كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي
أَجَلًا لِلْكَفَالَةِ وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ مِنْ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ يَقْتَضِي نَفْيَ جَوَازِ التَّعْلِيقِ لَا نَفْيَ جَوَازِ الْكَفَالَةِ مَعَ أَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَجُوزُ .
الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ وَكَذَا إذَا جَعَلَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَأَمَّا لَا يَصِحُّ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ وَكَذَا لَا يَصِحُّ إذَا جَعَلَ ، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ يَصِحُّ هُوَ التَّعْلِيقَ أَوْ الْكَفَالَةَ إذَا لَمْ يَذْكُرْ ثَالِثًا .
وَالْأَوَّلُ لَا يَجُوزُ إذْ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَكَذَا لَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ إذَا جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجَلًا .
وَالثَّانِي كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ إلَّا أَنَّهُ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ .
وَالثَّالِثُ أَنَّ الدَّلِيلَ لَا يُطَابِقُ الْمَدْلُولَ ؛ لِأَنَّ الْمَدْلُولَ بُطْلَانُ الْأَجَلِ مَعَ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ وَالدَّلِيلُ صِحَّةُ تَعْلِيقِهَا بِالشَّرْطِ وَعَدَمُ بُطْلَانِهَا بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ .
وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ ؛ لِأَنَّهَا تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْمَحْضِ وَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ حَاصِلَ الْكَلَامِ نَفْيُ جَوَازِ الْكَفَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِهِمَا ، وَالْمَجْمُوعُ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ .
لَا يُقَالُ : نَفْيُ الْكَفَالَةِ الْمُؤَجَّلَةِ كَنَفْيِ الْمُعَلَّقَةِ وَلَا تَنْتَفِي الْكَفَالَةُ بِانْتِفَاءِ الْأَجَلِ ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ الْمُعَلَّقَ نَوْعٌ ، إذْ التَّعْلِيقُ يُخْرِجُ الْعِلَّةَ عَنْ الْعَلِيَّةِ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَالْأَجَلُ عَارِضٌ بَعْدَ الْعَقْدِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ مَعْرُوضِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّرْفِ مَا يُقَارِبُهُ إنْ كَانَ عَلَى ذِكْرٍ مِنْك .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ فَاعِلَ يَصِحُّ الْمُقَدَّرَ هُوَ الْأَجَلُ ، وَتَقْدِيرُهُ : وَكَمَا لَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ لَا يَصِحُّ الْأَجَلُ إذَا جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجَلًا .
وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ الْأَجَلُ مَجَازًا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ ( وَيَجِبُ الْمَالُ حَالًا ) وَتَقْدِيرُهُ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَمَّا صَحَّ
تَأْجِيلُهَا بِأَجَلٍ مُتَعَارَفٍ لَمْ تَبْطُلْ بِالْآجَالِ الْفَاسِدَةِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، وَيُجَوِّزُ الْمَجَازُ عَدَمَ الثُّبُوتِ فِي الْحَالِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
( فَإِنْ قَالَ تَكَفَّلْت بِمَا لَك عَلَيْهِ فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِأَلْفٍ عَلَيْهِ ضَمِنَهُ الْكَفِيلُ ) لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً فَيَتَحَقَّقُ مَا عَلَيْهِ فَيَصِحُّ الضَّمَانُ بِهِ ( وَإِنْ لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ مَعَ يَمِينِهِ فِي مِقْدَارِ مَا يَعْتَرِفُ بِهِ ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ ( فَإِنْ اعْتَرَفَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى كَفِيلِهِ ) لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ ( وَيُصَدَّقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ) لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهَا .( فَإِنْ قَالَ تَكَفَّلْت بِمَا لَك عَلَيْهِ فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِأَلْفٍ ضَمِنَهُ الْكَفِيلُ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً ) وَلَوْ عَايَنَ مَا عَلَيْهِ وَكَفَلَ عَنْهُ لَزِمَهُ مَا عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ فَصَحَّ الضَّمَانُ بِهِ ( وَإِنْ لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ مَعَ يَمِينِهِ فِي مِقْدَارِ مَا يَعْتَرِفُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ ) وَإِنَّمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مَجْهُولٌ لَزِمَهُ بِقَوْلِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ ، وَإِنَّمَا كَانَ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ مَنْ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ فِيمَا كَانَ هُوَ خَصْمًا فِيهِ وَالشَّيْءُ مِمَّا يَصِحُّ بَذْلُهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْمَالِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ : لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ ( فَإِنْ اعْتَرَفَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى كَفِيلِهِ ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ وَيُصَدَّقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهَا ) كَالْمَرِيضِ إذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ دُيُونِ الصِّحَّةِ حَيْثُ يُقَدَّمُونَ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ .
قَالَ ( وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ ) لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّهُ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ وَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِيهِ نَفْعٌ لِلطَّالِبِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِثُبُوتِ الرُّجُوعِ إذْ هُوَ عِنْدَ أَمْرِهِ وَقَدْ رَضِيَ بِهِ ( فَإِنْ كَفَلَ بِأَمْرِهِ رَجَعَ بِمَا أَدَّى عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ ( وَإِنْ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا يُؤَدِّيهِ ) لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِأَدَائِهِ ، وَقَوْلُهُ رَجَعَ بِمَا أَدَّى مَعْنَاهُ إذَا أَدَّى مَا ضَمِنَهُ ، أَمَّا إذَا أَدَّى خِلَافَهُ رَجَعَ بِمَا ضَمِنَ لِأَنَّهُ مَلَكَ الدَّيْنَ بِالْأَدَاءِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الطَّالِبِ ، كَمَا إذَا مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالْإِرْثِ ، وَكَمَا إذَا مَلَكَهُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَوَالَةِ ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ حَيْثُ يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى يَمْلِكَ الدَّيْنَ بِالْأَدَاءِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ عَنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ فَصَارَ كَمَا إذَا أَبْرَأَ الْكَفِيلَ .
قَالَ ( وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ إلَخْ ) الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ اضْمَنْ عَنِّي أَوْ تَكَفَّلْ عَنِّي وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ سِيَّانِ فِي الْجَوَازِ ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى جَوَازِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الزَّعِيمُ غَارِمٌ } وَأَمْثَالُهُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ كَوْنِهَا بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ أَنْ يُطَالَبَ بِمَا عَلَى الْغَيْرِ ، وَذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ تَصَرُّفٌ فِي النَّفْسِ فَهُوَ لَازِمٌ إذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ غَيْرُهُ ، وَغَيْرُ الْمُتَصَرِّفِ هُنَا هُوَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ فَقَطْ وَالطَّالِبُ غَيْرُ مُتَضَرِّرٍ بَلْ مُنْتَفِعٌ لَا مَحَالَةَ ، وَالْمَطْلُوبُ إنْ تَضَرَّرَ فَإِنَّمَا يَتَضَرَّرُ بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ الْأَمْرِ ، فَمَا لَمْ يَأْمُرْ لَمْ يَتَضَرَّرْ ، وَإِنْ أَمَرَ فَقَدْ رَضِيَ ، وَالضَّرَرُ الْمَرَضُ غَيْرُ ضَائِرٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِنَوْعَيْهَا مِمَّا يَقْتَضِيهَا الْمُقْتَضِي مَعَ انْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَالْقَوْلُ بِجَوَازِهِ وَاجِبٌ .
ثُمَّ إنْ كَفَلَ بِأَمْرِهِ رَجَعَ بِمَا أَدَّى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ ، وَمَنْ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُنْتَقَضُ بِمَا إذَا كَانَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ صَبِيًّا مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ عَبْدًا كَذَلِكَ وَأَمَرَ الْكَفِيلَ فَإِنَّهُ إذَا أَدَّى لَا يَرْجِعُ عَلَى الصَّبِيِّ أَصْلًا وَلَا عَلَى الْعَبْدِ مَا دَامَ رَقِيقًا ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَلَا بِمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ أَدِّ عَنِّي زَكَاةَ مَالِي أَوْ أَطْعِمْ عَنِّي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ فَفَعَلَ فَقَدْ أَدَّى دَيْنَ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ الْآمِرُ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّيْنِ هُوَ الدَّيْنُ الصَّحِيحُ وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ كَفَلَ
بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِأَدَائِهِ وَالْمُتَبَرِّعُ لَا يَرْجِعُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : الْكَفِيلُ إذَا أَدَّى رَجَعَ سَوَاءٌ كَفَلَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ بِالِاسْتِيفَاءِ مَلَكَ الْمَالَ مِنْ الْكَفِيلِ أَوْ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَالِ مِنْ الْأَصِيلِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ ، وَإِذَا كَفَلَ بِأَمْرِهِ فَبِنَفْسِ الْكَفَالَةِ ؛ كَمَا يَجِبُ الْمَالُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ يَجِبُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَكِنَّهُ يُؤَخَّرُ إلَى أَدَائِهِ ، وَهَذَا لَا يَكُونُ عِنْدَ كَفَالَتِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ( قَوْلُهُ : رَجَعَ بِمَا أَدَّى ) اعْلَمْ أَنَّ الْكَفِيلَ يَمْلِكُ الْمَكْفُولَ بِهِ فِي فُصُولٍ : مِنْهَا الْأَدَاءُ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ ، وَمِنْهَا هِبَتُهُ إيَّاهُ ، وَمِنْهَا إرْثُهُ لَهُ ، وَمِنْهَا صُلْحُهُ إيَّاهُ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فَعَلَى نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ أَدَّى مَا ضَمِنَ وَفِيهِ الرُّجُوعُ بِمَا أَدَّى ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مِثْلَ مَا ضَمِنَ .
وَالثَّانِي أَنْ يَقُولَ أَدَّى خِلَافَ مَا ضَمِنَ كَمَا إذَا أَدَّى زُيُوفًا بَدَلَ مَا ضَمِنَ مِنْ الْجِيَادِ وَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ أَوْ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ ، وَفِيهِ الرُّجُوعُ بِمَا ضَمِنَ لَا بِمَا أَدَّى .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الدَّيْنَ بِالْأَدَاءِ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الطَّالِبِ ) وَالطَّالِبُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ إلَّا بِمَا فِي ذِمَّتِهِ فَكَذَا مَنْ نُزِّلَ مَنْزِلَتَهُ ، وَقَاسَ ذَلِكَ عَلَى فَصْلِ الْهِبَةِ ، وَهُوَ أَنْ يَهَبَ الْمَكْفُولَ لَهُ الدَّيْنَ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ لِلْكَفِيلِ فَإِنَّ الْكَفِيلَ يَمْلِكُهُ وَيَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَا ضَمِنَ ، وَعَلَى فَصْلِ الْمِيرَاثِ وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ الْمَكْفُولُ لَهُ وَيَرِثُهُ الْكَفِيلُ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الدَّيْنَ وَيَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الطَّالِبِ .
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ لِلْكَفِيلِ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ
مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ إذْ الْكَفَالَةُ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ لَا فِي الدَّيْنِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْهِبَةَ وَالْمِيرَاثَ الْمَمْلُوكَ وَاحِدٌ لَا تَعَدُّدَ فِيهِ وَهُوَ مَا ضَمِنَ ، وَأَمَّا فِي الْأَدَاءِ بِخِلَافِ مَا ضَمِنَ فَقَدْ تَعَدَّدَ الْأَمْرُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الرُّجُوعِ بِمَا ضَمِنَ فِيمَا تَعَيَّنَ الرُّجُوعُ بِهِ فِيمَا تَعَدَّدَ : أَعْنِي مَا أَدَّى وَمَا ضَمِنَ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا إذَا وَهَبَهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ فَقَبَضَهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ .
وَإِذَا أَذِنَ لَهُ بِالْقَبْضِ صَارَ كَأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ الْكَفَالَةِ وَوَكَّلَهُ بِالْقَبْضِ فَقَبَضَهُ ثُمَّ وَهَبَهُ إيَّاهُ ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَهُوَ جَائِزٌ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ضَرُورَةٌ ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ فِي الدَّيْنِ وَهَاهُنَا قَدْ وُجِدَتْ الضَّرُورَةُ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلْمِلْكِ وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ أَنْ يُجْعَلَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ حَتَّى يَتَمَلَّكَ مَا عَلَيْهِ لَا مَا عَلَى غَيْرِهِ وَأَمْكَنَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ نَقْلِ الدَّيْنِ إلَيْهِ بِإِحَالَةِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ فَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مُقْتَضَى تَصَرُّفِهِمَا ، وَهَذَا يُرْشِدُك إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ إبْرَاءِ الدَّيْنِ وَهِبَتِهِ لَهُ فِي أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَالْهِبَةَ تَرْتَدُّ بِهِ ، فَإِنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ كَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ يَكْفِي مُؤْنَتُهُ بِوُجُوبِ الْمُطَالَبَةِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ ، وَالْهِبَةُ لَمَّا كَانَتْ تَمْلِيكًا اقْتَضَتْ مِلْكًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ وَذَلِكَ فِي غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى نَقْلِ الدَّيْنِ لِيَصِحَّ التَّمْلِيكُ
وَالتَّمْلِيكُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ ، فَكَمَا لَوْ وُهِبَ الدَّيْنُ مِنْ الْأَصِيلِ صَحَّ الرَّدُّ فَكَذَا مِنْ الْكَفِيلِ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ التَّشْبِيهَ إنَّمَا هُوَ فِي نُزُولِ الْكَفِيلِ مَنْزِلَةَ الطَّالِبِ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْجَمِيعِ ثُمَّ إذَا نُزِّلَ مَنْزِلَتَهُ ، وَالطَّالِبُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ إلَّا مَا ضَمِنَ لَهُ فَكَذَا مَنْ نُزِّلَ مَنْزِلَتَهُ وَقَاسَ ذَلِكَ عَلَى صُورَةِ الْحَوَالَةِ وَهُوَ أَنْ يُحِيلَ الْمَدْيُونُ طَالِبَهُ عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَأَدَّى الْمُحَالُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا ضَمِنَ فَإِنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ بِمَا ضَمِنَ لَا بِمَا أَدَّى ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الدَّيْنَ بِالْأَدَاءِ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الطَّالِبِ .
( قَوْلُهُ : بِمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَوَالَةِ ) قِيلَ يُرِيدُ بِهِ حَوَالَةَ كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى ( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ ) جَوَابُ دَخَلَ تَقْرِيرُهُ : الْكَفِيلُ لَا يَرْجِعُ إلَّا إذَا أَدَّى بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ ، وَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَأْمُورِ بِقَضَاءِ الدُّيُونِ وَالْمَأْمُورُ يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى فَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ ، وَتَوْجِيهُهُ أَنْ يُقَالَ الْمَأْمُورُ بِقَضَاءِ الدُّيُونِ لَمْ يَجِبْ لَهُ عَلَى الْآمِرِ شَيْءٌ حَيْثُ لَمْ يُلْزَمْ بِالْكَفَالَةِ فَلَا يُمْلَكُ الدَّيْنُ بِالْأَدَاءِ حَتَّى يُنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الطَّالِبِ فَيَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ ، وَإِنَّمَا الرُّجُوعُ بِحُكْمِ الْأَمْرِ بِالْأَدَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِمَا ، فَلَوْ أَدَّى الزُّيُوفَ عَلَى الْجِيَادِ وَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ رَجَعَ بِهَا دُونَ الْجِيَادِ ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْمَأْمُورِ بِهِ لَمْ يُوجَدْ ، وَإِنْ عَكَسَ فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا بِهَا ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ : رَجَعَ بِمَا أَدَّى بِإِطْلَاقِهِ فِيهِ تَسَامُحٌ ، وَأَمَّا إذَا صَالَحَ الْكَفِيلُ رَبَّ الدَّيْنِ فَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ : أَحَدُهَا أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى أَقَلِّ مِنْ الدَّيْنِ كَمَا إذَا صَالَحَ عَنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَفِيهِ يَرْجِعُ بِمَا
أَدَّى لَا بِمَا ضَمِنَ ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ فَكَانَ إبْرَاءً فِيمَا وَرَاءَ بَدَلِ الصُّلْحِ ، وَفِيهِ لَا يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ عَلَى مَا يَذْكُرُهُ .
وَالثَّانِي أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى جِنْسٍ لِآخَرَ وَفِيهِ تَمَلُّكُ الدَّيْنِ فَيَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ وَسَيَأْتِي .
قَالَ ( وَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ بِالْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ ) لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ حَيْثُ يَرْجِعُ قَبْلَ الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ .
قَالَ ( فَإِنْ لُوزِمَ بِالْمَالِ كَانَ لَهُ أَنْ يُلَازِمَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ حَتَّى يُخَلِّصَهُ ) وَكَذَا إذَا حُبِسَ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ لِأَنَّهُ لَحِقَهُ مَا لَحِقَهُ مِنْ جِهَتِهِ فَيُعَامِلُهُ بِمِثْلِهِقَالَ ( وَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ بِالْمَالِ ) الْكَفِيلُ بِالْمَالِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمَكْفُولَ بِهِ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْمُطَالَبَةِ هُوَ التَّمْلِيكُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَانْتَفَى الْمُوجِبُ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ حَيْثُ يَرْجِعُ قَبْلَ الْأَدَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ قَدْ وُجِدَ فِي حَقِّهِ حَيْثُ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا : أَيْ بَيْنَ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ مُبَادَلَةً حُكْمِيَّةً ، وَلِهَذَا وَجَبَ التَّحَالُفُ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ ، وَلِلْوَكِيلِ وِلَايَةُ حَبْسِ الْمُشْتَرِي عَنْ الْمُوَكِّلِ لِأَجْلِ الثَّمَنِ كَالْبَائِعِ ، وَالْمُبَادَلَةُ تُوجِبُ الْمِلْكَ الْمُوجِبَ لِجَوَازِ الْمُطَالَبَةِ .
قَالَ ( فَإِنْ لُوزِمَ بِالْمَالِ إلَخْ ) إذَا لُوزِمَ الْكَفِيلُ لَهُ أَنْ يُلَازِمَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَكْفُولِ عَنْهُ مِثْلُ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ ، وَكَذَا إذَا حَبَسَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ لَهُ حَقٌّ عَلَى الْأَصِيلِ قَبْلَ الْأَدَاءِ .
وَقُلْنَا هُوَ مُوَرِّطٌ فَعَلَيْهِ الْخَلَاصُ .
( وَإِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمَكْفُولَ عَنْهُ أَوْ اسْتَوْفَى مِنْهُ بَرِئَ الْكَفِيلُ ) لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ ( وَإِنْ أَبْرَأَ الْكَفِيلَ لَمْ يَبْرَأْ الْأَصِيلُ عَنْهُ ) لِأَنَّهُ تَبَعٌ ، وَلِأَنَّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةَ وَبَقَاءَ الدَّيْنِ عَلَى الْأَصِيلِ بِدُونِهِ جَائِزٌ ( وَكَذَا إذَا أَخَّرَ الطَّالِبُ عَنْ الْأَصِيلِ فَهُوَ تَأْخِيرٌ عَنْ الْكَفِيلِ ، وَلَوْ أَخَّرَ عَنْ الْكَفِيلِ لَمْ يَكُنْ تَأْخِيرًا عَنْ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ ) لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إبْرَاءٌ مُوَقَّتٌ فَيُعْتَبَرُ بِالْإِبْرَاءِ الْمُؤَبَّدِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَفَلَ بِالْمَالِ الْحَالِّ مُؤَجَّلًا إلَى شَهْرٍ فَإِنَّهُ يَتَأَجَّلُ عَنْ الْأَصِيلِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا الدَّيْنُ حَالَ وُجُودِ الْكَفَالَةِ فَصَارَ الْأَجَلُ دَاخِلًا فِيهِ ، أَمَّا هَاهُنَا فَبِخِلَافِهِ .
فَإِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمَكْفُولَ عَنْهُ أَوْ اسْتَوْفَى دَيْنَهُ بَرِئَ الْكَفِيلُ ؛ لِأَنَّهُ أَبْرَأَ الْأَصِيلَ ، وَإِبْرَاءُ الْأَصِيلِ يَسْتَلْزِمُ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِوُجُودِ الدَّيْنِ وَقَدْ سَقَطَ بِالْإِبْرَاءِ فَلَمْ تَبْقَ الْمُطَالَبَةُ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَلَا عَلَى الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا الْمُطَالَبَةُ وَقَدْ انْتَهَتْ بِانْتِهَاءِ عِلَّتِهَا .
وَقَوْلُهُ : فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ بِوُجُوبِ أَصْلِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ أَيْضًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ .
وَيُعَلَّلُ بِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِيمَا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ ، وَقَدْ سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْ الْأَصِيلِ بِالْأَدَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ فَيَسْقُطُ عَنْ الْكَفِيلِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى الْكَفِيلِ فَرْعُ وُجُوبِهِ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَمْ يَبْقَ ذَلِكَ فَلَا يَبْقَى هَذَا .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُمْ بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا شُرِطَ بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ فِي ابْتِدَاءِ الْكَفَالَةِ فَإِنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فِيهِ مَوْجُودَةٌ وَلَمْ تُوجِبْ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ .
قُلْنَا : لَا نَقْضَ فِي ذَلِكَ ، فَإِنَّا قُلْنَا إنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ ، وَإِذَا شُرِطَ بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ فِي ابْتِدَاءِ الْكَفَالَةِ لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ كَفِيلٌ ، بَلْ الْبَاقِي إذْ ذَاكَ مُحَالٌ عَلَيْهِ ، وَلَمْ نَقُلْ بِأَنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ( وَإِنْ أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ لَمْ يَبْرَأْ الْأَصِيلُ ) ؛ لِأَنَّ عَلَى الْكَفِيلِ الْمُطَالَبَةَ دُونَ أَصْلِ الدَّيْنِ ، وَسُقُوطُ الْمُطَالَبَةِ عَنْهُ لَا تُوجِبُ سُقُوطَ أَصْلِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الدَّيْنِ عَلَى الْأَصِيلِ بِدُونِ الطَّلَبِ أَوْ بِدُونِ الْكَفِيلِ جَائِزٌ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ
الْكَفِيلُ مَا سَقَطَ الدَّيْنُ عَنْ الْأَصِيلِ ( وَإِنْ أَخَّرَ الطَّالِبُ عَنْ الْأَصِيلِ فَهُوَ تَأْخِيرٌ عَنْ كَفِيلِهِ ، وَإِنْ أَخَّرَ عَنْ كَفِيلِهِ لَا يَكُونُ تَأْخِيرًا عَنْ الْأَصِيلِ ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إبْرَاءٌ مُوَقَّتٌ ) لِإِسْقَاطِ الْمُطَالَبَةِ إلَى غَايَةٍ ( فَيُعْتَبَرُ بِالْإِبْرَاءِ الْمُؤَبَّدِ ) وَرُدَّ بِأَنَّ هَذَا اعْتِبَارٌ مَعَ عَدَمِ التَّسَاوِي وَهُوَ بَاطِلٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَفِيلَ لَوْ رَدَّ الْإِبْرَاءَ الْمُؤَبَّدَ لَمْ يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ بَلْ يَثْبُتُ الْإِبْرَاءُ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ ، وَلَوْ رَدَّ الْإِبْرَاءَ الْمُوَقَّتَ ارْتَدَّ بِالرَّدِّ وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ مَا ضَمِنَهُ حَالًّا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ اعْتِبَارَ شَيْءٍ بِغَيْرِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّسَاوِيَ بَيْنَهُمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِلَّا لَا يَبْقَى الِاعْتِبَارُ .
نِعْمَ يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ فَارِقٍ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِهِ بَيْنَ قَبُولِ أَحَدِهِمَا الرَّدَّ دُونَ الْآخَرِ ، وَهُوَ مَا ذَكَرُوهُ أَنَّ الْإِبْرَاءَ الْمُؤَبَّدَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ لَا تَمْلِيكَ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا مُجَرَّدُ مُطَالَبَةٍ ، وَالْإِسْقَاطُ الْمَحْضُ لَا يَقْبَلُ الرَّدَّ كَإِسْقَاطِ الْخِيَارِ ، وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ الْمُوَقَّتُ فَهُوَ تَأْخِيرُ مُطَالَبَةٍ لَيْسَ فِيهِ إسْقَاطٌ وَلِهَذَا يَعُودُ بَعْدَ الْأَجَلِ ، وَالتَّأْخِيرُ قَابِلٌ لِلرَّدِّ .
( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ مَا إذَا كَفَلَ ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ دَخَلَ .
تَقْرِيرُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّأْخِيرَ عَنْ الْكَفِيلِ لَا يَكُونُ تَأْخِيرًا عَنْ الْأَصِيلِ ، فَإِنَّ الْكَفِيلَ إذَا كَفَلَ بِالْمَالِ الْحَالِّ مُؤَجَّلًا إلَى شَهْرٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ تَأْخِيرًا عَنْ الْأَصِيلِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَأْخِيرٍ عَنْ الْكَفِيلِ بَلْ هُوَ تَأْخِيرٌ لِأَصْلِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ التَّأْجِيلَ فِي ابْتِدَاءِ الْكَفَالَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ حَقٌّ لِلطَّالِبِ سِوَى الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ الْحَاصِلَةَ بِالْكَفَالَةِ لَمْ تَثْبُتْ بَعْدَ تَعَيُّنِ تَأْخِيرِهِ ، وَإِذَا كَانَ تَأْخِيرُ أَصْلِ الدَّيْنِ وَهُوَ
فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ تَأَخَّرَ عَنْهُ وَعَنْ الْكَفِيلِ جَمِيعًا .
( أَمَّا هَاهُنَا ) أَيْ فِيمَا إذَا حَلَّ بَعْدَ الْكَفَالَةِ فَإِنَّمَا كَانَ لِلتَّأْخِيرِ الْمُطَالَبَةُ الْحَاصِلَةُ بِالْكَفَالَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَأْخِيرُ أَصْلِ الدَّيْنِ .
قَالَ ( فَإِنْ صَالَحَ الْكَفِيلُ رَبَّ الْمَالِ عَنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ فَقَدْ بَرِئَ الْكَفِيلُ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الصُّلْحَ إلَى الْأَلْفِ الدَّيْنِ وَهِيَ عَلَى الْأَصِيلِ فَبَرِئَ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ وَبَرَاءَتُهُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ ، ثُمَّ بَرِئَا جَمِيعًا عَنْ خَمْسِمِائَةٍ بِأَدَاءِ الْكَفِيلِ ، وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِخَمْسِمِائَةٍ إنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَمَلَكَهُ فَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ ، وَلَوْ كَانَ صَالَحَهُ عَمَّا اسْتَوْجَبَ بِالْكَفَالَةِ لَا يَبْرَأُ الْأَصِيلُ ؛ لِأَنَّ هَذَا إبْرَاءُ الْكَفِيلِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ .
قَالَ ( فَإِنْ صَالَحَ الْكَفِيلُ رَبَّ الْمَالِ إلَخْ ) مُصَالَحَةُ الْكَفِيلِ رَبَّ الْمَالِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ الدَّيْنِ بِجِنْسِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : هُوَ أَنْ يُشْتَرَطَ بَرَاءَتُهُمَا جَمِيعًا ، أَوْ بَرَاءَةُ الْمَطْلُوبِ خَاصَّةً ، أَوْ بَرَاءَةُ الْكَفِيلِ خَاصَّةً ، أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .
فَفِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بَرِئَا جَمِيعًا ، وَفِي الثَّالِثِ بَرِئَ الْكَفِيلُ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ لَا غَيْرُ وَالْأَلْفُ بِحَالِهِ عَلَى الْأَصِيلِ وَالطَّالِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ جَمِيعَ دَيْنِهِ مِنْ الْأَصِيلِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ الْكَفِيلِ وَخَمْسَمِائَةٍ مِنْ الْأَصِيلِ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَا أَدَّى إنْ كَانَ الصُّلْحُ وَالْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ .
وَفِي الرَّابِعِ وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، فَإِنْ قَالَ الْكَفِيلُ لِلطَّالِبِ صَالَحْتُك عَنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ بَرِئَا جَمِيعًا عَنْ خَمْسِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الصُّلْحِ إلَى الْأَلْفِ إضَافَةٌ إلَى مَا عَلَى الْأَصِيلِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَفِيلِ سِوَى الْمُطَالَبَةِ فَيَبْرَأُ الْأَصِيلُ مِنْ ذَلِكَ ، وَبَرَاءَتُهُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ بَرِئَا جَمِيعًا عَنْ خَمْسِمِائَةٍ بِأَدَاءِ الْكَفِيلِ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَا أَدَّى ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى هَذَا الْقَدْرَ بِأَمْرِهِ ، وَإِنْ قَالَ صَالَحْتُك عَمَّا اُسْتُوْجِبَ بِالْكَفَالَةِ كَانَ فَسْخًا لِلْكَفَالَةِ لَا إسْقَاطًا لِأَصْلِ الدَّيْنِ فَيَأْخُذُ الطَّالِبُ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ الْكَفِيلِ إنْ شَاءَ وَالْبَاقِيَ مِنْ الْأَصِيلِ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَا أَدَّى وَمُصَالَحَتُهُ إيَّاهُ ، بِخِلَافِ الْجِنْسِ تَمْلِيكٌ لِأَصْلِ الدَّيْنِ مِنْهُ بِالْمُبَادَلَةِ فَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ جَعَلَ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ لِتَصِيرَ الدَّنَانِيرُ بَدَلًا مِنْ الدَّيْنِ وَيَكُونَ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ
الدَّيْنُ وَتَكُونَ الْبَرَاءَةُ مَشْرُوطَةً لِلْكَفِيلِ فَيَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ ؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ خَمْسُمِائَةٍ بَدَلًا عَنْ الْأَلْفِ لِكَوْنِهِ رِبًا فَيَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَالْبَرَاءَةُ مَشْرُوطَةٌ لَهُ ، وَبَرَاءَتُهُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ فَيَبْرَآنِ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِخَمْسِمِائَةٍ إذَا كَفَلَ بِأَمْرِهِ كَمَا ذَكَرْنَا .
قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِكَفِيلٍ ضَمِنَ لَهُ مَالًا قَدْ بَرِئْت إلَيَّ مِنْ الْمَالِ رَجَعَ الْكَفِيلُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ ) مَعْنَاهُ بِمَا ضَمِنَ لَهُ بِأَمْرِهِ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ الَّتِي ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الْمَطْلُوبِ وَانْتِهَاؤُهَا إلَى الطَّالِبِ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْإِيفَاءِ ، فَيَكُونُ هَذَا إقْرَارًا بِالْأَدَاءِ فَيَرْجِعُ ( وَإِنْ قَالَ أَبْرَأْتُك لَمْ يَرْجِعْ الْكَفِيلُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ ) لِأَنَّهُ بَرَاءَةٌ لَا تَنْتَهِي إلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ بِالْإِسْقَاطِ فَلَمْ يَكُنْ إقْرَارًا بِالْإِيفَاءِ .
وَلَوْ قَالَ بَرِئْت قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ مِثْلُ الثَّانِي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ بِالْأَدَاءِ إلَيْهِ وَالْإِبْرَاءِ فَيَثْبُتُ الْأَدْنَى إذْ لَا يَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِالشَّكِّ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : هُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِبَرَاءَةٍ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الْمَطْلُوبِ وَإِلَيْهِ الْإِيفَاءُ دُونَ الْإِبْرَاءِ .
وَقِيلَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا إذَا كَانَ الطَّالِبُ حَاضِرًا يَرْجِعُ فِي الْبَيَانِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُجْمَلُ .
قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِكَفِيلٍ ضَمِنَ لَهُ مَالًا إلَخْ ) ذَكَرَ هَاهُنَا ثَلَاثَ مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْإِبْرَاءِ : إحْدَاهَا مَا ذُكِرَ فِيهِ ابْتِدَاءُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْمَطْلُوبِ وَانْتِهَاؤُهَا إلَى الطَّالِبِ ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ يُذْكَرَ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الطَّالِبِ ، وَالثَّالِثَةُ بِالْعَكْسِ .
فَالْأُولَى أَنْ يَقُولَ لِكَفِيلٍ ضَمِنَ لَهُ بِأَمْرِهِ مَالًا قَدْ بَرِئْت إلَيَّ مِنْ الْمَالِ ، وَفِيهَا يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ لِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ الَّتِي يَكُونُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الْمَطْلُوبِ : أَيْ الْكَفِيلِ وَانْتِهَاؤُهَا إلَى الطَّالِبِ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْإِيفَاءِ ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ دَفَعْت إلَيَّ الْمَالِ أَوْ قَبَضْته مِنْك وَهُوَ إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ فَلَا يَكُونُ لِرَبِّ الدَّيْنِ مُطَالَبَةٌ مِنْ الْكَفِيلِ وَلَا مِنْ الْأَصِيلِ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ .
وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَقُولَ أَبْرَأْتُك وَفِيهَا لَا رُجُوعَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَكِنْ لِرَبِّ الدَّيْنِ أَنْ يَطْلُبَ مَالَهُ مِنْ الْأَصِيلِ ؛ لِأَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بَرَاءَةٌ لَا تَنْتَهِي إلَى غَيْرِهِ ، وَذَلِكَ بِالْإِسْقَاطِ فَلَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْإِيفَاءِ وَهَاتَانِ بِالِاتِّفَاقِ .
وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَقُولَ بَرِئْت وَلَا يَزِيدَ عَلَيْهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ .
قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : هُوَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَبْرَأْتُك ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ بِالْأَدَاءِ وَالْبَرَاءَةَ بِالْإِبْرَاءِ ، وَالثَّانِيَةُ أَدْنَاهُمَا فَتَثْبُتُ ( قَوْلُهُ : وَلَا يَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِالشَّكِّ ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا آخَرَ ، وَتَوْجِيهُهُ أَنْ يُقَالَ تَيَقَّنَّا بِحُصُولِ الْبَرَاءَةِ بِأَيِّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ وَشَكَكْنَا فِي الرُّجُوعِ ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ إنْ كَانَتْ بِالْأَدَاءِ رَجَعَ الْكَفِيلُ ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْإِبْرَاءِ لَمْ يَرْجِعْ فَلَا يَرْجِعُ بِالشَّكِّ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : هُوَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ بَرِئْت إلَيَّ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِبَرَاءَةٍ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الْمَطْلُوبِ ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ حَرْفَ الْخِطَابِ وَهُوَ التَّاءُ وَذَلِكَ
إنَّمَا يَكُونُ بِفِعْلٍ يُضَافُ إلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ كَمَا إذَا قِيلَ قُمْت وَقَعَدْت مَثَلًا وَهُوَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ الْإِيفَاءُ ؛ لِأَنَّهُ يَضَعُ الْمَالَ بَيْنَ يَدَيْ الطَّالِبِ وَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَالِ فَتَقَعُ الْبَرَاءَةُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الطَّالِبِ صُنْعٌ ؛ فَأَمَّا الْبَرَاءَةُ بِالْإِبْرَاءِ فَمِمَّا لَا يُوجَدُ بِفِعْلِ الْكَفِيلِ لَا مَحَالَةَ .
وَقِيلَ أَبُو حَنِيفَةَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ اخْتَارَهُ فَأَخَّرَهُ وَهُوَ أَقْرَبُ الِاحْتِمَالَيْنِ فَالْمَصِيرُ إلَيْهِ أَوْلَى .
وَقِيلَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا إذَا كَانَ الطَّالِبُ حَاضِرًا يَرْجِعُ فِي الْبَيَانِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُجْمِلُ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ غَائِبًا فَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ .
وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا هُوَ أَنَّ الْمُجْمَلَ مَا لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ إلَّا بِبَيَانِ الْمُجْمِلِ ، وَقَدْ ظَهَرَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُمْكِنٌ .
وَالثَّانِي أَنَّ حُكْمَ الْمُجْمَلِ التَّوَقُّفُ قَبْلَ الْبَيَانِ ، وَهَاهُنَا قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى الْعَمَلِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُجْمَلًا مَعَ انْتِفَاءِ لَازِمِهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ بَرِئْت إلَيَّ وَإِنْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الصَّرِيحِ فِي حَقِّ إيفَاءٍ لِلْكَفِيلِ وَقَبْضِ الطَّالِبِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِدْلَال لَكِنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِيهِ بَلْ هُوَ قَابِلٌ لِلِاسْتِعَارَةِ بِأَنْ يُقَالَ بَرِئْت إلَيَّ ؛ لِأَنِّي أَبْرَأْتُك ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْ الِاسْتِعْمَالِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ فِي تَعْلِيلِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ اسْتِدْلَالِيٌّ لَا صَرِيحٌ فِي الْإِيفَاءِ وَغَيْرِ الْإِيفَاءِ فَكَانَ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْعَمَلِ بِالنَّصِّ ، فَلَمَّا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِصَرِيحِ الْبَيَانِ مِنْ الطَّالِبِ فِي ذَلِكَ سَقَطَ الْعَمَلُ بِالِاسْتِدْلَالِ وَإِنْ كَانَ وَاضِحًا فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْمُرَادِ ، وَكَوْنُهُ غَيْرَ صَرِيحٍ فِي الْإِيفَاءِ وَالْإِبْرَاءِ هُوَ الَّذِي سَوَّغَ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ
الْمُجْمَلِ ، وَالرُّجُوعُ إلَى بَيَانِ الطَّالِبِ صَرِيحًا وَقْتَ حُضُورِهِ لِيَكُونَ الْعَمَلُ بِهِ عَمَلًا بِدَلِيلٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ ، وَهَذَا تَطْوِيلٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمُجْمَلِ الْمُجْمَلَ الِاصْطِلَاحِيَّ ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُجْمَلَ اللُّغَوِيَّ وَهُوَ مَا كَانَ فِيهِ إبْهَامٌ فَالْخَطْبُ إذًا يَهُونُ هَوْنًا .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ ) لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ كَمَا فِي سَائِرِ الْبَرَاءَاتِ .
وَيُرْوَى أَنَّهُ يَصِحُّ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةَ دُونَ الدَّيْنِ فِي الصَّحِيحِ فَكَانَ إسْقَاطًا مَحْضًا كَالطَّلَاقِ ، وَلِهَذَا لَا يَرْتَدُّ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْكَفِيلِ بِالرَّدِّ بِخِلَافِ إبْرَاءِ الْأَصِيلِ .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ إلَخْ ) تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ الْكَفَالَةِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِإِسْقَاطٍ مَحْضٍ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ كَمَا فِي سَائِرِ الْبَرَاءَاتِ ، وَالتَّعْلِيقُ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْإِسْقَاطِ الْمَحْضِ .
وَرُدَّ بِمَا لَوْ كَفَلَ بِالْمَالِ وَبِالنَّفْسِ وَقَالَ إنْ وَافَيْتُك بِهِ غَدًا فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ الْمَالِ فَوَافَاهُ مِنْ الْغَدِ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْمَالِ فَقَدْ جُوِّزَ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ بِمُوَافَاةِ الْمَكْفُولِ بِهِ ، وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْإِيضَاحِ .
وَيُرْوَى أَنَّهُ يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهَا إسْقَاطٌ مَحْضٌ كَالطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ عَلَى الْكَفِيلِ الْمُطَالَبَةَ دُونَ الدَّيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَلِهَذَا لَا يَرْتَدُّ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْكَفِيلِ بِالرَّدِّ بِخِلَافِ إبْرَاءِ الْأَصِيلِ وَالْإِسْقَاطُ الْمَحْضُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ .
وَقِيلَ فِي وَجْهِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ إنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ الشَّرْطُ شَرْطًا مَحْضًا لَا مَنْفَعَةَ لِلطَّالِبِ فِيهِ أَصْلًا كَقَوْلِهِ إذَا جَاءَ غَدٌ وَنَحْوُهُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِشَرْطٍ لَيْسَ لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ بِشَرْطٍ فِيهِ نَفْعٌ لِلطَّالِبِ وَلَهُ تَعَامُلٌ فَتَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ بِهِ صَحِيحٌ كَالْمَسْأَلَةِ الْمَنْقُولَةِ مِنْ الْإِيضَاحِ فَإِنَّ الطَّالِبَ لَهُ فِيهِ نَفْعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْرَاءِ بَعْضٍ وَاسْتِيفَاءِ بَعْضٍ وَمِثْلُهُ مُتَعَامَلٌ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ إذَا قَالَ عَجِّلْ خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنِّي أَبْرَأْتُك مِنْ الْبَاقِي كَانَ صَحِيحًا ، وَإِنْ عَلَّقَ الْبَرَاءَةَ عَلَى الْبَعْضِ بِتَعْجِيلِ الْبَعْضِ فَرِوَايَةُ عَدَمِ الْجَوَازِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ الشَّرْطُ شَرْطًا مَحْضًا غَيْرَ مُتَعَامَلٍ وَرِوَايَةُ الْجَوَازِ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ .
قَالَ ( وَكُلُّ حَقٍّ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْكَفِيلِ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ) مَعْنَاهُ بِنَفْسِ الْحَدِّ لَا بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ إيجَابُهُ عَلَيْهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ لَا تَجْرِي فِيهَا النِّيَابَةُ .قَالَ ( وَكُلُّ حَقٍّ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْكَفِيلِ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ إلَخْ ) ذَكَرَ ضَابِطًا لِمَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا يُمْكِنُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ إمْكَانَ الضَّرْبِ أَوْ حَزِّ الرَّقَبَةِ لَيْسَ بِمُنْتَفٍ لَا مَحَالَةَ لَكِنَّهُ لَا يَصِحُّ شَرْعًا ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِعَدَمِ الْإِمْكَانِ مُبَالَغَةً فِي نَفْيِ الصِّحَّةِ ، فَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ عَنْ آخَرَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ لَمْ تَصِحَّ كَفَالَتُهُ حَيْثُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ يَعْتَمِدُ الْإِيجَابَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ .
إذْ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ ، إمَّا أَنْ يَكُونَ أَصَالَةً وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ ، أَوْ نِيَابَةً وَهِيَ لَا تَجْرِي فِي الْعُقُوبَاتِ .
قَالُوا : ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الزَّجْرُ وَهُوَ بِالْإِقَامَةِ عَلَى النَّائِبِ لَا يَحْصُلُ وَفِيهِ تَشْكِيكٌ ، وَهُوَ أَنَّ الزَّجْرَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْجَانِي بِأَنْ لَا يَعُودَ إلَى مِثْلِ مَا فَعَلَ أَوْ لِغَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ كَمَا تَرَى بَعْضَ الْمُتَهَتِّكِينَ يَعُودُونَ إلَى الْجِنَايَةِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَقَدْ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالْإِقَامَةِ عَلَى النَّائِبِ هَذَا فِي الْحُدُودِ وَأَمَّا فِي الْقِصَاصِ فَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ قَطْعًا لِعَدَمِ تَصَوُّرِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَصْلًا لَا مَحَالَةَ .
وَالثَّانِي كَمَا فِي الْحَدِّ وَلَعَلَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ أَوْلَى ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهِ خِلَافٌ فِي جَرَيَانِهَا فِي الْعُقُوبَاتِ فَيَكُونُ التَّشْكِيكُ حِينَئِذٍ تَشْكِيكًا فِي الْمُسَلَّمَاتِ وَهُوَ غَيْرُ مَسْمُوعٍ .
قَالَ ( وَإِذَا تَكَفَّلَ عَنْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ جَازَ ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ كَسَائِرِ الدُّيُونِ ( وَإِنْ تَكَفَّلَ عَنْ الْبَائِعِ بِالْمَبِيعِ لَمْ تَصِحَّ ) لِأَنَّهُ عَيْنُ مَضْمُونٍ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ وَالْكَفَالَةُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ وَإِنْ كَانَتْ تَصِحُّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، لَكِنْ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا كَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمَغْصُوبِ ، لَا بِمَا كَانَ مَضْمُونًا بِغَيْرِهِ كَالْمَبِيعِ وَالْمَرْهُونِ ، وَلَا بِمَا كَانَ أَمَانَةً كَالْوَدِيعَةِ وَالْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجَرِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ .
وَلَوْ كَفَلَ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ إلَى الرَّاهِنِ أَوْ بِتَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ جَازَ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ فِعْلًا وَاجِبًا .
قَالَ ( وَإِذَا تَكَفَّلَ عَنْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ جَازَ إلَخْ ) الْكَفَالَةُ بِالثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ صَحِيحٌ كَسَائِرِ الدُّيُونِ ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذِكْرُهُ تَمْهِيدًا لِذِكْرِ الْكَفَالَةِ بِالْمَبِيعِ وَالْأَعْيَانِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَعْيَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَوَازِ الْكَفَالَةِ بِهَا تَنْقَسِمُ بِالْقِسْمَةِ الْأَوَّلِيَّةِ إلَى مَا هُوَ أَمَانَةٌ لَا يُضْمَنُ كَالْوَدِيعَةِ وَالْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجَرِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ ، وَإِلَى مَا هُوَ مَضْمُونٌ .
ثُمَّ الْمَضْمُونُ يَنْقَسِمُ إلَى مَا هُوَ مَضْمُونٌ بِغَيْرِهِ كَالْمَبِيعِ وَالْمَرْهُونِ ، وَإِلَى مَا هُوَ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ كَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمَغْصُوبُ وَالْكَفَالَةُ بِهَا كُلِّهَا إمَّا أَنْ تَكُونَ بِذَوَاتِهَا أَوْ بِتَسْلِيمِهَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ فِيمَا يَكُونُ أَمَانَةً أَوْ مَضْمُونًا بِالْغَيْرِ ، وَتَصِحُّ فِيمَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِنَفْسِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَعَلَى هَذَا لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالْمَبِيعِ عَنْ الْبَائِعِ بِأَنْ يَقُولَ الْكَفِيلُ لِلْمُشْتَرِي إنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فَعَلَيَّ بَدَلُهُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ ، وَلَا بِالْمَرْهُونِ ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ ، وَلَا الْوَدِيعَةِ وَالْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجَرِ ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ .
وَتَجُوزُ فِي الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمَغْصُوبِ .
وَيَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ مَادَامَ قَائِمًا ، وَتَسْلِيمُ قِيمَتِهِ عِنْدَ الْهَلَاكِ ؛ لِأَنَّهَا أَعْيَانٌ مَضْمُونَةٌ بِعَيْنِهَا ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ تَجِبَ قِيمَتُهَا عِنْدَ الْهَلَاكِ ، وَمَا لَمْ تَجِبْ قِيمَتُهُ عِنْدَ الْهَلَاكِ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِغَيْرِهِ كَمَا مَرَّ ، وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكَفَالَةَ بِالْأَعْيَانِ مُطْلَقًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ مُوجِبَ الْكَفَالَةِ الْتِزَامُ أَصْلِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ
فَكَانَ مَحَلُّهَا الدُّيُونَ دُونَ الْأَعْيَانِ ، وَأَنَّ شَرْطَ صِحَّتِهَا قُدْرَةُ الْكَفِيلِ عَلَى الْإِيفَاءِ مِنْ عِنْدِهِ وَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ فِي الدُّيُونِ دُونَ الْأَعْيَانِ .
وَقُلْنَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا إنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ ، وَالْمُطَالَبَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ مَضْمُونًا عَلَى الْأَصِيلِ لَا مَحَالَةَ ، وَالْأَمَانَاتُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ ، وَالْمَضْمُونُ بِغَيْرِهِ كَالْمَبِيعِ الْمَضْمُونِ بِالثَّمَنِ ، وَالْمَرْهُونُ الْمَضْمُونُ بِالدَّيْنِ وَالْقِيمَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ سَقَطَ الثَّمَنُ وَانْفَسَخَ الْعَقْدُ ، وَلَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ وَلَا تَلْزَمُهُ مُطَالَبَتُهُ فَلَا تُتَصَوَّرُ الْكَفَالَةُ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي : أَعْنِي الْكَفَالَةَ بِتَسْلِيمِ الْأَعْيَانِ الْمَذْكُورَةِ ، فَمَا كَانَ مَضْمُونًا بِغَيْرِهِ كَالْمَبِيعِ إذَا كَفَلَ بِتَسْلِيمِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ بَعْدَ نَقْدِ الثَّمَنِ ، وَالْمَرْهُونُ إذَا كَفَلَ عَنْ الْمُرْتَهِنِ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الرَّاهِنِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمُرْتَهِنِ الدَّيْنَ جَازَ .
وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ الْكَفَالَةَ عَنْ الْمُرْتَهِنِ لِلرَّاهِنِ لَا تَصِحُّ سَوَاءٌ حَصَلَتْ الْكَفَالَةُ بِعَيْنِ الرَّهْنِ أَوْ بِرَدِّهِ حَتَّى قَضَى الدَّيْنَ ، وَلَعَلَّ مَحْمَلَهُ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ ، فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْفَسَخَ وَوَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ رَدُّ الثَّمَنِ ، وَالْكَفِيلُ لَا يَضْمَنُ الثَّمَنَ ، وَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الرَّهْنِ إنْ كَانَ بِمِقْدَارِ الدَّيْنِ أَوْ زَائِدًا عَلَيْهِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِيَّتِهِ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَلَا ضَمَانَ فِيهَا .
وَمَا كَانَ أَمَانَةً فَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاجِبِ التَّسْلِيمِ كَالْوَدِيعَةِ وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا عَدَمُ الْمَنْعِ عِنْدَ الطَّلَبِ لَا التَّسْلِيمِ ، وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ
بِتَسْلِيمِهِ لِعَدَمِ وُجُوبِهِ ، كَمَا لَا تَجُوزُ بِعَيْنِهَا ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبَ التَّسْلِيمِ كَالْمُسْتَأْجَرِ بِفَتْحِ الْجِيمِ إذَا ضَمِنَ رَجُلٌ تَسْلِيمَهُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً وَعَجَّلَ الْأَجْرَ وَلَمْ يَقْبِضْهَا وَكَفَلَ لَهُ بِذَلِكَ كَفِيلٌ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ وَالْكَفِيلُ مُؤَاخَذٌ بِتَسْلِيمِهَا مَا دَامَتْ حَيَّةً فَإِنْ هَلَكَتْ فَلَيْسَ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ انْفَسَخَتْ وَخَرَجَ الْأَصِيلُ عَنْ كَوْنِهِ مُطَالَبًا بِتَسْلِيمِهَا ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ رَدُّ الْأَجْرِ وَالْكَفِيلِ مَا كَفَلَ بِهِ ، وَتَرَكَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ذِكْرَ الْمُسْتَعَارِ كَمَا تَرَكَ ذِكْرَ الْوَدِيعَةِ إشَارَةً إلَى عَدَمِ جَوَازِهِ ، وَأَظُنُّهُ تَابَعَ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيَّ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ : الْكَفَالَةُ بِتَسْلِيمِ الْعَارِيَّةُ بَاطِلَةٌ ، قِيلَ وَهَذَا لَيْسَ بِصَوَابٍ ، فَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَامِعِ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِتَسْلِيمِ الْعَارِيَّةِ صَحِيحَةٌ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ لَيْسَ مِمَّنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى الْجَامِعِ بَلْ لَعَلَّهُ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى رِوَايَةٍ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ فَاخْتَارَهَا ( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ الْتَزَمَ فِعْلًا وَاجِبًا ) دَلِيلٌ لِمَا ذَكَرَهُ ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا يَكُونُ وَاجِبَ التَّسْلِيمِ وَمَا لَا يَكُونُ .
كَمَا فَصَّلْنَاهُ .
قَالَ ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلْحَمْلِ عَلَيْهَا ، فَإِنْ كَانَتْ بِعَيْنِهَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ ) لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهُ ( وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا جَازَتْ الْكَفَالَةُ ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْحَمْلُ عَلَى دَابَّةِ نَفْسِهِ وَالْحَمْلُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ ( وَكَذَا مَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ فَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِخِدْمَتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ ) لِمَا بَيَّنَّا .( قَوْلُهُ : وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلْحَمْلِ ) عُلِمَ أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مُعَيَّنَةً لِلْحَمْلِ فَكَفَلَ بِتَسْلِيمِهَا رَجُلٌ صَحَّتْ لِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ لِلْحَمْلِ فَكَفَلَ رَجُلٌ بِالْحَمْلِ فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ الْحَمْلُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ بِالْحَمْلِ عَلَى دَابَّةِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا مُعَيَّنَةً لِلْحَمْلِ فَكَفَلَ بِالْحَمْلِ لَمْ يَصِحَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْكَفِيلَ ( عَاجِزٌ عَنْهُ ) أَيْ عَنْ الْحَمْلِ عَلَى الدَّابَّةِ الْمُعَيَّنَةِ ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ الْمُعَيَّنَةَ لَيْسَتْ فِي مِلْكِهِ ، وَالْحَمْلُ عَلَى دَابَّةِ نَفْسِهِ لَيْسَ بِحَمْلٍ عَلَى تِلْكَ الدَّابَّةِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْقُدْرَةِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مِلْكَ الْغَيْرِ لَوْ مَنَعَ صِحَّتَهَا لَمَا صَحَّتْ بِالْأَعْيَانِ مُطْلَقًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهَا فِي الْأَعْيَانِ مُطْلَقًا ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْإِيضَاحِ جَوَابًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : تَسْلِيمُ مَا الْتَزَمَهُ مُتَصَوَّرٌ فِي الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ فِي الْجُمْلَةِ فَصَحَّ الْتِزَامُهُ ؛ لِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ بِعَقْدِهِ يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّصَوُّرُ غَيْرَ دَافِعٍ ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ مَا الْتَزَمَهُ مُتَصَوَّرٌ فِي الْجُمْلَةِ فَكَانَ الْوَاجِبُ صِحَّتَهَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَيْضًا ( وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ لِلْخِدْمَةِ فَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِخِدْمَتِهِ لَمْ تَصِحَّ لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّهُ عَاجِزٌ عَمَّا كَفَلَ بِهِ .
قَالَ ( وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ آخِرًا : يَجُوزُ إذَا بَلَغَهُ أَجَازَ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْإِجَازَةَ ، وَالْخِلَافُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا .
لَهُ أَنَّهُ تَصَرُّفُ الْتِزَامٍ فَيَسْتَبِدُّ بِهِ الْمُلْتَزِمُ ، وَهَذَا وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ .
وَوَجْهُ التَّوَقُّفِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْفُضُولِيِّ فِي النِّكَاحِ .
وَلَهُمَا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمُطَالَبَةِ مِنْهُ فَيَقُومُ بِهِمَا جَمِيعًا وَالْمَوْجُودُ شَطْرُهُ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ ( إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ تَكَفَّلْ عَنِّي بِمَا عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ فَكَفَلَ بِهِ مَعَ غَيْبَةِ الْغُرَمَاءِ جَازَ ) لِأَنَّ ذَلِكَ وَصِيَّةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا تَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْمَكْفُولَ لَهُمْ ، وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّمَا تَصِحُّ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ أَوْ يُقَالُ إنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الطَّالِبِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ تَفْرِيغًا لِذِمَّتِهِ وَفِيهِ نَفْعُ الطَّالِبِ فَصَارَ كَمَا إذَا حَضَرَ بِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِهَذَا اللَّفْظِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقُ دُونَ الْمُسَاوَمَةِ ظَاهِرًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَصَارَ كَالْأَمْرِ بِالنِّكَاحِ ، وَلَوْ قَالَ الْمَرِيضُ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ .
قَالَ ( وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ إلَخْ ) لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا ، وَقَالَ آخِرًا : تَجُوزُ إذَا أَجَازَ حِينَ بَلَغَهُ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْإِجَازَةَ .
قِيلَ : أَيْ نُسَخِ كَفَالَةِ الْمَبْسُوطِ .
وَفِيهِ تَنْوِيهٌ بِأَنَّ نُسَخَ كَفَالَةِ الْمَبْسُوطِ لَمْ تَتَعَدَّدْ وَإِنَّمَا هِيَ نُسْخَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَالْمَوْجُودُ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ يَدُلُّ عَلَى تَرْكِهِ فِي بَعْضٍ أَوْ زِيَادَتِهِ فِي آخَرَ ، وَذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَجُوزُ ، ثُمَّ قَالَ : وَذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ ، فَشَرَطَ الْإِجَازَةَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ فِي بَعْضِ مَوَاضِعِ نُسَخِ الْمَبْسُوطِ ، وَهَذَا الْخِلَافُ ثَابِتٌ بَيْنَهُمْ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا .
لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي وَجْهِ الرِّوَايَةِ الَّتِي لَمْ تَشْتَرِطْ الْإِجَازَةَ فِيهَا أَنَّهُ تَصَرُّفُ الْتِزَامٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَسْتَبِدُّ بِهِ الْمُلْتَزِمُ كَالْإِقْرَارِ وَالنَّذْرِ فَهَذَا يَسْتَبِدُّ بِهِ الْمُلْتَزِمُ وَمُنِعَ كَوْنُهُ الْتِزَامًا فَقَطْ ، وَبِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ وَاجِبٍ سَابِقٍ وَالْإِخْبَارُ يَتِمُّ بِالْمُخْبَرِ وَالنَّذْرُ مِنْ الْعِبَادَاتِ ، وَمَنْ لَهُ الْعِبَادَاتُ لَا يَشْتَرِطُ قَبُولَهُ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ .
وَلَهُ فِي وَجْهٍ رِوَايَةُ التَّوَقُّفِ عَلَى الْإِجَازَةِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْفُضُولِيِّ فِي النِّكَاحِ وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ كَلَامُ الْوَاحِدِ كَالْعَقْدِ التَّامِّ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي هَذَا التَّوَقُّفِ عَلَى أَحَدٍ ، وَمَنْعُ عَدَمِ الضَّرَرِ بِجَوَازِ رَفْعِ الْأَمْرِ إلَى قَاضٍ يَرَى بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ عَنْ حَقِّ الطَّالِبِ ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْكَفَالَةَ إذَا صَحَّتْ بَرِئَ الْأَصِيلُ وَفِي
ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى الطَّالِبِ .
وَلَهُمَا أَنَّ فِي عَقْدِ الْكَفَالَةِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَمْلِيكَ الْمُطَالَبَةِ مِنْ الطَّالِبِ فَلَا يَتِمُّ بَعْدَ الْإِيجَابِ إلَّا بِالْقَبُولِ ، وَالْمَوْجُودُ شَطْرُ الْعَقْدِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَبِلَهُ عَنْ الطَّالِبِ فُضُولِيٌّ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَتِهِ لِوُجُودِ شَطْرَيْهِ .
قَالَ ( إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ إلَخْ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ : لَا يَصِحُّ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ اسْتِحْسَانًا .
وَالْقِيَاسُ عَدَمُهَا لِمَا مَرَّ أَنَّ الطَّالِبَ غَيْرُ حَاضِرٍ فَلَا يَتِمُّ الضَّمَانُ إلَّا بِقَبُولِهِ ، وَلِأَنَّ الصَّحِيحَ لَوْ قَالَ ذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ لَمْ يَصِحَّ فَكَذَا الْمَرِيضُ .
وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ إذَا قَالَ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ تَكَفَّلْ عَنِّي بِمَا عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَوْفِ عَنِّي دَيْنِي وَذَلِكَ وَصِيَّةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْمَكْفُولَ لَهُمْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ جَهَالَةَ الْمَكْفُولِ لَهُ تُفْسِدُ الْكَفَالَةَ ، وَلِهَذَا قَالَ الْمَشَايِخُ : إنَّمَا تَصِحُّ هَذِهِ الْكَفَالَةُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ عِنْدَ الْمَوْتِ تَصْحِيحًا لِمَعْنَى الْوَصِيَّةِ ، وَإِذَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا لَا يَكُونُ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطًا .
قِيلَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ لَا أَنَّهُ وَصِيَّةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ بَيْنَ حَالَةِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ .
وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : لِأَنَّ ذَلِكَ وَصِيَّةٌ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ فِيمَا إذَا دَلَّ لَفْظٌ بِظَاهِرِهِ عَلَى مَعْنًى وَإِذَا نَظَرَ فِي مَعْنَاهُ يَئُولُ إلَى مَعْنًى آخَرَ ، وَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ
يَقُولَ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ أَوْ وَصِيَّةٌ فِي الْحَقِيقَةِ .
وَالثَّانِي أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمَرِيضَ قَائِمٌ مَقَامَ الطَّالِبِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ : أَيْ إلَى قِيَامِهِ مَقَامَهُ لِوُجُودِ مَا يَقْتَضِيهِ مِنْ نَفْعِ الْمَرِيضِ بِتَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ بِوُجُودِ مَا يُنَافِيهِ مِنْ نَفْعِ الطَّالِبِ فَصَارَ كَأَنَّ الطَّالِبَ قَدْ حَضَرَ بِنَفْسِهِ وَقَالَ لِلْوَارِثِ تَكَفَّلْ عَنْ أَبِيك لِي .
فَإِنْ قِيلَ : قِيَامُهُ مَقَامَ الطَّالِبِ وَحُضُورُهُ بِنَفْسِهِ لَيْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ وَإِنَّمَا هُوَ اشْتِرَاطُ الْقَبُولِ وَهُوَ لَيْسَ بِشَرْطٍ هَاهُنَا .
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقُ ) أَيْ الْمَرِيضُ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ تَكَفَّلْ عَنِّي تَحْقِيقَ الْكَفَالَةِ لَا الْمُسَاوَمَةَ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ حَالَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا فَصَارَ كَالْأَمْرِ بِالنِّكَاحِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَةٍ زَوِّجِينِي نَفْسَك فَقَالَتْ زَوَّجْت فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمَا زَوَّجْت وَقَبِلْت ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ صَرِيحُ الْقَبُولِ يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلِاسْتِثْنَاءِ ، وَتَمْثِيلُهُ بِالْأَمْرِ بِالنِّكَاحِ يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ لَفْظٍ وَاحِدٍ مَقَامَهُمَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَسْلَكَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
قَالَ ( وَلَوْ قَالَ الْمَرِيضُ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ إلَخْ ) إذَا قَالَ الْمَرِيضُ لِأَجْنَبِيٍّ تَكَفَّلْ عَنِّي بِمَا عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ فَفَعَلَ الْأَجْنَبِيُّ ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُصَحِّحْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ لَا فِي الْحَيَاةِ وَلَا بَعْدَ مَوْتِهِ بِدُونِ الِالْتِزَامِ فَكَانَ الْمَرِيضُ وَالصَّحِيحُ فِي حَقِّهِ سَوَاءً ، وَلَوْ قَالَ الصَّحِيحُ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ أَوْ لِوَارِثِهِ لَمْ يَصِحَّ بِدُونِ قَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ ، فَكَذَا الْمَرِيضُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ قَصَدَ بِهِ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ
وَالْأَجْنَبِيُّ إذَا قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ يَرْجِعُ فِي تَرِكَتِهِ فَيَصِحُّ هَذَا مِنْ الْمَرِيضِ عَلَى أَنْ يُجْعَلَ قَائِمًا مَقَامَ الطَّالِبِ لِتَضَيُّقِ الْحَالِ عَلَيْهِ بِمَرَضِ الْمَوْتِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ مِنْ الصَّحِيحِ فَتَرَكْنَاهُ عَلَى الْقِيَاسِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ كَمَا هُوَ الْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ ، وَلِهَذَا جَازَ مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ ، وَجَوَازُ ذَلِكَ فِي الْمَرَضِ لِلضَّرُورَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْجَوَازَ مِنْ الصَّحِيحِ لِعَدَمِهَا .
قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا فَتَكَفَّلَ عَنْهُ رَجُلٌ لِلْغُرَمَاءِ لَمْ تَصِحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : تَصِحُّ ) لِأَنَّهُ كَفَلَ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِحَقِّ الطَّالِبِ ، وَلَمْ يُوجَدْ الْمُسْقِطُ وَلِهَذَا يَبْقَى فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ ، وَلَوْ تَبَرَّعَ بِهِ إنْسَانٌ يَصِحُّ ، وَكَذَا يَبْقَى إذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ أَوْ مَالٌ .
وَلَهُ أَنَّهُ كَفَلَ بِدَيْنٍ سَاقِطٍ لِأَنَّ الدَّيْنَ هُوَ الْفِعْلُ حَقِيقَةً وَلِهَذَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ .
لَكِنَّهُ فِي الْحُكْمِ مَالٌ لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَيْهِ فِي الْمَآلِ وَقَدْ عَجَزَ بِنَفْسِهِ وَبِخَلَفِهِ فَفَاتَ عَاقِبَةُ الِاسْتِيفَاءِ فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً ، وَالتَّبَرُّعُ لَا يَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ ، وَإِذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ أَوْ لَهُ مَالٌ فَخَلَفَهُ أَوْ الْإِفْضَاءُ إلَى الْأَدَاءِ بَاقٍ .
قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ إلَخْ ) إذَا مَاتَ الْمَدْيُونُ مُفْلِسًا وَلَمْ يَكُنْ عَنْهُ كَفِيلٌ فَكَفَلَ عَنْهُ بِدَيْنِهِ إنْسَانٌ وَارِثًا كَانَ أَوْ أَجْنَبِيًّا لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : هِيَ صَحِيحَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْكَفِيلَ قَدْ كَفَلَ بِدَيْنٍ صَحِيحٍ ثَابِتٍ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ ، وَكُلُّ كَفَالَةٍ هَذَا شَأْنُهَا فَهِيَ صَحِيحَةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَهَذِهِ صَحِيحَةٌ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا كَفَلَ بِدَيْنٍ صَحِيحٍ ثَابِتٍ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ دَيْنًا صَحِيحًا هُوَ الْمَفْرُوضُ ، وَثُبُوتُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الدُّنْيَا أَوْ الْآخِرَةِ .
لَا كَلَامَ فِي ثُبُوتِهِ وَبَقَائِهِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ ، وَأَمَّا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَهُوَ ثَابِتٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِحَقِّ الطَّالِبِ بِلَا خِلَافٍ ، وَمَا وَجَبَ لَا يَنْتَفِي إلَّا بِإِبْرَاءِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ أَوْ بِأَدَاءِ مَنْ عَلَيْهِ أَوْ بِفَسْخِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَالْمَفْرُوضُ عَدَمُ ذَلِكَ كُلِّهِ ، فَدَعْوَى سُقُوطِهِ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ عَنْ الدَّلِيلِ ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ بِهِ إنْسَانٌ صَحَّ ، وَلَوْ بَرِئَ الْمُفْلِسُ بِالْمَوْتِ عَنْ الدَّيْنِ لَمَا حَلَّ لِصَاحِبِهِ الْأَخْذُ مِنْ الْمُتَبَرِّعِ ، وَإِذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ أَوْ لَهُ مَالٌ فَإِنَّ الدَّيْنَ بَاقٍ بِالِاتِّفَاقِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَوْتَ لَا يُغَيِّرُ وَصْفَ الثُّبُوتِ ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ مَاتَ مُفْلِسًا قَبْلَ أَدَاءِ الثَّمَنِ لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ ؛ وَلَوْ هَلَكَ الثَّمَنُ الَّذِي هُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ مُفْلِسًا لَبَطَلَ الْعَقْدُ كَمَنْ اشْتَرَى بِفُلُوسٍ فِي الذِّمَّةِ فَكَسَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ بِهَلَاكِ الثَّمَنِ ، وَلَمَّا لَمْ يَبْطُلْ هَاهُنَا عُلِمَ أَنَّ الدَّيْنَ بَاقٍ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الدَّيْنَ سَاقِطٌ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ هُوَ الْفِعْلُ حَقِيقَةً
وَكُلُّ فِعْلٍ يَقْتَضِي الْقُدْرَةَ ، وَالْقُدْرَةُ إنَّمَا تَكُونُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِخَلَفِهِ وَقَدْ انْتَفَتْ بِانْتِفَائِهِمَا فَانْتَفَى الدَّيْنُ ضَرُورَةً ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ الدَّيْنُ هُوَ الْفِعْلُ حَقِيقَةً أَنَّ الْمَقْصُودَ الْفَائِدَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْهُ هُوَ فِعْلُ الْأَدَاءِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ وَصْفُهُ بِالْوُجُوبِ ، يُقَالُ دَيْنٌ وَاجِبٌ كَمَا يُقَالُ الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ ، وَالْوَصْفُ بِالْوُجُوبِ حَقِيقَةٌ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَفْعَالِ فَإِنْ قُلْت : لَزِمَ حِينَئِذٍ قِيَامُ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ بِاتِّفَاقِ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ السُّنَّةِ فَعَلَيْك بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْجَوَابِ فِي التَّقْرِيرِ فِي بَابِ صِفَةِ الْحُسْنِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ ، وَإِنْ قُلْت فَقَدْ يُقَالُ الْمَالُ وَاجِبٌ أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( لَكِنَّهُ ) أَيْ الدَّيْنَ ( فِي الْحُكْمِ مَالٌ ) ؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي الْخَارِجِ لَيْسَ إلَّا بِتَمْلِيكِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَالِ ، فَوَصْفُ الْمَالِ بِالْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ الْمَوْصُوفَ بِهِ يَئُولُ إلَيْهِ فِي الْمَالِ فَكَانَ وَصْفًا مَجَازِيًّا ، فَإِنْ قُلْت : الْعَجْزُ بِنَفْسِهِ وَبِخَلَفِهِ يَدُلُّ عَلَى تَعَذُّرِ الْمُطَالَبَةِ مِنْهُ وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الدَّيْنِ فِي نَفْسِهِ كَمَنْ كَفَلَ عَنْ عَبْدٍ مَحْجُورٍ أَقَرَّ بِدَيْنٍ فَإِنَّهَا تَصِحُّ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الْمُطَالَبَةُ فِي حَالَةِ الرِّقِّ .
قُلْنَا : غَلِطَ بِعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ ذِمَّةٍ صَالِحَةٍ لِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَيْهَا ضَعُفَتْ بِالرِّقِّ وَبَيْنَ ذِمَّةٍ خَرِبَتْ بِالْمَوْتِ وَلَمْ تَبْقَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ عَلَيْهَا ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ كَمَا تَرَى يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ دَلِيلَ أَبِي حَنِيفَةَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ وَلَوْ أَخْرَجَهُ إلَى سَبِيلِ الْمُمَانَعَةِ بِأَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّيْنَ ثَابِتٌ بَلْ هُوَ سَاقِطٌ ، وَسَيَذْكُرُ السَّنَدَ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ الدَّيْنَ هُوَ الْفِعْلُ كَانَ أَحَذَقَ فِي وُجُوهِ النَّظَرِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُحَصِّلِينَ وَتَنَبَّهْ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ وَاسْتَغْنِ عَنْ إعَادَتِهَا
فِيمَا هُوَ نَظِيرُهُ فِيمَا سَيَأْتِي .
( قَوْلُهُ : وَالتَّبَرُّعُ لَا يَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ ) جَوَابٌ عَمَّا قَالَا وَلَوْ تَبَرَّعَ بِهِ إنْسَانٌ صَحَّ يَعْنِي أَنَّ التَّبَرُّعَ لَا يَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَأَنَا كَفِيلٌ بِهِ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ وَعَلَيْهِ أَدَاؤُهُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الدَّيْنُ أَصْلًا ؛ وَلِأَنَّ بُطْلَانَ الدَّيْنِ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ لَا الْمُسْتَحِقِّ ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ يُخْرِجُ مَنْ قَامَ بِهِ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ ، وَإِذَا كَانَ بَاقِيًا فِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِدَيْنِهِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ الْغَيْرُ ، وَعَلَى هَذَا لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا لِبَقَائِهِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ ، فَإِنَّ السُّقُوطَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ لِضَرُورَةِ فَوْتِ الْمَحَلِّ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ ، بِخِلَافِ الْفُلُوسِ إذَا كَسَدَتْ فَإِنَّ الْمِلْكَ قَدْ بَطَلَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي فَلِذَلِكَ اُنْتُقِضَ الْعَقْدُ ( قَوْلُهُ : وَإِذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَكَذَا يَبْقَى إذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ أَوْ لَهُ مَالٌ .
وَبَيَانُهُ أَنَّ الْقُدْرَةَ شَرْطُ الْفِعْلِ إمَّا بِنَفْسِ الْقَادِرِ أَوْ بِخَلَفِهِ ، وَإِذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ أَوْ لَهُ مَالٌ ، فَإِنْ انْتَفَى الْقَادِرُ فَخَلَفُهُ وَهُوَ الْوَكِيلُ أَوْ الْمَالُ فِي حَقِّ بَقَاءِ الدَّيْنِ بَاقٍ ( قَوْلُهُ : أَوْ الْإِفْضَاءُ ) عَلَى مَا هُوَ السَّمَاعُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ النُّسَخِ تُنَزَّلُ ، وَكَأَنَّهُ قَالَ الْكَفِيلُ وَالْمَالُ إنْ لَمْ يَكُونَا خَلَفَيْنِ فَالْإِفْضَاءُ ( إلَى الْأَدَاءِ ) بِوُجُودِهِمَا ( بَاقٍ ) بِخِلَافِ مَا إذَا عَدِمَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ لَفٌّ وَنَشْرٌ .
وَتَقْدِيرُهُ فَخَلَفُهُ وَهُوَ الْوَكِيلُ أَوْ الْإِفْضَاءُ إلَى مَا يُفْضِي إلَى الْأَدَاءِ وَهُوَ الْمَالُ بَاقٍ ، وَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ فِي الْقُدْرَةِ ، إمَّا نَفْسُ الْقَادِرِ أَوْ خَلَفُهُ أَوْ مَا يُفْضِي إلَى الْأَدَاءِ ، وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ إذْ الْإِفْضَاءُ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ فَخَلَفُهُ ، وَعَلَى
هَذَا يَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَخَلَفُهُ بَاقٍ حَذَفَهُ لِدَلَالَةِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدَك رَاضٍ ، وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفٌ وَمَعْنَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَفِيلِ وَالْمَالِ خَلَفٌ لِلْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ رَجَاءَ الْأَدَاءِ مِنْهُمَا بَاقٍ ، فَإِنَّ الْخَلَفَ مَا بِهِ يَحْصُلُ كِفَايَةُ أَمْرِ الْأَصْلِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَهُمَا كَذَلِكَ فَكَانَا خَلَفَيْنِ ، وَفِيهِ مَا تَرَى مِنْ التَّكَلُّفِ مَعَ الْغُنْيَةِ عَنْهُ بِالْأُولَى .
فَإِنْ قِيلَ : إنْ اسْتَدَلَّ الْخَصْمُ بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الزَّعِيمُ غَارِمٌ } فَإِنَّهُ لَا يُفْصَلُ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ ، وَبِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُتِيَ بِجِنَازَةِ أَنْصَارِيٍّ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : فَهَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ دِرْهَمَانِ أَوْ دِينَارَانِ ، فَامْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَقَالَ : صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ ، فَقَامَ عَلِيٌّ أَوْ أَبُو قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ وَقَالَ هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } " وَلَوْ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ لَمَا صَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَهَا كَمَا امْتَنَعَ قَبْلَهَا فَمَاذَا يَكُونُ جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ { الزَّعِيمُ غَارِمٌ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَفِيلَ يَغْرَمُ مَا كَفَلَ بِهِ ، وَالْكَلَامُ فِي كَفِيلِ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ هَلْ هُوَ زَعِيمٌ أَوْ لَا ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَنْصَارِيِّ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ عَلِيٍّ أَوْ أَبِي قَتَادَةَ إقْرَارًا بِكَفَالَةٍ سَابِقَةٍ ، فَإِنَّ لَفْظَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِيهِمَا سَوَاءٌ وَلَا عُمُومَ لِحِكَايَةِ الْحَالِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَعْدًا بِالتَّبَرُّعِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِجَوَازِهِ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ " { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَقُولُ لِعَلِيٍّ مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ ؟ حَتَّى
قَالَ يَوْمًا قَضَيْتهمَا فَقَالَ : الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدَتُهُ } وَلَمْ يُجْبِرْهُ عَلَى الْأَدَاءِ ، وَلَوْ كَانَ كَفَالَةً لَأَجْبَرَهُ عَلَى ذَلِكَ .
وَالْحَقُّ أَنَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ لَزِمَهُ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِ الْكَفَالَةِ عَنْ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ لِعَدَمِ مَا يُضَمُّ إلَيْهِ وَجَاحِدُهُ مُتَسَاهِلٌ حَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ الشَّرْعِ جَعْلُ الذِّمَّةِ الْمَعْدُومَةِ مَوْجُودَةً ، وَاَللَّهُ أَعْلَم .
قَالَ ( وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ فَقَضَاهُ الْأَلْفَ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ صَاحِبُ الْمَالِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ) لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْقَابِضِ عَلَى احْتِمَالِ قَضَائِهِ الدَّيْنَ فَلَا يَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ مَا بَقِيَ هَذَا الِاحْتِمَالُ ، كَمَنْ عَجَّلَ زَكَاتَهُ وَدَفَعَهَا إلَى السَّاعِي ، وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ عَلَى مَا نَذْكُرُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الدَّفْعُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ لِأَنَّهُ تَمَحَّضَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ ( وَإِنْ رَبِحَ الْكَفِيلُ فِيهِ فَهُوَ لَا يَتَصَدَّقُ بِهِ ) لِأَنَّهُ مَلَكَهُ حِينَ قَبَضَهُ ، أَمَّا إذَا قَضَى الدَّيْنَ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا إذَا قَضَى الْمَطْلُوبُ بِنَفْسِهِ وَثَبَتَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِأَنَّهُ وَجَبَ لَهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ مِثْلُ مَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنَّهُ أُخِّرَتْ الْمُطَالَبَةُ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ ، وَلِهَذَا لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلُ الْمَطْلُوبَ قَبْلَ أَدَائِهِ يَصِحُّ ، فَكَذَا إذَا قَبَضَهُ يَمْلِكُهُ إلَّا أَنَّ فِيهِ نَوْعَ خُبْثٍ نُبَيِّنُهُ فَلَا يُعْمَلُ مَعَ الْمِلْكِ فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ
قَالَ ( وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ إلَخْ ) رَجُلٌ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَمْرِهِ بِأَلْفٍ عَلَيْهِ فَقَضَى الْأَصِيلُ الْكَفِيلَ الْأَلْفَ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَ الْكَفِيلُ الْأَلْفَ صَاحِبَ الْمَالِ ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قَضَاهُ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِضَاءِ بِأَنْ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ وَقَالَ إنِّي لَا آمَنُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ الطَّالِبُ مِنْك حَقَّهُ فَخُذْهَا قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ فَقَبَضَهُ أَوْ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْأَصِيلُ لِلْكَفِيلِ خُذْ هَذَا الْمَالَ وَادْفَعْ إلَى الطَّالِبِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ لِلْأَصِيلِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا : أَيْ فِي الْأَلْفِ الْمَدْفُوعِ ، وَأَنَّثَهُ بِاعْتِبَارِ الدَّرَاهِمِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْقَابِضِ ، وَهُوَ الْكَفِيلُ عَلَى احْتِمَالِ قَضَائِهِ الدَّيْنَ فَمَا لَمْ يَبْطُلْ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِأَدَاءِ الْأَصِيلِ بِنَفْسِهِ حَقَّ الطَّالِبِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إذَا كَانَ لِغَرَضٍ لَا يَجُوزُ الِاسْتِرْدَادُ فِيهِ مَا دَامَ بَاقِيًا لِئَلَّا يَكُونَ سَعْيًا فِي نَقْضِ مَا أَوْجَبَهُ ، وَهَذَا كَمَنْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ وَدَفَعَهَا إلَى السَّاعِي ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ كَانَ لِغَرَضٍ وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ زَكَاةً بَعْدَ الْحَوْلِ ، فَمَا دَامَ الِاحْتِمَالُ بَاقِيًا لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ ؛ وَلِأَنَّ الْكَفِيلَ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِالْمُؤَدَّى حَقُّ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبُ يُبْطِلُ ذَلِكَ بِاسْتِرْدَادِهِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ ؛ لِأَنَّهُ تَمَحَّضَ فِي يَدِهِ أَمَانَةً ، فَإِنْ تَصَرَّفَ الْكَفِيلُ فِيمَا قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِضَاءِ وَرَبِحَ فِيهِ فَالرِّبْحُ لَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ حِينَ قَبَضَهُ ، وَالرِّبْحُ الْحَاصِلُ مِنْ مِلْكِهِ طَيِّبٌ لَهُ لَا مَحَالَةَ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ مَلَكَهُ حِينَ قَبَضَهُ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ إمَّا أَنْ يَحْصُلَ مِنْ الْكَفِيلِ أَوْ مِنْ الْأَصِيلِ
، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَا وَجَبَ لَهُ فَيَمْلِكُهُ مِنْ حِينِ قَبَضَهُ كَمَنْ قَبَضَ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ مُعَجَّلًا ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلِأَنَّهُ وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ مِثْلُ مَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تُوجِبُ دَيْنَيْنِ : دَيْنًا لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ وَدِينًا لِلْكَفِيلِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ ، لَكِنَّ دَيْنَ الطَّالِبِ حَالٌّ وَدَيْنَ الْكَفِيلِ مُؤَجَّلٌ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ مِنْ حَيْثُ تَأْخِيرُ مُطَالَبَتِهِ بِمَا وَجَبَ لَهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إلَى مَا بَعْدَ الْأَدَاءِ ، وَلِهَذَا لَوْ أَخَذَ الْكَفِيلُ مِنْ الْأَصِيلِ رَهْنًا بِهَذَا الْمَالِ صَحَّ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخَذَ رَهْنًا بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ ، وَلَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلُ الْأَصِيلَ قَبْلَ الْأَدَاءِ إلَى الطَّالِبِ مِنْ الدَّيْنِ أَوْ وَهَبَهُ مِنْهُ يَجُوزُ ، حَتَّى لَوْ أَدَّاهُ الْكَفِيلُ إلَى الطَّالِبِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ .
وَقَالَ : كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ وَالْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِبَعْضِ عِبَارَةِ الْكِتَابِ ظَاهِرًا ، وَالْمَسَائِلِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا ، وَلَكِنْ لَا يُوَافِقُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ ، فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْكَفَالَةُ تُوجِبُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ مِثْلَ مَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْأَصِيلِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ ، إلَّا أَنَّ مُطَالَبَةَ الطَّالِبِ حَالَّةٌ وَمُطَالَبَةَ الْكَفِيلِ أُخِّرَتْ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ ، فَنُزِّلَ مَا وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ مَنْزِلَةَ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ ، وَلِهَذَا : أَيْ لِكَوْنِهِ نَازِلًا مَنْزِلَتَهُ لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلُ الْمَطْلُوبَ قَبْلَ أَدَائِهِ صَحَّ ، وَكَذَا إذَا أَخَذَ رَهْنًا أَوْ وَهَبَهُ مِنْهُ ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ وَجَعَلَ ضَمِيرَ عَلَيْهِ لِلْمَكْفُولِ عَنْهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْكَفِيلِ وَالْمَعْنَى بِحَالِهِ
: أَيْ الْكَفَالَةُ تُوجِبُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ مِثْلَ مَا تُوجِبُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ ، وَفِيهِ مِنْ التَّمَحُّلِ مَا تَرَى مِنْ تَنْزِيلِ الْمُطَالَبَةِ مَنْزِلَةَ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَتَمَلُّكُهُ مَا قَبَضَ بِمُجَرَّدِ مَا لَهُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ مِنْ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْمِلْكَ كَالْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ أَوْ الْقَبْضِ فَإِنَّ لَهُ الْمُطَالَبَةَ وَلَا يَمْلِكُ مَا قَبَضَ .
وَلَعَلَّ الصَّوَابَ أَنْ يَكُونَ تَوْجِيهُ كَلَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ مِنْ الدَّيْنِ مِثْلُ مَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ لَا عَلَى الْكَفِيلِ ، وَحِينَئِذٍ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ ؛ لِأَنَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الطَّالِبِ لَيْسَ عَلَى الْكَفِيلِ إلَّا الْمُطَالَبَةُ ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْكَفِيلِ دَيْنٌ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ مِثْلُ دَيْنِ الطَّالِبِ فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ عِنْدَ الْكَفَالَةِ دَيْنَيْنِ وَثَلَاثَ مُطَالَبَاتٍ : دَيْنٌ وَمُطَالَبَةٌ حَالَّيْنِ لِلطَّالِبِ عَلَى الْأَصِيلِ ، وَمُطَالَبَةٌ فَقَطْ لَهُ عَلَى الْكَفِيلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ ، وَدَيْنٌ وَمُطَالَبَةٌ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ ، إلَّا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ مُتَأَخِّرَةٌ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ فَيَكُونُ دَيْنُ الْكَفِيلِ مُؤَجَّلًا ، وَلِهَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَهُوَ مُؤَجَّلٌ ؟ قُلْنَا : مَعْنَاهُ فَنُزِّلَ هَذَا الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ مَنْزِلَةَ دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ لَمْ يَكُنْ بِالْكَفَالَةِ ، وَفِي ذَلِكَ إذَا قَبَضَهُ مُعَجَّلًا مَلَكَهُ ، فَكَذَا هُنَا ، هَذَا مَا سَنَحَ لِي ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ إلَّا أَنَّ فِيهِ : أَيْ فِي الرِّبْحِ الْحَاصِلِ لِلْكَفِيلِ بِتَصَرُّفِهِ فِي الْمَقْبُوضِ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِضَاءِ وَقَدْ أَدَّى الْأَصِيلُ الدَّيْنَ نَوْعُ
خُبْثٍ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ بَيَّنَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَفَالَةِ بِالْكُرِّ وَالْخُبْثُ لَا يَعْمَلُ مَعَ الْمِلْكِ فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ ؛ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ فِي آخِرِ فَصْلِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ .
وَأَمَّا إذَا قَضَاهُ الْكَفِيلُ فَلَا خُبْثَ فِيهِ أَصْلًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .
وَإِذَا قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ فَالرِّبْحُ لَا يَطِيبُ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ مِنْ أَصْلٍ خَبِيثٍ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَطِيبُ ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ أَصْلُهُ الْمُودَعُ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْوَدِيعَةِ وَرَبِحَ فَإِنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ .
( وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِكُرِّ حِنْطَةٍ فَقَبَضَهَا الْكَفِيلُ فَبَاعَهَا وَرَبِحَ فِيهَا فَالرِّبْحُ لَهُ فِي الْحُكْمِ ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَهُ ( قَالَ : وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الَّذِي قَضَاهُ الْكُرَّ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : هُوَ لَهُ وَلَا يَرُدُّهُ عَلَى الَّذِي قَضَاهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ ، وَعَنْهُ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ .
لَهُمَا أَنَّهُ رَبِحَ فِي مِلْكِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فَيُسَلِّمُ لَهُ .
وَلَهُ أَنَّهُ تَمَكَّنَ الْخُبْثُ مَعَ الْمِلْكِ ، إمَّا لِأَنَّهُ بِسَبِيلٍ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ بِأَنْ يَقْضِيَهُ بِنَفْسِهِ ، أَوْ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهِ عَلَى اعْتِبَارِ قَضَاءِ الْكَفِيلِ ، فَإِذَا قَضَاهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ وَهَذَا الْخُبْثُ يُعْمَلُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ فَيَكُونُ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ فِي رِوَايَةٍ ، وَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةٍ لِأَنَّ الْخُبْثَ لَحِقَهُ ، وَهَذَا أَصَحُّ لَكِنَّهُ اسْتِحْبَابٌ لَا جَبْرٌ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ .
قَالَ ( وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِكُرِّ حِنْطَةٍ إلَخْ ) مَا مَرَّ كَانَ فِي حُكْمِ الرِّبْحِ فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ كَكُرٍّ مِنْ حِنْطَةٍ قَبَضَهَا الْكَفِيلُ مِنْ الْأَصِيلِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى الطَّالِبِ وَتَصَرَّفَ فِيهَا وَرَبِحَ فَالرِّبْحُ لَهُ فِي الْقَضَاءِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَهُ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الَّذِي قَضَاهُ : يَعْنِي الْمَكْفُولَ عَنْهُ وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ ، وَهَذَا رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ عَنْهُ : الرِّبْحُ لَهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِهِ وَلَا يَرُدُّهُ عَلَى الْأَصِيلِ ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْكَفَالَةِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَطِيبُ لَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ وَهُوَ دَلِيلُهُمَا أَنَّهُ رِبْحٌ فِي مِلْكِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ ، وَمَنْ رَبِحَ فِي مِلْكِهِ يُسَلَّمُ لَهُ الرِّبْحُ .
وَوَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْكَفَالَةِ أَنَّهُ تَمَكَّنَ الْخُبْثُ مَعَ الْمِلْكِ لِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : إمَّا ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ بِسَبِيلٍ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَقْضِيَ الْكُرَّ بِنَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الرِّبْحُ حَاصِلًا فِي مِلْكٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ أَنْ يُقِرَّ وَأَنْ لَا يُقِرَّ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مِلْكٌ قَاصِرٌ وَلَوْ عَدِمَ الْمِلْكُ أَصْلًا كَانَ خَبِيثًا ، فَإِذَا كَانَ قَاصِرًا تَمَكَّنَ فِيهِ شُبْهَةُ الْخُبْثِ .
وَإِمَّا ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ مِلْكًا لِلْكَفِيلِ عَلَى اعْتِبَارِ قَضَائِهِ فَإِذَا قَضَاهُ الْأَصِيلُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ فَتَمَكَّنَ فِيهِ الْخُبْثُ ، وَهَذَا الْخُبْثُ : أَيْ الَّذِي يَكُونُ مَعَ الْمِلْكِ يَعْمَلُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ ، وَتَقْرِيرُهُ تَمَكَّنَ الْخُبْثُ مَعَ الْمِلْكِ وَكُلُّ خُبْثٍ تَمَكَّنَ مَعَ الْمِلْكِ يَعْمَلُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ ، فَهَذَا الْخُبْثُ
يَعْمَلُ فِي الْكُرِّ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ وَالْخُبْثُ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ .
وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْخُبْثَ لَحِقَهُ : أَيْ لَحِقَ الَّذِي قَضَاهُ ، فَإِذَا رَدَّ إلَيْهِ وَصَلَ الْحَقُّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ ، وَهَذَا أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْمَكْفُولِ عَنْهُ لَكِنَّهُ اسْتِحْبَابٌ لَا جَبْرٌ ؛ فَإِذَا رُدَّ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا طَابَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ .
قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَطِيبَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رُدَّ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَقُّهُ ، هَذَا إذَا قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِضَاءِ ، وَإِذَا قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَطِيبُ الرِّبْحُ لِلْكَفِيلِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَطِيبُ .
قَالَ ( وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ فَأَمَرَهُ الْأَصِيلُ أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ حَرِيرًا فَفَعَلَ فَالشِّرَاءُ لِلْكَفِيلِ وَالرِّبْحُ الَّذِي رَبِحَهُ الْبَائِعُ فَهُوَ عَلَيْهِ ) وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِبَيْعِ الْعِينَةِ مِثْلُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ تَاجِرٍ عَشَرَةً فَيَتَأَبَّى عَلَيْهِ وَيَبِيعَ مِنْهُ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسَةَ عَشَرَ مَثَلًا رَغْبَةً فِي نَيْلِ الزِّيَادَةِ لِيَبِيعَهُ الْمُسْتَقْرِضُ بِعَشَرَةٍ وَيَتَحَمَّلَ عَلَيْهِ خَمْسَةً ؛ سُمِّيَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ الدَّيْنِ إلَى الْعَيْنِ ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ مَبَرَّةِ الْإِقْرَاضِ مُطَاوَعَةً لِمَذْمُومِ الْبُخْلِ .
ثُمَّ قِيلَ : هَذَا ضَمَانٌ لِمَا يَخْسَرُ الْمُشْتَرِي نَظَرًا إلَى قَوْلِهِ عَلَيَّ وَهُوَ فَاسِدٌ وَلَيْسَ بِتَوْكِيلٍ وَقِيلَ هُوَ تَوْكِيلٌ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْحَرِيرَ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ ، وَكَذَا الثَّمَنُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ لِجَهَالَةِ مَا زَادَ عَلَى الدَّيْنِ ، وَكَيْفَمَا كَانَ فَالشِّرَاءُ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ الْكَفِيلُ وَالرِّبْحُ : أَيْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الْعَاقِدُ .
قَالَ ( وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ إلَخْ ) إذَا أَمَرَ الْأَصِيلُ الْكَفِيلَ أَنْ يُعَامِلَ إنْسَانًا بِطَرِيقِ الْعِينَةِ ، وَفَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ تَاجِرٍ عَشَرَةً فَيَتَأَبَّى عَلَيْهِ وَيَبِيعُ مِنْهُ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسَةَ عَشَرَ مَثَلًا رَغْبَةً فِي نَيْلِ الزِّيَادَةِ لِيَبِيعَهُ الْمُشْتَرِي الْمُسْتَقْرِضَ بِعَشَرَةٍ وَيَتَحَمَّلُ خَمْسَةً فَفَعَلَ الْكَفِيلُ ذَلِكَ فَالشِّرَاءُ وَاقِعٌ لَهُ وَالرِّبْحُ الَّذِي رَبِحَهُ الْبَائِعُ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْأَصِيلِ ، وَسُمِّيَ هَذَا الْبَيْعُ عِينَةً لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ الدَّيْنِ إلَى الْعَيْنِ ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْإِعْرَاضَ عَنْ مَبَرَّةِ الْإِقْرَاضِ مُطَاوَعَةً لِلْبُخْلِ الَّذِي هُوَ مَذْمُومٌ ، وَكَأَنَّ الْكُرْهَ حَصَلَ مِنْ الْمَجْمُوعِ ، فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ الْإِقْرَاضِ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ ، وَالْبُخْلُ الْحَاصِلُ مِنْ طَلَبِ الرِّبْحِ فِي التِّجَارَاتِ كَذَلِكَ ، وَإِلَّا لَكَانَتْ الْمُرَابَحَةُ مَكْرُوهَةً ، وَإِلَّا لَزِمَ الرِّبْحُ لِلْكَفِيلِ دُونَ الْأَصِيلِ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا كَفَالَةٌ فَاسِدَةٌ عَلَى مَا قِيلَ نَظَرًا إلَى قَوْلِهِ عَلَيَّ فَإِنَّهُ كَلِمَةُ ضَمَانٍ لَكِنَّهُ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ وَالضَّمَانَ إنَّمَا يَصِحُّ بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ وَالْخُسْرَانُ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ عَلَى أَحَدٍ فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ ، كَرَجُلٍ قَالَ لِآخَرَ بِعْ مَتَاعَك فِي هَذَا السُّوقِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَضَيْعَةٍ وَخُسْرَانٍ يُصِيبُك فَأَنَا ضَامِنٌ بِهِ لَك فَإِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَأَمَّا وَكَالَةٌ فَاسِدَةٌ نَظَرًا إلَى قَوْلِهِ تَعَيَّنَ : يَعْنِي اشْتَرِ لِي حَرِيرًا يُعَيِّنُهُ ثُمَّ بِعْهُ بِالنَّقْدِ بِأَقَلَّ مِنْهُ وَاقْضِ دَيْنِي ، وَفَسَادُهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحَرِيرَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ : أَيْ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ وَالثَّمَنُ كَذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : الدَّيْنُ مَعْلُومٌ وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ مِقْدَارُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ الثَّمَنُ مَجْهُولًا ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ الْجَهَالَةُ مَا زَادَ عَلَى الدَّيْنِ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي الثَّمَنِ ، وَإِذَا فَسَدَتْ الْكَفَالَةُ
أَوْ الْوَكَالَةُ كَانَ الْمُشْتَرَى لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ الْكَفِيلُ وَالرِّبْحُ : أَيْ الزِّيَادَةُ عَلَى الدَّيْنِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ صَوَّرَ لِلْعِينَةِ صُورَةً أُخْرَى وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْمُقْرِضَ وَالْمُسْتَقْرِضَ بَيْنَهُمَا ثَالِثًا فِي الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْكِتَابِ فَيَبِيعَ صَاحِبُ الثَّوْبِ الثَّوْبَ بِاثْنَيْ عَشَرَ مِنْ الْمُسْتَقْرِضِ ثُمَّ إنَّ الْمُسْتَقْرِضَ يَبِيعُهُ مِنْ الثَّالِثِ بِعَشَرَةٍ وَيُسْلِمُ الثَّوْبَ إلَيْهِ ثُمَّ يَبِيعُ الثَّالِثَ الثَّوْبَ مِنْ الْمُقْرِضِ بِعَشَرَةٍ وَيَأْخُذُ مِنْهُ عَشَرَةً وَيَدْفَعُهُ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ فَتَنْدَفِعُ حَاجَتُهُ ، وَإِنَّمَا تَوَسَّطَا بِثَالِثٍ احْتِرَازًا عَنْ شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ صَوَّرَ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مَذْمُومٌ اخْتَرَعَهُ أَكَلَةُ الرِّبَا ، وَقَدْ ذَمَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ { إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعَيْنِ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ ذَلَلْتُمْ وَظَهَرَ عَلَيْكُمْ عَدُوُّكُمْ } وَقِيلَ : إيَّاكَ وَالْعِينَةَ فَإِنَّهَا لَعِينَةٌ .
قَالَ ( وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ بِمَا قَضَى لَهُ عَلَيْهِ فَغَابَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْكَفِيلِ بِأَنَّ لَهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ ) لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ مَالٌ مَقْضِيٌّ بِهِ وَهَذَا فِي لَفْظَةِ الْقَضَاءِ ظَاهِرٌ ، وَكَذَا فِي الْأُخْرَى لِأَنَّ مَعْنَى ذَابَ تَقَرَّرَ وَهُوَ بِالْقَضَاءِ أَوْ مَالٌ يُقْضَى بِهِ وَهَذَا مَاضٍ أُرِيدَ بِهِ الْمُسْتَأْنَفُ كَقَوْلِهِ : أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك فَالدَّعْوَى مُطْلَقٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا تَصِحُّ .
قَالَ ( وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَيْهِ إلَخْ ) رَجُلٌ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ بِمَا قُضِيَ لَهُ عَلَيْهِ فَغَابَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْكَفِيلِ أَنَّ لَهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَمْ تُقْبَلْ الْبَيِّنَةُ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ قَبُولَهَا يَعْتَمِدُ صِحَّةَ الدَّعْوَى ، وَدَعْوَاهُ هَذِهِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِعَدَمِ مُطَابِقَتِهَا بِالْمَكْفُولِ بِهِ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْمَكْفُولَ بِهِ إمَّا مَالٌ مَقْضِيٌّ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ لِدَلَالَةِ مَا قَضَى بِصَرَاحَةِ عِبَارَتِهِ وَدَلَالَةِ مَا ذَابَ بِاسْتِلْزَامِهِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ مَعْنَى ذَابَ تَقَرَّرَ ، وَالتَّقَرُّرُ إنَّمَا هُوَ بِالْقَضَاءِ وَالدَّعْوَى مُطْلَقٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا مُطَابَقَةَ بَيْنَهُمَا ، وَإِمَّا مَالٌ يُقْضَى بِهِ يُجْعَلُ لَفْظُ الْمَاضِي بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِهِ : أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك فَهُوَ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا ؛ لِأَنَّ إرَادَةَ مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ لَفْظِ الْمَاضِي خِلَافُ الظَّاهِرِ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا لِنُكْتَةٍ تَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ الْبَلَاغَةِ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِدَعْوَاهُ لِإِطْلَاقِهَا وَتُفِيدُ الْمَكْفُولَ بِهِ ، حَتَّى قِيلَ إنْ ادَّعَى عَلَى الْكَفِيلُ أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا قَضَى لَهُ عَلَى الْأَصِيلِ بَعْدَ عَقْدِ الْكَفَالَةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ لِوُجُودِ الْمُطَابَقَةِ حِينَئِذٍ ، وَالشَّارِحُونَ ذَهَبُوا فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى أَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ مَالٌ قُضِيَ أَوْ يُقْضَى بِهِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفًا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ عَقْدِ الْكَفَالَةِ وَبَعْدَهُ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَفَالَةِ بِالشَّكِّ ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِ الْمُصَنِّفِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَصْلًا كَمَا تَرَى ، وَالتَّعْلِيلُ بِدُونِ ذَلِكَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ إمَّا مَالٌ مَقْضِيٌّ وَلَمْ يَدَّعِهِ ، أَوْ مَالٌ يُقْضَى بِهِ وَمَعَ غَيْبَةِ الْأَصِيلِ لَا يَصِحُّ لِكَوْنِهِ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ فَلَا تَكُونُ
الدَّعْوَى صَحِيحَةً فَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ .
( وَمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَأَنَّ هَذَا كَفِيلٌ عَنْهُ بِأَمْرِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ وَعَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ يُقْضَى عَلَى الْكَفِيلِ خَاصَّةً ) وَإِنَّمَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ مَالٌ مُطْلَقٌ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ بِالْأَمْرِ وَعَدَمِهِ لِأَنَّهُمَا يَتَغَايَرَانِ ، لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِأَمْرٍ تَبَرُّعُ ابْتِدَاءٍ وَمُعَاوَضَةُ انْتِهَاءٍ ، وَبِغَيْرِ أَمْرٍ تَبَرُّعُ ابْتِدَاءٍ وَانْتِهَاءٍ ، فَبِدَعْوَاهُ أَحَدَهُمَا لَا يُقْضَى لَهُ بِالْآخَرِ ، وَإِذَا قُضِيَ بِهَا بِالْأَمْرِ ثَبَتَ أَمْرُهُ ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْمَالِ فَيَصِيرُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ ، وَالْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا تَمَسُّ جَانِبَهُ لِأَنَّهُ تَعْتَمِدُ صِحَّتُهَا قِيَامَ الدَّيْنِ فِي زَعْمِ الْكَفِيلِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَيْهِ ، وَفِي الْكَفَالَةِ بِأَمْرِهِ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِمَا أَدَّى عَلَى الْآمِرِ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ فَقَدْ ظَلَمَ فِي زَعْمِهِ فَلَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ وَنَحْنُ نَقُولُ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا فَبَطَلَ مَا زَعَمَهُ .
وَمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَأَنَّ هَذَا كَفِيلٌ عَنْهُ بِأَمْرِهِ قُضِيَ بِهِ عَلَى الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ جَمِيعًا ، وَإِنْ ادَّعَى الْكَفَالَةَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ قُضِيَ بِهِ عَلَى الْحَاضِرِ خَاصَّةً وَهَاهُنَا يُحْتَاجُ إلَى ثَلَاثَةِ فُرُوقٍ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْهَا اثْنَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ هَاهُنَا دُونَ مَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ هَاهُنَا مَالٌ مُطْلَقٌ عَنْ التَّوْصِيفِ لِكَوْنِهِ مَقْضِيًّا بِهِ أَوْ يُقْضَى بِهِ فَكَانَتْ الدَّعْوَى مُطَابِقَةً لِلْمُدَّعَى بِهِ فَصَحَّتْ وَقُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ لِابْتِنَائِهَا عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ كَمَا مَرَّ .
وَمِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ هُنَاكَ لَوْ صَدَّقَهُ فَقَالَ قَدْ كَفَلْت لَك بِمَا ذَابَ لَك عَلَيْهِ : أَيْ بِمَا قُضِيَ لَك عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَيْسَ لَك عَلَيْهِ شَيْءٌ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ ، وَهَاهُنَا لَوْ قَالَ كَفَلْت لَك عَنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَكِنْ لَيْسَ لَك شَيْءٌ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ .
وَالثَّانِي الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَفَالَةِ بِأَمْرٍ وَالْكَفَالَةِ بِغَيْرِ أَمْرٍ مَعَ أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ فَكَانَ الْوَاجِبُ عَدَمَ التَّفْرِقَةِ فِي أَنْ لَا يَكُونَ الْكَفِيلُ خَصْمًا عَنْ الْأَصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِأَمْرٍ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِهِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَغَايَرَانِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِأَمْرِهِ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَمُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً ، وَكُلُّ مَا كَانَا كَذَلِكَ فَهُمَا غَيْرَانِ لَا مَحَالَةَ ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَبِدَعْوَاهُ أَحَدَهُمَا لَا يُقْضَى لَهُ بِالْآخَرِ ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ إنَّمَا يَقْضِي بِالسَّبَبِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُدَّعِي ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْمِلْكَ بِالشِّرَاءِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَضَاءُ بِالْهِبَةِ وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُمَا وَاحِدًا وَهُوَ الْمِلْكُ ، فَإِذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي الْكَفَالَةَ بِالْأَمْرِ وَقَضَى بِالْكَفَالَةِ بِالْأَمْرِ بِبَيِّنَةٍ ثَبَتَ أَمْرُهُ
بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ ، وَالْأَمْرُ بِالْكَفَالَةِ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْمَالِ فَيَصِيرُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ ، فَلَوْ حَضَرَ الْغَائِبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ، وَإِذَا ادَّعَاهَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّهَا لَا تَمَسُّ جَانِبَ الْغَائِبِ ، إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ وُجُوبُهُ عَلَى الْأَصِيلِ ؛ لِأَنَّهُ : أَيْ الشَّأْنَ أَنَّ هِمَّةَ الْكَفَالَةِ بِغَيْرِ أَمْرٍ تَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ فِي زَعْمِ الْكَفِيلِ ، حَتَّى لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَأَنَا بِهِ كَفِيلٌ وَجَبَ الْمَالُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَصِيلِ شَيْءٌ فَلَا يَتَعَدَّى الدَّيْنُ عَنْ الْكَفِيلِ إلَى الْأَصِيلِ .
وَالْفَرْقُ الثَّالِثُ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا أَبْهَمَ فَادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ كَفَلَ لَهُ عَنْ فُلَانٍ بِكُلِّ مَالٍ لَهُ قَبْلَهُ وَلَمْ يُفَسِّرْ ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً أَنَّ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ لَهُ قَبْلَ الْكَفَالَةِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا عَلَى الْكَفِيلِ وَالْأَصِيلِ سَوَاءٌ ادَّعَى الْكَفَالَةَ بِأَمْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْحَاضِرَ إنَّمَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ إثْبَاتُ مَا يَدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ إلَّا بِإِثْبَاتِ مَا يَدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ ، وَالْكَفَالَةُ إذَا كَانَتْ بِمَعْلُومٍ أَمْكَنَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ بِدُونِ الْقَضَاءِ عَلَى الْأَصِيلِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وَمَعْرُوفٌ بِذَاتِهِ ، وَإِذَا كَانَتْ بِمَجْهُولٍ لَا تَصِحُّ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَصِيلِ ؛ لِأَنَّ الْمَجْهُولَ يَحْتَاجُ إلَى التَّعْرِيفِ ، وَالتَّعْرِيفُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمَا كَانَ عَلَى الْأَصِيلِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ كَانَ لَك عَلَى فُلَانٍ مَالٌ فَأَنَا كَفِيلٌ فَأَثْبَتَهُ الْمُدَّعِي ، وَسَيَأْتِي تَمَامُ ذَلِكَ ( قَوْلُهُ : وَفِي الْكَفَالَةِ بِأَمْرٍ ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَرْقًا آخَرَ بَيْنَ مَا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْكَفَالَةِ بِأَمْرٍ وَبَيْنَ مَا إذَا أَقَامَ عَلَيْهَا بِغَيْرِهِ ، فَإِنَّ الثَّابِتَ
بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ عِيَانًا ، وَلَوْ ثَبَتَتْ الْكَفَالَةُ بِالْأَمْرِ عِيَانًا رَجَعَ الْكَفِيلُ بِمَا أَدَّى عَلَى الْأَصِيلِ فَكَذَا إذَا ثَبَتَتْ بِالْبَيِّنَةِ وَقَالَ زُفَرُ : لَمَّا أَنْكَرَ الْكَفِيلُ الْكَفَالَةَ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ الطَّالِبَ ظَلَمَهُ وَالْمَظْلُومُ لَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ .
وَقُلْنَا : لَمَّا قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا فَبَطَلَ مَا زَعَمَهُ ؛ كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَأَقَرَّ بِأَنَّ الْبَائِعَ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ ثُمَّ جَاءَ إنْسَانٌ وَاسْتَحَقَّهُ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ كَذَّبَهُ فِي زَعْمِهِ .
وَنُوقِضَ بِمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَبَاعَهُ وَرُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَمَا أَنْكَرَ الْعَيْبَ بِهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ حَيْثُ لَمْ يَبْطُلْ زَعْمُهُ مَعَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ كَذَّبَهُ فِي زَعْمِهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا عَيْبَ فِيهِ نَفْيٌ لِلْعَيْبِ فِي الْحَالِ وَالْمَاضِي وَالْقَاضِي إنَّمَا كَذَّبَهُ فِي قِيَامِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلرَّدِّ عَلَى الثَّانِي فَافْتَرَقَا .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ دَارًا وَكَفَلَ رَجُلٌ عَنْهُ بِالدَّرَكِ فَهُوَ تَسْلِيمٌ ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَوْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً فِي الْبَيْعِ فَتَمَامُهُ بِقَبُولِهِ ، ثُمَّ بِالدَّعْوَى يَسْعَى فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوطَةً فِيهِ فَالْمُرَادُ بِهَا أَحْكَامُ الْبَيْعِ وَتَرْغِيبُ الْمُشْتَرِي فِيهِ إذْ لَا يَرْغَبُ فِيهِ دُونَ الْكَفَالَةِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْإِقْرَارِ بِمِلْكِ الْبَائِعِ .
قَالَ ( وَلَوْ شَهِدَ وَخَتَمَ وَلَمْ يَكْفُلْ لَمْ يَكُنْ تَسْلِيمًا وَهُوَ عَلَى دَعْوَاهُ ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ مَشْرُوطَةً فِي الْبَيْعِ وَلَا هِيَ بِإِقْرَارٍ بِالْمِلْكِ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَرَّةً يُوجَدُ مِنْ الْمَالِكِ وَتَارَةً مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَعَلَّهُ كَتَبَ الشَّهَادَةَ لِيَحْفَظَ الْحَادِثَةَ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ، قَالُوا : إذَا كَتَبَ فِي الصَّكِّ بَاعَ وَهُوَ يَمْلِكُهُ أَوْ بَيْعًا بَاتًّا نَافِذًا وَهُوَ كَتَبَ شَهِدَ بِذَلِكَ فَهُوَ تَسْلِيمٌ ، إلَّا إذَا كَتَبَ الشَّهَادَةَ عَلَى إقْرَارِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ دَارًا وَكَفَلَ عَنْهُ رَجُلٌ بِالدَّرَكِ إلَخْ ) وَمَنْ بَاعَ دَارًا وَكَفَلَ رَجُلٌ عَنْهُ بِالدَّرَكِ وَهُوَ التَّبِعَةُ عَلَى مَا مَرَّ ، وَالْمُرَادُ قَبُولُ رَدِّ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ فَهُوَ تَسْلِيمٌ : أَيْ تَصْدِيقٌ مِنْ الْكَفِيلِ بِأَنَّ الدَّارَ مِلْكُ الْبَائِعِ ، فَلَوْ ادَّعَى الدَّارَ بَعْدَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ مَشْرُوطَةً فِي الْبَيْعِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَهُوَ شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ إذْ الدَّرَكُ يَثْبُتُ بِلَا شَرْطِ كَفَالَةٍ وَالشَّرْطُ يَزِيدُهُ وَكَادَةً فَتَمَامُ الْبَيْعِ إنَّمَا يَكُونُ بِقَبُولِ الْكَفِيلِ فَكَأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْعَقْدِ ، فَالدَّعْوَى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ سَعْيٌ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْكَفِيلُ شَفِيعًا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ وَبُطْلَانُ السَّعْيِ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ مِنْ مُسَلَّمَاتِ هَذَا الْفَنِّ لَا يُقْبَلُ التَّشْكِيكُ بِالْإِقَالَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ ، وَإِنْ كَانَ طَلَبُهَا سَعْيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّقْضِ مَا يَكُونُ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ وَالْإِقَالَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَهِيَ فَسْخٌ لَا نَقْضٌ .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْمُرَادُ بِالْكَفَالَةِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ وَتَرْغِيبُ الْمُشْتَرِي لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَرْغَبَ الْمُشْتَرِي فِي شِرَاءِ الْمَبِيعِ مَخَافَةَ الِاسْتِحْقَاقِ فَتَكَفَّلَ تَسْكِينًا لِقَلْبِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ اشْتَرِ هَذَا الدَّارَ وَلَا تُبَالِ فَإِنَّهَا مِلْكُ الْبَائِعِ ، فَإِنْ أَدْرَكَك دَرَكٌ فَأَنَا ضَامِنٌ ، وَذَلِكَ إقْرَارٌ بِمِلْكِ الْبَائِعِ ، وَمَنْ أَقَرَّ بِمِلْكِ الْبَائِعِ لَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا قَالَ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَيْهِ فِي الْمَعْنَى .
قَالَ ( وَلَوْ شَهِدَ وَخَتَمَ إلَخْ ) لَوْ شَهِدَ الشَّاهِدُ عَلَى بَيْعِ الدَّارِ وَخَتَمَ شَهَادَتَهُ بِأَنْ كَتَبَ اسْمَهُ فِي الصَّكِّ وَجَعَلَ اسْمَهُ تَحْتَ رَصَاصٍ
مَكْتُوبًا وَوَضَعَ عَلَيْهِ نَقْشَ خَاتَمِهِ حَتَّى لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ التَّزْوِيرُ وَالتَّبْدِيلُ ، كَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ وَلَمْ يَكْفُلْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَسْلِيمًا وَهُوَ عَلَى دَعْوَاهُ قَبْلَ قَوْلِهِ وَخَتَمَ وَقَعَ اتِّفَاقًا بِاعْتِبَارِ عُرْفٍ كَانَ فِي زَمَانِهِمْ وَلَمْ يَبْقَ فِي زَمَانِنَا ، فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ خَتْمٌ أَوْ لَا ، فَإِنْ ادَّعَى لِنَفْسِهِ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ وَتُقْبَلْ شَهَادَتُهُ لِغَيْرِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ مَشْرُوطَةً فِي الْبَيْعِ لِعَدَمِ الْمُلَاءَمَةِ وَلَا هِيَ بِإِقْرَارٍ بِالْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَارَةً يُوجَدُ مِنْ الْمِلْكِ وَأُخْرَى مِنْ غَيْرِهِ ، فَالشَّهَادَةُ عَلَى أَنَّهُ بَاعَ لَا تَكُونُ إقْرَارًا بِأَنَّهُ بَاعَ مِلْكَهُ ، وَلَعَلَّهُ إنَّمَا كَتَبَ الشَّهَادَةَ لِيَحْفَظَ الْحَادِثَةَ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ضَمَانِ الدَّرَكِ فَإِنَّهُ إقْرَارٌ بِالْمِلْكِ لِمَا تَقَدَّمَ ، قَالَ مَشَايِخُنَا : مَا ذُكِرَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْبَيْعِ لَا تَكُونُ تَسْلِيمًا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكْتُبْ فِي الصَّكِّ مَا يُوجِبُ صِحَّةَ الْبَيْعِ وَنَفَاذَهُ ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ فِيهِ بَاعَ أَوْ جَرَى الْبَيْعُ بَيْنَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَشَهِدَ عَلَى ذَلِكَ ، وَكَتَبَ شَهِدَ فُلَانٌ الْبَيْعَ أَوْ جَرَى الْبَيْعُ بِمَشْهَدِي ، وَأَمَّا إذَا كَتَبَ فِيهِ مَا يُوجِبُ صِحَّتَهُ وَنَفَاذَهُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ بَاعَ فُلَانٌ كَذَا وَهُوَ يَمْلِكُهُ ، وَكَتَبَ الشَّاهِدُ شَهِدَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ تَسْلِيمٌ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى إقْرَارِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَسْلِيمٍ وَإِنْ كَانَ الْمَكْتُوبُ فِي الصَّكِّ مَا يَدُلُّ عَلَى الصِّحَّةِ وَالنَّفَاذِ .
( فَصْلٌ فِي الضَّمَانِ ) : قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ لِرَجُلٍ ثَوْبًا وَضَمِنَ لَهُ الثَّمَنَ أَوْ مُضَارِبٌ ضَمِنَ ثَمَنَ مَتَاعِ رَبِّ الْمَالِ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ وَهِيَ إلَيْهِمَا فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنًا لِنَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ الْمَالَ أَمَانَةٌ فِي أَيْدِيهِمَا وَالضَّمَانُ تَغْيِيرٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ كَاشْتِرَاطِهِ عَلَى الْمُودَعِ وَالْمُسْتَعِيرِ ( وَكَذَا رَجُلَانِ بَاعَا عَبْدًا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَضَمِنَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ ) لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ الضَّمَانُ مَعَ الشَّرِكَةِ يَصِيرُ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ ، وَلَوْ صَحَّ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ خَاصَّةً يُؤَدِّي إلَى قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَا بِصَفْقَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْبَلَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا وَيَقْبِضَ إذَا نَقَدَ ثَمَنَ حِصَّتِهِ وَإِنْ قَبِلَ الْكُلَّ .
فَصْلٌ فِي الضَّمَانِ : ( وَمَنْ بَاعَ لِرَجُلٍ ثَوْبًا إلَخْ ) الضَّمَانُ وَالْكَفَالَةُ فِي هَذَا الْبَابِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَلَمَّا كَانَ مَسَائِلُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَرَدَتْ بِلَفْظِ الضَّمَانِ فَصَّلَهَا لِتَغَايُرٍ فِي اللَّفْظِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ رَجَعَ إلَيْهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْتِزَامُ مُطَالَبَةِ مَا يَجِبُ بِهِ ؛ فَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ ثَوْبٍ فَفَعَلَ وَضَمِنَ لَهُ الثَّمَنَ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ ، وَكَذَا الْمُضَارِبُ إذَا بَاعَ مِنْ الْمَتَاعِ شَيْئًا وَضَمِنَ لِرَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ وَالْمُطَالَبَةُ إلَيْهِمَا : أَيْ إلَى الْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ لِلْوَكِيلِ بِجِهَةِ الْأَصَالَةِ فِي الْبَيْعِ بِنَاءً عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ ، حَتَّى لَوْ حَلَفَ الْمُشْتَرِي مَا لِلْمُوَكِّلِ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ بَارًّا فِي يَمِينِهِ ، وَلَوْ حَلَفَ مَا لِلْوَكِيلِ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ خَائِنًا ، وَكَذَا الْمُضَارِبُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْ صَحَّ الضَّمَانُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ وَفَسَادُهُ لَا يَخْفَى ، وَلَا يُتَوَهَّمُ التَّصْحِيحُ بِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ لَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْخُصُومَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَالَ أَمَانَةٌ فِي أَيْدِي الْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، فَلَوْ صَحَّ ضَمَانُهُمَا لَكَانَا ضَمِينَيْنِ فَمَا فَرَضْنَاهُ أَمِينًا لَمْ يَكُنْ أَمِينًا ، وَذَلِكَ خُلْفٌ بَاطِلٌ فَيَكُونُ الضَّمَانُ تَغْيِيرًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ ذَلِكَ لِنَزْعِهِ إلَى الشَّرِكَةِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ ، وَقَدْ قَرَّرْنَا بُطْلَانَ ذَلِكَ فِي التَّقْرِيرِ تَقْرِيرًا تَامًّا .
فَيَرِدُ عَلَيْهِ كَاشْتِرَاطِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُودَعِ وَالْمُسْتَعِيرِ ، فَإِنَّهُمَا لَوْ ضَمِنَا الْوَدِيعَةَ وَالْعَارِيَّةَ لِلْمُودَعِ وَالْمُعِيرِ لَمْ يَجُزْ لِذَلِكَ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْوَكَالَةُ بِانْفِرَادِهَا مَشْرُوعَةٌ وَالْكَفَالَةُ كَذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ
أَمَانَةً بِأَيْدِيهِمَا إذَا لَمْ يَضْمَنَا ، فَأَمَّا إذَا ضَمِنَا فَيَكُونُ ذَلِكَ رَفْعًا لِلْأَمَانَةِ إلَى الضَّمَانِ وَتَحَوُّلًا مِنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ إلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ بِأَلْفٍ ثُمَّ بَاعَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ رَفْعَ الْأَمَانَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِبُطْلَانِ الْوَكَالَةِ لِئَلَّا يَتَخَلَّفَ الْمَعْلُولُ عَنْ عِلَّتِهِ ، وَبُطْلَانُهَا حِينَئِذٍ إنَّمَا يَكُونُ ضَرُورَةَ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ ، وَالْكَفَالَةُ هَاهُنَا بِمَنْزِلَةِ الْفَرْعِ لِلْوَكَالَةِ ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَا وَجَبَ بِالْوَكَالَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُصَحَّحَ عَلَى وَجْهٍ يَبْطُلُ بِهِ أَصْلُهَا ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ فَرْعًا لِلْأَوَّلِ .
وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ رَجُلَانِ عَبْدًا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَضَمِنَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ إنْ صَحَّ ، فَإِنْ كَانَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ شَائِعًا صَارَ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فَسَادُهُ ، وَإِنْ صَحَّ فِي نَصِيبِهِ مُفْرِزًا أَدَّى إلَى قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازٌ ، وَذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ حِسًّا أَوْ بِوَصْفٍ مُمَيِّزٍ وَكِلَاهُمَا فِيمَا فِي الذِّمَّةِ مِنْ الدَّيْنِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ .
وَذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ فِي تَعْلِيلِهِ ؛ لِأَنَّ مَا يُسْتَحَقُّ بِنَصِيبِ أَحَدِهِمَا فَلِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ إذَا كَانَ مَالًا بِدَلِيلِ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ اشْتَرَى بِنَصِيبِهِ مِنْهُ شَيْئًا كَانَ لِلْآخَرِ وِلَايَةُ الْمُشَارَكَةِ ، وَلَوْ صَحَّ الضَّمَانُ فَمَا يُؤَدِّيهِ الضَّامِنُ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَضْمُونِ لَهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ عَلَى الشَّرِيكِ ، فَإِذَا رَجَعَ بَطَلَ حُكْمُ الْأَدَاءِ فِي مِقْدَارِ مَا وَقَعَ فِيهِ الرُّجُوعُ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مَا أَدَّى إلَّا الْبَاقِيَ فَكَانَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الْبَاقِي ثَمَّ وَثَمَّ إلَى أَنْ لَا يَبْقَى شَيْءٌ ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَشَايِخِنَا إنَّ فِي تَجْوِيزِ هَذَا الضَّمَانِ ابْتِدَاءً إبْطَالَهُ انْتِهَاءً
فَقُلْنَا بِبُطْلَانِهِ ابْتِدَاءً ، وَلَا مَعْنَى لِمَا قِيلَ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَوْ صَحَّ الضَّمَانُ إمَّا أَنْ يَصِحَّ بِنِصْفٍ شَائِعٍ أَوْ بِنِصْفٍ هُوَ نَصِيبُ شَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يُضَافُ إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ شَائِعًا .
وَقَوْلُهُ : وَلَا وَجْهَ إلَى الثَّانِي لِمَا فِيهِ مِنْ قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا مَعْنَى لِهَذَا أَيْضًا لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ اشْتَرَى بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ يَجُوزُ وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ ، فَكَذَا إذَا ضَمِنَ أَحَدُهُمَا بِنَصِيبِ صَاحِبِهِ ، وَلَكِنَّ التَّعْوِيلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا نَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَغَيْرُهُ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِذَا رَجَعَ بَطَلَ حُكْمُ الْأَدَاءِ فِي مِقْدَارِ مَا وَقَعَ فِيهِ الرُّجُوعُ إنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ الرُّجُوعُ بِاعْتِبَارِ نَقْضِ مَا أَدَّى وَهُوَ مَمْنُوعٌ ، بَلْ هُوَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ اسْتِيفَاءٌ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ فِيمَا بَقِيَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَلَا يَرْجِعُ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ : لِأَنَّ الضَّمَانَ يُضَافُ إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ شَائِعًا .
يُجَابُ عَلَيْهِ بِأَنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ وَهُوَ النِّصْفُ مَثَلًا لَهُ اعْتِبَارَانِ اعْتِبَارُ نِصْفٍ شَائِعٍ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الثَّمَنِ وَاعْتِبَارُ نِصْفِ مُفْرِزٍ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْبَاقِي مِنْ الْأَفْرَادِ وَلَا خَفَاءَ فِي اخْتِلَافِهِمَا وَتَغَايُرِهِمَا فَتَرْكُ ذَلِكَ نَقْصٌ فِي التَّعَقُّلِ ، وَقَوْلُهُ : لَا مَعْنَى لِهَذَا أَيْضًا لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ إلَخْ .
يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ إنَّمَا تَلْزَمُ الْقِسْمَةُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ مَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِنَصِيبِهِ وَقَعَ عَلَى الشَّرِكَةِ وَلِهَذَا كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَا صَفْقَتَيْنِ بِأَنْ سَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا لِنَفْسِهِ ثُمَّ ضَمِنَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِنَصِيبِهِ فَإِنَّ الضَّمَانَ صَحِيحٌ لِامْتِيَازِ نَصِيبِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ نَصِيبِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ ثَمَّةَ ؛
لِأَنَّهَا تَكُونُ بِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ .
وَاسْتَوْضَحَ بِقَوْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْبَلَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا وَيَرُدَّ الْآخَرَ .
وَلَهُ أَنْ يَقْبِضَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا إذَا نَقَدَ ثَمَنَ حِصَّتِهِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْكُلِّ ، وَلَوْ اتَّحَدَتْ الصَّفْقَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ
قَالَ ( وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ آخَرَ خَرَاجَهُ وَنَوَائِبَهُ وَقِسْمَتَهُ فَهُوَ جَائِزٌ .
أَمَّا الْخَرَاجُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ ) يُخَالِفُ الزَّكَاةَ ، لِأَنَّهَا مُجَرَّدُ فِعْلٍ وَلِهَذَا لَا تُؤَدَّى بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ إلَّا بِوَصِيَّةٍ .
وَأَمَّا النَّوَائِبُ ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا مَا يَكُونُ بِحَقٍّ كَكَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ وَأَجْرِ الْحَارِسِ وَالْمُوَظَّفِ لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ وَفِدَاءِ الْأَسَارَى وَغَيْرِهَا جَازَتْ الْكَفَالَةُ بِهَا عَلَى الِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا مَا لَيْسَ بِحَقٍّ كَالْجِبَايَاتِ فِي زَمَانِنَا فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَمِمَّنْ يَمِيلُ إلَى الصِّحَّةِ الْإِمَامُ عَلِيٌّ الْبَزْدَوِيُّ ، وَأَمَّا الْقِسْمَةُ فَقَدْ قِيلَ : هِيَ النَّوَائِبُ بِعَيْنِهَا أَوْ حِصَّةٌ مِنْهَا وَالرِّوَايَةُ بِأَوْ ، وَقِيلَ هِيَ النَّائِبَةُ الْمُوَظَّفَةُ الرَّاتِبَةُ ، وَالْمُرَادُ بِالنَّوَائِبِ مَا يَنُوبُهُ غَيْرُ رَاتِبٍ وَالْحُكْمُ مَا بَيَّنَّاهُ .
قَالَ ( وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ آخَرَ خَرَاجَهُ وَنَوَائِبَهُ وَقِسْمَتَهُ فَهُوَ جَائِزٌ إلَخْ ) الضَّمَانُ عَنْ الْخَرَاجِ وَالنَّوَائِبِ وَالْقِسْمَةِ جَائِزٌ .
أَمَّا الْخَرَاجُ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ وَالرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ جَائِزَانِ فِي الْخَرَاجِ .
قِيلَ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُوَظَّفُ وَهُوَ الْوَاجِبُ فِي الذِّمَّةِ بِأَنْ يُوَظِّفَ الْإِمَامُ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَلَى مَالٍ عَلَى مَا يَرَاهُ دُونَ الْمُقَاسَمَةِ وَهِيَ الَّتِي يَقْسِمُ الْإِمَامُ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الدَّيْنِ لِعَدَمِ وُجُوبِهِ فِي الذِّمَّةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا الشَّرْحِ مَا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْخَرَاجِ وَالزَّكَاةِ .
وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فَرْقًا آخَرَ بِقَوْلِهِ وَهُوَ يُخَالِفُ الزَّكَاةَ ؛ لِأَنَّهَا مُجَرَّدُ فِعْلٍ ، إذْ الْوَاجِبُ فِيهَا تَمْلِيكُ مَالٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ ، وَالْمَالُ آلَتُهُ وَلِهَذَا لَا تُؤَدَّى بَعْدَ مَوْتِهِ إلَّا بِالْوَصِيَّةِ ، وَأَمَّا النَّوَائِبُ فَقَدْ يُرَادُ بِهَا مَا يَكُونُ بِحَقٍّ وَقَدْ يُرَادُ بِهَا مَا لَيْسَ بِحَقٍّ ، وَالْأَوَّلُ كَكَرْيِ الْأَنْهَارِ الْمُشْتَرَكَةِ وَأَجْرِ الْحَارِسِ لِلْمَحَلَّةِ وَمَا وَظَّفَ الْإِمَامُ لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ وَفِدَاءِ الْأُسَارَى ، بِأَنْ احْتَاجَ إلَى تَجْهِيزِ الْجَيْشِ لِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ إلَى فِدَاءِ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ فَوَظَّفَ مَالًا عَلَى النَّاسِ لِذَلِكَ ، وَالضَّمَانُ فِيهِ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ لِوُجُوبِ أَدَائِهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَوْجَبَهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ لِوُجُوبِ طَاعَتِهِ فِيمَا يَجِبُ النَّظَرُ لِلْمُسْلِمِينَ .
وَالثَّانِي كَالْجِبَايَاتِ فِي زَمَانِنَا وَهِيَ الَّتِي يَأْخُذُهَا الظَّلَمَةُ فِي زَمَانِنَا ظُلْمًا كَالْقَيْجَرِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَصِحُّ الضَّمَانُ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ شُرِعَتْ لِالْتِزَامِ الْمُطَالَبَةِ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ شَرْعًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ هَاهُنَا شَرْعًا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَصِحُّ وَمِمَّنْ يَمِيلُ إلَيْهِ الْإِمَامُ
الْبَزْدَوِيُّ يُرِيدُ فَخْرَ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ صَدْرَ الْإِسْلَامِ مِمَّنْ مَالَ إلَى عَدَمِ صِحَّتِهَا .
قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : وَأَمَّا النَّوَائِبُ فَهِيَ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ مِنْ حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَنُوبُهُ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا دُيُونٌ فِي حُكْمٍ تَوَجَّهَ الْمُطَالَبَةُ بِهَا .
وَالْعِبْرَةُ فِي الْكَفَالَةِ لِلْمُطَالَبَةِ ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِالْتِزَامِهَا ، وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ مَنْ قَامَ بِتَوْزِيعِ هَذِهِ النَّوَائِبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْقِسْطِ وَالْعَدَالَةِ كَانَ مَأْجُورًا وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الَّذِي يَأْخُذُ بَاطِلًا ، وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ مَنْ قَضَى نَائِبُهُ غَيْرَهُ بِإِذْنِهِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الرُّجُوعِ اسْتِحْسَانًا بِمَنْزِلَةِ ثَمَنِ الْمَبِيعِ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : هَذَا إذَا أَمَرَهُ بِهِ لَا عَنْ إكْرَاهٍ ، أَمَّا إذَا كَانَ مُكْرَهًا فِي الْأَمْرِ فَلَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ فِي الرُّجُوعِ .
أَمَّا قَوْلُهُ : وَقِسْمَتُهُ فَقَدْ ذُكِرَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ : وَقَعَ هَذَا الْحَرْفُ غَلَطًا ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مَصْدَرٌ وَالْمَصْدَرُ فِعْلٌ وَهَذَا الْفِعْلُ غَيْرُ مَضْمُونٍ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقِسْمَةَ قَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى النَّصِيبِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } وَالْمُرَادُ النَّصِيبُ .
وَكَانَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ يَقُولُ مَعْنَاهُ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا طَلَبَ الْقِسْمَةَ مِنْ صَاحِبِهِ وَامْتَنَعَ الْآخَرُ عَنْ ذَلِكَ فَضَمِنَ إنْسَانٌ لِيَقُومَ مَقَامَهُ فِي الْقِسْمَةِ جَازَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَعْنَاهُ إذَا اقْتَسَمَا ثُمَّ مَنَعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ قَسْمَ صَاحِبِهِ فَتَكُونُ الرِّوَايَةُ عَلَى هَذَا قَسَمَهُ بِالضَّمِيرِ لَا بِالتَّاءِ ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْقِسْمَةَ بِالتَّاءِ تَجِيءُ بِمَعْنَى الْقَسْمِ بِلَا تَاءٍ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ النَّوَائِبُ بِعَيْنِهَا ، وَقَدْ ذَكَرَ تَفْسِيرَ النَّوَائِبِ بِحَقٍّ
وَبِغَيْرِهِ وَعَلَى هَذَا فَذِكْرُهُ بِالْوَاوِ لِلْبَيَانِ مِنْ بَابِ الْعَطْفِ لِلتَّفْسِيرِ أَوْ حِصَّتُهُ مِنْهَا : أَيْ مِنْ النَّوَائِبِ : يَعْنِي إذَا قَسَمَ الْإِمَامُ مَا يَنُوبُ الْعَامَّةَ نَحْوُ مُؤْنَةِ كَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ فَأَصَابَ وَاحِدًا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَيَحَبُّ أَدَاؤُهُ فَكَفَلَ بِهِ رَجُلٌ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِالْإِجْمَاعِ .
قِيلَ : وَلَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ الرِّوَايَةَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ وَقِسْمَتُهُ بِالْوَاوِ لِيَكُونَ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ بِأَوْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الْقِسْمَةُ حِصَّةً مِنْ النَّوَائِبِ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إذَا كَانَتْ حِصَّةً مِنْهَا فَهُوَ مَحَلُّ أَوْ ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ هِيَ النَّوَائِبَ بِعَيْنِهَا فَهُوَ مَحَلُّ الْوَاوِ لِمَا مَرَّ .
وَقِيلَ هِيَ النَّائِبَةُ الْمُوَظَّفَةُ الرَّاتِبَةُ ، وَالْمُرَادُ مِنْ النَّوَائِبِ مَا يَنُوبُهُ غَيْرُ رَاتِبٍ .
قِيلَ : وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ ، وَالْحُكْمُ مَا بَيَّنَّاهُ : يَعْنِي جَوَازَ الْكَفَالَةِ فِيمَا كَانَ بِحَقٍّ بِالِاتِّفَاقِ ، وَاخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ فِيمَا كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ .
( وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ مِائَةٌ إلَى شَهْرٍ وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ هِيَ حَالَّةٌ ) ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي ، وَمَنْ قَالَ ضَمِنْت لَك عَنْ فُلَانٍ مِائَةً إلَى شَهْرٍ وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ هِيَ حَالَّةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الضَّامِنِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ .
ثُمَّ ادَّعَى حَقًّا لِنَفْسِهِ وَهُوَ تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ إلَى أَجَلٍ وَفِي الْكَفَالَةِ مَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِمُجَرَّدِ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ الشَّهْرِ ، وَلِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الدُّيُونِ عَارِضٌ حَتَّى لَا يَثْبُتَ إلَّا بِشَرْطٍ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ أَنْكَرَ الشَّرْطَ كَمَا فِي الْخِيَارِ ، أَمَّا الْأَجَلُ فِي الْكَفَالَةِ فَنَوْعٌ مِنْهَا حَتَّى يَثْبُتَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ بِأَنْ كَانَ مُؤَجَّلًا عَلَى الْأَصِيلِ ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَلْحَقَ الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ ، وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ أَلْحَقَ الْأَوَّلَ بِالثَّانِي وَالْفَرْقُ قَدْ أَوْضَحْنَاهُ .
قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ مِائَةٌ إلَى شَهْرٍ إلَخْ ) وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ مِائَةٌ إلَى شَهْرٍ فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ هِيَ حَالَّةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي لِكَوْنِهَا حَالَّةً ؛ وَإِنْ قَالَ ضَمِنْت لَك عَنْ فُلَانٍ مِائَةً إلَى شَهْرٍ وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ هِيَ حَالَّةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الضَّامِنِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِمَا لِلْمُقَرِّ لَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْقَوْلُ فِيهِمَا لِلْمُقِرِّ .
لَهُ أَنَّ الدَّيْنَ نَوْعَانِ : حَالٌّ وَمُؤَجَّلٌ فَإِذَا أَقَرَّ بِالْمُؤَجَّلِ فَقَدْ أَقَرَّ بِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ : اعْتِبَارًا بِالْكَفَالَةِ .
وَأُجِيبَ بِفَسَادِ الِاعْتِبَارِ ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الدَّيْنِ عَارِضٌ كَمَا سَيَأْتِي .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى وُجُوبِ الْمَالِ ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْأَجَلَ عَلَى صَاحِبِهِ فَلَا يُصَدَّقُ فِيهِ إلَّا بِحُجَّةٍ اعْتِبَارًا بِالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ .
وَأُجِيبَ بِمَا أَجَابَ بِهِ الشَّافِعِيُّ .
وَوَجْهَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ مُدَّعِيًا حَقًّا لِنَفْسِهِ وَهُوَ تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ إلَى أَجَلٍ فَكَانَ ثَمَّةَ إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ وَدَعْوَى عَلَى غَيْرِهِ ، وَالْأَوَّلُ مَقْبُولٌ وَالثَّانِي يَحْتَاجُ إلَى بُرْهَانٍ ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ كَانَ الْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ .
وَفِي الْكَفَالَةِ مَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصَّحِيحِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِمُجَرَّدِ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ الشَّهْرِ فَوَضَحَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَبْ أَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَيُقِرُّ بِهِ أَلَيْسَ أَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِالْمُطَالَبَةِ فَلِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ : أَقَرَّ بِالْمُطَالَبَةِ مُدَّعِيًا حَقًّا لِنَفْسِهِ وَهُوَ تَأْخِيرُهَا إلَى أَجَلٍ فَكَانَ ثَمَّةَ إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْتُمْ فَلَا يَتِمُّ الْفَرْقُ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَمَامِهِ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِأَنْ يُقَالَ : الْكَفَالَةُ لَمَّا كَانَتْ الْتِزَامَ الْمُطَالَبَةِ فِي الْحَالِ وَجَبَ
أَنْ لَا يَثْبُتَ الْأَجَلُ عِنْدَ دَعْوَاهُ الْكَفِيلَ ، ؛ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ بَطَلَتْ الْكَفَالَةُ ، وَفِيهِ مِنْ التَّنَاقُضِ مَا لَا يَخْفَى .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ الْفَرْقَ الْأَوَّلَ إقْنَاعِيًّا جَدَلِيًّا لِدَفْعِ الْخَصْمِ فِي الْمَجْلِسِ ، وَذَكَرَ الثَّانِي لِمَنْ لَهُ زِيَادَةُ اسْتِبْصَارٍ فِي الِاسْتِقْصَاءِ عَلَى مَا يُذْكَرُ ، وَأَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهَا فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ .
وَالثَّانِي مَوْجُودٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا مُنَاقَضَةَ ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الدُّيُونِ عَارِضٌ ) هُوَ الْفَرْقُ الثَّانِي ، وَمَعْنَاهُ عَلَى أَنَّ مَا لَا يَثْبُتُ بِشَيْءٍ إلَّا بِشَرْطٍ كَانَ مِنْ عَوَارِضِهِ ، وَمَا يَثْبُتُ لَهُ بِدُونِهِ كَانَ ذَاتِيًّا لَهُ وَهُوَ حَسَنٌ ؛ لِأَنَّا لَوْ قَطَعْنَا النَّظَرَ عَنْ وُجُودِ الشَّرْطِ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ ذَلِكَ فَكَانَ عَارِضًا ، وَالْأَجَلُ فِي الدُّيُونِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ الْبِيَاعَاتِ وَالْمُهُورِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ حَالَّةٌ لَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِيهَا إلَّا بِالشَّرْطِ وَفِي الْكَفَالَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مُؤَجَّلًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا عَلَى الْأَصِيلِ فَكَانَ الْأَجَلُ ذَاتِيًّا لِبَعْضِ الْكَفَالَةِ مُنَوَّعًا لَهُ كَالنَّاطِقِ الْمُنَوَّعِ لِبَعْضِ الْحَيَوَانِ .
وَهَذَا أَقْصَى مَا يُتَصَوَّرُ فِي الْفِقْهِ مِنْ الدِّقَّةِ فِي إظْهَارِ الْمَأْخَذِ وَإِذَا كَانَ الْأَجَلُ فِي الدُّيُونِ عَارِضًا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَرْطٍ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ أَنْكَرَهُ مَعَ الْيَمِينِ كَمَا فِي شَرْطِ الْخِيَارِ ، وَإِذَا كَانَ فِي الْكَفَالَةِ ذَاتِيًّا كَانَ إقْرَارُهُ بِنَوْعٍ مِنْهَا فَلَا يُحْكَمُ بِغَيْرِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ .
وَوَقَعَ فِي الْمَتْنِ وَالشَّافِعِيُّ أَلْحَقَ الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ ، وَأَبُو يُوسُفَ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ أَلْحَقَ الْأَوَّلَ بِالثَّانِي ، وَالْعَكْسُ هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِمَا .
فَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْغَلَطِ
مِنْ النَّاسِخِ وَلَعَلَّهُ أَظْهَرُ
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِالدَّرَكِ فَاسْتَحَقَّتْ لَمْ يَأْخُذْ الْكَفِيلَ حَتَّى يُقْضَى لَهُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ ) لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يَنْتَقِضُ الْبَيْعُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا لَمْ يُقْضَ لَهُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ فَلَمْ يَجِبْ لَهُ عَلَى الْأَصِيلِ رَدُّ الثَّمَنِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ ، بِخِلَافِ الْقَضَاءِ بِالْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِهَا لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ فَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ وَالْكَفِيلِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِالِاسْتِحْقَاقِ ، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ يَرْجِعُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْقَاقِ وَمَوْضِعُهُ أَوَائِلُ الزِّيَادَاتُ فِي تَرْتِيبِ الْأَصْلِ .
( قَوْلُهُ : وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِالدَّرَكِ إلَخْ ) وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِالدَّرَكِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فَاسْتُحِقَّتْ الْجَارِيَةُ لَمْ يَأْخُذْ الْمُشْتَرِي الْكَفِيلَ بِالثَّمَنِ حَتَّى يَقْضِيَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ بِرَدِّ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْإِجَازَةِ مِنْ الْمُسْتَحِقِّ ثَابِتٌ وَثُبُوتُهُ يَمْنَعُ أَنْ يَأْخُذَ الْكَفِيلُ بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِثُبُوتِ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْمُسْتَحِقِّ لَا يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا لَمْ يُقْضَ لَهُ بِرَدِّ الثَّمَنِ عَلَيْهِ ، فَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ بَائِعُ الْجَارِيَةِ بَعْدَ حُكْمِ الْقَاضِي لِلْمُسْتَحِقِّ نَفَذَ إعْتَاقُهُ وَإِذَا لَمْ يُنْتَقَضْ لَمْ يَجِبْ الثَّمَنُ عَلَى الْأَصِيلِ ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَصِيلِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْكَفِيلِ ، وَإِنَّمَا قَالَ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ احْتِرَازًا عَمَّا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْكَفِيلُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ تَوَجَّهَ عَلَى الْبَائِعِ وَوَجَبَ لِلْمُشْتَرِي مُطَالَبَتُهُ ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا قَضَى الْحَاكِمُ بِالْحُرِّيَّةِ فَبِمُجَرَّدِ الْقَضَاءِ بِهَا يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الرُّجُوعِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الِاسْتِحْقَاقِ ؟ وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الْقَضَاءِ بِالْحُرِّيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِهَا لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ فَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ وَكَفِيلِهِ إنْ شَاءَ وَمَوْضِعُهُ أَوَائِلُ الزِّيَادَاتِ فِي تَرْتِيبِ الْأَصْلِ ، أَرَادَ بِتَرْتِيبِ الْأَصْلِ تَرْتِيبَ مُحَمَّدٍ ، فَإِنَّهُ افْتَتَحَ كِتَابَ الزِّيَادَاتِ بِبَابِ الْمَأْذُونِ مُخَالِفًا لِتَرْتِيبِ سَائِرِ الْكُتُبِ تَبَرُّكًا بِمَا أَمْلَى بِهِ أَبُو يُوسُفَ ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا أَخَذَ مَا أَمْلَى وَبَيَّنَ أَبُو يُوسُفَ بَابًا بَابًا وَجَعَلَهُ أَصْلًا ، وَزَادَ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِهِ مَا يُتِمُّ بِهِ تِلْكَ الْأَبْوَابَ فَكَانَ أَصْلُ الْكِتَابِ مِنْ
تَصْنِيفِ أَبِي يُوسُفَ وَزِيَادَاتُهُ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ كِتَابَ الزِّيَادَاتِ ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ إمْلَاءِ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ بَابِ الْمَأْذُونِ وَلَمْ يُغَيِّرْهُ مُحَمَّدٌ تَبَرُّكًا بِهِ ، ثُمَّ رَتَّبَهَا الزَّعْفَرَانِيُّ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ .
( وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَضَمِنَ لَهُ رَجُلٌ بِالْعُهْدَةِ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ ) لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مُشْتَبِهَةٌ قَدْ تَقَعُ عَلَى الصَّكِّ الْقَدِيمِ وَهُوَ مِلْكُ الْبَائِعِ فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ ، وَقَدْ تَقَعُ عَلَى الْعَقْدِ وَعَلَى حُقُوقِهِ وَعَلَى الدَّرَكِ وَعَلَى الْخِيَارِ ، وَلِكُلِّ ذَلِكَ وَجْهٌ فَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهَا ، بِخِلَافِ الدَّرَكِ لِأَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي ضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ عُرْفًا ، وَلَوْ ضَمِنَ الْخَلَاصَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَخْلِيصِ الْمَبِيعِ وَتَسْلِيمِهِ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهِ ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَكِ وَهُوَ تَسْلِيمُ الْبَيْعِ أَوْ قِيمَتِهِ فَصَحَّ .
( وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَضَمِنَ لَهُ رَجُلٌ بِالْعُهْدَةِ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ ) ذَكَرَ هَاهُنَا ثَلَاثَ مَسَائِلَ : الْأُولَى ضَمَانُ الْعُهْدَةِ وَقَالَ إنَّهُ بَاطِلٌ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا .
وَالثَّانِيَةُ ضَمَانُ الدَّرَكِ وَهُوَ صَحِيحٌ بِالِاتِّفَاقِ .
وَالثَّالِثَةُ ضَمَانُ الْخَلَاصِ .
وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَأَمَّا بُطْلَانُ الْأُولَى فَلِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مُشْتَبِهَةٌ لِاشْتِرَاكٍ وَقَعَ فِي اسْتِعْمَالِهَا فَإِنَّهَا تَقَعُ عَلَى الصَّكِّ الْقَدِيمِ الَّذِي عِنْدَ الْبَائِعِ وَهُوَ مِلْكُ الْبَائِعِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ ، وَمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ وَقَدْ تَقَعُ عَلَى الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْعَهْدِ ، وَالْعَهْدُ وَالْعَقْدُ وَاحِدٌ ، وَقَدْ تَقَعُ عَلَى حُقُوقِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ثَمَرَاتِ الْعَقْدِ ، وَقَدْ تَقَعُ عَلَى الدَّرَكِ وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَعَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { عُهْدَةُ الرَّقِيقِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ } أَيْ خِيَارُ الشَّرْطِ فِيهِ ، وَلِكُلِّ ذَلِكَ وَجْهٌ يَجُوزُ الْحَمْلُ بِهِ عَلَيْهِ فَصَارَ مُبْهَمًا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِ .
وَأَمَّا جَوَازُ الثَّانِي : أَيْ ضَمَانُ الدَّرَكِ فَإِنَّ الْعُرْفَ فِيهِ اسْتِعْمَالُهُ فِي ضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ فَصَارَ مُبَيِّنًا لَهُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَخْلِيصِ الْمَبِيعِ وَتَسْلِيمِهِ لَا مَحَالَةَ : أَيْ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَتَقْدِيرٍ وَهُوَ الْتِزَامُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ ظَهَرَ مُسْتَحِقًّا فَرُبَّمَا لَا يُسَاعِدُهُ الْمُسْتَحِقُّ ، أَوْ حُرًّا فَلَا يَقْدِرُ مُطْلَقًا ، وَالْتِزَامُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ بَاطِلٌ ، وَهُمَا جَعَلَاهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَكِ تَصْحِيحًا لِلضَّمَانِ وَهُوَ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ أَوْ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ إنْ عَجَزَ عَنْهُ وَضَمَانُ الدَّرَكِ صَحِيحٌ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فَرَاغَ الذِّمَّةِ أَصْلٌ فَلَا تَشْتَغِلُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ ،
ذَكَرَ أَبُو زَيْدٍ فِي شُرُوطِهِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ كَانَا يَكْتُبَانِ فِي الشُّرُوطِ : فَمَا أَدْرَكَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُهُ أَوْ رَدُّ الثَّمَنِ ، فَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ بُطْلَانَ الضَّمَانِ إنَّمَا كَانَ بِالْخَلَاصِ مُنْفَرِدًا ، أَمَّا إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ رَدُّ الثَّمَنِ فَهُوَ جَائِزٌ .
قِيلَ وَعَلَى هَذَا فَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إنَّمَا هُوَ الثَّمَنُ لَا الْقِيمَةُ ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الثَّمَنُ مَجَازًا شُهْرَةُ أَمْرِهِ مُتَعَذِّرَةٌ وَبَلَاغَةُ التَّرْكِيبِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ فِيمَا لَا يَلْتَبِسُ فَضِيلَةً ، هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ .
وَذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ أَنَّ تَفْسِيرَ الْخَلَاصِ وَالدَّرَكِ وَالْعُهْدَةِ وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الدَّرَكِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْعُهْدَةِ أَيْضًا ثَابِتٌ .
وَذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ : وَأَمَّا ضَمَانُ الْعُهْدَةِ فَقَدْ ذَكَرَ هُنَا : أَيْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا .
وَذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ضَمَانُ الْعُهْدَةِ ضَمَانُ الدَّرَكِ ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَكَأَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَذَكَرَ بُطْلَانَهُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( بَابُ كَفَالَةِ الرَّجُلَيْنِ ) ( وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَى اثْنَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ كَمَا إذَا اشْتَرَيَا عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَكَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فَمَا أَدَّى أَحَدُهُمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى شَرِيكِهِ حَتَّى يَزِيدَ مَا يُؤَدِّيهِ عَلَى النِّصْفِ فَيَرْجِعَ بِالزِّيَادَةِ ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ أَصِيلٌ وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ كَفِيلٌ ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ مَا عَلَيْهِ بِحَقِّ الْأَصَالَةِ وَبِحَقِّ الْكَفَالَةِ ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ دَيْنٌ وَالثَّانِيَ مُطَالَبَةٌ ، ثُمَّ هُوَ تَابِعٌ لِلْأَوَّلِ فَيَقَعُ عَنْ الْأَوَّلِ ، وَفِي الزِّيَادَةِ لَا مُعَارَضَةَ فَيَقَعُ عَنْ الْكَفَالَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ فِي النِّصْفِ عَنْ صَاحِبِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَرْجِعَ لِأَنَّ أَدَاءَ نَائِبِهِ كَأَدَائِهِ فَيُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ
بَابُ كَفَالَةِ الرَّجُلَيْنِ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ كَفَالَةِ الْوَاحِدِ ذَكَرَ كَفَالَةَ الِاثْنَيْنِ لِمَا أَنَّ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْوَاحِدِ طَبْعًا فَأُخِّرَ وَضْعًا لِيُنَاسِبَ الْوَضْعُ الطَّبْعَ .
قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَى اثْنَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ إلَخْ ) إذَا اشْتَرَى الرَّجُلَانِ عَبْدًا بِأَلْفٍ فَالثَّمَنُ دَيْنٌ عَلَيْهِمَا لَا مَحَالَةَ ، فَإِنْ كَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فَمَا أَدَّى أَحَدُهُمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى شَرِيكِهِ حَتَّى يَزِيدَ الْمُؤَدَّى عَلَى النِّصْفِ فَيَرْجِعُ بِالزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي النِّصْفِ أَصِيلٌ وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ كَفِيلٌ ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ فِي النِّصْفِ أَصِيلًا وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ كَفِيلًا فَمَا أَدَّى إلَى تَمَامِ النِّصْفِ كَانَ عَمَّا عَلَيْهِ بِحَقِّ الْأَصَالَةِ صَرْفًا إلَى أَقْوَى مَا عَلَيْهِ ؛ كَمَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَعَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَنَقَدَ فِي الْمَجْلِسِ عَشَرَةً جَعَلَ الْمَنْقُودَ ثَمَنَ الصَّرْفِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِهِ أَقْوَى لِحَاجَتِهِ إلَى الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ ، وَمَا عَلَيْهِ بِحَقِّ الْأَصَالَةِ أَقْوَى ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ، وَمَا عَلَيْهِ بِحَقِّ الْكَفَالَةِ مُطَالَبَةٌ لَا دَيْنٌ ، وَهِيَ تَابِعَةٌ لِلدَّيْنِ لِابْتِنَائِهَا عَلَى الدَّيْنِ ، فَإِنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالدَّيْنِ بِدُونِ الدَّيْنِ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ فَلَا يُعَارِضُهُ ، بَلْ يَتَرَجَّحُ الدَّيْنُ عَلَيْهَا وَيَنْصَرِفُ الْمَصْرُوفُ إلَيْهِ إلَى تَمَامِ النِّصْفِ ، وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ لَا مُعَارَضَةَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهَا بِحَقِّ الْأَصَالَةِ شَيْءٌ فَانْتَفَى الْمُعَارَضَةُ بِانْتِفَاءِ أَحَدِ الْمُتَعَارِضَيْنِ ، وَفِي النِّصْفِ كَانَ انْتِفَاؤُهَا لِكَوْنِ أَحَدِهِمَا رَاجِحًا لَا لِانْتِفَائِهِ ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّهُ ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى ذَلِكَ أَوْرَدَهُ بِقِيَاسِ الْخُلْفِ ، فَإِنَّهُ جَعَلَ نَقِيضَ الْمُدَّعَى وَهُوَ الرُّجُوعُ عَلَى صَاحِبِهِ مُسْتَلْزِمًا لِمُحَالٍ وَهُوَ رُجُوعُ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ الْمُسْتَلْزِمُ لِلدَّوْرِ فَإِنَّهُ قَالَ : لَوْ
وَقَعَ فِي النِّصْفِ عَنْ صَاحِبِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ ، لَكِنْ لَيْسَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ فَلَمْ يَقَعْ فِي النِّصْفِ عَنْ صَاحِبِهِ لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّ أَدَاءَ نَائِبِهِ كَأَدَائِهِ ) بَيَانٌ لِلْمُلَازَمَةِ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ صَاحِبَ الْمُؤَدَّى يَقُولُ لَهُ أَنْتَ أَدَّيْته عَنِّي بِأَمْرِي فَيَكُونُ ذَلِكَ كَأَدَائِي ، وَلَوْ أَدَّيْت بِنَفْسِي كَانَ لِي أَنْ أَجْعَلَ الْمُؤَدَّى عَنْك ، فَإِنْ رَجَعَتْ عَلَيَّ وَأَنَا كَفِيلٌ عَنْك فَأَنَا أَجْعَلُهُ عَنْك فَأَرْجِعُ عَلَيْك ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الَّذِي أَدَّيْته عَنِّي فَهُوَ أَدَائِي فِي التَّقْدِيرِ ، فَلَوْ أَدَّيْت حَقِيقَةً رَجَعْت عَلَيْك فَفِي تَقْرِيرِ أَدَائِي كَذَلِكَ ، وَالشَّرِيكُ الْآخَرُ يَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَ فَأَدَّى إلَى الدَّوْرِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الرُّجُوعِ فَائِدَةٌ فَجَعَلْنَا الْمُؤَدَّى عَنْ نَصِيبِهِ خَاصَّةً إلَى تَمَامِ النِّصْفِ لِيَنْقَطِعَ الدَّوْرُ ، بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ عَلَى النِّصْفِ ، فَإِنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ ، إذْ لَيْسَ عَلَى الشَّرِيكِ بِحُكْمِ الْأَصَالَةِ إلَّا النِّصْفُ فَيُقَيَّدُ الرُّجُوعُ .
( وَإِذَا كَفَلَ رَجُلَانِ عَنْ رَجُلٍ بِمَالٍ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَكُلُّ شَيْءٍ أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِهِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ فِي الصَّحِيحِ أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ بِالْكُلِّ عَنْ الْأَصِيلِ وَبِالْكُلِّ عَنْ الشَّرِيكِ وَالْمُطَالَبَةُ مُتَعَدِّدَةٌ فَتَجْتَمِعُ الْكَفَالَتَانِ عَلَى مَا مَرَّ وَمُوجِبُهَا الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْكَفِيلِ كَمَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْأَصِيلِ وَكَمَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ .
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا وَقَعَ شَائِعًا عَنْهُمَا إذْ الْكُلُّ كَفَالَةٌ فَلَا تَرْجِيحَ لِلْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِهِ وَلَا يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ لِأَنَّ قَضِيَّتَهُ الِاسْتِوَاءُ ، وَقَدْ حَصَلَ بِرُجُوعِ أَحَدِهِمَا بِنِصْفِ مَا أَدَّى فَلَا يَنْتَقِضُ بِرُجُوعِ الْآخَرِ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ، ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّهُمَا أَدَّيَا عَنْهُ أَحَدُهُمَا بِنَفْسِهِ وَالْآخَرُ بِنَائِبِهِ ( وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِالْجَمِيعِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ ) لِأَنَّهُ كَفَلَ بِجَمِيعِ الْمَالِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ .
قَالَ ( وَإِذَا أَبْرَأَ رَبُّ الْمَالِ أَحَدَهُمَا أَخَذَ الْآخَرَ بِالْجَمِيعِ لِأَنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ لَا يُوجِبُ ) بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَبَقِيَ الْمَالُ كُلُّهُ عَلَى الْأَصِيلِ وَالْآخَرُ كَفِيلٌ عَنْهُ بِكُلِّهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلِهَذَا يَأْخُذُهُ بِهِ .
( وَإِذَا كَفَلَ رَجُلَانِ عَنْ رَجُلٍ بِمَالٍ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ ) بِكُلِّ الْمَالِ وَعَنْ الْأَصِيلِ كَذَلِكَ ، فَاجْتَمَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَفِيلَيْنِ كَفَالَتَانِ كَفَالَةٌ عَنْ الْأَصِيلِ وَكَفَالَةٌ عَنْ الْكَفِيلِ وَتَعَدَّدَتْ الْمُطَالَبَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبَةٌ لَهُ عَلَى الْأَصِيلِ وَأُخْرَى عَلَى الْكَفِيلِ فَصَحَّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْكَفَالَةِ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ وَعَلَى الْكَفِيلِ مُطَالَبَتُهُ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْكَفِيلِ كَمَا تَصِحُّ عَنْ الْأَصِيلِ ، وَكَمَا تَصِحُّ حَوَالَةُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِمَا الْتَزَمَ عَلَى آخَرَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ فِي الصَّحِيحِ ( وَكُلُّ شَيْءٍ أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِهِ قَلِيلًا كَانَ الْمُؤَدَّى أَوْ كَثِيرًا ) ؛ لِأَنَّ مَا أَدَّى أَحَدُهُمَا وَقَعَ شَائِعًا عَنْهُمَا إذْ الْكُلُّ كَفَالَةٌ فَلَا تَرْجِيحَ لِلْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ الْأَصَالَةَ فِي النِّصْفِ رَاجِحَةٌ بَعْدَ صُورَةِ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْكَفَالَةِ ، وَإِذَا وَقَعَ شَائِعًا رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِهِ وَلَا يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ ؛ لِأَنَّ قَضِيَّتَهُ الِاسْتِوَاءُ وَقَدْ حَصَلَ بِرُجُوعِ أَحَدِهِمَا بِنِصْفِ مَا أَدَّى فَلَا يُنْتَقَضُ بِرُجُوعِ الْآخَرِ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَلْتَزِمْ جَمِيعَ الْمَالِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ ، بَلْ الْتَزَمَ نِصْفَ الْمَالِ بِشِرَائِهِ بِنَفْسِهِ وَنِصْفَهُ بِكَفَالَتِهِ عَنْ شَرِيكِهِ ، وَجَعَلَ الْمُؤَدَّى عَنْ الْكَفَالَةِ يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي الصَّحِيحِ لِيَتَأَتَّى الْفُرُوعُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ ( ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْأَصِيلِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَدَّيَا عَنْهُ أَحَدُهُمَا بِنَفْسِهِ وَالْآخَرُ بِنَائِبِهِ ) وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كُلٌّ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ الْأَصِيلِ كَانَ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ لِمَنْ كَفَلَ عَنْهُ لَا لَهُمَا .
وَقَالَ ( وَإِنْ شَاءَ ) يَعْنِي مَنْ
أَدَّى مِنْهُمَا شَيْئًا ( رَجَعَ بِالْجَمِيعِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ عَنْهُ بِجَمِيعِ الْمَالِ بِأَمْرِهِ ) وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَفِيلًا عَنْ الْكَفِيلِ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رُجُوعٌ عَلَى الْأَصِيلِ .
وَقَالَ ( وَإِذَا أَبْرَأَ رَبُّ الْمَالِ أَحَدَهُمَا أَخَذَ الْآخَرَ بِالْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ لَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ ، فَبَقِيَ الْمَالُ كُلُّهُ عَلَى الْأَصِيلِ وَالْآخَرُ كَفِيلٌ عَنْهُ بِكُلِّهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) مِنْ قَوْلِهِ أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ بِالْكُلِّ عَنْ الْأَصِيلِ وَلِهَذَا نَأْخُذُهُ بِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
قَالَ ( وَإِذَا افْتَرَقَ الْمُتَفَاوِضَانِ فَلِأَصْحَابِ الدُّيُونِ أَنْ يَأْخُذُوا أَيَّهمَا شَاءُوا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الشَّرِكَةِ ( وَلَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ ) لِمَا مَرَّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ فِي كَفَالَةِ الرَّجُلَيْنِ .قَالَ ( وَإِذَا افْتَرَقَ الْمُتَفَاوِضَانِ فَلِأَصْحَابِ الدُّيُونِ أَنْ يَأْخُذُوا أَيَّهمَا شَاءُوا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ إلَخْ ) إذَا افْتَرَقَ الْمُتَفَاوِضَانِ وَعَلَيْهِمَا دَيْنٌ فَلِأَصْحَابِهِ أَنْ يَأْخُذُوا أَيَّهمَا شَاءُوا بِجَمِيعِ ذَلِكَ ، فَإِنْ أَدَّى أَحَدُهُمَا شَيْئًا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى شَرِيكِهِ بِشَيْءٍ حَتَّى يَزِيدَ الْمُؤَدَّى عَلَى النِّصْفِ فَيَرْجِعُ بِالزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْكَفَالَةِ بِمَا كَانَ مِنْ ضَمَانِ التِّجَارَةِ ، وَحِينَئِذٍ كَانَ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يُطَالِبُوا أَيَّهمَا شَاءُوا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَثْبُتُ بِعَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَلَا تَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ ، فَإِذَا طَلَبُوا أَحَدَهُمَا وَأَخَذُوا الدَّيْنَ مِنْهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ لِمَا مَرَّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ فِي كَفَالَةِ الرَّجُلَيْنِ .
قَالَ ( وَإِذَا كُوتِبَ الْعَبْدَانِ كِتَابَةً وَاحِدَةً وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَكُلُّ شَيْءٍ أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهِ ) وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا ، وَطَرِيقُهُ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصِيلًا فِي حَقِّ وُجُوبِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ عِتْقُهُمَا مُعَلَّقًا بِأَدَائِهِ وَيُجْعَلَ كَفِيلًا بِالْأَلْفِ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي الْمُكَاتَبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ بِنِصْفِهِ عَلَى صَاحِبِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا ، وَلَوْ رَجَعَ بِالْكُلِّ لَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ .
قَالَ ( وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّيَا شَيْئًا حَتَّى أَعْتَقَ الْمَوْلَى أَحَدَهُمَا جَازَ الْعِتْقُ ) لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ وَبَرِئَ عَنْ النِّصْفِ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالْتِزَامِ الْمَالِ إلَّا لِيَكُونَ الْمَالُ وَسِيلَةً إلَى الْعِتْقِ وَمَا بَقِيَ وَسِيلَةً فَيَسْقُطُ وَيَبْقَى النِّصْفُ عَلَى الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي الْحَقِيقَةِ مُقَابَلٌ بِرَقَبَتِهِمَا .
وَإِنَّمَا جُعِلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا احْتِيَالًا لِتَصْحِيحِ الضَّمَانِ ، وَإِذَا جَاءَ الْعِتْقُ اسْتَغْنَى عَنْهُ فَاعْتُبِرَ مُقَابَلًا بِرَقَبَتِهِمَا فَلِهَذَا يَتَنَصَّفُ ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِحِصَّةِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ أَيَّهمَا شَاءَ الْمُعْتَقَ بِالْكَفَالَةِ وَصَاحِبَهُ بِالْأَصَالَةِ ، وَإِنْ أَخَذَ الَّذِي أَعْتَقَ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا يُؤَدِّي لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ عَنْهُ بِأَمْرِهِ ، وَإِنْ أَخَذَ الْآخَرُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُعْتَقِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْ نَفْسِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَإِذَا كُوتِبَ الْعَبْدَانِ كِتَابَةً وَاحِدَةً إلَخْ ) وَإِذَا كُوتِبَ الْعَبْدَانِ كِتَابَةً وَاحِدَةً بِأَنْ قَالَ الْمَوْلَى كَاتَبْتُكُمَا عَلَى أَلْفٍ ( إلَى كَذَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ ) صَحَّ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ بِخِلَافِهِ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ كَفَالَةُ الْمُكَاتَبِ ، وَالْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ بَاطِلٌ ، فَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا .
أَمَّا بُطْلَانُ كَفَالَةِ الْمُكَاتَبِ فَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ ، وَالْمُكَاتَبُ لَا يَمْلِكُهُ ، وَأَمَّا بُطْلَانُ الْكَفَالَةِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهَا تَقْتَضِي دَيْنًا صَحِيحًا وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَصِيلًا فِي حَقِّ وُجُوبِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ وَيَكُونَ عِتْقُهُمَا مُعَلَّقًا بِأَدَائِهِ : أَيْ بِأَدَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ قَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ أَدَّيْت الْأَلْفَ فَأَنْتَ حُرٌّ ، وَهَذَا وَأَنْ يَجْعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا بِأَلْفٍ عَنْ صَاحِبِهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْمُكَاتَبِ ، وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا كَانَتْ الْكِتَابَةُ وَاحِدَةً وَلِهَذَا قَيَّدَ بِهَا ، وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَتْ الْكِتَابَتَانِ فَإِنَّ عِتْقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَعَلَّقَ بِمَالٍ عَلَى حِدَةٍ فَتَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ عُرِفَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْوُجُوبِ عَلَيْهِمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْعِلَّةِ : أَعْنِي الْكَفَالَةَ فَكَانَ كُلُّ الْبَدَلِ مَضْمُونًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَا لَمْ يُؤَدِّ جَمِيعَ الْبَدَلِ ، فَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ بِنِصْفِهِ عَلَى صَاحِبِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا ، وَلَوْ رَجَعَ بِالْكُلِّ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ لَانْتَفَتْ الْمُسَاوَاةُ ، وَلَوْ لَمْ تُؤَدِّيَا شَيْئًا حَتَّى أَعْتَقَ الْمَوْلَى أَحَدَهُمَا صَحَّ الْعِتْقُ لِمُصَادَفَةِ الْعِتْقِ مِلْكَهُ وَبَرِئَ الْمُعْتَقُ عَنْ النِّصْفِ ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالْمَالِ
إلَّا لِيَكُونَ وَسِيلَةً إلَى الْعِتْقِ وَلَمْ يَبْقَ وَسِيلَةً فَيَسْقُطُ النِّصْفُ وَيَبْقَى النِّصْفُ عَلَى الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي الْحَقِيقَةِ مُقَابَلٌ بِرَقَبَتِهِمَا حَتَّى يَكُونَ مُوَزَّعًا مُنْقَسِمًا عَلَيْهِمَا ، وَإِنَّمَا جُعِلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا احْتِيَالًا لِتَصْحِيحِ الضَّمَانِ فَكَانَ ضَرُورِيًّا لَا يَتَعَدَّى غَيْرَ مَوْضِعِهَا .
وَإِذَا أُعْتِقَ اسْتَغْنَى عَنْهُ وَانْتَفَى الضَّرُورَةُ فَاعْتُبِرَ مُقَابِلًا بِرَقَبَتِهِمَا وَلِهَذَا يَتَنَصَّفُ .
وَعُورِضَ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُقَابَلًا بِهِمَا كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضُهُ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَصِحَّ الرُّجُوعُ مَا لَمْ يَزِدْ الْمُؤَدَّى عَلَى النِّصْفِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الدَّوْرُ كَمَا مَرَّ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرُّجُوعَ بِنِصْفِ مَا أَدَّى إنَّمَا هُوَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى لَوْ وَقَعَ عَنْ الْمُؤَدِّي عَلَى الْخُصُوصِ بَرِئَ بِأَدَائِهِ عَنْ نَصِيبِهِ وَعَتَقَ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَتَقَ ، وَالْمَوْلَى شَرَطَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُؤَدِّيَا جَمِيعًا وَيُعْتَقَا جَمِيعًا فَكَانَ فِي التَّخْصِيصِ إضْرَارٌ لِلْمَوْلَى بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَأَوْقَعْنَا الْمُؤَدَّى عَنْهُمَا جَمِيعًا ، وَإِذَا بَقِيَ النِّصْفُ عَلَى الْآخَرِ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِهِ أَيَّهمَا شَاءَ ، وَأَمَّا الْمُعْتَقُ فَبِالْكَفَالَةِ ، وَأَمَّا صَاحِبُهُ فَبِالْأَصَالَةِ : قِيلَ أَخْذُ الْمُعْتَقِ بِالْكَفَالَةِ تَصْحِيحٌ لِلْكَفَالَةِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَهِيَ بَاطِلَةٌ .
وَأَجَابُوا بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ مُطَالَبًا بِجَمِيعِ الْأَلْفِ وَالْبَاقِي بَعْضُ ذَلِكَ فَيَبْقَى عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ يَكُونُ عَلَى وَفْقِ الثُّبُوتِ ، فَإِنْ أَخَذَ الَّذِي أَعْتَقَهُ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا أَدَّى ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ ، وَإِنْ أَخَذَ صَاحِبَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْ نَفْسِهِ
( بَابُ كَفَالَةِ الْعَبْدِ وَعَنْهُ ) ( وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ عَبْدٍ مَالًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْتِقَ وَلَمْ يُسَمِّ حَالًّا وَلَا غَيْرَهُ فَهُوَ حَالٌّ ) لِأَنَّ الْمَالَ حَالٌّ عَلَيْهِ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَقَبُولِ الذِّمَّةِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ لِعُسْرَتِهِ ، إذْ جَمِيعُ مَا فِي يَدِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى وَلَمْ يَرْضَ بِتَعَلُّقِهِ بِهِ وَالْكَفِيلُ غَيْرُ مُعْسِرٍ ، فَصَارَ كَمَا إذَا كَفَلَ عَنْ غَائِبٍ أَوْ مُفْلِسٍ ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ لِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ بِمُؤَخَّرٍ ، ثُمَّ إذَا أَدَّى رَجَعَ عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّ الطَّالِبَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ ، فَكَذَا الْكَفِيلُ لِقِيَامِهِ مَقَامِهِ .
( بَابُ كَفَالَةِ الْعَبْدِ وَعَنْهُ ) حَقُّ هَذَا الْبَابِ التَّأْخِيرُ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْحُرِّ ، إمَّا لِشَرَفِهِ وَإِمَّا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ هُوَ الْحُرِّيَّةُ ، وَوَضْعُ تَرْتِيبِهِ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ كَفَالَةِ الْعَبْدِ فِي الْبَحْثِ ، وَلَكِنْ اُعْتُبِرَ كَوْنُ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ وَفِيهِ مَا فِيهِ .
قَالَ ( وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ عَبْدٍ مَالًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَخْ ) قَوْلُهُ : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ صِفَةٌ لِمَالًا .
وَجَوَابُ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ : فَهُوَ حَالٌّ وَعَدَلَ عَنْ عِبَارَةِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَهِيَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْعَبْدِ الَّذِي يَسْتَهْلِكُ الْمَالَ الَّذِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْتِقَ فَضَمِنَهُ رَجُلٌ وَلَمْ يُسَمَّ حَالًّا وَلَا غَيْرَ حَالٍّ إلَى عِبَارَتِهِ فِي الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ عِبَارَةَ مُحَمَّدٍ تَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا اسْتَهْلَكَ الْمَالَ عِيَانًا يُؤْخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ .
قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : مُرَادُهُ إذَا أَقَرَّ بِالِاسْتِهْلَاكِ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مُرَادُهُ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ الْبَالِغُ إذَا أُودِعَ مَالًا فَاسْتَهْلَكَهُ فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ بَلْ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَأَمَّا عِبَارَتُهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ : وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ عَبْدٍ مَالًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْتِقُ وَلَمْ يُسَمَّ حَالًّا وَلَا غَيْرَهُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ لِتَنَاوُلِهَا مَا إذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ بِاسْتِهْلَاكِهِ لِلْحَالِّ ، وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى أَوْ أَقْرَضَهُ إنْسَانٌ أَوْ بَاعَهُ وَهُوَ مَحْجُورٌ أَوْ وَطِئَ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى أَوْ أَوْدَعَهُ إنْسَانٌ فَاسْتَهْلَكَهُ فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِذَلِكَ كُلِّهِ لِلْحَالِ ، أَمَّا صِحَّةُ الْكَفَالَةِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ فَلِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَالٍ مَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ لِلْكَفِيلِ فَتَصِحُّ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ سَوَاءٌ كَانَتْ
فِي ذِمَّةِ الْمَلِيءِ أَوْ الْمُفْلِسِ ، وَأَمَّا كَوْنُهَا حَالًا فَلِأَنَّ الْمَالَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ حَالٌّ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَقَبُولِ الذِّمَّةِ ، لَكِنْ لَا يُطَالَبُ لِوُجُودِ الْمَانِعِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ وَهُوَ الْعُسْرَةُ ، إذْ جَمِيعُ مَا فِي يَدِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى وَلَمْ يَرْضَ بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمِلْكِهِ ، وَهَذَا الْمَانِعُ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْسِرٍ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْمُقْتَضِي وَصَارَ كَالْكَفَالَةِ عَنْ غَائِبٍ تَصِحُّ ، وَيُؤْخَذُ بِهِ الْكَفِيلُ حَالًّا وَإِنْ عَجَزَ الطَّالِبُ عَنْ مُطَالَبَةِ الْأَصِيلِ ، وَكَالْكِفَالَةِ عَنْ مُفَلَّسٍ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ وَيُؤْخَذُ بِهِ الْكَفِيلُ فِي الْحَالِّ ، وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ مُتَأَخِّرًا إلَى الْمَيْسَرَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْ الْعَبْدِ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ فَلِمَ لَمْ يُجْعَلْ هَذَا بِمَنْزِلَةِ دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ حَتَّى لَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ أَيْضًا إلَّا بَعْدَ الْأَجَلِ ؟ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ بِمُؤَخِّرٍ : يَعْنِي أَنَّ الدَّيْنَ ثَمَّةَ تَأَخَّرَ عَنْ الْأَصِيلِ بِمُؤَخِّرٍ : أَيْ بِأَمْرٍ يُوجِبُ التَّأْخِيرَ وَهُوَ التَّأْجِيلُ لَا بِمَانِعٍ يَمْنَعُ عَنْ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ وُجُوبِهِ حَالًّا ، وَقَدْ الْتَزَمَ الْكَفِيلُ ذَلِكَ فَلَزِمَهُ مُؤَجَّلًا ، ثُمَّ إذَا أَدَّى الْكَفِيلُ رَجَعَ عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ ، فَكَذَا الْكَفِيلُ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ .
( وَمَنْ ادَّعَى عَلَى عَبْدٍ مَالًا وَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِنَفْسِهِ فَمَاتَ الْعَبْدُ بَرِئَ الْكَفِيلُ ) لِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ كَمَا إذَا كَانَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِنَفْسِهِ حُرًّا .قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى عَلَى عَبْدٍ مَالًا إلَخْ ) الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ لَا تَتَفَاوَتُ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْمَكْفُولُ بِنَفْسِهِ حُرًّا أَوْ عَبْدًا فَإِنَّهُ بِمَوْتِهِ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ لِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ كَمَا لَوْ كَانَ حُرًّا ، وَذَكَرَ هَذِهِ تَمْهِيدًا لِلَّتِي بَعْدَهَا وَلِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا .
قَالَ ( فَإِنْ ادَّعَى رَقَبَةَ الْعَبْدِ فَكَفَلَ بِهِ رَجُلٌ فَمَاتَ الْعَبْدُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ ضَمِنَ الْكَفِيلُ قِيمَتَهُ ) لِأَنَّ عَلَى الْمَوْلَى رَدَّهَا عَلَى وَجْهٍ يَخْلُفُهَا قِيمَتُهَا ، وَقَدْ الْتَزَمَ الْكَفِيلُ ذَلِكَ وَبَعْدَ الْمَوْتِ تَبْقَى الْقِيمَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْأَصِيلِ فَكَذَا عَلَى الْكَفِيلِ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ .( فَإِنْ ادَّعَى رَقَبَةَ الْعَبْدِ عَلَى ذِي الْيَدِ فَكَفَلَ بِهِ رَجُلٌ فَمَاتَ الْعَبْدُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ لَهُ ضَمِنَ الْكَفِيلُ قِيمَتَهُ ؛ لِأَنَّ عَلَى الْمَوْلَى رَدَّ الرَّقَبَةِ عَلَى وَجْهٍ يُخْلِفُهَا الْقِيمَةَ ) عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ رَدِّهَا ، وَإِذَا وَجَبَ ضَمَانُ الْقِيمَةِ عَلَى الْأَصِيلِ وَجَبَ عَلَى الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ ، وَقَدْ انْتَقَلَ الضَّمَانُ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ إلَى الْقِيمَةِ فَكَذَا فِي حَقِّ الْكَفِيلِ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ : أَيْ الضَّمَانِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ مَا الْتَزَمَهُ وَهُوَ الْعَبْدُ قَدْ فَاتَ وَسَقَطَ عَنْ الْعَبْدِ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ فَكَذَا عَنْ كَفِيلِهِ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ بِإِقْرَارِ ذِي الْيَدِ أَوْ بِنُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ حَيْثُ تَقْضِي بِقِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَيِّتِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ إلَّا إذَا أَقَرَّ الْكَفِيلُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْأَصِيلُ .
قَالَ ( وَإِذَا كَفَلَ الْعَبْدُ عَنْ مَوْلَاهُ بِأَمْرِهِ فَعَتَقَ فَأَدَّاهُ أَوْ كَانَ الْمَوْلَى كَفَلَ عَنْهُ فَأَدَّاهُ بَعْدَ الْعِتْقِ لَمْ يَرْجِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ) وَقَالَ زُفَرُ : يَرْجِعُ ، وَمَعْنَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ حَتَّى تَصِحَّ كَفَالَتُهُ بِالْمَالِ عَنْ الْمَوْلَى إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ ، أَمَّا كَفَالَتُهُ عَنْ الْعَبْدِ فَتَصِحُّ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
لَهُ أَنَّهُ تَحَقَّقَ الْمُوجِبُ لِلرُّجُوعِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ وَالْمَانِعُ وَهُوَ الرِّقُّ قَدْ زَالَ .
وَلَنَا أَنَّهَا وَقَعَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلرُّجُوعِ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا وَكَذَا الْعَبْدُ عَلَى مَوْلَاهُ ، فَلَا تَنْقَلِبُ مُوجِبَةً أَبَدًا كَمَنْ كَفَلَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَأَجَازَهُ .
قَالَ ( وَإِذَا كَفَلَ الْعَبْدُ عَنْ مَوْلَاهُ بِأَمْرِهِ إلَخْ ) إذَا كَفَلَ الْعَبْدُ عَنْ مَوْلَاهُ بِأَمْرِهِ فَالْحَالُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ تَصِحَّ كَفَالَتُهُ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي صَحَّتْ إنْ كَانَتْ بِأَمْرِهِ ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ لِمَوْلَاهُ فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا بِالدَّيْنِ بِالرَّهْنِ وَالْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ ، وَإِذَا كَفَلَ الْمَوْلَى عَنْ عَبْدِهِ فَهِيَ صَحِيحَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ بِالنَّفْسِ أَوْ الْمَالِ مَدْيُونًا كَانَ الْعَبْدُ أَوْ غَيْرَ مَدْيُونٍ ، فَإِذَا صَحَّتْ الْكَفَالَةُ وَأَدَّى الْعَبْدُ مَا كَفَلَ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ أَوْ أَدَّى الْمَوْلَى ذَلِكَ بَعْدَ عِتْقِ عَبْدِهِ لَمْ يَرْجِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ .
وَقَالَ زُفَرُ : يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلرُّجُوعِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ بِالْأَمْرِ تَحَقَّقَ وَالْمَانِعُ وَهُوَ الرِّقُّ قَدْ زَالَ وَقُلْنَا : هَذِهِ الْكَفَالَةُ قَدْ انْعَقَدَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلرُّجُوعِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَوْلَاهُ دَيْنًا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ ، وَكَذَا الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا بِحَالٍ ، وَكُلُّ كَفَالَةٍ تَنْعَقِدُ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلرَّدِّ لَا تَنْقَلِبُ مُوجِبَةً أَبَدًا كَمَنْ كَفَلَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَبَلَغَهُ فَأَجَازَ فَإِنَّ الْكَفِيلَ بَعْدَ الْأَدَاءِ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ بِشَيْءٍ لِذَلِكَ .
وَنُوقِضَ بِأَنَّ الرَّاهِنَ إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ وَهُوَ مُعْسِرٌ وَسَعَى الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمَوْلَى مَعَ أَنَّ الْعَبْدَ هُنَاكَ لَا يَسْتَوْجِبُ دَيْنًا عَلَى مَوْلَاهُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُغَالَطَةً فَإِنَّ كَلَامَنَا فِي أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَوْلَاهُ دَيْنًا وَفِيمَا ذَكَرْت الْحُرُّ يَسْتَوْجِبُ دَيْنًا ؛ لِأَنَّ اسْتِيجَابَ الدَّيْنِ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ الْعِتْقِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُطَالَبٍ بِهِ قَبْلَ الْعِتْقِ فَلَا يَكُونُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ
( وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِمَالِ الْكِتَابَةِ حُرٌّ تَكَفَّلَ بِهِ أَوْ عَبْدٌ ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَبَتَ مَعَ الْمُنَافِي فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ عَجَّزَ نَفْسَهُ سَقَطَ ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ ، وَإِثْبَاتُهُ مُطْلَقًا يُنَافِي مَعْنَى الضَّمِّ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الِاتِّحَادُ ، وَبَدَلُ السِّعَايَةِ كَمَالِ الْكِتَابَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ .
وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمُكَاتَبِ بِمَالِ الْكِتَابَةِ تَكَفَّلَ بِهِ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ ، وَإِنَّمَا قَالَ بِمَالٍ بِالْكِتَابَةِ دُونَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِيَتَنَاوَلَ الْبَدَلَ ، وَكُلَّ دَيْنٍ يَكُونُ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ أَيْضًا غَيْرَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، أَمَّا فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلِأَنَّهُ دَيْنٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ لِثُبُوتِهِ مَعَ الْمُنَافِي وَهُوَ الرِّقُّ فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ إيجَابُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ لَكِنْ تُرِكَ الْقِيَاسُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } وَكُلُّ مَا ثَبَتَ مَعَ الْمُنَافِي كَانَ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ : أَيْ ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ لِاقْتِضَائِهَا دَيْنًا مُسْتَقِرًّا ؛ لِأَنَّهَا لِتَوْثِيقِ الْمُطَالَبَةِ ، وَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ جَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الطَّالِبِ فَلَمْ يَبْقَ لِلْكَفَالَةِ فَائِدَةٌ ، بَلْ قَدْ تَكُونُ هُزُؤًا وَلَعِبًا .
( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّهُ ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى عَدَمِ اسْتِقْرَارِهِ ، فَإِنَّهُ إذَا عَجَّزَ نَفْسَهُ سَقَطَ الدَّيْنُ وَالْمُسْتَقِرُّ مِنْ الدَّيْنِ مَا لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْأَدَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الْمُدَّعَى وَهُوَ عَدَمُ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْكَفَالَةَ إنْ صَحَّتْ بِهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُهُ عَلَى الْكَفِيلِ عَلَى وَجْهِ ثُبُوتِهِ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ أَنْ يَسْقُطَ بِتَعْجِيزِ الْكَفِيلِ نَفْسَهُ كَمَا يَسْقُطُ بِتَعْجِيزِ الْأَصِيلِ نَفْسَهُ أَوْ مُطْلَقًا وَلَا سَبِيلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ بِتَعْجِيزِ نَفْسِهِ يُرَدُّ رَقِيقًا لِمَوْلَاهُ كَمَا كَانَ وَالْكَفِيلُ لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِفَوَاتِ شَرْطِ الضَّمِّ الَّذِي هُوَ رُكْنُ الْكَفَالَةِ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ
الِاتِّحَادَ فِي صِفَةِ الْوَاجِبِ بِالْكَفَالَةِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الضَّمِّ وَنَفْيًا لِلزِّيَادَةِ عَلَى الْمُلْتَزِمِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّيْنَ لَوْ كَانَ عَلَى الْأَصِيلِ مُؤَجَّلًا كَانَ عَلَى الْكَفِيلِ كَذَلِكَ فِي الْكَفَالَةِ الْمُطْلَقَةِ ، وَلَوْ كَانَ جَيِّدًا أَوْ زَيْفًا عَلَى الْأَصِيلِ كَانَ عَلَى الْكَفِيلِ كَذَلِكَ ، وَالْمُطْلَقُ غَيْرُ مُتَّحِدٍ مَعَ الْمُقَيَّدِ ، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ مُطْلَقًا لَزِمَ إلْزَامُ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا اُلْتُزِمَ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلِأَنَّهُ إذَا عَجَّزَ نَفْسَهُ يَسْقُطُ عَنْهُ بِفَسْخِ الْكِتَابَةِ سُقُوطُ بَدَلِهَا لِابْتِنَائِهَا عَلَيْهَا ، إذْ لَوْلَاهَا لَمْ يَسْتَوْجِبْ الْمَوْلَى عَلَيْهِ شَيْئًا ( وَبَدَلُ السِّعَايَةِ كَمَالِ الْكِتَابَةِ ) فِي عَدَمِ جَوَازِ الْكِفَايَةِ بِهِ لِلْمَوْلَى ( عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِكَوْنِهِ دَيْنًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ لِثُبُوتِهِ مَعَ الْمُنَافِي ) لِمَا أَنَّ أَحْكَامَ الْمُسْتَسْعَى أَحْكَامُ الْعَبْدِ عِنْدَهُ مِنْ عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَتَزَوُّجِ الْمَرْأَتَيْنِ وَتَنْصِيفِ الْحُدُودِ وَغَيْرِهِمَا .
وَعَلَى قَوْلِهِمَا تَصِحُّ ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا لِسُقُوطِهِ بِالتَّعْجِيزِ وَهُوَ فِي السِّعَايَةِ لَا يَتَحَقَّقُ فَكَانَ كَالْحُرِّ الْمَدْيُونِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( كِتَابُ الْحَوَالَةِ ) .كِتَابُ الْحَوَالَةِ ) : الْحَوَالَةُ تُنَاسِبُ الْكَفَالَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهَا الْتِزَامًا بِمَا عَلَى الْأَصِيلُ كَمَا فِي الْكَفَالَةِ ، وَلِهَذَا جَازَ اسْتِعَارَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ إذَا اشْتَرَطَ مُوجِبَ إحْدَاهُمَا لِلْأُخْرَى عِنْدَ ذِكْرِ الْأُخْرَى ، لَكِنَّهُ أَخَّرَ الْحَوَالَةَ ؛ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ ، وَالْبَرَاءَةُ تَقْفُو الْكَفَالَةَ فَكَذَا مَا يَتَضَمَّنُهَا .
وَالْحَوَالَةُ فِي اللُّغَةِ هِيَ النَّقْلُ وَحُرُوفُهَا كَيْفَمَا تَرَكَّبَتْ دَارَتْ عَلَى مَعْنَى النَّقْلِ وَالزَّوَالِ .
وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ تَحْوِيلُ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَثُّقِ بِهِ .
وَأَمَّا شَرْطُهَا فَسَنَذْكُرُهُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ ، وَكَذَا حُكْمُهَا وَأَنْوَاعُهَا .
قَالَ ( وَهِيَ جَائِزَةٌ بِالدُّيُونِ ) قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ } وَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَتَصِحُّ كَالْكَفَالَةِ ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ بِالدُّيُونِ لِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ ، وَالتَّحْوِيلُ فِي الدَّيْنِ لَا فِي الْعَيْنِ .
قَالَ ( وَهِيَ جَائِزَةٌ بِالدُّيُونِ إلَخْ ) الْحَوَالَةُ جَائِزَةٌ بِالدُّيُونِ دُونَ الْأَعْيَانِ ، أَمَّا الْجَوَازُ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ وَقَالَ : حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ } وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ بَعْدَ مَا رَوَى الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ : حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَمَعْنَاهُ : إذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ .
أَمَرَ بِالِاتِّبَاعِ وَالِاتِّبَاعُ بِسَبَبٍ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ وَلَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ الشَّارِعِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهَا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إيفَاءِ مَا الْتَزَمَهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْجَوَازَ كَالْكَفَالَةِ ، وَأَمَّا اخْتِصَاصُهَا بِالدُّيُونِ فَلِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ التَّحْوِيلِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَالتَّحْوِيلُ فِي الدَّيْنِ لَا فِي الْعَيْنِ .
وَتَقْرِيرُهُ الْحَوَالَةُ تَحْوِيلٌ شَرْعِيٌّ ، وَالتَّحْوِيلُ الشَّرْعِيُّ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي مُحَوَّلٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ الدَّيْنُ ؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ فِي الذِّمَّةِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ فَجَازَ أَنْ يَعْتَبِرَهُ الشَّرْعُ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ آخَرَ بِالْتِزَامِهِ .
وَأَمَّا الْعَيْنُ إذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ مَحْسُوسًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ لَيْسَ هُوَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْحِسَّ يُكَذِّبُهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ إلَّا النَّقْلُ الْحِسِّيُّ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ .
قَالَ ( وَتَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِرِضَا الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ وَالْمُحْتَالِ عَلَيْهِ ) أَمَّا الْمُحْتَالُ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّهُ وَهُوَ الَّذِي يَنْتَقِلُ بِهَا وَالذِّمَمُ مُتَفَاوِتَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُ ، وَأَمَّا الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ وَلَا لُزُومَ بِدُونِ الْتِزَامِهِ ، وَأَمَّا الْمُحِيلُ فَالْحَوَالَةُ تَصِحُّ بِدُونِ رِضَاهُ ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ لِأَنَّ الْتِزَامَ الدَّيْنِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ بَلْ فِيهِ نَفْعُهُ لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ .
قَالَ ( وَتَصِحُّ بِرِضَا الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ إلَخْ ) شَرْطُ صِحَّةِ الْحَوَالَةِ رِضَا الْمُحْتَالِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّهُ ، وَهُوَ أَيْ الدَّيْنُ يَنْتَقِلُ بِالْحَوَالَةِ وَالذِّمَمُ مُتَفَاوِتَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُ ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَأَمَّا رِضَا الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ كَانَ لِلْمُحِيلِ دَيْنٌ عَلَيْهِ فَلَا يُشْتَرَطُ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ التَّصَرُّفِ فَلَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُ ، كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ كَمَا لَوْ وَكَّلَ فِي الِاسْتِيفَاءِ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ دَيْنٌ عَلَيْهِ فَيُشْتَرَطُ رِضَاهُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَقُلْنَا إنَّهُ إلْزَامُ الدَّيْنِ وَلَا لُزُومَ بِدُونِ الِالْتِزَامِ .
لَا يُقَالُ : إلْزَامُ الْحَاكِمِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُنْكِرِ إلْزَامٌ بِدُونِ الِالْتِزَامِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إظْهَارٌ لِلِالْتِزَامِ لَا إلْزَامٌ ، وَأَمَّا رِضَا الْمُحِيلِ فَقَدْ شَرَطَهُ الْقُدُورِيُّ وَعَسَى يُعَلِّلُ بِأَنَّ ذَوِي الْمُرُوآتِ قَدْ يَأْنَفُونَ بِتَحَمُّلِ غَيْرِهِمْ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الدَّيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُمْ .
وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْحَوَالَةَ تَصِحُّ بِدُونِ رِضَاهُ ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الدَّيْنِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَالْمُحِيلُ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ بَلْ فِيهِ نَفْعُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ قُبِلَ ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ فَائِدَةُ اشْتِرَاطِهِ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ بِأَمْرِهِ .
وَقِيلَ : لَعَلَّ مَوْضُوعَ مَا ذُكِرَ فِي الْقُدُورِيِّ أَنْ يَكُونَ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِقَدْرِ مَا يَقْبَلُ الْحَوَالَةَ ، فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ إسْقَاطًا لِمُطَالَبَةِ الْمُحِيلِ عَنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَلَا تَصِحُّ إلَّا بِرِضَاهُ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَوَالَةَ قَدْ يَكُونُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ
الْمُحِيلِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ ، وَالْأَوَّلُ إحَالَةٌ وَهُوَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْإِرَادَةِ وَالرِّضَا ، وَهُوَ وَجْهُ رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ ، وَالثَّانِي احْتِيَالٌ يَتِمُّ بِدُونِ إرَادَةِ الْمُحِيلِ بِإِرَادَةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَرِضَاهُ .
وَهُوَ وَجْهُ رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ ، وَعَلَى هَذَا اشْتِرَاطُهُ مُطْلَقًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ إيفَاءَ الْحَقِّ حَقُّهُ فَلَهُ إيفَاؤُهُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ مِنْ غَيْرِ قَسْمٍ عَلَيْهِ بِتَعْيِينِ بَعْضِ الْجِهَاتِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ مُطْلَقًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الشَّارِحِينَ بِنَاءً عَلَى رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي .
قَالَ ( وَإِذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ بَرِئَ الْمُحِيلُ مِنْ الدَّيْنِ بِالْقَبُولِ ) وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَبْرَأُ اعْتِبَارًا بِالْكَفَالَةِ ، إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ تَوَثُّقٍ ، وَلَنَا أَنَّ الْحَوَالَةَ لِلنَّقْلِ لُغَةٌ ، وَمِنْهُ حَوَالَةُ الْغِرَاسِ وَالدَّيْنُ مَتَى انْتَقَلَ عَنْ الذِّمَّةِ لَا يَبْقَى فِيهَا .
أَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِلضَّمِّ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى وِفَاقِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ وَالتَّوَثُّقِ بِاخْتِيَارِ الْأَمْلَإِ وَالْأَحْسَنِ فِي الْقَضَاءِ ، وَإِنَّمَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ إذَا نَقَدَ الْمُحِيلُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ عَوْدُ الْمُطَالَبَةِ إلَيْهِ بِالتَّوَى فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا .
قَالَ ( وَإِذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ بَرِئَ الْمُحِيلُ مِنْ الدَّيْنِ بِالْقَبُولِ إلَخْ ) إذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ بِرُكْنِهَا وَشَرْطِهَا كَانَ حُكْمُهَا بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ مِنْ الدَّيْنِ ، وَقَوْلُهُ : بِالْقَبُولِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ إذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ ، وَالْمُرَادُ بِهِ رِضَا مَنْ رِضَاهُ شَرْطٌ فِيهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَقَوْلُهُ : مِنْ الدَّيْنِ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِمَا هُوَ الصَّحِيحُ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ مَشَايِخُنَا ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ وَالدَّيْنِ جَمِيعًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهَا تُوجِبُ بَرَاءَتَهَا عَنْ الْمُطَالَبَةِ ، وَمَنْشَأُ ذَلِكَ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحْكَامًا تَدُلُّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، فَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ مَا قَالَ : إنَّ الْمُحْتَالَ إذَا وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْ الْمُحِيلِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ الدَّيْنِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ لَا تَصِحُّ هِبَتُهُ وَلَا إبْرَاؤُهُ ، وَلَوْ بَقِيَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ وَجَبَ أَنْ تَصِحَّ ، وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ أَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْهُ صَحَّ ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَحَوُّلَ الدَّيْنِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَبَرَاءَةِ الْمُحِيلِ عَنْهُ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الثَّانِي أَنَّ الْمُحْتَالَ إذَا أَبْرَأَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ صَحَّ وَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ كَإِبْرَاءِ الْكَفِيلِ .
وَلَوْ انْتَقَلَ أَصْلُ الدَّيْنِ إلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَرْتَدَّ بِرَدِّهِ ، كَمَا لَوْ أَبْرَأَ الْمُحِيلُ قَبْلَ الْحَوَالَةِ وَالْأَصِيلُ فِي الْكَفَالَةِ ، فَإِنَّ الْإِبْرَاءَ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ ، وَالتَّمْلِيكُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ .
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُحِيلَ إذَا نَقَدَ مَا لِلْمُحْتَالِ يُجْبَرُ الْمُحْتَالُ عَلَى الْقَبُولِ ، وَلَوْ انْتَقَلَ الدَّيْنُ بِالْحَوَالَةِ يَكُونُ الْمُحِيلُ مُتَبَرِّعًا فِي نَقْدِ الْمَالِ كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَالْأَجْنَبِيُّ إذَا تَبَرَّعَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ لَا يُجْبَرُ رَبُّ الْمَالِ لَا تَصِحُّ لِبَرَاءَتِهِ بِالْحَوَالَةِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى قَبُولِهِ .
قَالُوا : وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي تَحْوِيلِ الدَّيْنِ فَيَجِبُ تَحْوِيلُهُ .
وَقِيلَ الْأَوَّلُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَالثَّانِي قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، وَالْفَائِدَةُ تَظْهَرُ ، فَالرَّاهِنُ إذَا أَحَالَ الْمُرْتَهِنُ بِالدَّيْنِ هَلْ يُسْتَرَدُّ ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَسْتَرِدُّهُ كَمَا لَوْ أَبْرَأَ عَنْ الدَّيْنِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَسْتَرِدُّهُ كَمَا لَوْ أَجَّلَ الدَّيْنَ بَعْدَ الرَّهْنِ ، وَفِيمَا إذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمُحِيلَ بَعْدَ الْحَوَالَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَصِحُّ لِبَقَاءِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ ، إذْ الْمُتَحَوِّلُ بِهَا هُوَ الْمُطَالَبَةُ لَا غَيْرُ .
لَا يُقَالُ : مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ يَدُلُّ عَلَى وَجْهٍ ثَالِثٍ وَهُوَ الْبَرَاءَةُ عَنْ الدَّيْنِ دُونَ الْمُطَالَبَةِ حَيْثُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِهَا ؛ لِأَنَّ انْتِقَالَ الدَّيْنِ بِلَا مُطَالَبَةٍ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَلْزُومِ بِلَا لَازِمٍ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فَاكْتُفِيَ بِذِكْرِ الدَّيْنِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ لِاسْتِلْزَامِهَا إيَّاهُ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَبْرَأُ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ كَالْكَفَالَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ تَوَثُّقٍ وَفِي الْكَفَالَةِ لَا يَبْرَأُ فَكَذَا فِي الْحَوَالَةِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : الْكَفَالَةُ كَالْحَوَالَةِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَفِي الْحَوَالَةِ يَبْرَأُ فَكَذَا فِي الْكَفَالَةِ ، وَجَوَابُهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْمُشْتَرَكِ بَلْ إلَى الْفَارِقِ وَهُوَ اخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَفْهُومٍ خِلَافِ مَفْهُومِ الْآخَرِ لُغَةً ، فَإِنَّ الْحَوَالَةَ لِلنَّقْلِ لُغَةً ، وَمِنْهُ حَوَالَةُ الْغِرَاسِ ، وَإِذَا حَصَلَ نَقْلُ الدَّيْنِ عَنْ الذِّمَّةِ لَا يَبْقَى فِيهَا .
أَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِلضَّمِّ وَهُوَ يَقْتَضِي بِنَاءَ مَا يُضَمُّ إلَيْهِ ، وَالْأَصْلُ مُوَافَقَةُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ ، وَاعْتُرِضَ بِالْحَوَالَةِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُحِيلِ فَإِنَّهَا حَوَالَةٌ صَحِيحَةٌ كَمَا مَرَّ ، وَلَا نَقْلَ فِيهَا وَلَا
تَحْوِيلَ وَهُوَ نَقْضٌ إجْمَالِيٌّ .
وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنْ لَا نَقْلَ فِيهَا فَإِنَّهَا بَعْدَ أَدَاءِ الدَّيْنِ ظَاهِرُ التَّحْقِيقِ وَلِهَذَا لَا يَبْقَى عَلَى الْمُحِيلِ شَيْءٌ ( قَوْلُهُ : وَالتَّوَثُّقُ بِاخْتِيَارِ الْأَمْلَاءِ ) جَوَابٌ لِزُفَرَ ، وَتَقْرِيرُهُ سَلَّمْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ تَوَثُّقٍ ، لَكِنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ لَا تُنَافِيهِ ؛ لِأَنَّ التَّوَثُّقَ يَتَحَقَّقُ مَعَهَا بِاخْتِيَارِ الْأَمْلَاءِ : أَيْ الْأَقْدَرِ عَلَى الْإِيفَاءِ لِبُسُوطَةِ سَعَةِ ذَاتِ الْيَدِ ، وَالْأَحْسَنِ قَضَاءً بِأَنْ يُوَفِّيَهُ بِالْأَجْوَدِ بِلَا مُمَاطَلَةٍ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَنَزُّلٌ فِي الْجَوَابِ بِالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِنَّمَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ ) جَوَابُ نَقْضٍ يَرِدُ عَلَى قَوْلِهِ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى وِفَاقِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ ، وَتَقْرِيرُهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَانْتَقَلَ الدَّيْنُ مِنْ الْمُحِيلِ وَصَارَ أَجْنَبِيًّا مِنْهُ ، فَإِذَا نَقَدَهُ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُجْبَرَ الْمُحْتَالُ عَلَى الْقَبُولِ : أَيْ لَا يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْقَابِضِ إذَا ارْتَفَعَتْ الْمَوَانِعُ بَيْنَ الْمُحْتَالِ وَالْمَنْقُودِ لِكَوْنِ الْمُحِيلِ إذْ ذَاكَ مُتَبَرِّعًا كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَبِأَدَاءِ الْأَجْنَبِيِّ الْمُتَبَرِّعِ لَا يُجْبَرُ الطَّالِبُ عَلَى الْقَبُولِ ، وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُحِيلَ مُتَبَرِّعٌ فِي النَّقْدِ وَإِنَّمَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا كَالْأَجْنَبِيِّ إنْ لَوْ لَمْ يَحْتَمِلْ عَوْدَ الْمُطَالَبَةِ إلَيْهِ بِالتَّوَى وَهُوَ يَحْتَمِلُ فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا .
قَالَ ( وَلَا يَرْجِعُ الْمُحْتَالُ عَلَى الْمُحِيلِ إلَّا أَنْ يُتْوَى حَقَّهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَرْجِعُ وَإِنْ تَوِيَ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ حَصَلَتْ مُطْلَقَةً فَلَا تَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ .
وَلَنَا أَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِسَلَامَةِ حَقِّهِ لَهُ إذْ هُوَ الْمَقْصُودُ ، أَوْ تَنْفَسِخُ الْحَوَالَةُ لِفَوَاتِهِ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْفَسْخِ فَصَارَ كَوَصْفِ السَّلَامَةِ فِي الْمَبِيعِ .
قَالَ ( وَالتَّوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَجْحَدَ الْحَوَالَةَ وَيَحْلِفَ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَيْهِ ، أَوْ يَمُوتَ مُفْلِسًا ) لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ الْوُصُولِ يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ التَّوَى فِي الْحَقِيقَةِ ( وَقَالَا هَذَانِ الْوَجْهَانِ .
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِإِفْلَاسِهِ حَالَ حَيَاتِهِ ) وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِفْلَاسَ لَا يَتَحَقَّقُ بِحُكْمِ الْقَاضِي عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، لِأَنَّ مَالَ اللَّهِ غَادٍ وَرَائِحٌ .
قَالَ ( وَلَمْ يَرْجِعْ الْمُحْتَالُ عَلَى الْمُحِيلِ إلَّا أَنْ يَتْوَى حَقُّهُ إلَخْ ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ بَرِئَ الْمُحِيلُ : أَيْ إذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ بِالْقَبُولِ بَرِئَ الْمُحِيلُ وَلَمْ يَرْجِعْ الْمُحْتَالُ عَلَى الْمُحِيلِ بِشَيْءٍ إلَّا أَنْ يَتْوَى حَقُّهُ عَلَى مَا يَأْتِي مِنْ مَعْنَى التَّوَى .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَرْجِعُ وَإِنْ تَوَى ؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ حَصَلَتْ مُطْلَقَةً : أَيْ عَنْ شَرْطِ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيلِ عِنْدَ التَّوَى ، وَهُوَ ظَاهِرٌ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّقْيِيدِ ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ كَمَا فِي الْإِبْرَاءِ ، وَتَأَيَّدَ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَيْنٌ فَأَحَالَهُ بِهِ عَلَى آخَرَ فَمَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ : اخْتَرْت عَلِيًّا فَقَالَ أَبْعَدَك اللَّهُ فَأَبْعَدَهُ بِمُجَرَّدِ احْتِيَالِهِ وَلَمْ يُجِزْ لَهُ الرُّجُوعَ .
قُلْنَا : الْبَرَاءَةُ حَصَلَتْ مُطْلَقَةً لَفْظًا أَوْ مُطْلَقًا ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ ، لَكِنْ لَا يُفِيدُكُمْ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً بِدَلَالَةِ الْحَالِ أَوْ الْعُرْفِ أَوْ الْعَادَةِ فَنَقُولُ : إنَّهَا حَصَلَتْ مُقَيَّدَةً بِسَلَامَةِ حَقِّهِ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً لَفْظًا بِدَلَالَةِ الْحَالِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْحَوَالَةِ التَّوَصُّلُ إلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْ الْمَحَلِّ الثَّانِي لَا نَفْسُ الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ الذِّمَمَ لَا تَخْتَلِفُ فِي الْوُجُوبِ ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِيفَاءِ فَصَارَتْ سَلَامَةُ الْحَقِّ مِنْ الْمَحَلِّ الثَّانِي كَالْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ هُوَ الْمَطْلُوبَ ، فَإِذَا فَاتَ الشَّرْطُ عَادَ الْحَقُّ إلَى الْمَحَلِّ الْأَوَّلِ فَصَارَ وَصْفُ السَّلَامَةِ فِي حَقِّ الْمُحَالِ بِهِ كَوَصْفِ السَّلَامَةِ فِي الْمَبِيعِ بِأَنْ اشْتَرَى شَيْئًا فَهَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَيَعُودُ حَقُّهُ فِي الثَّمَنِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ لَفْظًا
لِمَا أَنَّ وَصْفَ السَّلَامَةِ مُسْتَحَقٌّ لِلْمُشْتَرِي ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ تَنْفَسِخُ وَيَعُودُ الدَّيْنُ وَهُوَ عِبَارَةُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ، وَقَوْلُهُ : أَوْ تَنْفَسِخُ الْحَوَالَةُ لِفَوَاتِهِ أَيْ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ السَّلَامَةُ ؛ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْفَسْخِ ، حَتَّى لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى فَسْخِ الْحَوَالَةِ انْفَسَخَتْ ، وَكُلُّ مَا هُوَ قَابِلٌ لَهُ إذَا فَاتَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ يَنْفَسِخُ ، كَالْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ الْمَبِيعَ مَعِيبًا وَاخْتَارَ رَدَّهُ فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَيُعَادُ الثَّمَنُ وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ لِمَا مَرَّ إشَارَةً إلَى عِبَارَةِ آخَرِينَ مِنْهُمْ ، وَهُوَ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ تَنْفَسِخُ وَيُعَادُ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحِيلِ ، فَالْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ جَمَعَ بَيْنَ طَرِيقَيْ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَاسْتَخْدَمَ قَوْلَهُ فَصَارَ كَوَصْفِ السَّلَامَةِ فِي الْمَبِيعِ فِيهِمَا بِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إذَا تَوَى الْمَالُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ عَادَ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحِيلِ كَمَا كَانَ ، وَلَا تَوَى عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ .
وَلَمْ يُعْرَفْ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ .
وَعُورِضَ بِأَنَّ الْمُحَالَ وَقْتَ الْحَوَالَةِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقْبَلَ الْحَوَالَةَ فَيَنْتَقِلَ حَقُّهُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْبَاهَا إبْقَاءً لِحَقِّهِ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ ، وَكُلُّ مُخَيَّرٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَلَا يَعُودُ إلَى الْآخَرِ كَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِ الْغَاصِبَيْنِ ثُمَّ تَوَى مَا عَلَيْهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ ، وَكَالْمَوْلَى إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ الْمَدْيُونَ فَاخْتَارَ الْغُرَمَاءُ اسْتِسْعَاءَ الْعَبْدِ ثُمَّ تَوَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعُوا عَلَى الْمَوْلَى بِشَيْءٍ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ إذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا
أَصْلٌ ، وَالْآخَرُ خَلَفٌ عَنْهُ ، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فَقِيَاسُهُ عَلَيْهِ فَاسِدٌ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا تَعَيَّنَ ، بَلْ إذَا اخْتَارَ الْخَلَفَ وَلَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْخَلَفِ وَتَرْكَ الْأَصْلِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّوَثُّقِ ، فَإِضَافَةُ إتْوَاءِ الْحَقِّ إلَى وَصْفٍ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ فَاسِدَةٌ فِي الْوَضْعِ .
قَالَ ( وَالْتَوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إلَخْ ) تَوَى الْمَالُ إذَا تَلِفَ .
وَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَتَحَقَّقُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَجْحَدَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ فَيَحْلِفُ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُحَالِ وَلَا لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُطَالَبَتِهِ ، وَإِمَّا أَنْ يَمُوتَ مُفْلِسًا ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَلَى الْوُصُولِ إلَى الْحَقِّ وَهُوَ التَّوَى فِي الْحَقِيقَةِ يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِمَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ ذِمَّةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحَقُّ فَسَقَطَ عَنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَثَبَتَ لِلْمُحْتَالِ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ ؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ كَانَتْ بَرَاءَةَ نَقْلٍ وَاسْتِيفَاءٍ لَا بَرَاءَةَ إسْقَاطٍ ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ وَجَبَ الرُّجُوعُ ، وَقَالَا : هَذَانِ وَوَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِإِفْلَاسِهِ بِالشُّهُودِ حَالَ حَيَاتِهِ ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِفْلَاسَ بِتَفْلِيسِ الْحَاكِمِ عِنْدَهُ لَا يَتَحَقَّقُ خِلَافًا لَهُمَا ، قَالَ : التَّوَى هُوَ الْعَجْزُ عَنْ الْوُصُولِ إلَى الْحَقِّ وَقَدْ حَصَلَ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَصَارَ كَمَوْتِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ عَجْزًا يُتَوَهَّمُ ارْتِفَاعُهُ بِحُدُوثِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ مَالَ اللَّهِ غَادٍ وَرَائِحٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي الْكَفَاءَةِ فَلَمْ يَكُنْ كَالْمَوْتِ .
وَلَوْ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ فَقَالَ الْمُحْتَالُ مَاتَ مُفْلِسًا وَقَالَ الْمُحِيلُ بِخِلَافِهِ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الطَّالِبِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمٍ ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْعُسْرَةُ ، يُقَالُ أَفْلَسَ الرَّجُلُ إذَا صَارَ ذَا فَلْسٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ ذَا دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ فَاسْتُعْمِلَ مَكَانَ افْتَقَرَ ، وَفَلَّسَهُ الْقَاضِي : أَيْ قَضَى بِإِفْلَاسِهِ حِينَ ظَهَرَ لَهُ حَالُهُ كَذَا فِي الطَّلِبَةِ .
قَالَ ( وَإِذَا طَالَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْمُحِيلَ بِمِثْلِ مَالِ الْحَوَالَةِ فَقَالَ الْمُحِيلُ أَحَلْت بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك لَك يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَكَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ الدَّيْنِ ) لِأَنَّ سَبَبَ الرُّجُوعِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ قَضَاءُ دَيْنِهِ بِأَمْرِهِ إلَّا أَنَّ الْمُحِيلَ يَدَّعِي عَلَيْهِ دَيْنًا وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ ، وَلَا تَكُونُ الْحَوَالَةُ إقْرَارًا مِنْهُ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِدُونِهِ .قَالَ ( وَإِذَا طَالَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْمُحِيلَ إلَخْ ) إذَا طَالَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَالِ الْحَوَالَةِ مُدَّعِيًا قَضَاءَ دَيْنِهِ مِنْ مَالِهِ فَقَالَ الْمُحِيلُ أَحَلْت بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ : وَيَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الرُّجُوعِ وَهُوَ قَضَاءُ دَيْنِهِ بِأَمْرِهِ قَدْ تَحَقَّقَ بِإِقْرَارِهِ إلَّا أَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ دَيْنًا وَهُوَ يُنْكِرُ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ وَالْبَيِّنَةُ لِلْمُحِيلِ ، فَإِنْ أَقَامَهَا بَطَلَ حَقُّ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فِي الرُّجُوعِ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحَوَالَةُ إقْرَارًا مِنْهُ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِدُونِهِ : أَيْ الْحَوَالَةُ قَدْ تَكُونُ بِدُونِ الدَّيْنِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ انْفِكَاكُهَا عَنْهُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّقْيِيدُ بِالدَّيْنِ تَقْيِيدًا بِلَا دَلِيلٍ .
قَالَ ( وَإِذَا طَالَبَ الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ بِمَا أَحَالَهُ بِهِ فَقَالَ إنَّمَا أَحَلْتُك لِتَقْبِضَهُ لِي وَقَالَ الْمُحْتَالُ لَا بَلْ أَحَلْتنِي بِدَيْنٍ كَانَ لِي عَلَيْك فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ ) لِأَنَّ الْمُحْتَالَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الدَّيْنَ وَهُوَ يُنْكِرُ وَلَفْظَةُ الْحَوَالَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْوَكَالَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ .( وَإِذَا طَالَبَ الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ بِمَا أَحَالَهُ بِهِ فَقَالَ إنَّمَا أَحَلْتُك لِتَقْبِضَهُ لِي وَقَالَ الْمُحْتَالُ بَلْ أَحَلْتنِي بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ ) فَإِنْ قِيلَ : الْحَوَالَةُ حَقِيقَةٌ فِي نَقْلِ الدَّيْنِ وَدَعْوَى الْمُحِيلِ أَنَّهُ أَحَالَهُ لِيَقْبِضَهُ لَهُ خِلَافُ الْحَقِيقَةِ بِلَا دَلِيلٍ أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَلَفْظُ الْحَوَالَةِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ دَعْوَاهُ تِلْكَ دَعْوَى مَا هُوَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ وَهُوَ الْوَكَالَةُ فَإِنَّ لَفْظَ الْحَوَالَةِ يُسْتَعْمَلُ فِيهَا مَجَازًا لِمَا فِي الْوَكَالَةِ مِنْ نَقْلِ التَّصَرُّفِ مِنْ الْمُوَكِّلِ إلَى الْوَكِيلِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مِنْ لَفْظِ ذَلِكَ فَيُصَدَّقُ لَكِنَّهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نَوْعَ مُخَالَفَةٍ لِلظَّاهِرِ .
قَالَ ( وَمَنْ أَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَحَالَ بِهَا عَلَيْهِ آخَرَ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى الْقَضَاءِ ، فَإِنْ هَلَكَتْ بَرِئَ ) لِتَقَيُّدِهَا بِهَا ، فَإِنَّهُ مَا الْتَزَمَ الْأَدَاءَ إلَّا مِنْهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالْمَغْصُوبِ لِأَنَّ الْفَوَاتَ إلَى خُلْفٍ كَلَا فَوَاتَ ، وَقَدْ تَكُونُ الْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةً بِالدَّيْنِ أَيْضًا ، وَحُكْمُ الْمُقَيَّدَةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُحِيلُ مُطَالَبَةَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُحْتَالِ عَلَى مِثَالِ الرَّهْنِ وَإِنْ كَانَ أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُحِيلِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ فَيَأْخُذُهُ مِنْهُ لَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَهِيَ حَقُّ الْمُحْتَالِ .
بِخِلَافِ الْمُطْلَقَةِ لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِحَقِّهِ بِهِ بَلْ بِذِمَّتِهِ فَلَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ بِأَخْذِ مَا عَلَيْهِ أَوْ عِنْدَهُ .
قَالَ ( وَمَنْ أَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ إلَخْ ) اعْلَمْ أَنَّ الْحَوَالَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ : مُقَيَّدَةٍ ، وَمُطْلَقَةٍ .
فَالْمُقَيَّدَةُ عَلَى نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَيِّدَ الْمُحِيلُ الْحَوَالَةَ بِالْعَيْنِ الَّذِي لَهُ فِي يَدِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْغَصْبِ .
وَالثَّانِي أَنْ يُقَيِّدَهَا بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ .
وَالْمُطْلَقَةُ وَهِيَ أَنْ يُرْسِلَهَا إرْسَالًا لَا يُقَيِّدَهَا بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَلَا بِعَيْنٍ لَهُ فِي يَدِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَوْ فِي يَدِهِ أَوْ أَنْ يُحِيلَ عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا لَهُ فِي يَدِهِ عَيْنٌ أَيْضًا عَلَى نَوْعَيْنِ حَالَّةٌ وَمُؤَجَّلَةٌ .
فَالْحَالَّةُ هِيَ أَنْ يُحِيلَ الْمَدْيُونُ الطَّالِبَ عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفٍ حَالَّةٍ فَإِنَّهَا تَكُونُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا لِتَحْوِيلِ الدَّيْنِ مِنْ الْأَصِيلِ فَيَتَحَوَّلُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي عَلَى الْأَصِيلِ وَالْفَرْضُ أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى الْأَصِيلِ حَالَّةً فَكَذَا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ قَبْلَ الْأَدَاءِ لَكِنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ مَا فَعَلَ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَفَالَةِ .
وَالْمُؤَجَّلَةُ هُوَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصِيلِ مُؤَجَّلًا فَيُحِيلُ مُؤَجَّلًا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْأَجَلِ فَإِنَّ الْمَالَ يَكُونُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَهَا كَذَلِكَ .
إذَا عُرِفَ هَذَا ، فَقَوْلُهُ : وَمَنْ أَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَحَالَ بِهَا عَلَيْهِ آخَرَ فَهُوَ جَائِزٌ لِبَيَانِ جَوَازِ الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِالْعَيْنِ الَّتِي فِي يَدِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَدِيعَةً .
وَقَوْلُهُ : ؛ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى الْقَضَاءِ دَلِيلُ جَوَازِهِ ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَدَاءَ مِنْهَا يَتَحَقَّقُ مِنْ عَيْنِ حَقِّ الْمُحِيلِ وَحِينَئِذٍ لَا يَصْعُبُ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ فَكَانَ أَقْدَرَ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْوَدِيعَةَ حَاصِلَةٌ بِعَيْنِهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى كَسْبٍ
وَالدَّيْنُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَإِذَا كَانَ أَقْدَرَ عَلَى الْقَضَاءِ كَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ فَكَانَتْ جَائِزَةً بِالدَّيْنِ ، فَلَأَنْ تَكُونَ جَائِزَةً بِالْعَيْنِ أَجْدَرُ ، فَإِنْ هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ بَرِئَ الْمُودَعُ وَهُوَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ لِلْمُحَالِ شَيْءٌ عَلَيْهِ لِتَقَيُّدِهَا بِهَا : أَيْ لِتَقَيُّدِ الْحَوَالَةِ الْوَدِيعَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ الْأَدَاءَ إلَّا مِنْهَا فَيَتَعَلَّقُ بِهَا وَيَبْطُلُ بِهَلَاكِهَا كَالزَّكَاةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِنِصَابٍ مُعَيَّنٍ .
وَقَوْلُهُ : بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالْمَغْصُوبِ بِأَنْ كَانَ الْأَلْفُ مَغْصُوبًا عِنْدَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، وَقَيْدُ الْحَوَالَةِ بِهَا بَيَانٌ لِجَوَازِهَا بِالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ ، وَأَنَّهَا إذَا هَلَكَتْ لَا يَبْرَأُ الْغَاصِبُ ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ إذَا هَلَكَ وَجَبَ عَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُهُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَقِيمَتُهُ إنْ كَانَ قِيَمِيًّا فَكَانَ الْفَوَاتُ بِهَلَاكِهِ فَوَاتًا إلَى خَلَفٍ ، وَذَلِكَ كَلَا فَوَاتَ فَكَانَ بَاقِيًا حُكْمًا .
وَقَوْلُهُ : وَقَدْ تَكُونُ الْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةً بِالدَّيْنِ أَيْضًا بَيَانٌ لِجَوَازِهَا مُقَيَّدَةً بِالدَّيْنِ كَمَا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِلْمَدْيُونِ عَلَى آخَرَ كَذَلِكَ ، وَأَحَالَ الْمَدْيُونُ الطَّالِبَ بِدَيْنِهِ عَلَى مَدْيُونِهِ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَهُ مِنْ الْأَلْفِ الَّتِي لِلْمَطْلُوبِ عَلَيْهِ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ ، وَحُكْمُ الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهِيَ الْحَوَالَةُ الْمُقَيَّدَةُ بِالْعَيْنِ وَدِيعَةً كَانَتْ أَوْ غَصْبًا وَبِالدِّينِ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُحِيلُ مُطَالَبَةَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْعَيْنِ أَوْ الدَّيْنِ الَّذِي قُيِّدَتْ الْحَوَالَةُ بِهِ بَعْدَهَا ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُحْتَالِ فَإِنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِنَقْلِ حَقِّهِ إلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِشَرْطٍ أَوْ يُوَفِّي حَقَّهُ مِمَّا لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ أَوْ بِيَدِهِ فَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اسْتِيفَائِهِ ، وَأَخَذَ الْمُحِيلُ ذَلِكَ يَبْطُلُ هَذَا الْحَقُّ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهَا .
وَلَوْ دَفَعَهَا
الْمُودَعُ أَوْ غَيْرَهَا إلَى الْمُحِيلِ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ مَحَلًّا مَشْغُولًا بِحَقِّ الْغَيْرِ عَلَى مِثَالِ الرَّهْنِ ، فَإِنَّ الرَّاهِنَ بَعْدَمَا رَهَنَ الْعَيْنَ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ لِئَلَّا يَبْطُلَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ .
وَقَوْلُهُ : وَإِنْ كَانَ أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ إشَارَةٌ إلَى حُكْمٍ آخَرَ يُخَالِفُ حُكْمَ الْحَوَالَةِ حُكْمُ الرَّهْنِ بَعْدَمَا اتَّفَقَا فِي عَدَمِ بَقَاءِ حُكْمِ الْأَخْذِ لِلْمُحِيلِ وَالرَّاهِنِ ، وَهُوَ أَنَّ الْحَوَالَةَ إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالْعَيْنِ أَوْ الدَّيْنِ وَعَلَى الْمُحِيلِ دُيُونٌ كَثِيرَةٌ وَمَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا سِوَى الْعَيْنِ الَّذِي لَهُ بِيَدِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ فَالْمُحَالُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّ دَيْنَ غُرَمَاءِ الْمُحِيلِ تَعَلَّقَ بِمَالِ الْمُحِيلِ وَهُوَ صَارَ أَجْنَبِيًّا مِنْ هَذَا الْمَالِ وَلِهَذَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فِي حَالَ حَيَاتِهِ فَكَذَا بَعْدَ وَفَاتِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُحَالَ كَانَ أَسْبَقَ تَعَلُّقًا بِهَذَا الْمَالِ لِتَعَلُّقِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ لَمْ يَتَعَلَّقْ فِي صِحَّتِهِ فَيُقَدَّمُ الْمُحَالُ عَلَى غَيْرِهِ كَالْمُرْتَهِنِ .
قُلْنَا : الْعَيْنُ الَّذِي بِيَدِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِلْمُحِيلِ وَالدَّيْنُ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ لَمْ يَصِرْ مَمْلُوكًا لِلْمُحَالِ بِعَقْدِ الْحَوَالَةِ لَا يَدًا وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَلَا رَقَبَةَ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مَا وُضِعَتْ لِلتَّمْلِيكِ وَإِنَّمَا وُضِعَتْ لِلنَّقْلِ فَتَكُونُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَإِنَّهُ مَلَكَ الْمَرْهُونَ يَدًا وَحَبْسًا فَثَبَتَ لَهُ نَوْعُ اخْتِصَاصٍ بِالْمَرْهُونِ شَرْعًا لَمْ يَثْبُتْ لِغَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ ( قَوْلُهُ : وَهَذَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُحِيلُ ، وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا ، وَقَوْلُهُ : بِخِلَافِ الْمُطْلَقَةِ لِبَيَانِ الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ وَأَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِأَخْذِ الْمُحِيلِ مَا لَهُ عِنْدَ الْمُحَالِ
عَلَيْهِ مِنْ الْعَيْنِ أَوْ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لِلشَّأْنِ لَا تَعَلُّقَ لِحَقِّ الْمُحَالِ بِهِ : أَيْ بِمَا عِنْدَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ ، بَلْ يَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَفِي الذِّمَّةِ سَعَةٌ فَأَخْذُ مَا لَهُ عِنْدَهُ أَوْ عَلَيْهِ لَا يُبْطِلُ الْحَوَالَةَ ، وَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِلْمُودَعِ وَالْغَاصِبِ أَنْ يُؤَدِّيَ دَيْنَ الْمُحَالِ مِنْ الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ ، وَلِلْمُحِيلِ أَنْ يَأْخُذَهُمَا مَعَ بَقَاءِ الْحَوَالَةِ كَمَا كَانَتْ .
قَالَ ( وَيُكْرَهُ السَّفَاتِجُ وَهِيَ قَرْضٌ اسْتَفَادَ بِهِ الْمُقْرِضُ سُقُوطَ خَطَرِ الطَّرِيقِ ) وَهَذَا نَوْعُ نَفْعٍ اُسْتُفِيدَ بِهِ وَقَدْ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَرْضِ جَرَّ نَفْعًا } .قَالَ ( وَتُكْرَهُ السَّفَاتِجُ إلَخْ ) السَّفَاتِجُ جَمْعُ سَفْتَجَةٍ بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ التَّاءِ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ ، أَصْلُهُ سفته يُقَالُ لِلشَّيْءِ الْمُحْكَمِ ، وَسُمِّيَ هَذَا الْقَرْضُ بِهِ لِإِحْكَامِ أَمْرِهِ .
وَصُورَتُهَا أَنْ يَدْفَعَ إلَى تَاجِرٍ مَالًا قَرْضًا لِيَدْفَعَهُ إلَى صَدِيقِهِ ، وَقِيلَ هُوَ أَنْ يُقْرِضَ إنْسَانًا مَالًا لِيَقْضِيَهُ الْمُسْتَقْرِضُ فِي بَلَدٍ يُرِيدُهُ الْمُقْرِضُ وَإِنَّمَا يَدْفَعُهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَرْضِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْأَمَانَةِ لِيَسْتَفِيدَ بِهِ سُقُوطَ خَطَرِ الطَّرِيقِ ، وَهُوَ نَوْعُ نَفْعٍ اُسْتُفِيدَ بِالْقَرْضِ ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا .
وَقِيلَ : هَذَا إذَا كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ مَشْرُوطَةً ؛ وَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ .
ثُمَّ قِيلَ : إنَّمَا أَوْرَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ لِأَنَّهَا مُعَامَلَةٌ فِي الدُّيُونِ كَالْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ فَإِنَّهَا مُعَامَلَةٌ أَيْضًا فِي الدُّيُونِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي : )كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي ) : لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْمُنَازَعَاتِ يَقَعُ فِي الْبِيَاعَاتِ وَالدُّيُونِ عَقَّبَهَا بِمَا يَقْطَعُهَا وَهُوَ قَضَاءُ الْقَاضِي ، وَالْقَاضِي يَحْتَاجُ إلَى خِصَالٍ حَمِيدَةٍ يَصْلُحُ بِهَا لِلْقَضَاءِ ، وَهَذَا الْكِتَابُ لِبَيَانِ ذَلِكَ .
وَالْأَدَبُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى كُلِّ رِيَاضَةٍ مَحْمُودَةٍ لِذَلِكَ يَتَخَرَّجُ بِهَا الْإِنْسَانُ فِي فَضِيلَةٍ مِنْ الْفَضَائِلِ قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ .
وَيَجُوزُ أَنْ يُعَرَّفَ بِأَنَّهُ مَلَكَةٌ تَعْصِمُ مَنْ قَامَتْ بِهِ عَمَّا يَشِينُهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ أَقْوَى الْفَرَائِضِ وَأَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كُلَّ مُرْسَلٍ حَتَّى خَاتَمَ الرُّسُلِ مُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ } وَقَالَ { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } .
قَالَ ( وَلَا تَصِحُّ وِلَايَةُ الْقَاضِي حَتَّى يَجْتَمِعَ فِي الْمُوَلَّى شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ وَيَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ حُكْمَ الْقَضَاءِ يُسْتَقَى مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ يَكُونُ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ وَمَا يُشْتَرَطُ لِأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ يُشْتَرَطُ لِأَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ .قَالَ ( وَلَا تَصِحُّ وِلَايَةُ الْقَاضِي إلَخْ ) لَا تَصِحُّ وِلَايَةُ الْقَاضِي حَتَّى يَجْتَمِعَ فِي الْمُوَلَّى بِلَفْظِ اسْمِ الْمَفْعُولِ ، وَاخْتَارَهُ عَلَى الْمُتَوَلِّي بِلَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا بِتَوْلِيَةِ غَيْرِهِ لَا بِطَلَبِهِ التَّوْلِيَةَ شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ ، وَيَكُونُ : أَيْ الْمُوَلَّى مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ : يَعْنِي اشْتِرَاطَ شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ فَلِأَنَّ حُكْمَ الْقَضَاءِ يُسْتَقَى : أَيْ يُسْتَفَادُ مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَهِيَ تَنْفِيذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى ، وَكُلُّ مَا يُسْتَفَادُ حُكْمُهُ مِنْ الْوِلَايَةِ مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ فَيُشْتَرَطُ لَهُ شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ لَمَّا كَانَتْ أَعَمَّ أَوْ أَكْمَلَ مِنْ وِلَايَةِ الشَّهَادَةِ أَوْ مُرَتَّبَةً عَلَيْهَا كَانَتْ أَوْلَى بِاشْتِرَاطِهَا ، وَرُبَّمَا لَوَّحَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ فَيُسْتَقَى اسْتِعَارَةً لِلِاسْتِفَادَةِ إلَى ذَلِكَ ، وَعَلَى هَذَا كُلُّ مَا كَانَ مُتَأَهِّلًا لِلشَّهَادَةِ كَانَ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ وَبِالْعَكْسِ فَالْفَاسِقُ أَهْلٌ لِلْقَضَاءِ لِأَهْلِيَّتِهِ لِلشَّهَادَةِ ، حَتَّى لَوْ قُلِّدَ جَازَ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْتَمَنُ فِي أَمْرِ الدِّينِ لِقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ فِيهِ كَمَا فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ .
وَالْفَاسِقُ أَهْلٌ لِلْقَضَاءِ حَتَّى لَوْ قُلِّدَ يَصِحُّ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ كَمَا فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ ، وَلَوْ قَبِلَ جَازَ عِنْدَنَا .وَلَوْ قَبِلَ جَازَ عِنْدَنَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَدَالَةَ لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ نَظَرًا إلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ الَّذِي شَهِدَ لَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَيْرِيَّةِ ، وَإِلَى ظَاهِرِ حَالِ الْمُسْلِمِ فِي غَيْرِهِمْ .
وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي عَدْلًا فَفَسَقَ بِأَخْذِ الرِّشْوَةِ أَوْ غَيْرِهِ لَا يَنْعَزِلُ وَيَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْفَاسِقُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَهُ ، وَعَنْ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : إذَا قُلِّدَ الْفَاسِقُ ابْتِدَاءً يَصِحُّ ، وَلَوْ قُلِّدَ وَهُوَ عَدْلٌ يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ لِأَنَّ الْمُقَلَّد اعْتَمَدَ عَدَالَتَهُ فَلَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِتَقْلِيدِهِ دُونَهَا .
وَلَوْ كَانَ عَدْلًا فَفَسَقَ بِأَخْذِ الرِّشْوَةِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ أَوْ غَيْرِهَا مِثْلِ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ لَا يَنْعَزِلُ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ الْعَزْلُ عِنْدَ التَّقْلِيدِ بِتَعَاطِي الْمُحَرَّمِ وَيَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ فَيَعْزِلُهُ مَنْ لَهُ الْأَمْرُ ، وَهَذَا يَقْتَضِي نُفُوذَ أَحْكَامِهِ فِيمَا ارْتَشَى فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ مَا لَمْ يُعْزَلْ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْإِمَامُ الْبَزْدَوِيُّ .
وَقَوْلُهُ : وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعَزْلِ دُونَ الْعَزْلِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ .
وَرُوِيَ عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ وَعَلِيٍّ الرَّازِيِّ صَاحِبِ أَبِي يُوسُفَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى ذَلِكَ وَإِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْفَاسِقِ الْقَضَاءَ فَإِنَّ اخْتِيَارَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ الْفَاسِقَ إذَا قُلِّدَ الْقَضَاءَ لَا يَصِيرُ قَاضِيًا ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ وَعَنْ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ عِنْدَهُ كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَهُ ) وَقِيلَ هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِيمَانِ عِنْدَهُ ، فَإِذَا فَسَقَ فَقَدْ انْتَقَصَ إيمَانُهُ ( وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إنَّهُ إذَا قُلِّدَ الْفَاسِقُ يَصِحُّ ، وَلَوْ قُلِّدَ وَهُوَ عَدْلٌ فَفَسَقَ يَنْعَزِلُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ اعْتَمَدَ عَدَالَتَهُ فِي تَقْلِيدِهِ فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِتَقْلِيدِهِ دُونَهَا ) فَكَانَ التَّقْلِيدُ مَشْرُوطًا بِبَقَاءِ الْعَدَالَةِ فَيَنْتَفِي بِانْتِفَائِهَا ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ قَوْلَ الْفُقَهَاءِ الْبَقَاءُ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ يُنَافِي جَوَازَ التَّقْلِيدِ مَعَ الْفِسْقِ ابْتِدَاءً ، وَالْعَزْلُ بِالْفِسْقِ الطَّارِئِ ، وَالْأَوَّلُ ثَابِتٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُسَلَّمَاتِ هَذَا الْفَنِّ يَنْبَنِي عَلَيْهِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ كَبَقَاءِ النِّكَاحِ بِلَا شُهُودٍ وَامْتِنَاعِهِ ابْتِدَاءً بِدُونِهَا ، وَجَوَازِ الشُّيُوعِ فِي
الْهِبَةِ بَقَاءً لَا ابْتِدَاءً ، فَيَنْتَفِي الثَّانِي وَهُوَ ثُبُوتُ الْقَضَاءِ بِالْفِسْقِ ابْتِدَاءً وَالْعَزْلُ بِالْفِسْقِ الطَّارِئِ .
وَالْجَوَابُ يُؤْخَذُ مِنْ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَنَّ التَّقْلِيدَ كَانَ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ ، فَإِنَّ تَعْلِيقَ الْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ بِالشَّرْطِ جَائِزٌ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَيْشًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ثُمَّ قَالَ : إنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ أَمِيرُكُمْ ، وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ أَمِيرُكُمْ } وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُ عَزْلِ الْقَاضِي بِالشَّرْطِ جَائِزٌ ذَكَرَهُ فِي بَابِ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ مِنْ شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ وَالْإِمَارَةِ فِي أَنَّ الْإِمَامَ أَوْ الْأَمِيرَ إذَا كَانَ عَدْلًا وَقْتَ التَّقْلِيدِ ثُمَّ فَسَقَ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْإِمَامَةِ وَالْإِمَارَةِ أَنَّ مَبْنَى الْإِمَارَةِ عَلَى السَّلْطَنَةِ وَالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ الْأُمَرَاءِ مَنْ قَدْ غَلَبَ وَجَارَ وَأَجَازُوا أَحْكَامَهُ وَالصَّحَابَةُ تَقَلَّدُوا الْأَعْمَالَ مِنْهُ وَصَلَّوْا خَلْفَهُ .
وَأَمَّا مَبْنَى الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ عَلَى الْعَدَالَةِ وَالْأَمَانَةِ ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْعَدَالَةُ بَطَلَ الْقَضَاءُ ضَرُورَةً .
وَهَلْ يَصْلُحُ الْفَاسِقُ مُفْتِيًا ؟ قِيلَ لَا لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَخَبَرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الدِّيَانَاتِ ، وَقِيلَ يَصْلُحُ لِأَنَّهُ يَجْتَهِدُ كُلَّ الْجَهْدِ فِي إصَابَةِ الْحَقِّ حَذَارِ النِّسْبَةِ إلَى الْخَطَإِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَالصَّحِيحُ أَنَّ أَهْلِيَّةَ الِاجْتِهَادِ شَرْطُ الْأَوْلَوِيَّةِ .( وَالْفَاسِقُ هَلْ يَصْلُحُ مُفْتِيًا ؟ قِيلَ لَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ ، وَالْفَاسِقُ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهَا ، وَقِيلَ يَصْلُحُ ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْخَطَأِ فَلَا يَتْرُكُ الصَّوَابَ .
وَأَمَّا الثَّانِي ) يَعْنِي اشْتِرَاطَ الِاجْتِهَادِ لِلْقَضَاءِ .
فَإِنَّ لَفْظَ الْقُدُورِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَرْطُ صِحَّةِ التَّوْلِيَةِ لِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقٍ لَا يَصِحُّ ، وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْمُقَلِّدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا ، لَكِنَّ ( الصَّحِيحَ أَنَّ أَهْلِيَّةَ الِاجْتِهَادِ شَرْطُ الْأَوْلَوِيَّةِ ) قَالَ الْخَصَّافُ : الْقَاضِي يَقْضِي بِاجْتِهَادِهِ نَفْسِهِ إذَا كَانَ لَهُ رَأْيٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ وَسَأَلَ فَقِيهًا أَخَذَ بِقَوْلِهِ .
فَأَمَّا تَقْلِيدُ الْجَاهِلِ فَصَحِيحٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ يَقُولُ : إنَّ الْأَمْرَ بِالْقَضَاءِ يَسْتَدْعِي الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ وَلَا قُدْرَةَ دُونَ الْعِلْمِ .
وَلَنَا أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِفَتْوَى غَيْرِهِ ، وَمَقْصُودُ الْقَضَاءِ يَحْصُلُ بِهِ وَهُوَ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ .
( قَوْلُهُ : فَأَمَّا تَقْلِيدُ الْجَاهِلِ فَصَحِيحٌ عِنْدَنَا ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالْجَاهِلِ الْمُقَلَّدَ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمُجْتَهِدِ وَسَمَّاهُ جَاهِلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِسِيَاقِ الْكَلَامِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ لَا يَحْفَظُ شَيْئًا مِنْ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِسِيَاقِ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ : ( خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ) فَإِنَّهُ عَلَّلَ لَهُ بِقَوْلِهِ ( إنَّ الْأَمْرَ بِالْقَضَاءِ يَسْتَدْعِي الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ وَلَا قُدْرَةَ دُونَ الْعِلْمِ ) وَلَمْ يَقُلْ دُونَ الِاجْتِهَادِ وَشَبَهِهِ بِالتَّحَرِّي ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَصِلُ إلَى الْمَقْصُودِ لِتَحَرِّي غَيْرِهِ بِالِاتِّفَاقِ ، فَلَوْ صَلَّى بِتَحَرِّي غَيْرِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ .
وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ ( وَلَنَا أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِفَتْوَى غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقَضَاءِ هُوَ أَنْ يَصِلَ الْحَقُّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ ) وَذَلِكَ كَمَا يَحْصُلُ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ يَحْصُلُ مِنْ الْمُقَلِّدِ إذَا قَضَى بِفَتْوَى غَيْرِهِ ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { أَنْفَذَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْيَمَنِ وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ ، فَقُلْت : تُنْفِذُنِي إلَى قَوْمٍ يَكُونُ بَيْنَهُمْ أَحْدَاثٌ وَلَا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ ؟ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيَهْدِي لِسَانَك وَيُثَبِّتُ قَلْبَك ، فَمَا شَكَكْت فِي قَضَاءٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ } " فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَيْسَ بِشَرْطِ الْجَوَازِ ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ .
وَيَنْبَغِي لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَخْتَارَ مَنْ هُوَ الْأَقْدَرُ وَالْأَوْلَى لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ } .( نَعَمْ يَنْبَغِي لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَخْتَارَ الْأَقْدَرَ وَالْأَوْلَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ } " ) وَهُوَ حَدِيثٌ ثَبَتَ بِنَقْلِ الْعُدُولِ ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَا قِيلَ إنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الْمُدَوَّنَاتِ ، فَإِنَّهُ طَعْنٌ بِلَا دَلِيلٍ فَلَا يُقَلَّدُ الْمُقَلِّدُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِ الْعَدْلِ .
وَفِي حَدِّ الِاجْتِهَادِ كَلَامٌ عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَحَاصِلُهُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ حَدِيثٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ لِيَعْرِفَ مَعَانِيَ الْآثَارِ أَوْ صَاحِبَ فِقْهٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْحَدِيثِ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بِالْقِيَاسِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَقِيلَ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ صَاحِبَ قَرِيحَةٍ يَعْرِفُ بِهَا عَادَاتِ النَّاسِ لِأَنَّ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَبْتَنِي عَلَيْهَا .( قَوْلُهُ : وَفِي حَدِّ الِاجْتِهَادِ ) إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى الِاجْتِهَادِ إجْمَالًا ، فَإِنَّ بَيَانَهُ تَفْصِيلًا مَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ مُفَصَّلًا ( وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ صَاحِبَ حَدِيثٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ لِيَعْرِفَ مَعَانِيَ الْآثَارِ أَوْ صَاحِبَ فِقْهٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْحَدِيثِ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بِالْقِيَاسِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ) وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ نَيِّرٌ ( وَقِيلَ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ ) أَيْ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ( صَاحِبَ قَرِيحَةٍ ) أَيْ طَبِيعَةٍ جَيِّدَةٍ خَالِصَةٍ مِنْ التَّشْكِيكَاتِ الْمُكَدِّرَةِ يَنْتَقِلُ مِنْ الْمَطَالِبِ إلَى الْمَبَادِئِ ، وَمِنْهَا إلَى الْمَطَالِبِ بِسُرْعَةٍ يُرَتَّبُ الْمَطْلُوبُ عَلَى مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لَهُ مِنْ عُرْفٍ أَوْ عَادَةٍ ، فَإِنَّ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَبْتَنِي عَلَيْهَا مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ كَدُخُولِ الْحَمَّامِ وَتَعَاطِي الْعَجِينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ لِمَنْ يَثِقُ بِنَفْسِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ فَرْضَهُ ) لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَقَلَّدُوهُ وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةٌ ، وَلِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِكَوْنِهِ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ .قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ إلَخْ ) وَلَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ لِمَنْ يَثِقُ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ إذَا تَوَلَّاهُ وَقَامَ بِمَا هُوَ فَرِيضَةٌ وَهُوَ الْحَقُّ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَقِّ فَرْضٌ أَمَرَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاك خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } وَقَالَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ } فَمَنْ وَثِقَ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ يُؤَدِّي هَذَا الْفَرْضَ فَلَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَقَلَّدُوهُ وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً ؛ وَلِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِكَوْنِهِ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الدُّخُولَ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ النَّدْبِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَغَيْرِهَا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ فِيهِ خَطَرَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ فَكَانَ بِهِ بَأْسٌ .
قَالَ ( وَيُكْرَهُ الدُّخُولُ فِيهِ لِمَنْ يَخَافُ الْعَجْزَ عَنْهُ وَلَا بَأْسَ عَلَى نَفْسِهِ الْحَيْفُ فِيهِ ) كَيْ لَا يَصِيرَ شَرْطًا لِمُبَاشَرَتِهِ الْقَبِيحَ ، وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ الدُّخُولَ فِيهِ مُخْتَارًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { مَنْ جُعِلَ عَلَى الْقَضَاءِ فَكَأَنَّمَا ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ } " وَالصَّحِيحُ أَنَّ الدُّخُولَ فِيهِ رُخْصَةٌ طَمَعًا فِي إقَامَةِ الْعَدْلِ وَالتَّرْكُ عَزِيمَةٌ فَلَعَلَّهُ يُخْطِئُ ظَنُّهُ وَلَا يُوَفَّقُ لَهُ أَوْ لَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعَانَةِ إلَّا إذَا كَانَ هُوَ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ دُونَ غَيْرِهِ فَحِينَئِذٍ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ التَّقَلُّدُ صِيَانَةً لِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَإِخْلَاءً لِلْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ .
قَالَ ( وَيُكْرَهُ الدُّخُولُ فِيهِ لِمَنْ يَخَافُ الْعَجْزَ إلَخْ ) مَنْ خَافَ الْعَجْزَ عَنْ أَدَاءِ فَرْضِ الْقَضَاءِ وَلَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ الْحَيْفَ وَهُوَ الْجَوْرُ فِيهِ كُرِهَ لَهُ الدُّخُولُ فِيهِ كَيْلَا يَصِيرَ الدُّخُولُ فِيهِ شَرْطًا : أَيْ وَسِيلَةً إلَى مُبَاشَرَةِ الْقَبِيحِ ، وَهُوَ الْحَيْفُ فِي الْقَضَاءِ ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِلَفْظِ الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَقَعُ مِنْ الْحَيْفِ إنَّمَا هُوَ بِالْمَيْلِ إلَى حُطَامِ الدُّنْيَا بِأَخْذِ الرِّشَا ، وَفِي الْغَالِبِ يَكُونُ ذَلِكَ مَشْرُوطًا بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِي عَلَى فُلَانٍ أَوْ لَهُ عَلَيَّ مُطَالَبَةٌ بِكَذَا فَإِنْ قَضَيْت لِي فَلَكَ كَذَا ، وَكَرِهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَوْ بَعْضُ السَّلَفِ الدُّخُولَ فِيهِ مُخْتَارًا سَوَاءٌ وَثِقُوا أَنْفُسَهُمْ أَوْ خَافُوا عَلَيْهَا ، وَفَسَّرَ الْكَرَاهَةَ هَاهُنَا بِعَدَمِ الْجَوَازِ .
قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي : وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يَجُوزُ الدُّخُولُ فِيهِ إلَّا مُكْرَهًا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ دُعِيَ إلَى الْقَضَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَبَى حَتَّى ضُرِبَ فِي كُلِّ مُرَّةٍ ثَلَاثِينَ سَوْطًا ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ قَالَ : حَتَّى أَسْتَشِيرَ أَصْحَابِي ، فَاسْتَشَارَ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَوْ تَقَلَّدْت لَنَفَعْت النَّاسَ ، فَنَظَرَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ نَظَرَ الْمُغْضَبِ وَقَالَ : أَرَأَيْت لَوْ أُمِرْت أَنْ أَعْبُرَ الْبَحْرَ سِبَاحَةً أَكُنْت أَقْدِرُ عَلَيْهِ وَكَأَنِّي بِك قَاضِيًا ، وَكَذَا دُعِيَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى الْقَضَاءِ فَأَبَى حَتَّى قُيِّدَ وَحُبِسَ فَاضْطُرَّ ثُمَّ تَقَلَّدَ .
وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ جُعِلَ عَلَى الْقَضَاءِ فَكَأَنَّمَا ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ } رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي وَجْهَ تَشْبِيهِ الْقَضَاءِ بِالذَّبْحِ بِغَيْرِ سِكِّينٍ قَالَ : ؛ لِأَنَّ السِّكِّينَ تُؤَثِّرُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا ،
وَالذَّبْحُ بِغَيْرِ سِكِّينٍ يُؤَثِّرُ فِي الْبَاطِنِ بِإِزْهَاقِ الرُّوحِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الظَّاهِرِ ، وَوَبَالُ الْقَضَاءِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الظَّاهِرِ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ جَاهٌ وَعَظَمَةٌ لَكِنْ فِي بَاطِنِهِ هَلَاكٌ .
وَكَانَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَزْدَرِيَ هَذَا اللَّفْظَ كَيْ لَا يُصِيبَهُ مَا أَصَابَ ذَلِكَ الْقَاضِيَ ، فَقَدْ حُكِيَ أَنَّ قَاضِيًا رُوِيَ لَهُ هَذَا الْحَدِيثُ فَازْدَرَاهُ وَقَالَ : كَيْفَ يَكُونُ هَذَا ، ثُمَّ دَعَا فِي مَجْلِسِهِ بِمَنْ يُسَوِّي شَعْرَهُ ، فَجَعَلَ الْحَلَّاقُ يَحْلِقُ بَعْضَ الشَّعْرِ مِنْ تَحْتِ ذَقَنِهِ إذْ عَطَسَ فَأَصَابَهُ الْمُوسَى وَأَلْقَى رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ .
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالصَّحِيحُ أَنَّ الدُّخُولَ فِيهِ رُخْصَةٌ طَمَعًا فِي إقَامَةِ الْعَدْلِ ) رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا قُلِّدَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ لَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ ( التَّرْكُ عَزِيمَةٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ ظَنُّهُ ) فِيمَا اجْتَهَدَ ( وَلَا يُوَفَّقُ لَهُ ) إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا ( أَوْ لَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعَانَةِ ) إنْ كَانَ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ .
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ : دَخَلَ فِي الْقَضَاءِ قَوْمٌ صَالِحُونَ وَاجْتَنَبَهُ قَوْمٌ صَالِحُونَ ؛ وَتَرْكُ الدُّخُولِ فِيهِ أَصْلَحُ وَأَسْلَمُ لِدِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ أَنْ يَقْضِيَ بِحَقٍّ وَلَا يَدْرِي أَيَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ أَوْ لَا ، وَفِي تَرْكِ الدُّخُولِ صِيَانَةُ نَفْسِهِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ غَيْرُهُ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ ( فَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ الْأَهْلَ دُونَ غَيْرِهِ فَحِينَئِذٍ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الدُّخُولُ صِيَانَةً لِحُقُوقِ الْعِبَادِ ) فِي حَقِّهِمْ ( وَإِخْلَاءً لِلْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ ) فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، فَإِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ قَوْمٌ يَصْلُحُونَ لِلْقَضَاءِ فَامْتَنَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ الدُّخُولِ فِيهِ أَثِمُوا إنْ كَانَ السُّلْطَانُ بِحَيْثُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ وَإِلَّا فَلَا ، وَلَوْ
امْتَنَعَ الْكُلُّ حَتَّى قُلِّدَ جَاهِلٌ اشْتَرَكُوا فِي الْإِثْمِ لِأَدَائِهِ إلَى تَضْيِيعِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى .
قَالَ ( وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَطْلُبَ الْوِلَايَةَ وَلَا يَسْأَلَهَا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ نَزَلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ } وَلِأَنَّ مَنْ طَلَبَهُ يَعْتَمِدُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَحْرُمُ ، وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّهِ فَيُلْهَمُ .قَالَ ( وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَطْلُبَ الْوِلَايَةَ وَلَا يَسْأَلَهَا إلَخْ ) مَنْ صَلَحَ لِلْقَضَاءِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَطْلُبَ الْوِلَايَةَ بِقَلْبِهِ وَلَا يَسْأَلَهَا بِلِسَانِهِ لِمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ ، وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ نَزَلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ } " وُكِلَ بِالتَّخْفِيفِ : أَيْ فُوِّضَ أَمْرُهُ إلَيْهَا ، وَمَنْ فُوِّضَ أَمْرُهُ إلَى نَفْسِهِ لَمْ يَهْتَدِ إلَى الصَّوَابِ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ؛ لِأَنَّ مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ فَقَدْ اعْتَمَدَ فِقْهَهُ وَوَرَعَهُ وَذَكَاءَهُ وَأُعْجِبَ فَيُحْرَمَ التَّوْفِيقَ ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْتَغِلَ الْمَرْءُ بِطَلَبِ مَا لَوْ نَالَ يَحْرُمُ بِهِ وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَقَدْ اعْتَصَمَ بِحَبْلِ اللَّهِ مَكْسُورَ الْقَلْبِ بِالْإِكْرَاهِ عَلَى مَا لَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } فَيُلْهَمُ الرُّشْدَ وَالتَّوْفِيقَ .
( ثُمَّ يَجُوزُ التَّقَلُّدُ مِنْ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ كَمَا يَجُوزُ مِنْ الْعَادِلِ ) لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَقَلَّدُوهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْحَقُّ كَانَ بِيَدِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي نَوْبَتِهِ ، وَالتَّابِعِينَ تَقَلَّدُوهُ مِنْ الْحَجَّاجِ وَكَانَ جَائِزًا إلَّا إذَا كَانَ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْقَضَاءِ بِحَقٍّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِالتَّقَلُّدِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ .( قَوْلُهُ : ثُمَّ يَجُوزُ التَّقَلُّدُ ) تَفْرِيعٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي جَوَازِ التَّقَلُّدِ لِأَهْلِهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُوَلِّي عَادِلًا أَوْ جَائِرًا ، فَكَمَا جَازَ مِنْ السُّلْطَانِ الْعَادِلِ جَازَ مِنْ الْجَائِرِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَقَلَّدُوا الْقَضَاءَ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَكَانَ الْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي نَوْبَتِهِ ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ ( فِي نَوْبَتِهِ ) احْتِرَازًا عَمَّا يَقُولُهُ الرَّوَافِضُ إنَّ الْحَقَّ مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي نَوْبَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا ، بَلْ أَجْمَعَ الْأُمَّةُ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى صِحَّةِ خِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ وَمَوْضِعُهُ بَابُ الْإِمَامَةِ فِي أُصُولِ الْكَلَامِ ، وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ وَالتَّابِعِينَ تَقَلَّدُوهُ مِنْ الْحَجَّاجِ وَجَوْرُهُ مَشْهُورٌ فِي الْآفَاقِ .
وَقَوْلُهُ : ( إلَّا إذَا كَانَ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْقَضَاءِ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ يَجُوزُ التَّقَلُّدُ مِنْ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْقَضَاءِ ( لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالتَّقَلُّدِ ) فَلَا فَائِدَةَ لِتَقَلُّدِهِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يُمَكِّنُهُ )
قَالَ ( وَمَنْ قُلِّدَ الْقَضَاءَ يُسَلَّمُ إلَيْهِ دِيوَانُ الْقَاضِي الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ ) وَهُوَ الْخَرَائِطُ الَّتِي فِيهَا السِّجِلَّاتُ وَغَيْرُهَا ، لِأَنَّهَا وُضِعَتْ فِيهَا لِتَكُونَ حُجَّةً عِنْدَ الْحَاجَةِ فَتُجْعَلُ فِي يَدِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ .
ثُمَّ إنْ كَانَ الْبَيَاضُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ مَالِ الْخُصُومِ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُمْ وَضَعُوهَا فِي يَدِهِ لِعَمَلِهِ وَقَدْ انْتَقَلَ إلَى الْمُوَلَّى ، وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ مَالِ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ اتَّخَذَهُ تَدَيُّنًا لَا تَمَوُّلًا ، وَيَبْعَثُ أَمِينَيْنِ لِيَقْبِضَاهَا بِحَضْرَةِ الْمَعْزُولِ أَوْ أَمِينِهِ وَيَسْأَلَانِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا ، وَيَجْعَلَانِ كُلَّ نَوْعٍ مِنْهَا فِي خَرِيطَةٍ كَيْ لَا يَشْتَبِهَ عَلَى الْمُوَلَّى ، وَهَذَا السُّؤَالُ لِكَشْفِ الْحَالِ لَا لِلْإِلْزَامِ .
قَالَ ( وَمَنْ قُلِّدَ الْقَضَاءَ يُسَلَّمَ إلَيْهِ دِيوَانُ الْقَاضِي الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ إلَخْ ) مَنْ تَوَلَّى الْقَضَاءَ بَعْدَ عَزْلِ آخَرَ تَسَلَّمَ دِيوَانَ الْقَاضِي الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ ، وَالدِّيوَانُ هُوَ الْخَرَائِطُ الَّتِي فِيهَا السِّجِلَّاتُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْمَحَاضِرِ وَالصُّكُوكِ وَكِتَابِ نَصْبِ الْأَوْصِيَاءِ وَتَقْدِيرِ النَّفَقَاتِ ؛ لِأَنَّهَا : أَيْ السِّجِلَّاتِ وَغَيْرَهَا إنَّمَا وُضِعَتْ فِي الْخَرَائِطِ لِتَكُونَ حُجَّةً عِنْدَ الْحَاجَةِ فَتُجْعَلُ فِي يَدِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ وَإِلَّا لَا تُفِيدُ ، وَسَمَّاهَا حُجَّةً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْكِتَابُ مُنْفَرِدًا عَنْ التَّذْكِيرِ وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةٌ ؛ لِأَنَّهَا تَئُولُ إلَيْهَا بِالتَّذْكِيرِ .
ثُمَّ الْبَيَاضُ : أَيْ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ الْحَادِثَةُ وَرَقًا كَانَ أَوْ رِقًّا لَا يَخْلُو عَنْ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، أَوْ مِنْ مَالِ الْخُصُومِ ، أَوْ مِنْ مَالِ الْقَاضِي الْأَوَّلِ ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَوَجْهُ تَسْلِيمِ الْقَاضِي إيَّاهُ ظَاهِرٌ ، وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ مَالِ الْخُصُومِ فِي الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّهُمْ وَضَعُوهَا فِي يَدِهِ لِعَمَلِهِ وَقَدْ انْتَقَلَ إلَى الْمُوَلَّى ، وَكَذَا إنْ كَانَ مِنْ مَالِ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ اتَّخَذَهُ تَدَيُّنًا لَا تَمَوُّلًا .
وَقَوْلُهُ : فِي الصَّحِيحِ فِي الصُّورَتَيْنِ احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إنَّ الْبَيَاضَ إذَا كَانَ مِنْ مَالِ الْخُصُومِ أَوْ مَالِ الْقَاضِي لَا يُجْبَرُ الْمَعْزُولُ عَلَى دَفْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ أَوْ وُهِبَ لَهُ ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ فِيهِمَا مَا ذُكِرَ ( قَوْلُهُ : وَيَبْعَثُ أَمِينَيْنِ ) بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ التَّسْلِيمِ وَهُوَ أَنْ يَبْعَثَ الْمُتَوَلِّي رَجُلَيْنِ مِنْ ثِقَاتِهِ وَهُوَ أَحْوَطُ ، وَالْوَاحِدُ يَكْفِي ( فَيَقْبِضَاهَا بِحَضْرَةِ الْمَعْزُولِ أَوْ أَمِينِهِ يَسْأَلَانِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا وَيَجْعَلَانِ كُلَّ نَوْعٍ فِي خَرِيطَةٍ عَلَى حِدَةٍ كَيْ لَا يَشْتَبِهَ عَلَى الْمُوَلَّى ) وَهَذَا ؛ لِأَنَّ السِّجِلَّاتِ وَغَيْرَهَا لَمَّا كَانَتْ مَوْضُوعَةً فِي الْخَرَائِطِ بِيَدِ الْمَعْزُولِ
رُبَّمَا لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَقْتَ الطَّلَبِ ، وَأَمَّا الْمُوَلَّى فَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ عَهْدٌ بِذَلِكَ ، فَإِنْ تُرِكَتْ مُجْتَمَعَةً تَشْتَبِهُ عَلَى الْمُوَلَّى فَلَا يَتَّصِلُ إلَى الْمَقْصُودِ وَقْتَ الْحَاجَةِ أَوْ يَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ( وَهَذَا السُّؤَالُ ) أَيْ سُؤَالُ الْمَعْزُولِ ( لِكَشْفِ الْحَالِ لَا لِلْإِلْزَامِ ) فَإِنَّهُ بِالْعَزْلِ اُلْتُحِقَ بِوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً ، وَمَتَى قَبَضَا ذَلِكَ يَخْتِمَانِ عَلَى ذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ الزِّيَادَةِ .
قِيلَ قَوْلُهُ : وَهَذَا السُّؤَالُ لِكَشْفِ الْحَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ بِمَعْنَى الِاسْتِعْلَامِ وَهُوَ يَتَعَدَّى إلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِعَنْ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ وَيَسْأَلَانِ الْمَعْزُولَ عَنْ أَحْوَالِ السِّجِلَّاتِ وَغَيْرِهَا .
وَقَوْلُهُ : شَيْئًا فَشَيْئًا مَنْصُوبٌ بِعَامِلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : وَيَسْأَلَانِهِ : أَيْ يَسْأَلَانِ شَيْئًا فَشَيْئًا عَنْهَا ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الثَّانِي كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ حَالًا بِمَعْنَى مُفَصَّلًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَبَيَّنْت لَهُ حِسَابَهُ بَابًا بَابًا .
قَالَ ( وَيَنْظُرُ فِي حَالِ الْمَحْبُوسِينَ ) لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا ( فَمَنْ اعْتَرَفَ بِحَقٍّ أَلْزَمَهُ إيَّاهُ ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمٌ ( وَمَنْ أَنْكَرَ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَ الْمَعْزُولِ عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ) لِأَنَّهُ بِالْعَزْلِ الْتَحَقَ بِالرَّعَايَا ، وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ ( فَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ لَمْ يُعَجِّلْ بِتَخْلِيَتِهِ حَتَّى يُنَادَى عَلَيْهِ وَيَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ ) لِأَنَّ فِعْلَ الْقَاضِي الْمَعْزُولِ حَقٌّ ظَاهِرٌ فَلَا يُعَجِّلُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ .
قَالَ ( وَيَنْظُرُ الْمُوَلَّى فِي حَالِ الْمَحْبُوسِينَ ) بِأَنْ يَبْعَثَ إلَى الْحَبْسِ مَنْ يُحْصِيهِمْ وَيَأْتِيهِ بِأَسْمَائِهِمْ وَيَسْأَلُ الْمَحْبُوسِينَ عَنْ سَبَبِ حَبْسِهِمْ ( لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا ) لِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ ، وَقَوْلُ الْمَعْزُولِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِمَا تَقَدَّمَ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفَحُّصِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خُصُومِهِمْ ( فَمَنْ اعْتَرَفَ بِحَقٍّ أَلْزَمَهُ إيَّاهُ ) وَحَبَسَهُ إذَا طَلَبَ الْخَصْمُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ وَلَيَّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ : أَيْ حَبْسَهُ ( وَمَنْ أَنْكَرَ ) مَا يُوجِبُ الْحَبْسَ ( لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْمَعْزُولِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا ، وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ ) فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِالْحَقِّ وَالْقَاضِي يَعْرِفُ عَدَالَةَ الشُّهُودِ رَدَّهُمْ إلَى الْحَبْسِ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ فَإِنْ عُدِّلُوا فَكَذَلِكَ ( وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ ) أَوْ لَمْ يَحْضُرْ خَصْمٌ وَادَّعَى الْمَحْبُوسُ أَنْ لَا خَصْمَ لَهُ وَهُوَ مَحْبُوسٌ بِغَيْرِ حَقٍّ ( لَمْ يُعَجِّلْ بِتَخْلِيَتِهِ حَتَّى يُنَادَى عَلَيْهِ ) أَيَّامًا إذَا جَلَسَ يَقُولُ الْمُنَادِي إنَّ الْقَاضِيَ يَقُولُ مَنْ كَانَ يُطَالِبُ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ الْمَحْبُوسَ الْفُلَانِيَّ خَصْمَهُ فَلْيَحْضُرْ ، فَإِنْ حَضَرَ وَإِلَّا فَمَنْ رَأَى الْقَاضِي أَنْ يُطْلِقَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ خَصْمٌ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَأَطْلَقَهُ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَعْزُولِ حَقٌّ ظَاهِرٌ فَلَا يُعَجَّلُ بِالتَّخْلِيَةِ وَيَسْتَظْهِرُ أَمْرَهُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَصْمٌ غَائِبٌ يَدَّعِي عَلَيْهِ إذَا حَضَرَ .
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ هُنَا وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ حَيْثُ لَا يَأْخُذُ هُنَاكَ كَفِيلًا عَلَى مَا سَيَجِيءُ أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْقِسْمَةِ الْحَقَّ
لِلْوَارِثِ الْحَاضِرِ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ وَفِي ثُبُوتِهِ لِغَيْرِهِ شَكٌّ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْمُحَقَّقِ لِأَمْرٍ مَوْهُومٍ .
وَأَمَّا هَاهُنَا فَإِنَّ الْحَقَّ لِلْغَائِبِ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ حَالِ الْمَعْزُولِ لَكِنَّهُ مَجْهُولٌ فَلَا تَكُونُ الْكَفَالَةُ لِأَمْرٍ مَوْهُومٍ وَقِيلَ أَخْذُ الْكَفِيلِ هَاهُنَا أَيْضًا عَلَى الْخِلَافِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى فَرْقٍ .
وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ : الصَّحِيحُ أَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ هَاهُنَا بِالِاتِّفَاقِ ، فَالْفَرْقُ الْمَذْكُورُ يَكُونُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ ، وَإِنْ قَالَ : لَا كَفِيلَ لِي أَوْ لَا أُعْطِي كَفِيلًا ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيَّ شَيْءٌ نَادَى عَلَيْهِ شَهْرًا ثُمَّ خَلَّاهُ ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْكَفِيلِ كَانَ احْتِيَاطًا ، فَإِذَا امْتَنَعَ احْتَاطَ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ يَحْصُلُ بِالنِّدَاءِ عَلَيْهِ شَهْرًا .
( وَيَنْظُرُ فِي الْوَدَائِعِ وَارْتِفَاعِ الْوُقُوفِ فَيَعْمَلُ فِيهِ عَلَى مَا تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَةُ أَوْ يَعْتَرِفُ بِهِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حُجَّةٌ .( وَيَنْظُرُ الْمُوَلَّى فِي الْوَدَائِعِ وَارْتِفَاعِ الْوُقُوفِ ) ؛ لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا فِي أُمُورِ النَّاسِ ( فَيَعْمَلُ فِي الْمَذْكُورِ عَلَى ) حَسَبِ ( مَا تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَةُ أَوْ بِاعْتِرَافِ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِعَمَلِهِ مِنْ حُجَّةٍ ( وَكُلُّ ذَلِكَ حُجَّةٌ ) .
( وَلَا يَقْبَلُ قَوْلَ الْمَعْزُولِ ) لِمَا بَيَّنَّا ( إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ أَنَّ الْمَعْزُولَ سَلَّمَهَا إلَيْهِ فَيَقْبَلُ قَوْلَهُ فِيهَا ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لِلْقَاضِي فَيَصِحُّ إقْرَارُ الْقَاضِي كَأَنَّهُ فِي يَدِهِ فِي الْحَالِ ، إلَّا إذَا بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ لِغَيْرِهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِتَسْلِيمِ الْقَاضِي فَيُسَلِّمُ مَا فِي يَدِهِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ لِسَبْقِ حَقِّهِ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ الثَّانِي وَيُسَلَّمُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي .
( وَلَا يَقْبَلُ قَوْلَ الْمَعْزُولِ فِيهِ لِمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ ذُو الْيَدِ أَنَّ الْمَعْزُولَ سَلَّمَهَا إلَيْهِ فَيُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْمَعْزُولِ ؛ لِأَنَّهُ بِإِقْرَارِ ذِي الْيَدِ ثَبَتَ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لِلْمَعْزُولِ فَيَصِحُّ إقْرَارُ الْمَعْزُولِ بِهِ كَأَنَّهُ بِيَدِهِ لِلْحَالِ ) وَلَوْ كَانَ بِيَدِهِ عِيَانًا صَحَّ إقْرَارُهُ بِهِ ، فَكَذَا إذَا كَانَ بِيَدِ مُودَعِهِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ ( إلَّا إذَا بَدَأَ ذُو الْيَدِ بِالْإِقْرَارِ لِغَيْرِ مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ لِسَبْقِ حَقِّهِ ثُمَّ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ الثَّانِي وَيُسَلَّمُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي ) وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَنْ بِيَدِهِ الْمَالُ إمَّا أَنْ يُقِرَّ بِشَيْءٍ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ الْمَعْزُولُ أَوْ يَجْحَدَ كُلَّهُ ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ : وَلَا يَجِبُ بِقَوْلِ الْمَعْزُولِ عَلَيْهِ شَيْءٌ ؛ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ دَفَعَهُ الْقَاضِي إلَيَّ وَهُوَ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَوَّلًا بِتَعْلِيلِهِ وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ دَفَعَهُ الْقَاضِي إلَيَّ وَلَا أَدْرِي لِمَنْ هُوَ وَحُكْمُهُ كَحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ وَالتَّعْلِيلِ كَتَعْلِيلِهِ ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ دَفَعَهُ إلَيَّ الْقَاضِي الْمَعْزُولُ وَهُوَ لِفُلَانٍ غَيْرِ مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي وَحُكْمُهُ مَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَدَأَ بِالدَّفْعِ مِنْ الْقَاضِي فَقَدْ أَقَرَّ بِالْيَدِ لَهُ فَصَارَ كَأَنَّ الْمَالَ فِي يَدِهِ لِمَا مَرَّ ؛ ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ لِفُلَانٍ وَهُوَ لَا يَصِحُّ ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ هُوَ لِفُلَانٍ غَيْرِ مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي وَدَفَعَهُ إلَيَّ الْقَاضِي وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ آخِرًا وَحُكْمُهُ أَنَّ الْمَالَ يُسَلَّمُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ أَوَّلًا لِسَبْقِ حَقِّهِ ثُمَّ يَضْمَنُ مِثْلَهُ لِلْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ الثَّانِي وَيُسَلَّمُ إلَى
الْمُقَرِّ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي إنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَقِيمَتُهُ إنْ كَانَ قِيَمِيًّا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ الْأَوَّلَ لَمَّا صَحَّ وَجَبَ تَسْلِيمُ الْمَالِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ ، وَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ دَفَعَهُ إلَيَّ الْقَاضِي وَهُوَ يَقُولُ لِفُلَانٍ آخَرَ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لِلْقَاضِي ، وَبِإِقْرَارِهِ لِغَيْرِ مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي أَتْلَفَ الْمَالَ عَلَى مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي فَكَانَ ضَامِنًا لِلْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ .
كَذَا نَقَلَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَغَيْرُهُ عَنْ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ وَغَيْرِهِ .
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ الْأَوَّلَ إمَّا أَنْ يُبْطِلَ مَا بَعْدَهُ أَوْ لَا ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ يَلْزَمُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ مَا بَدَأَ ذُو الْيَدِ بِالدَّفْعِ مِنْ الْقَاضِي وَبَيْنَ مَا بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ لِلْغَيْرِ لِشُمُولِ الضَّمَانِ أَوْ لِشُمُولِ الْعَدَمِ ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا ذَكَرَ الضَّمَانَ لِلْمُقَرِّ لَهُ ثَانِيًا فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ الْأَوَّلَ إنْ كَانَ بِالْيَدِ يَخْتَارُ إبْطَالَ مَا بَعْدَهُ وَإِلَّا فَلَا ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِمَّنْ لَا يَدَ لَهُ لِصُدُورِهِ عَنْ الْأَجْنَبِيِّ عَنْ الْمُقِرِّ بِهِ فَاسِدٌ ، فَإِذَا أَقَرَّ بِالْيَدِ الشَّخْصُ ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَهُ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ بَطَلَ إقْرَارُهُ الثَّانِي لِصُدُورِهِ عَمَّنْ لَا يَمْلِكُهُ وَإِذَا أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ بِمَا فِي يَدِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ ثُمَّ بِالْإِقْرَارِ بِالْيَدِ لِغَيْرِهِ يُرِيدُ أَنْ يُبْطِلَ الْأَوَّلَ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ إقْرَارًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَلَكِنَّهُ يُسْمَعُ فِي حَقِّ الْمُودِعِ لِكَوْنِهِ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ بِإِتْلَافِ حَقِّهِ بِإِقْرَارِهِ لِغَيْرِهِ فِي وَقْتٍ يُسْمَعُ مِنْهُ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَيَجْلِسُ لِلْحُكْمِ جُلُوسًا ظَاهِرًا فِي الْمَسْجِدِ ) كَيْ لَا يَشْتَبِهَ مَكَانُهُ عَلَى الْغُرَبَاءِ وَبَعْضِ الْمُقِيمِينَ ، وَالْمَسْجِدُ الْجَامِعُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَشْهَرُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُكْرَهُ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَحْضُرُهُ الْمُشْرِكُ وَهُوَ نَجَسٌ بِالنَّصِّ وَالْحَائِضُ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْ دُخُولِهِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحُكْمِ } .
{ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْصِلُ الْخُصُومَةَ فِي مُعْتَكَفِهِ } وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسَاجِدِ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ ، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ عِبَادَةٌ فَيَجُوزُ إقَامَتُهَا فِي الْمَسْجِدِ كَالصَّلَاةِ .
وَنَجَاسَةُ الْمُشْرِكِ فِي اعْتِقَادِهِ لَا فِي ظَاهِرِهِ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ ، وَالْحَائِضُ تُخْبِرُ بِحَالِهَا فَيَخْرُجُ الْقَاضِي إلَيْهَا أَوْ إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ يَبْعَثُ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَصْمِهَا كَمَا إذَا كَانَتْ الْخُصُومَةُ فِي الدَّابَّةِ .
وَلَوْ جَلَسَ فِي دَارِهِ لَا بَأْسَ بِهِ وَيَأْذَنُ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهَا ، وَيَجْلِسُ مَعَهُ مَنْ كَانَ يَجْلِسُ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي جُلُوسِهِ وَحْدَهُ تُهْمَةً .
قَالَ ( وَيَجْلِسُ لِلْحُكْمِ جُلُوسًا ظَاهِرًا فِي الْمَسْجِدِ إلَخْ ) الْحَاكِمُ يَجْلِسُ لِلْقَضَاءِ جُلُوسًا ظَاهِرًا فِي الْمَسْجِدِ كَيْ لَا يَتَسَتَّرَ مَكَانُهُ عَنْ الْغُرَبَاءِ وَبَعْضِ الْمُقِيمِينَ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : وَالْمَسْجِدُ الْجَامِعُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ وَأَرْفَقُ بِالنَّاسِ .
قَالَ الْإِمَامُ عَلِيٌّ الْبَزْدَوِيُّ : هَذَا إذَا كَانَ الْجَامِعُ فِي وَسَطِ الْبَلْدَةِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي طَرَفٍ مِنْهَا يَخْتَارُ مَسْجِدًا فِي وَسَطِهَا كَيْ لَا يَلْحَقَ بَعْضَ الْخُصُومِ زِيَادَةُ مَشَقَّةٍ بِالذَّهَابِ إلَيْهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُكْرَهُ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْضُرُهُ الْمُشْرِكُ وَهُوَ نَجِسٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } وَيَحْضُرُهُ الْحَائِضُ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْمَسْجِدِ .
وَفَصَّلَ مَالِكٌ بَيْنَ مَا كَانَ الْحَاكِمُ فِي الْمَسْجِدِ فَيَتَقَدَّمُ إلَيْهِ الْخَصْمَانِ وَبَيْنَ الذَّهَابِ إلَيْهِ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ ، وَلَمْ يَكْرَهْ الْأَوَّلَ وَكَرِهَ الثَّانِيَ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحُكْمِ } وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْصِلُ الْخُصُومَةَ فِي مُعْتَكَفِهِ وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسَاجِدِ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ ، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ أَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ فَيَجُوزُ فِي الْمَسَاجِدِ كَالصَّلَاةِ ( قَوْلُهُ : وَنَجَاسَةُ الْمُشْرِكِ ) جَوَابٌ عَنْ دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ .
وَتَقْرِيرُهُ : نَجَاسَةُ الْمُشْرِكِ فِي اعْتِقَادِهِ لَا فِي ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْزِلُ الْوُفُودَ فِي الْمَسْجِدِ ( فَلَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ ) إذْ لَا يُصِيبُ الْأَرْضَ مِنْهُ شَيْءٌ ( وَالْحَائِضُ تُخْبِرُ بِحَالِهَا فَيَخْرُجُ الْقَاضِي إلَيْهَا أَوْ إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ يَبْعَثُ الْقَاضِي مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
خَصْمِهَا ) كَمَا إذَا كَانَتْ الْخُصُومَةُ فِي الدَّابَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحَائِضُ غَيْرَ مُسْلِمَةٍ لَا تَعْتَقِدُ حُرْمَةَ الدُّخُولِ فِي الْمَسْجِدِ فَتُخْبِرُ عَنْ حَالِهَا .
قُلْنَا : الْكُفَّارُ لَيْسُوا بِمُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ فَلَا بَأْسَ بِدُخُولِهَا ( وَلَوْ جَلَسَ الْقَاضِي فِي دَارِهِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ ) قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : إذَا كَانَتْ دَارُهُ فِي وَسَطِ الْبَلْدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَإِذَا جَلَسَ فِيهَا يَأْذَنُ لِلنَّاسِ فِي الدُّخُولِ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ حَقًّا فِي مَجْلِسِهِ ( وَيَجْلِسُ مَعَهُ مَنْ كَانَ يَجْلِسُ مَعَهُ لَوْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ ) حَتَّى يَكُونَ أَبْعَدَ مِنْ التُّهْمَةِ ( إذْ فِي الْجُلُوسِ وَحْدَهُ تُهْمَةٌ ) الظُّلْمِ وَأَخْذِ الرِّشْوَةِ .
قَالَ ( وَلَا يَقْبَلُ هَدِيَّةً إلَّا مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَوْ مِمَّنْ جَرَتْ عَادَتُهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِمُهَادَاتِهِ ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ صِلَةُ الرَّحِمِ وَالثَّانِيَ لَيْسَ لِلْقَضَاءِ بَلْ جَرَى عَلَى الْعَادَةِ ، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَصِيرُ آكِلًا بِقَضَائِهِ ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ لِلْقَرِيبِ خُصُومَةٌ لَا يَقْبَلُ هَدِيَّتَهُ ، وَكَذَا إذَا زَادَ الْمُهْدِي عَلَى الْمُعْتَادِ أَوْ كَانَتْ لَهُ خُصُومَةٌ لِأَنَّهُ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ فَيَتَحَامَاهُ .
قَالَ ( وَلَا يَقْبَلُ : هَدِيَّةً إلَّا مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ إلَخْ ) الْحَاكِمُ لَا يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ إلَّا مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَهُ أَوْ مِمَّنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِالْمُهَادَاةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ .
أَمَّا أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ فَلِأَنَّهُ مِنْ جَوَالِبِ الْقَضَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى صِفَةِ الْمُسْتَثْنَى وَهُوَ حَرَامٌ ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ إلَى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا } وَاسْتَعْمَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدِمَ بِمَالٍ فَقَالَ : مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا ؟ فَقَالَ : تَنَاتَجَتْ الْخُيُولُ وَتَلَاحَقَتْ الْهَدَايَا ، فَقَالَ : أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ هَلَّا قَعَدْت فِي بَيْتِك فَتَنْظُرُ أَيُهْدَى إلَيْك أَمْ لَا ؟ فَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْهُ وَجَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ .
فَعَرَفْنَا أَنَّ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ مِنْ الرِّشْوَةِ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ .
وَأَمَّا الْقَبُولُ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَلَا خُصُومَةَ لَهُ فَإِنَّهُ مِنْ جَوَالِبِ الْقَرَابَةِ ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى صِلَةِ الرَّحِمِ وَفِي الرَّدِّ مَعْنَى الْقَطِيعَةِ وَهُوَ حَرَامٌ .
وَلَفْظُ الْكِتَابِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مُهَادَاةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَأَنْ لَا يَكُونَ .
وَعِبَارَةُ النِّهَايَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُهَادَاةَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْقَضَاءِ شَرْطُ قَبُولِهَا كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَأَمَّا الْقَبُولُ مِمَّنْ جَرَتْ عَادَتُهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِمُهَادَاتِهِ وَلَمْ يَزِدْ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِأَكْلٍ عَلَى الْقَضَاءِ بَلْ هُوَ جَرَى عَلَى الْعَادَةِ حَيْثُ لَمْ يَزِدْ عَلَى الْمُعْتَادِ وَلَيْسَ لَهُ خُصُومَةٌ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُهْدِيَ لِلْقَاضِي إمَّا أَنْ
يَكُونَ ذَا خُصُومَةٍ أَوْ لَا ، وَالْأَوَّلُ لَا يَجُوزُ قَبُولُ هَدَيْته مُطْلَقًا : أَيْ سَوَاءٌ كَانَ قَرِيبًا أَوْ مُهَادِيًا قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا أَوْ مِمَّنْ جَرَتْ لَهُ الْعَادَةُ بِذَلِكَ أَوْ لَا ، وَالثَّانِي كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَكْلٌ بِالْقَضَاءِ فَيَتَحَامَاهُ ، وَالْأَوَّلُ يَجُوزُ قَبُولُهُ إنْ لَمْ يَزِدْ مَنْ لَهُ الْعَادَةُ عَلَى الْمُعْتَادِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : إنْ زَادَ عَلَى الْمُعْتَادِ عِنْدَمَا ازْدَادَ مَا لَا يَقْدِرُ مَا زَادَ فِي الْمَالِ لَا بَأْسَ بِقَبُولِهِ ، ثُمَّ إنْ أَخَذَ الْقَاضِي مَا لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ مَاذَا يَصْنَعُ بِهِ ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فَبَعْضُهُمْ قَالُوا : يَضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَعَامَّتُهُمْ قَالُوا : يَرُدُّهَا عَلَى أَرْبَابِهَا إنْ عَرَفَهُمْ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ أَوْ يَعْرِفُهُمْ إلَّا أَنَّ الرَّدَّ يَتَعَذَّرُ لِبُعْدِهِمْ يَضَعُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ اللُّقَطَةِ ، وَإِنَّمَا يَضَعُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُهْدِيَ إلَيْهِ لِعَمَلِهِ وَهُوَ فِي هَذَا الْعَمَلِ نَائِبٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ الْهَدَايَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَهُمْ .
وَلَا يَحْضُرُ دَعْوَةً إلَّا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً لِأَنَّ الْخَاصَّةَ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ فَيُتَّهَمُ بِالْإِجَابَةِ ، بِخِلَافِ الْعَامَّةِ ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْجَوَابِ قَرِيبُهُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُجِيبُهُ وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً كَالْهَدِيَّةِ ، وَالْخَاصَّةُ مَا لَوْ عَلِمَ الْمُضِيفُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْضُرُهَا لَا يَتَّخِذُهَا .( وَلَا يَحْضُرُ الْقَاضِي دَعْوَةً إلَّا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً ) قِيلَ وَهِيَ مَا تَكُونُ فَوْقَ الْعَشَرَةِ وَمَا دُونَهُ خَاصَّةٌ ، وَقِيلَ دَعْوَةُ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ عَامَّةٌ وَمَا سِوَى ذَلِكَ خَاصَّةٌ ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الدَّعْوَةَ الْخَاصَّةَ هِيَ مَا لَوْ عَلِمَ الْمُضِيفُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْضُرُهَا لَا يَتَّخِذُهَا ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْقُدُورِيِّ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَغَيْرِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّهُ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْقَرِيبِ وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً كَالْهَدِيَّةِ ، وَقِيلَ فِي الْفَرْقِ لَهُمَا بَيْنَ الضِّيَافَةِ وَالْهَدِيَّةِ حَيْثُ جَوَّزَا قَبُولَ هَدِيَّةِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَلَمْ يُجَوِّزَا حُضُورَ دَعْوَتِهِ أَنَّ مَا قَالُوا فِي الضِّيَافَةِ مَحْمُولٌ عَلَى قَرِيبٍ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا دَعْوَةٌ وَلَا مُهَادَاةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَإِنَّمَا أُحْدِثَ بَعْدَهُ ، وَمَا ذَكَرُوا فِي الْهَدِيَّةِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا مُهَادَاةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ صِلَةً لِلرَّحِمِ .
وَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ : إذَا كَانَتْ الدَّعْوَةُ عَامَّةً ، وَالْمُضِيفُ خَصْمٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُجِيبَ الْقَاضِي دَعْوَتَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إيذَاءِ الْخَصْمِ الْآخَرِ أَوْ إلَى التُّهْمَةِ .
قَالَ ( وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ ) لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتَّةُ حُقُوقٍ } وَعَدَّ مِنْهَا هَذَيْنِ .قَالَ ( وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ إلَخْ ) الْحَاكِمُ يَشْهَدُ الْجِنَازَةَ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتَّةُ حُقُوقٍ } رَوَى أَبُو أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتُّ خِصَالٍ وَاجِبَةٌ ، إنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا فَقَدْ تَرَكَ حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ : إذَا دَعَاهُ أَنْ يُجِيبَهُ ، وَإِذَا مَرِضَ أَنْ يَعُودَهُ ، وَإِذَا مَاتَ أَنْ يَحْضُرَهُ ، وَإِذَا لَقِيَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَهُ أَنْ يَنْصَحَهُ ، وَإِذَا عَطَسَ أَنْ يُشَمِّتَهُ } كَذَا فِي تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ
( وَلَا يُضَيِّفُ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ خَصْمِهِ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ فِيهِ تُهْمَةً .
قَالَ ( وَإِذَا حَضَرَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْجُلُوسِ وَالْإِقْبَالِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا اُبْتُلِيَ أَحَدُكُمْ بِالْقَضَاءِ فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ وَالْإِشَارَةِ وَالنَّظَرِ } ( وَلَا يُسَارَّ أَحَدَهُمَا وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ وَلَا يُلَقِّنُهُ حُجَّةً ) لِلتُّهْمَةِ وَلِأَنَّ فِيهِ مَكْسَرَةً لِقَلْبِ الْآخَرِ فَيَتْرُكُ حَقَّهُ ( وَلَا يَضْحَكُ فِي وَجْهِ أَحَدِهِمَا ) لِأَنَّهُ يَجْتَرِئُ عَلَى خَصْمِهِ ( وَلَا يُمَازِحُهُمْ وَلَا وَاحِدًا مِنْهُمْ ) لِأَنَّهُ يُذْهِبُ بِمَهَابَةِ الْقَضَاءِ .
( وَلَا يُضَيِّفُ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ ) رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُضَيِّفَ الْخَصْمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ خَصْمُهُ مَعَهُ } ( وَلِأَنَّ الضِّيَافَةَ وَالْخَلْوَةَ تُورِثُ التُّهْمَةَ ) قَالَ ( وَإِذَا حَضَرَا سَوَّى بَيْنَهُمَا إلَخْ ) إذَا حَضَرَ الْخَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَنْ وَلَّاهُ وَالْآخَرُ فَقِيرًا أَوْ كَانَا أَبَا وَابْنًا يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ فَيَجْلِسَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَجْلَسَهُمَا فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ إلَى الْقَاضِي فَتَفُوتُ التَّسْوِيَةُ ، وَلَوْ أَجْلَسَ أَحَدَهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ فَكَذَلِكَ لِفَضْلِ الْيَمِينِ ، وَإِنْ خَاصَمَ رَجُلٌ السُّلْطَانَ إلَى الْقَاضِي فَجَلَسَ السُّلْطَانُ مَعَ الْقَاضِي فِي مَجْلِسِهِ وَالْخَصْمُ عَلَى الْأَرْضِ يَقُومُ الْقَاضِي مِنْ مَكَانِهِ وَيُجْلِسُ الْخَصْمَ فِيهِ وَيَقْعُدُ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَقْضِي بَيْنَهُمَا كَيْ لَا يَكُونَ مُفَضِّلًا لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى مَنْ وَلَّاهُ ، وَكَذَلِكَ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الْإِقْبَالِ وَهُوَ التَّوَجُّهُ وَالنَّظَرُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اُبْتُلِيَ أَحَدُكُمْ بِالْقَضَاءِ فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ وَالْإِشَارَةِ وَالنَّظَرِ } قَالَ ( وَلَا يُسَارُّ أَحَدَهُمَا وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ ) لَا يُكَلِّمُ الْقَاضِي أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ سِرًّا وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ لَا بِيَدِهِ وَلَا بِرَأْسِهِ وَلَا بِحَاجِبِهِ ( وَلَا يُلَقِّنُهُ حُجَّةً وَلَا يَضْحَكُ فِي وَجْهِهِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ تُهْمَةً ) وَعَلَيْهِ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا ( وَلِأَنَّ فِيهِ مَكْسَرَةٌ لِقَلْبِ الْآخَرِ فَيُنَحِّيهِ عَنْ طَلَبِ حَقِّهِ فَيَتْرُكُهُ ) وَفِيهِ اجْتِرَاءُ مَنْ فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ عَلَى خَصْمِهِ ( وَلَا يُمَازِحُهُمْ وَلَا وَاحِدًا
مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِمَهَابَةِ الْقَضَاءِ ) وَيَنْبَغِي أَنْ يُقِيمَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلًا يَمْنَعُ النَّاسَ عَنْ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ وَيَمْنَعُهُمْ عَنْ إسَاءَةِ الْأَدَبِ ، وَيُقَالُ لَهُ صَاحِبَ الْمَجْلِسِ وَالشُّرَطِ وَالْعَرِيفَ وَالْجِلْوَازَ مِنْ الْجَلْوَزَةِ وَهِيَ الْمَنْعُ ، وَيَكُونُ مَعَهُ سَوْطٌ يَجْلِسُ الْخَصْمَيْنِ بِمِقْدَارِ ذِرَاعَيْنِ مِنْ الْقَاضِي وَيَمْنَعُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَجْلِسِ .
قَالَ ( وَيُكْرَهُ تَلْقِينُ الشَّاهِدِ ) وَمَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ أَتَشْهَدُ بِكَذَا وَكَذَا ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إعَانَةٌ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَيُكْرَهُ كَتَلْقِينِ الْخَصْمِ .
وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ لِأَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَحْصُرُ لِمَهَابَةِ الْمَجْلِسِ فَكَانَ تَلْقِينُهُ إحْيَاءً لِلْحَقِّ بِمَنْزِلَةِ الْإِشْخَاصِ وَالتَّكْفِيلِ .قَالَ ( وَيُكْرَهُ تَلْقِينُ الشَّاهِدِ إلَخْ ) تَلْقِينُ الشَّاهِدِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْقَاضِي مَا يَسْتَفِيدُ بِهِ الشَّاهِدُ عِلْمًا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّهَادَةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَتَشْهَدُ بِكَذَا وَكَذَا مَكْرُوهٌ ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَيُكْرَهُ كَتَلْقِينِ الْخَصْمِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ، ثُمَّ رَجَعَ وَاسْتَحْسَنَ التَّلْقِينَ رُخْصَةً فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَشْرُوعٌ لِإِحْيَاءِ حُقُوقِ النَّاسِ ، وَقَدْ يُحْصَرُ الشَّاهِدُ عَنْ الْبَيَانِ لِمَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَاضِي فَكَانَ فِي التَّلْقِينِ إحْيَاءٌ لِلْحُقُوقِ بِمَنْزِلَةِ الْإِشْخَاصِ وَالتَّكْفِيلِ ، وَأَمَّا فِي مَوْضِعِ التُّهْمَةِ مِثْلِ إنْ ادَّعَى الْمُدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُنْكِرُ خَمْسَمِائَةٍ وَشَهِدَا الشَّاهِدَانِ بِالْأَلْفِ فَالْقَاضِي إنْ قَالَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ وَاسْتَفَادَ الشَّاهِدُ عِلْمًا بِذَلِكَ وَوُفِّقَ فِي شَهَادَتِهِ كَمَا وُفِّقَ الْقَاضِي فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَتَأْخِيرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُشِيرُ إلَى اخْتِيَارِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْإِشْخَاصُ هُوَ إرْسَالُ الرَّاجِلِ لِإِحْضَارِ الْخَصْمِ
.
( فَصْلٌ فِي الْحَبْسِ ) قَالَ ( وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ عِنْدَ الْقَاضِي وَطَلَبَ صَاحِبُ الْحَقِّ حَبْسَ غَرِيمِهِ لَمْ يُعَجِّلْ بِحَبْسِهِ وَأَمَرَهُ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ ) لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الْمُمَاطَلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهَا ، وَهَذَا إذَا ثَبَتَ الْحَقُّ بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ كَوْنَهُ مُمَاطِلًا فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ فَلَعَلَّهُ طَمِعَ فِي الْإِمْهَالِ فَلَمْ يَسْتَصْحِبْ الْمَالُ ، فَإِذَا امْتَنَعَ بَعْدَ ذَلِكَ حَبَسَهُ لِظُهُورِ مَطْلِهِ ، أَمَّا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ حَبَسَهُ كَمَا ثَبَتَ لِظُهُورِ الْمَطْلِ بِإِنْكَارِهِ .
.
قَالَ ( فَإِنْ امْتَنَعَ حَبَسَهُ فِي كُلِّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ حَصَلَ فِي يَدِهِ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ أَوْ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ ) لِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ الْمَالُ فِي يَدِهِ ثَبَتَ غِنَاهُ بِهِ ، وَإِقْدَامُهُ عَلَى الْتِزَامِهِ بِاخْتِيَارِهِ دَلِيلُ يَسَارِهِ إذْ هُوَ لَا يَلْتَزِمُ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ ، وَالْمُرَادُ بِالْمَهْرِ مُعَجَّلُهُ دُونَ مُؤَجَّلِهِ .
قَالَ ( وَلَا يَحْبِسُهُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ إذَا قَالَ إنِّي فَقِيرٌ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ غَرِيمُهُ أَنَّ لَهُ مَالًا فَيَحْبِسَهُ ) لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ دَلَالَةُ الْيَسَارِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ ، وَعَلَى الْمُدَّعِي إثْبَاتُ غِنَاهُ ، وَيُرْوَى أَنَّ الْقَوْلَ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْعُسْرَةُ .
وَيُرْوَى أَنَّ الْقَوْلَ لَهُ إلَّا فِيمَا بَدَلُهُ مَالٌ .
وَفِي النَّفَقَةِ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ إنَّهُ مُعْسِرٌ ، وَفِي إعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ الْقَوْلُ لِلْمُعْتِقِ ، وَالْمَسْأَلَتَانِ تُؤَدِّيَانِ الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ ، وَالتَّخْرِيجُ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ مُطْلَقٍ بَلْ هُوَ صِلَةٌ حَتَّى تَسْقُطَ النَّفَقَةُ بِالْمَوْتِ عَلَى الِاتِّفَاقِ ، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ضَمَانُ الْإِعْتَاقِ ، ثُمَّ فِيمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعِي إنَّ لَهُ مَالًا ، أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ فِيمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ
مَنْ عَلَيْهِ يَحْبِسُهُ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْهُ فَالْحَبْسُ لِظُهُورِ ظُلْمِهِ فِي الْحَالِ ، وَإِنَّمَا يَحْبِسُهُ مُدَّةً لِيَظْهَرَ مَالُهُ لَوْ كَانَ يُخْفِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَمْتَدَّ الْمُدَّةُ لِيُفِيدَ هَذِهِ الْفَائِدَةَ فَقَدَّرَهُ بِمَا ذَكَرَهُ ، وَيُرْوَى غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّقْدِيرِ بِشَهْرٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ التَّقْدِيرَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَشْخَاصِ فِيهِ .
قَالَ ( فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ خُلِّيَ سَبِيلُهُ ) يَعْنِي بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ النَّظِرَةَ إلَى الْمَيْسَرَةِ فَيَكُونُ حَبْسُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ظُلْمًا ؛ .
وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إفْلَاسِهِ قَبْلَ الْمُدَّةِ تُقْبَلُ فِي رِوَايَةٍ ، وَلَا تُقْبَلُ فِي رِوَايَةٍ ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
قَالَ فِي الْكِتَابِ خُلِّيَ سَبِيلُهُ وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ ، وَهَذَا كَلَامٌ فِي الْمُلَازَمَةِ وَسَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَصْلٌ فِي الْحَبْسِ ) لَمَّا كَانَ الْحَبْسُ مِنْ أَحْكَامِ الْقَضَاءِ وَتَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ أَفْرَدَهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ } فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَبْسُ ، وَبِالسُّنَّةِ وَهُوَ مَا رُوِيَ " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ } " خَلَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ سِجْنٌ ، وَكَانَ يُحْبَسُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ الدِّهْلِيزِ حَيْثُ أَمْكَنَ ، وَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَحْدَثَ السِّجْنَ بَنَاهُ مِنْ قَصَبٍ وَسَمَّاهُ نَافِعًا فَنَقَبَهُ اللُّصُوصُ فَبَنَى سِجْنًا مِنْ مَدَرٍ فَسَمَّاهُ مَخِيسًا ؛ وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ نُصِّبَ لِإِيصَالِ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا فَإِنْ امْتَنَعَ الْمَطْلُوبُ مِنْ أَدَاءِ حَقِّ الطَّالِبِ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي بُدٌّ مِنْ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى الْأَدَاءِ ، وَلَا خِلَافَ أَنْ لَا جَبْرَ بِالضَّرْبِ فَيَكُونُ بِالْحَبْسِ أَوْلَى .
قَالَ ( وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ عِنْدَ الْقَاضِي وَطَلَبَ صَاحِبُ الْحَقِّ حَبْسَ غَرِيمِهِ إلَخْ ) إذَا ثَبَتَ الْحَقُّ عِنْدَ الْقَاضِي وَطَلَبَ صَاحِبُ الْحَقِّ حَبْسَ غَرِيمِهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَثْبُتَ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يُعَجِّلْ بِالْحَبْسِ وَأَمَرَهُ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الْمُمَاطَلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهَا ، وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ بِإِقْرَارِهِ لَمْ يَظْهَرْ كَوْنُهُ مُمَاطِلًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ؛ لِأَنَّ مِنْ حُجَّتِهِ أَنْ يَقُولَ ظَنَنْت أَنَّك تُمْهِلُنِي فَلَمْ أَسْتَصْحِبْ الْمَالَ فَإِنْ أَبَيْت أُوَفِّيك حَقَّك ، فَإِنْ امْتَنَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ ظَهَرَ مَطْلُهُ فَيُحْبَسُ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي حَبَسَهُ كَمَا سَبَقَ لِظُهُورِ الْمُمَاطَلَةِ بِإِنْكَارِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَكْسُ ذَلِكَ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الدَّيْنَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْتَذِرَ