كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي
( وَمَنْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ بَشَّرَنِي بِوِلَادَةِ فُلَانَةَ فَهُوَ حُرٌّ فَبَشَّرَهُ ثَلَاثَةٌ مُتَفَرِّقِينَ عَتَقَ الْأَوَّلُ ) لِأَنَّ الْبِشَارَةَ اسْمٌ لِخَبَرٍ يُغَيِّرُ بَشَرَةَ الْوَجْهِ ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ سَارًّا بِالْعُرْفِ ، وَهَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَوَّلِ ( وَإِنْ بَشَّرُوهُ مَعًا عَتَقُوا ) لِأَنَّهَا تَحَقَّقَتْ مِنْ الْكُلِّ
قَالَ ( وَمَنْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ بَشَّرَنِي بِوِلَادَةِ فُلَانَةَ ) الْبِشَارَةُ اسْمٌ لِخَبَرٍ غَابَ عَنْ الْمُخْبَرِ عِلْمُهُ وَقَدْ يَكُونُ بِالْخَيْرِ وَقَدْ يَكُونُ بِالشَّرِّ إلَّا أَنَّهُ فِي الْعُرْفِ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَسُرُّ وَيَنْفِي الْحُزْنَ وَيَتَحَقَّقُ مِنْ وَاحِدٍ فَأَكْثَرَ ؛ فَإِذَا قَالَ كُلُّ عَبْدٍ بَشَّرَنِي بِوِلَادَةِ فُلَانَةَ ( فَبَشَّرَهُ ثَلَاثَةٌ ) فَإِنْ أَخْبَرُوهُ مَعًا عَتَقُوا لِأَنَّ الْبِشَارَةَ حَصَلَتْ مِنْهُمْ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ } وَإِنْ أَخْبَرُوا مُتَفَرِّقِينَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ عَتَقَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ حَصَلَتْ مِنْهُ ، وَيُعَضِّدُهُ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَقَالَ : مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا طَرِيًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ ، فَابْتَدَرَ إلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِلْبِشَارَةِ ، فَسَبَقَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ بِهَا ، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ إذَا ذَكَرَ ذَلِكَ يَقُولُ بَشَّرَنِي أَبُو بَكْرٍ وَأَخْبَرَنِي عُمَرُ } " وَإِنْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ يَنْوِي بِهِ كَفَّارَةَ يَمِينِهِ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ الشَّرْطَ : أَيْ شَرْطَ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْفِيرِ قِرَانُ نِيَّةِ التَّكْفِيرِ بِعِلَّةِ الْعِتْقِ وَهِيَ الْيَمِينُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَإِنَّمَا وُجِدَ عِنْدَ الشِّرَاءِ وَهُوَ شَرْطُ الْعِتْقِ لَا عِلَّتُهُ فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلْيَمِينِ أَجْزَأَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ ، وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ يَنْوِي بِهِ كَفَّارَةَ يَمِينِهِ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ .
وَوَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ النِّيَّةَ تُشْتَرَطُ عِنْدَ الْعِلَّةِ وَالشِّرَاءُ شَرْطُ الْعِتْقِ لَا عِلَّتُهُ ، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ هِيَ الْقَرَابَةُ فَلَا تُفِيدُ النِّيَّةُ عِنْدَ الشِّرَاءِ
( وَلَوْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ يَنْوِي بِهِ كَفَّارَةَ يَمِينِهِ لَمْ يَجُزْ ) لِأَنَّ الشَّرْطَ قِرَانُ النِّيَّةِ بِعِلَّةِ الْعِتْقِ وَهِيَ الْيَمِينُ ، فَأَمَّا الشِّرَاءُ فَشَرْطُهُ ( وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ يَنْوِي عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا ) خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ .
لَهُمَا أَنَّ الشِّرَاءَ شَرْطُ الْعِتْقِ ، فَأَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ الْقَرَابَةُ وَهَذَا لِأَنَّ الشِّرَاءَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ وَالْإِعْتَاقُ إزَالَتُهُ وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ .
وَلَنَا أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيهِ فَيُعْتِقَهُ } جَعَلَ نَفْسَ الشِّرَاءِ إعْتَاقًا لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ غَيْرُهُ وَصَارَ نَظِيرُ قَوْلِهِ سَقَاهُ فَأَرْوَاهُ
( وَهَذَا ) أَيْ كَوْنُ الشِّرَاءِ شَرْطًا لَا عِلَّةً لِأَنَّ الشِّرَاءَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَالْإِعْتَاقُ لَيْسَ إثْبَاتًا لِلْمِلْكِ ؛ لِأَنَّهُ إزَالَتُهُ فَكَانَ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ فَلَا يَكُونُ الشِّرَاءُ إعْتَاقًا .
وَلَنَا أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ } وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ جَعَلَ نَفْسَ الشِّرَاءِ إعْتَاقًا لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ غَيْرَهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَصَارَ نَظِيرَ قَوْلِهِ سَقَاهُ فَأَرْوَاهُ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ عَطَفَ الْإِعْتَاقَ عَلَى الشِّرَاءِ بِالْفَاءِ وَهُوَ يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ بِزَمَانٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَإِنْ لَطَفَ فَلَا يَكُونُ نَفْسَهُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْفِعْلَ إذَا عُطِفَ عَلَى فِعْلٍ آخَرَ بِالْفَاءِ كَانَ الثَّانِي ثَابِتًا بِالْأَوَّلِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ؛ يُقَالُ : ضَرَبَهُ فَأَوْجَعَهُ وَأَطْعَمَهُ فَأَشْبَعَهُ وَسَقَاهُ فَأَرْوَاهُ : أَيْ بِذَلِكَ الْفِعْلِ لَا بِغَيْرِهِ .
وَفِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ هَلْ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي الْقَرِيبِ أَوْ لَا ؟ فَإِنْ أَثْبَتَهُ لَا يُزِيلُهُ لِأَنَّ الْمُثْبَتَ بِعَيْنِهِ لَا يَكُونُ مُزِيلًا ، وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْهُ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ .
لَا يُقَالُ : شِرَاءُ الْقَرِيبِ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لَكِنْ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي تَقْرِيبِ إعْتَاقٍ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إزَالَةُ الْمِلْكِ وَكَوْنُ ثُبُوتِ الشَّيْءِ إزَالَةً لَهُ مُحَالٌ بِالْبَدِيهَةِ .
وَلَا يُقَالُ : شِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ بِوَاسِطَةِ مُوجِبِهِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ اسْتِحَالَةً لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُثْبِتُ الشَّيْءِ وَنَفْسُ ثُبُوتِهِ إزَالَةً لَهُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُمْ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّرْعَ أَخْرَجَ الْقَرِيبَ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْمِلْكِ بَقَاءً كَمَا أَنَّهُ أَخْرَجَ الْحُرَّ عَنْ مَحَلِّيَّتِهِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِتْقَ
لَا يَقَعُ إلَّا فِي الْمِلْكِ ، فَلَوْ لَمْ يَقُلْ بِثُبُوتِ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً لَمْ يُتَصَوَّرْ زَوَالُهُ ، وَمَنْ قَالَ لِأَمَةٍ قَدْ اسْتَوْلَدَهَا بِالنِّكَاحِ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي فَإِنَّهَا تُعْتَقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ ، وَلَا يَجْزِيهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالِاسْتِيلَادِ فَلَا تُضَافُ إلَى الْيَمِينِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَالْوَاجِبُ بِالْيَمِينِ مَا يَسْتَحِقُّ حُرِّيَّتَهُ بِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْقَرِيبُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِتْقِ بِالْقَرَابَةِ كَمَا أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ مُسْتَحِقَّةٌ لَهُ بِالِاسْتِيلَادِ فَمَا بَالُهَا لَمْ تُعْتَقْ إذَا اشْتَرَاهَا بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ التَّعْلِيقِ كَمَا عَتَقَ الْقَرِيبُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِيلَادَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَوْلِدِ فَكَانَتْ الْحُرِّيَّةُ مِنْ جِهَتَيْنِ : جِهَةِ الِاسْتِيلَادِ وَالشِّرَاءِ فَلَمْ يَقَعْ عَنْ الْكَفَّارَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، بِخِلَافِ الْقَرَابَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ جِهَةِ الْقَرِيبِ جِهَةٌ فِي حُرِّيَّتِهِ سِوَى الشِّرَاءِ ، فَإِذَا اشْتَرَاهُ نَاوِيًا لِلْكَفَّارَةِ كَانَتْ الْحُرِّيَّةُ عَنْ الْكَفَّارَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
( وَلَوْ اشْتَرَى أُمَّ وَلَدِهِ لَمْ يُجِزْهُ ) وَمَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ لِأَمَةٍ قَدْ اسْتَوْلَدَهَا بِالنِّكَاحِ : إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي ثُمَّ اشْتَرَاهَا فَإِنَّهَا تُعْتَقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَلَا يَجْزِيه عَنْ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالِاسْتِيلَادِ فَلَا تَنْضَافُ إلَى الْيَمِينِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِقِنَّةٍ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي حَيْثُ يَجْزِيه عَنْهَا إذَا اشْتَرَاهَا لِأَنَّ حُرِّيَّتَهَا غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِجِهَةٍ أُخْرَى فَلَمْ تَخْتَلَّ الْإِضَافَةُ إلَى الْيَمِينِ وَقَدْ قَارَنَتْهُ النِّيَّةُوَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا ) ( قَالَ لِقِنَّةٍ ) ظَاهِرٌ .
( وَمَنْ ) ( قَالَ إنْ تَسَرَّيْت جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ ) فَتَسَرَّى جَارِيَةً كَانَتْ فِي مِلْكِهِ عَتَقَتْ لِأَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ فِي حَقِّهَا لِمُصَادَفَتِهَا الْمِلْكَ وَهَذَا لِأَنَّ الْجَارِيَةَ مُنَكَّرَةٌ فِي هَذَا الشَّرْطِ فَتَتَنَاوَلُ كُلَّ جَارِيَةٍ عَلَى الِانْفِرَادِ ( وَإِنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَتَسَرَّاهَا لَمْ تُعْتَقْ ) خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَقُولُ : التَّسَرِّي لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ فَكَانَ ذِكْرُهُ ذِكْرَ الْمِلْكِ وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ يَصِيرُ التَّزَوُّجُ مَذْكُورًا .
وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ يَصِيرُ مَذْكُورًا ضَرُورَةٌ صِحَّةُ التَّسَرِّي وَهُوَ شَرْطٌ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ وَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْجَزَاءِ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ ، وَفِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّرْطِ دُونَ الْجَزَاءِ ، حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا وَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً لَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا فَهَذِهِ وِزَانُ مَسْأَلَتِنَا
قَالَ ( وَمَنْ قَالَ إنْ تَسَرَّيْت جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ ) مَعْنَى تَسَرَّيْت اتَّخَذَتْ سُرِّيَّةً ، وَهِيَ فِعْلِيَّةٌ مَنْسُوبَةٌ إلَى السِّرِّ وَهُوَ الْجِمَاعُ أَوْ الْإِخْفَاءُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُسِرُّهُ ، وَإِنَّمَا ضُمَّتْ سِينُهُ لِأَنَّ الْأَبْنِيَةَ قَدْ تَتَغَيَّرُ فِي النِّسْبَةِ كَمَا قَالُوا فِي النِّسْبَةِ إلَى الدَّهْرِ دُهْرِيٌّ بِضَمِّ الدَّالِ لِلْمُعَمَّرِ .
وَالتَّسَرِّي عِبَارَةٌ عَنْ التَّحْصِينِ وَالْجِمَاعِ طَلَبَ الْوَلَدَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْوَلَدِ مَعَ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ وَطِئَهَا وَعَزَلَ عَنْهَا لَا يَكُونُ تَسَرِّيًا عِنْدَهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَسْتَلْزِمْ مِلْكَ الرَّقَبَةِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَلْزِمُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ سَوَاءٌ كَانَ بِالنِّكَاحِ أَوْ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ ، فَإِذَا قَالَ إنْ تَسَرَّيْت جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ ( فَتَسَرَّى جَارِيَةً كَانَتْ فِي مِلْكِهِ عَتَقَتْ لِأَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ فِي حَقِّهَا لِمُصَادَفَتِهَا الْمِلْكَ ) وَكُلُّ مَا انْعَقَدَ فِي حَقِّهِ الْيَمِينُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ فِيهِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا لِأَنَّ الْجَارِيَةَ ) تَوْضِيحٌ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ فِي حَقِّهَا ( وَإِنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَتَسَرَّاهَا لَمْ تُعْتَقْ خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَقُولُ : التَّسَرِّي لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ ، فَكَانَ ذِكْرُهُ ذِكْرَ الْمِلْكِ ، وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ يَصِيرُ التَّزَوُّجُ مَذْكُورًا ) فَإِنْ قِيلَ : هَذَا قَوْلٌ بِالِاقْتِضَاءِ وَزُفَرُ لَا يَقُولُ بِالِاقْتِضَاءِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ إثْبَاتَ الْمِلْكِ هَاهُنَا بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ لَا بِالِاقْتِضَاءِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الثَّابِتَ دَلَالَةً مَا يَكُونُ مَفْهُومًا مِنْ اللَّفْظِ بِلَا تَأَمُّلٍ وَاجْتِهَادٍ كَمَا كَانَ النَّهْيُ عَنْ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ الْمُؤْذِيَةِ مَفْهُومًا مِنْ النَّهْيِ عَنْ التَّأْفِيفِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُقْتَضِي لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لَا يُفْهَمُ مِنْ ذِكْرِ الْمُقْتَضَى ، ثُمَّ
إذَا قِيلَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عِنْدَ فُلَانٍ سُرِّيَّةٌ يُرَادُ بِهَا جَارِيَةٌ مَمْلُوكَةٌ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ ، فَلَمَّا كَانَ الْمِلْكُ مَفْهُومًا مِنْ التَّسَرِّي بِلَا تَأَمُّلٍ وَاجْتِهَادٍ كَانَ الْمِلْكُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لَا بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ ، هَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَبَقِيَّةُ الشَّارِحِينَ .
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالدَّلَالَةِ هُوَ مَا يَكُونُ بِطَرِيقِ إلْحَاقِ صُورَةٍ بِأُخْرَى بِأَمْرٍ جَامِعٍ كَالضَّرْبِ الْمُلْحَقِ بِالتَّأْفِيفِ بِوَاسِطَةِ الْأَذَى ؛ وَلِهَذَا ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّ الدَّلَالَةَ قِيَاسٌ لِوُجُودِ أَصْلٍ وَفَرْعٍ وَعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا ، وَالْمِلْكُ مِنْ التَّسَرِّي لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَأَقُولُ : هَذَا اللَّفْظُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُرْفِ بِمَعْنَى إنْ وَطِئْت مَمْلُوكَةً لِي فَكَانَتْ الدَّلَالَةُ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ مَجَازًا .
أَوْ نَقُولُ هَذَا الْحُكْمُ إذَا ثَبَتَ عَنْ زُفَرَ وَلَمْ يَقُلْ بِالِاقْتِضَاءِ كَانَ مُنَاقِضًا فَكُفِينَا مَئُونَةَ الْجِدَالِ مَعَهُ ( وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ يَصِيرُ مَذْكُورًا ضَرُورَةَ صِحَّةِ التَّسَرِّي ) وَتَقْرِيرُهُ : سَلَّمْنَا أَنَّ ذِكْرَهُ ذِكْرُ الْمِلْكِ ، وَلَكِنْ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ ضَرُورَةَ صِحَّةِ التَّسَرِّي لِكَوْنِهِ شَرْطًا ، وَمَا يَثْبُتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا ( وَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْجَزَاءِ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ الْمِلْكِ الثَّابِتِ اقْتِضَاءً وَقَوْلُهُ ( وَفِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَا إذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ .
وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرْت مِنْ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فَالْأَمْرُ فِيهِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِيهَا مِلْكُ النِّكَاحِ ضَرُورَةَ صِحَّةِ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الطَّلَاقُ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى صِحَّةِ الْجَزَاءِ ( حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا وَطَلَّقَهَا لَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا فَهَذِهِ وِزَانُ مَسْأَلَتِنَا ) مِنْ حَيْثُ إنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ثَبَتَ شَرْطُ الشَّرْطِ لِصِحَّةِ الشَّرْطِ وَلَا يَتَعَدَّى
إلَى صِحَّةِ الْجَزَاءِ ، وَأَمَّا وِزَانُ مَسْأَلَةِ زُفَرَ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ إنْ تَسَرَّيْت جَارِيَةً فَعَبْدِي حُرٌّ فَاشْتَرَى جَارِيَةً فَتَسَرَّى بِهَا عَتَقَ الْعَبْدُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ فِي الْعَبْدِ فَيَصِحُّ تَعْلِيقُ عِتْقِهِ بِشَرْطٍ سَيُوجَدُ
( وَمَنْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ تُعْتَقُ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ وَعَبِيدُهُ ) لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي هَؤُلَاءِ ، إذْ الْمِلْكُ ثَابِتٌ فِيهِمْ رَقَبَةً وَيَدًا ( وَلَا يُعْتَقُ مُكَاتَبُوهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُمْ ) لِأَنَّ الْمِلْكَ غَيْرُ ثَابِتٍ يَدًا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ أَكْسَابَهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ الْمُكَاتَبَةِ ، بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ فَاخْتَلَّتْ الْإِضَافَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ( وَمَنْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ عَتَقَ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ وَعَبِيدُهُ لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي هَؤُلَاءِ ) يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ لِي كَامِلٌ ( إذْ الْمِلْكُ ثَابِتٌ فِيهِمْ رَقَبَةً وَيَدًا ) وَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ كَذَلِكَ دَخَلُوا تَحْتَ كَلِمَةِ كُلِّ فَيُعْتَقُونَ ، وَإِنْ قَالَ أَرَدْت الرِّجَالَ خَاصَّةً صَدَقَ دِيَانَةً خَاصَّةً ، أَمَّا تَصْدِيقُهُ دِيَانَةً فَلِأَنَّ لَفْظَ الْمَمْلُوكِ وُضِعَ لِلْمُذَكَّرِ ، وَأَمَّا عَدَمُ تَصْدِيقِهِ قَضَاءً فَلِأَنَّهُمْ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ يُسْتَعْمَلُ فِيهِمْ لَفْظُ الْمُذَكَّرِ عُرْفًا ، وَلَوْ نَوَى الْإِنَاثَ لَغَتْ نِيَّتُهُ ، وَإِنْ قَالَ لَمْ أَنْوِ الْمُدَبَّرِينَ لَمْ يَصْدُقْ فِي الْقَضَاءِ عَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْعَتَاقِ وَلَمْ يَصْدُقْ لَا قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً عَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْأَيْمَانِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ( وَلَا يُعْتَقُ مُكَاتَبُوهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُمْ لِأَنَّ الْمِلْكَ غَيْرُ ثَابِتٍ يَدًا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ أَكْسَابَهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ ) الْأَمَةِ ( الْمُكَاتَبَةِ ) فَكَانَ الْمُكَاتَبُ مَمْلُوكًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ( بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ فَاخْتَلَّتْ الْإِضَافَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ )
( وَمَنْ قَالَ لِنِسْوَةٍ لَهُ هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ طَلُقَتْ الْأَخِيرَةُ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْأَوَّلِيَّيْنِ ) لِأَنَّ كَلِمَةَ أَوْ لِإِثْبَاتِ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ وَقَدْ أَدْخَلَهَا بَيْنَ الْأَوَّلِيَّيْنِ ثُمَّ عَطَفَ الثَّالِثَةَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ لِأَنَّ الْعَطْفَ لِلْمُشَارَكَةِ فِي الْحُكْمِ فَيَخْتَصُّ بِمَحَلِّهِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَهَذِهِ ( وَكَذَا إذَا قَالَ لِعَبِيدِهِ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا وَهَذَا عَتَقَ الْأَخِيرُ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْأَوَّلَيْنِ ) لِمَا بَيَّنَّا .
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ قَالَ لِنِسْوَةٍ لَهُ هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَيَخْتَصُّ بِمَحَلِّهِ ) أَيْ بِمَحَلِّ الْحُكْمِ وَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ لِأَنَّ الْكَلَامَ سِيقَ لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْعَطْفَ كَمَا يَصِحُّ عَلَى مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ يَصِحُّ أَيْضًا عَلَى مَنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْحُكْمِ فَيُعْطَفُ عَلَى مَنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا وَفُلَانًا ، فَإِنَّهُ إنْ كَلَّمَ الْأَوَّلَ حَنِثَ ، وَإِنْ كَلَّمَ أَحَدَ الْآخَرِينَ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يُكَلِّمَهُمَا ، وَيَكُونُ الثَّالِثُ مَعْطُوفًا عَلَى الثَّانِي الَّذِي لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ مُنْفَرِدًا وَهَذَا لِأَنَّ الْجَمْعَ بِحَرْفِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ هَاتَانِ فَحِينَئِذٍ كَانَ هُوَ مُخَيَّرًا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، إنْ شَاءَ أَوْقَعَ عَلَى الْأُولَى ، وَإِنْ شَاءَ أَوْقَعَ عَلَى الْأُخْرَيَيْنِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْته هُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ ، فَأَمَّا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا وَفُلَانًا فِي أَنَّ الثَّالِثَ مَعْطُوفٌ عَلَى الثَّانِي الَّذِي لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ ، وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ هُوَ أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ إذَا دَخَلَتْ بَيْنَ شَيْئَيْنِ تَتَنَاوَلُ أَحَدَهُمَا نَكِرَةً ، إلَّا أَنَّ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ الْإِثْبَاتِ ، وَالنَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ فَتَتَنَاوَلُ أَحَدَهُمَا ، فَإِذَا عَطَفَ الثَّالِثَ عَلَى أَحَدِهِمَا صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَهَذِهِ ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى هَذَا كَانَ الْحُكْمُ مَا قُلْنَا ، أَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ فَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ النَّفْيِ وَهِيَ فِيهِ تَعُمُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تُطِعْ
مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا } فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا وَلَا فُلَانًا ، فَلَمَّا ذَكَرَ الثَّالِثَ بِحَرْفِ الْوَاوِ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَوْ هَذَيْنِ ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى هَذَا كَانَ الْحُكْمُ هَكَذَا فَكَذَا هَاهُنَا
( بَابُ الْيَمِينِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّزَوُّجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ) : ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ أَوْ لَا يَشْتَرِي أَوْ لَا يُؤَاجِرُ فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ الْعَقْدَ وُجِدَ لَهُ مِنْ الْعَاقِدِ حَتَّى كَانَتْ الْحُقُوقُ عَلَيْهِ ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْعَاقِدُ هُوَ الْحَالِفُ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ فَلَمْ يُوجَدْ مَا هُوَ الشَّرْطُ وَهُوَ الْعَقْدُ مِنْ الْآمِرِ ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ تَشْدِيدًا أَوْ يَكُونَ الْحَالِفُ ذَا سُلْطَانٍ لَا يَتَوَلَّى الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَمَّا يَعْتَادُهُ
( بَابُ الْيَمِينِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّزَوُّجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ) يُرِيدُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَالضَّرْبَ ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ فِي الْأَيْمَانِ كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا بَعْدَهُ فَلِذَلِكَ قَدَّمَهُ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : ثُمَّ الضَّابِطُ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لِأَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيمَا يَحْنَثُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ ، وَفِيمَا لَا يَحْنَثُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ تَرْجِعُ الْحُقُوقُ فِيهِ إلَى الْمُبَاشِرِ ، فَالْحَالِفُ لَا يَحْنَثُ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ ، وَكُلُّ فِعْلٍ تَرْجِعُ الْحُقُوقُ فِيهِ إلَى مَنْ وَقَعَ حُكْمُ الْفِعْلِ لَهُ يَحْنَثُ .
وَالثَّانِي أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ يَحْتَمِلُ حُكْمُهُ الِانْتِقَالَ إلَى غَيْرِهِ ، فَالْحَالِفُ فِيهِ لَا يَحْنَثُ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ ، وَكُلُّ فِعْلٍ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ يَحْنَثُ .
قِيلَ وَكُلُّ مَا يَسْتَغْنِي الْمَأْمُورُ فِي مُبَاشَرَتِهِ عَنْ إضَافَتِهِ إلَى الْآمِرِ فَالْآمِرُ لَا يَحْنَثُ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ هَذِهِ الْإِضَافَةِ يَحْنَثُ .
وَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ مَتَى رَجَعَتْ حُقُوقُهُ إلَى مَنْ وَقَعَ حُكْمُ الْعَقْدِ لَهُ فَمَقْصُودُ الْحَالِفِ مِنْ الْحَلِفِ التَّوَقِّي عَنْ حُكْمِ الْعَقْدِ لَهُ وَعَنْ حُقُوقِهِ وَكِلَاهُمَا يَرْجِعَانِ إلَيْهِ ، وَمَتَى رَجَعَتْ حُقُوقُهُ إلَى الْعَاقِدِ لَا إلَى مَنْ وَقَعَ حُكْمُ الْعَقْدِ لَهُ فَمَقْصُودُهُ مِنْ الْحَلِفِ التَّوَقِّي مِنْ رُجُوعِ الْحُقُوقِ إلَيْهِ وَهِيَ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ فَلَا يَحْنَثُ .
ثُمَّ مِمَّا يَحْنَثُ الْحَالِفُ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ النِّكَاحُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْقَرْضُ وَالِاسْتِقْرَاضُ وَضَرْبُ الْعَبْدِ وَالذَّبْحُ وَالْإِيدَاعُ وَقَبُولُ الْوَدِيعَةِ وَالْإِعَارَةُ وَالِاسْتِعَارَةُ وَخِيَاطَةُ الثَّوْبِ وَالْبِنَاءُ ، فَإِنَّ الْحَالِفَ كَمَا يَحْنَثُ فِيهَا بِفِعْلِ نَفْسِهِ يَحْنَثُ أَيْضًا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ .
وَأَمَّا مَا لَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَهُوَ
الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْإِجَارَةُ وَالِاسْتِئْجَارُ وَالصُّلْحُ عَنْ الْمَالِ وَكَذَلِكَ الْقِسْمَةُ ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ أَلْحَقَ الْخُصُومَةَ بِهَذَا الْقِسْمِ .
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا ظَهَرَ مَعْنَى كَلَامِهِ إلَّا أَلْفَاظًا نُنَبِّهُ عَلَيْهَا .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ) اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ : أَيْ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَنْ لَا يَأْمُرَ غَيْرَهُ أَيْضًا فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ يَكُونُ الْحَالِفُ ذَا سُلْطَانٍ ) يَعْنِي إذَا بَاشَرَهُ الْمَأْمُورُ حَنِثَ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ الْيَمِينِ مَنْعُ نَفْسِهِ عَمَّا هُوَ مُعْتَادُهُ وَمُعْتَادُهُ الْأَمْرُ لِلْغَيْرِ ، فَلَمَّا أَمَرَ غَيْرَهُ وَفَعَلَ الْمَأْمُورَ حَنِثَ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ حَنِثَ أَيْضًا لِوُجُودِ الْبَيْعِ مِنْهُ حَقِيقَةً .
( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ أَوْ لَا يُطَلِّقُ أَوْ لَا يُعْتِقُ فَوَكَّلَ بِذَلِكَ حَنِثَ ) لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي هَذَا سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ وَلِهَذَا لَا يُضِيفُهُ إلَى نَفْسِهِ بَلْ إلَى الْآمِرِ ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَى الْآمِرِ لَا إلَيْهِ ( وَلَوْ قَالَ عَنَيْت أَنْ لَا أَتَكَلَّمَ بِهِ لَمْ يَدِينَ فِي الْقَضَاءِ خَاصَّةً ) وَسَنُشِيرُ إلَى الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
( لَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ أَوْ لَا يَذْبَحُ شَاتَه فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَفَعَلَ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ ) لِأَنَّ الْمَالِكَ لَهُ وِلَايَةُ ضَرْبِ عَبْدِهِ وَذَبْحِ شَاتِه فَيَمْلِكُ تَوْلِيَتَهُ غَيْرَهُ ثُمَّ مَنْفَعَتَهُ رَاجِعَةً إلَى الْآمِرِ فَيَجْعَلُ هُوَ مُبَاشِرًا إذْ لَا حُقُوقَ لَهُ تَرْجِعُ إلَى الْمَأْمُورِ ( وَلَوْ قَالَ عَنَيْت أَنْ لَا أَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِي دِينَ فِي الْقَضَاءِ ) بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ إلَّا تَكَلُّمًا بِكَلَامٍ يُفْضِي إلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا ، وَالْأَمْرُ بِذَلِكَ مِثْلُ التَّكَلُّمِ بِهِ وَاللَّفْظُ يَنْتَظِمُهُمَا ، فَإِذَا نَوَى التَّكَلُّمَ بِهِ فَقَدْ نَوَى الْخُصُوصَ فِي الْعَامِّ فَيَدِينُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً ، أَمَّا الذَّبْحُ وَالضَّرْبُ فَفِعْلٌ حِسِّيٌّ يُعْرَفُ بِأَثَرِهِ ، وَالنِّسْبَةُ إلَى الْآمِرِ بِالتَّسْبِيبِ مَجَازٌ ، فَإِذَا نَوَى الْفِعْلَ بِنَفْسِهِ فَقَدْ نَوَى الْحَقِيقَةَ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً وَقَضَاءًوَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْمَالِكَ لَهُ وِلَايَةُ ضَرْبِ عَبْدِهِ ) يَلُوحُ إلَى أَنَّهُ لَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِضَرْبِ حُرٍّ وَقَدْ حَلَفَ عَلَى ضَرْبِهِ فَضَرَبَهُ الْمَأْمُورُ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَلَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَوَجْهُ الْفَرْقِ ) هُوَ الْفَرْقُ الْمَوْعُودُ بِقَوْلِهِ سَنُشِيرُ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إذَا نَوَى الْخُصُوصَ فِي الْعُمُومِ يَصْدُقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ، وَفِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَيْهِ .
وَإِذَا نَوَى الْحَقِيقَةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ صَدَقَ قَضَاءً وَدِيَانَةً ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَخْفِيفٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ يُصْرَفُ إلَى حَقِيقَتِهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ ؛ فَإِذَا وُجِدَتْ النِّيَّةُ كَانَ الصَّرْفُ إلَيْهَا أَوْلَى .
( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ وَلَدَهُ فَأَمَرَ إنْسَانًا فَضَرَبَهُ لَمْ يَحْنَثْ ) فِي يَمِينِهِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ضَرْبِ الْوَلَدِ عَائِدَةٌ إلَيْهِ وَهُوَ التَّأَدُّبُ وَالتَّثَقُّفُ فَلَمْ يَنْسِبْ فَعَلَهُ إلَى الْآمِرِ ، بِخِلَافِ الْأَمْرِ بِضَرْبِ الْعَبْدِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الِائْتِمَارِ بِأَمْرِهِ عَائِدَةٌ إلَى الْآمِرِ فَيُضَافُ الْفِعْلُ إلَيْهِ ( وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ إنْ بِعْت لَك هَذَا الثَّوْبَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَدَسَّ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ ثَوْبَهُ فِي ثِيَابِ الْحَالِفِ فَبَاعَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ دَخَلَ عَلَى الْبَيْعِ فَيَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِهِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَفْعَلَهُ بِأَمْرِهِ إذْ الْبَيْعُ تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ وَلَمْ تُوجَدْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إنْ بِعْت ثَوْبًا لَك حَيْثُ يَحْنَثُ إذَا بَاعَ ثَوْبًا مَمْلُوكًا لَهُ ، سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ عَلِمَ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ، لِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ دَخَلَ عَلَى الْعَيْنِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ فَيَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِهِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لَهُ ، وَنَظِيرُهُ الصِّيَاغَةُ وَالْخِيَاطَةُ وَكُلُّ مَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ ، بِخِلَافِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَضَرْبِ الْغُلَامِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ فَلَا يَفْتَرِقُ الْحُكْمُ فِيهِ فِي الْوَجْهَيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ضَرْبِ الْوَلَدِ عَائِدَةٌ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى الْوَلَدِ ، وَذَكَرَ ضَمِيرَ الْمَنْفَعَةِ نَظَرًا إلَى الْخَبَرِ وَهُوَ التَّأَدُّبُ وَالتَّثَقُّفُ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ قَالَ إنْ بِعْت لَك هَذَا الثَّوْبَ ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ .
وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ لَامَ الِاخْتِصَاصِ إذَا اتَّصَلَ بِضَمِيرٍ عَقِيبَ فِعْلٍ مُتَعَدٍّ ، فَإِمَّا أَنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَفْعُولِهِ أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْ الْمَفْعُولِ .
وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ الْفِعْلُ النِّيَابَةَ أَوْ لَا ، فَإِنْ احْتَمَلَهَا وَتَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا كَانَ اللَّامُ لِاخْتِصَاصِ الْفِعْلِ ، وَشَرَطَ حِنْثَ وُقُوعِ الْفِعْلِ لِأَجْلِ مَنْ لَهُ الضَّمِيرُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْعَيْنُ مَمْلُوكَةً لَهُ أَوْ لَمْ تَكُنْ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْأَمْرِ ، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْ الْمَفْعُولِ كَانَ اخْتِصَاصُ الْعَيْنِ بِهِ وَشَرْطُ كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً لَهُ سَوَاءً كَانَ الْفِعْلُ وَقَعَ لِأَجْلِهِ أَوْ لَمْ يَقَعْ ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْهَا لَا يَفْتَرِقُ الْحُكْمُ فِي الْوَجْهَيْنِ : أَيْ فِي التَّوَسُّطِ وَالتَّأَخُّرِ بَلْ يَحْنَثُ إذَا فَعَلَهُ سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ النِّيَابَةَ لَمْ يُمْكِنْ انْتِقَالُهُ إلَى غَيْرِ الْفَاعِلِ فَيَكُونُ الْأَمْرُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِاخْتِصَاصِ الْعَيْنِ صَوْنًا لِلْكَلَامِ عَنْ الْإِلْغَاءِ ، وَمَعْنَى دَسَّ أَخْفَى ، وَالْمُرَادُ بِالْغُلَامِ إمَّا الْعَبْدُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ وَإِمَّا الْوَلَدُ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّ ضَرْبَ الْعَبْدِ يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِضَرْبِهِ حَنِثَ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَعُودُ إلَيْهِ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ قُبَيْلَ هَذَا ، وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ وَجَّهَ الْأَوَّلَ ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَكَالَةِ وَالنِّيَابَةِ وَكَالَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا حُقُوقٌ يَرْجِعُ بِهَا الْوَكِيلُ بِمَا
يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَلَيْسَ لِلضَّرْبِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، وَأَجَابَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَذْكُرْهَا ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَتَخْطِئَةٌ لَهُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا حُقُوقَ لَهُ تَرْجِعُ إلَى الْمَأْمُورِ ، وَمَعَ ذَلِكَ جَعَلَهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ .
( وَمَنْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ حُرٌّ إنْ بِعْته فَبَاعَهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَتَقَ ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْبَيْعُ وَالْمِلْكُ فِيهِ قَائِمٌ فَيَنْزِلُ الْجَزَاءُ ( وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي إنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَتَقَ ) أَيْضًا لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ الشِّرَاءُ وَالْمِلْكُ قَائِمٌ فِيهِ ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا ظَاهِرٌ ، وَكَذَا عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّ هَذَا الْعِتْقَ بِتَعْلِيقِهِ وَالْمُعَلَّقُ كَالْمُنْجَزِ ، وَلَوْ نَجَّزَ الْعِتْقَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ سَابِقًا عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا
قَالَ ( وَمَنْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ حُرٌّ إنْ بِعْته فَبَاعَهُ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ عَتَقَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْبَيْعُ وَالْمِلْكُ فِيهِ قَائِمٌ ) لِأَنَّ خِيَارَهُ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ بِالِاتِّفَاقِ ( فَيَنْزِلُ الْجَزَاءُ ) قِيلَ لَوْ كَانَ الْبَيْعُ مِنْ غَيْرِ إفَادَةِ الْحُكْمِ كَافِيًا لِوُقُوعِ مَا عُلِّقَ بِهِ لَكَانَ النِّكَاحُ كَذَلِكَ ، فَإِذَا عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالنِّكَاحِ وَوَجَدَ النِّكَاحَ فَاسِدًا وَجَبَ أَنْ يَنْزِلَ الْجَزَاءُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ لَيْسَ مِنْ الْمُنَافِي ، وَجَوَازُ النِّكَاحِ مَعَ الْمُنَافِي ؛ لِأَنَّهُ رِقٌّ وَالْإِنْسَانِيَّة تُنَافِيهِ ، فَإِذَا كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا اُعْتُضِدَ فَسَادُهُ بِمَا يُخَالِفُ الدَّلِيلَ فَتَرَجَّحَ جَانِبُ الْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلدَّلِيلِ فَكَانَ مَوْجُودًا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي الْمَحَلِّ وَإِنْ لَمْ يُفِدْ الْحُكْمَ ؛ وَلَوْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت هَذَا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ عَتَقَ أَيْضًا لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ الشِّرَاءُ وَالْمِلْكُ قَائِمٌ فِيهِ ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لَهُ عِنْدَهُمَا ، وَكَذَا عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّ هَذَا الْعِتْقَ مُعَلَّقٌ بِتَعْلِيقِهِ وَالْمُعَلَّقُ كَالْمُنَجَّزِ ، وَلَوْ نَجَّزَ الْعِتْقَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ انْفَسَخَ الْخِيَارُ وَثَبَتَ الْمِلْكُ وَوَقَعَ الْعِتْقُ فَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَ .
وَرُدَّ بِأَنَّ فِي التَّنْجِيزِ لَوْ لَمْ يَنْفَسِخْ الْخِيَارُ لَبَطَلَ التَّنْجِيزُ أَصْلًا لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ التَّأْخِيرَ ، وَفِي التَّعْلِيقِ لَوْ لَمْ يَنْفَسِخْ لَمْ يَبْطُلْ لِثُبُوتِ الْعِتْقِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ التَّنْجِيزِ بِفَسْخِ الْخِيَارِ صِحَّةُ حُكْمِ التَّعْلِيقِ بِهِ فِي الْحَالِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعِتْقَ يُحْتَاطُ فِي تَعْجِيلِهِ وَهُوَ مُمْكِنٌ بِإِيقَاعِهِ فِي الْحَالِ بِفَسْخِ الْخِيَارِ فَلَا يُؤَخَّرُ إلَى
مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ ، وَطُولِبَ هَاهُنَا فَرْقَانِ : فَرْقٌ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَهَا وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَإِنَّهُ قَدْ اشْتَرَاهُ وَلَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ .
وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ قَرِيبَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَسْقُطْ الْخِيَارُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَفَرْقٌ بَيْنَ الْأُولَيَيْنِ بِأَنَّ الْخِيَارَ إذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي يَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِهِ ، وَمَتَى كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِهِ وَبَيْنَ الثَّانِيَتَيْنِ بِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ كَلِمَةُ الْإِعْتَاقِ بَعْدَ الشِّرَاءِ حَتَّى يَسْقُطَ بِهَا الْخِيَارُ فَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُسْقِطْهُ ، وَأَمَّا فِي الْإِيجَابِ الْمُعَلَّقِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ قَائِلًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ أَنْتَ حُرٌّ فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ ضَرُورَةً لِوُجُودِ مَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ ، وَوَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ يُفِيدُ أَنَّ الْبَيْعَ إذَا كَانَ بَاتًّا لَا يُعْتَقُ وَإِنْ وُجِدَ الْبَيْعُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ مَعَ الْمَعْلُولِ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ ، فَكَمَا تَمَّ الْبَيْعُ زَالَ الْعَبْدُ عَنْ مِلْكِهِ وَالْجَزَاءُ لَا يَنْزِلُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ ، بِخِلَافِ مَا فِيهِ الشَّرْطُ فَإِنَّهُمَا يَتَعَاقَبَانِ فِيهِ
( وَمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَبِعْ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ هَذِهِ الْأَمَةَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَأَعْتَقَ أَوْ دَبَّرَ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ ) لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ عَدَمُ الْبَيْعِ لِفَوَاتِ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ( وَمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَبِعْ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ هَذِهِ الْأَمَةَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَأَعْتَقَ أَوْ دَبَّرَ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ عَدَمُ الْبَيْعِ لِفَوَاتِ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ ) وَهَذَا فِي إعْتَاقِ الْعَبْدِ ظَاهِرٌ ، وَأَمَّا فِي التَّدْبِيرِ وَالْأَمَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانٍ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ يَجُوزُ بَيْعُهُ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهِ ، وَالْأَمَةُ يَجُوزُ أَنْ تَرْتَدَّ فَتُسْبَى بَعْدَ اللِّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُدَبَّرِ مَا دَامَ مُدَبَّرًا ، وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهِ يُفْسَخُ التَّدْبِيرُ وَيَكُونُ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ بَيْعَ الْقِنِّ لَا بَيْعَ الْمُدَبَّرِ ، وَفَوَاتُ الْمَحَلِّيَّةِ إنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ التَّدْبِيرِ ، وَهَذَا كَمَا تَرَى غَيْرُ مَخْلَصٍ لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ فَوَاتَ الْمَحَلِّيَّةِ بِبَقَاءِ التَّدْبِيرِ وَالتَّدْبِيرُ قَدْ يَزُولُ فَلَا تَفُوتُ الْمَحَلِّيَّةُ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ ، وَالْأَوْلَى فِي الْبَيَانِ أَنْ يُقَالَ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ لَا يَجُوزُ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ ؛ فَإِنْ أَقْدَمَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْقَضَاءِ بِمَا لَا يَجُوزُ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْأَصْلُ عَدَمُ مَا يَحْدُثُ فَكَانَ عَدَمُ فَوَاتِ الْمَحَلِّيَّةِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ بِبَيْعِهِ مُخَالِفًا لِلظَّاهِرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا ، وَأَمَّا الْأَمَةُ فَإِنَّ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ لَا تَطْلُقُ امْرَأَتُهُ فِي التَّعْلِيقِ بِعَدَمِ بَيْعِهَا بِاعْتِبَارِ هَذَا الِاحْتِمَالِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَطْلُقُ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمِلْكِ وَقَدْ انْتَهَى ذَلِكَ الْمِلْكُ بِالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ .
( وَإِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا تَزَوَّجْت عَلِيَّ فَقَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ ثَلَاثًا طَلُقَتْ هَذِهِ الَّتِي حَلَّفَتْهُ فِي الْقَضَاءِ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ جَوَابًا فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ غَرَضَهُ إرْضَاؤُهَا وَهُوَ بِطَلَاقِ غَيْرِهَا فَيَتَقَيَّدُ بِهِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ عُمُومُ الْكَلَامِ وَقَدْ زَادَ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ فَيُجْعَلُ مُبْتَدِئًا ، وَقَدْ يَكُونُ غَرَضُهُ إيحَاشُهَا حِينَ اعْتَرَضَتْ عَلَيْهِ فِيمَا أَحَلَّهُ الشَّرْعُ وَمَعَ التَّرَدُّدِ لَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا ، وَإِنْ نَوَى غَيْرَهَا يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ .وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ ) ( قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ ) أَيْ أَصْلِهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْجَوَابَ الْمُطَابِقَ لَقَالَ إنْ فَعَلْت فَهِيَ طَالِقٌ : فَلَمَّا ذَكَرَ كَلِمَةَ كُلَّ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ الْعُمُومُ فَيَعْمَلُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ فَكَانَ مُبْتَدِئًا .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ يَكُونُ غَرَضُهُ إيحَاشَهَا ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ بِأَنَّ الْغَرَضَ إرْضَاؤُهَا
( وَمَنْ قَالَ وَهُوَ فِي الْكَعْبَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ فَعَلَيْهِ حِجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَهْرَاقَ دَمًا ) وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَاجِبَةٍ وَلَا مَقْصُودَةٍ فِي الْأَصْلِ ، مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَلِأَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا إيجَابَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ زِيَارَةُ الْبَيْتِ مَاشِيًا فَيَلْزَمُهُ مَاشِيًا ، وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَرَاقَ دَمًا ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَنَاسِكِ ( وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ الْخُرُوجُ أَوْ الذَّهَابُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ الْتِزَامَ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ ( وَلَوْ قَالَ : عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي قَوْلِهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْحَرَمِ حِجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ ) وَلَوْ قَالَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ .
لَهُمَا أَنَّ الْحَرَمَ شَامِلٌ عَلَى الْبَيْتِ ، وَكَذَا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَصَارَ ذِكْرُهُ كَذِكْرِهِ ، بِخِلَافِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَنَّهُمَا مُنْفَصِلَانِ عَنْهُ .
وَلَهُ أَنَّ الْتِزَامَ الْإِحْرَامِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ فَامْتَنَعَ أَصْلًا
( بَابُ الْيَمِينِ فِي الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ) قَدَّمَ هَذَا الْبَابَ عَلَى بَابِ اللُّبْسِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ فِي هَذَا ذِكْرَ الْعِبَادَاتِ وَذِكْرُهَا مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهَا ، وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ عَمَّا تَقَدَّمَ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ .
وَمَسَائِلُ هَذَا الْفَصْلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : فِي وَجْهٍ يَلْزَمُهُ إمَّا حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، وَفِي وَجْهٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ كَذَلِكَ ، وَفِي وَجْهٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ .
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَفِيمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ أَوْ إلَى مَكَّةَ .
وَفِي رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَوْ إلَى بَكَّةَ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْكَعْبَةِ أَوْ فِي مَكَّةَ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَزِمَهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ فَظَاهِرٌ ، وَإِنْ كَانَ بِهَا وَاخْتَارَ الْحَجَّ يُحْرِمُ مِنْ الْحَرَمِ وَيَخْرُجُ إلَى عَرَفَاتٍ مَاشِيًا ، فَإِنْ رَكِبَ لَزِمَهُ شَاةٌ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْعُمْرَةَ خَرَجَ إلَى التَّنْعِيمِ وَيُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يَخْرُجُ إلَى التَّنْعِيمِ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : جَازَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَقْتَ الرَّوَاحِ إلَى التَّنْعِيمِ لِأَنَّ الرَّوَاحَ إلَيْهِ لَيْسَ بِمَشْيٍ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَإِنَّمَا الْمَشْيُ إلَيْهِ وَقْتَ الرُّجُوعِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَمْشِي وَقْتَ الرَّوَاحِ أَيْضًا لِأَنَّ الرَّوَاحَ إلَيْهِ لِلْإِحْرَامِ فَكَانَ مَشْيًا إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ بِهَذَا النَّذْرِ شَيْءٌ ( لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَاجِبَةٍ ) لِأَنَّ الْمَشْيَ أَمْرٌ مُبَاحٌ ( وَلَا مَقْصُودَةَ فِي الْأَصْلِ ) يَعْنِي لِذَاتِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ لَا نَفْسُهُ فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ النَّذْرُ بِهِ بَاطِلًا لَكِنْ تَرَكْنَاهُ بِالْأَثَرِ وَالْعُرْفِ .
أَمَّا الْأَثَرُ فَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ : بَلَغَنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ الْحَجَّ مَاشِيًا حَجَّ
رَاكِبًا وَذَبَحَ شَاةً لِرُكُوبِهِ .
كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ ، وَلَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِمَا نَحْنُ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيمَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ الْحَجَّ مَاشِيًا بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَجَابَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ عَلَيْهِ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً وَهَذَا مُطَابِقٌ .
وَقَدْ رَوَى شَيْخِي فِي شَرْحِهِ " { أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُحْرِمَ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ } " .
وَأَمَّا الْعُرْفُ فَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا إيجَابَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ زِيَارَةُ الْبَيْتِ مَاشِيًا فَيَلْزَمُهُ مَاشِيًا ، وَإِنْ رَكِبَ وَأَرَاقَ دَمًا فَلَهُ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَنَاسِكِ .
وَإِيجَابُ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ بِهَذَا النَّذْرِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ مِنْ بَابِ ذِكْرِ السَّبَبِ وَإِرَادَةِ الْمُسَبَّبِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّاذِرُ فِي الْكَعْبَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ هَذَا اللَّفْظُ اسْتِعَارَةً لِالْتِزَامِ الْحَجِّ كَانَ اللَّفْظُ غَيْرَ مَنْظُورٍ إلَيْهِ ، كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَضْرِبَ بِثَوْبِهِ حَطِيمَ الْكَعْبَةِ فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْمَشْيُ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ هُنَاكَ ضَرْبُ الْحَطِيمِ بِثَوْبِهِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ إهْدَاءُ الثَّوْبِ إلَى مَكَّةَ لِكَوْنِ اللَّفْظِ عِبَارَةً عَنْهُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ لِلْحَجِّ مَاشِيًا فَضِيلَةً لَيْسَتْ لَهُ رَاكِبًا ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ حَجَّ مَاشِيًا فَلَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ ، قِيلَ : وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ ؟ قَالَ : وَاحِدَةٌ بِسَبْعِمِائَةٍ } " فَاعْتُبِرَ لَفْظُهُ لِإِيجَابِ الْمَشْيِ لِإِحْرَازِ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ ، وَمَعْنَاهُ فِي إيجَابِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْمُتَعَارَفِ ،
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي الْعُرْفِ تُسْتَعْمَلُ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ مَاشِيًا لَا أَنَّ الْحَقِيقَةَ مُرَادَةٌ بِلَفْظِهِ وَمَجَازُهُ بِمَعْنَاهُ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَفِيمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ الْخُرُوجُ أَوْ الذَّهَابُ أَوْ السَّعْيُ أَوْ السَّفَرُ أَوْ الرُّكُوبُ أَوْ الْإِتْيَانُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ الْمَشْيُ إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِعَدَمِ الْأَثَرِ وَالْعُرْفِ فِيهِ فَكَانَ بَاقِيًا عَلَى الْقِيَاسِ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ فَفِيمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
كَمَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَزِمَهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ لِأَنَّ الْحَرَمَ شَامِلٌ لِلْبَيْتِ ( وَكَذَا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَصَارَ ذِكْرُهُ كَذِكْرِهِ ، بِخِلَافِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَنَّهُمَا مُنْفَصِلَانِ عَنْهُ .
وَلَهُ أَنَّ الْتِزَامَ الْإِحْرَامِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ ) حَتَّى يَصِيرَ مَجَازًا ( وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ فَامْتَنَعَ أَصْلًا )
( وَمَنْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ أَحُجَّ الْعَامَ ، وَقَالَ : حَجَجْتُ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ ضَحَّى الْعَامَ بِالْكُوفَةِ لَمْ يُعْتَقْ عَبْدُهُ ) ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يُعْتَقُ لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى أَمْرٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ التَّضْحِيَةُ ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِفَاءُ الْحَجِّ فَيَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ .
وَلَهُمَا أَنَّهَا قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا نَفْيُ الْحَجِّ لَا إثْبَاتُ التَّضْحِيَةِ لِأَنَّهُ لَا مَطَالِبَ لَهَا فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ الْعَامَ .
غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا النَّفْيَ مِمَّا يُحِيطُ عِلْمُ الشَّاهِدِ بِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يُمَيَّزُ بَيْنَ نَفْيٍ وَنَفْيٍ تَيْسِيرًاوَمَنْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ أَحُجَّ الْعَامَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لَكِنْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ نَفْيٍ وَنَفْيٍ تَيْسِيرًا ) نُوقِضَ بِمَسْأَلَةِ السَّيْرِ الْكَبِيرِ : رَجُلَانِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّا سَمِعْنَاهُ يَقُولُ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ قَوْلَ النَّصَارَى فَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ ، وَالرَّجُلُ يَقُولُ وَصَلْت بِقَوْلِي قَوْلَ النَّصَارَى جَازَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ ، وَإِنْ قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى نَفْيِ شَيْءٍ أَحَاطَ بِهِ عِلْمُ الشَّاهِدِ .
وَأَجَابَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ بِأَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى أَمْرٍ وُجُودِيٍّ وَهُوَ سُكُوتُ الزَّوْجِ عَقِيبَ قَوْلِهِ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ، وَلَكِنْ قَالَ الْإِمَامَانِ الْعَلَمَانِ فِي التَّحْقِيقِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ : إذَا قَالَ الشَّاهِدَانِ الزَّوْجُ لَمْ يَقُلْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا هَذَا بَيَانٌ مِنْهُمَا لِإِحَاطَةِ عِلْمِهِمَا بِذَلِكَ ، فَكَانَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ نَفْيٍ وَنَفْيٍ مُعْتَبَرًا ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مُخْتَارَ الْمُصَنِّفِ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْحَرَجِ .
( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَصُومُ فَنَوَى الصَّوْمَ وَصَامَ سَاعَةً ثُمَّ أَفْطَرَ مِنْ يَوْمِهِ حَنِثَ ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ إذْ الصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ ( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَصُومُ يَوْمًا أَوْ صَوْمًا فَصَامَ سَاعَةً ثُمَّ أَفْطَرَ لَا يَحْنَثُ ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الصَّوْمُ التَّامُّ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا وَذَلِكَ بِإِنْهَائِهِ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ ، وَالْيَوْمُ صَرِيحٌ فِي تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ بِهِقَوْلُهُ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَصُومُ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الصَّوْمُ التَّامُّ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا ) أَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَصُومَن هَذَا الْيَوْمَ وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ بَعْدَ الزَّوَالِ صَحَّ يَمِينُهُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالصَّوْمُ مَقْرُونٌ بِالْيَوْمِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُرِدْ بِهِ الصَّوْمَ الشَّرْعِيَّ فَإِنَّ الصَّوْمَ الشَّرْعِيَّ بَعْدَ الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ أَوْ بَعْدَ الزَّوَالِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ لَيْسَ الصَّوْمَ الشَّرْعِيَّ وَهُوَ كَوْنُ الْيَمِينِ بَعْدَ الْأَكْلِ أَوْ بَعْدَ الزَّوَالِ فَانْصَرَفَ إلَى الصَّوْمِ اللُّغَوِيِّ وَانْعَقَدَتْ يَمِينُهُ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَمْنَعُهُ عَنْ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ .
( وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ سَجَدَ مَعَ ذَلِكَ ثُمَّ قَطَعَ حَنِثَ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ بِالِافْتِتَاحِ اعْتِبَارًا بِالشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الصَّلَاةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَرْكَانِ الْمُخْتَلِفَةِ ، فَمَا لَمْ يَأْتِ بِجَمِيعِهَا لَا يُسَمَّى صَلَاةً ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ رُكْنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَيَتَكَرَّرُ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي ( وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي صَلَاةً لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا وَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ لِلنَّهْيِ عَنْ الْبُتَيْرَاءِ .وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ) قِيلَ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ بِمُجَرَّدِ الْإِتْيَانِ بِالرَّكْعَتَيْنِ مَا لَمْ يَأْتِ بِالْقَعْدَةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَكُونُ مُعْتَبَرَةً بِدُونِ الْقَعْدَةِ شَرْعًا ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ عِبَارَةٌ عَنْ صَلَاةٍ تَامَّةٍ ، وَتَمَامُهَا شَرْعًا إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَعْدَةِ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ لَبِسْتِ مِنْ غَزْلِكِ فَهُوَ هَدْيٌ فَاشْتَرَى قُطْنًا فَغَزَلَتْهُ وَنَسَجَتْهُ فَلَبِسَهُ فَهُوَ هَدْيٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ حَتَّى تَغْزِلَ مِنْ قُطْنٍ مَلَكَهُ يَوْمَ حَلَفَ ) وَمَعْنَى الْهَدْيِ التَّصَدُّقُ بِهِ بِمَكَّةَ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَيْهَا .
لَهُمَا أَنَّ النَّذْرَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْمِلْكِ أَوْ مُضَافًا إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ اللُّبْسَ وَغَزْلَ الْمَرْأَةِ لَيْسَا مِنْ أَسْبَابِ مِلْكِهِ .
وَلَهُ أَنَّ غَزْلَ الْمَرْأَةِ عَادَةً يَكُونُ مِنْ قُطْنِ الزَّوْجِ وَالْمُعْتَادُ هُوَ الْمُرَادُ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِمِلْكِهِ ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ إذَا غَزَلَتْ مِنْ قُطْنٍ مَمْلُوكٍ لَهُ وَقْتَ النَّذْرِ لِأَنَّ الْقُطْنَ لَمْ يَصِرْ مَذْكُورًا .بَابُ الْيَمِينِ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ ) : قَدَّمَ يَمِينَ لُبْسِ الثِّيَابِ وَغَيْرَهُ عَلَى الْيَمِينِ فِي الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ ، إمَّا لِأَنَّ يَمِينَ لُبْسِ الثِّيَابِ أَكْثَرُ مِنْهُ وُجُودًا ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْيَمِينَ بِهِ مَشْرُوعٌ وُجُودًا وَعَدَمًا ، بِخِلَافِ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ ( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ لَبِسْت مِنْ غَزْلِك فَهُوَ هَدْيٌ ) أَيْ صَدَقَةٌ أَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُعْتَادُ هُوَ الْمُرَادُ ) يَعْنِي فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ مِنْ قُطْنِي أَوْ مِنْ قُطْنٍ سَأَمْلِكُهُ ( وَذَلِكَ ) أَيْ الْغَزْلُ مِنْ قُطْنِ الزَّوْجِ ( سَبَبٌ لِمِلْكِ الزَّوْجِ لِمَا غَزَلَتْهُ ) يَعْنِي مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ وَقَوْلُهُ ( وَلِهَذَا ) إيضَاحٌ لِقَوْلِهِ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِمِلْكِهِ : يَعْنِي أَنَّهَا إذَا غَزَلَتْ مِنْ قُطْنٍ مَمْلُوكٍ لِلزَّوْجِ وَقْتَ الْحَلِفِ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لَأَنْ يَمْلِكَ الزَّوْجُ غَزْلَهَا مَعَ أَنَّ الْقُطْنَ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ هُنَاكَ ، وَمَا ذَاكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ غَزْلَ الْمَرْأَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الزَّوْجِ لِمَا غَزَلَتْهُ فِي الْعُرْفِ ، وَالْعُرْفُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقُطْنُ مَمْلُوكًا وَقْتَ الْحَلِفِ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حُلِيًّا فَلَبِسَ خَاتَمَ فِضَّةٍ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ عُرْفًا وَلَا شَرْعًا حَتَّى أُبِيحَ اسْتِعْمَالُهُ لِلرِّجَالِ وَالتَّخَتُّمُ بِهِ لِقَصْدِ الْخَتْمِ ( وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ حَنِثَ ) لِأَنَّهُ حُلِيٌّ وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ لِلرِّجَالِ .
( وَلَوْ لَبِسَ عِقْدَ لُؤْلُؤٍ غَيْرِ مُرَصَّعٍ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا يَحْنَثُ ) لِأَنَّهُ حُلِيٌّ حَقِيقَةً حَتَّى سُمِّيَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ .
وَلَهُ أَنَّهُ لَا يَتَحَلَّى بِهِ عُرْفًا إلَّا مُرَصَّعًا ، وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ .
وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ ، وَيُفْتَى بِقَوْلِهِمَا لِأَنَّ التَّحَلِّيَ بِهِ عَلَى الِانْفِرَادِ مُعْتَادٌ
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حَلْيًا ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَهُوَ مَا يَتَحَلَّى بِهِ النِّسَاءُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ جَوْهَرٍ ، وَاسْتَدَلَّ بِإِبَاحَةِ اسْتِعْمَالِهِ لِلرِّجَالِ عَلَى أَنَّ الْخَاتَمَ مِنْ فِضَّةٍ لَيْسَ بِحَلْيٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَلْيًا لَحَرُمَ عَلَى الرِّجَالِ لِأَنَّ التَّزَيُّنَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ ، وَلَمَّا جَازَ التَّخَتُّمُ بِالْفِضَّةِ لَهُمْ لِقَصْدِ الْخَتْمِ أَوْ لِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ حَلْيًا أَوْ كَانَ نَاقِصًا فِي كَوْنِهِ حَلْيًا فَكَانَ مُبَاحًا ( وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ حَنِثَ ) يَعْنِي كَيْفَمَا كَانَ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ فَصٌّ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
قِيلَ الْخَوَاتِيمُ ثَلَاثَةٌ ، الذَّهَبُ مُطْلَقًا ، وَالْفِضَّةُ الْمَفْصُوصَةُ وَالْحَالِفُ أَنْ لَا يَلْبَسَ حَلْيًا يَحْنَثُ بِلُبْسِهِمَا ، وَالْفِضَّةُ الْغَيْرُ الْمَفْصُوصَةُ وَالْحَالِفُ لَا يَحْنَثُ بِلُبْسِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ لَبِسَ عِقْدَ لُؤْلُؤٍ ) ظَاهِرٌ ، وَالْعِقْدُ بِالْكَسْرِ هُوَ الْقِلَادَةُ ، وَالتَّرْصِيعُ التَّرْكِيبُ ، يُقَالُ تَاجٌ مُرَصَّعٌ بِالْجَوَاهِرِ .
وَقَوْلُهُ ( حَتَّى سُمِّيَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ ) أَيْ بِالْحَلْيِ يُرِيدُ بِهِ قَوْله تَعَالَى { وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } وقَوْله تَعَالَى { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا } جَعَلَ اللُّؤْلُؤَ حَلْيًا بِجَعْلِهِ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى " { يُحَلَّوْنَ } "
( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَنَامَ عَلَيْهِ وَفَوْقَهُ قِرَامٌ حَنِثَ ) لِأَنَّهُ تَبَعُ الْفِرَاشِ فَيُعَدُّ نَائِمًا عَلَيْهِ ( وَإِنْ جَعَلَ فَوْقَهُ فِرَاشًا آخَرَ فَنَامَ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ ) لِأَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ تَبَعًا لَهُ فَقَطَعَ النِّسْبَةَ عَنْ الْأَوَّلِوَقَوْلُهُ ( وَمَنْ ) ( حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ ) يُرِيدُ عَلَى فِرَاشٍ بِعَيْنِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَإِنْ جَعَلَ فَوْقَهُ فِرَاشًا آخَرَ فَنَامَ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى حَقِيقَتِهِ مُنَكَّرًا لَحَنِثَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ نَامَ عَلَى فِرَاشٍ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ حَائِلًا ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ نَزَعَ ثَوْبَهُ وَطَرَحَهُ عَلَى الْأَرْضِ وَجَلَسَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ ثَوْبُهُ تَبَعًا لَهُ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْبِسَاطِ وَالْحَصِيرِ .
( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطٍ أَوْ حَصِيرٍ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى جَالِسًا عَلَى الْأَرْضِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ لِبَاسُهُ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ حَائِلًا ( وَإِنْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى سَرِيرٍ فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ فَوْقَهُ بِسَاطٌ أَوْ حَصِيرٌ حَنِثَ ) لِأَنَّهُ يُعَدُّ جَالِسًا عَلَيْهِ ، وَالْجُلُوسُ عَلَى السَّرِيرِ فِي الْعَادَةِ كَذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَعَلَ فَوْقَهُ سَرِيرًا آخَرَ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْأَوَّلِ فَقَطَعَ النِّسْبَةَ عَنْهُ .وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى سَرِيرٍ ) ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ .
( بَابُ الْيَمِينِ فِي الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِهِ ) ( وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ إنْ ضَرَبْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَمَاتَ فَضَرَبَهُ فَهُوَ عَلَى الْحَيَاةِ ) لِأَنَّ الضَّرْبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ ، وَالْإِيلَامُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَيِّتِ ، وَمَنْ يُعَذَّبُ فِي الْقَبْرِ تُوضَعُ فِيهِ الْحَيَاةُ فِي قَوْلِ الْعَامَّةِ وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ، وَمِنْهُ الْكِسْوَةُ فِي الْكَفَّارَةِ وَهُوَ مِنْ الْمَيِّتِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ السَّتْرَ ، وَقِيلَ بِالْفَارِسِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى اللُّبْسِ ( وَكَذَا الْكَلَامُ وَالدُّخُولُ ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ الْإِفْهَامُ وَالْمَوْتُ يُنَافِيهِ ، وَالْمُرَادُ مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهِ زِيَارَتُهُ وَبَعْدَ الْمَوْتِ يُزَارُ قَبْرُهُ لَا هُوَ
بَابُ الْيَمِينِ فِي الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِهِ ) يُرِيدُ بِالْغَيْرِ الْغُسْلَ وَالْكِسْوَةَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ ( وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ إنْ ضَرَبْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَمَاتَ فَضَرَبَهُ فَهُوَ عَلَى الْحَيَاةِ لِأَنَّ الضَّرْبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ ) وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَيِّتِ لِانْتِفَاءِ الْإِيلَامِ فِيهِ ، وَنُوقِضَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ } فَقَدْ بَرَّ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي يَمِينِهِ بِالضَّرْبِ بِهَذَا الَّذِي ذُكِرَ ، وَلَمْ يُوجَدْ الْإِيلَامُ لِمَا أَنَّ الضِّغْثَ عِبَارَةٌ عَنْ الْحُزْمَةِ الصَّغِيرَةِ مِنْ رَيْحَانٍ أَوْ حَشِيشٍ فَلَمْ يَكُنْ لِمَجْمُوعِهِ إيلَامٌ فَكَيْفَ لِأَجْزَائِهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا حُكْمًا ثَابِتًا بِالنَّصِّ فِي حَقِّ أَيُّوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَاصَّةً إكْرَامًا لَهُ فِي حَقِّ امْرَأَتِهِ تَخْفِيفًا عَلَيْهَا لِعَدَمِ جِنَايَتِهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِأَجْزَاءِ الضِّغْثِ إيلَامٌ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي تَفْسِيرِ الضِّغْثِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الضِّغْثَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَبْضَةِ مِنْ الشَّجَرِ فَجَازَ أَنْ يُصِيبَهَا أَلَمُ أَجْزَائِهَا فَكَانَ حُكْمُهُ بَاقِيًا فِي شَرِيعَتِنَا أَيْضًا ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ فِي الْكَشَّافِ وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ : وَمَنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَن فُلَانًا مِائَةَ سَوْطٍ فَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً إنْ وَصَلَ إلَيْهِ كُلُّ سَوْطٍ بِحِيَالِهِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ ، وَالْإِيلَامُ شَرْطٌ فِيهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الضَّرْبِ الْإِيلَامُ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ يُعَذَّبُ فِي الْقَبْرِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ قَوْلُكُمْ الْإِيلَامُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَيِّتِ يُشْكِلُ بِعَذَابِ الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِ الْعَامَّةِ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ أَبِي الْحُسَيْنِ الصَّالِحِيِّ ، فَإِنَّ الْمَيِّتَ عِنْدَهُ يُعَذَّبُ مِنْ غَيْرِ حَيَاةٍ وَلَا يَشْتَرِطُ الْحَيَاةَ لِتَعْذِيبِ الْمَيِّتِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ ) يَعْنِي إنْ قَالَ إنْ كَسَوْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَكَسَاهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَحْنَثُ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ ) أَيْ الْكِسْوَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْإِكْسَاءِ ( التَّمْلِيكُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ، وَمِنْهُ الْكِسْوَةُ فِي الْكَفَّارَةِ وَهُوَ مِنْ الْمَيِّتِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ ) أَيْ الْكِسْوَةِ ( السَّتْرَ ) فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ لِأَنَّ فِيهِ تَشْدِيدًا عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَقِيلَ بِالْفَارِسِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى اللُّبْسِ ) دُونَ التَّمْلِيكِ وَهُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبُو اللَّيْثِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ فُلَانًا فَأَلْبَسَهُ وَهُوَ مَيِّتٌ حَنِثَ لِأَنَّ الْإِلْبَاسَ عِبَارَةٌ عَنْ السَّتْرِ وَالتَّغْطِيَةِ وَالْمَيِّتُ مَحَلٌّ لِذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا الْكَلَامُ وَالدُّخُولُ ) يَعْنِي إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا أَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ فَكَلَّمَهُ أَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْدَمَا مَاتَ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ ( لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ الْإِفْهَامُ وَالْمَوْتُ يُنَافِيهِ ، وَالْمُرَادُ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ زِيَارَتُهُ وَبَعْدَ الْمَوْتِ يُزَارُ قَبْرُهُ لَا هُوَ ) فَإِنْ قِيلَ : قَدْ رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّمَ أَصْحَابَ الْقَلِيبِ حَيْثُ سَمَّاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَقَالَ : هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فَقَدْ وَجَدْت مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا ؟ } " أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُعْجِزَةً لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
( وَلَوْ قَالَ : إنْ غَسَّلْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَغَسَّلَهُ بَعْدَ مَا مَاتَ يَحْنَثُ ) لِأَنَّ الْغُسْلَ هُوَ الْإِسَالَةُ وَمَعْنَاهُ التَّطْهِيرُ وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْمَيِّتِوَقَوْلُهُ ( وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ ) يَعْنِي التَّطْهِيرَ ( فِي الْمَيِّتِ ) أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ صَلَّى وَهُوَ يَحْمِلُ مَيِّتًا مُسْلِمًا لَمْ يُغَسَّلْ لَا تَجُوزُ وَإِنْ كَانَ مَغْسُولًا جَازَتْ
( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَمَدَّ شَعْرَهَا أَوْ خَنَقَهَا أَوْ عَضَّهَا حَنِثَ ) لِأَنَّهُ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ وَقَدْ تَحَقَّقَ الْإِيلَامُ ، ( وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ فِي حَالِ الْمُلَاعَبَةِ ) لِأَنَّهُ يُسَمَّى مُمَازَحَةً لَا ضَرْبًا( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَمَدَّ شَعْرَهَا أَوْ خَنَقَهَا أَوْ عَضَّهَا حَنِثَ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ ) يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ ( وَقَدْ تَحَقَّقَ الْإِيلَامُ ) مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ ( وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ فِي حَالِ الْمُلَاعَبَةِ ) وَإِنْ أَوْجَعَهَا وَآلَمَهَا لِأَنَّهُ يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ مُمَازَحَةً لَا ضَرْبًا ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ الْإِمَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ .
( وَمَنْ قَالَ : إنْ لَمْ أَقْتُلْ فُلَانًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَفُلَانٌ مَيِّتٌ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ حَنِثَ ) لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى حَيَاةٍ يُحْدِثُهَا اللَّهُ فِيهِ وَهُوَ مُتَصَوَّرٌ فَيَنْعَقِدُ ثُمَّ يَحْنَثُ لِلْعَجْزِ الْعَادِيِّ ( فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَا يَحْنَثُ ) لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى حَيَاةٍ كَانَتْ فِيهِ وَلَا تُتَصَوَّرُ فَيَصِيرُ قِيَاسُ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ عَلَى الِاخْتِلَافِ ، وَلَيْسَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلُ الْعِلْمِ وَهُوَ الصَّحِيحُ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَقْتُلْ فُلَانًا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ كَمَا ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فَقَالَ فِيهِ : وَلَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْكُوزَ لَا مَاءَ فِيهِ فَحَلَفَ وَقَالَ إنْ لَمْ أَشْرَبْ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ حَنِثَ بِالِاتِّفَاقِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى شُرْبِ الْمَاءِ الْمَوْجُودِ فِي الْكُوزِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، وَإِنْ أَحْدَثَ فِي الْكُوزِ مَاءً فَلَيْسَ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا فِي الْكُوزِ وَقْتَ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْمَاءَ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ الشُّرْبُ لَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ إذْ الْحَادِثُ غَيْرُهُ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ إذْ كَانَ يَعْلَمُ بِمَوْتِ فُلَانٍ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ الْقَتْلِ فِي فُلَانٍ ، فَإِذَا أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ فُلَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } وَكَانَ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ مُتَوَهَّمًا ، وَالْعَادِيُّ مَنْسُوبٌ إلَى الْعَادَةِ كَالْإِرَادِيِّ مَنْسُوبٌ إلَى الْإِرَادَةِ ، فَإِنَّ تَاءَ التَّأْنِيثِ تُحْذَفُ فِي النِّسْبَةِ .
( وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ إلَى قَرِيبٍ فَهُوَ عَلَى مَا دُونَ الشَّهْرِ ، وَإِنْ قَالَ إلَى بَعِيدٍ فَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ الشَّهْرِ ) لِأَنَّ مَا دُونَهُ يُعَدُّ قَرِيبًا ، وَالشَّهْرُ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ يُعَدُّ بَعِيدًا ، وَلِهَذَا يُقَالُ عِنْدَ بُعْدِ الْعَهْدِ مَا لَقِيتُك مُنْذُ شَهْرٍبَابُ الْيَمِينِ فِي تَقَاضِي الدَّرَاهِمِ ) : لَمَّا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ مِنْ الْوَسَائِلِ دُونَ الْمَقَاصِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِهَا أَخَّرَ الْيَمِينَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا وَخَصَّ الدَّرَاهِمَ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ اسْتِعْمَالًا ، وَلَقَّبَ الْبَابَ بِالتَّقَاضِي وَالْمَسَائِلَ الْمَذْكُورَةَ فِيهِ بِلَفْظِ الْقَضَاءِ وَالْقَبْضِ وَالْعَدَدِ لِأَنَّ التَّقَاضِيَ سَبَبٌ لِلْقَضَاءِ وَالْقَبْضِ فَلُقِّبَ بِمَا هُوَ سَبَبٌ لِمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِيهِ ، هَذَا مَا قَالَهُ الشَّارِحُونَ .
وَأَقُولُ : جَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْمَسَائِلِ مَبْنَاهُ عَلَى التَّقَاضِي عَلَى مَا أُصَرِّحُ بِذِكْرِهِ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ مَسْأَلَةٍ ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا ، وَأَنَّ الْعَيْبَ لَا يَعْدَمُ الْجِنْسَ ، وَأَنَّ مَا دُونَ الشَّهْرِ قَرِيبٌ وَمَا فَوْقَهُ بَعِيدٌ .
قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ ) .
تَقَاضَى الرَّجُلُ دَيْنَهُ وَأَلَحَّ فَحَلَفَ غَرِيمُهُ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ ( إلَى قَرِيبٍ فَهُوَ مَا دُونَ الشَّهْرِ ، وَإِنْ قَالَ إلَى بَعِيدٍ فَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ الشَّهْرِ ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ، وَجَعَلَ الشَّهْرَ أَيْضًا بَعِيدًا لِأَنَّهُ فِي الْعُرْفِ يُعَدُّ بَعِيدًا
( وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ فُلَانًا دَيْنَهُ الْيَوْمَ فَقَضَاهُ ثُمَّ وَجَدَ فُلَانٌ بَعْضَهَا زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً أَوْ مُسْتَحَقَّةً لَمْ يَحْنَثْ الْحَالِفُ ) لِأَنَّ الزِّيَافَةَ عَيْبٌ وَالْعَيْبُ لَا يُعْدِمُ الْجِنْسَ ، وَلِهَذَا لَوْ تَجُوزُ بِهِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا ، فَوُجِدَ شَرْطُ الْبِرِّ وَقَبْضُ الْمُسْتَحَقَّةِ صَحِيحٌ وَلَا يَرْتَفِعُ بِرَدِّهِ الْبِرَّ الْمُتَحَقِّقَ ( وَإِنْ وَجَدَهَا رَصَاصًا أَوْ سَتُّوقَةً حَنِثَ ) لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّجَوُّزُ بِهِمَا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ ( وَإِنْ بَاعَهُ بِهَا عَبْدًا وَقَبَضَهُ بَرَّ فِي يَمِينِهِ ) لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ طَرِيقُهُ الْمُقَاصَّةُ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ الْقَبْضَ لِيَتَقَرَّرَ بِهِ ( وَإِنْ وَهَبَهَا لَهُ ) يَعْنِي الدَّيْنَ ( لَمْ يَبَرَّ ) لِعَدَمِ الْمُقَاصَّةِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فَعَلَهُ ، وَالْهِبَةُ إسْقَاطٌ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ
وَإِنْ زَادَ فِي التَّقَاضِي ( فَحَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ الْيَوْمَ فَقَضَاهُ ثُمَّ وَجَدَ فُلَانٌ بَعْضَهَا زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً أَوْ مُسْتَحَقَّةً بَرَّ فِي يَمِينِهِ ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ، وَالزَّيْفُ مَا يَرُدُّهُ بَيْتُ الْمَالِ ، وَالنَّبَهْرَجُ مَا يَرُدُّهُ التُّجَّارُ ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ .
وَقَوْلُهُ ( فَوُجِدَ شَرْطُ بَرِّهِ ) يَعْنِي قَضَاءَ دَيْنِهِ فِي الْيَوْمِ ( وَقَبْضُ الْمُسْتَحَقَّةِ صَحِيحٌ ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى بِهَا شَيْئًا فَأَخَذَهَا الْمُسْتَحَقُّ بَقِيَ الْبَيْعُ صَحِيحًا ، وَلَوْ لَمْ يَصِحَّ قَبْضُ الْمُسْتَحَقَّةِ لَبَطَلَ الْبَيْعُ لِكَوْنِهِ بِلَا ثَمَنٍ ( وَلَا يَرْتَفِعُ بِرَدِّهِ ) أَيْ بِرَدِّ مَا قَضَى مِنْ الزُّيُوفِ أَوْ النَّبَهْرَجَةِ أَوْ الْمُسْتَحَقَّةِ ( الْبَرُّ الْمُتَحَقَّقُ ) لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمَّا انْحَلَّتْ بِوُجُودِ الشَّرْطِ لَمْ يَقْبَلْ الْفَسْخَ وَالِانْتِفَاضَ كَالْكِتَابَةِ ، فَإِنَّ مَوْلَى الْمُكَاتَبِ إذَا رَدَّ الْبَدَلَ لِكَوْنِهِ زَيْفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً أَوْ اسْتَرَدَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يُنْتَقَضُ الْعِتْقُ ، بِخِلَافِ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يُنْتَقَضُ بِرَدِّ الْمَقْبُوضِ لِعَيْبٍ أَوْ اسْتِحْقَاقٍ لِأَنَّ مَبْنَاهُ الْمُقَاصَّةُ وَقَدْ زَالَتْ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ وَجَدَهَا رَصَاصًا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ طَرِيقُهُ الْمُقَاصَّةُ ) بَيَانُهُ أَنَّ مَا يَقْبِضُهُ رَبُّ الدَّيْنِ يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَقْبِضُهُ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ ، وَلِرَبِّ الدَّيْنِ عَلَى الْمَدْيُونِ مِثْلُهُ ، أَيْ مِثْلُ مَا فِي ذِمَّتِهِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا ( وَقَدْ تَحَقَّقَتْ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ ) لِأَنَّ ثَمَنَ الْعَبْدِ آخِرُ الدَّيْنَيْنِ فَيَكُونُ قَضَاءً عَنْ الْأَوَّلِ ، وَإِنَّمَا كَانَ طَرِيقُ قَضَاءِ الدَّيْنِ الْمُقَاصَّةَ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ حَقِيقَةً لَا يُتَصَوَّرُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يُصَادِفُ الْعَيْنَ وَحَقُّ صَاحِبِ الدَّيْنِ فِي وَصْفٍ فِي الذِّمَّةِ وَلِهَذَا قَالُوا الدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا .
وَقَوْلُهُ ( فَكَأَنَّهُ شَرَطَ الْقَبْضَ ) كَأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى
الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ لَوْ تَحَقَّقَتْ الْمُقَاصَّةُ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ لَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَيَقْبِضُهُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ لِيَكُونَ هَذَا الدَّيْنُ مِثْلَ الدَّيْنِ الَّذِي لِلْمُشْتَرِي عَلَيْهِ لِأَنَّ مَالَهُ مِنْ الدَّيْنِ عَلَيْهِ مُتَقَرِّرٌ وَثَمَنُ الْعَبْدِ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ قَبْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ بِمَوْتِهِ ، فَإِذَا قَبَضَهُ صَارَ مُتَقَرِّرًا فَيَكُونُ مِثْلَهُ فَيَتَقَاصَّانِ ( وَإِنْ وَهَبَهَا لَهُ ) أَيْ إنْ وَهَبَ الدَّائِنُ دَيْنَهُ لِلْمَدْيُونِ ( لَمْ يَبَرَّ ) الْحَالِفُ ( لِعَدَمِ الْمُقَاصَّةِ ) لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَهُوَ الْقَضَاءُ ( وَالْهِبَةُ ) لَيْسَتْ فِعْلَهُ لِأَنَّهَا ( إسْقَاطٌ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ ) وَإِنَّمَا قَالَ لَمْ يَبَرَّ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ الْحِنْثِ ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّهُ لَمْ يَبَرَّ وَلَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِفَوَاتِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَهُوَ الدَّيْنُ ، وَفَوَاتُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا جِهَةٌ فِي بُطْلَانِ الْيَمِينِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْكُوزِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ : وَلَنَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ ارْتِفَاعُ النَّقِيضَيْنِ ، وَهُوَ فَاسِدٌ بِمَرَّةٍ لِأَنَّ الْبَرَّ نَقِيضُ الْحِنْثِ ، فَمِنْ وُجُودِ أَحَدِهِمَا يَلْزَمُ ارْتِفَاعُ الْآخَرِ وَمِنْ ارْتِفَاعِ أَحَدِهِمَا يَلْزَمُ وُجُودُ الْآخَرِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَا جَمِيعًا .
وَأَقُولُ : لَيْسَا بِنَقِيضَيْنِ عَلَى اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْمَعْقُولِ وَغَيْرُ الْحَالِفِ لَا يَتَّصِفُ بِأَحَدِهِمَا وَشَأْنُ النَّقِيضَيْنِ لَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِذَا بَطَلَ الْيَمِينُ بِفَوَاتِ تَصَوُّرِ الْبَرِّ صَارَ كَغَيْرِ الْحَالِفِ مِنْ النَّاسِ فَيَجُوزُ أَنْ لَا يَتَّصِفَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا .
( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَقْبِضُ دَيْنَهُ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَقَبَضَ بَعْضَهُ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقْبِضَ جَمِيعَهُ ) لِأَنَّ الشَّرْطَ قَبْضُ الْكُلِّ وَلَكِنَّهُ بِوَصْفِ التَّفَرُّقِ ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ أَضَافَ الْقَبْضَ إلَى دَيْنٍ مُعَرَّفٍ مُضَافٍ إلَيْهِ فَيَنْصَرِفُ إلَى كُلِّهِ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِهِ ( فَإِنْ قَبَضَ دَيْنَهُ فِي وَزَنَيْنَ لَمْ يَتَشَاغَلْ بَيْنَهُمَا إلَّا بِعَمَلِ الْوَزْنِ لَمْ يَحْنَثْ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَفْرِيقٍ ) لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ قَبْضُ الْكُلِّ دُفْعَةً وَاحِدَةً عَادَةً فَيَصِيرُ هَذَا الْقَدْرُ مُسْتَثْنًى مِنْهُوَإِذَا تَقَاضَى دَيْنَهُ فَقَالَ أَقْضِيهَا مُنَجَّمًا فَحَلَفَ ( لَا يَقْبِضُ دَيْنَهُ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَقَبَضَ بَعْضَهُ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقْبِضَ الْجَمِيعَ ) مُتَفَرِّقًا لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ أَمْرٌ مُرَكَّبٌ مِنْ قَبْضِ الْكُلِّ بِوَصْفِ التَّفَرُّقِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْقَبْضَ إلَى دَيْنٍ مُعَرَّفٍ مُضَافٍ إلَيْهِ ، وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا لَهُ عَلَيْهِ ( فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ ) وَالْمُرَكَّبُ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ ، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَهَاهُنَا إنْ فَاتَ عَدَمُ التَّفَرُّقِ لَمْ يُوجَدْ قَبْضُ الْجَمِيعِ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ قَبَضَ دَيْنَهُ فِي وَزْنَيْنِ ) ظَاهِرٌ .
( وَمَنْ قَالَ : إنْ كَانَ لِي إلَّا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَلَا يَمْلِكُ إلَّا خَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عُرْفًا نَفْيُ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ وَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْمِائَةِ اسْتِثْنَاؤُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا ( وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ غَيْرَ مِائَةٍ أَوْ سِوَى مِائَةٍ ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ أَدَاةُ الِاسْتِثْنَاءِ .وَمَنْ تَقَاضَى مِنْ غَرِيمِهِ مِائَتَيْنِ فَقَالَ لَا أَمْلِكُ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ فَقَالَ ( إنْ كَانَ لِي إلَّا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَلَمْ يَمْلِكْ إلَّا خَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ يَحْنَثْ ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
قَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْمِائَةِ اسْتِثْنَاؤُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا ) يَعْنِي فَكَانَ اسْتِثْنَاءُ الْخَمْسِينَ دَاخِلًا تَحْتَ اسْتِثْنَاءِ الْمِائَةِ لِأَنَّ الْخَمْسِينَ مِنْ أَجْزَاءِ الْمِائَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ
( وَإِذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا تَرَكَهُ أَبَدًا ) لِأَنَّهُ نَفَى الْفِعْلَ مُطْلَقًا فَعَمَّ الِامْتِنَاعُ ضَرُورَةَ عُمُومِ النَّفْيِ ( وَإِنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا فَفَعَلَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً بَرَّ فِي يَمِينِهِ ) لِأَنَّ الْمُلْتَزَمَ فِعْلٌ وَاحِدٌ غَيْرُ عَيْنٍ ، إذْ الْمَقَامُ مَقَامُ الْإِثْبَاتِ فَيَبَرُّ بِأَيِّ فِعْلٍ فَعَلَهُ ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْهُ وَذَلِكَ بِمَوْتِهِ أَوْ بِفَوْتِ مَحَلِّ الْفِعْلِ .مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ ] أَيْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ الَّتِي أَذْكُرُهَا مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ ، وَمِنْ دَأْبِ الْمُصَنِّفِينَ ذِكْرُ مَا شَذَّ مِنْ الْأَبْوَابِ فِي آخِرِ الْكِتَابِ ( وَإِذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا تَرَكَهُ أَبَدًا ) الْيَمِينُ عَلَى فِعْلِ الشَّيْءِ أَوْ تَرْكِهِ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ كَيَوْمٍ وَشَهْرٍ أَوْ مُطْلَقَةٍ ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى التَّرْكِ تَرَكَهُ أَبَدًا ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْفِعْلِ بَرَّ بِفِعْلِهِ مَرَّةً عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا مُخْتَارًا أَوْ مُكْرَهًا أَوْ بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَصْدَرِهِ اشْتِمَالَ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ ، وَهُوَ مُنَكَّرٌ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى التَّعْرِيفِ ، وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ فَيُوجِبُ عُمُومَ الِامْتِنَاعِ ، وَفِي الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ ، فَإِنْ فَعَلَهُ فِي صُورَةِ النَّفْيِ مَرَّةً حَنِثَ ، وَإِنْ فَعَلَهُ فِي صُورَةِ الْإِثْبَاتِ مَرَّةً بَرَّ ( وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْهُ وَذَلِكَ بِمَوْتِ الْحَالِفِ أَوْ بِفَوْتِ مَحَلِّ الْفِعْلِ ) فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِيهِ قَبْلَ مُضِيِّ الْوَقْتِ وَإِنْ وَقَعَ الْيَأْسُ بِمَوْتِهِ أَوْ بِفَوْتِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْوَقْتَ مَانِعٌ مِنْ الِانْحِلَالِ ، إذْ لَوْ انْحَلَّ قَبْلَ مُضِيِّ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّوْقِيتِ فَائِدَةٌ
( وَإِذَا اسْتَحْلَفَ الْوَالِي رَجُلًا لِيُعْلِمَنَّهُ بِكُلِّ دَاعِرٍ دَخَلَ الْبَلَدَ فَهَذَا عَلَى حَالِ وِلَايَتِهِ خَاصَّةً ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ دَفْعُ شَرِّهِ أَوْ شَرِّ غَيْرِهِ بِزَجْرِهِ فَلَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ بَعْدَ زَوَالِ سَلْطَنَتِهِ ، وَالزَّوَالُ بِالْمَوْتِ وَكَذَا بِالْعَزْلِ إلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ( وَإِذَا اسْتَحْلَفَ الْوَالِي رَجُلًا لِيُعْلِمَنهُ بِكُلِّ دَاعِرٍ ) أَيْ مُفْسِدٍ خَبِيثٍ مِنْ الدَّعَارَةِ وَهِيَ الْخُبْثُ وَالْفَسَادُ ( دَخَلَ الْبَلَدَ كَانَ الْإِعْلَامُ وَاجِبًا حَالَ وِلَايَتِهِ خَاصَّةً ) وَلَيْسَ يَلْزَمُ الْإِعْلَامُ حَالَ دُخُولِهِ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يُؤَخِّرَ الْإِعْلَامَ إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِ الْوَالِي أَوْ عَزْلِهِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ( لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ الْإِعْلَامِ ( دَفْعُ شَرِّهِ ) أَيْ شَرُّ نَفْسِ الدَّاعِرِ ( أَوْ شَرُّ غَيْرِهِ بِزَجْرِهِ ) فَإِنَّ الْوَالِيَ إذَا زَجَرَهُ وَأَدَّبَهُ لِدِعَارَتِهِ يَنْزَجِرُ غَيْرُهُ مِنْ الدَّعَارَةِ لَوْ كَانَتْ فِي قَصْدِهِ أَوْ نِيَّتِهِ ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ إنَّمَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ إذَا كَانَ الْوَالِي قَادِرًا عَلَى تَنْفِيذِهِ وَذَلِكَ بِالسَّلْطَنَةِ وَالسَّلْطَنَةُ تَزُولُ بِالْمَوْتِ لَا مَحَالَةَ ( وَكَذَلِكَ بِالْعَزْلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِعْلَامُ عَلَى الْحَالِفِ بَعْدَ عَزْلِ الْمُسْتَحْلَفِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مُفِيدٌ فِي الْجُمْلَةِ .
( وَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ ) خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُهُ بِالْبَيْعِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِثْلُهُ .
وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ وَلِهَذَا يُقَالُ وُهِبَ وَلَمْ يَقْبَلْ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إظْهَارُ السَّمَاحَةِ وَذَلِكَ يَتِمُّ بِهِ ، أَمَّا الْبَيْعُ فَمُعَاوَضَةٌ فَاقْتَضَى الْفِعْلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِوَقَوْلُهُ ( وَمَنْ ) ( حَلَفَ أَنْ يَهَبَ ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبُولِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِثُبُوتِهِ إلَّا أَنَّهُ بِالرَّدِّ يُنْتَقَضُ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمِنَّةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِعَدَمِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْهُوبُ مَحْرَمًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ فَلَا يُمْكِنُ دَفْعُ الضَّرَرِ فَيَتَوَقَّفُ الثُّبُوتُ عَلَى الْقَبُولِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَكُلِّ عَقْدٍ فِيهِ بَدَلٌ لِأَنَّهُ تَمَلُّكٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ تَمَامُهُ بِهِمَا
( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشُمُّ رَيْحَانًا فَشَمَّ وَرْدًا أَوْ يَاسَمِينًا لَا يَحْنَثُ ) لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا لَا سَاقَ لَهُ وَلَهُمَا سَاقٌ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشُمُّ رَيْحَانًا فَشَمَّ وَرْدًا أَوْ يَاسَمِينًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا لَا سَاقَ لَهُ وَلَهُمَا سَاقٌ ) قِيلَ هَذَا تَفْسِيرُ الْإِمَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَقَلَّدَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَالْمُصَنِّفُ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي قَوَانِينِ اللُّغَةِ الرَّيْحَانُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ أَصْلًا .
وَجَوَابُهُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ اسْمٌ لِمَا لَا سَاقَ لَهُ أَنَّ لِسَاقِهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً كَمَا لِوَرَقِهِ اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي اللُّغَةِ ، عَلَى أَنَّ نَفْيَهُ فِي اللُّغَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ فِي أَوْضَاعِ اللُّغَةِ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ .
وَقِيلَ فِي الضَّابِطِ بَيْنَ الْوَرْدِ وَالرَّيْحَانِ أَنَّ مَا يَنْبُتُ مِنْ بِزْرِهِ مِمَّا لَا شَجَرَ لَهُ وَلِعَيْنِهِ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ فَهُوَ رَيْحَانٌ ، وَمَا يَنْبُتُ مِنْ الشَّجَرِ وَلِوَرَقِهِ رَائِحَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ فَهُوَ وَرْدٌ
( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهُوَ عَلَى دُهْنِهِ ) اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ وَلِهَذَا يُسَمَّى بَائِعُهُ بَائِعَ الْبَنَفْسَجِ وَالشِّرَاءُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا يَقَعُ عَلَى الْوَرَقِ ( وَإِنْ حَلَفَ عَلَى الْوَرْدِ فَالْيَمِينُ عَلَى الْوَرَقِ ) لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ وَالْعُرْفُ مُقَرِّرٌ لَهُ ، وَفِي الْبَنَفْسَجِ قَاضٍ عَلَيْهِ .( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا فَاشْتَرَى دُهْنَ بَنَفْسَجٍ حَنِثَ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ وَلِهَذَا يُسَمَّى بَائِعُهُ بَائِعَ الْبَنَفْسَجِ وَالشِّرَاءُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْبَيْعِ وَهَذَا فِي عُرْفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا يَقَعُ عَلَى الْوَرَقِ ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى الْوَرْدِ فَالْيَمِينُ عَلَى الْوَرَقِ ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْوَرْدَ ( حَقِيقَةٌ فِيهِ ) أَيْ فِي الْوَرَقِ ( وَالْعُرْفُ مُقَرِّرٌ لَهُ ) أَيْ لِوُقُوعِ الْيَمِينِ عَلَى الْحَقِيقَةِ : يَعْنِي أَنَّ اسْمَ الْوَرْدِ عَلَى الْوَرَقِ حَقِيقَةٌ ، وَفِي الْعُرْفِ أَيْضًا يُفْهَمُ مِنْهُ ذَلِكَ فَكَانَ الْعُرْفُ مُقَرِّرًا لِلْوُقُوعِ عَلَى الْحَقِيقَةِ ( وَفِي الْبَنَفْسَجِ قَاضٍ عَلَيْهِ ) أَيْ غَالِبٌ رَاجِحٌ : يَعْنِي أَنَّ اسْمَ الْبَنَفْسَجِ يَقَعُ عَلَى عَيْنِ الْبَنَفْسَجِ حَقِيقَةً كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا عَلَى دُهْنِهِ ، وَلَكِنْ الْعُرْفُ غَيْرُ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ مِنْ عَيْنِهِ إلَى دُهْنِهِ فَكَانَ الْعُرْفُ غَالِبًا وَرَاجِحًا فِي اسْمِ الْبَنَفْسَجِ عَلَى حَقِيقَتِهِ
كِتَابُ الْحُدُودِ ) : قَالَ : الْحَدُّ لُغَةً : هُوَ الْمَنْعُ ، وَمِنْهُ الْحَدَّادُ لِلْبَوَّابِ .
وَفِي الشَّرِيعَةِ : هُوَ الْعُقُوبَةُ الْمُقَدَّرَةُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَا يُسَمَّى الْقِصَاصُ حَدًّا لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَا التَّعْزِيرُ لِعَدَمِ التَّقْدِيرِ .
وَالْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ مِنْ شَرْعِهِ الِانْزِجَارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ ، وَالطَّهَارَةُ لَيْسَتْ أَصْلِيَّةً فِيهِ بِدَلِيلِ شَرْعِهِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ .كِتَابُ الْحُدُودِ ) : لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْأَيْمَانِ وَكَفَّارَتِهَا الدَّائِرَةِ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ أَوْرَدَ عَقِيبَهَا الْعُقُوبَاتِ الْمَحْضَةَ .
وَمَحَاسِنُ الْحُدُودِ كَثِيرَةٌ لِمَا أَنَّهَا تَرْفَعُ الْفَسَادَ الْوَاقِعَ فِي الْعَالَمِ وَتَحْفَظُ النُّفُوسَ وَالْأَعْرَاضَ وَالْأَمْوَالَ سَالِمَةً عَنْ الِابْتِذَالِ .
وَأَمَّا سَبَبُهَا فَسَبَبُ كُلٍّ مِنْهَا مَا أُضِيفَ إلَيْهِ مِثْلَ حَدِّ الزِّنَا وَحَدِّ الْقَذْفِ وَغَيْرِهِمَا .
وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ لُغَةً وَشَرِيعَةً وَالْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ مِنْ شَرْعِهِ وَهُوَ الْحُكْمُ فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ
وَقَوْلُهُ ( الِانْزِجَارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ ) يُرِيدُ بِهِ إفْسَادَ الْفُرُشِ وَإِضَاعَةَ الْأَنْسَابِ وَإِتْلَافَ الْأَعْرَاضِ وَالْأَمْوَالِ ، وَكَلَامُهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْحُدُودَ تَشْتَمِلُ عَلَى مَقْصِدٍ أَصْلِيٍّ يَتَحَقَّقُ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّاسِ كَافَّةً وَهُوَ الِانْزِجَارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ .
وَغَيْرُ أَصْلِيٍّ وَهُوَ الطَّهَارَةُ عَنْ الذُّنُوبِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ يُجَوِّزُ زَوَالَ الذُّنُوبِ عَنْهُ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّاسِ كَافَّةً ، وَلِهَذَا شُرِعَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ الذِّمِّيِّ وَلَا يَطْهُرُ عَنْ ذَنْبِهِ بِإِجْرَاءِ الْحَدِّ عَلَيْهِ .
قَالَ ( الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ ) وَالْمُرَادُ ثُبُوتُهُ عِنْدَ الْإِمَامِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ ، وَكَذَا الْإِقْرَارُ لِأَنَّ الصِّدْقَ فِيهِ مُرَجَّحٌ لَا سِيَّمَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِثُبُوتِهِ مَضَرَّةٌ وَمَعَرَّةٌ ، وَالْوُصُولُ إلَى الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ مُتَعَذِّرٌ ، فَيُكْتَفَى بِالظَّاهِرِ .
قَالَ ( فَالْبَيِّنَةُ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الشُّهُودِ عَلَى رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ بِالزِّنَا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } { وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِي قَذَفَ امْرَأَتَهُ ائْتِ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِك } وَلِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعَةِ يَتَحَقَّقُ مَعْنَى السَّتْرِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَالْإِشَاعَةُ ضِدُّهُ
قَالَ ( الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ ) الزِّنَا يُمَدُّ وَيُقْصَرُ ، فَالْقَصْرُ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ ، وَالْمَدُّ لِأَهْلِ نَجْدٍ .
قَالَ الْفَرَزْدَقُ : أَبَا حَاضِرٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفُ زِنَاؤُهُ وَمَنْ يَشْرَبْ الْخُرْطُومَ يُصْبِحُ مُسْكَرًا يُخَاطِبُ رَجُلًا يُكَنَّى أَبَا حَاضِرٍ ، وَالْخُرْطُومُ الْخَمْرُ ، وَالْمُسْكَرُ بِفَتْحِ الْكَافِ الْمَخْمُورُ .
وَتَفْسِيرُهُ فِي الشَّرْعِ قَضَاءُ الْمُكَلَّفِ شَهْوَتَهُ فِي قُبُلِ امْرَأَةٍ خَالِيَةٍ عَنْ الْمِلْكَيْنِ وَشُبْهَتِهِمَا لَا شُبْهَةَ الِاشْتِبَاهِ وَتَمْكِينِ الْمَرْأَةِ مِنْ ذَلِكَ .
وَاخْتِيرَ لَفْظُ الْقَضَاءِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِيلَاجِ زِنًا ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ بِهِ الْغُسْلُ ، وَالْمُكَلَّفُ لِيَخْرُجَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ ، وَالْمُرَادُ بِالْمِلْكَيْنِ مِلْكُ النِّكَاحِ وَمِلْكُ الْيَمِينِ وَبِشُبْهَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ مَا إذَا وَطِئَ امْرَأَةً تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا وَمَا أَشْبَهَهُ .
وَبِشُبْهَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ ، مَا إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ أَوْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ ، وَبِشُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ مَا إذَا وَطِئَ الِابْنُ جَارِيَةَ أَبِيهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ .
وَالزِّنَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالْمُرَادُ ثُبُوتُهُ عِنْدَ الْإِمَامِ ) وَإِنَّمَا قَالَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الزِّنَا عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ يَثْبُتُ بِفِعْلِهِمَا وَيَتَحَقَّقُ فِي الْخَارِجِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَا بَيِّنَةَ وَلَا إقْرَارَ ، وَإِنَّمَا انْحَصَرَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ ثُبُوتُهُ بِعِلْمِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِذَا لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ } وَقَوْلُهُ ( مَعَرَّةً وَمَضَرَّةً ) الْمَضَرَّةُ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْبَدَنِ ، وَالْمَعَرَّةُ ضَرَرٌ يَتَّصِلُ بِبَدَنِهِ وَيَسْرِي إلَى بَاطِنِهِ مِنْ لُحُوقِ الْعَارِ بِانْتِسَابِهِ إلَى الزِّنَا .
وَقَوْلُهُ (
فَالْبَيِّنَةُ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الشُّهُودِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعَةِ تَحْقِيقَ مَعْنَى السَّتْرِ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّمَا اشْتَرَطَ الْأَرْبَعَ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِاثْنَيْنِ ، وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَاحِدِ كَمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ كَذَلِكَ يَثْبُتُ بِهَا فِعْلُ الِاثْنَيْنِ ، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَبَّ السَّتْرَ عَلَى عِبَادِهِ وَشَرَطَ زِيَادَةَ الْعَدَدِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى السَّتْرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ ) أَيْ السَّتْرُ ( مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ } " وَقَالَ " { مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } " ( وَالْإِشَاعَةُ ضِدُّهُ ) أَيْ إظْهَارُ الزِّنَا ضِدُّ سَتْرِ الزِّنَا ، فَكَانَ وَصْفُ الْإِشَاعَةِ عَلَى ضِدِّ وَصْفِ السَّتْرِ لَا مَحَالَةَ .
ثُمَّ لَمَّا كَانَ السَّتْرُ أَمْرًا مَنْدُوبًا إلَيْهِ كَانَتْ الْإِشَاعَةُ أَمْرًا مَذْمُومًا
( وَإِذَا شَهِدُوا سَأَلَهُمْ الْإِمَامُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ وَأَيْنَ زَنَى وَمَتَى زَنَى وَبِمَنْ زَنَى ؟ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَفْسَرَ مَاعِزًا عَنْ الْكَيْفِيَّةِ وَعَنْ الْمُزَنِيَّةِ ، وَلِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ عَسَاهُ غَيْرُ الْفِعْلِ فِي الْفَرْجِ عَنَاهُ أَوْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي الْمُتَقَادِمِ مِنْ الزَّمَانِ أَوْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ لَا يَعْرِفُهَا هُوَ وَلَا الشُّهُودُ كَوَطْءِ جَارِيَةِ الِابْنِ فَيَسْتَقْصِي فِي ذَلِكَ احْتِيَاطًا لِلدَّرْءِ ( فَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ وَقَالُوا رَأَيْنَاهُ وَطِئَهَا فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَسَأَلَ الْقَاضِي عَنْهُمْ فَعُدِّلُوا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ ) وَلَمْ يَكْتَفِ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فِي الْحُدُودِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ ، { قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَتَعْدِيلُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ نُبَيِّنُهُ فِي الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ فِي الْأَصْلِ : يَحْبِسُهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ لِلِاتِّهَامِ بِالْجِنَايَةِ وَقَدْ حَبَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ ، بِخِلَافِ الدُّيُونِ حَيْثُ لَا يُحْبَسُ فِيهَا قَبْلَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ ، وَسَيَأْتِيك الْفَرْقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( وَإِذَا شَهِدُوا سَأَلَهُمْ الْإِمَامُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ ) احْتِرَازًا عَنْ الْغَلَطِ فِي الْمَاهِيَّةِ ( وَكَيْفَ هُوَ ) احْتِرَازًا عَنْ الْغَلَطِ فِي الْكَيْفِيَّةِ ( وَأَيْنَ زَنَى ) احْتِرَازًا عَنْهُ فِي الْمَكَانِ وَمَتَى زَنَى احْتِرَازًا عَنْهُ فِي الزَّمَانِ ( وَعَنْ الْمُزَنِيَّةِ ) احْتِرَازًا عَنْهُ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ ، وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ السُّؤَالِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا رُوِيَ " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ مَاعِزًا } إلَى أَنْ ذَكَرَ الْكَافَ وَالنُّونَ " : يَعْنِي كَلِمَةَ نُكْت لِكَوْنِهِ صَرِيحًا فِي الْبَابِ وَالْبَاقِي كِنَايَةٌ ، وَأَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ الْفِعْلُ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ عَنَاهُ فَلَا يَكُونُ مَاهِيَّةُ الزِّنَا وَلَا كَيْفِيَّتُهُ مَوْجُودَةً ، أَوْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، أَوْ فِي الْمُتَقَادِمِ مِنْ الزَّمَانِ وَذَلِكَ يُسْقِطُ الْحَدَّ ، أَوْ كَانَ لَهُ فِي الْمُزَنِيَّةِ شُبْهَةٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا الشُّهُودُ كَوَطْءِ جَارِيَةِ الِابْنِ فَيَسْتَقْصِي فِي ذَلِكَ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ ؛ فَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ وَقَالُوا رَأَيْنَاهُ وَطِئَهَا فِي فَرْجِهَا بَيَانًا لِمَاهِيَّتِه وَالْمَزْنِيِّ بِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ بَيَانَ كَيْفِيَّتِهِ وَسَأَلَ الْقَاضِي عَنْهُمْ فَعَدَلُوا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ وَلَمْ يَكْتَفِ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِذَلِكَ وَقَالَ " { ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } " بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ اكْتَفَى فِيهِ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ ، وَتَعْدِيلُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ يَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ فِي الْأَصْلِ ( يَحْبِسُهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ ) لِأَنَّهُ لَوْ خَلَّى سَبِيلَهُ هَرَبَ فَلَا يَظْفَرُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَا وَجْهَ لِأَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْهُ لِأَنَّ أَخْذَ
الْكَفِيلِ نَوْعُ احْتِيَاطٍ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا فِيمَا بُنِيَ عَلَى الدَّرْءِ .
فَإِنْ قِيلَ : الِاحْتِيَاطُ فِي الْحَبْسِ أَظْهَرُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ حَبْسَهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ بَلْ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ لِلِاتِّهَامِ بِالْجِنَايَةِ وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ } وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدْيُونِ سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ ( وَالْإِقْرَارُ أَنْ يُقِرَّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ مِنْ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ ، كَمَا أَقَرَّ رَدَّهُ الْقَاضِي ) فَاشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَوْ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ .
وَاشْتِرَاطُ الْأَرْبَعِ مَذْهَبُنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَكْتَفِي بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مُظْهِرٌ ، وَتَكْرَارُ الْإِقْرَارِ لَا يُفِيدُ زِيَادَةَ الظُّهُورِ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ .
وَلَنَا حَدِيثُ مَاعِزٍ { فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَّرَ الْإِقَامَةَ إلَى أَنْ تَمَّ الْإِقْرَارُ مِنْهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ } فَلَوْ ظَهَرَ بِمَا دُونَهَا لَمَا أَخَّرَهَا لِثُبُوتِ الْوُجُوبِ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ اخْتَصَّتْ فِيهِ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ ، فَكَذَا الْإِقْرَارُ إعْظَامًا لِأَمْرِ الزِّنَا وَتَحْقِيقًا لِمَعْنَى السَّتْرِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ لِمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ أَثَرًا فِي جَمْعِ الْمُتَفَرِّقَاتِ ؛ فَعِنْدَهُ يَتَحَقَّقُ شُبْهَةُ الِاتِّحَادِ فِي الْإِقْرَارِ ، وَالْإِقْرَارُ قَائِمٌ بِالْمُقِرِّ فَيُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ مَجْلِسِهِ دُونَ مَجْلِسِ الْقَاضِي .
وَالِاخْتِلَافُ بِأَنْ يَرُدَّهُ الْقَاضِي كُلَّمَا أَقَرَّ فَيَذْهَبَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ ثُمَّ يَجِيءَ فَيُقِرَّ ، هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَرَدَ مَاعِزًا فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى تَوَارَى بِحِيطَانِ الْمَدِينَةِ .
قَالَ ( وَالْإِقْرَارُ أَنْ يُقِرَّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ( قَوْلُهُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْحُقُوقِ ) يَعْنِي فِي سَائِرِ الْعَدَدِ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ زِيَادَةِ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ ) يَعْنِي أَنَّهَا تُفِيدُ زِيَادَةً فِي طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ ، وَتَكْرَارُ الْكَلَامِ لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَلَنَا حَدِيثُ { مَاعِزٍ فَإِنَّهُ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ زَنَيْت فَطَهِّرْنِي ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، فَجَاءَ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، فَجَاءَ إلَى الْجَانِبِ الثَّالِثِ وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، فَجَاءَ إلَى الْجَانِبِ الرَّابِعِ وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْآنَ أَقْرَرْت أَرْبَعًا فَبِمَنْ زَنَيْت قَالَ بِفُلَانَةَ ، قَالَ لَعَلَّك قَبَّلْتهَا لَعَلَّك بَاشَرْتهَا ، فَأَبَى إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِصَرِيحِ الزِّنَا ، فَقَالَ أَبِكَ خَبَلٌ أَبِكَ جُنُونٌ وَفِي رِوَايَةٍ بَعَثَ إلَى أَهْلِهِ فَقَالَ هَلْ تُنْكِرُونَ مِنْ عَقْلِهِ شَيْئًا ؟ فَقَالُوا : لَا ، فَسَأَلَ عَنْ إحْصَانِهِ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ مُحْصَنٌ ، فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ } " وَعَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ قَالَ : كُنَّا نَتَحَدَّثُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَاعِزًا لَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ بَعْدَ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَلَمْ يُقِرَّ لَمْ يَرْجُمْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ كَانَ مُتَعَارَفًا فِيمَا بَيْنَهُمْ .
وَوَجْهُ الِاسْتِلَالِ بِحَدِيثِ مَاعِزٍ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ أَخَّرَ الْإِقَامَةَ .
وَبَيَانُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ إقَامَةَ الْحَدِّ إلَى أَنْ تَمَّ الْإِقْرَارُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، فَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ مَرَّةً وَاحِدَةً كَافِيًا لَمْ يُؤَخِّرْ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ عِنْدَ ظُهُورِهِ وَاجِبَةٌ ، وَتَأْخِيرُ
الْوَاجِبِ لَا يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ اعْتَرَفَ بِوَطْءٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَيَجِبُ الْمَهْرُ ، وَإِذَا وَجَبَ الْمَهْرُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ مِنْ بَعْدُ لِأَنَّ الْمَهْرَ وَالْحَدَّ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي وَطْءٍ وَاحِدٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لَمَّا اُعْتُبِرَ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ الزِّنَا لَمْ يَتَعَلَّقْ وُجُوبُ الْمَهْرِ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ مَوْقُوفٌ ، فَإِنْ تَمَّتْ الْحُجَّةُ وَجَبَ الْحَدُّ ، وَإِنْ لَمْ تَتِمَّ وَجَبَ الْمَهْرُ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا أَعْرَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ اسْتَرَابَ فِي عَقْلِهِ فَقَدْ جَاءَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَصَرَّ عَلَى الْإِقْرَارِ وَدَامَ عَلَى نَهْجِ الْعُقَلَاءِ قَبِلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، ثُمَّ أَزَالَ الشُّبْهَةَ بِالسُّؤَالِ فَقَالَ أَبِكَ خَبَلٌ أَبِكَ جُنُونٌ .
أُجِيبَ أَمَّا تَغَيُّرُ الْحَالِ فَإِنَّهُ دَلِيلُ التَّوْبَةِ وَالْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا دَلِيلُ الْجُنُونِ ، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبِكَ جُنُونٌ تَلْقِينًا لِمَا يَدْرَأُ بِهِ الْحَدَّ كَمَا قَالَ لَعَلَّك قَبَّلْت وَطِئْتهَا لِيَرْجِعَ عَنْ الزِّنَا إلَى الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ ، وَكَمَا قَالَ لِلسَّارِقِ أَسَرَقْت مَا أَخَالُهُ سَرَقَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِمَاعِزٍ لَمَّا أَقَرَّ ثَلَاثًا إنْ أَقْرَرْت الرَّابِعَةَ رَجَمَك ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ كَانَ ظَاهِرًا عِنْدَهُمْ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ يَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ عَنْ اعْتِبَارِهِ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ سَائِرَ الْحُقُوقِ لَيْسَ نِصَابُ الشَّهَادَةِ فِيهِ أَرْبَعَةً وَنِصَابُهَا هُنَا ذَلِكَ ، فَلَمَّا كَانَتْ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ مُخْتَصَّةً بِزِيَادَةٍ لَيْسَتْ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ فَكَذَلِكَ فِي الْحُجَّةِ الْأُخْرَى إعْظَامًا لِأَمْرِ
الزِّنَا وَتَحْقِيقًا لِمَعْنَى السَّتْرِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ الْإِقَامَةَ إلَى أَنْ تَمَّ الْإِقْرَارُ مِنْهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ وَلِأَنَّ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ أَثَرًا فِي جَمْعِ الْمُتَفَرِّقَاتِ ، فَعِنْدَهُ ) أَيْ عِنْدَ الِاتِّحَادِ ( تَتَحَقَّقُ شُبْهَةُ الِاتِّحَادِ فِي الْإِقْرَارِ ) أَلَا تَرَى إلَى مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ مِنْ إقْرَارِهِ خَمْسَ مَرَّاتٍ وَكَانَ مِنْهَا مَرَّتَانِ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَمْ نَعْتَبِرْ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ ( وَالْإِقْرَارُ قَائِمٌ بِالْمُقِرِّ فَيُعْتَبَرُ اتِّحَادُ مَجْلِسِهِ ) فِي دَفْعِ الْحَدِّ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَيُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ مَجْلِسِهِ أَيْ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ ، وَقِيلَ يُعْتَبَرُ مَجْلِسُ الْقَاضِي ، وَرَدَّهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ دُونَ مَجْلِسِ الْقَاضِي .
وَقَوْلُهُ ( وَالِاخْتِلَافُ بِأَنْ يَرُدَّهُ الْقَاضِي ) ظَاهِرٌ .
قَالَ ( فَإِذَا تَمَّ إقْرَارُهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ سَأَلَهُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ وَأَيْنَ زَنَى وَبِمَنْ زَنَى ، فَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْحَدُّ ) لِتَمَامِ الْحُجَّةِ ، وَمَعْنَى السُّؤَالِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَيَّنَّاهُ فِي الشَّهَادَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ السُّؤَالَ فِيهِ عَنْ الزَّمَانِ ، وَذَكَرَهُ فِي الشَّهَادَةِ لِأَنَّ تَقَادُمَ الْعَهْدِ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ دُونَ الْإِقْرَارِ .
وَقِيلَ لَوْ سَأَلَهُ جَازَ لِجَوَازِ أَنَّهُ زَنَى فِي صِبَاهُوَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ تَقَادُمَ الْعَهْدِ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ دُونَ الْإِقْرَارِ ) دَلِيلُهُ أَنَّ التَّقَادُمَ فِي الشَّهَادَةِ مَانِعٌ لِتُهْمَةِ الْحِقْدِ وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْإِقْرَارِ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ التَّقَادُمِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا .
( فَإِنْ رَجَعَ الْمُقِرُّ عَنْ إقْرَارِهِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ فِي وَسَطِهِ قُبِلَ رُجُوعُهُ وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ لِأَنَّهُ وَجَبَ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ وَإِنْكَارِهِ كَمَا إذَا وَجَبَ بِالشَّهَادَةِ وَصَارَ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ .
وَلَنَا أَنَّ الرُّجُوعَ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ كَالْإِقْرَارِ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُكَذِّبُهُ فِيهِ فَتَتَحَقَّقُ الشُّبْهَةُ فِي الْإِقْرَارِ .
بِخِلَافِ مَا فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ الْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ لِوُجُودِ مَنْ يُكَذِّبُهُ ، وَلَا كَذَلِكَ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ الشَّرْعِوَقَوْلُهُ ( كَمَا إذَا وَجَبَ بِالشَّهَادَةِ ) يَعْنِي أَنَّ الْحَدَّ لَا يَبْطُلُ بِإِنْكَارِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بَعْدَ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَيْهِ ، فَكَذَا لَا يَبْطُلُ بِإِنْكَارِهِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُمَا حُجَّتَانِ فِيهِ فَتُعْتَبَرُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى فَصَارَ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ لَا يَقْبَلَانِ الرُّجُوعَ بَعْدَ الثُّبُوتِ بِالْإِقْرَارِ .
وَقَوْلُهُ ( فَتَتَحَقَّقُ الشُّبْهَةُ فِي الْإِقْرَارِ ) يَعْنِي بِالتَّعَارُضِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ الْمُحْتَمِلَيْنِ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ لِأَحَدِهِمَا .
( وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلَقِّنَ الْمُقِرَّ الرُّجُوعَ فَيَقُولَ لَهُ : لَعَلَّك لَمَسْت أَوْ قَبَّلْت ) { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَاعِزٍ لَعَلَّك لَمَسْتهَا أَوْ قَبَّلْتهَا } قَالَ فِي الْأَصْلِ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ الْإِمَامُ : لَعَلَّك تَزَوَّجْتهَا أَوْ وَطِئْتهَا بِشُبْهَةٍ ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى .وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى ) أَيْ قَوْلُهُ لَعَلَّك تَزَوَّجْتهَا وَوَطِئْتهَا بِشُبْهَةٍ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ لَعَلَّك مَسِسْتهَا فِي الْمَعْنَى مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَلْقِينٌ لِلرُّجُوعِ ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَعَمْ سَقَطَ الْحَدُّ .
( وَإِذَا وَجَبَ الْحَدُّ وَكَانَ الزَّانِي مُحْصَنًا رَجَمَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ ) { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَمَ مَاعِزًا وَقَدْ أُحْصِنَ } .
وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ { وَزِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ } وَعَلَى هَذَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ .
قَالَ ( وَيُخْرِجُهُ إلَى أَرْضٍ فَضَاءٍ وَيَبْتَدِئُ الشُّهُودُ بِرَجْمِهِ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ ) كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَتَجَاسَرُ عَلَى الْأَدَاءِ ثُمَّ يَسْتَعْظِمُ الْمُبَاشَرَةَ فَيَرْجِعُ فَكَانَ فِي بُدَاءَتِهِ احْتِيَالٌ لِلدَّرْءِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تُشْتَرَطُ بُدَاءَتُهُ اعْتِبَارًا بِالْجَلْدِ .
قُلْنَا : كُلُّ أَحَدٍ لَا يُحْسِنُ الْجَلْدَ فَرُبَّمَا يَقَعُ مُهْلِكًا وَالْإِهْلَاكُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ ، وَلَا كَذَلِكَ الرَّجْمُ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ .
( فَإِنْ امْتَنَعَ الشُّهُودُ مِنْ الِابْتِدَاءِ سَقَطَ الْحَدُّ ) لِأَنَّهُ دَلَالَةُ الرُّجُوعِ ، وَكَذَا إذَا مَاتُوا أَوْ غَابُوا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ
فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَدِّ وَإِقَامَتِهِ ) ذَكَرَ هَذَا الْفَصْلَ عَقِيبَ ذِكْرِ وُجُوبِ الْحَدِّ ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ بَعْدَ وُجُوبِهِ وُقُوعًا فَأَخَّرَهُ ذِكْرًا وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى هَذَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ) أَيْ عَلَى وُجُوبِ الرَّجْمِ إذَا كَانَ الزَّانِي مُحْصَنًا ، وَذَهَبَ الْخَوَارِجُ إلَى أَنَّ الْحَدَّ فِي الزِّنَا الْجَلْدُ لَيْسَ إلَّا لِأَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ أَخْبَارَ الْآحَادِ ، وَذَلِكَ خَرْقٌ مِنْهُمْ لِلْإِجْمَاعِ ، عَلَى أَنَّ حَدِيثَ مَاعِزٍ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بِالْقَبُولِ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ بِمِثْلِهِ جَائِزَةٌ وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ امْتَنَعَ الشُّهُودُ ) قَالَ فِي الْإِيضَاحِ : وَلَوْ امْتَنَعَ الشُّهُودُ أَوْ بَعْضُهُمْ أَوْ كَانُوا غُيَّبًا أَوْ مَاتُوا أَوْ مَاتَ بَعْضُهُمْ أَوْ عَمِيَ بَعْضُهُمْ أَوْ خَرِسَ أَوْ جُنَّ أَوْ ارْتَدَّ أَوْ قَذَفَ فَحُدَّ لَمْ يُرْجَمْ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُمْ إذَا امْتَنَعُوا أَوْ غَابُوا رَجَمَ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ ، وَكَذَا فِي الذَّخِيرَةِ أَيْضًا ، فَعَلَى هَذَا مَا قَيَّدَهُ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ رَاجِعٌ إلَى امْتِنَاعِ الشُّهُودِ عَنْ الرَّجْمِ بَعْدَ الْحُضُورِ إلَخْ ، وَلَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِقَوْلِهِ وَكَذَا إذَا مَاتُوا أَوْ غَابُوا ، وَإِذَا سَقَطَ بِامْتِنَاعِ أَحَدِهِمْ هَلْ تُحَدُّ الشُّهُودُ أَوْ لَا ؟ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الشُّهُودِ لِأَنَّهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ يُفْضِي إلَى اعْتِبَارِ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فَتَأَمَّلْ ، وَالْغَامِدِيَّةُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ حَيٌّ مِنْ الْأَزْدِ ، وَفِي حَدِيثِهَا " { لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ } " .
( وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا ابْتَدَأَ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ ) كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
{ وَرَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَامِدِيَّةَ بِحَصَاةٍ مِثْلِ الْحِمَّصَةِ وَكَانَتْ قَدْ اعْتَرَفَتْ بِالزِّنَا }
( وَيُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ) { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَاعِزٍ اصْنَعُوا بِهِ كَمَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ } وَلِأَنَّهُ قُتِلَ بِحَقٍّ فَلَا يَسْقُطُ الْغُسْلُ كَالْمَقْتُولِ قِصَاصًا " { وَصَلَّى النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْغَامِدِيَّةِ بَعْدَمَا رُجِمَتْ }
( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا وَكَانَ حُرًّا فَحَدُّهُ مِائَةُ جَلْدَةٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } إلَّا أَنَّهُ انْتَسَخَ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ فَبَقِيَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مَعْمُولًا بِهِ .
قَالَ ( يَأْمُرُ الْإِمَامُ بِضَرْبِهِ بِسَوْطٍ لَا ثَمَرَةَ لَهُ ضَرْبًا مُتَوَسِّطًا ) لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ كَسَرَ ثَمَرَتَهُ .
وَالْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْمُبَرِّحِ وَغَيْرِ الْمُؤْلِمِ لِإِفْضَاءِ الْأَوَّلِ إلَى الْهَلَاكِ وَخُلُوِّ الثَّانِي عَنْ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الِانْزِجَارُ ( وَتُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ ) مَعْنَاهُ دُونَ الْإِزَارِ لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالتَّجْرِيدِ فِي الْحُدُودِ ، وَلِأَنَّ التَّجْرِيدَ أَبْلَغُ فِي إيصَالِ الْأَلَمِ إلَيْهِ .
وَهَذَا الْحَدُّ مَبْنَاهُ عَلَى الشِّدَّةِ فِي الضَّرْبِ وَفِي نَزْعِ الْإِزَارِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ فَيَتَوَقَّاهُ ( وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَى أَعْضَائِهِ ) لِأَنَّ الْجَمْعَ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ قَدْ يُفْضِي إلَى التَّلَفِ وَالْحَدُّ زَاجِرٌ لَا مُتْلِفٌ .
قَالَ ( إلَّا رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ وَفَرْجَهُ ) { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِي أَمَرَهُ بِضَرْبِ الْحَدِّ اتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ } وَلِأَنَّ الْفَرْجَ مَقْتَلٌ وَالرَّأْسَ مَجْمَعُ الْحَوَاسِّ ، وَكَذَا الْوَجْهُ وَهُوَ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ أَيْضًا فَلَا يُؤْمَنُ فَوَاتُ شَيْءٍ مِنْهَا بِالضَّرْبِ وَذَلِكَ إهْلَاكٌ مَعْنًى فَلَا يُشْرَعُ حَدًّا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَضْرِبُ الرَّأْسَ أَيْضًا رَجَعَ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَضْرِبُ سَوْطًا لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ : اضْرِبُوا الرَّأْسَ فَإِنَّ فِيهِ شَيْطَانًا .
قُلْنَا : تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِيمَنْ أُبِيحَ قَتْلُهُ .
وَيُقَالُ : إنَّهُ وَرَدَ فِي حَرْبِيٍّ كَانَ مِنْ دُعَاةِ الْكَفَرَةِ وَالْإِهْلَاكُ فِيهِ مُسْتَحَقٌّ ( وَيُضْرَبُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا قَائِمًا غَيْرَ مَمْدُودٍ ) لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يُضْرَبُ الرِّجَالُ فِي الْحُدُودِ قِيَامًا وَالنِّسَاءُ قُعُودًا ،
وَلِأَنَّ مَبْنَى إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى التَّشْهِيرِ ، وَالْقِيَامُ أَبْلَغُ فِيهِ .
ثُمَّ قَوْلُهُ : غَيْرَ مَمْدُودٍ ، فَقَدْ قِيلَ الْمَدُّ أَنْ يُلْقَى عَلَى الْأَرْضِ وَيُمَدَّ كَمَا يُفْعَلُ فِي زَمَانِنَا ، وَقِيلَ أَنْ يَمُدَّ السَّوْطَ فَيَرْفَعَهُ الضَّارِبُ فَوْقَ رَأْسِهِ ، وَقِيلَ أَنْ يَمُدَّهُ بَعْدَ الضَّرْبِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لَا يُفْعَلُ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْمُسْتَحَقِّ
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّهُ انْتَسَخَ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ ) بَيَانُهُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا } الْآيَةَ عَامٌّ فِي الْمُحْصَنِ وَغَيْرِهِ إلَّا أَنَّهُ انْتَسَخَ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ بِآيَةٍ أُخْرَى نَسَخَتْ تِلَاوَتَهَا وَبَقِيَ حُكْمُهَا .
رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ ، فَكَانَ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا ، وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا مِنْ بَعْدِهِ ، وَإِنِّي خَشِيت إنْ طَالَ بِالنَّاسِ الزَّمَانُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، فَالرَّجْمُ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إذَا كَانَ مُحْصَنًا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ حَمْلٌ أَوْ اعْتِرَافٌ ، وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتهَا يُرِيدُ بِهِ : الشَّيْخَ وَالشَّيْخَةَ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، وَكَانَتْ خُطْبَتُهُ هَذِهِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ ، فَكَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتْ حُكْمَ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى { فَاجْلِدُوا } فِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ ، وَانْتَسَخَتْ تِلَاوَتُهَا بِصَرْفِهَا عَنْ الْقُلُوبِ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا اللَّهُ .
وَقَوْلُهُ ( بِسَوْطٍ لَا ثَمَرَةَ لَهُ ) قَالَ فِي الصِّحَاحِ : ثَمَرُ السِّيَاطِ عُقَدُ أَطْرَافِهَا ، وَمِنْهُ يَأْمُرُ الْإِمَامُ بِضَرْبِهِ بِسَوْطٍ لَا ثَمَرَةَ لَهُ : يَعْنِي الْعُقْدَةَ .
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالثَّمَرَةِ ذَنَبُهُ وَطَرَفُهُ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ تَصِيرُ الضَّرْبَةُ ضَرْبَتَيْنِ ، وَهَذَا أَصَحُّ .
لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَدَ الْوَلِيدَ بِسَوْطٍ لَهُ طَرَفَانِ ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ ذَنَبَانِ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً ، فَكَانَتْ الضَّرْبَةُ
ضَرْبَتَيْنِ .
وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْكُتُبِ .
الْمُبَرِّحُ مَأْخُوذٌ مِنْ بُرَحَاءِ الْحُمَّى وَغَيْرِهَا ، يُقَالُ : بَرِحَ بِهِ الْأَمْرُ تَبْرِيحًا : أَيْ غَلُظَ عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ .
وَالْمَذَاكِيرُ جَمْعُ الذَّكَرِ الَّذِي هُوَ الْعُضْوُ ، وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، كَأَنَّهُمْ فَرَّقُوا بِذَلِكَ الْجَمْعِ بَيْنَ الذَّكَرِ الَّذِي هُوَ الْفَحْلُ وَبَيْنَ الذَّكَرِ الَّذِي هُوَ الْعُضْوُ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ هَاهُنَا مَعَ إفْرَادِ قَرِينِهِ وَهُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ ذَلِكَ الْعُضْوَ الْمُعَيَّنَ وَمَا حَوْلَهُ ، كَقَوْلِهِمْ : شَابَتْ مَفَارِقُ رَأْسِهِ كَذَا فِي الصِّحَاحِ .
وَقَوْلُهُ ( مِنْ دُعَاةِ الْكَفَرَةِ ) الدُّعَاةُ جَمْعُ دَاعٍ كَالْقُضَاةِ جَمْعُ قَاضٍ : أَيْ كَانَ يَدْعُو النَّاسَ إلَيْهِمْ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْمُسْتَحَقِّ ) قَالُوا : إلَّا أَنْ يُعْجِزَهُمْ عَنْ الضَّرْبِ قَائِمًا فَلَا بَأْسَ .
حِينَئِذٍ أَنْ يَشُدُّوا بِسَارِيَةٍ وَنَحْوِهَا .
( وَإِنْ كَانَ عَبْدًا جَلَدَهُ خَمْسِينَ جَلْدَةً ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } نَزَلَتْ فِي الْإِمَاءِ ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ مُنْقِصٌ لِلنِّعْمَةِ فَيَكُونُ مُنْقِصًا لِلْعُقُوبَةِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عِنْدَ تَوَافُرِ النِّعَمِ أَفْحَشُ فَيَكُونُ أَدْعَى إلَى التَّغْلِيظِقَالَ ( وَإِنْ كَانَ عَبْدًا ) أَوْ أَمَةً ( جَلَدَهُ ) أَيْ إنْ كَانَ مَنْ زَنَى عَبْدًا أَوْ أَمَةً جَلَدَهُ الْإِمَامُ ( خَمْسِينَ جَلْدَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى ) { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } نَزَلَتْ فِي الْإِمَاءِ وَدَخَلَ تَحْتَ حُكْمِهَا الْعَبِيدُ ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْهُودِ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ أَنْ تَدْخُلَ النِّسَاءُ تَحْتَ حُكْمِ الرِّجَالِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ ، وَكَأَنَّ هَذَا الْأُسْلُوبَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَسْبَابَ السِّفَاحِ فِيهِنَّ وَدَعْوَتَهُنَّ إلَيْهِ غَالِبَةٌ كَمَا فِي تَقْدِيمِهِنَّ فِي قَوْله تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } ثُمَّ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْجَلْدُ دُونَ الرَّجْمِ لِأَنَّهُ لَا يَتَنَصَّفُ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عِنْدَ تَوَافُرِ النِّعَمِ أَفْحَشُ ) أَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ }
( وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ) ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ تَشْمَلُهُمَا ( غَيْرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يُنْزَعُ مِنْ ثِيَابِهَا إلَّا الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ ) لِأَنَّ فِي تَجْرِيدِهَا كَشْفُ الْعَوْرَةِ وَالْفَرْوُ وَالْحَشْوُ يَمْنَعَانِ وُصُولَ الْأَلَمِ إلَى الْمَضْرُوبِ وَالسَّتْرُ حَاصِلٌ بِدُونِهِمَا فَيُنْزَعَانِ ( وَتُضْرَبُ جَالِسَةً ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا ( وَإِنْ حُفِرَ لَهَا فِي الرَّجْمِ جَازَ ) ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَفَرَ لِلْغَامِدِيَّةِ إلَى ثُنْدُوَتِهَا ، وَحَفَرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِشُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةِ وَإِنْ تَرَكَ لَا يَضُرُّهُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ وَهِيَ مَسْتُورَةٌ بِثِيَابِهَا ، وَالْحَفْرُ أَحْسَنُ ؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ وَيُحْفَرُ إلَى الصَّدْرِ لِمَا رَوَيْنَا ( وَلَا يُحْفَرُ لِلرَّجُلِ ) ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا حَفَرَهُ لِمَاعِزٍ ، وَلِأَنَّ مَبْنَى الْإِقَامَةِ عَلَى التَّشْهِيرِ فِي الرِّجَالِ ، وَالرَّبْطُ وَالْإِمْسَاكُ غَيْرُ مَشْرُوعٍوَقَوْلُهُ ( لِمَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يُضْرَبُ الرِّجَالُ فِي الْحُدُودِ قِيَامًا وَالنِّسَاءُ قُعُودًا .
وَالثَّنْدُوَةُ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْوَاوِ وَبِالضَّمِّ وَالْهَمْزِ مَكَانَ الْوَاوِ وَالدَّالُ فِي الْحَالَتَيْنِ مَضْمُومَةٌ : ثَدْيُ الرَّجُلِ أَوْ لَحْمُ الثَّدْيَيْنِ .
والهمدانية بِسُكُونِ الْمِيمِ مَنْسُوبَةٌ إلَى هَمْدَانَ بِسُكُونِ الْمِيمِ حَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي مِنْ حَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ حَيْثُ حُفِرَ لَهَا إلَى الثَّنْدُوَةِ وَقَوْلُهُ ( وَالرَّبْطُ وَالْإِمْسَاكُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ) يَعْنِي إلَّا أَنْ يُعْجِزَهُمْ كَمَا ذَكَرْنَاهُ .
( وَلَا يُقِيمُ الْمَوْلَى الْحَدَّ عَلَى عَبْدِهِ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ أَنْ يُقِيمَهُ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً مُطْلَقَةً عَلَيْهِ كَالْإِمَامِ ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ فَصَارَ كَالتَّعْزِيرِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَرْبَعٌ إلَى الْوُلَاةِ وَذَكَرَ مِنْهَا الْحُدُودَ } وَلِأَنَّ الْحَدَّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْهَا إخْلَاءُ الْعَالِمِ عَنْ الْفَسَادِ ، وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ فَيَسْتَوْفِيهِ مَنْ هُوَ نَائِبٌ عَنْ الشَّرْعِ وَهُوَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ ، بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلِهَذَا يُعَزَّرُ الصَّبِيُّ ، وَحَقُّ الشَّرْعِ مَوْضُوعٌ عَنْهُ .وَقَوْلُهُ ( وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَرْبَعٌ إلَى الْوُلَاةِ } " وَذَكَرَ مِنْهَا الْحُدُودَ ) رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ ، وَالثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ : الصَّدَقَاتُ ، وَالْجُمُعَاتُ ، وَالْفَيْءُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْحُدُودَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ) حَقُّ اللَّهِ مَشْرُوعٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ نَفْعُ الْعَالَمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالتَّنْكِيرُ لِيَتَنَاوَلَ مَا لَنَا وَمَا عَلَيْنَا ، وَقَوْلِي عَلَى الْإِطْلَاقِ لِإِخْرَاجِ حَقِّ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ نَفْعُ الْعَالَمِ بِالتَّخْصِيصِ كَحُرْمَةِ مَالِ الْغَيْرِ مَثَلًا فَإِنَّهَا حَقُّ الْعَبْدِ لِتَعَلُّقِ صِيَانَةِ مَا لَهُ بِهَا فَلِهَذَا يُبَاحُ بِإِبَاحَةِ الْمَالِكِ وَلَا يُبَاحُ الزِّنَا بِإِبَاحَةِ الْمَرْأَةِ وَلَا بِإِبَاحَةِ أَهْلِهَا ، وَتَمَامُ التَّقْرِيرِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي التَّقْرِيرِ .
قَالَ ( وَإِحْصَانُ الرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا قَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا صَحِيحًا وَدَخَلَ بِهَا وَهُمَا عَلَى صِفَةِ الْإِحْصَانِ ) فَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ شَرْطٌ لِأَهْلِيَّةِ الْعُقُوبَةِ إذْ لَا خِطَابَ دُونَهُمَا ، وَمَا وَرَاءَهُمَا يُشْتَرَطُ لِتَكَامُلِ الْجِنَايَةِ بِوَاسِطَةِ تَكَامُلِ النِّعْمَةِ إذْ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ يَتَغَلَّظُ عِنْدَ تَكَثُّرِهَا ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ جَلَائِلِ النِّعَمِ .
وَقَدْ شُرِعَ الرَّجْمُ بِالزِّنَا عِنْدَ اسْتِجْمَاعِهَا فَيُنَاطُ بِهِ .
بِخِلَافِ الشَّرَفِ وَالْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَا وَرَدَ بِاعْتِبَارِهِمَا وَنَصْبُ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ مُتَعَذِّرٌ ، وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُمْكِنَةٌ مِنْ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ مُمْكِنٌ مِنْ الْوَطْءِ الْحَلَالِ ، وَالْإِصَابَةُ شِبَعٌ بِالْحَلَالِ ، وَالْإِسْلَامُ يُمَكِّنُهُ مِنْ نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ وَيُؤَكِّدُ اعْتِقَادَ الْحُرْمَةِ فَيَكُونُ الْكُلُّ مَزْجَرَةً عَنْ الزِّنَا .
وَالْجِنَايَةُ بَعْدَ تَوَفُّرِ الزَّوَاجِرِ أَغْلَظُ وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ وَكَذَا أَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ لَهُمَا مَا رُوِيَ " { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ قَدْ زَنَيَا } قُلْنَا : كَانَ ذَلِكَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ثُمَّ نُسِخَ ، يُؤَيِّدُهُ { قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ } .
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدُّخُولِ إيلَاجٌ فِي الْقُبُلِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْغُسْلَ .
وَشَرْطُ صِفَةِ الْإِحْصَانِ فِيهِمَا عِنْدَ الدُّخُولِ ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ بِالْمَنْكُوحَةِ الْكَافِرَةِ أَوْ الْمَمْلُوكَةِ أَوْ الْمَجْنُونَةِ أَوْ الصَّبِيَّةِ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا ، وَكَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مَوْصُوفًا بِإِحْدَى هَذِهِ الصِّفَاتِ وَهِيَ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ عَاقِلَةٌ بَالِغَةٌ ؛ لِأَنَّ النِّعْمَةَ بِذَلِكَ لَا تَتَكَامَلُ إذْ الطَّبْعُ يَنْفِرُ عَنْ صُحْبَةِ الْمَجْنُونَةِ ، وَقَلَّمَا يَرْغَبُ فِي الصَّبِيَّةِ لِقِلَّةِ رَغْبَتِهَا فِيهِ وَفِي الْمَمْلُوكَةِ حَذَرًا عَنْ رِقِّ الْوَلَدِ وَلَا
ائْتِلَافَ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ .
وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُخَالِفُهُمَا فِي الْكَافِرَةِ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُحْصِنُ الْمُسْلِمَ الْيَهُودِيَّةُ وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ وَلَا الْحُرَّ الْأَمَةُ وَلَا الْحُرَّةَ الْعَبْدُ }
وَقَوْلُهُ ( وَإِحْصَانُ الرَّجْمِ ) إنَّمَا قَيَّدَ الْإِحْصَانَ بِالرَّجْمِ احْتِرَازًا عَنْ إحْصَانِ الْقَذْفِ فَإِنَّهُ غَيْرُ هَذَا عَلَى مَا يَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
إحْصَانُ الرَّجْمِ مَشْرُوطٌ بِسَبْعِ شَرَائِطَ ( أَنْ يَكُونَ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا مُسْلِمًا قَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا صَحِيحًا وَدَخَلَ بِهَا وَهُمَا عَلَى صِفَةِ الْإِحْصَانِ ) هَذَا عَلَى قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ .
وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَقَدْ قَالُوا : شَرَائِطُ الْإِحْصَانِ عَلَى الْخُصُوصِ مِنْهَا شَيْئَانِ : الْإِسْلَامُ ، وَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِثْلُهُ .
وَهَذَا الشَّرْطُ الثَّانِي مُرَكَّبٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَشَرْطٌ لِأَهْلِيَّةِ الْعُقُوبَةِ لِعَدَمِ الْخِطَابِ بِدُونِهِمَا ، وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَشَرْطُ تَكْمِيلِ الْعُقُوبَةِ بِوَاسِطَةِ تَكَامُلِ النِّعْمَةِ ، وَالْمُصَنِّفُ وَافَقَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي جَعْلِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ شَرْطًا لِأَهْلِيَّةِ الْعُقُوبَةِ ، وَجَعَلَ الْبَاقِيَةَ شَرْطًا لِتَكَامُلِ الْجِنَايَةِ بِوَاسِطَةِ تَكَامُلِ النِّعْمَةِ لِأَنَّ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ يَتَغَلَّظُ عِنْدَ تَكَثُّرِهَا وَتَغَلُّظُهُ يَسْتَدْعِي أَغْلَظَ الْعُقُوبَاتِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ جَلَائِلِ النِّعَمِ ) فَكُفْرَانُهَا يَكُونُ سَبَبًا لِأَفْحَشِ الْعُقُوبَاتِ وَهُوَ الرَّجْمُ بِالْحِجَارَةِ إلَى الْمَوْتِ لِيَكُونَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِقَدْرِ سَبَبِهِ ، وَانْحَصَرَ الشَّرَائِطُ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ لِأَنَّ الرَّجْمَ بِالزِّنَا قَدْ شُرِعَ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِهَا فَيُنَاطُ بِهَا ، وَالشَّرَفُ وَالْعِلْمُ وَالْجَمَالُ وَالْحَسَبُ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جَلَائِلِ النِّعَمِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِاعْتِبَارِهَا وَنَصْبُ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ مُتَعَذِّرٌ ) وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ دَلِيلٌ عَلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى تِلْكَ الشَّرَائِطِ يَتَضَمَّنُ أَنَّ لَهَا مَدْخَلًا فِي الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الزِّنَا دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالشَّرَفِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُمَكِّنَةٌ مِنْ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ ) لِأَنَّ الْحُرَّ يَتَوَلَّى أُمُورَ
نَفْسِهِ لَيْسَ تَحْتَ وِلَايَةِ أَحَدٍ .
( وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ مُمَكِّنٌ مِنْ الْوَطْءِ الْحَلَالِ ) لَا مَحَالَةَ وَالدُّخُولُ بِهِ شِبَعٌ بِالْحَلَالِ ( وَالْإِسْلَامُ مُمَكِّنٌ مِنْ نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ وَمُؤَكِّدٌ اعْتِقَادَ الْحُرْمَةِ فَيَكُونُ الْكُلُّ مَزْجَرَةً عَنْ الزِّنَا ، وَالْجِنَايَةُ عِنْدَ تَوَافُرِ الزَّوَاجِرِ أَغْلَظُ ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ فِي الْعِلْمِ بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الزِّنَا مِنْ الْفَسَادِ عَاجِلًا وَالْعُقُوبَةِ آجِلًا مِنْ الزَّوَاجِرِ لَا مَحَالَةَ ، وَالْجَمَالُ فِي الْمَنْكُوحَةِ مُقْنِعٌ لِلزَّوْجِ عَنْ النَّظَرِ إلَى غَيْرِهَا ، وَالشَّرَفُ يَرْدَعُ عَنْ لُحُوقِ مَعَرَّةِ الزِّنَا وَعِقَابِهِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرَائِطِهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُسْلِمَ النَّاشِئَ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ الْعِلْمِ بِمَا ذَكَرْت ، وَالْجَمَالُ وَالشَّرَفُ لَيْسَ لَهُمَا حَدٌّ مَعْلُومٌ يُضْبَطَانِ بِهِ فَلَا تَكُونُ مُعْتَبَرَةً .
وَأَمَّا وَجْهُ اشْتِرَاطِ كَوْنِهِمَا عَلَى صِفَةِ الْإِحْصَانِ عِنْدَ الدُّخُولِ فَسَنَذْكُرُهُ ( وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ ، وَكَذَا أَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ ) مُسْتَدِلِّينَ بِمَا رَوَى مُسْنَدًا إلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " { أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الزِّنَا ؟ فَقَالُوا : نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ : كَذَبْتُمْ إنَّ فِيهَا الرَّجْمَ ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا فَجَعَلَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ ثُمَّ جَعَلَ يَقْرَأُ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ : ارْفَعْ يَدَك ، فَرَفَعَهَا فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ ، فَقَالَ : صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا } " قُلْنَا كَانَ ذَلِكَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ثُمَّ نُسِخَ
، يُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى أَصْحَابُنَا فِي كُتُبِهِمْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ " { مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ } " وَقَوْلُهُ ( وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدُّخُولِ إيلَاجٌ فِي الْقُبُلِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْغُسْلَ ) لِبَيَانِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ مِنْ الْجِمَاعِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَالْإِصَابَةُ شِبَعٌ بِالْحَلَالِ ، فَإِنَّ الشِّبَعَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْإِنْزَالِ دُونَ الْإِيلَاجِ عُرِفَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ رِفَاعَةَ حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا حَتَّى تَذُوقِي مِنْ عُسَيْلَتِهِ وَيَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِك } " بِالتَّصْغِيرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَشَرْطُ صِفَةِ الْإِحْصَانِ فِيهِمَا ) ظَاهِرٌ .
وَقِيلَ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كَافِرًا وَالْمَرْأَةُ مُسْلِمَةً ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ صُورَتَهُ أَنْ يَكُونَا كَافِرَيْنِ فَأَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ قَبْلَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِالْإِبَاءِ عِنْدَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ فَهُمَا زَوْجَانِ وَقَدْ مَرَّ ( وَأَبُو يُوسُفَ يُخَالِفُهُمَا فِي الْكَافِرَةِ ) فِي أَنَّ إسْلَامَ الْمَنْكُوحَةِ وَقْتُ الدُّخُولِ بِهَا شَرْطُ إحْصَانِ الزَّانِي .
فَعِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ بِالْمَنْكُوحَةِ الْكَافِرَةِ يَصِيرُ مُحْصَنًا ( وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى أَبِي يُوسُفَ ( مَا ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ وَلَا ائْتِلَافَ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ " { لَا تُحْصِنُ الْمُسْلِمَ الْيَهُودِيَّةُ وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ وَلَا الْحُرَّ الْأَمَةُ وَلَا الْحُرَّةُ الْعَبْدَ } " ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ مُرْسَلًا فِي مَبْسُوطِهِ .
قَالَ ( وَلَا يُجْمَعُ فِي الْمُحْصَنِ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَجْمَعْ ، وَلِأَنَّ الْجَلْدَ يَعْرَى عَنْ الْمَقْصُودِ مَعَ الرَّجْمِ ؛ لِأَنَّ زَجْرَ غَيْرِهِ يَحْصُلُ بِالرَّجْمِ إذْ هُوَ فِي الْعُقُوبَةِ أَقْصَاهَا وَزَجْرُهُ لَا يَحْصُلُ بَعْدَ هَلَاكِهِ .قَالَ ( وَلَا يَجْمَعُ فِي الْمُحْصَنِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ ) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِمَا رَوَى عُبَادَةَ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَمْيٌ بِالْحِجَارَةِ وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ } " وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي مَاعِزٍ وَلَا فِي الْغَامِدِيَّةِ وَلَا الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ .
وَحَدِيثُ عُبَادَةَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَوْ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } وَحَدِيثُ مَاعِزٍ بَعْدَهُ فَيَكُونُ نَاسِخًا .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْجَلْدَ يَعْرَى ) ظَاهِرٌ .
قَالَ ( وَلَا يُجْمَعُ فِي الْبِكْرِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالنَّفْيِ ) وَالشَّافِعِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا حَدًّا { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ } وَلِأَنَّ فِيهِ حَسْمَ بَابِ الزِّنَا لِقِلَّةِ الْمَعَارِفِ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَاجْلِدُوا } جَعَلَ الْجَلْدَ كُلَّ الْمُوجَبِ رُجُوعًا إلَى حَرْفِ الْفَاءِ وَإِلَى كَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ ، وَلِأَنَّ فِي التَّغْرِيبِ فَتْحَ بَابِ الزِّنَا لِانْعِدَامِ الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ الْعَشِيرَةِ ثُمَّ فِيهِ قَطْعُ مَوَادِّ الْبَقَاءِ ، فَرُبَّمَا تَتَّخِذُ زِنَاهَا مَكْسَبَةً وَهُوَ مِنْ أَقْبَحِ وُجُوهِ الزِّنَا ، وَهَذِهِ الْجِهَةُ مُرَجَّحَةٌ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةٌ ، وَالْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ كَشَطْرِهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ } وَقَدْ عُرِفَ طَرِيقُهُ فِي مَوْضِعِهِ .
قَالَ ( إلَّا أَنْ يَرَى الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً فَيُغَرِّبَهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى ) وَذَلِكَ تَعْزِيرٌ وَسِيَاسَةٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُفِيدُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَيَكُونُ الرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ النَّفْيُ الْمَرْوِيُّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ
وَقَوْلُهُ ( وَالشَّافِعِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا حَدًّا ) أَيْ فِي حَدِّ الزِّنَا بِنَفْيِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا ( لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ } " ) وَلِأَنَّ التَّغْرِيبَ مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِّ ، فَكَمَا أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ فِي حَقِّ الْجَلْدِ سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ التَّغْرِيبِ ( وَلِأَنَّ فِيهِ ) أَيْ فِي التَّغْرِيبِ ( حَسْمَ مَادَّةِ الزِّنَا لِقِلَّةِ الْمَعَارِفِ ) أَيْ لِقِلَّةِ مَنْ يَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونَهُ مِنْ الْأَحِبَّاءِ وَالْحَبِيبَاتِ ، لِمَا أَنَّ الزِّنَا إنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ الصُّحْبَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ وَالتَّغْرِيبُ قَاطِعٌ لِذَلِكَ ( وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَاجْلِدُوا } جَعَلَ الْجَلْدَ كُلَّ الْمُوجِبِ رُجُوعًا إلَى حَرْفِ الْفَاءِ ) وَرُجُوعًا نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْفَاءَ لِلْجَزَاءِ ، وَإِذَا ذُكِرَ الْجَزَاءُ بَعْدَ الشَّرْطِ بِالْفَاءِ دَلَّ اسْتِقْرَاءُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ هُوَ الْجَزَاءُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَيْسَ جَزَاءُ الشَّرْطِ إلَّا مَا هُوَ الْمَذْكُورُ بَعْدَ الْفَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِلَى كَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ ) أَيْ رُجُوعًا إلَى كَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ ذَكَرَ الْجَلْدَ دُونَ النَّفْيِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْبَيَانِ ، فَلَوْ بَقِيَ شَيْءٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَزِمَ الْإِخْلَالُ فِي الْبَيَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ وَالْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ نَسْخٌ لِلْكِتَابِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ فِي التَّغْرِيبِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ فِيهِ ) أَيْ فِي التَّغْرِيبِ ( قَطْعَ مَادَّةِ الْبَقَاءِ ) يَعْنِي مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَلْبُوسِ ( فَرُبَّمَا تَتَّخِذُ زِنَاهَا مَكْسَبَةً وَهُوَ مِنْ أَقْبَحِ وُجُوهِ الزِّنَا ) لَا زِيَادَةَ شَهْوَةٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذِهِ الْجِهَةُ مُرَجِّحَةٌ لِقَوْلِ عَلِيٍّ ) نُقِلَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا ؛
فَوَجْهُ الْفَتْحِ أَنَّ هَذِهِ الْجِهَةَ مِنْ الْعِلَّةِ أَقْوَى مِنْ عِلَّةِ الْخَصْمِ بِشَهَادَةِ قَوْلِ عَلِيٍّ لِصِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ .
وَوَجْهُ الْكَسْرِ أَنَّ الْخَصْمَ يُنْكِرُ صِحَّةَ نَقْلِ قَوْلِ عَلِيٍّ فَقَالَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْجِهَةُ مِنْ جِهَاتِ الْعِلَلِ تُؤَيِّدُ صِحَّةَ قَوْلِ عَلِيٍّ ، فَكَانَتْ اللَّامُ لِلصِّلَةِ دَاخِلَةً عَلَى الْمَفْعُولِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْأَصْلُ أَنَّ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً لَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا وَهَذِهِ الْجِهَةُ عِلَّةٌ فَكَيْفَ صَلَحَتْ مُرَجِّحَةً .
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ الْجِهَةَ لَيْسَتْ بِمُثْبِتَةٍ لِلْحَدِّ بَلْ هِيَ نَافِيَةٌ ، مَعَ أَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ بِحُكْمٍ وَاجِبٍ فِي الْحَدِّ فَيَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ ، فَفِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ تُذْكَرُ الْعِلَلُ مُوَضِّحًا بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَمَا أَرَى اخْتِيَارَ الْمُصَنِّفِ لَفْظَ الْجِهَةِ عَلَى لَفْظِ الْعِلَّةِ إلَّا لِهَذَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْحَدِيثُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ " { الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ } " ( مَنْسُوخٌ كَشَطْرِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ } " وَقَدْ عُرِفَ طَرِيقُهُ فِي مَوْضِعِهِ ) قِيلَ يَعْنِي فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا إثْبَاتُ النَّسْخِ : بِالْقِيَاسِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ بَيَانٌ لِكَوْنِ الْحَدِيثِ مَنْسُوخًا بِنَاسِخٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ النَّاسِخَ مَا هُوَ .
وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الزِّنَا فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ إمْسَاكَ الزَّوَانِي فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ وَالْإِيذَاءَ بِاللِّسَانِ ، فَانْتُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } " ثُمَّ اُنْتُسِخَ هَذَا الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " { خُذُوا عَنِّي } " وَلَوْ كَانَ انْتِسَاخُ إمْسَاكِ الزَّوَانِي فِي الْبُيُوتِ بِقَوْلِهِ { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } لَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خُذُوا عَنْ اللَّهِ .
وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ الَّتِي هِيَ دَلَالَةُ التَّقَدُّمِ هَاهُنَا مِثْلُ دَلَالَةِ التَّقَدُّمِ فِي حَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ وَقَدْ عُرِفَ طَرِيقُهُ فِي مَوْضِعِهِ : أَيْ دَلَّ فِي حَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { اسْتَنْزِهُوا الْبَوْلَ } " وَهُوَ جَوَازُ الْمُثْلَةِ ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا دَلَّ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ مِنْ الشَّارِحِينَ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنْ يَرَى ذَلِكَ مَصْلَحَةً ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَجْمَعُ فِي الْبِكْرِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالنَّفْيِ يَعْنِي إذَا رَأَى الْإِمَامُ تَغْرِيبَ الزَّانِي مَصْلَحَةً لِدِعَارَتِهِ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَاهُ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ وَالسِّيَاسَةِ ( لِأَنَّهُ قَدْ يُفِيدُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَيَكُونُ الرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ النَّفْيُ الْمَرْوِيُّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ ) رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَدَ بِكْرَيْنِ وَنَفَاهُمَا إلَى فَدَكَ ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ قَائِلَةً تَقُولُ : هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبُهَا أَوْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ إلَى فَتًى مَاجِدِ الْأَعْرَاقِ مُقْتَبِلٍ سَهْلِ الْمُحَيَّا كَرِيمٍ غَيْرِ مِلْجَاجِ فَطَلَبَ نَصْرًا وَنَفَاهُ ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ النَّفْيَ ، وَلَكِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ ظَهَرَتْ لَهُ ، فَقَالَ : مَا ذَنْبِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ : لَا ذَنْبَ لَك ، وَإِنَّمَا الذَّنْبُ لِي حَيْثُ لَا أُطَهِّرُ دَارَ الْهِجْرَةِ مِنْكَ .
وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَدَ زَانِيًا وَنَفَاهُ إلَى مِصْرَ ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَدَ وَنَفَى
ثُمَّ قَالَ : كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ وَالتَّعْزِيرِ .
( وَإِذَا زَنَى الْمَرِيضُ وَحَدُّهُ الرَّجْمُ رُجِمَ ) ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ مُسْتَحَقٌّ فَلَا يَمْتَنِعُ بِسَبَبِ الْمَرَضِ ( وَإِنْ كَانَ حَدُّهُ الْجَلْدَ لَمْ يُجْلَدْ حَتَّى يَبْرَأَ ) كَيْلَا يُفْضِيَ إلَى الْهَلَاكِ وَلِهَذَا لَا يُقَامُ الْقَطْعُ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِوَقَوْلُهُ ( وَإِذَا زَنَى الْمَرِيضُ إلَخْ ) ظَاهِرٌ .
( وَإِنْ زَنَتْ الْحَامِلُ لَمْ تُحَدَّ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا ) كَيْلَا يُؤَدِّيَ إلَى هَلَاكِ الْوَلَدِ وَهُوَ نَفْسٌ مُحْتَرَمَةٌ ( وَإِنْ كَانَ حَدُّهَا الْجَلْدَ لَمْ تُجْلَدْ حَتَّى تَتَعَالَى مِنْ نِفَاسِهَا ) أَيْ تَرْتَفِعَ يُرِيدُ بِهِ تَخْرُجُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ نَوْعُ مَرَضٍ فَيُؤَخَّرُ إلَى زَمَانِ الْبُرْءِ .
بِخِلَافِ الرَّجْمِ ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ لِأَجْلِ الْوَلَدِ وَقَدْ انْفَصَلَ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُؤَخَّرُ إلَى أَنْ يَسْتَغْنِيَ وَلَدُهَا عَنْهَا إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقُومُ بِتَرْبِيَتِهِ ؛ لِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ صِيَانَةَ الْوَلَدِ عَنْ الضَّيَاعِ ، وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِلْغَامِدِيَّةِ بَعْدَمَا وَضَعَتْ ارْجِعِي حَتَّى يَسْتَغْنِيَ وَلَدُك } ثُمَّ الْحُبْلَى تُحْبَسُ إلَى أَنْ تَلِدَ إنْ كَانَ الْحَدُّ ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ كَيْ لَا تَهْرُبَ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْهُ عَامِلٌ فَلَا يُفِيدُ الْحَبْسُ .وَقَوْلُهُ ( قَالَ لِلْغَامِدِيَّةِ ) رُوِيَ " { أَنَّ الْغَامِدِيَّةَ لَمَّا أَقَرَّتْ بِالزِّنَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ حَامِلًا قَالَ لَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : ارْجِعِي حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِك ، فَلَمَّا وَضَعَتْ جَاءَتْ ثَانِيًا وَأَقَرَّتْ ، فَقَالَ : لَهَا ارْجِعِي حَتَّى يَسْتَغْنِيَ وَلَدُك ، فَقَالَتْ : أَخَافُ أَنْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أُحَدَّ ، فَقَالَ رَجُلٌ : أَنَا أَقُومُ بِتَرْبِيَةِ وَلَدِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْمِهَا } " فَدَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ التَّأْخِيرُ عَنْ هَذَا الزَّمَانِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهَا مُرَبٍّ
( بَابُ الْوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ وَاَلَّذِي لَا يُوجِبُهُ ) : قَالَ ( الْوَطْءُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ هُوَ الزِّنَا ) وَإِنَّهُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَاللِّسَانِ : وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ ، وَشُبْهَةِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَحْظُورٌ ، وَالْحُرْمَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ عِنْدَ التَّعَرِّي عَنْ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ } " ثُمَّ الشُّبْهَةُ نَوْعَانِ : شُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ وَتُسَمَّى شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ ، وَشُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ وَتُسَمَّى شُبْهَةً حُكْمِيَّةً .
فَالْأُولَى تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يُظَنَّ غَيْرُ الدَّلِيلِ دَلِيلًا وَلَا بُدَّ مِنْ الظَّنِّ لِيَتَحَقَّقَ الِاشْتِبَاهُ .
وَالثَّانِيَةُ تَتَحَقَّقُ بِقِيَامِ الدَّلِيلِ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى ظَنِّ الْجَانِي وَاعْتِقَادِهِ .
وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِالنَّوْعَيْنِ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ .
وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ فِي الثَّانِيَةِ إذَا ادَّعَى الْوَلَدَ ، وَلَا يَثْبُتُ فِي الْأُولَى وَإِنْ ادَّعَاهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ تَمَحَّضَ زِنًا فِي الْأُولَى ؛ وَإِنْ سَقَطَ الْحَدُّ لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إلَيْهِ وَهُوَ اشْتِبَاهُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَمَحَّضْ فِي الثَّانِيَةِ فَشُبْهَةُ الْفِعْلِ فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ : جَارِيَةُ أَبِيهِ وَأُمُّهُ وَزَوْجَتُهُ ، وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ، وَبَائِنًا بِالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ، وَأُمُّ وَلَدٍ أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ، وَجَارِيَةُ الْمَوْلَى فِي حَقِّ الْعَبْدِ ، وَالْجَارِيَةُ الْمَرْهُونَةُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ .
فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ إذَا قَالَ : ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي .
وَلَوْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ وَجَبَ الْحَدُّ .
وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ : جَارِيَةُ ابْنِهِ ، وَالْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا بَائِنًا بِالْكِنَايَاتِ ، وَالْجَارِيَةُ الْمَبِيعَةُ فِي حَقِّ
الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَالْمَمْهُورَةُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَالْمُشْتَرِكَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ، وَالْمَرْهُونَةُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ .
فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَإِنْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ .
( بَابُ الْوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ وَاَلَّذِي لَا يُوجِبُهُ ) : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ إقَامَةِ الْحَدِّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَمَا لَا يُوجِبُهُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَعْرِيفَ الزِّنَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحُدُودِ ، وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَكِسٍ لِأَنَّ الزِّنَا يَصْدُقُ فِي فِعْلِ الْمَرْأَةِ هَذَا الْفِعْلَ وَلِهَذَا لَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا بِالزِّنَا حَدَّ الْقَذْفِ ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَةِ الْمِلْكِ لَيْسَ بِصَادِقٍ عَلَيْهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَصْلِ وَالْمَرْأَةُ تَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا لِمَا سَيَجِيءُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَا يَجِبُ فِيهِ عَلَى الرَّجُلِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ .
فَإِنْ قُلْت : قَوْلُهُ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَحْظُورٌ تَعْلِيلٌ وَاقِعٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لِأَنَّهُ فِي التَّصَوُّرَاتِ .
قُلْت : التَّعْلِيلُ لَيْسَ لِإِثْبَاتِ التَّعْرِيفِ وَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ اعْتِبَارِهِمْ انْتِفَاءَ الشُّبْهَةِ فِي تَحْقِيقِ الزِّنَا .
وَتَقْرِيرُ كَلَامِهِ أَنَّ مَا اعْتَبَرُوا أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ شُبْهَةِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَحْظُورٌ يُوجِبُ الْحَدَّ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَمَالُ ، لِأَنَّ النَّاقِصَ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا يُوجِبُ عُقُوبَةً كَامِلَةً وَالْكَمَالُ فِي الْحَظْرِ عِنْدَ التَّعَرِّي عَنْ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ ( يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ } ثُمَّ الشُّبْهَةُ ) وَهِيَ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ عَلَى مَا قَالُوا ( نَوْعَانِ : شُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ وَتُسَمَّى شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ ) أَيْ هِيَ شُبْهَةٌ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ بِشُبْهَةٍ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ ، حَتَّى لَوْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيَّ حُدَّ ( وَشُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ وَتُسَمَّى شُبْهَةً حُكْمِيَّةً )
وَتُسَمَّى شُبْهَةَ مِلْكٍ أَيْضًا فَإِنَّهَا لَا تُوجِبُ الْحَدَّ ، وَإِنْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيَّ فَالْأُولَى تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَظُنَّ غَيْرَ الدَّلِيلِ دَلِيلًا ) كَمَا إذَا ظَنَّ أَنَّ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ تَحِلُّ لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ نَوْعُ اسْتِخْدَامٍ وَاسْتِخْدَامُ الْجَارِيَةِ يَحِلُّ فَكَذَا الْوَطْءُ فَيَكُونُ تَحَقُّقُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الظَّانِّ ( وَالثَّانِيَةُ تَتَحَقَّقُ بِقِيَامِ الدَّلِيلِ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ ) لَكِنْ لَا يَكُونُ عَامِلًا لِمَانِعٍ اتَّصَلَ بِهَا ( وَ ) هَذِهِ ( لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى ظَنِّ الْجَانِي وَاعْتِقَادِهِ وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِالنَّوْعَيْنِ ) جَمِيعًا ( لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ ) لَكِنْ فِي الْأُولَى عِنْدَ الظَّنِّ وَفِي الثَّانِيَةِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ ( وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ فِي الثَّانِي ) أَيْ فِي الْوَطْءِ الثَّانِي ، وَقِيلَ أَيْ فِي الْمَذْكُورِ الثَّانِي ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ فِي النَّوْعِ الثَّانِي ( إذَا ادَّعَى الْوَلَدَ وَلَا يَثْبُتُ فِي الْأَوَّلِ وَإِنْ ادَّعَاهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ تَمَحَّضَ ) أَيْ خَلَصَ ( زِنًا فِي ) الشُّبْهَةِ ( الْأُولَى وَإِنْ سَقَطَ الْحَدُّ لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى الْوَاطِئِ .
وَقِيلَ هَذَا لَيْسَ بِمُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ ، فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ الثَّلَاثَ يَثْبُتُ فِيهَا النَّسَبُ لِأَنَّ هَذَا وَطْءٌ فِي شُبْهَةِ الْعَقْدِ فَيَكْفِي لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ .
وَفِي الْإِيضَاحِ : الْمُخْتَلِعَةُ وَالْمُطَلَّقَةُ بِعِوَضٍ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا ، وَعَدَّ شُبْهَةَ الْفِعْلِ وَهِيَ فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ كَمَا ذَكَرَ ، فَإِذَا قَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي فَلَا حَدَّ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْتَفِعُ بِمَالِ هَؤُلَاءِ حَسْبَ انْتِفَاعِهِ بِمَالِ نَفْسِهِ فَكَانَ هَذَا ظَنًّا فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ فَيَمْتَنِعُ الْحَدُّ ، وَإِنْ قَالَ الرَّجُلُ عَلِمْت أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيَّ وَقَالَتْ الْجَارِيَةُ ظَنَنْت أَنَّهُ يَحِلُّ لِي لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا .
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلِدَعْوَى الشُّبْهَةِ ، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَلِأَنَّ
الزِّنَا يَقُومُ بِهِمَا ، فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْمَرْأَةِ سَقَطَ عَنْ الرَّجُلِ لِمَكَانِ الشَّرِكَةِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا وَجْهُ الِاشْتِبَاهِ فِي الْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثِ حَتَّى لَا يُحَدَّ إذَا قَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي .
أُجِيبَ بِأَنَّ وَجْهَهُ بَقَاءُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ بَعْدَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ مِنْ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَحُرْمَةِ نِكَاحِ الْأُخْتِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ حَتَّى لَوْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : بَيْنَ النَّاسِ اخْتِلَافٌ فِي أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا هَلْ يَقَعُ أَوْ لَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ خِلَافٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ حَتَّى لَوْ قَضَى بِهِ الْقَاضِي لَمْ يَنْفُذْ قَضَاؤُهُ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الطَّلَاقَ الْبَائِنَ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى مَالٍ فَوَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَإِنْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ عَلَى مَا يَجِيءُ ، وَشُبْهَةُ أُمِّ وَلَدٍ أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا هِيَ مَا قُلْنَا فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ مِنْ قِيَامِ أَثَرِ الْفِرَاشِ فَكَانَ الظَّنُّ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ ، وَشُبْهَةُ الْعَبْدِ فِي جَارِيَةِ الْمَوْلَى انْبِسَاطُ يَدِ الْعَبْدِ فِي مَالِ مَوْلَاهُ وَالْجَارِيَةُ مِنْ مَالِهِ فَجَازَ أَنْ يَظُنَّ حِلَّ الِانْبِسَاطِ فِيهَا بِالْوَطْءِ ( وَالْجَارِيَةُ الْمَرْهُونَةُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ ) يَعْنِي إذَا قَالَ الْمُرْتَهِنُ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي لَا يُحَدُّ ، وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ سَوَاءٌ ادَّعَى الظَّنَّ أَوْ لَمْ يَدَّعِ كَمَا فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةً انْعَقَدَ لَهُ فِيهَا سَبَبُ الْمِلْكِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَشْتَبِهْ قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةً اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا انْعَقَدَ لَهُ فِيهَا سَبَبُ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ بِالْهَلَاكِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ
مِنْ وَقْتِ الرَّهْنِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ انْعَقَدَ لَهُ فِيهَا سَبَبُ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ وَيَحْصُلُ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْهَلَاكِ .
وَوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ هُوَ أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ عَقْدٌ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ بِحَالٍ فَقِيَامُهُ لَا يُورِثُ شُبْهَةً حُكْمِيَّةً قِيَاسًا عَلَى الْإِجَارَةِ فَإِنَّهَا لَا تُفِيدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ بِحَالٍ ، فَمَا أَوْرَثَ قِيَامَهَا فِي الْمَحَلِّ شُبْهَةٌ حُكْمِيَّةٌ وَعَلَى هَذَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ اشْتَبَهَ أَوْ لَمْ يَشْتَبِهْ كَمَا فِي الْجَارِيَةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِلْخِدْمَةِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اشْتِبَاهٍ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَالِ فِي الْجُمْلَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا فِي الرَّهْنِ وَقَدْ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ مِلْكٍ فِي حَقِّ الْمَالِ فَيَشْتَبِهُ أَنَّهُ هَلْ يَثْبُتُ لَهُ بِهَذَا الْقَدْرِ مِلْكُ الْمُتْعَةِ أَوْ لَا ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّ الثَّابِتَ بِهَا مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبَ مِلْكِ الْمُتْعَةِ بِحَالٍ فَقَدْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَا لَا يَشْتَبِهُ ، وَبِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ الْمِلْكَ حَالَ قِيَامِ الْجَارِيَةِ وَمِلْكُ الْمَالِ حَالَ قِيَامِ الْجَارِيَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فَقَدْ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ مِلْكِ الْمُتْعَةِ ، وَهَاهُنَا إنَّمَا يَمْلِكُ مَالِيَّةَ الْمَرْهُونِ عِنْدَ الْهَلَاكِ وَمِلْكُ الْمَالِ بَعْدَ الْهَلَاكِ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ .
ثُمَّ عَدَّ الشُّبْهَةَ فِي الْمَحَلِّ وَهِيَ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ عَلَى مَا ذَكَرَهَا ( جَارِيَةُ ابْنِهِ ) لِقِيَامِ الْمُقْتَضَى لِلْمِلْكِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } ( وَالْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا بَائِنًا بِالْكِنَايَاتِ ) لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي كَوْنِهَا رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً ( وَالْجَارِيَةُ الْمَبِيعَةُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ) لِأَنَّ الْيَدَ الَّتِي كَانَ
بِهَا مُتَسَلِّطًا عَلَى الْوَطْءِ بَاقِيَةٌ بَعْدُ فَصَارَتْ شُبْهَةً فِي الْمَحَلِّ ( وَالْمَمْهُورَةُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ قَبْلَ الْقَبْضِ ) لِقِيَامِ مِلْكِ الْيَدِ ( وَالْمُشْتَرَكَةُ ) لِقِيَامِ الْمِلْكِ فِي النِّصْفِ ( وَالْمَرْهُونَةُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ ) وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَهُ ( فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يُحَدُّ ) بِكُلِّ تَقْدِيرٍ ، وَهَذَانِ النَّوْعَانِ مِنْ الشُّبْهَةِ هُوَ مَا كَانَ رَاجِعًا إلَى الْفَاعِلِ وَالْقَائِلِ .
ثُمَّ الشُّبْهَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ ، وَعِنْدَ الْبَاقِينَ لَا تَثْبُتُ إذَا عَلِمَ بِتَحْرِيمِهِ ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ عَلَى مَا يَأْتِيك إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، إذَا عَرَفْنَا هَذَاوَثَمَّ شُبْهَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الَّتِي تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ فَإِنَّهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَثْبُتُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْعَقْدُ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاطِئُ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ أَوْ جَاهِلًا بِهَا ( وَعِنْدَ ) الْعُلَمَاءِ ( الْبَاقِينَ لَا تَثْبُتُ إذَا عَلِمَ بِتَحْرِيمِهِ ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ عَلَى مَا يَأْتِيك إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
إذَا عَرَفْنَا هَذَا ) أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ بَيَانِ نَوْعَيْ الشُّبْهَةِ سَهْلُ تَخْرِيجِ الْفُرُوعِ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ وَاضِحٌ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ .
( وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ وَقَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ حُدَّ ) لِزَوَالِ الْمِلْكِ الْمُحَلَّلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَكُونُ الشُّبْهَةُ مُنْتَفِيَةً وَقَدْ نَطَقَ الْكِتَابُ بِانْتِفَاءِ الْحِلِّ وَعَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ ، وَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْمُخَالِفِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ لَا اخْتِلَافٌ ، وَلَوْ قَالَ : ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الظَّنَّ فِي مَوْضِعِهِ لِأَنَّ أَثَرَ الْمِلْكِ قَائِمٌ فِي حَقِّ النَّسَبِ وَالْحَبْسِ وَالنَّفَقَةِ فَاعْتُبِرَ ظَنُّهُ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَالْمُخْتَلِعَةُ وَالْمُطَلَّقَةُ عَلَى مَالٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثَ لِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَقِيَامِ بَعْضِ الْآثَارِ فِي الْعِدَّةِوَقَوْلُهُ ( وَقَدْ نَطَقَ الْكِتَابُ ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ } وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْمُخَالِفِ فِيهِ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَ الزَّيْدِيَّةِ وَالْإِمَامِيَّةِ ، فَإِنَّ الزَّيْدِيَّةَ تَقُولُ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا جُمْلَةً لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ ، وَالْإِمَامِيَّةُ تَقُولُ إنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ أَصْلًا لِكَوْنِهِ خِلَافَ السُّنَّةِ ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( لِأَنَّهُ خِلَافٌ لَا اخْتِلَافٌ ) وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الِاخْتِلَافَ أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ مُخْتَلِفًا وَالْمَقْصِدُ وَاحِدًا ، وَالْخِلَافُ أَنْ يَكُونَ كِلَاهُمَا مُخْتَلِفًا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( فِي حَقِّ النَّسَبِ ) يَعْنِي النَّسَبَ بِاعْتِبَارِ الْعُلُوقِ السَّابِقِ عَلَى الطَّلَاقِ لَا النَّسَبِ بِهَذَا الْوَطْءِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ .
( وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِّيَّةٌ أَوْ أَمْرُك بِيَدِك فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ وَقَالَ : عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ لَمْ يُحَدَّ ) لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِيهِ ؛ فَمِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ أَنَّهَا تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي سَائِرِ الْجِنَايَاتِ وَكَذَا إذَا نَوَى ثَلَاثًا لِقِيَامِ الِاخْتِلَافِ مَعَ ذَلِكَوَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا نَوَى ثَلَاثًا لِقِيَامِ الِاخْتِلَافِ مَعَ ذَلِكَ ) أَيْ كَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا نَوَى مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ ثَلَاثًا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ لَا يُحَدُّ وَإِنْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ لَا يَرْتَفِعُ بِنِيَّةِ الثَّلَاثِ فَكَانَتْ الشُّبْهَةُ قَائِمَةً فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ .
( وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَإِنْ قَالَ : عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ ) لِأَنَّ الشُّبْهَةَ حُكْمِيَّةٌ لِأَنَّهَا نَشَأَتْ عَنْ دَلِيلٍ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { أَنْتِ وَمَالُك لِأَبِيك } " وَالْأُبُوَّةُ قَائِمَةٌ فِي حَقِّ الْجَدِّ .
قَالَ ( وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُوَقَوْلُهُ ( وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ ) يَعْنِي وَإِنْ كَانَ وَلَدُهُ حَيًّا ، وَقَدْ يُشِيرُ إلَى ذَلِكَ تَعْلِيلُ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَالْأُبُوَّةُ قَائِمَةٌ فِي حَقِّ الْجَدِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ) أَيْ فِي بَابِ نِكَاحِ الرَّقِيقِ .
( وَإِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ زَوْجَتِهِ وَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى قَاذِفِهِ ، وَإِنْ قَالَ : عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ حُدَّ ، وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ مَوْلَاهُ ) لِأَنَّ بَيْنَ هَؤُلَاءِ انْبِسَاطًا فِي الِانْتِفَاعِ فَظَنَّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ فَكَانَ شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ إلَّا أَنَّهُ زِنًا حَقِيقَةً فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ ، وَكَذَا إذَا قَالَتْ الْجَارِيَةُ : ظَنَنْت أَنَّهُ يَحِلُّ لِي وَالْفَحْلُ لَمْ يَدَّعِ فِي الظَّاهِرِ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌقَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا قَالَتْ الْجَارِيَةُ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الظَّاهِرِ ) يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ وَكَذَا أَيْ لَا حَدَّ عَلَى الْعَبْدِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ( لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ ) فَوُرُودُ الشُّبْهَةِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ يَكْفِي لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْ الْآخَرِ .
فَإِنْ قِيلَ : يُشْكِلُ هَذَا بِمَا إذَا زَنَى الْبَالِغُ بِصَبِيَّةٍ حَيْثُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْبَالِغِ دُونَ الصَّبِيَّةِ مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ هُنَاكَ أَيْضًا وَاحِدٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ فِي جَانِبِ الصَّبِيَّةِ لَمْ يَكُنْ بِاعْتِبَارِ الشُّبْهَةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ لِلْعُقُوبَاتِ وَكَلَامُنَا فِيمَا إذَا تَمَكَّنَتْ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ شُبْهَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ
( وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ أَوْ عَمِّهِ وَقَالَ : ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي حُدَّ ) لِأَنَّهُ لَا انْبِسَاطَ فِي الْمَالِ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَكَذَا سَائِرُ الْمَحَارِمِ سِوَى الْوِلَادِ لِمَا بَيَّنَّا .( وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ أَوْ عَمِّهِ وَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي حُدَّ لِأَنَّهُ لَا انْبِسَاطَ فِي الْمَالِ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَكَذَا سَائِرُ الْمَحَارِمِ سِوَى الْوِلَادِ لِمَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي قَوْلَهُ لَا انْبِسَاطَ فِي الْمَالِ فِيمَا بَيْنَهُمَا .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَمْ يُجْعَلْ هَذَا كَالسَّرِقَةِ يَعْنِي إذَا سَرَقَ مَالَ أَخُوهُ أَوْ أُخْتِهِ لَا يُقْطَعُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ هُنَاكَ يَدْخُلُ بَيْتَ بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَلَا حِشْمَةٍ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ هُنَاكَ الْحِرْزُ وَالْقَطْعُ دَائِرٌ مَعَ هَتْكِ الْحِرْزِ ، وَأَمَّا هُنَا فَالْحِلُّ دَائِرٌ مَعَ الْمِلْكِ أَوْ الْعَقْدِ وَلَمْ يُوجَدْ الْمِلْكُ وَلَا شُبْهَتُهُ وَلَا الْعَقْدُ فَيَجِبُ الْحَدُّ .
( وَمَنْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ وَقَالَتْ النِّسَاءُ : إنَّهَا زَوْجَتُك فَوَطِئَهَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ ) قَضَى بِذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِالْعِدَّةِ ، وَلِأَنَّهُ اعْتَمَدَ دَلِيلًا وَهُوَ الْإِخْبَارُ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ ، إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ فَصَارَ كَالْمَغْرُورِ ، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُنْعَدِمٌ حَقِيقَةًقَالَ ( وَمَنْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ ) هَذَا مِنْ بَابِ الشُّبْهَةِ فِي الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْفِعْلَ صَدَرَ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى دَلِيلٍ أَطْلَقَ الشَّرْعُ لَهُ الْعَمَلَ بِهِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَجَعَلَ الْمِلْكَ كَالثَّابِتِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْغُرُورِ كَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ اُعْتُبِرَ الْمِلْكُ كَالثَّابِتِ لِدَفْعِ الْغُرُورِ كَذَلِكَ هَاهُنَا ، وَلِهَذَا إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ ، وَلَوْ كَانَتْ الشُّبْهَةُ فِي الْفِعْلِ لَمَا ثَبَتَ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
قَوْلُهُ ( وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ) يَعْنِي أَنَّهُ يَقُولُ فِيهَا إنَّ إحْصَانَهُ لَمْ يَسْقُطْ بِهَذَا الْفِعْلِ لِأَنَّهُ بَنَى الْحُكْمَ عَلَى الظَّاهِرِ فَقَدْ كَانَ هَذَا الْوَطْءُ حَلَالًا فِي الظَّاهِرِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ إحْصَانُهُ .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمِلْكَ مُنْعَدِمٌ حَقِيقَةً فَلَمْ يَبْقَ الظَّاهِرُ إلَّا شُبْهَةً وَبِهَا يَسْقُطُ الْحَدُّ وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ .
( وَمَنْ وَجَدَ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ فَوَطِئَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ) لِأَنَّهُ لَا اشْتِبَاهَ بَعْدَ طُولِ الصُّحْبَةِ فَلَمْ يَكُنْ الظَّنُّ مُسْتَنِدًا إلَى دَلِيلٍ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ قَدْ يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهَا غَيْرُهَا مِنْ الْمَحَارِمِ الَّتِي فِي بَيْتِهَا ، وَكَذَا إذَا كَانَ أَعْمَى لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّمْيِيزُ بِالسُّؤَالِ وَغَيْرِهِ ، إلَّا إنْ كَانَ دَعَاهَا فَأَجَابَتْهُ أَجْنَبِيَّةٌ وَقَالَتْ : أَنَا زَوْجَتُك فَوَاقَعَهَا لِأَنَّ الْإِخْبَارَ دَلِيلٌوَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ قَدْ يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهَا غَيْرُهَا مِنْ الْمَحَارِمِ الَّتِي فِي بَيْتِهَا ) يَعْنِي فَلَا يَصْلُحُ مُجَرَّدُ النَّوْمِ عَلَى فِرَاشِهَا دَلِيلًا شَرْعِيًّا فَكَانَ مُقَصِّرًا فَيَجِبُ الْحَدُّ .
وَإِنَّمَا قَالَ ( وَقَالَتْ أَنَا زَوْجَتُك ) لِأَنَّهَا إذَا أَجَابَتْ بِالْفِعْلِ وَلَمْ تَقُلْ ذَلِكَ فَوَاقَعَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَذَا فِي الْإِيضَاحِ
( وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا فَوَطِئَهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَلَكِنْ يُوجَعُ عُقُوبَةً إذَا كَانَ عَلِمَ بِذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ : عَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَيَلْغُو كَمَا إذَا أُضِيفَ إلَى الذُّكُورِ ، وَهَذَا لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ ، وَحُكْمُهُ الْحِلُّ وَهِيَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَقْدَ صَادَفَ مَحَلَّهُ لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ مَا يُقْبَلُ مَقْصُودُهُ ، وَالْأُنْثَى مِنْ بَنَاتِ آدَمَ قَابِلَةٌ لِلتَّوَالُدِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا أَنَّهُ تَقَاعَدَ عَنْ إفَادَةِ حَقِيقَةِ الْحِلِّ فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ لَا نَفْسَ الثَّابِتِ ، إلَّا أَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ
( وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا فَوَطِئَهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَكِنْ يُوجَعُ عُقُوبَةً إذَا كَانَ عَلِمَ بِذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ : يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا كَانَ عَلِمَ بِذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ ) وَكُلُّ عَقْدٍ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ يَلْغُو ( كَمَا إذَا أُضِيفَ إلَى الذُّكُورِ ) قَوْلُهُ ( وَهَذَا لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ عَقْدٌ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ ( مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ ) وَهَذَا الْمَحَلُّ لَيْسَ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ ( لِأَنَّ حُكْمَهُ الْحِلُّ وَهِيَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَقْدَ صَادَفَ مَحَلَّهُ لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ مَا يَكُونُ قَابِلًا لِمَقْصُودِهِ ) وَهُوَ التَّوَالُدُ هَاهُنَا ( وَبَنَاتُ آدَمَ قَابِلَةٌ لِذَلِكَ ) قَوْلُهُ وَهَذَا الْمَحَلُّ لَيْسَ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ .
قُلْنَا : لَيْسَ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ أَصْلًا أَوْ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ كَانَ مَحَلًّا لَهُ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلِنَا .
وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنْ كَوْنُهُ مَحَلًّا فِي الْجُمْلَةِ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ فَإِنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعْ زِنًا لَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا ، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ الزِّنَا وَغَيْرِهِ إلَّا بِالْعَقْدِ وَالْفَرْضُ وُجُودُهُ ، وَأَوْلَادُ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ مَحَارِمِهِمْ لَا تُنْسَبُ إلَى الزِّنَا فِي الْعُرْفِ وَهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى نِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَلَا يُقَرُّونَ عَلَى الزِّنَا بَلْ يُحَدُّونَ عَلَيْهِ ( وَ ) إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَقْدَ صَادَفَ مَحَلَّهُ ( كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا أَنَّهُ تَقَاعَدَ عَنْ إفَادَةِ حَقِيقَةِ الْحِلِّ ) بِتَحْرِيمِ الشَّرْعِ فِي دِينِنَا ( فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ إلَّا أَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ )
( وَمَنْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ يُعَزَّرُ ) لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌقَوْلُهُ ( وَمَنْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ ) أَيْ فِي غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ كَالتَّفْخِيذِ وَالتَّبْطِينِ ( عُزِّرَ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُنْكَرٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ )
( وَمَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ أَوْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُعَزَّرُ ، وَزَادَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَيُودَعُ فِي السِّجْنِ ، وَقَالَا : هُوَ كَالزِّنَا فَيُحَدُّ ) وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ فِي قَوْلٍ يُقْتَلَانِ بِكُلِّ حَالٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ } " وَيُرْوَى " { فَارْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ } " وَلَهُمَا أَنَّهُ فِي مَعْنَى الزِّنَا لِأَنَّهُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ عَلَى وَجْهٍ تَمَحَّضَ حَرَامًا لِقَصْدِ سَفْحِ الْمَاءِ .
وَلَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي مُوجِبِهِ مِنْ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ وَهَدْمِ الْجِدَارِ وَالتَّنْكِيسِ مِنْ مَكَان مُرْتَفِعٍ بِاتِّبَاعِ الْأَحْجَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الزِّنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إضَاعَةُ الْوَلَدِ وَاشْتِبَاهُ الْأَنْسَابِ ، وَكَذَا هُوَ أَنْدَرُ وُقُوعًا لِانْعِدَامِ الدَّاعِي مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَالدَّاعِي إلَى الزِّنَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ أَوْ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ إلَّا أَنَّهُ يُعَزَّرُ عِنْدَهُ لِمَا بَيَّنَّاهُ
قَوْلُهُ ( وَمَنْ أَتَى امْرَأَةً ) قِيلَ يُرِيدُ أَجْنَبِيَّةً لِأَنَّهُ إذَا أَتَى امْرَأَتَهُ أَوْ مَمْلُوكَتَهُ ( فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ ) أَيْ الدُّبُرِ لَا يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَا عِنْدَهُمَا أَيْضًا وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الزِّيَادَاتِ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْتَحِلُّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَحَلٍّ وَمَحَلٍّ ( أَوْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُعَزَّرُ .
وَزَادَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَيُودَعُ فِي السِّجْنِ ، وَقَالَا : هُوَ كَالزِّنَا فَيُحَدُّ ) حَدَّ الزِّنَا جَلْدًا إنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَنٍ وَرَجْمًا إنْ كَانَ مُحْصَنًا ( وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ فِي قَوْلٍ آخَرَ : يُقْتَلَانِ بِكُلِّ حَالٍ ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَا مُحْصَنَيْنِ أَوْ لَمْ يَكُونَا ( لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ } وَيُرْوَى { فَارْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ } وَلَهُمَا أَنَّهُ ) أَيْ اللِّوَاطَ ( فِي مَعْنَى الزِّنَا ) وَقِيلَ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَمَلِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ وَفِعْلِ اللِّوَاطِ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : إنَّهُمَا فِي مَعْنَى الزِّنَا ( لِأَنَّهُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ عَلَى وَجْهٍ تَمَحَّضَ حَرَامًا لِقَصْدِ سَفْحِ الْمَاءِ وَهُوَ مَنَاطُ الْحَدِّ فِي الزِّنَا ) فَيَلْحَقُ بِهِ اللِّوَاطُ فِي الدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَدْخُلُ فِيمَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ( وَلَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي مُوجِبِهِ مِنْ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ وَهَدْمِ الْجِدَارِ عَلَيْهِ وَالتَّنْكِيسِ مِنْ مَكَان مُرْتَفِعٍ بِإِتْبَاعِ الْأَحْجَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ) مِنْ الْحَبْسِ فِي أَنْتَنِ الْمَوَاضِعِ حَتَّى يَمُوتَا وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي مُوجِبِ الزِّنَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا ( وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الزِّنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إضَاعَةُ الْوَلَدِ وَاشْتِبَاهُ الْأَنْسَابِ ) بِخِلَافِ
الزِّنَا ( وَكَذَا هُوَ أَنْدَرُ وُقُوعًا ) مِنْ الزِّنَا ( لِانْعِدَامِ الدَّاعِي فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ) يَعْنِي عَلَى مَا هُوَ الْجِبِلَّةُ السَّلِيمَةُ ( وَالدَّاعِي إلَى الزِّنَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ ) وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً فَبَقِيَ الْقِيَاسُ وَالْقِيَاسُ فِي مِثْلِهِ بَاطِلٌ ( وَمَا رَوَاهُ ) مِنْ قَتْلِهِمَا أَوْ رَجْمِهِمَا ( مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ أَوْ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ ) لِلْكُفْرِ بِذَلِكَ ( إلَّا أَنَّهُ يُعَزَّرُ عِنْدَهُ ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ .
قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ : وَالرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ إنْ شَاءَ قَتَلَهُ إنْ اعْتَادَ ذَلِكَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَرَبَهُ وَحَبَسَهُ ؛ فَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الزِّنَا .
( وَمَنْ وَطِئَ بَهِيمَةً لَا حَدَّ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الزِّنَا فِي كَوْنِهِ جِنَايَةً وَفِي وُجُودِ الدَّاعِي لِأَنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَنْفِرُ عَنْهُ وَالْحَامِلُ عَلَيْهِ نِهَايَةُ السَّفَهِ أَوْ فَرْطُ الشَّبَقِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ سَتْرُهُ إلَّا أَنَّهُ يُعَزَّرُ لِمَا بَيَّنَّاهُ ، وَاَلَّذِي يُرْوَى أَنَّهُ تُذْبَحُ الْبَهِيمَةُ وَتُحْرَقُ فَذَلِكَ لِقَطْعِ التَّحَدُّثِ بِهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍوَمَنْ وَطِئَ بَهِيمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الزِّنَا فِي كَوْنِهِ جِنَايَةً ) إذْ لَيْسَ فِيهِ تَضْيِيعُ الْوَلَدِ وَلَا إفْسَادُ الْفِرَاشِ ( وَ ) لَا ( فِي وُجُودِ الدَّاعِي لِأَنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَنْفِرُ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ نِهَايَةُ السَّفَهِ أَوْ فَرْطُ الشَّبَقِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ سَتْرُهُ ) أَيْ سَتْرُ فَرْجِ الْبَهِيمَةِ ، وَإِنَّمَا أُضْمِرَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُهُ لِأَنَّ ذِكْرَ الْبَهِيمَةِ يَسْتَلْزِمُهُ فَكَانَ مَرْجِعُهُ حُكْمِيًّا ( إلَّا أَنَّهُ يُعَزَّرُ لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ ، وَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ } شَاذٌّ لَا يُعْمَلُ بِهِ ، وَلَوْ ثَبَتَ فَتَأْوِيلُهُ مُسْتَحِلُّ ذَلِكَ الْفِعْلِ ( وَاَلَّذِي يُرْوَى أَنْ تُذْبَحَ الْبَهِيمَةُ ) وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ أَتَى بِرَجُلٍ أَتَى بَهِيمَةً فَأَمَرَ بِالْبَهِيمَةِ فَذُبِحَتْ وَأُحْرِقَتْ بِالنَّارِ ( فَذَلِكَ لِقَطْعِ التَّحَدُّثِ بِهِ ) كَيْ لَا يُعَيَّرَ بِهَا الرَّجُلُ إذَا كَانَتْ الْبَهِيمَةُ بَاقِيَةً ( لَا أَنَّهُ وَاجِبٌ )
( وَمَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْبَغْيِ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُحَدُّ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِإِسْلَامِهِ أَحْكَامَهُ أَيْنَمَا كَانَ مَقَامُهُ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ } " وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الِانْزِجَارُ وَوِلَايَةُ الْإِمَامِ مُنْقَطِعَةٌ فِيهِمَا فَيُعَرَّى الْوُجُوبُ عَنْ الْفَائِدَةِ ، وَلَا تُقَامُ بَعْدَ مَا خَرَجَ لِأَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ مُوجِبَةً فَلَا تَنْقَلِبُ مُوجِبَةً .
قَالَ ( وَمَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْبَغْيِ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا ) وَأَقَرَّ عِنْدَ الْإِمَامِ بِالزِّنَا ( لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُحَدُّ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِإِسْلَامِهِ أَحْكَامَهُ أَيْنَمَا كَانَ مُقَامُهُ .
وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ } ) .
وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ عَدَمِ الْإِقَامَةِ حِسًّا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعْرِفُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْحَدِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْإِمَامِ عَنْهَا فَكَانَ الْمُرَادُ بِعَدَمِ الْإِقَامَةِ عَدَمَ وُجُوبِ الْحَدِّ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الْحَدِيثُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ { فَاجْلِدُوا } فَلَا يُقْبَلُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَوَاضِعَ الشُّبْهَةِ خُصَّتْ مِنْ ذَلِكَ فَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ حُجَّةً قَطْعِيَّةً عَلَى هَذَا أَطْبَقَ الشَّارِحُونَ ، وَفِيهِ نَظَرٌ يُعْرَفُ بِاسْتِحْضَارِ قَوَاعِدِ الْأُصُولِ .
وَهُوَ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِهِمَا إنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ بِلَفْظٍ مُقَارَنٍ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ بِمَوْجُودٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ حَصَلَ التَّخْصِيصُ بِلَفْظٍ مُقَارَنٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا } فَإِنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إلَى الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ .
وَالزِّنَا وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَخَرَجَ مِنْهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ رَجُلًا .
وَإِذَا خَصَّ مُقَارَنًا جَازَ التَّخْصِيصُ بَعْدَهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الِانْزِجَارُ ) يَعْنِي أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ لَيْسَ لِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا هُوَ لِلِانْزِجَارِ ، وَالِانْزِجَارُ يَحْصُلُ بِالِاسْتِيفَاءِ ، وَالِاسْتِيفَاءُ مُتَعَذَّرٌ لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْإِمَامِ .
فَلَوْ وَجَبَ الْحَدُّ لَعَرَى عَنْ الْفَائِدَةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَإِذَا لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا لَا يُقَامُ بَعْدَمَا خَرَجَ لِئَلَّا يَقَعَ
الْحُكْمُ بِغَيْرِ سَبَبٍ ، وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ بِتَأْوِيلِ الْفَاحِشَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } أَوْ بِتَأْوِيلِ الْوَطْأَةِ
وَلَوْ غَزَا مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِقَامَةِ بِنَفْسِهِ كَالْخَلِيفَةِ وَأَمِيرِ مِصْرَ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى مَنْ زَنَى فِي مُعَسْكَرِهِ لِأَنَّهُ تَحْتَ يَدِهِ ، بِخِلَافِ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ وَالسَّرِيَّةِ لِأَنَّهُ لَمْ تُفَوَّضْ إلَيْهِمَا الْإِقَامَةُ .وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ غَزَا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( فِي مُعَسْكَرِهِ ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ مِنْ مُعَسْكَرِهِ وَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ وَزَنَى فِيهَا ثُمَّ خَرَجَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ( وَالسَّرِيَّةُ ) قِيلَ هُمْ الَّذِينَ يَسِيرُونَ بِاللَّيْلِ وَيَخْتَفُونَ بِالنَّهَارِ ، وَمِنْهُ { خَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ }
( وَإِذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَزَنَى بِذِمِّيَّةٍ أَوْ زَنَى ذِمِّيٌّ بِحَرْبِيَّةٍ يُحَدُّ الذِّمِّيُّ وَالذِّمِّيَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَا يُحَدُّ الْحَرْبِيُّ وَالْحَرْبِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الذِّمِّيِّ ) يَعْنِي إذَا زَنَى بِحَرْبِيَّةٍ ، فَأَمَّا إذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ بِذِمِّيَّةٍ لَا يُحَدَّانِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوَّلًا ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُحَدُّونَ كُلُّهُمْ ) وَهُوَ قَوْلُهُ الْآخَرُ .
لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ الْتَزَمَ أَحْكَامَنَا مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي دَارِنَا فِي الْمُعَامَلَاتِ ، كَمَا أَنَّ الذِّمِّيَّ الْتَزَمَهَا مُدَّةَ عُمُرِهِ وَلِهَذَا يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا ، بِخِلَافِ حَدِّ الشُّرْبِ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَتَهُ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ مَا دَخَلَ لِلْقَرَارِ بَلْ لِحَاجَةٍ كَالتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا فَلَمْ يَصِرْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَلِهَذَا يُمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَلَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ وَلَا الذِّمِّيُّ بِهِ ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ مِنْ الْحُكْمِ مَا يَرْجِعُ إلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ وَهُوَ حُقُوقُ الْعِبَادِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا طَمِعَ فِي الْإِنْصَافِ يَلْتَزِمْ الِانْتِصَافَ ، وَالْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِهِمْ ، أَمَّا حَدُّ الزِّنَا فَمَحْضُ حَقِّ الشَّرْعِ .
وَلِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي بَابِ الزِّنَا فِعْلُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ تَابِعَةٌ لَهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَامْتِنَاعُ الْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَصْلِ يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي حَقِّ التَّبَعِ ، أَمَّا الِامْتِنَاعُ فِي حَقِّ التَّبَعِ لَا يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّ الْأَصْلِ .
نَظِيرُهُ إذَا زَنَى الْبَالِغُ بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ وَتَمْكِينُ الْبَالِغَةِ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ أَنَّ فِعْلَ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ زِنًا لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْحُرُمَاتِ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا
بِالشَّرَائِعِ عَلَى أَصْلِنَا وَالتَّمْكِينُ مِنْ فِعْلٍ هُوَ زِنًا مُوجِبٌ لِلْحَدِّ عَلَيْهَا ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُمَا لَا يُخَاطَبَانِ ، وَنَظِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا زَنَى الْمُكْرَهُ بِالْمُطَاوِعَةِ تُحَدُّ الْمُطَاوِعَةُ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ لَا تُحَدُّ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَنَا بِأَمَانٍ ) حَاصِلُ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شُمُولُ الْوُجُوبِ فِي الذِّمِّيِّ وَالذِّمِّيَّةِ وَشُمُولُ الْعَدَمِ فِي الْحَرْبِيِّ وَالْحَرْبِيَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهَذَا الشُّمُولُ لَا يَتَغَيَّرُ بِمُغَايَرَةِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ لِلْآخَرِ بِكَوْنِهِ حَرْبِيًّا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَدَمُ التَّغَيُّرِ ثَابِتٌ فِي جَانِبِ الْحَرْبِيِّ وَالْحَرْبِيَّةِ .
وَأَمَّا فِي جَانِبِ الذِّمِّيِّ فَيَتَفَاوَتُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ حَالُهُمَا حَيْثُ يُحَدُّ الذِّمِّيُّ وَلَا تُحَدُّ الْحَرْبِيَّةُ ، وَفِي الْعَكْسِ لَا يُحَدَّانِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا ، وَقَالَ آخِرًا بِشُمُولِ الْوُجُوبِ فِي الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا ( لَهُ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ الْتَزَمَ أَحْكَامَنَا مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي دَارِنَا كَمَا أَنَّ الذِّمِّيَّ الْتَزَمَهَا مُدَّةَ عُمُرِهِ ) وَمَنْ الْتَزَمَ أَحْكَامَنَا تَنْفُذُ عَلَيْهِ كَالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ ( وَلِهَذَا يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا ) فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الشُّرْبِ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِنَا .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( بِخِلَافِ حَدِّ الشُّرْبِ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَتَهُ ) فَإِنْ قُلْت : فَهُوَ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ وَقَذْفِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْتَصَّ مِنْهُ وَلَا يُحَدُّ لِقَذْفِهِ .
قُلْت : الْمَعْنَى بِاعْتِقَادِ الْإِبَاحَةِ هُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا ، وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْقَذْفِ حَرَامٌ فِي دِينِهِمْ ، فَإِبَاحَتُهُمْ ذَلِكَ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ هَوًى وَتَعَصُّبٌ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْتِزَامَ الْأَحْكَامِ إنَّمَا هُوَ بِالْتِزَامِ الْقَرَارِ فِي الدَّارِ ، لِأَنَّ الِاتِّصَافَ بِكَوْنِهِ مِنْ دَارِنَا إنَّمَا يَكُونُ بِذَلِكَ ، وَالْحَرْبِيُّ مَا الْتَزَمَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ دَخَلَ لِحَاجَةٍ كَالتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا فَلَمْ يَصِرْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا ، وَلِهَذَا يُمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ وَلَا
الذِّمِّيُّ بِهِ ) وَإِذَا لَمْ يَصِرْ مِنْ دَارِنَا وَكَانَ دُخُولُهُ لِحَاجَةٍ ( كَانَ مُلْتَزِمًا مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَرْجِعُ إلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ وَهُوَ حُقُوقُ الْعِبَادِ ) لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَدْخُلْ إلَّا طَامِعًا فِي الْإِنْصَافِ : أَيْ الْعَدْلِ لِأَجْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ ( يَلْتَزِمُ الِانْتِصَافَ ) أَيْ الْعَدْلَ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْغُرْمَ بِإِزَاءِ الْغُنْمِ .
( وَالْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ ) فَكَانَ دَاخِلًا فِي الِانْتِصَافِ ( وَأَمَّا حَدُّ الزِّنَا فَمَحْضُ حَقِّ الشَّرْعِ ) فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ ، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ شَرَعَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي إثْبَاتِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ ( الْأَصْلُ فِي بَابِ الزِّنَا فِعْلُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةُ تَابِعَةٌ لَهُ عَلَى مَا يَأْتِي ؛ فَامْتِنَاعُ الْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَصْلِ ) فِيمَا إذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ بِذِمِّيَّةٍ ( يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي حَقِّ التَّبَعِ ) وَإِلَّا لَا يَكُونُ تَبَعًا فَكَانَ خَلَفًا ( وَأَمَّا الِامْتِنَاعُ فِي حَقِّ التَّبَعِ ) فِيمَا إذَا زَنَى الذِّمِّيُّ بِحَرْبِيَّةٍ ( فَلَا يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي حَقِّ الْأَصْلِ ) وَإِلَّا لَكَانَ مُسْتَتْبَعًا فَكَانَ أَصْلًا ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ تَبَعٌ وَذَلِكَ خَلَفٌ بَاطِلٌ ( نَظِيرُ ذَلِكَ إذَا زَنَى الْبَالِغُ بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ ) فَإِنَّهُ يُحَدُّ الْبَالِغُ دُونَهُمَا لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّ التَّبَعِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ فِي حَقِّ الْأَصْلِ ( وَتَمْكِينُ الْبَالِغَةِ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ) فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّ الْأَصْلِ يَسْتَلْزِمُهُ فِي حَقِّ التَّبَعِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِعْلَ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ زِنًا حَقِيقَةً لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْحُرُمَاتِ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالشَّرَائِعِ عَلَى أَصْلِنَا ) وَلِهَذَا لَوْ قَذَفَهُ قَاذِفٌ بِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَدُّ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِوُجُوبِ تَبْلِيغِهِ مَأْمَنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { ثُمَّ
أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ تَمْكِينُ الْمَرْأَةِ مِنْهُ زِنًا لِأَنَّ التَّمْكِينَ مِنْ فِعْلِ الزِّنَا زِنًا يُوجِبُ الْحَدَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا } فَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ ، بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ لِتَحَقُّقِ الْمَانِعِ وَهُوَ تَبْلِيغُهُ مَأْمَنَهُ ، وَالْمُرَادُ بِالْحُرُمَاتِ تَرْكُ الِامْتِثَالِ بِالْأَوَامِرِ وَالِانْتِهَاءِ عَنْ النَّوَاهِي ، فَإِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْعِبَادَاتِ مِنْ حَيْثُ التَّرْكُ تَضْعِيفًا لِلْعَذَابِ عَلَيْهِمْ ( قَوْلُهُ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا الْعِرَاقِيِّينَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا بِكَوْنِهِمْ مُخَاطَبِينَ بِالشَّرَائِعِ كُلِّهَا بِالْعِبَادَاتِ وَالْحُرُمَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالشَّرَائِعِ عَلَى أَصْلِنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فَإِنَّهُمْ قَالُوا الْكُفَّارُ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالشَّرَائِعِ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : وَمَشَايِخُ دِيَارِنَا يَقُولُونَ : إنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِأَدَاءِ مَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ مِنْ الْعِبَادَاتِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ) جَوَابٌ عَنْ مُسْتَشْهَدِ مُحَمَّدٍ عَلَى أَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ مِنْ الْأَصْلِ يُوجِبُ السُّقُوطَ مِنْ التَّبَعِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ نَظِيرَ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَا يُخَاطَبَانِ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُمَا زِنًا ، وَالتَّمْكِينُ مِنْ غَيْرِ الزِّنَا لَيْسَ بِزِنًا فَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، وَالْحَرْبِيُّ مُخَاطَبٌ فَفِعْلُهُ زِنًا ، وَالتَّمْكِينُ مِنْ الزِّنَا زِنًا يُوجِبُ الْحَدَّ ( وَنَظِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا زَنَى الْمُكْرَهُ بِالْمُطَاوِعَةِ تُحَدُّ الْمُطَاوِعَةُ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تُحَدُّ ) .
قَالَ ( وَإِذَا زَنَى الصَّبِيُّ أَوْ الْمَجْنُونُ بِامْرَأَةٍ طَاوَعَتْهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهَا ) .
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِقَالَ ( وَإِذَا زَنَى الصَّبِيُّ أَوْ الْمَجْنُونُ ) صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ ، وَوَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ قِيَاسُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِالْآخَرِ
( وَإِنْ زَنَى صَحِيحٌ بِمَجْنُونَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ يُجَامَعُ مِثْلُهَا حُدَّ الرَّجُلُ خَاصَّةً ) وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ .
لَهُمَا أَنَّ الْعُذْرَ مِنْ جَانِبِهَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ مِنْ جَانِبِهِ فَكَذَا الْعُذْرُ مِنْ جَانِبِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُؤَاخَذٌ بِفِعْلِهِ .
وَلَنَا أَنَّ فِعْلَ الزِّنَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا هِيَ مَحَلُّ الْفِعْلِ وَلِهَذَا يُسَمَّى هُوَ وَاطِئًا وَزَانِيًا وَالْمَرْأَةُ مَوْطُوءَةً وَمَزْنِيًّا بِهَا ، إلَّا أَنَّهَا سُمِّيَتْ زَانِيَةً مَجَازًا تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ كَالرَّاضِيَةِ فِي مَعْنَى الْمَرْضِيَّةِ ، أَوْ لِكَوْنِهَا مُسَبِّبَةً بِالتَّمْكِينِ فَتَعَلَّقَ الْحَدُّ فِي حَقِّهَا بِالتَّمْكِينِ مِنْ قَبِيحِ الزِّنَا وَهُوَ فِعْلُ مَنْ هُوَ مُخَاطَبٌ بِالْكَفِّ عَنْهُ وَمُؤْتَمٌّ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ ، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يُنَاطُ بِهِ الْحَدُّ .
قَالَا : ( الْعُذْرُ مِنْ جَانِبِهَا ) كَمَا فِي صُورَةِ الْإِجْمَاعِ ( لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ مِنْ جَانِبِهِ فَكَذَا الْعُذْرُ مِنْ جَانِبِهِ ) وَهُوَ فِي الصُّورَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ مِنْ جَانِبِهَا ، وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُؤَاخَذٌ بِفِعْلِهِ ، وَدَلِيلُنَا ظَاهِرٌ مِمَّا ذَكَرْنَا آنِفًا لِمُحَمَّدٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّكْرَارِ .
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّ غَيْرَ الْمُحْصَنِ إذَا زَنَى بِالْمُحْصَنَةِ يَجِبُ الرَّجْمُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَى الرَّجُلِ فَعَدَمُ الرَّجْمِ عَلَى الْأَصْلِ لَا يُوجِبُ عَدَمَهُ عَلَى التَّبَعِ فَلْيَكُنْ نَفْسُ الْحَدِّ كَذَلِكَ .
وَالثَّانِي أَنَّ الصَّبِيَّ أَوْ الْمَجْنُونَ إذَا زَنَى بِالْمُطَاوِعَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْمَهْرُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ الْمُوجِبَيْنِ : إمَّا الْحَدُّ أَوْ الْمَهْرُ .
وَقَدْ أَوْرَدَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ فِيمَا إذَا طَاوَعَتْهُ الْمَرْأَةُ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إحْصَانِ الزَّانِي إحْصَانُ الزَّانِيَةِ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ مَوْقُوفٌ عَلَى شَرَائِطَ أُخَرَ ، وَيَلْزَمُ مِنْ تَحْقِيقِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُ تَحْقِيقُهُ مِنْهَا بِسَبَبِ التَّمْكِينِ لِأَنَّ تَمْكِينَهَا سَبَبٌ لِفِعْلِ الرَّجُلِ فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ فِي حَقِّهَا .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا الْمَهْرَ عَلَى الصَّبِيِّ فِيمَا إذَا طَاوَعَتْهُ لَخَلَا الْإِيجَابُ عَنْ الْفَائِدَةِ ، لِأَنَّ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ الرُّجُوعَ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ بِمِثْلِ ذَلِكَ لِأَنَّهَا لَمَّا طَاوَعَتْهُ صَارَتْ آمِرَةً لِلصَّبِيِّ بِالزِّنَا مَعَهَا وَقَدْ لَحِقَهُ بِذَلِكَ غُرْمٌ ، وَصَحَّ الْأَمْرُ مِنْ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ لَهَا وِلَايَةً عَلَى نَفْسِهَا فَلَا يُفِيدُ الْإِيجَابَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُكْرَهَةً أَوْ صَبِيَّةً فَإِنَّ الْمُكْرَهَةَ لَيْسَتْ بِآمِرَةٍ وَالصَّبِيَّةَ لَا يَصِحُّ أَمْرُهَا لِعَدَمِ وِلَايَتِهَا عَلَى نَفْسِهَا فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمُكْرَهَةِ ، فَإِيجَابُ الْمَهْرِ كَانَ مُفِيدًا
ثَمَّةَ ، إذْ لَيْسَ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ حِينَئِذٍ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ .
قَالَ ( وَمَنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ حَتَّى زَنَى فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ) وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ أَوَّلًا يُحَدُّ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بَعْدَ انْتِشَارِ الْآلَةِ وَذَلِكَ دَلِيلُ الطَّوَاعِيَةِ .
ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فَقَالَ : لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْمُلْجِئَ قَائِمٌ ظَاهِرًا ، وَالِانْتِشَارُ دَلِيلٌ مُتَرَدِّدٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ قَصْدٍ لِأَنَّ الِانْتِشَارَ قَدْ يَكُونُ طَبْعًا لَا طَوْعًا كَمَا فِي النَّائِمِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ حُدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عِنْدَهُمَا قَدْ يَتَحَقَّقُ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ خَوْفُ الْهَلَاكِ وَأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ مِنْ غَيْرِهِ .
وَلَهُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ غَيْرِهِ لَا يَدُومُ إلَّا نَادِرًا لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِعَانَةِ بِالسُّلْطَانِ أَوْ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيُمْكِنُهُ دَفْعُهُ بِنَفْسِهِ بِالسِّلَاحِ ، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ ، بِخِلَافِ السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِعَانَةُ بِغَيْرِهِ وَلَا الْخُرُوجُ بِالسِّلَاحِ عَلَيْهِ فَافْتَرَقَاوَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ إلَخْ ) ظَاهِرٌ .
( وَمَنْ أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَقَالَتْ هِيَ : تَزَوَّجَنِي أَوْ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا وَقَالَ الرَّجُلُ تَزَوَّجْتهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ فِي ذَلِكَ ) لِأَنَّ دَعْوَى النِّكَاحِ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَهُوَ يَقُومُ بِالطَّرَفَيْنِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً ، وَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ تَعْظِيمًا لِخَطَرِ الْبُضْعِوَقَوْلُهُ ( وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ فِي ذَلِكَ ) يَعْنِي فِي كِلْتَا الصُّورَتَيْنِ : دَعْوَى الرَّجُلِ النِّكَاحَ وَدَعْوَاهُ الْمَرْأَةَ .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الْمَهْرُ فِيمَا إذَا أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِالزِّنَا لِأَنَّهَا تَنْفِي وُجُوبَ الْمَهْرِ فَكَيْفَ وَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ وَهِيَ مُنْكِرَةٌ لِلنِّكَاحِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ النِّكَاحَ يَقُومُ بِالطَّرَفَيْنِ وَالزَّوْجُ يَدَّعِي النِّكَاحَ فَبِدَعْوَاهُ النِّكَاحَ انْتَفَى الْحَدُّ عَنْهُ فِي هَذَا الْوَطْءِ لِأَنَّهُ فِي دَعْوَاهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُصَدَّقًا أَوْ مُكَذَّبًا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ أَثْبَتَ النِّكَاحَ حَقِيقَةً ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَاحْتِمَالُ الصِّدْقِ قَائِمٌ لَا مَحَالَةَ ، وَالِاحْتِمَالُ فِي بَابِ الْحُدُودِ مُلْحَقٌ بِالْيَقِينِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ ، وَسُقُوطُهُ يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ الْمَهْرِ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَخْلُو عَنْ غَرَامَةٍ أَوْ عُقُوبَةٍ ، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْمَلْزُومُ بِدُونِ اخْتِيَارِهَا تَحَقَّقَ اللَّازِمُ كَذَلِكَ فَيَثْبُتُ لَهَا الْمَهْرُ وَإِنْ رَدَّتْهُ .
( وَمَنْ زَنَى بِجَارِيَةٍ فَقَتَلَهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ ) مَعْنَاهُ : قَتَلَهَا بِفِعْلِ الزِّنَا لِأَنَّهُ جَنَى جِنَايَتَيْنِ فَيُوَفِّرُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ تَقَرُّرَ ضَمَانِ الْقِيمَةِ سَبَبٌ لَمِلْكِ الْأَمَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَاهَا بَعْدَ مَا زَنَى بِهَا وَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ، وَاعْتِرَاضُ سَبَبِ الْمِلْكِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ يُوجِبُ سُقُوطَهُ ، كَمَا إذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ قَبْلَ الْقَطْعِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ ضَمَانُ قَتْلٍ فَلَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِأَنَّهُ ضَمَانُ دَمٍ ، وَلَوْ كَانَ يُوجِبُهُ فَإِنَّمَا يُوجِبُهُ فِي الْعَيْنِ كَمَا فِي هِبَةِ الْمَسْرُوقِ لَا فِي مَنَافِعِ الْبُضْعِ لِأَنَّهَا اُسْتُوْفِيَتْ وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا فَلَا يَظْهَرُ فِي الْمُسْتَوْفَى لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى بِهَا فَأَذْهَبَ عَيْنَهَا حَيْثُ تَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا ، وَيَسْقُطُ الْحَدُّ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَالِكَ يَثْبُتُ فِي الْجُثَّةِ الْعَمْيَاءِ وَهِيَ عَيْنٌ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً .
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ زَنَى بِجَارِيَةٍ فَقَتَلَهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ ) إنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْجَارِيَةِ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ وَهُوَ وُجُوبُ الْحَدِّ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْجَارِيَةِ ، فَإِنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْحُرَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِمَا أَنَّ شُبْهَةَ عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ إنَّمَا تَرِدُ فِي حَقِّ الْجَارِيَةِ لَا فِي حَقِّ الْحُرَّةِ ، لِأَنَّ الْأَمَةَ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لِلزَّانِي عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ بِشُبْهَةِ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ ، كَمَا إذَا زَنَى بِهَا فَأَذْهَبَ عَيْنَهَا وَهُوَ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ) أَيْ شِرَاءُ الْجَارِيَةِ بَعْدَ الزِّنَا بِهَا قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُحَدُّ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ فَكَانَ رَدُّ الْمُخْتَلَفِ إلَى الْمُخْتَلِفِ ، لَكِنْ الْخِلَافُ فِي الْمُشْتَرَاةِ بَعْدَ الزِّنَا مَذْكُورٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ( وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ ضَمَانُ قَتْلٍ وَضَمَانَ الْقَتْلِ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِأَنَّهُ ضَمَانُ دَمٍ ) وَالدَّمُ بِمَا لَا يَمْلِكُ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَرَّرُ هَكَذَا لِأَنَّهُ ضَمَانُ دَمٍ ، وَضَمَانُ الدَّمِ يَجِبُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَوْتُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْمِلْكِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَ يُوجِبُهُ ) يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ يُوجِبُ الْمِلْكَ لَكِنْ إنَّمَا يُوجِبُهُ فِي الْعَيْنِ كَمَا ذَكَرْتُمْ فِي هَيْئَةِ الْمَسْرُوقِ لَا فِي مَنَافِعِ الْبُضْعِ لِأَنَّهَا اُسْتُوْفِيَتْ وَتَلَاشَتْ فَلَمْ تَكُنْ قَابِلَةً لِلْمِلْكِ حَالَةَ الضَّمَانِ وَلَا مُسْتَنِدَةً لِأَنَّ الْمُسْتَنِدَ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَعْدُومِ وَالْمَنَافِعُ الْمُسْتَوْفَاةُ مَعْدُومَةٌ .
قِيلَ فَلْيَكُنْ الْمِلْكُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ التَّبَيُّنِ لِئَلَّا يُشْتَرَطَ الْوُجُودُ كَمَا فِي الْحَيْضِ دَرْءًا فِي بَابِ الْحُدُودِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّبَيُّنَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حُكْمٍ مُغَيَّا بِغَايَةٍ يُنْتَظَرُ الْوُصُولُ إلَيْهَا ، فَإِنْ وَصَلَ حُكِمَ بِثُبُوتِهِ وَإِلَّا فَلَا كَمَا فِي الْحَيْضِ ، وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى بِهَا ) جَوَابٌ لِصُورَةٍ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَشْهِدَ بِهَا أَبُو يُوسُفَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الزَّانِيَ بِالضَّمَانِ يَمْلِكُ الْجُثَّةَ الْعَمْيَاءَ لِكَوْنِهَا قَابِلَةً لِلْمِلْكِ إذْ هِيَ مَوْجُودَةٌ فَتُورِثُ الشُّبْهَةَ ، وَهَذَا الْجَوَابُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أَصْلِ الْجَوَابِ دُونَ التَّنَزُّلِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْمِلْكُ يَثْبُتُ فِي الْجُثَّةِ الْعَمْيَاءِ مُسْتَنِدًا فَلَا يَظْهَرُ فِي الْمُسْتَوْفِي : أَعْنِي الْمَنَافِعَ لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً ، وَأَمَّا إذَا نَظَرْت إلَى أَصْلِ الْجَوَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ إنَّهُ ضَمَانُ قَتْلٍ فَلَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِأَنَّهُ ضَمَانُ دَمٍ وَهُوَ لَيْسَ بِعَيْنٍ تُمْلَكُ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ .
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِالنَّظَرِ إلَى التَّنَزُّلِ أَيْضًا بِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِيهِ أَيْضًا لَكِنْ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ فَتَكُونُ فِي الْمَنَافِعِ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْجُثَّةِ الْعَمْيَاءِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهَا حَقِيقَةً فَيَكُونُ فِي الْمَنَافِعِ الشُّبْهَةُ وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ ، لَكِنْ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا يُشِيرُ إلَى هَذَا أَصْلًا
قَالَ ( وَكُلُّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْإِمَامُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ إمَامٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ إلَّا الْقِصَاصُ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ وَبِالْأَمْوَالِ ) لِأَنَّ الْحُدُودَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِقَامَتُهَا إلَيْهِ لَا إلَى غَيْرِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ ، بِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِيهِ وَلِيُّ الْحَقِّ إمَّا بِتَمْكِينِهِ أَوْ بِالِاسْتِعَانَةِ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْقِصَاصُ وَالْأَمْوَالُ مِنْهَا .
وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ قَالُوا الْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ الشَّرْعِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .( وَكُلُّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْإِمَامُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ إمَامٌ ) وَفَسَّرَهُ أَبُو اللَّيْثِ بِالْخَلِيفَةِ ( فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ إلَّا الْقِصَاصُ ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ وَبِالْأَمْوَالِ لِأَنَّ الْحُدُودَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِقَامَتُهَا إلَيْهِ لَا إلَى غَيْرِهِ ) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَرْبَعٌ إلَى الْوُلَاةِ } وَعَدَّ مِنْهَا إقَامَةَ الْحُدُودِ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ الشَّرْعِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَوْ كَانَ الْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقَّ الشَّرْعِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُحَدَّ الْمُسْتَأْمَنُ إذَا قَذَفَ كَمَا لَوْ زَنَى ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُحَدُّ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَقَّيْنِ لَا مَحَالَةَ فَيُعْمَلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ ، وَمَا يَلِيقُ بِالْحَرْبِيِّ أَنْ يَكُونَ حَقَّ الْعَبْدِ لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَمَا يَلِيقُ بِالْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَهُ إمَامٌ يَسْتَوْفِيهِ مِنْهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَالرُّجُوعِ عَنْهَا ) : ( وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِحَدٍّ مُتَقَادِمٍ لَمْ يَمْنَعْهُمْ عَنْ إقَامَتِهِ بُعْدُهُمْ عَنْ الْإِمَامِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ إلَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ خَاصَّةً ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : ( وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِسَرِقَةٍ أَوْ بِشُرْبِ خَمْرٍ أَوْ بِزِنًا بَعْدَ حِينٍ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ وَضَمِنَ السَّرِقَةَ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْحُدُودَ الْخَالِصَةَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى تَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، هُوَ يَعْتَبِرُهَا بِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَبِالْإِقْرَارِ الَّذِي هُوَ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ .
وَلَنَا أَنَّ الشَّاهِدَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالسَّتْرِ ، فَالتَّأْخِيرُ إنْ كَانَ لِاخْتِيَارِ السَّتْرِ فَالْإِقْدَامُ عَلَى الْأَدَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ لِضَغِينَةٍ هَيَّجَتْهُ أَوْ لِعَدَاوَةٍ حَرَّكَتْهُ فَيُتَّهَمُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ لَا لِلسَّتْرِ يَصِيرُ فَاسِقًا آثِمًا فَتَيَقَّنَّا بِالْمَانِعِ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَادِي نَفْسَهُ ، فَحَدُّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَصِحَّ الرُّجُوعُ عَنْهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَيَكُونَ التَّقَادُمُ فِيهِ مَانِعًا ، وَحَدُّ الْقَذْفِ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ ، وَالتَّقَادُمُ غَيْرُ مَانِعٍ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَلِأَنَّ الدَّعْوَى فِيهِ شَرْطٌ فَيُحْمَلُ تَأْخِيرُهُمْ عَلَى انْعِدَامِ الدَّعْوَى فَلَا يُوجِبُ تَفْسِيقَهُمْ ، بِخِلَافِ حَدِّ السَّرِقَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْحَدِّ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا مَرَّ ، وَإِنَّمَا شُرِطَتْ لِلْمَالِ ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى كَوْنِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ التُّهْمَةِ فِي كُلِّ فَرْدٍ ، وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ تُقَامُ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ عَلَى غِرَّةٍ مِنْ الْمَالِكِ فَيَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ إعْلَامُهُ فَبِالْكِتْمَانِ يَصِيرُ فَاسِقًا آثِمًا ،
ثُمَّ التَّقَادُمُ كَمَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فِي الِابْتِدَاءِ يَمْنَعُ الْإِقَامَةَ بَعْدَ الْقَضَاءِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ حَتَّى لَوْ هَرَبَ بَعْدَ مَا ضُرِبَ بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ أُخِذَ بَعْدَ مَا تَقَادَمَ الزَّمَانُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي بَابِ الْحُدُودِ .
بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَالرُّجُوعِ عَنْهَا ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ثُبُوتَ الزِّنَا عِنْدَ الْإِمَامِ إنَّمَا يَكُونُ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ لَا غَيْرُ ، وَهُمَا الشَّهَادَةُ وَالْإِقْرَارُ ، وَأَخَّرَ الشَّهَادَةَ هَاهُنَا عَنْ الْإِقْرَارِ لِقِلَّةِ ثُبُوتِ الزِّنَا بِالشَّهَادَةِ وَنُدْرَتِهِ حَتَّى لَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ ثُبُوتُ الزِّنَا عِنْدَ الْإِمَامِ بِالشَّهَادَةِ ، إذْ رُؤْيَةُ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ عُدُولٍ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ كَمَا فِي الْكِلَابِ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ .
قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِحَدٍّ مُتَقَادِمٍ وَلَمْ يَكُونُوا بِعِيدَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ إلَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ خَاصَّةً ) وَأَعَادَ لَفْظَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى زِيَادَةِ إيضَاحٍ وَهِيَ تَعْدِيدُ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ صَرِيحًا مِنْ السَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا ، وَزِيَادَةِ الْحِينِ الَّذِي اسْتَفَادَ مِنْهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ قَدْرَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فِي التَّقَادُمِ ، وَزِيَادَةِ إثْبَاتِ الضَّمَانِ فِي السَّرِقَةِ ؛ ثُمَّ كَمَا لَا يُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ لَا تُحَدُّ الشُّهُودُ أَيْضًا حَدَّ الْقَذْفِ فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا لِأَنَّ عَدَدَهُمْ مُتَكَامِلٌ وَالْأَهْلِيَّةُ لِلشَّهَادَةِ مَوْجُودَةٌ وَذَلِكَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ أَجْرَيْنِ مَطْلُوبَيْنِ لَهُ يُقَالُ احْتَسَبْت بِكَذَا أَجْرًا ، وَالِاسْمُ الْحِسْبَةُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَهِيَ الْأَجْرُ وَالْجَمْعُ الْحِسَبُ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ حَدِّ السَّرِقَةِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الدَّعْوَى شَرْطٌ فِي السَّرِقَةِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ بِسَرِقَةٍ مُتَقَادِمَةٍ لَمْ تُقْبَلْ ، فَعَلِمَ بِهَذَا أَنَّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ بَعْدَ التَّقَادُمِ لَمْ يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ الدَّعْوَى .
وَوَجْهُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّعْوَى شَرْطٌ لِلْحَدِّ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا مَرَّ ، وَالدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ
وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطٌ لِلْمَالِ وَهُوَ حَقُّ الْعَبْدِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ ) جَوَابٌ آخَرُ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُبْطِلَ لِلشَّهَادَةِ فِي التَّقَادُمِ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى هُوَ تُهْمَةُ الضَّغِينَةِ وَالْعَدَاوَةِ ، وَذَلِكَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى كَوْنِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ وُجِدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي كُلِّ فَرْدٍ أَوْ لَا ، كَمَا أُدِيرَ الرُّخْصَةُ عَلَى السَّفَرِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى وُجُودِ الْمَشَقَّةِ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ ) جَوَابٌ آخَرُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ السَّرِقَةَ ( تُقَامُ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ ) لِأَنَّهَا تُوجَدُ فِي ظُلْمِ اللَّيَالِيِ غَالِبًا ( عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ الْمَالِكِ ) فَلَا يَكُونُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ عَارِفًا بِالشَّهَادَةِ حَتَّى يَسْتَشْهِدَ بِالشَّاهِدِ ( فَيَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ إعْلَامُهُ ) فَإِذَا كَتَمَهُ صَارَ آثِمًا .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ التَّقَادُمُ كَمَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْإِمْضَاءَ ) أَيْ الِاسْتِيفَاءَ ( مِنْ الْقَضَاءِ ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ إمَّا إعْلَامُ مَنْ لَهُ الْقَضَاءُ أَوْ التَّمْكِينُ لِمَنْ لَهُ الْقَضَاءُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِالْقَضَاءِ ، وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ يَحْصُلَانِ بِمُجَرَّدِ الْقَضَاءِ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ تَمَامُهُ إلَى الِاسْتِيفَاءِ ، وَأَمَّا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي حُقُوقِهِ فَمُسْتَغْنٍ عَنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا النِّيَابَةَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الِاسْتِيفَاءِ ، فَلِذَلِكَ كَانَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَضَاءِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى
وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ التَّقَادُمِ ، وَأَشَارَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ حِينٍ ، وَهَكَذَا أَشَارَ الطَّحَاوِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يُقَدِّرْ فِي ذَلِكَ وَفَوَّضَهُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي فِي كُلِّ عَصْرٍ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِشَهْرٍ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ عَاجِلٌ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَاضِي وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ شَهْرٍ ، أَمَّا إذَا كَانَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ بُعْدُهُمْ عَنْ الْإِمَامِ فَلَا تَتَحَقَّقُ التُّهْمَةُ .
وَالتَّقَادُمُ فِي حَدِّ الشُّرْبِ كَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَهُمَا يُقَدَّرُ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
( وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ التَّقَادُمِ ، وَأَشَارَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ حِينٍ ) كَمَا ذَكَرْنَا ( وَهَكَذَا أَشَارَ الطَّحَاوِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يُقَدَّرْ فِي ذَلِكَ ) نَقَلَ النَّاطِفِيُّ فِي الْأَجْنَاسِ عَنْ نَوَادِرِ الْمُعَلَّى .
قَالَ أَبُو يُوسُفَ : جَهَدْنَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُوَقِّتَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا فَأَبَى ، وَفَوَّضَهُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي فِي كُلِّ عَصْرٍ ( وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِشَهْرٍ لِأَنَّ مَا دُونَهُ عَاجِلٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ) ذَكَرَ فِي الْمُجَرَّدِ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَوْ سَأَلَ الْقَاضِي مَتَى زَنَى بِهَا فَقَالُوا مُنْذُ أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ أُقِيمَ الْحَدُّ ، وَإِنْ قَالُوا شَهْرٌ أَوْ أَكْثَرُ دُرِئَ الْحَدُّ .
قَالَ النَّاطِفِيُّ : فَقَدْ قَدَّرَهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِشَهْرٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَصْلُهُ مَسْأَلَةُ الْيَمِينِ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَ فُلَانٍ عَاجِلًا فَقَضَاهُ فِيمَا دُونَ الشَّهْرِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ الْأَصَحُّ ) يَعْنِي تَقْدِيرَ التَّقَادُمِ بِشَهْرٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) أَيْ الَّذِي قُلْنَا مِنْ تَقْدِيرِ التَّقَادُمِ بِشَهْرٍ ( إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَاضِي وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ شَهْرٍ ، أَمَّا إذَا كَانَ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْمَانِعَ بَعْدَهُمْ عَنْ الْإِمَامِ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ التُّهْمَةُ )
( وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَفُلَانَةُ غَائِبَةٌ فَإِنَّهُ يُحَدُّ ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يُقْطَعْ ) وَالْفَرْقُ أَنَّ بِالْغَيْبَةِ تَنْعَدِمُ الدَّعْوَى وَهِيَ شَرْطٌ فِي السَّرِقَةِ دُونَ الزِّنَا ، وَبِالْحُضُورِ يُتَوَهَّمُ دَعْوَى الشُّبْهَةِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَوْهُومِقَالَ ( وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَفُلَانَةُ غَائِبَةٌ فَإِنَّهُ يُحَدُّ ) وَكَذَا إذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ ( وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يُقْطَعْ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ بِالْغَيْبَةِ تَنْعَدِمُ الدَّعْوَى ) لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ عَلَى الْغَائِبِ ( وَهِيَ شَرْطٌ فِي السَّرِقَةِ دُونَ الزِّنَا وَبِالْحُضُورِ يُتَوَهَّمُ دَعْوَى الشُّبْهَةِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَوْهُومِ ) لِأَنَّهُ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ ، فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الشُّبْهَةُ دُونَ النَّازِلِ عَنْهَا لِئَلَّا يَنْسَدَّ بَابُ إقَامَةِ الْحُدُودِ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَاضِرَةً وَادَّعَتْ النِّكَاحَ سَقَطَ الْحَدُّ لِمَكَانِ شُبْهَةِ الصِّدْقِ مَعَ احْتِمَالِ الْكَذِبِ ، فَإِذَا كَانَتْ غَائِبَةً كَانَ الثَّابِتُ عِنْدَ غَيْبَتِهَا احْتِمَالَ وُجُودِ الشُّبْهَةِ وَهُوَ الْمَعْنَى بِشُبْهَةِ الشُّبْهَةِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُ أَوْلِيَاءِ الْقِصَاصِ غَائِبًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَحْضُرَ الْغَائِبُ فَيُقِرُّ بِالْعَفْوِ ، لِأَنَّهُ لَوْ حَضَرَ وَأَقَرَّ بِهِ سَقَطَ الْقِصَاصُ بِحَقِيقَةِ الْعَفْوِ لَا بِشُبْهَتِهِ ، فَإِذَا كَانَ غَائِبًا تَثْبُتُ شُبْهَةُ الْعَفْوِ لَا شُبْهَةُ شُبْهَتِهِ
( وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُونَهَا لَمْ يُحَدَّ ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ ( وَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ حُدَّ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمَتُهُ أَوْ امْرَأَتُهُ( وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُونَهَا لَمْ يُحَدَّ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَزْنِيَ ، وَالشُّهُودُ لَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا إلَّا بِالْمَعْرِفَةِ ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفُوهَا لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْحَدِّ بِشَهَادَتِهِمْ ( وَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ ) أَيْ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُهَا ( حُدَّ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ ) .
( وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ فَاسْتَكْرَهَهَا وَآخَرَانِ أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا جَمِيعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ( وَقَالَا : يُحَدُّ الرَّجُلُ خَاصَّةً ) لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْمُوجِبِ وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ جِنَايَةٍ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ ، بِخِلَافِ جَانِبِهَا ؛ لِأَنَّ طَوَاعِيَتَهَا شَرْطُ تَحَقُّقِ الْمُوجِبِ فِي حَقِّهَا وَلَمْ يَثْبُتْ لِاخْتِلَافِهِمَا .
وَلَهُ أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الزِّنَا فِعْلٌ وَاحِدٌ يَقُومُ بِهِمَا ، وَلِأَنَّ شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ صَارَا قَاذِفَيْنِ لَهَا .
وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُمَا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الْإِكْرَاهِ ؛ لِأَنَّ زِنَاهَا مُكْرَهَةً يُسْقِطُ إحْصَانَهَا فَصَارَا خَصْمَيْنِ فِي ذَلِكَ
( وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ فَاسْتَكْرَهَهَا وَآخَرَانِ أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا جَمِيعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، وَقَالَا : يُحَدُّ الرَّجُلُ خَاصَّةً لِاتِّفَاقِهِمَا ) أَيْ لِاتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ ( عَلَى الْمُوجِبِ ) لِلْحَدِّ ( وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ جِنَايَةٍ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ ، بِخِلَافِ جَانِبِهَا ) فَإِنَّ الْمُوجِبَ لَمْ يَتَحَقَّقْ ( لِأَنَّ طَوَاعِيَتَهَا شَرْطُ تَحَقُّقِ الْمُوجِبِ فِي حَقِّهَا فَلَمْ يَثْبُتْ لِاخْتِلَافِهِمَا ) فِيهَا وَعَدَمُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهَا لِمَعْنًى غَيْرِ مُشْتَرَكٍ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُوجِبِ فِي حَقِّهِ كَمَا فِي وَطْءِ الصَّغِيرَةِ الْمُشْتَهَاةِ أَوْ الْمَجْنُونَةِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ قَدْ اخْتَلَفَ لِأَنَّ الزِّنَا فِعْلٌ وَاحِدٌ يَقُومُ بِهِمَا ) وَكُلُّ مَا هُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ يَقُومُ بِهِمَا لَا يَتَّصِفُ بِوَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ ، وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا لَهُ وَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ ، لِأَنَّ الطَّوْعَ يُوجِبُ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الزِّنَا وَالْكُرْهَ يُوجِبُ انْفِرَادَ الرَّجُلِ بِهِ وَاجْتِمَاعُهُمَا مُتَعَذَّرٌ ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِعْلًا خِلَافَ الْآخَرِ فَاخْتَلَفَ الْمَشْهُودُ بِهِ وَلَمْ يَتِمَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابُ الشَّهَادَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ ) دَلِيلٌ آخَرُ .
وَتَقْرِيرُهُ لِأَنَّ شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ ( صَارَا قَاذِفَيْنِ ) لِعَدَمِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ وَالْقَاذِفُ خَصْمٌ وَلَا شَهَادَةَ لِلْخَصْمِ وَإِذَا انْتَفَتْ شَهَادَتُهُمَا نَقَصَ نِصَابُ الشَّهَادَةِ فَلَا يُقَامُ بِهَا الْحَدُّ وَكَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي إقَامَةَ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَى شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ ( وَلَكِنْ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُمَا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّ زِنَاهَا مُكْرَهَةً يَسْقُطُ إحْصَانُهَا ) لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الزِّنَا مِنْهَا لَكِنْ لَا تَأْثَمُ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ .
( وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بِالْكُوفَةِ وَآخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا بِالْبَصْرَةِ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا جَمِيعًا ) ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ فِعْلُ الزِّنَا وَقَدْ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَلَمْ يَتِمَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابُ الشَّهَادَةِ وَلَا يُحَدُّ الشُّهُودُ خِلَافًا لِزُفَرَ لِشُبْهَةِ الِاتِّحَادِ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الصُّورَةِ وَالْمَرْأَةِوَقَوْلُهُ ( وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بِالْكُوفَةِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( خِلَافًا لِزُفَرَ ) يَعْنِي أَنَّهُ يَقُولُ يُحَدُّونَ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَمْ تُقْبَلْ لِنُقْصَانِ الْعَدَدِ فَصَارَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا ، كَثَلَاثَةٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ .
وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( لِشُبْهَةِ الِاتِّحَادِ ) يُرِيدُ شُبْهَةَ اتِّحَادِ الْمَشْهُودِ بِهِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشُّبْهَةَ دَارِئَةٌ فِي الْحُدُودِ بِالْحَدِيثِ وَقَدْ وُجِدَتْ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا وَلَهُمْ أَهْلِيَّةٌ كَامِلَةٌ وَعَدَدٌ كَامِلٌ عَلَى زِنَا وَاحِدٍ صُورَةً فِي زَعْمِهِمْ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ صُورَةِ النِّسْبَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْهُمْ وَاتِّحَادِ الْمَرْأَةِ ، وَإِنَّمَا جَاءَ الِاخْتِلَافُ بِذِكْرِ الْمَكَانِ فَيَثْبُتُ شُبْهَةُ الِاتِّحَادِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَيَدْرَأُ الْحَدَّ .
قِيلَ وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا شَهَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ؛ فَبِالنَّظَرِ إلَى الْأَوَّلِ لَمْ تُحَدَّ الشُّهُودُ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الثَّانِي لَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ
( وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ حُدَّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ ) مَعْنَاهُ : أَنْ يَشْهَدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَى الزِّنَى فِي زَاوِيَةٍ ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ لِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ فِي زَاوِيَةٍ وَالِانْتِهَاءُ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى بِالِاضْطِرَابِ ، أَوْ لِأَنَّ الْوَاقِعَ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ فَيَحْسِبُهُ مَنْ فِي الْمُقَدَّمِ فِي الْمُقَدَّمِ وَمَنْ فِي الْمُؤَخَّرِ فِي الْمُؤَخَّرِ فَيَشْهَدُ بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُوَقَوْلُهُ ( وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ حُدَّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ ) ظَاهِرٌ .
وَلَا يُقَالُ : إنَّ ذَلِكَ احْتِيَالٌ لِوُجُوبِ الْحَدِّ وَالْحُدُودُ يُحْتَالُ لِدَرْئِهَا لَا لِإِثْبَاتِهَا ، لِأَنَّ هَذَا احْتِيَالٌ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالشَّهَادَةُ حُجَّةٌ يَجِبُ تَصْحِيحُهَا مَا أَمْكَنَ ، ثُمَّ إذَا قُبِلَتْ كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ قَبُولِهَا وُجُوبُ الْحَدِّ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَمَا بَالُكُمْ لَمْ تُصَحِّحُوا الشَّهَادَةَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ وَالطَّوَاعِيَةُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ عَنْ إكْرَاهٍ وَانْتِهَاؤُهُ عَنْ طَوْعٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ وَالطَّوَاعِيَةِ لَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ إكْرَاهًا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُهُ إكْرَاهًا وَآخِرُهُ طَوْعًا لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مُسْقِطٌ لِلْحَدِّ عَنْ الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ كَانَ فِعْلُ الزِّنَا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ إكْرَاهًا أَوْ أَوَّلُهُ إكْرَاهًا وَآخِرُهُ طَوْعًا ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فِي شَهَادَتِهِمْ اخْتِلَافُ الْمَشْهُودِ بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا .
( وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بِالنُّخَيْلَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَأَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِهَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِدَيْرِ هِنْدٍ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمْ جَمِيعًا ) أَمَّا عَنْهُمَا فَلِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ غَيْرِ عَيْنٍ ، وَأَمَّا عَنْ الشُّهُودِ فَلِاحْتِمَالِ صِدْقِ كُلِّ فَرِيقٍقَالَ ( وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بِالنُّخَيْلَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَأَرْبَعَةٌ زَنَى بِهَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِدَيْرِ هِنْدٍ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمْ جَمِيعًا ) النُّخَيْلَةُ تَصْغِيرُ نَخْلَةٍ الَّتِي هِيَ وَاحِدَةُ النَّخْلِ : مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ الْكُوفَةِ ، وَالْبَاءُ الْمُوَحَّدَةُ الْمَفْتُوحَةُ وَالْجِيمُ تَصْحِيفٌ لِأَنَّهُ اسْمُ حَيٍّ مِنْ الْيَمَنِ ، وَدَيْرُ هِنْدٍ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَيْضًا مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ الْكُوفَةِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَلِاحْتِمَالِ صِدْقِ كُلِّ فَرِيقٍ ) يَعْنِي أَنَّ احْتِمَالَ الصِّدْقِ فِي كَلَامِ كُلٍّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ قَائِمٌ ، وَشُبْهَةُ الزِّنَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ .
( وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا وَهِيَ بِكْرٌ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا وَعَنْهُمْ ) ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ بَقَاءِ الْبَكَارَةِ ، وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النِّسَاءَ نَظَرْنَ إلَيْهَا فَقُلْنَا إنَّهَا بِكْرٌ ، وَشَهَادَتُهُنَّ حُجَّةٌ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ وَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي إيجَابِهِ فَلِهَذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُمَا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْوَقَوْلُهُ ( دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا وَعَنْهُمْ ) تَوْضِيحُهُ أَنَّ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الْبَكَارَةِ ، وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ حُجَّةٌ فِيمَا لَا اطِّلَاعَ لِلرِّجَالِ عَلَيْهِ خُصُوصًا فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ فَيَسْقُطُ عَنْهُمَا ، وَأَمَّا عَنْهُمْ فَلِأَنَّهُ تَكَامَلَ نِصَابُ الشَّهَادَةِ ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ حُكْمُهَا بِقَوْلِ النِّسَاءِ وَلَا مَدْخَلَ لِقَوْلِهِنَّ فِي إثْبَاتِ الْحُدُودِ .
( وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَهُمْ عُمْيَانٌ أَوْ مَحْدُودُونَ فِي قَذْفٍ أَوْ أَحَدُهُمْ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ ) وَلَا يُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمْ الْمَالُ فَكَيْفَ يَثْبُتُ الْحَدُّ وَهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ فَلَمْ تَثْبُتْ شُبْهَةُ الزِّنَا ؛ لِأَنَّ الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْأَدَاءِ ( وَإِنْ شَهِدُوا بِذَلِكَ وَهُمْ فُسَّاقٌ أَوْ ظَهَرَ أَنَّهُمْ فُسَّاقٌ لَمْ يُحَدُّوا ) ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ وَالتَّحَمُّلِ وَإِنْ كَانَ فِي أَدَائِهِ نَوْعُ قُصُورٍ لِتُهْمَةِ الْفِسْقِ .
وَلِهَذَا لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَةِ فَاسِقٍ يَنْفُذُ عِنْدَنَا ، وَيَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمْ شُبْهَةُ الزِّنَا ، وَبِاعْتِبَارِ قُصُورٍ فِي الْأَدَاءِ لِتُهْمَةِ الْفِسْقِ يَثْبُتُ شُبْهَةُ عَدَمِ الزِّنَا فَلِهَذَا امْتَنَعَ الْحَدَّانِ ، وَسَيَأْتِي فِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَهُوَ كَالْعَبْدِ عِنْدَهُ
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَهُمْ عُمْيَانٌ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْأَدَاءِ ) أَيْ يَظْهَرُ عِنْدَ الْإِمَامِ بِأَدَاءِ الشُّهُودِ الشَّهَادَةَ ، وَلَا أَدَاءَ لِلْعُمْيَانِ وَالْعَبِيدِ وَالْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ لَا كَامِلًا وَلَا نَاقِصًا ، فَانْقَلَبَتْ شَهَادَتُهُمْ قَذْفًا لِأَنَّهُمْ نَسَبُوهُمَا إلَى الزِّنَا وَلَمْ تَكُنْ نِسْبَتُهُمَا إلَى الزِّنَا شَهَادَةً فَكَانَتْ قَذْفًا ضَرُورَةً .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ وَالتَّحَمُّلِ ) يَعْنِي بِالنَّصِّ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَثَبَّتُوا فَالْأَمْرُ بِالتَّثَبُّتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَمَا أُمِرَ بِالتَّثَبُّتِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا شَهِدَ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ لَا بِالتَّثَبُّتِ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ أَنَّ الشُّهُودَ ثَلَاثَةٌ : شَاهِدٌ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ وَهُوَ الْعَدْلُ ، وَشَاهِدٌ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ لَكِنْ بِصِفَةِ النُّقْصَانِ وَالْقُصُورِ وَهُوَ الْفَاسِقُ ، وَشَاهِدٌ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّحَمُّلِ وَلَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ كَالْأَعْمَى وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِهِمَا
( وَإِنْ نَقَصَ عَدَدُ الشُّهُودِ عَنْ أَرْبَعَةٍ حُدُّوا ) ؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ إذْ لَا حِسْبَةَ عِنْدَ نُقْصَانِ الْعَدَدِ وَخُرُوجِ الشَّهَادَةِ عَنْ الْقَذْفِ بِاعْتِبَارِهَا( وَإِنْ نَقَصَ عَدَدُ الشُّهُودِ عَنْ أَرْبَعَةٍ حُدُّوا لِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ ، إذْ لَا حِسْبَةَ عِنْدَ نُقْصَانِ الْعَدَدِ ) فَإِنَّ الشَّاهِدَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ وَهَاهُنَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ حِسْبَةُ السَّتْرِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَلَا حِسْبَةَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ أَيْضًا لِنُقْصَانِ عَدَدِهِمْ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ الْحِسْبَةُ ثَبَتَ الْقَذْفُ لِأَنَّ خُرُوجَ الشَّهَادَةِ عَنْ الْقَذْفِ إنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ الْحِسْبَةِ .
( وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَضُرِبَ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ وُجِدَ أَحَدُهُمْ عَبْدًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ ) ؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ إذْ الشُّهُودُ ثَلَاثَةٌ ( وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ أَرْشُ الضَّرْبِ ، وَإِنْ رُجِمَ فَدِيَتُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : أَرْشُ الضَّرْبِ أَيْضًا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ : مَعْنَاهُ إذَا كَانَ جَرَحَهُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا مَاتَ مِنْ الضَّرْبِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ لَا يَضْمَنُونَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُونَ .
لَهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِشَهَادَتِهِمْ مُطْلَقُ الضَّرْبِ ، إذْ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْجَرْحِ خَارِجٌ عَنْ الْوُسْعِ فَيَنْتَظِمُ الْجَارِحُ وَغَيْرُهُ فَيُضَافُ إلَى شَهَادَتِهِمْ فَيَضْمَنُونَ بِالرُّجُوعِ ، وَعِنْدَ عَدَمِ الرُّجُوعِ تَجِبُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ فِعْلُ الْجَلَّادِ إلَى الْقَاضِي وَهُوَ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَتَجِبُ الْغَرَامَةُ فِي مَالِهِمْ فَصَارَ كَالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْجَلْدُ وَهُوَ ضَرْبٌ مُؤْلِمٌ غَيْرُ جَارِحٍ وَلَا مُهْلِكٍ ، فَلَا يَقَعُ جَارِحًا ظَاهِرًا إلَّا لِمَعْنًى فِي الضَّارِبِ وَهُوَ قِلَّةُ هِدَايَتِهِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِي الصَّحِيحِ كَيْ لَا يَمْتَنِعَ النَّاسُ عَنْ الْإِقَامَةِ مَخَافَةَ الْغَرَامَةِ
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُونَ ) أَيْ أَرْشَ الْجِرَاحَةِ إذَا لَمْ يَمُتْ وَالدِّيَةُ إنْ مَاتَ .
( قَوْلُهُ فَصَارَ كَالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ ) يَعْنِي إذَا شَهِدُوا الشُّهُودُ فَرُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَوْ قُتِلَ ثُمَّ رَجَعُوا يَضْمَنُونَ الدِّيَةَ .
وَوَجْهُ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( فِي الصَّحِيحِ ) يَعْنِي فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ ، ذَكَرَ فِي مَبْسُوطِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ : وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْجَلَّادِ فَلَهُ وَجْهٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَأْمُورٍ بِهَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِضَرْبٍ مُؤْلِمٍ لَا جَارِحٍ وَلَا كَاسِرٍ وَلَا قَاتِلٍ ، فَإِذَا وُجِدَ مِنْهُ الضَّرْبُ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ يَقَعُ فِعْلُهُ تَعَدِّيًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ .
وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِيضَاحِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَجْهًا حَسَنًا ، وَهُوَ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الشُّهُودِ مِنْ حَيْثُ الْإِيجَابُ دُونَ الْإِيجَادِ ، وَالْأَثَرُ الْحَاصِلُ مُوجِبٌ وُجُودَ الضَّرْبِ لَا مُوجِبٌ وُجُوبَهُ فَلَمْ يَكُنْ مُضَافًا إلَى الشَّهَادَةِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الضَّمَانُ .
( وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا لَمْ يُحَدَّ ) لَمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الشُّبْهَةِ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى تَحَمُّلِهَا ( فَإِنْ جَاءَ الْأَوَّلُونَ فَشَهِدُوا عَلَى الْمُعَايَنَةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لَمْ يُحَدَّ أَيْضًا ) مَعْنَاهُ شَهِدُوا عَلَى ذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ قَدْ رُدَّتْ مِنْ وَجْهٍ بِرَدِّ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ فِي عَيْنِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ إذْ هُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُمْ بِالْأَمْرِ وَالتَّحْمِيلِ ، وَلَا يُحَدُّ الشُّهُودُ ؛ لِأَنَّ عَدَدَهُمْ مُتَكَامِلٌ وَامْتِنَاعُ الْحَدِّ عَلَى الشُّهُودِ عَلَيْهِ لِنَوْعِ شُبْهَةٍ .
وَهِيَ كَافِيَةٌ لِدَرْءِ الْحَدِّ لَا لِإِيجَابِهِوَقَوْلُهُ ( لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الشُّبْهَةِ ) مَعْنَاهُ لِمَا فِيهَا مِنْ شُبْهَةٍ زَادَتْ عَلَى الْأَصْلِ لَمْ تَكُنْ فِيهِ ، فَإِنَّ الْكَلَامَ إذَا تَدَاوَلَتْهُ الْأَلْسِنَةُ يُمْكِنُ فِيهِ زِيَادَةٌ وَنُقْصَانٌ .
قَوْلُهُ ( إذْ هُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُمْ ) أَيْ الْفُرُوعُ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْأَصْلِ ، فَكَانَ الرَّدُّ لِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ رَدًّا لِشَهَادَةِ الْأُصُولِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْأُصُولِ ، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَرِدُ يَتَعَدَّى رَدُّهَا إلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ مِنْ وَجْهٍ وَذَلِكَ شُبْهَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا تُحَدُّ الشُّهُودُ ) يَعْنِي الْأُصُولَ وَالْفُرُوعَ ( لِأَنَّ عَدَدَهُمْ مُتَكَامِلٌ ) وَالْأَهْلِيَّةُ مَوْجُودَةٌ ( وَامْتِنَاعُ الْحَدِّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِنَوْعِ شُبْهَةٍ ) وَهُوَ شُبْهَةُ عَدَمِ التَّحْمِيلِ فِي الْفُرُوعِ ، وَشُبْهَةُ الرَّدِّ فِي الْأُصُولِ ( وَهِيَ كَافِيَةٌ لِلدَّرْءِ لَا لِإِيجَابِهِ ) لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مُسْقِطَةٌ لِلْحَدِّ لَا مُوجِبَةٌ لَهُ .
( وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَرُجِمَ فَكُلَّمَا رَجَعَ وَاحِدٌ حُدَّ الرَّاجِعُ وَحْدَهُ وَغَرِمَ رُبْعَ الدِّيَةِ ) أَمَّا الْغَرَامَةُ فَلِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ فَيَكُونُ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ الرَّاجِعِ رُبْعَ الْحَقِّ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجِبُ الْقَتْلُ دُونَ الْمَالِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ ، وَسَنُبَيِّنُهُ فِي الدِّيَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَأَمَّا الْحَدُّ فَمَذْهَبُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ لَا يُحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الرَّاجِعُ قَاذِفَ حَيٍّ فَقَدْ بَطَلَ بِالْمَوْتِ ، وَإِنْ كَانَ قَاذِفَ مَيِّتٍ فَهُوَ مَرْجُومٌ بِحُكْمِ الْقَاضِي فَيُورِثُ ذَلِكَ شُبْهَةً .
وَلَنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تَنْقَلِبُ قَذْفًا بِالرُّجُوعِ ؛ لِأَنَّ بِهِ تُفْسَخُ شَهَادَتُهُ فَجُعِلَ لِلْحَالِ قَذْفًا لِلْمَيِّتِ وَقَدْ انْفَسَخَتْ الْحُجَّةُ فَيَنْفَسِخُ مَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ فِي حَقِّهِ فَلَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَذَفَهُ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِقِيَامِ الْقَضَاءِ فِي حَقِّهِ ( فَإِنْ لَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ حَتَّى رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ حُدُّوا جَمِيعًا وَسَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ : حُدَّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَأَكَّدَتْ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا فِي حَقِّ الرَّاجِعِ ، كَمَا إذَا رَجَعَ بَعْدَ الْإِمْضَاءِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فَصَارَ كَمَا إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَلِهَذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ .
وَلَوْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ حُدُّوا جَمِيعًا .
وَقَالَ زُفَرُ : يُحَدُّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى غَيْرِهِ .
وَلَنَا أَنَّ كَلَامَهُمْ قَذْفٌ فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ بَقِيَ قَذْفًا فَيُحَدُّونَ ( فَإِنْ كَانُوا خَمْسَةً فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ
يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ وَهُوَ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ ( فَإِنْ رَجَعَ آخَرُ حُدَّا وَغَرِمَا رُبْعَ الدِّيَةِ ) أَمَّا الْحَدُّ فَلِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا الْغَرَامَةُ فَلِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ ، وَالْمُعْتَبَرُ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ عَلَى مَا عُرِفَ
قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا ) هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَا وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ قَاذِفٌ حَيٌّ فَقَدْ بَطَلَ بِالْمَوْتِ ) يَعْنِي لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُورَثُ ( وَإِنْ كَانَ قَاذِفٌ مَيِّتٌ فَهُوَ مَرْجُومٌ بِحُكْمِ الْقَاضِي ) وَذَلِكَ إنْ لَمْ يُسْقِطْ الْإِحْصَانَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ إيرَاثِ الشُّبْهَةِ وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِهَا ( وَلَنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ تَنْقَلِبُ قَذْفًا بِالرُّجُوعِ ) عَنْهَا لِأَنَّهَا تَنْفَسِخُ بِهِ ، وَإِذَا انْفَسَخَتْ كَانَتْ قَذْفًا لِانْتِفَاءِ الْحِسْبَتَيْنِ جَمِيعًا ( فَجُعِلَ لِلْحَالِ قَذْفًا لِلْمَيِّتِ ) وَإِذَا انْقَلَبَتْ قَذْفًا فَقَدْ انْفَسَخَتْ حُجِّيَّتُهَا ، وَإِذَا انْفَسَخَتْ حُجِّيَّتُهَا انْفَسَخَ مَا يُبْنَى عَلَيْهَا وَهُوَ الْقَضَاءُ ، وَإِذَا انْفَسَخَ الْقَضَاءُ انْدَفَعَ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ مَرْجُومًا بِحُكْمِ الْقَاضِي فَلَا يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ وَلَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ فَيَجِبُ حَدُّ قَاذِفِهِ ، لَكِنْ قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ شَهَادَتَهُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ وَزَعْمُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَذَفَ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِقِيَامِ الْقَضَاءِ فِي حَقِّهِ ، لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي زَعْمِهِ صَحِيحٌ مُتَقَرَّرٌ ، فَكَانَ قَذْفُهُ وَاقِعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُحْصَنِ فَلَا يَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْقَضَاءُ لَوْ كَانَ قَائِمًا فِي زَعْمِهِمْ وَجَبَ الْحَدُّ لَا مَحَالَةَ ، فَإِذَا كَانَ قَائِمًا فِي زَعْمٍ دُونَ زَعْمٍ كَانَ قَائِمًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، وَمِثْلُهُ يُورِثُ الشُّبْهَةَ الدَّارِئَةَ لِلْحَدِّ .
وَاعْتُرِضَ أَيْضًا بِأَنَّ أَحَدَ الشُّهُودِ لَوْ ظَهَرَ عَبْدًا بَعْدَ الرَّجْمِ لَمْ يُحَدَّ الشُّهُودُ حَدَّ الْقَذْفِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ ظَهَرَ أَحَدُهُمْ عَبْدًا بَعْدَ الْجَلْدِ حُدَّ وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّ الْقَذْفَ إنْ ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ ثَبَتَ مِنْ وَقْتِ الشَّهَادَةِ كَمَا قَالَ زُفَرُ .
وَمَنْ قَذَفَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ الْمَقْذُوفُ لَا يُحَدُّ
الْقَاذِفُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا ظَهَرَ عَبْدًا عُلِمَ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَمْ تَكُنْ شَهَادَةً بَلْ كَانَتْ قَذْفًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ ، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا فَقَدْ قَذَفَ حَيًّا فَيُحَدُّ ، وَإِنْ كَانَ رَجْمًا قَذَفَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَلَا يُحَدُّ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهَا كَانَتْ شَهَادَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَبِالرُّجُوعِ انْقَلَبَتْ قَذْفًا بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ قَاذِفًا لِلْمَيِّتِ فَيُحَدُّ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ لَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَنَا أَنَّ كَلَامَهُمْ قَذْفٌ فِي الْأَصْلِ ) يَعْنِي لِكَوْنِهِ صَرِيحًا فِيهِ لَكِنْ سُلِبَ عَنْهُ ذَلِكَ إذَا صَارَ شَهَادَةً ( وَإِنَّمَا يَصِيرُ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ بَقِيَ قَذْفًا ) وَهَذَا يُنَاقِضُ مَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ : إنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تَنْقَلِبُ قَذْفًا بِالرُّجُوعِ وَهَاهُنَا قَالَ : إنَّهَا قَذْفٌ ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ قَذْفٌ فِي الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ ثُمَّ يَعُودُ إلَى مَا كَانَ بِالرُّجُوعِ ، وَعَلَى هَذَا لَا يَرِدُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ فِيمَا قَالَ أَصْحَابُنَا مُؤَاخَذَةَ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ بِذَنْبِ مَنْ رَجَعَ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } لِأَنَّ الْكُلَّ قَذَفَةٌ عِنْدَ عَدَمِ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ مُؤَاخَذٌ بِذَنْبِهِ لَا بِذَنْبِ غَيْرِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانُوا خَمْسَةً فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ ) يَعْنِي بَعْدَ الرَّجْمِ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( فَلِمَا ذَكَرْنَا ) إشَارَةٌ إلَى مَا قَالَ مِنْ قَبْلُ .
وَلَنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تَنْقَلِبُ قَذْفًا إلَخْ ، وَمَعْنَاهُ يُحَدَّانِ جَمِيعًا ، لِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ الثَّانِي لَمْ يَبْقَ مِنْ الشُّهُودِ مَنْ تَتِمُّ بِهِ الْحُجَّةُ ، وَقَدْ انْفَسَخَتْ
الشَّهَادَةُ فِي حَقِّهِمَا بِالرُّجُوعِ فَيُحَدَّانِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْأَوَّلُ مِنْهُمَا حِينَ رَجَعَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدٌّ وَلَا ضَمَانٌ ، فَلَوْ لَزِمَهُ ذَلِكَ لَكَانَ لُزُومُهُ بِرُجُوعِ الثَّانِي وَرُجُوعُ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا إيَّاهُ بِالْحَدِّ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَدَّ لَمْ يَجِبْ لَا لِانْعِدَامِ السَّبَبِ بَلْ لِوُجُودِ الْمَانِعِ وَهُوَ بَقَاءُ الْحُجَّةِ التَّامَّةِ ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ بِرُجُوعِ الثَّانِي وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْأَوَّلِ بِالسَّبَبِ الْمُتَقَرَّرِ لَا بِزَوَالِ الْمَانِعِ ، وَلَوْ اعْتَبَرْنَا هَذَا الْمَعْنَى لَوَجَبَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُمْ لَوْ رَجَعُوا مَعًا لَمْ يُحَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِرُجُوعِهِ وَحْدَهُ لَوْ ثَبَتَ أَصْحَابُهُ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَهَذَا بَعِيدٌ .
( وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَزُكُّوا فَرُجِمَ فَإِذَا الشُّهُودُ مَجُوسٌ أَوْ عَبِيدٌ فَالدِّيَةُ عَلَى الْمُزَكِّينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) مَعْنَاهُ إذَا رَجَعُوا عَنْ التَّزْكِيَةِ ( وَقَالَا هُوَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ) وَقِيلَ هَذَا إذَا قَالُوا تَعَمَّدْنَا التَّزْكِيَةَ مَعَ عِلْمِنَا بِحَالِهِمْ ، لَهُمَا أَنَّهُمْ أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا فَصَارَ كَمَا إذَا أَثْنَوْا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ خَيْرًا بِأَنْ شَهِدُوا بِإِحْصَانِهِ .
وَلَهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تَصِيرُ حُجَّةً عَامِلَةً بِالتَّزْكِيَةِ ، فَكَانَتْ التَّزْكِيَةُ فِي مَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهَا بِخِلَافِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ الشَّرْطِ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا شَهِدُوا بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ أَوْ أَخْبَرُوا ، وَهَذَا إذَا أَخْبَرُوا بِالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ ، أَمَّا إذَا قَالُوا هُمْ عُدُولٌ وَظَهَرُوا عَبِيدًا لَا يَضْمَنُونَ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ كَلَامُهُمْ شَهَادَةً ، وَلَا يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفُوا حَيًّا وَقَدْ مَاتَ فَلَا يُورَثُ عَنْهُ
قَالَ ( وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَزُكُّوا ) التَّزْكِيَةُ مِنْ زَكَّى نَفْسَهُ إذَا مَدَحَهَا ، وَتَزْكِيَةُ الشُّهُودِ الْوَصْفُ بِكَوْنِهِمْ أَزْكِيَاءَ ، وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَزُكُّوا ( فَرُجِمَ فَظَهَرَ الشُّهُودُ مَجُوسًا أَوْ عَبِيدًا فَالدِّيَةُ عَلَى الْمُزَكِّينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، مَعْنَاهُ إذَا رَجَعُوا عَنْ التَّزْكِيَةِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : هُوَ ) أَيْ الضَّمَانُ ( عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ) وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ رَجَعُوا عَنْ التَّزْكِيَةِ مُحْتَمِلًا أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ بِأَنْ يَقُولُوا أَخْطَأْنَا وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ بِالِاتِّفَاقِ وَأَنْ يَكُونَ بِأَنْ يَقُولُوا تَعَمَّدْنَا التَّزْكِيَةَ مَعَ عِلْمِنَا بِحَالِهِمْ وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ .
قَالَ ( وَقِيلَ هَذَا إذَا قَالُوا ) يَعْنِي لَوْ قَالُوا أَخْطَأْنَا لَمَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِالِاتِّفَاقِ ، قَالَا : الْمُزَكُّونَ مَا أَثْبَتُوا سَبَبَ الْإِتْلَافِ لِأَنَّهُ هُوَ الزِّنَا وَمَا تَعَرَّضُوا لَهُ ، وَإِنَّمَا أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا فَكَانَ كَمَا إذَا أَثْنَوْا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ خَيْرًا فَكَانُوا فِي الْمَعْنَى كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ ، إذْ إنَّ أُولَئِكَ أَثْبَتُوا خِصَالًا حَمِيدَةً فِي الزَّانِي وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا خِصَالًا حَمِيدَةً فِي الشَّاهِدِ ، فَكَمَا لَا ضَمَانَ عَلَى أُولَئِكَ كَذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَى هَؤُلَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) يَعْنِي وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ كَلَامُهُمْ شَهَادَةً ) فِيهِ نَظَرٌ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ كَلَامَ كُلٍّ مِنْهُمْ يَصِيرُ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ وَقَدْ اتَّصَلَ بِهِ الْقَضَاءُ ، فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ كَلَامُهُمْ شَهَادَةً ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَضَاءَ لَمَّا ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَلَمْ يَتَّصِلْ الْقَضَاءُ بِكَلَامِهِمْ فَلَمْ يَصِرْ شَهَادَةً .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَا تَحُدُّ الشُّهُودَ ؟ قُلْت : لِأَنَّهُمْ قَذَفُوا حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَلَا
يُورَثُ عَنْهُ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي الْكِتَابِ .
لَا يُقَالُ : لِمَ لَمْ يُجْعَلْ قَذْفًا لِلْمَيِّتِ لِلْحَالِ بِطَرِيقِ الِانْقِلَابِ كَمَا فِي صُورَةِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : عِلَّةُ الِانْقِلَابِ الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يُوجَدْ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَا يَكُونُ ظُهُورُهُمْ عَبِيدًا أَوْ مَجُوسًا عِلَّةً لِلِانْقِلَابِ كَالرُّجُوعِ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الِانْقِلَابَ صَيْرُورَةُ الشَّهَادَةِ قَذْفًا ، وَكَلَامُهُمْ لَمْ يَقَعْ شَهَادَةً .
( وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَمَرَ الْقَاضِي بِرَجْمِهِ فَضَرَبَ رَجُلٌ عُنُقَهُ ثُمَّ وَجَدَ الشُّهُودَ عَبِيدًا فَعَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ ) وَفِي الْقِيَاسِ يَجِبُ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً بِغَيْرِ حَقٍّ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَضَاءَ صَحِيحٌ ظَاهِرًا وَقْتَ الْقَتْلِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَهُ قَبْلَ الْقَضَاء ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تَصِرْ حُجَّةً بَعْدُ ، وَلِأَنَّهُ ظَنَّهُ مُبَاحَ الدَّمِ مُعْتَمِدًا عَلَى دَلِيلٍ مُبِيحٍ فَصَارَ كَمَا إذَا ظَنَّهُ حَرْبِيًّا وَعَلَيْهِ عَلَامَتُهُمْ ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَمْدٌ ، وَالْعَوَاقِلُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ ، وَيَجِبُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ ( وَإِنْ رُجِمَ ثُمَّ وُجِدُوا عَبِيدًا فَالدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ) ؛ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ الْإِمَامِ فَنَقَلَ فِعْلَهُ إلَيْهِ ، وَلَوْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا ضَرَبَ عُنُقَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِرْ أَمْرَهُ
وَقَوْلُهُ ( وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَضَاءَ صَحِيحٌ ظَاهِرًا وَقْتَ الْقَتْلِ ) يَعْنِي أَنَّ الْقَضَاءَ وُجِدَ صُورَةً وَصُورَةُ قَضَاءِ الْقَاضِي تَكْفِي لِإِيرَاثِ الشُّبْهَةِ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً كَانَ مُبِيحًا لِلدَّمِ ، فَصُورَتُهُ تَكُونُ شُبْهَةً كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ يُجْعَلُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْوَلِيِّ إذَا جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ رَجَمَ ) عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ : أَيْ الرَّجُلُ الَّذِي ضَرَبَ عُنُقَهُ لَمْ يَضْرِبْهُ وَإِنَّمَا رَجَمَهُ ( ثُمَّ وُجِدُوا ) أَيْ الشُّهُودُ ( عَبِيدًا فَالدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ الْإِمَامِ فَنَقَلَ فِعْلَهُ ) أَيْ فِعْلَ الرَّاجِمِ ( إلَى الْإِمَامِ ، وَلَوْ بَاشَرَهُ ) الْإِمَامُ ( بِنَفْسِهِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا ) أَنَّ فِعْلَ الْجَلَّادِ يَنْتَقِلُ إلَى الْقَاضِي وَهُوَ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَتَجِبُ الْغَرَامَةُ فِي مَالِهِمْ ( كَذَا هَذَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا ضَرَبَ عُنُقَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِرْ أَمْرَهُ ) لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالرَّجْمِ دُونَ حَزِّ الرَّقَبَةِ فَلَمْ يَنْتَقِلْ فِعْلُهُ إلَيْهِ .
( وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ ) ؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ لَهُمْ ضَرُورَةَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ فَأَشْبَهَ الطَّبِيبَ وَالْقَابِلَةَقَوْلُهُ ( وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ ) إلَى مَوْضِعِ الزِّنَا مِنْ الزَّانِيَيْنِ ( قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ ) لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ : قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لِإِقْرَارِهِمْ بِالْفِسْقِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، فَإِنَّ النَّظَرَ إلَى عَوْرَةِ الْغَيْرِ قَصْدًا فِسْقٌ ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ إذَا لَمْ يُبَيِّنُوا كَيْفِيَّةَ النَّظَرِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : النَّظَرُ إلَى عَوْرَةِ الْغَيْرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ يَجُوزُ شَرْعًا ، فَإِنَّ الْخَتَّانَ يَنْظُرُ وَالْقَابِلَةَ تَنْظُرُ وَالنِّسَاءَ يَنْظُرْنَ لِمَعْرِفَةِ الْبَكَارَةِ ، وَبِالشُّهُودِ حَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مَا لَمْ يَرَوْا كَالرِّشَاءِ فِي الْبِئْرِ وَالْمَيْلِ فِي الْمُكْحُلَةِ لَا يَسَعُهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا .
( وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَنْكَرَ الْإِحْصَانَ وَلَهُ امْرَأَةٌ قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ ) مَعْنَاهُ أَنْ يُنْكِرَ الدُّخُولَ بَعْدَ وُجُودِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِثَبَاتِ النَّسَبِ مِنْهُ حُكْمٌ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ ، وَلِهَذَا لَوْ طَلَّقَهَا يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ وَالْإِحْصَانَ يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ ( فَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَلَدَتْ مِنْهُ وَشَهِدَ عَلَيْهِ بِالْإِحْصَانِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ رُجِمَ ) خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ ؛ فَالشَّافِعِيُّ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ شَهَادَتَهُنَّ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ ، وَزُفَرُ يَقُولُ إنَّهُ شَرْطٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَتَغَلَّظُ عِنْدَهُ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ فَأَشْبَهَ حَقِيقَةَ الْعِلَّةِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيهِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ ، فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ ذِمِّيَّانِ عَلَى ذِمِّيٍّ زَنَى عَبْدُهُ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الزِّنَا لَا تُقْبَلُ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَلَنَا أَنَّ الْإِحْصَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ ، وَأَنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ الزِّنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ وَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدُوا بِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ ، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا ، وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ سَبْقُ التَّارِيخِ ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُ ( فَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ لَا يَضْمَنُونَ ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَهُوَ فَرْعُ مَا تَقَدَّمَ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْإِحْصَانُ يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ ) أَيْ بِمِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ الَّذِي فِيهِ شُبْهَةٌ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عِنْدَنَا ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا يَثْبُتُ الدُّخُولُ الَّذِي هُوَ مِنْ شُرُوطِ الْإِحْصَانِ بِالْحُكْمِ بِثُبُوتِ النَّسَبِ .
وَقَوْلُهُ ( خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ ، فَالشَّافِعِيُّ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ ، وَزُفَرُ جَعَلَ الْإِحْصَانَ شَرْطًا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَتَغَلَّظُ عِنْدَهُ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ فَأَشْبَهَ حَقِيقَةَ الْعِلَّةِ ) وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ بِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ لَا تُقْبَلُ فِيهِ .
وَالثَّانِي أَنَّ شُهُودَ الْإِحْصَانِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ الرَّجْمِ يَضْمَنُونَ عِنْدَهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي ، لِأَنَّ شُهُودَ الْعِلَّةِ يَضْمَنُونَ عِنْدَ الرُّجُوعِ بِالِاتِّفَاقِ .
وَقَوْلُهُ ( فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ ذِمِّيَّانِ عَلَى ذِمِّيٍّ إلَخْ ) يَعْنِي أَنَّ الزَّانِيَ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لِذِمِّيٍّ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَشَهِدَ ذِمِّيَّانِ أَنَّ مَوْلَاهُ الذِّمِّيَّ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الزِّنَا يُرْجَمُ مَعَ أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الذِّمِّيِّ بِالْعِتْقِ مَقْبُولَةٌ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ هَاهُنَا تَكْمِيلَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَهَذَا مِثْلُهُ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي أَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ ( وَلَنَا أَنَّ الْإِحْصَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ ) بَعْضُهَا لَيْسَ مِنْ صُنْعِ الْمَرْءِ كَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ ، وَبَعْضُهَا فُرِضَ عَلَيْهِ كَالْإِسْلَامِ ، وَبَعْضُهَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ كَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالدُّخُولِ بِالْمَنْكُوحَةِ ( وَالْحَالُ أَنَّهُ مَانِعٌ عَنْ الزِّنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا ) قَبْلَ بَابِ الْوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ فَيَكُونُ الْكُلُّ مَزْجَرَةً ، وَكُلُّ مَا يَكُونُ مَانِعًا عَنْ الزِّنَا لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلْعُقُوبَةِ الْغَلِيظَةِ ( وَصَارَ
كَمَا إذَا شَهِدُوا بِهِ ) أَيْ بِالنِّكَاحِ ( فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ ) يَعْنِي لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَنَّ فُلَانًا تَزَوَّجَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ وَدَخَلَ بِهَا فِي غَيْرِ حَالَةِ الزِّنَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ( بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ ) يَعْنِي زُفَرَ مِنْ شَهَادَةِ الذِّمِّيَّيْنِ عَلَى ذِمِّيٍّ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ قَبْلَ الزِّنَا ( لِأَنَّ الْعِتْقَ ) هُنَاكَ ( يَثْبُتُ ) أَيْضًا ( بِشَهَادَتِهِمَا وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ سَبْقُ التَّارِيخِ لِأَنَّهُ ) تَارِيخٌ ( يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِهِ ) مِنْ حَيْثُ إقَامَةُ الْعُقُوبَةِ الْكَامِلَةِ عَلَيْهِ ، وَمَا يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِهِ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
فَلَوْ قُلْنَا بِجَوَازِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا بِجَوَازِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ لَا يَضْمَنُونَ ) أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَرَتِّبَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ ) ( وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَأُخِذَ وَرِيحُهَا مَوْجُودَةٌ أَوْ جَاءُوا بِهِ سَكْرَانَ فَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ وَرِيحُهَا مَوْجُودَةٌ ) لِأَنَّ جِنَايَةَ الشُّرْبِ قَدْ ظَهَرَتْ وَلَمْ يَتَقَادَمْ الْعَهْدُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ } .
( وَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ ذَهَابِ رَائِحَتِهَا لَمْ يُحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يُحَدُّ ) وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رِيحُهَا وَالسُّكْرُ لَمْ يُحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يُحَدُّ ، فَالتَّقَادُمُ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ بِالِاتِّفَاقِ ، غَيْرَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالزَّمَانِ عِنْدَهُ اعْتِبَارًا بِحَدِّ الزِّنَا ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّأْخِيرَ يَتَحَقَّقُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَالرَّائِحَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ ، كَمَا قِيلَ : يَقُولُونَ لِي انْكَهْ شَرِبْت مُدَامَةً فَقُلْت لَهُمْ لَا بَلْ أَكَلْت السَّفَرْجَلَا وَعِنْدَهُمَا يُقَدَّرُ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ : فَإِنْ وَجَدْتُمْ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَاجْلِدُوهُ .
وَلِأَنَّ قِيَامَ الْأَثَرِ مِنْ أَقْوَى دَلَالَةٍ عَلَى الْقُرْبِ ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّقْدِيرِ بِالزَّمَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِهِ ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الرَّوَائِحِ مُمْكِنٌ لِلْمُسْتَدِلِّ ، وَإِنَّمَا تَشْتَبِهُ عَلَى الْجُهَّالِ .
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَالتَّقَادُمُ لَا يُبْطِلُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ .
وَعِنْدَهُمَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ ، لِأَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، وَلَا إجْمَاعَ إلَّا بِرَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ شَرَطَ قِيَامَ الرَّائِحَةِ عَلَى مَا رَوَيْنَا .
بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ : إنَّمَا أَخَّرَ حَدَّ الشُّرْبِ عَنْ حَدِّ الزِّنَا ؛ لِأَنَّ جَرِيمَةَ الزِّنَا أَشَدُّ مِنْ جَرِيمَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَتْلِ النَّفْسِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ ذِكْرَهُ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَقَتْلِ النَّفْسِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ } وَلِهَذَا لَمْ يَحِلَّ فِي دَيْنٍ مِنْ الْأَدْيَانِ وَأَخَّرَ حَدَّ الْقَذْفِ عَنْ حَدِّ الشُّرْبِ لِمَا أَنَّ جَرِيمَةَ الشُّرْبِ مُتَيَقَّنٌ بِهَا ، بِخِلَافِ جَرِيمَةِ الْقَذْفِ فَإِنَّ الْقَذْفَ خَبَرٌ مُحْتَمَلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ ، وَلِهَذَا كَانَ ضَرْبُ حَدِّ الْقَذْفِ أَخَفَّ مِنْ ضَرْبِ حَدِّ الشُّرْبِ لِضَعْفٍ فِي ثُبُوتِ الْقَذْفِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي نِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا فَلَا يَكُونُ قَذْفًا ( وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَأُخِذَ وَرِيحُهَا مَوْجُودَةٌ أَوْ جَاءُوا بِهِ سَكْرَانَ فَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الشَّارِبِ ( بِذَلِكَ ) أَيْ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَوُجُودِ الرَّائِحَةِ مِنْ بَابِ قَوْله تَعَالَى { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } ( أَوْ شَهِدُوا عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ مَعَ مَجِيئِهِمْ بِهِ وَهُوَ سَكْرَانُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ) وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا تُشْتَرَطَ الرَّائِحَةُ بَعْدَمَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِالسُّكْرِ مِنْ الْخَمْرِ ، وَلَكِنْ الرِّوَايَاتُ فِي الشُّرُوحِ مُقَيَّدَةٌ بِوُجُودِ الرَّائِحَةِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى شَارِبِ الْخَمْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ سَوَاءٌ ثَبَتَ وُجُوبُ الْحَدِّ بِالشَّهَادَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ ( وَالْأَصْلُ فِيهِ ) أَيْ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ } قِيلَ تَمَامُ الْحَدِيثِ { فَإِنْ عَادَ فَاقْتُلُوهُ } وَهُوَ مَتْرُوكُ الْعَمَلِ بِهِ فَلْيَكُنْ الْبَاقِي كَذَلِكَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ تُرِكَ الْعَمَلُ بِذَلِكَ لِمُعَارِضٍ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ
إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ } وَلَيْسَ شُرْبُ الْخَمْرِ مِنْهَا ، فَبَقِيَ الْبَاقِي مَعْمُولًا بِهِ لِعَدَمِ الْمُعَارِضِ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ ذَهَابِ رَائِحَتِهَا ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( غَيْرَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالزَّمَانِ عِنْدَهُ ) أَيْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الشَّهْرُ ( اعْتِبَارًا بِحَدِّ الزِّنَا ) وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) يَعْنِي تَقْدِيرَ الزَّمَانِ وَعَدَمَ اعْتِبَارِ الرَّائِحَةِ ( لِأَنَّ التَّأْخِيرَ يَتَحَقَّقُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ ) فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ زَمَانٍ ، وَأَمَّا أَنَّ ذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أَوْ شَهْرٌ وَاحِدٌ فَيُعْلَمُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ( وَأَمَّا عَدَمُ اعْتِبَارِ الرَّائِحَةِ فَلِأَنَّهَا مُحْتَمَلَةٌ أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِهَا كَمَا قِيلَ : يَقُولُونَ لِي انْكِهِ قَدْ شَرِبْت مُدَامَةً فَقُلْت لَهُمْ لَا بَلْ أَكَلْت السَّفَرْجَلَا ) وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُطَرِّزِيِّ بِكَلِمَةِ قَدْ ، وَقَدْ رُوِيَ بِدُونِهَا وَهِيَ رِوَايَةُ الْفُقَهَاءِ ، فَعَلَى الْأُولَى تَسْقُطُ هَمْزَةُ الْوَصْلِ مِنْ انْكِهِ فِي اللَّفْظِ ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ تُحَرَّكُ بِالْكَسْرِ لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ وَالْمُدَامَةُ بِمَعْنَى الْمُدَامِ وَهُوَ الْخَمْرُ ( وَعِنْدَهُمَا يُقَدَّرُ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنْ وَجَدْتُمْ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَاجْلِدُوهُ ) وَلِأَنَّ ) الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الْقُرْبُ وَ ( قِيَامُ الْأَثَرِ ) وَهُوَ الرَّائِحَةُ ( مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى الْقُرْبِ ) وَقَوْلُهُ ( وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّقْدِيرِ بِالزَّمَانِ ) جَوَابٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ بِالزَّمَانِ : أَيْ إنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّقْدِيرِ بِالزَّمَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْأَثَرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الرَّوَائِحِ مُمْكِنٌ لِلْمُسْتَدِلِّ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَالرَّائِحَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ ( وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَالتَّقَادُمُ لَا يُبْطِلُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ ) أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مُتَّهَمًا بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِ ( وَعِنْدَهُمَا لَا
يُقَامُ الْحَدُّ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ ، لِأَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، وَلَا إجْمَاعَ إلَّا بِرَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ شَرَطَ قِيَامَ الرَّائِحَةِ عَلَى مَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ " فَإِنْ وَجَدْتُمْ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَاجْلِدُوهُ " وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى ثُبُوتِ حَدِّ الشُّرْبِ بِاتِّفَاقِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَلَكِنْ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي شَرَطَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَهُوَ قِيَامُ الرَّائِحَةِ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْبَاقُونَ ، وَأَيْضًا كَلَامُ ابْنِ مَسْعُودٍ شَرْطِيَّةٌ وَالشَّرْطِيَّةُ تُفِيدُ الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ لَا غَيْرُ .
وَجَوَابُ الْإِمَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ الْعَدَمَ عِنْدَ الْعَدَمِ لَيْسَ مِنْ مَفْهُومِ الشَّرْطِ بَلْ مِنْ انْتِفَاءِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مَدْفُوعٌ بِمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا ، وَأَيْضًا ذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ } وَقَالَ هَاهُنَا إنَّهُ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ ، وَأَيْضًا اشْتِرَاطُ الرَّائِحَةِ مُنَافٍ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ }