كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي
تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } لَكِنَّ الْكَافِرَ لَمَّا لَمْ يَصْلُحْ لِنُصْرَتِنَا لِمَيْلِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ اعْتِقَادًا قَامَ الْخَرَاجُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ الْمَصْرُوفُ إلَى الْغُزَاةِ مَقَامَ النُّصْرَةِ بِالنَّفْسِ ، ثُمَّ النُّصْرَةُ مِنْ الْمُسْلِمِ تَتَفَاوَتُ إذْ الْفَقِيرُ يَنْصُرُ دَارَنَا رَاجِلًا ، وَمُتَوَسِّطُ الْحَالِ يَنْصُرُهَا رَاكِبًا وَرَاجِلًا وَالْمُوسِرُ بِالرُّكُوبِ بِنَفْسِهِ وَإِرْكَابِ غَيْرِهِ .
ثُمَّ الْأَصْلُ لَمَّا كَانَ مُتَفَاوِتًا تَفَاوَتَ الْخَرَاجُ الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : النُّصْرَةُ طَاعَةُ اللَّهِ وَهَذِهِ عُقُوبَةٌ فَكَيْفَ تَكُونُ الْعُقُوبَةُ خَلَفًا عَنْ الطَّاعَةِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ عَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْقُوَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُمْ يُثَابُونَ عَلَى تِلْكَ الزِّيَادَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ أَمْوَالِهِمْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَعَارُوا دَوَابَّهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ ( وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ صُلْحًا ) وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ أُمِرَ بِالْأَخْذِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْجِزْيَةُ لَا تَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ .
قَالَ ( وَتُوضَعُ الْجِزْيَةُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } الْآيَةَ ، { وَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِزْيَةَ عَلَى الْمَجُوسِ } .
قَالَ : ( وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ ) وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ .
هُوَ يَقُولُ : إنَّ الْقِتَالَ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَقَاتِلُوهُمْ } إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَ تَرْكِهِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَفِي حَقِّ الْمَجُوسِ بِالْخَبَرِ فَبَقِيَ مَنْ وَرَاءَهُمْ عَلَى الْأَصْلِ .
وَلَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ فَيَجُوزُ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى سَلْبِ النَّفْسِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ وَيُؤَدِّي إلَى الْمُسْلِمِينَ وَنَفَقَتُهُ فِي كَسْبِهِ ، ( وَإِنْ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ فَيْءٌ ) ؛ لِجَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِمْ ( وَلَا تُوضَعُ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ وَلَا الْمُرْتَدِّينَ ) لِأَنَّ كُفْرَهُمَا قَدْ تَغَلُّظَ ، أَمَّا مُشْرِكُو الْعَرَبِ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَشَأَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ فَالْمُعْجِزَةُ فِي حَقِّهِمْ أَظْهَرُ .
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ ؛ فَلِأَنَّهُ كَفَرَ بِرَبِّهِ بَعْدَمَا هُدِيَ لِلْإِسْلَامِ وَوَقَفَ عَلَى مَحَاسِنِهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ زِيَادَةً فِي الْعُقُوبَةِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُسْتَرَقُّ مُشْرِكُو الْعَرَبِ ، وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا ( وَإِذَا ظُهِرَ عَلَيْهِمْ فَنِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ فَيْءٌ ) لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَرَقَّ نِسْوَانَ بَنِي حَنِيفَةَ وَصِبْيَانِهِمْ لَمَّا ارْتَدُّوا وَقَسَّمَهُمْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ( وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْ رِجَالِهِمْ قُتِلَ ) لِمَا ذَكَرْنَا .
قَالَ ( وَتُوضَعُ الْجِزْيَةُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ ) سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ الْعَرَبِ أَوْ مِنْ الْعَجَمِ ( لِقَوْلِهِ تَعَالَى { مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } وَعَلَى الْمَجُوسِ لِأَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى الْمَجُوسِ } رَوَى الْبُخَارِيُّ { أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ } وَهَجَرُ اسْمُ بَلَدٍ فِي الْبَحْرَيْنِ ( وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ ) وَهُوَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ مِنْ الْعَجَمِ احْتِرَازًا عَنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ فَإِنَّهُ لَا تُوضَعُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ( وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ ( وَلَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ ) وَكُلُّ مَنْ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ يَجُوزُ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ ( لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى سَلْبِ النَّفْسِ مِنْهُمْ ) أَمَّا الِاسْتِرْقَاقُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ نَفْعَ الرَّقِيقِ يَعُودُ إلَيْنَا جُمْلَةً ، وَأَمَّا الْجِزْيَةُ فَلِأَنَّ الْكَافِرَ يُؤَدِّيهَا مِنْ كَسْبِهِ ، وَالْحَالُ أَنَّ نَفَقَتَهُ فِي كَسْبِهِ فَكَانَ إذًا كَسْبُهُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ حَيَاتِهِ إلَى الْمُسْلِمِينَ دَارَّةً رَاتِبَةً فِي مَعْنَى أَخْذِ النَّفْسِ مِنْهُ حُكْمًا .
وَنُوقِضَ بِأَنَّ مَنْ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ لَوْ جَازَ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ لَجَازَ ضَرْبُهَا عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لِمَعْنًى آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ الْجِزْيَةَ بَدَلُ النُّصْرَةِ وَلَا نُصْرَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ فَكَذَا بَدَلُهُ ، وَهَذَا لَيْسَ بِدَافِعٍ بَلْ هُوَ مُقَرِّرٌ لِلنَّقْضِ .
وَالصَّوَابُ أَنَّ قَبُولَ الْمَحَلِّ شَرْطُ تَأْثِيرِ الْمُؤَثِّرِ فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَكُلُّ مَنْ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ يَجُوزُ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ
إذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا ، وَالْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ لَيْسَا كَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ الْكَسْبِ وَهُمَا عَاجِزَانِ عَنْهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ ) أَيْ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ ( قَبْلَ ذَلِكَ ) أَيْ قَبْلَ وَضْعِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ ( فَهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ فَيْءٌ ) أَيْ غَنِيمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِجَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِمْ ( وَلَا تُوضَعُ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ وَلَا الْمُرْتَدِّينَ لِأَنَّ كُفْرَهُمَا قَدْ تَغَلُّظَ ) عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَكُلُّ مَنْ تَغَلُّظَ كُفْرُهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا السَّيْفُ أَوْ الْإِسْلَامُ .
( زِيَادَةً فِي الْعُقُوبَةِ ) عَلَيْهِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا مَنْقُوضٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ تَغَلُّظَ كُفْرُهُمْ ، فَإِنَّهُمْ عَرَفُوا النَّبِيَّ مَعْرِفَةً تَامَّةً مُمَيِّزَةً مُشَخِّصَةً وَمَعَ ذَلِكَ أَنْكَرُوهُ وَغَيَّرُوا اسْمَهُ وَنَعْتَهُ مِنْ الْكُتُبِ وَقَدْ قَبِلَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ .
وَأَيْضًا الْفَصْلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ بِجَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِمْ دُونَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أَوْطَاسٍ { لَوْ جَرَى رِقٌّ عَلَى عَرَبِيٍّ لَجَرَى الْيَوْمَ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقِيَاسَ كَانَ يَقْتَضِي أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ إلَّا أَنَّهُ تُرِكَ بِالْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } الْآيَةَ ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ مُرَادَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَرَبِيُّ الْأَصْلِ ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ وَإِنْ سَكَنُوا فِيمَا بَيْنَ الْعَرَبِ وَتَوَالَدُوا فَهُمْ لَيْسُوا بِعَرَبٍ فِي الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا الْعَرَبُ فِي الْأَصْلِ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ فَإِنَّهُمْ أُمِّيُّونَ .
وَقَوْلُهُ ( وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ لِأَنَّ كُفْرَهُمَا قَدْ تَغَلُّظَ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ ) أَيْ عَلَى عَبَدَةِ
الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ ( فَنِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ فَيْءٌ ) إلَّا أَنَّ ذَرَارِيَّ الْمُرْتَدِّينَ وَنِسَاءَهُمْ يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ دُونَ ذَرَارِيِّ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَنِسَائِهِمْ ، لِأَنَّ الْإِجْبَارَ عَلَى الْإِسْلَامِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ ثُبُوتِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِ ، وَذَرَارِيُّ الْمُرْتَدِّينَ قَدْ ثَبَتَ فِي حَقِّهِمْ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ فَيُجْبَرُونَ عَلَيْهِ .
وَالْمُرْتَدَّاتُ كُنَّ مُقِرَّاتٍ بِالْإِسْلَامِ فَيُجْبَرْنَ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ ذَرَارِيِّ الْعَبَدَةِ وَنِسَائِهِمْ .
وَحَنِيفَةُ أَبُو حَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِبَنِي حَنِيفَةَ رَهْطُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ ( وَقَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ زِيَادَةً فِي الْعُقُوبَةِ .
( وَلَا جِزْيَةَ عَلَى امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ ) لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ أَوْ عَنْ الْقِتَالِ وَهُمَا لَا يُقْتَلَانِ وَلَا يُقَاتِلَانِ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ .
قَالَ ( وَلَا زَمِنٍ وَلَا أَعْمَى ) وَكَذَا الْمَفْلُوجُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ لِمَا بَيَّنَّا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَجِبُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الْجُمْلَةِ إذَا كَانَ لَهُ رَأْيٌ ( وَلَا عَلَى فَقِيرٍ غَيْرِ مُعْتَمِلٍ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .
لَهُ إطْلَاقُ حَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَلَنَا أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُوَظِّفْهَا عَلَى فَقِيرٍ غَيْرِ مُعْتَمِلٍ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلِأَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ لَا يُوَظَّفُ عَلَى أَرْضٍ لَا طَاقَةَ لَهَا فَكَذَا هَذَا الْخَرْجُ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُعْتَمِلِ ( وَلَا تُوضَعُ عَلَى الْمَمْلُوكِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ) لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ وَعَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الثَّانِي لَا تَجِبُ فَلَا تَجِبُ بِالشَّكِّ ( وَلَا يُؤَدِّي عَنْهُمْ مَوَالِيهِمْ ) لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا الزِّيَادَةَ بِسَبَبِهِمْ ( وَلَا تُوضَعُ عَلَى الرُّهْبَانِ الَّذِينَ لَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ ) كَذَا ذَكَرَ هَاهُنَا .
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُوضَعُ عَلَيْهِمْ إنْ كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى الْعَمَلِ ، وَهُوَ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ .
وَجْهُ الْوَضْعِ عَلَيْهِمْ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْعَمَلِ هُوَ الَّذِي ضَيَّعَهَا فَصَارَ كَتَعْطِيلِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ .
وَوَجْهُ الْوَضْعِ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَا قَتْلَ عَلَيْهِمْ إذَا كَانُوا لَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ ، وَالْجِزْيَةُ فِي حَقِّهِمْ لِإِسْقَاطِ الْقَتْلِ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَمِلُ صَحِيحًا وَيَكْتَفِي بِصِحَّتِهِ فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ ) يَعْنِي فِي حَقِّ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ ( أَوْ عَنْ الْقِتَالِ ) أَيْ عَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَا يَجِبُ الْبَدَلُ إلَّا عَلَى مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَصْلُ ، وَالْأَصْلُ وَهُوَ الْقَتْلُ أَوْ الْقِتَالُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فَكَذَا الْبَدَلُ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَهُمَا لَا يُقْتَلَانِ وَلَا يُقَاتِلَانِ .
وَقَوْلُهُ ( لَهُ إطْلَاقُ حَدِيثِ مُعَاذٍ ) هُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ } وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى اعْتِبَارِ الثَّانِي لَا تَجِبُ ) يَعْنِي أَنَّ الْجِزْيَةَ بَدَلٌ عَنْ الْأَمْرَيْنِ كَمَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الْأَوَّلِ يَجِبُ وَضْعُ الْجِزْيَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْمَمَالِيكِ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ الْحَرْبِيَّ يُقْتَلُ فَيَتَحَقَّقُ الْبَدَلُ أَيْضًا ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الثَّانِي لَا يَجِبُ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى النُّصْرَةِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَدَلُهُ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا الزِّيَادَةَ بِسَبَبِهِمْ ) أَيْ صَارَ مَوَالِيهِمْ بِسَبَبِهِمْ مِنْ صِنْفِ الْأَغْنِيَاءِ أَوْ وَسَطِ الْحَالِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِمْ زِيَادَةٌ عَلَى مِقْدَارِ الْوَاجِبِ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ ، فَلَوْ قُلْنَا بِوُجُوبِهَا عَلَى الْمَوَالِي بِسَبَبِهِمْ لَكَانَ وُجُوبُ الْجِزْيَةِ مَرَّتَيْنِ بِسَبَبِ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا تُوضَعُ عَلَى الرُّهْبَانِ ) وَاضِحٌ .
( وَمَنْ أَسْلَمَ وَعَلَيْهِ جِزْيَةٌ سَقَطَتْ عَنْهُ ) وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ كَافِرًا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِيهِمَا .
لَهُ أَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ أَوْ عَنْ السُّكْنَى وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ الْمُعَوَّضُ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْعِوَضُ بِهَذَا الْعَارِضِ كَمَا فِي الْأُجْرَةِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ } وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ وَلِهَذَا تُسَمَّى جِزْيَةً وَهِيَ وَالْجَزَاءُ وَاحِدٌ ، وَعُقُوبَةُ الْكُفْرِ تَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ وَلَا تُقَامُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلِأَنَّ شَرْعَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا لَا يَكُونُ إلَّا لِدَفْعِ الشَّرِّ وَقَدْ انْدَفَعَ بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ ؛ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا وَقَدْ قَدَرَ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ .
وَالْعِصْمَةُ تَثْبُتُ بِكَوْنِهِ آدَمِيًّا وَالذِّمِّيُّ يَسْكُنُ مِلْكَ نَفْسِهِ فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ بَدَلِ الْعِصْمَةِ وَالسُّكْنَى .
قَالَ ( وَمَنْ أَسْلَمَ وَعَلَيْهِ جِزْيَةٌ سَقَطَتْ عَنْهُ ) إذَا أَسْلَمَ مَنْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ أَوْ مَاتَ كَافِرًا أَوْ عَمِيَ أَوْ صَارَ زَمِنًا أَوْ مُقْعَدًا أَوْ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ الْعَمَلَ أَوْ فَقِيرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَبَقِيَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ سَقَطَتْ عَنْهُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْعَوَارِضُ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ السَّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا ( خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
لَهُ أَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ أَوْ عَنْ السُّكْنَى وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ الْمُعَوَّضُ ) وَكُلُّ مَا وَجَبَ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ الْمُعَوَّضُ ( لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْعِوَضُ بِهَذَا الْعَارِضِ ) أَيْ بِالْإِسْلَامِ أَوْ الْمَوْتِ ( كَمَا فِي الْأُجْرَةِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ ) فَإِنَّ الذِّمِّيَّ إذَا اسْتَوْفَى مَنَافِعَ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ مَاتَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْأُجْرَةُ لِأَنَّ الْمُعَوَّضَ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ وَهِيَ مَنَافِعُ الدَّارِ ، وَكَذَا إذَا قَتَلَ الذِّمِّيُّ رَجُلًا عَمْدًا ثُمَّ صَالَحَ عَنْ الدَّمِ عَلَى بَدَلٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ مَاتَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْبَدَلُ لِأَنَّ الْمُعَوَّضَ وَهُوَ نَفْسُهُ قَدْ سُلِّمَ لَهُ ، وَإِنَّمَا رَدَّدَ فِي قَوْلِهِ بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ أَوْ السُّكْنَى لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ بَدَلًا عَمَّا ذَا ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ الثَّابِتَةِ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْقِتَالِ وَمَدَّهُ إلَى غَايَةٍ وَهِيَ إعْطَاءُ الْجِزْيَةِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ السُّكْنَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمْ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الشِّرْكِ لَا يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَصِيرُونَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا بِمَا يُؤَدُّونَ مِنْ الْجِزْيَةِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ الَّتِي فَاتَتْ بِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَأُعِيدُهُ هَاهُنَا تَوْضِيحًا وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ
لَمَّا صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا بِقَبُولِ الذِّمَّةِ وَلِهَذِهِ الدَّارِ دَارٌ مُعَادِيَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْقِيَامُ بِنُصْرَتِهَا ، وَلَا تَصْلُحُ أَبْدَانُهُمْ لِهَذِهِ النُّصْرَةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ يَمِيلُونَ إلَى أَهْلِ الدَّارِ الْمُعَادِيَةِ لِاتِّحَادِهِمْ فِي الِاعْتِقَادِ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الشَّرْعُ الْجِزْيَةَ لِتُؤْخَذَ مِنْهُمْ فَتُصْرَفَ إلَى الْمُقَاتِلَةِ فَتَكُونَ خَلَفًا عَنْ النُّصْرَةِ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ الْأَعْمَى وَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالْمَعْتُوهِ وَالْمُقْعَدِ مَعَ أَنَّهُمْ مُشَارِكُونَ فِي السُّكْنَى لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُمْ أَصْلُ النُّصْرَةِ بِأَبْدَانِهِمْ لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ، فَكَذَلِكَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَا هُوَ خَلَفٌ عَنْهُ .
وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ } رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَهُوَ مُطْلَقٌ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ ، بَلْ الْإِنْصَافُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا تَكُونُ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ ، إذْ لَوْ لَمْ تَسْقُطْ لَصَدَقَ أَنَّ عَلَى هَذَا الْمُسْلِمِ جِزْيَةً .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً إلَخْ ) ظَاهِرٌ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ أَلْحَقَ ضَرْبَ الْجِزْيَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ بِالِاسْتِرْقَاقِ بِالْمَعْنَى الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ : وَلَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ فَيَجُوزُ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى سَلْبِ النَّفْسِ مِنْهُمْ فَكَيْفَ افْتَرَقَا فِي الْبَقَاءِ حَيْثُ يَبْقَى الْعَبْدُ رَقِيقًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَلَا تَبْقَى الْجِزْيَةُ بَعْدَهُ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِي الِابْتِدَاءِ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ لِكُفْرِهِمْ ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ أَدَاءَ الْجِزْيَةِ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا بِوَصْفِ الصَّغَارِ ، وَمَا شُرِعَ بِوَصْفٍ لَا يَبْقَى بِدُونِهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي
الْأُصُولِ ، وَالْإِسْلَامُ يُنَافِي الصَّغَارَ فَتَسْقُطُ الْجِزْيَةُ بِهِ ، بِخِلَافِ الِاسْتِرْقَاقِ فَإِنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْعِصْمَةُ تَثْبُتُ بِكَوْنِهِ آدَمِيًّا ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ إنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا مِنْ الْعِصْمَةِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْعِصْمَةَ ثَابِتَةٌ لِلْآدَمِيِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ خُلِقَ مُتَحَمِّلًا أَعْبَاءَ التَّكَالِيفِ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ الْجِزْيَةُ الطَّارِئَةُ بَدَلًا عَنْهَا .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : سَلَّمْنَا أَنَّهَا ثَابِتَةٌ لِلْآدَمِيَّةِ وَلَكِنَّهَا سَقَطَتْ بِالْكُفْرِ ، فَالْجِزْيَةُ تُعِيدُهَا عَلَى مَا كَانَتْ فَكَانَتْ بَدَلًا .
وَالْجَوَابُ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عَنْ عِصْمَةٍ فِيمَا مَضَى أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَلَا إلَى الثَّانِي لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يُغْنِي عَنْهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَالذِّمِّيُّ يَسْكُنُ مِلْكَ نَفْسِهِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ أَوْ السُّكْنَى ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الذِّمِّيَّ يَمْلِكُ مَوْضِعَ السُّكْنَى بِالشِّرَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ ، فَلَا يَجُوزُ إيجَابُ الْبَدَلِ بِسُكْنَاهُ فِي مَوْضِعٍ مَمْلُوكٍ لَهُ ، فَلَوْ كَانَتْ الْجِزْيَةُ أُجْرَةً كَانَ وُجُوبُهَا بِالْإِجَارَةِ لَا مَحَالَةَ ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا التَّأْقِيتُ لِأَنَّ الْإِبْهَامَ يُبْطِلُهَا ، وَحَيْثُ لَمْ يُشْتَرَطْ التَّأْقِيتُ فِي السُّكْنَى دَلَّ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَمْ تَكُنْ بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ وَالسُّكْنَى فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ أَيْضًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ اسْتَعَانَ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَاتَلُوا مَعَهُ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ جِزْيَةُ تِلْكَ السَّنَةِ ، فَلَوْ كَانَتْ بَدَلًا عَنْهَا لَسَقَطَتْ لِأَنَّهُ قَدْ نُصِرَ بِنَفْسِهِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهَا إنَّمَا لَمْ تَسْقُطْ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ ، وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ طَرِيقَ النُّصْرَةِ
فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ الْمَالَ دُونَ النَّفْسِ .
( وَإِنْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْحَوْلَانِ تَدَاخَلَتْ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَمَنْ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ خَرَاجُ رَأْسِهِ حَتَّى مَضَتْ السَّنَةُ وَجَاءَتْ سَنَةٌ أُخْرَى لَمْ يُؤْخَذْ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : يُؤْخَذُ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَإِنْ مَاتَ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ ) أَمَّا مَسْأَلَةُ الْمَوْتِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا .
وَقِيلَ خَرَاجُ الْأَرْضِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ .
وَقِيلَ لَا تَدَاخُلَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ .
لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْخَرَاجَ وَجَبَ عِوَضًا ، وَالْأَعْوَاضُ إذَا اجْتَمَعَتْ وَأَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا تُسْتَوْفَى ، وَقَدْ أَمْكَنَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَعْدَ تَوَالِي السِّنِينَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ لَوْ بَعَثَ عَلَى يَدِ نَائِبِهِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ ، بَلْ يُكَلَّفُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بِنَفْسِهِ فَيُعْطِيَ قَائِمًا ، وَالْقَابِضُ مِنْهُ قَاعِدٌ .
وَفِي رِوَايَةٍ : يَأْخُذُ بِتَلْبِيبِهِ وَيَهُزُّهُ هَزًّا وَيَقُولُ : أَعْطِ الْجِزْيَةَ يَا ذِمِّيُّ فَثَبَتَ أَنَّهُ عُقُوبَةٌ ، وَالْعُقُوبَاتُ إذَا اجْتَمَعَتْ تَدَاخَلَتْ كَالْحُدُودِ ؛ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ وَعَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا كَمَا ذَكَرْنَا ، لَكِنْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمَاضِي ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا يُسْتَوْفَى لِحِرَابٍ قَائِمٍ فِي الْحَالِ لَا لِحِرَابٍ مَاضٍ ، وَكَذَا النُّصْرَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ؛ لِأَنَّ الْمَاضِيَ وَقَعَتْ الْغُنْيَةُ عَنْهُ .
ثُمَّ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْجِزْيَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَجَاءَتْ سَنَةٌ أُخْرَى ، حَمَلَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ عَلَى الْمُضِيِّ مَجَازًا .
وَقَالَ : الْوُجُوبُ بِآخِرِ السَّنَةِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُضِيِّ لِيَتَحَقَّقَ الِاجْتِمَاعُ فَتَتَدَاخَلَ .
وَعِنْدَ
الْبَعْضِ هُوَ مُجْرًى عَلَى حَقِيقَتِهِ ، وَالْوُجُوبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَوَّلِ الْحَوْلِ فَيَتَحَقَّقُ الِاجْتِمَاعُ بِمُجَرَّدِ الْمَجِيءِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَنَا فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي آخِرِهِ اعْتِبَارًا بِالزَّكَاةِ .
وَلَنَا أَنَّ مَا وَجَبَ بَدَلًا عَنْهُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فَتَعَذَّرَ إيجَابُهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ فَأَوْجَبْنَاهُ فِي أَوَّلِهِ .
قَالَ ( فَإِنْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْحَوْلَانِ ) أَنَّثَ فِعْلَ الْحَوْلَيْنِ ، إمَّا بِاعْتِبَارِ حَذْفِ الْمُضَافِ : أَيْ اجْتَمَعَتْ جِزْيَةُ الْحَوْلَيْنِ ، وَإِمَّا بِتَأْوِيلِ السَّنَتَيْنِ ، وَأَتَى بِعِبَارَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِتَفْصِيلٍ فِي اللَّفْظِ وَلِإِبْهَامٍ فِي قَوْلِهِ وَجَاءَتْ سَنَةٌ أُخْرَى عَلَى مَا بَيَّنَهُ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ وَقَوْلُهُ ( وَقِيلَ لَا تَدَاخُلَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ ) يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْخَرَاجَ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ مُؤْنَةٌ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إلَى مَعْنَى الْعُقُوبَةِ ، وَلِهَذَا إذَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً يَجِبُ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ فَجَازَ أَنْ لَا يَتَدَاخَلَ ، بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ فَإِنَّهَا عُقُوبَةٌ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً وَلِهَذَا لَمْ تُشْرَعْ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ أَصْلًا وَالْعُقُوبَاتُ تَتَدَاخَلُ .
وَقَوْلُهُ ( لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ ) أَيْ فِيمَا إذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْحَوْلَانِ ( أَنَّ الْخَرَاجَ وَجَبَ عِوَضًا ) عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَكُلُّ مَا وَجَبَ عِوَضًا إذَا اجْتَمَعَ وَأَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ يُسْتَوْفَى كَمَا فِي سَائِرِ الْأَعْوَاضِ وَقَدْ أَمْكَنَ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ حَيٌّ ، وَاسْتِيفَاءُ الْمَالِ مِنْ الْحَيِّ مُمْكِنٌ إذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الْإِسْلَامُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ ) وَقَوْلُهُ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) أَرَادَ بِهِ مَا ذَكَرَهُ قَبْلَ هَذَا بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : قَدْ تَكَرَّرَ فِي كَلَامِهِمْ أَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ أَوْ السُّكْنَى أَوْ الْعِصْمَةِ ، وَتَكَرَّرَ أَيْضًا فِيهِ أَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ ؛ وَمَعْنَى الْعُقُوبَةِ غَيْرُ مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ عَنْ شَيْءٍ فَيَلْزَمُ تَوَارُدُ عِلَّتَيْنِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِالشَّخْصِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ .
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ كَوْنَهَا عُقُوبَةً لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ كَوْنِهِ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ لِأَنَّ إيجَابَ النُّصْرَةِ لِغَيْرِ أَهْلِ دِينِهِ يَسْتَلْزِمُ عُقُوبَةً لَا
مَحَالَةَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِهَذَا ) تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّلْبِيبُ أَخْذُ مَوْضِعِ اللَّبَبِ مِنْ الثِّيَابِ ، وَاللَّبَبُ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ مِنْ الصَّدْرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ ) اسْتِدْلَالٌ مِنْ جِهَةِ الْمَلْزُومِ ، وَمَا تَقَدَّمَ كَانَ مِنْ جِهَةِ اللَّازِمِ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .
وَقَوْلُهُ ( حَمَلَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ عَلَى الْمُضِيِّ مَجَازًا ) قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي قَوْلِهِ جَاءَتْ سَنَةٌ أُخْرَى ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَعْنَاهُ مَضَتْ حَتَّى يَتَحَقَّقَ اجْتِمَاعُهُمَا لِأَنَّهَا عِنْدَ آخِرِ الْحَوْلِ تَجِبُ ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ الْمَجَازِ لِأَنَّ مَجِيءَ كُلِّ شَهْرٍ بِمَجِيءِ أَوَّلِهِ .
وَأَقُولُ فِي مُجَوِّزِ الْمَجَازِ أَنَّ مَجِيءَ الشَّهْرِ يَسْتَلْزِمُ مَجِيءَ الْآخَرِ لَا مَحَالَةَ وَذِكْرُ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةُ اللَّازِمِ مَجَازٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَعْنَاهُ دُخُولُ أَوَّلِهَا لِأَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ بِأَوَّلِ الْحَوْلِ وَالتَّأْخِيرُ إلَى آخِرِهِ تَخْفِيفٌ وَتَأْجِيلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعَلَى هَذَا يَتَحَقَّقُ التَّدَاخُلُ عِنْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ بِلَا ارْتِكَابِ الْمَجَازِ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا يُسْتَوْفَى لِحِرَابٍ قَائِمٍ فِي الْحَالِ لَا لِحِرَابٍ مَاضٍ إلَخْ ، وَيَحْتَاجُ إلَى الْجَوَابِ عَنْ الزَّكَاةِ ، وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي آخِرِ الْحَوْلِ لِأَنَّهَا تَجِبُ فِي الْمَالِ النَّامِي وَحَوَلَانُ الْحَوْلِ هُوَ الْمُمْكِنُ مِنْ الِاسْتِنْمَاءِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى مَا مَرَّ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْحَوْلِ لِيَتَحَقَّقَ شَرْطُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ .
( فَصْلٌ ) ( وَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ بِيعَةٍ وَلَا كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ) ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ } وَالْمُرَادُ إحْدَاثُهَا ( وَإِنْ انْهَدَمَتْ الْبِيَعُ وَالْكَنَائِسُ الْقَدِيمَةُ أَعَادُوهَا ) لِأَنَّ الْأَبْنِيَةَ لَا تَبْقَى دَائِمًا ، وَلَمَّا أَقَرَّهُمْ الْإِمَامُ فَقَدْ عَهِدَ إلَيْهِمْ الْإِعَادَةَ إلَّا أَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ نَقْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ إحْدَاثٌ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَالصَّوْمَعَةُ لِلتَّخَلِّي فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْبِيعَةِ ، بِخِلَافِ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلسُّكْنَى ، وَهَذَا فِي الْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى ؛ لِأَنَّ الْأَمْصَارَ هِيَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الشَّعَائِرُ فَلَا تُعَارَضُ بِإِظْهَارِ مَا يُخَالِفُهَا .
وَقِيلَ فِي دِيَارِنَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقُرَى أَيْضًا ؛ لِأَنَّ فِيهَا بَعْضَ الشَّعَائِرِ ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ فِي قُرَى الْكُوفَةِ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ .
وَفِي أَرْضِ الْعَرَبِ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِهَا وَقُرَاهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } .
فَصْلٌ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ بِسُكْنَاهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالسُّكْنَى ( وَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ بِيعَةٍ وَلَا كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ } ) وَالْخِصَاءُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالْمَدِّ عَلَى وَزْنِ فِعَالٍ مَصْدَرُ خَصَاهُ : إذَا نَزَعَ خُصْيَتَيْهِ ، وَالْإِخْصَاءُ فِي مَعْنَاهُ خَطَأٌ ذَكَرَهُ فِي الْمُغْرِبِ ، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ ذِكْرِ الْخِصَاءِ وَالْكَنِيسَةُ هِيَ أَنَّ إحْدَاثَ الْكَنِيسَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إزَالَةٌ لِفُحُولِيَّةِ أَهْلِ دَارِهِ مَعْنًى ، كَمَا أَنَّ الْخِصَاءَ إزَالَةٌ لِفُحُولِيَّةِ الْحَيَوَانِ إنْ كَانَ الْخِصَاءُ عَلَى حَقِيقَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ التَّبَتُّلَ وَالِامْتِنَاعَ عَنْ النِّسَاءِ بِمُلَازَمَةِ الْكَنَائِسِ فَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " وَلَا كَنِيسَةَ " إحْدَاثُهَا فَهُوَ نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ : أَيْ لَا تُحْدَثُ كَنِيسَةٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَيُقَالُ كَنِيسَةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِمُتَعَبَّدِهِمْ ، وَكَذَا الْبِيعَةُ كَانَ مُطْلَقًا فِي الْأَصْلِ ، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْكَنِيسَةِ لِمُتَعَبَّدِ الْيَهُودِ وَالْبِيعَةِ لِمُتَعَبَّدِ النَّصَارَى .
وَقَوْلُهُ ( وَالصَّوْمَعَةُ لِلتَّخَلِّي فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْبِيعَةِ ) أَيْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إحْدَاثِ الصَّوْمَعَةِ الَّتِي يَتَخَلَّوْنَ فِيهَا أَيْضًا لِلْعِبَادَةِ ( بِخِلَافِ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ ) أَيْ صَلَاةِ الذِّمِّيِّ ( فِي الْبَيْتِ ) فَإِنَّهُمْ يُمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ ( لِأَنَّهُ تَبَعُ السُّكْنَى ) وَقَوْلُهُ ( وَالْمَرْوِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْمُرَادُ بِالْمَرْوِيِّ هُوَ مَا ذَكَرَهُ آنِفًا بِقَوْلِهِ وَهَذَا فِي الْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى .
وَقَوْلُهُ ( فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ) قِيلَ : إنَّمَا سُمِّيَتْ أَرْضُ الْعَرَبِ بِالْجَزِيرَةِ لِأَنَّ بَحْرَ فَارِسَ وَبَحْرَ الْحَبَشِ
وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتَ قَدْ أَحَاطَتْ بِهَا .
قَالَ ( وَيُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالتَّمَيُّزِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي زِيِّهِمْ وَمَرَاكِبِهِمْ وَسُرُوجِهِمْ وَقَلَانِسِهِمْ فَلَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ وَلَا يَعْمَلُونَ بِالسِّلَاحِ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَيُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِإِظْهَارِ الْكُسْتِيجَاتِ وَالرُّكُوبِ عَلَى السُّرُوجِ الَّتِي هِيَ كَهَيْئَةِ الْأَكُفِّ ) وَإِنَّمَا يُؤْخَذُونَ بِذَلِكَ إظْهَارًا لِلصَّغَارِ عَلَيْهِمْ وَصِيَانَةً لِضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ يُكْرَمُ ، وَالذِّمِّيُّ يُهَانُ ، وَلَا يُبْتَدَأُ بِالسَّلَامِ وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ عَلَامَةٌ مُمَيِّزَةٌ فَلَعَلَّهُ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ وَالْعَلَامَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ خَيْطًا غَلِيظًا مِنْ الصُّوفِ يَشُدُّهُ عَلَى وَسَطِهِ دُونَ الزُّنَّارِ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ فَإِنَّهُ جَفَاءٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الْإِسْلَامِ .
وَيَجِب أَنْ يَتَمَيَّزَ نِسَاؤُهُمْ عَنْ نِسَائِنَا فِي الطُّرُقَاتِ وَالْحَمَّامَاتِ ، وَيُجْعَلُ عَلَى دُورِهِمْ عَلَامَاتٌ كَيْ لَا يَقِفَ عَلَيْهَا سَائِلٌ يَدْعُوَ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ .
قَالُوا : الْأَحَقُّ أَنْ لَا يُتْرَكُوا أَنْ يَرْكَبُوا إلَّا لِلضَّرُورَةِ .
وَإِذَا رَكِبُوا لِلضَّرُورَةِ فَلِيَنْزِلُوا فِي مَجَامِعِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ لَزِمَتْ الضَّرُورَةُ اتَّخَذُوا سُرُوجًا بِالصِّفَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ لِبَاسٍ يَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالشَّرَفِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالتَّمَيُّزِ ) ظَاهِرٌ .
وَذَكَرَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِكَوْنِهَا كَالتَّفْسِيرِ لِمَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ كَأَنَّهُ قَالَ : وَكَيْفِيَّةُ التَّمَيُّزِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَخْ .
وَالْكِسْتِيجُ خَيْطٌ غَلِيظٌ بِقَدْرِ الْأُصْبُعِ يَشُدُّهُ الذِّمِّيُّ فَوْقَ ثِيَابِهِ دُونَ مَا يَتَزَيَّنُونَ بِهِ مِنْ الزَّنَانِيرِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ .
وَقَوْلُهُ ( صِيَانَةً لِضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ ) أَيْ الضَّعَفَةِ فِي الدِّينِ لَا الْبَدَنِ : أَيْ يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمْ لِكَيْ يَكُونُوا فِي أَعْيُنِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَصَلَّبُوا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَذِلَّاءَ صَاغِرِينَ حَتَّى لَا يَمِيلُوا إلَى الْكُفْرِ بِسَبَبِ سِعَتِهِمْ فِي الرِّزْقِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَرَاكِبِ وَرَوْنَقِ حَالِهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمْ يَأْخُذْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَلَا نَصَارَى نَجْرَانَ وَلَا مَجُوسِ هَجَرَ بِذَلِكَ فَيَكُونَ بِدْعَةً .
أُجِيبَ بِأَنَّهُمْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مَعْرُوفِينَ فِي الْمَدِينَةِ لَا يَشْتَبِهُ حَالُهُمْ فَلَمْ يَقَعْ الِاحْتِيَاجُ إلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ مِمَّنْ يُعْرَفُ مِمَّنْ لَا يُعْرَفُ وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَكَانَ صَوَابًا .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَيْنَمَا دَارَ عُمَرُ فَالْحَقُّ مَعَهُ } وَقَوْلُهُ ( فَإِنَّهُ جَفَاءٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ) أَيْ تَرْكُ حُسْنِ الْعِشْرَةِ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ فِي الْأَمْرِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ بِتَمَيُّزِهِمْ بِمَا يُوجِبُ إعْزَازَهُمْ مِنْ اتِّخَاذِ الزُّنَّارِ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ إهَانَةً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ، لِأَنَّ مَنْ أَعَزَّ عَدُوَّ صَدِيقِهِ فَقَدْ أَهَانَ صَدِيقَهُ مَعْنًى .
وَقَوْلُهُ ( أَنْ لَا يَرْكَبُوا إلَّا لِلضَّرُورَةِ ) يَعْنِي كَالْخُرُوجِ إلَى الرُّسْتَاقِ وَذَهَابِ الْمَرِيضِ إلَى مَوْضِعٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( بِالصِّفَةِ الَّتِي
تَقَدَّمَتْ ) يَعْنِي كَهَيْئَةِ الْأَكُفِّ .
( وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْجِزْيَةِ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ سَبَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ ) لِأَنَّ الْغَايَةَ الَّتِي يَنْتَهِي بِهَا الْقِتَالُ الْتِزَامُ الْجِزْيَةِ لَا أَدَاؤُهَا وَالِالْتِزَامُ بَاقٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : سَبُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ نَقْضًا ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُضُ إيمَانَهُ فَكَذَا يَنْقُضُ أَمَانَهُ إذْ عَقْدُ الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنْهُ .
وَلَنَا أَنَّ سَبَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفْرٌ مِنْهُ ، وَالْكُفْرُ الْمُقَارِنُ لَا يَمْنَعُهُ فَالطَّارِئُ لَا يَرْفَعُهُ .
قَالَ ( وَلَا يُنْقَضُ الْعَهْدُ إلَّا أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ يَغْلِبُوا عَلَى مَوْضِعٍ فَيُحَارِبُونَنَا ) ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا حَرْبًا عَلَيْنَا فَيُعَرَّى عَقْدُ الذِّمَّةِ عَنْ الْفَائِدَةِ وَهُوَ دَفْعُ شَرِّ الْحِرَابِ .وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ يَنْقُضُ إيمَانَهُ ) يَعْنِي لَوْ كَانَ مُسْلِمًا وَيَسُبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ نُقِضَ إيمَانُهُ ( فَكَذَا يُنْقَضُ أَمَانُهُ ) وَذِمَّتُهُ .
( وَإِذَا نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ ) مَعْنَاهُ فِي الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ بِاللَّحَاقِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْأَمْوَاتِ ، وَكَذَا فِي حُكْمِ مَا حَمَلَهُ مِنْ مَالِهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ أُسِرَ يُسْتَرَقُّ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ .قَوْلُهُ ( وَكَذَا فِي حُكْمِ مَا حَمَلَهُ مِنْ مَالِهِ ) يَعْنِي أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا نَقَضَ الْعَهْدَ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَفِي يَدِهِ مَالٌ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ يَكُونُ فَيْئًا ، كَالْمُرْتَدِّ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَالِهِ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ كَانَ مَالُهُ فَيْئًا .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّهُ لَوْ أُسِرَ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ : يَعْنِي بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَرَقُّ بَلْ يُقْتَلُ إنْ أَصَرَّ عَلَى ارْتِدَادِهِ .
( فَصْلٌ ) : ( وَنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الزَّكَاةِ ) ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَالَحَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ( وَيُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ صِبْيَانِهِمْ ) لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى الصَّدَقَةِ الْمُضَاعَفَةِ ، وَالصَّدَقَةُ تَجِبُ عَلَيْهِنَّ دُونَ الصِّبْيَانِ فَكَذَا الْمُضَاعَفُ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ أَيْضًا ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ جِزْيَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ : هَذِهِ جِزْيَةٌ فَسَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ ، وَلِهَذَا تُصْرَفُ مَصَارِفَ الْجِزْيَةِ وَلَا جِزْيَةَ عَلَى النِّسْوَانِ .
وَلَنَا أَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِهِ الصُّلْحُ ، وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ مِثْلِهِ عَلَيْهَا وَالْمَصْرِفُ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِزْيَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُهَا ( وَيُوضَعُ عَلَى مَوْلَى التَّغْلِبِيِّ الْخَرَاجُ ) أَيْ الْجِزْيَةُ ( وَخَرَاجُ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ مَوْلَى الْقُرَشِيِّ ) وَقَالَ زُفَرُ : يُضَاعَفُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ } ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْلَى الْهَاشِمِيِّ يَلْحَقُ بِهِ فِي حَقِّ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ .
وَلَنَا أَنَّ هَذَا تَخْفِيفٌ وَالْمَوْلَى لَا يَلْحَقُ بِالْأَصْلِ فِيهِ ، وَلِهَذَا تُوضَعُ الْجِزْيَةُ عَلَى مَوْلَى الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ نَصْرَانِيًّا ، بِخِلَافِ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ لِأَنَّ الْحُرُمَاتِ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ فَأُلْحِقَ الْمَوْلَى بِالْهَاشِمِيِّ فِي حَقِّهِ ، وَلَا يَلْزَمُ مَوْلَى الْغَنِيِّ حَيْثُ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ ، لِأَنَّ الْغَنِيَّ مِنْ أَهْلِهَا ، وَإِنَّمَا الْغَنِيُّ مَانِعٌ وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ، أَمَّا الْهَاشِمِيُّ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِهَذِهِ الصِّلَةِ أَصْلًا لِأَنَّهُ صِينَ لِشَرَفِهِ وَكَرَامَتِهِ عَنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ فَأُلْحِقَ بِهِ مَوْلَاهُ .
فَصْلٌ : ذَكَرَ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ ، لِأَنَّ لَهُمْ أَحْكَامًا مَخْصُوصَةً بِهِمْ تُخَالِفُ أَحْكَامَ سَائِرِ النَّصَارَى ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ بِإِسْنَادِهِ إلَى دَاوُد بْنِ كُرْدُوسٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ التَّغْلِبِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ بَنِي تَغْلِبَ مَنْ قَدْ عَلِمْت شَوْكَتَهُمْ وَإِنَّهُمْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ ، فَإِنْ ظَاهَرُوا عَلَيْك الْعَدُوَّ اشْتَدَّتْ الْمُؤْنَةُ ، فَإِنْ رَأَيْت أَنْ تُعْطِيَهُمْ شَيْئًا فَافْعَلْ ، قَالَ : فَصَالَحَهُمْ عُمَرُ عَلَى أَنْ لَا يَغْمِسُوا أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِهِمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ ، وَتُضَاعَفُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ ، وَعَلَى أَنْ تَسْقُطَ الْجِزْيَةُ عَنْ رُءُوسِهِمْ ، فَكُلُّ نَصْرَانِيٍّ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ لَهُ غَنَمٌ سَائِمَةٌ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ شَاةً سَائِمَةً فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا أَرْبَعٌ مِنْ الْغَنَمِ ، وَعَلَى هَذَا الْحِسَابِ تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ ، وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ إذَا وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ فَعَلَى التَّغْلِبِيِّ مِثْلُهُ مَرَّتَيْنِ ، وَنِسَاؤُهُمْ كَرِجَالِهِمْ فِي الصَّدَقَةِ ، وَأَمَّا الصِّبْيَانُ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ وَكَذَلِكَ أَرَاضِيِهِمْ الَّتِي كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمْ يَوْمَ صُولِحُوا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ الضِّعْفُ مِمَّا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ مِثْلِهِ ) أَيْ مِثْلِ مَالٍ وَجَبَ بِالصُّلْحِ .
وَقَوْلُهُ ( أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُهَا ) أَيْ فِيمَا أُخِذَ مِنْهُمْ مِنْ الْمُضَاعَفَةِ شَرَائِطُ الْجِزْيَةِ مِنْ وَصْفِ الصِّغَارِ كَعَدَمِ الْقَبُولِ مِنْ يَدِ النَّائِبِ وَالْإِعْطَاءِ قَائِمًا وَالْقَابِضُ قَاعِدٌ ، وَأَخْذِ التَّلْبِيبِ عَلَى مَا مَرَّ .
قَوْلُهُ ( وَيُوضَعُ عَلَى مَوْلَى التَّغْلِبِيِّ الْخَرَاجُ : أَيْ الْجِزْيَةُ وَخَرَاجُ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ مَوْلَى الْقُرَشِيِّ ) أَيْ لَا تُؤْخَذُ
الْجِزْيَةُ وَخَرَاجُ الْأَرْضِ مِنْ الْقُرَشِيِّ وَتُؤْخَذُ مِنْ مُعْتَقِهِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ مُعْتَقِ التَّغْلِبِيِّ وَإِنْ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْ التَّغْلِبِيِّ ( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ هَذَا ) أَيْ أَخْذَ مُضَاعَفِ الزَّكَاةِ ( تَخْفِيفٌ ) يَعْنِي لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ وَصْفُ الصَّغَارِ بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ ( وَالْمَوْلَى لَا يُلْحَقُ بِالْأَصْلِ فِيهِ ) أَيْ فِي التَّخْفِيفِ ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِكَوْنِ الْمَوْلَى لَا يَلْحَقُ بِالْأَصْلِ فِي التَّخْفِيفِ ( تُوضَعُ الْجِزْيَةُ عَلَى مَوْلَى الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ نَصْرَانِيًّا ) وَلَمْ يَلْحَقْ بِمَوْلَاهُ فِي تَرْكِ الْجِزْيَةِ وَإِنْ كَانَ الْإِسْلَامُ أَعْلَى أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ وَأَوْلَاهَا .
فَإِنْ قِيلَ : حُرْمَةُ الصَّدَقَةِ لَيْسَتْ بِتَغْلِيظٍ بَلْ هِيَ تَخْفِيفٌ بِالتَّخْلِيصِ عَنْ التَّدَنُّسِ بِالْآثَامِ وَقَدْ أُلْحِقَ مَوْلَى الْهَاشِمِيِّ فِيهَا بِالْهَاشِمِيِّ أَجَابَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( فِي حَقِّهِ ) أَيْ فِيمَا هُوَ حَقُّ مَوْلَاهُ وَهُوَ حُرْمَةُ الصَّدَقَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا بَالُ مَوْلَى الْغَنِيِّ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ فِي حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ وَالْعِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ وَهِيَ أَنَّ الْحُرُمَاتِ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ مَوْجُودَةٌ ؟ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ الْغَنِيَّ مِنْ أَهْلِهَا ) أَيْ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ فِي الْجُمْلَةِ وَلِهَذَا حَلَّتْ لَهُ إذَا كَانَ عَامِلًا ( وَإِنَّمَا الْغَنِيُّ مَانِعٌ وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ، وَأَمَّا الْهَاشِمِيُّ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ لَهَا أَصْلًا لِأَنَّهُ صِينَ لِشَرَفِهِ .
وَكَرَامَتِهِ عَنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ فَأُلْحِقَ بِهِ مَوْلَاهُ ) وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : حُرْمَةُ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ تَشْرِيفٌ لَهُمْ ، وَفِي إلْحَاقِ الْمَوَالِي بِهِمْ زِيَادَةٌ فِي التَّشْرِيفِ وَحُرْمَتُهَا عَلَى الْغَنِيِّ لِغِنَاهُ ، وَفِي إلْحَاقِ مَوْلَاهُ بِهِ لَا يَزْدَادُ غِنًى ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَوَابَ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ زُفَرُ مِنْ الْحَدِيثِ وَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ ، فَإِنَّ مَوْلَى الْهَاشِمِيِّ لَيْسَ كَهُوَ فِي
الْكَفَاءَةِ بِالْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ التَّأْوِيلُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِهِ ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ مِنْ الْقَوْمِ يَقُومُ بِنُصْرَتِهِمْ .
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : الْقِيَاسُ فِي الْكُلِّ سَوَاءٌ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَلْحَقَ مَوْلَى الْقَوْمِ بِهِمْ إلَّا أَنَّ وُرُودَ الْحَدِيثِ كَانَ فِي حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ : { أَنَّ أَبَا رَافِعٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا ، أَنْتَ مَوْلَانَا وَمَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } وَالْمَخْصُوصُ مِنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ لَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِإِظْهَارِ فَضِيلَةِ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إلْحَاقِهِمْ مَوْلَاهُمْ بِهِمْ وَمَوْلَى التَّغْلِبِيِّ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ .
قَالَ : ( وَمَا جَبَاهُ الْإِمَامُ مِنْ الْخَرَاجِ وَمِنْ أَمْوَالِ بَنِي تَغْلِبَ وَمَا أَهْدَاهُ أَهْلُ الْحَرْبِ إلَى الْإِمَامِ وَالْجِزْيَةُ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَسَدِّ الثُّغُورِ وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ ، وَيُعْطَى قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَعُمَّالُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِمْ ، وَيُدْفَعُ مِنْهُ أَرْزَاقُ الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيِّهِمْ ) ؛ لِأَنَّهُ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ فَإِنَّهُ وَصَلَ إلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ وَهُوَ مُعَدٌّ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهَؤُلَاءِ عَمَلَتُهُمْ وَنَفَقَةُ الذَّرَارِيِّ عَلَى الْآبَاءِ ، فَلَوْ لَمْ يُعْطَوْا كِفَايَتَهُمْ لَاحْتَاجُوا إلَى الِاكْتِسَابِ فَلَا يَتَفَرَّغُونَ لِلْقِتَالِ ( وَمَنْ مَاتَ فِي نِصْفِ السَّنَةِ فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْعَطَاءِ ) لِأَنَّهُ نَوْعُ صِلَةٍ وَلَيْسَ بِدَيْنٍ ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ عَطَاءً فَلَا يُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَيَسْقُطُ بِالْمَوْتِ ، وَأَهْلُ الْعَطَاءِ فِي زَمَانِنَا مِثْلُ الْقَاضِي وَالْمُدَرِّسِ وَالْمُفْتِي ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا جَبَاهُ الْإِمَامُ ) أَيْ جَمْعُهُ ، وَالثُّغُورُ جَمْعُ ثَغْرٍ وَهُوَ مَوْضِعُ مَخَافَةِ الْبُلْدَانِ ، وَالْقَنْطَرَةُ مَا لَا يُرْفَعُ ، وَالْجِسْرُ مَا يُرْفَعُ .
( قَوْلُهُ وَهَؤُلَاءِ عَمَلَتُهُمْ ) أَيْ الْقُضَاةُ وَعُمَّالُهُمْ وَالْعُلَمَاءُ عَمَلَةُ الْمُسْلِمِينَ وَالْعَمَلَةُ جَمْعُ عَامِلٍ ( قَوْلُهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْعَطَاءِ ) الْعَطَاءُ مَا يُكْتَبُ لِلْغُزَاةِ فِي الدِّيوَانِ وَلِكُلِّ مَنْ قَامَ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ كَالْقَاضِي وَالْمُفْتِي وَالْمُدَرِّسِ ، وَفِي الِابْتِدَاءِ كَانَ يُعْطِي كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ ضَرْبُ مَزِيَّةٍ فِي الْإِسْلَامِ كَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْلَادِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ فِي آخِرِ السَّنَةِ لَا يُورَثُ الْعَطَاءُ لِأَنَّهُ صِلَةٌ فَلَا يُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي نِصْفِ السَّنَةِ ، لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ فِي آخِرِ السَّنَةِ يُسْتَحَبُّ صَرْفُ ذَلِكَ إلَى قَرِيبِهِ لِأَنَّهُ قَدْ أَوْفَى عَنَاءَهُ فَيُسْتَحَبُّ الصَّرْفُ إلَى قَرِيبِهِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى الْوَفَاءِ .
بَابُ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ : قَالَ ( وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ كُشِفَتْ عَنْهُ ) لِأَنَّهُ عَسَاهُ اعْتَرَتْهُ شُبْهَةٌ فَتُزَاحُ ، وَفِيهِ دَفْعُ شَرِّهِ بِأَحْسَنِ الْأَمْرَيْنِ ، إلَّا أَنَّ الْعَرْضَ عَلَى مَا قَالُوا غَيْرُ وَاجِبٍ ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ بَلَغَتْهُ .
قَالَ ( وَيُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : الْمُرْتَدُّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَبَى قُتِلَ ) وَتَأْوِيلُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَسْتَمْهِلُ فَيُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ طَلَبَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ارْتِدَادَ الْمُسْلِمِ يَكُونُ عَنْ شُبْهَةٍ ظَاهِرًا فَلَا بُدَّ مِنْ مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ التَّأَمُّلُ فَقَدَّرْنَاهَا بِالثَّلَاثَةِ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } مِنْ غَيْرِ قَيْدِ الْإِمْهَالِ ، وَكَذَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ فَيُقْتَلُ لِلْحَالِ مِنْ غَيْرِ اسْتِمْهَالٍ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْوَاجِبِ لِأَمْرٍ مَوْهُومٍ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ لِإِطْلَاقِ الدَّلَائِلِ .
وَكَيْفِيَّةُ تَوْبَتِهِ أَنْ يَتَبَرَّأَ عَنْ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا سِوَى الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَا دِينَ لَهُ ، وَلَوْ تَبَرَّأَ عَمَّا انْتَقَلَ إلَيْهِ كَفَاهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ .
بَابُ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ أَحْكَامَ الْكُفْرِ الطَّارِئِ ، لِأَنَّ الطَّارِئَ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ وُجُودِ الْأَصْلِيِّ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّ الْعَرْضَ عَلَى مَا قَالُوا غَيْرُ وَاجِبٍ ) ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ .
قَالَ فِي الْإِيضَاحِ : وَيُسْتَحَبُّ عَرْضُ الْإِسْلَامِ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ لِأَنَّ رَجَاءَ الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ ثَابِتٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الرِّدَّةَ كَانَتْ بِاعْتِرَاضِ شُبْهَةٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَتَأْوِيلُ الْأَوَّلِ ) يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ وَيُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ( أَنَّهُ يُسْتَمْهَلُ ) أَيْ يَطْلُبُ الْمُهْلَةَ فَيُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَطْلُبْ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ مُتَعَنِّتٌ فِي ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ ، إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَتَابَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ كَافِرٍ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ .
فَإِنْ قِيلَ : تَقْدِيرُ الْمُدَّةِ هَاهُنَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ نَصَبَ الْحُكْمَ بِالرَّأْيِ فِيمَا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَقَادِيرِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ إثْبَاتِ الْحُكْمِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ ، لِأَنَّ وُرُودَ النَّصِّ فِي خِيَارِ الْبَيْعِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَرَدَ فِيهِ ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ هُنَاكَ إنَّمَا كَانَ لِلتَّأَمُّلِ ، وَالتَّقْدِيرُ بِهَا هَاهُنَا أَيْضًا لِلتَّأَمُّلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ ) بَيَانُهُ أَنَّهُ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ لَا مَحَالَةَ وَلَيْسَ بِمُسْتَأْمَنٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَطْلُبْ الْأَمَانَ وَلَا ذِمِّيٍّ لِأَنَّهُ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ فَكَانَ حَرْبِيًّا .
وَقَوْلُهُ ( لِإِطْلَاقِ الدَّلَائِلِ ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } ( وَكَيْفِيَّةُ تَوْبَتِهِ أَنْ يَتَبَرَّأَ عَنْ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا ) يَعْنِي بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِالشَّهَادَتَيْنِ
قَالَ ( فَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ قَبْلَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ كُرِهَ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ ) وَمَعْنَى الْكَرَاهِيَةِ هَاهُنَا تَرْكُ الْمُسْتَحَبِّ وَانْتِفَاءُ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ لِلْقَتْلِ ، وَالْعَرْضُ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ .
( وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَلَا تُقْتَلُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تُقْتَلُ لِمَا رَوَيْنَا ؛ وَلِأَنَّ رِدَّةَ الرَّجُلِ مُبِيحَةٌ لِلْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنَايَةٌ مُتَغَلَّظَةٌ فَتُنَاطُ بِهَا عُقُوبَةٌ مُتَغَلَّظَةٌ وَرِدَّةُ الْمَرْأَةِ تُشَارِكُهَا فِيهَا فَتُشَارِكُهَا فِي مُوجِبِهَا .
وَلَنَا { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ } ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ تَأْخِيرُ الْأَجْزِيَةِ إلَى دَارِ الْآخِرَةِ إذْ تَعْجِيلُهَا يُخِلُّ بِمَعْنَى الِابْتِلَاءِ ، وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْهُ دَفْعًا لِشَرٍّ نَاجِزٍ وَهُوَ الْحِرَابُ ، وَلَا يَتَوَجَّهُ ذَلِكَ مِنْ النِّسَاءِ ؛ لِعَدَمِ صَلَاحِيَّةِ الْبِنْيَةِ ، بِخِلَافِ الرِّجَالِ فَصَارَتْ الْمُرْتَدَّةُ كَالْأَصْلِيَّةِ قَالَ ( وَلَكِنْ تُحْبَسُ حَتَّى تُسْلِمَ ) ؛ لِأَنَّهَا امْتَنَعَتْ عَنْ إيفَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَتُجْبَرُ عَلَى إيفَائِهِ بِالْحَبْسِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَتُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى الْإِسْلَامِ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً .
وَالْأَمَةُ يُجْبِرُهَا مَوْلَاهَا ) أَمَّا الْجَبْرُ فَلِمَا ذَكَرْنَا ، وَمِنْ الْمَوْلَى ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ ، وَيُرْوَى تُضْرَبُ فِي كُلِّ أَيَّامٍ مُبَالَغَةً فِي الْحَمْلِ عَلَى الْإِسْلَامِ .
( وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَلَا تُقْتَلُ ) فَإِنْ قَتَلَهَا رَجُلٌ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا رَوَيْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وَلِأَنَّ رِدَّةَ الرَّجُلِ مُبِيحَةٌ لِلْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا جِنَايَةٌ مُتَغَلِّظَةٌ ) وَكُلُّ مَا هُوَ جِنَايَةٌ مُتَغَلِّظَةٌ ( يُنَاطُ بِهَا عُقُوبَةٌ مُتَغَلِّظَةٌ ، وَرِدَّةُ الْمَرْأَةِ تُشَارِكُ رِدَّةَ الرَّجُلِ فِي هَذِهِ الْعِلَّةِ فَيَجِبُ أَنْ تُشَارِكَهَا فِي مُوجَبِهَا ) لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْعِلَّةِ يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ فِي الْمَعْلُولِ وَصَارَ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ مَا يُدْرَأُ بِالرَّأْيِ وَلَنَا { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ } وَلِأَنَّ الْقَتْلَ جَزَاءُ الْكُفْرِ ( وَالْأَصْلُ فِي الْأَجْزِيَةِ تَأْخِيرُهَا إلَى دَارِ الْجَزَاءِ وَهِيَ الْآخِرَةُ لِأَنَّ تَعْجِيلَهَا يُخِلُّ بِمَعْنَى الِابْتِلَاءِ ) الَّذِي هُوَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إظْهَارُ عِلْمِهِ لِأَنَّ النَّاسَ يَمْتَنِعُونَ خَوْفًا مِنْ لُحُوقِهِ فَصَارُوا فِي الْمَعْنَى كَالْمَجْبُورِينَ وَفِيهِ إخْلَالٌ بِالِابْتِلَاءِ ( وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْهُ ) أَيْ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ إلَى تَعْجِيلِ بَعْضِهَا ( دَفْعًا لِشَرٍّ نَاجِزٍ وَهُوَ الْحِرَابُ ، وَلَا يَتَوَجَّهُ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ ) لِأَنَّ بِنْيَتَهُنَّ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِذَلِكَ ( بِخِلَافِ الرِّجَالِ فَصَارَتْ الْمُرْتَدَّةُ كَالْأَصْلِيَّةِ ) وَالْكَافِرَةُ الْأَصْلِيَّةُ لَا تُقْتَلُ فَكَذَا الْمُرْتَدَّةُ .
وَمَا قِيلَ { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ مُرْتَدَّةً } فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَقْتُلْهَا بِمُجَرَّدِ الرِّدَّةِ بَلْ لِأَنَّهَا كَانَتْ سَاحِرَةً شَاعِرَةً تَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ لَهَا
ثَلَاثُونَ ابْنًا وَهِيَ تُحَرِّضُهُمْ عَلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِقَتْلِهَا .
وَالْجَوَابُ عَمَّا رُوِيَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُجْرًى عَنْ ظَاهِرِهِ لِأَنَّ التَّبْدِيلَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ عَامٌّ لِحَقِّهِ خُصُوصٌ فَيُخَصَّصُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَعْنَى ، وَقَوْلُهُ ( وَلَكِنْ تُحْبَسُ ) ظَاهِرٌ وَأَعَادَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى ذِكْرِ الْجَبْرِ وَالْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْأَمَةُ يُجْبِرُهَا مَوْلَاهَا ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا ارْتَدَّتْ الْأَمَةُ وَاحْتَاجَ الْمَوْلَى إلَى خِدْمَتِهَا دُفِعَتْ إلَيْهِ وَأَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يُجْبِرَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( أَمَّا الْجَبْرُ فَلِمَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي أَنَّهَا امْتَنَعَتْ عَنْ إيفَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ الْإِقْرَارِ ( وَمِنْ الْمَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ ) أَيْ الْجَبْرِ وَالِاسْتِخْدَامِ ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْكِتَابِ حَاجَةُ الْمَوْلَى إلَى خِدْمَتِهَا وَهِيَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَشَرَطَهَا فِي رِوَايَةٍ .
قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تُدْفَعُ إلَى الْمَوْلَى احْتَاجَ إلَيْهَا أَوْ اسْتَغْنَى .
وَقَالَ : وَكَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ طَلَبُ الْمَوْلَى .
فَإِنْ قِيلَ : لِلْمَوْلَى حَقُّ الِاسْتِخْدَامِ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ جَمِيعًا فَكَيْفَ دُفِعَتْ إلَيْهِ الْأَمَةُ دُونَ الْعَبْدِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَبَى قُتِلَ فَلَا فَائِدَةَ فِي الدَّفْعِ إلَى الْمَوْلَى
قَالَ ( وَيَزُولُ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ عَنْ أَمْوَالِهِ بِرِدَّتِهِ زَوَالًا مُرَاعًى ، فَإِنْ أَسْلَمَ عَادَتْ عَلَى حَالِهَا ، قَالُوا : هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَزُولُ مِلْكُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ مُحْتَاجٌ ، فَإِلَى أَنْ يُقْتَلَ يَبْقَى مِلْكُهُ كَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ .
وَلَهُ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ مَقْهُورٌ تَحْتَ أَيْدِينَا حَتَّى يُقْتَلَ ، وَلَا قَتْلَ إلَّا بِالْحِرَابِ ، وَهَذَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ وَمَالِكِيَّتِهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ مَدْعُوٌّ إلَى الْإِسْلَامِ بِالْإِجْبَارِ عَلَيْهِ وَيُرْجَى عَوْدُهُ إلَيْهِ فَتَوَقَّفْنَا فِي أَمْرِهِ ، فَإِنْ أَسْلَمَ جُعِلَ الْعَارِضُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا وَلَمْ يَعْمَلْ السَّبَبُ ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحُكِمَ بِلَحَاقِهِ اسْتَقَرَّ كُفْرُهُ فَيَعْمَلُ السَّبَبُ عَمَلَهُ وَزَالَ مِلْكُهُ .
قَالَ ( وَيَزُولُ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ عَنْ أَمْوَالِهِ بِرِدَّتِهِ زَوَالًا مُرَاعًى ) أَيْ مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ حَالُهُ ، فَإِنْ أَسْلَمَ عَادَتْ عَلَى حَالِهَا ، قَالُوا ) أَيْ الْمَشَايِخُ ( هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَزُولُ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ مُحْتَاجٌ ) وَكُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ يَجِبُ عَدَمُ زَوَالِ مِلْكِهِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ مُوجَبِ التَّكْلِيفِ إلَّا بِالْمِلْكِ ، فَيَبْقَى مِلْكُهُ ( إلَى أَنْ يُقْتَلَ كَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ ) وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُكَلَّفٌ مُبَاحُ الدَّمِ ( وَلَهُ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ مَقْهُورٌ تَحْتَ أَيْدِينَا ) بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقْتَلُ ( وَلَا قَتْلَ إلَّا بِالْحِرَابِ ) فَكَانَ الْقَتْلُ هَاهُنَا مُسْتَلْزِمًا لِلْحِرَابِ لِأَنَّ نَفْسَ الْكُفْرِ لَيْسَ بِمُبِيحٍ لَهُ وَلِهَذَا لَا يُقْتَلُ الْأَعْمَى وَالْمُقْعَدُ وَالشَّيْخُ الْفَانِي ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الْمَلْزُومُ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ كَوْنُهُ مِمَّنْ يَقْتُلُ فَلَا بُدَّ مِنْ لَازِمِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ حَرْبِيًّا ( وَهَذَا ) أَيْ كَوْنُهُ حَرْبِيًّا مَقْهُورًا تَحْتَ أَيْدِينَا ( يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ وَمَالِكِيَّتِهِ ) لِأَنَّ الْمَقْهُورِيَّةَ أَمَارَةُ الْمَمْلُوكِيَّةِ ، فَإِذَا كَانَ مَقْهُورًا ارْتَفَعَتْ مَالِكِيَّتُهُ ، وَارْتِفَاعُهَا يَسْتَلْزِمُ ارْتِفَاعَ الْمِلْكِ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْمَالِكِيَّةِ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ مُحَالٌ ( غَيْرَ أَنَّهُ مَدْعُوٌّ إلَى الْإِسْلَامِ بِالْإِجْبَارِ عَلَيْهِ وَعَوْدُهُ مَرْجُوٌّ ) وَذَلِكَ يُوجِبُ بَقَاءَ الْمَالِكِيَّةِ لِأَنَّهُ حَيٌّ مُكَلَّفٌ يَحْتَاجُ إلَى مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ أَدَاءِ مَا كُلِّفَ بِهِ ، فَبِالنَّظَرِ إلَى الْأَوَّلِ يَزُولُ مِلْكُهُ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الثَّانِي لَا يَزُولُ ( فَتَوَقَّفْنَا فِي أَمْرِهِ ) وَقُلْنَا بِزَوَالٍ مَوْقُوفٍ ( فَإِنْ أَسْلَمَ جُعِلَ الْعَارِضُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا وَلَمْ يَعْمَلْ السَّبَبُ ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحُكِمَ بِلَحَاقِهِ اسْتَقَرَّ كُفْرُهُ فَعَمِلَ
السَّبَبُ عَمَلَهُ وَزَالَ مِلْكُهُ ) لَا يُقَالُ : إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَخْرُجَ الْمَالُ عَنْ مِلْكِهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى هَذَا الدَّلِيلِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : ذَلِكَ مُقْتَضَاهُ إذَا تَسَاوَى الْجِهَتَانِ وَأَفْضَى إلَى الشَّكِّ ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ جِهَةَ الْخُرُوجِ ظَنٌّ وَجِهَةُ عَدَمِهِ دُونَهُ فَيَلْزَمُ التَّوَقُّفُ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ احْتِرَازًا عَنْ إحْبَاطِ طَاعَاتِهِ وَوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَتَجْدِيدِ الْإِيمَانِ ، فَإِنَّ الِارْتِدَادَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا قَدْ عَمِلَ عَمَلَهُ .
قَالَ ( وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ انْتَقَلَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي إسْلَامِهِ إلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَانَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَيْئًا ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : كِلَاهُمَا لِوَرَثَتِهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : كِلَاهُمَا فَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا وَالْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ ، ثُمَّ هُوَ مَالُ حَرْبِيٍّ لَا أَمَانَ لَهُ فَيَكُونُ فَيْئًا .
وَلَهُمَا أَنَّ مِلْكَهُ فِي الْكَسْبَيْنِ بَعْدَ الرِّدَّةِ بَاقٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَيَنْتَقِلُ بِمَوْتِهِ إلَى وَرَثَتِهِ وَيَسْتَنِدُ إلَى مَا قُبَيْلَ رِدَّتِهِ إذْ الرِّدَّةُ سَبَبُ الْمَوْتِ فَيَكُونُ تَوْرِيثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِنَادُ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ لِوُجُودِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ ، وَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِنَادُ فِي كَسْبِ الرِّدَّةِ لِعَدَمِهِ قَبْلَهَا وَمِنْ شَرْطِهِ وُجُودُهُ ، ثُمَّ إنَّمَا يَرِثُهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ حَالَةَ الرِّدَّةِ وَبَقِيَ وَارِثًا إلَى وَقْتِ مَوْتِهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا لِلِاسْتِنَادِ .
وَعَنْهُ أَنَّهُ يَرِثُهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ عِنْدَ الرِّدَّةِ ، وَلَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ بِمَوْتِهِ بَلْ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ .
وَعَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْوَارِثِ عِنْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ قَبْلَ تَمَامِهِ كَالْحَادِثِ قَبْلَ انْعِقَادِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ الْحَادِثِ مِنْ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ ) أَعَادَهُ لِأَنَّهُ لَفْظُ الْقُدُورِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالْأَوَّلُ كَانَ لَفْظُهُ ذَكَرَهُ شَرْحًا لِلْكَلَامِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ هُوَ مَالُ حَرْبِيٍّ فَيَكُونُ فَيْئًا ) يَعْنِي يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِيَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ مُحْتَاجٌ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَسْتَنِدُ ) يَعْنِي التَّوْرِيثَ ( إلَى مَا قُبَيْلَ رِدَّتِهِ ) فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ فَوَرِثَهُ وَرَثَتُهُ مِنْهُ مِنْ وَقْتِ الْإِسْلَامِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِنَادُ ) أَيْ اسْتِنَادُ التَّوْرِيثِ ( فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ لِوُجُودِهِ ) أَيْ لِوُجُودِ الْكَسْبِ ( قَبْلَ الرِّدَّةِ ، وَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِنَادُ فِي كَسْبِ الرِّدَّةِ لِعَدَمِهِ قَبْلَهَا ) أَيْ لِعَدَمِ الْكَسْبِ قَبْلَ الرِّدَّةِ ( وَمِنْ شَرْطِهِ وُجُودُهُ ) قَبْلَهَا أَيْ وَمِنْ شَرْطِ اسْتِنَادِ التَّوْرِيثِ وُجُودُ الْكَسْبِ قَبْلَ الرِّدَّةِ لِيَكُونَ فِيهِ تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ .
لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا بِالتَّوْرِيثِ فِيمَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الرِّدَّةِ لَزِمَ تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ( ثُمَّ إنَّمَا يَرِثُهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ حَالَةَ الرِّدَّةِ وَبَقِيَ وَارِثًا إلَى وَقْتِ مَوْتِهِ ) حَتَّى لَوْ حَدَثَ لَهُ وَارِثٌ بَعْدَ الرِّدَّةِ بِأَنْ أَسْلَمَ بَعْضُ قَرَابَتِهِ أَوْ وَلَدٌ لَهُ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ رِدَّتِهِ لَا يَرِثُهُ ( فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ ( اعْتِبَارًا لِلِاسْتِنَادِ ) يَعْنِي أَنَّ الرِّدَّةَ يَثْبُتُ بِهَا الْإِرْثُ بَعْدَ وُجُودِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمَوْتِ وَالْقَتْلِ وَالْحُكْمِ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ قَبْلَ وُجُودِهَا ، فَإِذَا وُجِدَتْ صَارَ كَأَنَّ الْوَارِثَ وَرِثَهُ حِينَ الرِّدَّةِ فَلِأَجْلِ هَذَا شَرَطَ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا إلَى وُجُودِ أَحَدِهِمَا ( وَعَنْهُ ) أَيْ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ( أَنَّهُ يَرِثُهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ عِنْدَ الرِّدَّةِ ثُمَّ لَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ بِمَوْتِهِ ) أَيْ بِمَوْتِ الْوَارِثِ ( بَلْ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ لِأَنَّ الرِّدَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ ) فِي التَّوْرِيثِ ، وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ قَبْلَ قِسْمَةِ مِيرَاثِهِ لَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ وَلَكِنْ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ فَهَذَا كَذَلِكَ ( وَعَنْهُ ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ ، قِيلَ وَهُوَ الْأَصَحُّ ( أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْوَارِثِ عِنْدَ الْمَوْتِ ) يَعْنِي أَحَدَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الرِّدَّةِ أَوْ حَدَثَ بَعْدَهُ ( لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ قَبْلَ تَمَامِهِ كَالْحَادِثِ قَبْلَ انْعِقَادِهِ كَمَا فِي الْوَلَدِ الْحَادِثِ مِنْ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ ) فِي أَنَّهُ يَصِيرُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ فَيَكُونُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَحَاصِلُهُ أَنَّ عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ يُشْتَرَطُ الْوَصْفَانِ وَهُمَا كَوْنُهُ وَارِثًا وَقْتَ الرِّدَّةِ وَكَوْنُهُ بَاقِيًا إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ ؛ حَتَّى لَوْ كَانَ وَارِثًا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُرْتَدِّ أَوْ حَدَثَ وَارِثٌ بَعْدَ الرِّدَّةِ فَإِنَّهُمَا لَا يَرِثَانِ .
وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُشْتَرَطُ الْوَصْفُ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي .
وَعَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ يُشْتَرَطُ الْوَصْفُ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ
وَتَرِثُهُ امْرَأَتُهُ الْمُسْلِمَةُ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فَارًّا ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا وَقْتَ الرِّدَّةِ .( وَتَرِثُهُ امْرَأَتُهُ الْمُسْلِمَةُ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فَارًّا وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا ) لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِلْهَلَاكِ كَالْمَرَضِ فَأَشْبَهَ رِدَّتَهُ الَّتِي حَصَلَتْ بِهَا الْبَيْنُونَةُ لِلطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ ، وَالطَّلَاقُ الْبَائِنُ حَالَةَ الْمَرَضِ يُوجِبُ الْإِرْثَ إذَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَبُو حَنِيفَةَ يُسْنِدُ التَّوْرِيثَ إلَى مَا قَبْلَ الرِّدَّةِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَتَفَاوَتَ الْحُكْمُ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا لِأَنَّ الرِّدَّةَ مَوْتٌ وَامْرَأَةُ الْمَيِّتِ تَرِثُهُ سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَوْتَ الْحَقِيقِيَّ سَبَبٌ لِلْإِرْثِ حَقِيقَةً فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُهَا ، وَأَمَّا الرِّدَّةُ فَإِنَّهَا جُعِلَتْ مَوْتًا حُكْمًا لِيَكُونَ تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ فَهِيَ ضَعِيفَةٌ فِي السَّبَبِيَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْوِيَتِهَا بِمَا هُوَ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ مِنْ الدُّخُولِ وَقِيَامِ الْعِدَّةِ .
.
وَالْمُرْتَدَّةُ كَسْبُهَا لِوَرَثَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا حِرَابَ مِنْهَا فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الْفَيْءِ ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيَرِثُهَا زَوْجُهَا الْمُسْلِمُ إنْ ارْتَدَّتْ وَهِيَ مَرِيضَةٌ لِقَصْدِهَا إبْطَالَ حَقِّهِ ، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَا يَرِثُهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُ بِمَالِهَا بِالرِّدَّةِ ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) فَإِنَّ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَهُ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَا حِرَابَ مِنْهَا ، وَمَعْنَاهُ فَلَا قَتْلَ إذْ ذَاكَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُلَازَمَةِ .
وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُقْتَلُ وَالرَّجُلُ يُقْتَلُ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ عِصْمَةَ الْمَالِ تَبَعٌ لِعِصْمَةِ النَّفْسِ ، وَبِالرِّدَّةِ لَا تَزُولُ عِصْمَةُ نَفْسِهَا حَتَّى لَا تُقْتَلَ فَكَذَلِكَ عِصْمَةُ مَالِهَا بِخِلَافِ الرَّجُلِ ، فَلَمَّا كَانَتْ عِصْمَةُ مَالِهَا بَاقِيَةً بَعْدَ رِدَّتِهَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَسْبَيْنِ مِلْكَهَا فَيَكُونُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهَا ( وَيَرِثُهَا زَوْجُهَا الْمُسْلِمُ إنْ ارْتَدَّتْ وَهِيَ مَرِيضَةٌ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَرِثَهَا لِأَنَّ فِرَارَ الزَّوْجِ إنَّمَا كَانَ يَتَحَقَّقُ إذَا مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فِي مَرَضِهِ لَمْ يَكُنْ لَهَا الْمِيرَاثُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي عِدَّتِهِ ثُمَّ هَاهُنَا لَا عِدَّةَ عَلَى الرَّجُلِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَرِثَهَا الزَّوْجُ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( لِقَصْدِهَا إبْطَالَ حَقِّهِ ) وَبَيَانُهُ أَنَّ حَقَّهُ تَعَلَّقَ بِمَالِهَا بِمَرَضِهَا فَكَانَتْ بِالرِّدَّةِ قَاصِدَةً إبْطَالَ حَقِّهِ فَارَّةً عَنْ مِيرَاثِهِ فَيُرَدُّ عَلَيْهَا قَصْدُهَا كَمَا فِي جَانِبِ الزَّوْجِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ صَحِيحَةً حِينَ ارْتَدَّتْ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ فَلَمْ تَصِرْ مُشْرِفَةً عَلَى الْهَلَاكِ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَلَا يَكُونُ فِي حُكْمِ الْفَارَّةِ الْمَرِيضَةِ فَلَا يَرِثُ زَوْجُهَا مِنْهَا
قَالَ : ( وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِلَحَاقِهِ عَتَقَ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَحَلَّتْ الدُّيُونُ الَّتِي عَلَيْهِ وَنُقِلَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ إلَى وَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ) .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَبْقَى مَالُهُ مَوْقُوفًا كَمَا كَانَ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ غَيْبَةٍ فَأَشْبَهَ الْغَيْبَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
وَلَنَا أَنَّهُ بِاللَّحَاقِ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَهُمْ أَمْوَاتٌ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ كَمَا هِيَ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ الْمَوْتَى فَصَارَ كَالْمَوْتِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ لَحَاقُهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ إلَيْنَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ ، وَإِذَا تَقَرَّرَ مَوْتُهُ ثَبَتَتْ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَاهَا كَمَا فِي الْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا عِنْدَ لَحَاقِهِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ اللَّحَاقَ هُوَ السَّبَبُ وَالْقَضَاءُ لِتَقَرُّرِهِ بِقَطْعِ الِاحْتِمَالِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : وَقْتَ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَوْتًا بِالْقَضَاءِ ، وَالْمُرْتَدَّةُ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَهِيَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا ) إنْ لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحَكَمَ الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ ( عَتَقَ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَحَلَّتْ الدُّيُونُ الَّتِي عَلَيْهِ ، وَنُقِلَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ إلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ ) عِنْدَنَا ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَبْقَى مَالُهُ مَوْقُوفًا ) وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِهِ ( لِأَنَّهُ نَوْعُ غَيْبَةٍ فَأَشْبَهَ الْغَيْبَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ) وَالْجَامِعُ كَوْنُهُ غَيْبَةً كَمَا تَرَى وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا ( وَلَنَا أَنَّهُ بِاللِّحَاقِ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ) أَمَّا حَقِيقَةً فَلِأَنَّهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَاعْتِقَادُهُ كَاعْتِقَادِهِمْ ، وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّهُ لَمَّا أَبْطَلَ إحْرَازَهُ نَفْسَهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ حِينَ عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ صَارَ حَرْبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأُعْطِيَ حُكْمَ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهُمْ كَالْمَيِّتِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ، قَالَ تَعَالَى { أَوْ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } وَلِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِلْزَامِ مُنْقَطِعَةٌ عَنْهُمْ ( كَمَا هِيَ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ الْمَوْتَى إلَّا أَنَّ لِحَاقَهُ لَا يَسْتَقِرُّ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ إلَيْنَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ مَوْتُهُ الْحُكْمِيُّ تَثْبُتُ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَاهَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ عَتَقَ مُدَبَّرُوهُ إلَخْ ( كَمَا فِي الْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ ) ( قَوْلُهُ ثُمَّ يُعْتَبَرُ ) ظَاهِرٌ ، وَالضَّمِيرُ فِي لِتَقَرُّرِهِ لِلِّحَاقِ ، وَقِيلَ لِلسَّبَبِ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ
( وَتُقْضَى الدُّيُونُ الَّتِي لَزِمَتْهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ مِمَّا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ ، وَمَا لَزِمَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ مِنْ الدُّيُونِ يُقْضَى مِمَّا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ : هَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَنْهُ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِكَسْبِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِذَلِكَ يُقْضَى مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ وَعَنْهُ عَلَى عَكْسِهِ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالسَّبَبَيْنِ مُخْتَلِفٌ .
وَحُصُولُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَسْبَيْنِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الدَّيْنُ فَيُقْضَى كُلُّ دَيْنٍ مِنْ الْكَسْبِ الْمُكْتَسَبِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِيَكُونَ الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ .
وَجْهُ الثَّانِي أَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ مِلْكُهُ حَتَّى يَخْلُفَهُ الْوَارِثُ فِيهِ ، وَمِنْ شَرْطِ هَذِهِ الْخِلَافَةِ الْفَرَاغُ عَنْ حَقِّ الْمُوَرِّثِ فَيُقَدَّمُ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ ، أَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ فَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ ؛ لِبُطْلَانِ أَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ بِالرِّدَّةِ عِنْدَهُ فَلَا يُقْضَى دَيْنُهُ مِنْهُ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ قَضَاؤُهُ مِنْ مَحِلٍّ آخَرَ فَحِينَئِذٍ يُقْضَى مِنْهُ ، كَالذِّمِّيِّ إذَا مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ يَكُونُ مَالُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُقْضَى مِنْهُ كَذَلِكَ هَاهُنَا .
وَجْهُ الثَّالِثِ أَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ حَقُّ الْوَرَثَةِ وَكَسْبَ الرِّدَّةِ خَالِصُ حَقِّهِ ، فَكَانَ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ أَوْلَى إلَّا إذَا تَعَذَّرَ بِأَنْ لَمْ يَفِ بِهِ فَحِينَئِذٍ يُقْضَى مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ تَقْدِيمًا لِحَقِّهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : تُقْضَى دُيُونُهُ مِنْ الْكَسْبَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِلْكُهُ حَتَّى يَجْرِيَ الْإِرْثُ فِيهِمَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ هَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ) هُوَ رِوَايَةُ زُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَنْهُ ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( أَنَّهُ يُبْدَأُ بِكَسْبِ الْإِسْلَامِ ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ( قَوْلُهُ وَعَنْهُ ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ ( عَلَى عَكْسِهِ ) وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ بِكَسْبِ الرِّدَّةِ ( قَوْلُهُ وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالسَّبَبَيْنِ ) أَيْ الْمُدَايَنَتَيْنِ ( مُخْتَلِفٌ ) وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالسَّبَبَيْنِ مُخْتَلِفٌ وَالْمُؤَدَّى مِنْ كَسْبٍ وَاحِدٍ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ ، فَالْمُسْتَحَقُّ بِالسَّبَبَيْنِ غَيْرُ مُؤَدًّى مِنْ كَسْبٍ وَاحِدٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَدَائِهِ مِنْ كَسْبَيْنِ تَحْقِيقًا لِلِاخْتِلَافِ وَحُصُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَسْبَيْنِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الْمُسْتَحَقُّ وَهُوَ الدَّيْنُ فَيُضَافُ أَدَاؤُهُ إلَيْهِ لِيَكُونَ الْغُرْمُ بِإِزَاءِ الْغُنْمِ وَقَوْلُهُ ( وَجْهُ الثَّانِي ) تَقْرِيرُهُ أَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ مِلْكُهُ وَكُلُّ مَا هُوَ مِلْكُهُ يَخْلُفُهُ الْوُرَّاثُ فِيهِ ، وَمِنْ شَرْطِ هَذِهِ الْخِلَافَةِ الْفَرَاغُ عَنْ حَقِّ الْمُوَرِّثِ فَيُقَدَّمُ الدَّيْنُ ، وَأَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ فَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ لِبُطْلَانِ أَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ بِالرِّدَّةِ عِنْدَهُ فَلَا يُقْضَى دَيْنُهُ مِنْهُ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ قَضَاؤُهُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبُ الْإِسْلَامِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِلْكَهُ كَيْفَ يُؤَدَّى مِنْهُ دَيْنُهُ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( كَالذِّمِّيِّ إذَا مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ ) فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مِلْكٌ فِيمَا اكْتَسَبَهُ بَلْ يَكُونُ مَالُهُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُقْضَى مِنْهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَجْهُ الثَّالِثِ أَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ حَقُّ الْوَرَثَةِ ) تَقْرِيرُهُ : كَسْبُ الْإِسْلَامِ حَقُّ الْوَرَثَةِ وَكَسْبُ الرِّدَّةِ خَالِصُ حَقِّهِ ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ أَوْلَى مِنْهُ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ إلَّا إذَا
تَعَذَّرَ بِأَنْ لَمْ يَفِ بِهِ فَحِينَئِذٍ يُقْضَى دَيْنُهُ مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ تَقْدِيمًا لِحَقِّهِ .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ مَا قِيلَ إنَّ هَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ : أَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ فَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ لِبُطْلَانِ أَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ بِالرِّدَّةِ .
وَالثَّانِي أَنَّ كَوْنَ كَسْبِ الْإِسْلَامِ حَقَّ الْوَرَثَةِ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّ حَقَّهُمْ إنَّمَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالتَّرِكَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ عَنْ حَقِّ الْمُوَرِّثِ .
وَالثَّالِثُ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ وَاجِبٌ وَمِنْ حَقِّ غَيْرِهِ مُمْتَنِعٌ ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ فَكَانَ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ أَوْلَى .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمَعْنَى مِنْ خُلُوصِ الْحَقِّ هَاهُنَا هُوَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ حَقُّ الْغَيْرِ بِهِ كَمَا ثَبَتَ التَّعَلُّقُ فِي مَالِ الْمَرِيضِ ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ خَالِصَ حَقِّهِ كَوْنُهُ مِلْكًا لَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ خَالِصُ حَقِّهِ وَلَيْسَ بِمِلْكٍ لَهُ ، وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إذَا مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا آنِفًا .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الدَّيْنَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ ، لَا بِمَا زَالَ مِنْ قَبْلُ ، وَكَسْبُ الْإِسْلَامِ قَدْ زَالَ وَانْتَقَلَ بِالرِّدَّةِ إلَى الْوَرَثَةِ ، وَكَسْبُهُ فِي الرِّدَّةِ هُوَ مَالُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِهِ .
وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ خَالِصَ حَقِّهِ بِالتَّوْبَةِ ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا خَالِصَ حَقِّهِ ، وَالْآخَرُ بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ خَالِصَ حَقِّهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ الْأَوَّلِ أَوْلَى .
هَذَا عَلَى طَرِيقَةِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى دَيْنُهُ مِنْ الْكَسْبَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِلْكُهُ حَتَّى يَجْرِيَ الْإِرْثُ فِيهِمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَذْهَبِهِمَا .
قَالَ : ( وَمَا بَاعَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ رَهَنَهُ أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ مِنْ أَمْوَالِهِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ ، فَإِنْ أَسْلَمَ صَحَّتْ عُقُودُهُ ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يَجُوزُ مَا صَنَعَ فِي الْوَجْهَيْنِ .
اعْلَمْ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ عَلَى أَقْسَامٍ : نَافِذٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالِاسْتِيلَادِ وَالطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَتَمَامِ الْوِلَايَةِ .
وَبَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالنِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ الْمِلَّةَ وَلَا مِلَّةَ لَهُ .
وَمَوْقُوفٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالْمُفَاوَضَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُرْتَدِّ مَا لَمْ يُسْلِمْ .
وَمُخْتَلَفٌ فِي تَوَقُّفِهِ وَهُوَ مَا عَدَدْنَاهُ .
لَهُمَا أَنَّ الصِّحَّةَ تَعْتَمِدُ الْأَهْلِيَّةَ وَالنَّفَاذَ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ ، وَلَا خَفَاءَ فِي وُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا ، وَكَذَا الْمِلْكُ لِقِيَامِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ، وَلِهَذَا لَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَ الرِّدَّةِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ يَرِثُهُ وَلَوْ مَاتَ وَلَدُهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ قَبْلَ الْمَوْتِ لَا يَرِثُهُ فَتَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ .
إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَصِحُّ كَمَا تَصِحُّ مِنْ الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَوْدُهُ إلَى الْإِسْلَامِ ، إذْ الشُّبْهَةُ تُزَاحُ فَلَا يُقْتَلُ وَصَارَ كَالْمُرْتَدَّةِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَصِحُّ كَمَا تَصِحُّ مِنْ الْمَرِيضِ ؛ لِأَنَّ مَنْ انْتَحَلَ إلَى نِحْلَةٍ لَا سِيَّمَا مُعْرِضًا عَمَّا نَشَأَ عَلَيْهِ قَلَّمَا يَتْرُكُهُ فَيُفْضِي إلَى الْقَتْلِ ظَاهِرًا ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدَّةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ مَقْهُورٌ تَحْتَ أَيْدِينَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي تَوَقُّفِ الْمِلْكِ وَتَوَقُّفُ التَّصَرُّفَاتِ بِنَاءً عَلَيْهِ ، وَصَارَ كَالْحَرْبِيِّ يَدْخُلُ دَارَنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ فَيُؤْخَذُ وَيُقْهَرُ
وَتَتَوَقَّفُ تَصَرُّفَاتُهُ ؛ لِتَوَقُّفِ حَالِهِ ، فَكَذَا الْمُرْتَدُّ ، وَاسْتِحْقَاقُهُ الْقَتْلَ لِبُطْلَانِ سَبَبِ الْعِصْمَةِ فِي الْفَصْلَيْنِ فَأَوْجَبَ خَلَلًا فِي الْأَهْلِيَّةِ ، بِخِلَافِ الزَّانِي وَقَاتِلِ الْعَمْدِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ فِي ذَلِكَ جَزَاءٌ عَلَى الْجِنَايَةِ .
وَبِخِلَافِ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ حَرْبِيَّةً ؛ وَلِهَذَا لَا تُقْتَلُ .
قَالَ ( وَمَا بَاعَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ ) ذَكَرَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي نَفَاذِهِ وَتَوَقُّفِهِ وَقَالَ : وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنَّمَا قَالَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنْ مَسَائِلِ الْقُدُورِيِّ ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِيهِ مَذْكُورًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَبَيَّنَ أَقْسَامَ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ وَهُوَ وَاضِحٌ إلَّا مَا نَذْكُرُهُ ، فَقَوْلُهُ يَجُوزُ مَا صُنِعَ فِي الْوَجْهَيْنِ يُرِيدُ بِأَحَدِهِمَا الْإِسْلَامَ وَبِالثَّانِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ وَاللِّحَاقَ .
وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَتَمَامِ الْوِلَايَةِ نَشْرٌ لِقَوْلِهِ كَالِاسْتِيلَادِ وَالطَّلَاقِ ، فَقَوْلُهُ إلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ : يَعْنِي فِي الِاسْتِيلَادِ ، فَلَوْ وُلِدَتْ جَارِيَتُهُ وَادَّعَى نَسَبَهُ يَثْبُتُ مِنْهُ وَيَرِثُهُ هَذَا الْوَلَدُ مَعَ وَرَثَتِهِ وَكَانَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي مَالِهِ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْأَبِ فِي جَارِيَةِ الِابْنِ وَاسْتِيلَادُ الْأَبِ صَحِيحٌ ، فَكَذَلِكَ اسْتِيلَادُهُ حَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ ، وَإِنَّمَا يُكْتَفَى فِيهِ بِحَقِّ الْمِلْكِ .
وَقَوْلُهُ ( وَتَمَامُ الْوِلَايَةِ ) يَعْنِي فِي الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ مَعَ قُصُورِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْفُرْقَةُ تَقَعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِالِارْتِدَادِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الطَّلَاقُ مِنْ الْمُرْتَدِّ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرْتَدَّ يَقَعُ طَلَاقُهُ كَمَا لَوْ أَبَانَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا عَلَى مَا عُرِفَ ، عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُوجَدَ الِارْتِدَادُ وَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ كَمَا لَوْ ارْتَدَّا مَعًا ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ النِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ ( يَعْتَمِدُ الْمِلَّةَ وَلَا مِلَّةَ لَهُ ) لِأَنَّهُ تَرْكُ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَلَا يُقَرُّ عَلَى مَا دَخَلَ فِيهِ لِوُجُوبِ الْقَتْلِ .
وَاسْتَشْكَلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِلَّةِ إنْ كَانَ الْإِسْلَامُ يَنْتَقِضُ بِنِكَاحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَذَبَائِحِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا
الْمِلَّةَ السَّمَاوِيَّةَ يَنْتَقِضُ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ مِلَّةٌ سَمَاوِيَّةٌ لَا مُقَرَّرَةٌ وَلَا مُحَرَّفَةٌ ، وَقَدْ حُكِمَ بِصِحَّةِ نِكَاحِهِمْ وَلِهَذَا يَحْكُمُ الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَجَرَيَانِ التَّوَارُثِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْهُمْ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِلَّةِ مَا يَتَدَيَّنُونَ بِهِ نِكَاحًا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ وَيَجْرِي بِهِ التَّوَارُثُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِأَنَّ مَا هُوَ الْغَرَضُ مِنْ النِّكَاحِ يَحْصُلُ عِنْدَ ذَلِكَ وَهُوَ التَّوَالُدُ وَالتَّنَاسُلُ ، وَالْمُرْتَدُّ وَالْمُرْتَدَّةُ لَيْسَا عَلَى تِلْكَ الْمِلَّةِ فَلَا يَصِحُّ نِكَاحُهُمَا ، لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ وَالْمُرْتَدَّةُ تُحْبَسُ فَكَيْفَ يَتِمُّ لَهُمَا هَذِهِ الْأَغْرَاضُ مِنْ النِّكَاحِ ، بِخِلَافِ الْمَجُوسِ وَأَهْلِ الشِّرْكِ فَإِنَّهُمْ دَانُوا دِينًا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ إنْ لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ مِنْ مَحَارِمِهِ فَكَانَتْ الْمَصَالِحُ مُنْتَظِمَةً .
وَقَوْلُهُ ( كَالْمُفَاوَضَةِ ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إنْ فَاوَضَ مُسْلِمًا تَوَقَّفَ ، فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَتْ الْمُفَاوَضَةُ وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ قَضَى بِلِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ الْمُفَاوَضَةُ بِالِاتِّفَاقِ ( قَوْلُهُ وَهُوَ مَا عَدَدْنَاهُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَمَا بَاعَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ يَحْتَاجُ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِهَذَا لَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَ الرِّدَّةِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ) تَوْضِيحٌ لِوُجُودِ مِلْكِ الْمُرْتَدِّ : يَعْنِي فَلَوْ كَانَ الْمِلْكُ زَائِلًا لِمَا وَرِثَهُ هَذَا الْوَلَدُ لِكَوْنِ عُلُوقِهِ بَعْدَ الِارْتِدَادِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ مَاتَ وَلَدُهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ ) يَعْنِي لَوْ مَاتَ وَلَدُهُ الْمَوْلُودُ قَبْلَ الرِّدَّةِ بَعْدَهَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُرْتَدِّ لَا يَرِثُهُ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِلْكُهُ قَائِمًا بَعْدَ الرِّدَّةِ لَوَرِثَهُ هَذَا الْوَلَدُ لِأَنَّهُ كَانَ حَيًّا وَقْتَ رِدَّةِ الْأَبِ ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُودُ الْأَهْلِيَّةِ
وَقِيَامُ الْمِلْكِ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ لَكِنْ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي تَوَقُّفِ الْمِلْكِ ) إشَارَةٌ إلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ قَوْلِهِ وَلَهُ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ مَقْهُورٌ تَحْتَ أَيْدِينَا ( وَتَوَقُّفِ التَّصَرُّفَاتِ بِنَاءً عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى تَوَقُّفِ الْمِلْكِ .
وَقَوْلُهُ ( لِتَوَقُّفِ حَالِهِ ) أَيْ حَالِ الْحَرْبِيِّ بَيْنَ الِاسْتِرْقَاقِ وَالْقَتْلِ وَالْمَنِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا الْمُرْتَدُّ ) يَعْنِي : حَالُهُ يَتَوَقَّفُ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْإِسْلَامِ ، ثُمَّ هُنَاكَ إنْ اُسْتُرِقَّ أَوْ قُتِلَ بَطَلَ وَإِنْ تُرِكَ نَفَذَ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا .
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْحَرْبِيَّ الَّذِي دَخَلَ دَارَنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ يَكُونُ فَيْئًا فَكَيْفَ تَتَوَقَّفُ تَصَرُّفَاتُهُ ، وَالِاعْتِرَافُ بِجَوَازِ الْمَنِّ يُسْقِطُ الِاعْتِرَاضَ .
وَقَوْلُهُ ( وَاسْتِحْقَاقُهُ الْقَتْلَ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَلَا خَفَاءَ فِي الْأَهْلِيَّةِ .
وَتَقْرِيرُهُ : لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ الْأَهْلِيَّةِ لِأَنَّ الصِّحَّةَ تَقْتَضِي أَهْلِيَّةً كَامِلَةً وَلَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ فِي الْمُرْتَدِّ ، كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ فِي الْحَرْبِيِّ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ لِبُطْلَانِ سَبَبِ الْعِصْمَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ آدَمِيًّا مُسْلِمًا وَذَلِكَ يُوجِبُ الْخَلَلَ فِي الْأَهْلِيَّةِ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الْفَصْلَيْنِ ) يُرِيدُ بِهِ فَصْلَ الْحَرْبِيِّ وَفَصْلَ الْمُرْتَدِّ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ اسْتِحْقَاقُ الْقَتْلِ مُوجِبًا لِخَلَلٍ فِي الْأَهْلِيَّةِ مُؤَثِّرًا فِي تَوَقُّفِ التَّصَرُّفَاتِ لَكَانَ تَصَرُّفَاتُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الرَّجْمَ وَقَاتِلِ الْعَمْدِ مَوْقُوفَةً لِاسْتِحْقَاقِهِمَا الْقَتْلَ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ فِي ذَلِكَ ) يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ الْمُوجِبَ لِلْخَلَلِ وَهُوَ مَا كَانَ بِاعْتِبَارِ بُطْلَانِ سَبَبِ الْعِصْمَةِ ، وَالزَّانِي وَالْقَاتِلُ لَيْسَا كَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ فِيهِمَا ( جَزَاءٌ عَلَى الْجِنَايَةِ ) وَقَوْلُهُ وَبِخِلَافِ الْمَرْأَةِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا
وَصَارَ كَالْمُرْتَدَّةِ .
( فَإِنْ عَادَ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ الْحُكْمِ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا فَمَا وَجَدَهُ فِي يَدِ وَرَثَتِهِ مِنْ مَالِهِ بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ ) ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا يَخْلُفُهُ فِيهِ لِاسْتِغْنَائِهِ ، وَإِذَا عَادَ مُسْلِمًا احْتَاجَ إلَيْهِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا أَزَالَهُ الْوَارِثُ عَنْ مِلْكِهِ ، وَبِخِلَافِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ قَدْ صَحَّ بِدَلِيلٍ مُصَحَّحٍ فَلَا يُنْقَضُ ، وَلَوْ جَاءَ مُسْلِمًا قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِذَلِكَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا لِمَا ذَكَرْنَا .
قَالَ ( فَإِنْ عَادَ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ الْحُكْمِ بِلِحَاقِهِ ) أَيْ إذَا عَادَ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ الْحُكْمِ بِلِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ( مُسْلِمًا فَمَا وَجَدَهُ فِي يَدِ وَرَثَتِهِ مِنْ مَالِهِ بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ ) لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا يَخْلُفُهُ فِيهِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ حَيْثُ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ ( وَإِذَا عَادَ مُسْلِمًا احْتَاجَ إلَيْهِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْوَارِثِ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا : وَلَوْ كَانَ هَذَا بَعْدَ مَوْتِهِ حَقِيقَةً بِأَنْ أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَعَادَهُ إلَى الدُّنْيَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ هَكَذَا إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الْعَادَةِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا أَزَالَهُ الْوَارِثُ عَنْ مِلْكِهِ ) فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ لِأَنَّهُ أَزَالَهُ فِي وَقْتٍ كَانَ فِيهِ بِسَبِيلٍ مِنْ الْإِزَالَةِ فَنَفَذَتْ ( وَبِخِلَافِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَالْمُدَبَّرِينَ ) فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِمْ ( لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِعِتْقِهِمْ قَدْ صَحَّ بِدَلِيلٍ مُصَحَّحٍ ) وَهُوَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ عَنْ وِلَايَةٍ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ لَهُ أَنْ يُمِيتَهُ حَقِيقَةً ، فَإِذَا خَرَجَ عَنْ وِلَايَتِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يُمِيتَهُ حُكْمًا ، فَإِذَا كَانَ قَضَاؤُهُ عَنْ وِلَايَةٍ نَفَذَ ، وَالْعِتْقُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ ( وَلَوْ جَاءَ مُسْلِمًا قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِذَلِكَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا ) فَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ عَلَى حَالِهِمْ لَا يَعْتِقُونَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الدُّيُونِ فَهُوَ إلَى أَجَلِهِ كَمَا كَانَتْ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ لِحَاقُهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي .
( وَإِذَا وَطِئَ الْمُرْتَدُّ جَارِيَةً نَصْرَانِيَّةً كَانَتْ لَهُ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ ارْتَدَّ فَادَّعَاهُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَالْوَلَدُ حُرٌّ وَهُوَ ابْنُهُ وَلَا يَرِثُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ مُسْلِمَةً وَرِثَهُ الِابْنُ إنْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ) أَمَّا صِحَّةُ الِاسْتِيلَادِ فَلِمَا قُلْنَا ، وَأَمَّا الْإِرْثُ فَلِأَنَّ الْأُمَّ إذَا كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً وَالْوَلَدُ تَبَعٌ لَهُ لِقُرْبِهِ إلَى الْإِسْلَامِ لِلْجَبْرِ عَلَيْهِ فَصَارَ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدُّ لَا يَرِثُ الْمُرْتَدَّ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ مُسْلِمَةً فَالْوَلَدُ مُسْلِمٌ تَبَعًا لَهَا ؛ لِأَنَّهَا خَيْرُهُمَا دِينًا وَالْمُسْلِمُ يَرِثُ الْمُرْتَدَّ .وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا وَطِئَ الْمُرْتَدُّ جَارِيَةً نَصْرَانِيَّةً ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَلِمَا قُلْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ ثُمَّ حُكْمُ تَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ حُكْمُ الْأَكْثَرِ مِنْهَا ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَإِنَّ الْوَلَدَ يَرِثُ أَبَاهُ الْمُرْتَدَّ وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ نَصْرَانِيَّةً ، لِأَنَّا تَيَقَّنَّا حِينَئِذٍ بِوُجُودِهِ فِي الْبَطْنِ قَبْلَ الرِّدَّةِ فَيَكُونُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأَبِيهِ ، وَأَمَّا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ لَمْ يَتَيَقَّنْ بِعُلُوقِ الْوَلَدِ قَبْلَ الرِّدَّةِ فَلَا يُجْعَلُ الْوَلَدُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ الْأَبِ قَبْلَ الرِّدَّةِ
( وَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِمَالِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ فَهُوَ فَيْءٌ ، فَإِنْ لَحِقَ ثُمَّ رَجَعَ وَأَخَذَ مَالًا وَأَلْحَقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ فَظُهِرَ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ فَوَجَدَتْهُ الْوَرَثَةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ رُدَّ عَلَيْهِمْ ) ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَالٌ لَمْ يَجْرِ فِيهِ الْإِرْثُ ، وَالثَّانِيَ انْتَقَلَ إلَى الْوَرَثَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ فَكَانَ الْوَارِثُ مَالِكًا قَدِيمًا .( وَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِمَالِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ فَهُوَ فَيْءٌ ) أَيْ الْمَالُ فَيْءٌ دُونَ نَفْسِهِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ فَيْئًا دُونَ نَفْسِهِ كَمُشْرِكِي الْعَرَبِ ( وَإِنْ لَحِقَ ثُمَّ رَجَعَ ) يَعْنِي وَإِنْ لَحِقَ وَحَكَمَ الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ ثُمَّ رَجَعَ ( وَأَخَذَ مَالًا وَأَلْحَقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ فَظَهَرَ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ فَوَجَدَتْهُ الْوَرَثَةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ رُدَّ عَلَيْهِمْ ) وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ الْأَوَّلَ مَالٌ لَمْ يَجْرِ فِيهِ الْإِرْثُ فَهُوَ مَالُ الْحَرْبِيِّ ، وَإِذَا ظَهَرَ عَلَى مَالِ الْحَرْبِيِّ فَهُوَ فَيْءٌ لَا مَحَالَةَ ( وَالثَّانِي انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ فَكَانَ الْوَارِثُ مَالِكًا قَدِيمًا ) وَالْمَالِكُ الْقَدِيمُ إذَا وَجَدَ مَالَهُ فِي الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ مَجَّانًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي حَكَمَ بِلِحَاقِهِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ؛ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُرَدُّ عَلَى الْوَرَثَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مَتَى لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَعُودُ فَكَانَ مَيِّتًا ظَاهِرًا .
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ السِّيَرِ يَكُونُ فَيْئًا لَا حَقَّ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ إلَّا بِالْقَضَاءِ
( وَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَهُ عَبْدٌ فَقُضِيَ بِهِ لِابْنِهِ وَكَاتَبَهُ الِابْنُ ثُمَّ جَاءَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا فَالْكِتَابَةُ جَائِزَةٌ ، وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْوَلَاءُ لِلْمُرْتَدِّ الَّذِي أَسْلَمَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى بُطْلَانِ الْكِتَابَةِ لِنُفُوذِهَا بِدَلِيلٍ مُنَفِّذٍ ، فَجَعَلْنَا الْوَارِثَ الَّذِي هُوَ خَلَفُهُ كَالْوَكِيلِ مِنْ جِهَتِهِ ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ فِيهِ تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ ، وَالْوَلَاءُ لِمَنْ يَقَعُ الْعِتْقُ عَنْهُ .( وَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَهُ عَبْدٌ فَقَضَى بِهِ لِابْنِهِ فَكَاتَبَهُ الِابْنُ ثُمَّ جَاءَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا فَالْكِتَابَةُ جَائِزَةٌ ، وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْوَلَاءُ لِلْمُرْتَدِّ الَّذِي أَسْلَمَ ) أَمَّا جَوَازُ الْكِتَابَةِ ( فَلِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى بُطْلَانِهَا لِنُفُوذِهَا بِدَلِيلٍ مُنَفَّذٍ ) وَهُوَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِاللِّحَاقِ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يَبْقَى الْمُكَاتَبُ عَلَى مِلْكِ الِابْنِ أَوْ يَنْتَقِلَ إلَى الْأَبِ ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تُخِلُّ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا عَادَ مُسْلِمًا أَخَذَ مَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ فِي يَدِ وَارِثِهِ ، وَلَا إلَى الثَّانِي لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ فَجَعَلْنَا الْوَارِثَ الَّذِي هُوَ خَلَفُهُ كَالْوَكِيلِ مِنْ جِهَتِهِ لِأَنَّ فِي الْوَكَالَةِ خِلَافَةً احْتِيَالًا لِبَقَاءِ حُكْمِ الْحَاكِمِ فِي صِحَّةِ الْكِتَابَةِ فَكَأَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي كِتَابَةِ عَبْدِهِ ( وَحُقُوقُ الْعَقْدِ فِيهِ ) أَيْ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ ( تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ ) وَأَمَّا أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُرْتَدِّ الَّذِي أَسْلَمَ فَلِأَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ ، وَالْعِتْقُ إنَّمَا يَحْصُلُ مِنْهُ بَعْدَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَ مُسْلِمًا بَعْدَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ الَّذِي كَانَ لَهُ لَمْ يَبْقَ قَائِمًا حِينَئِذٍ .
( وَإِذَا قَتَلَ الْمُرْتَدُّ رَجُلًا خَطَأً ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ قَتَلَ عَلَى رِدَّتِهِ فَالدِّيَةُ فِي مَالٍ اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ خَاصَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : الدِّيَةُ فِيمَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ جَمِيعًا ) ؛ لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْمُرْتَدَّ ؛ لِانْعِدَامِ النُّصْرَةِ فَتَكُونُ فِي مَالِهِ .
وَعِنْدَهُمَا الْكَسْبَانِ جَمِيعًا مَالُهُ ؛ لِنُفُوذِ تَصَرُّفَاتِهِ فِي الْحَالَيْنِ ، وَلِهَذَا يَجْرِي الْإِرْثُ فِيهِمَا عِنْدَهُمَا .
وَعِنْدَهُ مَالُهُ الْمُكْتَسَبُ فِي الْإِسْلَامِ ؛ لِنَفَاذِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ دُونَ الْمَكْسُوبِ فِي الرِّدَّةِ ؛ لِتَوَقُّفِ تَصَرُّفِهِ ، وَلِهَذَا كَانَ الْأَوَّلُ مِيرَاثًا عَنْهُ ، وَالثَّانِي فَيْئًا عِنْدَهُ .قَالَ ( وَإِذَا قَتَلَ الْمُرْتَدُّ رَجُلًا ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِانْعِدَامِ النُّصْرَةِ ) يَعْنِي أَنَّ التَّعَاقُلَ إنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ التَّنَاصُرِ ، وَأَحَدٌ لَا يَنْصُرُ الْمُرْتَدَّ فَتَكُونُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ كَسَائِرِ دُيُونِهِ وَمَالُهُ هُوَ الْمُكْتَسَبُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ دُونَ الرِّدَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( وَعِنْدَهُمَا الْكَسْبَانِ جَمِيعًا مَالُهُ ) فَقَوْلُهُ وَعِنْدَهُ مَالُهُ الْمُكْتَسَبُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ ، وَكَانَ الْمَقَامُ مُقْتَضِيًا لِضَمِيرِ الْفَصْلِ لِيَفْصِلَهُ عَنْ الصِّفَةِ
( وَإِذَا قُطِعَتْ يَدُ الْمُسْلِمِ عَمْدًا فَارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ جَاءَ مُسْلِمًا فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى الْقَاطِعِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ لِلْوَرَثَةِ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ السِّرَايَةَ حَلَّتْ مَحَلًّا غَيْرَ مَعْصُومٍ فَأُهْدِرَتْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ يَدُ الْمُرْتَدِّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِهْدَارَ لَا يَلْحَقُهُ الِاعْتِبَارُ ، أَمَّا الْمُعْتَبَرُ قَدْ يُهْدَرُ بِالْإِبْرَاءِ فَكَذَا بِالرِّدَّةِ .
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا لَحِقَ وَمَعْنَاهُ إذَا قُضِيَ بِلَحَاقِهِ فَلِأَنَّهُ صَارَ مَيِّتًا تَقْدِيرًا ، وَالْمَوْتُ يَقْطَعُ السِّرَايَةَ ، وَإِسْلَامُهُ حَيَاةٌ حَادِثَةٌ فِي التَّقْدِيرِ فَلَا يَعُودُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ، فَإِذَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ ( فَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ وَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ : فِي جَمِيعِ ذَلِكَ نِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ اعْتِرَاضَ الرِّدَّةِ أَهْدَرَ السِّرَايَةَ فَلَا يَنْقَلِبُ بِالْإِسْلَامِ إلَى الضَّمَانِ ، كَمَا إذَا قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ فَأَسْلَمَ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ عَلَى مَحَلٍّ مَعْصُومٍ وَتَمَّتْ فِيهِ فَيَجِبُ ضَمَانُ النَّفْسِ ، كَمَا إذَا لَمْ تَتَخَلَّلْ الرِّدَّةُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِقِيَامِ الْعِصْمَةِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْجِنَايَةِ ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ قِيَامُهَا فِي حَالِ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَفِي حَالِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ ، وَحَالَةُ الْبَقَاءِ بِمَعْزِلٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَصَارَ كَقِيَامِ الْمِلْكِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْيَمِينِ .
( قَوْلُهُ أَمَّا الْأَوَّلُ ) يَعْنِي مَا إذَا مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ ( قَوْلُهُ فَأُهْدِرَتْ ) يَعْنِي السِّرَايَةَ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تُهْدَرْ لَوَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي الْخَطَإِ لِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ صَارَ نَفْسًا ( بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ يَدُ الْمُرْتَدِّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ ) فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْقَاطِعُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مَعْصُومًا وَقْتَ السِّرَايَةِ ( لِأَنَّ الْإِهْدَارَ لَا يَلْحَقُهُ الِاعْتِبَارُ ) يَعْنِي إذَا لَمْ يَقَعْ مُعْتَبَرًا ابْتِدَاءً لَا يَنْقَلِبُ مُعْتَبَرًا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُوجِبِ لَا يَنْقَلِبُ مُوجِبًا ( أَمَّا الْمُعْتَبَرُ فَقَدْ يُهْدَرُ بِالْإِبْرَاءِ فَكَذَلِكَ بِالرِّدَّةِ .
قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ وَأَسْلَمَ ) يَعْنِي إذَا قَطَعَ يَدَ الْمُسْلِمِ ثُمَّ ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَلْحَقْ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةٌ ( قَوْلُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ) أَيْ فِيمَا إذَا مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ ثُمَّ جَاءَ مُسْلِمًا أَوْ لَمْ يَلْحَقْ وَأَسْلَمَ وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ اعْتِرَاضَ الرِّدَّةِ أَهْدَرَ السِّرَايَةَ فَلَا يَنْقَلِبُ بِالْإِسْلَامِ إلَى الضَّمَانِ ) دَلِيلُهُ أَنَّ الرِّدَّةَ مَعْنًى لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ لَمْ يَجِبْ بِالسِّرَايَةِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَمُتْ عَلَيْهِ كَعَبْدٍ قُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ بَاعَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ اشْتَرَاهُ أَوْ تَفَاسَخَا الْبَيْعَ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ لَمْ يَجِبْ إلَّا دِيَةُ الْيَدِ كَمَا لَوْ مَاتَ عَلَى الْبَيْعِ ، لِأَنَّ الْبَيْعَ مَعْنًى لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ لَمْ يَجِبْ بِالسِّرَايَةِ شَيْءٌ ، لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْبَيْعِ إبْرَاءٌ عَنْ الْجِنَايَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، وَصَارَ كَمَا إذَا قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ فَأَسْلَمَ سَوَاءٌ مَاتَ مِنْ الْقَطْعِ أَوْ لَمْ يَمُتْ حَيْثُ لَا يَجِبُ ضَمَانُ النَّفْسِ فِي الْأَوَّلِ وَلَا ضَمَانُ الْيَدِ فِي الثَّانِي بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمَارِّ أَنَّ الْمُهْدَرَ لَا يَلْحَقُهُ الِاعْتِبَارُ ( وَلَهُمَا أَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ عَلَى مَحَلٍّ مَعْصُومٍ )
لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ قَطَعَ يَدَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ وَتَمَّتْ عَلَى مَحَلٍّ مَعْصُومٍ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ لَمْ يَلْحَقْ وَأَسْلَمَ فَيَجِبُ ضَمَانُ النِّصْفِ وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ ( وَصَارَ كَقِيَامِ الْمِلْكِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْيَمِينِ ) يَعْنِي إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ عَتَقَ ، أَمَّا لَوْ عُدِمَ الْمِلْكُ عِنْدَ الْيَمِينِ أَوْ عِنْدَ الْحِنْثِ لَمْ يَعْتِقْ .
وَفَرَّقَ بَيْنَ الرِّدَّةِ وَالْبَيْعِ بِأَنَّ الرِّدَّةَ لَيْسَتْ بِإِبْرَاءٍ وَلَا مُسْتَلْزِمَةً لَهُ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِتَبْدِيلِ الدِّينِ وَتَصِحُّ مِنْ غَيْرِ إبْرَاءٍ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا مَاتَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ لِهَدْرِ دَمِهِ بِالرِّدَّةِ ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَبْدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْبَيْعَ وُضِعَ لِقَطْعِ مِلْكِهِ وَالضَّمَانُ بَدَلُ مِلْكِهِ ، فَإِذَا قُطِعَ الْأَصْلُ قَصْدًا فَقَدْ قُطِعَ الْبَدَلُ أَيْضًا فَصَارَ كَالْإِبْرَاءِ .
وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قِيَاسٌ ، وَقَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اسْتِحْسَانٌ .
وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا كَانَ الْقَاطِعُ هُوَ الَّذِي ارْتَدَّ فَقُتِلَ وَمَاتَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ بِالسِّرَايَةِ مُسْلِمًا .
وَحُكْمُهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَمْدًا فَلَا شَيْءَ لَهُ ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْعَمْدِ الْقَوَدُ ، وَقَدْ فَاتَ مَحَلُّهُ حِين قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَاطِعِ دِيَةُ النَّفْسِ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْجِنَايَةِ كَانَ مُسْلِمًا ، وَجِنَايَةُ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَتْ خَطَأً عَلَى عَاقِلَتِهِ وَتَبِينُ بِالسِّرَايَةِ أَنَّ جِنَايَتَهُ كَانَتْ قَتْلًا فَلِهَذَا كَانَتْ عَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَةُ النَّفْسِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ كَانَتْ الدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ فِي مَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَعْقِلُ جِنَايَتَهُ أَحَدٌ .
( وَاذَا ارْتَدَّ الْمُكَاتَبُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَاكْتَسَبَ مَالًا فَأُخِذَ بِمَالِهِ وَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ فَقُتِلَ فَإِنَّهُ يُوَفِّي مَوْلَاهُ مُكَاتَبَتَهُ وَمَا بَقِيَ فَلِوَرَثَتِهِ ) وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِهِمَا ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الرِّدَّةِ مِلْكُهُ إذَا كَانَ حُرًّا ، فَكَذَا إذَا كَانَ مُكَاتَبًا .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إنَّمَا يَمْلِكُ أَكْسَابَهُ بِالْكِتَابَةِ ، وَالْكِتَابَةُ لَا تَتَوَقَّفُ بِالرِّدَّةِ فَكَذَا أَكْسَابُهُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُهُ بِالْأَقْوَى وَهُوَ الرِّقُّ ، فَكَذَا بِالْأَدْنَى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى .
وَقَوْلُهُ ( وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُرْتَدِّ الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ حَيْثُ لَمْ يَجْعَلْ كَسْبَهُ مِلْكًا لَهُ إذَا كَانَ حُرًّا وَجَعَلَهُ مِلْكًا لَهُ إذَا كَانَ مُكَاتَبًا .
وَجْهُ الْفَرْقِ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ أَكْسَابَهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وَعَقْدُ الْكِتَابَةِ لَا يَتَوَقَّفُ بِالرِّدَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ بِحَقِيقَةِ الْمَوْتِ فَكَذَا بِاللِّحَاقِ الَّذِي هُوَ شِبْهُ الْمَوْتِ ، وَإِذَا لَمْ يَتَوَقَّفْ الْعَقْدُ لَمْ تَتَوَقَّفْ الْأَكْسَابُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِهِ وَاسْتَوْضَحَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( أَلَا تَرَى أَنَّهُ ) أَيْ الْمُكَاتَبَ ( لَا يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُهُ بِالْأَقْوَى وَهُوَ الرِّقُّ فَكَذَا بِالْأَدْنَى ) يَعْنِي الرِّدَّةَ ( بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ) وَإِنَّمَا كَانَ الرِّقُّ أَقْوَى مِنْ الرِّدَّةِ فِي الْمَانِعِيَّةِ عَنْ التَّصَرُّفِ لِأَنَّ بَعْضَ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ نَافِذٌ بِالْإِجْمَاعِ كَالِاسْتِيلَادِ وَالطَّلَاقِ .
وَعِنْدَهُمَا عَامَّةُ تَصَرُّفَاتِهِ نَافِذَةٌ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَغَيْرِهِمَا ، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَمَمْنُوعٌ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ كُلِّهَا ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَتَوَقَّفْ تَصَرُّفُ الْمُكَاتَبِ مَعَ كَوْنِهِ رَقِيقًا لَمْ يَتَوَقَّفْ تَصَرُّفُهُ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ مُرْتَدٌّ أَوْلَى .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ : قُلْت لِشَيْخِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ مَنْعِ الرِّقِّ الْمُكَاتَبَ عَنْ التَّصَرُّفِ عَدَمُ مَنْعِ الرِّدَّةِ عَنْهُ ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَمْنَعْهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ جَازَ أَنْ يَمْنَعَاهُ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ ، لِأَنَّ لِلِاجْتِمَاعِ تَأْثِيرًا كَمَا فِي الشَّاهِدَيْنِ ، ثُمَّ اجْتَمَعَ هَاهُنَا لِلْمُكَاتَبِ ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ كَوْنُهُ مُكَاتَبًا وَرَقِيقًا وَمُرْتَدًّا ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا عِنْدَ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَمَّا الْكِتَابَةُ فَهِيَ مُطْلَقَةٌ لِلتَّصَرُّفِ لَا مَانِعَةٌ ، وَأَمَّا الرِّقُّ وَالرِّدَّةُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ فِي
الْمَنْعِ عَنْ التَّصَرُّفِ بِانْفِرَادِهِ فَلَا يَثْبُتُ الرُّجْحَانُ بِزِيَادَةِ الْعِلَّةِ ، كَمَا إذَا أَقَامَ أَحَدُ الْمُدَّعِينَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهُودِ ، بَلْ الرُّجْحَانُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِوَصْفٍ فِي الْعِلَّةِ لَا بِالْعِلَّةِ نَفْسِهَا إلَى هَذَا لَفْظُهُ .
وَأَرَى أَنَّ الْجَوَابَ بِحَسَبِ النَّظَرِ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلسُّؤَالِ لِأَنَّهُ مَا أُبْرِزَ السُّؤَالُ مِنْ حَيْثُ إنَّ إحْدَى عِلَّتَيْ الْمَنْعِ تُعَارِضُ عِلَّةَ الْإِطْلَاقِ وَتَتَرَجَّحُ بِالْأُخْرَى ، بَلْ أُبْرِزَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَانِعًا عَنْ التَّصَرُّفِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْهَيْئَةَ بِالِاجْتِمَاعِيَّةِ لَهَا مِنْ الْخَوَاصِّ مَا لَيْسَ لِكُلٍّ عَلَى الِانْفِرَادِ ، وَلَعَلَّ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ إنَّمَا يَكُونُ لَهَا زِيَادَةُ تَأْثِيرٍ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَحْصُلَ مِنْ تَرْكِيبِهَا أَمْرٌ خَارِجِيٌّ أَوْ اعْتِبَارٌ حَقِيقِيٌّ لَا فَرْضِيٌّ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ مِنْ الرِّقِّ وَالرِّدَّةِ .
( وَإِذَا ارْتَدَّ الرَّجُلُ وَامْرَأَتُهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ فَحَبِلَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَوَلَدَتْ وَلَدًا وَوُلِدَ لِوَلَدِهِمَا وَلَدٌ فَظُهِرَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا فَالْوَلَدَانِ فَيْءٌ ) ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُسْتَرَقُّ فَيَتْبَعُهَا وَلَدُهَا ، وَيُجْبَرُ الْوَلَدُ الْأَوَّلُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُجْبَرُ وَلَدُ الْوَلَدِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجْبَرُ تَبَعًا لِلْجَدِّ ، وَأَصْلُهُ التَّبَعِيَّةُ فِي الْإِسْلَام وَهِيَ رَابِعَةُ أَرْبَعِ مَسَائِلَ كُلُّهَا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَالثَّانِيَةُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ .
وَالثَّالِثَةُ جَرُّ الْوَلَاءِ .
وَالْأُخْرَى الْوَصِيَّةُ لِلْقَرَابَةِ .
قَالَ ( وَإِذَا ارْتَدَّ الرَّجُلُ وَامْرَأَتُهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ) قِيلَ قَوْلُهُ فَحَبِلَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ تَقْيِيدُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ اتِّفَاقِيٌّ فَإِنَّهَا إنْ حَبِلَتْ فِي دَارِنَا ثُمَّ لَحِقَتْ بِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ ، وَلَعَلَّهُ ذَكَرَهُ لِفَائِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْعُلُوقَ إذَا كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ أَبْعَدَ عَنْ الْإِسْلَامِ ، وَإِذَا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الدَّارِ لِكَوْنِ الدَّارِ جِهَةً فِي الِاسْتِتْبَاعِ ، فَالْجَبْرُ هُنَاكَ يَكُونُ جَبْرًا هَاهُنَا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُجْبَرُ وَلَدُ الْوَلَدِ ) وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا تَبَعًا لِلْجَدِّ كَانَ تَبَعًا لِلْجَدِّ جَدُّهُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُسْلِمِينَ بِتَبَعِيَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَوْ كَانَ تَبَعًا لِأَبِيهِ وَهُوَ تَبَعٌ لَكَانَ التَّبَعُ مُسْتَتْبِعًا لِغَيْرِهِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ يُجْبَرُ تَبَعًا لِلْجَدِّ ) لِأَنَّ التَّبَعِيَّةَ فِي حَقِّ الْأَبِ لِلتَّفَرُّعِ ، وَالتَّفَرُّعُ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْجَدِّ وَلِهَذَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي النِّكَاحِ وَبَيْعِ مَالِ الصَّغِيرِ .
وَقَوْلُهُ ( كُلُّهَا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ ) يَعْنِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَمْ يُجْعَلْ الْجَدُّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ جُعِلَ الْجَدُّ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ ، أَمَّا صَيْرُورَةُ الْوَلَدِ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ جَدِّهِ فَهِيَ مَا ذَكَرْنَا ، وَأَمَّا صُورَةُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَهِيَ أَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ فَقِيرًا أَوْ عَبْدًا وَالْجَدُّ مُوسِرٌ هَلْ تَجِبُ فِطْرَةُ الْحَافِدِ عَلَيْهِ أَوْ لَا ؟ وَأَمَّا صُورَةُ جَرِّ الْوَلَاءِ فَلِأَنَّهُ إذَا أُعْتِقَ الْجَدُّ وَالْحَافِدُ حُرٌّ وَالْأَبُ رَقِيقٌ هَلْ يَكُونُ وَلَاءُ الْحَافِدِ لِمَوَالِي الْجَدِّ أَوْ لَا يَكُونُ .
وَصُورَةُ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرَابَةِ إذَا أَوْصَى رَجُلٌ لِذِي قَرَابَتِهِ
لَا يَدْخُلُ الْوَالِدَانِ فِيهَا ، وَهَلْ يَدْخُلُ الْجَدُّ أَوْلَى عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسَائِلَ فِي شَرْحِ الْفَرَائِضِ السِّرَاجِيَّةِ وَشَرْحِ رِسَالَتِنَا .
قَالَ ( وَارْتِدَادُ الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ ارْتِدَادٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُ ، وَإِسْلَامُهُ إسْلَامٌ لَا يَرِثُ أَبَوَيْهِ إنْ كَانَا كَافِرَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : ارْتِدَادُهُ لَيْسَ بِارْتِدَادٍ وَإِسْلَامُهُ إسْلَامٌ ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : إسْلَامُهُ لَيْسَ بِإِسْلَامٍ وَارْتِدَادُهُ لَيْسَ بِارْتِدَادٍ .
لَهُمَا فِي الْإِسْلَامِ أَنَّهُ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ فِيهِ فَلَا يُجْعَلُ أَصْلًا .
وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَحْكَامًا تَشُوبُهَا الْمَضَرَّةُ فَلَا يُؤَهَّلُ لَهُ .
وَلَنَا فِيهِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْلَمَ فِي صِبَاهُ ، وَصَحَّحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إسْلَامَهُ ، وَافْتِخَارُهُ بِذَلِكَ مَشْهُورٌ .
وَلِأَنَّهُ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ مَعَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ عَنْ طَوْعٍ دَلِيلٌ عَلَى الِاعْتِقَادِ عَلَى مَا عُرِفَ وَالْحَقَائِقُ لَا تُرَدُّ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ سَعَادَةٌ أَبَدِيَّةٌ وَنَجَاةٌ عَقْبَاوِيَّةٌ ، وَهِيَ مِنْ أَجَلِّ الْمَنَافِعِ وَهُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ ، ثُمَّ يُبْتَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهَا فَلَا يُبَالِي بِشَوْبِهِ .
وَلَهُمْ فِي الرِّدَّةِ أَنَّهَا مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ ، بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ أَعْلَى الْمَنَافِعِ عَلَى مَا مَرَّ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فِيهَا أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ حَقِيقَةً ، وَلَا مَرَدَّ لِلْحَقِيقَةِ كَمَا قُلْنَا فِي الْإِسْلَامِ ، إلَّا أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ لَهُ ، وَلَا يُقْتَلُ ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ ، وَالْعُقُوبَاتُ مَوْضُوعَةٌ عَنْ الصِّبْيَانِ مَرْحَمَةً عَلَيْهِمْ .
وَهَذَا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ .
وَقَوْلُهُ ( وَارْتِدَادُ الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ ارْتِدَادٌ ) يَعْنِي يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ فَيَبْطُلُ نِكَاحُهُ وَيَحْرُمُ عَنْ الْمِيرَاثِ وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُ وَإِنْ أُدْرِكَ كَافِرًا وَيُحْبَسُ ، وَتَوْجِيهُ تَحْرِيرِ الْمَذَاهِبِ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لَهُمَا ) أَيْ لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( أَنَّهُ ) أَيْ الصَّبِيَّ الَّذِي يَعْقِلُ ( تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ فِيهِ ) أَيْ فِي الْإِسْلَامِ ( فَلَا يُجْعَلُ أَصْلًا ) يَعْنِي يَصِحُّ إسْلَامُهُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِلْأَبَوَيْنِ فَلَا يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ، إذْ التَّبَعِيَّةُ دَلِيلُ الْعَجْزِ وَالْأَصَالَةُ دَلِيلُ الْقُدْرَةِ ، وَبَيْنَ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ تَنَافٍ وَأَحَدُ الْمُتَنَافِيَيْنِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ مَوْجُودٌ بِالْإِجْمَاعِ فَيَنْتَفِي الْآخَرُ ضَرُورَةً .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ ) دَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ وَاضِحٌ ( قَوْلُهُ وَافْتِخَارُهُ بِذَلِكَ مَشْهُورٌ ) يُشِيرُ إلَى مَا قَالَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : سَبَقْتُكُمُو إلَى الْإِسْلَامِ طُرًّا غُلَامًا مَا بَلَغْتُ أَوَانَ حُلْمِي وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي سِنِّهِ حِين أَسْلَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَحِينَ مَاتَ .
قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ : أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ فِي أَوَّلِ مَبْعَثِهِ وَمُدَّةُ الْبَعْثِ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً وَالْخِلَافَةُ بَعْدَهُ ثَلَاثُونَ انْتَهَتْ بِمَوْتِ عَلِيٍّ ، فَإِذَا ضَمَمْت خَمْسًا إلَى ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ صَارَ ثَمَانِيًا وَخَمْسِينَ .
وَقَالَ الْقُتَبِيُّ : أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ سِتِّينَ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ ) دَلِيلٌ آخَرُ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ ( قَوْلُهُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ سَعَادَةٌ أَبَدِيَّةٌ ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى التَّصْدِيقِ : أَيْ هُوَ التَّصْدِيقُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ وَاوٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مُبْتَدَأً ، وَقَوْلُهُ سَعَادَةٌ أَبَدِيَّةٌ خَبَرَهُ وَهُوَ الْأَوْلَى ، وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَحْكَامًا تَشُوبُهَا الْمَضَرَّةُ .
وَعُورِضَ بِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ إسْلَامُهُ بِنَفْسِهِ وَقَعَ فَرْضًا لِأَنَّهُ لَا نَفْلَ فِي الْإِيمَانِ وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ فَرْضًا أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبًا بِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالِاتِّفَاقِ ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُهُ فَرْضًا لَمْ يَصِحَّ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّهُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ فَرْضًا أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبًا .
فَإِنَّ الْمُسَافِرَ إذَا حَضَرَ الْجُمُعَةَ وَصَلَّى وَقَعَ فَرْضًا وَلَيْسَ بِمُخَاطَبٍ بِهِ ، وَمَنْ صَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَقَعَ فَرْضًا وَهُوَ لَيْسَ بِمُخَاطَبٍ بِهِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّهُ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ فِيهِ فَلَا يُجْعَلُ أَصْلًا أَنَّ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ مُؤَيَّدَةٌ بِالْأُخْرَى فَلَا يَكُونَانِ مُتَنَافِيَيْنِ ، وَذَلِكَ كَالْجُنْدِيِّ إذَا سَافَرَ مَعَ السُّلْطَانِ وَنَوَى السَّفَرَ فَهُوَ مُسَافِرٌ بِنِيَّةٍ مَقْصُودَةٍ وَتَبَعًا لِلسُّلْطَانِ أَيْضًا ( قَوْلُهُ وَلَهُمْ ) أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيهَا ) أَيْ فِي الرِّدَّةِ ( أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ حَقِيقَةً وَلَا مَرَدَّ لِلْحَقِيقَةِ كَمَا قُلْنَا فِي الْإِسْلَامِ ) فَإِنَّ رَدَّ الرِّدَّةِ يَكُونُ بِالْعَفْوِ عَنْهَا وَذَلِكَ قَبِيحٌ ، كَمَا أَنَّ رَدَّ الْإِسْلَامِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْحَجْرِ عَنْهُ وَهُوَ كَذَلِكَ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا اعْتِبَارُ مَا هُوَ مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ بِمَا هُوَ مَنْفَعَةٌ مَحْضَةٌ وَذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِالْقِيَاسِ ، وَفَرَّقَ الشَّارِعُ بَيْنَهُمَا ، وَمِثْلُهُ فَاسِدٌ فِي الْوَضْعِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ مِنَّا بِوُجُودِ شَيْءٍ وَتَحَقُّقِهِ بِوُجُودِ شَيْءٍ آخَرَ وَتَحَقُّقِهِ فِي عَدَمِ جَوَازِ الرَّدِّ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الشَّارِعَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ) هَذَا جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ وَفِي الْقِيَاسِ يُقْتَلُ لِرِدَّتِهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ وَالْعُقُوبَاتُ مَوْضُوعَةٌ عَنْ الصِّبْيَانِ مَرْحَمَةٌ عَلَيْهِمْ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ عُقُوبَةَ الْقَتْلِ عَنْ الصَّبِيِّ الْمُرْتَدِّ مَرْحَمَةً لِصِبَاهُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَهُوَ لَمْ يَرْحَمْ عَلَيْهِ حَتَّى عَاقَبَهُ فِي النَّارِ مُخَلَّدًا كَسَائِرِ الْكُفَّارِ ، وَذَلِكَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْأَسْرَارِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ التُّمُرْتَاشِيِّ وَمُشَارٌ إلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ .
ثُمَّ قَالَ : وَأَوْلَى مَا يُعَلَّلُ بِهِ فِي عَدَمِ قَتْلِ الصَّبِيِّ الْمُرْتَدِّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعْلِيلِ الْمَبْسُوطِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِنَّمَا لَا يُقْتَلُ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي صِحَّةِ إسْلَامِهِ فِي الصِّغَرِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَمَنْ لَا يَعْقِلُ مِنْ الصِّبْيَانِ لَا يَصِحُّ ارْتِدَادُهُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى تَغَيُّرِ الْعَقِيدَةِ ، وَكَذَا الْمَجْنُونُ وَالسَّكْرَانُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ .
بَابُ الْبُغَاةِ( بَابُ الْبُغَاةِ ) أَخَّرَ هَذَا الْبَابَ عَنْ بَابِ الْمُرْتَدِّ لِقِلَّةِ وُجُودِهِ ، وَالْبُغَاةُ جَمْعُ بَاغٍ كَالْقُضَاةِ جَمْعُ قَاضٍ ،
( وَإِذَا تَغَلَّبَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَلَدٍ وَخَرَجُوا مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ دَعَاهُمْ إلَى الْعَوْدِ إلَى الْجَمَاعَةِ وَكَشَفَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ ) ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا فَعَلَ كَذَلِكَ بِأَهْلِ حَرُورَاءَ قَبْلَ قِتَالِهِمْ ، وَلِأَنَّهُ أَهْوَنُ الْأَمْرَيْنِ .
وَلَعَلَّ الشَّرَّ يَنْدَفِعُ بِهِ فَيُبْدَأُ بِهِ .وَإِذَا تَغَلَّبَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَلَدٍ وَخَرَجُوا مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ دَعَاهُمْ إلَى الْعَوْدِ إلَى الْجَمَاعَةِ وَكَشَفَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ ) وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعَدْلِ لَوْ قَاتَلُوا مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ إلَى الْعَوْدِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا مَا يُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ .
فَحَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَحَالِ الْمُرْتَدِّينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ ( لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ حَرُورَاءَ ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَمْدُودًا وَمَقْصُورًا : قَرْيَةٌ بِالْكُوفَةِ كَانَ بِهَا أَوَّلُ تَحْكِيمِ الْخَوَارِجِ وَاجْتِمَاعُهُمْ بِسَبَبِ تَحْكِيمِ عَلِيٍّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ قَائِلِينَ إنَّ الْقِتَالَ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي } الْآيَةَ .
وَعَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ بِالتَّحْكِيمِ وَهُوَ كُفْرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } وَذَلِكَ أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْفَذَ ابْنَ عَبَّاسٍ لِيَكْشِفَ شُبْهَتَهُمْ وَيَدْعُوَهُمْ إلَى الْعَوْدِ ، فَلَمَّا ذَكَرُوا شُبْهَتَهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هَذِهِ الْحَادِثَةُ لَيْسَتْ بِأَدْنَى مِنْ بَيْضِ حَمَامٍ ، وَفِيهِ التَّحْكِيمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } فَكَانَ تَحْكِيمُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُوَافِقًا لِلنَّصِّ فَأَلْزَمَهُمْ الْحُجَّةَ ، فَتَابَ الْبَعْضُ وَأَصَرَّ الْبَعْضُ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
( وَلَا يَبْدَأُ بِقِتَالٍ حَتَّى يَبْدَءُوهُ ، فَإِنْ بَدَءُوهُ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُفَرِّقَ جَمْعَهُمْ ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ : هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ عِنْدَنَا يَجُوزُ أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِهِمْ إذَا تَعَسْكَرُوا وَاجْتَمَعُوا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ حَتَّى يَبْدَءُوا بِالْقِتَالِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُ الْمُسْلِمِ إلَّا دَفْعًا وَهُمْ مُسْلِمُونَ ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْكُفْرِ مُبِيحٌ عِنْدَهُ .
وَلَنَا أَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى الدَّلِيلِ وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ وَالِامْتِنَاعُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَظَرَ الْإِمَامُ حَقِيقَةَ قِتَالِهِمْ رُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ فَيُدَارُ عَلَى الدَّلِيلِ ضَرُورَةَ دَفْعِ شَرِّهِمْ ، وَإِذَا بَلَغَهُ أَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ السِّلَاحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُمْ وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ وَيُحْدِثُوا تَوْبَةً دَفْعًا لِلشَّرِّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ لُزُومِ الْبَيْتِ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ عَدَمِ الْإِمَامِ ، أَمَّا إعَانَةُ الْإِمَامِ الْحَقِّ فَمِنْ الْوَاجِبِ عِنْدَ الْغَنَاءِ وَالْقُدْرَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ لُزُومِ الْبَيْتِ ) يُرِيدُ بِهِ مَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفِتْنَةَ إذَا وَقَعَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَزِلَ الْفِتْنَةَ وَيَقْعُدَ فِي بَيْتِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ فَرَّ مِنْ الْفِتْنَةِ أَعْتَقَ اللَّهُ رَقَبَتَهُ مِنْ النَّارِ } ( مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ عَدَمِ الْإِمَامِ ) أَمَّا إذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى إمَامٍ وَكَانُوا آمِنِينَ بِهِ وَالسُّبُلُ آمِنَةٌ فَخَرَجَ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ يَقْوَى عَلَى الْقِتَالِ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ نَصْرًا لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي } فَإِنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ .
( فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ أُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَأُتْبِعَ مُوَلِّيهِمْ ) دَفْعًا لِشَرِّهِمْ كَيْ لَا يَلْحَقُوا بِهِمْ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ لَمْ يُجْهَزْ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَمْ يُتْبَعْ مُوَلِّيهِمْ ) لِانْدِفَاعِ الشَّرِّ دُونَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْحَالَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ إذَا تَرَكُوهُ لَمْ يَبْقَ قَتْلُهُمْ دَفْعًا .
وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ دَلِيلُهُ لَا حَقِيقَتُهُ .وَقَوْلُهُ ( أُجْهِزَ وَأُتْبِعَ ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ ، وَيُقَالُ أَجْهَزْت عَلَى الْجَرِيحِ إذَا أَسْرَعْت قَتْلَهُ وَتَمَّمْت عَلَيْهِ
( وَلَا يُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ وَلَا يُقَسَّمُ لَهُمْ مَالٌ ) لِقَوْلِ عَلِيٍّ يَوْمَ الْجَمَلِ : وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ وَلَا يُكْشَفُ سِتْرٌ وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ ، وَهُوَ الْقُدْوَةُ فِي هَذَا الْبَابِ .
وَقَوْلُهُ فِي الْأَسِيرِ تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ ، فَإِنْ كَانَتْ يَقْتُلُ الْإِمَامُ الْأَسِيرَ ، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَالْإِسْلَامُ يَعْصِمُ النَّفْسَ وَالْمَالَ( قَوْلُهُ وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ ) هُوَ مَقُولُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( وَلَا يُكْشَفُ سِتْرٌ ) أَيْ لَا تُسْبَى نِسَاؤُهُمْ ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلُوهُ قِسْمَةَ ذَلِكَ فَقَالَ : فَإِذَا قُسِمَتْ فَلِمَنْ تَكُونُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا .
وَالْقُدْوَةُ اسْمٌ لِلِاقْتِدَاءِ كَالْأُسْوَةِ اسْمٌ لِلِائْتِسَاءِ ، يُقَالُ فُلَانٌ قُدْوَةٌ : أَيْ يُقْتَدَى بِهِ ( قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا ) إشَارَةٌ ، إلَى قَوْلِهِ وَيَحْبِسُهُمْ إلَى قَوْلِهِ دَفْعًا لِلشَّرِّ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحِهِمْ إنْ احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ، وَالْكُرَاعُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ .
لَهُ أَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِرِضَاهُ .
وَلَنَا أَنَّ عَلِيًّا قَسَّمَ السِّلَاحَ فِيمَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ بِالْبَصْرَةِ وَكَانَتْ قِسْمَتُهُ لِلْحَاجَةِ لَا لِلتَّمْلِيكِ ، وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي مَالِ الْعَادِلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، فَفِي مَالِ الْبَاغِي أَوْلَى وَالْمَعْنَى فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ الْأَدْنَى لِدَفْعِ الْأَعْلَى .
( وَيَحْبِسُ الْإِمَامُ أَمْوَالَهُمْ فَلَا يَرُدُّهَا عَلَيْهِمْ وَلَا يُقَسِّمُهَا حَتَّى يَتُوبُوا فَيَرُدَّهَا عَلَيْهِمْ ) أَمَّا عَدَمُ الْقِسْمَةِ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ .
وَأَمَّا الْحَبْسُ فَلِدَفْعِ شَرِّهِمْ بِكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ وَلِهَذَا يَحْبِسُهَا عَنْهُمْ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا ، إلَّا أَنَّهُ يَبِيعُ الْكُرَاعَ ؛ لِأَنَّ حَبْسَ الثَّمَنِ أَنْظَرُ وَأَيْسَرُ ، وَأَمَّا الرَّدُّ بَعْدَ التَّوْبَةِ فَلِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ وَلَا اسْتِغْنَامَ فِيهَا .وَقَوْلُهُ ( أَمَّا عَدَمُ الْقِسْمَةِ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ : وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ ، وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ .
قَالَ : ( وَمَا جَبَاهُ أَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي غَلَبُوا عَلَيْهَا مِنْ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ لَمْ يَأْخُذْهُ الْإِمَامُ ثَانِيًا ) ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَخْذِ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْحِمَايَةِ وَلَمْ يَحْمِهِمْ ( فَإِنْ كَانُوا صَرَفُوهُ فِي حَقِّهِ أَجْزَأَ مَنْ أُخِذَ مِنْهُ ) لِوُصُولِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ ( وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا صَرَفُوهُ فِي حَقِّهِ فَعَلَى أَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُعِيدُوا ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى مُسْتَحِقِّهِ .
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ : قَالُوا الْإِعَادَةُ عَلَيْهِمْ فِي الْخَرَاجِ ؛ لِأَنَّهُمْ مُقَاتِلَةٌ فَكَانُوا مَصَارِفَ ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ ، وَفِي الْعُشْرِ إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ ، فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الزَّكَاةِ .
وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِيهِمْ فِيهِ ؛ لِظُهُورِ وِلَايَتِهِ .
( وَمَنْ قَتَلَ رَجُلًا وَهُمَا مِنْ عَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِإِمَامِ الْعَدْلِ حِينَ الْقَتْلِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا كَالْقَتْلِ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
( وَإِنْ غَلَبُوا عَلَى مِصْرٍ فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ عَمْدًا ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى الْمِصْرِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ ) وَتَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَجْرِ عَلَى أَهْلِهِ أَحْكَامُهُمْ وَأُزْعِجُوا قَبْلَ ذَلِكَ ، وَفِي ذَلِكَ لَمْ تَنْقَطِعْ وِلَايَةُ الْإِمَامِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ .قَوْلُهُ ( وَأُزْعِجُوا ) يَعْنِي أُقْلِعَ أَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ الْمِصْرِ ( قَبْلَ ذَلِكَ ) أَيْ قَبْلَ إجْرَاءِ أَحْكَامِهِمْ عَلَى أَهْلِهِ .
( وَإِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ بَاغِيًا فَإِنَّهُ يَرِثُهُ ، فَإِنْ قَتَلَهُ الْبَاغِي وَقَالَ قَدْ كُنْت عَلَى حَقٍّ وَأَنَا الْآنَ عَلَى حَقٍّ وَرِثَهُ ، وَإِنْ قَالَ قَتَلْته وَأَنَا أَعْلَمُ أَنِّي عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ يَرِثْهُ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَرِثُ الْبَاغِي فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَأَصْلُهُ أَنَّ الْعَادِلَ إذَا أَتْلَفَ نَفْسَ الْبَاغِي أَوْ مَالَهُ لَا يَضْمَنُ وَلَا يَأْثَمُ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقِتَالِهِمْ دَفْعًا لِشَرِّهِمْ ، وَالْبَاغِي إذَا قَتَلَ الْعَادِلَ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عِنْدَنَا وَيَأْثَمُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْقَدِيمِ : إنَّهُ يَجِبُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا تَابَ الْمُرْتَدُّ ، وَقَدْ أَتْلَفَ نَفْسًا أَوْ مَالًا .
لَهُ أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مَعْصُومًا أَوْ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً فَيَجِبُ الضَّمَانُ اعْتِبَارًا بِمَا قَبْلَ الْمَنَعَةِ .
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ .
وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَنْ تَأْوِيلٍ فَاسِدٍ ، وَالْفَاسِدُ مِنْهُ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ إذَا ضُمَّتْ إلَيْهِ الْمَنَعَةُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ كَمَا فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَتَأْوِيلِهِمْ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْإِلْزَامِ أَوْ الِالْتِزَامِ ، وَلَا الْتِزَامَ لِاعْتِقَادِ الْإِبَاحَةِ عَنْ تَأْوِيلٍ ، وَلَا إلْزَامَ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ ، وَالْوِلَايَةُ بَاقِيَةٌ قَبْلَ الْمَنَعَةِ وَعِنْدَ عَدَمِ التَّأْوِيلِ ثَبَتَ الِالْتِزَامُ اعْتِقَادًا ، بِخِلَافِ الْإِثْمِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنَعَةَ فِي حَقِّ الشَّارِعِ ، إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : قَتْلُ الْعَادِلِ الْبَاغِيَ قَتْلٌ بِحَقٍّ فَلَا يَمْنَعُ الْإِرْثَ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَتْلِ الْبَاغِي الْعَادِلَ أَنَّ التَّأْوِيلَ الْفَاسِدَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ وَالْحَاجَةُ هَاهُنَا إلَى اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ فَلَا يَكُونُ التَّأْوِيلُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْإِرْثِ .
وَلَهُمَا فِيهِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى دَفْعِ الْحِرْمَانِ أَيْضًا ، إذْ
الْقَرَابَةُ سَبَبُ الْإِرْثِ فَيُعْتَبَرُ الْفَاسِدُ فِيهِ ، إلَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ بَقَاءَهُ عَلَى دِيَانَتِهِ ، فَإِذَا قَالَ : كُنْت عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ يُوجَدْ الدَّافِعُ فَوَجَبَ الضَّمَانُ .وَقَوْلُهُ ( فِي الْوَجْهَيْنِ ) أَيْ فِي الْوَجْهِ الَّذِي قَالَ أَنَا عَلَى الْحَقِّ وَفِي الْوَجْهِ الَّذِي قَالَ أَنَا عَلَى الْبَاطِلِ وَقَوْلُهُ ( رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ ) قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مُتَوَافِرِينَ ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ ، وَكُلُّ فَرْجٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ ، وَكُلُّ مَالٍ أُتْلِفَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ .
قَوْلُهُ ( وَلَا الْتِزَامَ لِاعْتِقَادِ الْإِبَاحَةِ ) يَعْنِي أَنَّ الْبَاغِيَ اعْتَقَدَ إبَاحَةَ أَمْوَالِ الْعَادِلِ بِأَنَّ الْعَادِلَ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُوجَبِ الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَهُمَا فِيهِ ) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَتْلِ الْبَاغِي الْعَادِلِ .
وَقَوْلُهُ ( فَيُعْتَبَرُ الْفَاسِدُ ) أَيْ يُعْتَبَرُ التَّأْوِيلُ الْفَاسِدُ فِي دَفْعِ الْحِرْمَانِ .
وَقَوْلُهُ ( لَمْ يُوجَدْ الدَّافِعُ ) أَيْ التَّأْوِيلُ الدَّافِعُ لِلضَّمَانِ .
قَالَ ( وَيُكْرَهُ بَيْعُ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ وَفِي عَسَاكِرِهِمْ ) ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ( وَلَيْسَ بِبَيْعِهِ بِالْكُوفَةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ بَأْسٌ ) ؛ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ فِي الْأَمْصَارِ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ بَيْعُ نَفْسِ السِّلَاحِ لَا بَيْعُ مَا لَا يُقَاتَلُ بِهِ إلَّا بِصَنْعَةٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُكْرَهُ بَيْعُ الْمَعَازِفِ وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ الْخَشَبِ ، وَعَلَى هَذَا الْخَمْرُ مَعَ الْعِنَبِ .وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ بِبَيْعِهِ بِالْكُوفَةِ ) تَقْيِيدُهُ بِالْكُوفَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْبُغَاةَ خَرَجُوا فِيهَا أَوَّلًا وَإِلَّا فَالْحُكْمُ فِي غَيْرِهَا كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا بِالصَّنْعَةِ ) بِهِ يُرِيدُ الْحَدِيدَ ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ سِلَاحًا بِفِعْلِ غَيْرِهِ فَلَا يُنْسَبُ إلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُكْرَهُ بَيْعُ الْمَعَازِفِ ) قِيلَ جَمْعُ مِعْزَفٍ ضَرْبٌ مِنْ الطَّنَابِيرِ يَتَّخِذُهُ أَهْلُ الْيَمِينِ ( وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ الْخَشَبِ ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مِعْزَفًا بِفِعْلِ غَيْرِهِ .
قَوْلُهُ ( وَعَلَى هَذَا بَيْعُ الْخَمْرِ مَعَ الْعِنَبِ ) أَيْ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعِنَبِ ، وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ كَرَاهَةِ بَيْعِ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ وَعَدَمِ كَرَاهَةِ بَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا سَيَأْتِي فِي بَابِ الْكَرَاهَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
كِتَابُ اللَّقِيطِ اللَّقِيطُ سُمِّيَ بِهِ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ لِمَا أَنَّهُ يُلْقَطُ .
وَالِالْتِقَاطُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَائِهِ ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ضَيَاعُهُ فَوَاجِبٌ .
قَالَ ( اللَّقِيطُ حُرٌّ ) ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ إنَّمَا هُوَ الْحُرِّيَّةُ ، وَكَذَا الدَّارُ دَارُ الْأَحْرَارِ ؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِكِتَابُ اللَّقِيطِ لَمَّا كَانَ فِي الِالْتِقَاطِ دَفْعُ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِ الْمُلْتَقِطِ ذَكَرَهُ عَقِيبَ الْجِهَادِ الَّذِي فِيهِ دَفْعُ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَاللَّقِيطُ : اسْمٌ لِشَيْءٍ مَنْبُوذٍ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْجَرِيحِ وَفِي الشَّرِيعَةِ اسْمٌ لِحَيٍّ مَوْلُودٍ طَرَحَهُ أَهْلُهُ خَوْفًا مِنْ الْعَيْلَةِ أَوْ فِرَارًا مِنْ تُهْمَةِ الزِّنَا ، مُضَيِّعُهُ آثِمٌ وَمُحْرِزُهُ غَانِمٌ لِأَنَّ فِيهِ الْإِحْيَاءَ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } فَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَانَ تَسْمِيَةَ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ لِمَا أَنَّهُ يُلْتَقَطُ وَهُوَ حُرٌّ أَيْ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ حَتَّى أَنَّ قَاذِفَهُ يُحَدُّ وَقَاذِفَ أُمِّهِ لَا يُحَدُّ ، كَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ الْحُرِّيَّةُ ) لِأَنَّهُمْ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَهُمَا حُرَّانِ .
وَالرِّقُّ إنَّمَا هُوَ لِعَارِضِ الْكُفْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْعَارِضِ ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ وَالْغَالِبُ فِيمَنْ يَسْكُنُ بِلَادَ الْإِسْلَامِ الْحُرِّيَّةُ .
( وَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ) هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ ، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ عَاجِزٌ عَنْ التَّكَسُّبِ ، وَلَا مَالَ لَهُ وَلَا قَرَابَةَ فَأَشْبَهَ الْمُقْعَدَ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا قَرَابَةَ ؛ وَلِأَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ ، وَالْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَلِهَذَا كَانَتْ جِنَايَتُهُ فِيهِ .
وَالْمُلْتَقِطُ مُتَبَرِّعٌ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ ؛ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْقَاضِي بِهِ لِيَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ لِعُمُومِ الْوِلَايَةِ .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : اللَّقِيطُ حُرٌّ وَعَقْلُهُ وَوَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ .
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ ) أَيْ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ ، كَغَلَّةِ الْعَبْدِ الْمَعِيبِ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ الرَّدِّ لِأَنَّهُ قَبْلَ الرَّدِّ فِي ضَمَانِهِ ، يُقَالُ خَرَاجُ غُلَامِهِ : إذَا اتَّفَقَا عَلَى ضَرِيبَةٍ يُؤَدِّيهَا عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ .
وَقَوْلُهُ ( فِيهِ ) أَيْ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَيُقَالُ بَرَعَ الرَّجُلُ وَبَرُعَ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ : إذَا فَضُلَ عَلَى أَقْرَانِهِ ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْمُتَفَضِّلِ الْمُتَبَرِّعُ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْقَاضِي لِيَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ لِعُمُومِ الْوِلَايَةِ ) فِي قَوْلِهِ لِيَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ دَيْنًا إذَا قَالَ ذَلِكَ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : مُجَرَّدُ أَمْرِ الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ يَكْفِي ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ ، لِأَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي نَافِذٌ عَلَيْهِ كَأَمْرِهِ بِنَفْسِهِ أَنْ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ وَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ كَانَ مَا يُنْفِقُ دَيْنًا عَلَيْهِ ، فَكَذَا إذَا أَمَرَهُ الْقَاضِي .
وَالْأَصَحُّ أَنْ لَا يَرْجِعَ مَا لَمْ يَقُلْ الْقَاضِي ذَلِكَ لِأَنَّ مُطْلَقَهُ مُحْتَمَلٌ قَدْ يَكُونُ لِلْحَثِّ وَالتَّرْغِيبِ فِي إتْمَامِ مَا شَرَعَ فِيهِ مِنْ التَّبَرُّعِ ، وَإِنَّمَا يَزُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ إذَا شُرِطَ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ .
قَالَ ( فَإِنْ الْتَقَطَهُ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ حَقُّ الْحِفْظِ لَهُ لِسَبْقِ يَدِهِ ( فَإِنْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ ابْنُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ) .
مَعْنَاهُ : إذَا لَمْ يَدَّعِ الْمُلْتَقِطُ نَسَبَهُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الْمُلْتَقِطِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إقْرَارٌ لِلصَّبِيِّ بِمَا يَنْفَعُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَشَرَّفُ بِالنَّسَبِ وَيُعَيَّرُ بِعَدَمِهِ .
ثُمَّ قِيلَ يَصِحُّ فِي حَقِّهِ دُونَ إبْطَالِ يَدِ الْمُلْتَقِطِ .
وَقِيلَ يُبْتَنَى عَلَيْهِ بُطْلَانُ يَدِهِ ، وَلَوْ ادَّعَاهُ الْمُلْتَقِطُ قِيلَ يَصِحُّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَقَدْ عُرِفَ فِي الْأَصْلِ .
وَقَوْلُهُ ( مَعْنَاهُ : إذَا لَمْ يَدَّعِ الْمُلْتَقِطُ نَسَبَهُ ) يَعْنِي إذَا ادَّعَاهُ الْمُلْتَقِطُ وَرَجُلٌ آخَرُ فَالْمُلْتَقِطُ أَوْلَى لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الدَّعْوَى وَلِأَحَدِهِمَا يَدٌ فَكَانَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ قِيلَ يَصِحُّ فِي حَقِّهِ ) أَيْ فِي حَقِّ النَّسَبِ ، وَقِيلَ يُبْتَنَى عَلَيْهِ بُطْلَانُ يَدِهِ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَحَقَّ بِحِفْظِ وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ ادَّعَاهُ الْمُلْتَقِطُ ) أَيْ وَلَوْ ادَّعَى الْمُلْتَقِطُ نَسَبَ اللَّقِيطِ وَقَالَ هُوَ ابْنِي بَعْدَمَا قَالَ إنَّهُ لَقِيطٌ ، قِيلَ يَصِحُّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ لَمْ يَبْطُلْ بِدَعْوَاهُ حَقُّ أَحَدٍ وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِي ذَلِكَ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ ) أَيْ عَلَى اخْتِلَافِ حُكْمِ الْقِيَاسِ مَعَ حُكْمِ الِاسْتِحْسَانِ : يَعْنِي فِي الْقِيَاسِ لَا يَصِحُّ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَصِحُّ كَمَا فِي دَعْوَى غَيْرِ الْمُلْتَقِطِ ، لَكِنَّ وَجْهَ الْقِيَاسِ هَاهُنَا غَيْرُ وَجْهِ الْقِيَاسِ فِي دَعْوَى غَيْرِ الْمُلْتَقِطِ .
وَوَجْهُ الْقِيَاسِ فِي دَعْوَى غَيْرِ الْمُلْتَقِطِ هُوَ تَضَمُّنُ إبْطَالِ حَقِّ الْمُلْتَقِطِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ .
وَوَجْهُ الْقِيَاسِ فِي دَعْوَى الْمُلْتَقِطِ هُوَ تَنَاقُضُ كَلَامِهِ بِأَنَّهُ لَمَّا زَعَمَ أَنَّهُ لَقِيطٌ كَانَ نَافِيًا نَسَبَهُ لِأَنَّ ابْنَهُ لَا يَكُونُ لَقِيطًا فِي يَدِهِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ فَكَانَ مُنَاقِضًا .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَصِحُّ دَعْوَاهُ لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ حَيْثُ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَهُ فَهُوَ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ يَكْتَسِبُ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ ، وَبِالِالْتِقَاطِ يَثْبُتُ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ .
وَقَوْلُهُ ( إنَّهُ مُتَنَاقِضٌ ) قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنْ فِيمَا طَرِيقُهُ الْخَفَاءُ قَدْ يَشْتَبِهُ عَلَى النَّاسِ حَالُ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَقِيطٌ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ وَلَدُهُ ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ النَّسَبِ كَالْمُلَاعِنِ إذَا أَكْذَبَ
نَفْسَهُ
( وَإِنْ ادَّعَاهُ اثْنَانِ وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ ) ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِمُوَافَقَةِ الْعَلَامَةِ كَلَامَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَصِفْ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فَهُوَ ابْنُهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ .
وَلَوْ سَبَقَتْ دَعْوَةُ أَحَدِهِمَا فَهُوَ ابْنُهُ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي زَمَانٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ إلَّا إذَا أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَقْوَى .( وَإِنْ ادَّعَاهُ اثْنَانِ وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ ) أَيْ يَجِبُ عَلَى الْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَ اللَّقِيطَ إلَى الَّذِي وَصَفَ عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ وَأَصَابَ فِي وَصْفِهِ لِأَنَّ الْوَاصِفَ أَوْلَى بِذَلِكَ اللَّقِيطِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّقِيطِ وَاللُّقَطَةِ فَإِنَّ اللُّقَطَةَ إذَا تَنَازَعَ فِيهِ اثْنَانِ وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا وَأَصَابَ وَلَمْ يَصِفْ الْآخَرُ فَإِنَّهُ لَا يُقْضَى لِصَاحِبِ الْوَصْفِ ، بَلْ إذَا انْفَرَدَ الْوَاصِفُ يَحِلُّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُهُ وَهَاهُنَا يَلْزَمُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ الْإِصَابَةَ بِوَصْفِ أَمْرٍ مُحْتَمَلٍ ، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَصَابَ لِأَنَّهُ لَهُ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَصَابَ لِأَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ غَيْرِهِ ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْغَيْرِ لَكِنَّهُ يَصْلُحُ مُرَجِّحًا لِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ كَالْيَدِ فِي دَعْوَى النِّتَاجِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي فَصْلِ اللَّقِيطِ : قَدْ وُجِدَ مَا هُوَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الدَّعْوَةُ لِأَنَّهَا سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ فِي حَقِّ اللَّقِيطِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ بِدَعْوَى اللَّقِيطِ قَضَى لَهُ بِهِ كَمَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَيُعْتَبَرُ الْوَصْفُ لِيَتَرَجَّحَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَأَمَّا فِي اللُّقَطَةِ فَالدَّعْوَى لَيْسَتْ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى يَتَرَجَّحَ بِالْوَصْفِ ، فَلَوْ اُعْتُبِرَ الْوَصْفُ اُعْتُبِرَ لِأَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْوَصْفُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لَهُ فَافْتَرَقَا .
( وَإِذَا وُجِدَ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ فَادَّعَى ذِمِّيٌّ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ مُسْلِمًا ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ تَضْمَنُ النَّسَبَ وَهُوَ نَافِعٌ لِلصَّغِيرِ ، وَإِبْطَالُ الْإِسْلَامِ الثَّابِتِ بِالدَّارِ وَهُوَ يَضُرُّهُ فَصَحَّتْ دَعْوَتُهُ فِيمَا يَنْفَعُهُ دُونَ مَا يَضُرُّهُ .قَوْلُهُ ( وَإِنْ وُجِدَ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْحَاصِلِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنْ يَجِدَهُ مُسْلِمٌ فِي مَكَانِ الْمُسْلِمِينَ كَالْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِ فَيَكُونُ مَحْكُومًا لَهُ بِالْإِسْلَامِ .
وَالثَّانِي أَنْ يَجِدَهُ كَافِرٌ فِي مَكَانِ أَهْلِ الْكُفْرِ كَالْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ فَيَكُونُ مَحْكُومًا لَهُ بِالْكُفْرِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إذَا مَاتَ .
وَالثَّالِثُ أَنْ يَجِدَهُ كَافِرٌ فِي مَكَانِ الْمُسْلِمِينَ وَالرَّابِعُ أَنْ يَجِدَهُ مُسْلِمٌ فِي مَكَانِ الْكَافِرِينَ ، فَفِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ .
فَفِي كِتَابِ اللَّقِيطِ يَقُولُ : الْعِبْرَةُ لِلْمَكَانِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا .
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْوَاجِدِ بِالْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .
( وَإِنْ وُجِدَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ كَانَ ذِمِّيًّا ) وَهَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَاجِدُ ذِمِّيًّا رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَإِنْ كَانَ الْوَاجِدُ مُسْلِمًا فِي هَذَا الْمَكَانِ أَوْ ذِمِّيًّا فِي مَكَانِ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ ، فَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ اللَّقِيطِ اُعْتُبِرَ الْمَكَانُ لِسَبْقِهِ ، وَفِي كِتَابِ الدَّعْوَى فِي بَعْضِ النُّسَخِ اُعْتُبِرَ الْوَاجِدُ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ لِقُوَّةِ الْيَدِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ تَبَعِيَّةَ الْأَبَوَيْنِ فَوْقَ تَبَعِيَّةِ الدَّارِ حَتَّى إذَا سُبِيَ مَعَ الصَّغِيرِ أَحَدُهُمَا يُعْتَبَرُ كَافِرًا ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِهِ اُعْتُبِرَ الْإِسْلَامُ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ .وَقَوْلُهُ ( فِي بَعْضِ النُّسَخِ ) أَيْ فِي بَعْضِ نُسَخِ دَعْوَى الْمَبْسُوطِ .
( وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ اللَّقِيطَ عَبْدُهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ ظَاهِرًا إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ ( فَإِنْ ادَّعَى عَبْدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُ ( وَكَانَ حُرًّا ) ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ قَدْ تَلِدُ لَهُ الْحُرَّةُ فَلَا تَبْطُلُ الْحُرِّيَّةُ الظَّاهِرَةُ بِالشَّكِّ ( وَالْحُرُّ فِي دَعْوَتِهِ اللَّقِيطَ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ ، وَالْمُسْلِمُ أَوْلَى مِنْ الذِّمِّيِّ ) تَرْجِيحًا لِمَا هُوَ الْأَنْظَرُ فِي حَقِّهِ .
قَوْلُهُ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ اللَّقِيطَ عَبْدُهُ ) ظَاهِرٌ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى خَصْمٍ مُنْكِرٍ وَلَا خَصْمَ هَاهُنَا لِأَنَّ الْمُلْتَقِطَ لَيْسَ بِوَلِيٍّ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا عَنْهُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْخَصْمَ هُوَ الْمُلْتَقِطُ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ عَنْهُ ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ أَحَقُّ بِحِفْظِهِ فَلَا يَتَوَصَّلُ الْمُدَّعِي إلَى اسْتِحْقَاقِ يَدِهِ عَلَيْهِ إلَّا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ، فَإِنْ ادَّعَى عَبْدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ لِأَنَّ دَعْوَاهُ تَضَمَّنَتْ شَيْئَيْنِ : النَّسَبُ وَهُوَ نَفْعٌ لِلصَّبِيِّ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ الشَّرَفُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ ، وَالرِّقُّ وَهُوَ مَضَرَّةٌ فَيَثْبُتُ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَسْتَلْزِمُهُ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ قَدْ تَلِدُ لَهُ الْحُرَّةُ فَلَا تَبْطُلُ لَهُ الْحُرِّيَّةُ الظَّاهِرَةُ بِالشَّكِّ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَرَّرَ بِجَعْلِ كَلَامِهِ دَلِيلَيْنِ عَلَى مَطْلُوبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُ ، وَكُلُّ مَا يَنْفَعُهُ يَثْبُتُ لَهُ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ حُرٌّ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ قَدْ تَلِدُ لَهُ الْحُرَّةُ فَلَا يَكُونُ عَبْدًا ، وَقَدْ تَلِدُ لَهُ الْأَمَةُ فَيَكُونُ عَبْدًا ، وَالظَّاهِرُ فِي بَنِي آدَمَ الْحُرِّيَّةُ فَلَا تَبْطُلُ بِالشَّكِّ .
قَالَ ( وَالْحُرُّ فِي دَعْوَتِهِ اللَّقِيطَ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ ) إذَا ادَّعَى اللَّقِيطَ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَهُمَا خَارِجَانِ أَوْ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ وَهُمَا خَارِجَانِ دَعْوَى مُجَرَّدَةً فَالْحُرُّ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ وَالْمُسْلِمُ أَوْلَى مِنْ الذِّمِّيِّ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا أَكْثَرَ إثْبَاتًا ، حَتَّى لَوْ شَهِدَ لِلْمُسْلِمِ ذِمِّيَّانِ وَلِلذِّمِّيِّ مُسْلِمَانِ كَانَ لِلْمُسْلِمِ لِأَنَّ بَيِّنَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْآخَرِ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا أَكْثَرَ إثْبَاتًا فَكَانَ الْمُسْلِمُ أَوْلَى .
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ بَيِّنَةُ الَّذِي أَكْثَرَ إثْبَاتًا فَلَا يُعْتَبَرُ التَّرْجِيحُ بِالْإِسْلَامِ ، فَلَوْ ادَّعَى الذِّمِّيُّ صَبِيًّا فِي
يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ ابْنُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَأَقَامَ عَبْدٌ مُسْلِمٌ بَيِّنَةً أَنَّهُ ابْنُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ قُضِيَ لِلذِّمِّيِّ بِالصَّبِيِّ ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ الْعَبْدُ بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الذِّمِّيِّ أَكْثَرُ إثْبَاتًا لِأَنَّهَا تُثْبِتُ النَّسَبَ بِجَمِيعِ أَحْكَامِهِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْمُلْتَقِطِ وَالْخَارِجِ فَالتَّرْجِيحُ بِالْيَدِ لِقُوَّتِهَا ، فَإِنَّ الْمُلْتَقِطَ إذَا كَانَ ذِمِّيًّا فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْمُسْلِمِ الْخَارِجِ
( وَإِنْ وُجِدَ مَعَ اللَّقِيطِ مَالٌ مَشْدُودٌ عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُ ) اعْتِبَارًا لِلظَّاهِرِ .
وَكَذَا إذَا كَانَ مَشْدُودًا عَلَى دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَيْهَا لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ يَصْرِفُهُ الْوَاجِدُ إلَيْهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ وَلِلْقَاضِي وِلَايَةُ صَرْفِ مِثْلِهِ إلَيْهِ .
وَقِيلَ يَصْرِفُهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ لِلَّقِيطِ ظَاهِرًا ( وَلَهُ وِلَايَةُ الْإِنْفَاقِ وَشِرَاءُ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ ) كَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْإِنْفَاقِ .( وَإِذَا وُجِدَ مَعَ اللَّقِيطِ مَالٌ مَشْدُودٌ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى دَابَّةٍ هُوَ عَلَيْهَا فَهُوَ لَهُ ) وَكَذَا الدَّابَّةُ ( اعْتِبَارًا لِلظَّاهِرِ ) لِأَنَّ اللَّقِيطَ لَمَّا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ حُرًّا مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ ، فَمَا كَانَ مَعَهُ فَهُوَ لَهُ ظَاهِرًا لِعَدَمِ الْيَدِ الثَّابِتَةِ عَلَيْهِ كَالْقَمِيصِ الَّذِي عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الظَّاهِرُ يَكْفِي لِلدَّفْعِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ ، فَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلَّقِيطِ بِهَذَا الظَّاهِرِ كَانَ الظَّاهِرُ حُجَّةً مُثْبِتَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا الظَّاهِرَ يَدْفَعُ دَعْوَى الْغَيْرِ ( قَوْلُهُ ثُمَّ يَصْرِفُهُ الْوَاجِدُ إلَيْهِ ) ظَاهِرٌ .
( وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمُلْتَقِطِ ) لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ مِنْ الْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ وَالسَّلْطَنَةِ .
قَالَ ( وَلَا تَصَرُّفُهُ فِي مَالِ الْمُلْتَقِطِ ) اعْتِبَارًا بِالْأُمِّ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ لِتَثْمِيرِ الْمَالِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالرَّأْيِ الْكَامِلِ وَالشَّفَقَةِ الْوَافِرَةِ وَالْمَوْجُودُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدُهُمَا .وَقَوْلُهُ ( وَالْمَوْجُودُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ) أَيْ مِنْ الْمُلْتَقِطِ وَالْأُمِّ ( أَحَدُهُمَا ) لِأَنَّ لِلْمُلْتَقِطِ رَأْيًا كَامِلًا وَلَا شَفَقَةَ لَهُ ، وَلِلْأُمِّ شَفَقَةٌ كَامِلَةٌ وَلَا رَأْيَ لَهَا
قَالَ : ( وَيَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَ لَهُ الْهِبَةَ ) ؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الصَّغِيرُ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ عَاقِلًا وَتَمْلِكُهُ الْأُمُّ وَوَصِيُّهَا .
قَالَ ( وَيُسَلِّمُهُ فِي صِنَاعَةٍ ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ تَثْقِيفِهِ وَحِفْظِ حَالِهِ .
قَالَ ( وَيُؤَاجِرُهُ ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ : وَهَذَا رِوَايَةُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ ، ذَكَرَهُ فِي الْكَرَاهِيَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَثْقِيفِهِ .
وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إتْلَافَ مَنَافِعِهِ فَأَشْبَهَ الْعَمَّ .
بِخِلَافِ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي الْكَرَاهِيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ تَثْقِيفِهِ ) التَّثْقِيفُ تَقْوِيمُ الْمُعْوَجِّ بِالثِّقَافِ وَهُوَ مَا يُسَوَّى بِهِ الرِّمَاحُ وَيُسْتَعَارُ لِلتَّأْدِيبِ وَالتَّهْذِيبِ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْأُمِّ لِأَنَّهَا تَمْلِكُهُ ) أَيْ تَمْلِكُ إتْلَافَ مَنَافِعِهِ فَإِنَّهَا تَمْلِكُ اسْتِخْدَامَ وَلَدِهَا وَإِجَارَتَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كِتَابُ اللُّقَطَةِ قَالَ ( اللُّقَطَةُ أَمَانَةٌ إذَا أَشْهَدَ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا لِيَحْفَظَهَا وَيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا ) لِأَنَّ الْأَخْذَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا بَلْ هُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الْوَاجِبُ إذَا خَافَ الضَّيَاعَ عَلَى مَا قَالُوا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا تَصَادَقَا أَنَّهُ أَخَذَهَا لِلْمَالِكِ لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا فَصَارَ كَالْبَيِّنَةِ ، وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَبِغَيْرِ إذْنِ الشَّرْعِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ عَلَيْهِ وَقَالَ الْآخِذُ أَخَذْته لِلْمَالِكِ وَكَذَّبَهُ الْمَالِكُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَضْمَنُ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِاخْتِيَارِهِ الْحِسْبَةَ دُونَ الْمَعْصِيَةِ ، وَلَهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ وَادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ وَهُوَ الْأَخْذُ لِمَالِكِهِ وَفِيهِ وَقَعَ الشَّكُّ فَلَا يَبْرَأُ ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الظَّاهِرِ يُعَارِضُهُ مِثْلُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَرِّفُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَيَكْفِيهِ فِي الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَنْشُدُ لُقَطَةً فَدُلُّوهُ عَلَيَّ وَاحِدَةً كَانَتْ اللُّقَطَةُ أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ .
كِتَابُ اللُّقَطَةِ اللَّقِيطُ وَاللُّقَطَةُ مُتَقَارِبَانِ لَفْظًا وَمَعْنًى ، وَخُصَّ اللَّقِيطُ بِبَنِي آدَمَ وَاللُّقَطَةُ بِغَيْرِهِمْ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا ، وَقُدِّمَ الْأَوَّلُ لِشَرَفِ بَنِي آدَمَ عَلَى اللُّقَطَةِ وَهِيَ الشَّيْءُ الَّذِي يَجِدُهُ مُلْقًى فَيَأْخُذُهُ أَمَانَةً ( إذَا أَشْهَدَ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا لِيَحْفَظَهَا وَيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا ) لِأَنَّ الْأَخْذَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا بَلْ هُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ قَوْلُهُ بَلْ هُوَ أَفْضَلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وَذَلِكَ حَرَامٌ شَرْعًا وَعَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ أَخْذُهُ جَائِزٌ وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ لِأَنَّ صَاحِبَهَا إنَّمَا يَطْلُبُهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَقَطَتْ مِنْهُ ، فَإِذَا تَرَكَهَا وَجَدَهَا صَاحِبُهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ( قَوْلُهُ وَهُوَ الْوَاجِبُ إذَا خَافَ الضَّيَاعَ عَلَى مَا قَالُوا ) وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللُّقَطَةَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ عَلَى نَوْعَيْنِ : مَا يَكُونُ أَخْذُهُ وَاجِبًا وَهُوَ مَا إذَا خَافَ الضَّيَاعَ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } وَإِذَا كَانَ وَلِيًّا وَجَبَ عَلَيْهِ حِفْظُ مَالِهِ ، وَبِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ مَالِهِ ، فَإِذَا خَافَ عَلَى مَالِهِ الضَّيَاعَ وَجَبَ حِفْظُهُ ، فَكَذَلِكَ إذَا خَافَ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ وَمَا لَا يَكُونُ أَخْذُهُ وَاجِبًا ، وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَخَفْ الضَّيَاعَ فَقِيلَ رَفْعُهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } وَلِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَصِلَ إلَيْهَا يَدٌ خَائِنَةٌ فَتَمْنَعَهَا عَنْ مَالِكِهَا .
وَقِيلَ تَرْكُهُ أَفْضَلُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ صَاحِبَهَا إنَّمَا يَطْلُبُهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَقَطَتْ مِنْهُ وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ ( وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ) أَيْ إذَا كَانَ أَخْذُهَا مَأْذُونًا فِيهِ شَرْعًا ( لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً
عَلَيْهِ ) كَذَا وَكَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ وَهُوَ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ إذَا تَصَادَقَا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ وَإِذَا أَشْهَدَ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا إلَخْ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ لِنَفْسِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَإِذَا كَانَتْ أَمَانَةً لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ ، وَكَذَا إذَا تَصَادَقَ الْمُلْتَقِطُ وَالْمَالِكُ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِلْمَالِكِ لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا وَصَارَ كَمَا إذَا أَقَامَ الْمُلْتَقِطُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِيُوَصِّلَهَا إلَى الْمَالِكِ ( وَلَوْ أَقَرَّ ) الْمُلْتَقِطُ ( أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ أَخْذُ مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَبِغَيْرِ إذْنِ الشَّرْعِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ عَلَيْهِ وَقَالَ الْآخِذُ أَخَذْتهَا لِلْمَالِكِ وَكَذَّبَهُ الْمَالِكُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَضْمَنُ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ) أَمَّا عَدَمُ الضَّمَانِ فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِاخْتِيَارِهِ الْحِسْبَةَ دُونَ الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا ، وَاَلَّذِي يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا الْأَخْذُ لِلرَّدِّ لَا لِنَفْسِهِ فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ فِعْلِهِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِشْهَادِ مِنْهُ ، وَأَمَّا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فَلِأَنَّ صَاحِبَهَا يَدَّعِي عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ وَوُجُوبَ الْقِيمَةِ فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ كَمَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ الْغَصْبَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ ) ظَاهِرٌ ، قِيلَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْإِشْهَادِ فِيمَا إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَشْهَدَ ، أَمَّا إذَا لَمْ يَجِدْ أَحَدًا يُشْهِدُهُ عِنْدَ الرَّفْعِ أَوْ خَافَ أَنَّهُ لَوْ أَشْهَدَ عِنْدَ الرَّفْعِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ الظَّالِمُ فَتَرَكَ الْإِشْهَادَ لَا يَكُونُ ضَامِنًا بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ وَجَدَ مَنْ يُشْهِدُهُ فَلَمْ يُشْهِدْهُ حَتَّى جَاوَزَهُ ضَمِنَ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْإِشْهَادَ مَعَ
الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَكْفِي فِي الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ ) ظَاهِرٌ .
قَالَ ( فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَرَّفَهَا أَيَّامًا ، وَإِنْ كَانَتْ عَشْرَةً فَصَاعِدًا عَرَّفَهَا حَوْلًا ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ : وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَوْلُهُ أَيَّامًا مَعْنَاهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى .
وَقَدَّرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ بِالْحَوْلِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ الْتَقَطَ شَيْئًا فَلْيُعَرِّفْهُ سَنَةً مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ } .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْحَوْلِ وَرَدَ فِي لُقَطَةٍ كَانَتْ مِائَةَ دِينَارٍ تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَالْعَشَرَةُ وَمَا فَوْقَهَا فِي مَعْنَى الْأَلْفِ فِي تَعَلُّقِ الْقَطْعِ بِهِ فِي السَّرِقَةِ وَتَعَلُّقِ اسْتِحْلَالِ الْفَرْجِ بِهِ وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَاهَا فِي حَقِّ تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ ، فَأَوْجَبْنَا التَّعْرِيفَ بِالْحَوْلِ احْتِيَاطًا ، وَمَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْأَلْفِ بِوَجْهٍ مَا فَفَوَّضْنَا إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ وَقِيلَ الصَّحِيحُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ لَيْسَ بِلَازِمٍ ، وَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْمُلْتَقِطِ يُعَرِّفُهَا إلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ شَيْئًا لَا يَبْقَى عَرَّفَهُ حَتَّى إذَا خَافَ أَنْ يَفْسُدَ تَصَدَّقَ بِهِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهَا .
وَفِي الْجَامِعِ : فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الْوُصُولِ إلَى صَاحِبِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ شَيْئًا يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا كَالنَّوَاةِ وَقُشُورِ الرُّمَّانِ يَكُونُ إلْقَاؤُهُ إبَاحَةً حَتَّى جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ وَلَكِنَّهُ مُبْقًى عَلَى مِلْكِ مَالِكِهِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ .
قَالَ ( فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهَا ) إيصَالًا لِلْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَهُوَ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَذَلِكَ بِإِيصَالِ عَيْنِهَا عِنْدَ الظَّفَرِ بِصَاحِبِهَا وَإِيصَالِ الْعِوَضِ
وَهُوَ الثَّوَابُ عَلَى اعْتِبَارِ إجَازَةِ التَّصَدُّقِ بِهَا ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا رَجَاءَ الظُّفْرِ بِصَاحِبِهَا قَالَ ( فَإِنْ ) ( جَاءَ صَاحِبُهَا ) يَعْنِي بَعْدَمَا تَصَدَّقَ بِهَا ( فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْضَى الصَّدَقَةَ ) وَلَهُ ثَوَابُهَا لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وَإِنْ حَصَلَ بِإِذْنِ الشَّرْعِ لَمْ يَحْصُلْ بِإِذْنِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ ، وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْفَقِيرِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قِيَامِ الْمَحِلِّ ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ لِثُبُوتِهِ بَعْدَ الْإِجَازَةِ فِيهِ ( وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُلْتَقِطُ لِأَنَّهُ سَلَّمَ مَالَهُ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ) إلَّا أَنَّهُ بِإِبَاحَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الضَّمَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا فِي تَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمِسْكِينُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا أَخَذَهُ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ .
وَقَوْلُهُ وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ ، فَإِنَّ الطَّحَاوِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : وَإِذَا الْتَقَطَ لُقَطَةً فَإِنَّهُ يُعَرِّفُهَا سَنَةً سَوَاءٌ كَانَ الشَّيْءُ نَفِيسًا أَوْ خَسِيسًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ( وَقَوْلُهُ كَانَتْ مِائَةَ دِينَارٍ تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ ) يُرِيدُ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الصَّحِيحِ مُسْنَدًا إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { أَخَذْت صُرَّةً مِائَةَ دِينَارٍ ، فَأَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : عَرِّفْهَا حَوْلًا ، فَعَرَّفْتهَا فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا ، ثُمَّ أَتَيْته ثَانِيًا فَقَالَ عَرِّفْهَا حَوْلًا ، فَعَرَّفْتهَا فَلَمْ أَجِدْ ، ثُمَّ أَتَيْته ثَالِثًا فَقَالَ : احْفَظْ وِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا وَعَدَدَهَا ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا } " .
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ .
وَأَقُولُ : هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ يَكُونُ حَوْلَيْنِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَرْطٍ بِالْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ سَاقِطَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ ( وَقَوْلُهُ وَقِيلَ الصَّحِيحُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ ) إشَارَةٌ إلَى مَا اخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَوْلُهُ ( كَالنَّوَاةِ وَقُشُورِ الرُّمَّانِ ) يَعْنِي إذَا كَانَ فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ فَجَمَعَهَا وَصَارَ بِحُكْمِ الْكَثْرَةِ لَهَا قِيمَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِأَنَّ الْقِيمَةَ ظَهَرَتْ بِالِاجْتِمَاعِ وَالِاجْتِمَاعُ حَصَلَ بِصُنْعِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا ، حَتَّى أَنَّ صَاحِبَهَا إذَا وَجَدَهَا فِي يَدِهِ بَعْدَمَا جَمَعَهَا جَازَ أَنْ يَأْخُذَهَا لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ مُتَفَرِّقًا دَلِيلٌ عَلَى الْإِذْنِ لَا عَلَى التَّمْلِيكِ ، لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ .
ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُجْتَمِعَةً فِي مَوْضِعٍ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمَّا جَمَعَهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَا أَلْقَاهَا (
قَوْلُهُ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا تَصَدَّقْ بِهَا ) يَعْنِي إنْ جَاءَ صَاحِبُهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ دَفَعَهَا إلَيْهِ أَيْضًا لَا لِعَيْنِ حَقِّهِ الْمُسْتَحَقِّ الدَّفْعُ إلَيْهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَجِئْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ ( إنْ شَاءَ ) تَصَدَّقَ بِهَا أَيْضًا لَا لِعِوَضِ الْمُسْتَحَقِّ وَهُوَ الثَّوَابُ عَلَى اعْتِبَارِ إجَازَتِهِ التَّصَدُّقَ بِهَا عَلَى مُسْتَحِقِّهِ ( وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا رَجَاءً ) لِلظَّفَرِ بِصَاحِبِهَا ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا بَعْدَمَا تَصَدَّقَ بِهَا الْمُلْتَقِطُ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَمْضَى الصَّدَقَةَ وَلَهُ ثَوَابُهَا لِأَنَّ التَّصَدُّقَ إنْ حَصَلَ بِإِذْنِ الشَّرْعِ لَمْ يَحْصُلْ بِإِذْنِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ .
فَإِنْ قِيلَ التَّوَقُّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ يَقْتَضِي قِيَامَ الْمَحَلِّ عِنْدَهَا كَمَا فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ ؛ حَتَّى لَوْ أَجَازَ الْمَالِكُ بَعْدَ هَلَاكِهَا صَحَّتْ الْإِجَازَةُ .
وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْفَقِيرِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لِأَنَّ الْمُلْتَقِطَ لَمَّا كَانَ مَأْذُونًا فِي التَّصَدُّقِ شَرْعًا مَلَكَ الْفَقِيرُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ ثُبُوتُ الْمِلْكِ عَلَى وُجُودِ الْمَحَلِّ عِنْدَ الْإِجَازَةِ : فَإِنْ قِيلَ : لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْفَقِيرِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لَمَا ثَبَتَ لِلْمَالِكِ حَقُّ الْأَخْذِ إذَا كَانَ قَائِمًا فِي يَدِ الْفَقِيرِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِرْدَادِ كَالْوَاهِبِ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَكَالْمُرْتَدِّ إذَا عَادَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا بَعْدَمَا قُسِمَتْ أَمْوَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مَا وَجَدَهُ قَائِمًا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُمْ ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ فَإِنَّ الْمِلْكَ فِيهِ لِلْمُشْتَرِي إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ إجَازَةِ الْمَالِكِ بَيْعَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْمَحَلِّ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ الْمَعْدُومَةِ وَكَمَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ
الْمَحَلِّ يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَالْمَالِكِ أَيْضًا ، وَسَيَجِيءُ تَمَامُهُ فِي الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُلْتَقِطَ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ تَضْمِينُهُ وَقَدْ تَصَدَّقَ بِهَا بِإِذْنِ الشَّرْعِ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( إلَّا أَنَّهُ بِإِبَاحَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ ) يَعْنِي أَنَّ الْإِذْنَ كَانَ إبَاحَةً مِنْهُ لَا إلْزَامًا ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْإِذْنِ يُسْقِطُ الْإِثْمَ وَلَا يُنَافِي الضَّمَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا فِي تَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ ( وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمِسْكِينَ ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ ( وَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ قَائِمَةً أَخَذَهَا لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ ) وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَالِكَ إنْ لَمْ يُجِزْ الصَّدَقَةَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ قَائِمَةً فِي يَدِ الْفَقِيرِ أَوْ هَالِكَةً ، فَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً أَخَذَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ هَالِكَةً فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُلْتَقِطَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْفَقِيرَ ، وَأَيَّهُمَا ضَمَّنَهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ضَامِنٌ بِفِعْلِهِ : الْمُلْتَقِطُ بِالتَّسْلِيمِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ وَالْفَقِيرُ بِالتَّسْلِيمِ بِدُونِهِ .
لَا يُقَالُ : الْفَقِيرُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَةِ الْمُلْتَقِطِ فَيُرْجَعُ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّغْرِيرَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ضِمْنِ عَقْدٍ لَا يُوجِبُ شَيْئًا .
قَالَ ( وَيَجُوزُ الِالْتِقَاطُ فِي الشَّاةِ وَالْبَقَرِ وَالْبَعِيرِ ) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : إذَا وُجِدَ الْبَعِيرُ وَالْبَقَرُ فِي الصَّحْرَاءِ فَالتَّرْكُ أَفْضَلُ .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْفَرَسُ .
لَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ الْحُرْمَةُ وَالْإِبَاحَةُ مَخَافَةَ الضَّيَاعِ ، وَإِذَا كَانَ مَعَهَا مَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا يَقِلُّ الضَّيَاعُ وَلَكِنَّهُ يُتَوَهَّمُ فَيَقْضِي بِالْكَرَاهَةِ وَالنَّدْبُ إلَى التَّرْكِ .
وَلَنَا أَنَّهَا لُقَطَةٌ يُتَوَهَّمُ ضَيَاعُهَا فَيُسْتَحَبُّ أَخْذُهَا وَتَعْرِيفُهَا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ كَمَا فِي الشَّاةِ ( فَإِنْ أَنْفَقَ الْمُلْتَقِطُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ ) لِقُصُورِ وِلَايَتِهِ عَنْ ذِمَّةِ الْمَالِكِ ، وَإِنْ أَنْفَقَ بِأَمْرِهِ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةً فِي مَالِ الْغَائِبِ نَظَرًا لَهُ وَقَدْ يَكُونُ النَّظَرُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ ( وَإِذَا رُفِعَ ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ نَظَرَ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ لِلْبَهِيمَةِ مَنْفَعَةٌ آجَرَهَا وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ أُجْرَتِهَا ) لِأَنَّ فِيهِ إبْقَاءَ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ إلْزَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالْعَبْدِ الْآبِقِ ( وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا مَنْفَعَةٌ وَخَافَ أَنْ تَسْتَغْرِقَ النَّفَقَةُ قِيمَتَهَا بَاعَهَا وَأَمَرَ بِحِفْظِ ثَمَنِهَا ) إبْقَاءً لَهُ مَعْنًى عِنْدَ تَعَذُّرِ إبْقَائِهِ صُورَةً ( وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا أَذِنَ فِي ذَلِكَ وَجَعَلَ النَّفَقَةَ دَيْنًا عَلَى مَالِكِهَا ) لِأَنَّهُ نَصَبَ نَاظِرًا وَفِي هَذَا نَظَرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، قَالُوا : إنَّمَا يَأْمُرُ بِالْإِنْفَاقِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى رَجَاءَ أَنْ يَظْهَرَ مَالِكُهَا ، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ يَأْمُرُ بِبَيْعِهَا لِأَنَّ دَارَّةَ النَّفَقَةِ مُسْتَأْصَلَةٌ فَلَا نَظَرَ فِي الْإِنْفَاقِ مُدَّةً مَدِيدَةً .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي الْأَصْلِ شَرْطُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَصْبًا فِي يَدِهِ فَلَا
يَأْمُرُ فِيهِ بِالْإِنْفَاقِ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ فِي الْوَدِيعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ لِكَشْفِ الْحَالِ وَلَيْسَتْ الْبَيِّنَةُ تُقَامُ لِلْقَضَاءِ .
وَإِنْ قَالَ لَا بَيِّنَةَ لِي بِقَوْلِ الْقَاضِي لَهُ أَنْفِقْ عَلَيْهِ إنْ كُنْت صَادِقًا فِيمَا قُلْت حَتَّى تَرْجِعَ عَلَى الْمَالِكِ إنْ كَانَ صَادِقًا ، وَلَا يَرْجِعُ إنْ كَانَ غَاصِبًا .
وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَجَعَلَ النَّفَقَةَ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَالِكِ بَعْدَ مَا حَضَرَ وَلَمْ تُبَعْ اللُّقَطَةُ إذَا شَرَطَ الْقَاضِي الرُّجُوعَ عَلَى الْمَالِكِ ، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
قَالَ ( وَإِذَا حَضَرَ ) يَعْنِي ( الْمَالِكُ فَلِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ حَتَّى يُحْضِرَ النَّفَقَةَ ) لِأَنَّهُ حَيٌّ بِنَفَقَتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْمِلْكَ مِنْ جِهَتِهِ فَأَشْبَهَ الْمَبِيعَ ؛ وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ رَادُّ الْآبِقِ فَإِنَّ لَهُ الْحَبْسَ لِاسْتِيفَاءِ الْجُعَلِ لِمَا ذَكَرْنَا ، ثُمَّ لَا يَسْقُطُ دَيْنُ النَّفَقَةِ بِهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ قَبْلَ الْحَبْسِ ، وَيَسْقُطُ إذَا هَلَكَ بَعْدَ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْحَبْسِ شَبِيهَ الرَّهْنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَجُوزُ الِالْتِقَاطُ فِي الشَّاةِ وَالْبَقَرِ وَالْبَعِيرِ ) ظَاهِرٌ سِوَى أَلْفَاظٍ نَذْكُرُهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَالْإِبَاحَةُ ) أَيْ إبَاحَةُ الْأَخْذِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا كَانَ مَعَهَا ) أَيْ مَعَ اللُّقَطَةِ مَا تَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهَا : يَعْنِي مَا يُهْلِكُهَا كَالْقَرْنِ فِي الْبَقَرِ وَزِيَادَةِ الْقُوَّةِ فِي الْبَعِيرِ بِكَدْمِهِ وَنَفْحِهِ وَكَذَلِكَ فِي الْفَرَسِ .
وَقَوْلُهُ ( فَيُقْضَى بِالْكَرَاهَةِ ) أَيْ كَرَاهَةِ الْأَخْذِ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي هَذَا نَظَرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ) أَيْ مِنْ جَانِبِ الْمَالِكِ بِإِبْقَاءِ عَيْنِ مَالِهِ ، وَمِنْ جَانِبِ الْمُلْتَقِطِ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْمَالِكِ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى اللُّقَطَةِ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ يَأْمُرُهُ بِبَيْعِهَا ) قِيلَ فَإِذَا أَمَرَ بِبَيْعِهَا فَبِيعَتْ أَعْطَى الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ مَا أَنْفَقَ بِأَمْرِهِ فِي الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَالُ صَاحِبِهَا وَالنَّفَقَةُ دَيْنٌ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مَعْلُومٌ لِلْقَاضِي فَيُعِينُهُ عَلَى أَخْذِ حَقِّهِ ، لِأَنَّ الْغَرِيمَ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَكَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يُعِينَهُ عَلَى ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي الْأَصْلِ شَرْطُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ) يَعْنِي أَنَّ الْمُلْتَقِطَ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الدَّابَّةَ لُقَطَةٌ عِنْدَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْبَيِّنَةُ إنَّمَا تُقَامُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُنْكِرِ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ هُنَا .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَلَيْسَتْ تُقَامُ لِلْقَضَاءِ ) أَيْ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ تُقَامُ لِاسْتِكْشَافِ الْحَالِ بِأَنَّهُ لُقَطَةٌ لَا لِلْقَضَاءِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ قَالَ لَا بَيِّنَةَ لِي ) أَيْ الْمُلْتَقِطُ قَالَ لَا بَيِّنَةَ لِي عَلَى أَنَّهَا لُقَطَةٌ عِنْدِي وَلَكِنَّهَا لُقَطَةٌ يَقُولُ الْقَاضِي لِلْمُلْتَقِطِ أَنْفِقْ عَلَيْهَا إنْ كُنْت صَادِقًا فِيمَا قُلْت ، وَإِنَّمَا يَقُولُ بِهَذَا التَّرْدِيدِ حَذَرًا عَنْ لُزُومِ أَحَدِ الضَّرَرَيْنِ ، لِأَنَّهُ لَوْ أَمَرَ قَطْعًا تَضَرَّرَ الْمَالِكُ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ عَلَى تَقْدِيرِ الْغَصْبِ ،
وَلَوْ لَمْ يَأْمُرْ تَضَرَّرَ الْمُلْتَقِطُ عَلَى تَقْدِيرِ اللُّقَطَةِ وَقَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا .
وَقَوْلُهُ ( إذَا شَرَطَ الْقَاضِي الرُّجُوعَ عَلَى الْمَالِكِ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إنَّمَا يَرْجِعُ : أَيْ إنَّمَا يَرْجِعُ الْمُلْتَقِطُ عَلَى الْمَالِكِ إذَا شَرَطَ الْقَاضِي الرُّجُوعَ عَلَى الْمَالِكِ ، وَهَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي مَسَائِلِ اللَّقِيطِ بِقَوْلِهِ وَالْأَصَحُّ أَنْ يَأْمُرَ الْقَاضِي الْمُلْتَقِطَ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنْ يَكُونَ دَيْنًا عَلَى اللَّقِيطِ ، فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ عَلَى اللَّقِيطِ وَإِلَّا فَلَا ، فَهَذَا احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا إنَّ مُجَرَّدَ أَمْرِ الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ يَكْفِي لِلرُّجُوعِ .
قَالَ ( وَإِذَا حَضَرَ : يَعْنِي الْمَالِكَ ) كَلَامُهُ ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ حَيٌّ بِنَفَقَتِهِ ، يُقَالُ نَشَدْت الضَّالَّةَ : أَيْ عَرَّفْتهَا ، وَأَنْشَدْتهَا : أَيْ طَلَبْتهَا .
وَمَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ { لَا تَحِلُّ لُقَطَةُ مَكَّةَ إلَّا لِمُنْشِدِهَا } أَيْ طَالِبِهَا ، وَهُوَ الْمَالِكُ عِنْدَهُ وَالْمُعَرَّفُ عِنْدَنَا الْعِفَاصُ وَهُوَ الْوِعَاءُ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ النَّفَقَةُ مِنْ جِلْدٍ أَوْ خِرْقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَالْوِكَاءُ الرِّبَاطُ ، يُقَالُ أَوْكَى السِّقَاءَ : شَدَّهُ بِالْوِكَاءِ وَهُوَ الرِّبَاطُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ .
قَالَ ( وَلُقَطَةُ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ سَوَاءٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجِبُ التَّعْرِيفُ فِي لُقَطَةِ الْحَرَمِ إلَى أَنْ يَجِيءَ صَاحِبُهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَرَمِ { وَلَا يَحِلُّ لُقَطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ } وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّهَا لُقَطَةٌ ، وَفِي التَّصَدُّقِ بَعْدَ مُدَّةِ التَّعْرِيفِ إبْقَاءُ مِلْكِ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ فَيَمْلِكُهُ كَمَا فِي سَائِرِهَا ، وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِالْتِقَاطُ إلَّا لِلتَّعْرِيفِ ، وَالتَّخْصِيصُ بِالْحُرْمِ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ التَّعْرِيفُ فِيهِ لِمَكَانِ أَنَّهُ لِلْغُرَبَاءِ ظَاهِرًا .وَقَوْلُهُ ( إبْقَاءُ مِلْكِ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ تَحْصِيلُ الثَّوَابِ ( فَيَمْلِكُهُ كَمَا فِي سَائِرِهَا ) أَيْ فِي سَائِرِ اللُّقَطَاتِ ( وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ ) مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدِهَا } أَيْ لَا يَحِلُّ الْتِقَاطُهَا إلَّا لِلتَّعْرِيفِ .
فَإِنْ قِيلَ مَا وَجْهُ تَخْصِيصِ هَذَا الْمَعْنَى بِالْحَرَمِ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَالتَّخْصِيصُ بِالْحَرَمِ ) وَبَيَانُهُ أَنَّ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى مَكَانُ الْغُرَبَاءِ ، لِأَنَّ النَّاسَ يَأْتُونَ إلَيْهَا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ثُمَّ يَتَفَرَّقُونَ بِحَيْثُ يَنْدُرُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلْغُرَبَاءِ لَا يُظَنُّ عَوْدُهُمْ فِي سَنَةٍ وَأَكْثَرَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ التَّعْرِيفُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ ، فَأَزَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الْوَهْمَ بِقَوْلِهِ { لَا يَحِلُّ رَفْعُ لُقَطَتِهَا إلَّا لِمُعَرِّفِهَا } كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْبِلَادِ .
( وَإِذَا حَضَرَ رَجُلٌ فَادَّعَى اللُّقَطَةَ لَمْ تُدْفَعْ إلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ .
فَإِنْ أَعْطَى عَلَامَتَهَا حَلَّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ ) .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : يُجْبَرُ ، وَالْعَلَامَةُ مِثْلُ أَنْ يُسَمِّيَ وَزْنَ الدَّرَاهِمِ وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا .
لَهُمَا أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ يُنَازِعُهُ فِي الْيَدِ وَلَا يُنَازِعُهُ فِي الْمِلْكِ ، فَيُشْتَرَطُ الْوَصْفُ لِوُجُودِ الْمُنَازَعَةِ مِنْ وَجْهٍ ، وَلَا تُشْتَرَطُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ لِعَدَمِ الْمُنَازَعَةِ مِنْ وَجْهٍ .
وَلَنَا أَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ كَالْمِلْكِ فَلَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ وَهُوَ الْبَيِّنَةُ اعْتِبَارًا بِالْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الدَّفْعُ عِنْدَ إصَابَةِ الْعَلَامَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَعَرَفَ عِفَاصَهَا وَعَدَدَهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ } وَهَذَا لِلْإِبَاحَةِ عَمَلًا بِالْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي } الْحَدِيثَ وَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا إذَا كَانَ يَدْفَعُهُ إلَيْهِ اسْتِيثَاقًا ، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ ، لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْكَفِيلَ لِنَفْسِهِ ، بِخِلَافِ التَّكْفِيلِ لِوَارِثٍ غَائِبٍ عِنْدَهُ .
وَإِذَا صُدِّقَ قِيلَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ كَالْوَكِيلِ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ إذَا صَدَّقَهُ .
وَقِيلَ يُجْبَرُ لِأَنَّ الْمَالِكَ هَاهُنَا غَيْرُ ظَاهِرٍ وَالْمُودِعُ مَالِكٌ ظَاهِرًا ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِاللُّقَطَةِ عَلَى غَنِيٍّ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ التَّصَدُّقُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَإِنْ لَمْ يَأْتِ } يَعْنِي صَاحِبَهَا ، { فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ } وَالصَّدَقَةُ لَا تَكُونُ عَلَى غَنِيٍّ فَأَشْبَهَ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ ( وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ غَنِيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ أُبَيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ
وَإِلَّا فَانْتَفِعْ بِهَا } وَكَانَ مِنْ الْمَيَاسِيرِ ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُبَاحُ لِلْفَقِيرِ حَمْلًا لَهُ عَلَى رَفْعِهَا صِيَانَةً لَهَا وَالْغَنِيُّ يُشَارِكُهُ فِيهِ .
وَلَنَا مَالُ الْغَيْرِ فَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِرِضَاهُ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ وَالْإِبَاحَةُ لِلْفَقِيرِ لِمَا رَوَيْنَاهُ ، أَوْ بِالْإِجْمَاعِ فَيَبْقَى مَا وَرَاءَهُ عَلَى الْأَصْلِ ، وَالْغَنِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَخْذِ لِاحْتِمَالِ افْتِقَارِهِ فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ ، وَالْفَقِيرُ قَدْ يَتَوَانَى لِاحْتِمَالِ اسْتِغْنَائِهِ فِيهَا وَانْتِفَاعُ أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَهُوَ جَائِزٌ بِإِذْنِهِ ( وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ فَقِيرًا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلِهَذَا جَازَ الدَّفْعُ إلَى فَقِيرٍ غَيْرِهِ ( وَكَذَا إذَا كَانَ الْفَقِيرُ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ غَنِيًّا ) لِمَا ذَكَرْنَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَوْلُهُ ( لَهُمَا ) أَيْ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، حَاصِلُهُ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ مُنَازَعٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيُكْتَفَى فِي الْحُجَّةِ بِذِكْرِ الْوَصْفِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ( وَلَنَا أَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ كَالْمِلْكِ ) بِدَلِيلِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي غَصْبِ الْمُدَبَّرِ بِاعْتِبَارِ إزَالَةِ الْيَدِ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّقْلِ مِلْكًا .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) أَيْ هَذَا الْحَدِيثُ الْأَمْرُ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَادْفَعْهَا ( لِلْإِبَاحَةِ ) أَيْ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ ( لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِالْمَشْهُورِ ) وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَحُمِلَ عَلَى الْوُجُوبِ لَزِمَ التَّعَارُضُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلتَّرْكِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْحَمْلُ عَلَى الْإِبَاحَةِ عَمَلًا بِالْمَشْهُورِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ جَوَازِ الرَّفْعِ أَيْضًا ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْوُجُوبِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْجَوَازِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ بِانْتِفَاءِ الْجَوَازِ لِانْتِفَاءِ الْوُجُوبِ ، وَالْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَاهُنَا فِي مَقَامِ الرَّفْعِ فَجَازَ أَنْ يَدْفَعَهُ عَلَى طَرِيقٍ يَلْتَزِمُهُ الْخَصْمُ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْكَفِيلِ لِوَارِثٍ غَائِبٍ عِنْدَهُ ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنَّمَا وَرَدَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ ذِكْرٌ لِشُهْرَةِ حُكْمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ ، هَذَا إذَا دَفَعَ اللُّقَطَةَ بِذِكْرِ الْعَلَامَةِ ، أَمَّا إذَا دَفَعَهَا بِإِقَامَةِ الْحَاضِرِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا لَهُ فَفِي أَخْذِ الْكَفِيلِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ كَفِيلًا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْمَالِكَ هَاهُنَا غَيْرُ ظَاهِرٍ ) يَعْنِي فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ هُوَ الَّذِي حَضَرَ ، فَلَمَّا أَقَرَّ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ كَانَ إقْرَارُهُ مُلْزِمًا لِلدَّفْعِ إلَيْهِ ( وَأَمَّا الْمُودِعُ فَإِنَّهُ مَالِكٌ
ظَاهِرًا ) فَبِالْإِقْرَارِ بِالْوَكَالَةِ لَا يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ بِيَقِينٍ ، ثُمَّ فِي الْوَدِيعَةِ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ بَعْدَمَا صَدَّقَهُ وَهَلَكَ فِي يَدِهِ ثُمَّ حَضَرَ الْمُودِعُ وَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ وَضَمِنَ الْمُودَعَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ وَهَاهُنَا لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَابِضِ لِأَنَّ هُنَاكَ فِي زَعْمِ الْمُودِعِ أَنَّ الْوَكِيلَ عَامِلٌ لِلْمُودِعِ فِي قَبْضِهِ لَهُ بِأَمْرِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِضَامِنٍ بَلْ الْمُودِعُ ظَالِمٌ فِي تَضْمِينِهِ إيَّاهُ ، وَمَنْ ظُلِمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ وَهَاهُنَا فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْقَابِضَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ ضَامِنٌ بَعْدَمَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِغَيْرِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا ضَمِنَ بِهَذَا ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَانَ مِنْ الْمَيَاسِيرِ ) أَيْ الْأَغْنِيَاءِ جَمْعُ الْمَيْسُورِ ضِدُّ الْمَعْسُورِ .
وَقَوْلُهُ ( حَمْلًا لَهُ عَلَى رَفْعِهَا ) أَيْ لِيَكُونَ حَامِلًا ( وَبَاعِثًا عَلَى رَفْعِهَا ) وَقَوْلُهُ ( لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } إلَخْ وقَوْله تَعَالَى { وَلَا تَعْتَدُوا } وَقَوْلُهُ { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } ( قَوْلُهُ وَالْإِبَاحَةُ لِلْفَقِيرِ لِمَا رَوَيْنَاهُ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ } ( قَوْلُهُ وَالْغَنِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَخْذِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُبَاحُ لِلْفَقِيرِ ( حَمْلًا لَهُ عَلَى رَفْعِهَا ) .
وَقَوْلُهُ وَانْتِفَاعُ أُبَيِّ ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِهِ بِحَدِيثِ أُبَيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ جَائِزٌ ) أَيْ الِانْتِفَاعُ لِلْغَنِيِّ جَائِزٌ بِإِذْنِ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ) يَعْنِي نَظَرَ الثَّوَابِ لِلْمَالِكِ وَنَظَرَ الِانْتِفَاعِ لِلْمُلْتَقِطِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ النَّظَرِ
مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كِتَابُ الْإِبَاقِ ( الْآبِقُ أَخْذُهُ أَفْضَلُ فِي حَقِّ مَنْ يَقْوَى عَلَيْهِ ) لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَائِهِ ، وَأَمَّا الضَّالُّ فَقَدْ قِيلَ كَذَلِكَ ، وَقَدْ قِيلَ تَرْكُهُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ لَا يَبْرَحُ مَكَانَهُ فَيَجِدُهُ الْمَالِكُ وَلَا كَذَلِكَ الْآبِقُ ثُمَّ آخِذُ الْآبِقِ يَأْتِي بِهِ إلَى السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ بِنَفْسِهِ ، بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ ، ثُمَّ إذَا رُفِعَ الْآبِقُ إلَيْهِ يَحْبِسُهُ ، وَلَوْ رُفِعَ الضَّالُّ لَا يَحْبِسُهُ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَى الْآبِقِ الْإِبَاقُ ثَانِيًا ، بِخِلَافِ الضَّالِّكِتَابُ الْإِبَاقِ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذِهِ الْكُتُبُ ، أَعْنِي اللَّقِيطَ وَاللُّقَطَةَ وَالْإِبَاقَ وَالْمَفْقُودَ كُتُبٌ يُجَانِسُ بَعْضُهَا بَعْضًا مِنْ حَيْثُ إنَّ فِي كُلٍّ مِنْهَا عُرْضَةُ الزَّوَالِ وَالْهَلَاكِ .
وَالْإِبَاقُ : هُوَ الْهَرَبُ ، وَالْآبِقُ : هُوَ الْهَارِبُ مِنْ مَالِكِهِ قَصْدًا ( وَالْآبِقُ أَخْذُهُ أَفْضَلُ فِي حَقِّ مَنْ يَقْوَى ) أَيْ يَقْدِرُ ( عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَائِهِ ) إذْ الْآبِقُ هَالِكٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَيَكُونُ الرَّدُّ إحْيَاءً لَهُ ( وَأَمَّا الضَّالُّ ) هُوَ الَّذِي لَمْ يَهْتَدِ إلَى طَرِيقِ مَنْزِلِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَقِيلَ إنَّهُ كَذَلِكَ ، وَقِيلَ تَرْكُهُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ لَا يَبْرَحُ مَكَانَهُ فَيَجِدُهُ الْمَالِكُ ، وَلَا كَذَلِكَ الْآبِقُ ، ثُمَّ آخِذُ الْآبِقِ يَأْتِي بِهِ إلَى السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ ( لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ بِنَفْسِهِ ) وَهَذَا اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ ، وَأَمَّا اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ فَهُوَ أَنَّ الرَّادَّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ حَفِظَهُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ إلَى الْإِمَامِ ، وَكَذَلِكَ الضَّالُّ وَالضَّالَّةُ الْوَاجِدُ فِيهِمَا بِالْخِيَارِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ إذَا دُفِعَ الْآبِقُ إلَيْهِ يَحْبِسُهُ ) ظَاهِرٌ .
قَالَ ( وَمَنْ رَدَّ الْآبِقَ عَلَى مَوْلَاهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَلَهُ عَلَيْهِ جُعْلُهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ، وَإِنْ رَدَّهُ لِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَبِحِسَابِهِ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ إلَّا بِالشَّرْطِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِمَنَافِعِهِ فَأَشْبَهَ الْعَبْدَ الضَّالَّ .
وَلَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ أَصْلِ الْجُعْلِ ، إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ أَرْبَعِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مَا دُونَهَا ، فَأَوْجَبْنَا الْأَرْبَعِينَ فِي مَسِيرَةِ السَّفَرِ وَمَا دُونَهَا فِيمَا دُونَهُ تَوْفِيقًا وَتَلْفِيقًا بَيْنَهُمَا ، وَلِأَنَّ إيجَابَ الْجُعْلِ أَصْلُهُ حَامِلٌ عَلَى الرَّدِّ إذْ الْحِسْبَةُ نَادِرَةٌ فَتَحْصُلُ صِيَانَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَالتَّقْدِيرُ بِالسَّمْعِ وَلَا سَمْعَ فِي الضَّالِّ فَامْتَنَعَ ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى صِيَانَةِ الضَّالِّ دُونَهَا إلَى صِيَانَةِ الْآبِقِ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَارَى وَالْآبِقُ يَخْتَفِي ، وَيُقَدَّرُ الرَّضْخُ فِي الرَّدِّ عَمَّا دُونَ السَّفَرِ بِاصْطِلَاحِهِمَا أَوْ يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي وَقِيلَ تُقَسَّمُ الْأَرْبَعُونَ عَلَى الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ إذْ هِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ السَّفَرِ .
قَالَ ( وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ يُقْضَى لَهُ بِقِيمَتِهِ إلَّا دِرْهَمًا ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِهَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ فَلَا يَنْقُصُ عَنْهَا وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى الزِّيَادَةِ ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَلَى الْأَقَلِّ لِأَنَّهُ حَطَّ مِنْهُ .
وَمُحَمَّدٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى الرَّدِّ لِيَحْيَا مَالُ الْمَالِكِ فَيَنْقُصُ دِرْهَمٌ لِيَسْلَمَ لَهُ شَيْءٌ تَحْقِيقًا لِلْفَائِدَةِ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ إذَا كَانَ الرَّدُّ فِي حَيَاةٍ الْمَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ مِلْكِهِ ؛ وَلَوْ رَدَّ بَعْدَ مَمَاتِهِ لَا
جُعْلَ فِيهِمَا لِأَنَّهُمَا يُعْتَقَانِ بِالْمَوْتِ بِخِلَافِ الْقِنِّ ، وَلَوْ كَانَ الرَّادُّ أَبَا الْمَوْلَى أَوْ ابْنَهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهِ أَوْ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَلَا جُعْلَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَتَبَرَّعُونَ بِالرَّدِّ عَادَةً وَلَا يَتَنَاوَلُهُمْ إطْلَاقُ الْكِتَابِ .
قَالَ ( وَإِنْ أَبَقَ مِنْ الَّذِي رَدَّهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لَكِنَّ هَذَا إذَا أَشْهَدَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي اللُّقَطَةِ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ ، وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَائِعِ مِنْ الْمَالِكِ ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْآبِقَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْجُعْلَ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ بِحَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ ، وَكَذَا إذَا مَاتَ فِي يَدِهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا .
قَالَ ( وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى كَمَا لَقِيَهُ صَارَ قَابِضًا بِالْإِعْتَاقِ ) كَمَا فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى ، وَكَانَ إذَا بَاعَهُ مِنْ الرَّادِّ لِسَلَامَةِ الْبَدَلِ لَهُ ، وَالرَّادُّ وَإِنْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْبَيْعِ .
لَكِنَّهُ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ فَجَازَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ أَصْلِ الْجُعْلِ ، إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ أَرْبَعِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مَا دُونَهَا ) قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جُعْلِ الْآبِقِ دِينَارٌ أَوْ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جُعْلِ الْآبِقِ دِينَارٌ وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا .
وَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنْ رَدَّهُ فِي الْمِصْرِ فَلَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، وَإِنْ رَدَّهُ فِي خَارِجِ الْمِصْرِ اسْتَحَقَّ أَرْبَعِينَ ( فَأَوْجَبْنَا الْأَرْبَعِينَ فِي مَسِيرَةِ السَّفَرِ وَمَا دُونَهَا فِيمَا دُونَهُ تَوْفِيقًا وَتَلْفِيقًا ) أَيْ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُؤْخَذَ بِأَقَلِّ الْمَقَادِيرِ لِتَيَقُّنِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ بِالْأَقَلِّ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ بَيْنَ أَقَاوِيلِهِمْ مُمْكِنٌ بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ مَنْ أَفْتَى بِالْأَقَلِّ عَلَى مَا إذَا رَدَّهُ مِمَّا دُونَ مَسِيرَةِ السَّفَرِ ، وَقَوْلُ مَنْ أَفْتَى بِالْأَكْثَرِ عَلَى مَا إذَا رَدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ السَّفَرِ ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ يُعْمَلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا .
وَقَوْلُهُ ( وَالتَّقْدِيرُ بِالسَّمْعِ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الْآبِقِ عَلَى الضَّالِّ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْجُعْلِ .
وَفِي قَوْلِهِ ( وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ ) إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ الْإِلْحَاقِ دَلَالَةً لِأَنَّهَا تَقْتَضِي التَّسَاوِيَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْمُلْحَقِ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُقَدَّرُ الرَّضْخُ ) تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ وَإِنْ رَدَّهُ لِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَبِحِسَابِهِ ، فَإِنْ عَمِلُوا بِالْقِسْمَةِ كَانَ لِكُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ .
قِيلَ وَالْأَشْبَهُ التَّفْوِيضُ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ .
قَوْلُهُ ( وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ فِي هَذَا ) أَيْ فِي وُجُوبِ الْجُعْلِ ( بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ ) لِأَنَّهُمَا مَمْلُوكَانِ لِلْمَوْلَى وَهُوَ يَسْتَكْسِبُهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ ، وَتَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ
رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ ( لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ مِلْكِهِ ) أَوْلَى مِنْ تَعْلِيلِ غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ ، لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا مَالِيَّةَ فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُمَا يَعْتِقَانِ بِالْمَوْتِ ) بِإِطْلَاقِهِ ظَاهِرًا فِي أُمِّ الْوَلَدِ وَفِي حَقِّ الْمُدَبَّرِ الَّذِي لَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ السِّعَايَةُ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى مَالٌ سِوَاهُ فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ عَلَى الْوَرَثَةِ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ وَحُرٌّ مَدْيُونٌ عِنْدَهُمَا ، وَلَا جُعْلَ لِرَادِّ الْمُكَاتَبِ أَوْ الْحُرِّ ( قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الرَّادُّ أَبَا الْمَوْلَى أَوْ ابْنَهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهِ ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي عِيَالِهِ ظَاهِرًا ، وَلَمْ يَذْكُرْ جَوَابَ مَا إذَا لَمْ يَكُونَا فِي عِيَالِهِ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْتَحِقَّ كُلٌّ مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ الْجُعْلَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ ، لَكِنْ اُسْتُحْسِنَ فَقِيلَ إذَا وَجَدَ عَبْدَ أَبِيهِ وَلَيْسَ فِي عِيَالِهِ فَلَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّ رَدَّ الْآبِقِ عَلَى أَبِيهِ مِنْ جُمْلَةِ الْخِدْمَةِ ، وَخِدْمَةُ الْأَبِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ فَلَا جُعْلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَأَمَّا إذَا وَجَدَ الْأَبُ عَبْدَ ابْنِهِ وَلَيْسَ فِي عِيَالِهِ فَلَهُ الْجُعْلُ لِأَنَّ خِدْمَةَ الِابْنِ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ عَلَى الْأَبِ .
وَقَوْلُهُ ( فَلَا يَتَنَاوَلُهُمْ إطْلَاقُ الْكِتَابِ ) أَيْ الْقُدُورِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ وَمَنْ رَدَّ الْآبِقَ عَلَى مَوْلَاهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَالَ وَإِنْ أَبَقَ مِنْ الَّذِي رَدَّهُ ) أَيْ إذَا أَبَقَ الْآبِقُ مِنْ الَّذِي أَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ ( فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) أَيْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ( لَكِنْ هَذَا إذَا أَشْهَدَ ) عِنْدَ الْأَخْذِ ، وَقَدْ ( ذَكَرْنَاهُ فِي اللُّقَطَةِ ) أَنَّ الْأَخْذَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ) أَيْ نُسَخِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ ( لَا شَيْءَ لَهُ ) أَيْ لَا
جُعْلَ لِلرَّادِّ إذَا أَبَقَ الْآبِقُ مِنْهُ ( وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ ) أَيْ الرَّادَّ ( فِي مَعْنَى الْبَائِعِ مِنْ الْمَالِكِ ) لِأَنَّ عَامَّةَ مَنَافِعِ الْعَبْدِ زَالَتْ بِالْإِبَاقِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَفِيدُهَا الْمَوْلَى بِالرَّدِّ بِمَالٍ يَجِبُ عَلَيْهِ ، وَالْبَائِعُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ الْمَبِيعُ سَقَطَ الثَّمَنُ ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا يَسْقُطُ الْجُعْلُ ، وَاسْتُوْضِحَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ ( وَكَذَا إذَا مَاتَ فِي يَدِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا ) إنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ ( وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى ) أَيْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ ( وَقْتَ لِقَائِهِ صَارَ قَابِضًا بِالْإِعْتَاقِ ) فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْجُعْلُ ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ بِالْإِعْتَاقِ إلَى أَنَّهُ لَوْ دَبَّرَ مَكَانَ الْإِعْتَاقِ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ إتْلَافٌ لِلْمَالِيَّةِ فَيَصِيرُ بِهِ قَابِضًا كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمُشْتَرَى قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَأَمَّا التَّدْبِيرُ فَلَيْسَ بِإِتْلَافٍ لِلْمَالِيَّةِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ الْمَوْلَى قَابِضًا إلَّا أَنْ يَصِلَ إلَى يَدِهِ ( وَكَذَا إذَا بَاعَهُ مِنْ الرَّادِّ لِسَلَامَةِ الْبَدَلِ لَهُ ) وَهَذَا بِخِلَافِ الْهِبَةِ ، فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا يَصِيرُ بِهَا قَابِضًا قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى يَدِهِ لِأَنَّ فِي الْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَصِلْ الْعَبْدُ إلَى يَدِ الْمَوْلَى وَلَا يَدَ لَهُ فَلَا يَكُونُ لَهَا حُكْمُ الْقَبْضِ .
وَقَوْلُهُ وَالرَّدُّ وَإِنْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْبَيْعِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ قَدْ قُلْتُمْ مِنْ قَبْلُ إنَّ الرَّدَّ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ الْمَالِكِ ثُمَّ جَوَّزْتُمْ بَيْعَ الْمَالِكِ مِنْ الرَّادِّ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِدُخُولِهِ تَحْتَ النَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ ، وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ ، وَالرَّدُّ لَيْسَ بِبَيْعٍ كَامِلٍ بَلْ هُوَ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إعَادَةُ مِلْكِ التَّصَرُّفِ إلَيْهِ فَقَطْ ، لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ لَا
يَزُولُ عَنْ الْمَوْلَى بِالْإِبَاقِ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ النَّهْيِ فَيَكُونُ جَائِزًا .
قَالَ ( وَيَنْبَغِي إذَا أَخَذَهُ أَنْ يُشْهِدَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ لِيَرُدَّهُ ) فَالْإِشْهَادُ حَتْمٌ فِيهِ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، حَتَّى لَوْ رَدَّهُ مَنْ لَمْ يُشْهِدْ وَقْتَ الْأَخْذِ لَا جُعْلَ لَهُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ تَرْكَ الْإِشْهَادِ أَمَارَةٌ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَاهُ مِنْ الْآخِذِ أَوْ اتَّهَبَهُ أَوْ وَرِثَهُ فَرَدَّهُ عَلَى مَوْلَاهُ لَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّهُ رَدَّهُ لِنَفْسِهِ ، إلَّا إذَا أَشْهَدَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِيَرُدَّهُ فَيَكُونُ لَهُ الْجُعْلُ وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِي أَدَاءِ الثَّمَنِوَقَوْلُهُ ( وَيَنْبَغِي إذَا أَخَذَهُ أَنْ يُشْهِدَ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ ) ظَاهِرٌ .
( وَإِنْ كَانَ الْآبِقُ رَهْنًا فَالْجُعْلُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ) لِأَنَّهُ أَحْيَا مَالِيَّتَهُ بِالرَّدِّ وَهِيَ حَقُّهُ ، إذْ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهَا وَالْجُعْلُ بِمُقَابِلَةِ إحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ ، وَالرَّدُّ فِي حَيَاةِ الرَّاهِنِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ ، لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ فَبِقَدْرِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَالْبَاقِي عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّ حَقَّهُ بِالْقَدْرِ الْمَضْمُونِ فَصَارَ كَثَمَنِ الدَّوَاءِ وَتَخْلِيصُهُ عَنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ ، وَإِنْ كَانَ مَدْيُونًا فَعَلَى الْمَوْلَى إنْ اخْتَارَ قَضَاءَ الدَّيْنِ ، وَإِنْ بِيعَ بُدِئَ بِالْجُعْلِ وَالْبَاقِي لِلْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ فِيهِ كَالْمَوْقُوفِ فَتَجِبُ عَلَى مَنْ يَسْتَقِرُّ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ جَانِيًا فَعَلَى الْمَوْلَى إنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ لِعَوْدِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ ، وَعَلَى الْأَوْلِيَاءِ إنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ لِعَوْدِهَا إلَيْهِمْ ، وَإِنْ كَانَ مَوْهُوبًا فَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَإِنْ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ الرَّدِّ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لِلْوَاهِبِ مَا حَصَلَتْ بِالرَّدِّ بَلْ بِتَرْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بَعْدَ الرَّدِّ ، وَإِنْ كَانَ لِصَبِيٍّ فَالْجُعْلُ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ مِلْكِهِ ، وَإِنْ رَدَّهُ وَصِيُّهُ فَلَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الرَّدَّ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ كَانَ الْآبِقُ رَهْنًا ) سَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ فِي الرَّهْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَوْلُهُ ( وَالْجُعْلُ بِمُقَابَلَةِ إحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ ) فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ إذَا رَدَّ أُمَّ الْوَلَدِ وَمَا ثَمَّةَ إحْيَاءُ الْمَالِيَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا مَالِيَّةَ فِيهَا بِاعْتِبَارِ الرَّقَبَةِ ، وَلَهَا مَالِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ كَسْبِهَا لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهَا وَقَدْ أَحْيَا الرَّادُّ ذَلِكَ بِرَدِّهِ .
قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ مَدْيُونًا ) أَيْ الْعَبْدُ الْآبِقُ إذَا كَانَ مَدْيُونًا بِأَنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فَلَحِقَهُ الدَّيْنُ فِي التِّجَارَةِ أَوْ اسْتَهْلَكَ مَالَ الْغَيْرِ وَأَقَرَّ بِهِ مَوْلَاهُ ( قَوْلُهُ كَالْمَوْقُوفِ ) يَعْنِي بَيْنَ أَنْ يَسْتَقِرَّ عَلَى الْمَوْلَى مَتَى اخْتَارَ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَبَيْنَ أَنْ يَصِيرَ لِلْغُرَمَاءِ مَتَى اخْتَارَ الْبَيْعَ ، وَلَمَّا تَوَقَّفَ الْمِلْكُ فِي الْعَبْدِ تَوَقَّفَ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ وَهُوَ الْجُعْلُ ( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ ) أَيْ الْآبِقُ مَوْهُوبًا فَالْجُعْلُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ وَإِنْ ( رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ الرَّدِّ ) وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّ الْوَاصِلَةَ هَذِهِ لِدَفْعِ شُبْهَةٍ تُرَدُّ عَلَى مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ فَتَجِبُ عَلَى مَنْ يَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ لَهُ وَبِقَوْلِهِ فَعَلَى الْمَوْلَى إنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ ، فَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْوَاهِبِ لِوُجُودِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي حَقِّهِ .
وَوَجْهُ الدَّفْعِ ( أَنَّ الْمَنْفَعَةَ لِلْوَاهِبِ مَا حَصَلَتْ بِالرَّدِّ ) أَيْ بِرَدِّ الْآبِقِ ( بَلْ بِتَرْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بَعْدَ الرَّدِّ ) مِنْ الْهِبَةِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ التَّصَرُّفِ الَّذِي يَمْنَعُ الْوَاهِبَ عَنْ الرُّجُوعِ فِي هِبَتِهِ فَلَا يَجِبُ الْجُعْلُ عَلَى الْوَاهِبِ لِذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمَنْفَعَةُ حَصَلَتْ لِلْوَاهِبِ بِالْمَجْمُوعِ وَهُوَ تَرْكُ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْفِعْلَ وَرَدُّ الرَّادِّ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ ، لَكِنَّ تَرْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْفِعْلَ آخِرُهُمَا
وُجُودًا فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ كَمَا فِي الْقَرَابَةِ مَعَ الْمِلْكِ فَيُضَافُ الْعِتْقُ إلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا ، كَذَا هَذَا .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ لِصَبِيٍّ إلَى آخِرِهِ ) ظَاهِرٌ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
كِتَابُ الْمَفْقُودِ ( إذَا غَابَ الرَّجُلُ فَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَوْضِعٌ وَلَا يُعْلَمُ أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ نَصَّبَ الْقَاضِي مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْفِي حَقَّهُ ) لِأَنَّ الْقَاضِي نَصَّبَ نَاظِرًا لِكُلِّ عَاجِزٍ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَالْمَفْقُودُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَصَارَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، وَفِي نَصْبِ الْحَافِظِ لِمَالِهِ وَالْقَائِمِ عَلَيْهِ نَظَرٌ لَهُ .
وَقَوْلُهُ يَسْتَوْفِي حَقَّهُ لِإِخْفَاءِ أَنَّهُ يَقْبِضُ غَلَّاتِهِ وَالدَّيْنَ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ غَرِيمٌ مِنْ غُرَمَائِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ ، وَيُخَاصِمُ فِي دَيْنٍ وَجَبَ بِعَقْدِهِ لِأَنَّهُ أَصِيلٌ فِي حُقُوقِهِ ، وَلَا يُخَاصِمُ فِي الَّذِي تَوَلَّاهُ الْمَفْقُودُ وَلَا فِي نَصِيبٍ لَهُ فِي عَقَارٍ أَوْ عُرُوضٍ فِي يَدِ رَجُلٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا نَائِبٍ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ بِلَا خِلَافٍ ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ فِي الدَّيْنِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِهِ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا رَآهُ الْقَاضِي وَقَضَى بِهِ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ ، ثُمَّ مَا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ يَبِيعُهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ حِفْظُ صُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ فَيَنْظُرُ لَهُ بِحِفْظِ الْمَعْنَى ( وَلَا يَبِيعُ مَا لَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ فِي نَفَقَةٍ وَلَا غَيْرِهَا ) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ إلَّا فِي حِفْظِ مَالِهِ فَلَا يَسُوغُ لَهُ تَرْكُ حِفْظِ السُّورَةِ وَهُوَ مُمْكِنٌ .
قَالَ ( وَيُنْفِقُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ مِنْ مَالِهِ ) وَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَى الْأَوْلَادِ بَلْ يَعُمُّ جَمِيعَ قَرَابَةِ الْوِلَادِ .
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي مَالِهِ حَالَ حَضْرَتِهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ غَيْبَتِهِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ حِينَئِذٍ يَكُونُ إعَانَةً ، وَكُلُّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا فِي حَضْرَتِهِ إلَّا بِالْقَضَاءِ لَا
يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فِي غَيْبَتِهِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ حِينَئِذٍ تَجِبُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ مُمْتَنِعٌ ، فَمِنْ الْأَوَّلِ الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ وَالْإِنَاثُ مِنْ الْكِبَارِ وَالزَّمِنِيُّ مِنْ الذُّكُورِ الْكِبَارِ ، وَمِنْ الثَّانِي الْأَخُ وَالْأُخْتُ وَالْخَالُ وَالْخَالَةُ .
وَقَوْلُهُ مِنْ مَالِهِ مُرَادُهُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْمَطْعُومِ وَالْمَلْبُوسِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي مَالِهِ يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ النَّقْدَانِ وَالتِّبْرُ بِمَنْزِلَتِهِمَا فِي هَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ قِيمَةً كَالْمَضْرُوبِ ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ فِي يَدِ الْقَاضِي ، فَإِنْ كَانَتْ وَدِيعَةً أَوْ دَيْنًا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُمَا إذَا كَانَ الْمُودِعُ وَالْمَدْيُونُ مُقِرِّينَ بِالدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ وَالنِّكَاحِ وَالنَّسَبِ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُونَا ظَاهِرَيْنِ عِنْدَ الْقَاضِي ، فَإِنْ كَانَا ظَاهِرَيْنِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِقْرَارِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ظَاهِرَ الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ أَوْ النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ يَشْتَرِطُ الْإِقْرَارَ بِمَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ .
فَإِنْ دَفَعَ الْمُودِعُ بِنَفْسِهِ أَوْ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي يَضْمَنُ الْمُودِعُ وَلَا يُبَرَّأُ الْمَدْيُونُ لِأَنَّهُ مَا أَدَّى إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَا إلَى نَائِبِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ بِأَمْرِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْقَاضِي نَائِبٌ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُودِعُ وَالْمَدْيُونُ جَاحِدَيْنِ أَصْلًا أَوْ كَانَا جَاحِدَيْنِ الزَّوْجِيَّةَ وَالنَّسَبَ لَمْ يَنْتَصِبْ أَحَدٌ مِنْ مُسْتَحِقِّي النَّفَقَةِ خَصْمًا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَدَّعِيه لِلْغَائِبِ لَمْ يَتَعَيَّنْ سَبَبًا لِثُبُوتِ حَقِّهِ وَهُوَ النَّفَقَةُ ، لِأَنَّهَا كَمَا تَجِبُ فِي هَذَا الْمَالِ تَجِبُ فِي مَالٍ آخَرَ لِلْمَفْقُودِ .
كِتَابُ الْمَفْقُودِ : قَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ هَذَا الْكِتَابِ هُنَا ، وَالْمَفْقُودُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْفَقْدِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مِنْ الْأَضْدَادِ ، يُقَالُ فَقَدْت الشَّيْءَ : أَيْ أَضْلَلْته ، وَفَقَدْته : أَيْ طَلَبْته ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُتَحَقِّقٌ فِي الْمَفْقُودِ فَقَدْ ضَلَّ عَنْ أَهْلِهِ وَهُمْ فِي طَلَبِهِ .
وَذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَفْهُومِهِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ ( إذَا غَابَ الرَّجُلُ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَوْضِعٌ وَلَمْ يُعْلَمْ أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ ) وَقَوْلُهُ ( نَصَّبَ الْقَاضِي مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْفِي حَقَّهُ ) إشَارَةٌ إلَى بَيَانِ حُكْمِهِ فِي الشَّرْعِ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ ( قَوْلُهُ وَلَا فِي نَصِيبٍ لَهُ فِي عَقَارٍ أَوْ عُرُوضٍ فِي يَدِ رَجُلٍ ) بِأَنْ كَانَ الشَّيْءُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَفْقُودِ وَغَيْرِهِ ( قَوْلُهُ وَأَنَّهُ ) أَيْ الْوَكِيلَ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي ( لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ بِلَا خِلَافٍ ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ فِي الدَّيْنِ ) فَإِنَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُهَا ( وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ) يَعْنِي أَنَّ وَكِيلَ الْقَاضِي لَمَّا لَمْ يَمْلِكْ الْخُصُومَةَ كَانَ حُكْمُ الْقَاضِي بِتَنْفِيذِ الْخُصُومَةِ قَضَاءً بِالدَّيْنِ لِلْغَائِبِ ، وَالْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ وَلِلْغَائِبِ لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ وَالْخُصُومَةُ مِنْ الْغَائِبِ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ ( إلَّا إذَا رَآهُ الْقَاضِي ) أَيْ جَعَلَ ذَلِكَ رَأْيًا لَهُ وَحَكَمَ بِهِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ إذَا لَاقَى فَصْلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ نَفَّذَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُجْتَهَدُ فِيهِ نَفْسُ الْقَضَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ نَفَاذُهُ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ كَمَا لَوْ كَانَ الْقَاضِي مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُجْتَهَدَ فِيهِ سَبَبٌ لِلْقَضَاءِ وَهُوَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ هَلْ تَكُونُ حُجَّةً مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ أَوْ لَا ، فَإِذَا رَآهَا الْقَاضِي حُجَّةً وَقَضَى بِهَا نَفَذَ قَضَاؤُهُ
كَمَا لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ ( قَوْلُهُ ثُمَّ مَا كَانَ يُخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ يَبِيعُهُ الْقَاضِي ) ظَاهِرٌ .
قَوْلُهُ وَمِنْ الثَّانِي الْأَخُ وَالْأُخْتُ ) إنَّمَا كَانَ مِنْ الثَّانِي لِأَنَّهَا نَفَقَةُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ( وَهِيَ مُجْتَهَدٌ فِيهَا فَلَا تَجِبُ إلَّا بِالْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا ) وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ الْأَخْذُ بِدُونِ الْقَضَاءِ وَالرِّضَا .
وَقَوْلُهُ ( فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ) يَعْنِي الْمَلْبُوسَ وَالْمَطْعُومَ فِي مَالِهِ ( قَوْلُهُ وَهَذَا ) أَيْ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ إنْفَاقِ الْقَاضِي عَلَيْهِمْ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ( إذَا كَانَتْ فِي يَدِ الْقَاضِي ) وَهَذَا ) أَيْ الِاحْتِيَاجُ إلَى الْإِقْرَارِ إنَّمَا هُوَ ( إذَا لَمْ يَكُونَا ) أَيْ الدَّيْنُ الْوَدِيعَةُ أَوْ النِّكَاحُ ، وَالنَّسَبُ جَعْلُ الدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ شَيْئًا وَاحِدًا ، وَالنِّكَاحُ وَالنَّسَبُ كَذَلِكَ فَلِذَلِكَ ذَكَرَهُمَا بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ ( قَوْلُهُ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ جَوَابِ الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ إنَّهُ لَا يُنْفِقُ مِنْهُمَا عَلَيْهِمْ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُودَعِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْغَائِبِ ، وَهُوَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْغَائِبِ وَلَا يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْمُودَعُ مُقِرٌّ بِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِلْكُ الْغَائِبِ ، وَأَنَّ لِلزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ حَقَّ الْإِنْفَاقِ مِنْهُ ، وَإِقْرَارُ الْإِنْسَانِ فِيمَا فِي يَدِهِ مُعْتَبَرٌ فَيَنْتَصِبُ هُوَ خَصْمًا بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَدِهِ ثُمَّ يَتَعَدَّى الْقَضَاءُ مِنْهُ إلَى الْمَفْقُودِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنْهُ ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنْ الْغَائِبِ فِي الْقَبْضِ لِلْحِفْظِ وَلَا حِفْظَ فِي الْقَبْضِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى هَؤُلَاءِ فَلَا يَكُونُ نَائِبًا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنْهُ فِي إيفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُقُوقِ كَمَا هُوَ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْحِفْظِ وَلِهَذَا جَازَ لَهُ أَنْ يُوفِيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ إذَا عَلِمَ بِوُجُوبِهِ بِخِلَافِ
الْمُودَعِ فَإِنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْحِفْظِ فَقَطْ .
فَإِنْ قُلْت : إذَا دَفَعَ الْمُودَعُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي وَجَبَ أَنْ لَا يَضْمَنَ لِأَنَّهُ دَفَعَهَا إلَى مَنْ فِي عِيَالِ الْمُودَعِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِمْ لَا يُوجِبُهُ إذَا كَانَ لِلْحِفْظِ وَالدَّفْعُ لِلْإِنْفَاقِ دَفْعٌ لِلْإِتْلَافِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ مَا يَدَّعِيهِ لِلْغَائِبِ ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْخُصُومَةَ لَا تُسْمَعُ إلَّا مِنْ الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ وَالْمَالِكُ غَائِبٌ وَلَا نَائِبَ لَهُ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ لَمْ يُوَكَّلْ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَلَا حُكْمًا لِأَنَّ مَا يَدَّعِيهِ لِلْغَائِبِ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ سَبَبًا لِثُبُوتِ حَقِّهِ ( وَهُوَ النَّفَقَةُ لِأَنَّهَا كَمَا تَجِبُ فِي هَذَا الْمَالِ تَجِبُ فِي مَالٍ آخَرَ لِلْمَفْقُودِ ) وَلَا يَكُونُ الثَّابِتُ حُكْمًا إلَّا فِي مِثْلِ ذَلِكَ ، وَسَيَجِيءُ تَمَامُهُ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ ( وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ ) وَقَالَ مَالِكٌ : إذَا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ ثُمَّ تَتَزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَكَذَا قَضَى فِي الَّذِي اسْتَهْوَاهُ الْجِنُّ بِالْمَدِينَةِ وَكَفَى بِهِ إمَامًا ، وَلِأَنَّهُ مَنَعَ حَقَّهَا بِالْغَيْبَةِ فَيُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ اعْتِبَارًا بِالْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ ، وَبَعْدَ هَذَا الِاعْتِبَارِ أَخَذَ الْمِقْدَارَ مِنْهُمَا الْأَرْبَعَ مِنْ الْإِيلَاءِ وَالسِّنِينَ مِنْ الْعُنَّةِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْبَيَانُ } .
وَقَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهَا : هِيَ امْرَأَةٌ اُبْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ حَتَّى يَسْتَبِينَ مَوْتٌ أَوْ طَلَاقٌ خَرَجَ بَيَانًا لِلْبَيَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَرْفُوعِ ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عُرِفَ ثُبُوتُهُ وَالْغَيْبَةُ لَا تُوجِبُ الْفُرْقَةَ وَالْمَوْتُ فِي حَيِّزِ الِاحْتِمَالِ فَلَا يُزَالُ النِّكَاحُ بِالشَّكِّ ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْإِيلَاءِ لِأَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا مُعَجَّلًا فَاعْتُبِرَ فِي الشَّرْعِ مُؤَجَّلًا فَكَانَ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ ، وَلَا بِالْعُنَّةِ لِأَنَّ الْغَيْبَةَ تَعْقُبُ الْأَوَدَةَ ، وَالْعُنَّةُ قَلَّمَا تَنْحَلُّ بَعْدَ اسْتِمْرَارِهَا سَنَةً .
قَالَ ( وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ ، وَقِصَّةُ مَنْ اسْتَهْوَتْهُ الْجِنُّ : أَيْ جَرَّتْهُ إلَى الْمَهَاوِي وَهِيَ الْمَهَالِكُ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ : أَنَا لَقِيت الْمَفْقُودَ فَحَدَّثَنِي حَدِيثَهُ قَالَ : أَكَلْت خَزِيرًا فِي أَهْلِي فَخَرَجْت فَأَخَذَنِي نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَمَكَثْت فِيهِمْ ، ثُمَّ بَدَا لَهُمْ فِي عِتْقِي فَأَعْتَقُونِي ثُمَّ أَتَوْا بِي قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا : أَتَعْرِفُ الْخَلِيلَ ؟ فَقُلْت : نَعَمْ ، فَخَلُّوا عَنِّي ، فَجِئْت فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ أَبَانَ امْرَأَتِي بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ وَحَاضَتْ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ ، فَخَيَّرَنِي عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيَّ وَبَيْنَ الْمَهْرِ .
قَالَ مَالِكٌ : وَهَذَا مِمَّا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمَسْمُوعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّهُ مَنَعَ حَقَّهَا بِالْغَيْبَةِ فَيُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ اعْتِبَارٍ بِالْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ ) وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا مَنْعُ الزَّوْجِ حَقَّ الْمَرْأَةِ وَرَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهَا ، فَإِنَّ الْعِنِّينَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ بَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ لِرَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا ، وَبَيْنَ الْمَوْلَى وَامْرَأَتِهِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِرَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا ، وَلَكِنَّ عُذْرَ الْمَفْقُودِ أَظْهَرُ مِنْ عُذْرِ الْمَوْلَى وَالْعِنِّينِ ، فَيَتَعَيَّنُ فِي حَقِّهِ الْمُدَّتَانِ فِي التَّرَبُّصِ بِأَنْ تُجْعَلَ السُّنُونَ مَكَانَ الشُّهُورِ فَتَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ ( عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ ) ( قَوْلُهُ وَلَنَا ) ظَاهِرٌ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْبَيَانَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُجْمَلٌ ، وَقَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ بَيَانًا لِذَلِكَ الْمُبْهَمِ ( قَوْلُهُ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) رَوَاهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ( قَوْلُهُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْإِيلَاءِ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ مَالِكٍ
فِي صُورَةِ النِّزَاعِ عَلَى الْإِيلَاءِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، فَإِنَّ الْإِيلَاءَ إذَا كَانَ طَلَاقًا كَانَ مُزِيلًا لِلْمِلْكِ ، بِخِلَافِ الْمَفْقُودِ فَإِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ طَلَاقٌ لَا مُعَجَّلٌ وَلَا مُؤَجَّلٌ ( قَوْلُهُ وَلَا بِالْعُنَّةِ ) جَوَابٌ عَنْ الْقِيَاسِ بِالْعُنَّةِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعُنَّةَ بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّتْ سَنَةً كَانَتْ طَبِيعَةً وَالطَّبِيعَةُ لَا تَنْحَلُّ فَفَاتَ حَقُّهَا عَلَى التَّأْبِيدِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ سَنَةٍ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا ، بِخِلَافِ امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ فَإِنَّ حَقَّهَا مَرْجُوٌّ قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعِ سِنِينَ وَبَعْدَهُ .
قَالَ ( وَإِذَا تَمَّ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وُلِدَ حَكَمْنَا بِمَوْتِهِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ يُقَدَّرُ بِمَوْتِ الْأَقْرَانِ ، وَفِي الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِمِائَةِ سَنَةٍ ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِتِسْعِينَ ، وَالْأَقْيَسُ أَنْ لَا يُقَدَّرَ بِشَيْءٍ .
وَالْأَرْفَقُ أَنْ يُقَدَّرَ بِتِسْعِينَ ، وَإِذَا حُكِمَ بِمَوْتِهِ اعْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ( وَيُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ) كَأَنَّهُ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُعَايَنَةً إذْ الْحُكْمِيُّ مُعْتَبَرٌ بِالْحَقِيقِيِّ ( وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَرِثْ مِنْهُ ) لِأَنَّهُ لَمْ يُحْكَمْ بِمَوْتِهِ فِيهَا فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَتْ حَيَاتُهُ مَعْلُومَةً ( وَلَا يَرِثُ الْمَفْقُودُ أَحَدًا مَاتَ فِي حَالِ فَقْدِهِ ) لِأَنَّ بَقَاءَهُ حَيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ
( قَوْلُهُ وَإِذَا تَمَّ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً ) اخْتَلَفَتْ رِوَايَاتُ أَصْحَابِنَا فِي مُدَّةِ الْمَفْقُودِ ؛ فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وُلِدَ ، فَإِذَا مَضَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ حَكَمْنَا بِمَوْتِهِ .
قِيلَ : وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ أَهْلِ الطَّبَائِعِ وَالنُّجُومِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُقَدَّرُ بِمَوْتِ الْأَقْرَانِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَقْرَانِهِ حَيًّا حُكِمَ بِمَوْتِهِ لِأَنَّ مَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَطَرِيقُهُ فِي الشَّرْعِ الرُّجُوعُ إلَى أَمْثَالِهِ كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَمَهْرِ مِثْلِ النِّسَاءِ ، وَبَقَاؤُهُ بَعْدَ مَوْتِ جَمِيعِ أَقْرَانِهِ نَادِرٌ وَبِنَاءُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الظَّاهِرِ دُونَ النَّادِرِ ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ بِأَقْرَانِهِ فِي جَمِيعِ الدُّنْيَا أَوْ فِي الْإِقْلِيمِ الَّذِي هُوَ فِيهِ ذَكَرْنَاهُ فِي شَرْحِ الْفَرَائِضِ السِّرَاجِيَّةِ ، وَفِي الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِمِائَةِ سَنَةٍ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ لَا يَعِيشَ أَحَدٌ فِي زَمَانِنَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ ، وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ بِتِسْعِينَ لِأَنَّهُ مُتَوَسِّطٌ لَيْسَ بِغَالِبٍ وَلَا نَادِرٍ ، وَالْأَقْيَسُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ لِلْمَفْعُولِ وَهُوَ الْمَقِيسُ عَلَى طَرِيقِ الشُّذُوذِ كَقَوْلِهِمْ : أَشْغَلُ مِنْ ذَاتِ النَّحْيَيْنِ أَنْ لَا يُقَدَّرَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ كَالْمِائَةِ وَالتِّسْعِينَ وَلَكِنَّهُ يُقَدَّرُ بِمَوْتِ الْأَقْرَانِ ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَدَّرْ بِشَيْءٍ أَصْلًا لَتَعَطَّلَ حُكْمُ الْمَفْقُودِ ، وَالْأَرْفَقُ أَنْ يُقَدَّرَ بِتِسْعِينَ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ الْمَقَادِيرِ ( قَوْلُهُ وَإِذَا حُكِمَ بِمَوْتِهِ ) ظَاهِرٌ .
( وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لِلْمَفْقُودِ وَمَاتَ الْمُوصِي ) ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَ الْمَفْقُودِ وَارِثٌ لَا يُحْجَبُ بِهِ وَلَكِنَّهُ يُنْتَقَصُ حَقُّهُ بِهِ يُعْطَى أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ وَيُوقَفُ الْبَاقِي وَإِنْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ يُحْجَبُ بِهِ لَا يُعْطَى أَصْلًا .
بَيَانُهُ : رَجُلٌ مَاتَ عَنْ ابْنَتَيْنِ وَابْنِ مَفْقُودٍ وَابْنِ ابْنٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَالْمَالُ فِي يَدِ الْأَجْنَبِيِّ وَتَصَادَقُوا عَلَى فَقْدِ الِابْنِ وَطَلَبَتْ الِابْنَتَانِ الْمِيرَاثَ تُعْطَيَانِ النِّصْفَ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَيُوقَفُ النِّصْفُ الْآخَرُ وَلَا يُعْطَى وَلَدَ الِابْنِ لِأَنَّهُمْ يُحْجَبُونَ بِالْمَفْقُودِ ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا فَلَا يَسْتَحِقُّونَ الْمِيرَاثَ بِالشَّكِّ ( وَلَا يُنْزَعُ مِنْ يَدِ الْأَجْنَبِيِّ إلَّا إذَا ظَهَرَتْ مِنْهُ خِيَانَةٌ ) وَنَظِيرُ هَذَا الْحَمْلُ فَإِنَّهُ يُوقَفُ لَهُ مِيرَاثُ ابْنِ وَاحِدٍ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْفَتْوَى ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ آخَرُ إنْ كَانَ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِالْحَمْلِ يُعْطَى كُلٌّ نَصِيبَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْقُطُ بِالْحَمْلِ لَا يُعْطَى ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَغَيَّرُ بِهِ يُعْطِي الْأَقَلَّ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ كَمَا فِي الْمَفْقُودِ وَقَدْ شَرَحْنَاهُ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لِلْمَفْقُودِ وَمَاتَ الْمُوصِي ) أَيْ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بَلْ تُوقَفُ .
وَذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ : وَإِذَا أَوْصَى رَجُلٌ لِلْمَفْقُودِ بِشَيْءٍ فَإِنِّي لَا أَقْضِي بِهَا وَلَا أُبْطِلُهَا حَتَّى يَظْهَرَ حَالُ الْمَفْقُودِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ ، وَفِي الْمِيرَاثِ تُحْبَسُ حِصَّةُ الْمَفْقُودِ إلَى أَنْ يَظْهَرَ حَالُهُ ، فَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ ، وَالْأَصْلُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ ( قَوْلُهُ وَتَصَادَقُوا ) أَيْ الْوَرَثَةُ الْمَذْكُورُونَ وَالْأَجْنَبِيُّ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالتَّصَادُقِ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ الَّذِي فِي يَدِهِ الْمَالُ إذَا قَالَ قَدْ مَاتَ الْمَفْقُودُ قَبْلَ أَبِيهِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ الثُّلُثَيْنِ إلَى الْبِنْتَيْنِ ، لِأَنَّ إقْرَارَ ذِي الْيَدِ فِيمَا فِي يَدِهِ مُعْتَبَرٌ ، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ ثُلُثَيْ مَا فِي يَدِهِ لَهُمَا فَيُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ ذَلِكَ إلَيْهِمَا .
وَقَوْلُ أَوْلَادِ الِابْنِ أَبُونَا مَفْقُودٌ لَا يَمْنَعُ إقْرَارَ ذِي الْيَدِ لِأَنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا بِهَذَا الْقَوْلِ وَيُوقَفُ الْبَاقِي عَلَى يَدِ ذِي الْيَدِ حَتَّى يَظْهَرَ مُسْتَحِقُّهُ ، هَذَا إذَا أَقَرَّ مَنْ فِي يَدِهِ الْمَالُ ، أَمَّا لَوْ جَحَدَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ فِي يَدِهِ لِلْمَيِّتِ فَأَقَامَتْ الْبِنْتَانِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُمَا مَاتَ وَتَرَكَ الْمَالَ مِيرَاثًا لَهُمَا وَلِأَخِيهِمَا الْمَفْقُودِ ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا فَهُوَ الْوَارِثُ مَعَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَوَلَدُهُ الْوَارِثُ مَعَهُمَا فَإِنَّهُ يَدْفَعُ إلَى الْبِنْتَيْنِ النِّصْفَ لِأَنَّهُمَا بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ تُثْبِتَانِ الْمِلْكَ لِأَبِيهِمَا فِي هَذَا الْمَالِ وَالْأَبُ مَيِّتٌ وَأَحَدُ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ بِالْبَيِّنَةِ ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ يُدْفَعُ إلَيْهِمَا الْمُتَيَقَّنُ وَهُوَ النِّصْفُ ، وَيُوقَفُ النِّصْفُ الْبَاقِي عَلَى يَدِ عَدْلٍ ، لِأَنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ جَحَدَ وَهُوَ غَيْرُ مُؤْتَمَنٍ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ وَالْمَالُ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ
فِي يَدِ الِابْنَتَيْنِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحَوِّلَ الْمَالَ مِنْ مَوْضِعِهِ وَلَا يَقِفَ مِنْهُ شَيْئًا لِلْمَفْقُودِ ، وَمُرَادُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُ شَيْئًا مِنْ أَيْدِيهِمَا لِأَنَّ النِّصْفَ صَارَ بَيْنَهُمَا بِيَقِينٍ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي لِلْمَفْقُودِ مِنْ وَجْهٍ .
وَيُرِيدُ بِقَوْلِهِ وَلَا يَقِفُ مِنْهُ شَيْئًا لِلْمَفْقُودِ أَنْ لَا يَجْعَلَ شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِ الِابْنَتَيْنِ مِلْكًا لِلْمَفْقُودِ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ وَلَدَيْ الِابْنِ الْمَفْقُودِ فَطَلَبَتْ الْبِنْتَانِ مِيرَاثَهُمَا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الِابْنَ مَفْقُودٌ فَإِنَّهُ تُعْطَى الْبِنْتَانِ النِّصْفَ وَهُوَ أَدْنَى مَا يُصِيبُهُمَا وَتُرِكَ الْبَاقِي فِي يَدِ وَلَدَيْ الِابْنِ الْمَفْقُودِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْضَى بِهِ لَهُمَا وَلَا لِأَبِيهِمَا ، لِأَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا الِابْنَ الْمَفْقُودَ مَيِّتًا كَانَ نَصِيبُهُمَا الثُّلُثَيْنِ فَكَانَ النِّصْفُ مُتَيَقَّنًا بِهِ .
قَوْلُهُ ( وَنَظِيرُ هَذَا ) يَعْنِي الْمَفْقُودَ الْحَمْلُ فِي حَقِّ تَوَقُّفِ النِّصْفِ فَإِنَّهُ يُوقَفُ لَهُ مِيرَاثُ ابْنٍ وَاحِدٍ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْفَتْوَى ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الرِّسَالَةِ وَشَرْحِهَا وَشَرْحِ الْفَرَائِضِ السِّرَاجِيَّةِ فِي عِلْمِ الْفَرَائِضِ .
قَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَ مَعَهُ ) أَيْ مَعَ الْحَمْلِ ( وَارِثٌ آخَرُ ) إنْ كَانَ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِالْحَمْلِ يُعْطَى كُلٌّ نَصِيبَهُ ، كَمَا إذَا تَرَكَ امْرَأَةً حَامِلًا وَجَدَّةً فَإِنَّ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهَا بِالْحَمْلِ ، وَكَذَلِكَ إذَا تَرَكَ ابْنًا وَامْرَأَةً حَامِلًا فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تُعْطَى الثُّمُنَ لِأَنَّهُ لَا تَتَغَيَّرُ فَرِيضَتُهَا وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْقُطُ بِالْحَمْلِ لَا تُعْطَى كَابْنِ الِابْنِ وَالْأَخِ أَوْ الْعَمِّ ، فَإِنَّهُ لَوْ تَرَكَ امْرَأَةً حَامِلًا وَأَخًا أَوْ عَمًّا لَا يُعْطَى الْأَخُ وَالْعَمُّ شَيْئًا ، لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ ابْنًا فَيَسْقُطَ مَعَهُ الْأَخُ وَالْعَمُّ ، فَلَمَّا كَانَ مِمَّنْ يَسْقُطُ
بِحَالٍ كَانَ أَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ مَشْكُوكًا فَلَا يُعْطَى شَيْئًا لِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَغَيَّرُ بِهِ يُعْطَى الْأَقَلَّ الْمُتَيَقَّنَ بِهِ كَالزَّوْجَةِ وَالْأُمِّ ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الْحَمْلُ حَيًّا تَرِثُ الزَّوْجَةُ الثُّمُنَ وَالْأُمُّ السُّدُسَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا فَهُمَا يَرِثَانِ الرُّبْعَ وَالثُّلُثَ فَتُعْطَيَانِ الثُّمُنَ وَالسُّدُسَ لِلتَّيَقُّنِ كَمَا فِي الْمَفْقُودِ : يَعْنِي أَنَّهُ إذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ جَدَّةً وَابْنًا مَفْقُودًا فَلِلْجَدَّةِ السُّدُسُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَمْلِ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ نَصِيبُهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ أَخًا وَابْنًا مَفْقُودًا لَا يُعْطَى الْأَخُ شَيْئًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ أُمًّا وَابْنًا مَفْقُودًا فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الْمَفْقُودُ حَيًّا تَسْتَحِقُّ الْأُمُّ السُّدُسَ ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا تَسْتَحِقُّ الثُّلُثَ كَمَا فِي الْحَمْلِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كِتَابُ الشِّرْكَةِ ( الشِّرْكَةُ جَائِزَةٌ ) { لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهَا فَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهِ } ،كِتَابُ الشَّرِكَةِ : مُنَاسَبَةُ تَرْتِيبِ الْأَبْوَابِ الْمَارَّةِ انْسَاقَتْ إلَى هَاهُنَا عَلَى الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ .
وَلَمَّا كَانَ لِلشَّرِكَةِ مُنَاسَبَةٌ خَاصَّةٌ بِالْمَفْقُودِ مِنْ حَيْثُ إنَّ نَصِيبَ الْمَفْقُودِ مِنْ مَالِ مُوَرِّثِهِ مُخْتَلِطٌ بِنَصِيبِ غَيْرِهِ كَاخْتِلَاطِ الْمَالَيْنِ فِي الشَّرِكَةِ ذَكَرَهَا عَقِيبَهُ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ اخْتِلَاطِ نَصِيبَيْنِ فَصَاعِدًا بِحَيْثُ لَا يُعْرَفُ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ مِنْ الْآخَرِ ثُمَّ سُمِّيَ الْعَقْدُ الْخَاصُّ بِهَا وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ اخْتِلَاطُ النَّصِيبَيْنِ لِأَنَّ الْعَقْدَ سَبَبٌ لَهُ ، وَالشَّرِكَةُ جَائِزَةٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بُعِثَ وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهَا فَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهِ وَتَعَامَلَهَا النَّاسُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ .
قَالَ ( الشِّرْكَةُ ضَرْبَانِ : شِرْكَةُ أَمْلَاكٍ ، وَشِرْكَةُ عُقُودٍ .
فَشِرْكَةُ الْأَمْلَاكِ : الْعَيْنُ يَرِثُهَا رَجُلَانِ أَوْ يَشْتَرِيَانِهَا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ ) وَهَذِهِ الشِّرْكَةُ تَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ كَمَا إذَا اتَّهَبَ رَجُلَانِ عَيْنًا أَوْ مَلَكَاهَا بِالِاسْتِيلَاءِ أَوْ اخْتَلَطَ مَالُهُمَا مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدِهِمَا أَوْ بِخَلْطِهِمَا خَلْطًا يَمْنَعُ التَّمْيِيزَ رَأْسًا أَوْ إلَّا بِحَرَجٍ ، وَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا نَصِيبَهُ مِنْ شَرِيكِهِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ وَمِنْ غَيْرِ شَرِيكِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ إلَّا فِي صُورَةِ الْخَلْطِ وَالِاخْتِلَاطِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَىوَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : شَرِكَةُ أَمْلَاكٍ ، وَشَرِكَةُ عُقُودٍ ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( خَلْطًا يَمْنَعُ التَّمْيِيزَ رَأْسًا ) كَخَلْطِ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ ، أَوْ إلَّا بِحَرَجٍ كَخَلْطِهَا بِالشَّعِيرِ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ) يَعْنِي الْبَيْعَ ( مِنْ الْأَجْنَبِيِّ ) إلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى ) قِيلَ الْفَرْقُ أَنَّ خَلْطَ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَدِّي سَبَبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الْمَخْلُوطِ إلَى الْخَالِطِ ، فَإِذَا حَصَلَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ كَانَ سَبَبُ الزَّوَالِ ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، فَاعْتُبِرَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ زَائِلًا إلَى الشَّرِيكِ فِي حَقِّ الْبَيْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ غَيْرَ زَائِلٍ فِي حَقِّ الْبَيْعِ مِنْ الشَّرِيكِ كَأَنَّهُ يَبِيعُ مِلْكَ نَفْسِهِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ .
( وَالضَّرْبُ الثَّانِي : شِرْكَةُ الْعُقُودِ ، وَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا شَارَكْتُك فِي كَذَا وَكَذَا وَيَقُولُ الْآخَرُ قَبِلْت ) وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عَقْدَ الشِّرْكَةِ قَابِلًا لِلْوَكَالَةِ لِيَكُونَ مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّصَرُّفِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَيَتَحَقَّقُ حُكْمُهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُوَقَوْلُهُ ( قَابِلًا لِلْوَكَالَةِ ) احْتِرَازٌ عَنْ الشَّرِكَةِ فِي التَّكَدِّي وَالِاحْتِشَاشِ وَالِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ يَقَعُ لِمَنْ بَاشَرَ سَبَبَهُ خَاصًّا لَا عَلَى وَجْهِ الِاشْتِرَاكِ : أَيْ شَرِكَةُ الْعُقُودِ كُلُّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِعَقْدِ الْوَكَالَةِ ، ثُمَّ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ مِنْ بَيْنِهَا مَخْصُوصَةٌ بِتَضَمُّنِ عَقْدِ الْكَفَالَةِ .
ثُمَّ عُلِّلَ تَضَمُّنُ هَذِهِ الْعُقُودِ الْكَفَالَةَ بِقَوْلِهِ ( لِيَكُونَ مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّصَرُّفِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَيَتَحَقَّقُ حُكْمُهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ عَقْدِ الشَّرِكَةِ ، وَشَرْحُ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ إنَّمَا تَضَمَّنَتْ الْوَكَالَةَ لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الشَّرِكَةِ ثُبُوتَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمُسْتَفَادِ بِالتِّجَارَةِ ، وَلَا يَصِيرُ الْمُسْتَفَادُ بِالتِّجَارَةِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فِي النِّصْفِ وَفِي النِّصْفِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ حَتَّى يَصِيرَ الْمُسْتَفَادُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الشَّرِكَةِ .
( ثُمَّ هِيَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ : مُفَاوَضَةٌ ، وَعِنَانٌ ، وَشِرْكَةُ الصَّنَائِعِ ، وَشِرْكَةُ الْوُجُوهِ .
فَأَمَّا شِرْكَةُ الْمُفَاوَضَةِ فَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَ الرَّجُلَانِ فَيَتَسَاوَيَانِ فِي مَالِهِمَا وَتَصَرُّفِهِمَا وَدَيْنِهِمَا ) لِأَنَّهَا شِرْكَةٌ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ يُفَوِّضُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرَ الشِّرْكَةِ إلَى صَاحِبِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إذْ هِيَ مِنْ الْمُسَاوَاةِ ، قَالَ قَائِلُهُمْ : لَا يُصْلِحُ النَّاسَ فَوْضَى لَا سُرَاةَ لَهُمْ وَلَا سُرَاةَ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا أَيْ مُتَسَاوِيِينَ .
فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ الْمُسَاوَاةِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَذَلِكَ فِي الْمَالِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا تَصِحُّ الشِّرْكَةُ فِيهِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ فِيمَا لَا يَصِحُّ الشِّرْكَةُ فِيهِ ، وَكَذَا فِي التَّصَرُّفِ ، لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ أَحَدُهُمَا تَصَرُّفًا لَا يَمْلِكُ الْآخَرُ لَفَاتَ التَّسَاوِي ، وَكَذَلِكَ فِي الدَّيْنِ لِمَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذِهِ الشِّرْكَةُ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا .
وَفِي الْقِيَاسِ لَا تَجُوزُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا أَعْرِفُ مَا الْمُفَاوَضَةُ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ الْوَكَالَةَ بِمَجْهُولِ الْجِنْسِ وَالْكَفَالَةُ بِمَجْهُولٍ ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِانْفِرَادِهِ فَاسِدٌ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَاوِضُوا فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ } وَكَذَا النَّاسُ يُعَامِلُونَهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَبِهِ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ وَالْجَهَالَةُ مُتَحَمَّلَةٌ تَبَعًا كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَلَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظَةِ الْمُفَاوَضَةُ لِبُعْدِ شَرَائِطِهَا عَنْ عِلْمِ الْعَوَامّ ، حَتَّى لَوْ بَيَّنَّا جَمِيعَ مَا تَقْتَضِيه تَجُوزُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَعْنَى .
قَالَ ( فَتَجُوزُ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ الْكَبِيرَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ ذِمِّيَّيْنِ لِتَحَقُّقِ التَّسَاوِي ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا تَجُوزُ أَيْضًا ) لِمَا قُلْنَا ( وَلَا تَجُوزُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ وَلَا بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ )
لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ ، لِأَنَّ الْحُرَّ الْبَالِغَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَالْكَفَالَةَ ، وَالْمَمْلُوكُ لَا يَمْلِكُ وَاحِدًا مِنْهُمَا إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى ، وَالصَّبِيُّ لَا يَمْلِكُ الْكَفَالَةَ وَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ إلَّا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ .
قَالَ ( وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَجُوزُ لِلتَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فِي الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِزِيَادَةِ تَصَرُّفٍ يَمْلِكُهُ أَحَدُهُمَا كَالْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الشَّفْعَوِيِّ وَالْحَنَفِيِّ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ .
وَيَتَفَاوَتَانِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَهْتَدِي إلَى الْجَائِزِ مِنْ الْعُقُودِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَسَاوِي فِي التَّصَرُّفِ ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ اشْتَرَى بِرَأْسِ الْمَالِ خُمُورًا أَوْ خَنَازِيرَ صَحَّ ، وَلَوْ اشْتَرَاهَا مُسْلِمٌ لَا يَصِحُّ
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ هِيَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ ) ذُكِرَ فِي وَجْهِ الْحَصْرِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ إمَّا أَنْ يَذْكُرَا الْمَالَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَا .
فَإِنْ ذَكَرَا ، فَإِمَّا أَنْ يَلْزَمَ اشْتِرَاطُ الْمُسَاوَاةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ فِي رَأْسِهِ وَرِبْحِهِ أَوْ لَا .
فَإِنْ لَزِمَ فَهِيَ الْمُفَاوَضَةُ وَإِلَّا فَالْعِنَانُ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرَاهُ فَإِمَّا أَنْ يُشْتَرَطَ الْعَمَلُ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي مَالِ الْغَيْرِ أَوْ لَا ، فَالْأَوَّلُ الصَّنَائِعُ وَالثَّانِي الْوُجُوهُ .
وَمَعْنَى الْبَيْتِ : لَا يَصْلُحُ أُمُورُ النَّاسِ حَالَ كَوْنِهِمْ مُتَسَاوِينَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أُمَرَاءُ وَسَادَاتٌ ، فَإِنَّهُمْ إذَا كَانُوا مُتَسَاوِينَ تَتَحَقَّقُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمْ ، وَالسُّرَاةُ جَمْعُ السَّرِيِّ وَهُوَ جَمْعٌ عَزِيزٌ لَا يُعْرَفُ غَيْرُهُ .
وَقِيلَ هُوَ اسْمُ جَمْعٍ لِلسَّرِيِّ .
وَقَوْلُهُ ( فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً ) أَمَّا ابْتِدَاءً فَظَاهِرٌ بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ مَأْخَذِ اشْتِقَاقِهِ ، وَأَمَّا انْتِهَاءً فَلِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ مِنْ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةَ الِامْتِنَاعِ بَعْدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ فَكَانَ لِدَوَامِهَا حُكْمُ الِابْتِدَاءِ ، وَفِي ابْتِدَاءِ الْمُفَاوَضَةِ تُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ فَكَذَا فِي الِانْتِهَاءِ وَقَوْلُهُ وَذَلِكَ ) أَيْ تَحَقُّقُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَالِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِيهِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ فِيمَا لَا تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ كَالْعُرُوضِ وَالدُّيُونِ وَالْعَقَارِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عُرُوضٌ أَوْ دُيُونٌ عَلَى النَّاسِ لَا تَبْطُلُ الْمُفَاوَضَةُ مَا لَمْ تُقْبَضْ الدُّيُونُ .
وَقَوْلُهُ ( كُلُّ ذَلِكَ بِانْفِرَادِهِ فَاسِدٌ ) أَيْ كُلٌّ مِنْ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ فِي الْمَجْهُولِ فَاسِدٌ ، حَتَّى لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا وَقَالَ وَكَّلْتُك بِالشِّرَاءِ أَوْ بِشِرَاءِ الثَّوْبِ كَانَ فَاسِدًا ، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ لِلْمَجْهُولِ بِالْمَعْلُومِ بَاطِلٌ ، فَالْكَفَالَةُ لِلْمَجْهُولِ بِالْمَجْهُولِ أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ .
فَإِنْ قِيلَ :
الْوَكَالَةُ الْعَامَّةُ جَائِزَةٌ كَمَا إذَا قَالَ لِآخَرَ وَكَّلْتُك فِي مَالِي اصْنَعْ مَا شِئْت فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْعُمُومَ لَيْسَ بِمُرَادٍ هَاهُنَا ، فَإِنَّهُ لَا تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ فِي حَقِّ شِرَاءِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ لِأَهْلِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَامًّا كَانَ تَوْكِيلًا بِمَجْهُولِ الْجِنْسِ فَلَا يَجُوزُ ( قَوْلُهُ وَالْجَهَالَةُ مُتَحَمَّلَةٌ تَبَعًا كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ ) يَعْنِي : الْوَكَالَةُ بِمَجْهُولِ الْجِنْسِ مَوْجُودَةٌ فِي الْمُضَارَبَةِ وَهِيَ جَائِزَةٌ هُنَاكَ تَبَعًا فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَرِكَةَ الْعِنَانِ تَصِحُّ وَإِنْ تَضَمَّنَتْ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَشْتَرِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُسَمًّى عِنْدَ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ الْمُفَاوَضَةُ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ ) يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ حَوَالَةٌ ، وَالْحَوَالَةُ بِشَرْطِ ضَمَانِ الْأَصِيلِ كَفَالَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِتَحَقُّقِ التَّسَاوِي : أَيْ فِي كَوْنِهِمَا ذِمِّيَّيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا تَجُوزُ ) أَيْ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْحُرِّ وَبَيْنَ الْمَمْلُوكِ ظَاهِرٌ .
وَاعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِهِ وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَسَاوِيَ فِي التَّصَرُّفِ بِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَصِحُّ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ مَعَ أَنَّهُمَا لَا يَتَسَاوَيَانِ فِي التَّصَرُّفِ ، فَإِنَّ الْمَجُوسِيَّ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَوْقُوذَةِ لِاعْتِقَادِهِ الْمَالِيَّةَ فِيهَا ، وَالْكِتَابِيُّ لَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا ، وَكَذَلِكَ الْكِتَابِيُّ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ لِلذَّبْحِ دُونَ الْمَجُوسِيِّ لِأَنَّ ذَبِيحَتَهُ لَا تَحِلُّ ، وَكَذَلِكَ تَصِحُّ بَيْنَ الْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ مَعَ وُجُودِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ الْمُسَاوَاةِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ لَا مَحَالَةَ ، وَالتَّفَاوُتُ فِي الْمَوْقُوذَةِ لَمْ يُعْتَبَرْ لِأَنَّ مَنْ جَعَلَ الْمَوْقُوذَةَ مَالًا مُتَقَوِّمًا لَا يُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ فَتَتَحَقَّقُ
الْمُسَاوَاةُ ، وَأَمَّا مُؤَاجَرَةُ نَفْسِهِ لِلذَّبْحِ فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا ثَابِتَةٌ فِي ذَلِكَ مَعْنًى لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَتَقَبَّلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ عَلَى أَنْ يُقِيمَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ ، وَإِجَارَةُ الْمَجُوسِيِّ لِلذَّبْحِ صَحِيحَةٌ يَسْتَوْجِبُ بِهَا الْأَجْرَ وَإِنْ كَانَ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ .
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا ثَابِتَةٌ ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ عَلَى أَنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ ، وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِلْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ جَمِيعًا لِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ بِالْمُحَاجَّةِ فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَالِ وَالتَّصَرُّفِ .
( وَلَا يَجُوزُ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ وَلَا بَيْنَ الصَّبِيَّيْنِ وَلَا بَيْنَ الْمُكَاتَبَيْنِ ) لِانْعِدَامِ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ تَصِحَّ الْمُفَاوَضَةُ لِفَقْدِ شَرْطِهَا ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْعِنَانِ كَانَ عِنَانًا لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْعِنَانِ ، إذْ هُوَ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَقَدْ يَكُون عَامًّا .وَقَوْلُهُ ( وَلَا بَيْنَ الصَّبِيَّيْنِ ) يَعْنِي وَإِنْ أَذِنَ لَهُمَا أَبُوهُمَا لِأَنَّ مَبْنَى الْمُفَاوَضَةِ عَلَى الْكَفَالَةِ وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبَانِ .
وَقَوْلُهُ ( إذْ هُوَ ) أَيْ الْعِنَانُ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَقَدْ يَكُونُ عَامًّا : يَعْنِي قَدْ يَكُونُ عَامًّا فِي أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ وَقَدْ يَكُونُ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْهَا ، وَالْمُفَاوَضَةُ عَامَّةٌ فِيهَا فَجَازَ أَنْ يَذْكُرَ لَفْظَ الْمُفَاوَضَةِ وَيُرَادَ مَعْنَى الْعِنَانِ ، كَمَا يَجُوزُ إثْبَاتُ مَعْنَى الْخُصُوصِ بِلَفْظِ الْعُمُومِ .
قَالَ ( وَتَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ ) أَمَّا الْوَكَالَةُ فَلِتَحَقُّقِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الشِّرْكَةُ فِي الْمَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَأَمَّا الْكَفَالَةُ : فَلِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا هُوَ مِنْ مُوَاجِبِ التِّجَارَاتِ وَهُوَ تَوَجُّهُ الْمُطَالَبَةِ نَحْوَهُمَا جَمِيعًا .
قَالَ ( وَمَا يَشْتَرِيه كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ عَلَى الشِّرْكَةِ إلَّا طَعَامَ أَهْلِهِ وَكِسْوَتَهُمْ ) وَكَذَا كِسْوَتُهُ ، وَكَذَا الْإِدَامُ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُسَاوَاةُ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ ، وَكَانَ شِرَاءُ أَحَدِهِمَا كَشِرَائِهِمَا ، إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْكِتَابِ ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى عَنْ الْمُفَاوَضَةِ لِلضَّرُورَةِ ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ الرَّاتِبَةَ مَعْلُومَةُ الْوُقُوعِ ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَا التَّصَرُّفُ مِنْ مَالِهِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الشِّرَاءِ فَيَخْتَصُّ بِهِ ضَرُورَةً .
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الشِّرْكَةِ لِمَا بَيَّنَّا ( وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ أَيَّهمَا شَاءَ ) الْمُشْتَرِي بِالْأَصَالَةِ وَصَاحِبُهُ بِالْكَفَالَةِ ، وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحِصَّتِهِ مِمَّا أَدَّى لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا .
قَالَ ( وَمَا يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الدُّيُونِ بَدَلًا عَمَّا يَصِحُّ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ فَالْآخَرُ ضَامِنٌ لَهُ ) تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ ، فَمِمَّا يَصِحُّ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ الشِّرَاءُ وَالْبَيْعُ وَالِاسْتِئْجَارُ ، وَمِنْ الْقِسْمِ الْآخَرِ الْجِنَايَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَعَنْ النَّفَقَةِ .
قَالَ ( وَلَوْ كُفِّلَ أَحَدُهُمَا بِمَالٍ عَنْ أَجْنَبِيٍّ لَزِمَ صَاحِبَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يَلْزَمُهُ ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ ، وَلَوْ صَدَرَ مِنْ الْمَرِيضِ يَصِحُّ مِنْ الثُّلُثِ وَصَارَ كَالْإِقْرَاضِ وَالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً
وَمُعَاوَضَةُ بَقَاءً لِأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ بِمَا يُؤَدِّي عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ ، فَبِالنَّظَرِ إلَى الْبَقَاءِ تَتَضَمَّنُهُ الْمُفَاوَضَةُ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الِابْتِدَاءِ لَمْ تَصِحَّ مِمَّنْ ذَكَرَهُ وَتَصِحُّ مِنْ الثُّلُثِ مِنْ الْمَرِيضِ ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً .
وَأَمَّا الْإِقْرَاضُ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُ صَاحِبَهُ ، وَلَوْ سَلِمَ فَهُوَ إعَارَةٌ فَيَكُونُ لِمِثْلِهَا حُكْمُ عَيْنِهَا لَا حُكْمُ الْبَدَلِ حَتَّى لَا يَصِحَّ فِيهِ الْأَجَلُ فَلَا يَتَحَقَّقُ مُعَاوَضَةً ، وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ تَلْزَمْ صَاحِبَهُ فِي الصَّحِيحِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ .
وَمُطْلَقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَضَمَانُ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكُ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً .
قَالَ ( وَإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا مَا لَا يَصِحُّ فِيهِ الشِّرْكَةُ أَوْ وَهَبَ لَهُ وَوَصَلَ إلَى يَدِهِ بَطَلَتْ الْمُفَاوَضَةُ وَصَارَتْ عِنَانًا ) لِفَوَاتِ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا يَصْلُحُ رَأْسَ الْمَالِ إذْ هِيَ شَرْطٌ فِيهِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً ، وَهَذَا لِأَنَّ الْآخَرَ لَا يُشَارِكُهُ فِيمَا أَصَابَهُ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ ، إلَّا أَنَّهَا تَنْقَلِبُ عِنَانًا لِلْإِمْكَانِ ، فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ ، وَلِدَوَامِهِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ لَازِمٍ ( وَإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا عَرَضًا فَهُوَ لَهُ وَلَا تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ ) وَكَذَا الْعَقَارُ لِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ فِيهِ الشِّرْكَةُ فَلَا تُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ فِيهِ .
( قَوْلُهُ وَتَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ ) أَيْ تَنْعَقِدُ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ عَلَى الْوَكَالَةِ كَعَامَّةِ الشَّرِكَاتِ لِيَتَحَقَّقَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الشَّرِكَةُ فِي الْمَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّا : يَعْنِي قَوْلَهُ لِيَكُونَ مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّصَرُّفِ مُشْتَرَكًا ، وَعَلَى الْكَفَالَةِ هُوَ عَلَى مَعْنَى أَنْ يُطَالَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ شَرِيكَيْ الْمُفَاوَضَةِ بِمَا بَاشَرَهُ الْآخَرُ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ : لِتَتَحَقَّقَ الْمُسَاوَاةُ فِيمَا هُوَ مِنْ مُوجَبَاتِ التِّجَارَةِ وَهُوَ تَوَجُّهُ الْمُطَالَبَةِ نَحْوَهُمَا جَمِيعًا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ تَعْلِيلُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ) وَهُوَ قَوْلُهُ قَدْ يَكُونُ عَلَى الشَّرِكَةِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى هَذَا التَّعْلِيلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِلْبَائِعِ ) أَيْ لِبَائِعِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ ( قَوْلُهُ فَمِمَّا يَصِحُّ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالِاسْتِئْجَارُ ) أَمَّا صُورَةُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَظَاهِرَةٌ ، وَأَمَّا صُورَةُ الِاسْتِئْجَارِ فَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَجِيرًا فِي تِجَارَتِهِمَا أَوْ دَابَّةً أَوْ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ لِلْمُؤَجَّرِ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمَا شَاءَ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ بِمَا يَلْزَمُهُ بِالتِّجَارَةِ ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ أَوْ اسْتَأْجَرَ إبِلًا إلَى مَكَّةَ يَحُجُّ عَلَيْهَا فَلِلْمُكَارِي أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمَا شَاءَ ، إلَّا أَنَّ شَرِيكَهُ إذَا أَدَّى مِنْ خَالِصِ مَالِهِ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ ، وَإِنْ أَدَّى مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنَصِيبٍ مِنْ الْمُؤَدَّى ، وَأَمَّا فِي شَرِكَةِ الْعِنَانِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ غَيْرُ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُلْتَزِمُ بِالْعَقْدِ وَصَاحِبُهُ لَيْسَ بِكَفِيلٍ عَنْهُ .
وَمِنْ الْقِسْمِ الْآخَرِ الْجِنَايَةُ عَلَى بَنِي آدَمَ وَالنِّكَاحُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَعَنْ النَّفَقَةِ ، فَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى
أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ جِرَاحَةً خَطَأً لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ وَاسْتَحْلَفَهُ فَحَلَفَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْتَحْلِفَ شَرِيكَهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلَا خُصُومَةَ لَهُ مَعَ شَرِيكِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا لَزِمَهُ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ ، فَأَمَّا مَا يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ فَلَا يَكُونُ الْآخَرُ كَفِيلًا بِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الشَّرِيكِ مِنْ مُوجَبِهَا شَيْءٌ وَلَا خُصُومَةَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَهُ ، وَكَذَا الْمَهْرُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ وَالنَّفَقَةِ إذَا ادَّعَاهُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَحَلَّفَهُ عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْآخَرَ لِمَا بَيَّنَّا وَصُورَةُ الْخُلْعِ مَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَقَدَتْ عَقْدَ الْمُفَاوَضَةِ ثُمَّ خَالَعَتْ مَعَ زَوْجِهَا فَمَا لَزِمَ عَلَيْهَا مِنْ بَدَلِ الْخُلْعِ لَا يَلْزَمُ شَرِيكَهَا ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّتْ بِبَدَلِ الْخُلْعِ لَا يَلْزَمُ عَلَى شَرِيكِهَا ، وَمِنْ هَذَا يَتَبَيَّنُ صُورَةُ غَيْرِهِ قَوْلُهُ وَلَوْ كَفَلَ أَحَدُهُمَا ) ظَاهِرٌ ( قَوْلُهُ وَلَوْ صَدَرَ ) يَعْنِي عَقْدُ الْكَفَالَةِ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِحَالِ الْمَرَضِ لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَوْ أَقَرَّ بِالْكَفَالَةِ السَّابِقَةِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِهَا يُلَاقِي حَالَ بَقَائِهَا ، وَفِي حَالِ الْبَقَاءِ الْكَفَالَةُ مُعَاوَضَةٌ .
( قَوْلُهُ فَبِالنَّظَرِ إلَى الْبَقَاءِ تَتَضَمَّنُهُ الْمُفَاوَضَةُ ) يَعْنِي وَحَاجَتُنَا هَاهُنَا إلَى الْبَقَاءِ إذْ الْمُطَالَبَةُ تَتَوَجَّهُ بَعْدَ الْكَفَالَةِ لِأَنَّهَا حُكْمُهَا فَلَمَّا لَزِمَ الْمَالُ عَلَى الشَّرِيكِ الضَّامِنِ لَزِمَ عَلَى الْآخَرِ وَهَذَا هُوَ حَالَةُ الْبَقَاءِ ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ كَلَامَنَا ثَمَّةَ فِي الِابْتِدَاءِ بِأَنَّهُ هَلْ يَلْزَمُهُ أَوْ لَا ، فَاعْتَبَرْنَا جِهَةَ التَّبَرُّعِ فِيهِ وَلَمْ نَعْتَبِرْ هُنَا لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ ثَمَّةَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ ، وَلَا كَذَلِكَ هُنَا لِصِحَّةِ الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِ
الضَّامِنِ مِنْ أَهْلِ الضَّمَانِ دُونَ الصَّبِيِّ ( قَوْلُهُ لَمْ يَصِحَّ مِمَّنْ ذَكَرَهُ يُرِيدُ بِهِ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ إلَخْ ) وَأَمَّا الْإِقْرَاضُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : يَعْنِي أَنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : إنْ أَقْرَضَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ وَعِنْدَهُمَا لَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ ( قَوْلُهُ وَلَئِنْ سَلَّمَ فَهُوَ إعَارَةٌ ) أَيْ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ إقْرَاضَ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لَا يَلْزَمُ صَاحِبَهُ فَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُ لِأَنَّ الْإِقْرَاضَ إعَارَةٌ لَا مُعَاوَضَةٌ بِدَلِيلِ جَوَازِهِ ، إذْ لَوْ كَانَ مُعَاوَضَةً لَكَانَ فِيهِ بَيْعُ النَّقْدِ بِالنَّسِيئَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْمُقْرِضُ بَعْدَ الْإِقْرَاضِ حُكْمُ عَيْنِ مَا أَقْرَضَهُ لَا حُكْمُ بَدَلِهِ كَمَا فِي الْإِعَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ ( قَوْلُهُ حَتَّى لَا يَصِحَّ فِيهِ الْأَجَلُ ) أَيْ لَا يَلْزَمُ لِأَنَّ تَأْجِيلَ الْإِقْرَاضِ وَالْعَارِيَّةِ جَائِزٌ ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ الْمُضِيُّ عَلَى ذَلِكَ التَّأْجِيلِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ ( قَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ ) إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِإِطْلَاقِ جَوَابِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْمُصَنِّفُ تَابَعَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا .
وَأَجَابَ عَنْ إطْلَاقِ جَوَابِ الْكِتَابِ : أَيْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ بِالْأَمْرِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَكُونُ مُعَاوَضَةَ انْتِهَاءٍ وَإِلَّا فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً فَلَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ ، وَضَمَانُ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : يَعْنِي فِي أَنَّهُ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ .
وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ ضَمَانُ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَيْضًا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الشَّرِيكَ ، وَتَلَمُّحُ تَحْرِيرِ الْمَذَاهِبِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُظْهِرُ لَك سُقُوطَ مَا اُعْتُرِضَ بِهِ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي قَوْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي لُزُومِ ضَمَانِ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ الشَّرِيكَ فَلَا يَكُونُ لِتَخْصِيصِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا لِقَوْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ وَجْهٌ .
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ ضَمَانٌ وَجَبَ بِسَبَبٍ لَيْسَ هُوَ بِتِجَارَةٍ فَلَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ .
وَلَهُمَا أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ ضَمَانُ تِجَارَةٍ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَالٍ مُحْتَمَلٍ لِلشَّرِكَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ بِأَصْلِ السَّبَبِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ الْمَحَلِّ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ وَلِهَذَا مَلَكَ الْمَغْصُوبَ وَالْمُسْتَهْلَكَ بِالضَّمَانِ ، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَأْذُونِ لَهُ وَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ ، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ إقْرَارُ الصَّبِيِّ وَالْمَأْذُونِ لَهُ وَالْمُكَاتَبِ بِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ضَمَانَ تِجَارَةٍ لَمَا صَحَّ وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا مَالًا ) بِالتَّنْوِينِ أَيْ الْمَالَ الَّذِي تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ بَطَلَتْ الْمُفَاوَضَةُ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ ) أَيْ فِي الْعِنَانِ ابْتِدَاءً ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ بِشَرْطٍ ابْتِدَاءً لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهِ دَوَامًا ، لِأَنَّ لِدَوَامِهِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِهِ عَقْدًا غَيْرَ لَازِمٍ ، فَإِنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا امْتَنَعَ عَنْ الْمُضِيِّ عَلَى مُوجَبِ الْعَقْدِ لَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ ، وَتَأَمَّلْ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَأَمُّلَ عَالِمٍ بِالتَّحْقِيقِ تُدْرِكْ سُقُوطَ مَا اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ عَقْدَ