كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي
قَالَ : ( وَإِذَا ادَّعَى رَجُلَانِ أَرْضًا ) يَعْنِي يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ( أَنَّهَا فِي يَدِهِ لَمْ يَقْضِ أَنَّهَا فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمَا ) لِأَنَّ الْيَدَ فِيهَا غَيْرُ مُشَاهَدَةٍ لِتَعَذُّرِ إحْضَارِهَا وَمَا غَابَ عَنْ عِلْمِ الْقَاضِي فَالْبَيِّنَةُ تُثْبِتُهُ وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ جُعِلَتْ فِي يَدِهِ ) لِقِيَامِ الْحُجَّةِ لِأَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ ( وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ جُعِلَتْ فِي أَيْدِيهِمَا ) لِمَا بَيَّنَّا فَلَا يَسْتَحِقُّ لِأَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ ( وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ لَبِنَ فِي الْأَرْضِ أَوْ بَنِي أَوْ حَفَرَ فَهِيَ فِي يَدِهِ ) لِوُجُودِ التَّصَرُّفِ وَالِاسْتِعْمَالِ فِيهَا .
.
وَقَالَ ( إذَا ادَّعَى رَجُلَانِ أَرْضًا إلَخْ ) إذَا ادَّعَى رَجُلَانِ أَرْضًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ادَّعَى أَنَّهَا فِي يَدِهِ وَلَمْ يَقْضِ الْقَاضِي أَنَّهَا فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمَا ( لِأَنَّ الْيَدَ ) حَقٌّ مَقْصُودٌ فَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ وَحَيْثُ كَانَتْ ( غَيْرَ مُشَاهَدَةٍ لِتَعَذُّرِ إحْضَارِهَا ) لَا بُدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ مَا غَابَ عَنْ الْمُشَاهَدَةِ ( وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ جُعِلَتْ فِي يَدِهِ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ ) فَإِنْ قِيلَ : الْبَيِّنَةُ تُقَامُ عَلَى خَصْمٍ وَحَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهَا فِي يَدِ الْآخَرِ فَلَيْسَ بِخَصْمٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ خَصْمٌ بِاعْتِبَارِ مُنَازَعَتِهِ فِي الْيَدِ ، وَمَنْ كَانَ خَصْمًا لِغَيْرِهِ بِاعْتِبَارِ مُنَازَعَتِهِ فِي شَيْءٍ شَرْعًا كَانَتْ بَيِّنَتُهُ مَقْبُولَةً ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ ) يَعْنِي فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُدَّعِيهِ خَصْمًا ( فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ جُعِلَتْ فِي أَيْدِيهِمَا ) لِقِيَامِ الْحُجَّةِ .
فَإِنْ طَلَبَا الْقِسْمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُقْسَمْ بَيْنَهُمَا مَا لَمْ يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ .
قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى ذَكَرَهَا فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ ، وَهِيَ مَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِي وَرَثَةٍ حُضُورٍ كِبَارٍ أَقَرُّوا عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهَا مِيرَاثٌ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَبِيهِمْ وَالْتَمَسُوا مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَقْسِمَهَا بَيْنَهُمْ ، فَالْقَاضِي لَا يَقْسِمُهَا بَيْنَهُمْ حَتَّى يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُمْ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُمْ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يَقْسِمُهَا بَيْنَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ ، وَيُشْهِدُ أَنَّهُ إنَّمَا قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمَذْكُورُ هَاهُنَا قَوْلُ الْكُلِّ ، لِأَنَّ الْقِسْمَةَ نَوْعَانِ : قِسْمَةٌ بِحَقِّ الْمِلْكِ لِتَكْمُلَ الْمَنْفَعَةُ وَقِسْمَةُ الْيَدِ
لِأَجْلِ الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ بِحَقٍّ وَالْعَقَارُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى الْحِفْظِ ، فَمَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَا يُقْسَمُ لِأَنَّ الْعَقَارَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ طَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينَ صَاحِبِهِ مَا هِيَ فِي يَدِهِ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا هِيَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ عَلَى الْبَتَاتِ ، فَإِنْ حَلَفَا لَمْ يَقْضِ لَهُمَا بِالْيَدِ وَبَرِئَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ دَعْوَى صَاحِبِهِ وَتُوقَفُ الدَّارُ إلَى أَنْ تَظْهَرَ حَقِيقَةُ الْحَالِ ، وَإِنْ نَكَلَا قُضِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ ، وَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا قُضِيَ عَلَيْهِ بِكُلِّهَا لِلْحَالِفِ ؛ نِصْفِهَا الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ وَنِصْفِهَا الَّذِي كَانَ بِيَدِ صَاحِبِهِ لِنُكُولِهِ ، وَإِذَا ادَّعَيَا أَرْضًا صَحْرَاءَ أَنَّهَا بِأَيْدِيهِمَا : يَعْنِي يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَلِكَ وَأَحَدُهُمَا لَبَّنَ فِيهَا أَوْ بَنَى أَوْ حَفَرَ فَهِيَ فِي يَدِهِ لِوُجُودِ التَّصَرُّفِ وَالِاسْتِعْمَالِ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ إثْبَاتُ الْيَدِ كَالرُّكُوبِ عَلَى الدَّوَابِّ وَاللُّبْسِ فِي الثِّيَابِ
( بَابُ دَعْوَى النَّسَبِ ) : ( وَإِذَا بَاعَ جَارِيَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ ) فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ بَاعَ فَهُوَ ابْنُ الْبَائِعِ وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ ( وَفِي الْقِيَاسِ هُوَ قَوْلُ زُفَرٍ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ دَعْوَتُهُ بَاطِلَةٌ ) لِأَنَّ الْبَيْعَ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ عَبْدٌ فَكَانَ فِي دَعْوَاهُ مُنَاقِضًا وَلَا نَسَبَ بِدُونِ الدَّعْوَى .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ اتِّصَالَ الْعُلُوقِ بِمِلْكِهِ شَهَادَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى كَوْنِهِ مِنْهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ الزِّنَا .
وَمَبْنَى النَّسَبِ عَلَى الْخَفَاءِ فَيُعْفَى فِيهِ التَّنَاقُضُ ، وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى اسْتَنَدَتْ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ أُمَّ وَلَدِهِ فَيُفْسَخُ الْبَيْعُ لِأَنَّ بَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ ( وَيُرَدُّ الثَّمَنُ ) لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ( وَإِنْ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي مَعَ دَعْوَةِ الْبَائِعِ أَوْ بَعْدَهُ فَدَعْوَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى ) لِأَنَّهَا أَسْبَقُ لِاسْتِنَادِهَا إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَهَذِهِ دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ ( وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةُ الْبَائِعِ ) لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ اتِّصَالُ الْعُلُوقِ بِمِلْكِهِ تَيَقُّنًا وَهُوَ الشَّاهِدُ وَالْحُجَّةُ ( إلَّا إذَا صَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي ) فَيَثْبُتُ النَّسَبُ وَيُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِيلَادِ بِالنِّكَاحِ ، وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ فَلَا يُثْبِتُ حَقِيقَةَ الْعِتْقِ وَلَا حَقَّهُ ، وَهَذِهِ دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ وَغَيْرُ الْمَالِكِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ .
( وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَةُ الْبَائِعِ فِيهِ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُشْتَرِي ) لِأَنَّهُ احْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ الْعُلُوقُ فِي مِلْكِهِ فَلَمْ تُوجَدْ الْحُجَّةُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِهِ ، وَإِذَا صَدَّقَهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالْوَلَدُ حُرٌّ وَالْأُمُّ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ كَمَا
فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِتَصَادُقِهِمَا وَاحْتِمَالِ الْعُلُوقِ فِي الْمِلْكِ
( بَابُ دَعْوَى النَّسَبِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ دَعْوَى الْأَمْوَالِ شَرَعَ فِي بَيَانِ دَعْوَى النَّسَبِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَكْثَرُ وُقُوعًا فَكَانَ أَهَمَّ ذِكْرًا فَقَدَّمَهُ ، قَالَ ( وَإِذَا بَاعَ جَارِيَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ إلَخْ ) اعْلَمْ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا ادَّعَى وَلَدَ الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ أَوْ الْمُشْتَرِي ، فَأَمَّا إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ أَوْ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ لِمَا بَيْنَ الْمُدَّتَيْنِ .
وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : إمَّا أَنْ ادَّعَى الْبَائِعُ وَحْدَهُ ، أَوْ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ ، أَوْ ادَّعَيَاهُ مَعًا ، أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ .
فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَقَدْ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَحْدَهُ فَهُوَ ابْنُ الْبَائِعِ وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ .
وَفِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ دَعْوَتُهُ بَاطِلَةٌ ، لِأَنَّ الْبَيْعَ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ عَبْدٌ فَكَانَ دَعْوَاهُ مُنَاقِضًا فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ كُنْت أَعْتَقْتهَا أَوْ دَبَّرْتهَا قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهَا ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الدَّعْوَى صَحِيحَةً لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ ، إذْ لَا نَسَبَ فِي الْجَارِيَةِ بِدُونِ الدَّعْوَى .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّا تَيَقَّنَّا بِاتِّصَالِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ ، وَذَلِكَ شَهَادَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى كَوْنِهِ مِنْهُ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ الزِّنَا فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ عَنْهَا وَعَنْ وَلَدِهَا ( قَوْلُهُ وَمَبْنَى النَّسَبِ عَلَى الْخَفَاءِ ) جَوَابٌ عَنْ التَّنَاقُضِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ لَا يَعْلَمُ ابْتِدَاءً بِكَوْنِ الْعُلُوقِ مِنْهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مِنْهُ فَيُعْفَى فِيهِ التَّنَاقُصُ ، وَلَا كَذَلِكَ الْعِتْقُ وَالتَّدْبِيرُ ، وَصَارَ كَالْمَرْأَةِ إذَا أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الْخُلْعِ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ كَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ، وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى اسْتَنَدَتْ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ أُمَّ وَلَدِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فَيُفْسَخُ الْبَيْعُ وَيَرُدُّ الثَّمَنَ
إنْ كَانَ مَنْقُودًا لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ .
وَإِنْ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ ، لِأَنَّ دَعْوَتَهُ دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ وَالْمُشْتَرِي يَصِحُّ مِنْهُ التَّحْرِيرُ ، فَكَذَا دَعْوَتُهُ لِحَاجَةِ الْوَلَدِ إلَى النَّسَبِ وَإِلَى الْحُرِّيَّةِ ، وَتَثْبُتُ لَهَا أُمَيَّةُ الْوَلَدِ بِإِقْرَارِهِ ، ثُمَّ لَا يَصِحُّ مِنْ الْبَائِعِ دَعْوَتُهُ لِأَنَّ الْوَلَدَ قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ النَّسَبِ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا مَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْبَائِعِ عِنْدَنَا لِأَنَّ دَعْوَتَهُ أَسْبَقُ لِاسْتِنَادِهَا إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ حَيْثُ كَانَ فِي مِلْكِهِ دَعْوَى الْمُشْتَرِي دَعْوَى تَحْرِيرٍ ، فَإِنَّ أَصْلَ الْعُلُوقِ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ .
وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ دَعْوَى التَّحْرِيرِ وَدَعْوَى الِاسْتِيلَاءِ لِاقْتِصَارِ الْأُولَى عَلَى الْحَالِ دُونَ الثَّانِيَةِ فَكَانَ الْبَائِعُ أَوْلَى ( قَوْلُهُ وَهَذِهِ دَعْوَى اسْتِيلَادٍ ) جَوَابٌ دَخَلَ تَقْرِيرُهُ كَيْفَ تَصِحُّ الدَّعْوَةُ وَالْمِلْكُ مَعْدُومٌ ؟ وَوَجْهُهُ أَنَّهَا دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ وَهِيَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى قِيَامِ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ يَسْتَنِدُ إلَى زَمَانِ الْمِلْكِ ، بِخِلَافِ دَعْوَةِ التَّحْرِيرِ عَلَى مَا يَجِيءُ ، وَكَذَلِكَ إنْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبَائِعِ لِاسْتِغْنَاءِ الْوَلَدِ حِينَئِذٍ عَنْ النَّسَبِ ( وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ ، فَإِمَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْبَائِعِ ) لِأَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى كَوْنِ الْوَلَدِ مِنْهُ اتِّصَالُ الْعُلُوقِ بِمِلْكِهِ وَلَمْ يُوجَدْ يَقِينًا ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِيلَادِ بِالنِّكَاحِ حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصَّلَاحِ ، لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ فَلَا تَثْبُتُ حَقِيقَةُ الْعِتْقِ فِي حَقِّ الْوَلَدِ وَلَا حَقُّهُ فِي الْأُمِّ فَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ ، وَإِذَا لَمْ تَصِرْ أُمَّ الْوَلَدِ بَقِيَتْ الدَّعْوَةُ فِي الْوَلَدِ دَعْوَةَ
تَحْرِيرٍ ، وَغَيْرُ الْمَالِكِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ وَالْبَائِعُ لَيْسَ بِمَالِكٍ ، وَإِنْ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ صَحَّ دَعْوَتُهُ ، وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبًا صَحَّ دَعْوَةُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَائِعَ كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ بَيْنِ الْمُدَّتَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَةُ الْبَائِعِ فِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ الْعُلُوقُ فِي مِلْكِهِ فَلَمْ تُوجَدْ الْحُجَّةُ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالْوَلَدُ حُرٌّ وَالْأُمُّ أُمُّ الْوَلَدِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِتَصْدِيقِهِمَا وَاحْتِمَالُ الْعُلُوقِ فِي الْمَلِكِ ، وَإِنْ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ صَحَّ دَعْوَتُهُ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ صَحِيحَةٌ حَالَةَ الِانْفِرَادِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْعُلُوقَ فِي مِلْكِهِ فَفِيمَا يَحْتَمِلُهُ أَوْلَى ، وَتَكُونُ دَعْوَتُهُ دَعْوَةَ اسْتِيلَادٍ حَتَّى يَكُونَ الْوَلَدُ حُرُّ الْأَصْلِ ، وَلَا يَكُونُ لَهُ وَلَاءٌ عَلَى الْوَلَدِ لِأَنَّ الْعُلُوقَ فِي مِلْكِهِ مُمْكِنٌ ، وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبًا فَالْمُشْتَرِي أَوْلَى لِأَنَّ الْبَائِعَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْأَجْنَبِيِّ ، هَذَا إذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً ، أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ الْبَيْعِ لِأَقَلَّ مِنْ أَقَلَّ مِنْ مُدَّةِ الْحَمْلِ أَوْ لِأَكْثَرَ مِنْ أَكْثَرِهَا أَوْ لِمَا بَيْنَهُمَا فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَيْضًا ، فَدَعْوَةُ الْبَائِعِ وَحْدَهُ لَا تَصِحُّ بِغَيْرِ تَصْدِيقِ الْمُشْتَرِي لِعَدَمِ تَيَقُّنِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ ، وَدَعْوَةُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ صَحِيحَةٌ .
وَاحْتِمَالُ كَوْنِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ ، إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلِّ الْمُدَّةِ لَا يَمْنَعُ دَعْوَةَ الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكَانَ الْوَلَدُ عَبْدًا لِلْمُشْتَرِي ، لِأَنَّهَا إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلِّ الْمُدَّةِ كَانَ النَّسَبُ لِلْبَائِعِ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ أَقَلِّ الْمُدَّةِ كَانَ النَّسَبُ
لِلْمُشْتَرِي فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِهِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فِي جَانِبِ الْمُشْتَرِي يَثْبُتُ فِي وَجْهَيْنِ وَفِي جَانِبِ الْبَائِعِ فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ فَكَانَ الْمُشْتَرِي أَوْلَى .
قُلْنَا : هَذَا تَرْجِيحٌ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعِلَّةِ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا .
وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مُتَعَاقِبًا إنْ سَبَقَ الْمُشْتَرِي صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَإِنْ سَبَقَ الْبَائِعُ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
( فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيلَادُ فِي الْأُمِّ ) لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْوَلَدِ وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِعَدَمِ حَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ فَلَا يَتْبَعُهُ اسْتِيلَادُ الْأُمِّ ( وَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ فِي الْوَلَدِ وَأَخَذَهُ الْبَائِعُ ) ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ هُوَ الْأَصْلُ فِي النَّسَبِ فَلَا يَضُرُّهُ فَوَاتُ التَّبَعِ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْوَلَدُ أَصْلًا لِأَنَّهَا تُضَافُ إلَيْهِ يُقَالُ أُمُّ الْوَلَدِ ، وَتَسْتَفِيدُ الْحُرِّيَّةَ مِنْ جِهَتِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } وَالثَّابِتُ لَهَا حَقُّ الْحُرِّيَّةِ وَلَهُ حَقِيقَتُهَا ، وَالْأَدْنَى يَتْبَعُ الْأَعْلَى ( وَيَرُدُّ الثَّمَنَ كُلَّهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : يَرُدُّ حِصَّةَ الْوَلَدِ وَلَا يَرُدُّ حِصَّةَ الْأُمِّ ) لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ أُمَّ وَلَدِهِ ، وَمَالِيَّتُهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَهُ فِي الْعَقْدِ وَالْغَصْبِ فَلَا يَضْمَنُهَا الْمُشْتَرِي ، وَعِنْدَهُمَا مُتَقَوِّمَةٌ فَيَضْمَنُهَا .
قَالَ ( فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ إلَخْ ) الْأَصْلُ فِي هَذِهِ أَنَّهُ إذَا حَدَثَ فِي الْوَلَدِ مَا لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ يَمْنَعُ فَسْخَ الْمِلْكِ فِيهِ بِالدَّعْوَةِ وَيَنْفِي ثُبُوتَ النَّسَبِ ، وَعَلَى هَذَا إنْ مَاتَ الْوَلَدُ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيلَادُ فِي الْأُمِّ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْوَلَدِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِعَدَمِ حَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ فَلَا يَتْبَعُهُ اسْتِيلَادُ الْأُمِّ ( وَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ) يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ وَأَخْذُهُ ( لِأَنَّهُ أَصْلٌ ) لِإِضَافَتِهَا إلَيْهِ حَيْثُ يُقَالُ أُمُّ الْوَلَدِ وَاسْتِفَادَتُهَا الْحُرِّيَّةَ مِنْ جِهَتِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } قَالَهُ حِينَ قِيلَ لَهُ وَقَدْ وَلَدَتْ مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ إبْرَاهِيمَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تَعْتِقُهَا : وَلِأَنَّ الثَّابِتَ لَهَا حَقُّ الْحُرِّيَّةِ وَلَهُ حَقِيقَتُهَا ، وَالْأَدْنَى يَتَّبِعُ الْأَعْلَى ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْأَصْلِ مَا يَمْنَعُ الدَّعْوَةَ لَمْ يَضُرَّ فَوَاتُ التَّبَعِ ، وَيَرُدُّ الثَّمَنَ كُلَّهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَرُدُّ حِصَّةَ الْوَلَدِ وَلَا يَرُدُّ حِصَّةَ الْأُمِّ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَالِيَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَهُ فِي الْعَقْدِ وَالْغَصْبِ فَلَا يَضْمَنُهَا الْمُشْتَرِي ، وَعِنْدَهُمَا مُتَقَوِّمَةٌ فَيَضْمَنُهَا .
وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إعْلَامًا بِأَنَّ حُكْمَ الْإِعْتَاقِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ حُكْمُ الْمَوْتِ ، فَإِذَا أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ وَادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ فَهُوَ ابْنُهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْوَلَدِ وَعَلَى قِيمَةِ الْأُمِّ ، فَمَا أَصَابَ الْأُمَّ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ ، وَمَا أَصَابَ الْوَلَدَ سَقَطَ عَنْهُ عِنْدَهَا .
وَعِنْدَهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِكُلِّ الثَّمَنِ كَمَا
سَنَذْكُرُهُ ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَعْتَقَ الْوَلَدَ فَدَعْوَتُهُ بَاطِلَةٌ إذْ لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُشْتَرِي فِي دَعْوَاهُ ، وَذَكَرَ الْفَرْقَ اسْتِظْهَارًا فَإِنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا مِنْ مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَإِذَا حَمَلَتْ الْجَارِيَةُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ فَبَاعَهَا فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ وَقَدْ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ فَهُوَ ابْنُهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ .
وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي إنَّمَا أَعْتَقَ الْوَلَدَ فَدَعْوَاهُ بَاطِلَةٌ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا الْبَابِ الْوَلَدُ ، وَالْأُمُّ تَابِعَةٌ لَهُ عَلَى مَا مَرَّ .
وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ قَامَ الْمَانِعُ مِنْ الدَّعْوَةِ وَالِاسْتِيلَادِ وَهُوَ الْعِتْقُ فِي التَّبَعِ وَهُوَ الْأُمُّ فَلَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْوَلَدُ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ .
كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ فَإِنَّهُ حُرٌّ وَأُمُّهُ أَمَةٌ لِمَوْلَاهَا ، وَكَمَا فِي الْمُسْتَوْلَدَةِ بِالنِّكَاحِ .
وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي قَامَ الْمَانِعُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْوَلَدُ فَيَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ فِيهِ وَفِي التَّبَعِ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِعْتَاقُ مَانِعًا لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ كَحَقِّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ وَحَقِّ الِاسْتِيلَادِ فَاسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، ثُمَّ الثَّابِتُ مِنْ الْمُشْتَرِي حَقِيقَةُ الْإِعْتَاقِ وَالثَّابِتُ فِي الْأُمِّ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ ، وَفِي الْوَلَدِ لِلْبَائِعِ حَقُّ الدَّعْوَةِ وَالْحَقُّ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ ، وَالتَّدْبِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَقَدْ ثَبَتَ بِهِ بَعْضُ آثَارِ الْحُرِّيَّةِ .
وَقَوْلُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ قَوْلُهُمَا وَعِنْدَهُ يُرَدُّ بِكُلِّ الثَّمَنِ هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي فَصْلِ الْمَوْتِ .
( وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ ) أَعْنِي بِهِ ثُبُوتَ حَقِّ الْعِتْقِ لِلْأُمِّ بِطَرِيقِ الِاسْتِيلَادِ هُوَ ثُبُوتُ حَقِيقَةِ الْعِتْقِ لِلْوَلَدِ بِالنَّسَبِ ( وَالْأُمُّ تَابِعَةٌ لَهُ ) فِي ذَلِكَ كَمَا مَرَّ ( وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ) يَعْنِي فِيمَا إذَا أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ ( قَامَ الْمَانِعُ وَهُوَ الْعِتْقُ مِنْ الدَّعْوَةِ وَالِاسْتِيلَادِ فِي التَّبَعِ وَهُوَ الْأُمُّ فَلَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْوَلَدُ ) فَإِنْ قِيلَ إذَا لَمْ يَمْتَنِعْ الدَّعْوَةُ مِنْ الْوَلَدِ ثَبَتَ الْعِتْقُ فِيهِ وَالنَّسَبُ لِكَوْنِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ بِيَقِينٍ ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا حَبِلَتْ الْجَارِيَةُ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ ، وَمِنْ حُكْمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ لِلْوَلَدِ صَيْرُورَةُ أُمِّهِ أُمَّ وَلَدٍ لِلْبَائِعِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَبْطُلَ الْبَيْعُ وَإِعْتَاقُ الْمُشْتَرِي .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ ) أَيْ لَيْسَ ثُبُوتُ الِاسْتِيلَادِ فِي حَقِّ الْأُمِّ مِنْ ضَرُورَاتِ ثُبُوتِ الْعِتْقِ وَالنَّسَبِ لِلْوَلَدِ لِانْفِكَاكِهِ عَنْهُ ( كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ ) وَهُوَ مَا إذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ يَزْعُمُ أَنَّهَا مِلْكُهُ فَاسْتَوْلَدَهَا فَاسْتُحِقَّتْ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ بِالْقِيمَةِ وَهُوَ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ أَبِيهِ وَلَيْسَتْ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لِأَبِيهِ ( وَكَمَا فِي الْمُسْتَوْلَدَةِ بِالنِّكَاحِ ) بِأَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ فَإِذَا هِيَ أَمَةٌ ( وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي ) وَهُوَ مَا إذَا أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْوَلَدَ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ أَنَّهُ وَلَدُهُ ( قَامَ الْمَانِعُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْوَلَدُ فَيَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ ) أَيْ ثُبُوتُ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ الدَّعْوَةُ وَالِاسْتِيلَادُ ( فِيهِ وَفِي التَّبَعِ ) وَقَوْلُهُ ( وَإِنَّمَا كَانَ الْإِعْتَاقُ مَانِعًا ) بَيَانٌ لِمَانِعِيَّةِ عِتْقِ الْوَلَدِ عَنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ بِدَعْوَةِ الْبَائِعِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْ الْمُشْتَرِي كَحَقِّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ فِي الْوَلَدِ وَحَقِّ اسْتِيلَادٍ فِي الْأُمِّ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَحْتَمِلُ
لِلنَّقْضِ فَلَيْسَ لِفِعْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى فِعْلِ الْآخَرِ تَرْجِيحٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَرُدَّ بِمَا إذَا بَاعَ جَارِيَةً حُبْلَى فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَعْتَقَ الْمُشْتَرِي أَحَدَهُمَا ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ الْآخَرَ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ فِيهِمَا جَمِيعًا حَتَّى يَبْطُلَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي ، وَذَلِكَ نَقْضٌ لِلْعِتْقِ كَمَا تَرَى .
أُجِيبَ بِأَنَّ التَّوْأَمَيْنِ فِي حُكْمِ وَلَدٍ وَاحِدٍ ، فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا وَالْحُكْمِ بِصَيْرُورَتِهِ حُرَّ الْأَصْلِ ثُبُوتُ النَّسَبِ لِلْآخَرِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ الْعِتْقُ فِي أَحَدِهِمَا فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْعِتْقِ فِي الْآخَرِ وَإِلَّا لَزِمَ تَرْجِيحُ الدَّعْوَةِ عَلَى الْعِتْقِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إنْ ثَبَتَ الْعِتْقُ فِي الْآخَرِ لَزِمَهُ ضَمَانُ قِيمَتِهِ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ زَائِدٌ ، فَإِنْ عُورِضَ بِأَنَّ الْبَائِعَ إذَا ادَّعَى النَّسَبَ فِي الَّذِي عِنْدَهُ كَانَ ذَلِكَ سَعْيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ قَوْلُهُ ثُمَّ الثَّابِتُ ) بَيَانُ تَرْجِيحِ الْإِعْتَاقِ عَلَى الِاسْتِلْحَاقِ ، فَإِنَّ الثَّابِتَ ( مِنْ الْمُشْتَرِي حَقِيقَةُ الْإِعْتَاقِ وَالثَّابِتُ ) لِلْبَائِعِ ( فِي الْوَلَدِ حَقُّ الدَّعْوَةِ وَفِي الْأُمِّ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ وَالْحَقُّ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ ) وَنُوقِضَ بِالْمَالِكِ الْقَدِيمِ مَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ فَإِنَّ الْمَالِكَ الْقَدِيمَ يَأْخُذُهُ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ وَلِلْمُشْتَرِي حَقِيقَتُهُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَرْجِيحٍ بَلْ هُوَ جَمْعٌ بَيْنَهُمَا ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ أَوْلَى .
فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا تَسْوِيَةٌ بَيْنَ الرَّاجِحِ وَالْمَرْجُوحِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ فِيهَا شُبْهَةٌ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى تَمَلُّكِ أَهْلِ الْحَرْبِ مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِنَا أَحْرَزُوا
بِدَارِهِمْ ، وَهُوَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَانْحَطَّتْ مِنْ دَرَجَةِ الْحَقَائِقِ فَقُلْنَا يَأْخُذُهُ بِالْقِيمَةِ جَمْعًا بَيْنَهُمَا التَّدْبِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَقَدْ ثَبَتَ بِهِ بَعْضُ آثَارِ الْحُرِّيَّةِ ) وَهُوَ عَدَمُ جَوَازِ النَّقْلِ مِنْ مَالِكٍ إلَى مَالِكٍ ( قَوْلُهُ وَقَوْلُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ) يُرِيدُ بِهِ أَنَّ مَا نُقِلَ عَنْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ قَوْلِهِ وَقَدْ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ فَهُوَ ابْنُهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ هُوَ قَوْلُهُمَا وَعِنْدَهُ يُرَدُّ بِكُلِّ الثَّمَنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي فَصْلِ الْمَوْتِ .
وَقَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ عَمَّا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ وَقَاضِي خَانْ وَالْمَحْبُوبِيُّ أَنَّهُ يُرَدُّ بِمَا يَخُصُّ الْوَلَدَ مِنْ الثَّمَنِ ، بِخِلَافِ الْمَوْتِ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ فِي الْإِعْتَاقِ كَذَّبَ الْقَاضِي الْبَائِعَ فِيمَا زَعَمَ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ حَيْثُ جَعَلَهَا مُعْتَقَةَ الْمُشْتَرِي أَوْ مُدَبَّرَتَهُ فَلَمْ يَبْقَ لِزَعْمِهِ عِبْرَةٌ .
وَأَمَّا فِي فَصْلِ الْمَوْتِ فَبِمَوْتِهَا لَمْ يَجْرِ الْحُكْمُ بِخِلَافِ مَا زَعَمَ الْبَائِعُ فَبَقِيَ زَعْمُهُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّهِ فَيَرُدُّ جَمِيعَ الثَّمَنِ ، وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا قِيمَةَ لَهَا وَقَالُوا إنَّهُ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ الْأُصُولِ ، وَكَيْفَ يَسْتَرِدُّ كُلَّ الثَّمَنِ وَالْبَيْعُ لَمْ يَبْطُلْ فِي الْجَارِيَةِ وَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي ؟ قِيلَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْوَلَدِ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ بِحُدُوثِهِ بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي وَلَا حِصَّةَ لِلْوَلَدِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْقَبْضِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَهُوَ كَحَادِثٍ قَبْلَ الْقَبْضِ وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَلَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ إذَا اسْتَهْلَكَهُ الْبَائِعُ وَقَدْ اسْتَهْلَكَهُ هُنَا بِالدَّعْوَةِ .
قَالَ : ( وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وُلِدَ عِنْدَهُ وَبَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ آخَرَ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ ابْنُهُ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ ) لِأَنَّ الْبَيْعَ يَحْتَمِلُ النَّقْضَ ، وَمَا لَهُ مِنْ حَقِّ الدَّعْوَةِ لَا يَحْتَمِلُهُ فَيُنْقَضُ الْبَيْعُ لِأَجْلِهِ ، وَكَذَا إذَا كَاتَبَ الْوَلَدَ أَوْ رَهَنَهُ أَوْ أَجَّرَهُ أَوْ كَاتَبَ الْأُمَّ أَوْ رَهَنَهَا أَوْ زَوَّجَهَا ثُمَّ كَانَتْ الدَّعْوَةُ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ تَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَيُنْقَضُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَتَصِحُّ الدَّعْوَةُ ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي أَوَّلًا ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الْبَائِعِ لِأَنَّ النَّسَبَ الثَّابِتَ مِنْ الْمُشْتَرِي لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَصَارَ كَإِعْتَاقِهِ .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وُلِدَ عِنْدَهُ إلَخْ ) وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّهُ إذَا حَدَثَ فِي الْوَلَدِ مَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ لَا يَمْنَعُ الدَّعْوَةَ فِيهِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا بَاعَ عَبْدًا وُلِدَ عِنْدَهُ يَعْنِي كَانَ أَصْلُ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ ثُمَّ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ آخَرَ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ ابْنُهُ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ لِاحْتِمَالِهِ النَّقْضَ ، وَمَا لِلْبَائِعِ مِنْ حَقِّ الدَّعْوَةِ لَا يَحْتَمِلُهُ فَيُنْقَضُ لِأَجْلِهِ ، وَكَذَا إذَا كَاتَبَ الْوَلَدَ أَوْ رَهَنَهُ أَوْ آجَرَهُ أَوْ كَاتَبَ الْأُمَّ أَوْ رَهَنَهَا أَوْ زَوَّجَهَا ثُمَّ كَانَتْ الدَّعْوَةُ ، لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ تَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَيُنْقَضُ لِأَجْلِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ لِمَا تَقَدَّمَ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي أَوْ لَا ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الْبَائِعِ لِأَنَّ النَّسَبَ الثَّابِتَ مِنْ الْمُشْتَرِي لَا يَحْتَمِلُ النَّقْصَ فَصَارَ كَإِعْتَاقِهِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الثَّابِتُ بِالْإِعْتَاقِ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ وَبِالدَّعْوَةِ حَقُّهَا فَأَنَّى يَتَسَاوَيَانِ .
وَأَمَّا الدَّعْوَةُ مِنْ الْمُشْتَرِي وَمِنْ الْبَائِعِ فَمُتَسَاوِيَتَانِ فِي أَنَّ الثَّابِتَ بِهِمَا حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَأَيْنَ الْمُرَجَّحُ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ التَّسَاوِيَ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالدَّعْوَةِ فِي عَدَمِ احْتِمَالِ النَّقْصِ وَذَلِكَ ثَابِتٌ أَلْبَتَّةَ .
وَتَرْجِيحُ دَعْوَةِ الْمُشْتَرِي عَلَى دَعْوَةِ الْبَائِعِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْوَلَدَ قَدْ اسْتَغْنَى بِالْأُولَى عِنْدَ ثُبُوتِ النَّسَبِ فِي وَقْتٍ لَا مُزَاحِمَ لَهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الثَّانِيَةِ
قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى نَسَبَ أَحَدِ التَّوْأَمَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا مِنْهُ ) لِأَنَّهُمَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ ، فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ نَسَبِ الْآخَرِ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّوْأَمَيْنِ وَلَدَانِ بَيْنَ وِلَادَتِهِمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ عُلُوقُ الثَّانِي حَادِثًا لِأَنَّهُ لَا حَبَلَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : إذَا كَانَ فِي يَدِهِ غُلَامَانِ تَوْأَمَانِ وُلِدَا عِنْدَهُ فَبَاعَ أَحَدَهُمَا وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الَّذِي فِي يَدِهِ فَهُمَا ابْنَاهُ وَبَطَلَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ الَّذِي عِنْدَهُ لِمُصَادَفَةِ الْعُلُوقِ وَالدَّعْوَةِ مِلْكَهُ إذْ الْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِيهِ ثَبَتَ بِهِ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ فِيهِ فَيَثْبُتُ نَسَبُ الْآخَرِ ، وَحُرِّيَّةُ الْأَصْلِ فِيهِ ضَرُورَةٌ لِأَنَّهُمَا تَوْأَمَانِ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ عِتْقَ الْمُشْتَرِي وَشِرَاءَهُ لَاقَى حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ فَبَطَلَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ وَاحِدًا لِأَنَّ هُنَاكَ يَبْطُلُ الْعِتْقُ فِيهِ مَقْصُودًا لِحَقِّ دَعْوَةِ الْبَائِعِ وَهُنَا ثَبَتَ تَبَعًا لِحُرِّيَّتِهِ فِيهِ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ فَافْتَرَقَا ( وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ الَّذِي عِنْدَهُ ، وَلَا يُنْقَضُ الْبَيْعُ فِيمَا بَاعَ ) لِأَنَّ هَذِهِ دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ لِانْعِدَامِ شَاهِدِ الِاتِّصَالِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَحَلِّ وِلَايَتِهِ .
( وَمَنْ ادَّعَى نَسَبَ أَحَدِ التَّوْأَمَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا مِنْهُ ) وَكَلَامُهُ فِيهِ ظَاهِرٌ .
وَذَكَرَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى صُورَةِ بَيْعِ أَحَدِهِمَا وَدَعْوَى النَّسَبِ فِي الْآخَرِ بَعْدَ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي ، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ غُلَامَانِ تَوْأَمٌ وَتَوْأَمَانِ .
قَوْلُهُ ( وَبَطَلَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي ) إنْ كَانَتْ الرِّوَايَةُ بِكَسْرِ الرَّاءِ فَالْعِتْقُ بِمَعْنَى الْإِعْتَاقِ ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْفَتْحِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّأْوِيلِ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ سُؤَالًا وَجَوَابًا .
قَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ وَاحِدًا لِأَنَّ هُنَاكَ يَبْطُلُ الْعِتْقُ فِيهِ مَقْصُودًا ) يَعْنِي عَلَى تَقْدِيرِ تَصْحِيحِ الدَّعْوَةِ مِنْ الْبَائِعِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ حَقَّ الدَّعْوَةِ لَا يُعَارِضُ الْإِعْتَاقَ ( وَهُنَا ) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ التَّوْأَمَيْنِ ( يَثْبُتُ ) بُطْلَانُ إعْتَاقِ الْمُشْتَرَى فِي الْمُشْتَرَى تَبَعًا لِحُرِّيَّتِهِ فِيهِ ( حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ ) لَا حُرِّيَّةُ التَّحْرِيرِ فَالضَّمِيرُ فِي لِحُرِّيَّتِهِ رَاجِعٌ إلَى الْمُشْتَرَى بِالْفَتْحِ .
وَقَوْلُهُ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ يَثْبُتُ ، الضَّمِيرُ لِلْمُشْتَرِي كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ لِحُرِّيَّتِهِ ، وَإِنَّمَا أُبْدِلَ بِهِ إشَارَةً إلَى سَبْقِهَا لِيَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا ، فَالْإِعْتَاقُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَكَانَ خَلِيفًا بِالرَّدِّ وَالْإِبْطَالِ ( وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِ الْمُدَّعِي يُثْبِتُ نَسَبَ الْوَلَدِ الَّذِي عِنْدَهُ وَلَا يَنْتَقِضُ الْبَيْعُ فِيمَا بَاعَ ) لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ انْعِدَامَ شَاهِدِ الِاتِّصَالِ بِالْمُدَّعِي ، فَكَانَ قَوْلُهُ هَذَا ابْنِي مَجَازًا عَنْ قَوْلِهِ هَذَا حُرٌّ دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ ، وَلَوْ قَالَ لِأَحَدِ التَّوْأَمَيْنِ هَذَا حُرٌّ كَانَ تَحْرِيرًا مُقْتَصِرًا عَلَى مَحَلِّ وِلَايَتِهِ فَكَذَا دَعْوَةُ التَّحْرِيرِ .
وَنُوقِضَ بِمَا إذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَحَدَ
التَّوْأَمَيْنِ وَأَبُوهُ الْآخَرَ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا الَّذِي فِي يَدِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُمَا مِنْهُ وَيَعْتِقَانِ جَمِيعًا ، وَلَمْ تَقْصُرْ دَعْوَةُ التَّحْرِيرِ عَلَى مَحَلِّ وِلَايَتِهِ مَعَ عَدَمِ شَاهِدِ الِاتِّصَالِ ، إذْ الْكَلَامُ فِيهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا كَانَ هُوَ الْأَبَ فَالِابْنُ قَدْ مَلَكَ أَخَاهُ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الِابْنَ فَالْأَبُ مَلَكَ حَافِدَهُ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ وَلَا يَكَادُ يَصِحُّ مَعَ دَعْوَةِ التَّحْرِيرِ .
قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ فَقَالَ : هُوَ ابْنُ عَبْدِي فُلَانٍ الْغَائِبِ ثُمَّ قَالَ : هُوَ ابْنِي لَمْ يَكُنْ ابْنَهُ أَبَدًا وَإِنْ جَحَدَ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ ابْنَهُ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَقَالَا : إذَا جَحَدَ الْعَبْدُ فَهُوَ ابْنُ الْمَوْلَى ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ : هُوَ ابْنُ فُلَانٍ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ ثُمَّ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ .
لَهُمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ ارْتَدَّ بِرَدِّ الْعَبْدِ فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ الْإِقْرَارُ ، وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ وَالْهَزْلُ فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِإِعْتَاقِ الْمُشْتَرَى فَكَذَّبَهُ الْبَائِعُ ثُمَّ قَالَ أَنَا أَعْتَقْتُهُ يَتَحَوَّلُ الْوَلَاءُ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَدَّقَهُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ نَسَبًا ثَابِتًا مِنْ الْغَيْرِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُقَرِّ لَهُ عَلَى اعْتِبَارِ تَصْدِيقِهِ فَيَصِيرُ كَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ الْمُلَاعِنِ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّسَبَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَالْإِقْرَارُ بِمِثْلِهِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَبَقِيَ فَتَمْتَنِعُ دَعْوَتُهُ ، كَمَنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِنَسَبِ صَغِيرٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِتُهْمَةٍ ثُمَّ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُقَرِّ لَهُ عَلَى اعْتِبَارِ تَصْدِيقِهِ ، حَتَّى لَوْ صَدَّقَهُ بَعْدَ التَّكْذِيبِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ ، وَكَذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَلَدِ فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ .
وَمَسْأَلَةُ الْوَلَاءِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، وَلَوْ سَلِمَ فَالْوَلَاءُ قَدْ يَبْطُلُ بِاعْتِرَاضِ الْأَقْوَى كَجَرِّ الْوَلَاءِ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ إلَى قَوْمِ الْأَبِ .
وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَى الْوَلَاءِ الْمَوْقُوفِ مَا هُوَ أَقْوَى وَهُوَ دَعْوَى الْمُشْتَرِي فَيَبْطُلُ بِهِ ، بِخِلَافِ النَّسَبِ
عَلَى مَا مَرَّ .
وَهَذَا يَصْلُحُ مَخْرَجًا عَلَى أَصْلِهِ فِيمَنْ يَبِيعُ الْوَلَدَ وَيَخَافُ عَلَيْهِ الدَّعْوَةَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَقْطَعُ دَعْوَاهُ إقْرَارُهُ بِالنَّسَبِ لِغَيْرِهِ .
قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ إلَخْ ) إذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَرَّ أَنَّهُ ابْنُ عَبْدِهِ فُلَانٍ أَوْ ابْنُ فُلَانٍ الْغَائِبِ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ ثُمَّ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا حَالًا وَلَا مُسْتَقْبَلًا .
أَمَّا حَالًا فَظَاهِرٌ لِوُجُودِ الْمَانِعِ وَهُوَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ ، وَأَمَّا اسْتِقْبَالًا فَلِأَنَّ الْغَائِبَ لَا يَخْلُو حَالُهُ عَنْ ثَلَاثٍ : إمَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ أَوْ يُكَذِّبَهُ أَوْ يَسْكُتَ عَنْ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ .
فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ لَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّصِلْ بِإِقْرَارِهِ تَكْذِيبٌ مِنْ جِهَةِ الْمُقَرِّ لَهُ فَبَقِيَ إقْرَارُهُ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا ، وَقَالَا : الْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ ، وَلِهَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِنَسَبِ عَبْدٍ فَأَقَرَّ بِهِ لَا يَثْبُتُ ، وَكَذَا لَوْ هَزَلَ بِهِ ، فَإِذَا رَدَّهُ الْعَبْدُ كَانَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ لِأَحَدٍ وَادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِإِعْتَاقِ الْمُشْتَرِي فَكَذَّبَهُ الْبَائِعُ ثُمَّ قَالَ الْمُشْتَرِي أَنَا أَعْتَقْته فَإِنَّ الْوَلَاءَ يَتَحَوَّلُ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَدَّقَهُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ نَسَبًا ثَابِتًا مِنْ الْغَيْرِ وَهُوَ لَا يَصِحُّ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُقَرِّ لَهُ عَلَى اعْتِبَارِ تَصْدِيقِهِ فَيَصِيرُ كَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ الْمُلَاعِنِ لِاحْتِمَالِ تَكْذِيبِهِ نَفْسَهُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّسَبَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْإِقْرَارُ بِهِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِهِ يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ : خُرُوجَ الْمُقِرِّ عَنْ الرُّجُوعِ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ لِعَدَمِ احْتِمَالِ
النَّقْضِ كَالْإِقْرَارِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، وَتَعَلُّقَ حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ بِهِ ، وَبِتَكْذِيبِ الْعَبْدِ لَا يَبْطُلُ شَيْءٌ مِنْهُمَا .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ تَكْذِيبَهُ لَا يَمَسُّ جَانِبَهُ لِمَا قُلْنَا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَيْسَ حَقُّهُ عَلَى الْخُلُوصِ بَلْ فِيهِ حَقُّ الْوَلَدِ أَيْضًا وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إبْطَالِهِ .
وَنَظَرَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِمَنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِنَسَبِ صَغِيرٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِتُهْمَةٍ مِنْ قَرَابَةٍ أَوْ فِسْقٍ ثُمَّ ادَّعَاهُ الشَّاهِدُ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ ، وَكَذَلِكَ أَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ ، وَذَكَرَ الْإِسْبِيجَابِيُّ أَنَّهَا عَلَى الْخِلَافِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا .
قَوْلُهُ ( وَمَسْأَلَةُ الْوَلَاءِ ) جَوَابٌ مِنْ اسْتِشْهَادِهِمَا بِهَا بِأَنَّهَا عَلَى الْخِلَافِ فَلَا تَنْهَضُ شَاهِدَةً .
سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ الْوَلَاءَ قَدْ يَبْطُلُ بِاعْتِرَاضِ الْأَقْوَى فَجَرَّ الْوَلَاءَ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ إلَى جَانِبِ الْأَبِ وَصُورَتُهُ مَعْرُوفَةٌ ، وَإِنَّمَا لَا يَبْطُلُ إذَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ وَلَمْ يَتَقَرَّرْ لِأَنَّهُ عَلَى عَرْضِيَّةِ التَّصْدِيقِ بَعْدَ التَّكْذِيبِ فَكَانَ الْوَلَاءُ مَوْقُوفًا ، وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَقْوَى وَهُوَ دَعْوَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ قَائِمٌ فِي الْحَالِ فَكَانَ دَعْوَى الْوَلَاءِ مُصَادِفًا لِمَحَلِّهِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ قِيَامُ الْمِلْكِ فَيَبْطُلُ ، بِخِلَافِ النَّسَبِ عَلَى مَا مَرَّ أَنَّ النَّسَبَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ ، وَهَذَا يَصْلُحُ مَخْرَجًا : أَيْ حِيلَةً عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ يَبِيعُ الْوَلَدَ وَيَخَافُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ الدَّعْوَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَقْطَعُ دَعْوَاهُ بِإِقْرَارِهِ بِالنَّسَبِ لِغَيْرِهِ .
قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ : هُوَ ابْنِي وَقَالَ الْمُسْلِمُ هُوَ عَبْدِي فَهُوَ ابْنُ النَّصْرَانِيِّ وَهُوَ حُرٌّ ) لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مُرَجِّحٌ فَيَسْتَدْعِي تَعَارُضًا ، وَلَا تَعَارُضَ لِأَنَّ نَظَرَ الصَّبِيِّ فِي هَذَا أَوْفَرُ لِأَنَّهُ يَنَالُ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ حَالًا وَشَرَفَ الْإِسْلَامِ مَآلًا ، إذْ دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ ظَاهِرَةٌ ، وَفِي عَكْسِهِ الْحُكْمُ بِالْإِسْلَامِ تَبَعًا وَحِرْمَانُهُ عَنْ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ اكْتِسَابُهَا ( وَلَوْ كَانَتْ دَعْوَتُهُمَا دَعْوَةَ الْبُنُوَّةِ فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى ) تَرْجِيحًا لِلْإِسْلَامِ وَهُوَ أَوْفَرُ النَّظَرَيْنِ .
قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ هُوَ ابْنِي وَقَالَ الْمُسْلِمُ هُوَ عَبْدِي فَهُوَ ابْنُ النَّصْرَانِيِّ ، وَهُوَ حُرٌّ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مُرَجَّحٌ أَيْنَمَا كَانَ ، وَالتَّرْجِيحُ يَسْتَدْعِي التَّعَارُضَ وَلَا تَعَارُضَ هَاهُنَا لِأَنَّ النَّظَرَ لِلصَّبِيِّ وَاجِبٌ ، وَنَظَرُهُ فِيمَا ذَكَرْنَا أَوْفَرُ لِأَنَّهُ يَنَالُ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ حَالًا وَشَرَفَ الْإِسْلَامِ مَآلًا ، إذْ دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ ظَاهِرَةٌ ، وَفِي عَكْسِهِ الْحُكْمُ بِالْإِسْلَامِ : أَيْ يَنَالُ الْحُكْمَ بِهِ تَبَعًا وَحِرْمَانُهُ عَنْ الْحُرِّيَّةِ ، إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ اكْتِسَابُهَا ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ } وَدَلَائِلُ التَّوْحِيدِ وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً لَكِنَّ الْإِلْفَ بِالدِّينِ مَانِعٌ قَوِيٌّ ؛ أَلَا تَرَى إلَى كُفْرِ آبَائِهِ مَعَ ظُهُورِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَضَانَةِ أَنَّ الذِّمِّيَّةَ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَعْقِلْ الْأَدْيَانَ أَوْ يُخَافُ أَنْ يَأْلَفَ الْكُفْرَ لِلنَّظَرِ قَبْلَ ذَلِكَ وَاحْتِمَالِ الضَّرَرِ بَعْدَهُ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } يُوجِبُ دَعْوَةَ الْأَوْلَادِ لِآبَائِهِمْ ، وَمُدَّعِي النَّسَبِ أَبٌ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَتَعَارَضَتْ الْآيَتَانِ وَفِي الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَرْحَمَةِ بِالصِّبْيَانِ نُظِرَ لَهَا كَثْرَةً فَكَانَتْ أَقْوَى مِنْ الْمَانِعِ ، وَكُفْرُ الْآبَاءِ جُحُودٌ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ ؛ أَلَا تَرَى إلَى انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْكُفْرِ فِي الْآفَاقِ ، وَبِتَرْكِ الْحَضَانَةِ لَا يَلْزَمُ رِقٌّ فَيُقْلَعُ مِنْهَا ، بِخِلَافِ تَرْكِ النَّسَبِ هَاهُنَا فَإِنَّ الْمَصِيرَ بَعْدَهُ إلَى الرِّقِّ وَهُوَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ لَا مَحَالَةَ .
هَذَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( وَلَوْ كَانَتْ دَعْوَتُهُمَا دَعْوَةَ الْبُنُوَّةِ فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى تَرْجِيحًا لِلْإِسْلَامِ وَهُوَ أَوْفَرُ النَّظَرَيْنِ ) وَنُوقِضَ بِغُلَامٍ
نَصْرَانِيٍّ بَالِغٍ ادَّعَى عَلَى نَصْرَانِيٍّ وَنَصْرَانِيَّةٍ أَنَّهُ ابْنُهُمَا وَادَّعَاهُ مُسْلِمٌ وَمُسْلِمَةٌ أَنَّهُ ابْنُهُمَا وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّرَفَيْنِ بَيِّنَةً فَقَدْ تَسَاوَتْ الدَّعْوَتَانِ فِي الْبُنُوَّةِ وَلَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبُ الْإِسْلَامِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ وَإِنْ تَسَاوَتَا فِي إثْبَاتِ نَسَبٍ بِفِرَاشِ النِّكَاحِ ، لَكِنْ تَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ الْغُلَامِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُثْبِتُ حَقًّا لِنَفْسِهِ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْمَنْفَعَةِ فِي النَّسَبِ لِلْوَلَدِ دُونَ الْوَالِدَيْنِ ، لِأَنَّ الْوَلَدَ يُعَبِّرُ بِعَدَمِ الْأَبِ الْمَعْرُوفِ وَالْوَالِدَانِ لَا يُعَبِّرَانِ بِعَدَمِ الْوَلَدِ ، وَبَيِّنَةُ مَنْ يُثْبِتُ حَقًّا لِنَفْسِهِ أَوْلَى ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ الْإِسْلَامِ فِي التَّرْجِيحِ لَا مَحَالَةَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَقَوَّى بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي } لِأَنَّهُ أَشْبَهَ الْمُدَّعِينَ لِكَوْنِهِ يَدَّعِي حَقًّا لِنَفْسِهِ .
قَالَ ( وَإِذَا ادَّعَتْ امْرَأَةٌ صَبِيًّا أَنَّهُ ابْنُهَا لَمْ تَجُزْ دَعْوَاهَا حَتَّى تَشْهَدَ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ ذَاتَ زَوْجٍ لِأَنَّهَا تَدَّعِي تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا تُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ لِأَنَّهُ يُحَمِّلُ نَفْسَهُ النَّسَبَ ، ثُمَّ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ كَافِيَةٌ فِيهَا لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ الْوَلَدِ .
أَمَّا النَّسَبُ فَيَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ ، وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَبِلَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ } ( وَلَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً فَلَا بُدَّ مِنْ حُجَّةٍ تَامَّةٍ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْكُوحَةً وَلَا مُعْتَدَّةً قَالُوا : يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا بِقَوْلِهَا لِأَنَّ فِيهِ إلْزَامًا عَلَى نَفْسِهَا دُونَ غَيْرِهَا .
( وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ وَزَعَمَتْ أَنَّهُ ابْنُهُمَا مِنْهُ وَصَدَّقَهَا فَهُوَ ابْنُهُمَا وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ امْرَأَةٌ ) لِأَنَّهُ الْتَزَمَ نَسَبَهُ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ الْحُجَّةِ .
قَالَ ( وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ صَبِيًّا إلَخْ ) إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ صَبِيًّا أَنَّهُ ابْنُهَا فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ مُعْتَدَّةً أَوْ لَا مَنْكُوحَةً وَلَا مُعْتَدَّةً ، فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ وَصَدَّقَهَا فِيمَا زَعَمَتْ أَنَّهُ ابْنُهَا مِنْهُ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُمَا بِالْتِزَامِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى حُجَّةٍ ، وَإِنْ كَذَّبَهَا لَمْ تَجُزْ دَعْوَتُهَا حَتَّى تَشْهَدَ بِالْوِلَادَةِ امْرَأَةٌ لِأَنَّهَا تَدَّعِي تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا تُصَدَّقُ إلَّا بِالْحُجَّةِ ، وَشَهَادَةُ الْقَابِلَةِ كَافِيَةٌ لِأَنَّ التَّعْيِينَ يَحْصُلُ بِهَا وَهُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ إذْ النَّسَبُ يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ ، وَقَدْ صَحَّ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً احْتَاجَتْ إلَى حُجَّةٍ كَامِلَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا إذَا كَانَ هُنَاكَ حَبَلٌ ظَاهِرٌ أَوْ اعْتِرَافٌ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ ، وَقَالَا : يَكْفِي فِي الْجَمِيعِ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ وَلَا مُعْتَدَّةً قَالُوا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا بِقَوْلِهَا لِأَنَّ فِيهِ إلْزَامًا عَلَى نَفْسِهَا دُونَ غَيْرِهَا ، وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ لَا .
وَالْفَرْقُ هُوَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَدَّعِي أَمْرًا لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ ، وَكُلُّ مَنْ يَدَّعِي أَمْرًا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ ، وَالْمَرْأَةُ يُمْكِنُهَا إثْبَاتُ النَّسَبِ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّ انْفِصَالَ الْوَلَدِ مِنْهَا مِمَّا يُشَاهَدُ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ بَيِّنَةٍ ، وَالرَّجُلُ لَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْإِعْلَاقِ لِخَفَاءٍ فِيهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُخْتَارُ لِعَدَمِ التَّحْمِيلِ عَلَى أَحَدٍ فِيهَا ،
( وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي أَيْدِيهِمَا وَزَعَمَ الزَّوْجُ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ غَيْرِهَا وَزَعَمَتْ أَنَّهُ ابْنُهَا مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ ابْنُهُمَا ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُمَا لِقِيَامِ أَيْدِيهِمَا أَوْ لِقِيَامِ الْفِرَاشِ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُرِيدُ إبْطَالَ حَقِّ صَاحِبِهِ فَلَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ ثَوْبٍ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ غَيْرِ صَاحِبِهِ يَكُونُ الثَّوْبُ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَدْخُلُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ لِأَنَّ الْمَحَلَّ يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ ، وَهَاهُنَا لَا يَدْخُلُ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَحْتَمِلُهَا .وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي أَيْدِيهِمَا ) أَرَادَ صَبِيًّا لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ ، فَأَمَّا إذَا عَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ فَالْقَوْلُ لَهُ أَيُّهُمَا صَدَّقَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ بِتَصْدِيقِهِ وَبَاقِي الْكَلَامِ ظَاهِرٌ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا عِنْدَهُ فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ غَرِمَ الْأَبُ قِيمَةَ الْوَلَدِ يَوْمَ يُخَاصِمُ ) لِأَنَّهُ وَلَدُ الْمَغْرُورِ فَإِنَّ الْمَغْرُورَ مَنْ يَطَأُ امْرَأَةً مُعْتَمِدًا عَلَى مِلْكِ يَمِينٍ أَوْ نِكَاحٍ فَتَلِدُ مِنْهُ ثُمَّ تُسْتَحَقُّ ، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلِأَنَّ النَّظَرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَاجِبٌ فَيُجْعَلُ الْوَلَدُ حُرَّ الْأَصْلِ فِي حَقِّ أَبِيهِ رَقِيقًا فِي حَقِّ مُدَّعِيهِ نَظَرًا لَهُمَا ، ثُمَّ الْوَلَدُ حَاصِلٌ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا يَضْمَنُهُ إلَّا بِالْمَنْعِ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ ، فَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْوَلَدِ يَوْمَ الْخُصُومَةِ لِأَنَّهُ يَوْمُ الْمَنْعِ ( وَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ لَا شَيْءَ عَلَى الْأَبِ ) لِانْعِدَامِ الْمَنْعِ ، وَكَذَا لَوْ تَرَكَ مَالًا لِأَنَّ الْإِرْثَ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْهُ ، وَالْمَالُ لِأَبِيهِ لِأَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ فِي حَقِّهِ فَيَرِثُهُ ( وَلَوْ قَتَلَهُ الْأَبُ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ ) لِوُجُودِ الْمَنْعِ وَكَذَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ فَأَخَذَ دِيَتَهُ ، لِأَنَّ سَلَامَةَ بَدَلِهِ لَهُ كَسَلَامَتِهِ ، وَمَنْعَ بَدَلِهِ كَمَنْعِهِ فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ كَمَا إذَا كَانَ حَيًّا ( وَيَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى بَائِعِهِ ) لِأَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ سَلَامَتَهُ كَمَا يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ ، بِخِلَافِ الْعُقْرِ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ لِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهَا فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا إلَخْ ) خَتَمَ بَابَ دَعْوَى النَّسَبِ بِمَسْأَلَةِ وَلَدِ الْمَغْرُورِ ، وَالْمَغْرُورُ مَنْ وَطِئَ امْرَأَةً مُعْتَمِدًا عَلَى مِلْكِ يَمِينٍ أَوْ نِكَاحٍ فَوَلَدَتْ مِنْهُ ثُمَّ تُسْتَحَقُّ الْوَالِدَةُ وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ وَلَدَ الْمَغْرُورِ حُرُّ الْأَصْلِ .
وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَبِ إلَّا أَنَّ السَّلَفَ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يُفَكُّ الْغُلَامُ بِالْغُلَامِ وَالْجَارِيَةُ بِالْجَارِيَةِ : يَعْنِي إذَا كَانَ الْوَلَدُ غُلَامًا فَعَلَى الْأَبِ غُلَامٌ مِثْلُهُ ، وَإِنْ كَانَ جَارِيَةً فَعَلَيْهِ جَارِيَةٌ مِثْلُهَا ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عَلَيْهِ قِيمَتُهَا ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَصْحَابُنَا ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ : الْغُلَامُ بِقِيمَةِ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةُ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ ، وَلِأَنَّ النَّظَرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَاجِبٌ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمَا فَيُجْعَلُ الْوَلَدُ حُرَّ الْأَصْلِ فِي حَقِّ أَبِيهِ رَقِيقًا فِي حَقِّ مُدَّعِيهِ نَظَرًا لَهُمَا وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمَا ( قَوْلُهُ ثُمَّ الْوَلَدُ حَاصِلٌ ) بَيَانٌ لِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْمَنْعُ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ : يَعْنِي مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ فَكَانَ كَوَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ أَمَانَةً لَا يُضْمَنُ إلَّا بِالْمَنْعِ ، وَتَمْهِيدٍ لِاعْتِبَارِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْخُصُومَةِ لِأَنَّهُ يَوْمُ الْمَنْعِ ، وَأَنَّهُ لَوْ مَاتَ الْوَلَدُ لَا يَضْمَنُ الْأَبُ قِيمَتَهُ لِانْعِدَامِ الْمَنْعِ ، وَأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ مَالًا لَا يَضْمَنُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَنْعَ لَمْ يَتَحَقَّقْ لَا عَنْهُ وَلَا عَنْ بَدَلِهِ لِأَنَّ الْإِرْثَ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْهُ وَالْمَالُ لِأَبِيهِ لِأَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ فِي حَقِّهِ فَيَرِثُهُ .
لَا يُقَالُ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَالُ
مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ فِي حَقِّ أَبِيهِ رَقِيقٌ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ عَلِقَ حُرَّ الْأَصْلِ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي أَيْضًا وَلِهَذَا لَا يَكُونُ الْوَلَاءُ لَهُ ، وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا الرِّقَّ فِي حَقِّهِ ضَرُورَةَ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَهَا ، وَأَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ الْأَبُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِوُجُودِ الْمَنْعِ ، وَكَذَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ وَأَخَذَ دِيَتَهُ لِأَنَّ سَلَامَةَ بَدَلِهِ لَهُ كَسَلَامَةِ نَفْسِهِ ، وَمَنْعُ بَدَلِهِ كَمَنْعِ نَفْسِهِ فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا وَيَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى بَائِعَةِ لِأَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ سَلَامَتَهُ لِأَنَّهُ جُزْءُ الْمَبِيعِ وَالْبَائِعُ قَدْ ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي سَلَامَةَ الْمَبِيعِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ كَمَا يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ : أَيْ بِثَمَنِ الْمَبِيعِ وَهُوَ الْأُمُّ لِأَنَّ الْغُرُورَ شَمَلَهَا ، بِخِلَافِ الْعُقْرِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ بِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهَا وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَبِيعِ فَلَمْ يَكُنْ الْبَائِعُ ضَامِنًا لِسَلَامَتِهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( كِتَابُ الْإِقْرَارِ ) :كِتَابُ الْإِقْرَارِ ) : قَالَ فِي النِّهَايَةِ : ذِكْرُ كِتَابِ الدَّعْوَى مَعَ ذِكْرِ مَا يَقْفُوهُ مِنْ الْكُتُبِ مِنْ الْإِقْرَارِ وَالصُّلْحِ وَالْمُضَارَبَةِ الْوَدِيعَةِ ظَاهِرُ التَّنَاسُبِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي إذَا تَوَجَّهَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَمْرُهُ لَا يَخْلُو ، إمَّا أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ ، وَإِنْكَارُهُ سَبَبٌ لِلْخُصُومَةِ وَالْخُصُومَةُ مُسْتَدْعِيَةٌ لِلصُّلْحِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } وَبَعْدَمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْمَالِ إمَّا بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالصُّلْحِ فَأَمْرُ صَاحِبِ الْمَالِ بِمَالِهِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَسْتَرْبِحَ مِنْهُ أَوْ لَا ، فَإِنْ اسْتَرْبَحَ مِنْهُ فَلَا يَخْلُوا إمَّا أَنْ يَسْتَرْبِحَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ ، وَقَدْ ذَكَرَ اسْتِرْبَاحَهُ بِنَفْسِهِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا هُنَالِكَ بِمَا قَبْلَهُ ، وَذَكَرَ هَاهُنَا اسْتِرْبَاحَهُ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمُضَارَبَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْبِحْ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَحْفَظَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ حِفْظَهُ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ فَبَقِيَ حِفْظُهُ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْوَدِيعَةُ .
قَالَ ( وَإِذَا أَقَرَّ الْحُرُّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ بِحَقٍّ لَزِمَهُ إقْرَارُهُ مَجْهُولًا كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ أَوْ مَعْلُومًا ) اعْلَمْ أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ ، وَأَنَّهُ مُلْزِمٌ لِوُقُوعِهِ دَلَالَةً ؛ أَلَا تَرَى كَيْفَ أَلْزَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الرَّجْمَ بِإِقْرَارِهِ وَتِلْكَ الْمَرْأَةَ بِاعْتِرَافِهَا .
وَهُوَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ لِقُصُورِ وِلَايَةِ الْمُقِرِّ عَنْ غَيْرِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ .
وَشَرْطُ الْحُرِّيَّةِ لِيَصِحَّ إقْرَارُهُ مُطْلَقًا ، فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُلْحَقًا بِالْحُرِّ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ ، لَكِنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ وَيَصِحُّ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ عُهِدَ مُوجِبًا لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ وَهِيَ مَالُ الْمَوْلَى فَلَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ ، وَبِخِلَافِ الْحَدِّ وَالدَّمِ لِأَنَّهُ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي ذَلِكَ ، حَتَّى لَا يَصِحَّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ فِيهِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ لِأَنَّ إقْرَارَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ غَيْرُ لَازِمٍ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الِالْتِزَامِ ، إلَّا إذَا كَانَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا لَهُ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْبَالِغِ بِحُكْمِ الْإِذْنِ ، وَجَهَالَةُ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَلْزَمُ مَجْهُولًا بِأَنْ أَتْلَفَ مَالًا لَا يَدْرِي قِيمَتَهُ أَوْ يَجْرَحَ جِرَاحَةً لَا يَعْلَمُ أَرْشَهَا أَوْ تَبْقَى عَلَيْهِ بَاقِيَةُ حِسَابٍ لَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُهُ ، وَالْإِقْرَارُ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ فَيَصِحُّ بِهِ ، بِخِلَافِ الْجَهَالَةِ فِي الْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يَصْلُحُ مُسْتَحِقًّا ، ( وَيُقَالُ لَهُ : بَيِّنْ الْمَجْهُولَ ) لِأَنَّ التَّجْهِيلَ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ ( فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى الْبَيَانِ ) لِأَنَّهُ لَزِمَهُ الْخُرُوجُ عَمَّا لَزِمَهُ
بِصَحِيحِ إقْرَارِهِ وَذَلِكَ بِالْبَيَانِ .
قَالَ ( وَإِذَا أَقَرَّ الْحُرُّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ ) الْإِقْرَارُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقَرَارِ فَكَانَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إثْبَاتِ مَا كَانَ مُتَزَلْزِلًا .
وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِخْبَارِ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ ، وَشُرُوطُهُ سَتُذْكَرُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ مُلْزِمٌ عَلَى الْمُقِرِّ مَا أَقَرَّ بِهِ لِوُقُوعِهِ دَلَالَةً عَلَى الْمُخْبِرِ بِهِ ، فَإِنَّ الْمَالَ مَحْبُوبٌ بِالطَّبْعِ فَلَا يُقِرُّ لِغَيْرِهِ كَاذِبًا ، وَقَدْ اعْتَضَدَ هَذَا الْمَعْقُولُ بِقَبُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِقْرَارَ وَالْإِلْزَامَ بِهِ فِي بَابِ الْحُدُودِ { فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَمَ مَاعِزًا بِإِقْرَارِهِ وَالْغَامِدِيَّةَ بِاعْتِرَافِهَا } فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُلْزِمًا فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَأَنْ يَكُونَ مُلْزِمًا فِي غَيْرِهِ أَوْلَى ، وَهُوَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ ، أَمَّا حُجَّتُهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُلْزِمٌ وَغَيْرُ الْحُجَّةِ غَيْرُ مُلْزِمٍ ، وَأَمَّا قُصُورُهُ فَلِعَدَمِ وِلَايَةِ الْمُقِرِّ عَلَى غَيْرِهِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَكَانَ مُحْتَمَلًا ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً وَلَكِنْ جُعِلَ حُجَّةً بِتَرْجِيحِ جَانِبِ الصِّدْقِ بِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَالتُّهْمَةُ بَاقِيَةٌ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ فَبَقِيَ عَلَى التَّرَدُّدِ النَّافِي لِصَلَاحِيَةِ الْحُجِّيَّةِ وَشَرْطِ الْحُرِّيَّةِ لِيَصِحَّ إقْرَارُهُ مُطْلَقًا ، فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُلْحَقًا بِالْحُرِّ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ وَلَكِنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ وَيَصِحُّ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، وَكَانَ هَذَا اعْتِذَارٌ عَنْ قَوْلِهِ إذَا أَقَرَّ الْحُرُّ وَلَعَلَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ : إذَا أَقَرَّ الْحُرُّ بِحَقٍّ لَزِمَهُ وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَأَمَّا أَنَّ غَيْرَ الْحُرِّ إذَا أَقَرَّ لَزِمَ أَوْ لَمْ يَلْزَمْ فَسَاكِتٌ عَنْهُ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ بِمَعْذِرَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ
لِبَيَانِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ فِي صِحَّةِ أَقَارِيرِهِمْ بِالْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ وَحَجْرِ الْمَحْجُورِ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ دُونَ الْمَأْذُونِ لَهُ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ إقْرَارَهُ إلَخْ ) دَلِيلُ ذَلِكَ الْمَجْمُوعُ ، وَالضَّمِيرُ فِي إقْرَارِهِ لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ : أَيْ إقْرَارُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عَهْدٌ مُوجِبٌ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ وَهِيَ مَالُ الْمَوْلَى فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ لِقُصُورِ الْحُجَّةِ ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لَهُ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى الْإِقْرَارِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى ، لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ إذْنٌ بِمَا يَلْزَمُهَا وَهُوَ دَيْنُ التِّجَارَةِ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُبَايِعُونَهُ إذَا عَلِمُوا أَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَصِحُّ ، إذْ قَدْ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُمْ الْإِشْهَادُ فِي كُلِّ تِجَارَةٍ يَعْمَلُونَهَا مَعَهُ ، وَبِخِلَافِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِيهِمَا مُبْقِي عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ حَتَّى لَا يَصِحَّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْعُقُوبَةِ بِنَاءٌ عَلَى الْجِنَايَةِ وَالْجِنَايَةُ بِنَاءٌ عَلَى كَوْنِهِ مُكَلَّفًا وَكَوْنُهُ مُكَلَّفًا مِنْ خَوَاصِّ الْآدَمِيَّةِ وَالْآدَمِيَّةُ لَا تُزَالُ بِالرِّقِّ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ لِأَنَّ إقْرَارَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ غَيْرُ لَازِمٍ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الِالْتِزَامِ إلَّا إذَا كَانَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا لَهُ ، لِأَنَّهُ بِحُكْمِ الْإِذْنِ مُلْحَقٌ بِالْبَالِغِينَ وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُقَرِّ بِهِ مَعْلُومًا فَجَهَالَتُهُ لَا تَمْنَعُ صِحَّتَهُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ لُزُومِ الْحَقِّ وَالْحَقُّ قَدْ يَلْزَمُ مَجْهُولًا بِأَنْ أَتْلَفَ مَالًا لَا يَدْرِي قِيمَتَهُ أَوْ يَجْرَحُ جِرَاحَةً لَا يَعْلَمُ أَرْشَهَا أَوْ تَبْقَى عَلَيْهِ بَقِيَّةُ حِسَابٍ لَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُهُ فَالْإِقْرَارُ قَدْ يَلْزَمُ مَجْهُولًا .
وَعُورِضَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْمُدَّعِي ، وَالْحَقُّ قَدْ يَلْزَمُ لَهُ مَجْهُولًا فَالشَّهَادَةُ قَدْ تَلْزَمُ مَجْهُولَةً وَلَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمَشْهُودِ بِهِ شَرْطٌ
بِالنَّصِّ وَانْتِفَاؤُهُ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ ، بِخِلَافِ جَهَالَةِ الْمُقَرِّ لَهُ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يَصْلُحُ مُسْتَحَقًّا ، وَكَذَلِكَ جَهَالَةُ الْمُقِرِّ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لَك عَلَى وَاحِدٍ مِنَّا أَلْفٌ ، وَإِذَا أَقَرَّ بِالْمَجْهُولِ يُقَالُ لَهُ بَيِّنْ الْمَجْهُولَ لِأَنَّهُ الْمُجْمِلُ فَإِلَيْهِ الْبَيَانُ ، كَمَا إذَا أَعْتَقَ عَبْدَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى الْبَيَانِ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ الْخُرُوجُ عَمَّا لَزِمَهُ بِصَحِيحِ إقْرَارِهِ بِالْبَاءِ الْجَارَّةِ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : تَصْرِيحُ إقْرَارِهِ ، وَذَلِكَ أَيْ الْخُرُوجُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْبَيَانِ ،
( فَإِنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ لَزِمَهُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَهُ قِيمَةٌ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ الْوُجُوبِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَمَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا يَجِبُ فِيهَا ) ، فَإِذَا بَيَّنَ غَيْرَ ذَلِكَ يَكُونُ رُجُوعًا .
قَالَ ( وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ) لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْكِرُ فِيهِ ( وَكَذَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ ) لِمَا بَيَّنَّا ، وَكَذَا لَوْ قَالَ : غَصَبْت مِنْهُ شَيْئًا وَيَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا هُوَ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ .
فَإِنْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ لَزِمَهُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَهُ قِيمَةٌ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ الْوُجُوبِ فِي ذِمَّتِهِ وَمَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ فَيَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الْإِقْرَارِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، فَإِذَا بَيَّنَ مَا لَهُ قِيمَةٌ مِمَّا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مَكِيلًا كَانَ أَوْ مَوْزُونًا أَوْ عَدَدِيًّا نَحْوُ كُرٍّ حِنْطَةً أَوْ فَلْسٍ أَوْ جَوَّزَهُ ، فَإِمَّا أَنْ يُسَاعِدَهُ الْمُقَرُّ لَهُ أَوْ لَا .
فَإِنْ سَاعَدَهُ أَخَذُوهُ وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ الْوُجُوبِ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ غَصَبْت مِنْهُ شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ مَا هُوَ مَالٌ ، حَتَّى لَوْ بَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ زَوْجَتُهُ أَوْ وَلَدُهُ لَا يَصِحُّ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ ، وَقِيلَ يَصِحُّ وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الْغَصْبَ أَخْذُ مَالٍ فَحُكْمُهُ لَا يَجْرِي فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ مَا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ حَتَّى لَوْ بَيَّنَ فِي حَبَّةِ حِنْطَةٍ أَوْ فِي قَطْرَةِ مَاءٍ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِغَصْبِ ذَلِكَ فَكَانَتْ مُكَذِّبَةً لَهُ فِي بَيَانِهِ ، وَلَوْ بَيَّنَ فِي الْعَقَارِ أَوْ خَمْرِ الْمُسْلِمِ صَحَّ لِأَنَّهُ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْغَصْبُ أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ وَهُوَ لَا يَصْدُقُ عَلَى الْعَقَارِ وَخَمْرِ الْمُسْلِمِ فَلَزِمَ نَقْضُ التَّعْرِيفِ أَوْ عَدَمُ قَبُولِ الْبَيَانِ فِيهِمَا .
فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ ، وَقَدْ تُتْرَكُ الْحَقِيقَةُ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ )
( وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ فَالْمَرْجِعُ إلَيْهِ فِي بَيَانِهِ لِأَنَّهُ الْمُجْمِلُ وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَالٌ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُتَمَوَّلُ بِهِ ( إلَّا أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ ) لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مَالًا عُرْفًا ( وَلَوْ قَالَ : مَالٌ عَظِيمٌ لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَالٍ مَوْصُوفٍ فَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ الْوَصْفِ وَالنِّصَابُ عَظِيمٌ حَتَّى اُعْتُبِرَ صَاحِبُهُ غَنِيًّا بِهِ ، وَالْغَنِيُّ عَظِيمٌ عِنْدَ النَّاسِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَهِيَ نِصَابُ السَّرِقَةِ لِأَنَّهُ عَظِيمٌ حَيْثُ تُقْطَعُ بِهِ الْيَدُ الْمُحْتَرَمَةُ ، وَعَنْهُ مِثْلُ جَوَابِ الْكِتَابِ ، وَهَذَا إذَا قَالَ مِنْ الدَّرَاهِمِ ، أَمَّا إذَا قَالَ مِنْ الدَّنَانِيرِ فَالتَّقْدِيرُ فِيهَا بِالْعِشْرِينِ ، وَفِي الْإِبِلِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ لِأَنَّهُ أَدْنَى نِصَابٍ يَجِبُ فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ وَفِي غَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ بِقِيمَةِ النِّصَابِ ( وَلَوْ قَالَ : أَمْوَالٌ عِظَامٌ فَالتَّقْدِيرُ بِثَلَاثَةِ نُصُبٍ مِنْ أَيِّ فَنٍّ سَمَّاهُ ) اعْتِبَارًا لِأَدْنَى الْجَمْعِ ( وَلَوْ قَالَ : دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَعِنْدَهُمَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْنِ ) لِأَنَّ صَاحِبَ النِّصَابِ مُكْثِرٌ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ مُوَاسَاةُ غَيْرِهِ ، بِخِلَافِ مَا دُونَهُ .
وَلَهُ أَنَّ الْعَشَرَةَ أَقْصَى مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ ، يُقَالُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ثُمَّ يُقَالُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَيَكُونُ هُوَ الْأَكْثَرُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ ( وَلَوْ قَالَ دَرَاهِمُ فَهِيَ ثَلَاثَةٌ ) لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ( إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ أَكْثَرَ مِنْهَا ) لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ وَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَزْنِ الْمُعْتَادِ ( وَلَوْ قَالَ : كَذَا كَذَا دِرْهَمًا لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا ) لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ لَيْسَ
بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ وَأَقَلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمُفَسَّرِ أَحَدَ عَشَرَ ( وَلَوْ قَالَ : كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ ) لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمُفَسَّرِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَيُحْمَلُ كُلُّ وَجْهٍ عَلَى نَظِيرِهِ ( وَلَوْ قَالَ كَذَا دِرْهَمًا فَهُوَ دِرْهَمٌ ) لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْمُبْهَمِ ( وَلَوْ ثَلَّثَ كَذَا بِغَيْرِ وَاوٍ فَأَحَدَ عَشَرَ ) لِأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ سِوَاهُ ( وَإِنْ ثَلَّثَ بِالْوَاوِ فَمِائَةٌ وَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ ، وَإِنْ رَبَّعَ يُزَادُ عَلَيْهَا أَلْفٌ ) لِأَنَّ ذَلِكَ نَظِيرُهُ .
قَالَ ( لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ إلَخْ ) إذَا قَالَ فِي إقْرَارِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ فَرَجَعَ الْبَيَانُ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ الْمُجْمِلَ ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا بَيَّنَ إلَّا فِيمَا دُونَ الدِّرْهَمِ ، وَالْقِيَاسُ قَبُولُهُ لِأَنَّهُ مَالٌ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ تَرْكُ الْحَقِيقَةِ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ .
وَلَوْ قَالَ مَالٌ عَظِيمٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ ، وَقُلْنَا فِيهِ إلْغَاءٌ لِوَصْفِ الْعِظَمِ فَلَا يَجُوزُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ بِمَا يُعَدُّ عَظِيمًا عِنْدَ النَّاسِ وَالْغَنِيُّ عَظِيمٌ عِنْدَ النَّاسِ ، وَالْغِنَى بِالنِّصَابِ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يُعَدُّ غَنِيًّا فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ بِهِ فَإِنْ بَيَّنَ بِالْمَالِ الزَّكَوِيِّ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَقَلِّ مَا يَكُونُ نِصَابًا ، فَفِي الْإِبِلِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ لِأَنَّهُ أَقَلُّ نِصَابٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ جِنْسِهِ ، وَفِي الدِّينَارِ بِعِشْرِينَ مِثْقَالًا ، وَفِي الدَّرَاهِمِ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ .
وَإِنْ بَيَّنَ بِغَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ قِيمَةِ النِّصَابِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْأَصْلِ فِي هَذَا الْفَصْلِ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ نِصَابِ السَّرِقَةِ لِأَنَّهُ عَظِيمٌ تُقْطَعُ بِهِ الْيَدُ الْمُحْتَرَمَةُ ، وَرُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِهِمَا .
قِيلَ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا يَجِبُ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ فِيهِ فَأَوْجَبْنَا الْعَظِيمَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَالْأَصَحُّ عَلَى قَوْلِهِ أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى حَالِ الْمُقِرِّ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى ، فَإِنَّ الْقَلِيلَ عِنْدَ الْفَقِيرِ عَظِيمٌ وَأَضْعَافُ ذَلِكَ عِنْدَ الْغَنِيِّ لَيْسَتْ بِعَظِيمَةٍ ( وَلَوْ قَالَ أَمْوَالٌ عِظَامٌ فَالتَّقْدِيرُ فِي ثَلَاثَةِ نُصُبٍ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ سَمَّاهُ اعْتِبَارًا لِأَدْنَى الْجَمْعِ ، وَإِذَا قَالَ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ
دِرْهَمٍ عِنْدَهُمَا ) وَفِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ أَمْرٌ إضَافِيٌّ يَصْدُقُ بَعْدَ الْوَاحِدِ عَلَى كُلِّ عَدَدٍ وَالْعُرْفُ فِيهَا مُخْتَلِفٌ ، فَكَمْ مِنْ مُسْتَكْثَرٍ عِنْدَ قَوْمٍ قَلِيلٌ عِنْدَ آخَرِينَ ، وَحُكْمُ الشَّرْعِ كَذَلِكَ تَارَةً يَتَعَلَّقُ بِالْعَشَرَةِ وَبِأَقَلَّ مِنْهُ كَمَا فِي السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ عَلَى مَذْهَبِهِ ، وَبِالْمِائَتَيْنِ أُخْرَى كَالزَّكَاةِ وُجُوبًا وَحِرْمَانًا مِنْ أَخْذِهَا ، وَبِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَالِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ فِي الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ فَلَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِهَا أَصْلًا فَيُعْمَلُ بِقَوْلِهِ دَرَاهِمُ وَيَنْصَرِفُ إلَى ثَلَاثَةٍ ، وَقَالَا : أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهَا حُكْمًا لِأَنَّ فِي النِّصَابِ كَثْرَةً حُكْمِيَّةً فَالْعَمَلُ بِهَا أَوْلَى مِنْ الْإِلْغَاءِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الدَّرَاهِمُ مُمَيَّزٌ يَقَعُ بِهِ تَمْيِيزُ الْعَدَدِ ، وَأَقْصَى مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ تَمْيِيزًا هُوَ الْعَشَرَةُ ، لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ يُمَيَّزُ بِالْمُفْرَدِ .
يُقَالُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَمِائَةٌ وَأَلْفُ دِرْهَمٍ فَتَكُونُ الْعَشَرَةُ هُوَ الْأَكْثَرُ مِنْ حَيْثُ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ ، لِأَنَّ الْعَمَلَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ إذَا كَانَ مُمْكِنًا وَلَا مَانِعَ مِنْ الصَّرْفِ إلَيْهِ لَا يُعْدَلُ إلَى غَيْرِهِ ( وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فَهِيَ ثَلَاثَةٌ ) بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْمُثَنَّى ، إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ أَكْثَرَ مِنْهَا لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ ، وَكَوْنُهُ عَلَيْهِ فَلَا تُهْمَةَ ، وَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَزْنِ الْمُعْتَادِ وَهُوَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَقْدٌ مُتَعَارَفٌ حُمِلَ عَلَى وَزْنِ سَبْعَةٍ لِكَوْنِهِ مُعْتَبَرًا فِي الشَّرْعِ .
قَالَ ( وَلَوْ قَالَ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا ) كَذَا كِنَايَةٌ عَنْ الْعَدَدِ وَالْأَصْلُ فِي اسْتِعْمَالِهِ اعْتِبَارُهُ بِالْمُفَسَّرِ ، فَمَا لَهُ نَظِيرٌ فِي الْأَعْدَادِ الْمُفَسَّرَةِ حُمِلَ عَلَى أَقَلِّ مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ ، وَمَا لَيْسَ لَهُ
ذَلِكَ بَطَلَ ، فَإِذَا قَالَ كَذَا دِرْهَمًا كَانَ كَمَا إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ ، وَإِذَا قَالَ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا كَانَ أَحَدَ عَشَرَ ، وَإِنْ ثَلَّثَ بِغَيْرِ وَاوٍ لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ لِعَدَمِ النَّظِيرِ ، وَإِذَا قَالَ كَذَا وَكَذَا كَانَ أَحَدًا وَعِشْرِينَ ، وَإِنْ ثَلَّثَ بِالْوَاوِ كَانَ مِائَةً وَأَحَدًا وَعِشْرِينَ ، وَإِنْ رَبَّعَ يُزَادُ أَلْفٌ ،
قَالَ : ( وَإِنْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَوْ قِبَلِي فَقَدْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ ) لِأَنَّ " عَلَيَّ " صِيغَةُ إيجَابٍ ، وَقِبَلِي يُنْبِئُ عَنْ الضَّمَانِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْكَفَالَةِ .وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَوْ قِبَلِي فَهُوَ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ عَلَيَّ لِلْإِيجَابِ ، وَقِبَلِي يُنْبِئُ عَنْ الضَّمَانِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْكِفَايَةِ ، وَلَوْ وَصَلَ الْمُقِرُّ فِيهِمَا بِقَوْلِهِ وَدِيعَةً صُدِّقَ وَيَكُونُ مَجَازًا لِإِيجَابِ حِفْظِ الْمَضْمُونِ وَالْمَالُ مَحَلُّهُ لَكِنَّهُ تَغْيِيرٌ عَنْ وَضْعِهِ فَيُصَدَّقُ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا
( وَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ هُوَ وَدِيعَةٌ وَوَصَلَ صُدِّقَ ) لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ مَجَازًا حَيْثُ يَكُونُ الْمَضْمُونُ عَلَيْهِ حِفْظَهُ وَالْمَالُ مَحَلَّهُ فَيُصَدَّقُ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَفِي نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ فِي قَوْلِهِ قِبَلِي إنَّهُ إقْرَارٌ بِالْأَمَانَةِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَنْتَظِمُهُمَا حَتَّى صَارَ قَوْلُهُ : لَا حَقَّ لِي قِبَلَ فُلَانٍ إبْرَاءٌ عَنْ الدَّيْنِ وَالْأَمَانَةِ جَمِيعًا ، وَالْأَمَانَةُ أَقَلُّهُمَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
( وَلَوْ قَالَ عِنْدِي أَوْ مَعِي أَوْ فِي بَيْتِي أَوْ فِي كِيسِي أَوْ فِي صُنْدُوقِي فَهُوَ إقْرَارٌ بِأَمَانَةٍ فِي يَدِهِ ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ بِكَوْنِ الشَّيْءِ فِي يَدِهِ وَذَلِكَ يَتَنَوَّعُ إلَى مَضْمُونٍ وَأَمَانَةٍ فَيَثْبُتُ وَأَقَلُّهَا وَهُوَ الْأَمَانَةُ .
( قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَفِي نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ ) يَعْنِي مُخْتَصَرَ الْقُدُورِيِّ فِي قَوْلِهِ قِبَلِي ( إنَّهُ إقْرَارٌ بِأَمَانَةٍ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَنْتَظِمُهُمَا ) حَتَّى صَارَ قَوْلُهُ لَا حَقَّ لِي قِبَلَ فُلَانٍ إبْرَاءً عَنْ الدَّيْنِ وَالْأَمَانَةِ جَمِيعًا .
وَالْأَمَانَةُ أَقَلُّهُمَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا ، وَكَانَ قِيَاسُ تَرْتِيبِ وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَذْكُرَ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ ثُمَّ يَذْكُرَ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّ الْهِدَايَةِ تَشْرَحُ مَسَائِلَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْقُدُورِيِّ ، إلَّا أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْأَصَحُّ فَقَدَّمَهُ فِي الذِّكْرِ ، وَلَوْ قَالَ عِنْدِي أَوْ مَعِي أَوْ فِي يَدِي أَوْ فِي بَيْتِي أَوْ فِي كِيسِي أَوْ صُنْدُوقِي فَهُوَ إقْرَارٌ بِأَمَانَةٍ فِي يَدِهِ ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ بِكَوْنِ الشَّيْءِ فِي يَدِهِ وَالْيَدُ تَتَنَوَّعُ إلَى أَمَانَةٍ وَضَمَانٍ فَيَثْبُتُ أَقَلُّهُمَا وَهُوَ الْأَمَانَةُ .
وَنُوقِضَ بِمَا إذَا قَالَ لَهُ قِبَلِي مِائَةُ دِرْهَمٍ دَيْنُ وَدِيعَةٍ أَوْ وَدِيعَةُ دَيْنٍ فَإِنَّهُ دَيْنٌ وَلَمْ يَثْبُتْ أَقَلُّهُمَا وَهُوَ الْأَمَانَةُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الدَّيْنَ وَالْآخَرُ يُوجِبُ الْوَدِيعَةَ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَإِهْمَالُهُمَا لَا يَجُوزُ ، وَحَمْلُ الدَّيْنِ عَلَى الْوَدِيعَةِ حَمْلٌ لِلْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى وَهُوَ لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ تَابِعًا لِمَا دُونَهُ فَتَعَيَّنَ الْعَكْسُ ،
( وَلَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : لِي عَلَيْك أَلْفٌ فَقَالَ اتَّزِنْهَا أَوْ انْتَقِدْهَا أَوْ أَجِّلْنِي بِهَا أَوْ قَدْ قَضَيْتُكَهَا فَهُوَ إقْرَارٌ ) لِأَنَّ الْهَاءَ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي كِنَايَةٌ عَنْ الْمَذْكُورِ فِي الدَّعْوَى ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : اتَّزِنْ الْأَلْفَ الَّتِي لَك عَلَيَّ ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْكِنَايَةِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا لِعَدَمِ انْصِرَافِهِ إلَى الْمَذْكُورِ ، وَالتَّأْجِيلُ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقٍّ وَاجِبٍ ، وَالْقَضَاءُ يَتْلُو الْوُجُوبَ وَدَعْوَى الْإِبْرَاءِ كَالْقَضَاءِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَكَذَا دَعْوَى الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ يَقْتَضِي سَابِقَةَ الْوُجُوبِ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ أَحَلْتُك بِهَا عَلَى فُلَانٍ لِأَنَّهُ تَحْوِيلُ الدَّيْنِ .
وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ اتَّزِنْهَا أَوْ انْتَقِدْهَا أَوْ أَجِّلْنِي بِهَا أَوْ قَدْ قَضَيْتُكَهَا كَانَ إقْرَارًا بِالْمُدَّعَى ، لِأَنَّ مَا خَرَجَ جَوَابًا إذَا لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا كَانَ رَاجِعًا إلَى الْمَذْكُورِ أَوَّلًا ، فَكَأَنَّهُ أَعَادَهُ بِصَرِيحِ لَفْظِهِ ، فَلَمَّا قَرَنَ كَلَامَهُ فِي الْأَوَّلَيْنِ بِالْكِتَابَةِ رَجَعَ إلَى الْمَذْكُورِ فِي الدَّعْوَى ، وَكَأَنَّهُ قَالَ : اتَّزِنْ الْأَلْفَ الَّتِي لَك عَلَيَّ كَمَا لَوْ أَجَابَ بِنَعَمْ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْكِنَايَةِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا لِعَدَمِ انْصِرَافِهِ إلَى الْمَذْكُورِ لِكَوْنِهِ مُسْتَقِلًّا ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : اُقْعُدْ وَزَّانًا لِلنَّاسِ وَاكْتُبْ الْمَالَ وَاتْرُكْ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةَ ، أَوْ نَقَّادًا وَانْقُدْ لِلنَّاسِ دَرَاهِمَهُمْ .
وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ أَجِّلْنِي فَلِأَنَّ التَّأْجِيلَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقٍّ وَاجِبٍ وَأَمَّا فِي قَضَيْتُكَهَا فَإِنَّ الْقَضَاءَ يَتْلُو الْوُجُوبَ ، وَدَعْوَى الْإِبْرَاءِ كَدَعْوَى الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَتْلُو الْوُجُوبَ ، وَكَذَلِكَ دَعْوَى الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ : يَعْنِي لَوْ قَالَ تَصَدَّقْت بِهَا عَلَيَّ أَوْ وَهَبْتهَا لِي كَانَ إقْرَارًا لِأَنَّهُ دَعْوَى التَّمْلِيكِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي سَابِقَةَ الْوُجُوبِ ، وَإِذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ وَقَالَ الْمُقِرُّ بَلْ هِيَ حَالَّةٌ فَالْقَوْلُ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ مَالًا وَادَّعَى حَقًّا لِنَفْسِهِ فِيهِ فَلَا يُصَدَّقُ ، كَمَا إذَا أَقَرَّ بِعَبْدٍ فِي يَدِهِ لِغَيْرِهِ وَادَّعَى لَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الْإِجَارَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِدَرَاهِمَ سُودٍ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ لِأَنَّ السَّوَادَ صِفَةٌ فِي الدَّرَاهِمِ فَيَلْزَمُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ فِي الْكَفَالَةِ وَيُسْتَحْلَفُ الْمُقَرُّ لَهُ عَلَى إنْكَارِ الْأَجَلِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ،
قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الدَّيْنِ وَكَذَّبَهُ فِي التَّأْجِيلِ لَزِمَهُ الدَّيْنُ حَالًا ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَالٍ وَادَّعَى حَقًّا لِنَفْسِهِ فِيهِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِعَبْدٍ فِي يَدِهِ وَادَّعَى الْإِجَارَةَ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالدَّرَاهِمِ السُّودِ لِأَنَّهُ صِفَةٌ فِيهِ وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ فِي الْكَفَالَةِ .
قَالَ ( وَيَسْتَحْلِفُ الْمُقَرُّ لَهُ عَلَى الْأَجَلِ ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ حَقًّا عَلَيْهِ وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُنْكِرِ .
( وَإِنْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ لَزِمَهُ كُلُّهَا دَرَاهِمُ .
وَلَوْ قَالَ : مِائَةٌ وَثَوْبٌ لَزِمَهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ ، وَالْمَرْجِعُ فِي تَفْسِيرِ الْمِائَةِ إلَيْهِ ) وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْأَوَّلِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ الْمِائَةَ مُبْهَمَةٌ وَالدِّرْهَمَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهَا بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ لَا تَفْسِيرًا لَهَا فَبَقِيَتْ الْمِائَةُ عَلَى إبْهَامِهَا كَمَا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّهُمْ اسْتَثْقَلُوا تَكْرَارَ الدِّرْهَمِ فِي كُلِّ عَدَدٍ وَاكْتَفَوْا بِذِكْرِهِ عَقِيبَ الْعَدَدَيْنِ .
وَهَذَا فِيمَا يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ وَذَلِكَ عِنْدَ كَثْرَةِ الْوُجُوبِ بِكَثْرَةِ أَسْبَابِهِ وَذَلِكَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، أَمَّا الثِّيَابُ وَمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَلَا يَكْثُرُ وُجُوبُهَا فَبَقِيَ عَلَى الْحَقِيقَةِ .
( وَكَذَا إذَا قَالَ : مِائَةٌ وَثَوْبَانِ ) لِمَا بَيَّنَّا ( بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ ) لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ وَأَعْقَبَهَا تَفْسِيرًا إذْ الْأَثْوَابُ لَمْ تُذْكَرُ بِحَرْفِ الْعَطْفِ فَانْصَرَفَ إلَيْهِمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَاجَةِ إلَى التَّفْسِيرِ فَكَانَتْ كُلُّهَا ثِيَابًا .
وَإِنْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ لَزِمَهُ كُلُّهَا دَرَاهِمُ ، وَلَوْ قَالَ مِائَةٌ وَثَوْبٌ أَوْ مِائَةٌ وَشَاةٌ لَزِمَهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ وَشَاةٌ وَاحِدَةٌ ، وَالْمَرْجِعُ فِي تَفْسِيرِ الْمِائَةِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُجْمَلُ وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الدَّرَاهِمِ أَيْضًا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، لِأَنَّ الْمِائَةَ مُبْهَمَةٌ وَالْمُبْهَمُ يَحْتَاجُ إلَى التَّفْسِيرِ ، وَلَا تَفْسِيرَ لَهُ هَاهُنَا لِأَنَّ الدِّرْهَمَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهَا بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِتَفْسِيرٍ لِاقْتِضَائِهِ الْمُغَايَرَةَ فَبَقِيَتْ الْمِائَةُ عَلَى إبْهَامِهَا كَمَا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّهُمْ اسْتَثْقَلُوا تَكْرَارَ الدِّرْهَمِ وَاكْتَفَوْا بِذِكْرِهِ عَقِيبَ الْعَدَدَيْنِ ، وَالِاسْتِثْقَالُ فِيمَا يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ وَكَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْوُجُوبِ بِكَثْرَةِ أَسْبَابِهِ ، وَذَلِكَ فِيمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِثُبُوتِهَا فِي الذِّمَّةِ فِي جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ حَالَّةً وَمُؤَجَّلَةً ، وَيَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ بِهَا بِخِلَافِ غَيْرِهَا ، فَإِنَّ الثَّوْبَ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا إلَّا سَلَمًا ، وَالشَّاةُ لَا تَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ أَصْلًا فَلَمْ يَكْثُرْ بِكَثْرَتِهَا فَبَقِيَ عَلَى الْحَقِيقَةِ : أَيْ عَلَى الْأَصْلِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ إلَى الْمُجْمَلِ لِعَدَمِ صَلَاحِيَةِ الْعَطْفِ لِلتَّفْسِيرِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَقَدْ انْعَدَمَتْ ، وَكَذَا إذَا قَالَ مِائَةٌ وَثَوْبَانِ يُرْجَعُ فِي بَيَانِ الْمِائَةِ إلَى الْمُقِرِّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الثِّيَابَ وَمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ لَا يَكْثُرُ وُجُوبُهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ حَيْثُ يَكُونُ الْكُلُّ ثِيَابًا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ وَأَعْقَبَهُمَا تَفْسِيرًا ، إذْ الْأَثْوَابُ لَمْ تُذْكَرْ بِحَرْفِ الْعَطْفِ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ فَانْصَرَفَ إلَيْهِمَا جَمِيعًا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَاجَةِ إلَى
التَّفْسِيرِ .
لَا يُقَالُ : الْأَثْوَابُ جَمْعٌ لَا يَصْلُحُ تَمْيِيزًا لِلْمِائَةِ لِأَنَّهَا لَمَّا اقْتَرَنَتْ بِالثَّلَاثَةِ صَارَ الْعَدَدُ وَاحِدًا .
قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِتَمْرٍ فِي قَوْصَرَّةٍ لَزِمَهُ التَّمْرُ وَالْقَوْصَرَّةُ ) وَفَسَّرَهُ فِي الْأَصْلِ بِقَوْلِهِ : غَصَبْت تَمْرًا فِي قَوْصَرَّةٍ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقَوْصَرَّةَ وِعَاءٌ لَهُ وَظَرْفٌ لَهُ ، وَغَصْبُ الشَّيْءِ وَهُوَ مَظْرُوفٌ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الظَّرْفِ فَيَلْزَمَانِهِ وَكَذَا الطَّعَامُ فِي السَّفِينَةِ وَالْحِنْطَةُ فِي الْجَوَالِقِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : غَصَبْت تَمْرًا مِنْ قَوْصَرَّةٍ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلِانْتِزَاعِ فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ بِغَصْبِ الْمَنْزُوعِ .قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِتَمْرٍ فِي قَوْصَرَةٍ إلَخْ ) الْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا ظَرْفٌ لِلْآخَرِ فَإِمَّا أَنْ يَذْكُرَهُمَا بِكَلِمَةِ " فِي " أَوْ بِكَلِمَةِ " مِنْ " فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ غَصَبْت مِنْ فُلَانٍ تَمْرًا فِي قَوْصَرَةٍ : وَهِيَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ وِعَاءُ التَّمْرِ أَوْ ثَوْبًا فِي مِنْدِيلٍ أَوْ طَعَامًا فِي سَفِينَةٍ أَوْ حِنْطَةً فِي جُوَالِقَ لَزِمَاهُ ، لِأَنَّ غَصْبَ الشَّيْءِ وَهُوَ مَظْرُوفٌ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الظَّرْفِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَقَوْلِهِ تَمْرًا مِنْ قَوْصَرَةٍ وَثَوْبًا مِنْ مِنْدِيلٍ وَطَعَامًا مِنْ سَفِينَةٍ لَمْ يَلْزَمْ إلَّا الْمَظْرُوفُ ، لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلِانْتِزَاعِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِغَصْبِ الْمَنْزُوعِ
قَالَ : ( وَمَنْ أَقَرَّ بِدَابَّةٍ فِي إصْطَبْلٍ لَزِمَهُ الدَّابَّةُ خَاصَّةً ) لِأَنَّ الْإِصْطَبْلَ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُهُمَا وَمِثْلُهُ الطَّعَامُ فِي الْبَيْتِ .وَمَنْ أَقَرَّ بِشَيْئَيْنِ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَقَوْلِهِ غَصَبْت دِرْهَمًا فِي دِرْهَمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الثَّانِي ، لِأَنَّ الثَّانِيَ لَمَّا لَمْ يَصْلُحْ ظَرْفًا لِلْأَوَّلِ لَغَا آخِرُ كَلَامِهِ .
وَمَنْ أَقَرَّ بِغَصْبِ دَابَّةٍ فِي إصْطَبْلٍ لَزِمَهُ الدَّابَّةُ خَاصَّةً : يَعْنِي أَنَّ الْإِقْرَارَ إقْرَارٌ بِهِمَا جَمِيعًا ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا ضَمَانُ الدَّابَّةِ خَاصَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَكَذَا إذَا قَالَ غَصَبْت مِنْهُ طَعَامًا فِي بَيْتِ لِأَنَّ الدَّابَّةَ وَالطَّعَامَ يَدْخُلَانِ فِي ضَمَانِهِ بِالْغَصْبِ ، وَالْإِصْطَبْلُ وَالْبَيْتُ لَا يَدْخُلَانِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مَنْقُولَيْنِ ، وَالْغَصْبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَدْخُلَانِ فِي ضَمَانِهِ دُخُولَهُمَا فِي الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ يَرَى بِغَصْبِ الْعَقَارِ .
قَالَ : ( وَمَنْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِخَاتَمٍ لَزِمَهُ الْحَلَقَةُ وَالْفَصُّ ) لِأَنَّ اسْمَ الْخَاتَمِ يَشْمَلُ الْكُلَّ .
( وَمَنْ أَقَرَّ لَهُ بِسَيْفٍ فَلَهُ النَّصْلُ وَالْجَفْنُ وَالْحَمَائِلُ ) لِأَنَّ الِاسْمَ يَنْطَوِي عَلَى الْكُلِّ .
( وَمَنْ أَقَرَّ بِحَجَلَةٍ فَلَهُ الْعِيدَانُ وَالْكِسْوَةُ ) لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَى الْكُلِّ عُرْفًا .وَالنَّصْلُ حَدِيدَةُ السَّيْفِ ، وَالْجَفْنُ وَالْغِمْدُ ، وَالْحَمَائِلُ جَمْعُ حِمَالَةٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَهِيَ عَلَاقَةُ السَّيْفِ ، وَالْحَجْلَةُ بَيْتٌ يُزَيَّنُ بِالثِّيَابِ وَالْأَسِرَّةِ ، وَالْعِيدَانُ بِرَفْعِ النُّونِ جَمْعُ عُودٍ وَهُوَ الْخَشَبُ ، وَبَقِيَّةُ كَلَامِهِ يُعْلَمُ مِنْ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ
( وَإِنْ قَالَ غَصَبْتُ ثَوْبًا فِي مِنْدِيلٍ لَزِمَاهُ جَمِيعًا ) لِأَنَّهُ ظَرْفٌ لِأَنَّ الثَّوْبَ يُلَفُّ فِيهِ .
( وَكَذَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ ثَوْبٌ فِي ثَوْبٍ ) لِأَنَّهُ ظَرْفٌ .
بِخِلَافِ قَوْلِهِ : دِرْهَمٌ فِي دِرْهَمٍ حَيْثُ يَلْزَمُهُ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ ضَرْبٌ لَا ظَرْفٌ ( وَإِنْ قَالَ : ثَوْبٌ فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَزِمَهُ أَحَدَ عَشَرَ ثَوْبًا ) لِأَنَّ النَّفِيسَ مِنْ الثِّيَابِ قَدْ يُلَفُّ فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ فَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الظَّرْفِ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ حَرْفَ " فِي " يُسْتَعْمَلُ فِي الْبَيْنِ وَالْوَسَطِ أَيْضًا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } أَيْ بَيْنَ عِبَادِي ، فَوَقَعَ الشَّكُّ وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَمِ ، عَلَى أَنَّ كُلَّ ثَوْبٍ مُوعًى وَلَيْسَ بِوِعَاءٍ فَتَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الظَّرْفِ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ مَحْمَلًا .( قَوْله لِأَنَّ النَّفِيسَ مِنْ الثِّيَابِ قَدْ يُلَفُّ فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ ) قِيلَ هُوَ مَنْقُوضٌ عَلَى أَصْلِهِ بِأَنْ قَالَ غَصَبْت كِرْبَاسًا فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ حَرِيرٍ لَزِمَهُ الْكُلُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَنَّ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ حَرِيرٍ لَا يُجْعَلُ وِعَاءً لِلْكِرْبَاسِ عَادَةً ( قَوْلُهُ عَلَى أَنَّ كُلَّ ثَوْبٍ مُوعًى وَلَيْسَ بِوِعَاءٍ ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْجَمِيعَ لَيْسَ بِوِعَاءٍ لِلْوَاحِدِ ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُوعًى بِمَا حَوَاهُ ، وَالْوِعَاءُ الَّذِي هُوَ لَيْسَ بِمُوعًى هُوَ مَا كَانَ ظَاهِرًا ، فَإِذَا تَحَقَّقَ عَدَمُ كَوْنِ الْعَشَرَةِ وِعَاءً لِلثَّوْبِ الْوَاحِدِ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَغْوًا وَتَعَيَّنَ أَوَّلُ كَلَامِهِ مَحْمَلًا : يَعْنِي أَنْ يَكُونَ " فِي " بِمَعْنَى الْبَيْنِ
( وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ خَمْسَةٌ فِي خَمْسَةٍ يُرِيدُ الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ لَزِمَهُ خَمْسَةٌ ) لِأَنَّ الضَّرْبَ لَا يُكْثِرُ الْمَالَ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : يَلْزَمُهُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الطَّلَاقِ ( وَلَوْ قَالَ أَرَدْت خَمْسَةً مَعَ خَمْسَةٍ لَزِمَهُ عَشَرَةٌ ) لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ .( قَوْلُهُ لِأَنَّ الضَّرْبَ لَا يُكْثِرُ الْمَالَ ) مَعْنَاهُ أَنَّ أَثَرَ الضَّرْبِ فِي تَكْثِيرِ الْأَجْزَاءِ لِإِزَالَةِ الْكَسْرِ لَا فِي زِيَادَةِ الْمَالِ ، وَخَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَزْنًا وَإِنْ جَعَلْته أَلْفَ جُزْءٍ لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَزْنُ قِيرَاطٍ ، وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ
( وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ أَوْ قَالَ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ لَزِمَهُ تِسْعَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَلْزَمُهُ الِابْتِدَاءُ وَمَا بَعْدَهُ وَتَسْقُطُ الْغَايَةُ ، وَقَالَا : يَلْزَمُهُ الْعَشَرَةُ كُلُّهَا ) فَتَدْخُلُ الْغَايَتَانِ .
وَقَالَ زُفَرٌ : يَلْزَمُهُ ثَمَانِيَةٌ وَلَا تَدْخُلُ الْغَايَتَانِ .
( وَلَوْ قَالَ لَهُ مِنْ دَارِي مَا بَيْنَ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ فَلَهُ مَا بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الْحَائِطَيْنِ شَيْءٌ ) وَقَدْ مَرَّتْ الدَّلَائِلُ فِي الطَّلَاقِ .
( فَصْلٌ ) ( وَمَنْ قَالَ : لِحَمْلِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ قَالَ أَوْصَى لَهُ فُلَانٌ أَوْ مَاتَ أَبُوهُ فَوَرِثَهُ فَالْإِقْرَارُ صَحِيحٌ ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبٍ صَالِحٍ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ ( ثُمَّ إذَا جَاءَتْ بِهِ فِي مُدَّةٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ لَزِمَهُ ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ مَيِّتًا فَالْمَالُ لِلْمُوصِي وَالْمُوَرِّثِ حَتَّى يُقْسَمُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ) لِأَنَّهُ إقْرَارٌ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُمَا ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْجَنِينِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ ( وَلَوْ جَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ حَيَّيْنِ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا ، وَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ بَاعَنِي أَوْ أَقْرَضَنِي لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ) لِأَنَّهُ بَيَّنَ مُسْتَحِيلًا .
قَالَ ( وَإِنْ أُبْهِمَ الْإِقْرَارُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَصِحُّ ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ الْحُجَجِ فَيَجِبُ إعْمَالُهُ وَقَدْ أَمْكَنَ بِالْحَمْلِ عَلَى السَّبَبِ الصَّالِحِ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِقْرَارَ مُطْلَقَهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْإِقْرَارِ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ ، وَلِهَذَا حُمِلَ إقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ وَأَحَدِ الْمُتَفَاوِضِينَ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ كَمَا إذَا صَرَّحَ بِهِ .
فَصْلٌ ) لَمَّا كَانَتْ مَسَائِلُ الْحَمْلِ مُغَايِرَةً لِغَيْرِهَا ذَكَرهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ وَأَلْحَقَ بِهَا مَسْأَلَةَ الْخِيَارِ اتِّبَاعًا لِلْمَبْسُوطِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِحَمْلِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَخْ ) وَمَنْ أَقَرَّ لِحَمْلٍ ، فَإِمَّا أَنْ يُبَيِّنَ سَبَبًا أَوْ لَا ، فَإِنْ بَيَّنَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا صَالِحًا أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ صَالِحًا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَوْصَى لَهُ فُلَانٌ أَوْ مَاتَ أَبُوهُ فَوَرِثَهُ فَالْإِقْرَارُ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ بَيَّنَ سَبَبًا لَوْ عَايَنَّاهُ حَكَمْنَا بِهِ فَكَذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ .
ثُمَّ إذَا وُجِدَ السَّبَبُ الصَّالِحُ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمُقَرِّ لَهُ عِنْدَ الْإِقْرَارِ ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِمُدَّةٍ يُعْلَمُ فِيهَا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا : أَيْ مَوْجُودًا وَقْتَ الْقَرَارِ بِأَنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ لَزِمَهُ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ إلَى سَنَتَيْنِ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ فَكَذَلِكَ ، وَأَمَّا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَدَّةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ ، وَكَذَا إنْ جَاءَتْ بِهِ مَيِّتًا فَالْمَالُ لِلْمُوصِي وَالْمُوَرِّثِ يُقْسَمُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ، لِأَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُمَا ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْجَنِينِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ حَيَّيْنِ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ إنْ كَانَا ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى فَفِي الْوَصِيَّةِ كَذَلِكَ ، وَفِي الْمِيرَاثِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ غَيْرَ صَالِحٍ مِثْلُ أَنْ قَالَ بَاعَنِي أَوْ أَقْرَضَنِي لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ بَيَّنَ مُسْتَحِيلًا لِعَدَمِ تَصَوُّرِهِمَا مِنْ الْجَنِينِ لَا حَقِيقَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَلَا حُكْمًا لِأَنَّهُ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَانَ ذَلِكَ رُجُوعًا وَهُوَ فِي الْإِقْرَارِ لَا يَصِحُّ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِرُجُوعٍ بَلْ ظُهُورِ كَذِبِهِ بِيَقِينٍ كَمَا لَوْ قَالَ قَطَعْت يَدَ فُلَانٍ
عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَيَدُ فُلَانٍ صَحِيحَةٌ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ لِلرَّضِيعِ وَبَيَّنَ السَّبَبَ بِذَلِكَ ، لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يُتَصَوَّرْ ذَلِكَ مِنْهُ حَقِيقَةً فَقَدْ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ حُكْمًا بِنَائِبِهِ وَهُوَ الْقَاضِي أَوْ مَنْ يَأْذَنُ لَهُ الْقَاضِي ، وَإِذَا تُصُوِّرَ بِالنَّائِبِ جَازَ لِلْمُقِرِّ إضَافَةُ الْإِقْرَارِ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ سَبَبًا ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَإِنْ أَبْهَمَ الْإِقْرَارَ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَصَحَّحَهُ مُحَمَّدٌ ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إذَا صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ كَانَ حُجَّةً يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا ، وَلَا نِزَاعَ فِي صُدُورِهِ عَنْ أَهْلِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَفْرُوضُ وَأَمْكَنَ إضَافَتُهُ إلَى الْمَحَلِّ بِحَمْلِهِ عَلَى السَّبَبِ الصَّالِحِ حَمْلًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ عَلَى الصِّحَّةِ ، كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ فَإِنَّ إقْرَارَهُ وَإِنْ احْتَمَلَ الْفَسَادَ بِكَوْنِهِ صَدَاقًا أَوْ دَيْنَ كَفَالَةٍ وَالصِّحَّةُ بِكَوْنِهِ مِنْ التِّجَارَةِ كَانَ صَحِيحًا تَصْحِيحًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ يَنْصَرِفُ إلَى الْإِقْرَارِ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ وَلِهَذَا حُمِلَ إقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ وَأَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ عَلَيْهِ فَأَخَذَ بِهِ الشَّرِيكُ الْآخَرُ وَالْعَبْدُ فِي حَالِ رِقِّهِ فَيَصِيرُ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ كَالتَّصْرِيحِ بِهِ
قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِحَمْلِ جَارِيَةٍ أَوْ حَمْلِ شَاةٍ لِرَجُلٍ صَحَّ إقْرَارُهُ وَلَزِمَهُ ) لِأَنَّ لَهُ وَجْهًا صَحِيحًا وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ .وَمَنْ أَقَرَّ بِحَمْلِ جَارِيَةٍ أَوْ حَمْلِ شَاةٍ لِرَجُلٍ صَحَّ الْإِقْرَارُ وَلَزِمَهُ ، لِأَنَّ لَهُ وَجْهًا صَحِيحًا لِأَنَّ الْجَارِيَةَ كَانَتْ لِوَاحِدٍ أَوْصَى بِحَمْلِهَا لِرَجُلٍ وَمَاتَ وَالْمُقِرُّ وَارِثُهُ وَرِثَ الْجَارِيَةَ عَالِمًا بِوَصِيَّةِ مُوَرِّثِهِ ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ وَجَبَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ ، وَلَا وَجْهَ لِلْمِيرَاثِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِأَنَّ مَنْ لَهُ مِيرَاثٌ فِي الْحَمْلِ لَهُ مِيرَاثٌ فِي الْحَامِلِ أَيْضًا .
قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِشَرْطِ الْخِيَارِ بَطَلَ الشَّرْطُ ) لِأَنَّ الْخِيَارَ لِلْفَسْخِ وَالْإِخْبَارُ لَا يَحْتَمِلُهُ ( وَلَزِمَهُ الْمَالُ ) لِوُجُودِ الصِّيغَةِ الْمُلْزِمَةِ وَلَمْ تَنْعَدِمْ بِهَذَا الشَّرْطِ الْبَاطِلِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .وَمَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِشَيْءٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي إقْرَارِهِ لِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَالْإِقْرَارُ صَحِيحٌ يَلْزَمُ بِهِ مَا أَقَرَّ بِهِ لِوُجُودِ الصِّيغَةِ الْمُلْزِمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ عَلَيَّ وَنَحْوُهُ ، وَالْخِيَارُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْخِيَارَ لِلْفَسْخِ وَالْإِخْبَارُ لَا يَحْتَمِلُهُ ، لِأَنَّ الْخَبَرَ إنْ كَانَ صَادِقًا بِمُطَابَقَتِهِ لِلْوَاقِعِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِاخْتِيَارِهِ وَعَدَمِ اخْتِيَارِهِ ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِاخْتِيَارِهِ وَعَدَمِ اخْتِيَارِهِ ، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُهُ فِي الْعُقُودِ لِتَتَغَيَّرَ بِهِ صِفَةُ الْعَقْدِ وَيَتَخَيَّرُ بِهِ بَيْنَ فَسْخِهِ وَإِمْضَائِهِ .
قَالَ ( وَمَنْ اسْتَثْنَى مُتَّصِلًا بِإِقْرَارِهِ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَزِمَهُ الْبَاقِي ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَعَ الْجُمْلَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْبَاقِي وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ الِاتِّصَالِ ، ( وَسَوَاءٌ اسْتَثْنَى الْأَقَلَّ أَوْ الْأَكْثَرَ ، فَإِنْ اسْتَثْنَى الْجَمِيعَ لَزِمَهُ الْإِقْرَارُ وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ ) لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثَّنِيَّا وَلَا حَاصِلَ بَعْدَهُ فَيَكُونُ رُجُوعًا ، وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِي الطَّلَاقِ .
بَابُ الِاسْتِثْنَاءِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ ) لَمَّا ذَكَرَ مُوجِبَ الْإِقْرَارِ بِلَا مُغَيِّرٍ شَرَعَ فِي بَيَانِ مُوجِبِهِ مَعَ الْمُغَيِّرِ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فِي كَوْنِهِ مُغَيِّرًا وَهُوَ الشَّرْطُ .
وَالِاسْتِثْنَاءُ اسْتِفْعَالٌ مِنْ الثَّنْيِ وَهُوَ الصَّرْفُ وَهُوَ مُتَّصِلٌ ، وَهُوَ الْإِخْرَاجُ وَالتَّكَلُّمُ بِالْبَاقِي ، وَمُنْفَصِلٌ وَهُوَ مَا لَا يَصِحُّ إخْرَاجُهُ ( قَالَ : وَمَنْ اسْتَثْنَى مُتَّصِلًا بِإِقْرَارِهِ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ وَلَزِمَهُ الْبَاقِي ) أَمَّا لُزُومُ الْبَاقِي فَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَعَ الْجُمْلَةِ : أَيْ الصَّدْرُ عِبَارَةٌ عَنْ الْبَاقِي .
لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمًا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيَّ تِسْعَةٌ لِمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ .
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الِاتِّصَالِ فَإِنَّهُ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَوَازُ التَّأْخِيرِ وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْأُصُولِ ، وَلَا فَصْلَ بَيْنَ كَوْنِ الْمُسْتَثْنَى أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ الْأَكْثَرِ .
وَقَالَ الْفَرَّاءُ : اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِذَلِكَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ قَوْله تَعَالَى { قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوْ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } وَاسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثُّنْيَا وَلَا حَاصِلَ بَعْدَ الْكُلِّ فَيَكُونُ رُجُوعًا ، وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا ، فَإِنْ اسْتَثْنَى الْجَمِيعَ لَزِمَهُ الْإِقْرَارُ وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ ، وَهَذَا إذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بِعَيْنِ ذَلِكَ اللَّفْظِ ، أَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ أَيْمَانِ الزِّيَادَاتِ : اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ إنَّمَا لَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى بِعَيْنِ ذَلِكَ اللَّفْظِ ، أَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَيَصِحُّ كَمَا إذَا قَالَ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا نِسَائِي لَا يَصِحُّ
الِاسْتِثْنَاءُ ، وَلَوْ قَالَ إلَّا عَمْرَةَ وَزَيْنَبَ وَسُعَادَ حَتَّى أَتَى عَلَى الْكُلِّ صَحَّ .
قِيلَ : وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا وَقَعَ بِغَيْرِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ أَمْكَنَ جَعْلُهُ تَكَلُّمًا بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثُّنْيَا ، لِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ كُلًّا ضَرُورَةَ عَدَمِ مِلْكِهِ فِيمَا سِوَاهُ لَا لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ ، فَبِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِ اللَّفْظِ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ الْمُسْتَثْنَى بَعْضُ مَا يَتَنَاوَلُهُ الصَّدْرُ وَالِامْتِنَاعُ مِنْ خَارِجٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِعَيْنِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَكَلُّمًا بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثُّنْيَا ، فَإِنْ قِيلَ : هَذَا تَرْجِيحُ جَانِبِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى وَإِهْمَالُ الْمَعْنَى رَأْسًا فَمَا وَجْهُ ذَلِكَ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٌ لَفْظِيٌّ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ سِتَّ تَطْلِيقَاتٍ إلَّا أَرْبَعًا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَوَقَعَ طَلْقَتَانِ ، وَإِنْ كَانَ السِّتَّ لَا صِحَّةَ لَهَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثِ ، وَمَعَ هَذَا لَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا أَرْبَعًا فَكَانَ اعْتِبَارُهُ أَوْلَى .
( وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا أَوْ إلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ لَزِمَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا قِيمَةَ الدِّينَارِ أَوْ الْقَفِيزِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ( وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَصِحُّ فِيهِمَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَصِحُّ فِيهِمَا .
وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ تَحْتَ اللَّفْظِ ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُمَا اتَّحَدَا جِنْسًا مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْمُجَانَسَةَ فِي الْأَوَّلِ ثَابِتَةٌ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ ، وَهَذَا فِي الدِّينَارِ ظَاهِرٌ .
وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ أَوْصَافُهَا أَثْمَانٌ ؛ أَمَّا الثَّوْبُ فَلَيْسَ بِثَمَنٍ أَصْلًا وَلِهَذَا لَا يَجِبُ بِمُطْلَقِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَمَا يَكُونُ ثَمَنًا صَلَحَ مُقَدِّرًا بِالدَّرَاهِمِ فَصَارَ مُسْتَثْنًى مِنْ الدَّرَاهِمِ ، وَمَا لَا يَكُونُ ثَمَنًا لَا يَصْلُحُ مُقَدِّرًا فَبَقِيَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ الدَّرَاهِمِ مَجْهُولًا فَلَا يَصِحُّ .
وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا أَوْ إلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ صَحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَلَزِمَهُ مِائَةٌ إلَّا قِيمَةَ الدِّينَارِ أَوْ الْقَفِيزِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ .
وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ إلَّا ثَوْبًا لَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .
وَقَوْلُهُ ( فِيهِمَا ) أَيْ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ يَعُودُ إلَى الْمُقَدَّرِ وَغَيْرِهِ ، لِأَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ يَشْتَمِلُ عَلَى الدِّينَارِ وَالْقَفِيزِ وَذَلِكَ مُقَدَّرٌ وَعَلَى الثَّوْبِ وَهُوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ .
لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ تَحْتَ اللَّفْظِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ ، وَلِلشَّافِعِيِّ أَنَّ الشَّرْطَ اتِّحَادُ الْجِنْسِ وَهُوَ مَوْجُودٌ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ فَانْتَقَى الْمَانِعُ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ التَّصَرُّفُ اللَّفْظِيُّ ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ كَمَا تَرَى يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمُجَانَسَةَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا وَهُوَ الْحَقُّ ، وَقَرَّرَ الشَّارِحُونَ كَلَامَهُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَهُ يُعَارِضُ الصَّدْرَ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْمُجَانَسَةُ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ يَقُولُ بِالْإِخْرَاجِ بَعْدَ الدُّخُولِ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِبَيَانِ أَنَّ الصَّدْرَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمُسْتَثْنَى فَهُوَ أَحْوَجُ إلَى إثْبَاتِ الْمُجَانَسَةِ لِأَجْلِ الدُّخُولِ مِنَّا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ شَرْطَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ الْمُجَانَسَةِ وَهِيَ فِي الْمُقَدَّرَاتِ ثَابِتَةٌ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ عَدَمَ تَنَاوُلِ الدَّرَاهِمِ غَيْرَهَا لَفْظًا لَا يَرْتَابُ فِيهِ أَحَدٌ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي تَنَاوُلِهَا إيَّاهُ حُكْمًا ، فَقُلْنَا بِتَنَاوُلِ مَا كَانَ عَلَى أَخَصِّ أَوْصَافِهَا الَّذِي هُوَ الثَّمَنِيَّةُ وَهُوَ الدَّنَانِيرُ وَالْمُقَدَّرَاتُ وَالْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ .
أَمَّا الدَّنَانِيرُ فَظَاهِرَةٌ ، وَأَمَّا
الْمُقَدَّرَاتُ فَلِأَنَّهَا أَثْمَانٌ بِأَوْصَافِهَا ، فَإِنَّهَا إذَا وُصِفَتْ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا وَجَازَ الِاسْتِقْرَاضُ بِهَا ، وَأَمَّا الْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ فَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمِثْلِيِّ فِي قِلَّةِ التَّفَاوُتِ ، وَمَا كَانَ ثَمَنًا صَلَحَ مُقَدَّرًا لِمَا دَخَلَ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ الدَّرَاهِمِ لِحُصُولِ الْمُجَانَسَةِ بَيْنَهُمَا بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَخَصِّ الْأَوْصَافِ فَصَارَ بِقَدْرِهِ مُسْتَثْنًى مِنْ الدَّرَاهِمِ بِقِيمَتِهِ ، وَأَمَّا الثَّوْبُ فَلَيْسَ بِثَمَنٍ أَصْلًا وَلِهَذَا لَا يَجِبُ بِمُطْلَقِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ بَلْ يَثْبُتُ سَلَمًا أَوْ مَا هُوَ بِمَعْنَى السَّلَمِ كَالْبَيْعِ بِثِيَابٍ مَوْصُوفَةٍ ، وَمَا لَيْسَ بِثَمَنٍ لَا يَصْلُحُ مُقَدِّرًا لِلدَّرَاهِمِ لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ فَبَقِيَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الدَّرَاهِمِ مَجْهُولًا ، وَجَهَالَةُ الْمُسْتَثْنَى تُوجِبُ جَهَالَةَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : مَا لَيْسَ بِثَمَنٍ لَا يَصْلُحُ مُقَدِّرًا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ أَوْ الْقِيمَةُ وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ فَإِنَّ الْمُقَدَّرَاتِ تُقَدِّرُ الدَّرَاهِمَ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّقْدِيرَ الِاسْتِثْنَائِيَّ يَقْتَضِي حَقِيقَةَ التَّجَانُسِ أَوْ مَعْنَاهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَيْثُ أَخَصُّ الْأَوْصَافِ اسْتِحْسَانًا فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ التَّجَانُسِ ثُمَّ الْمَصِيرِ إلَى الْقِيمَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمُقَدَّرَاتِ .
قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا ) بِإِقْرَارِهِ ( لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِقْرَارُ ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إمَّا إبْطَالٌ أَوْ تَعْلِيقٌ ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَقَدْ بَطَلَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَكَذَلِكَ ، إمَّا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ ، أَوْ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إذَا مِتُّ أَوْ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ أَوْ إذَا أَفْطَرَ النَّاسُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى بَيَانِ الْمُدَّةِ فَيَكُونُ تَأْجِيلًا لَا تَعْلِيقًا ، حَتَّى لَوْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْأَجْلِ يَكُونُ الْمَالُ حَالًّا .
قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ إلَخْ ) وَمَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِقْرَارُ ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إمَّا إبْطَالٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ أَوْ هُوَ تَعْلِيقٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ ، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا قَدَّمَ الْمَشِيئَةَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْتِ طَالِقٌ .
عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ إبْطَالٌ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَقَعُ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ ، فَإِذَا قَدَّمَ الشَّرْطَ وَلَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْجَزَاءِ لَمْ يَتَعَلَّقْ وَبَقِيَ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَوَقَعَ ، وَكَيْفَمَا كَانَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِقْرَارُ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَقَدْ بَطَلَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَكَذَلِكَ ، إمَّا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَمَّا سَبَقَ وَالتَّعْلِيقُ إنَّمَا يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ وَالتَّعْلِيقُ بِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الطَّلَاقِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إذَا مِتُّ أَوْ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ أَوْ إذَا أَفْطَرَ النَّاسُ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَعَلُّقٍ بَلْ هُوَ بَيَانُ الْمُدَّةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ دَعْوَى الْأَجَلِ إلَى الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ ، حَتَّى لَوْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْأَجَلِ كَانَ الْمَالُ حَالًّا عِنْدَنَا كَمَا تَقَدَّمَ .
قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِدَارٍ وَاسْتَثْنَى بِنَاءَهَا لِنَفْسِهِ فَلِلْمُقَرِّ لَهُ الدَّارُ وَالْبِنَاءُ ) لِأَنَّ الْبِنَاءَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ مَعْنًى لَا لَفْظًا ، وَالِاسْتِثْنَاءُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَلْفُوظِ ، وَالْفَصُّ فِي الْخَاتَمِ وَالنَّخْلَةُ فِي الْبُسْتَانِ نَظِيرُ الْبِنَاءِ فِي الدَّارِ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا لَا لَفْظًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إلَّا ثُلُثَهَا أَوْ إلَّا بَيْتًا مِنْهَا لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ لَفْظًا ( وَلَوْ قَالَ بِنَاءُ هَذَا الدَّارِ لِي وَالْعَرْصَةُ لِفُلَانٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ ) لِأَنَّ الْعَرْصَةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْبُقْعَةِ دُونَ الْبِنَاءِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ بَيَاضُ هَذِهِ الْأَرْضِ دُونَ الْبِنَاءِ لِفُلَانٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ مَكَانُ الْعَرْصَةِ أَرْضًا حَيْثُ يَكُونُ الْبِنَاءُ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأَرْضِ إقْرَارٌ بِالْبِنَاءِ كَالْإِقْرَارِ بِالدَّارِ .
قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِدَارٍ وَاسْتَثْنَى بِنَاءَهَا لِنَفْسِهِ إلَخْ ) وَمَنْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِفُلَانٍ إلَّا بِنَاءَهَا فَإِنَّهُ لِي فَلِلْمُقَرِّ لَهُ الدَّارُ وَالْبِنَاءُ لِأَنَّ الْبِنَاءَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَفْظُ الدَّارِ مَقْصُودًا ، وَالِاسْتِثْنَاءُ لِبَيَانِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ مُتَنَاوَلِ لَفْظِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَقْصُودًا وَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَهُ ، فَالْبِنَاءُ لَا يَكُونُ مُسْتَثْنًى ، أَمَّا أَنَّ لَفْظَ الدَّارِ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْبِنَاءَ مَقْصُودًا فَلِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا ، وَلِهَذَا لَوْ اُسْتُحِقَّ الْبِنَاءُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَتِهِ بَلْ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي .
وَأَمَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِبَيَانِ ذَلِكَ فَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ لَفْظِيٌّ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ ، وَالْفَصُّ فِي الْخَاتَمِ وَالنَّخْلَةُ فِي الْبُسْتَانِ نَظِيرُ الْبِنَاءِ فِي الدَّارِ لِأَنَّهَا تَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا لَا لَفْظًا .
وَلَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِفُلَانٍ إلَّا ثُلُثَهَا أَوْ إلَّا بَيْتًا مِنْهَا فَهُوَ كَمَا قَالَ ، لِأَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِيهِ لَفْظًا وَمَقْصُودًا ، حَتَّى لَوْ اسْتَحَقَّ الْبَيْتَ فِي بَيْعِ الدَّارِ سَقَطَ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ .
وَلَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِفُلَانٍ وَهَذَا الْبَيْتُ لِي كَانَ الْكُلُّ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِكُلِّهَا ثُمَّ ادَّعَى شَيْئًا مِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَلَوْ قَالَ بِنَاءُ هَذِهِ الدَّارِ لِي وَالْعَرْصَةُ لِفُلَانٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ ، لِأَنَّ الْعَرْصَةَ عِبَارَةٌ عَنْ بُقْعَةٍ لَا بِنَاءَ فِيهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ : بَيَاضُ هَذِهِ الْأَرْضِ دُونَ الْبِنَاءِ لِفُلَانٍ فَالْبِنَاءُ لَا يَتْبَعُهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ بِنَاءُ هَذِهِ الدَّارِ لِي وَالْأَرْضُ لِفُلَانٍ حَيْثُ كَانَا لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأَرْضِ لِأَصَالَتِهَا إقْرَارٌ بِالْبِنَاءِ كَالْإِقْرَارِ بِالدَّارِ ، وَجِنْسُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَخْرُجُ عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ بَعْدَ الدَّعْوَى صَحِيحٌ دُونَ الْعَكْسِ ، وَالثَّانِي أَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ
عَلَى غَيْرِهِ ، فَإِذَا أَقَرَّ بِشَيْئَيْنِ يَتَّبِعُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كَالْأَرْضِ وَالْبِنَاءِ ، فَإِنْ كَانَ لِشَخْصٍ فَظَاهِرٌ ، وَإِنْ كَانَ لِشَخْصَيْنِ ، فَإِنْ قَدَّمَ التَّابِعَ فَقَالَ بِنَاءُ هَذِهِ الْأَرْضِ لِفُلَانٍ وَالْأَرْضُ لِفُلَانٍ فَكَمَا قَالَ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ الْأَوَّلَ لَمَّا صَحَّ لَمْ يَصْلُحْ جَعْلُ الْبِنَاءِ تَابِعًا ثَانِيًا لِئَلَّا يَلْزَمَ الْإِقْرَارُ عَلَى الْغَيْرِ ، وَإِنْ قَدَّمَ الْمَتْبُوعَ فَكِلَاهُمَا لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِهِ يَسْتَتْبِعُ التَّابِعَ ، فَالْإِقْرَارُ بِالتَّابِعِ بَعْدَ ذَلِكَ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا يَصِحُّ .
وَإِذَا أَقَرَّ بِأَحَدِهِمَا ، فَإِنْ كَانَ الْمَتْبُوعُ كَقَوْلِهِ الْأَرْضُ لِفُلَانٍ وَالْبِنَاءُ لِي كَانَا لِلْمُقَرِّ لَهُ بِالِاسْتِتْبَاعِ ، وَإِنْ كَانَ التَّابِعُ كَقَوْلِهِ الْأَرْضُ لِي وَالْبِنَاءُ لِفُلَانٍ كَانَ كَمَا قَالَ ، لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ دَعْوَى بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَلَا يَصِحُّ وَفِي الثَّانِي عَكْسُهُ فَصَحَّ .
( وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ اشْتَرَيْته مِنْهُ وَلَمْ أَقْبِضْهُ ، فَإِنْ ذَكَرَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ قِيلَ لِلْمُقَرِّ لَهُ إنْ شِئْت فَسَلِّمْ الْعَبْدَ وَخُذْ الْأَلْفَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَك ) قَالَ : وَهَذَا عَلَى وُجُوهٍ : أَحَدُهَا هَذَا وَهُوَ أَنْ يُصَدِّقَهُ وَيُسَلِّمَ الْعَبْدَ ، وَجَوَابُهُ مَا ذُكِرَ ، لِأَنَّ الثَّابِتَ بِتَصَادُقِهِمَا كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً .
وَالثَّانِي أَنْ يَقُولَ الْمُقَرُّ لَهُ : الْعَبْدُ عَبْدُك مَا بِعْتُكَهُ وَإِنَّمَا بِعْتُك عَبْدًا غَيْرَ هَذَا وَفِيهِ الْمَالُ لَازِمٌ عَلَى الْمُقِرِّ لِإِقْرَارِهِ بِهِ عِنْدَ سَلَامَةِ الْعَبْدِ لَهُ وَقَدْ سَلَّمَ فَلَا يُبَالَى بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ .
وَالثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ عَبْدِي مَا بِعْتُك .
وَحُكْمُهُ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْمُقِرَّ شَيْءٌ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِالْمَالِ إلَّا عِوَضًا عَنْ الْعَبْدِ فَلَا يَلْزَمُهُ دُونَهُ ، وَلَوْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ إنَّمَا بِعْتُك غَيْرَهُ يَتَحَالَفَانِ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يَدَّعِي تَسْلِيمَ مَنْ عَيَّنَهُ وَالْآخَرَ يُنْكِرُ وَالْمُقَرَّ لَهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْأَلْفَ بِبَيْعِ غَيْرِهِ وَالْآخَرَ يُنْكِرُهُ ، وَإِذَا تَحَالَفَا بَطَلَ الْمَالُ ، هَذَا إذَا ذَكَرَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ ( وَإِنْ قَالَ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ اشْتَرَيْتُهُ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ لَزِمَهُ الْأَلْفُ وَلَا يُصَدَّقُ فِي قَوْلِهِ مَا قَبَضْت عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ ) لِأَنَّهُ رُجُوعٌ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْمَالِ رُجُوعًا إلَى كَلِمَةِ عَلَيَّ ، وَإِنْكَارُهُ الْقَبْضَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ يُنَافِي الْوُجُوبَ أَصْلًا لِأَنَّ الْجَهَالَةَ مُقَارِنَةً كَانَتْ أَوْ طَارِئَةً بِأَنْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ نَسِيَاهُ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ بِأَمْثَالِهِ تُوجِبُ هَلَاكَ الْمَبِيعِ فَيَمْتَنِعُ وُجُوبُ نَقْدِ الثَّمَنِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ رُجُوعًا فَلَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : إنْ وَصَلَ صُدِّقَ وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، وَإِنْ فَصَلَ لَمْ يُصَدَّقْ إذَا أَنْكَرَ الْمُقَرُّ لَهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ
، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَهُ مَتَاعًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ وَبَيَّنَ سَبَبًا وَهُوَ الْبَيْعُ ، فَإِنْ وَافَقَهُ الطَّالِبُ فِي السَّبَبِ وَبِهِ لَا يَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ إلَّا بِالْقَبْضِ ، وَالْمُقِرُّ يُنْكِرُهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي السَّبَبِ كَانَ هَذَا مِنْ الْمُقِرِّ بَيَانًا مُغَيِّرًا لِأَنَّ صَدْرَ كَلَامِهِ لِلْوُجُوبِ مُطْلَقًا وَآخِرُهُ يَحْتَمِلُ انْتِفَاءَهُ عَلَى اعْتِبَارِ عَدَمِ الْقَبْضِ وَالْمُغَيِّرُ يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا .
قَالَ ( وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ إلَخْ ) وَمَنْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ اشْتَرَيْته وَلَمْ أَقْبِضْهُ فَإِمَّا أَنْ يَذْكُرَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ عَلَى وُجُوهٍ : أَحَدُهَا أَنْ يُصَدِّقَهُ فَيُقَالُ لَهُ إنْ شِئْت فَسَلِّمْ الْعَبْدَ وَخُذْ الْأَلْفَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَك لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا وَالثَّابِتُ بِالتَّصَادُقِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُمَا إذَا تَصَادَقَا وَثَبَتَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ شَرْطٍ فَالْحُكْمُ الْأَمْرُ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُقِرِّ ثُمَّ بِتَسْلِيمِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ مَا إذَا ادَّعَى الْمُقِرُّ لَهُ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ عَلَى الْمُقِرِّ وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ ، فَإِنْ حَكَمْنَا بِذَلِكَ كَانَ حُكْمًا بِمَا لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ وَذَلِكَ بَاطِلٌ .
وَالثَّانِي أَنْ يَقُولَ الْمُقَرُّ لَهُ الْعَبْدُ عَبْدُك مَا بِعْتُكَهُ ، وَإِنَّمَا بِعْتُك عَبْدًا غَيْرَهُ وَسَلَّمْته لَك ، وَفِيهِ الْمَالُ لَازِمٌ عَلَى الْمُقِرِّ لِإِقْرَارِهِ بِهِ عِنْدَ سَلَامَةِ الْعَبْدِ لَهُ وَقَدْ سُلِّمَ ، وَلَا يُبَالَى بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ ، وَكَمَا لَوْ قَالَ لَك عَلَيَّ أَلْفٌ غَصَبْته مِنْك وَقَالَ لَا بَلْ اسْتَقْرَضْت مِنِّي ، وَلَا تَفَاوُتَ فِي هَذَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ أَوْ الْمُقَرِّ لَهُ .
وَالثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ عَبْدِي مَا بِعْتُكَهُ ، وَفِيهِ لَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ شَيْءٌ لِأَنَّ الْمُقِرَّ مَا أَقَرَّ بِالْمَالِ إلَّا عِوَضًا عَنْ الْعَبْدِ ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْعَبْدَ لَا يُسَلِّمُ لِلْمُقَرِّ لَهُ بَدَلَهُ ، وَفِي هَذَا أَيْضًا لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ كَوْنِ الْعَبْدِ فِي يَدِ الْمُقِرِّ أَوْ يَدِ الْمُقَرِّ لَهُ ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ فِي يَدِ الْمُقِرِّ يَأْخُذُ الْعَبْدَ ، وَلَوْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ : أَيْ مَعَ إنْكَارِ الْعَبْدِ إنَّمَا بِعْتُك غَيْرَهُ يَدَّعِي لُزُومَ الْمَالِ بِبَيْعِ عَبْدٍ آخَرَ تَحَالَفَا ، لِأَنَّ الْمُقِرَّ يَدَّعِي تَسْلِيمَ مَنْ
عَيَّنَهُ وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ ، وَالْمُقَرُّ لَهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْأَلْفَ بِبَيْعِ غَيْرِهِ وَالْمُقِرُّ يُنْكِرُهُ ، وَإِذَا تَحَالَفَا بَطَلَ الْمَالُ مِنْ الْمُقِرِّ وَالْعَبْدُ سَالِمٌ لِمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَزِمَهُ الْأَلْفُ وَلَا يُصَدَّقُ فِي قَوْلِهِ مَا قَبَضْت عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ ، فَإِنَّ إقْرَارَهُ صَحَّ رُجُوعًا إلَى كَلِمَةِ عَلَيَّ ، وَإِنْكَارُهُ الْقَبْضَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ يُنَافِي الْوُجُوبَ أَصْلًا ، لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمَبِيعِ مُقَارِنَةً كَانَتْ كَالْجَهَالَةِ حَالَةَ الْعَقْدِ أَوْ طَارِئَةً ، كَمَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا وَنَسِيَاهُ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ بِأَمْثَالِهِ تُوجِبُ هَلَاكَ الْمَبِيعِ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَجْهُولِ وَذَلِكَ يُوجِبُ سُقُوطَ نَقْدِ الثَّمَنِ ، فَأَوَّلُ كَلَامِهِ إقْرَارٌ يُوجِبُ الثَّمَنِ وَآخِرُهُ يُوجِبُ سُقُوطَهُ وَذَلِكَ رُجُوعٌ فَلَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : الْمُقَرُّ لَهُ إمَّا أَنْ يُصَدِّقَ فِي الْمُقَرِّ فِي الْجِهَةِ أَوْ لَا ، فَإِنْ صَدَّقَهُ فَالْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ فِي عَدَمِ الْقَبْضِ كَمَا سَيَأْتِي ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَالْمُقِرُّ إمَّا أَنْ وَصَلَ بِقَوْلِهِ لَمْ أَقْبِضْهُ أَوْ فَصَلَ ، فَإِنْ وَصَلَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَإِنْ فَصَلَ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ مُوجِبٌ وَآخِرُهُ قَدْ تَغَيَّرَ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ انْتِفَاءَهُ عَلَى اعْتِبَارِ عَدَمِ الْقَبْضِ فَكَانَ بَيَانُ تَغْيِيرٍ وَهُوَ إنَّمَا يَصِحُّ مَوْصُولًا وَالْمَوْعُودُ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَهُ مَتَاعًا إلَخْ وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَتَاعِ حُكْمُ الْعَبْدِ ( قَوْلُهُ وَبِهِ لَا يَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ ) أَيْ بِمُجَرَّدِ وُجُوبِ السَّبَبِ وَهُوَ الْبَيْعُ لَا يَتَأَكَّدُ وُجُوبُ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَهْلِكُ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي لَكِنَّهُ
يَتَأَكَّدُ بِالْقَبْضِ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْقَبْضَ وَالْمُقِرُّ يُنْكِرُهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَفِي عِبَارَتِهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ وَافَقَ الطَّالِبَ فِي السَّبَبِ شَرْطٌ فَلَا بُدَّ مِنْ جَوَابٍ .
وَقَوْلُهُ وَبِهِ لَا يَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فَيَكُونُ لِوُجُودِ الْفَاءِ وَلِعَدَمِ الرَّبْطِ فَإِنَّك لَوْ قَدَّرْت كَلَامَهُ فَإِنْ وَافَقَهُ الطَّالِبُ فِي السَّبَبِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ التَّعْلِيلِ وَلَيْسَ فِيهِ إشْعَارٌ بِذَلِكَ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : جَزَاؤُهُ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ فَإِنْ وَافَقَهُ الطَّالِبُ فِي السَّبَبِ وَالْحَالُ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ السَّبَبِ لَا يَتَأَكَّدُ لَكِنَّهُ يَتَأَكَّدُ بِالْقَبْضِ كَانَ الطَّالِبُ مُدَّعِيًا لِلْقَبْضِ وَالْمُقِرُّ يُنْكِرُهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ
( وَلَوْ قَالَ ابْتَعْتُ مِنْهُ بَيْعًا إلَّا أَنِّي لَمْ أَقْبِضْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ) بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْبَيْعِ الْقَبْضُ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِ الثَّمَنِ .
قَالَ ( وَكَذَا لَوْ قَالَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ( لَزِمَهُ الْأَلْفُ وَلَمْ يُقْبَلْ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ ) لِأَنَّهُ رُجُوعٌ لِأَنَّ ثَمَنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا وَأَوَّلُ كَلَامِهِ لِلْوُجُوبِ ( وَقَالَا : إذَا وَصَلَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ) لِأَنَّهُ بَيَّنَ بِآخِرِ كَلَامِهِ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الْإِيجَابَ وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ فِي آخِرِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
قُلْنَا : ذَاكَ تَعْلِيقٌ وَهَذَا إبْطَالٌ .
( وَلَوْ قَالَ ابْتَعْت مِنْهُ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : ابْتَعْت مِنْهُ بَيْعًا : أَيْ مَبِيعًا ، وَفِي بَعْضِهَا عَيْنًا ( إلَّا أَنِّي لَمْ أَقْبِضْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْبَيْعِ الْقَبْضُ ) وَلَمْ يُقِرَّ بِوُجُوبِ الثَّمَنِ لِجَوَازِ أَنْ يُوجَدَ الْبَيْعُ وَلَا يَجِبُ الثَّمَنُ كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِخِيَارِ الشَّرْطِ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِ الثَّمَنِ فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَتِهِ الْقَبْضُ ، هَذَا مَفْهُومُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ أَنْ لَوْ وَجَبَ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ أَوَّلًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ .
قَالَ ( وَكَذَا لَوْ قَالَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ إلَخْ ) وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ مِنْ ثَمَنِ خِنْزِيرٍ لَزِمَهُ الْأَلْفُ وَلَمْ يُقْبَلْ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُقَرُّ لَهُ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُوبِ أَلْفٍ ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ ، لِأَنَّ ثَمَنَ الْخَمْرِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَانَ رُجُوعًا ، وَقَالَا : إذَا وَصَلَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ بَيَّنَ بِآخِرِ كَلَامِهِ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الْإِيجَابَ ، لِأَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ وَالضِّنَةُ ، وَقَدْ اعْتَادَ الْفَسَقَةُ شِرَاءَهَا وَأَدَاءَ ثَمَنِهَا ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَنَى إقْرَارَهُ عَلَى هَذِهِ الْعَادَةِ فَكَانَ آخِرُ كَلَامِهِ بَيَانًا مُغَيِّرًا فَيَصِحُّ مَوْصُولًا ، فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ فِي آخِرِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ تَعْلِيقٌ لِأَنَّ صِيغَتَهُ وُضِعَتْ لَهُ وَالتَّعْلِيقُ بَيْنَ أَهْلِ اللِّسَانِ مُتَعَارَفٌ كَالْإِرْسَالِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْبَيَانِ وَوُجُوبُ الْمَالِ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْإِرْسَالِ ، فَمَعَ صِيغَةِ التَّعْلِيقِ لَا يَلْزَمُ حُكْمُ الْإِرْسَالِ ، وَهَذَا إبْطَالٌ وَالْإِبْطَالُ رُجُوعٌ وَالرُّجُوعُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ غَيْرُ صَحِيحٍ مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا .
( وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ أَوْ قَالَ أَقْرَضَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ جِيَادٌ لَزِمَهُ الْجِيَادُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : إنْ قَالَ مَوْصُولًا يُصَدَّقُ ، وَإِنْ قَالَ مَفْصُولًا لَا يُصَدَّقُ ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ هِيَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ إلَّا إنَّهَا زُيُوفٌ ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ زُيُوفٍ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ .
لَهُمَا أَنَّهُ بَيَانٌ مُغَيِّرٌ فَيَصِحُّ بِشَرْطِ الْوَصْلِ كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ .
وَهَذَا لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ يَحْتَمِلُ الزُّيُوفَ بِحَقِيقَتِهِ وَالسَّتُّوقَةُ بِمَجَازِهِ ، إلَّا أَنَّ مُطْلَقَهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْجِيَادِ فَكَانَ بَيَانًا مُغَيِّرًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ إلَّا أَنَّهَا وَزْنُ خَمْسَةٍ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا رُجُوعٌ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي وَصْفَ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ ، وَالزِّيَافَةُ عَيْبٌ وَدَعْوَى الْعَيْبِ رُجُوعٌ عَنْ بَعْضِ مُوجِبِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ بِعْتُكَهُ مَعِيبًا وَقَالَ الْمُشْتَرِي بِعْتَنِيهِ سَلِيمًا فَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي لِمَا بَيَّنَّا ، وَالسَّتُّوقَةُ لَيْسَتْ مِنْ الْأَثْمَانِ وَالْبَيْعُ يُرَدُّ عَلَى الثَّمَنِ فَكَانَ رُجُوعًا .
وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّهَا وَزْنُ خَمْسَةٍ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءً لِأَنَّهُ مِقْدَارٌ بِخِلَافِ الْجَوْدَةِ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْوَصْفِ لَا يَجُوزُ كَاسْتِثْنَاءِ الْبِنَاءِ فِي الدَّارِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ نَوْعٌ لَا عَيْبٌ ، فَمُطْلَقُ الْعَقْدِ لَا يَقْتَضِي السَّلَامَةَ عَنْهَا .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ فِي الْقَرْضِ أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي الزُّيُوفِ إذَا وَصَلَ لِأَنَّ الْقَرْضَ يُوجِبُ رَدَّ مِثْلِ الْمَقْبُوضِ ، وَقَدْ يَكُونُ زَيْفًا كَمَا فِي الْغَصْبِ .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ التَّعَامُلَ بِالْجِيَادِ فَانْصَرَفَ مُطْلَقُهُ إلَيْهَا .
( وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ
دِرْهَمٍ زُيُوفٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَيْعَ وَالْقَرْضَ قِيلَ يُصَدَّقُ ) بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ يَتَنَاوَلُهَا ( وَقِيلَ لَا يُصَدَّقُ ) لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ يَنْصَرِفُ إلَى الْعُقُودِ لِتَعَيُّنِهَا مَشْرُوعَةً لَا إلَى الِاسْتِهْلَاكِ الْمُحَرَّمِ .
( وَلَوْ قَالَ اغْتَصَبْت مِنْهُ أَلْفًا أَوْ قَالَ أَوْدَعَنِي ثُمَّ قَالَ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ صُدِّقَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ ) لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَغْصِبُ مَا يَجِدُ وَيُودِعُ مَا يَمْلِكُ فَلَا مُقْتَضَى لَهُ فِي الْجِيَادِ وَلَا تَعَامُلَ فَيَكُونُ بَيَانَ النَّوْعِ فَيَصِحُّ وَإِنْ فَصَلَ ، وَلِهَذَا لَوْ جَاءَ رَادُّ الْمَغْصُوبِ الْوَدِيعَةِ بِالْمَعِيبِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِيهِ مَفْصُولًا اعْتِبَارًا بِالْقَرْضِ إذْ الْقَبْضُ فِيهِمَا هُوَ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ .
وَلَوْ قَالَ هِيَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ بَعْدَمَا أَقَرَّ بِالْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ وَوَصَلَ صُدِّقَ ، وَإِنْ فَصَلَ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّ السَّتُّوقَةُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ لَكِنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهَا مَجَازًا فَكَانَ بَيَانًا مُغَيِّرًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْوَصْلِ ( وَإِنْ قَالَ فِي هَذَا كُلِّهِ أَلْفًا ثُمَّ قَالَ إلَّا أَنَّهُ يَنْقُصُ كَذَا لَمْ يُصَدَّقْ وَإِنْ وَصَلَ صُدِّقَ ) لِأَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءُ الْمِقْدَارِ وَالِاسْتِثْنَاءُ يَصِحُّ مَوْصُولًا ، بِخِلَافِ الزِّيَافَةِ لِأَنَّهَا وَصْفٌ وَاسْتِثْنَاءُ الْأَوْصَافِ لَا يَصِحُّ ، وَاللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ الْمِقْدَارَ دُونَ الْوَصْفِ وَهُوَ تَصَرُّفٌ لَفْظِيٌّ كَمَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ كَانَ الْفَصْلُ ضَرُورَةَ انْقِطَاعِ الْكَلَامِ فَهُوَ وَاصِلٌ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ .
وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ أَوْ أَقْرَضَنِي أَلْفًا وَبَيَّنَ أَنَّهَا زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ هِيَ جِيَادٌ لَزِمَهُ الْجِيَادُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : إنْ قَالَ ذَلِكَ مَوْصُولًا صُدِّقَ وَإِلَّا فَلَا وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ هِيَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ لَكِنْ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ لَا يُصَدَّقُ وَإِنْ وَصَلَ ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ بِكَلِمَةِ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ زُيُوفٌ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ .
لَهُمَا أَنَّهُ بَيَانٌ مُغَيَّرٌ لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ إذَا أُطْلِقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْجِيَادِ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الزُّيُوفَ بِحَقِيقَتِهِ حَتَّى لَوْ تَجُوزَ بِهِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ كَانَ اسْتِيفَاءً لَا اسْتِبْدَالًا ، وَالسَّتُّوقَةُ بِمَجَازِهِ لِأَنَّهَا تُسَمَّى دَرَاهِمَ مَجَازًا فَأَمْكَنَ أَنْ يَتَوَقَّفَ صَدْرُ الْكَلَامِ عَلَى عَجُزِهِ ، فَإِذَا ذَكَرَهَا آخِرًا كَانَ بَيَانُ تَغْيِيرٍ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ إلَّا أَنَّهَا وَزْنُ خَمْسَةٍ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا رُجُوعٌ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ عَنْ الْعَيْبِ وَالزِّيَافَةُ عَيْبٌ فَلَمْ يَكُنْ دَاخِلًا تَحْتَ الْعَقْدِ لِكَوْنِ دَعْوَاهُ بَيَانًا بَلْ يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ بَعْضِ مُوجِبِهِ ، وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ بِعْتُك مَعِيبًا وَقَالَ الْمُشْتَرِي سَلِيمًا كَانَ الْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ ( وَالسَّتُّوقَةُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ وَالْبَيْعُ يُرَدُّ عَلَى الثَّمَنِ ) فَلَمْ يَكُنْ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ الْعَقْدِ ( فَكَانَ ) دَعْوَاهَا ( رُجُوعًا ) قَالَ ( وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّهَا وَزْنُ خَمْسَةٍ ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً لِأَنَّهُ مِقْدَارٌ ، بِخِلَافِ الْجَوْدَةِ فَإِنَّهَا وَصْفٌ وَاسْتِثْنَاءُ الْوَصْفِ لَا
يَجُوزُ كَاسْتِثْنَاءِ الْبِنَاءِ فِي الدَّارِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ يُسْتَثْنَى الْوَصْفُ كَمَا إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ كُرٌّ حِنْطَةً مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ ضِدُّ الْجَوْدَةِ فَهُمَا صِفَتَانِ يَتَعَاقَبَانِ عَلَى مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ نَوْعٌ لَا عَيْبٌ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالْجَوْدَةُ كَذَلِكَ لِمَا مَرَّ أَنَّهُمَا ضِدَّانِ دَفْعًا لِلتَّحَكُّمِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الرَّدَاءَةَ فِي الْحِنْطَةِ مُنَوِّعَةٌ لَا عَيْبٌ وَفِي الدَّرَاهِمِ عَيْبٌ ، لِأَنَّ الْعَيْبَ مَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْخِلْقَةِ السَّلِيمَةِ ، وَالْحِنْطَةُ قَدْ تَكُونُ رَدِيئَةً فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَإِنْ كَانَ نَوْعًا لَمْ يَكُنْ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى نَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ بِالْحِنْطَةِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهَا جَيِّدَةٌ أَوْ وَسَطٌ أَوْ رَدِيئَةٌ فَلَيْسَ فِي بَيَانِهِ تَغْيِيرٌ مُوجِبٌ أَوْ كَلَامِهِ ، فَصَحَّ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ فِي الْقَرْضِ أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي الزُّيُوفِ إذَا وَصَلَ ، لِأَنَّ الْمُسْتَقْرَضَ إنَّمَا يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِالْقَبْضِ فَالْقَرْضُ يُوجِبُ مِثْلَ الْمَقْبُوضِ ، وَالْمَقْبُوضُ قَدْ يَكُونُ زَيْفًا كَمَا فِي الْغَصْبِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ التَّعَامُلَ بِالْجِيَادِ وَالْجِيَادُ هِيَ الْمُتَعَارَفَةُ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ ، وَالْمُرَادُ بِالْأُصُولِ الْجَامِعَانِ وَالزِّيَادَاتُ وَالْمَبْسُوطُ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعَنْ الْأَمَالِي وَالنَّوَادِرِ وَالرُّقَيَّاتِ والهارونيات والكيسانيات بِغَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ( وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ زُيُوفٌ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْجِهَةَ ) قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ : لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي الْأُصُولِ ، فَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ ( يُصَدَّقُ بِالْإِجْمَاعِ إذَا وَصَلَ لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ يَتَنَاوَلُهَا ) وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَصْرِفُهَا إلَى الْجِيَادِ .
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ : هُوَ عَلَى
الِاخْتِلَافِ ( وَقِيلَ لَا يُصَدَّقُ ) عِنْدَهُ مُطْلَقًا لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ يَنْصَرِفُ إلَى الْعُقُودِ لِتَعَيُّنِهَا مَشْرُوعَةً ، لَا إلَى الِاسْتِهْلَاكِ الْمُحَرَّمِ فَصَارَ هَذَا وَمَا بَيْنَ سَبَبِهِ تِجَارَةٌ سَوَاءً ( وَلَوْ قَالَ اغْتَصَبْت مِنْهُ أَلْفًا أَوْ قَالَ أَوْدَعَنِي أَلْفًا ثُمَّ قَالَ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ صُدِّقَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَغْصِبُ مَا يَجِدُ وَيُودِعُ مَا يَمْلِكُ فَلَا مُقْتَضَى لَهُ فِي الْجِيَادِ وَلَا تَعَامُلَ ) فِي غَصْبِ الْجِيَادِ وَلَا فِي إيدَاعِهَا بِخِلَافِ الِاسْتِقْرَاضِ فَإِنَّ التَّعَامُلَ فِيهِ بِالْجِيَادِ كَمَا مَرَّ ( فَيَكُونُ بَيَانَ النَّوْعِ فَيَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَفْصُولًا ) وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزِّيَافَةَ فِي الدَّرَاهِمِ عَيْبٌ فَيَكُونُ ذِكْرُ الزَّيْفِ رُجُوعًا فَلَا يُقْبَلُ أَصْلًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا مُغَيِّرًا فَلَا يُقْبَلُ مَفْصُولًا .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا صِفَةٌ وَالْمَوْصُوفُ بِهَا قَدْ يَكُونُ مُتَّصِفًا بِهَا مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ فَيَكُونُ مُنَوَّعًا لَيْسَ إلَّا كَمَا فِي الْحِنْطَةِ ، وَقَدْ لَا يَكُونُ ، وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنَوَّعًا وَعَيْبًا .
وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْجِهَةِ الْمُوجِبَةِ لَهَا فَإِنْ اقْتَضَتْ السَّلَامَةَ كَانَتْ الزِّيَافَةُ عَيْبًا وَإِلَّا كَانَتْ نَوْعًا ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَمَّا اقْتَضَتْهَا تَقَيَّدَتْ بِهَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَافَةُ نَوْعًا مِنْهَا لِتَبَايُنِهِمَا ، لَكِنَّهَا تُنَافِيهَا تَنَافِيَ التَّضَادِّ فَكَانَتْ عَيْبًا ، لِأَنَّ ضِدَّ السَّلَامَةِ عَيْبٌ ، وَإِذَا لَمْ تَقْتَضِهَا كَانَتْ نَوْعَيْنِ لِمُطْلَقِ الدَّرَاهِمِ لِاحْتِمَالِهِ إيَّاهُمَا احْتِمَالَ الْجِنْسِ وَالْأَنْوَاعِ هَذَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَوْلُهُ وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِأَجْلِ أَنْ لَا مُقْتَضَى لَهُ فِي الْجِيَادِ لَوْ جَاءَ رَادُّ الْمَغْصُوبِ الْوَدِيعَةِ بِالْمَعِيبِ كَانَ الْقَوْلُ لَهُ ، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ مَتَى وَقَعَ فِي صِفَةِ الْمَقْبُوضِ فَالْقَوْلُ لِلْقَابِضِ
ضَمِينًا كَانَ أَوْ أَمِينًا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِيهِ مَفْصُولًا اعْتِبَارًا بِالْقَرْضِ ، إذْ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ فِيهِمَا هُوَ الْقَبْضُ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِيهِمَا .
وَلَوْ أَقَرَّ بِالْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ ثُمَّ قَالَ هِيَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ مَوْصُولًا صُدِّقَ ، لِأَنَّ سَتُّوقَةَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ كَمَا مَرَّ ، لَكِنَّ كَلَامَهُ يَحْتَمِلُهُ مَجَازًا فَكَانَ بَيَانًا مُغَيِّرًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْوَصْلِ ( وَلَوْ قَالَ فِي هَذَا كُلِّهِ ) يَعْنِي الْمَذْكُورَ مِنْ الْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَالْغَصْبِ ( أَلْفًا إلَّا أَنَّهُ يَنْقُصُ كَذَا فَإِنْ وَصَلَ صُدِّقَ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ مِقْدَارٍ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ( وَلَوْ كَانَ الْفَصْلُ ضَرُورَةَ انْقِطَاعِ الْكَلَامِ فَهُوَ وَاصِلٌ ) لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى التَّكَلُّمِ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ وَيَذْكُرُ الِاسْتِثْنَاءَ فِي آخِرِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ فَكَانَ عَفْوًا لِعَدَمِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ
( وَمَنْ أَقَرَّ بِغَصْبِ ثَوْبٍ ثُمَّ جَاءَ بِثَوْبٍ مَعِيبٍ فَالْقَوْلُ لَهُ ) لِأَنَّ الْغَصْبَ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّلِيمِ .قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِغَصْبِ ثَوْبٍ ) هَذِهِ تَقَدَّمَ وَجْهُهَا أَنَّ الْغَصْبَ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّلِيمِ
( وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ : أَخَذْت مِنْك أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَهَلَكَتْ فَقَالَ لَا بَلْ أَخَذْتهَا غَصْبًا فَهُوَ ضَامِنٌ ، وَإِنْ قَالَ أَعْطَيْتَنِيهَا وَدِيعَةً فَقَالَ لَا بَلْ غَصَبْتَنِيهَا لَمْ يَضْمَنْ ) وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْأَخْذُ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبْرِئُهُ وَهُوَ الْإِذْنُ وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ مَعَ الْيَمِينِ .
وَفِي الثَّانِي أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى غَيْرِهِ وَذَاكَ يَدَّعِي عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ وَهُوَ الْغَصْبُ فَكَانَ الْقَوْلُ لِمُنْكِرِهِ مَعَ الْيَمِينِ وَالْقَبْضُ فِي هَذَا كَالْأَخْذِ وَالدَّفْعُ كَالْإِعْطَاءِ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إعْطَاؤُهُ وَالدَّفْعُ إلَيْهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِقَبْضِهِ ، فَنَقُولُ : قَدْ يَكُونُ بِالتَّخْلِيَةِ وَالْوَضْعِ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَلَوْ اقْتَضَى ذَلِكَ فَالْمُقْتَضَى ثَابِتٌ ضَرُورَةً فَلَا يَظْهَرُ فِي انْعِقَادِهِ سَبَبُ الضَّمَانِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : أَخَذْتُهَا مِنْك وَدِيعَةً وَقَالَ الْآخَرُ لَا بَلْ قَرْضًا حَيْثُ يَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ وَإِنْ أَقَرَّ بِالْأَخْذِ لِأَنَّهُمَا تَوَافَقَا هُنَالِكَ عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ كَانَ بِالْإِذْنِ إلَّا أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ يَدَّعِي سَبَبَ الضَّمَانِ وَهُوَ الْقَرْضُ وَالْآخَرُ يُنْكِرُ فَافْتَرَقَا .
( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ أَخَذْت مِنْك أَلْفَ دِرْهَمٍ ) الْمُقِرُّ إمَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ كَقَوْلِهِ أَخَذْت وَشَبَهِهِ ، أَوْ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ كَأَعْطَيْتُ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَأَتَى بِمَا لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ أَخَذْت وَدِيعَةً فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فَذَاكَ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَإِنْ ادَّعَى مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِذْنِ بِالْأَخْذِ كَالْقَرْضِ فَالْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ .
وَإِنْ ادَّعَى غَيْرَهُ ضَمِنَ الْمُقِرُّ لِأَنَّهُمَا فِي الْأُولَى تَوَافَقَا عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ كَانَ بِالْإِذْنِ وَالْمُقَرُّ لَهُ يَدَّعِي سَبَبَ الضَّمَانِ وَهُوَ الْقَرْضُ وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ أَعْطَيْتنِي وَدِيعَةً وَادَّعَى الْآخَرُ غَصْبًا لَمْ يَضْمَنْ ، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ وَأَنْكَرَهُ الْخَصْمُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَفِي الثَّانِي ادَّعَى الْخَصْمُ سَبَبَ الضَّمَانِ .
وَهُوَ الْغَصْبُ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْإِعْطَاءُ وَالدَّفْعُ لَا يَكُونُ إلَّا بِقَبْضِهِ ، قُلْنَا : مَمْنُوعٌ قَدْ يَكُونُ بِالتَّخْلِيَةِ .
سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ ضَرُورِيٌّ فَلَا يَظْهَرُ فِي انْعِقَادِهِ سَبَبًا لِلضَّمَانِ ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ
( وَإِنْ قَالَ هَذِهِ الْأَلْفُ كَانَتْ وَدِيعَةً لِي عِنْدَ فُلَانٍ فَأَخَذْتُهَا فَقَالَ فُلَانٌ هِيَ لِي فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْيَدِ لَهُ وَادَّعَى اسْتِحْقَاقَهَا عَلَيْهِ وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ .
( وَلَوْ قَالَ : آجَرْت دَابَّتِي هَذِهِ فُلَانًا فَرَكِبَهَا وَرَدَّهَا ، أَوْ قَالَ : آجَرْت ثَوْبِي هَذَا فُلَانًا فَلَبِسَهُ وَرَدَّهُ وَقَالَ فُلَانٌ كَذَبْتَ وَهُمَا لِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : الْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ الدَّابَّةُ وَالثَّوْبُ ) وَهُوَ الْقِيَاسُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِعَارَةُ وَالْإِسْكَانُ .( قَوْلُهُ الْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ الدَّابَّةَ وَالثَّوْبَ ) بِعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْرُوفًا لِلْمُقِرِّ ، أَمَّا إذَا كَانَ مَعْرُوفًا كَانَ الْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا لِلْمُقِرِّ لَا يَكُونُ مُجَرَّدُ الْيَدِ فِيهِ لِغَيْرِهِ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ .
( وَلَوْ قَالَ خَاطَ فُلَانٌ ثَوْبِي هَذَا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَبَضْتُهُ وَقَالَ فُلَانٌ الثَّوْبُ ثَوْبِي فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فِي الصَّحِيحِ ) وَجْهُ الْقِيَاسِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْوَدِيعَةِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ الْيَدَ فِي الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ ضَرُورِيَّةٌ تَثْبُتُ ضَرُورَةَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنَافِعُ فَيَكُونُ عَدَمًا فِيمَا وَرَاءَ الضَّرُورَةِ فَلَا يَكُونُ إقْرَارًا لَهُ بِالْيَدِ مُطْلَقًا ، بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ لِأَنَّ الْيَدَ فِيهَا مَقْصُودَةٌ وَالْإِيدَاعُ إثْبَاتُ الْيَدِ قَصْدًا فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ بِهِ اعْتِرَافًا بِالْيَدِ لِلْمُودِعِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّ فِي الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْإِسْكَانِ أَقَرَّ بِيَدٍ ثَابِتَةٍ مِنْ جِهَتِهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي كَيْفِيَّتِهِ .
وَلَا كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا كَانَتْ وَدِيعَةً ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ ، حَتَّى لَوْ قَالَ أَوْدَعْتهَا كَانَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، وَلَيْسَ مَدَارُ الْفَرْقِ عَلَى ذِكْرِ الْأَخْذِ فِي طَرَفِ الْوَدِيعَةِ وَعَدَمِهِ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ وَهُوَ الْإِجَارَةُ وَأُخْتَاهُ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْأَخْذَ فِي وَضْعِ الطَّرَفِ الْآخَرِ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَيْضًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ اقْتَضَيْت مِنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ لِي عَلَيْهِ أَوْ أَقْرَضْته أَلْفًا ثُمَّ أَخَذْتُهَا مِنْهُ وَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ لَهُ حَيْثُ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِقَبْضِ مَضْمُونٍ ، فَإِذَا أَقَرَّ بِالِاقْتِضَاءِ فَقَدْ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ ثُمَّ ادَّعَى تَمَلُّكَهُ عَلَيْهِ بِمَا يَدَّعِيهِ مِنْ الدَّيْنِ مُقَاصَّةً وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ ، أَمَّا هَاهُنَا الْمَقْبُوضُ عَيْنُ مَا ادَّعَى فِيهِ الْإِجَارَةَ وَمَا أَشْبَهَهَا فَافْتَرَقَا ، لَوْ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا زَرَعَ هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ بَنَى هَذِهِ الدَّارَ أَوْ غَرَسَ هَذَا الْكَرْمَ وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ فَادَّعَاهَا فُلَانٌ وَقَالَ الْمُقِرُّ لَا بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ لِي
اسْتَعَنْتُ بِك فَفَعَلْتِ أَوْ فَعَلْتَهُ بِأَجْرٍ فَالْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ لَهُ بِالْيَدِ وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِمُجَرَّدِ فِعْلٍ مِنْهُ ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي مِلْكٍ فِي يَدِ الْمُقِرِّ وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ خَاطَ لِي الْخَيَّاطُ قَمِيصِي هَذَا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ قَبَضْته مِنْهُ لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا بِالْيَدِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ لَمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِفِعْلٍ مِنْهُ وَقَدْ يَخِيطُ ثَوْبًا فِي يَدِ الْمُقِرِّ كَذَا هَذَا .
وَقَوْلُهُ ( فِي الصَّحِيحِ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ إنَّ الْقَوْلَ هَاهُنَا قَوْلُ الْمُقِرِّ بِالْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا لِأَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَوْلُهُ ( وَجْهُ الْقِيَاسِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْوَدِيعَةِ ) أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْيَدِ لَهُ وَادَّعَى اسْتِحْقَاقَهَا عَلَيْهِ وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ .
وَقَوْلُهُ ( فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي كَيْفِيَّتِهِ ) أَيْ فِي كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِ الْيَدِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ ، كَمَا لَوْ قَالَ مَلَكْت عَبْدِي لَك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَّا أَنِّي لَمْ أَقْبِضْ الثَّمَنَ وَلِي حَقُّ الْحَبْسِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَإِنْ زَعَمَ الْآخَرُ خِلَافَهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ ) كَاللُّقَطَةِ فَإِنَّهَا وَدِيعَةٌ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ صَاحِبُهَا ، وَكَذَا إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ وَأَلْقَتْ ثَوْبًا فِي دَارِ إنْسَانٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ مَدَارُ الْفَرْقِ ) إشَارَةٌ إلَى الرَّدِّ عَلَى الْإِمَامِ الْقُمِّيِّ فِيمَا ذَكَرَهُ أَنَّ الرَّدَّ إنَّمَا وَجَبَ فِي مَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ لِأَنَّهُ قَالَ فِيمَا أَخَذْتهَا مِنْهُ فَيَجِبُ جَزَاؤُهُ وَجَزَاءُ الْأَخْذِ الرَّدُّ .
وَقَالَ فِي الْإِجَارَةِ وَأُخْتَيْهَا : أَيْ الْعَارِيَّةِ وَالسُّكْنَى فَرَدَّهَا عَلَيَّ فَكَانَ الِافْتِرَاقُ فِي الْحُكْمِ لِلِافْتِرَاقِ فِي الْوَضْعِ .
وَقَالُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : هَذَا الْفَرْقُ لَيْسَ بِشَيْءٍ ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ لَفْظَ الْأَخْذِ فِي الْإِجَارَةِ وَأُخْتَيْهَا أَيْضًا ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ الصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ( وَهَذَا ) أَيْ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْإِجَارَةِ وَأُخْتَيْهَا ( بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ اقْتَضَيْت مِنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ لِي عَلَيْهِ أَوْ أَقْرَضْته أَلْفًا ثُمَّ أَخَذْتهَا مِنْهُ وَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ لَهُ حَيْثُ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا ) وَذَلِكَ مَعْلُومٌ ، فَإِذَا أَقَرَّ بِاقْتِضَاءِ الدَّيْنِ فَقَدْ أَقَرَّ بِقَبْضِ مِثْلِ هَذَا الدَّيْنِ ، لِأَنَّ
الِاقْتِضَاءَ إنَّمَا يَكُونُ بِقَبْضِ مَالٍ مَضْمُونٍ وَالْإِقْرَارُ بِقَبْضِ مَالٍ مَضْمُونٍ إقْرَارٌ بِسَبَبِ الضَّمَانِ ثُمَّ ادَّعَى تَمَلُّكَ مَا أَقَرَّ بِقَبْضِهِ بِمَا يَدَّعِيهِ مِنْ الدَّيْنِ مُقَاصَّةً وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ ، أَمَّا هَاهُنَا : يَعْنِي فِي صُورَةِ الْإِجَارَةِ وَأُخْتَيْهَا فَالْمَقْبُوضُ عَيْنُ مَا ادَّعَى فِيهِ الْإِجَارَةَ وَمَا أَشْبَهَهَا فَافْتَرَقَا ، وَعَلَيْك بِتَطْبِيقِ مَا ذَكَرْنَا بِمَا فِي الْمَتْنِ لِيَظْهَرَ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ الْوَاقِعُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِحِسِّ التَّدْبِيرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَبَاقِي كَلَامِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ .
قَالَ : ( وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِدُيُونٍ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ فِي صِحَّتِهِ وَدُيُونٌ لَزِمَتْهُ فِي مَرَضِهِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ فَدَيْنُ الصِّحَّةِ وَالدَّيْنُ الْمَعْرُوفُ الْأَسْبَابِ مُقَدَّمٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : دَيْنُ الْمَرَضِ وَدَيْنُ الصِّحَّةِ يَسْتَوِيَانِ لِاسْتِوَاءِ سَبَبِهِمَا وَهُوَ الْإِقْرَارُ الصَّادِرُ عَنْ عَقْلٍ وَدِينٍ ، وَمَحَلُّ الْوُجُوبِ الذِّمَّةُ الْقَابِلَةُ لِلْحُقُوقِ فَصَارَ كَإِنْشَاءِ التَّصَرُّفِ مُبَايَعَةً وَمُنَاكَحَةً .
وَلَنَا أَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يُعْتَبَرُ دَلِيلًا إذَا كَانَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغَيْرِ ، وَفِي إقْرَارِ الْمَرِيضِ ذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ تَعَلَّقَ بِهَذَا الْمَالِ اسْتِيفَاءً ، وَلِهَذَا مُنِعَ مِنْ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ إلَّا بِقَدْرِ الثُّلُثِ .
بِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَهُوَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، وَبِخِلَافِ الْمُبَايَعَةِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ تَعَلَّقَ بِالْمَالِيَّةِ لَا بِالصُّورَةِ ، وَفِي حَالَةِ الصِّحَّةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْمَالِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الِاكْتِسَابِ فَيَتَحَقَّقُ التَّثْمِيرُ ، وَهَذِهِ حَالَةُ الْعَجْزِ وَحَالَتَا الْمَرَضِ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ حَالَةَ الْحَجْرِ ، بِخِلَافِ حَالَتَيْ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ ؛ لِأَنَّ الْأُولَى حَالَةُ إطْلَاقٍ وَهَذِهِ حَالَةُ عَجْزٍ فَافْتَرَقَا ، وَإِنَّمَا تُقَدَّمُ الدُّيُونُ الْمَعْرُوفَةُ الْأَسْبَابِ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي ثُبُوتِهَا إذْ الْمُعَايَنُ لَا مَرَدَّ لَهُ ، وَذَلِكَ مِثْلُ بَدَلِ مَالٍ مَلَكَهُ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ وَعُلِمَ وُجُوبُهُ بِغَيْرِ إقْرَارِهِ أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِمَهْرِ مِثْلِهَا ، وَهَذَا الدَّيْنُ مِثْلُ دَيْنِ الصِّحَّةِ لَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ لِآخَرَ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ دُونَ الْبَعْضِ ؛ لِأَنَّ فِي إيثَارِ الْبَعْضِ إبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ ، وَغُرَمَاءُ
الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، إلَّا إذَا قَضَى مَا اسْتَقْرَضَ فِي مَرَضِهِ أَوْ نَقَدَ ثَمَنَ مَا اشْتَرَى فِي مَرَضِهِ وَقَدْ عُلِمَ بِالْبَيِّنَةِ .
قَالَ ( فَإِذَا قُضِيَتْ ) يَعْنِي الدُّيُونَ الْمُقَدَّمَةَ ( وَفَضَلَ شَيْءٌ ( يُصْرَفُ إلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ فِي ذَاتِهِ صَحِيحٌ ، وَإِنَّمَا رُدَّ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ حَقُّهُمْ ظَهَرَتْ صِحَّتُهُ .
قَالَ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ فِي صِحَّتِهِ جَازَ إقْرَارُهُ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَتَضَمَّنْ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ وَكَانَ الْمُقَرُّ لَهُ أَوْلَى مِنْ الْوَرَثَةِ لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ تَرِكَتِهِ وَلِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَحَقُّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ بِشَرْطِ الْفَرَاغِ وَلِهَذَا تُقَدَّمُ حَاجَتُهُ فِي التَّكْفِينِ .
بَابُ إقْرَارِ الْمَرِيضِ ) : أَفْرَدَ إقْرَارَ الْمَرِيضِ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ لِاخْتِصَاصِهِ بِأَحْكَامٍ لَيْسَتْ لِلصَّحِيحِ ، وَأَخَّرَهُ لِأَنَّ الْمَرَضَ بَعْدَ الصِّحَّةِ .
قَالَ ( وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ إلَخْ ) إذَا مَرِضَ الْمَدْيُونُ وَلَزِمَهُ دُيُونٌ حَالَ مَرَضِهِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ مِثْلُ بَدَلِ مَالِ مِلْكِهِ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ أَوْ مَهْرُ مِثْلِ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا وَعَلِمَ مُعَايَنَةً أَوْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِدُيُونٍ غَيْرِ مَعْلُومَةِ الْأَسْبَابِ فَدُيُونُ الصِّحَّةِ وَاَلَّتِي عُرِفَتْ أَسْبَابُهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَى الدُّيُونِ الْمُقَرِّ بِهَا ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ دَيْنُ الصِّحَّةِ وَدَيْنُ الْمَرَضِ ) سَوَاءٌ كَانَ بِسَبَبٍ مَعْلُومٍ أَوْ لَا ( يَسْتَوِيَانِ لِاسْتِوَاءِ سَبَبِهِمَا وَهُوَ الْإِقْرَارُ الصَّادِرُ عَنْ الْأَهْلِ ) إذْ الْغَرَضُ فِيهِ الْمُضَافُ إلَى مَحَلِّهِ وَهِيَ الذِّمَّةُ الْقَابِلَةُ لِلْحُقُوقِ ، فَصَارَ كَإِنْشَاءِ التَّصَرُّفِ مُبَايَعَةً أَوْ مُنَاكَحَةً ، وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ لِوَصْفِ الْعَقْلِ وَالدَّيْنِ لِأَنَّهُمَا الْمَانِعَانِ عَنْ الْكَذِبِ فِي الْإِخْبَارِ ، وَالْإِقْرَارُ إخْبَارٌ عَنْ الْوَاجِبِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَا تَفَاوُتَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ صِحَّةِ الْمُقِرِّ وَمَرَضِهِ ( وَلَنَا أَنَّ الْإِقْرَارَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ إذَا تَضَمَّنَ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ تَضَمَّنَهُ ، لِأَنَّ حَقَّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ تَعَلَّقَ بِهَذَا الْمَالِ اسْتِيفَاءً وَلِهَذَا مُنِعَ مِنْ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ ) أَصْلًا إذَا أَحَاطَتْ الدُّيُونُ بِمَالِهِ وَبِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، وَفِي هَذَا التَّوْضِيحِ جَوَابٌ عَمَّا ادَّعَى الشَّافِعِيُّ مِنْ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَ حَالِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ .
فَإِنَّهُ لَوْ كَانَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ لَمَا مُنِعَ مِنْ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ فِي حَالِ الْمَرَضِ كَمَا فِي حَالِ الصِّحَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْإِقْرَارُ بِالْوَارِثِ فِي الْمَرَضِ صَحِيحٌ وَقَدْ تَضَمَّنَ إبْطَالَ حَقِّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ أُجِيبَ بِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْوَارِثِ الْمَالَ بِالنَّسَبِ وَالْمَوْتِ
جَمِيعًا ، فَالِاسْتِحْقَاقُ يُضَافُ إلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا وَهُوَ الْمَوْتُ ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَجِبُ بِالْإِقْرَارِ لَا بِالْمَوْتِ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ النِّكَاحِ ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ إنْشَاءِ النِّكَاحِ وَالْمُبَايَعَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْمَرْءُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ دَيْنُ الصِّحَّةِ كَالصَّرْفِ إلَى ثَمَنِ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ قَوْلُهُ وَهُوَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًّا : يَعْنِي أَنَّ النِّكَاحَ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ حَالَ كَوْنِهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَبَاطِلَةٌ وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ تَزَوَّجَ شَيْخٌ فَانٍ رَابِعَةً جَازَ وَلَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إلَيْهَا فَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ النِّكَاحَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ مِنْ مَصَالِحِ الْمَعِيشَةِ وَالْعِبْرَةُ لِأَصْلِ الْوَضْعِ لَا لِلْحَالِ ، فَإِنَّ الْحَالَ مِمَّا لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا ( قَوْلُهُ وَبِخِلَافِ الْمُبَايَعَةِ ) يَعْنِي أَنَّ الْمُبَايَعَةَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ لَا تُبْطِلُ حَقَّ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِيَّةِ لَا بِالصُّوَرِ وَالْمَالِيَّةُ بَاقِيَةٌ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِ الْمَدْيُونِ بَطَلَ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ حَالَ الصِّحَّةِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ الْمُتَضَمِّنَ لِإِبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ كَمَا مَرَّ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَفِي حَالِ الصِّحَّةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْمَالِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الِاكْتِسَابِ فَيَتَحَقَّقُ التَّثْمِيرُ ) فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى تَعْلِيقِ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ ( وَهَذِهِ ) أَيْ حَالَةُ الْمَرَضِ ( حَالَةُ الْعَجْزِ ) عَنْ الِاكْتِسَابِ فَيَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِهِ حَذَرًا عَنْ التَّوَى .
فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ إذَا أَقَرَّ فِي الْمَرَضِ ثَانِيًا وَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ بِمَالِهِ كَمَا لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ لِذَلِكَ .
أَجَابَ
بِقَوْلِهِ ( وَحَالَتَا الْمَرَضِ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ ) يَعْنِي أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ بَعْدَ اتِّصَالِ الْمَوْتِ بِهِ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ ( لِأَنَّ حَالَةَ الْحَجْرِ ) فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ إقْرَارٍ وَاحِدٍ كَحَالَتَيْ الصِّحَّةِ فَيُعْتَبَرُ الْإِقْرَارَانِ جَمِيعًا ( بِخِلَافِ حَالَتَيْ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ لِأَنَّ الْأُولَى حَالَةُ إطْلَاقٍ وَهَذِهِ حَالَةُ عَجْزٍ فَيَفْتَرِقَانِ ) فَيُمْنَعُ تَعَلُّقُ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ بِمَالِهِ عَنْ إقْرَارِهِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ ، وَلَا يَمْنَعُ الْإِقْرَارُ فِي أَوَّلِ الْمَرَضِ عَنْ الْإِقْرَارِ فِي آخِرِهِ ، وَهَذَا الدَّلِيلُ أَفَادَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ دَيْنِ الصِّحَّةِ وَدَيْنِ الْمَرَضِ .
وَبَقِيَ الْكَلَامُ فِي تَقْدِيمِ الدُّيُونِ الْمَعْرُوفَةِ الْأَسْبَابِ فَقَالَ ( وَإِنَّمَا تُقَدَّمُ الدُّيُونُ الْمَعْرُوفَةُ الْأَسْبَابِ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي ثُبُوتِهَا إذْ الْمُعَايِنُ لَا مَرَدَّ لَهُ ) فَتَقَدَّمَ عَلَى الْمُقِرِّ بِهِ وَتَصِيرُ مِثْلَ دَيْنِ الصِّحَّةِ ( لَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّهُ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ : يَعْنِي فِي النِّكَاحِ ، وَلَا تُهْمَةَ فِي ثُبُوتِهِ فِي غَيْرِهِ .
قَالَ ( وَلَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ لِآخَرَ لَمْ يَصِحَّ ) الْإِقْرَارُ بِالْعَيْنِ فِي الْمَرَضِ كَالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ فِيهِ يَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِالْعَيْنِ ( وَلَا يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ دُونَ بَعْضٍ ) سَوَاءٌ كَانُوا غُرَمَاءَ الصِّحَّةِ أَوْ الْمَرَضِ أَوْ مُخْتَلِطِينَ ( لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إبْطَالَ حَقِّ الْبَاقِينَ ) فَلَا يَصِحُّ ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُسَلَّمْ الْمَقْبُوضُ لِلْقَابِضِ بَلْ يَكُونُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : سُلِّمَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرِيضَ نَاظِرٌ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَصْنَعُ فَرُبَّمَا يَقْضِي مَنْ يَخَافُ أَنْ لَا يُسَامِحَهُ بِالْإِبْرَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَيُخَاصِمُهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَالتَّصَرُّفُ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ غَيْرُ مَرْدُودٍ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ
غَيْرِهِ ( قَوْلُهُ إلَّا إذَا قَضَى مَا اسْتَقْرَضَ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ ، وَمَعْنَاهُ : إذَا قُضِيَ فِي مَرَضِهِ مَا اسْتَقْرَضَهُ فِي مَرَضِهِ أَوْ نَقَدَ ثَمَنَ مَا اشْتَرَى كَذَلِكَ وَقَدْ عُلِمَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْمُعَايَنَةِ جَازَ وَسُلِّمَ الْمَقْبُوضُ لِلْقَابِضِ لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُبْطِلْ حَقَّ الْغُرَمَاءِ وَإِنَّمَا حَوَّلَهُ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ يَعْدِلُهُ .
أَرَأَيْت لَوْ رَدَّ مَا اسْتَقْرَضَهُ بِعَيْنِهِ أَوْ فَسَخَ الْبَيْعَ وَرَدَّ الْمَبِيعَ أَكَانَ يَمْتَنِعُ سَلَامَتُهُ لِلْمَرْدُودِ عَلَيْهِ لِحَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ ؟ لَا ، فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّ بَدَلَهُ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ ( فَإِذَا قُضِيَتْ الدُّيُونُ الْمُقَدَّمَةُ ) بِنَوْعَيْهَا ( وَفَضَلَ شَيْءٌ صُرِفَ إلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ فِي ذَاتِهِ صَحِيحٌ ) أَيْ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّدْقِ فِي حَقِّهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ ( وَإِنَّمَا رَدَّ حَقًّا لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ حَقٌّ ظَهَرَتْ صِحَّتُهُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ فِي صِحَّتِهِ جَازَ إقْرَارُهُ وَإِنْ كَانَ بِكُلِّ الْمَالِ ) لِعَدَمِ تَضَمُّنِهِ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ ( وَكَانَ الْمُقَرُّ لَهُ أَوْلَى مِنْ الْوَرَثَةِ لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ تَرِكَتِهِ ) فَإِنْ قِيلَ : الشَّرْعُ قَصَرَ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ عَلَى الثُّلُثِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ } وَذَلِكَ أَقْوَى مِنْ قَوْلِ عُمَرَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا ، وَالْإِقْرَارُ لِلْأَجْنَبِيِّ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي ( وَلِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ ) لِأَنَّ بِهِ رَفْعَ الْحَائِلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ وَحَقُّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ بِشَرْطِ الْفَرَاغِ عَنْ الْحَاجَةِ وَلِهَذَا يُقَدَّمُ تَجْهِيزُهُ وَتَكْفِينِهِ .
قَالَ ( وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ فِيهِ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : يَصِحُّ لِأَنَّهُ إظْهَارُ حَقٍّ ثَابِتٍ لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ ، وَصَارَ كَالْإِقْرَارِ لِأَجْنَبِيٍّ وَبِوَارِثٍ آخَرَ وَبِوَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ لِلْوَارِثِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وَلَا إقْرَارَ لَهُ بِالدَّيْنِ } " وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ وَلِهَذَا يُمْنَعُ مِنْ التَّبَرُّعِ عَلَى الْوَارِثِ أَصْلًا ، فَفِي تَخْصِيصِ الْبَعْضِ بِهِ إبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ ، وَلِأَنَّ حَالَةَ الْمَرَضِ حَالَةَ الِاسْتِغْنَاءِ وَالْقَرَابَةِ سَبَبُ التَّعَلُّقِ ، إلَّا أَنَّ هَذَا التَّعَلُّقَ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ لِحَاجَتِهِ إلَى الْمُعَامَلَةِ فِي الصِّحَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْحَجَرَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْمَرَضِ يَمْتَنِعُ النَّاسُ عَنْ الْمُعَامَلَةِ مَعَهُ ، وَقَلَّمَا تَقَعُ الْمُعَامَلَةُ مَعَ الْوَارِثِ وَلَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ بِوَارِثٍ آخَرَ لِحَاجَتِهِ أَيْضًا ، ثُمَّ هَذَا التَّعَلُّقُ حَقُّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ ، فَإِذَا صَدَّقُوهُ فَقَدْ أَبْطَلُوهُ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ قَالَ ( وَإِذَا أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ جَازَ وَإِنْ أَحَاطَ بِمَالِهِ ) لِمَا بَيَّنَّا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ إلَّا فِي الثُّلُثِ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَصَرَ تَصَرُّفَهُ عَلَيْهِ .
إلَّا أَنَّا نَقُولُ : لَمَّا صَحَّ إقْرَارُهُ فِي الثُّلُثِ كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي ثُلُثِ الْبَاقِي لِأَنَّهُ الثُّلُثُ بَعْدَ الدَّيْنِ ثُمَّ وَثُمَّ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى الْكُلِّ .
قَالَ ( وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِوَارِثَةِ لَا يَصِحُّ ) وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بَاطِلٌ سَوَاءٌ أَقَرَّ بِعَيْنٍ أَوْ بِدَيْنٍ ( إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَصِحُّ لِأَنَّهُ إظْهَارُ حَقٍّ ثَابِتٍ لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ ) .
بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَالْمَرِيضُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ سَعْيًا فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ ( فَصَارَ كَالْإِقْرَارِ لِأَجْنَبِيٍّ وَبِوَارِثٍ آخَرَ وَبِوَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ لِلْوَارِثِ ) كَمَا إذَا أَوْدَعَ أَبَاهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ ، فَلَمَّا حَضَرَتْ الْوَفَاةُ الْأَبَ قَالَ اسْتَهْلَكْتهَا وَمَاتَ وَأَنْكَرَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ فَإِنَّ إقْرَارَهُ صَحِيحٌ وَالْأَلْفُ مِنْ تَرِكَتِهِ لِلِابْنِ الْمُقَرِّ لَهُ خَاصَّةً ، لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ إنَّمَا يُرَدُّ لِلتُّهْمَةِ وَلَا تُهْمَةَ هَاهُنَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنْ كَذَّبْنَاهُ فَمَاتَ وَجَبَ الضَّمَانُ أَيْضًا فِي تَرِكَتِهِ لِأَنَّهُ مَاتَ مُجْهِلًا ( وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وَلَا إقْرَارَ لَهُ بِالدَّيْنِ } ) وَهُوَ نَصٌّ فِي الْبَابِ ، لَكِنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ قَالَ : هَذِهِ الزِّيَادَةُ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ ، وَالْمَشْهُورُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَأَرَادَ بِهِ مَا رُوِيَ عَنْهُ : إذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ بِدِينٍ لِرَجُلٍ غَيْرِ وَارِثٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَإِنْ أَحَاطَ ذَلِكَ بِمَالِهِ ، وَإِنْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْوَرَثَةُ .
وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا ، لِأَنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ عِنْدَنَا مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ ( وَلِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ وَلِهَذَا يُمْنَعُ مِنْ التَّبَرُّعِ عَلَى الْوَارِثِ أَصْلًا ، فَفِي تَخْصِيصِ الْبَعْضِ بِهِ إبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ ) وَتَذَكُّرِ مَا أَوْرَدْنَا بِالْإِقْرَارِ بِوَارِثٍ آخَرَ وَمَا أَجَبْنَا بِهِ عَنْهُ ( وَلِأَنَّ حَالَةَ الْمَرَضِ حَالَةُ الِاسْتِغْنَاءِ ) عَنْ الْمَالِ لِظُهُورِ أَمَارَاتِ الْمَوْتِ الْمُوجِبِ
لِانْتِهَاءِ الْآمَالِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَالْإِقْرَارُ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ فِيهِ يُورِثُ تُهْمَةَ تَخْصِيصِهِ ( وَالْقَرَابَةُ ) تَمْنَعُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهَا ( سَبَبُ تَعَلُّقِ حَقِّ الْأَقْرِبَاءِ بِالْمَالِ ) وَتَعَلُّقُ حَقِّهِمْ بِهِ يَمْنَعُ تَخْصِيصَ بَعْضِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْهُ بِلَا مُخَصِّصٍ ( إلَّا أَنَّ هَذَا التَّعَلُّقَ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ لِحَاجَتِهِ إلَى الْمُعَامَلَةِ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ ، لِأَنَّهُ لَوْ انْحَجَرَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْمَرَضِ لَامْتَنَعَ النَّاسُ عَنْ الْمُعَامَلَةِ مَعَهُ ) فَإِنْ قِيلَ : فَالْحَاجَةُ مَوْجُودَةٌ فِي حَقِّ الْوَارِثِ أَيْضًا لِأَنَّ النَّاسَ كَمَا يُعَامَلُونَ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ يُعَامَلُونَ مَعَ الْوَارِثِ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَقَلَّمَا تَقَعُ الْمُعَامَلَةُ مَعَ الْوَارِثِ ) لِأَنَّ الْبَيْعَ لِلِاسْتِرْبَاحِ وَلَا اسْتِرْبَاحَ مَعَ الْوَارِثِ لِأَنَّهُ يُسْتَحْيَا مِنْ الْمُمَاكَسَةِ مَعَهُ فَلَا يُحَصِّلُ الرِّبْحَ ( وَ ) لِهَذَا ( لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ بِوَارِثٍ آخَرَ لِحَاجَتِهِ أَيْضًا ) وَهُوَ السُّؤَالُ الْمَذْكُورُ آنِفًا ( ثُمَّ هَذَا التَّعَلُّقُ حَقُّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ ، فَإِذَا صَدَّقُوهُ فَقَدْ أَبْطَلُوهُ فَصَحَّ الْإِقْرَارُ ) قَالَ ( وَإِذَا أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ جَازَ إلَخْ ) وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِأَجْنَبِيٍّ صَحَّ وَإِنْ أَحَاطَ بِمَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَكَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مَعْلُومَةً مِمَّا تَقَدَّمَ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهَا تَمْهِيدًا لِذِكْرِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ لَا يَقْتَضِي جَوَازَهُ إلَّا بِمِقْدَارِ الثُّلُثِ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَصَرَ تَصَرُّفَهُ عَلَيْهِ كَمَا مَرَّ ، إلَّا أَنَّا قُلْنَا لَمَّا صَحَّ إقْرَارُهُ فِي الثُّلُثِ كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الثُّلُثِ الْبَاقِي ، لِأَنَّ الثُّلُثَ بَعْدَ الدَّيْنِ مَحَلُّ التَّصَرُّفِ فَنَفَذَ الْإِقْرَارُ فِي الثُّلُثِ الثَّانِي ثُمَّ وَثُمَّ إلَى أَنْ يَأْتِيَ عَلَى الْكُلِّ .
فَإِنْ قِيلَ : لِلْمَرِيضِ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي ثُلُثِ مَالِهِ بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ فَلَمَّا صَحَّ
تَصَرُّفُهُ فِي ثُلُثِ مَالِهِ صَحَّ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي ثُلُثِ الْبَاقِي لِمَا أَنَّ جَمِيعَ مَالِهِ بَعْدَ الثُّلُثِ الْخَارِجِ جُعِلَ كَأَنَّهُ هُوَ مِنْ الِابْتِدَاءِ فَيَجِبُ أَنْ تَنْفُذَ وَصِيَّتُهُ فِي ثُلُثِهِ أَيْضًا ثُمَّ وَثُمَّ إلَى أَنْ يَأْتِيَ عَلَى الْكُلِّ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الثُّلُثَ بَعْدَ الدَّيْنِ مَحَلُّ التَّصَرُّفِ لِلْمَرِيضِ ، فَكُلَّمَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ انْتَقَلَ مَحَلُّ التَّصَرُّفِ إلَى ثُلُثِ مَا بَعْدَهُ ، وَلَيْسَ الثُّلُثُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ بِشَيْءٍ مَحَلَّ تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ وَصِيَّةً بَلْ الثُّلُثُ مَحَلُّهَا لَيْسَ إلَّا فَافْتَرَقَا .
قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ ثُمَّ قَالَ : هُوَ ابْنِي ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَبَطَلَ إقْرَارُهُ ، فَإِنْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَبْطُلْ إقْرَارُهُ لَهَا ) وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ دَعْوَةَ النَّسَبِ تَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَقَرَّ لِابْنِهِ فَلَا يَصِحُّ وَلَا كَذَلِكَ الزَّوْجِيَّةُ لِأَنَّهَا تَقْتَصِرُ عَلَى زَمَانِ التَّزَوُّجِ فَبَقِيَ إقْرَارُهُ لِأَجْنَبِيَّةٍ .
قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ إلَخْ ) الْمُقَرُّ لَهُ إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ وَارِثًا لِلْمَرِيضِ أَوْ يَكُونَ وَارِثًا ، وَالْوَارِثُ إمَّا مُسْتَمِرٌّ أَوْ غَيْرُ مُسْتَمِرٍّ ، وَغَيْرُ الْمُسْتَمِرِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَارِثًا حَالَةَ الْإِقْرَارِ غَيْرَ وَارِثٍ حَالَةَ الْمَوْتِ لِحَجْبٍ أَوْ لِغَيْرِهِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَارِثًا حَالَةَ الْمَوْتِ غَيْرَ وَارِثٍ حَالَةَ الْإِقْرَارِ لِحَجْبٍ أَوْ لِغَيْرِهِ ، وَمَا لِغَيْرِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الْإِرْثِ مِمَّا يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ أَوْ لَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ : أَعْنِي غَيْرَ الْمُسْتَمِرِّ وَارِثًا فِي الْحَالَيْنِ غَيْرَ وَارِثٍ بَيْنَهُمَا ، فَذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَوْجُهٍ : فَفِيمَا لَمْ يَكُنْ أَصْلًا صَحَّ إقْرَارُهُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَفِيمَا كَانَ وَارِثًا مُسْتَمِرًّا لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ ، وَفِيمَا كَانَ وَارِثًا حَالَةَ الْإِقْرَارِ دُونَ الْمَوْتِ ، فَإِنْ كَانَ الِانْتِفَاءُ لِحَجْبٍ كَمَا إذَا أَقَرَّ لِأَخِيهِ وَهُوَ وَارِثٌ ثُمَّ وُلِدَ وَلَدٌ أَوْ أَسْلَمَ الْوَلَدُ الْكَافِرُ أَوْ أُعْتِقَ الرَّقِيقُ صَحَّ الْإِقْرَارُ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ بِالْمَوْتِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ وَارِثًا كَانَ كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ : أَيْ لِغَيْرِ الْحَجْبِ كَمَا إذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي مَرَضِهِ ثَلَاثًا بِأَمْرِهَا وَقَدْ أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنٍ فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنْ الدَّيْنِ وَالْمِيرَاثِ لِوُجُودِ تُهْمَةِ الْإِيثَارِ بِقِيَامِ الْعِدَّةِ فَلَعَلَّهُ اسْتَقَلَّ مِيرَاثَهَا ، وَبَابُ الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ مَسْدُودٌ فَأَقْدَم عَلَى الطَّلَاقِ لِيَصِحَّ الْإِقْرَارُ بِزِيَادَةٍ عَلَى مِيرَاثِهَا ، وَلَا تُهْمَةَ فِي الْأَقَلِّ فَيَثْبُتُ ، وَفِيمَا إذَا كَانَ وَارِثًا حَالَةَ الْمَوْتِ دُونَ الْإِقْرَارِ ، فَإِنْ كَانَ لِحَجْبٍ كَمَا إذَا أَقَرَّ لِأَخِيهِ وَلَهُ ابْنٌ ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ بَطَلَ إقْرَارُهُ ، خِلَافًا لِزُفَرَ اعْتِبَارًا لِحَالَةِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ وَقَدْ حَصَلَ لِغَيْرِ وَارِثٍ فَيَصِحُّ كَمَا إذَا أَقَرَّ لِأَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا .
قُلْنَا :
الْإِقْرَارُ لِلْوَارِثِ لَا يَصِحُّ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَوْتِ الْحَاجِبِ وِرَاثَتُهُ فَيَبْطُلُ إقْرَارُهُ ، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَارِثَةً قَبْلَ التَّزَوُّجِ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ وَقَدْ اسْتَنَدَ السَّبَبُ ، كَمَا إذَا أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ ادَّعَى نَسَبَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ فَبَطَلَ إقْرَارُهُ إنْ لَمْ يَسْتَنِدْ ، كَمَا إذَا أَقَرَّ لِأَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَبْطُلْ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ بِالْمُسْتَنِدِ تَبَيَّنَ كَوْنُ الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ ، وَفِيمَا كَانَ وَارِثًا فِي الْحَالَيْنِ دُونَ الْوَسَطِ كَمَا إذَا أَقَرَّ لِزَوْجَتِهِ ثُمَّ أَبَانَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْعِدَّةِ وَمَاتَ بَطَلَ الْإِقْرَارُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَجَازَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْقِيَاسُ ، لِأَنَّهَا تَرِثُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيمَا قَبْلَهُ فِيمَا لَمْ يَكُنْ لَيْسَ بِمُسْتَنِدٍ .
كَمَا إذَا أَقَرَّ لِشَخْصٍ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ صَحَّ ثُمَّ مَرِضَ فَمَاتَ .
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ الْإِقْرَارَ لِلْوَارِثِ بَاطِلٌ لِتُهْمَةِ الْإِيثَارِ ، فَإِذَا وُجِدَ سَبَبُ الْوَرَثَةِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ وُجِدَتْ التُّهْمَةُ وَالْعَقْدُ الْمُتَجَدِّدُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ فِي تَقْرِيرِ صِفَةِ الْوِرَاثَةِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ ، لِأَنَّ التُّهْمَةَ لَمْ تَكُنْ مُقَرَّرَةً لِاحْتِمَالِ زَوَالِ النِّكَاحِ فَلَمْ يَصِحَّ الْإِقْرَارُ
قَالَ ( وَمَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي مَرَضِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنٍ فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنْ الدَّيْنِ وَمِنْ مِيرَاثِهَا مِنْهُ ) لِأَنَّهُمَا مُتَّهَمَانِ فِيهِ لِقِيَامِ الْعِدَّةِ ، وَبَابُ الْإِقْرَارِ مَسْدُودٌ لِلْوَارِثِ فَلَعَلَّهُ أَقْدَمَ عَلَى هَذَا الطَّلَاقِ لِيَصِحَّ إقْرَارُهُ لَهَا زِيَادَةً عَلَى مِيرَاثِهَا وَلَا تُهْمَةَ فِي أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ فَيَثْبُتُ .
( وَمَنْ أَقَرَّ بِغُلَامٍ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ وَلَيْسَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ أَنَّهُ ابْنُهُ وَصَدَّقَهُ الْغُلَامُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا ) لِأَنَّ النَّسَبَ مِمَّا يَلْزَمُهُ خَاصَّةً فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهِ وَشَرْطُ أَنْ يُولَدَ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ كَيْ لَا يَكُونَ مُكَذَّبًا فِي الظَّاهِرِ ، وَشَرْطُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ ثُبُوتَهُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا شَرَطَ تَصْدِيقِهِ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ إذْ الْمَسْأَلَةُ فِي غُلَامٍ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ ، بِخِلَافِ الصَّغِيرِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ ، وَلَا يَمْتَنِعُ بِالْمَرَضِ لِأَنَّ النَّسَبَ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ ( وَيُشَارِكُ الْوَرَثَةَ فِي الْمِيرَاثِ ) لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ صَارَ كَالْوَارِثِ الْمَعْرُوفِ فَيُشَارِكُ وَرَثَتَهُ .ذَكَرَ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ بَعْدَ ذِكْرِ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ لِقِلَّتِهِ .
وَلِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالْوَلَدِ ثَلَاثُ شَرَائِطَ : أَنْ يَكُونَ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ كَيْ لَا يَكُونَ مُكَذَّبًا فِي الظَّاهِرِ .
وَأَنْ لَا يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ ، إذْ لَوْ كَانَ لَامْتَنَعَ ثُبُوتُهُ مِنْ غَيْرِهِ .
وَأَنْ يَصْدُقَ الْمُقِرُّ فِي إقْرَارِهِ إذَا كَانَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ ، بِخِلَافِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ دَعْوَى النَّسَبِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ الْإِقْرَارُ بِهِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ لِأَنَّ النَّسَبَ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَهُوَ يَلْزَمُهُ خَاصَّةً لَيْسَ فِيهِ تَحْمِيلُهُ عَلَى الْغَيْرِ فَيَثْبُتُ ، وَإِذَا ثَبَتَ كَانَ كَالْوَارِثِ الْمَعْرُوفِ فَيُشَارِكُ وَرَثَتَهُ
قَالَ ( وَيَجُوزُ إقْرَارُ الرَّجُلِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ وَالْمَوْلَى ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يَلْزَمُهُ وَلَيْسَ فِيهِ تَحْمِيلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ .قَالَ ( وَيَجُوزُ إقْرَارُ الرَّجُلِ بِالْوَالِدَيْنِ إلَخْ ) هَذَا بَيَانُ مَا يَجُوزُ الْإِقْرَارُ بِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ إقْرَارُ الرَّجُلِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ وَالْمَوْلَى : يَعْنِي مَوْلَى الْعَتَاقَةِ سَوَاءٌ كَانَ أَعْلَى أَوْ أَسْفَلَ جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَ إقْرَارُهُ بِهَؤُلَاءِ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ أَوْ الْمَرَضِ ، لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يَلْزَمُهُ ، وَلَيْسَ فِيهِ تَحْمِيلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ فَتَحَقَّقَ الْمُقْتَضَى وَانْتَفَى الْمَانِعُ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهِ ، وَهَذَا الدَّلِيلُ كَمَا تَرَى يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ إقْرَارِهِ بِالْأُمِّ كَصِحَّتِهِ بِالْأَبِ ، وَهُوَ رِوَايَةُ تُحْفَةِ الْفُقَهَاءِ وَرِوَايَةُ شَرْحِ الْفَرَائِضِ لِلْإِمَامِ سِرَاجِ الدِّينِ وَالْمُصَنِّفِ .
وَالْمَذْكُورُ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْإِيضَاحِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ أَنَّ إقْرَارَ الرَّجُلِ يَصِحُّ بِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ بِالْأَبِ وَالِابْنِ وَالْمَرْأَةِ وَمَوْلَى الْعَتَاقِ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ ، وَقَدْ عَرَفْت صِحَّتَهُ بِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ
( وَيُقْبَلُ إقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالْمَوْلَى ) لِمَا بَيَّنَّا ( وَلَا يُقْبَلُ بِالْوَلَدِ ) لِأَنَّ فِيهِ تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ وَهُوَ الزَّوْجُ لِأَنَّ النَّسَبَ مِنْهُ ( إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهَا الزَّوْجُ ) لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ ( أَوْ تَشْهَدَ بِوِلَادَتِهِ قَابِلَةٌ ) لِأَنَّ قَوْلَ الْقَابِلَةِ فِي هَذَا مَقْبُولٌ وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي إقْرَارِ الْمَرْأَةِ تَفْصِيلًا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِ هَؤُلَاءِ ، وَيَصِحُّ التَّصْدِيقُ فِي النَّسَبِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ لِأَنَّ النَّسَبَ يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَكَذَا تَصْدِيقُ الزَّوْجَةِ لِأَنَّ حُكْمَ النِّكَاحِ بَاقٍ ، وَكَذَا تَصْدِيقُ الزَّوْجِ بَعْدَ مَوْتِهَا لِأَنَّ الْإِرْثَ مِنْ أَحْكَامِهِ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ النِّكَاحَ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ غُسْلُهَا عِنْدَنَا ، وَلَا يَصِحُّ التَّصْدِيقُ عَلَى اعْتِبَارِ الْإِرْثِ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ حَالَةَ الْإِقْرَارِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالتَّصْدِيقُ يَسْتَنِدُ إلَى أَوَّلِ الْإِقْرَارِ .
وَيُقْبَلُ إقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالْمَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يَلْزَمُهُ إلَخْ .
وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَإِقْرَارُ الْمَرْأَةِ يَصِحُّ بِثَلَاثِ نَفَرٍ : بِالْأَبِ وَالزَّوْجِ وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا ، وَلَا يُقْبَلُ بِالْوَلَدِ لِأَنَّ فِيهِ تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ وَهُوَ الزَّوْجُ ، لِأَنَّ النَّسَبَ مِنْهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهَا الزَّوْجُ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ أَوْ تَشْهَدُ الْقَابِلَةُ بِالْوِلَادَةِ إذْ الْفَرْضُ أَنَّ الْفِرَاشَ قَائِمٌ فَيَحْتَاجُ إلَى تَعْيِينِ الْوَلَدِ وَشَهَادَتُهَا فِي ذَلِكَ مَقْبُولَةٌ وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ ( قَوْلُهُ وَذَكَرْنَا فِي إقْرَارِ الْمَرْأَةِ تَفْصِيلًا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى ) يُرِيدُ بِهِ أَنَّ إقْرَارَهَا بِالْوَلَدِ وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ إذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ مَنْكُوحَةً وَلَا مُعْتَدَّةً قَالُوا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا بِقَوْلِهَا لِأَنَّ فِيهِ إلْزَامًا عَلَى نَفْسِهَا دُونَ غَيْرِهَا ( وَلَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِ هَؤُلَاءِ ) وَالْمَرْأَةُ شَرْطُ صِحَّةِ تَصْدِيقِهَا خُلُوُّهَا عَنْ زَوْجٍ آخَرَ وَعِدَّتِهِ وَأَنْ لَا تَكُونَ أُخْتُهَا تَحْتَ الْمُقِرِّ وَلَا أَرْبَعٌ سِوَاهَا وَيَصِحُّ التَّصْدِيقُ فِي النَّسَبِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ مِمَّا يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَكَذَا تَصْدِيقُ الزَّوْجَةِ بِالزَّوْجِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ الزَّوْجَ الْمُقِرَّ بِالِاتِّفَاقِ ، لِأَنَّ حُكْمَ النِّكَاحِ بَاقٍ وَهُوَ الْعِدَّةُ فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُغَسِّلُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِقِيَامِ النِّكَاحِ وَكَذَا تَصْدِيقُ بَعْدَ الزَّوْجِ مَوْتِهَا لِأَنَّ الْإِرْثَ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ وَهُوَ مِمَّا يَبْقَى بَعْدَ النِّكَاحِ كَالْعِدَّةِ ، وَهَذَا عِنْدَهُمَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَصِحُّ لِأَنَّ النِّكَاحَ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهِ لِيَصِحَّ بِاعْتِبَارِهَا ، وَلَا يَصِحُّ التَّصْدِيقُ عَلَى
اعْتِبَارِ الْإِرْثِ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ حَالَةَ الْإِقْرَارِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالتَّصْدِيقُ يَسْتَنِدُ إلَى أَوَّلِ الْإِقْرَارِ ؛ مَعْنَاهُ أَنَّ التَّصْدِيقَ هُوَ الْمُوجِبُ لِثُبُوتِ النِّكَاحِ الْمُوجِبِ لِلْإِرْثِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِالْإِرْثِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يُعَارِضَ فَيَقُولَ : لَا يَصِحُّ التَّصْدِيقُ عَلَى اعْتِبَارِ الْعِدَّةِ لِأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ حَالَةَ الْإِقْرَارِ ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالتَّصْدِيقُ يَسْتَنِدُ إلَى أَوَّلِ الْإِقْرَارِ وَيُفَسَّرُ بِمَا ذَكَرْتُمْ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْعِدَّةَ لَازِمَةٌ لِلْمَوْتِ عَنْ نِكَاحٍ بِالْإِجْمَاعِ فَجَازَ أَنْ يُعْتَبَرَ النِّكَاحُ الْمُعَايَنُ قَائِمًا بِاعْتِبَارِهِمَا ، فَكَذَا الْمُقِرُّ بِهِ ، وَأَمَّا الْإِرْثُ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ لَهُ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ كِتَابِيَّةً فَلَمْ يُعْتَبَرْ قَائِمًا بِاعْتِبَارِهِ .
قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِنَسَبٍ مِنْ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ نَحْوَ الْأَخِ وَالْعَمِّ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي النَّسَبِ ) لِأَنَّ فِيهِ حَمْلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ ( فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ مَعْرُوفٌ قَرِيبٌ أَوْ بَعِيدٌ فَهُوَ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ ) لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ لَا يُزَاحِمُ الْوَارِثَ الْمَعْرُوفَ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ اسْتَحَقَّ الْمُقَرُّ لَهُ مِيرَاثَهُ ) لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ نَفْسِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِهِ فَيَسْتَحِقَّ جَمِيعَ الْمَالِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ حَمْلِ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ وَصِيَّةً حَقِيقَةً حَتَّى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَخٍ ثُمَّ أَوْصَى لِآخَرَ بِجَمِيعِ مَالِهِ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ خَاصَّةً وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ وَصِيَّةً لَاشْتَرَكَا نِصْفَيْنِ لَكِنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ ، حَتَّى لَوْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِأَخٍ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ ثُمَّ أَنْكَرَ الْمُقِرُّ وِرَاثَتَهُ ثُمَّ أَوْصَى بِمَالِهِ كُلِّهِ لِإِنْسَانٍ كَانَ مَالُهُ لِلْمُوصَى لَهُ ؛ وَلَوْ لَمْ يُوصِ لِأَحَدٍ كَانَ لِبَيْتِ الْمَالِ ، لِأَنَّ رُجُوعَهُ صَحِيحٌ لِأَنَّ النَّسَبَ لَمْ يَثْبُتْ فَبَطَلَ إقْرَارُهُ .
قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِنَسَبٍ مِنْ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ إلَخْ ) وَمَنْ أَقَرَّ بِأَخٍ أَوْ عَمٍّ لَمْ يُقْبَلْ فِي النَّسَبِ لِأَنَّ فِيهِ حَمْلَهُ عَلَى الْغَيْرِ .
وَأَمَّا فِي الْإِرْثِ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ مَعْرُوفٌ قَرِيبًا كَانَ كَذَوِي الْفَرْضِ وَالْعَصَبَاتِ مُطْلَقًا أَوْ بَعِيدًا كَذَوِي الْأَرْحَامِ أَوْ لَا يَكُونُ ، فَإِنْ كَانَ فَهُوَ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ لَمْ يُزَاحِمْ الْوَارِثَ الْمَعْرُوفَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اسْتَحَقَّ الْمُقَرُّ لَهُ مِيرَاثَهُ ، لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِشَيْئَيْنِ : بِالنَّسَبِ وَبِاسْتِحْقَاقِ مَالِهِ بَعْدَهُ ، وَالْأَوَّلُ إقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَسْمُوعٍ ، الثَّانِي عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مَسْمُوعٌ لِأَنَّ لَهُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِ نَفْسِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْغَرِيمِ وَالْوَارِثِ ، حَتَّى لَوْ أَوْصَى بِجَمِيعِهِ اسْتَحَقَّهُ الْمُوصِي لَهُ ، وَبَقِيَّةُ كَلَامِهِ لَا تَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ
قَالَ ( وَمَنْ مَاتَ أَبُوهُ فَأَقَرَّ بِأَخٍ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ أَخِيهِ ) لِمَا بَيَّنَّا ( وَيُشَارِكُهُ فِي الْإِرْثِ ) لِأَنَّ إقْرَارَهُ تَضَمَّنَ شَيْئَيْنِ : حَمْلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ ، وَالِاشْتِرَاكَ فِي الْمَالِ وَلَهُ فِيهِ وِلَايَةٌ فَيَثْبُتُ كَالْمُشْتَرِي وَإِذَا أَقَرَّ عَلَى الْبَائِعِ بِالْعِتْقِ لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ حَتَّى لَا يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ وَلَكِنَّهُ يُقْبَلُ فِي حَقِّ الْعِتْقِ( قَوْلُهُ وَمَنْ مَاتَ أَبُوهُ فَأَقَرَّ بِأَخٍ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ ) مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ ( فَيُشَارِكُهُ فِي الْإِرْثِ ) وَعَلَى الْغَيْرِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ أَحَدَ ابْنَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ أَيْضًا وَالْمُقَرُّ لَهُ يُشَارِكُ الْمُقِرَّ فِي الْإِرْثِ بِنَاءً عَلَى مَا مَرَّ مِنْ الْأَصْلِ ( لِأَنَّ إقْرَارَهُ تَضَمَّنَ شَيْئَيْنِ : حَمْلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي مَالِهِ ، وَلَا وِلَايَةَ فِي الْأَوَّلِ فَلَمْ يَثْبُتْ ، وَلَهُ ذَلِكَ فِي الثَّانِي فَيَثْبُتُ ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا أَقَرَّ أَحَدُ الِابْنَيْنِ بِأَخٍ ثَالِثٍ وَكَذَّبَهُ وَأَخُوهُ الْمَعْرُوفُ فِيهِ أَعْطَاهُ الْمُقِرُّ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : يُعْطِيهِ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ لِأَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ لَهُ بِثُلُثٍ شَائِعٍ فِي النِّصْفَيْنِ فَنَفَذَ فِي حِصَّتِهِ وَبَطَلَ فِي حِصَّةِ الْآخَرِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ زَعْمَ الْمُقِرِّ أَنَّهُ يُسَاوِيهِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَالْمُنْكِرُ ظَالِمٌ فَيُجْعَلُ مَا فِي يَدِ الْمُنْكِرِ كَالْهَالِكِ وَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ .
قَالَ ( وَمَنْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَلَهُ عَلَى آخَرَ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَبُوهُ قَبَضَ مِنْهَا خَمْسِينَ لَا شَيْءَ لِلْمُقِرِّ وَلِلْآخَرِ خَمْسُونَ ) لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ إنَّمَا يَكُونُ بِقَبْضٍ مَضْمُونٍ ، فَإِذَا كَذَّبَهُ أَخُوهُ اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ نَصِيبَهُ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا ، غَايَةَ الْأَمْرِ أَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى كَوْنِ الْمَقْبُوضِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ، لَكِنَّ الْمُقِرَّ لَوْ رَجَعَ عَلَى الْقَابِضِ بِشَيْءٍ لَرَجَعَ الْقَابِضُ عَلَى الْغَرِيمِ وَرَجَعَ الْغَرِيمُ عَلَى الْمُقِرِّ فَيُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ .
قَالَ ( وَمَنْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ إلَخْ ) وَمَنْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَلَهُ عَلَى آخَرَ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَبُوهُ قَبَضَ مِنْهَا خَمْسِينَ لَا شَيْءَ لِلْمُقِرِّ وَلِلْآخَرِ خَمْسُونَ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ الْأَخُ وَالْمَيِّتُ فَيَصِحُّ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يَصِحُّ عَلَيْهِمَا ، ثُمَّ يَحْلِفُ الْأَخُ بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ أَبَاهُ قَبَضَ مِنْهُ الْمِائَةَ وَيَقْبِضُ الْخَمْسِينَ مِنْ الْغَرِيمِ ، لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ إنَّمَا يَكُونُ بِقَبْضٍ مَضْمُونٍ عَلَى مَا مَرَّ أَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا ، وَإِقْرَارُ الْوَارِثِ بِالدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ يُوجِبُ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ مِنْ حِصَّتِهِ خَاصَّةً ، فَإِنْ أَكْذَبَهُ أَخُوهُ اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ نَصِيبَهُ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا .
وَعُورِضَ بِأَنَّ صَرْفَ إقْرَارِهِ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً يَسْتَلْزِمُ قِسْمَةَ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهِيَ لَا تَجُوزُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ قِسْمَةَ الدَّيْنِ إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ وُجُودِ الدَّيْنِ ، وَإِذَا أَقَرَّ الْمُقِرُّ بِقَبْضِ خَمْسِينَ قَبْلَ الْوِرَاثَةِ لَمْ يَنْتَقِلْ عَلَى زَعْمِهِ مِنْ الدَّيْنِ إلَّا الْخَمْسُونَ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الْقِسْمَةُ .
فَإِنْ قِيلَ زَعْمُ الْمُقِرِّ يُعَارِضُهُ زَعْمُ الْمُنْكَرِ ، فَإِنَّ فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى التَّرِكَةِ كَمَا فِي زَعْمِ الْمُقِرِّ وَالْمُنْكِرُ يَدَّعِي زِيَادَةً عَلَى الْمَقْبُوضِ فَتَصَادَقَا عَلَى كَوْنِ الْمَقْبُوضِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَمَا الْمُرَجِّحُ لِزَعْمِ الْمُقِرِّ عَلَى زَعْمِ الْمُنْكِرِ حَتَّى انْصَرَفَ الْمُقَرُّ بِهِ إلَى نَصِيبِ الْمُقِرِّ خَاصَّةً وَلَمْ يَكُنْ الْمَقْبُوضُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ : غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى كَوْنِ الْمَقْبُوضِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ، لَكِنَّ الْمُقِرَّ لَوْ رَجَعَ : يَعْنِي أَنَّ الْمَرْجِعَ هُوَ أَنَّ اعْتِبَارَ زَعْمِ الْمُنْكِرِ يُؤَدِّي إلَى عَدَمِ
الْفَائِدَةِ بِلُزُومِ الدَّوْرِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ الْمُقِرُّ عَلَى الْقَابِضِ بِشَيْءٍ لَرَجَعَ الْقَابِضُ عَلَى الْغَرِيمِ لِزَعْمِهِ أَنَّ أَبَاهُ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا وَلَهُ تَمَامُ الْخَمْسِينَ بِسَبَبٍ سَابِقٍ قَبْلَ الْقَبْضِ وَقَدْ انْتَقَضَ الْقَبْضُ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ فَيُرَاجَعُ بِتَمَامِ حَقِّهِ وَرَجَعَ الْغَرِيمُ عَلَى الْمُقِرِّ لِإِقْرَارِهِ بِدَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ فَيُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إذَا كَانَ مِنْ زَعْمِ الْمُنْكِرِ أَنَّ أَبَاهُ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا كَانَ مِنْ زَعْمِهِ أَنَّ أَخَاهُ فِي إقْرَارِهِ ظَالِمٌ وَهُوَ فِيمَا يَقْبِضُهُ أَخُوهُ مَظْلُومٌ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَرِيمِ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْمَظْلُومَ لَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَظْلُومَ لَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ ، وَلَكِنَّهُ فِي زَعْمِهِ لَيْسَ فِي الرُّجُوعِ بِظَالِمٍ بَلْ طَالِبٍ لِتَمَامِ حَقِّهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( الصُّلْحُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : صُلْحٌ مَعَ إقْرَارٍ ، وَصُلْحٌ مَعَ سُكُوتٍ ، وَهُوَ أَنْ لَا يُقِرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا يُنْكِرَ وَصُلْحٌ مَعَ إنْكَارٍ وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ ) لِإِطْلَاقٍ قَوْله تَعَالَى { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { كُلُّ صُلْحٍ جَائِزٌ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا } وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ مَعَ إنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ لِمَا رَوَيْنَا ، وَهَذَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّ الْبَدَلَ كَانَ حَلَالًا عَلَى الدَّافِعِ حَرَامًا عَلَى الْآخِذِ فَيَنْقَلِبُ الْأَمْرُ ، وَلِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَدْفَعُ الْمَالَ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ وَهَذَا رِشْوَةٌ .
وَلَنَا مَا تَلَوْنَا وَأَوَّلُ مَا رَوَيْنَا وَتَأْوِيلُ آخِرِهِ أَحَلَّ حَرَامًا لِعَيْنِهِ كَالْخَمْرِ أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا لِعَيْنِهِ كَالصُّلْحِ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَ الضَّرَّةَ وَلِأَنَّ هَذَا صُلْحٌ بَعْدَ دَعْوَى صَحِيحَةٍ فَيُقْضَى بِجَوَازِهِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُهُ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ فِي زَعْمِهِ وَهَذَا مَشْرُوعٌ ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَدْفَعُهُ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَهَذَا مَشْرُوعٌ أَيْضًا إذْ الْمَالُ وِقَايَةُ الْأَنْفُسِ وَدَفْعُ الرِّشْوَةِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ أَمْرٌ جَائِزٌ .
كِتَابُ الصُّلْحِ ) : قَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ فِي أَوَّلِ الْإِقْرَارِ فَلَا نُعِيدُهُ ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْمُصَالَحَةِ خِلَافُ الْمُخَاصَمَةِ .
وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ : عَقْدٌ وُضِعَ لِرَفْعِ الْمُنَاصَبَةِ .
وَسَبَبُهُ : تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمُقَدَّرِ لِتَعَاطِيهِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي التَّقْرِيرِ .
وَشَرْطُهُ : كَوْنُ الْمُصَالَحِ عَنْهُ مِمَّا يَجُوزُ عَنْهُ الِاعْتِيَاضُ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلٌ لَهُ .
وَرُكْنُهُ : الْإِيجَابُ مُطْلَقًا وَالْقَبُولُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعَيُّنِ .
وَأَمَّا إذَا رَفَعَ الدَّعْوَى فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَطَلَبَ الصُّلْحَ عَلَى ذَلِكَ الْجِنْسِ فَقَدْ تَمَّ الصُّلْحُ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي قَبِلْت وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَبُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لِبَعْضِ الْحَقِّ وَهُوَ يَتِمُّ بِالْمُسْقِطِ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ طَلَبَ الْبَيْعَ مِنْ غَيْرِهِ فَقَالَ ذَلِكَ الْغَيْرُ بِعْت لَا يَتِمُّ الْبَيْعُ مَا لَمْ يَقُلْ الطَّالِبُ قَبِلْت .
وَحُكْمُهُ تَمَلُّكُ الْمُدَّعَى الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ مُنْكِرًا كَانَ الْخَصْمُ أَوْ مُقِرًّا .
وَوُقُوعُهُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْمُصَالَحِ عَنْهُ إنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ وَالْبَرَاءَةَ لَهُ فِي غَيْرِهِ إنْ كَانَ مُقِرًّا ، وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا فَحُكْمُهُ وُقُوعُ الْبَرَاءَةِ عَنْ دَعْوَى الْمُدَّعَى احْتَمَلَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ التَّمْلِيكَ أَوْ لَا .
وَأَنْوَاعُهُ بِحَسَبِ أَحْوَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ وَبِحَسَبِ الْبَدَلَيْنِ عَلَى الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَجَوَازُهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ الصُّلْحُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ ) الْحَصْرُ عَلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ ضَرُورِيٌّ ، لِأَنَّ الْخَصْمَ وَقْتَ الدَّعْوَى إمَّا أَنْ يَسْكُتَ أَوْ يَتَكَلَّمَ مُجِيبًا وَهُوَ لَا يَخْلُو عَنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ .
لَا يُقَالُ : قَدْ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَتَّصِلُ بِمَحَلِّ النِّزَاعِ لِأَنَّهُ سَقَطَ بِقَوْلِنَا مُجِيبًا وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فَإِنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُهَا ،
فَإِنْ مُنِعَ الْإِطْلَاقُ لِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقِ صُلْحِ الزَّوْجَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فَكَانَ لِلْعَهْدِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ ، وَبِأَنَّهُ ذُكِرَ لِلتَّعْلِيلِ : أَيْ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصَالِحَا لِأَنَّ الصُّلْحَ خَيْرٌ فَكَانَ عَامًّا ، وَلِأَنَّهُ وَقَعَ قَوْله تَعَالَى أَنْ يُصَالِحَا فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَكَانَ مُسْتَقْبَلًا ، وقَوْله تَعَالَى { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } كَانَ فِي الْحَالِ فَلَمْ يَكُنْ إيَّاهُ بَلْ جِنْسَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ صَرْفَهُ إلَى الْكُلِّ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّ الصُّلْحَ بَعْدَ الْيَمِينِ وَصُلْحَ الْمُودَعِ وَصُلْحَ مَنْ ادَّعَى قَذْفًا عَلَى آخَرَ وَصُلْحُ مَنْ ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا فَأَنْكَرَتْ لَا يَجُوزُ فَيُصْرَفُ إلَى الْأَدْنَى وَهُوَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالْإِطْلَاقِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِمَانِعٍ لَا يَسْتَلْزِمُ تَرْكَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ صُلْحٍ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا } وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ( لَا يَجُوزُ مَعَ إنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ ) لِأَنَّهُ صُلْحٌ أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا وَذَلِكَ حَرَامٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ ( وَلِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَدْفَعُ الْمَالَ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ وَهَذِهِ رِشْوَةٌ ) وَهِيَ حَرَامٌ ( وَلَنَا مَا تَلَوْنَا ) مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } ( وَأَوَّلُ مَا رَوَيْنَا ) مِنْ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ صُلْحٍ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ } ( وَتَأْوِيلُ آخِرِهِ أَحَلَّ حَرَامًا لِعَيْنِهِ كَالْخَمْرِ أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا لِعَيْنِهِ كَالصُّلْحِ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَ الضَّرَّةَ ) أَوْ أَنْ لَا يَتَسَرَّى وَالْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ وَاجِبٌ ، لِئَلَّا يَبْطُلَ الْعَمَلُ بِهِ أَصْلًا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الصُّلْحِ عَلَى الْإِقْرَارِ خَاصَّةً لَكَانَ
كَالصُّلْحِ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي الْعَادَةِ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ فَمَا زَادَ عَلَى الْمَأْخُوذِ إلَى تَمَامِ الْحَقِّ كَانَ حَلَالًا لِلْمُدَّعَى قَبْلَ الصُّلْحِ وَحَرُمَ بِالصُّلْحِ وَكَانَ حَرَامًا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْعُهُ قَبْلَهُ وَحَلَّ بَعْدَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا كَانَ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا لِعَيْنِهِ ( وَلِأَنَّ هَذَا صُلْحٌ بَعْدَ دَعْوَى صَحِيحَةٍ ) فَكَانَ كَالصُّلْحِ مَعَ الْإِقْرَارِ ( فَيُقْضَى بِجَوَازِهِ ) لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ ، لِأَنَّ الْمَانِعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ الدَّافِعِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْآخِذِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُمَا بِمَوْجُودٍ .
أَمَّا الثَّانِي ( فَلِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُهُ فِي زَعْمِهِ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ وَذَلِكَ مَشْرُوعٌ ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَدْفَعُهُ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَهَذَا أَيْضًا مَشْرُوعٌ إذْ الْمَالُ وِقَايَةُ الْأَنْفُسِ وَدَفْعُ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ بِالرِّشْوَةِ أَمْرٌ جَائِزٌ ) لَا يُقَالُ : لَا نُسَلِّمُ الْجَوَازَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ } وَهُوَ عَامٌّ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ ضَرَرٌ مَحْضٌ فِي أَمْرٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ ، كَمَا إذَا دَفَعَ الرِّشْوَةَ حَتَّى أَخْرَجَ الْوَالِي أَحَدَ الْوَرَثَةِ عَنْ الْإِرْثِ ، وَأَمَّا دَفْعُ الرِّشْوَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَجَائِزٌ لِلدَّافِعِ ، وَتَمَامُهُ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِلرَّازِيِّ .
فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا إذَا ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَهُوَ مُنْكِرٌ وَتَصَالَحَا عَلَى دَنَانِيرَ مُسَمَّاةٍ ثُمَّ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ فِي زَعْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ عَنْ نَفْسِهِ لَا لِلْمُعَاوَضَةِ ، وَمَعَ هَذَا لَا يَجُوزُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعَى ، إذْ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ صَرْفٌ لِأَنَّهُ صَالَحَهُ عَنْ الدَّرَاهِمِ عَلَى الدَّنَانِيرِ وَالْقَبْضُ شَرْطٌ فِيهِ فِي
الْمَجْلِسِ .
قَالَ ( فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ اُعْتُبِرَ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْبِيَاعَاتِ إنْ وَقَعَ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ ) لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِتَرَاضِيهِمَا ( فَنُجْرِي فِيهِ الشُّفْعَةَ إذَا كَانَ عَقَارًا ، وَيُرَدُّ بِالْعَيْبِ ، وَيَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ ، وَيُفْسِدُهُ جَهَالَةُ الْبَدَلِ ) لِأَنَّهَا هِيَ الْمُفْضِيَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ دُونَ جَهَالَةِ الْمَصَالِحِ عَنْهُ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ وَيُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلِ ( وَإِنْ وَقَعَ عَنْ مَالٍ بِمَنَافِعَ يُعْتَبَرُ بِالْإِجَارَاتِ ) لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِجَارَةِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِمَالٍ وَالِاعْتِبَارُ فِي الْعُقُودِ لِمَعَانِيهَا فَيُشْتَرَطُ التَّوْقِيتُ فِيهَا وَيَبْطُلُ ، الصُّلْحُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا فِي الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ إجَارَةٌ ( وَالصُّلْحُ عَنْ السُّكُوتِ وَالْإِنْكَارِ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ وَقَطْعِ الْخُصُومَةِ وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى بِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ ) لِمَا بَيَّنَّا ( وَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِمَا كَمَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْإِقَالَةِ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا ) وَهَذَا فِي الْإِنْكَارِ ظَاهِرٌ ، وَكَذَا فِي السُّكُوتِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالْجُحُودَ فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ عِوَضًا فِي حَقِّهِ بِالشَّكِّ .
قَالَ ( فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ إلَخْ ) إذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ وَكَانَ عَنْ مَالٍ عَلَى مَالٍ اُعْتُبِرَ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْبِيَاعَاتِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِتَرَاضِيهِمَا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَتَجْرِي فِيهِ الشُّفْعَةُ فِي الْعَقَارِ وَيُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَيَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ ، وَيُفْسِدُهُ جَهَالَةُ الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ دُونَ جَهَالَةِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ ، وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ بَلْ فِيهِ تَفْصِيلٌ احْتَجْنَا إلَى ذِكْرِهِ ، وَهُوَ أَنَّ الصُّلْحَ بِاعْتِبَارِ بَدَلَيْهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا عَلَى مَعْلُومٍ ، وَهُوَ جَائِزٌ لَا مَحَالَةَ .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ مَجْهُولٍ عَلَى مَجْهُولٍ ، فَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ فِيهِ إلَى التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ حَقًّا فِي دَارِ رَجُلٍ وَادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقًّا فِي أَرْضٍ بِيَدِ الْمُدَّعِي وَاصْطَلَحَا عَلَى تَرْكِ الدَّعْوَى جَازَ ، وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ وَقَدْ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَدْفَعَ أَحَدُهُمَا مَالًا وَلَمْ يُبَيِّنْهُ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ الْآخَرُ دَعْوَاهُ أَوْ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ مَا ادَّعَاهُ لَمْ يَجُزْ .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ مَجْهُولٍ عَلَى مَعْلُومٍ وَقَدْ اُحْتِيجَ فِيهِ إلَى التَّسْلِيمِ ، كَمَا لَوْ ادَّعَى حَقًّا فِي دَارٍ فِي يَدِ رَجُلٍ وَلَمْ يُسَمِّهِ فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْمُدَّعِي مَالًا مَعْلُومًا لِيُسَلِّمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَى الْمُدَّعِي مَا ادَّعَاهُ وَهُوَ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ فِيهِ إلَى التَّسْلِيمِ كَمَا إذَا اصْطَلَحَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ جَازَ .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ مَعْلُومٍ عَلَى مَجْهُولٍ وَقَدْ اُحْتِيجَ فِيهِ إلَى التَّسْلِيمِ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ جَازَ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْجَهَالَةَ الْمُفْضِيَةَ إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ عَنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ هِيَ الْمُفْسِدَةُ
فَمَا لَا يَجِبُ فِيهِ التَّسْلِيمُ وَالتَّسَلُّمُ جَازَ ، وَمَا وَجَبَا فِيهِ لَمْ يَجُزْ مَعَ الْجَهَالَةِ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلِ شَرْطٌ لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ ( وَإِنْ كَانَ عَنْ مَالٍ بِمَنَافِعَ يُعْتَبَرُ بِالْإِجَارَاتِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِجَارَةِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِمَالٍ ) وَكُلُّ مَنْفَعَةٍ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِعَقْدِ الصُّلْحِ ، فَإِذَا صَالَحَ عَلَى سُكْنَى بَيْتٍ بِعَيْنِهِ إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ جَازَ .
وَإِنْ قَالَ أَبَدًا أَوْ حَتَّى يَمُوتَ لَا يَجُوزُ ، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي كَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَإِنَّهَا بَيْعٌ مَعْنًى ، وَالْكَفَالَةُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ حَوَالَةٌ ، وَالْحَوَالَةُ بِشَرْطِ مُطَالَبَةِ الْأَصِيلِ كَفَالَةٌ ( فَيُشْتَرَطُ التَّوْقِيتُ فِيهَا وَيَبْطُلُ الصُّلْحُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا فِي الْمُدَّةِ ) كَالْإِجَارَةِ ( وَإِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ السُّكُوتِ وَالْإِنْكَارِ كَانَ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ وَقَطْعِ الْخُصُومَةِ ، وَفِي حَقِّ الْمُدَّعِي بِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُهُ عِوَضًا فِي زَعْمِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْعَقْدُ لَمَّا اتَّصَفَ بِصِفَةٍ كَيْفَ يَتَّصِفُ بِأُخْرَى تُقَابِلُهَا ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِمَا كَمَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْإِقَالَةِ ) فَإِنَّهَا فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ ، وَكَعَقْدِ النِّكَاحِ فَإِنَّ حُكْمَهُ الْحِلُّ فِي حَقِّ امْرَأَتِهِ وَالتَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ فِي حَقِّ أُمِّهَا ( وَهَذَا ) أَيْ كَوْنُهُ لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ أَوْ قَطْعِ الْخُصُومَةِ ( فِي الْإِنْكَارِ ظَاهِرٌ ، وَأَمَّا فِي السُّكُوتِ فَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالْجُحُودَ فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ عَرْضًا فِي حَقِّهِ بِالشَّكِّ ) مَعَ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْإِنْكَارِ أَوْلَى ، لِأَنَّهُ فِيهِ دَعْوَى تَفْرِيغِ الذِّمَّةِ وَهُوَ الْأَصْلُ
قَالَ ( وَإِذَا صَالَحَ عَنْ دَارٍ لَمْ يَجِبْ فِيهَا الشُّفْعَةُ ) مَعْنَاهُ إذَا كَانَ عَنْ إنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهَا عَلَى أَصْلِ حَقِّهِ وَيَدْفَعُ الْمَالَ دَفْعًا لِخُصُومَةِ الْمُدَّعِي وَزَعْمُ الْمُدَّعِي لَا يَلْزَمُهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى دَارٍ حَيْثُ يَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُهَا عِوَضًا عَنْ الْمَالِ فَكَانَ مُعَاوَضَةً فِي حَقِّهِ فَتَلْزَمُهُ الشُّفْعَةُ بِإِقْرَارِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُكَذِّبُهُ .قَالَ ( وَإِذَا صَالَحَ عَنْ دَارٍ إلَخْ ) إذَا صَالَحَ عَنْ دَارٍ عَنْ إنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ لَا تَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهَا : أَيْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِيَسْتَبْقِيَ الدَّارَ عَلَى مِلْكِهِ لَا أَنَّهُ يَشْتَرِيهَا وَيَدْفَعُ الْمَالَ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ عَلَى زَعْمِهِ ، وَالْمَرْءُ يُؤَاخَذُ بِمَا فِي زَعْمِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ زَعْمُ غَيْرِهِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَلَى دَارٍ ) لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُهَا عِوَضًا عَنْ الْمَالِ فَكَانَ مُعَاوَضَةً فِي حَقِّهِ فَتَلْزَمُهُ الشُّفْعَةُ بِإِقْرَارِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُكَذِّبُهُ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ اشْتَرَيْتهَا مِنْ الْمُدَّعِي وَهُوَ يُنْكِرُ
قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ وَاسْتَحَقَّ بَعْضَ الْمَصَالِحِ عَنْهُ رَجَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحِصَّةِ ذَلِكَ مِنْ الْعِوَضِ ) لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ مُطْلَقَةٌ كَالْبَيْعِ وَحُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْبَيْعِ هَذَا( وَإِذَا صَالَحَ عَنْ إقْرَارٍ وَاسْتَحَقَّ بَعْضَ الْمُصَالَحِ عَنْهُ رَجَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ) عَلَى الْمُدَّعِي ( بِحِصَّةِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ الْعِوَضِ ) لِأَنَّهُ لِكَوْنِهِ عَنْ إقْرَارٍ مُعَاوَضَةٌ مُطْلَقَةٌ كَالْبَيْعِ وَحُكْمُ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْبَيْعِ ذَلِكَ
( وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ سُكُوتٍ أَوْ إنْكَارٍ فَاسْتَحَقَّ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ رَجَعَ الْمُدَّعِي بِالْخُصُومَةِ وَرَدَّ الْعِوَضَ ) لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا بَذَلَ الْعِوَضَ إلَّا لِيَدْفَعَ خُصُومَتَهُ عَنْ نَفْسِهِ ، فَإِذَا ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ تَبَيَّنَ أَنْ لَا خُصُومَةَ لَهُ فَيَبْقَى الْعِوَضُ فِي يَدِهِ غَيْرَ مُشْتَمِلٍ عَلَى غَرَضِهِ فَيَسْتَرِدُّهُ ، وَإِنْ اسْتَحَقَّ بَعْضَ ذَلِكَ رَدَّ حِصَّتَهُ وَرَجَعَ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ لِأَنَّهُ خَلَا الْعِوَضُ فِي هَذَا الْقَدْرِ عَنْ الْغَرَضِ .
وَلَوْ اسْتَحَقَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ عَنْ إقْرَارٍ رَجَعَ بِكُلِّ الْمُصَالَحِ عَنْهُ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةٌ ، وَإِنْ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ رَجَعَ بِحِصَّتِهِ .
وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ رَجَعَ إلَى الدَّعْوَى فِي كُلِّهِ أَوْ بِقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ إذَا اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ لِأَنَّ الْمُبْدَلَ فِيهِ هُوَ الدَّعْوَى ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ مِنْهُ عَلَى الْإِنْكَارِ شَيْئًا حَيْثُ يَرْجِعُ بِالْمُدَّعَى لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْبَيْعِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْحَقِّ لَهُ ، وَلَا كَذَلِكَ الصُّلْحُ لِأَنَّهُ قَدْ يَقَعُ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ ، وَلَوْ هَلَكَ بَدَلُ الصُّلْحِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْفَصْلَيْنِ .
وَإِذَا صَالَحَ عَنْ سُكُوتٍ أَوْ إنْكَارٍ فَاسْتَحَقَّ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ رَجَعَ الْمُدَّعِي بِالْخُصُومَةِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَرَدَّ الْعِوَضَ ، لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا بَذَلَ الْعِوَضَ إلَّا لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ عَنْ نَفْسِهِ ، فَإِذَا ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ ظَهَرَ أَنْ لَا خُصُومَةَ لَهُ فَيَبْقَى فِي يَدِ غَيْرِهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى غَرَضِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَسْتَرِدُّهُ ، كَالْمَكْفُولِ عَنْهُ إذَا دَفَعَ الْمَالَ إلَى الْكَفِيلِ عَلَى غَرَضِ دَفْعِهِ إلَى رَبِّ الدَّيْنِ ثُمَّ أَدَّى الدَّيْنَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ أَدَاءِ الْكَفِيلِ فَإِنَّهُ يَسْتَرِدُّهُ لِعَدَمِ اشْتِمَالِهِ عَلَى غَرَضِهِ .
وَنُوقِضَ بِمَا إذَا ادَّعَى دَارًا وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَدَفَعَ الْمُدَّعِي إلَى ذِي الْيَدِ شَيْئًا بِطَرِيقِ الصُّلْحِ وَأَخَذَ الدَّارَ ثُمَّ اسْتَحَقَّتْ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا دَفَعَ مَعَ أَنَّهُ بِظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَالَ فِي يَدِهِ غَيْرُ مُشْتَمِلٍ عَلَى غَرَضِ الدَّافِعِ وَهُوَ قَطْعُ الْخُصُومَةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُضْطَرٌّ فِي دَفْعِ مَا دَفَعَ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ ، فَإِذَا اُسْتُحِقَّتْ زَالَتْ الضَّرُورَةُ الْمُوجِبَةُ لِذَلِكَ لِانْتِفَاءِ الْخُصُومَةِ فَيَرْجِعُ ، وَأَمَّا الْمُدَّعَى فَهُوَ فِي خِيَرَةٍ فِي دَعْوَاهُ وَكَانَ ذَلِكَ الدَّفْعُ بِاخْتِيَارِهِ وَلَمْ يَظْهَرْ عَدَمُ الِاخْتِبَارِ بِظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يَسْتَرِدُّهُ ، وَإِنْ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْمُصَالَحِ عَنْهُ رَدَّ الْمُدَّعِي حِصَّةَ الْمُسْتَحِقِّ وَرَجَعَ بِالْخُصُومَةِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ فِيهِ : أَيْ فِي أَصْلِ الدَّعْوَى ، أَمَّا رُجُوعُهُ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي كَوْنِ الْبَعْضِ الْمُسْتَحِقِّ فِي يَدِهِ ، وَأَمَّا رَدُّ الْحِصَّةِ فَلِخُلُوِّ الْعِوَضِ فِي هَذَا الْقَدْرِ عَنْ غَرَضِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( وَلَوْ اسْتَحَقَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ فِي الصُّلْحِ عَنْ إقْرَارٍ رَجَعَ بِكُلِّ الْمُصَالَحِ عَنْهُ ) لِأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الدَّعْوَى لِيُسَلِّمَ لَهُ بَدَلَ الصُّلْحِ
وَلَمْ يُسَلِّمْ فَيَرْجِعُ بِمُبْدَلِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ( وَإِنْ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ رَجَعَ بِحِصَّتِهِ ) اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ ( وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ رَجَعَ إلَى الدَّعْوَى فِي كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ بِحَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّ الْمُبْدَلَ فِيهِ هُوَ الدَّعْوَى ) هَذَا إذَا لَمْ يُجْرِ لَفْظُ الْبَيْعِ فِي الصُّلْحِ ، أَمَّا إذَا كَانَ أَجْرَى كَمَا إذَا ادَّعَى دَارًا وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ صَالَحَ عَنْ هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَى عَبْدٍ وَقَالَ بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ بِهَذِهِ الدَّارِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ هَذِهِ الدَّارُ فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا ادَّعَى لَا بِالدَّعْوَى ، لِأَنَّ إقْدَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْبَيْعِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْحَقِّ لِلْمُدَّعِي ، إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَشْتَرِي مِلْكَ نَفْسِهِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْبَيْعِ ، وَلَا كَذَلِكَ الصُّلْحُ لِأَنَّهُ قَدْ يَقَعُ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ ( وَلَوْ هَلَكَ بَدَلُ الصُّلْحِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ) إلَى الْمُدَّعِي ( فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْفَصْلَيْنِ ) أَيْ فَصْلِ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ ، فَإِنْ كَانَ عَنْ إقْرَارٍ رَجَعَ بَعْدَ الْهَلَاكِ إلَى الْمُدَّعِي ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إنْكَارٍ رَجَعَ بِالدَّعْوَى .
قَالَ ( وَإِنْ ادَّعَى حَقًّا فِي دَارٍ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ فَصُولِحَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الدَّارِ لَمْ يَرُدَّ شَيْئًا مِنْ الْعِوَضِ لِأَنَّ دَعْوَاهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا بَقِيَ ) بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَقَّ كُلَّهُ لِأَنَّهُ يَعْرَى الْعِوَضُ عِنْدَ ذَلِكَ عَنْ شَيْءٍ يُقَابِلُهُ فَيَرْجِعُ بِكُلِّهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ .
وَلَوْ ادَّعَى دَارًا فَصَالَحَهُ عَلَى قِطْعَةٍ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ لِأَنَّ مَا قَبَضَهُ مِنْ عَيْنِ حَقِّهِ وَهُوَ عَلَى دَعْوَاهُ فِي الْبَاقِي .
وَالْوَجْهُ فِيهِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَزِيدَ دِرْهَمًا فِي بَدَلِ الصُّلْحِ فَيَصِيرَ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ فِيمَا بَقِيَ ، أَوْ يَلْحَقَ بِهِ ذِكْرُ الْبَرَاءَةِ عَنْ دَعْوَى الْبَاقِي .
قَالَ ( وَإِنْ ادَّعَى حَقًّا فِي دَارٍ إلَخْ ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي بَابِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ فَلَا نُعِيدُهَا ( وَلَوْ ادَّعَى دَارًا فَصَالَحَ عَلَى قِطْعَةٍ مِنْهَا ) كَبَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهَا بِعَيْنِهِ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ مَا قَبَضَهُ بَعْضُ حَقِّهِ وَهُوَ عَلَى دَعْوَاهُ فِي الْبَاقِي ( وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ ) وَأَبْرَأَ عَنْ الْبَاقِي ، الْإِبْرَاءُ عَنْ الْعَيْنِ بَاطِلٌ فَكَانَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً .
وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ ، وَذَكَرَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَنَّهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَاقَى عَيْنًا وَدَعْوَى ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الدَّعْوَى صَحِيحٌ ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَبْرَأْتُك عَنْ دَعْوَى هَذَا الْعَيْنِ صَحَّ ، وَلَوْ ادَّعَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ تُسْمَعْ .
وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ عَلَى قِطْعَةٍ مِنْهَا لِأَنَّ الصُّلْحَ إذَا وَقَعَ عَلَى بَيْتٍ مَعْلُومٍ مِنْ دَارٍ أُخْرَى صَحَّ لِكَوْنِهِ حِينَئِذٍ بَيْعًا ، وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَى سُكْنَى بَيْتٍ مُعَيَّنٍ مِنْ غَيْرِهَا لِكَوْنِهِ إجَارَةً حَتَّى يَشْتَرِطَ كَوْنَ الْمُدَّةِ مَعْلُومَةً ، وَلَوْ أَرَادَ الْمُدَّعِي أَنْ يَدَّعِيَ الْبَقِيَّةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِوُصُولِ كُلِّ حَقِّهِ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ بَدَلِهِ عَيْنًا أَوْ مَنْفَعَةً .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالْوَجْهُ فِيهِ ) أَيْ الْحِيلَةُ فِي تَصْحِيحِ الصُّلْحِ إذَا كَانَ عَلَى قِطْعَةٍ مِنْهَا ( أَحَدُ أَمْرَيْنِ أَنْ يَزِيدَ دِرْهَمًا فِي بَدَلِ الصُّلْحِ لِيَصِيرَ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ فِيمَا بَقِيَ أَوْ يُلْحِقَ بِهِ ذِكْرَ الْبَرَاءَةِ عَنْ دَعْوَى الْبَاقِي ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ بَرِئْت مِنْ دَعْوَايَ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ لِمُصَادَفَةِ الْبَرَاءَةِ الدَّعْوَى وَهُوَ صَحِيحٌ ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ وَجَاءَ بِبَيِّنَةٍ لَمْ تُقْبَلْ .
وَفِي ذِكْرِ لَفْظِ الْبَرَاءَةِ دُونَ الْإِبْرَاءِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَبْرَأْتُك عَنْ دَعْوَايَ أَوْ خُصُومَتِي فِي هَذِهِ الدَّارِ كَانَ بَاطِلًا وَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِيهَا
بَعْدَ ذَلِكَ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَبْرَأْتُك إنَّمَا يَكُونُ إبْرَاءً مِنْ الضَّمَانِ لَا مِنْ الدَّعْوَى ، وَقَوْلُهُ بَرِئْت بَرَاءَةً مِنْ الدَّعْوَى ، كَذَا قَالُوا وَنَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ الذَّخِيرَةِ .
وَنَقَلَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ عَنْ الْوَاقِعَاتِ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَبْرَأْتُك عَنْ خُصُومَتِي فِي هَذِهِ الدَّارِ خِطَابٌ لِلْوَاحِدِ فَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَ غَيْرَهُ فِي ذَلِكَ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ بَرِئْت لِأَنَّهُ أَضَافَ الْبَرَاءَةَ إلَى نَفْسِهِ مُطْلَقًا فَيَكُونُ هُوَ بَرِيئًا .
وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ قَوْلَ صَاحِبِ الذَّخِيرَةِ : وَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، مَعْنَاهُ عَلَى غَيْرِ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَالصُّلْحُ جَائِزٌ عَنْ دَعْوَى الْأَمْوَالِ ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ عَلَى مَا مَرَّ .
قَالَ ( وَالْمَنَافِعُ لِأَنَّهَا تُمْلَكُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَكَذَا بِالصُّلْحِ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الصُّلْحَ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَقْرَبِ الْعُقُودِ إلَيْهِ وَأَشْبَهِهَا بِهِ احْتِيَالًا لِتَصْحِيحِ تَصَرُّفِ الْعَاقِدِ مَا أَمْكَنَفَصْلٌ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ مُقَدِّمَاتِ الصُّلْحِ وَشَرَائِطِهِ وَمِنْ ذِكْرِ أَنْوَاعِهِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ عَنْهُ الصُّلْحُ وَمَا لَا يَجُوزُ .
قَالَ ( وَالصُّلْحُ جَائِزٌ عَنْ دَعْوَى الْأَمْوَالِ ) الْأَصْلُ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الصُّلْحَ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَقْرَبِ الْعُقُودِ إلَيْهِ وَأَشْبَهِهَا بِهِ احْتِيَالًا لِتَصْحِيحِ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، فَإِذَا كَانَ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ كَانَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ كَمَا مَرَّ .
وَإِذَا كَانَ عَنْ الْمَنَافِعِ بِمَالٍ كَمَا إذَا أَوْصَى بِسُكْنَى دَارِهِ وَمَاتَ فَادَّعَى الْمُوصَى لَهُ السُّكْنَى فَصَالَحَ الْوَرَثَةَ عَنْ شَيْءٍ كَانَ فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ ، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تُمْلَكُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَكَذَا بِالصُّلْحِ
قَالَ ( وَيَصِحُّ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ } الْآيَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ ، حَتَّى أَنَّ مَا صَلَحَ مُسَمًّى فِيهِ صَلَحَ هَاهُنَا إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ فَسَادِ التَّسْمِيَةِ هُنَا يُصَارُ إلَى الدِّيَةِ لِأَنَّهَا مُوجَبُ الدَّمِ .
وَلَوْ صَالَحَ عَلَى خَمْرٍ لَا يَجِبُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِمُطْلَقِ الْعَفْوِ .
وَفِي النِّكَاحِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْفَصْلَيْنِ لِأَنَّهُ الْمُوجَبُ الْأَصْلِيُّ ، وَيَجِبُ مَعَ السُّكُوتِ عَنْهُ حُكْمًا ، وَيَدْخُلُ فِي إطْلَاقِ جَوَابِ الْكِتَابِ الْجِنَايَةَ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ حَيْثُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ ، وَلَا حَقَّ فِي الْمَحَلِّ قَبْلَ التَّمَلُّكِ .
وَأَمَّا الْقِصَاصُ فَمِلْكُ الْمَحَلِّ فِي حَقِّ الْفِعْلِ فَيَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ تَبْطُلُ الشُّفْعَةُ لِأَنَّهَا تَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ وَالسُّكُوتِ ، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ بِمَنْزِلَةِ حَقِّ الشُّفْعَةِ حَتَّى لَا يَجِبَ الْمَالُ بِالصُّلْحِ عَنْهُ ، غَيْرَ أَنَّ فِي بُطْلَانِ الْكَفَالَةِ رِوَايَتَيْنِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ جِنَايَةُ الْخَطَأِ فَلِأَنَّ مُوجِبَهَا الْمَالُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ شَرْعًا فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ فَتُرَدُّ الزِّيَادَةُ ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ حَيْثُ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ ، وَهَذَا إذَا صَالَحَ عَلَى أَحَدِ مَقَادِيرِ الدِّيَةِ ، أَمَّا إذَا صَالَحَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ جَازَ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةٌ بِهَا ، إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ كَيْ لَا يَكُونَ
افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ .
وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِأَحَدِ مَقَادِيرِهَا فَصَالَحَ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ مِنْهَا بِالزِّيَادَةِ جَازَ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ الْحَقُّ بِالْقَضَاءِ فَكَانَ مُبَادَلَةً بِخِلَافِ الصُّلْحِ ابْتِدَاءً لِأَنَّ تَرَاضِيَهُمَا عَلَى بَعْضِ الْمَقَادِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ فِي حَقِّ التَّعْيِينِ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا تَعَيَّنَ .
وَإِذَا صَالَحَ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ أَوْ الْخَطَإِ صَحَّ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ : فَمَنْ أَعْطَى لَهُ فِي سُهُولَةٍ مِنْ أَخِيهِ الْمَقْتُولِ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ فَاتِّبَاعٌ : أَيْ فَلِوَلِيِّ الْقَتِيلِ اتِّبَاعُ الْمُصَالِحِ بِبَدَلِ الصُّلْحِ بِالْمَعْرُوفِ : أَيْ عَلَى مُجَامَلَةٍ وَحُسْنِ مُعَامَلَةٍ وَأَدَاءٍ : أَيْ وَعَلَى الْمُصَالِحِ أَدَاءُ ذَلِكَ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ بِإِحْسَانٍ فِي الْأَدَاءِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ عَنْ جِنَايَةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ .
وَأَمَّا الْمَعْنَى الْآخَرُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَمَنْ عُفِيَ عَنْهُ وَهُوَ الْقَاتِلُ مِنْ أَخِيهِ فِي الدَّيْنِ وَهُوَ الْمَقْتُولُ شَيْءٌ مِنْ الْقِصَاصِ بِأَنْ كَانَ لِلْقَتِيلِ أَوْلِيَاءٌ فَعَفَا بَعْضُهُمْ فَقَدْ صَارَ نَصِيبُ الْبَاقِينَ مَالًا وَهُوَ الدِّيَةُ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ مِنْ الْمِيرَاثِ فَاتِّبَاعُ الْمَعْرُوفِ : أَيْ فَلْيَتَّبِعْ الَّذِينَ لَمْ يَعْفُوا الْقَاتِلَ بِطَلَبِ حِصَصِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ : أَيْ بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ : أَيْ وَلْيُؤَدِّ الْقَاتِلُ إلَى غَيْرِ الْعَافِي حَقَّهُ وَافِيًا غَيْرَ نَاقِصٍ فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ ظَاهِرًا ، فَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٌ إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصُّلْحِ ( قَوْلُهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ ) إشَارَةٌ إلَى أَقْرَبِ عَقْدٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى النِّكَاحِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِالتَّرَاضِي ، وَإِذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ فَمَا صَلَحَ أَنْ يَكُونَ مُسَمًّى فِي النِّكَاحِ صَلَحَ هَاهُنَا ، فَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَى دَارٍ أَوْ خِدْمَةِ عَبْدٍ سَنَةً جَازَ لِأَنَّ
الْمَنْفَعَةَ الْمَعْلُومَةَ صَلَحَتْ صَدَاقًا ، فَكَذَا بَدَلًا فِي الصُّلْحِ وَإِنْ صَالَحَ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْلُحْ صَدَاقًا لِجَهَالَتِهِ فَكَذَا بَدَلًا ، وَلَا يُتَوَهَّمُ لُزُومُ الْعَكْسِ فَإِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَا هُوَ مُلْتَزِمٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْقَتْلِ الْعَمْدِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ صَحِيحٌ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ صَدَاقًا ، وَأَنَّهُ إذَا صَالَحَ عَلَى أَنْ يَعْفُوَ مَنْ عَلَيْهِ عَنْ قِصَاصٍ لَهُ عَلَى آخَرَ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ الْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ صَدَاقًا لِأَنَّ كَوْنَ الصَّدَاقِ مَالًا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } وَبَدَلُ الصُّلْحِ فِي الْقِصَاصِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَيُكْتَفَى بِكَوْنِ الْعِوَضِ فِيهِ مُتَقَوِّمًا وَالْقِصَاصُ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى صَلَحَ الْمَالُ عِوَضًا عَنْهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ عِوَضًا عَنْ قِصَاصٍ آخَرَ ، وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّ عِنْدَ فَسَادِ التَّسْمِيَةِ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ إنَّ مَا صَلَحَ مُسَمًّى فِيهِ صُلْحٌ هَاهُنَا بِمَعْنَى لَكِنْ : أَيْ لَكِنْ إذَا فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ بِجَهَالَةٍ فَاحِشَةٍ أَوْ بِتَسْمِيَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَمَا إذَا صَالَحَ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ ثَوْبٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ يُصَارُ إلَى الدِّيَةِ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَا رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ فَيُصَارُ إلَى بَدَلِ مَا سَلَّمَ لَهُ مِنْ النَّفْسِ وَهُوَ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ لِأَنَّ الْبَدَلَ الصُّلْحُ لَا تَتَحَمَّلُهُ لِوُجُوبِهِ بِعُقْدَةٍ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَمَا لَوْ صَالَحَ عَلَى خَمْرٍ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُسَمَّ مَالًا مُتَقَوِّمًا صَارَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ سِيَّيْنِ ، وَلَوْ سَكَتَ لَبَقِيَ الْعَفْوُ مُطْلَقًا ، وَفِيهِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ فَكَذَا فِي ذِكْرِ الْخَمْرِ ( وَفِي النِّكَاحِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْفَصْلَيْنِ ) أَيْ فِي فَصْلِ تَسْمِيَةِ الْمَالِ الْمَجْهُولِ وَفَصْلِ الْخَمْرِ ( لِأَنَّهُ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ ) فِي النِّكَاحِ ( وَيَجِبُ مَعَ السُّكُوتِ عَنْهُ حُكْمًا ) قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ } وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمَهْرَ مِنْ ضَرُورَاتِ عَقْدِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ مَا شُرِعَ إلَّا بِالْمَالِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُسَمَّى صَالِحًا صَارَ كَمَا لَوْ لَمْ يُسَمَّ مَهْرًا ، وَلَوْ لَمْ يُسَمَّ مَهْرًا وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ فَكَذَا هَاهُنَا .
وَأَمَّا الصُّلْحُ فَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ وُجُوبُ الْمَالِ ، فَإِنَّهُ لَوْ عَفَا بِلَا تَسْمِيَةِ شَيْءٍ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْعَفْوَ لَا يُسَمَّى صُلْحًا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى مَا لَا يَصْلُحُ بَدَلًا عَفْوٌ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ فَصَحَّ أَنَّ وُجُوبَهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ ( وَيَدْخُلُ فِي إطْلَاقِ جَوَابِ الْكِتَابِ ) وَهُوَ قَوْلُهُ وَيَصِحُّ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ ( الْجِنَايَةُ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا وَهَذَا ) أَيْ الصُّلْحُ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ ( بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ حُقَّ أَنْ يُمْتَلَكَ ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِحَقٍّ فِي الْمَحَلِّ قَبْلَ التَّمَلُّكِ ) فَأَخْذُ الْبَدَلِ أَخْذُ مَالٍ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ثَابِتٍ فِي الْمَحَلِّ وَذَلِكَ رِشْوَةٌ حَرَامٌ .
أَمَّا الْقِصَاصُ فَإِنَّ مِلْكَ الْمَحَلِّ فِيهِ ثَابِتٌ مِنْ حَيْثُ فِعْلُ الْقِصَاصِ فَكَانَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَمَّا هُوَ ثَابِتٌ لَهُ فِي الْمَحَلِّ فَكَانَ صَحِيحًا ( وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ بَطَلَ حَقُّ الشُّفْعَةِ لِأَنَّهَا تَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ وَالسُّكُوتِ ) وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ احْتِرَازًا عَنْ الصُّلْحِ عَلَى أَخْذِ بَيْتٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الدَّارِ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ ، فَإِنَّ الصُّلْحَ مَعَ الشَّفِيعِ فِيهِ جَائِزٌ ، وَعَنْ الصُّلْحِ عَلَى بَيْتٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الدَّارِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ حِصَّتَهُ مَجْهُولَةٌ لَكِنْ لَا تَبْطُلُ الشُّفْعَةُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ بِهَذَا الصُّلْحِ ( وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ بِمَنْزِلَةِ حَقِّ الشُّفْعَةِ ) يَعْنِي إذَا كَفَلَ
عَنْ نَفْسِ رَجُلٍ فَجَاءَ الْمَكْفُولُ وَصَالَحَ الْكَفِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَهُ الْمَكْفُولُ لَهُ وَيَخْرُجَ الْكَفِيلُ عَنْ الْكَفَالَةِ لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ ( وَلَا يَجِبُ الْمَالُ ، غَيْرَ أَنَّ فِي بُطْلَانِ الْكَفَالَةِ رِوَايَتَيْنِ ) فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الشُّفْعَةِ وَالْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةُ تَبْطُلُ وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي حَفْصٍ ، وَبِهِ يُفْتِي لِأَنَّ السُّقُوطَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِوَضِ ، وَإِذَا سَقَطَتْ لَا تَعُودُ وَفِي الصُّلْحِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ لَا تَبْطُلُ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ وَقَدْ تَكُونُ مُوصِلَةً إلَى الْمَالِ فَأَخَذَتْ حُكْمَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، فَإِذَا رَضِيَ أَنْ يَسْقُطَ حَقُّهُ بِعِوَضٍ لَمْ يَسْقُطْ مَجَّانًا ( وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ جِنَايَةُ الْخَطَإِ فَلِأَنَّ مُوجِبَهَا الْمَالُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ ) ثُمَّ الصُّلْحُ فِيهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى أَحَدِ مَقَادِيرِ الدِّيَةِ أَوْ لَا ، وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا أَوْ مُنْضَمًّا إلَى الصُّلْحِ عَنْ الْعَمْدِ ، فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ لَا يَصِحُّ بِالزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ شَرْعًا وَالْمُقَدَّرُ الشَّرْعِيُّ لَا يَبْطُلُ فَتُرَدُّ الزِّيَادَةُ ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ حَيْثُ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ ، إذْ لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ إبْطَالًا لَهُ ، بَلْ الْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُقَابِلَهُ مَالٌ ، وَلَكِنَّهُ أَشْبَهَ النِّكَاحَ فِي تَقَوُّمِهِ بِالْعَقْدِ فَجَازَ بِأَيِّ مِقْدَارٍ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ كَالتَّسْمِيَةِ فِي النِّكَاحِ ، وَإِنْ كَانَ مُنْضَمًّا إلَى الْعَمْدِ كَانَ كَمَا إذَا قَتَلَ عَمْدًا وَآخَرَ خَطَأً ثُمَّ صَالَحَ أَوْلِيَاءَهُمَا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ دِيَتَيْنِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ وَلِصَاحِبِ الْخَطَإِ الدِّيَةُ وَمَا بَقِيَ فَلِصَاحِبِ الْعَمْدِ ، كَمَنْ عَلَيْهِ لِرَجُلٍ مِائَةُ دِينَارٍ وَلِآخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَلِصَاحِبِ الْأَلْفِ الْأَلْفُ وَالْبَاقِي
لِصَاحِبِ الدَّنَانِيرِ .
وَالثَّانِي كَمَا إذَا صَالَحَ عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ جَازَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةٌ ، إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ كَيْ لَا يَكُونَ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنِ الدِّيَةِ بِدَيْنِ بَدَلِ الصُّلْحِ ( وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِأَحَدِ مَقَادِيرِ الدِّيَةِ مِثْلُ أَنْ قَضَى بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ ثُمَّ صَالَحَ أَوْلِيَاءَ الْقَتِيلِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتِي بَقَرَةٍ جَازَ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَعَيَّنَ بِالْقَضَاءِ فِي الْإِبِلِ ) وَخَرَجَ غَيْرُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا بِهَذَا الْفِعْلِ ( فَكَانَ مَا يُعْطِي عِوَضًا عَنْ الْوَاجِبِ ) فَكَانَ صَحِيحًا ( بِخِلَافِ الصُّلْحِ ) بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ( ابْتِدَاءً لِأَنَّ تَرَاضِيَهُمَا عَلَى بَعْضِ الْمَقَادِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ فِي حَقِّ التَّعْيِينِ ) وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِأَحَدِ الْمَقَادِيرِ زِيَادَةً عَلَى مِقْدَارِ الدِّيَةِ لَمْ يَجُزْ ، فَكَذَا هَذَا .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ عَنْ دَعْوَى حَدٍّ ) لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا حَقُّهُ ، وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ حَقِّ غَيْرِهِ ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ نَسَبَ وَلَدِهَا لِأَنَّهُ حَقُّ الْوَلَدِ لَا حَقُّهَا ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَمَّا أَشْرَعَهُ إلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَامَّةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحَ وَاحِدٌ عَلَى الِانْفِرَادِ عَنْهُ ؛ وَيَدْخُلُ فِي إطْلَاقِ الْجَوَابِ حَدُّ الْقَذْفِ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الشَّرْعِ .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ عَنْ دَعْوَى حَدِّ ) الْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الِاعْتِيَاضَ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ ، فَإِذَا أَخَذَ رَجُلٌ زَانِيًا أَوْ سَارِقًا أَوْ شَارِبَ خَمْرٍ وَأَرَادَ أَنْ يَرْفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ فَصَالَحَهُ الْمَأْخُوذُ عَلَى مَالٍ لِيَتْرُكَ ذَلِكَ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ .
وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا دَفَعَ إلَيْهِ مِنْ الْمَالِ ، لِأَنَّ الْحَدَّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالِاعْتِيَاضُ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ الصُّلْحُ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَلَالِ أَوْ تَحْلِيلُ الْحَرَامِ ، وَإِذَا ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ صَبِيًّا هُوَ بِيَدِهَا أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْهَا وَجَحَدَ الرَّجُلُ وَلَمْ تَدَّعِ الْمَرْأَةُ النِّكَاحَ وَقَالَتْ إنَّهُ طَلَّقَهَا وَبَانَتْ مِنْهُ وَصَدَّقَهَا فِي الطَّلَاقِ فَصَالَحَ مِنْ النَّسَبِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ لِأَنَّ النَّسَبَ حَقُّ الصَّبِيِّ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ ( وَإِذَا أَشْرَعَ رَجُلٌ إلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ فَصَالَحَ وَاحِدٌ مِنْ الْعَامَّةِ عَلَى مَالٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَامَّةِ فَلَا يَجُوزُ انْفِرَادُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِذَلِكَ ) وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ إلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ لِأَنَّ الظُّلَّةَ إذَا كَانَتْ عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ فَصَالَحَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ جَازَ الصُّلْحُ ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِهَا فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ الْأَفْرَادِ ، وَالصُّلْحُ مَعَهُ مُفِيدٌ لَا يُسْقِطُ حَقَّهُ وَيَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى تَحْصِيلِ رِضَا الْبَاقِينَ ؛ وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ وَاحِدٌ عَلَى الِانْفِرَادِ لِأَنَّ صَاحِبَ الظُّلَّةِ لَوْ صَالَحَ الْإِمَامَ عَلَى دَرَاهِمَ لِيَتْرُكَ الظُّلَّةَ جَازَ إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ صَلَاحٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَضَعُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ ، لِأَنَّ الِاعْتِيَاضَ لِلْإِمَامِ عَنْ الشَّرِكَةِ الْعَامَّةِ جَائِزٌ ، وَلِهَذَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ صَحَّ ( وَحَدُّ الْقَذْفِ دَاخِلٌ فِي جَوَابِ الْحُدُودِ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الشَّرْعِ ) وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ عَفْوُهُ وَلَا يُورَثُ ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ .
قَالَ ( وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا وَهِيَ تَجْحَدُ فَصَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ بَذَلَتْهُ حَتَّى يَتْرُكَ الدَّعْوَى جَازَ وَكَانَ فِي مَعْنَى الْخُلْعِ ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ خُلْعًا فِي جَانِبِهِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ وَفِي جَانِبِهَا بَدَلًا لِلْمَالِ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ .
قَالُوا : وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا كَانَ مُبْطِلًا فِي دَعْوَاهُ .قَالَ ( وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا إلَخْ ) هَذَا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمَارِّ أَنَّ الصُّلْحَ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ بِأَقْرَبِ الْعُقُودِ إلَيْهِ شَبَهًا ، وَإِذَا جَحَدَتْ النِّكَاحَ فَصَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ بَذَلَتْهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ خُلْعًا فِي جَانِبِهِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ وَبَذْلًا لِلْمَالِ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ وَقَطْعِ الشَّغَبِ وَالْوَطْءِ الْحَرَامِ فِي جَانِبِهَا ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى التَّزْوِيجِ بَيِّنَةً بَعْدَ الصُّلْحِ لَمْ تُقْبَلْ لِأَنَّ مَا جَرَى كَانَ خُلْعًا فِي زَعْمِهِ وَلَا فَائِدَةَ فِي إقَامَتِهَا بَعْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا فِي دَعْوَاهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ مَا أَخَذَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصُّلْحِ ، إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ بِطِيبٍ عَنْ نَفْسِهِ فَيَكُونُ تَمْلِيكًا عَلَى طَرِيقِ الْهِبَةِ .
قَالَ ( وَإِذَا ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ نِكَاحًا فَصَالَحَهَا عَلَى مَالٍ بَذَلَهُ لَهَا جَازَ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَكَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ ، وَفِي بَعْضِهَا قَالَ : لَمْ يَجُزْ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنْ يَجْعَلَ زِيَادَةً فِي مَهْرِهَا .
وَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ بَذَلَ لَهَا الْمَالَ لِتَتْرُكَ الدَّعْوَى فَإِنْ جُعِلَ تَرْكُ الدَّعْوَى مِنْهَا فُرْقَةً فَالزَّوْجُ لَا يُعْطِي الْعِوَضَ فِي الْفُرْقَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ فَالْحَالُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّعْوَى فَلَا شَيْءَ يُقَابِلُهُ الْعِوَضُ فَلَمْ يَصِحَّ .وَفِي عَكْسِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ مَا إذَا ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ نِكَاحًا فَصَالَحَهَا عَلَى مَالٍ بَذَلَهُ لَهَا اخْتَلَفَ نُسَخُ الْمُخْتَصَرِ فِي ذَلِكَ ، فَوَقَعَ فِي بَعْضِهَا جَازَ ، وَفِي بَعْضِهَا لَمْ يَجُزْ وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّ الزَّوْجَ بِإِعْطَاءِ بَدَلِ الصُّلْحِ زَادَ عَلَى مَهْرِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا .
وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ بَذَلَ لَهَا لِتَتْرُكَ الدَّعْوَى ، فَإِنْ جَعَلَ تَرْكَ الدَّعْوَى مِنْهَا فُرْقَةً فَلَا عِوَضَ عَلَى الزَّوْجِ فِي الْفُرْقَةِ كَمَا إذَا مَكَّنَتْ ابْنَ زَوْجِهَا ، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ فُرْقَةً فَالْحَالُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّعْوَى لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمَّا لَمْ تُوجَدْ كَانَتْ دَعْوَاهَا عَلَى حَالِهَا لِبَقَاءِ النِّكَاحِ فِي زَعْمِهَا فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ شَيْءٌ يُقَابِلُهُ الْعِوَضُ فَكَانَ رِشْوَةً
قَالَ ( وَإِنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ أَعْطَاهُ جَازَ وَكَانَ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي حَقِّهِ لِزَعْمِهِ وَلِهَذَا يَصِحُّ عَلَى حَيَوَانٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَكُونُ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ حُرٌّ فَجَازَ إلَّا أَنَّهُ لَا وَلَاءَ لَهُ لِإِنْكَارِ الْعَبْدِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ فَتُقْبَلَ وَيَثْبُتَ الْوَلَاءُ .( وَإِنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ ) مَجْهُولِ الْحَالِ ( أَنَّهُ عَبْدُهُ فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ أَعْطَاهُ إيَّاهُ فَأَقْرَبُ الْعُقُودِ إلَيْهِ شَبَهًا الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ فَيُجْعَلُ بِمَنْزِلَتِهِ لِإِمْكَانِ تَصْحِيحِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي زَعْمِهِ ، وَلِهَذَا يَصِحُّ عَلَى حَيَوَانٍ إلَى أَجَلٍ فِي الذِّمَّةِ ) وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إلَّا بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَالنِّكَاحِ وَالدِّيَاتِ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ ( وَ ) يُجْعَلُ ( فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ فَجَازَ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ لِإِنْكَارِ الْعَبْدِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ فَتُقْبَلُ وَيَثْبُتُ الْوَلَاءُ ) لِأَنَّهُ صَالَحَهُ بَعْدَ كَوْنِهِ عَبْدًا لَهُ فَكَانَ صُلْحُهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ وَفِيهِ الْوَلَاءُ
قَالَ ( وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ رَجُلًا عَمْدًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنْ قَتَلَ عَبْدٌ لَهُ رَجُلًا عَمْدًا فَصَالَحَهُ جَازَ ) وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ رَقَبَتَهُ لَيْسَتْ مِنْ تِجَارَتِهِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بَيْعًا فَكَذَا اسْتِخْلَاصًا بِمَالِ الْمَوْلَى وَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ ، أَمَّا عَبْدُهُ فَمِنْ تِجَارَتِهِ وَتَصَرُّفُهُ فِيهِ نَافِذٌ بَيْعًا فَكَذَا اسْتِخْلَاصًا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ كَالزَّائِلِ عَنْ مِلْكِهِ وَهَذَا شِرَاؤُهُ فَيَمْلِكُهُ
( وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ رَجُلًا عَمْدًا فَصَالَحَ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ ) سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا ( وَإِنْ قَتَلَ عَبْدٌ لَهُ ) أَيْ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ ( رَجُلًا عَمْدًا فَصَالَحَ عَنْهُ جَازَ ) سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا ( وَالْفَرْقُ أَنَّ رَقَبَتَهُ لَيْسَتْ حَاصِلَةً مِنْ تِجَارَتِهِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بَيْعًا وَإِنْ جَازَ إجَارَةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِصَ رَقَبَتَهُ بِمَالِ الْمَوْلَى وَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ ) أَيْ صَارَ الْعَبْدُ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِأَنَّ نَفْسَهُ مَالُ الْمَوْلَى ، وَالْأَجْنَبِيُّ إذَا صَالَحَ عَنْ مَالِ مَوْلَاهُ بِدُونِ إذْنِهِ لَا يَجُوزُ فَكَذَا هَاهُنَا أَمَّا عَبْدُهُ فَمِنْ تِجَارَتِهِ وَكَسْبِهِ وَتَصَرُّفُهُ فِيهِ نَافِذٌ بَيْعًا فَكَذَا اسْتِخْلَاصًا ( وَ ) تَحْقِيقُ ( هَذَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ كَالزَّائِلِ عَنْ مِلْكِهِ ) فَصَارَ كَأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُتْلِفَهُ ( وَهَذَا ) أَيْ الصُّلْحُ ( كَأَنَّهُ شِرَاؤُهُ وَهُوَ يَمْلِكُ ذَلِكَ ) بِخِلَافِ نَفْسِهِ ، فَإِنَّهُ إذَا زَالَ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ فَكَذَا لَا يَمْلِكُ الصُّلْحَ ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُكَاتَبِ ، فَإِنَّهُ لَوْ قَتَلَ عَمْدًا فَصَالَحَ عَنْ نَفْسِهِ جَازَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُكَاتَبَ حُرٌّ يَدًا وَاكْتِسَابُهُ لَهُ ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لَهُ فَإِنَّهُ عَبْدٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَكَسْبُهُ لِمَوْلَاهُ ، ثُمَّ صُلْحُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ لَكِنْ لَيْسَ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ أَنْ يَقْتُلَهُ بَعْدَ الصُّلْحِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا صَالَحَهُ فَقَدْ عَفَا عَنْهُ بِبَدَلٍ فَصَحَّ الْعَفْوُ ، وَلَمْ يَجِبْ الْبَدَلُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَتَأَخَّرَ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّ صُلْحَهُ عَنْ نَفْسِهِ صَحِيحٌ لِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ، فَصَارَ كَأَنَّهُ صَالَحَهُ عَلَى بَدَلٍ مُؤَجَّلٍ يُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ جَازَ الصُّلْحُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ وَلَا أَنْ يُتْبِعَهُ
بِشَيْءٍ مَا لَمْ يَعْتِقْ ، فَكَذَا هَذَا
قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ ثَوْبًا يَهُودِيًّا قِيمَتُهُ دُونَ الْمِائَةِ فَاسْتَهْلَكَهُ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يَبْطُلُ الْفَضْلُ عَلَى قِيمَتِهِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ هِيَ الْقِيمَةُ وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا تَكُونُ رِبًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى عَرَضٍ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَظْهَرُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، وَبِخِلَافِ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَلَا تَظْهَرُ الزِّيَادَةُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حَقَّهُ فِي الْهَالِكِ بَاقٍ حَتَّى لَوْ كَانَ عَبْدًا وَتَرَكَ أَخْذَ الْقِيمَةِ يَكُونُ الْكَفَنُ عَلَيْهِ أَوْ حَقُّهُ فِي مِثْلِهِ صُورَةً وَمَعْنًى ، لِأَنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ بِالْمِثْلِ ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْقِيمَةِ بِالْقَضَاءِ فَقَبْلَهُ إذَا تَرَاضَيَا عَلَى الْأَكْثَرِ كَانَ اعْتِيَاضًا فَلَا يَكُونُ رِبًا ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ بَعْدَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ انْتَقَلَ إلَى الْقِيمَةِ .
قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ ثَوْبًا يَهُودِيًّا إلَخْ ) يَهُودٌ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يُنْسَبُ إلَيْهِمْ الثَّوْبُ يُقَالُ ثَوْبٌ يَهُودِيٌّ وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ إشَارَةً إلَى كَوْنِهِ مَعْلُومَ الْقِيمَةِ وَكُلُّ قِيَمِيٍّ مَعْلُومُ الْقِيمَةِ حُكْمُهُ كَذَلِكَ فَعَلَى هَذَا مَنْ غَصَبَ قِيَمِيًّا مَعْلُومَ الْقِيمَةِ فَاسْتَهْلَكَهُ فَصَالَحَ مِنْ الْقِيمَةِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا مِنْ النُّقُودِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَبْطُلُ الْفَضْلُ عَنْ قِيمَتِهِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ فِيهِ النَّاسُ ، وَقَيَّدَ بِالْغَصْبِ لِأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ إلَى الصُّلْحِ غَالِبًا ، وَقَيَّدَ بِالْقِيَمِيِّ احْتِرَازًا عَنْ الْمِثْلِيِّ ، فَإِنَّ الصُّلْحَ عَنْ كُرٍّ حِنْطَةً عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ سَوَاءٌ كَانَتَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ لَا ، وَلَكِنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ وَإِنْ كَانَتَا بِأَعْيَانِهِمَا لِئَلَّا يَلْزَمَ بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ مَعْلُومَ الْقِيمَةِ لِيَظْهَرَ الْغَبَنُ الْفَاحِشُ الْمَانِعُ مِنْ لُزُومِ الزِّيَادَةِ عِنْدَهُمَا ، وَقَيَّدَ بِالِاسْتِهْلَاكِ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ إذَا كَانَ قَائِمًا جَازَ الصُّلْحُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ مِنْ النُّقُودِ لِأَنَّهُ لَوْ صَالَحَ عَلَى طَعَامٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ حَالًّا وَقَبَضَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ .
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الدَّرَاهِمَ تَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ حَقِيقَةً إنْ كَانَ قَائِمًا ، وَتَقْدِيرًا إنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا بِمُقَابَلَةِ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ فَقَالَا إنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِيمَةُ وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِمَا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ فِيهِ النَّاسُ كَانَ رِبًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى عَرْضٍ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَظْهَرُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، وَبِخِلَافِ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَلَا تَظْهَرُ فِيهِ الزِّيَادَةُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةُ طَرِيقَانِ :
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَغْصُوبَ بَعْدَ الْهَلَاكِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ مَا لَمْ يَتَقَرَّرُ حَقُّهُ فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ عَبْدًا وَاخْتَارَ تَرْكَ التَّضْمِينِ كَانَ الْعَبْدُ هَالِكًا عَلَى مِلْكِهِ حَتَّى كَانَ الْكَفَنُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ آبِقًا فَعَادَ مِنْ إبَاقِهِ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَالُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ يَكُونُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ فِي الثَّوْبِ أَوْ الْعَبْدِ ، وَلَا رِبَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَالدَّرَاهِمِ كَمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا .
وَالثَّانِي أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ الْعَيْنِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ } فَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْغَصْبِ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْقِيمَةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ لِتَقُومَ الْقِيمَةُ مَقَامَ الْعَيْنِ ، وَكَانَ ذَلِكَ ضَرُورِيًّا لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ ، فَإِذَا صَالَحَ عَلَى شَيْءٍ كَانَ الْبَدَلُ عِوَضًا عَنْ الْعَيْنِ وَهُوَ خِلَافُ الْجِنْسِ فَلَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ لِيَكُونَ رِبًا ، وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْقِيَمِيِّ ، وَذَكَرَ فِي الدَّلِيلِ الْمِثْلِيِّ فَإِنَّ وُجُوبَ الْمِثْلِ صُورَةً وَمَعْنًى إنَّمَا هُوَ فِي الْمِثْلِيَّاتِ ، وَلَا يُصَارُ فِيهَا إلَى الْقِيمَةِ إلَّا إذَا انْقَطَعَ الْمِثْلِيُّ فَحِينَئِذٍ يُصَارُ إلَيْهَا .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْمِثْلِيَّ إذَا انْقَطَعَ حُكْمُهُ كَالْقِيَمِيِّ لَا يَنْتَقِلُ فِيهِ إلَى الْقِيمَةِ إلَّا بِالْقَضَاءِ ، فَقَبْلَهُ إذَا تَرَاضَيَا عَلَى الْأَكْثَرِ كَانَ اعْتِيَاضًا فَلَا يَكُونُ رِبًا ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ بَعْدَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ انْتَقَلَ إلَى الْقِيمَةِ .
وَنُوقِضَ بِمَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى طَعَامٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ كَانَ بَدَلًا عَنْ الْمَغْصُوبِ جَازَ لِأَنَّ الطَّعَامَ الْمَوْصُوفَ بِمُقَابَلَةِ الْمَغْصُوبِ ثَمَنٌ وَبِمُقَابَلَةِ الْقِيمَةِ مَبِيعٌ ، وَبِمَا لَوْ صَالَحَ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى
أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَغْصُوبَ الْمُسْتَهْلَكَ لَا يُوقَفُ عَلَى أَثَرِهِ فَكَانَ كَالدَّيْنِ ، وَالدَّيْنُ بِالدَّيْنِ حَرَامٌ حَتَّى لَوْ صَالَحَهُ عَنْ ذَلِكَ حَالًّا جَازَ وَبِأَنَّ الْبَدَلَ جُعِلَ فِي مُقَابَلَةِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِحَمْلِهِ عَلَى الِاعْتِيَاضِ عَنْ الْمَقْتُولِ وَعُورِضَ دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ لَوْ بَاعَ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ بَعْدَ الْهَلَاكِ أَوْ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ الْغَاصِبِ لَمْ يَجُزْ ، فَلَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْقَائِمِ حُكْمًا لَجَازَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَبِيعَ يَقْتَضِي قِيَامَ مَالٍ حَقِيقَةً لِكَوْنِهِ تَمْلِيكَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَالْهَالِكُ لَيْسَ بِمَالٍ .
وَأَمَّا الصُّلْحُ فَيُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إسْقَاطًا وَصِحَّتُهُ لَا تَقْتَضِي قِيَامَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَقِيقَةً
قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ فَصَالَحَهُ الْآخَرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ فَالْفَضْلُ بَاطِلٌ ) وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِمَا بَيَّنَّا .
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْعِتْقِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا وَتَقْدِيرُ الشَّرْعِ لَا يَكُونُ دُونَ تَقْدِيرِ الْقَاضِي فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ ، وَبِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا ( وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى عُرُوضٍ جَازَ ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .( قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إلَخْ ) ظَاهِرٌ ، وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ مَا مَرَّ فِي الْعَتَاقِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَمَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ فَيَضْمَنُ إنْ كَانَ مُوسِرًا أَوْ يَسْعَى الْعَبْدُ } .
( وَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِالصُّلْحِ عَنْهُ فَصَالَحَ لَمْ يَلْزَمْ الْوَكِيلَ مَا صَالَحَ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَضْمَنَهُ ، وَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ ) وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَوْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ بَعْضِ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ مَحْضٌ فَكَانَ الْوَكِيلُ فِيهِ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَالْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ إلَّا أَنْ يَضْمَنَهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ هُوَ مُؤَاخَذٌ بِعَقْدِ الضَّمَانِ لَا بِعَقْدِ الصُّلْحِ ، أَمَّا إذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَى الْوَكِيلِ فَيَكُونُ الْمُطَالِبُ بِالْمَالِ هُوَ الْوَكِيلُ دُونَ الْمُوَكِّلِ .
بَابُ التَّبَرُّعِ بِالصُّلْحِ وَالتَّوْكِيلِ بِهِ ) لَمَّا كَانَ تَصَرُّفُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ أَصْلًا قَدَّمَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ لِغَيْرِهِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالتَّبَرُّعِ بِالصُّلْحِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْعَمَلِ لِغَيْرِهِ مُتَبَرِّعٌ .
قَالَ ( وَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِالصُّلْحِ عَنْهُ إلَخْ ) وَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِالصُّلْحِ عَنْهُ فَالصُّلْحُ لَمْ يَلْزَمْ الْوَكِيلَ مَا صَالَحَ عَنْهُ : أَيْ عَمَّنْ وَكَّلَ فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ .
وَرَوَى غَيْرُهُ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَضْمَنَهُ .
الْمَالُ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ : أَيْ عَلَى الْمُوَكِّلِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } أَيْ عَلَيْهَا ، وَهَذَا كَمَا تَرَى يَدُلُّ بِظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَلْزَمُهُ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا إلَّا إذَا ضَمِنَهُ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الضَّمَانُ لَا الْوَكَالَةُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ ، أَوْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ بَعْضِ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ مَحْضٌ فَكَانَ الْوَكِيلُ فِيهِ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَضْمَنَهُ ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُؤَاخَذٌ بِعَقْدِ الضَّمَانِ لَا بِعَقْدِ الصُّلْحِ ، أَمَّا إذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَى الْوَكِيلِ فَيَكُونُ الْمُطَالَبُ بِالْمَالِ هُوَ الْوَكِيلُ دُونَ الْمُوَكِّلِ ) وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَالتُّحْفَةِ عَلَى إطْلَاقِ جَوَابِ الْمُخْتَصَرِ .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مَا مَعْنَاهُ : إنَّهُ لَا بُدَّ لِتَأْوِيلِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ قَيْدٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُصَالِحُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ عَلَى الْإِنْكَارِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ شَيْءٌ .
وَإِنْ كَانَ فِيهَا لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مُعَاوَضَةٌ بِإِسْقَاطِ الْحَقِّ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ بِجُعْلٍ وَذَلِكَ جَائِزٌ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ جَوَازَهُ مَعَ الْخَصْمِ
قَالَ ( وَإِنْ صَالَحَ رَجُلٌ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : إنْ صَالَحَ بِمَالٍ وَضَمِنَهُ تَمَّ الصُّلْحُ ) لِأَنَّ الْحَاصِلَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَيْسَ إلَّا الْبَرَاءَةَ وَفِي حَقِّهَا هُوَ وَالْأَجْنَبِيُّ سَوَاءٌ فَصُلْحٌ أَصِيلًا فِيهِ إذَا ضَمِنَهُ ، كَالْفُضُولِيِّ بِالْخُلْعِ إذَا ضَمِنَ الْبَدَلَ وَيَكُونُ مُتَبَرِّعًا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ وَلَا يَكُونُ لِهَذَا الْمُصَالِحِ شَيْءٌ مِنْ الْمُدَّعَى ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ لِأَنَّ تَصْحِيحَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ مَا إذَا كَانَ مُقِرًّا أَوْ مُنْكِرًا ( وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ صَالَحْتُك عَلَى أَلْفَيْ هَذِهِ أَوْ عَلَى عَبْدَيْ هَذَا صَحَّ الصُّلْحُ وَلَزِمَهُ تَسْلِيمُهَا ) لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ إلَى مَالِ نَفْسِهِ فَقَدْ الْتَزَمَ تَسْلِيمَهُ فَصَحَّ الصُّلْحُ ( وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَلَيَّ أَلْفٌ وَسَلَّمَهَا ) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ إلَيْهِ يُوجِبُ سَلَامَةَ الْعِوَضِ لَهُ فَيَتِمُّ الْعَقْدُ لِحُصُولِ مَقْصُودِهِ ( وَلَوْ قَالَ صَالَحْتُك عَلَى أَلْفٍ فَالْعَقْدُ مَوْقُوفٌ ، فَإِنْ أَجَازَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ جَازَ وَلَزِمَهُ الْأَلْفُ ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ بَطَلَ ) لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَقْدِ إنَّمَا هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّ دَفْعَ الْخُصُومَةِ حَاصِلٌ لَهُ ، إلَّا أَنَّ الْفُضُولِيَّ يَصِيرُ أَصِيلًا بِوَاسِطَةِ إضَافَةِ الضَّمَانِ إلَى نَفْسِهِ ، فَإِذَا لَمْ يُضِفْهُ بَقِيَ عَاقِدًا مِنْ جِهَةِ الْمَطْلُوبِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ .
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ : وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ صَالَحْتُك عَلَى هَذِهِ الْأَلْفِ أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ وَلَمْ يَنْسُبْهُ إلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا عَيَّنَهُ لِلتَّسْلِيمِ صَارَ شَارِطًا سَلَامَتَهُ لَهُ فَيَتِمُّ بِقَوْلِهِ .
وَلَوْ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ أَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمُصَالِحِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْإِيفَاءَ مِنْ مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ وَلَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا سِوَاهُ ، فَإِنْ سَلِمَ
الْمَحَلُّ لَهُ تَمَّ الصُّلْحُ ، وَإِنْ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ .
بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ وَضَمِنَهَا وَدَفَعَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ أَوْ وَجَدَهَا زُيُوفًا حَيْثُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ أَصِيلًا فِي حَقِّ الضَّمَانِ وَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَا سَلَّمَهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِبَدَلِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
قَالَ ( وَإِنْ صَالَحَ عَنْهُ رَجُلٌ بِغَيْرِ أَمْرِهِ إلَخْ ) وَإِنْ صَالَحَ عَنْهُ رَجُلٌ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْفُضُولِيَّ عِنْدَ الصُّلْحِ عَلَى مَالٍ ؛ أَمَّا إنْ قَرَنَ بِذِكْرِ الْمَالِ ضَمَانَ نَفْسِهِ أَوَّلًا فَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ، وَالثَّانِي أَمَّا إنْ أَضَافَ الْمَالَ إلَى نَفْسِهِ أَوَّلًا فَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي ، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يُسَلِّمَ الْمَالَ الْمَذْكُورَ أَوْ لَا فَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالثَّانِي هُوَ الرَّابِعُ .
وَلَكِنْ يَرِدُ وَجْهَانِ آخَرَانِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمَذْكُورُ خَالِيًا عَنْ الْإِضَافَةِ إمَّا مُعَرَّفًا أَوْ مُنَكَّرًا ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا أَنْ قُرِنَ بِهِ التَّسْلِيمُ أَوْ لَمْ يُقْرَنْ وَقَدْ ذَكَرَ وَجْهَا حُكْمِ الْمُنَكَّرِ وَبَقِيَ وَجْهَا حُكْمِ الْمُعَرَّفِ ، وَلَكِنْ عُرِفَ وَجْهُ حُكْمِ الْمُعَرَّفِ الْمُسَلَّمِ بِذِكْرِ التَّسْلِيمِ فِي الْمُنَكَّرِ فَبَقِيَ حُكْمُ الْمُعَرَّفِ غَيْرِ الْمُسَلَّمِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ وَوَجْهٌ آخَرُ .
وَأَمَّا وَجْهُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ إذَا صَالَحَ وَضَمِنَ تَمَّ الصُّلْحُ ، لِأَنَّ الْحَاصِلَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَيْسَ إلَّا الْبَرَاءَةُ لِأَنَّهُ يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ ، وَفِي حَقِّ الْبَرَاءَةِ الْأَجْنَبِيُّ وَالْخَصْمُ سَوَاءٌ لِأَنَّ السَّاقِطَ يَتَلَاشَى ، وَمِثْلُهُ لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدٍ فَصَلَحَ أَنْ يَكُونَ أَصِيلًا فِي هَذَا الضَّمَانِ إذَا أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ كَالْفُضُولِيِّ بِالْخُلْعِ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ إذَا ضَمِنَ الْمَالَ وَيَكُونُ مُتَبَرِّعًا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ وَلَا يَكُونُ لِهَذَا الْمُصَالِحِ شَيْءٌ مِنْ الْمُدَّعَى : أَيْ لَا يَصِيرُ الدَّيْنُ الْمُدَّعَى بِهِ مِلْكًا لِلْمُصَالِحِ وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُقِرًّا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ الَّذِي فِي يَدِهِ : يَعْنِي فِي ذِمَّتِهِ لِأَنَّ تَصْحِيحَهُ بِطَرِيقِ
الْإِسْقَاطِ كَمَا مَرَّ لَا بِطَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ ، فَإِذَا سَقَطَ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ فَأَيُّ شَيْءٍ يَثْبُتُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا : أَيْ فِي أَنَّ الْمُصَالِحَ لَا يَمْلِكُ الدَّيْنَ الْمُدَّعَى بِهِ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْخَصْمُ مُقِرًّا أَوْ مُنْكِرًا .
أَمَّا إذَا كَانَ مُنْكِرًا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ فِي زَعْمِهِ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَزَعْمُ الْمُدَّعِي لَا يَتَعَدَّى إلَيْهِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مُقِرًّا فَبِالصُّلْحِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَصِيرَ الْمُصَالِحُ مُشْتَرِيًا مَا فِي ذِمَّتِهِ بِمَا أَدَّى ، إلَّا أَنَّ شِرَاءَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ تَمْلِيكُهُ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَهُوَ لَا يَجُوزُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ عَيْنًا وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُقِرًّا ، فَإِنَّ الْمُصَالِحَ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ إذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِأَنَّ شِرَاءَ الشَّيْءِ مِنْ مَالِكِهِ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ غَيْرِهِ .
وَوَجْهُ الْوُجُوهِ الْبَاقِيَةِ مَذْكُورٌ فِي الْمَتْنِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، خَلَا أَنَّ قَوْلَهُ فَالْعَقْدُ مَوْقُوفٌ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ صَالِحْنِي عَلَى أَلْفِي يَنْفُذُ عَلَى الْمُصَالِحِ وَالتَّوَقُّفُ فِيمَا إذَا قَالَ صَالِحْ فُلَانًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ دَعْوَاكَ عَلَى فُلَانٍ فَإِنَّهُ فِيهِ يَقِفُ عَنْ إجَازَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَجَازَ وَإِنْ رَدَّ بَطَلَ ، وَهَذَا وَجْهٌ آخَرُ غَيْرُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ ، وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَكُلُّ شَيْءٍ وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ وَأَسْقَطَ بَاقِيَهُ ، كَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ ، وَكَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفٌ جِيَادٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ زُيُوفٍ جَازَ وَكَأَنَّهُ أَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ ) وَهَذَا لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ يَتَحَرَّى تَصْحِيحَهُ مَا أَمْكَنَ ، وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ مُعَاوَضَةً لِإِفْضَائِهِ إلَى الرِّبَا فَجُعِلَ إسْقَاطًا لِلْبَعْضِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِلْبَعْضِ وَالصِّفَةِ فِي الثَّانِيَةِ ( وَلَوْ صَالَحَ عَلَى أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ جَازَ وَكَأَنَّهُ أَجَّلَ نَفْسَ الْحَقِّ ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ مُعَاوَضَةً لِأَنَّ بَيْعَ الدَّرَاهِمِ بِمِثْلِهَا نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى التَّأْخِيرِ ( وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَنَانِيرَ إلَى شَهْرٍ لَمْ يَجُزْ ) لِأَنَّ الدَّنَانِيرَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْخِيرِ ، وَلَا وَجْهَ لَهُ سِوَى الْمُعَاوَضَةِ ، وَبَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ فَلَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ ( وَلَوْ كَانَتْ لَهُ أَلْفٌ مُؤَجَّلَةٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ حَالَةً لَمْ يَجُزْ ) لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ خَيْرٌ مِنْ الْمُؤَجَّلِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ فَيَكُونُ بِإِزَاءِ مَا حَطَّهُ عَنْهُ ، وَذَلِكَ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْأَجَلِ وَهُوَ حَرَامٌ ( وَإِنْ كَانَ لَهُ أَلْفٌ سُودٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ بِيضٍ لَمْ يَجُزْ ) لِأَنَّ الْبِيضَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ وَهِيَ زَائِدَةٌ وَصْفًا فَيَكُونُ مُعَاوَضَةُ الْأَلْفِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَزِيَادَةِ وَصْفٍ وَهُوَ رِبًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَنْ الْأَلْفِ الْبِيضِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ سُودٍ حَيْثُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ كُلُّهُ قَدْرًا وَوَصْفًا ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ وَهُوَ أَجْوَدُ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمِثْلِ بِالْمِثْلِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالصِّفَةِ إلَّا