِيحِهِ لِأَنَّهُ عَفَا عَنْ الْقَطْعِ وَهُوَ غَيْرُ الْقَتْلِ ، وَبِالسِّرَايَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاقِعَ قَتْلٌ وَحَقُّهُ فِيهِ وَنَحْنُ نُوجِبُ ضَمَانَهُ .
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْعَمْدِ ، إلَّا أَنَّ فِي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ الدِّيَةُ ، لِأَنَّ صُورَةَ الْعَفْوِ أَوْرَثَتْ شُبْهَةً وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْقَوَدِ .
وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّارِيَ نَوْعٌ مِنْ الْقَطْعِ ، وَأَنَّ السِّرَايَةَ صِفَةٌ لَهُ ، بَلْ السَّارِي قَتْلٌ مِنْ الِابْتِدَاءِ ، وَكَذَا لَا مُوجِبَ لَهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ قَطْعًا فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَفْوُ ، بِخِلَافِ الْعَفْوِ عَنْ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ ، وَبِخِلَافِ الْعَفْوِ عَنْ الشَّجَّةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْعَفْوِ عَنْ السِّرَايَةِ وَالْقَتْلِ ، وَلَوْ كَانَ الْقَطْعُ خَطَأً فَقَدْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْعَمْدِ فِي
هَذِهِ الْوُجُوهِ وِفَاقًا وَخِلَافًا ، آذَنَ بِذَلِكَ إطْلَاقَهُ ، إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ خَطَأً فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَهُوَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقَوَدُ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ لِمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَصَارَ كَمَا إذَا أَوْصَى بِإِعَارَةِ أَرْضِهِ .
أَمَّا الْخَطَأُ فَمُوجِبُهُ الْمَالُ ، وَحَقُّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ إلَخْ ) اعْلَمْ أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقَطْعِ وَالشَّجَّةِ وَالْجِرَاحَةِ لَيْسَ بِعَفْوٍ عَمَّا يَحْدُثُ مِنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا ، فَإِذَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَعَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْهُ ثُمَّ سَرَى وَمَاتَ فَعَلَى الْجَانِي الدِّيَةُ فِي مَالِهِ عِنْدَهُ ، وَقَالَا : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقَطْعِ عَفْوٌ عَنْ مُوجَبِهِ ، لِأَنَّ الْفِعْلَ عَرَضٌ لَا يَبْقَى فَلَا يُتَصَوَّرُ الْعَفْوُ عَنْهُ فَيَكُونُ الْعَفْوُ عَنْهُ عَفْوًا عَنْ مُوجَبِهِ وَمُوجَبُهُ إمَّا الْقَطْعُ أَوْ الْقَتْلُ إذَا اقْتَصَرَ أَوْ سَرَى فَكَانَ الْعَفْوُ عَفْوًا عَنْهُمَا ، وَلِأَنَّ اسْمَ الْقَطْعِ يَتَنَاوَلُ السَّارِيَ وَالْمُقْتَصِرَ فَإِنَّ الْإِذْنَ بِالْقَطْعِ إذْنٌ بِهِ وَبِمَا حَدَثَ مِنْهُ .
حَتَّى إذَا قَالَ شَخْصٌ آخَرُ اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهُ ثُمَّ سَرَى إلَى النَّفْسِ لَمْ يَضْمَنْ وَالْعَفْوُ إذْنٌ انْتِهَاءً فَيُعْتَبَرُ بِالْإِذْنِ ابْتِدَاءً ، فَصَارَ كَمَا إذَا عَفَا عَنْ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ السَّارِيَةَ وَالْمُقْتَصِرَةَ ، فَكَذَا هَذَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ وَهُوَ قَتْلُ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ الْمُتَقَوِّمَةِ قَدْ تَحَقَّقَ ، وَالْمَانِعُ مُنْتَفٍ لِأَنَّ الْعَفْوَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ بِصَرِيحِهِ لِأَنَّهُ عَفَا عَنْ الْقَطْعِ وَهُوَ غَيْرُ الْقَتْلِ لَا مَحَالَةَ ، وَبِالسَّرَايَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاقِعَ قَتَلَ وَحَقُّهُ فِيهِ ، فَمَا هُوَ حَقُّهُ لَمْ يَعْفُ عَنْهُ ، وَمَا عَفَا عَنْهُ فَلَيْسَ بِحَقِّهِ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَلِيَّ لَوْ قَالَ بَعْدَ السِّرَايَةِ عَفَوْتُك عَنْ الْيَدِ لَمْ يَكُنْ عَفْوًا ، وَلَوْ قَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَفَوْتُك عَنْ الْقَتْلِ وَاقْتَصَرَ عَلَى الْقَطْعِ لَمْ يَكُنْ عَفْوًا ، فَكَذَا إذَا عَفَا عَنْ الْيَدِ ثُمَّ سَرَى ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَفْوُ مُعْتَبَرًا وَجَبَ الضَّمَانُ ، وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي الْقِصَاصَ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْعَمْدِ ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ لِأَنَّ صُورَةَ الْعَفْوِ أَوْرَثَتْ شُبْهَةً
وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْقَوَدِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّارِيَ نَوْعٌ مِنْ الْقَطْعِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا فَيَكُونُ الْعَفْوُ عَفْوًا عَنْ نَوْعَيْهِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّهُ مَنَعَ كَوْنَ السِّرَايَةِ صِفَةً لَهُ ، وَيُقَالُ سَرَى الْقَطْعُ وَقَطْعٌ سَارٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ صِفَةٌ مُنَوَّعَةٌ وَهِيَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ ، بَلْ هِيَ مُخْرِجَةٌ عَنْ حَقِيقَتِهَا كَمَا يُقَالُ عَصِيرٌ مُسْكِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( بَلْ السَّارِي قَتْلٌ مِنْ الِابْتِدَاءِ ) إضْرَابٌ عَنْ قَوْلِهِ نَوْعٌ مِنْ الْقَطْعِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِعْلٌ مُزْهِقٌ لِلرُّوحِ وَلَمَّا انْزَهَقَ الرُّوحُ بِهِ عَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ قَتْلًا وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا لَا مُوجَبَ لَهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ قَطْعًا ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ أَوْ الْقَتْلُ إذَا سَرَى ، يُرِيدُ أَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلْقَطْعِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ قَطْعًا ، لِأَنَّهُ إذَا سَرَى وَمَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْقَطْعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُوجَبٌ أَصْلًا ، إنَّمَا الثَّابِتُ مُوجَبُ الْقَتْلِ وَهُوَ الدِّيَةُ فَكَانَ الْعَفْوُ الْمُضَافُ إلَى الْقَطْعِ مُضَافًا إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ فَلَا يَصِحُّ ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ عَنْ الْقَطْعِ لَا يَكُونُ عَفْوًا عَنْ الْقَتْلِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَفْوُ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْعَفْوِ عَنْ الْجِنَايَةِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ ) وَهِيَ الْعَفْوُ عَنْ الْقَطْعِ مُطْلَقًا وَالْعَفْوُ عَنْ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ وَالْعَفْوُ عَنْ الشَّجَّةِ وَالْعَفْوُ عَنْ الْجِنَايَةِ ( وِفَاقًا ) وَهُوَ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ عَفْوٌ عَنْ الدِّيَةِ بِالِاتِّفَاقِ فِيمَا إذَا كَانَ الْقَطْعُ خَطَأً ، وَالثَّانِي الْعَفْوُ عَنْ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ عَفْوٌ عَنْ الدِّيَةِ أَيْضًا ( وَخِلَافًا ) وَهُوَ أَيْضًا فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقَطْعِ مُطْلَقًا عَفْوٌ عَنْ الدِّيَةِ عِنْدَهُمَا إذَا كَانَ خَطَأً ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَكُونُ عَفْوًا
عَنْ أَرْشِ الْيَدِ لَا غَيْرُ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الشَّجَّةِ عَفْوٌ عَنْ الدِّيَةِ إذَا سَرَتْ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَهُ عَنْ أَرْشِ الشَّجَّةِ لَا غَيْرُ ( آذَنَ ) أَيْ أَعْلَمَ ( بِذَلِكَ إطْلَاقُهُ ) أَيْ إطْلَاقُ لَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ فَعَفَا الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ عَنْ الْقَطْعِ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ لِلْعَمْدِ وَالْخَطَأِ ، وَمُنِعَ الْإِطْلَاقُ بِأَنَّ قَوْلَهُ فَعَلَى الْقَاطِعِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْعَمْدِ لِأَنَّ الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوَضْعَ مُطْلَقٌ لَا مَحَالَةَ ، وَالْجَوَابُ إنَّمَا هُوَ لِأَحَدِ نَوْعَيْهِ ، وَتَقْرِيرُهُ فَعَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ الْقَطْعُ عَمْدًا .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا لَوْ أَوْصَى بِإِعَارَةِ أَرْضِهِ ) يَعْنِي إذَا تَبَرَّعَ بِمَنَافِع أَرْضِهِ فِي مَرَضِهِ بِالْعَارِيَّةِ وَانْتَفَعَ بِهَا الْمُسْتَعِيرُ ثُمَّ مَاتَ الْمُعِيرُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ ، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ أَنَّ الْقِصَاصَ مَوْرُوثٌ بِالِاتِّفَاقِ فَكَيْفَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ .
الثَّانِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِإِعَارَةِ أَرْضِهِ بَاطِلَةٌ وَإِنْ صَحَّتْ فَحُكْمُهُ التَّهَايُؤُ يَسْكُنُ الْمُوصَى لَهُ يَوْمًا وَالْوَرَثَةُ يَوْمَيْنِ إنْ لَمْ يَقْبَلْ الْقِسْمَةَ ، وَإِنْ قَبِلَهَا يُفْرَزُ الثُّلُثُ لِلْمُوصَى لَهُ .
وَالثَّالِثُ أَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ فَكَيْفَ صَارَتْ نَظِيرًا لِمَا لَيْسَ بِمَالٍ ؟ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ رَحِمَهُ اللَّهُ نَفَى تَعَلُّقَ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِهِ لَا كَوْنَهُ مَوْرُوثًا ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ ، وَحُكْمُ الْخَلَفِ لَا يَثْبُتُ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ وَالْقِيَاسُ فِي الْمَالِ أَيْضًا أَنْ لَا يَثْبُتَ فِيهِ تَعَلُّقُ حَقِّهِمْ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ ، لَكِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ شَرْعًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ
أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ } وَتَرْكُهُمْ أَغْنِيَاءَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْغِنَى وَهُوَ الْمَالُ ، فَلَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ لَتَصَرَّفَ فِيهِ فَيَتْرُكُهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ، وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لَكِنَّهُ مَوْرُوثٌ ، لِأَنَّ الْإِرْثَ خِلَافَةُ ذِي نَسَبِ الْمَيِّتِ الْحَقِيقِيِّ أَوْ الْحُكْمِيِّ أَوْ نِكَاحُهُ أَوْ وِلَايَةٌ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا فِي مَالِهِ أَوْ حَقٌّ قَابِلٌ لَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ .
وَقَدْ فَسَّرْنَاهُ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ فِي الْفَرَائِضِ وَهُوَ كَمَا تَرَى لَا يَنْحَصِرُ فِي الْمَالِ ، بَلْ إذَا كَانَ حَقًّا قَابِلًا لِلْخِلَافَةِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَوْرُوثًا ، وَلَا شَكَّ فِي قَبُولِهِ الْقِصَاصِ لِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ أَوْصَى تَبَرُّعٌ كَمَا عَبَّرْنَا عَنْهُ آنِفًا وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ خَاصٌّ فَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَارَ لِمُطْلَقِهِ .
وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ إذَا كَانَتْ فِي عَقْدٍ فِيهِ مُعَاوَضَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ ) فِيهِ إشْكَالٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا اُعْتُبِرَ مِنْ الثُّلُثِ كَانَ وَصِيَّةً وَالْقَاتِلُ مِنْ الْعَاقِلَةِ وَالْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ بَاطِلَةٌ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَصِحَّ فِي حِصَّتِهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَجْرُوحَ لَمْ يَقُلْ أَوْصَيْت لَك بِثُلُثِ الدِّيَةِ ، وَإِنَّمَا عَفَا عَنْ الْمَالِ بَعْدَ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَكَانَ تَبَرُّعًا مُبْتَدَأً وَلَا مَانِعَ عَنْهُ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لَهُ شَيْئًا وَسَلَّمَ جَازَ .
قَالَ : ( وَإِذَا قَطَعَتْ الْمَرْأَةُ يَدَ رَجُلٍ فَتَزَوَّجَهَا عَلَى يَدِهِ ثُمَّ مَاتَ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَعَلَى عَاقِلَتِهَا الدِّيَةُ إنْ كَانَ خَطَأً ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَفِي مَالِهَا ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْيَدِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَفْوًا عَمَّا يَحْدُثُ مِنْهُ عِنْدَهُ فَالتَّزَوُّجُ عَلَى الْيَدِ لَا يَكُونُ تَزَوُّجًا عَلَى مَا يَحْدُثُ مِنْهُ .
ثُمَّ الْقَطْعُ إذَا كَانَ عَمْدًا يَكُونُ هَذَا تَزَوُّجًا عَلَى الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَصْلُحُ مَهْرًا ، لَا سِيَّمَا عَلَى تَقْدِيرِ السُّقُوطِ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَعَلَيْهَا الدِّيَةُ فِي مَالِهَا لِأَنَّ التَّزَوُّجَ وَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ الْعَفْوَ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَكِنْ عَنْ الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَإِذَا سَرَى تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَتْلُ النَّفْسِ وَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَفْوُ فَتَجِبُ الدِّيَةُ وَتَجِبُ فِي مَالِهَا لِأَنَّهُ عَمْدٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ .
وَإِذَا وَجَبَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَعَلَيْهَا الدِّيَةُ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ إنْ كَانَا عَلَى السَّوَاءِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الدِّيَةِ فَضْلٌ تَرُدُّهُ عَلَى الْوَرَثَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَهْرِ فَضْلٌ يَرُدُّهُ الْوَرَثَةُ عَلَيْهَا ، وَإِذَا كَانَ الْقَطْعُ خَطَأً يَكُونُ هَذَا تَزَوُّجًا عَلَى أَرْشِ الْيَدِ ، وَإِذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا أَرْشَ لِلْيَدِ وَأَنَّ الْمُسَمَّى مَعْدُومٌ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ ، كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى مَا فِي الْيَدِ وَلَا شَيْءَ فِيهَا .
وَلَا يَتَقَاصَّانِ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْخَطَأِ وَالْمَهْرُ لَهَا .
قَالَ ( وَإِذَا قَطَعَتْ الْمَرْأَةُ يَدَ رَجُلٍ إلَخْ ) إذَا قَطَعَتْ الْمَرْأَةُ يَدَ رَجُلٍ فَتَزَوَّجَهَا عَلَى يَدِهِ فَإِمَّا أَنْ يَقْتَصِرَ أَوْ يَسْرِيَ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَيَصِيرُ الْأَرْشُ وَهُوَ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ مَهْرًا لَهَا بِالْإِجْمَاعِ سَوَاءٌ كَانَ الْقَطْعُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَتَزَوَّجَهَا عَلَى الْقَطْعِ فَقَطْ أَوْ عَلَيْهِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ ، لِأَنَّهُ لَمَّا بَرَأَ تَبَيَّنَ أَنَّ مُوجَبَهَا الْأَرْشُ دُونَ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي فِي الْأَطْرَافِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْأَرْشُ يَصْلُحُ صَدَاقًا .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ ثُمَّ مَاتَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَهَا ذَلِكَ وَالدِّيَةُ فِي مَالِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْيَدِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَفْوًا عَمَّا يَحْدُثُ مِنْهُ عِنْدَهُ فَالتَّزَوُّجُ عَلَى الْيَدِ لَا يَكُونُ تَزَوُّجًا عَلَى مَا يَحْدُثُ مِنْهُ فَيَكُونُ مَا لَهَا مِنْ الْمَهْرِ غَيْرَ مَا عَلَيْهَا مِمَّا يَحْدُثُ مِنْهُ ثُمَّ الْقَطْعُ إذَا كَانَ عَمْدًا كَانَ التَّزَوُّجُ تَزَوُّجًا عَلَى الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَصْلُحُ مَهْرًا لَا سِيَّمَا عَلَى تَقْدِيرِ سُقُوطِ الْقِصَاصِ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَصْلُحْ مَهْرًا عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ لَا يَصْلُحُ عَلَى تَقْدِيرِ سُقُوطِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَالْقِصَاصُ يَسْقُطُ هَاهُنَا إمَّا بِقَبُولِهَا التَّزَوُّجَ لِأَنَّ سُقُوطَهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَبُولِ فَلَمَّا قَبِلَتْ سَقَطَ ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ تَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْقِصَاصَ مَهْرًا جَعَلَ لَهَا وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ عَنْ نَفْسِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْوَاجِبُ فِي الْأَطْرَافِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ هُوَ الْأَرْشُ خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ وَهُوَ مَعْلُومٌ فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَهْرَ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ
لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَيَكُونَ مَجْهُولًا ، وَإِذَا لَمْ يَصْلُحْ الْقِصَاصُ وَلَا بَدَلُهُ مَهْرًا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَعَلَيْهَا الدِّيَةُ فِي مَالِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : قَبُولُ التَّزَوُّجِ يَتَضَمَّنُ الْعَفْوَ وَالْعَفْوُ لَا يُضْمَنُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الدِّيَةُ ، أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ التَّزَوُّجَ وَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ الْعَفْوَ لَكِنْ ( فِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَتَضَمَّنُ الْعَفْوَ ، عَنْ الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ ، وَإِذَا سَرَى تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَتَلَ وَالْعَفْوُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ فَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهَا لِأَنَّهُ عَمْدٌ ) وَالْعَاقِلَةُ لَا تَتَحَمَّلُ الْعَمْدَ ( وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْعَمْدِ ( وَإِذَا وَجَبَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَعَلَيْهَا الدِّيَةُ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ إنْ تَسَاوَيَا ) وَإِنْ لَمْ يَتَسَاوَيَا رَدَّ مَنْ عَلَيْهِ الْفَضْلُ عَلَى مَنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَإِذَا كَانَ الْقَطْعُ خَطَأً كَانَ التَّزَوُّجُ عَلَى أَرْشِ الْيَدِ ، وَإِذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا أَرْشَ لِلْيَدِ وَأَنَّ الْمُسَمَّى مَعْدُومٌ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى مَا فِي الْيَدِ وَلَا شَيْءَ فِيهَا وَلَا يَتَقَاصَّانِ لِأَنَّ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْخَطَأِ وَالْمَهْرُ لَهَا فَاخْتَلَفَ ذِمَّةُ مَنْ لَهُ وَذِمَّةُ مَنْ عَلَيْهِ وَشَرْطُ التَّقَاصِّ اتِّحَادُهُمَا .
قَالَ : ( وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى الْيَدِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا أَوْ عَلَى الْجِنَايَةِ ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ وَالْقَطْعُ عَمْدٌ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ) لِأَنَّ هَذَا تَزَوُّجٌ عَلَى الْقِصَاصِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَصَارَ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْقِصَاصَ مَهْرًا فَقَدْ رَضِيَ بِسُقُوطِهِ بِجِهَةِ الْمَهْرِ فَيَسْقُطُ أَصْلًا كَمَا إذَا أَسْقَطَ الْقِصَاصَ بِشَرْطِ أَنْ يَصِيرَ مَالًا فَإِنَّهُ يَسْقُطُ أَصْلًا ( وَإِنْ كَانَ خَطَأً يُرْفَعُ عَنْ الْعَاقِلَةِ مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَلَهُمْ ثُلُثُ مَا تَرَكَ وَصِيَّةً ) لِأَنَّ هَذَا تَزَوُّجٌ عَلَى الدِّيَةِ وَهِيَ تَصْلُحُ مَهْرًا إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّهُ مَرِيضٌ مَرَضَ الْمَوْتِ وَالتَّزَوُّجُ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ مُحَابَاةٌ فَيَكُونُ وَصِيَّةً فَيُرْفَعُ عَنْ الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُمْ يَتَحَمَّلُونَ عَنْهَا ، فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِمْ بِمُوجِبِ جِنَايَتِهَا ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَصِيَّةٌ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ لِمَا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِقَتَلَةٍ ، فَإِنْ كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ تَسْقُطُ ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ يَسْقُطُ ثُلُثُهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : كَذَلِكَ الْجَوَابُ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى الْيَدِ ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْيَدِ عَفْوٌ عَمَّا يَحْدُثُ مِنْهُ عِنْدَهُمَا فَاتَّفَقَ جَوَابُهُمَا فِي الْفَصْلَيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى الْيَدِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ ( وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا ) أَيْ لَا دِيَةَ وَلَا قِصَاصَ .
وَقَوْلُهُ ( يَرْفَعُ عَنْ الْعَاقِلَةِ مَهْرَ مِثْلِهَا ) أَيْ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَهُمْ ) أَيْ لِلْعَاقِلَةِ ( ثُلُثُ مَا تَرَكَ ) أَيْ ثُلُثُ مَا زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ إلَى تَمَامِ الدِّيَةِ يَكُونُ وَصِيَّةً .
وَقَوْلُهُ ( فَاتَّفَقَ جَوَابُهُمَا فِي الْفَصْلَيْنِ ) يَعْنِي فِي التَّزَوُّجِ عَلَى الْيَدِ إذَا كَانَ الْقَطْعُ خَطَأً ، وَفِي التَّزَوُّجِ عَلَى الْيَدِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا أَوْ عَلَى الْجِنَايَةِ ، وَعَبَّرَ بِالْفَصْلَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْمُخْتَلِفِ وَالْمُتَّفِقِ وَإِلَّا فَالْفُصُولُ ثَلَاثَةٌ .
قَالَ : ( وَمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ فَاقْتُصَّ لَهُ مِنْ الْيَدِ ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ ) لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ كَانَتْ قَتْلَ عَمْدٍ وَحَقُّ الْمُقْتَصِّ لَهُ الْقَوَدُ ، وَاسْتِيفَاءُ الْقَطْعِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْقَوَدِ كَمَنْ كَانَ لَهُ الْقَوَدُ إذَا اسْتَوْفَى طَرَفَ مَنْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْقِصَاصِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى الْقَطْعِ فَقَدْ أَبْرَأَهُ عَمَّا وَرَاءَهُ .
وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى الْقَطْعِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ حَقَّهُ فِيهِ وَبَعْدَ السِّرَايَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ فِي الْقَوَدِ فَلَمْ يَكُنْ مُبْرِئًا عَنْهُ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ .( قَالَ وَمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ فَاقْتُصَّ لَهُ مِنْ الْيَدِ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا مَاتَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ مِنْ الْقَطْعِ ، وَحُكْمُهُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُقْتَصِّ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ
قَالَ : ( وَمَنْ قَتَلَ وَلِيَّهُ عَمْدًا فَقَطَعَ يَدَ قَاتِلِهِ ثُمَّ عَفَا وَقَدْ قُضِيَ لَهُ بِالْقِصَاصِ أَوْ لَمْ يُقْضَ فَعَلَى قَاطِعِ الْيَدِ دِيَةُ الْيَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فَلَا يَضْمَنُهُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ إتْلَافَ النَّفْسِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا ، وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَعْفُ لَا يَضْمَنُهُ ، وَكَذَا إذَا سَرَى وَمَا بَرَأَ أَوْ مَا عَفَا وَمَا سَرَى ، أَوْ قَطَعَ ثُمَّ حَزَّ رَقَبَتَهُ قَبْلَ الْبُرْءِ أَوْ بَعْدَهُ وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ قِصَاصٌ فِي الطَّرَفِ فَقَطَعَ أَصَابِعَهُ ثُمَّ عَفَا لَا يَضْمَنُ الْأَصَابِعَ .
وَلَهُ أَنَّهُ اسْتَوْفَى غَيْرَ حَقِّهِ ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْقَتْلِ .
وَهَذَا قَطْعٌ وَإِبَانَةٌ ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُتْلِفَهُ تَبَعًا ، وَإِذَا سَقَطَ وَجَبَ الْمَالُ ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَصِيرَ قَتْلًا بِالسِّرَايَةِ فَيَكُونُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ ، وَمِلْكُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ضَرُورِيٌّ لَا يَظْهَرُ إلَّا عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ أَوْ الْعَفْوِ أَوْ الِاعْتِيَاضِ لِمَا أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِيهِ ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَظْهَرْ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا سَرَى لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْفُ وَمَا سَرَى ، قُلْنَا : إنَّمَا يَتَبَيَّنُ كَوْنُهُ قَطْعًا بِغَيْرِ حَقٍّ بِالْبُرْءِ حَتَّى لَوْ قَطَعَ وَمَا عَفَا وَبَرَأَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، وَإِذَا قَطَعَ ثُمَّ حَزَّ رَقَبَتَهُ قَبْلَ الْبُرْءِ فَهُوَ اسْتِيفَاءٌ وَلَوْ حَزَّ بَعْدَ الْبُرْءِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ هُوَ الصَّحِيحُ ، وَالْأَصَابِعُ وَإِنْ كَانَتْ تَابِعَةً قِيَامًا بِالْكَفِّ فَالْكَفُّ تَابِعَةٌ لَهَا غَرَضًا ، بِخِلَافِ الطَّرَفِ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ قَتَلَ وَلِيُّهُ عَمْدًا ) صُورَتُهُ ظَاهِرَةٌ وَكَذَلِكَ دَلِيلُهُمَا ، وَأَمَّا دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَحْتَاجُ إلَى كَلَامٍ ، فَقَوْلُهُ إنَّهُ اسْتَوْفَى غَيْرَ حَقِّهِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْقَتْلِ ، وَهَذَا قَطْعٌ وَإِبَانَةٌ فِي الْأَصْلِ ظَاهِرٌ لَا يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ ، وَقَدْ شَكَّكَ بَعْضُهُمْ بِمَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْلِ فَقَطَعَ الْوَلِيُّ يَدَهُ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْيَدَ ، وَإِنَّمَا يَضْمَنَانِ مَا أَتْلَفَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا وَمَا شَهِدَا إلَّا بِالْقَتْلِ ، وَلَوْ كَانَ الْقَطْعُ غَيْرَ الْقَتْلِ لَمَا ضَمِنَا ، وَكَوْنُ الْقَطْعِ غَيْرَ الْقَتْلِ لَا يَرْتَابُ فِيهِ أَحَدٌ ، وَلَيْسَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا هِيَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُمَا أَوْجَبَا لَهُ قَتْلَ النَّفْسِ ، وَذَلِكَ يُبَرِّئُ الْقَاطِعَ عَنْ الضَّمَانِ فَيَضْمَنَانِ لِإِيجَابِ الْبَرَاءَةِ لَهُ بَعْدَ عِلَّةِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَبْرَأَ غَرِيمَهُ عَنْ الدَّيْنِ ثُمَّ رَجَعُوا .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْمَالُ فِي الْحَالِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا اسْتَوْفَى غَيْرَ حَقِّهِ وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ فِي الْحَالِ .
وَقَوْلُهُ ( وَمِلْكُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ضَرُورِيٌّ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ : يَعْنِي لَمَّا كَانَ مِلْكُ الْقِصَاصِ ضَرُورِيًّا لِثُبُوتِهِ مَعَ الْمُنَافِي وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ كَمَا مَرَّ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ إلَّا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ ، وَهِيَ : اسْتِيفَاءُ النَّفْسِ بِالْقِصَاصِ ، وَالْعَفْوُ ، وَالِاعْتِيَاضُ لَا يَصِحُّ التَّصَرُّفُ فِي الْقَائِلِ بِغَيْرِهَا ، وَالْقَطْعُ مَقْصُودًا غَيْرَهَا فَيَكُونُ تَصَرُّفًا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ .
وَقَوْلُهُ ( فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ ) يَعْنِي قَبْلَ التَّصَرُّفِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ يُرِيدُ بِهِ الْقَطْعَ ( فَلَمْ يَظْهَرْ ) يَعْنِي مِلْكَ الْقِصَاصِ ( لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ ) وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا سَرَى ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَكَذَا إذَا سَرَى .
وَقَوْلُهُ (
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْفُ وَمَا سَرَى ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا أَوْ مَا عُفِيَ وَمَا سَرَى .
وَقَوْلُهُ ( الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ ) يَعْنِي فَلَا يَكُونُ مُسْتَشْهَدًا بِهِ ، وَكَذَا قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْأَصَابِعُ وَإِنْ كَانَتْ تَابِعَةً ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ قِصَاصٌ فِي الطَّرَفِ فَقَطَعَ أَصَابِعَهُ ثُمَّ عَفَا وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ فَإِنَّهُمْ تَبَرَّعُوا بِالْفَرْقِ .
وَأَمَّا صَاحِبُ الْأَسْرَارِ فَمَنَعَهُ وَقَالَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْأَصَابِعِ بَلْ يَلْزَمُهُ إذَا عَفَا عَنْ الْكَفِّ .
قَالَ : ( وَمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ إذَا اسْتَوْفَاهُ ثُمَّ سَرَى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ يَضْمَنُ دِيَةَ النَّفْسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : لَا يَضْمَنُ ) لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَهُوَ الْقَطْعُ ، وَلَا يُمْكِنُ التَّقْيِيدُ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ سَدِّ بَابِ الْقِصَاصِ ، إذْ الِاحْتِرَازُ عَنْ السِّرَايَةِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ فَصَارَ كَالْإِمَامِ وَالْبَزَّاغِ وَالْحَجَّامِ وَالْمَأْمُورِ بِقَطْعِ الْيَدِ .
وَلَهُ أَنَّهُ قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْقَطْعِ وَهَذَا وَقَعَ قَتْلًا وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ ظُلْمًا كَانَ قَتْلًا .
وَلِأَنَّهُ جُرْحٌ أَفْضَى إلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ وَهُوَ مُسَمَّى الْقَتْلِ ، إلَّا أَنَّ الْقِصَاصَ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَوَجَبَ الْمَالُ بِخِلَافِ مَا اسْتَشْهَدَا بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ إلَّا أَنَّهُ مُكَلَّفٌ فِيهَا بِالْفِعْلِ ، إمَّا تَقَلُّدًا كَالْإِمَامِ أَوْ عَقْدًا كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنْهَا .
وَالْوَاجِبَاتُ لَا تَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ كَالرَّمْيِ إلَى الْحَرْبِيِّ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا الْتِزَامَ وَلَا وُجُوبَ ، إذْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَى الْعَفْوِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِطْلَاقِ فَأَشْبَهَ الِاصْطِيَادَ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ إذَا اسْتَوْفَاهُ ) وَاضِحٌ ، وَقَدْ أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ قَبْلُ .
وَقَوْلُهُ ( فَصَارَ كَالْإِمَامِ ) أَيْ الْقَاضِي إذَا قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمَأْمُورُ بِقَطْعِ الْيَدِ ) كَمَا إذَا قَالَ اقْطَعْ يَدِي فَفَعَلَ فَمَاتَ لَا شَيْءَ عَلَى الْقَاطِعِ .
وَقَوْلُهُ ( فِي مَجْرَى الْعَادَةِ ) يَعْنِي أَنَّ الْمَوْتَ مِنْ الْجُرْحِ لَيْسَ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ فِيهَا ) ( أَيْ فِي الْمَسَائِلِ ) بِالْفِعْلِ إمَّا تَقَلُّدًا كَالْإِمَامِ فَإِنَّهُ إذَا تَقَلَّدَ الْقَضَاءَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ ( أَوْ عَقْدًا ) كَمَا مَرَّ فِي غَيْرِ الْإِمَامِ مِنْ الْمَسَائِلِ : يَعْنِي الْبَزَّاغَ وَالْحَجَّامَ فَإِنَّ الْفِعْلَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ ( وَالْوَاجِبَاتُ لَا تَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ كَالرَّمْيِ إلَى الْحَرْبِيِّ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ ) مِنْ الِاسْتِيفَاءِ ( لَا وُجُوبَ وَلَا الْتِزَامَ ) إذْ الْعَفْوُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِطْلَاقِ : أَيْ الْإِبَاحَةِ فَأَشْبَهَ الِاصْطِيَادَ ، وَلَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ إنْسَانًا ضَمِنَ كَذَا هَذَا ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ ، وَمُعَلِّمٍ ضَرَبَ الصَّبِيَّ بِإِذْنِ الْأَبِ فَمَاتَ ، وَقَاطِعِ يَدِ حَرْبِيٍّ أَوْ مُرْتَدٍّ أَسْلَمَ بَعْدَ الْقَطْعِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ، وَالْمُسْتَعِيرِ لِلرُّكُوبِ إذَا نَفَقَتْ الدَّابَّةُ مِنْهُ ، وَعَلَى الْمُعَلِّمِ وَالْقَاطِعِ ضَمَانٌ ، وَهَاهُنَا يَجِبُ إذَا سَرَى .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُولَى حَصَلَ سَبَبُ الْهَلَاكِ بِالْإِذْنِ فَيَنْتَقِلُ الْفِعْلُ إلَى الْإِذْنِ ، وَلَوْ أَهْلَكَ الْمَالِكُ دَابَّتَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَكَذَا إذَا أَذِنَ بِسَبَبِ الْهَلَاكِ ، وَالْأَبُ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ، بِخِلَافِ الْمُقْتَصِّ لَهُ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِالْمِلْكِ دُونَ
الْإِذْنِ ، وَلَمَّا قَطَعَ وَسَرَى كَانَ الْقَطْعُ قَتْلًا وَلَيْسَ لَهُ مِلْكُ الْقَتْلِ فَكَانَ تَصَرُّفًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَهُوَ يُوجِبُ الضَّمَانَ .
وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلِأَنَّ الْقَطْعَ مَعَ السِّرَايَةِ يَصِيرُ قَتْلًا مِنْ الِابْتِدَاءِ ، وَلَوْ قَتَلَ ابْتِدَاءً وَقَعَ الْقَتْلُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فِي مُبَاحِ الدَّمِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ ، فَكَذَا إذَا صَارَ قَتْلًا مِنْ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهُ مُسْتَنِدٌ إلَى ابْتِدَاءِ الْقَطْعِ .
( بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْقَتْلِ ) قَالَ : ( وَمَنْ قُتِلَ وَلَهُ ابْنَانِ حَاضِرٌ وَغَائِبٌ فَأَقَامَ الْحَاضِرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَتْلِ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الْبَيِّنَةَ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يُعِيدُ ( وَإِنْ كَانَ خَطَأً لَمْ يُعِدْهَا بِالْإِجْمَاعِ ) وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ يَكُونُ لِأَبِيهِمَا عَلَى آخَرَ .
لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْقِصَاصَ طَرِيقُهُ طَرِيقُ الْوِرَاثَةِ كَالدَّيْنِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ نَفْسِهِ فَيَكُونُ الْمِلْكُ فِيهِ لِمَنْ لَهُ الْمِلْكُ فِي الْمُعَوَّضِ كَمَا فِي الدِّيَةِ ، وَلِهَذَا لَوْ انْقَلَبَ مَالًا يَكُونُ لِلْمَيِّتِ ، وَلِهَذَا يَسْقُطُ بِعَفْوِهِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ فَيَنْتَصِبُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ .
وَلَهُ أَنَّ الْقِصَاصَ طَرِيقُهُ الْخِلَافَةُ دُونَ الْوِرَاثَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مِلْكَ الْقِصَاصِ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ وَالدِّيَةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فِي الْأَمْوَالِ ، كَمَا إذَا نَصَبَ شَبَكَةً فَتَعَلَّقَ بِهَا صَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ ، وَإِذَا كَانَ طَرِيقُهُ الْإِثْبَاتَ ابْتِدَاءً لَا يَنْتَصِبُ أَحَدُهُمْ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ فَيُعِيدُ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ حُضُورِهِ ( فَإِنْ كَانَ أَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْغَائِبَ قَدْ عَفَا فَالشَّاهِدُ خَصْمٌ وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ ) لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَى الْحَاضِرِ سُقُوطَ حَقِّهِ فِي الْقِصَاصِ إلَى مَالٍ ، وَلَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْعَفْوِ مِنْ الْغَائِبِ فَيَنْتَصِبُ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ ( وَكَذَلِكَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ قُتِلَ عَمْدًا وَأَحَدُ الرَّجُلَيْنِ غَائِبٌ فَهُوَ عَلَى هَذَا ) لِمَا بَيَّنَّاهُ .
( بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْقَتْلِ ) الْقَتْلُ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ رُبَّمَا يُجْحَدُ فَيَحْتَاجُ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ إلَى إثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَبَيَّنَ الشَّهَادَةَ فِيهِ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ ( وَمَنْ قُتِلَ وَلَهُ ابْنَانِ حَاضِرٌ وَغَائِبٌ فَأَقَامَ الْحَاضِرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَتْلِ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الْبَيِّنَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : لَا يُعِيدُ ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً .
لَا يُعِيدُ بِالْإِجْمَاعِ ) وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ يَكُونُ لِأَبِيهِمَا عَلَى آخَرَ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ حَقُّ الْوَرَثَةِ عِنْدَهُ وَحَقُّ الْمُورِثِ عِنْدَهُمَا ، وَلَيْسَ لِأَبِي حَنِيفَةَ تَمَسُّكٌ بِصِحَّةِ الْعَفْوِ مِنْ الْوَارِثِ حَالَ حَيَاةِ الْمُوَرِّثِ اسْتِحْسَانًا ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ بِصِحَّةِ الْعَفْوِ مِنْ الْمُوَرِّثِ الْمَجْرُوحِ اسْتِحْسَانًا لِلتَّدَافُعِ .
وَالْقِيَاسُ عَدَمُ الْجَوَازِ ، أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمُوَرِّثِ فَلِأَنَّ الْقَتْلَ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْوَارِثِ فَلِوُقُوعِهِ قَبْلَ ثُبُوتِ حَقِّهِ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ فَصَحَّ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا لِذَلِكَ ، وَإِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ ظَهَرَ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقِصَاصَ طَرِيقُهُ طَرِيقُ الْوِرَاثَةِ كَالدَّيْنِ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الدَّيْنِ ، وَحُكْمُهُ أَنْ يَنْتَصِبَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ ، وَاسْتَدَلَّ لَهُمَا عَلَى أَنَّ طَرِيقَهُ طَرِيقُ الْوِرَاثَةِ بِقَوْلِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ عِوَضُ نَفْسٍ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } فَيَكُونُ الْمِلْكُ فِيهِ لِمَنْ لَهُ الْمِلْكُ فِي الْمُعَوَّضِ كَمَا فِي الدِّيَةِ ، وَلِهَذَا لَوْ انْقَلَبَ مَا لَا يَكُونُ لِلْمَيِّتِ تُقْضَى بِهِ دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ مِنْهُ وَصَايَاهُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ طَرِيقَهُ طَرِيقُ الْخِلَافَةِ ، وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ لِمَنْ يَحْلِفُ ابْتِدَاءً ، كَالْعَبْدِ إذَا اتَّهَبَ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِأَهْلٍ
لِلْمِلْكِ ، كَمَا أَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِصَاصِ لِكَوْنِهِ مَلَكَ الْفِعْلَ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْفِعْلُ مِنْ الْمَيِّتِ وَالْوِرَاثَةُ هُوَ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ لِلْمُورِثِ ابْتِدَاءً ثُمَّ لِلْوَارِثِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الدَّيْنِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا كَالدَّيْنِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمَيِّتَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فِي الْأَمْوَالِ كَمَا إذَا نَصَبَ شَبَكَةً فَتَعَلَّقَ بِهَا صَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ ، وَإِذَا كَانَ طَرِيقُهُ الْإِثْبَاتَ ابْتِدَاءً لَا يَنْتَصِبُ أَحَدُهُمْ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ فَيُعِيدُ الْغَائِبُ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ حُضُورِهِ ، وَهَذَا أَنْسَبُ لِلْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ ، فَإِنَّ الْمَحَلَّ مِمَّا لِلشُّبْهَةِ فِيهِ مَجَالٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ أَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ ) وَاضِحٌ .
قَالَ : ( فَإِنْ كَانَ الْأَوْلِيَاءُ ثَلَاثَةً فَشَهِدَ أَثْنَانِ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ قَدْ عَفَا فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ وَهُوَ عَفْوٌ مِنْهُمَا ) لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ بِشَهَادَتِهِمَا إلَى أَنْفُسِهِمَا مَغْنَمًا وَهُوَ انْقِلَابُ الْقَوَدِ مَالًا ( فَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْقَاتِلُ فَالدِّيَةُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ) مَعْنَاهُ : إذَا صَدَّقَهُمَا وَحْدَهُ ، لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُمَا فَقَدْ أَقَرَّ بِثُلْثَيْ الدِّيَةِ لَهُمَا فَصَحَّ إقْرَارُهُ ، إلَّا أَنَّهُ يَدَّعِي سُقُوطَ حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ يُنْكِرُ فَلَا يُصَدَّقُ وَيَغْرَمُ نَصِيبَهُ ( وَإِنْ كَذَّبَهُمَا فَلَا شَيْءَ لَهُمَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ) وَمَعْنَاهُ : إذَا كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ أَيْضًا ، وَهَذَا لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِسُقُوطِ الْقِصَاصِ فَقِبَلَ وَادَّعَيَا انْقِلَابَ نَصِيبِهِمَا مَالًا فَلَا يُقْبَلُ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مَالًا لِأَنَّ دَعْوَاهُمَا الْعَفْوَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُنْكِرُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَفْوِ مِنْهُمَا فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ مُضَافٌ إلَيْهِمَا ، وَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ غَرِمَ الْقَاتِلُ ثُلُثَ الدِّيَةِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِإِقْرَارِهِ لَهُ بِذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ ) تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ ، وَتَعْلِيلُ قَوْلِهِ وَهُوَ عَفْوٌ مِنْهُمَا لَمْ يَذْكُرْهُ ، وَهُوَ مَا قَالَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ لِأَنَّهُمَا زَعَمَا أَنَّ الْقَوَدَ قَدْ سَقَطَ وَزَعْمُهُمَا مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِمَا .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْقَاتِلُ فَالدِّيَةُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ) يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَقْسَامُ الْعَقْلِيَّةُ ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُصَدِّقَهُمَا الْقَاتِلُ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ جَمِيعًا أَوْ يُكَذِّبَاهُمَا أَوْ يُصَدِّقَهُمَا الْقَاتِلُ دُونَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ بِالْعَكْسِ ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَوَّلًا هُوَ أَنْ يُصَدِّقَهُمَا الْقَاتِلُ وَحْدَهُ وَفِيهِ الدِّيَةُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ التَّعْلِيلِ ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ وَحْدَهُ إلَى أَنَّهُمَا لَوْ صَدَّقَاهُمَا ضَمِنَ الْقَاتِلُ لِلشَّاهِدَيْنِ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ لَا غَيْرُ لِأَنَّهُمَا ادَّعَيَا عَلَى الْقَاتِلِ الْمَالَ وَصَدَّقَهُمَا الْقَاتِلُ فِيهِ ، وَلَا شَيْءَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِتَصْدِيقِهِ الشَّاهِدَيْنِ فِيمَا شَهِدَا أَقَرَّا بِالْعَفْوِ فَصَارَ كَمَا لَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ عِيَانًا .
وَقَوْلُهُ ( إنْ كَذَّبَهُمَا ) أَيْ كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَيْضًا ( فَلَا شَيْءَ لِلشَّاهِدَيْنِ وَلِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ وَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ ) يَعْنِي وَكَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ ( غَرِمَ الْقَاتِلُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ثُلُثَ الدِّيَةِ لِإِقْرَارِهِ لَهُ بِذَلِكَ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَلَكِنَّهُ يَصْرِفُ ذَلِكَ إلَى الشَّاهِدَيْنِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْقَاتِلِ لَمْ يَثْبُتْ لِإِنْكَارِهِ .
وَمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاتِلُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ قَدْ بَطَلَ بِتَكْذِيبِهِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَاتِلَ بِتَكْذِيبِهِ الشَّاهِدَيْنِ أَقَرَّ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِثُلُثِ الدِّيَةِ لِزَعْمِهِ أَنَّ الْقِصَاصَ سَقَطَ بِدَعْوَاهُمَا الْعَفْوَ
عَنْ الثَّالِثِ وَانْقَلَبَ نَصِيبُهُ مَالًا وَالثَّالِثُ لَمَّا صَدَّقَ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْعَفْوِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ نَصِيبَهُمَا انْقَلَبَ مَالًا فَصَارَ مُقِرًّا لَهُمَا بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاتِلُ فَيَجُوزُ قَرَارُهُ بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ الْمَقَرُّ لَهُ هَذِهِ الْأَلْفُ لَيْسَتْ لِي وَلَكِنَّهَا لِفُلَانٍ جَازَ وَصَارَ الْأَلْفُ لِفُلَانٍ ، كَذَا هَذَا .
قَالَ : ( وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ ضَرَبَهُ فَلَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ إذَا كَانَ عَمْدًا ) لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالشَّهَادَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً ، وَفِي ذَلِكَ الْقِصَاصُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى قَتْلِ الْعَمْدِ تَتَحَقَّقُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، لِأَنَّ الْمَوْتَ بِسَبَبِ الضَّرْبِ إنَّمَا يُعْرَفُ إذَا صَارَ بِالضَّرْبِ صَاحِبُ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ ، وَتَأْوِيلُهُ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ ضَرَبَهُ بِشَيْءٍ جَارِحٍ .قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ ضَرَبَهُ ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا كَانَ عَمْدًا ) أَقُولُ : الْمُصَنِّفُ احْتَرَزَ بِهِ عَنْ الْخَطَأِ .
ثُمَّ قَالَ ( وَتَأْوِيلُهُ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ ضَرَبَهُ بِشَيْءٍ جَارِحٍ ) لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يَجِبُ الْقَوَدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا تَقَدَّمَ .
قِيلَ الشُّهُودُ شَهِدُوا عَلَى الضَّرْبِ بِشَيْءٍ جَارِحٍ ، وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ خَطَأً فَكَيْفَ يَثْبُتُ الْقَوَدُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ لَمَّا شَهِدُوا أَنَّهُ ضَرَبَهُ بِسِلَاحٍ فَقَدْ شَهِدُوا أَنَّهُ قَصَدَ ضَرْبَهُ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُخْطِئًا لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ ضَرَبَهُ ، وَإِنَّمَا يَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَصَدَ ضَرْبَ غَيْرِهِ فَأَصَابَهُ .
وَأَقُولُ : هَذَا لَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَى صَاحِبِ الْهِدَايَةِ ، لِأَنَّهُ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ إذَا كَانَ عَمْدًا ، نَعَمْ يَرِدُ عَلَى عِبَارَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلِهَذَا احْتَرَزَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ .
قَالَ : ( وَإِذَا اخْتَلَفَ شَاهِدَا الْقَتْلِ فِي الْأَيَّامِ أَوْ فِي الْبَلَدِ أَوْ فِي الَّذِي كَانَ بِهِ الْقَتْلُ فَهُوَ بَاطِلٌ ) لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يُعَادُ وَلَا يُكَرَّرُ ، وَالْقَتْلُ فِي زَمَانٍ أَوْ فِي مَكَان غَيْرُ الْقَتْلِ فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان آخَرَ ، وَالْقَتْلُ بِالْعَصَا غَيْرُ الْقَتْلِ بِالسِّلَاحِ لِأَنَّ الثَّانِيَ عَمْدٌ وَالْأَوَّلَ شِبْهُ الْعَمْدِ ، وَيَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُمَا فَكَانَ عَلَى كُلِّ قَتْلٍ شَهَادَةٌ فَرُدَّ ( وَكَذَا إذَا قَالَ أَحَدُهُمَا : قَتَلَهُ بِعَصًا وَقَالَ الْآخَرُ لَا أَدْرِي بِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ ) لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يُغَايِرُ الْمُقَيَّدَ .( وَقَوْلُهُ وَإِذَا اخْتَلَفَ شَاهِدَا الْقَتْلِ ) ظَاهِرٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الشَّهَادَاتِ أَنَّ اخْتِلَافَ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ يَمْنَعُ مِنْ الْحُكْمِ بِهَا فَفِي النُّفُوسِ أَوْلَى .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يُغَايِرُ الْمُقَيَّدَ ) فَإِنَّ الْمُطْلَقَ يُوجِبُ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ وَالْمُقَيَّدَ بِالْعَصَا عَلَى الْعَاقِلَةِ
قَالَ : ( وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ قَتَلَهُ وَقَالَا : لَا نَدْرِي بِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلَهُ فَفِيهِ الدِّيَةُ اسْتِحْسَانًا ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تُقْبَلَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ لِأَنَّ الْقَتْلَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْآلَةِ فَجُهِلَ الْمَشْهُودُ بِهِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِقَتْلٍ مُطْلَقٍ وَالْمُطْلَقُ لَيْسَ بِمُجْمَلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّ مُوجِبَيْهِ وَهُوَ الدِّيَةُ وَلِأَنَّهُ يُحْمَلُ إجْمَالُهُمْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى إجْمَالِهِمْ بِالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ سِتْرًا عَلَيْهِ .
وَأَوَّلُوا كَذِبَهُمْ فِي نَفْيِ الْعِلْمِ بِظَاهِرِ مَا وَرَدَ بِإِطْلَاقِهِ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ ، فَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِلَافُ بِالشَّكِّ ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفِعْلِ الْعَمْدُ فَلَا يَلْزَمُ الْعَاقِلَةُ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ قَتَلَهُ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ يُحْمَلُ إجْمَالُهُمْ فِي الشَّهَادَةِ ) فِيهِ صَنْعَةُ التَّجْنِيسِ التَّامِّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ } الْأَوَّلُ بِمَعْنَى الْإِبْهَامِ وَالثَّانِي بِمَعْنَى الصَّنِيعِ وَهُوَ الْإِحْسَانُ ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ جَوَابٌ عَمَّا يَرِدُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : الشُّهُودُ فِي قَوْلِهِمْ لَا نَدْرِي بِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلَهُ إمَّا صَادِقُونَ أَوْ كَاذِبُونَ لِعَدَمِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يَجِبُ أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُمْ ، لِأَنَّهُمْ إنْ صَدَقُوا امْتَنَعَ الْقَضَاءُ بِهَا لِاخْتِلَافِ مُوجَبِ السَّيْفِ وَالْعَصَا ، وَإِنْ كَذَبُوا فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ صَارُوا فَسَقَةً .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ جُعِلُوا عَالِمِينَ بِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِالسَّيْفِ ، لَكِنَّهُمْ بِقَوْلِهِمْ لَا نَدْرِي اخْتَارُوا حِسْبَةَ السَّتْرِ عَلَى الْقَاتِلِ وَأَحْسَنُوا إلَيْهِ بِالْإِحْيَاءِ وَجُعِلَ كَذِبُهُمْ هَذَا مَعْفُوًّا عِنْدَ اللَّهِ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { لَيْسَ كَذَّابٌ مَنْ يُصْلِحُ بَيْنَ اثْنَيْنِ } فَبِتَأْوِيلِهِمْ كَذِبُهُمْ بِهَذَا لَمْ يَكُونُوا فَسَقَةً فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ ( وَأَوَّلُوا كَذِبَهُمْ بِظَاهِرِ مَا وَرَدَ بِإِطْلَاقِهِ ) أَيْ بِتَجْوِيزِ الْكَذِبِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ ) أَيْ سَتْرُ الشَّاهِدِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ بِجَامِعِ أَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ هَاهُنَا ، كَمَا أَنَّ الْإِصْلَاحَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ هُنَالِكَ ، فَكَانَ وُرُودُ الْحَدِيثِ هُنَالِكَ وُرُودًا هَاهُنَا ، وَقَوْلُهُ ( فَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِلَافُ بِالشَّكِّ ) يَعْنِي إذَا اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ وَأَجْمَلُوا وَاحْتُمِلَ أَنْ لَا يَكُونُوا كَذَلِكَ وَقَعَ الشَّكُّ ، وَالِاخْتِلَافُ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ ( وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفِعْلِ الْعَمْدُ فَلَا يَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ ) .