كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي
رَدِّ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ فَلَا يَتِمُّ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هَذَا الْوَضْعُ إنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ الْبَعْضِ الْآخَرِ مِنْ الْمَشَايِخِ .
( وَإِنْ كَانَ مِنْ الْقُطَّاعِ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْبَاقِينَ ) فَالْمَذْكُورُ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَوْ بَاشَرَ الْعُقَلَاءُ يُحَدُّ الْبَاقُونَ وَعَلَى هَذَا السَّرِقَةُ الصُّغْرَى .
لَهُ أَنَّ الْمُبَاشِرَ أَصْلٌ ، وَالرَّدُّ تَابِعٌ وَلَا خَلَلَ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَاقِلِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالْخَلَلِ فِي التَّبَعِ ، وَفِي عَكْسِهِ يَنْعَكِسُ الْمَعْنَى وَالْحُكْمُ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ قَامَتْ بِالْكُلِّ ، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ فِعْلُ بَعْضِهِمْ مُوجِبًا كَانَ فِعْلُ الْبَاقِينَ بَعْضَ الْعِلَّةِ وَبِهِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فَصَارَ كَالْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ .
وَأَمَّا ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَقَدْ قِيلَ تَأْوِيلُهُ إذَا كَانَ الْمَالُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مُطْلَقٌ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَالِامْتِنَاعُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِيهِمْ مُسْتَأْمَنٌ ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّهِ لِخَلَلٍ فِي الْعِصْمَةِ وَهُوَ يَخُصُّهُ ، أَمَّا هُنَا الِامْتِنَاعُ لِخَلَلٍ فِي الْحِرْزِ ، وَالْقَافِلَةُ حِرْزٌ وَاحِدٌ ( وَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ صَارَ الْقَتْلُ إلَى الْأَوْلِيَاءِ ) لِظُهُورِ حَقِّ الْعَبْدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ( فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا )
وَقَوْلُهُ ( وَفِي عَكْسِهِ يَنْعَكِسُ الْمَعْنَى وَالْحُكْمُ ) يَعْنِي إذَا بَاشَرَ غَيْرُ الْعُقَلَاءِ صَارَ الْخَلَلُ فِي الْأَصْلِ ، وَلَهُ الِاعْتِبَارُ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْكُلِّ .
وَقَوْلُهُ ( فَصَارَ كَالْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ ) يَعْنِي إذَا رَمَى بِسَهْمٍ إلَى إنْسَانٍ عَمْدًا وَرَمَاهُ آخَرُ خَطَأً وَأَصَابَهُ السَّهْمَانِ مَعًا وَمَاتَ مِنْهُمَا فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْعَامِدِ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ فَيَكُونُ فِعْلُ الْخَاطِئِ شُبْهَةً فِي حَقِّ الْعَامِدِ .
وَقَوْلُهُ ( فَقَدْ قِيلَ تَأْوِيلُهُ ) ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ إلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمَالُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ ، وَفِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ أَحَدِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْبَاقِينَ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ شَيْءٌ وَاحِدٌ ؛ فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْ أَحَدِهِمْ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ امْتَنَعَ عَنْ الْبَاقِينَ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَالٌ مُفْرَدٌ فَالْحَدُّ يَجْرِي عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِغَيْرِهِ ، كَمَا لَوْ سَرَقُوا مِنْ حِرْزِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْ أَحَدِهِمْ مَالًا وَمِنْ حِرْزِ أَجْنَبِيٍّ مَالًا آخَرَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَرَقُوا مِنْ حِرْزِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مَالَهُ وَمَالَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ هُنَاكَ فِي الْحِرْزِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْحِرْزِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ فَكُلُّ وَاحِدٍ حَافِظٌ لِمَالِهِ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مُطْلَقٌ ) أَيْ لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ بِكَوْنِ الْمَالِ مُشْتَرَكًا ( لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ) لِأَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ ( فَالِامْتِنَاعُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ ) بِخِلَافِ السَّرِقَةِ مِنْ حِرْزٍ ثُمَّ مِنْ حِرْزٍ آخَرَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِيهِمْ مُسْتَأْمَنٌ ) جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ قَطْعُ الطَّرِيقِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَالْقَطْعِ عَلَى ذِي
الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ، ثُمَّ وُجُودُ هَذَا فِي الْقَافِلَةِ يُسْقِطُ الْحَدَّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ وُجُودُ الْمُسْتَأْمَنِ فِيهِمْ أَيْضًا .
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ ( أَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْمَنِ لِخَلَلٍ فِي الْعِصْمَةِ وَهُوَ ) أَيْ الْخَلَلُ ( يَخُصُّ الْمُسْتَأْمَنَ ) فَلَا يَصِيرُ شُبْهَةً لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي غَيْرِ الْحِرْزِ لَا تُؤَثِّرُ فِي الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ كَمَا إذَا سَرَقَ الْخَمْرَ وَعَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، وَأَمَّا وُجُودُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي الْحِرْزِ ؛ لِأَنَّ الْقَافِلَةَ بِمَنْزِلَةِ بَيْتٍ وَاحِدٍ فَكَانَ هَذَا كَقَرِيبٍ سَرَقَ مَالَ الْقَرِيبِ وَمَالَ الْأَجْنَبِيِّ مِنْ بَيْتِ الْقَرِيبِ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِشُبْهَةٍ تَمَكَّنَتْ فِي الْحِرْزِ .
( وَإِذَا قَطَعَ بَعْضُ الْقَافِلَةِ الطَّرِيقَ عَلَى الْبَعْضِ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ ) لِأَنَّ الْحِرْزَ وَاحِدٌ فَصَارَتْ الْقَافِلَةُ كَدَارٍ وَاحِدَةٍ
( وَمَنْ قَطَعَ الطَّرِيقَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فِي الْمِصْرِ أَوْ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ فَلَيْسَ بِقَاطِعِ الطَّرِيقِ ) اسْتِحْسَانًا .
وَفِي الْقِيَاسِ يَكُونُ قَاطِعَ الطَّرِيقِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِوُجُودِهِ حَقِيقَةً .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ إذَا كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ إنْ كَانَ بِقُرْبِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ .
وَعَنْهُ إنْ قَاتَلُوا نَهَارًا بِالسِّلَاحِ أَوْ لَيْلًا بِهِ أَوْ بِالْخَشَبِ فَهُمْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ لِأَنَّ السِّلَاحَ لَا يَلْبَثُ وَالْغَوْثُ يُبْطِئُ بِاللَّيَالِيِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ بِقَطْعِ الْمَارَّةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ وَيَقْرُبُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لُحُوقُ الْغَوْثِ ، إلَّا أَنَّهُمْ يُؤْخَذُونَ بِرَدِّ الْمَالِ أَيْضًا لَا لِلْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ ، وَيُؤَدَّبُونَ وَيُحْبَسُونَ لِارْتِكَابِهِمْ الْجِنَايَةَ ، وَلَوْ قَتَلُوا فَالْأَمْرُ فِيهِ إلَى الْأَوْلِيَاءِ لِمَا بَيَّنَّاوَقَوْلُهُ ( وَمَنْ قَطَعَ الطَّرِيقَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ وَبِقُرْبٍ مِنْهُ ) قَدْرُ الْبُعْدِ بَيْنَ الْمِصْرَيْنِ وَبَيْنَ الْقُطَّاعِ مَسِيرَةُ سَفَرٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِظُهُورِ حَقِّ الْعَبْدِ .
( وَمَنْ خَنَقَ رَجُلًا حَتَّى قَتَلَهُ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ ، وَسَنُبَيِّنُ فِي بَابِ الدِّيَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَإِنْ خَنَقَ فِي الْمِصْرِ غَيْرَ مَرَّةٍ قُتِلَ بِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَيُدْفَعُ شَرُّهُ بِالْقَتْلِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ خَنَقَ رَجُلًا ) بِالتَّخْفِيفِ مِنْ خَنَقَهُ إذَا عَصَرَ حَلْقَهُ ، وَالْخِنَاقُ فَاعِلُهُ وَمَصْدَرُهُ الْخَنِقُ بِكَسْرِ النُّونِ وَلَا يُقَالُ بِالسُّكُونِ ، كَذَا عَنْ الْفَارَابِيِّ
( كِتَابُ السِّيَرِ ) السِّيَرُ جَمْعُ سِيرَةٍ ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ فِي الْأُمُورِ ، وَفِي الشَّرْعِ تَخْتَصُّ بِسِيَرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَغَازِيهِ .كِتَابُ السِّيَرِ : قَدَّمَ الْحُدُودَ عَلَى السِّيَرِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَسَنٌ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ يَتَأَدَّى بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ إلَّا أَنَّ الْحُدُودَ مُعَامَلَةٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ غَالِبًا أَوْ عَلَى الْخُصُوصِ فِي حَدِّ الشُّرْبِ .
وَفِي السِّيَرِ الْمُعَامَلَةُ مَعَ الْكُفَّارِ وَتَقْدِيمُ مَا بِالْمُسْلِمِينَ أَوْلَى ( وَالسِّيَرُ جَمْعُ سِيرَةٍ ) وَهِيَ فِعْلَةٌ مِنْ السِّيَرِ ( وَهِيَ الطَّرِيقَةُ فِي الْأُمُورِ .
وَفِي الشَّرْعِ تَخْتَصُّ بِسِيَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَغَازِيهِ ) قَالَ فِي الْمُغْرِبِ : أَصْلُ السِّيرَةِ حَالَةُ السَّيْرِ ، إلَّا أَنَّهَا غَلَبَتْ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ عَلَى أُمُورِ الْمَغَازِي وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا كَالْمَنَاسِكِ عَلَى أُمُورِ الْحَجِّ ، وَالْمَغَازِي جَمْعُ الْمَغْزَاةِ مِنْ غَزَوْت الْعَدُوَّ قَصَدْته لِلْقِتَالِ ، وَهِيَ الْغَزْوَةُ وَالْغُزَاةُ وَالْمَغْزَاةُ .
قَالَ ( الْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ فَرِيقٌ مِنْ النَّاسِ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ ) أَمَّا الْفَرْضِيَّةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْجِهَادُ مَاضٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَأَرَادَ بِهِ فَرْضًا بَاقِيًا ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَا فُرِضَ لِعَيْنِهِ إذْ هُوَ إفْسَادٌ فِي نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا فُرِضَ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْ الْعِبَادِ ، فَإِذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْبَعْضِ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَرَدِّ السَّلَامِ ( فَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ أَثِمَ جَمِيعُ النَّاسِ بِتَرْكِهِ ) لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْكُلِّ ، وَلِأَنَّ فِي اشْتِغَالِ الْكُلِّ بِهِ قَطْعَ مَادَّةِ الْجِهَادِ مِنْ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَيَجِبُ عَلَى الْكِفَايَةِ ( إلَّا أَنْ يَكُونَ النَّفِيرُ عَامًّا ) فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } الْآيَةَ .
وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : الْجِهَادُ وَاجِبٌ إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي سَعَةٍ حَتَّى يُحْتَاجَ إلَيْهِمْ ، فَأَوَّلُ هَذَا الْكَلَامِ إشَارَةٌ إلَى الْوُجُوبِ عَلَى الْكِفَايَةِ وَآخِرُهُ إلَى النَّفِيرِ الْعَامِّ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَتَحَصَّلُ إلَّا بِإِقَامَةِ الْكُلِّ فَيُفْتَرَضُ عَلَى الْكُلِّ ( وَقِتَالُ الْكُفَّارِ وَاجِبٌ ) وَإِنْ لَمْ يَبْدَءُوا لِلْعُمُومَاتِ
قَالَ ( الْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ) قِيلَ : الْجِهَادُ هُوَ الدُّعَاءُ إلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَالْقِتَالُ مَعَ مَنْ امْتَنَعَ عَنْ الْقَبُولِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ .
وَسَبَبُهُ كَوْنُ الْكُفَّارِ حَرْبًا عَلَيْنَا ، وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ ( إذَا قَامَ بِهِ فَرِيقٌ مِنْ النَّاسِ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ .
أَمَّا الْفَرْضِيَّةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } ) وَهُوَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ فَيُفِيدُ الْفَرْضِيَّةَ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْجِهَادُ مَاضٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } أَيْ نَافِذٌ ، مِنْ مَضَى فِي الْأَرْضِ مُضِيًّا إذَا نَفَذَ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَصِحُّ التَّمَسُّكُ عَلَى دَعْوَى الْفَرْضِيَّةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا تَأَيَّدَ بِالْحُجَّةِ الْقَطْعِيَّةِ صَحَّ إضَافَةُ الْفَرْضِيَّةِ إلَيْهِ ، وَهَاهُنَا تَأَيَّدَ هَذَا الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاقْتُلُوا } وَبِالْإِجْمَاعِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا تَأَيَّدَ بِالْقَطْعِيِّ أَفَادَ الْفَرْضِيَّةَ ، فَإِنَّ الْفَرْضِيَّةَ حِينَئِذٍ تَكُونُ ثَابِتَةً بِذَلِكَ الْقَطْعِيِّ لَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : الْخَبَرُ لَمْ يَذْكُرْهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ بَلْ لِبَيَانِ دَوَامِهِ وَبَقَائِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ فَإِنَّ الدَّلَائِلَ الْقَطْعِيَّةَ فِي الْبَابِ لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ جَازَ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِمَا احْتَمَلَهُ النَّصُّ ( وَأَمَّا كَوْنُهُ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ فَلِأَنَّهُ مَا فُرِضَ لِعَيْنِهِ لِكَوْنِهِ إفْسَادًا فِي نَفْسِهِ ) بِتَخْرِيبِ الْبِلَادِ وَإِفْنَاءِ الْعِبَادِ ، لَكِنْ ( لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْ الْعِبَادِ فَإِذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْبَعْضِ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَرَدِّ السَّلَامِ ) وَالْمُرَادُ بِكُرَاعِ الْخَيْلِ .
وقَوْله تَعَالَى { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } أَيْ رُكْبَانًا وَمُشَاةً أَوْ شُبَّانًا وَشُيُوخًا أَوْ مَهَازِيلَ وَسِمَانًا أَوْ صِحَاحًا وَمِرَاضًا .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } عَامٌّ فَمَا وَجْهُ تَقْيِيدِهِ بِالنَّفِيرِ الْعَامِّ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ رَفْعُ الْحَرَجِ ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ مَعَ تَخَلُّفِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ اخْتِصَاصُهُ بِالنَّفِيرِ الْعَامِّ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ } إلَى قَوْله تَعَالَى { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ الْقَاعِدِينَ عَنْ الْجِهَادِ الْحُسْنَى ، وَلَوْ كَانَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ لَاسْتَحَقَّ الْقَاعِدُ الْوَعِيدَ لَا الْوَعْدَ .
ثُمَّ الْجِهَادُ يَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ عِنْدَ النَّفِيرِ الْعَامِّ عَلَى مَنْ يَقْرَبُ مِنْ الْعَدُوِّ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا مَنْ وَرَاءَهُمْ فَلَا يَكُونُ فَرْضًا عَلَيْهِمْ إلَّا إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِمْ ، إمَّا لِعَجْزِ الْقَرِيبِ عَنْ الْمُقَاوَمَةِ مَعَ الْعَدُوِّ ، وَإِمَّا لِلتَّكَاسُلِ فَحِينَئِذٍ يُفْرَضُ عَلَى مَنْ يَلِيهِمْ ثُمَّ وَثُمَّ إلَى أَنْ يُفْتَرَضَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ شَرْقًا وَغَرْبًا عَلَى هَذَا التَّدْرِيجِ .
وَقَوْلُهُ ( فَأَوَّلُ هَذَا الْكَلَامِ إشَارَةٌ إلَى الْوُجُوبِ عَلَى الْكِفَايَةِ ) أَرَادَ بِالْأَوَّلِ قَوْلَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْجِهَادُ وَاجِبٌ ، إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي سِعَةٍ ، إذْ الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثَّنِيَّا فَكَانَ فِي مَجْمُوعِ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ ( وَآخِرُهُ ) وَهُوَ قَوْلُهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَيْهِمْ إلَى النَّفِيرِ الْعَامِّ .
قَالَ ( وَقِتَالُ الْكُفَّارِ ) الَّذِينَ امْتَنَعُوا عَنْ الْإِسْلَامِ وَأَدَاءِ الْجِزْيَةِ ( وَاجِبٌ وَإِنْ لَمْ يَبْدَءُوا بِالْقِتَالِ لِلْعُمُومَاتِ ) الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ } وَغَيْرُهَا .
فَإِنْ قِيلَ الْعُمُومَاتُ مُعَارَضَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ قِتَالَ الْكُفَّارِ إنَّمَا يَجِبُ إذَا بَدَءُوا بِالْقِتَالِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ ، وَبَيَانُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ مَأْمُورًا بِالصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ { فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } { وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ } ثُمَّ أُمِرَ بِالدُّعَاءِ إلَى الدِّينِ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْمُجَادَلَةِ بِالْأَحْسَنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّك بِالْحِكْمَةِ } الْآيَةَ ثُمَّ أَذِنَ بِالْقِتَالِ إذَا كَانَتْ الْبُدَاءَةُ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ } الْآيَةَ ، وَبِقَوْلِهِ { فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } ثُمَّ أُمِرَ بِالْقِتَالِ ابْتِدَاءً فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } الْآيَةَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْبُدَاءَةِ بِالْقِتَالِ مُطْلَقًا فِي الْأَزْمَانِ كُلِّهَا وَفِي الْأَمَاكِنِ بِأَسْرِهَا فَقَالَ تَعَالَى { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } الْآيَةَ { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } الْآيَةَ .
( وَلَا يَجِبُ الْجِهَادُ عَلَى صَبِيٍّ ) ؛ لِأَنَّ الصِّبَا مَظِنَّةُ الْمَرْحَمَةِ ( وَلَا عَبْدٍ وَلَا امْرَأَةٍ ) التَّقَدُّمُ حَقُّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ ( وَلَا أَعْمَى وَلَا مُقْعَدٍ وَلَا أَقْطَعَ لِعَجْزِهِمْ ، فَإِنْ هَجَمَ الْعَدُوُّ عَلَى بَلَدٍ وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ الدَّفْعُ تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا وَالْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى ) لِأَنَّهُ صَارَ فَرْضَ عَيْنٍ ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ وَرِقُ النِّكَاحِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ النَّفِيرِ ؛ لِأَنَّ بِغَيْرِهِمَا مَقْنَعًا فَلَا ضَرُورَةَ إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِوَقَوْلُهُ ( وَلَا يَجِبُ الْجِهَادُ عَلَى صَبِيٍّ ) ظَاهِرٌ .
( وَيُكْرَهُ الْجُعَلُ مَا دَامَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيْءٌ ) لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْأَجْرَ ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ .
قَالَ ( فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَوِّيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ) لِأَنَّ فِيهِ دَفْعَ الضَّرَرِ الْأَعْلَى بِإِلْحَاقِ الْأَدْنَى ، يُؤَيِّدُهُ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَذَ دُرُوعًا مِنْ صَفْوَانَ } وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُغْزِي الْأَعْزَبَ عَنْ ذِي الْحَلِيلَةِ ، وَيُعْطِي الشَّاخِصَ فَرَسَ الْقَاعِدِ .وَقَوْلُهُ ( وَيُكْرَهُ الْجُعْلُ مَا دَامَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيْءٌ ) أَرَادَ بِالْجُعْلِ مَا يَضْرِبُهُ الْإِمَامُ لِلْغُزَاةِ عَلَى النَّاسِ بِمَا يَتَقَوَّى بِهِ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ إلَى الْجِهَادِ ( لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْأُجْرَةَ ) وَحَقِيقَةُ الْأُجْرَةِ حَرَامٌ فَمَا يُشْبِهُ الْأُجْرَةَ يَكُونُ مَكْرُوهًا .
وَقَوْلُهُ ( يُغْزِي الْأَعْزَبُ ) يُقَالُ أَغْزَى الْأَمِيرُ الْجَيْشَ إذَا بَعَثَهُ إلَى الْعَدُوِّ ، وَيُقَالُ رَجُلٌ عَزَبٌ بِالتَّحْرِيكِ لِمَنْ لَا زَوْجَ لَهُ ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ { وَهُوَ شَابٌّ أَعْزَبُ } وَالشُّخُوصُ الذَّهَابُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( بَابُ كَيْفِيَّةِ الْقِتَالِ ) : ( وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ دَارَ الْحَرْبِ فَحَاصَرُوا مَدِينَةً أَوْ حِصْنًا دَعَوْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ ) لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا قَاتَلَ قَوْمًا حَتَّى دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ } قَالَ ( فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْ قِتَالِهِمْ ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } الْحَدِيثَ .
( وَإِنْ امْتَنَعُوا دَعَوْهُمْ إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ ) بِهِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُمَرَاءَ الْجُيُوشِ ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ مَا يَنْتَهِي بِهِ الْقِتَالُ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ ، وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ ، وَمَنْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ كَالْمُرْتَدِّينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ لَا فَائِدَةَ فِي دُعَائِهِمْ إلَى قَبُولِ الْجِزْيَةِ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } ( فَإِنْ بَذَلُوهَا فَلَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ) لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِيَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا ، وَالْمُرَادُ بِالْبَذْلِ الْقَبُولُ وَكَذَا الْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ الْمَذْكُورِ فِيهِ فِي الْقُرْآنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بَابُ كَيْفِيَّةِ الْقِتَالِ : لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ الْقِتَالَ بَدَأَ بِبَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ وَالْمَدِينَةُ مَعْرُوفَةٌ وَالْحِصْنُ بِكَسْرِ الْحَاءِ كُلُّ مَكَان مَحْمِيٍّ مُحْرَزٍ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى مَا فِي جَوْفِهِ فَالْمَدِينَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْحِصْنِ ( قَوْلُهُ دَعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ ) قِيلَ : لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُقَاتِلُوا قَوْمًا بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ أَوْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَا يَحِلُّ الْقِتَالُ حَتَّى يُدْعَوْا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْأَفْضَلُ ذَلِكَ ، { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَاتَلَ قَوْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالصَّلَاةِ ، وَإِذَا فَرَغَ جَدَّدَ الدَّعْوَةَ ثُمَّ شَرَعَ فِي الْقِتَالِ } .
وَقَوْلُهُ ( كَفُّوا عَنْ قِتَالِهِمْ ) أَيْ امْتَنَعُوا عَنْ قِتَالِهِمْ أَوْ مَنَعُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْهُ فَكَفَّ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ ) يُرِيدُ قَوْله تَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ } ( قَوْلُهُ وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ ) ظَاهِرٌ
( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ إلَى الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ يَدْعُوهُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي وَصِيَّةِ أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ { فَادْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } وَلِأَنَّهُمْ بِالدَّعْوَةِ يَعْلَمُونَ أَنَّا نُقَاتِلُهُمْ عَلَى الدِّينِ لَا عَلَى سَلْبِ الْأَمْوَالِ وَسَبْيِ الذَّرَارِيِّ فَلَعَلَّهُمْ يُجِيبُونَ فَنُكْفَى مُؤْنَةُ الْقِتَالِ ، وَلَوْ قَاتَلَهُمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ أَثِمَ لِلنَّهْيِ ، وَلَا غَرَامَةَ لِعَدَمِ الْعَاصِمِ وَهُوَ الدِّينُ أَوْ الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ فَصَارَ كَقَتْلِ النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ ( وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ ) مُبَالَغَةً فِي الْإِنْذَارِ ، وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ } .
{ وَعَهِدَ إلَى أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُغِيرَ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا ثُمَّ يُحَرِّقَ } وَالْغَارَةُ لَا تَكُونُ بِدَعْوَةٍ .
قَالَ ( فَإِنْ أَبَوْا ذَلِكَ اسْتَعَانُوا بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ وَحَارَبُوهُمْ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ { فَإِنَّ أَبَوْا ذَلِكَ فَادْعُهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ ، إلَى أَنْ قَالَ : فَإِنْ أَبَوْهَا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ وَقَاتِلْهُمْ } وَلِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ النَّاصِرُ لِأَوْلِيَائِهِ وَالْمُدَمِّرُ عَلَى أَعْدَائِهِ فَيُسْتَعَانُ بِهِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ .
قَالَ ( وَنَصَبُوا عَلَيْهِمْ الْمَجَانِيقَ ) كَمَا نَصَبَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الطَّائِفِ ( وَحَرَّقُوهُمْ ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَحْرَقَ الْبُوَيْرَةَ .
قَالَ ( وَأَرْسَلُوا عَلَيْهِمْ الْمَاءَ وَقَطَّعُوا أَشْجَارَهُمْ وَأَفْسَدُوا زُرُوعَهُمْ ) لِأَنَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلْحَاقَ الْكَبْتِ وَالْغَيْظِ بِهِمْ وَكَسْرَةَ شَوْكَتِهِمْ وَتَفْرِيقَ جَمْعِهِمْ فَيَكُونُ مَشْرُوعًا ، ( وَلَا بَأْسَ بِرَمْيِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُسْلِمٌ أَسِيرٌ أَوْ تَاجِرٌ ) لِأَنَّ فِي الرَّمْيِ دَفْعَ
الضَّرَرِ الْعَامِّ بِالذَّبِّ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ ، وَقَتْلُ الْأَسِيرِ وَالتَّاجِرِ ضَرَرٌ خَاصٌّ ، وَلِأَنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو حِصْنٌ عَنْ مُسْلِمٍ ، فَلَوْ امْتَنَعَ بِاعْتِبَارِهِ لَانْسَدَّ بَابُهُ ( وَإِنَّ تَتَرَّسُوا بِصِبْيَانِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بِالْأُسَارَى لَمْ يَكُفُّوا عَنْ رَمْيِهِمْ ) لِمَا بَيَّنَّاهُ ( وَيَقْصِدُونَ بِالرَّمْيِ الْكُفَّارَ ) لِأَنَّهُ إنْ تَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ فِعْلًا فَلَقَدْ أُمْكِنَ قَصْدًا ، وَالطَّاعَةُ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ ، وَمَا أَصَابُوهُ مِنْهُمْ لَا دِيَةَ عَلَيْهِمْ وَلَا كَفَّارَةَ لِأَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ وَالْغَرَامَاتُ لَا تُقْرَنُ بِالْفُرُوضِ .
بِخِلَافِ حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ لِأَنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ مَخَافَةَ الضَّمَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ نَفْسِهِ .
أَمَّا الْجِهَادُ فَمَبْنِيٌّ عَلَى إتْلَافِ النَّفْسِ فَيُمْتَنَعُ حِذَارَ الضَّمَانِ
( قَوْلُهُ فَنُكْفَى ) بِالنُّونِ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ مُؤْنَةَ الْقِتَالِ بِنَصْبِ مُؤْنَةِ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي ( قَوْلُهُ لِلنَّهْيِ ) إشَارَةٌ إلَى مَا رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَلِيًّا فِي سَرِيَّةٍ ، وَقَالَ : لَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى تَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ } .
وَقَوْلُهُ ( لِعَدَمِ الْعَاصِمِ ) أَيْ الْمُوجِبِ لِلْغَرَامَةِ ( وَهُوَ الدِّينُ ) عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ( أَوْ الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ ) عَلَى مَذْهَبِنَا .
وَقَوْلُهُ ( مُبَالَغَةً فِي الْإِنْذَارِ ) { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَاتَلَ قَوْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ دَعَا ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ الْفَرَاغِ جَدَّدَ الدَّعْوَةَ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ } .
وَقَوْلُهُ ( أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ ) أَيْ أَخْرَجَهُمْ مِنْ خِبَائِهِمْ بِهُجُومِهِ عَلَيْهِمْ ( وَهْم غَارُّونَ ) أَيْ غَافِلُونَ .
وَأُبْنَى عَلَى وَزْنِ حُبْلَى مَوْضِعٌ بِالشَّامِ ، وَقِيلَ اسْمُ قَبِيلَةٍ ( وَالْغَارَةُ لَا تَكُونُ بِدَعْوَةٍ ) لِأَنَّ فِيهَا سَتْرَ الْأَمْرِ وَالْإِسْرَاعَ ، لِأَنَّهَا اسْمُ مَصْدَرٍ لِلْإِغَارَةِ الَّتِي هِيَ مَصْدَرُ أَغَارَ الثَّعْلَبُ أَوْ الْفَرَسُ إغَارَةً وَغَارَةً : إذَا أَسْرَعَ فِي الْعَدْوِ .
وَقَوْلُهُ ( الْبُوَيْرَةُ ) عَلَى وَزْنِ الدُّوَيْرَةِ مُصَغَّرُ الدَّارِ وَالْكَبْتُ هُوَ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ أَسِيرٌ مُسْلِمُ أَوْ تَاجِرٌ ) رُدَّ لِمَا قَالَهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ فِيهِمْ مُسْلِمًا وَأَنَّهُ يَتْلَفُ بِهَذَا الصُّنْعِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ وَتَرْكُ قَتْلِ الْكَافِرِ جَائِزٌ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ لَا يَقْتُلَ الْأَسَارَى لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ مُرَاعَاةُ جَانِبِ الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ( وَقُلْنَا فِي رَمْيِهِمْ دَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِالذَّبِّ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ ) أَيْ مُجْتَمَعِهِ لِلشَّبَهِ الْمَعْنَوِيِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَيْضَةِ النَّعَامَةِ وَغَيْرِهَا ، لِأَنَّ الْبَيْضَةَ
مُجْتَمَعُ الْوَلَدِ ( وَقَتْلُ الْأَسِيرِ وَالتَّاجِرِ ضَرَرٌ خَاصٌّ ) وَإِذَا اجْتَمَعَا يُقَدَّمُ دَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ ( وَلِأَنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو حِصْنٌ مِنْ حُصُونِهِمْ عَنْ مُسْلِمٍ ) أَسِيرٍ أَوْ تَاجِرٍ ( فَلَوْ امْتَنَعَ ) عَنْ الرَّمْيِ ( بِاعْتِبَارِهِ لَانْسَدَّ بَابُهُ ) أَيْ بَابُ الْجِهَادِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ فِي الرَّمْيِ دَفْعَ الضَّرَرِ الْعَامِّ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا أَصَابُوهُ مِنْهُمْ لَا دِيَةَ عَلَيْهِمْ وَلَا كَفَّارَةَ ) يَعْنِي عِنْدَنَا .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ ؛ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّ هَذَا هُوَ عَيْنُ صُورَةِ قَتْلِ الْخَطَإِ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِالرَّمْيِ الْكَافِرَ فَيُصِيبُ الْمُسْلِمَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ حَالِ مَنْ يُصِيبُهُ عِنْدَ الرَّمْيِ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ خَطَأً بَلْ كَانَ مُبَاحًا مَحْضًا ، وَلَا دِيَةَ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ .
وَلَنَا أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ وَكُلُّ مَا هُوَ فَرْضٌ ( فَالْغَرَامَاتُ لَا تُقْرَنُ بِهِ ) لِأَنَّ الْفَرْضَ مَأْمُورٌ بِهِ لَا مَحَالَةَ ، وَسَبَبُ الْغَرَامَاتِ عُدْوَانٌ مَحْضٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا تَعْلِيلٌ فِي مُعَارَضَةِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ دَمٌ مُفْرَجٌ } أَيْ مُهْدَرٌ ، وَالتَّعْلِيلُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ بَاطِلٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ عَامٌّ خَصَّ مِنْهُ الْبُغَاةَ وَقُطَّاعَ الطَّرِيقِ فَتُخَصُّ صُورَةُ النِّزَاعِ بِمَا قُلْنَاهُ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْقِرَانَ شَرْطٌ وَهُوَ مَمْنُوعٌ .
وَأَقُولُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ } مَعْنَاهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ ) جَوَابٌ عَمَّا قَاسَ عَلَيْهِ الْحَسَنُ ، وَقَالَ : إطْلَاقُ الرَّمْيِ لِضَرُورَةِ إقَامَةِ الْجِهَادِ لَا يَنْفِي الضَّمَانَ كَتَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ يُطْلَقُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَيَجِبُ الضَّمَانُ .
وَتَقْرِيرُ
الْجَوَابِ أَنَّ الْجَائِعَ يُقَدَّمُ عَلَى التَّنَاوُلِ عِنْدَ دَفْعِ الْخَطَرِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَمَانٌ ( لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ نَفْسِهِ ) وَهُوَ مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ يَتَحَمَّلُ بِسَبَبِهَا ضَرَرَ الضَّمَانِ ( أَمَّا الْجِهَادُ فَمَبْنِيٌّ عَلَى إتْلَافِ النَّفْسِ ) أَيْ نَفْسِ سَوَادِ الْكُفَّارِ وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا مُسْلِمٌ ، فَلَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ بِقِتَالِهِمْ لَامْتَنَعُوا عَنْ الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ فَرْضٌ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، كَمَا لَا يَجُوزُ إيجَابُ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ عَلَى الْإِمَامِ فِيمَا إذَا مَاتَ الزَّانِي الْبِكْرُ مِنْ الْجَلْدِ لِئَلَّا يَمْتَنِعَ الْقَاضِي عَنْ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْجِهَادَ مَبْنِيٌّ عَلَى إتْلَافِ النَّفْسِ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْمُجَاهِدَ إمَّا أَنْ يَقْتُلَ وَقَدْ يُصَادِفُ الْمُسْلِمَ أَوْ يُقْتَلَ ، فَلَوْ أَلْزَمْنَا الضَّمَانَ امْتَنَعَ عَنْ الْجِهَادِ الْفَرْضِ لِكَوْنِهِ خَاسِرًا فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَضْمَنْ .
وَقَوْلُهُ ( حِذَارَ الضَّمَانِ ) مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ .
قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِإِخْرَاجِ النِّسَاءِ وَالْمَصَاحِفِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانُوا عَسْكَرًا عَظِيمًا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ الْغَالِبَ هُوَ السَّلَامَةُ وَالْغَالِبُ كَالْمُتَحَقِّقِ ( وَيُكْرَهُ إخْرَاجُ ذَلِكَ فِي سَرِيَّةً لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا ) لِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضَهُنَّ عَلَى الضَّيَاعِ وَالْفَضِيحَةِ وَتَعْرِيضَ الْمَصَاحِفِ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَخِفُّونَ بِهَا مُغَايَظَةً لِلْمُسْلِمِينَ ، وَهُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ } وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ الْمُصْحَفَ إذَا كَانُوا قَوْمًا يَفُونَ بِالْعَهْدِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ التَّعَرُّضِ ، وَالْعَجَائِزُ يَخْرُجْنَ فِي الْعَسْكَرِ الْعَظِيمِ لِإِقَامَةِ عَمَلٍ يَلِيقُ بِهِنَّ كَالطَّبْخِ وَالسَّقْيِ وَالْمُدَاوَاةِ ، فَأَمَّا الشَّوَابُّ فَمَقَامُهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أَدْفَعُ لِلْفِتْنَةِ ، وَلَا يُبَاشِرْنَ الْقِتَالَ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا عِنْدَ ضَرُورَةٍ ، وَلَا يُسْتَحَبُّ إخْرَاجُهُنَّ لِلْمُبَاضَعَةِ وَالْخِدْمَةِ ، فَإِنْ كَانُوا لَا بُدَّ مُخْرَجِينَ فَبِالْإِمَاءِ دُونَ الْحَرَائِرِ
وَقَوْلُهُ ( وَلَا بَأْسَ بِإِخْرَاجِ النِّسَاءِ وَالْمَصَاحِفِ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ سِوَى مَا نُنَبِّهُ عَلَيْهِ .
السَّرِيَّةُ عَدَدٌ قَلِيلٌ يَسِيرُونَ بِاللَّيْلِ وَيَكْمُنُونَ بِالنَّهَارِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَقَلُّ السَّرِيَّةِ مِائَةٌ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ : أَفْضَلُ مَا يُبْعَثُ فِي السَّرِيَّةِ أَدْنَاهُ ثَلَاثَةٌ ، وَلَوْ بَعَثَ بِمَا دُونَهُ جَازَ .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ مِنْ قَوْلِ نَفْسِهِ : أَقَلُّ السَّرِيَّةِ أَرْبَعُمِائَةٍ ، وَأَقَلُّ الْجَيْشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ } ) رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ ، وَأَمَّا قَيْدُ التَّأْوِيلِ بِالصَّحِيحِ احْتِرَازًا عَمَّا قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقُمِّيُّ : النَّهْيُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ قِلَّةِ الْمَصَاحِفِ ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ الطَّحَاوِيِّ .
( وَلَا تُقَاتِلُ الْمَرْأَةُ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا وَلَا الْعَبْدُ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ) لِمَا بَيَّنَّا ( إلَّا أَنْ يَهْجُمَ الْعَدُوُّ عَلَى بَلَدٍ لِلضَّرُورَةِ )وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فِي الْبَابِ السَّابِقِ لِتَقَدُّمِ حَقِّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنْ يَهْجُمَ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَا تُقَاتِلْ : يَعْنِي عِنْدَ الضَّرُورَةِ يُقَاتِلُونَ لِأَنَّ الْجِهَادَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ وَلَا يَظْهَرُ حَقُّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ عِنْدَهُ .
وَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَغْدِرُوا وَلَا يَغْلُوا وَلَا يُمَثِّلُوا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَغْلُو وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا } وَالْغُلُولُ : السَّرِقَةُ مِنْ الْمَغْنَمِ ، وَالْغَدْرُ : الْخِيَانَةُ وَنَقْضُ الْعَهْدِ ، وَالْمُثْلَةُ الْمَرْوِيَّةُ فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ مَنْسُوخَةٌ بِالنَّهْيِ الْمُتَأَخِّرِ هُوَ الْمَنْقُولُوَقَوْلُهُ ( وَالْمُثْلَةُ الْمَرْوِيَّةُ ) يُقَالُ مَثَّلْت بِالرَّجُلِ أُمَثِّلُ بِهِ مَثَلًا وَمُثْلَةً إذَا سَوَّدْت وَجْهَهُ أَوْ قَطَعْت أَنْفَهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، وَقِصَّةُ مُثْلَةِ الْعُرَنِيِّينَ مَشْهُورَةٌ وَقَدْ اُنْتُسِخَتْ بِالنَّهْيِ الْمُتَأَخِّرِ .
رَوَى عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَامَ فِينَا خَطِيبًا بَعْدَمَا مُثِّلَ بِالْعُرَنِيِّينَ إلَّا كَانَ يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ } فَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ فِي كُلِّ خُطْبَةٍ دَلِيلٌ عَلَى تَأْكِيدِ الْحُرْمَةِ .
( وَلَا يَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا صَبِيًّا وَلَا شَيْخًا فَانِيًا وَلَا مُقْعَدًا وَلَا أَعْمَى ) لِأَنَّ الْمُبِيحَ لِلْقَتْلِ عِنْدَنَا هُوَ الْحِرَابُ وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُمْ ، وَلِهَذَا لَا يُقْتَلُ يَابِسُ الشَّقِّ وَالْمَقْطُوعُ الْيُمْنَى وَالْمَقْطُوعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ .
وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ يُخَالِفُنَا فِي الشَّيْخِ الْفَانِي وَالْمُقْعَدِ وَالْأَعْمَى لِأَنَّ الْمُبِيحَ عِنْدَهُ الْكُفْرُ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا بَيَّنَّا ، وَقَدَّ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ قَتْلِ الصِّبْيَانِ وَالذَّرَارِيِّ } " { وَحِينَ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً مَقْتُولَةٌ قَالَ : هَاهْ ، مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ فَلِمَ قُتِلَتْ ؟ } قَالَ ( إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَهُ رَأْيٌ فِي الْحَرْبِ أَوْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مَلِكَةً ) لِتَعَدِّي ضَرَرِهَا إلَى الْعِبَادِ ، وَكَذَا يُقْتَلُ مَنْ قَاتَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ دَفْعَا لِشَرِّهِ ، وَلِأَنَّ الْقِتَالَ مُبِيحٌ حَقِيقَةً
وَقَوْلُهُ ( وَلَا شَيْخًا فَانِيًا ) قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ : هَذَا الْجَوَابُ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الْفَانِي الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ وَلَا عَلَى الصِّيَاحِ عِنْدَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِحْبَالِ وَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ ، أَمَّا إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ يُقْتَلُ لِأَنَّهُ بِقِتَالِهِ مُحَارِبٌ وَبِصِيَاحِهِ مُحَرِّضٌ عَلَى الْقِتَالِ وَبِالْإِحْبَالِ يَكْثُرُ الْمُحَارِبُ ، وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْمُبِيحَ عِنْدَهُ ) أَيْ لِلْقِتَالِ هُوَ ( الْكُفْرُ ) وَعِنْدَنَا هُوَ الْحِرَابُ .
وَقَوْلُهُ ( مَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَلِهَذَا لَا يُقْتَلُ يَابِسُ الشِّقِّ وَهُوَ الْمَفْلُوجُ .
قِيلَ وَالْمُرَادُ بِالذَّرَارِيِّ هُنَا النِّسَاءُ .
وَقَوْلُهُ ( هَاهْ ) كَلِمَةُ تَنْبِيهٍ أُلْحِقَتْ بِآخِرِهَا هَاءُ السَّكْتِ ( قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَهُ رَأْيٌ فِي الْحَرْبِ ) لِمَا صَحَّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ وَكَانَ ابْنَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً } وَفِي رِوَايَةٍ { ابْنَ مِائَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً } لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ رَأْيٍ
( وَلَا يَقْتُلُ مَجْنُونًا ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ إلَّا أَنْ يُقَاتِلَ فَيُقْتَلَ دَفْعًا لِشَرِّهِ ، غَيْرَ أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ يُقْتَلَانِ مَا دَامَا يُقَاتِلَانِ ، وَغَيْرُهُمَا لَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ بَعْدَ الْأَسْرِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ نَحْوَهُ ، وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَهُوَ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ كَالصَّحِيحِ( قَوْلُهُ فَهُوَ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ كَالصَّحِيحِ ) يَعْنِي يُقْتَلُ سَوَاءٌ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ كَالصَّحِيحِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ ، لَكِنَّهُ إنَّمَا يُقْتَلُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يُقَاتِلُ وَيُخَاطِبُ .
( وَيُكْرَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ الرَّجُلُ أَبَاهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَيَقْتُلَهُ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إحْيَاؤُهُ بِالْإِنْفَاقِ فَيُنَاقِضُهُ الْإِطْلَاقُ فِي إفْنَائِهِ ( فَإِنْ أَدْرَكَهُ امْتَنَعَ عَلَيْهِ حَتَّى يَقْتُلَهُ غَيْرُهُ ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ اقْتِحَامِهِ الْمَأْثَمَ ، وَإِنْ قَصَدَ الْأَبُ قَتْلَهُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ إلَّا بِقَتْلِهِ لَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الدَّفْعُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَهَرَ الْأَبُ الْمُسْلِمُ سَيْفَهُ عَلَى ابْنِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ إلَّا بِقَتْلِهِ يَقْتُلهُ لِمَا بَيَّنَّا فَهَذَا أَوْلَى ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .( قَوْلُهُ امْتَنَعَ عَلَيْهِ ) أَيْ يَقِفُ عِنْدَهُ وَيُعَالِجُهُ فَيَضْرِبُ قَوَائِمَ فَرَسِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الدَّفْعُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
( بَابُ الْمُوَادَعَةِ وَمَنْ يَجُوزُ أَمَانَهُ ) : ( وَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُصَالِحَ أَهْلَ الْحَرْبِ أَوْ فَرِيقًا مِنْهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِهِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } { وَوَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَضَعَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ } ، وَلِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ جِهَادٌ مَعْنًى إذَا كَانَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ دَفْعُ الشَّرِّ حَاصِلٌ بِهِ ، وَلَا يُقْتَصَرُ الْحُكْمُ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَرْوِيَّةِ لِتَعَدِّي الْمَعْنَى إلَى مَا زَادَ عَلَيْهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ خَيْرًا ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْجِهَادَ صُورَةً وَمَعْنًى ( وَإِنْ صَالَحَهُمْ مُدَّةً ثُمَّ رَأَى نَقْضَ الصُّلْحِ أَنْفَعَ نَبَذَ إلَيْهِمْ وَقَاتَلَهُمْ ) { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَبَذَ الْمُوَادَعَةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ } ، وَلِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ لَمَّا تَبَدَّلَتْ كَانَ النَّبْذُ جِهَادًا وَإِيفَاءُ الْعَهْدِ تَرْكُ الْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى ، وَلَا بُدَّ مِنْ النَّبْذِ تَحَرُّزًا عَنْ الْغَدْرِ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي الْعُهُودِ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ } وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مُدَّةٍ يَبْلُغُ فِيهَا خَبَرُ النَّبْذِ إلَى جَمِيعِهِمْ ، وَيَكْتَفِي فِي ذَلِكَ بِمُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَمَكَّنُ مَلِكُهُمْ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالنَّبْذِ مِنْ إنْفَاذِ الْخَبَرِ إلَى أَطْرَافِ مَمْلَكَتِهِ ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَنْتَفِي الْغَدْرُ .
قَالَ ( وَإِنَّ بَدَءُوا بِخِيَانَةٍ قَاتَلَهُمْ وَلَمْ يُنْبِذْ إلَيْهِمْ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِهِمْ ) لِأَنَّهُمْ صَارُوا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ فَلَا حَاجَةَ إلَى نَقْضِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فَقَطَعُوا الطَّرِيقَ وَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ حَيْثُ لَا يَكُونُ هَذَا نَقْضًا لِلْعَهْدِ ، وَلَوْ كَانَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَانِيَةً يَكُونُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ فِي حَقِّهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ ؛
لِأَنَّهُ بِغَيْرِ إذْنِ مَلِكِهِمْ فَفِعْلُهُمْ لَا يُلْزِمُ غَيْرَهُمْ حَتَّى لَوْ كَانَ بِإِذْنِ مَلِكِهِمْ صَارُوا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ لِأَنَّهُ بِاتِّفَاقِهِمْ مَعْنًى .
بَابُ الْمُوَادَعَةِ وَمَنْ يَجُوزُ أَمَانَهُ : وَالْمُوَادَعَةُ الْمُصَالَحَةُ ، وَسُمِّيَتْ بِهَا لِأَنَّهَا مُتَارَكَةٌ وَهِيَ مِنْ الْوَدْعِ وَهُوَ التَّرْكُ ، وَذِكْرُ تَرْكِ الْقِتَالِ بَعْدَ ذِكْرِ الْقِتَالِ ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ ( قَوْلُهُ وَكَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً ) قِيلَ عَلَيْهِ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ } لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ بِالْمَصْلَحَةِ فَكَانَ الِاسْتِدْلَال بِهِ مُخَالِفًا لِلْمُدَّعِي .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ فِي الْمُصَالَحَةِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِدَلِيلِ آيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ } وَبِدَلِيلِ الْآيَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِتَالِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّنَاقُضُ لِمَا أَنَّ مُوجِبَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ مُخَالِفٌ لِمُوجِبِ الْأَمْرِ بِالْمُصَالَحَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ بِمَا ذَكَرْنَا بِدَلِيلِ { مُوَادَعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَكَّةَ } عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ( وَلَا يَقْتَصِرُ الْحُكْمُ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَرْوِيَّةِ ) وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ فَكَانَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ الْمَرْوِيَّةُ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ الَّتِي لَا تَمْنَعُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ لِأَنَّ مُدَّةَ الْمُوَادَعَةِ تَدُورُ مَعَ الْمَصْلَحَةِ وَهِيَ قَدْ تَزِيدُ وَقَدْ تَنْقُصُ .
وَقَوْلُهُ ( لِتَعَدِّي الْمَعْنَى ) وَهُوَ دَفْعُ الشَّرِّ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ خَيْرًا ) حَيْثُ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُوَادِعَهُمْ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ } وَلِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ تَرْكُ الْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى ، أَمَّا صُورَةً فَظَاهِرٌ حَيْثُ تَرَكُوا الْقِتَالَ ، وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الْمُوَادَعَةِ دَفْعُ الشَّرِّ فَلَمْ يَحْصُلْ الْجِهَادُ مَعْنًى أَيْضًا .
وَقَوْلُهُ نَبَذَ إلَيْهِمْ .
نَبَذَ الشَّيْءَ مِنْ يَدِهِ : طَرَحَهُ وَرَمَى بِهِ نَبْذًا وَنَبَذَ الْعَهْدَ نَقَضَهُ ، وَهُوَ مِنْ ذَلِكَ
لِأَنَّهُ طَرْحٌ لَهُ .
وَقَوْلُهُ ( نَبَذَ إلَيْهِمْ ) أَيْ بَعَثَ إلَيْهِمْ مَنْ يُعْلِمُهُمْ بِنَقْضِ الْعَهْدِ .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي الْعُهُودِ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ } أَيْ هِيَ وَفَاءٌ .
( قَوْلُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مُدَّةٍ إلَخْ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } أَيْ عَلَى سَوَاءٍ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قِتَالُهُمْ قَبْلَ النَّبْذِ وَقَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ لِيَعُودُوا إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ التَّحَصُّنِ وَكَانَ ذَلِكَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْغَدْرِ .
( وَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ مُوَادَعَةَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَنْ يَأْخُذَ عَلَى ذَلِكَ مَالًا فَلَا بَأْسَ بِهِ ) لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ الْمُوَادَعَةُ بِغَيْرِ الْمَالِ فَكَذَا بِالْمَالِ ، لَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ ، أَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ لَا يَجُوزُ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ ، وَالْمَأْخُوذُ مِنْ الْمَالِ يُصْرَفُ مَصَارِفَ الْجِزْيَةِ ، هَذَا إذَا لَمْ يَنْزِلُوا بِسَاحَتِهِمْ بَلْ أَرْسَلُوا رَسُولًا ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ ، أَمَّا إذَا أَحَاطَ الْجَيْشُ بِهِمْ ثُمَّ أَخَذُوا الْمَالَ فَهُوَ غَنِيمَةٌ يُخَمِّسُهَا وَيُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِالْقَهْرِ مَعْنًى ( وَأَمَّا الْمُرْتَدُّونَ فَيُوَادِعُهُمْ الْإِمَامُ حَتَّى يَنْظُرَ فِي أَمْرِهِمْ ) لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مَرْجُوٌّ مِنْهُمْ فَجَازَ تَأْخِيرُ قِتَالِهِمْ طَمَعًا فِي إسْلَامِهِمْ ( وَلَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ مَالًا ) لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ لِمَا نُبَيِّنُ ( وَلَوْ أَخَذَهُ لَمْ يَرُدَّهُ ) لِأَنَّهُ مَالٌ غَيْرُ مَعْصُومٍوَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ إنَّهُ تَرْكُ الْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى .
وَقَوْلُهُ ( إذَا لَمْ يَنْزِلُوا بِسَاحَتِهِمْ ) أَيْ إذَا لَمْ يَنْزِلْ الْمُسْلِمُونَ بِدَارِ الْكُفَّارِ لِلْحَرْبِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِالْقَهْرِ مَعْنًى ) يَعْنِي فَيَكُونُ كَالْمَأْخُوذِ قَهْرًا صُورَةً وَمَعْنًى ، وَهُوَ الْمَأْخُوذُ بَعْدَ الْفَتْحِ بِالْقِتَالِ .
وَلَوْ حَاصَرَ الْعَدُوُّ الْمُسْلِمِينَ وَطَلَبُوا الْمُوَادَعَةَ عَلَى مَالٍ يَدْفَعُهُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ لَا يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ لِمَا فِيهِ مِنْ إعْطَاءِ الدَّنِيَّةِ وَإِلْحَاقِ الْمَذَلَّةِ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ إلَّا إذَا خَافَ الْهَلَاكَ ، لِأَنَّ دَفْعَ الْهَلَاكِ وَاجِبٌ بِأَيِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُ
وَقَوْلُهُ ( لِمَا فِيهِ مِنْ إعْطَاءِ الدَّنِيَّةِ ) أَيْ النَّقِيصَةِ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا إذَا خَافَ الْهَلَاكَ ) يَعْنِي عَلَى نَفْسِهِ وَنَفْسِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ ، فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِدَفْعِ الْمَالِ ؛ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَحَاطُوا بِالْخَنْدَقِ وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ إلَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى } هُنَالِكَ اُبْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا { بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَنْ مَعَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ ، فَأَبَى إلَّا النِّصْفَ ، فَلَمَّا حَضَرَ رُسُلُهُ لِيَكْتُبُوا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ سَيِّدَا الْأَنْصَارِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ كَانَ عَنْ وَحْيٍ فَامْضِ لِمَا أُمِرْت بِهِ ، وَإِنْ كَانَ رَأْيًا رَأَيْته فَقَدْ كُنَّا نَحْنُ وَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُنْ لَنَا وَلَا لَهُمْ دِينٌ وَكَانُوا لَا يَطْمَعُونَ فِي ثِمَارِ الْمَدِينَةِ إلَّا بِشِرَاءٍ أَوْ قِرًى ؛ فَإِذَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالدِّينِ وَبَعَثَ إلَيْنَا رَسُولَهُ نُعْطِيهِمْ الدَّنِيَّةَ ، لَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : إنِّي رَأَيْت الْعَرَبَ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ فَأَحْبَبْت أَنْ أَصْرِفَهُمْ عَنْكُمْ ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْتُمْ وَذَاكَ ، اذْهَبُوا فَلَا نُعْطِيكُمْ إلَّا السَّيْفَ } فَقَدْ مَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الصُّلْحِ فِي الِابْتِدَاءِ لَمَّا أَحَسَّ الضَّعْفَ بِالْمُسْلِمِينَ ، فَحِينَ رَأَى الْقُوَّةَ فِيهِمْ بِمَا قَالَ السَّعْدَانُ امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ ( قَوْلُهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُ ) قِيلَ فِي هَذَا التَّعْمِيمِ شُبْهَةٌ ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا بِإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَوْ بِقَتْلِ غَيْرِهِ أَوْ بِالزِّنَا ، فَإِنَّ دَفْعَ الْهَلَاكِ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ غَيْرُ وَاجِبٍ بَلْ هُوَ مُرَخَّصٌ
فِيهِ حَتَّى لَوْ قُتِلَ فِيهَا بِصَبْرِهِ عَنْهَا كَانَ شَهِيدًا .
وَأُجِيبَ عَنْهَا بِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ بِأَيِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُ سِوَى الْأُمُورِ الَّتِي رُخِّصَ فِيهَا وَلَمْ يَجِبْ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا .
وَأَقُولُ : الْوَاجِبُ بِمَعْنَى الثَّابِتِ فَتَنْدَفِعُ بِهِ أَيْضًا .
( وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ السِّلَاحُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَا يُجَهَّزُ إلَيْهِمْ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَحَمْلِهِ إلَيْهِمْ ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَقْوِيَتَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَا الْكُرَاعُ لِمَا بَيَّنَّا ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيدُ لِأَنَّهُ أَصْلُ السِّلَاحِ ، وَكَذَا بَعْدَ الْمُوَادَعَةِ ؛ لِأَنَّهَا عَلَى شَرَفِ النَّقْضِ أَوْ الِانْقِضَاءِ فَكَانُوا حَرْبًا عَلَيْنَا ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي الطَّعَامِ وَالثَّوْبِ ، إلَّا أَنَّا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ { فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمْرَ ثُمَامَةَ أَنْ يَمِيرَ أَهْلَ مَكَّةَ وَهُمْ حَرْبٌ عَلَيْهِ } .وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُجْهِزُ إلَيْهِمْ ) أَيْ لَا يَبْعَثُ التُّجَّارَ إلَيْهِمْ بِالْجِهَازِ وَهُوَ فَاخِرُ الْمَتَاعِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا السِّلَاحُ وَالْكُرَاعُ وَالْحَدِيدُ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَلِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَيُقَالُ مَارَ أَهْلَهُ : أَيْ أَتَاهُمْ بِالطَّعَامِ .
فَصْلٌ ) ( إذَا أَمَّنَ رَجُلٌ حُرٌّ أَوْ امْرَأَةٌ حُرَّةٌ كَافِرًا أَوْ جَمَاعَةً أَوْ أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ صَحَّ أَمَانُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ } أَيْ أَقَلُّهُمْ وَهُوَ الْوَاحِدُ وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فَيَخَافُونَهُ إذْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْمَنَعَةِ فَيَتَحَقَّقُ الْأَمَانُ مِنْهُ لِمُلَاقَاتِهِ مَحَلَّهُ ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ سَبَبَهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ الْإِيمَانُ ، وَكَذَا الْأَمَانُ لَا يَتَجَزَّأُ فَيَتَكَامَلُ كَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ .
قَالَ ( إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ .
فَيَنْبِذُ إلَيْهِمْ ) كَمَا إذَا أَمِّنَ الْإِمَامُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي النَّبْذِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .
وَلَوْ حَاصَرَ الْإِمَامُ حِصْنًا وَأَمِنَ وَاحِدٌ مِنْ الْجَيْشِ وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ يَنْبِذُ الْإِمَامُ لِمَا بَيَّنَّا ، وَيُؤَدِّبُهُ الْإِمَامُ لِافْتِيَاتِهِ عَلَى رَأْيِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَفُوتُ الْمَصْلَحَةُ بِالتَّأْخِيرِ فَكَانَ مَعْذُورًا ( وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ ذِمِّيٍّ ) لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِهِمْ ، وَكَذَا لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ .
قَالَ ( وَلَا أَسِيرٍ وَلَا تَاجِرٍ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ ) لِأَنَّهُمَا مَقْهُورَانِ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ فَلَا يَخَافُونَهُمَا وَالْأَمَانُ يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْخَوْفِ وَلِأَنَّهُمَا يُجْبَرَانِ عَلَيْهِ فِيهِ فَيَعْرَى الْأَمَانُ عَنْ الْمَصْلَحَةِ ، وَلِأَنَّهُمْ كُلَّمَا اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ يَجِدُونَ أَسِيرًا أَوْ تَاجِرًا فَيَتَخَلَّصُونَ بِأَمَانِهِ فَلَا يَنْفَتِحُ لَنَا بَابُ الْفَتْحِ .
فَصْلٌ : لَمَّا كَانَ الْأَمَانُ نَوْعًا مِنْ الْمُوَادَعَةِ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الْقِتَالِ كَالْمُوَادَعَةِ ذَكَرَهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ ) أَيْ بِعَهْدِهِمْ وَأَمَانِهِمْ ( أَدْنَاهُمْ : أَيْ أَقَلُّهُمْ وَهُوَ الْوَاحِدُ ) لِأَنَّهُ لَا أَقَلَّ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا فَسَّرَ الْأَدْنَى هَاهُنَا بِالْأَقَلِّ احْتِرَازًا عَنْ تَفْسِيرِ مُحَمَّدٍ حَيْثُ فَسَّرَهُ بِالْعَبْدِ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ الدَّنَاءَةِ وَالْعَبْدُ أَدْنَى الْمُسْلِمِينَ .
وَقَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ ) أَيْ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ( مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ ) أَمَّا الرَّجُلُ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَبِالتَّسَبُّبِ بِالْمَالِ أَوْ الْعَبِيدِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ } مَعْنَاهُ بِنَفْسِهَا .
وَقَوْلُهُ ( لِمُلَاقَاتِهِ ) أَيْ لِمُلَاقَاةِ الْأَمَانِ ( مَحَلَّهُ ) لِأَنَّ مَحَلَّهُ هُوَ مَحَلُّ الْخَوْفِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِيهِمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ يَتَعَدَّى ) أَيْ الْأَمَانُ ( إلَى غَيْرِهِ ) أَيْ غَيْرِ الَّذِي أَمِنَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي شَهَادَةِ رَمَضَانَ ، فَإِنَّ الصَّوْمَ يَلْزَمُ مَنْ شَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ ثُمَّ يَتَعَدَّى مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ سَبَبَهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ الْإِيمَانُ ) أَيْ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ ( فَكَذَا الْأَمَانُ لَا يَتَجَزَّأُ ) فَإِذَا تَحَقَّقَ مِنْ الْبَعْضِ فَإِمَّا أَنْ يَبْطُلَ أَوْ يَكْمُلَ ، لَا يَجُوزُ الْأَوَّلُ بَعْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ فَيَتَحَقَّقُ الثَّانِي ، كَمَا إذَا وُجِدَ الْإِنْكَاحُ مِنْ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ الْمُتَسَاوِيَةِ فِي الدَّرَجَةِ صَحَّ النِّكَاحُ فِي حَقِّ الْكُلِّ لِأَنَّ سَبَبَ وِلَايَتِهِ وَهُوَ الْقَرَابَةُ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ فَلَا تَتَجَزَّأُ الْوِلَايَةُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ اسْتَدَلَّ بِالْمَعْقُولِ عَلَى وَجْهَيْنِ : جَعَلَ الْمَنَاطَ فِي أَحَدِهِمَا كَوْنَ مَنْ يُعْطِي الْأَمَانَ مِمَّنْ يَخَافُونَهُ وَفِي الْآخَرِ الْإِيمَانَ ، وَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ
أَمَانِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ وَالتَّاجِرِ وَالْأَسِيرِ ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي جَوَازَهُ ، وَلَوْ جَعَلَهُمَا عِلَّةً وَاحِدَةً بِحَذْفِ الْوَاوِ مِنْ الثَّانِي لِيَقَعَ عِلَّةً لِقَوْلِهِ ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ كَانَ أَوْلَى ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الْأَوَّلَ عِلَّةً وَالثَّانِيَ شَرْطًا وَسَمَّاهُ سَبَبًا مَجَازًا ، وَالشَّيْءُ يَبْقَى عَلَى عَدَمِهِ عِنْدَ عَدَمِ شَرْطِهِ وَسَيَجِيءُ فِي كَلَامِهِ إشَارَةٌ إلَى هَذَا .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ صَحَّ أَمَانُهُمْ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ) يَعْنِي فِي بَابِ الْمُوَادَعَةِ بِقَوْلِهِ وَإِنْ صَالَحَهُمْ مُدَّةً إلَخْ وَإِلَيْهِ أَيْضًا أَشَارَ بِقَوْلِهِ ( لِمَا بَيَّنَّا ) قِيلَ قَوْلُهُ ( وَلَوْ حَاصَرَ الْإِمَامُ حِصْنًا وَأَمِنَ وَاحِدٌ مِنْ الْجَيْشِ ) تَكْرَارٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ .
وَأَقُولُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُحَاصِرَ الْإِمَامُ وَهَذَا بَعْدَهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعَادَهُ تَمْهِيدًا وَتَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ وَيُؤَدِّبُهُ الْإِمَامُ لِافْتِيَاتِهِ عَلَى رَأْيِهِ : أَيْ لِسَبْقِهِ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ ، وَحَقِيقَةُ الِافْتِيَاتِ الِاسْتِبْدَادُ بِالرَّأْيِ وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ الْفَوْتِ وَهُوَ السَّبْقُ ( قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ ذِمِّيٍّ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِهِمْ ) أَيْ بِالْكُفَّارِ لِلِاتِّحَادِ فِي الِاعْتِقَادِ .
وَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ لِمَا بَيَّنَّا ( وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي الْقِتَالِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَصِحُّ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبُو يُوسُفَ مَعَهُ فِي رِوَايَةٍ ، وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ لِمُحَمَّدٍ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَمَانُ الْعَبْدِ أَمَانٌ } رَوَاهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ، وَلِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ مُمْتَنِعٌ فَيَصِحُّ أَمَانُهُ اعْتِبَارًا بِالْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ وَبِالْمُؤَيَّدِ مِنْ الْأَمَانِ ، فَالْإِيمَانُ لِكَوْنِهِ شَرْطًا لِلْعِبَادَةِ ، وَالْجِهَادُ عِبَادَةٌ ، وَالِامْتِنَاعُ لِتَحَقُّقِ إزَالَةِ الْخَوْفِ بِهِ ، وَالتَّأْثِيرُ إعْزَازُ الدِّينِ وَإِقَامَةُ الْمَصْلَحَةِ فِي حَقِّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ إذْ الْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُ الْمُسَايَفَةُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْطِيلِ مَنَافِعِ الْمُوَلَّى وَلَا تَعْطِيلَ فِي مُجَرَّدِ الْقَوْلِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِتَالِ فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَهُ فَلَمْ يُلَاقِ الْأَمَانُ مَحَلَّهُ ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ لِأَنَّ الْخَوْفَ مِنْهُ مُتَحَقِّقٌ ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَمْلِكُ الْمُسَايَفَةَ لِمَا أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَى وَجْهٍ لَا يُعْرِي عَنْ احْتِمَالِ الضَّرَرِ فِي حَقِّهِ ، وَالْأَمَانُ نَوْعُ قِتَالٍ وَفِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ ، وَفِيهِ سَدُّ بَابِ الِاسْتِغْنَامِ ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهِ وَالْخَطَأُ نَادِرٌ لِمُبَاشَرَتِهِ الْقِتَالَ ، وَبِخِلَافِ الْمُؤَبَّدِ لِأَنَّهُ خَلَفَ عَنْ الْإِسْلَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّعْوَةِ إلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ مُقَابَلٌ بِالْجِزْيَةِ وَلِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ عِنْدَ مَسْأَلَتِهِمْ ذَلِكَ ، وَإِسْقَاطُ الْفَرْضِ نَفْعٌ فَافْتَرَقَا .
وَلَوْ أَمِنَ الصَّبِيُّ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ لَا يَصِحُّ كَالْمَجْنُونِ وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِتَالِ
فَعَلَى الْخِلَافِ ، وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ .
وَقَوْلُهُ ( لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ لِمَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَالْأَمَانُ يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْخَوْفِ .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ الْعَبْدِ إلَخْ ) اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ أَمَانَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ صَحِيحٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدًا كَتَبَ عَلَى سَهْمِهِ بِالْفَارِسِيَّةِ مترسيت وَرَمَى بِهِ إلَى قَوْمٍ مَحْصُورِينَ ، فَرُفِعَ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَجَازَ أَمَانَهُ وَقَالَ إنَّهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا الْعَبْدُ كَانَ مُقَاتِلًا لِأَنَّ الرَّمْيَ فِعْلُ الْمُقَاتِلِ ، وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَنْ الْقِتَالِ فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَيَصِحُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ .
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ ، وَذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الظَّاهِرُ عَنْهُ ، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْأَسْرَارِ ، وَاسْتِدْلَالُ مُحَمَّدٍ بِالْحَدِيثِ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ مُمْتَنِعٌ ) أَيْ ذُو قُوَّةٍ وَامْتِنَاعٍ إشَارَةٌ إلَى شَرْطِ جَوَازِ الْأَمَانِ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَإِلَى عِلَّتِهِ وَهُوَ الْخَوْفُ لِأَنَّ الْخَوْفَ إنَّمَا يَحْصُلُ مِمَّنْ لَهُ قُوَّةٌ وَامْتِنَاعٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَبِالْمُؤَبَّدِ مِنْ الْأَمَانِ ) يَعْنِي عَقْدَ الذِّمَّةِ ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا عَقَدَ عَقْدَ الذِّمَّةِ مَعَ الْعَبْدِ وَقَبِلَ الْجِزْيَةَ وَقَبِلَ الْعَبْدُ مِنْهُ هَذَا الْعَقْدَ يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ وَالْقَبُولُ مِنْ الْعَبْدِ وَيَصِيرُ ذِمِّيًّا بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ الْمَنْعِ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَقِصَاصِ قَاتِلِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( فَالْإِيمَانُ لِكَوْنِهِ شَرْطًا لِلْعِبَادَةِ ) يَعْنِي شَرَطْنَا الْإِيمَانَ فِي قَوْلِنَا وَلِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ مُمْتَنِعٌ فَيَصِحُّ أَمَانُهُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِلْعِبَادَةِ ( وَالْجِهَادُ عِبَادَةٌ ) وَهَذَا هُوَ الْمَوْعُودُ بِقَوْلِنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَسَيَجِيءُ فِي كَلَامِهِ إشَارَةٌ إلَى هَذَا .
وَقَوْلُهُ ( وَالِامْتِنَاعُ ) يَعْنِي وَشَرَطْنَا
الِامْتِنَاعَ لِيَتَحَقَّقَ إزَالَةُ الْخَوْفِ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالتَّأْثِيرُ إعْزَازُ الدِّينِ ) يَعْنِي الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ فِي قِيَاسِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَى الْمَأْذُونِ لَهُ إعْزَازُ الدِّينِ وَإِقَامَةُ الْمَصْلَحَةِ إلَخْ .
وَتَحْقِيقُ هَذَا أَنَّ الْوَصْفَ الْمُؤَثِّرَ فِي أَمَانِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ الِامْتِنَاعُ وَشَرْطُهُ الْإِيمَانُ ، وَهَذَا الْوَصْفُ مُعَلَّلٌ بِظُهُورِهِ أَثَرِهِ وَهُوَ إعْزَازُ الدِّينِ وَإِقَامَةُ الْمَصْلَحَةِ فِي حَقِّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَيْنِ هَذَا الْحُكْمِ وَهُوَ الْأَمَانُ فِي الْحُرِّ ، فَإِذَا وُجِدَ فِي الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ صَحَّ تَعْدِيَتُهُ إلَيْهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَقْيِسَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُ الْمُسَايَفَةَ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْأَصْلُ فِي الْجِهَادِ هُوَ الْمُسَايَفَةُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُهُ فَلَا يَمْلِكُ الْأَمَانَ أَيْضًا ، وَتَقْرِيرُهُ إنَّمَا لَا يَمْلِكُ الْمُسَايَفَةَ ( لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْطِيلِ مَنَافِعِ الْمَوْلَى ) وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ ( وَلَا تَعْطِيلَ ) لِمَنَافِعِهِ ( فِي مُجَرَّدِ الْقَوْلِ ) وَقَوْلُهُ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِتَالِ ) يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُمَانِعَهُ .
وَتَقْرِيرُهُ لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ الِامْتِنَاعِ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ إنَّمَا يَكُونُ لِتَحَقُّقِ إزَالَةِ الْخَوْفِ وَهُمْ لَا يَخَافُونَهُ ، وَأَنْ يَكُونَ مُعَارَضَةً وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِتَالِ وَكُلُّ مَحْجُورٍ عَنْ الْقِتَالِ لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَهُ ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْخَوْفَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا دَلِيلَ عَلَى وُجُودِهِ وَلَا عَدَمِهِ ، فَالْكُفَّارُ مِنْ أَيْنَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ عَبْدٌ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَخَافُونَهُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ يُعْلَمُ بِتَرْكِ الْمُسَايَفَةِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا شَابًّا مُقْتَدِرًا عَلَى الْقِتَالِ مَعَ الْمُقَاتِلِينَ وَلَا يَحْمِلُ سِلَاحًا وَلَا يُقَاتِلُهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ ذَلِكَ مِمَّنْ لَهُ الْمَنْعُ .
وَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ إنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِتَالِ
وَالْأَمَانُ نَوْعُ قِتَالٍ لَكَانَ أَسْهَلَ إثْبَاتًا لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَأَمَّلْ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ ) يُرِيدُ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْرَى عَنْ احْتِمَالِ الضَّرَرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِيهِ سَدُّ بَابِ الِاسْتِغْنَامِ ) أَيْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ ضَرَرٌ فِي حَقِّهِمْ ، فَإِذَا كَانَ مَمْنُوعًا عَنْ الضَّرَرِ لِلْمَوْلَى فَكَيْفَ يَصِحُّ مِنْهُ مَا يَضُرُّ الْمَوْلَى وَالْمُسْلِمِينَ .
وَقَوْلُهُ ( وَبِخِلَافِ الْمُؤَبَّدِ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ مُحَمَّدٍ صُورَةَ النِّزَاعِ عَلَى عَقْدِ الذِّمَّةِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْأَمَانَ الْمُؤَبَّدَ ( خَلَفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ ) مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَنْتَهِي بِهِ الْقِتَالُ الْمَطْلُوبُ بِهِ إسْلَامُ الْحَرْبِيِّ ( فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّعْوَةِ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ نَفْعٌ ( وَلِأَنَّهُ مُقَابَلٌ بِالْجِزْيَةِ ) وَهِيَ نَفْعٌ ( وَلِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ عِنْدَ مَسْأَلَتِهِمْ ذَلِكَ ) يَعْنِي أَنَّ الْكُفَّارَ إذَا طَلَبُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ يُفْتَرَضُ عَلَى الْإِمَامِ إجَابَتُهُمْ إلَيْهِ ( وَإِسْقَاطُ الْفَرْضِ نَفْعٌ فَافْتَرَقَا ) وَقَوْلُهُ ( فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ ) يَعْنِي عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ ) أَيْ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا لَيْسَ عَلَى الْخِلَافِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ كَالْبَيْعِ فَيَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ بَعْدَ الْإِذْنِ .
( بَابُ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتِهَا ) ( وَإِذَا فَتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً عَنْوَةً ) أَيْ قَهْرًا ( فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَسَّمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ) كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ ( وَإِنْ شَاءَ أَقَرَّ أَهْلَهُ عَلَيْهِ وَوَضَعَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ وَعَلَى أَرَاضِيهمْ الْخَرَاجَ ) كَذَلِكَ فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ بِمُوَافَقَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُحْمَدْ مَنْ خَالَفَهُ ، وَفِي كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ قُدْوَةٌ فَيَتَخَيَّرُ .
وَقِيلَ الْأَوْلَى هُوَ الْأَوَّلُ عِنْدَ حَاجَةِ الْغَانِمِينَ ، وَالثَّانِي عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ لِيَكُونَ عِدَّةً فِي الزَّمَانِ الثَّانِي ، وَهَذَا فِي الْعَقَارِ .
أَمَّا فِي الْمَنْقُولِ الْمُجَرَّدِ لَا يَجُوزُ الْمَنُّ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ فِيهِ ، وَفِي الْعَقَارِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ فِي الْمَنِّ إبْطَالَ حَقِّ الْغَانِمِينَ أَوْ مِلْكِهِمْ فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ يُعَادِلُهُ ، وَالْخَرَاجُ غَيْرُ مُعَادَلٍ لِقَتْلِهِ ، بِخِلَافِ الرِّقَابِ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّهُمْ رَأْسًا بِالْقَتْلِ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ ، وَلِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا ؛ لِأَنَّهُمْ كَالْأُكْرَةِ الْعَامِلَةِ لِلْمُسْلِمِينَ الْعَالِمَةِ بِوُجُوهِ الزِّرَاعَةِ وَالْمُؤَنِ مُرْتَفِعَةٌ مَعَ مَا أَنَّهُ يَحْظَى بِهِ الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدُ ، وَالْخَرَاجُ وَإِنْ قَلَّ حَالًا فَقَدْ جَلَّ مَآلًا لِدَوَامِهِ ، وَإِنْ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالرِّقَابِ وَالْأَرَاضِيِ يَدْفَعُ إلَيْهِمْ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ بِقَدْرِ مَا يَتَهَيَّأُ لَهُمْ الْعَمَلُ لِيَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الْكَرَاهَةِ .
بَابُ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتِهَا : أَخَّرَ بَابَ الْغَنَائِمِ وَحُكْمَهَا عَنْ فَصْلِ الْأَمَانِ لِأَنَّ الْإِمَامَ بَعْدَ الْمُحَاصَرَةِ إمَّا أَنْ يُؤَمِّنَهُمْ أَوْ يَقْتُلَهُمْ وَيَسْتَغْنِمَ أَمْوَالَهُمْ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْأَمَانِ ذَكَرَ الْغَنَائِمَ وَقِسْمَتَهَا .
وَالْغَنِيمَةُ مَا نِيلَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ عَنْوَةً وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ .
وَحُكْمُهَا أَنْ تُخَمَّسَ وَالْبَاقِي بَعْدَ الْخُمُسِ لِلْغَانِمِينَ خَاصَّةً ( وَإِذَا فَتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً عَنْوَةً أَيْ قَهْرًا ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : قَوْلُهُ قَهْرًا لَيْسَ بِتَفْسِيرٍ لَهُ لُغَةً لِأَنَّ عَنَا عُنُوًّا بِمَعْنَى ذَلَّ وَخَضَعَ وَهُوَ لَازِمٌ وَقَهَرَ مُتَعَدٍّ ، بَلْ يَكُونُ هُوَ تَفْسِيرُهُ مِنْ طَرِيقِ شُعُورِ الذِّهْنِ لِأَنَّ مِنْ الذِّلَّةِ يَلْزَمُ الْقَهْرُ أَوْ أَنَّ الْفَتْحَ بِالذِّلَّةِ يَسْتَلْزِمُ الْقَهْرَ ( فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَسَمَهُ ) أَيْ قَسَمَ الْبَلْدَةَ بِتَأْوِيلِ الْبَلَدِ ( بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ ، وَإِنْ شَاءَ أَقَرَّ أَهْلَهُ عَلَيْهِ وَوَضَعَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ وَعَلَى أَرَاضِيهِمْ الْخَرَاجَ ، كَذَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ بِمُوَافَقَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ) فَإِنْ قِيلَ : قَدْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ ، أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَلَمْ يَحْمَدْ مَنْ خَالَفَهُ ) يُرِيدُ بِهِ نَفَرًا يَسِيرًا مِنْهُمْ بِلَالٌ حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَأَصْحَابَهُ فَمَا حَالَ الْحَوْلُ وَفِيهِمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ : أَيْ مَاتُوا جَمِيعًا ( وَفِي كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ قُدْوَةٌ فَيَتَخَيَّرُ ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ الصَّحَابَةِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ يَصِيرُ قُدْوَةً عَلَى خِلَافِ مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ لَمْ يَصِلْ إلَى حَدِّ الْإِجْمَاعِ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَيِّ
جِهَةٍ فَعَلَهُ يُحْمَلُ عَلَى أَدْنَى مَنَازِلِ أَفْعَالِهِ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ وَحِينَئِذٍ لَا يَسْتَوْجِبُ الْعَمَلَ لَا مَحَالَةَ ، فَإِذَا ظَهَرَ دَلِيلُ الصَّحَابِيِّ جَازَ أَنْ يَعْمَلَ بِخِلَافِهِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَعَلَ ذَلِكَ وُجُوبًا ، فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ مُسْتَنْبِطًا مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } بَعْدَ قَوْله تَعَالَى { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } فَيَكُونُ ثَابِتًا بِإِشَارَةِ النَّصِّ وَهِيَ تُفِيدُ الْقَطْعَ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ أَحَدَهُمَا يَتَعَيَّنُ بِفِعْلِ الْإِمَامِ كَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ كَمَا فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ ، فَفَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدَهُمَا وَعُمَرُ الْآخَرَ ( وَقِيلَ ) فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ ( الْأَوْلَى هُوَ الْأَوَّلُ عِنْدَ حَاجَةِ الْغَانِمِينَ ) كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ ( وَالثَّانِي عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ ) كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( لِيَكُونَ عُدَّةً فِي الزَّمَانِ الثَّانِي ، وَهَذَا ) أَيْ إقْرَارُ أَهْلِ بَلَدٍ عَلَى بَلَدِهِمْ بِالْمَنِّ عَلَيْهِمْ ( فِي الْعَقَارِ ، أَمَّا فِي الْمَنْقُولِ الْمُجَرَّدِ فَلَا يَجُوزُ الْمَنُّ بِالرَّدِّ ) بِأَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِمْ مَجَّانًا وَيُنْعِمَ بِهِ عَلَيْهِمْ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْمَنْقُولَ بِالْمُجَرَّدِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِالْمَنْقُولِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِلْعَقَارِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ هَذَا وَإِنْ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالرِّقَابِ وَالْأَرَاضِي يَدْفَعُ إلَيْهِمْ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ بِقَدْرِ مَا يَتَهَيَّأُ لَهُمْ الْعَمَلُ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ ) أَيْ بِالْمَنِّ ( الشَّرْعُ فِيهِ ) أَيْ فِي الْمَنْقُولِ الْمُجَرَّدِ وَفِي الْعَقَارِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ ) فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَنُّ فِيهِ .
قَالَ ( لِأَنَّ فِي الْمَنِّ إبْطَالَ حَقِّ الْغَانِمِينَ ) عِنْدَكُمْ لِأَنَّ
حَقَّهُمْ قَدْ ثَبَتَ وَتَأَكَّدَ بِالْإِحْرَازِ فَقَدْ صَارَ مُحْرَزًا بِفَتْحِ الْبَلْدَةِ وَإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ ( أَوْ مَلَكَهُمْ ) يَعْنِي عِنْدِي ، فَإِنَّ الْمِلْكَ قَدْ ثَبَتَ لَهُمْ بِنَفْسِ الْإِحْرَازِ ( فَلَا يَجُوزُ ) يَعْنِي إبْطَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَقِّ وَالْمِلْكِ ( مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ يُعَادِلُهُ ) فَإِنْ قِيلَ : الْخَرَاجُ يُعَادِلُهُ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَالْخَرَاجُ غَيْرُ مُعَادِلٍ لِقَتْلِهِ ) فَإِنْ قِيلَ : فَالْحَقُّ أَوْ الْمِلْكُ ثَبَتَ فِي رِقَابِهِمْ أَيْضًا وَجَازَ لَهُ أَنْ لَا يَقْسِمَهَا .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( بِخِلَافِ الرِّقَابِ ) يَعْنِي أَنَّ حَقَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا ( وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّهُمْ رَأْسًا بِالْقَتْلِ ) فَكَذَا لَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ بِالْخَلْفِ وَهُوَ الْجِزْيَةُ ، وَهَذَا لِأَنَّهَا خُلِقَتْ فِي الْأَصْلِ أَحْرَارًا وَالْمِلْكُ ثَبَتَ بِعَارِضٍ ، فَالْإِمَامُ إذَا اسْتَرَقَّهُمْ فَقَدْ بَدَّلَ حُكْمَ الْأَصْلِ ، فَإِذَا جَعَلَهُمْ أَحْرَارًا فَقَدْ بَقِيَ حُكْمُ الْأَصْلِ فَكَانَ جَائِزًا ( وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي مِنْ فِعْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا ) يَعْنِي أَنَّ تَصَرُّفَ الْإِمَامِ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ فِي إقْرَارِ أَهْلِهَا عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَوْ قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ اشْتَغَلُوا بِالزِّرَاعَةِ وَقَعَدُوا عَنْ الْجِهَادِ فَكَانَ يَكُرُّ عَلَيْهِمْ الْعَدُوُّ ، وَرُبَّمَا لَا يَهْتَدُونَ لِذَلِكَ الْعَمَلِ أَيْضًا ، فَإِذَا تَرَكَهَا فِي أَيْدِيهِمْ وَهُمْ عَارِفُونَ بِالْعَمَلِ صَارُوا ( كَالْأُكْرَةِ ) أَيْ الْمُزَارِعِينَ ( الْعَامِلَةِ لِلْمُسْلِمِينَ الْعَالِمَةِ بِوُجُوهِ الزِّرَاعَةِ وَالْمُؤَنُ مُرْتَفِعَةٌ مَعَ مَا أَنَّهُ يَحْظَى بِهِ الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدُ ) كَانَ فِيهِ نَظَرٌ لَا مَحَالَةَ فَيَكُونُ جَائِزًا .
قَوْلُهُ ( وَالْخَرَاجُ وَإِنْ قَلَّ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَالْخَرَاجُ غَيْرُ مُعَادِلٍ لِقَتْلِهِ وَتَقْرِيرِهِ الْخَرَاجَ وَإِنْ قَلَّ ( حَالًا ) لِكَوْنِهِ بَعْضَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ فِي سَنَةٍ ( فَقَدْ جَلَّ مَآلًا
لِدَوَامِهِ ) بِوُجُوبِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ مَنَّ عَلَيْهِمْ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِيَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الْكَرَاهَةِ ) مَعْنَاهُ مَا قَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ ، فَإِنْ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ وَأَرَاضِيهِمْ وَقَسَمَ النِّسَاءَ وَالذُّرِّيَّةَ وَسَائِرَ الْأَمْوَالِ جَازَ ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِالْأَرَاضِيِ بِدُونِ الْمَالِ ، وَلَا بَقَاءَ لَهُمْ بِدُونِ مَا يُمْكِنُ بِهِ تَرْجِيَةُ الْعُمُرِ إلَّا أَنْ يَدَعَ لَهُمْ مَا يُمْكِنُهُمْ بِهِ الْعَمَلُ فِي الْأَرَاضِي ،
قَالَ ( وَهُوَ فِي الْأُسَارَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ ) { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ قَتَلَ } ، وَلِأَنَّ فِيهِ حَسْمَ مَادَّةِ الْفَسَادِ ( وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّهُمْ ) لِأَنَّ فِيهَا دَفْعَ شَرِّهِمْ مَعَ وُفُورِ الْمَنْفَعَةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ( وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمْ أَحْرَارًا ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ ) لِمَا بَيَّنَّاهُ ( إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ ) عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ) لِأَنَّ فِيهِ تَقْوِيَتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ أَسْلَمُوا لَا يَقْتُلُهُمْ لِانْدِفَاعِ الشَّرِّ بِدُونِهِ ( وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِقَّهُمْ ) تَوْفِيرًا لِلْمَنْفَعَةِ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ إسْلَامِهِمْ قَبْلَ الْأَخْذِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ السَّبَبُ بَعْدُ ( وَلَا يُفَادَى بِالْأُسَارَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يُفَادَى بِهِمْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ فِيهِ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَتْلِ الْكَافِرِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ .
وَلَهُ أَنَّ فِيهِ مَعُونَةً لِلْكَفَرَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَعُودُ حَرْبًا عَلَيْنَا ، وَدَفْعُ شَرِّ حَرْبِهِ خَيْرٌ مِنْ اسْتِنْقَاذِ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ كَانَ ابْتِلَاءً فِي حَقِّهِ غَيْرَ مُضَافٍ إلَيْنَا ، وَالْإِعَانَةُ بِدَفْعِ أَسِيرِهِمْ إلَيْهِمْ مُضَافٌ إلَيْنَا .
أَمَّا الْمُفَادَاةُ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ لِمَا بَيَّنَّا .
وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ اسْتَدَلَّا بِأُسَارَى بَدْرٍ ، وَلَوْ كَانَ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ فِي أَيْدِينَا لَا يُفَادَى بِمُسْلِمٍ أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا إذَا طَابَتْ نَفْسُهُ بِهِ وَهُوَ مَأْمُونٌ عَلَى إسْلَامِهِ .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ ) أَيْ عَلَى الْأُسَارَى خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ { مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ .
وَلَنَا
قَوْله تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } } وَلِأَنَّهُ بِالْأَسْرِ وَالْقَسْرِ ثَبَتَ حَقُّ الِاسْتِرْقَاقِ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ بِغَيْرِ مَنْفَعَةٍ وَعِوَضٍ ، وَمَا رَوَاهُ مَنْسُوخٌ بِمَا تَلَوْنَا
قَالَ ( وَهُوَ فِي الْأَسَارَى بِالْخِيَارِ ) الْإِمَامُ فِيمَا حَصَلَ تَحْتَ يَدِهِ مِنْ الْأَسَارَى مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ : إنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ { لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَتَلَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ بَعْدَمَا حَصَلَا فِي يَدِهِ ، وَقَتَلَ بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهِمْ } ، فَإِنْ أَسْلَمُوا سَقَطَ عَنْهُمْ الْقَتْلُ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ وَجَبَتْ لِلْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ ، فَإِذَا زَالَ الْكُفْرُ سَقَطَ الْقَتْلُ ( وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّهُمْ لِأَنَّ فِيهِ دَفْعَ شَرِّهِمْ مَعَ وُفُورِ الْمَنْفَعَةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ) فَإِنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمْ الرِّقُّ لِأَنَّ الرِّقَّ جَزَاءُ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ عَلَى مَا عُرِفَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمُوا قَبْلَ الِاسْتِيلَاءِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ الْقَتْلُ وَالِاسْتِرْقَاقُ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ أَوْلَى النَّاسِ بِنَفْسِهِ قَبْلَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ وَالْأَخْذُ ( وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمْ أَحْرَارًا ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ لِمَا بَيَّنَّا ) مِنْ فِعْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
فَإِنْ قِيلَ { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } يُنَافِي تَرْكَ قَتْلِهِمْ فَلَا يَجُوزُ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُسْتَأْمَنِ فَكَذَا فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بِفِعْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمْ أَحْرَارًا .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذِهِ الْأَدِلَّةُ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ ، وَالْأَدِلَّةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا لِأَنَّهُ قَالَ : لِأَنَّ فِيهِ حَسْمَ مَادَّةِ الْقِتَالِ وَذَلِكَ وَاجِبٌ لَا مَحَالَةَ ، ثُمَّ قَالَ : لِأَنَّ فِيهِ دَفْعَ شَرِّهِمْ مَعَ وُفُورِ الْمَنْفَعَةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ كَالْأَوَّلِ وَأَقْوَى .
ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ لِمَا
بَيَّنَّا ، وَهُوَ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَا فَعَلَهُ وَاجِبًا وَإِلَّا لَزِمَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمُورِ وَاجِبٌ وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهَا كَمَا فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهُمْ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُفَادِي بِالْأَسَارَى ) وَالْمُفَادَاةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ، يُقَالُ فَادَاهُ إذَا أَطْلَقَهُ وَأَخَذَ فِدْيَتَهُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ وَلَا يُفَادِي بِالْأَسَارَى : أَيْ لَا يُعْطَى أَسَارَى الْكُفَّارِ وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ الْمَالُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يُفَادِي بِهِمْ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا تَجُوزُ الْفِدْيَةُ بِالْمَالِ .
وَجَعَلَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ قَوْلَهُمَا أَظْهَرَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ فِيهِ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَتْلِ الْكَافِرِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَهُ أَنَّ فِيهِ تَقْوِيَةً ) فِي بَعْضِ النُّسَخِ مَعُونَةٌ ظَاهِرٌ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَبْرُزَ هَذَا فِي مُبْرِزِ دَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِتَحَمُّلِ الضَّرَرِ الْخَاصِّ كَمَا مَرَّ فِي صُورَةِ الرَّمْيِ عِنْدَ التَّتَرُّسِ بِالْمُسْلِمِينَ .
وَأَمَّا الْمُفَادَاةُ بِأَخْذِ الْمَالِ مِنْهُمْ ) فِي إطْلَاقِ أَسْرَاهُمْ ( فَلَا تَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّ فِيهِ تَقْوِيَةً أَوْ مَعُونَةً لِلْكَفَرَةِ بِعَوْدِهِمْ حَرْبًا عَلَيْنَا ( وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ اسْتِدْلَالًا بِأُسَارَى بَدْرٍ ) وَسَيَجِيءُ جَوَابُهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ ) الْمُرَادُ بِالْمَنِّ عَلَيْهِمْ هُوَ الْإِنْعَامُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَتْرُكَهُمْ مَجَّانًا مِنْ غَيْرِ اسْتِرْقَاقٍ وَلَا ذِمَّةٍ وَلَا قَتْلٍ ( خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ : { مَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ يَعْنِي أَبَا عَزَّةَ
الْجُمَحِيَّ } ( وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَلِأَنَّهُ بِالْأَسْرِ وَالْقَسْرِ ثَبَتَ حَقُّ الِاسْتِرْقَاقِ فِيهِ ) لِلْغَانِمِينَ .
فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ بِغَيْرِ مَنْفَعَةٍ وَعِوَضٍ ) كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الْمَغْنُومَةِ ( وَمَا رَوَاهُ ) مِنْ الْمَنِّ عَلَى أَبِي عَزَّةَ فَهُوَ ( مَنْسُوخٌ بِمَا تَلَوْنَا ) وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } وَكَذَلِكَ قِصَّةُ أُسَارَى بَدْرٍ ، لِأَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ كَانَتْ آخِرَ مَا نَزَلَ ، وَقَدْ تَضَمَّنَتْ وُجُوبَ الْقَتْلِ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } فَكَانَ نَاسِخًا لِمَا تَقَدَّمَ كُلِّهِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ خَصَّ مِنْهُ الذِّمِّيَّ وَالْمُسْتَأْمَنَ فَجَازَ أَنْ يَخُصَّ مِنْهُ الْأَسِيرَ قِيَاسًا عَلَيْهِمْ أَوْ بِحَدِيثِ أَبِي عَزَّةَ أَوْ غَيْرِهِمَا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ قِيَاسَ الْأَسِيرِ عَلَى الذِّمِّيِّ فَاسِدٌ لِوُجُودِ الذِّمَّةِ فِيهِ دُونَ الْأَسِيرِ وَهِيَ الْمَنَاطُ ، وَكَذَا عَنْ الْمُسْتَأْمَنِ لِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِ رَقَبَتِهِ ، وَحَدِيثُ أَبِي عَزَّةَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْآيَةِ ، وَغَيْرُهُمَا غَيْرُ مَوْجُودٍ أَوْ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَا يَصِحُّ التَّخْصِيصُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
وَالْمَوَاشِي جَمْعُ مَاشِيَةٍ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالْمَأْكُلَةُ بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا بِمَعْنًى ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
( وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ الْعَوْدَ وَمَعَهُ مَوَاشٍ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَقْلِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ذَبَحَهَا وَحَرَقَهَا وَلَا يَعْقِرُهَا وَلَا يَتْرُكْهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَتْرُكُهَا ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نَهَى عَنْ ذَبْحِ الشَّاةِ إلَّا لِمَأْكَلَةٍ } .
وَلَنَا أَنَّ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ يَجُوزُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ ، وَلَا غَرَضَ أَصَحُّ مِنْ كَسْرِ شَوْكَةِ الْأَعْدَاءِ ، ثُمَّ يُحْرَقُ بِالنَّارِ لِيَنْقَطِعَ مَنْفَعَتُهُ عَنْ الْكُفَّارِ وَصَارَ كَتَخْرِيبِ الْبُنْيَانِ بِخِلَافِ التَّحْرِيقِ قَبْلَ الذَّبْحِ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَبِخِلَافِ الْعَقْرِ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ ، وَتُحْرَقُ الْأَسْلِحَةُ أَيْضًا ، وَمَا لَا يَحْتَرِقُ مِنْهَا يُدْفَنُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ إبْطَالًا لِلْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمْ .
( وَلَا يُقَسِّمُ غَنِيمَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى يُخْرِجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ .
وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمِلْكَ لِلْغَانِمِينَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ وَيَبْتَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ عِدَّةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ ذَكَرْنَاهَا فِي الْكِفَايَةِ .
لَهُ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ الِاسْتِيلَاءُ إذَا وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ فِي الصَّيُودِ ، وَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِيلَاءِ سِوَى إثْبَاتِ الْيَدِ وَقَدْ تَحَقَّقَ .
وَلَنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ } ، وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِيهِ ، وَالْقِسْمَةُ بَيْعٌ مَعْنًى فَتَدْخُلُ تَحْتَهُ ، وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إثْبَاتُ الْيَدِ الْحَافِظَةِ وَالنَّاقِلَةِ وَالثَّانِي مُنْعَدِمٌ لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى الِاسْتِنْقَاذِ وَوُجُودِهِ ظَاهِرًا .
ثُمَّ قِيلَ : مَوْضِعُ الْخِلَافِ تَرَتُّبُ الْأَحْكَامِ عَلَى الْقِسْمَةِ إذَا قَسَّمَ الْإِمَامُ لَا عَنْ اجْتِهَادٍ ، لِأَنَّ حُكْمَ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِهِ .
وَقِيلَ الْكَرَاهَةُ ، وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ قَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْأَفْضَلُ أَنْ يُقَسِّمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّ دَلِيلَ الْبُطْلَانِ رَاجِحٌ ، إلَّا أَنَّهُ تَقَاعَدَ عَنْ سَلَبِ الْجَوَازِ فَلَا يَتَقَاعَدُ عَنْ إيرَاثِ الْكَرَاهَةِ .
قَالَ ( وَلَا يَقْسِمُ غَنِيمَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ ) قِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ جَازَ ، وَالتَّأْخِيرُ إلَى الْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَحَبُّ إلَيَّ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ .
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ لِلْغَانِمِينَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ .
وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ عِدَّةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ ذَكَرْنَاهَا فِي الْكِفَايَةِ ) أَيْ كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى .
مِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا بَاعَ شَيْئًا مِنْ الْغَنَائِمِ لَا لِحَاجَةِ الْغُزَاةِ أَوْ بَاعَ أَحَدُ الْغُزَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا لِعَدَمِ الْمِلْكِ ، وَكَذَا لَوْ أَتْلَفَ أَحَدُهُمْ شَيْئًا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمْ لَا يُورَثُ سَهْمُهُ ، وَلَوْ لَحِقَ الْجَيْشَ مَدَدٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ شَارَكُوهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ .
وَقَوْلُهُ ( لَهُ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ ) ظَاهِرٌ .
قَوْلُهُ ( وَالثَّانِي ) أَيْ إثْبَاتُ الْيَدِ النَّاقِلَةِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ( مُنْعَدِمٌ لِقُدْرَتِهِمْ ) أَيْ لِقُدْرَةِ الْكَفَرَةِ عَلَى الِاسْتِنْقَاذِ ( وَوُجُودِهِ ) أَيْ وُجُودِ الِاسْتِنْقَاذِ ( ظَاهِرًا ) لِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِيَارِهِمْ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ قِيلَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ ) أَيْ أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا صَدَرَتْ الْقِسْمَةُ عَنْ الْإِمَامِ بِدُونِ الِاجْتِهَادِ هَلْ يَثْبُتُ حُكْمُ الْمِلْكِ لِمَنْ وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ فِي نَصِيبِهِ مِنْ الْأَكْلِ وَالْوَطْءِ وَسَائِرِ الِانْتِفَاعِ أَوْ لَا ؟ فَعِنْدَهُ يَثْبُتُ .
وَعِنْدَنَا لَا يَثْبُتُ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ حُكْمَ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِهِ ) أَيْ بِدُونِ الْمِلْكِ .
مَعْنَاهُ أَنَّ تَرَتُّبَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ دَلِيلُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْعِلْمِ بِجَوَازِ الْقِسْمَةِ .
فَعِنْدَهُ مُتَرَتِّبَةٌ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ الصَّادِرَةِ لَا عَنْ اجْتِهَادٍ فَيَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ .
وَعِنْدَنَا لَيْسَتْ بِمُتَرَتِّبَةٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ
الْمِلْكَ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا وَهَذَا لِأَنَّ الْمِلْكَ عِلَّةٌ لِتَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ وَقَدْ وُجِدَ الْمَعْلُولُ فَيَلْزَمُ وُجُودُ الْعِلَّةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَخَلُّفُ الْمَعْلُولِ عَنْ الْعِلَّةِ وَعِنْدَنَا لَمْ يُوجَدْ الْمَعْلُولُ فَيَلْزَمُ عَدَمُ وُجُودِ الْعِلَّةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَخَلُّفُ الْعِلَّةِ عَنْ الْمَعْلُولِ .
وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْقِسْمَةَ بِقَوْلِهِ لَا عَنْ اجْتِهَادٍ لِيَظْهَرَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ ، فَإِنَّهُ إذَا قَسَمَ مُجْتَهِدًا جَازَ بِالِاتِّفَاقِ .
قَوْلُهُ ( وَقِيلَ الْكَرَاهَةُ ) أَيْ حُكْمُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى مَذْهَبِنَا الْكَرَاهَةُ لَا عَدَمُ الْجَوَازِ لِمَا فِي الْقِسْمَةِ مِنْ قَطْعِ شَرِكَةِ الْمَدَدِ فَيَقِلُّ بِهَا رَغْبَتُهُمْ فِي اللُّحُوقِ بِالْجَيْشِ وَلِأَنَّهُ إذَا قَسَمَ تَفَرَّقُوا فَرُبَّمَا يَكُرُّ الْعَدُوُّ عَلَى بَعْضِهِمْ وَهَذَا أَمْرٌ وَرَاءَ مَا تَتِمُّ بِهِ الْقِسْمَةُ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَهَا ( وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ) فَإِنَّهُ قَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْأَفْضَلُ أَنْ يَقْسِمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ هَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَيْسَ بِمَشْهُورٍ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا ، وَفِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْأَفْضَلِيَّةُ مَنْقُولَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَأَيْضًا قَوْلُهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَقِيلَ الْكَرَاهَةُ .
وَفِي الْجُمْلَةِ هَذَا الْمَوْضِعُ لَا يَخْلُو عَنْ تَسَامُحٍ .
وَالْمَخْلَصُ عَنْهُ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ وَلَا يَقْسِمُ غَنِيمَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ : الْمُرَادُ بِهِ عَدَمُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ حَتَّى لَا تَثْبُتَ الْأَحْكَامُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْقِسْمَةِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْمُرَادُ بِهِ
الْكَرَاهَةُ ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ .
وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّ دَلِيلَ الْبُطْلَانِ رَاجِحٌ لِكَوْنِهِ مُحَرِّمًا وَالْمُحَرِّمُ رَاجِحٌ عَلَى الْمُبِيحِ ( إلَّا أَنْ تَقَاعَدَ عَنْ سَلْبِ الْجَوَازِ ) بِالِاتِّفَاقِ ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَيَجُوزُ مُطْلَقًا ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَيَجُوزُ إذَا احْتَاجَ الْغُزَاةُ إلَى الثَّوْبِ وَالدَّابَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ( فَلَا يَتَقَاعَدُ عَنْ إيرَاثِ الْكَرَاهَةِ ) لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمَرْجُوحَ لَمَّا لَمْ يَبْطُلْ بِالْكُلِّيَّةِ حَصَلَ مِنْ مُعَارَضَةِ الدَّلِيلِ الرَّاجِحِ وَالْمَرْجُوحِ الْكَرَاهَةُ كَمَا فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ .
( وَالرِّدْءُ وَالْمُقَاتِلُ فِي الْعَسْكَرِ سَوَاءٌ ) لِاسْتِوَائِهِمْ فِي السَّبَبِ وَهُوَ الْمُجَاوَزَةُ أَوْ شُهُودُ الْوَقْعَةِ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُقَاتِلْ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا ( وَإِذَا لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجُوا الْغَنِيمَةَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ شَارَكُوهُمْ فِيهَا ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ عِنْدَنَا بِالْإِحْرَازِ أَوْ بِقِسْمَةِ الْإِمَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بِبَيْعِهِ الْمَغَانِمَ فِيهَا ، لِأَنَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَتِمُّ الْمِلْكُ فَيَنْقَطِعُ حَقُّ شَرِكَةِ الْمَدَدِ .
قَالَ ( وَلَا حَقَّ لِأَهْلِ سُوقِ الْعَسْكَرِ فِي الْغَنِيمَةِ إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : يُسْهِمُ لَهُمْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ } وَلِأَنَّهُ وَجَدَ الْجِهَادَ مَعْنًى بِتَكْثِيرِ السَّوَادِ .
وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ تُوجَدُ الْمُجَاوَزَةُ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ فَانْعَدَمَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ فَيُعْتَبَرُ السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ وَهُوَ الْقِتَالُ فَيُفِيدُ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ فَارِسًا أَوْ رَاجِلًا عِنْدَ الْقِتَالِ ، وَمَا رَوَاهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ تَأْوِيلَهُ أَنْ يُشْهِدَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ .
قَالَ ( وَالرِّدْءُ وَالْمُقَاتِلُ فِي الْعَسْكَرِ سَوَاءٌ ) الرِّدْءُ هُوَ الْعَوْنُ ، وَالْمُقَاتِلُ هُوَ الْمُبَاشِرُ فِي الْعَسْكَرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ سَوَاءٌ ( لِاسْتِوَائِهِمْ فِي السَّبَبِ ) وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الدَّرْبِ بِنِيَّةِ الْقِتَالِ عِنْدَنَا ( أَوْ شُهُودِ الْوَقْعَةِ ) عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( عَلَى مَا عُرِفَ .
وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُقَاتِلْ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا ) مِنْ الِاسْتِوَاءِ فِي السَّبَبِ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( بِنَاءً عَلَى مَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ الْأَصْلِ ) يُرِيدُ مَا مَرَّ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ عِنْدَهُ هُوَ الْأَخْذُ وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ بِهِ ، وَعِنْدَنَا أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْإِحْرَازُ .
فَإِذَا شَارَكَ الْمَدَدُ الْجَيْشَ فِي الْإِحْرَازِ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ السَّبَبُ شَارَكُوهُ فِي تَأَكُّدِ الْحَقِّ بِهِ كَمَا لَوْ الْتَحَقُوا بِهِمْ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ ( وَإِنَّمَا تَنْقَطِعُ الْمُشَارَكَةُ بِالْإِحْرَازِ أَوْ بِقِسْمَةِ الْإِمَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بِبَيْعِهِ الْمَغَانِمَ فِيهَا لِأَنَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَتِمُّ الْمِلْكُ فَتَنْقَطِعُ شَرِكَةُ الْمَدَدِ ) ( وَلَا حَقَّ لِأَهْلِ سُوقِ الْعَسْكَرِ فِي الْغَنِيمَةِ ) بِإِطْلَاقِهِ يُفِيدُ نَفْيَ السَّهْمِ الْكَامِلِ وَالرَّضْخِ .
وَكَذَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ .
وَعُلِّلَ بِأَنَّ قَصْدَهُمْ التِّجَارَةُ لَا إعْزَازُ دِينِ اللَّهِ وَإِرْهَابُ الْعَدُوِّ ( إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا ) فَلَهُمْ السَّهْمُ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُسْهَمُ لَهُمْ فِي قَوْلٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ } " وَلِأَنَّهُ وُجِدَ الْجِهَادُ مَعْنًى بِتَكْثِيرِ السَّوَادِ ) وَقَوْلُهُ ( وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الْمُجَاوَزَةُ ) وَاضِحٌ ( وَمَا رَوَاهُ ) مِنْ قَوْلِهِ : { الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ } ( مَوْقُوفٌ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) وَمِثْلُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ لَا يَرَى تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ أَوْ تَأْوِيلُهُ أَنْ يَشْهَدَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ ) أَلَا تَرَى أَنَّ
الْكُفَّارَ يَشْهَدُونَهَا وَلَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ
( وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلْإِمَامِ حَمُولَةٌ تُحْمَلُ عَلَيْهَا الْغَنَائِمُ قَسَّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ قِسْمَةَ إيدَاعٍ لِيَحْمُوَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا مِنْهُمْ فَيُقَسِّمَهَا ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ : هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْمُخْتَصَرِ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ رِضَاهُمْ وَهُوَ رِوَايَةُ السِّيَرِ الْكَبِيرِ .
وَالْجُمْلَةُ فِي هَذَا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا وَجَدَ فِي الْمَغْنَمِ حَمُولَةً يَحْمِلُ الْغَنَائِمَ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْحَمُولَةَ وَالْمَحْمُولَ مَالُهُمْ .
وَكَذَا إذَا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَضْلُ حَمُولَةٍ لِأَنَّهُ مَالُ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَوْ كَانَ لِلْغَانِمِينَ أَوْ لِبَعْضِهِمْ لَا يُجْبِرُهُمْ فِي رِوَايَةِ السِّيَرِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ إجَارَةٍ وَصَارَ كَمَا إذَا نَفَقَتْ دَابَّتُهُ فِي مَفَازَةٍ وَمَعَ رَفِيقِهِ فَضْلُ حَمُولَةٍ ، وَيُجْبِرُهُمْ فِي رِوَايَةِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ لِأَنَّهُ دَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِتَحْمِيلِ ضَرَرٍ خَاصٍّ ( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْغَنَائِمِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ) لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ قَبْلَهَا ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْأَصْلَ ( وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ ، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ بَعْدَ إخْرَاجِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَنَصِيبُهُ لِوَرَثَتِهِ ) لِأَنَّ الْإِرْثَ يَجْرِي فِي الْمِلْكِ ، وَلَا مِلْكَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ ، وَإِنَّمَا الْمِلْكُ بَعْدَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْهَزِيمَةِ يُورَثُ نَصِيبُهُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ فِيهِ عِنْدَهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .
.
( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ حَمُولَةٌ ) بِفَتْحِ الْحَاءِ مَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ مِنْ بَعِيرٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ بَغْلٍ أَوْ حِمَارٍ ( قَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ قِسْمَةَ إيدَاعٍ ) وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ إجَارَةٍ ) أَيْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَهَذَا احْتِرَازٌ عَنْ إجَارَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِجَارَةِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ السَّفِينَةِ ، فَإِنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ سَفِينَةً شَهْرًا فَمَضَتْ الْمُدَّةُ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ عَلَيْهَا إجَارَةٌ أُخْرَى بِأَجْرِ الْمِثْلِ بِغَيْرِ رِضَا الْمَالِكِ .
وَقَوْلُهُ ( وَصَارَ كَمَا إذَا نَفَقَتْ دَابَّتُهُ ) يَعْنِي فِي كَوْنِهِ ابْتِدَاءَ إجَارَةٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُجْبِرُهُمْ فِي رِوَايَةِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ ) ظَاهِرٌ ، وَيَكُونُ الْأَجْرُ مِنْ الْغَنَائِمِ يُبْتَدَأُ بِهِ قَبْلَ الْخُمُسِ ، لِأَنَّ فِي هَذَا الِاسْتِئْجَارِ مَنْفَعَةً لِلْغَانِمِينَ فَهُوَ كَالِاسْتِئْجَارِ لِسَوْقِ الْغَنَمِ وَالرَّمَكِ ، وَحَقُّ أَصْحَابِ الْحَمُولَةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِئْجَارِ لِأَنَّ شَرِكَةَ الْمِلْكِ هِيَ الَّتِي لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِئْجَارِ لَا شَرِكَةَ الْحَقِّ كَمَا فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْغَنَائِمِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ) وَاضِحٌ مِمَّا تَقَدَّمَ .
قَوْلُهُ ( وَلَا مِلْكَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ ) فِيهَا نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ بِكُلٍّ مِنْهَا يَتِمُّ الْمِلْكُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَ الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَبَيْعِ الْغَنَائِمِ فِيهَا هَاهُنَا اعْتِمَادًا عَلَى ذِكْرِهِ هُنَاكَ أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ لِعَارِضِ الْحَاجَةِ وَالِاعْتِبَارُ لِلْأُمُورِ الْأَصْلِيَّةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَعْلِفَ الْعَسْكَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَيَأْكُلُوا مَا وَجَدُوهُ مِنْ الطَّعَامِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَرْسَلَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْحَاجَةِ ، وَقَدْ شَرَطَهَا فِي رِوَايَةٍ وَلَمْ يَشْتَرِطْهَا فِي أُخْرَى .
وَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا لِحَاجَةٍ كَمَا فِي الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ .
وَجْهُ الْأُخْرَى قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي طَعَامِ خَيْبَرَ كُلُوهَا وَاعْلِفُوهَا وَلَا تَحْمِلُوهَا } وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ الْحَاجَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، لِأَنَّ الْغَازِيَ لَا يَسْتَصْحِبُ قُوتَ نَفْسِهِ وَعَلَفَ ظَهْرِهِ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِيهَا وَالْمِيرَةُ مُنْقَطِعَةٌ ، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لِلْحَاجَةِ بِخِلَافِ السِّلَاحِ لِأَنَّهُ يَسْتَصْحِبُهُ فَانْعَدَمَ دَلِيلُ الْحَاجَةِ ، وَقَدْ تُمَسُّ إلَيْهِ الْحَاجَةُ فَتُعْتَبَرُ حَقِيقَتُهَا فَيَسْتَعْمِلُهُ ثُمَّ يَرُدُّهُ فِي الْمَغْنَمِ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ ، وَالدَّابَّةُ مِثْلُ السِّلَاحِ ، وَالطَّعَامُ كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ كَالسَّمْنِ وَالزَّيْتِ .
قَالَ ( وَيَسْتَعْمِلُوا الْحَطَبَ ) وَفِي بَعْضِ النَّسْخِ : الطِّيبَ ، ( وَيُدْهِنُوا بِالدُّهْنِ وَيُوقِحُوا بِهِ الدَّابَّةَ ) لِمَسَاسِ الْحَاجَةِ إلَى جَمِيعِ ذَلِكَ ( وَيُقَاتِلُوا بِمَا يَجِدُونَهُ مِنْ السِّلَاحِ ، كُلُّ ذَلِكَ بِلَا قِسْمَةٍ ) وَتَأْوِيلُهُ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِلَاحٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَلَا يَتَمَوَّلُونَهُ ) لِأَنَّ الْبَيْعَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ إبَاحَةٌ وَصَارَ كَالْمُبَاحِ لَهُ الطَّعَامُ ، وَقَوْلُهُ وَلَا يَتَمَوَّلُونَهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُمْ لَا يَبِيعُونَهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْعُرُوضِ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى ذَلِكَ ، فَإِنْ بَاعَهُ أَحَدُهُمْ رَدَّ الثَّمَنَ إلَى الْغَنِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ عَيْنٍ كَانَتْ لِلْجَمَاعَةِ .
وَأَمَّا الثِّيَابُ وَالْمَتَاعُ فَيُكْرَهُ
الِانْتِفَاعُ بِهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِلِاشْتِرَاكِ ، إلَّا أَنَّهُ يُقَسِّمُ الْإِمَامُ بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا احْتَاجُوا إلَى الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَالْمَتَاعِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ يُسْتَبَاحُ لِلضَّرُورَةِ فَالْمَكْرُوهُ أَوْلَى ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الْمَدَدِ مُحْتَمَلٌ ، وَحَاجَةُ هَؤُلَاءِ مُتَيَقَّنٌ بِهَا فَكَانَ أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْقِسْمَةَ فِي السِّلَاحِ ، وَلَا فَرْقَ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ إذَا احْتَاجَ وَاحِدٌ يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ فِي الْفَصْلَيْنِ ، وَإِنْ احْتَاجَ الْكُلُّ يُقَسِّمُ فِي الْفَصْلَيْنِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا احْتَاجُوا إلَى السَّبْيِ حَيْثُ لَا يُقَسِّمُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهِ مِنْ فُضُولِ الْحَوَائِجِ .
قَوْلُهُ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَعْلِفَ الْعَسْكَرُ ) أَيْ دَوَابَّهُمْ الْعَلَفَ ( فِي دَارِ الْحَرْبِ ) وَقَوْلُهُ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْحَاجَةِ يَعْنِي الْقُدُورِيَّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَقَدْ شَرَطَهَا ) يَعْنِي مُحَمَّدًا ( فِي رِوَايَةٍ ) هِيَ رِوَايَةُ السِّيَرِ الصَّغِيرِ ( وَلَمْ يَشْتَرِطْهَا فِي أُخْرَى ) وَهِيَ رِوَايَةُ السِّيَرِ الْكَبِيرِ ، وَوَجْهُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَفَ ظَهْرِهِ ) أَيْ دَابَّتَهُ وَاسْتَعَارَ لَفْظَ الظَّهْرِ لَهَا وَالْمِيرَةُ الطَّعَامُ ( فَيُعْتَبَرُ حَقِيقَتُهَا ) أَيْ حَقِيقَةُ الْحَاجَةِ فِي السِّلَاحِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالدَّابَّةُ مِثْلُ السِّلَاحِ ) يَعْنِي فِي اعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْحَاجَةِ لَكِنْ إذَا اُعْتُبِرَ حَاجَةُ الرُّكُوبِ ، أَمَّا إذَا اُعْتُبِرَ فِيهَا الْأَكْلُ فَهِيَ كَالطَّعَامِ ( وَيَسْتَعْمِلُوا الْحَطَبَ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الطِّيبُ ) قِيلَ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْقُدُورِيَّ نَفْسَهُ قَالَ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ بِعَدَمِ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِالطِّيبِ ، أَمَّا الْحَطَبُ فَلِتَعَذُّرِ النَّقْلِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ كَمَا فِي الْعَلَفِ .
وَأَمَّا الْإِدْهَانُ بِالدُّهْنِ فَالْمُرَادُ بِهِ الدُّهْنُ الْمَأْكُولُ كَالزَّيْتِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَأْكُولًا كَانَ صَرْفُهُ إلَى بَدَنِهِ كَصَرْفِهِ إلَى أَكْلِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَأْكُولًا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ بَلْ يَرُدُّهُ إلَى الْغَنِيمَةِ .
قَوْلُهُ ( وَيُوقِحُوا بِهِ الدَّابَّةَ ) التَّوْقِيحُ تَصْلِيبُ حَافِرِهَا بِالشَّحْمِ الْمُذَابِ إذَا خَفَى مِنْ كَثْرَةِ الْمَشْيِ ، وَنُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ بِالرَّاءِ مِنْ التَّرْقِيحِ وَهُوَ الْإِصْلَاحُ ، قَالَ : هَكَذَا قَرَأْنَا عَلَى الْمَشَايِخِ .
قَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ : وَالرَّاءُ خَطَأٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هَاهُنَا أَوْلَى وَأَلْيَقُ .
قُلْت : هَذَا التَّعْلِيلُ إنْ كَانَ مَنْقُولًا عَنْهُ فَهُوَ مُنَاقَضٌ لِأَنَّ تَرْكَ الْأَوْلَى لَا يُسَمَّى خَطَأً .
وَقَوْلُهُ ( وَتَأْوِيلُهُ إلَخْ ) إنَّمَا احْتَاجَ الْمُصَنِّفُ إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا احْتَاجَ الْغَازِي إلَى
اسْتِعْمَالِ سِلَاحِ الْغَنِيمَةِ بِسَبَبِ صِيَانَةِ سِلَاحِهِ لَا يَجُوزُ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ بِخِلَافِ السِّلَاحِ لِأَنَّهُ يَسْتَصْحِبُهُ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعُوا ) أَيْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعُوا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ( وَلَا يَتَمَوَّلُونَهُ ) أَيْ يَبِيعُونَهُ بِالْعُرُوضِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا مِلْكَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ فِي الْفَصْلَيْنِ ) أَيْ فِي فَصْلِ السِّلَاحِ وَفَصْلِ الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ .
قَالَ ( وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ ) مَعْنَاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ( أَحْرَزَ بِإِسْلَامِهِ نَفْسَهُ ) لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يُنَافِي ابْتِدَاءَ الِاسْتِرْقَاقِ ( وَأَوْلَادَهُ الصِّغَارَ ) لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا ( وَكُلُّ مَالٍ هُوَ فِي يَدِهِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ } وَلِأَنَّهُ سَبَقَتْ يَدَهُ الْحَقِيقِيَّةَ إلَيْهِ يَدُ الظَّاهِرِينَ عَلَيْهِ ( أَوْ وَدِيعَةً فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ) لِأَنَّهُ فِي يَدٍ صَحِيحَةٍ مُحْتَرَمَةٍ وَيَدُهُ كَيَدِهِ ( فَإِنْ ظَهَرْنَا عَلَى دَارِ الْحِرَابِ فَعَقَارُهُ فَيْءٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ لَهُ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ فَصَارَ كَالْمَنْقُولِ .
وَلَنَا أَنَّ الْعَقَارَ فِي يَدِ أَهْلِ الدَّارِ وَسُلْطَانُهَا إذَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً ، وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ .
وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ هُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْيَدَ حَقِيقَةً لَا تَثْبُتُ عَلَى الْعَقَارِ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَثْبُتُ ( وَزَوْجَتُهُ فَيْءٌ ) لِأَنَّهَا كَافِرَةٌ حَرْبِيَّةٌ لَا تَتْبَعُهُ فِي الْإِسْلَامِ ( وَكَذَا حَمْلُهَا فَيْءٌ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .
هُوَ يَقُولُ إنَّهُ مُسْلِمٌ تَبَعًا كَالْمُنْفَصِلِ .
وَلَنَا أَنَّهُ جُزْؤُهَا فَيَرِقُّ بِرِقِّهَا وَالْمُسْلِمُ مَحَلٌّ لِلتَّمَلُّكِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْمُنْفَصِلِ لِأَنَّهُ حُرٌّ لِانْعِدَامِ الْجُزْئِيَّةِ عِنْدَ ذَلِكَ ( وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَيْءٌ ) لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ حَرْبِيُّونَ وَلَا تَبَعِيَّةَ ( وَمَنْ قَاتَلَ مِنْ عَبِيدِهِ فَيْءٌ ) لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَرَّدَ عَلَى مَوْلَاهُ خَرَجَ مِنْ يَدِهِ فَصَارَ تَبَعًا لِأَهْلِ دَارِهِمْ ( وَمَا كَانَ مِنْ مَالِهِ فِي يَدِ حَرْبِيٍّ فَهُوَ فَيْءٌ ) غَصْبًا كَانَ أَوْ وَدِيعَةً ؛ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِمُحْتَرَمَةٍ ( وَمَا كَانَ غَصْبًا فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَكُونُ فَيْئًا ) قَالَ الْعَبْدُ
الضَّعِيفُ رَحِمَهُ اللَّهُ : كَذَا ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ .
وَذَكَرُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ .
لَهُمَا أَنَّ الْمَالَ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ ، وَقَدْ صَارَتْ مَعْصُومَةً بِإِسْلَامِهِ فَيَتْبَعُهَا مَالُهُ فِيهَا .
وَلَوْ أَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ فَيُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ وَالنَّفْسُ لَمْ تَصِرْ مَعْصُومَةً بِالْإِسْلَامِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ إلَّا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ التَّعَرُّضُ فِي الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا وَإِبَاحَةُ التَّعَرُّضِ بِعَارِضِ شَرِّهِ وَقَدْ انْدَفَعَ بِالْإِسْلَامِ ، بِخِلَافِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ عُرْضَةً لِلِامْتِهَانِ فَكَانَ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ وَلَيْسَتْ فِي يَدِهِ حُكْمًا فَلَمْ تَثْبُتْ الْعِصْمَةُ .
قَالَ ( وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ ) إنَّمَا احْتَاجَ الْمُصَنِّفُ إلَى قَوْلِهِ مَعْنَاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِيَقَعَ الِاحْتِرَازُ بِهِ عَنْ مُسْتَأْمَنٍ دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَأَسْلَمَ فِيهَا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّ أَوْلَادَهُ وَأَمْوَالَهُ كُلَّهَا فَيْءٌ ، وَالْفَيْءُ مَا نِيلَ مِنْ الْكُفَّارِ بَعْدَمَا تَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَتَصِيرُ الدَّارُ دَارَ الْإِسْلَامِ .
قَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يُنَافِي ابْتِدَاءَ الِاسْتِرْقَاقِ ) لِأَنَّهُ يَقَعُ جَزَاءً لِاسْتِنْكَافِهِ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَنْكَفَ عَنْ عُبُودِيَّةِ رَبِّهِ جَازَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ صَيَّرَهُ عَبْدَ عَبِيدِهِ ، وَلَمَّا كَانَ مُسْلِمًا وَقْتَ الِاسْتِيلَاءِ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الِاسْتِرْقَاقِ وَهُوَ الِاسْتِنْكَافُ فَلَا يُوجَدُ الْمَشْرُوطُ ، وَاحْتُرِزَ بِذَلِكَ عَنْ الِاسْتِرْقَاقِ حَالَةَ الْبَقَاءِ ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُنَافِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
قَوْلُهُ ( وَأَوْلَادَهُ الصِّغَارَ وَكُلَّ مَالٍ ) مَنْصُوبَانِ بِالْعَطْفِ عَلَى مَفْعُولِ أَحْرَزَ .
وَقَوْلُهُ ( فِي يَدٍ صَحِيحَةٍ ) احْتِرَازٌ عَنْ يَدِ الْغَاصِبِ .
وَقَوْلُهُ ( مُحْتَرَمَةٍ ) احْتِرَازٌ عَنْ يَدِ الْحَرْبِيِّ .
قَوْلُهُ ( وَقِيلَ هَذَا ) أَيْ كَوْنُ عَقَارِهِ ( فَيْئًا ) قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، فَمَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ فَهُوَ لَهُ إلَّا الْعَقَارَ فَإِنَّهُ فَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : أَسْتَحْسِنُ فِي الْعَقَارِ أَنْ أَجْعَلَهُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُحْتَرَمٌ لَهُ كَالْمَنْقُولِ ، وَهَذَا كَمَا تَرَى مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْكِتَابِ بِاعْتِبَارِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، إلَّا إنْ كَانَ عَنْهُ أَيْضًا رِوَايَتَانِ فَقَدْ هَانَ الْخَطْبُ إذْ ذَاكَ .
قَوْلُهُ ( عِنْدَهُمَا ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْيَدَ عَلَى الْبِقَاعِ إنَّمَا تَثْبُتُ حُكْمًا وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ بِدَارِ الْأَحْكَامِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِيَدِهِ فِيهَا قَبْلَ
ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا وَبَعْدَ الظُّهُورِ يَدُ الْغَانِمِينَ فِيهَا أَقْوَى مِنْ يَدِهِ لِغَلَبَتِهِمْ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَثْبُتُ ( وَزَوْجَتُهُ فَيْءٌ ) لِأَنَّهَا كَافِرَةٌ لَا تَتْبَعُهُ فِي الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَتَزَوَّجُ الْكِتَابِيَّةَ وَتَبْقَى كِتَابِيَّةً وَلَا تَصِيرُ مُسْلِمَةً تَبَعًا لِزَوْجِهَا إذْ هُوَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادِ ( وَكَذَا حَمْلُهَا فَيْءٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) فِي الْحَمْلِ ( هُوَ يَقُولُ إنَّهُ ) أَيْ الْحَمْلَ ( مُسْلِمٌ ) بِتَبَعِيَّةِ أَبِيهِ وَالْمُسْلِمُ لَا يُسْتَرَقُّ كَالْوَلَدِ الْمُنْفَصِلِ ( وَلَنَا أَنَّهُ جُزْؤُهَا ) وَهِيَ قَدْ صَارَتْ فَيْئًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَثْنَى الْجَنِينُ فِي إعْتَاقِ الْأُمِّ كَمَا لَا يُسْتَثْنَى سَائِرُ أَجْزَائِهَا ؛ فَكَمَا أَنَّ الْحَمْلَ لَا يَصِيرُ عَبْدًا عِنْدَ إعْتَاقِ الْأُمِّ مُسْتَثْنًى بِحَالٍ ، فَكَذَا فِي الِاسْتِرْقَاقِ لَا يَصِيرُ الْجَنِينُ مُسْتَثْنًى بَعْدَمَا ثَبَتَ الرِّقُّ فِي الْأُمِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُسْلِمُ مَحَلٌّ لِلتَّمَلُّكِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ إنَّهُ مُسْلِمٌ تَبَعًا .
وَتَقْرِيرُهُ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مُسْلِمٌ تَبَعًا لَكِنْ الْمُسْلِمُ مَحَلُّ التَّمَلُّكِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ ، كَمَا إذَا تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ أَمَةَ الْغَيْرِ يَكُونُ الْوَلَدُ رَقِيقًا بِتَبَعِيَّةِ الْأُمِّ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْمُنْفَصِلِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَالْمُنْفَصِلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ( وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَيْءٌ ، وَمَنْ قَاتَلَ مِنْ عَبِيدِهِ فَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَرَّدَ عَلَى مَوْلَاهُ خَرَجَ مِنْ يَدِهِ وَصَارَ تَبَعًا لِأَهْلِ الدَّارِ ) وَأَهْلُ الدَّارِ فَيْءٌ ، وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ فَلَيْسَ بِفَيْءٍ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعُهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا كَانَ مِنْ مَالِهِ فِي يَدِ حَرْبِيٍّ فَهُوَ فَيْءٌ غَصْبًا كَانَ أَوْ وَدِيعَةً لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِمُحْتَرَمَةٍ ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ مَا قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ إنَّمَا يَعْمَلُ بِوَصْفِ الْأَصْلِ لَا بِوَصْفِ نَفْسِهِ كَالتُّرَابِ
مَعَ الْمَاءِ فِي التَّيَمُّمِ ، وَلَمَّا كَانَ الْحَرْبِيُّ مَقَامَ الْمُودَعِ الْمُسْلِمِ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ كَيَدِ الْمُسْلِمِ مُحْتَرَمًا نَظَرًا إلَى نَفْسِهِ لَا غَيْرَ مُحْتَرَمٍ نَظَرًا إلَى الْحَرْبِيِّ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ قِيَامَ يَدِ الْمُودَعِ عَلَى الْوَدِيعَةِ حَقِيقِيٌّ وَقِيَامَ يَدِ الْمَالِكِ عَلَيْهَا حُكْمِيٌّ ، وَاعْتِبَارُ الْحُكْمِيِّ إنْ أَوْجَبَ الْعِصْمَةَ فَاعْتِبَارُ الْحَقِيقِيِّ يَمْنَعُهَا ، وَالْعِصْمَةُ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً لِأَنَّ الْمَالَ فِي أَصْلِهِ عَلَى صِفَةِ الْإِبَاحَةِ وَعِصْمَتُهُ تَابِعَةٌ لِعِصْمَةِ الْمَالِكِ ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ التَّبَعِيَّةُ أَنْ لَوْ ثَبَتَ يَدُ الْمَالِكِ الْمَعْصُومِ لَهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا مَعَ الِاحْتِرَامِ ، لِأَنَّهُ بِدُونِ الِاحْتِرَامِ يُعَارِضُهَا جِهَةُ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا تَثْبُتُ بِالشَّكِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا كَانَ غَصْبًا فِي يَدِ مُسْلِمٍ ) اخْتَلَفَ نُسَخُ الْهِدَايَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَبَعْضُهَا وَقَعَ هَكَذَا ( وَمَا كَانَ غَصْبًا فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا لَا يَكُونُ فَيْئًا ، قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كَذَا ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ .
وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ ) وَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ بِلَفْظٍ قَالَا ، بَلْ لَيْسَ لِأَبِي يُوسُفَ فِيهِ ذِكْرٌ وَبَعْضُهَا وَقَعَ هَكَذَا ، وَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ أَيْضًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَبَعْضُهَا وَقَعَ هَكَذَا فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَكُونُ فَيْئًا .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كَذَا ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ ، وَذَكَرُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمُطَابِقُ لِرِوَايَةِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَشَرْحِ الْجَامِعِ
الصَّغِيرِ ( لَهُمَا أَنَّ الْمَالَ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ ) لِكَوْنِهِ وِقَايَةً لَهَا ( وَالنَّفْسُ صَارَتْ مَعْصُومَةً بِالْإِسْلَامِ فَيَبِعْهَا مَالَهُ فِيهَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ ) أَيْ الْمَالَ الَّذِي غَصَبَهُ الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ مِنْ الْحَرْبِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ ( مَالٌ مُبَاحٌ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ؛ أَمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ نَائِبِهِ لِكَوْنِهِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَهُوَ لَيْسَ بِنَائِبٍ .
بِخِلَافِ الْمُودَعِ وَكُلُّ مَالٍ مُبَاحٍ يُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ بِلَا خِلَافٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَالنَّفْسُ لَمْ تَصِرْ مَعْصُومَةً بِإِسْلَامِهِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَقَدْ صَارَتْ مَعْصُومَةً بِإِسْلَامِهِ .
وَتَقْرِيرُهُ : لَا نُسَلِّمُ صَارَتْ مَعْصُومَةً بِإِسْلَامِهِ ( أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ ) حَتَّى لَا يَجِبَ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ عَلَى قَاتِلِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ لَمْ تَكُنْ مَعْصُومَةً لَمَا كَانَتْ مُحَرَّمَ التَّعَرُّضِ كَالْحَرْبِيِّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( إلَّا أَنَّهَا مُحَرَّمُ التَّعَرُّضِ فِي الْأَصْلِ ) يَعْنِي أَنَّ حُرْمَةَ التَّعَرُّضِ لَيْسَتْ لِكَوْنِهَا مَعْصُومَةً .
وَإِنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ النَّفْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ مُحَرَّمُ التَّعَرُّضِ فِي الْأَصْلِ لِكَوْنِهَا مُكَلَّفَةً لِتَقُومَ بِمَا كُلِّفَتْ بِهِ ( وَإِبَاحَةُ التَّعَرُّضِ ) إنَّمَا هِيَ ( بِعَارِضِ شَرِّهِ .
وَقَدْ انْدَفَعَ بِالْإِسْلَامِ ) فَعَادَتْ إلَى أَصْلِهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مَعْصُومَةٌ ( بِخِلَافِ الْمَالِ لِأَنَّهُ خُلِقَ عُرْضَةً لِلِامْتِهَانِ فَكَانَ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ ) فَكَانَ الْمُقْتَضِي مَوْجُودًا وَالْمَانِعُ مُنْتَفِيًا لِأَنَّ الْمَانِعَ كَوْنُهُ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا مَعَ الِاحْتِرَامِ ، وَهَذَا لَيْسَ فِي يَدِهِ حُكْمًا لِأَنَّ يَدَ الْغَاصِبِ لَيْسَتْ بِنَائِبَةٍ عَنْ يَدِ الْمَالِكِ فَلَمْ تَثْبُتْ الْعِصْمَةُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ أَحَدٍ فَكَانَ فَيْئًا .
( وَإِذَا خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْلِفُوا مِنْ الْغَنِيمَةِ وَلَا يَأْكُلُوا مِنْهَا ) لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ ارْتَفَعَتْ ، وَالْإِبَاحَةُ بِاعْتِبَارِهَا ، وَلِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَأَكَّدَ حَتَّى يُوَرِّثَ نَصِيبَهُ وَلَا كَذَلِكَ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ( وَمَنْ فَضَلَ مَعَهُ عَلَفٌ أَوْ طَعَامٌ رَدَّهُ إلَى الْغَنِيمَةِ ) مَعْنَاهُ إذَا لَمْ تُقَسَّمْ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ قَوْلِنَا .
وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ اعْتِبَارًا بِالْمُتَلَصِّصِ .
وَلَنَا أَنَّ الِاخْتِصَاصَ ضَرُورَةُ الْحَاجَةِ وَقَدْ زَالَتْ ، بِخِلَافِ الْمُتَلَصِّصِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَحَقَّ بِهِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ فَكَذَا بَعْدَهُ ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ تَصَدَّقُوا بِهِ إنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ ، وَانْتَفَعُوا بِهِ إنْ كَانُوا مَحَاوِيجَ لِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ اللُّقَطَةِ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ عَلَى الْغَانِمِينَ ، وَإِنْ كَانُوا انْتَفَعُوا بِهِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ تُرَدُّ قِيمَتُهُ إلَى الْمَغْنَمِ إنْ كَانَ لَمْ يُقَسَّمْ ، وَإِنْ قُسِّمَتْ الْغَنِيمَةُ فَالْغَنِيُّ يَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهِ وَالْفَقِيرُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِقِيَامِ الْقِيمَةِ مَقَامِ الْأَصْلِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( مَعْنَاهُ إذَا لَمْ تُقْسَمْ ) يَعْنِي الْغَنِيمَةَ .
وَقَوْلُهُ ( اعْتِبَارًا بِالْمُتَلَصِّصِ ) فَإِنَّهُ إذَا دَخَلَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ دَارَ الْحَرْبِ مُغِيرِينَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَأَخَذُوا شَيْئًا فَهُوَ لَهُمْ ، وَلَا يُخَمَّسُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ إذْ الْغَنِيمَةُ هُوَ الْمَأْخُوذُ قَهْرًا بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَهُوَ مُبَاحٌ سَبَقَتْ أَيْدِيهِمْ إلَيْهِ .
قَوْلُهُ ( وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ تَصَدَّقُوا بِهِ ) أَيْ إذَا جَاءُوا بِمَا فَضَلَ مِنْ طَعَامٍ أَوْ عَلَفٍ أَخَذُوا مِنْ الْغَنِيمَةِ بَعْدَ قِسْمَةِ الْإِمَامِ الْغَنِيمَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ تَصَدَّقُوا بِهِ .
وَيُقَالُ رَجُلٌ مَحُوجٌ : أَيْ مُحْتَاجٌ ، وَقَوْمٌ مَحَاوِيجُ .
وَقَوْلُهُ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ عَلَى الْغَانِمِينَ يَعْنِي لِتَفَرُّقِهِمْ .
وَقَوْلُهُ ( فَأَخَذَ حُكْمَهُ ) أَيْ أَخَذَتْ الْغَنِيمَةُ حُكْمَ الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ضَمِيرَ الْغَنِيمَةِ عَلَى تَأْوِيلِ مَا يَقُومُ أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ : يَعْنِي لَوْ كَانَ فَاضِلُ الْغَنِيمَةِ الَّذِي كَانَ مَعَهُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ فَقَدْ حَلَّ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ فَكَذَا يَحِلُّ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْ قِيمَتِهِ لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ .
( فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ ) قَالَ ( وَيُقَسِّمُ الْإِمَامُ الْغَنِيمَةَ فَيُخْرِجُ خُمُسَهَا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } اسْتَثْنَى الْخُمُسَ ( وَيُقَسِّمُ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ) { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ } ( ثُمَّ لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ( وَقَالَا : لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا } وَلِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْغِنَاءِ وَغِنَاؤُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْثَالِ الرَّاجِلِ ؛ لِأَنَّهُ لِلْكَرِّ وَالْفَرِّ وَالثَّبَاتِ ، وَالرَّاجِلُ لِلثَّبَاتِ لَا غَيْرُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا } فَتَعَارَضَ فِعْلَاهُ ، فَيُرْجَعُ إلَى قَوْلِهِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ } كَيْفَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَّمَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ } وَإِذَا تَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ تُرَجَّحَ رِوَايَةُ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ الْكَرَّ وَالْفَرَّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ غِنَاؤُهُ مِثْلَيْ غِنَاءِ الرَّاجِلِ فَيَفْضُلُ عَلَيْهِ بِسَهْمٍ وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ مِقْدَارِ الزِّيَادَةِ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَتِهِ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ ، وَلِلْفَارِسِ سَبَبَانِ النَّفْسُ وَالْفَرَسُ ، وَلِلرَّاجِلِ سَبَبٌ وَاحِدٌ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُهُ عَلَى ضَعْفِهِ .
.
فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ : لَمَّا بَيَّنَ أَحْكَامَ الْغَنَائِمِ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ كَيْفِيَّةِ قِسْمَتِهَا ، وَالْقِسْمَةُ عِبَارَةٌ عَنْ جَمْعِ النَّصِيبِ الشَّائِعِ فِي مَكَان مُعَيَّنٍ ( وَيَقْسِمُ الْإِمَامُ الْغَنِيمَةَ فَيُخْرِجُ خُمُسَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } اسْتَثْنَى الْخُمُسَ ) أَيْ أَخْرَجَهُ ، اسْتَعَارَ الِاسْتِثْنَاءَ لِلْإِخْرَاجِ لِوُجُودِ مَعْنَاهُ فِيهِ ( وَيَقْسِمُ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ) بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ، أَمَّا الْكِتَابُ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ } أَضَافَ الْغَنِيمَةَ إلَى الْغَانِمِينَ وَهُمْ الْغُزَاةُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } فَكَانَ بَيَانَ ضَرُورَةِ أَنَّ بَقِيَّةَ الْأَخْمَاسِ لِلْغُزَاةِ ، وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ ، وَلِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسَ لِلْغَانِمِينَ بِالْإِجْمَاعِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ أَيْضًا إيصَالًا لِلْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ .
ثُمَّ كَيْفِيَّةُ الْقِسْمَةِ أَنْ يُعْطِيَ الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَالَا : وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْفَارِسِ : ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ) وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَالْغِنَاءِ بِالْمَدِّ وَالْفَتْحِ الْإِجْزَاءُ وَالْكِفَايَةُ وَالْكَرُّ الْحَمَلَةُ وَالْفَرُّ بِمَعْنَى الْفِرَارِ ، وَالْفِرَارُ إذَا كَانَ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْكَرُّ أَشَدَّ كَانَ مِنْ الْجِهَادِ ، وَالْفِرَارُ فِي مَوْضِعِهِ مَحْمُودٌ لِئَلَّا يَرْتَكِبَ الْمَنْهِيَّ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَلَكِنْ طَرِيقَةُ اسْتِدْلَالِهِ مُخَالِفَةٌ لِقَوَاعِدِ الْأُصُولِ ، فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الدَّلِيلَيْنِ إذَا تَعَارَضَا وَتَعَذَّرَ
التَّوْفِيقُ وَالتَّرْجِيحُ يُصَارُ إلَى مَا بَعْدَهُ لَا إلَى مَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ فَتَعَارَضَ فِعْلَاهُ فَيَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ وَالْمَسْلَكُ الْمَعْهُودُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ وَيَقُولُ فِعْلُهُ لَا يُعَارِضُ قَوْلَهُ لِكَوْنِ الْقَوْلِ أَقْوَى بِالِاتِّفَاقِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا تَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ تُرَجَّحُ رِوَايَةُ غَيْرِهِ ) أَيْ سَلِمَتْ عَنْ الْمُعَارَضَةِ فَيُعْمَلُ بِهَا : يَعْنِي رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْلُهُ ( فَيَكُونُ غِنَاؤُهُ مِثْلَ غِنَاءِ الرَّجُلِ ) لِأَنَّ نَفْسَ الْفِرَارِ لَيْسَ بِمَحْمُودٍ ، بَلْ الْفِرَارُ إنَّمَا يَحْسُنُ إذَا فُعِلَ لِأَجْلِ الْكَرِّ ، فَيَكُونَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ( وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ مِقْدَارِ الزِّيَادَةِ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَتِهِ ) يَعْنِي قَدْ يَزِيدُ الْفَارِسُ عَلَى فَارِسٍ آخَرَ وَالرَّاجِلُ عَلَى رَاجِلٍ آخَرَ فِي الْغِنَاءِ ، وَالْوُقُوفُ عَلَى تِلْكَ الزِّيَادَةِ مُتَعَذَّرٌ لِأَنَّهَا تَظْهَرُ عِنْدَ الْمُسَايَفَةِ وَكُلٌّ مِنْهُمْ مَشْغُولٌ بِرُوحِهِ ، وَإِذَا كَانَ مُتَعَذِّرًا وَلَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ أُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ ( وَلِلْفَارِسِ سَبَبَانِ نَفْسُهُ وَالْفَرَسُ ، وَلِلرَّاجِلِ سَبَبٌ وَاحِدٌ ) وَهُوَ نَفْسُهُ ( فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ الْفَارِسِ عَلَى ضِعْفِهِ )
( وَلَا يُسْهِمُ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُسْهِمُ لِفَرَسَيْنِ ، لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْهَمَ لِفَرَسَيْنِ } وَلِأَنَّ الْوَاحِدَ قَدْ يَعْيَا فَيَحْتَاجُ إلَى الْآخَرِ ، وَلَهُمَا { أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ أَوْسٍ قَادَ فَرَسَيْنِ فَلَمْ يُسْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ } وَلِأَنَّ الْقِتَالَ لَا يَتَحَقَّقُ بِفَرَسَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَلَا يَكُونُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مُفْضِيًا إلَى الْقِتَالِ عَلَيْهِمَا فَيُسْهِمُ لِوَاحِدٍ ، وَلِهَذَا لَا يُسْهِمُ لِثَلَاثَةِ أَفْرَاسٍ ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْفِيلِ كَمَا أَعْطَى سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ سَهْمَيْنِ وَهُوَ رَاجِلٌ ( وَالْبَرَاذِينُ وَالْعَتَاقُ سَوَاءٌ ) لِأَنَّ الْإِرْهَابَ مُضَافٌ إلَى جِنْسِ الْخَيْلِ فِي الْكِتَابِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } وَاسْمُ الْخَيْلِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْبَرَاذِينِ وَالْعِرَابِ وَالْهَجِينِ وَالْمَقْرِفِ إطْلَاقًا وَاحِدًا ، وَلِأَنَّ الْعَرَبِيَّ إنْ كَانَ فِي الطَّلَبِ وَالْهَرَبِ أَقْوَى فَالْبِرْذَوْنُ أَصَبْرُ وَأَلْيَنُ عَطْفًا ، فَفِي كُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمَا مَنْفَعَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فَاسْتَوَيَا .
قَوْلُهُ وَلَا يُسْهَمُ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ ) وَاضِحٌ .
حَاصِلُ الدَّلِيلَيْنِ وُقُوعُ التَّعَارُضِ بَيْنَ رِوَايَتَيْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرُّجُوعُ إلَى مَا بَعْدَهُمَا وَهُوَ الْقِيَاسُ بِقَوْلِهِ ( وَلِأَنَّ الْقِتَالَ لَا يَتَحَقَّقُ بِفَرَسَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً ) فَلَا يَكُونُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الدَّرْبِ مُفْضِيًا إلَى زِيَادَةِ الْغِنَاءِ بِالْقِتَالِ عَلَيْهِمَا فَيُسْهَمُ لِوَاحِدٍ وَلِهَذَا لَا يُسْهَمُ لِثَلَاثَةِ أَفْرَاسٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْفِيلِ إلَخْ ) اسْتِظْهَارٌ فِي تَقْوِيَةِ الدَّلِيلِ لِأَنَّ مَا رَوَاهُ لَمَّا سَقَطَ بِالْمُعَارَضَةِ لَا يَحْتَاجُ إلَى جَوَابٍ عَنْهُ أَوْ تَأْوِيلٍ لَهُ ( وَالْبَرَاذِينُ وَالْعَتَاقُ سَوَاءٌ ) الْبَرَاذِينُ جَمْعُ بِرْذَوْنٍ وَهُوَ فَرَسُ الْعَجَمِ ، وَالْعَتَاقُ الْكَرَائِمُ .
يُقَالُ عَتَاقُ الْخَيْلِ وَالطَّيْرِ لِكَرَائِمِهِمَا ، وَالْعِرَابُ خِلَافُ فَرَسِ الْعَجَمِ .
وَالْهَجِينُ مَا يَكُونُ أَبُوهُ مِنْ الْكَوَادِنِ وَأُمُّهُ عَرَبِيَّةً ، وَالْكَوْدَنُ الْبِرْذَوْنُ وَيُشْبِهُ بِهِ الْبَلِيدُ ، وَالْمَقْرِفُ عَكْسُ الْهَجِينِ ، وَإِنَّمَا تَصَدَّى لِذِكْرِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْبِرْذَوْنِ وَالْعَتَاقِ لِأَنَّ أَهْلَ الشَّامِ يَقُولَانِ لَا يُسْهَمُ لِلْبَرَاذِينِ وَرَوَوْا فِيهِ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاذًّا ، وَحُجَّتُنَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( أَلْيَنَ عَطْفًا ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا ، فَمَعْنَى الْفَتْحِ الْإِمَالَةُ ، وَمَعْنَى الْكَسْرِ الْجَانِبُ .
( وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَنَفَقَ فَرَسُهُ اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ ، وَمَنْ دَخَلَ رَاجِلًا فَاشْتَرَى فَرَسًا اسْتَحَقَّ سَهْمَ رَاجِلٍ ) وَجَوَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى عَكْسِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَنَا حَالَةُ الْمُجَاوَزَةِ ، وَعِنْدَهُ حَالَةُ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ لَهُ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْقَهْرُ وَالْقِتَالُ فَيُعْتَبَرُ حَالُ الشَّخْصِ عِنْدَهُ وَالْمُجَاوَزَةُ وَسِيلَةٌ إلَى السَّبَبِ كَالْخُرُوجِ مِنْ الْبَيْتِ ، وَتَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْقِتَالِ يَدُلُّ عَلَى إمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ تَعَذَّرَ أَوْ تَعَسَّرَ تَعَلَّقَ بِشُهُودِ الْوَقْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْقِتَالِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمُجَاوَزَةَ نَفْسَهَا قِتَالٌ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمْ الْخَوْفُ بِهَا وَالْحَالُ بَعْدَهَا حَالَةُ الدَّوَامِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَا ؛ وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ مُتَعَسِّرٌ ؛ وَكَذَا عَلَى شُهُودِ الْوَقْعَةِ لِأَنَّ حَالَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ فَتُقَامُ الْمُجَاوَزَةُ مَقَامَهُ إذْ هُوَ السَّبَبُ الْمُفْضِي إلَيْهِ ظَاهِرًا إذَا كَانَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ فَيُعْتَبَرُ حَالُ الشَّخْصِ بِحَالَةِ الْمُجَاوَزَةِ فَارِسًا كَانَ أَوْ رَاجِلًا .
وَلَوْ دَخَلَ فَارِسًا وَقَاتَلَ رَاجِلًا لِضِيقِ الْمَكَانِ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَوْ دَخَلَ فَارِسًا ثُمَّ بَاعَ فَرَسَهُ أَوْ وَهَبَ أَوْ أَجَّرَ أَوْ رَهَنَ فَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ اعْتِبَارًا لِلْمُجَاوَزَةِ .
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الرَّجَّالَةِ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ بِالْمُجَاوَزَةِ الْقِتَالُ فَارِسًا .
وَلَوْ بَاعَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَمْ يَسْقُطْ سَهْمُ الْفُرْسَانِ ، وَكَذَا إذَا بَاعَ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ عِنْدَ الْبَعْضِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَرَضَهُ
التِّجَارَةُ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ يَنْتَظِرُ عِزَّتَهُ
قَالَ ( وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا ) هَذَا الْبَيَانُ وَقْتَ إقَامَةِ السَّبَبِ الظَّاهِرِ مَقَامَ مَا يُوجِبُ زِيَادَةَ السَّهْمِ وَهُوَ وَقْتُ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ عِنْدَنَا .
وَقَوْلُهُ ( وَهَكَذَا ) أَيْ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي ) يَعْنِي مَا إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ رَاجِلًا ثُمَّ اشْتَرَى فَرَسًا وَقَاتَلَ فَارِسًا ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ ( وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَنَا فِي وَقْتِ إقَامَةِ السَّبَبِ مَقَامَ ذَلِكَ حَالَةَ الْمُجَاوَزَةِ ) أَيْ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ .
قَالَ الْخَلِيلُ : الدَّرْبُ الْبَابُ الْوَاسِعُ عَلَى السِّكَّةِ وَعَلَى كُلِّ مَدْخَلٍ مِنْ مَدَاخِلِ الرُّومِ دَرْبٌ مِنْ دُرُوبِهَا ، لَكِنْ الْمُرَادُ بِالدَّرْبِ هَاهُنَا هُوَ الْبَرْزَخُ الْحَاجِزُ بَيْنَ الدَّارَيْنِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ ، حَتَّى لَوْ جَاوَزْت الدَّرْبَ دَخَلْت فِي حَدِّ دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَوْ جَاوَزَ أَهْلُ دَارِ الْحَرْبِ الدَّرْبَ دَخَلُوا فِي حَدِّ دَارِ الْإِسْلَامِ ( وَعِنْدَهُ حَالَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ ) أَيْ تَمَامُهَا وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْهُ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ مُجَرَّدَ شُهُودِ الْوَقْعَةِ ، وَدَلِيلُهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، وَكَانَ الْمُصَنِّفُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ حَالَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ إلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَبِالدَّلِيلِ إلَى الْأُخْرَى لِأَنَّ قَوْلَهُ ( يُعْتَبَرُ حَالُ الشَّخْصِ عِنْدَهُ ) أَيْ عِنْدَ الْقِتَالِ إشَارَةٌ إلَى حَالِ شُهُودِ الْوَقْعَةِ لَا إلَى حَالِ انْقِضَائِهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُجَاوَزَةُ وَسِيلَةٌ ) رَدٌّ لِمَذْهَبِنَا .
وَقَوْلُهُ ( كَالْخُرُوجِ مِنْ مَبِيتٍ ) يَعْنِي لِلْقِتَالِ ، فَإِنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى السَّبَبِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي اعْتِبَارِ حَالِ الْغَازِي مِنْ كَوْنِهِ رَاجِلًا أَوْ فَارِسًا ، وَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْوَسِيلَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَتَعْلِيقُ الْأَحْكَامِ ) جَوَابٌ عَمَّا سَنَذْكُرُ فِي تَعْلِيلِنَا أَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ مُتَعَسِّرٌ .
وَبَيَانُهُ أَنَّ الْأَحْكَامَ تَعَلَّقَتْ بِوُجُودِ الْقِتَالِ حَقِيقَةً كَإِعْطَاءِ الرَّضْخِ لِلصَّبِيِّ إذَا قَاتَلَ ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ وَالذِّمِّيُّ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُتَعَسِّرًا لَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ .
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا عُسْرَهُ لَكِنْ يَجِبُ تَعَلُّقُ حُكْمِ كَوْنِهِ رَاجِلًا أَوْ فَارِسًا بِحَالَةٍ هِيَ أَقْرَبُ إلَى الْقِتَالِ وَهِيَ شُهُودُ الْوَقْعَةِ لَا مُجَاوَزَةُ الدَّرْبِ ( وَلَنَا أَنَّ الْمُجَاوَزَةَ نَفْسَهَا قِتَالٌ ) لِأَنَّ الْقِتَالَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَقَعُ بِهِ لِلْعَدُوِّ خَوْفٌ ، وَمُجَاوَزَةُ الدَّرْبِ قَهْرًا ، وَشَوْكَةٌ تَحْصُلُ لَهُمْ الْخَوْفُ فَكَانَ قِتَالًا .
وَإِذَا وُجِدَ أَصْلُ الْقِتَالِ فَارِسًا لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُهُ بِتَغَيُّرِ أَحْوَالِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ ( حَالَةُ دَوَامِ الْقِتَالِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَا ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِدَوَامِ الْقِتَالِ لِأَنَّ الْفَارِسَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُقَاتِلَ فَارِسًا دَائِمًا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ فِي بَعْضِ الْمَضَايِقِ خُصُوصًا فِي الْمَشْجَرَةِ أَوْ فِي الْحِصْنِ أَوْ فِي الْبَحْرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ ) وَاضِحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
( وَلَا يُسْهِمُ لِمَمْلُوكٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ وَلَا ذِمِّيٍّ وَلَكِنْ يَرْضَخُ لَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْإِمَامُ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ لَا يُسْهِمُ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ وَكَانَ يَرْضَخُ لَهُمْ } وَلَمَّا اسْتَعَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْيَهُودِ عَلَى الْيَهُودِ لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ : يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يُسْهِمْ لَهُمْ ، وَلِأَنَّ الْجِهَادَ عِبَادَةٌ ، وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ عَاجِزَانِ عَنْهُ وَلِهَذَا لَمْ يَلْحَقْهُمَا فَرْضُهُ ، وَالْعَبْدُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُوَلَّى وَلَهُ مَنْعُهُ ، إلَّا أَنَّهُ يَرْضَخُ لَهُمْ تَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ مَعَ إظْهَارِ انْحِطَاطِ رُتْبَتِهِمْ ، وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ لِقِيَامِ الرِّقِّ وَتَوَهُّمِ عَجْزِهِ فَيَمْنَعُهُ الْمُوَلَّى عَنْ الْخُرُوجِ إلَى الْقِتَالِ ثُمَّ الْعَبْدُ إنَّمَا يَرْضَخُ لَهُ إذَا قَاتَلَ لِأَنَّهُ دَخَلَ لِخِدْمَةِ الْمُوَلَّى فَصَارَ كَالتَّاجِرِ ، وَالْمَرْأَةُ يَرْضَخُ لَهَا إذَا كَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى ، وَتَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى لِأَنَّهَا عَاجِزَةٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْقِتَالِ فَيُقَامُ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِعَانَةِ مَقَامَ الْقِتَالِ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ ، وَالذِّمِّيُّ إنَّمَا يَرْضَخُ لَهُ إذَا قَاتَلَ أَوْ دَلَّ عَلَى الطَّرِيقِ ، وَلَمْ يُقَاتِلْ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ ، إلَّا أَنَّهُ يُزَادُ عَلَى السَّهْمِ فِي الدَّلَالَةِ إذَا كَانَتْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ ، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ السَّهْمَ إذَا قَاتَلَ ؛ لِأَنَّهُ جِهَادٌ ، وَالْأَوَّلُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِ وَلَا يُسَوِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ فِي حُكْمِ الْجِهَادِ .
قَوْلُهُ ( وَتَوَهُّمِ عَجْزِهِ ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْجِزَ الْمُكَاتَبُ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَيَعُودَ إلَى الرِّقِّ ، وَحِينَئِذٍ كَانَ لِلْمَوْلَى وِلَايَةُ الْمَنْعِ فَيُمْنَعُ فِي الْحَالِ لِوُجُودِ التَّوَهُّمِ .
قَوْلُهُ لِأَنَّهَا عَاجِزَةٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْقِتَالِ ) ظَاهِرٌ .
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَاجِزَةً لَمَا صَحَّ أَمَانُهَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ مِمَّنْ يُخَافُ مِنْهُ الْقِتَالُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْقِتَالِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَمَانَ صِحَّتُهُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ ، بَلْ تَثْبُتُ بِشُبْهَةِ الْقِتَالِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِعَاجِزَةٍ عَنْ شُبْهَةِ الْقِتَالِ بِمَالِهَا وَعَبِيدِهَا ، وَأَمَّا السَّهْمُ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِحَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِتَالِ وَهِيَ عَاجِزَةٌ عَنْهَا ( وَلَا يَبْلُغُ بِهِ السَّهْمُ إذَا قَاتَلَ لِأَنَّهُ جِهَادٌ ) فَلَا يَبْلُغُ بِسَهْمِهِ سَهْمَ الْمُجَاهِدِينَ ( وَالْأَوَّلُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِ ) أَيْ الدَّلَالَةُ لَيْسَتْ مِنْ عَمَلِ الْجِهَادِ فَكَانَتْ عَمَلًا كَسَائِرِ الْأَعْمَالِ فَيَبْلُغُ أَجْرُهُ بَالِغًا مَا بَلَغَ .
( وَأَمَّا الْخُمُسُ فَيُقَسَّمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ : سَهْمٌ لِلْيَتَامَى وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى فِيهِمْ وَيُقَدَّمُونَ ، وَلَا يُدْفَعُ إلَى أَغْنِيَائِهِمْ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُمْ خُمُسُ الْخُمُسِ يَسْتَوِي فِيهِ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ ، وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَيَكُونُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلِذِي الْقُرْبَى } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ .
وَلَنَا أَنَّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ الرَّاشِدِينَ قَسَّمُوهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَاهُ وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ النَّاسِ وَأَوْسَاخَهُمْ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا بِخُمُسِ الْخُمُسِ } وَالْعِوَضُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ الْمُعَوَّضُ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ .
وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْطَاهُمْ لِلنُّصْرَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَّلَ فَقَالَ : { إنَّهُمْ لَنْ يَزَالُوا مَعِي هَكَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ } دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ النَّصْرِ قُرْبُ النُّصْرَةِ لَا قُرْبُ الْقَرَابَةِ .
قَالَ ( فَأَمَّا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْخُمُسِ فَإِنَّهُ لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ تَبَرُّكًا بِاسْمِهِ ، وَسَهْمُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَقَطَ بِمَوْتِهِ كَمَا سَقَطَ الصَّفِيُّ ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِرِسَالَتِهِ وَلَا رَسُولَ بَعْدَهُ وَالصَّفِيُّ شَيْءٌ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ مِثْلَ دِرْعٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ جَارِيَةٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُصْرَفُ سَهْمُ الرَّسُولِ إلَى الْخَلِيفَةِ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ ( وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى كَانُوا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالنُّصْرَةِ ) لِمَا رَوَيْنَا .
قَالَ ( وَبَعْدَهُ بِالْفَقْرِ ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ .
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ : سَهْمُ الْفَقِيرِ مِنْهُمْ سَاقِطٌ أَيْضًا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْإِجْمَاعِ ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ نَظَرًا إلَى الْمَصْرِفِ فَيُحَرِّمُهُ كَمَا حَرَّمَ الْعِمَالَةَ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ وَقِيلَ هُوَ الْأَصَحُّ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْطَى الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ ، وَالْإِجْمَاعُ انْعَقَدَ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْأَغْنِيَاءِ ، أَمَّا فُقَرَاؤُهُمْ فَيَدْخُلُونَ فِي الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ .
قَالَ ( وَأَمَّا الْخُمُسُ فَيُقْسَمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ سَهْمٍ لِلْيَتَامَى وَسَهْمٍ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٍ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى فِيهِمْ ) أَيْ فِي الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ أَيْتَامَ ذَوِي الْقُرْبَى يَدْخُلُونَ فِي سَهْمِ الْيَتَامَى وَيُقَدَّمُونَ عَلَيْهِمْ ، وَمَسَاكِينُ ذَوِي الْقُرْبَى يَدْخُلُونَ فِي سَهْمِ الْمَسَاكِينِ ، وَأَبْنَاءُ السَّبِيلِ مِنْهُمْ يَدْخُلُونَ فِي أَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَسَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ الِاحْتِيَاجُ ، غَيْرَ أَنَّ سَبَبَهُ مُخْتَلِفٌ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْيُتْمِ وَالْمَسْكَنَةِ وَكَوْنُهُ ابْنَ السَّبِيلِ ، ثُمَّ إنَّهُمْ مَصَارِفُ لَا مُسْتَحِقُّونَ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ صَرَفَ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَازَ عِنْدَنَا كَمَا فِي الصَّدَقَاتِ ( وَلَا يَدْفَعُ إلَى أَغْنِيَائِهِمْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَهُمْ خُمُسُ الْخُمُسِ يَسْتَوِي فِيهِ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ ، وَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَيَكُونُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ ) مِنْ بَنِي عَبْدَ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلِذِي الْقُرْبَى } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ ) فَيَشْتَرِكَانِ ( وَلَنَا أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَسَمُوا الْخُمُسَ عَلَى ثَلَاثَةٍ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً ) وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصْرَفْ إلَى أَغْنِيَائِهِمْ شَيْءٌ لِأَنَّهُ قَالَ { يَا بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ وَأَوْسَاخَهُمْ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا بِخُمُسِ الْخُمُسِ } وَالْعِوَضُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ الْمُعَوَّضُ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ ) يَعْنِي أَنَّ الْمُعَوَّضَ وَهُوَ الزَّكَاةُ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى الْأَغْنِيَاءِ ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِوَضَ الزَّكَاةِ وَهُوَ خُمُسُ الْغَنَائِمِ لَا
يَدْفَعُ إلَيْهِمْ لِأَنَّ الْعِوَضَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ فَاتَ عَنْهُ الْمُعَوَّضُ وَإِلَّا لَا يَكُونُ عِوَضًا لِذَلِكَ الْمُعَوَّضِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الْحَدِيثُ إمَّا أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا صَحِيحًا أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَجَبَ أَنْ يَقْسِمَ الْخُمُسَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ وَأَنْتُمْ تَقْسِمُونَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَهُوَ مُخَالَفَةٌ مِنْكُمْ لِلْحَدِيثِ الثَّابِتِ الصَّحِيحِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا إثْبَاتُ الْعِوَضِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي فَاتَ عَنْهُ الْمُعَوَّضُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَالثَّانِيَةُ جَعْلُهُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ ، وَلَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى انْتِفَاءِ الْخُمُسِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ وَهُوَ فِعْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ عَلَى تَغْيِيرِ الْعِوَضِ مِمَّنْ فَاتَ عَنْهُ الْمُعَوَّضُ فَقُلْنَا بِهِ ، كَمَا تَمَسَّكَ الْخَصْمُ عَلَى تَكْرَارِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى حَمْزَةَ سَبْعِينَ صَلَاةً } وَهُوَ لَا يَقُولُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الشَّهِيدِ ، وَلَكِنْ يَقُولُ لِلْحَدِيثِ دَلَالَتَانِ ، فَإِحْدَاهُمَا بَاقِيَةٌ وَإِنْ انْتَفَتْ الْأُخْرَى .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمْ صَحِيحًا بِجَمِيعِ مُقَدِّمَاتِهِ لَمَا أَعْطَاهُمْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُمْ لِلنُّصْرَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَّلَ فَقَالَ : { إنَّهُمْ لَنْ يَزَالُوا مَعِي هَكَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ } ) وَقِصَّتُهُ مَا رُوِيَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ قَالَ { لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكَ
بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ، فَانْطَلَقْت أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ حَتَّى أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَك اللَّهُ بِهِ فِيهِمْ ، فَمَا بَالُ إخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتهمْ وَتَرَكْتنَا وَقَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَنَا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لَا نَفْتَرِقُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَأَشَارَ إلَى نُصْرَتِهِمْ } وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ( دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّصِّ ) أَعْنِي قَوْلَهُ وَلِذِي الْقُرْبَى ( قُرْبُ النُّصْرَةِ لَا قُرْبُ الْقَرَابَةِ ) وَالْمُرَادُ بِالنُّصْرَةِ نُصْرَةُ الِاجْتِمَاعِ فِي الشُّعَبِ لَا نُصْرَةُ الْقِتَالِ ، يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ : { لَا نَفْتَرِقُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ } وَلِهَذَا يَصْرِفُ لِلنِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ .
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُمْ لِلنُّصْرَةِ لَا لِلْقَرَابَةِ وَقَدْ انْتَهَتْ النُّصُرَاتُ انْتَهَى الْإِعْطَاءُ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ .
قَالَ ( فَأَمَّا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْخُمُسِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ وَجْهِ سُقُوطِ سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى بَيَّنَ وَجْهَ سُقُوطِ مَا سِوَى الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي النَّصِّ فَقَالَ : فَأَمَّا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْخُمُسِ يَعْنِي قَوْله تَعَالَى { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } ( فَإِنَّهُ لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ تَبَرُّكًا بِذِكْرِهِ ، وَسَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَقَطَ بِمَوْتِهِ كَمَا سَقَطَ الصَّفِيُّ ) بِالْإِجْمَاعِ ( لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِرِسَالَتِهِ ) لِأَنَّ الْحُكْمَ مَتَى تَرَتَّبَ عَلَى الْمُشْتَقِّ فَيَكُونُ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ عِلَّةً ( وَلَا رَسُولَ بَعْدَهُ .
وَالصَّفِيُّ شَيْءٌ كَانَ يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ دِرْعٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ جَارِيَةٍ ) اصْطَفَى ذَا
الْفَقَارِ مِنْ غَنَائِمِ بَدْرٍ ، وَاصْطَفَى صَفِيَّةَ مِنْ غَنَائِمِ خَيْبَرَ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يُصْرَفُ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْخَلِيفَةِ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ ) أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِرِسَالَتِهِ ( وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى كَانُوا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّصْرَةِ لِمَا رَوَيْنَا ) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُمْ لِلنُّصْرَةِ .
لَا يُقَالُ : قَوْلُهُ وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى وَقَعَ مُكَرَّرًا حُكْمًا وَتَعْلِيلًا .
لِأَنَّا نَقُولُ : مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا كَانَ فِي حَيِّزِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْقِسْمَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ ، وَهَذَا نَقْلٌ لِكَلَامِ صَاحِبِ الْقُدُورِيِّ .
قَالَ : أَيْ الْقُدُورِيُّ ( وَبَعْدَهُ ) أَيْ بَعْدَ زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( بِالْفَقْرِ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا ) أَيْ اسْتِحْقَاقُهُمْ بِالْفَقْرِ ( قَوْلُ الْكَرْخِيِّ : وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ سَهْمُ الْفَقِيرِ مِنْهُمْ سَاقِطٌ أَيْضًا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْإِجْمَاعِ ) يَعْنِي قَوْلَهُ : وَلَنَا أَنَّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَسَمُوهُ عَلَى ثَلَاثَةٍ ، وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِمْ النَّصُّ أَوْ مَنَعُوا حَقَّ ذَوِي الْقُرْبَى فَكَانَ إجْمَاعُهُمْ دَالًّا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ اسْتِحْقَاقٌ لِأَغْنِيَائِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ .
وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِجْمَاعَ ، وَسَنَدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ : كَانَ رَأْيُ عَلِيٍّ فِي الْخُمُسِ رَأْيَ أَهْلِ بَيْتِهِ ، وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْإِجْمَاعُ بِدُونِ أَهْلِ الْبَيْتِ لَا يَنْعَقِدُ .
وَقُلْنَا : لَا يَحِلُّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَتْرُكَ رَأْيَ نَفْسِهِ بِرَأْيِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ احْتِشَامًا لَهُ ، فَإِنْ ثَبَتَ مَا رُوِيَ دَلَّ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُخَالَفَةَ لِأَنَّهُ رَأَى الْحُجَّةَ مَعَهُمَا فَقَدْ خَالَفَهُمَا فِي كَثِيرٍ
مِنْ الْمَسَائِلِ حِينَ ظَهَرَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ فِيهِ ) أَيْ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى ( مَعْنَى الصَّدَقَةِ ) لِأَنَّ الْهَاشِمِيَّ الَّذِي يُصْرَفُ إلَيْهِ فَقِيرٌ ، إذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فَقِيرًا لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَيْهِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَصْحَابِنَا ، فَلَمَّا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ حُرِمَ ذَوُو الْقُرْبَى إيَّاهُ كَمَا حُرِمَ الْهَاشِمِيُّ الْعَامِلُ عَلَى الصَّدَقَةِ الْعِمَالَةُ وَهُوَ مَا يُعْطَى عَلَى عَمَلِهِ ، وَقَدْ مَرَّ فِي بَابِ الزَّكَاةِ ، وَهَذَا الدَّلِيلُ إنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَصْحَابِنَا فَهُوَ تَامٌّ ، وَإِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَيْسَ بِذَاكَ ، لِأَنَّ كَوْنَ الْمَصْرِفِ فَقِيرًا لَيْسَ إلَّا فِي حَيِّزِ النِّزَاعِ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ ( وَجْهُ الْأَوَّلِ ) يَعْنِي قَوْلَ الْكَرْخِيِّ ، وَقِيلَ هُوَ الْأَصَحُّ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْطَى الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ ، وَالْإِجْمَاعُ انْعَقَدَ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْأَغْنِيَاءِ ) يَعْنِي إجْمَاعَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ الرَّاشِدِينَ كَمَا مَرَّ ( أَمَّا فُقَرَاؤُهُمْ فَيَدْخُلُونَ فِي الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَحْثِ ، وَكَرَّرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لِلْإِيضَاحِ ، وَإِنَّمَا قَالَ : وَقِيلَ هُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَبْسُوطِ اخْتَارَ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ أَنَّ الْفُقَرَاءَ لَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ ، وَإِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُ إلَيْهِمْ مُجَازَاةً عَلَى النُّصْرَةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْهُمْ ، وَلَمْ يَبْقَ ذَلِكَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُخْتَارُ الْقُدُورِيِّ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ : وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى كَانُوا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّصْرَةِ .
( وَإِذَا دَخَلَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ دَارَ الْحَرْبِ مُغِيرَيْنِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَأَخَذُوا شَيْئًا لَمْ يُخَمَّسْ ) لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ هُوَ الْمَأْخُوذُ قَهْرًا وَغَلَبَةً لَا اخْتِلَاسًا وَسَرِقَةً ، وَالْخُمُسُ وَظِيفَتُهَا ، وَلَوْ دَخَلَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُخَمَّسُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهُمْ الْإِمَامُ فَقَدْ الْتَزَمَ نُصْرَتَهُمْ بِالْإِمْدَادِ فَصَارَ كَالْمَنَعَةِ ( فَإِنْ دَخَلَتْ جَمَاعَةٌ لَهَا مَنَعَةٌ فَأَخَذُوا شَيْئًا خُمِّسَ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ الْإِمَامُ ) لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ قَهْرًا وَغَلَبَةً فَكَانَ غَنِيمَةً ، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْصُرَهُمْ إذْ لَوْ خَذَلَهُمْ كَانَ فِيهِ وَهْنُ الْمُسْلِمِينَ ، بِخِلَافِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ نُصْرَتُهُمْ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا دَخَلَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُخَمَّسُ ) ظَاهِرٌ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْعَدَدَ الْيَسِيرَ إنَّمَا يَدْخُلُونَ لِاكْتِسَابِ الْمَالِ لَا لِإِعْزَازِ الدِّينِ ، فَصَارَ كَتَاجِرٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ .
فَإِنْ قُلْت : قَوْله تَعَالَى { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ } مُطْلَقٌ فَيَجِبُ الْخُمُسُ وُجِدَ الْإِذْنُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْغَنِيمَةَ اسْمٌ لِمَا هُوَ الْمَأْخُوذُ قَهْرًا وَغَلَبَةً وَمَا أَخَذَهُ اللِّصُّ سَرِقَةً وَمَا أَخَذَهُ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ خِلْسَةً فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْغَنِيمَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ دَخَلَ جَمَاعَةٌ لَهَا مَنَعَةٌ ) الْمَنَعَةُ السَّرِيَّةُ .
نَقَلَ النَّاطِفِيُّ عَنْ كِتَابِ الْخَرَاجِ لِابْنِ شُجَاعٍ : كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ فَغَنِمَ وَلَا عَسْكَرَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ لِلْمُسْلِمِينَ لَا يُخَمَّسُ مَا أَخَذَهُ حَتَّى يَصِيرُوا تِسْعَةً ، فَإِذَا بَلَغُوا ذَلِكَ فَهُمْ سَرِيَّةٌ ( قَوْلُهُ إذَا لَوْ خَذَلَهُمْ ) أَيْ تَرَكَ عَوْنَهُمْ ( كَانَ فِيهِ وَهَنُ الْمُسْلِمِينَ ) أَيْ ضَعْفُهُمْ .
( فَصْلٌ فِي التَّنْفِيلِ ) قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُنَفِّلَ الْإِمَامُ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَيُحَرِّضَ بِهِ عَلَى الْقِتَالِ فَيَقُولَ " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " وَيَقُولَ لِلسَّرِيَّةِ قَدْ جَعَلْت لَكُمْ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ ) مَعْنَاهُ بَعْدَمَا رَفَعَ الْخُمُسَ لِأَنَّ التَّحْرِيضَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ } وَهَذَا نَوْعُ تَحْرِيضٍ ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ التَّنْفِيلُ بِمَا ذَكَرَ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ بِكُلِّ الْمَأْخُوذِ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْكُلِّ ، فَإِنْ فَعَلَهُ مَعَ السَّرِيَّةِ جَازَ ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ إلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ ( وَلَا يُنَفِّلُ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ ) لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ قَدْ تَأَكَّدَ فِيهِ بِالْإِحْرَازِ .
قَالَ ( إلَّا مِنْ الْخُمُسِ ) لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْغَانِمِينَ فِي الْخُمُسِ ( وَإِذَا لَمْ يَجْعَلْ السَّلْبَ لِلْقَاتِلِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ ، وَالْقَاتِلُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : السَّلْبُ لِلْقَاتِلِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُسْهِمَ لَهُ وَقَدْ قَتَلَهُ مُقْبِلًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَصْبُ شَرْعٍ لِأَنَّهُ بَعَثَهُ لَهُ ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ مُقْبِلًا أَكْثَرَ غِنَاءً فَيَخْتَصُّ بِسَلَبِهِ إظْهَارًا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ .
وَلَنَا أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ فَيَكُونُ غَنِيمَةً فَيُقَسِّمُ الْغَنَائِمَ كَمَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِحَبِيبِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ { لَيْسَ لَك مِنْ سَلَبِ قَتِيلِك إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِك } وَمَا رَوَاهُ يَحْتَمِلُ نَصْبَ الشَّرْعِ وَيَحْتَمِلُ التَّنْفِيلَ فَنَحْمِلُهُ عَلَى الثَّانِي لِمَا رَوَيْنَاهُ .
وَزِيَادَةُ الْغِنَاءِ لَا تُعْتَبَرُ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ .
فَصْلٌ فِي التَّنْفِيلِ : التَّنْفِيلُ نَوْعٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْغَنَائِمِ ، فَفُصِلَ عَمَّا قَبْلَهُ بِفَصْلٍ ، يُقَالُ نَفَلَ الْإِمَامُ الْغَازِيَ .
أَيْ أَعْطَاهُ زَائِدًا عَلَى سَهْمِهِ بِقَوْلِهِ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } ( قَوْلُهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْفُلَ الْإِمَامُ ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ : كَلِمَةُ لَا بَأْسَ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَكُونُ تَرْكُهُ أَوْلَى لَيْسَ بِمُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ ، فَإِنَّ التَّنْفِيلَ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّهُ تَحْرِيضٌ وَالتَّحْرِيضُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ } فَإِنْ قِيلَ : الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِلْوُجُوبِ فَمَا الصَّارِفُ عَنْهُ إلَى الِاسْتِحْبَابِ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُعَارِضُهُ دَلِيلُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فَانْصَرَفَ إلَى الِاسْتِحْبَابِ ( قَوْلُهُ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا ) تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ قَوْلُهُ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ التَّنْفِيلُ بِمَا ذُكِرَ ) يَعْنِي التَّنْفِيلَ بِالسَّلْبِ ( وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ ) نَحْوَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَوْمَ بَدْرٍ بِسَيْفِ أَبِي جَهْلٍ وَكَانَ عَلَيْهِ فِضَّةٌ } ( وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفُلَ بِكُلِّ الْمَأْخُوذِ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْكُلِّ ، وَإِنْ فَعَلَهُ مَعَ السَّرِيَّةِ جَازَ ) لِمَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ : إذَا قَالَ الْإِمَامُ لِلْعَسْكَرِ جَمِيعًا مَا أَصَبْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ نَفْلًا بِالسَّوِيَّةِ بَعْدَ الْخُمُسِ لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّنْفِيلِ التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِتَالِ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إذَا خَصَّ الْبَعْضَ بِالتَّنْفِيلِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ مَا أَصَبْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ ، وَلَمْ يَقُلْ بَعْدَ الْخُمُسِ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ الْخُمُسِ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْغَنِيمَةِ وَإِبْطَالَ حَقِّ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ : وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْغَانِمِينَ فِي الْخُمُسِ ) فِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ
يَكُنْ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغَانِمِينَ فَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْأَصْنَافِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ جَوَازَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُنْفَلَ لَهُ جُعِلَ وَاحِدًا مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ إبْطَالُ حَقِّهِمْ إذْ يَجُوزُ صَرْفُ الْخُمُسِ عَلَى أَحَدِ الْأَصْنَافِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ مَصَارِفُ لَا مُسْتَحِقُّونَ ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُنْفَلُ لَهُ الَّذِي جُعِلَ وَاحِدًا مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ فَقِيرًا لِأَنَّ الْخُمُسَ حَقُّ الْمُحْتَاجِينَ لَا حَقُّ الْأَغْنِيَاءِ فَجَعْلُهُ لِلْغَنِيِّ إبْطَالُ حَقِّ الْمُحْتَاجِينَ وَقَوْلُهُ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا رَوَاهُ يَحْتَمِلُ نَصْبَ الشَّرِّ وَيَحْتَمِلُ التَّنْفِيلَ ) قِيلَ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ نَصْبَ الشَّرْعِ إذَا قَالَ بِالْمَدِينَةِ فِي مَسْجِده وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ ذَلِكَ إلَّا يَوْمَ بَدْرٍ وَحُنَيْنٍ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّحْرِيضِ ، وَكَمَا قَالَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَدْ قَالَ { مَنْ أَخَذَ أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ } ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّنْفِيلِ فَكَذَلِكَ فِي السَّلَبِ ( فَيُحْمَلُ عَلَى الثَّانِي ) يَعْنِي عَلَى التَّنْفِيلِ ( لِمَا رَوَيْنَا ) مِنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ .
وَقَوْلُهُ ( وَزِيَادَةُ الْغِنَاءِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْقَاتِلَ مُقْبِلًا أَكْثَرُ غِنَاءً ( قَوْلُهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ ) إشَارَةٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ مِقْدَارِ الزِّيَادَةِ ، أَوْ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْكَرَّ وَالْفَرَّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فِي فَصْلِ كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ
( وَالسَّلَبُ مَا عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ ثِيَابِهِ وَسِلَاحِهِ وَمَرْكَبِهِ ، وَكَذَا مَا كَانَ عَلَى مَرْكَبِهِ مِنْ السَّرْجِ وَالْآلَةِ ، وَكَذَا مَا مَعَهُ عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ مَالِهِ فِي حَقِيبَتِهِ أَوْ عَلَى وَسَطِهِ وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَلَيْسَ بِسَلَبٍ ) وَمَا كَانَ مَعَ غُلَامِهِ عَلَى دَابَّةٍ أُخْرَى فَلَيْسَ بِسَلَبِهِ ، ثُمَّ حُكْمُ التَّنْفِيلِ قَطَعَ حَقَّ الْبَاقِينَ ، فَأَمَّا الْمِلْكُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ ، حَتَّى لَوْ قَالَ الْإِمَامُ مَنْ أَصَابَ جَارِيَةً فَهِيَ لَهُ فَأَصَابَهَا مُسْلِمٌ وَاسْتَبْرَأَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا ، وَكَذَا لَا يَبِيعُهَا .
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَيَبِيعَهَا ، لِأَنَّ التَّنْفِيلَ يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ عِنْدَهُ كَمَا يَثْبُتُ بِالْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَبِالشِّرَاءِ مِنْ الْحَرْبِيِّ ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ قَدْ قِيلَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتِهَا بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إثْبَاتُ الْيَدِ الْحَافِظَةِ وَالنَّافِلَةِ فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ تَثْبُتْ النَّافِلَةُ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِيلَاءُ ، وَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيلَاءُ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ التَّنْفِيلَ يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ عِنْدَهُ ) دَلِيلُهُ أَنَّ الْمَدَدَ لَا يُشَارِكُونَهُ فِيهَا ( كَمَا يَثْبُتُ بِالْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ) وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَّفَقٍ عَلَيْهِ لِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ قِسْمَةُ الْإِمَامِ لَا تَعْدَمُ الْمَانِعَ مِنْ تَمَامِ الْقَهْرِ وَهُوَ كَوْنُهُمْ مَقْهُورِينَ دَارًا وَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ لِعَدَمِ شُهْرَتِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَوُجُوبُ الضَّمَانِ ) مُرَاعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( قَدْ قِيلَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ) خَبَرُهُ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : وَقَدْ قِيلَ بِالْوَاوِ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ الْمِلْكُ : أَيْ يَثْبُتُ الْمِلْكُ وَوُجُوبُ الضَّمَانِ لِلْمُنْفَلِ لَهُ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ مِنْ الْغُزَاةِ سَلَبَهُ الَّذِي أَصَابَهُ ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ دَفْعًا لِشُبْهَةٍ تَرِدُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْمُتْلِفَ لِسَلَبِ مَنْ نَفَلَهُ الْإِمَامُ يَضْمَنُ لِأَنَّ الْحَقَّ مُتَأَكَّدٌ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْخِلَافَ ، فَوَرَدَ الضَّمَانُ شُبْهَةً عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الضَّمَانَ دَلِيلُ تَمَامِ الْمِلْكِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحِلَّ الْوَطْءُ عَلَى مَذْهَبِهِمَا أَيْضًا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ ، فَقَالَ فِي دَفْعِ ذَلِكَ إنَّهُ أَيْضًا عَلَى الِاخْتِلَافِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ .
وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( بَابُ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ ) : ( وَ إذَا غَلَبَ التُّرْكُ عَلَى الرُّومِ فَسَبَوْهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ مَلَكُوهَا ) ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ قَدْ تَحَقَّقَ فِي مَالٍ مُبَاحٍ وَهُوَ السَّبَبُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( فَإِنْ غَلَبْنَا عَلَى التُّرْكِ حَلَّ لَنَا مَا نَجِدُهُ مِنْ ذَلِكَ ) اعْتِبَارًا بِسَائِرِ أَمْلَاكِهِمْ .بَابُ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ ) : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ اسْتِيلَائِنَا عَلَى الْكُفَّارِ أَعْقَبَهُ بِذِكْرِ عَكْسِهِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ فَكَانَ خَلِيقًا بِتَبْوِيبِ بَابٍ لَهُ ، وَافْتَتَحَ بِذِكْرِ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَرَاهَةَ أَنْ يَفْتَتِحَ بِذِكْرِ غَلَبَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَالتُّرْكُ جَمْعُ التُّرْكِيِّ ، وَالرُّومُ جَمْعُ الرُّومِيِّ : أَيْ الرِّجَالُ الْمَنْسُوبُونَ إلَى بِلَادِهِمْ ، وَالْمُرَادُ بِهِ كُفَّارُ التُّرْكِ وَنَصَارَى الرُّومِ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( حَلّ لَنَا مَا نَجِدُهُ مِنْ ذَلِكَ ) أَيْ مِمَّا أَخَذَهُ التُّرْكُ مِنْ أَهْلِ الرُّومِ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ صَارَ مِلْكًا لِلتُّرْكِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ .
( وَإِذَا غَلَبُوا عَلَى أَمْوَالِنَا وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ مَلَكُوهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَمْلِكُونَهَا ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ مَحْظُورٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَالْمَحْظُورُ لَا يَنْتَهِضُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ قَاعِدَةِ الْخَصْمِ .
وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ فَيَنْعَقِدُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ دَفْعًا لِحَاجَةِ الْمُكَلَّفِ كَاسْتِيلَائِنَا عَلَى أَمْوَالِهِمْ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِصْمَةَ تَثْبُتُ عَلَى مُنَافَاةِ الدَّلِيلِ ضَرُورَةَ تَمَكُّنِ الْمَالِكِ مِنْ الِانْتِفَاعِ ، فَإِذَا زَالَتْ الْمُكْنَةُ عَادَ مُبَاحًا كَمَا كَانَ ، غَيْرَ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الِاقْتِدَارِ عَلَى الْمَحَلِّ حَالًا وَمَآلًا ، وَالْمَحْظُورُ لِغَيْرِهِ إذَا صَلُحَ سَبَبًا لِكَرَامَةٍ تَفُوقُ الْمِلْكَ وَهُوَ الثَّوَابُ الْآجِلُ فَمَا ظَنُّك بِالْمِلْكِ الْعَاجِلِ ؟ .
( فَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فَوَجَدَهَا الْمَالِكُونَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهِيَ لَهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَإِنْ وَجَدُوهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِالْقِيمَةِ إنْ أَحَبُّوا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ { إنْ وَجَدْته قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لَك بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَإِنْ وَجَدْته بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لَك بِالْقِيمَةِ } وَلِأَنَّ الْمَالِكَ الْقَدِيمَ زَالَ مِلْكُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ نَظَرًا لَهُ ، إلَّا أَنَّ فِي الْأَخْذِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ضَرَرًا بِالْمَأْخُوذِ مِنْهُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ الْخَاصِّ فَيَأْخُذُهُ بِالْقِيمَةِ ؛ لِيَعْتَدِلَ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَالشَّرِكَةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ عَامَّةٌ فَيَقِلُّ الضَّرَرُ فَيَأْخُذُهُ بِغَيْرِ قِيمَةٍ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ مَحْظُورٌ ابْتِدَاءً ) أَيْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ( وَانْتِهَاءً ) أَيْ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ قَاعِدَةِ الْخَصْمِ ) أَنَّ الْمَحْظُورَ وَلَوْ بِوَجْهٍ لَا يَنْتَهِضُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ؛ وَأَمَّا الْمَحْظُورُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِأَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْبَاطِلِ كَالْبَيْعِ بِالْمَيْتَةِ أَوْ الدَّمِ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ بِالِاتِّفَاقِ ( وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ ) وَوُرُودُ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ ( يَنْعَقِدُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ دَفْعًا لِحَاجَةِ الْمُكَلَّفِ كَاسْتِيلَائِنَا عَلَى أَمْوَالِهِمْ ) وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْعِصْمَةَ فِي الْمَالِ لِكُلِّ مَنْ تَثْبُتُ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ إنَّمَا تَثْبُتُ عَلَى مُنَافَاةِ الدَّلِيلِ ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ مَالٌ مَا مَعْصُومًا لِشَخْصٍ مَا ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ ( لِضَرُورَةِ تَمَكُّنِ الْمَالِكِ مِنْ الِانْتِفَاعِ ، فَإِذَا زَالَتْ الْمُكْنَةُ ) بِالِاسْتِيلَاءِ ( عَادَ مُبَاحًا كَمَا كَانَ .
غَيْرَ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ ، لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ ( عِبَارَةٌ عَنْ الِاقْتِدَارِ عَلَى الْمَحَلِّ حَالًا وَمَآلًا ) وَالْكُفَّارُ مَا دَامُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ اقْتَدَرُوا عَلَى الْمَحَلِّ حَالًا ، وَإِنَّمَا يَقْتَدِرُونَ عَلَيْهِ مَآلًا بِالْإِحْرَازِ لِأَنَّهُمْ مَا دَامُوا فِي دَارِنَا فَهُمْ مَقْهُورُونَ بِالدَّارِ ، وَالِاسْتِرْدَادُ بِالنُّصْرَةِ مُحْتَمَلٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمَحْظُورُ لِغَيْرِهِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الْخَصْمِ إنَّ الِاسْتِيلَاءَ مَحْظُورٌ .
وَتَقْرِيرُهُ : سَلَّمْنَا أَنَّهُ مَحْظُورٌ لَكِنَّهُ مَحْظُورٌ لِغَيْرِهِ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَالْمَحْظُورُ لِغَيْرِهِ ( إذَا صَلُحَ سَبَبًا
لِكَرَامَةٍ تَفُوقُ الْمِلْكَ ) كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ فَإِنَّهَا تَصْلُحُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ أَعْلَى النِّعَمِ وَهُوَ الثَّوَابُ فِي الْآخِرَةِ ، فَلَأَنْ تَصْلُحَ سَبَبًا لِلْمِلْكِ فِي الدُّنْيَا أَوْلَى .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْكَافِرِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ لَمَا ثَبَتَ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ مِنْ الْغَازِي الَّذِي وَقَعَ فِي قِسْمَتِهِ أَوْ مِنْ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ بِدُونِ رِضَا الْغَازِي .
أُجِيبَ بِأَنَّ بَقَاءَ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ لِحَقِّ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ لَا يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ الْمِلْكِ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ وَالْإِعَادَةَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ بِدُونِ رِضَا الْمَوْهُوبِ لَهُ مَعَ زَوَالِ مِلْكِ الْوَاهِبِ فِي الْحَالِ ، وَكَذَا الشَّفِيعُ يَأْخُذُ الدَّارَ مِنْ الْمُشْتَرِي بِحَقِّ الشُّفْعَةِ بِدُونِ رِضَا الْمُشْتَرِي مَعَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ ) وَاضِحٌ .
( وَإِنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرٌ فَاشْتَرَى ذَلِكَ وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَمَالِكُهُ الْأَوَّلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِالْأَخْذِ مَجَّانًا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ الْعِوَضَ بِمُقَابَلَتِهِ فَكَانَ اعْتِدَالُ النَّظَرِ فِيمَا قُلْنَاهُ ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِعَرَضٍ يَأْخُذُهُ بِقِيمَةِ الْعَرَضِ ، وَلَوْ وَهَبُوهُ لِمُسْلِمٍ يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ مِلْكٌ خَاصٌّ فَلَا يُزَالُ إلَّا بِالْقِيمَةِ ، وَلَوْ كَانَ مَغْنُومًا وَهُوَ مِثْلِيٌّ يَأْخُذُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلَا يَأْخُذُهُ بَعْدَهَا ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْمِثْلِ غَيْرُ مُفِيدٍ ، وَكَذَا إذَا كَانَ مَوْهُوبًا لَا يَأْخُذُهُ لِمَا بَيَّنَّا .
وَكَذَا إذَا كَانَ مُشْتَرًى بِمِثْلِهِ قَدْرًا وَوَصْفًا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ مِلْكٌ خَاصٌّ فَلَا يُزَالُ إلَّا بِالْقِيمَةِ ) قِيلَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مَجَّانًا فَلَا يَتَضَرَّرُ بِالْأَخْذِ مِنْهُ مَجَّانًا ، بِخِلَافِ مَا ثَبَتَ لِأَحَدِ الْغُزَاةِ بِالْقِسْمَةِ لِأَنَّ هَذَا الْحَقَّ إنَّمَا تَعَيَّنَ لَهُ بِإِزَاءِ مَا انْقَطَعَ مِنْ حَقِّهِ عَمَّا فِي أَيْدِي الْبَاقِينَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمِلْكَ هَاهُنَا أَيْضًا ثَبَتَ بِالْعِوَضِ مَعْنًى لِمَا أَنَّ الْمُكَافَأَةَ مَقْصُودَةٌ فِي الْهِبَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوطَةً فَجُعِلَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فِي إثْبَاتِ حَقِّهِ فِي الْقِيمَةِ وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَ مَغْنُومًا ) يَعْنِي لَوْ كَانَ مَا أَخَذَهُ الْكُفَّارُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَغْنُومًا : أَيْ مَأْخُوذًا بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ ( وَهُوَ مِثْلِيٌّ ) كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ ( يَأْخُذُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ) وَلَا يَأْخُذُهُ بَعْدَهَا ( لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْمِثْلِ غَيْرُ مُفِيدٍ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَوْهُوبًا لَا يَأْخُذُهُ لِمَا بَيَّنَّاهُ ) أَنَّ الْأَخْذَ بِالْمِثْلِ غَيْرُ مُفِيدٍ ( وَكَذَا إذَا كَانَ مُشْتَرًى بِمِثْلِهِ قَدْرًا وَوَصْفًا ) يَعْنِي إذَا كَانَ مَا أَخَذَهُ الْكُفَّارُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِثْلِيًّا فَاشْتَرَاهُ مِنْ مُسْلِمٍ بِمِثْلِهِ قَدْرًا وَوَصْفًا ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهُ الْقَدِيمُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ قَدْرًا وَوَصْفًا احْتِرَازًا عَمَّا لَوْ اشْتَرَاهُ الْمُسْلِمُ بِأَقَلَّ قَدْرًا مِنْهُ أَوْ بِجِنْسٍ آخَرَ أَوْ بِجِنْسِهِ وَلَكِنَّهُ أَرْدَأُ مِنْهُ وَصْفًا فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِمِثْلِ مَا أَعْطَاهُ الْمُشْتَرِي وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ رِبًا لِأَنَّهُ إنَّمَا فَدَى لِيَسْتَخْلِصَ مِلْكَهُ وَيُعِيدَهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ لَا أَنَّهُ يَشْتَرِيهِ ابْتِدَاءً .
قَالَ : ( فَإِنْ أَسَرُوا عَبْدًا فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ وَأَخَذَ أَرْشَهَا فَإِنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي أُخِذَ بِهِ مِنْ الْعَدُوِّ ) أَمَّا الْأَخْذُ بِالثَّمَنِ فَلِمَا قُلْنَا ( وَلَا يَأْخُذُ الْأَرْشَ ) ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ صَحِيحٌ ، فَلَوْ أَخَذَهُ أَخَذَهُ بِمِثْلِهِ وَهُوَ لَا يُفِيدُ وَلَا يُحَطُّ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ، بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَمَّا تَحَوَّلَتْ إلَى الشَّفِيعِ صَارَ الْمُشْتَرَى فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا ، وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ فِيهِ كَمَا فِي الْغَصْبِ ، أَمَّا هَاهُنَا الْمِلْكُ صَحِيحٌ فَافْتَرَقَا .
قَالَ ( فَإِنْ أَسَرُوا عَبْدًا ) إذَا أَخَذَ الْكُفَّارُ عَبْدًا وَدَخَلُوا بِهِ دَارَ الْحَرْبِ ( فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ وَأُخِذَ أَرْشُهَا فَإِنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي أُخِذَ بِهِ مِنْ الْعَدُوِّ ، أَمَّا الْأَخْذُ بِالثَّمَنِ فَلِمَا قُلْنَا ) إنَّ الْمُشْتَرِيَ يَتَضَرَّرُ بِالْأَخْذِ مَجَّانًا ( وَلَا يَأْخُذُ الْأَرْشَ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي صَحِيحٍ ) فَكَانَ الْأَرْشُ حَاصِلًا فِي مِلْكِهِ وَلَيْسَ فِيهِ الْإِعَادَةُ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ حَتَّى يَكُونَ الْمَوْلَى أَحَقَّ بِهِ كَالرَّقَبَةِ ، وَمَعَ هَذَا لَوْ أَخَذَهُ فَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ بِمِثْلِهِ لِأَنَّ الْأَرْشَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ وَهُوَ لَا يُفِيدُ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ صَحِيحٌ ) احْتِرَازٌ عَنْ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا ، فَإِنَّ الْأَوْصَافَ هُنَاكَ مَضْمُونَةٌ ( وَلَا يَحُطُّ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ) .
وَاسْتَشْكَلَ هَذَا التَّعْلِيلُ هَاهُنَا لِأَنَّ الْأَوْصَافَ إنَّمَا لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ إذَا لَمْ يَصِرْ التَّنَاوُلُ مَقْصُودًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ وَأَخَذَ الْأَرْشَ ثُمَّ قَصَدَ بَيْعَهُ مُرَابَحَةً فَإِنَّهُ يُحَطُّ مِنْ الثَّمَنِ مَا يَخُصُّ الْعَيْنَ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالتَّنَاوُلِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا اعْوَرَّتْ .
وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ إنَّمَا يُحَطُّ فِي الْمُرَابَحَةِ لِلشُّبْهَةِ لِأَنَّهُ صَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ بِأَلْفٍ ثُمَّ بَاعَ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْآخَرِ مُرَابَحَةً لِمَا أَنَّ الشُّبْهَةَ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِي بَابِ الْمُرَابَحَةِ تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ الْخِيَانَةِ ، وَلَا كَذَلِكَ هَاهُنَا لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِلشُّبْهَةِ فِيهِ ، بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ فَإِنَّ الْأَوْصَافَ يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فِيهَا ، حَتَّى لَوْ اسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي شَيْئًا مِنْ الدَّارِ سَقَطَ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي الَّذِي وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ
فِيهِ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاجِبُ الرَّدِّ ، وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ فِي الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا كَمَا فِي الْغَصْبِ ، فَإِنَّ مَنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَذَهَبَتْ إحْدَى عَيْنَيْهَا ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : شِرَاءُ التَّاجِرِ هَاهُنَا بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا فِي الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ وُجُوبُ الرَّدِّ .
أُجِيبَ بِأَنَّ إلْحَاقَ مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ بِالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ الرَّدِّ إلَى الشَّفِيعِ ، وَمِنْ حَيْثُ وُجُوبُ عَرْضِ الْبَائِعِ الدَّارَ عَلَى الْجَارِ أَوَّلًا ، ثُمَّ الْبَيْعُ إنْ رَغِبَ عَنْهُ الْجَارُ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ صَارَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا فَصَارَ كَتَمَكُّنِ الْفَسَادِ فِي الْعَقْدِ ، وَلَا كَذَلِكَ بَيْعُ الْكَافِرِ مِنْ التَّاجِرِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَرْضُ عَلَى الْمَالِكِ .
قِيلَ فِي مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ أَيْضًا إذَا كَانَ هَلَاكُ بَعْضِ الْمُشْتَرِي بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَا يُقَابِلُ الْأَوْصَافَ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَلَمْ تَكُنْ مُخَالِفَةً لِمَسْأَلَةِ التَّاجِرِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ فِي صُورَةِ الْعَمْدِ ، فَإِنَّ التَّاجِرَ إذَا فَقَأَ عَيْنَ الْجَارِيَةِ لَا يَلْزَمُهُ حَطُّ شَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الْأَشْجَارِ فِي الشُّفْعَةِ فَإِنَّهُ يَحُطُّ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ .
( وَإِنْ أَسَرُوا عَبْدًا فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَسَرُوهُ ثَانِيًا وَأَدْخَلُوهُ دَارَ الْحَرْبِ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ آخَرُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ لِلْمَوْلَى الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الثَّانِي بِالثَّمَنِ ) ؛ لِأَنَّ الْأَسْرَ مَا وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ ( وَلِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الثَّانِي بِالثَّمَنِ ) ؛ لِأَنَّ الْأَسْرَ وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ ( ثُمَّ يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِأَلْفَيْنِ إنْ شَاءَ ) ؛ لِأَنَّهُ قَامَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنَيْنِ فَيَأْخُذُهُ بِهِمَا ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ الثَّانِي غَائِبًا لَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ اعْتِبَارًا بِحَالِ حَضْرَتِهِ ( وَلَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا أَهْلُ الْحَرْبِ بِالْغَلَبَةِ مُدَبَّرِينَا وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِنَا وَمُكَاتَبِينَا وَأَحْرَارَنَا وَنَمْلِكُ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا يُفِيدُ الْمِلْكَ فِي مَحَلِّهِ ، وَالْمَحَلُّ الْمَالُ الْمُبَاحُ ، وَالْحُرُّ مَعْصُومٌ بِنَفْسِهِ ، وَكَذَا مَنْ سِوَاهُ ؛ لِأَنَّهُ تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ ، بِخِلَافِ رِقَابِهِمْ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ عِصْمَتَهُمْ جَزَاءً عَلَى جِنَايَتِهِمْ وَجَعَلَهُمْ أَرِقَّاءَ وَلَا جِنَايَةَ مِنْ هَؤُلَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ أَسَرُوا عَبْدًا ) صُورَتُهُ ظَاهِرَةٌ .
وَاعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِهِ وَلِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الثَّانِي بِالثَّمَنِ بِأَنَّا لَوْ أَثْبَتْنَا حَقَّ الْأَخْذِ لِلَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ الْعَدُوِّ أَوَّلًا تَضَرَّرَ الْمَالِكُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنَيْنِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ رِعَايَةَ حَقِّ مَنْ اشْتَرَاهُ مِنْ الْعَدُوِّ أَوَّلًا أَوْلَى ، لِأَنَّ حَقَّهُ يَعُودُ فِي الْأَلْفِ الَّتِي نَقَدَهَا بِلَا عِوَضٍ يُقَابِلُهَا ، وَالْمَالِكُ الْقَدِيمُ يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ وَلَكِنْ بِعِوَضٍ يُقَابِلُهُ وَهُوَ الْعَبْدُ ، فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا مَنْ سِوَاهُ ) أَيْ مَنْ سِوَى الْحُرِّ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ رِقَابِهِمْ ) أَيْ رِقَابِ أَحْرَارِ الْكُفَّارِ وَمُدَبَّرِيهِمْ وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِمْ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا جِنَايَةَ مِنْ هَؤُلَاءِ ) أَيْ مِنْ مُدَبَّرِينَا وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِنَا وَمُكَاتَبِينَا وَأَحْرَارِنَا فَلَا يَمْلِكُهُمْ الْكُفَّارُ وَإِنْ اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِمْ ، وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهُمْ الْكُفَّارُ لَمْ يَمْلِكْهُمْ الْغُزَاةُ أَيْضًا ، حَتَّى لَوْ كَانَ أَخَذَهُمْ أَهْلُ دَارِ الْحَرْبِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُمْ لِمُلَّاكِهِمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ .
( وَإِذَا أَبَقَ عَبْدٌ لِمُسْلِمٍ فَدَخَلَ إلَيْهِمْ فَأَخَذُوهُ لَمْ يَمْلِكُوهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا يَمْلِكُونَهُ ) ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ لِحَقِّ الْمَالِكِ لِقِيَامِ يَدِهِ وَقَدْ زَالَتْ ، وَلِهَذَا لَوْ أَخَذُوهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مَلَكُوهُ .
وَلَهُ أَنَّهُ ظَهَرَتْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْخُرُوجِ مِنْ دَارِنَا ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِهِ لِتَحَقُّقِ يَدِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ تَمْكِينًا لَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَقَدْ زَالَتْ يَدُ الْمَوْلَى فَظَهَرَتْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَصَارَ مَعْصُومًا بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَبْقَ مَحِلًّا لِلْمِلْكِ ، بِخِلَافِ الْمُتَرَدِّدِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ لِقِيَامِ يَدِ أَهْلِ الدَّارِ فَمَنَعَ ظُهُورَ يَدِهِ .
وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِغَيْرِ شَيْءٍ مَوْهُوبًا كَانَ أَوْ مُشْتَرًى أَوْ مَغْنُومًا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ يُؤَدَّى عِوَضُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إعَادَةُ الْقِسْمَةِ لِتَفَرُّقِ الْغَانِمِينَ وَتَعَذُّرِ اجْتِمَاعِهِمْ وَلَيْسَ لَهُ عَلَى الْمَالِكِ جُعْلُ الْآبِقِ ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ إذْ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ مِلْكُهُ .
قَالَ ( وَإِذَا أَبَقَ عَبْدٌ لِمُسْلِمٍ فَدَخَلَ إلَيْهِمْ ) إذَا أَبَقَ عَبْدٌ لِمُسْلِمٍ قَالُوا : قَيْدُ " لِمُسْلِمٍ " اتِّفَاقِيٌّ لِأَنَّ عَبْدَ الذِّمِّيِّ كَذَلِكَ ( فَدَخَلَ إلَيْهِمْ فَأَخَذُوهُ لَمْ يَمْلِكُوهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَا : يَمْلِكُونَهُ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ لِحَقِّ الْمَالِكِ ) وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِهِ ) أَيْ اعْتِبَارِ يَدِ الْعَبْدِ ( لِتَحَقُّقِ يَدِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ تَمْكِينًا لَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَقَدْ زَالَتْ يَدُ الْمَوْلَى فَظَهَرَتْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ ) لِأَنَّهُ حِينَ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَقَدْ زَالَتْ يَدُ الْمَوْلَى عَنْهُ لَا إلَى مَنْ يَخْلُفُهُ ، لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَلِّ كَيْفَ شَاءَ ، وَلَمْ يَبْقَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَيَصِيرُ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَهِيَ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ تَمْنَعُ الْإِحْرَازَ فَتَمْنَعُ الْمِلْكَ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ بِدُونِ الْإِحْرَازِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا زَالَتْ لَا إلَى مَنْ يَخْلُفُهُ فَإِنَّ يَدَ الْكَفَرَةِ قَدْ خَلَفَتْ يَدَ الْمَوْلَى لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ فِي أَيْدِيهِمْ .
أُجِيبَ بِأَنَّ بَيْنَ الدَّارَيْنِ حَدًّا لَا يَكُونُ فِي يَدِ أَحَدٍ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَظْهَرُ يَدُ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ يَدَ الدَّارِ يَدٌ حُكْمِيَّةٌ وَيَدَ الْعَبْدِ يَدٌ حَقِيقِيَّةٌ فَلَا تَنْدَفِعُ بِيَدِ الدَّارِ ، إلَيْهِ أَشَارَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ حُصُولَ الْيَدِ الْحَقِيقِيَّةِ لِلْعَبْدِ فِي حَيِّزِ النِّزَاعِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْيَدَ كَمَا ذَكَرْنَا عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَلِّ كَيْفَ شَاءَ ، وَعِنْدَ دُخُولِ الْعَبْدِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ اسْتِيلَاءِ الْكَفَرَةِ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ حَصَلَ لَهُ يَدٌ حَقِيقِيَّةٌ لَعَتَقَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
أُجِيبَ بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ لِأَنَّ ظُهُورَ يَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ زَوَالَ مِلْكِ الْمَوْلَى ، فَإِنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ صَارَ غَاصِبًا مِلْكَ الْمَوْلَى ، وَجَازَ
أَنْ تُوجَدَ الْيَدُ بِلَا مِلْكٍ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمُشْتَرَى قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّ الْمِلْكَ لِلْمَوْلَى وَالْيَدَ لِغَيْرِهِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْمُتَرَدِّدِ ) يَعْنِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ حُكْمًا لِقِيَامِ يَدِ أَهْلِ الدَّارِ فَمَنَعَ ظُهُورَ يَدِهِ ، وَلِهَذَا لَوْ وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ كَانَ قَابِضًا لَهُ .
فَبَقَاءُ الْيَدِ حُكْمًا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْيَدِ لَهُ ، فَإِنْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مَلَكُوهُ ( وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِغَيْرِ شَيْءٍ إذَا كَانَ مَوْهُوبًا أَوْ مُشْتَرًى ) أَمَّا إذَا كَانَ مَوْهُوبًا فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَا يَتَضَرَّرُ بِالْأَخْذِ مِنْهُ ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ تَمَلَّكَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا ، حَتَّى لَوْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ رَجَعَ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ ، وَإِنْ كَانَ مَغْنُومًا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَهَا فَيُؤَدِّي عِوَضَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ نَصِيبَهُ قَدْ اُسْتُحِقَّ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى شُرَكَائِهِ فِي الْغَنِيمَةِ وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ لِتَفَرُّقِهِمْ وَتَعَذُّرِ اجْتِمَاعِهِمْ فَيُعَوَّضُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ نَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ لَهُ ) أَيْ لِلْغَازِي أَوْ لِلتَّاجِرِ ( جَعْلُ الْآبِقِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ إذْ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ مِلْكُهُ ) وَالْجُعْلُ إنَّمَا يَجِبُ إذَا أَخَذَهُ الْآخِذُ عَلَى قَصْدِ الرَّدِّ إلَى مَالِكِهِ .
( وَإِنْ نَدَّ بَعِيرٌ إلَيْهِمْ فَأَخَذُوهُ مَلَكُوهُ ) لِتَحَقُّقِ الِاسْتِيلَاءِ إذْ لَا يَدَ لِلْعَجْمَاءِ لِتَظْهَرَ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ دَارِنَا ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
( وَإِنْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ فَصَاحِبُهُ يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ ) لِمَا بَيَّنَّاقَوْلُهُ ( وَإِنْ نَدَّ إلَيْهِمْ بَعِيرٌ ) ظَاهِرٌ
( فَإِنْ أَبَقَ عَبْدٌ إلَيْهِمْ وَذَهَبَ مَعَهُ بِفَرَسٍ وَمَتَاعٍ فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَاشْتَرَى رَجُلٌ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُ الْعَبْدَ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَالْفَرَسَ وَالْمَتَاعَ بِالثَّمَنِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَأْخُذُ الْعَبْدَ وَمَا مَعَهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ ) اعْتِبَارًا لِحَالَةِ الِاجْتِمَاعِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْحُكْمَ فِي كُلِّ فَرْدٍوَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ( فَإِنْ أَبَقَ عَبْدٌ إلَيْهِمْ وَذَهَبَ مَعَهُ بِفَرَسٍ وَمَتَاعٍ ) .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ الْمَالِكُ الْمَتَاعَ أَيْضًا بِغَيْرِ شَيْءٍ ، لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتْ يَدُ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ ظَهَرَتْ عَلَى الْمَالِ أَيْضًا لِانْقِطَاعِ يَدِ الْمَوْلَى عَنْ الْمَالِ لِأَنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَيَدُ الْعَبْدِ أَسْبَقُ مِنْ يَدِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ فَلَا يَصِيرُ مِلْكًا لَهُمْ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ ظَهَرَتْ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ الْمُنَافِي وَهُوَ الرِّقُّ فَكَانَتْ ظَاهِرَةً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَجَعَلْنَاهَا ظَاهِرَةً فِي حَقِّ نَفْسِهِ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ فِي حَقِّ الْمَالِ .
( وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَاشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يُعْتَقُ ) ؛ لِأَنَّ الْإِزَالَةَ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً بِطَرِيقٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ الْبَيْعُ وَقَدْ انْقَطَعَتْ وِلَايَةُ الْجَبْرِ عَلَيْهِ فَبَقِيَ فِي يَدِهِ عَبْدًا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ عَنْ ذُلِّ الْكَافِرِ وَاجِبٌ ، فَيُقَامُ الشَّرْطُ وَهُوَ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ مَقَامَ الْعِلَّةِ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ تَخْلِيصًا لَهُ ، كَمَا يُقَامُ مُضِيُّ ثَلَاثِ حِيَضٍ مَقَامَ التَّفْرِيقِ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَاشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا ) أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْعَبِيدِ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَالذِّمِّيِّ يُسْلِمُ عَبْدُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : الذِّمِّيُّ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَجَازَ إجْبَارُهُ عَلَى بَيْعِ عَبْدِهِ الَّذِي أَسْلَمَ وَالْحَرْبِيُّ لَيْسَ كَذَلِكَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَمَانَ يُنَافِي إبْقَاءَهُمْ فِي مِلْكِهِ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِذْلَالًا لِلْمُسْلِمِ وَإِعْطَاءُ الْأَمَانِ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ فَكَانَ الْأَمَانُ مُلْتَزِمًا تَرْكَ إذْلَالِ الْمُسْلِمِينَ فَيَلْزَمُهُ .
وَوَجْهُهُمَا ظَاهِرٌ .
وَوَجْهُ أَبِي حَنِيفَةَ ( أَنَّ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ عَنْ ذُلِّ الْكَافِرِ وَاجِبٌ ) عَلَى الْإِمَامِ ، فَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَبِالْجَبْرِ عَلَى الْبَيْعِ لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّ مَالَ الْمُسْتَأْمَنِ مَعْصُومٌ مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِمُقْتَضَى الْأَمَانِ ، فَإِذَا أَدْخَلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ زَالَتْ عِصْمَةُ مَالِهِ ، فَلَوْ كَانَ لِلْإِمَامِ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إجْبَارُهُ عَلَى الْعِتْقِ لِإِزَالَةِ عِصْمَةِ مَالِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ يُقِيمُ شَرْطَ زَوَالِ عِصْمَةِ الْمَالِ وَهُوَ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ مَقَامَ عِلَّةِ الْإِزَالَةِ وَهِيَ الْإِعْتَاقُ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ يُقَامُ مَقَامَ الْعِلَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهَا كَحَفْرِ الْبِئْرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ .
فَإِنْ قِيلَ : إقَامَةُ الشَّرْطِ هَاهُنَا مَقَامَ الْعِلَّةِ يَسْتَلْزِمُ جَعْلَ الْمُثْبِتِ لِلشَّيْءِ مُزِيلًا لَهُ وَهُوَ بَاطِلٌ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إذَا اسْتَوْلَوْا عَلَى عَبْدٍ مُسْلِمٍ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ مَلَكُوهُ ، فَكَانَ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ عِلَّةً لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهِ وَهَاهُنَا جَعَلْتُمُوهُ مُزِيلًا لَهُ ، وَفِيهِ أَيْضًا نَقْضٌ لِقَاعِدَةٍ مُطَّرِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ فَإِنَّ هَذَا يُفِيدُ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ دُونَ بَقَائِهِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ مُثْبِتٌ لِلْمِلْكِ إذَا
لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا ، وَالْمِلْكُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ثَابِتٌ بِالشِّرَاءِ دُونَ التَّبَايُنِ فَجُعِلَ مُزِيلًا فِي مَحَلٍّ خَاصٍّ تَخْلِيصًا لِلْمُسْلِمِ عَنْ ذُلِّ الْكَافِرِ .
عَلَى أَنَّ مَا جَعَلْنَاهُ مُزِيلًا وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ قَائِمًا مَقَامَ الْمُزِيلِ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ فَلَمْ يَكُنْ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مُزِيلًا غَيْرَ مُزِيلٍ وَهُوَ الْمُمْتَنِعُ ، وَبَقَاءُ الشَّيْءِ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ إذَا لَمْ يَعْتَرِ الْبَقَاءَ مَا يُزِيلُ سُهُولَتَهُ وَهَاهُنَا بَقَاءُ الْمُسْلِمِ فِي يَدِ الْكَافِرِ صَعْبٌ يُزِيلُ سُهُولَتَهُ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا يُقَامُ مُضِيُّ ثَلَاثِ حِيَضٍ ) تَمْثِيلٌ لِلْمَسْأَلَةِ فِي قِيَامِ الشَّرْطِ مَقَامَ الْعِلَّةِ ، فَإِنَّ انْقِضَاءَ ثَلَاثِ حِيَضٍ شَرْطُ الْبَيْنُونَةِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ أُقِيمَ مَقَامَ عِلَّةِ الْبَيْنُونَةِ وَهِيَ عَرْضُ الْقَاضِي الْإِسْلَامَ وَتَفْرِيقُهُ بَعْدَ الْإِبَاءِ لِعَجْزِ الْقَاضِي عَنْ حَقِيقَةِ الْعِلَّةِ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بِدَارِ الْحَرْبِ .
( وَإِذَا أَسْلَمَ عَبْدٌ لِحَرْبِيٍّ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا أَوْ ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَهُوَ حُرٌّ ، وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ عَبِيدُهُمْ إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ أَحْرَارٌ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ عَبِيدًا مِنْ عَبِيدِ الطَّائِفِ أَسْلَمُوا وَخَرَجُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى بِعِتْقِهِمْ وَقَالَ : هُمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ } وَلِأَنَّهُ أَحْرَزَ نَفْسَهُ بِالْخُرُوجِ إلَيْنَا مُرَاغِمًا لِمَوْلَاهُ أَوْ بِالِالْتِحَاقِ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، إذَا ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ ، وَاعْتِبَارُ يَدِهِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ يَدِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهَا أَسْبَقُ ثُبُوتًا عَلَى نَفْسِهِ ، فَالْحَاجَةُ فِي حَقِّهِ إلَى زِيَادَةِ تَوْكِيدٍ وَفِي حَقِّهِمْ إلَى إثْبَاتِ الْيَدِ ابْتِدَاءً فَلِهَذَا كَانَ أَوْلَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .( قَوْلُهُ وَإِذَا أَسْلَمَ عَبْدٌ لِحَرْبِيٍّ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ ( أَنَّ عَبِيدًا مِنْ عَبِيدِ الطَّائِفِ أَسْلَمُوا ) رُوِيَ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَاصَرَ الطَّائِفَ قَالَ : أَيُّمَا عَبْدٍ خَرَجَ إلَيْنَا فَهُوَ حُرٌّ فَخَرَجَ سِتَّةُ أَعْبُدٍ أَوْ سَبْعَةٌ مِنْهَا ، فَلَمَّا فُتِحَتْ جَاءَ مَوَالِيهِمْ وَتَكَلَّمُوا فِيهِمْ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ } " .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ أَحْرَزَ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ بِالِالْتِحَاقِ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ أَوْ ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ .
وَقِيلَ بِقَوْلِهِ مُرَاغِمًا : أَيْ مُغَاضِبًا وَمُنَابِذًا لِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ طَائِعًا لِمَوْلَاهُ يُبَاعُ فِيهِ وَثَمَنُهُ لِلْحَرْبِيِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَلَى سَبِيلِ التَّغَلُّبِ فَصَارَ كَمَالِ الْحَرْبِيِّ الَّذِي دَخَلَ بِهِ مُسْتَأْمَنًا إلَى دَارِنَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( بَابُ الْمُسْتَأْمَنِ ) : ( وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرًا فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلَا مِنْ دِمَائِهِمْ ) ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لَهُمْ بِالِاسْتِئْمَانِ ، فَالتَّعَرُّضُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ غَدْرًا وَالْغَدْرُ حَرَامٌ ، إلَّا إذَا غَدَرَ بِهِمْ مَلِكُهُمْ فَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ أَوْ حَبَسَهُمْ أَوْ فَعَلَ غَيْرُهُ بِعِلْمِ الْمَلِكِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ ؛ لِأَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ بِخِلَافِ الْأَسِيرِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَأْمَنٍ فَيُبَاحُ لَهُ التَّعَرُّضُ ، وَإِنْ أَطْلَقُوهُ طَوْعًا ( فَإِنْ غَدَرَ بِهِمْ ) أَعْنِي التَّاجِرُ ( فَأَخَذَ شَيْئًا وَخَرَجَ بِهِ ) ( مَلَكَهُ مِلْكًا مَحْظُورًا ) لِوُرُودِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ ، إلَّا أَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِ الْغَدْرِ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ خُبْثًا فِيهِ ( فَيُؤْمَرُ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ ) وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْحَظْرَ لِغَيْرِهِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ السَّبَبِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ .
بَابُ الْمُسْتَأْمَنِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الِاسْتِيلَاءِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الِاقْتِدَارِ عَلَى الْمَحَلِّ قَهْرًا وَغَلَبَةً شَرَعَ فِي بَيَانِ الِاسْتِئْمَانِ ، لِأَنَّ طَلَبَ الْأَمَانِ إنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ يَكُونُ فِيهِ قَهْرٌ وَغَلَبَةٌ ، وَقَدَّمَ اسْتِئْمَانَ الْمُسْلِمِ تَعْظِيمًا لَهُ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ ( قَوْلُهُ وَالْغَدْرُ حَرَامٌ ) دَلِيلُهُ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِ السَّرَايَا وَلَا تَغْدِرُوا } " .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْأَسِيرِ ) يَعْنِي أَنَّ الْغَدْرَ لَيْسَ بِحَرَامٍ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الْأُسَرَاءَ إذَا تَمَكَّنُوا مِنْ قَتْلِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ غِيلَةً وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَفَعَلُوا ذَلِكَ وَخَرَجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ فَكُلُّ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً ( فَيُبَاحُ لَهُمْ التَّعَرُّضُ وَإِنْ أَطْلَقُوهُمْ طَوْعًا ) لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْمِنْ صَرِيحًا حَتَّى يَكُونَ غَادِرًا بِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ ( قَوْلُهُ مَلَكَهُ مِلْكًا مَحْظُورًا ) أَيْ خَبِيثًا ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ جَارِيَةً كُرِهَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَطَأَهَا لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْبَائِعِ ، وَوَطْؤُهَا لِلْبَائِعِ كَانَ مَكْرُوهًا فَكَذَا الْمُشْتَرِي ( قَوْلُهُ وَهَذَا ) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ مَلَكَهُ مِلْكًا مَحْظُورًا : يَعْنِي أَنَّ مَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ وَالْحَظْرُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ الْأَمَانُ فَلَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ سَبَبِ الْمِلْكِ وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) يَعْنِي فِي أَوَائِلِ بَابِ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ وَالْمَحْظُورُ لِغَيْرِهِ إذَا صَلُحَ سَبَبًا لِكَرَامَةٍ تَفُوقُ الْمِلْكَ إلَخْ .
( وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَأَدَانَهُ حَرْبِيٌّ أَوْ أَدَانَ هُوَ حَرْبِيًّا أَوْ غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا وَاسْتَأْمَنَ الْحَرْبِيُّ لَمْ يُقْضَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ ) أَمَّا الْإِدَانَةُ فَلِأَنَّ الْقَضَاءَ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ وَلَا وِلَايَةَ وَقْتَ الْإِدَانَةِ أَصْلًا وَلَا وَقْتَ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِيمَا مَضَى مِنْ أَفْعَالِهِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ .
وَأَمَّا الْغَصْبُ فَلِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلَّذِي غَصَبَهُ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ لِمُصَادَفَتِهِ مَالًا غَيْرَ مَعْصُومٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَا حَرْبِيَّيْنِ فَعَلَا ذَلِكَ ثُمَّ خَرَجَا مُسْتَأْمَنَيْنِ لِمَا قُلْنَا ( وَلَوْ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ قُضِيَ بِالدَّيْنِ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُقْضَ بِالْغَصْبِ ) أَمَّا الْمُدَايَنَةُ فَلِأَنَّهَا وَقَعَتْ صَحِيحَةً لِوُقُوعِهَا بِالتَّرَاضِي ، وَالْوِلَايَةُ ثَابِتَةٌ حَالَةَ الْقَضَاءِ لِالْتِزَامِهِمَا الْأَحْكَامَ بِالْإِسْلَامِ .
وَأَمَّا الْغَصْبُ فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مِلْكُهُ وَلَا خُبْثَ فِي مِلْكِ الْحَرْبِيِّ حَتَّى يُؤْمَرَ بِالرَّدِّ .
( وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَأَدَانَهُ حَرْبِيٌّ ) أَيْ بَاعَ بِالدَّيْنِ فَإِنَّ الْإِدَانَةَ الْبَيْعُ بِالدَّيْنِ وَالِاسْتِدَانَةُ الِابْتِيَاعُ بِالدَّيْنِ قَوْلُهُ وَلَا وِلَايَةَ وَقْتَ الْإِدَانَةِ أَصْلًا ) أَيْ لَا عَلَى الْمُسْلِمِ وَلَا عَلَى الْحَرْبِيِّ ( وَلَا وَقْتَ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ ) وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَإِذَا لَمْ يَقْضِ عَلَى الْحَرْبِيِّ لَمْ يَقْضِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَيْضًا تَحْقِيقًا لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا .
وَقَوْلُهُ ( وَأَمَّا الْغَصْبُ فَلِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلَّذِي غَصَبَهُ ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ الْغَاصِبُ كَافِرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ مُسْلِمًا مُسْتَأْمَنًا فِيهَا لِأَنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ مُبَاحًا وَقْتَ الْغَصْبِ فِي حَقِّهِ فَمَلَكَهُ بِالْغَصْبِ ، إلَّا أَنَّ الْغَاصِبَ إنْ كَانَ هُوَ الْمُسْلِمُ يُفْتَى بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْمَالِكِ وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ دَارَهُمْ بِأَمَانٍ الْتَزَمَ أَنْ لَا يَغْدِرَ بِهِمْ ، وَفِي أَخْذِ أَمْوَالِهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَدْرٌ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَأَمَّا غَصْبُ الْكَافِرِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِيلَاءِ بِقَوْلِهِ إنَّ الِاسْتِيلَاءَ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ ، وَأَمَّا غَصْبُ الْمُسْلِمِ فَقَدْ ذَكَرَهُ فِيمَا إذَا دَخَلَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ مُغِيرَيْنِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَأَخَذُوا شَيْئًا فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهُ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ إنَّ الْقَضَاءَ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ ) ظَاهِرٌ .
( وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَغَصَبَ حَرْبِيًّا ثُمَّ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ أُمِرَ بِرَدِّ الْغَصْبِ وَلَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ ) أَمَّا عَدَمُ الْقَضَاءِ فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَهُ ، وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالرَّدِّ وَمُرَادُهُ الْفَتْوَى بِهِ فَلِأَنَّهُ فَسَدَ الْمِلْكُ لِمَا يُقَارِنُهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ نَقْصُ الْعَهْدِوَقَوْلُهُ ( فَغَصَبَ حَرْبِيًّا ) أَيْ غَصَبَ شَيْئًا مِنْ حَرْبِيٍّ وَلَيْسَ هَذَا مُنْحَصِرًا فِي خُرُوجِهِمَا مُسْلِمَيْنِ ، بَلْ لَوْ خَرَجَ الْمُسْلِمُ الْغَاصِبُ وَالْحَرْبِيُّ مُسْتَأْمَنًا فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ .
( وَإِذَا دَخَلَ مُسْلِمَانِ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَعَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ ) أَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلِإِطْلَاقِ الْكِتَابِ ، وَأَمَّا الدِّيَةُ فَلِأَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا تَبْطُلُ بِعَارِضِ الدُّخُولِ بِالْأَمَانِ ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إلَّا بِمَنَعَةٍ ، وَلَا مَنَعَةَ دُونَ الْإِمَامِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي الْعَمْدِ ؛ لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ ؛ وَفِي الْخَطَإِ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الصِّيَانَةِ مَعَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ وَالْوُجُوبُ عَلَيْهِمْ عَلَى اعْتِبَارِ تَرْكِهَا .
وَقَوْلُهُ ( فَعَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ) يَعْنِي فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ ، هَكَذَا ذَكَرَهُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِي عَامَّةِ النُّسَخِ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ : وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ لِأَنَّهُ قَتَلَ شَخْصًا مَعْصُومًا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَيَجِبُ بِقَتْلِهِ مَا يَجِبُ بِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ تَكْثِيرَ سَوَادِهِمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِتَوَطُّنِهِ فِيهِمْ كَانَ يُسْقِطُ الْعِصْمَةَ ، فَتَكْثِيرُهُ مِنْ وَجْهٍ يُورِثُ الشُّبْهَةَ فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ .
وَقَوْلُهُ ( أَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلِإِطْلَاقِ الْكِتَابِ ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } ( وَأَمَّا الدِّيَةُ فَلِأَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا تَبْطُلُ بِعَارِضِ الدُّخُولِ بِالْأَمَانِ ) لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ كَانَ كَأَنَّهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ تَقْدِيرًا حَتَّى أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مِنْهُمْ لَمَّا كَانَ عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى لَا يُقْتَلَ الذِّمِّيُّ بِهِ ، وَكَانَ الْقِيَاسُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
( وَإِنْ كَانَا أَسِيرَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمٌ تَاجِرٌ أَسِيرًا ) فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ إلَّا الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : ( فِي الْأَسِيرَيْنِ الدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ وَالْعَمْدِ ) ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ لَا تَبْطُلُ بِعَارِضِ الْأَسْرِ كَمَا لَا تَبْطُلْ بِعَارِضِ الِاسْتِئْمَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَامْتِنَاعُ الْقِصَاصِ ؛ لِعَدَمِ الْمَنَعَةِ وَيَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِمَا قُلْنَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بِالْأَسْرِ صَارَ تَبَعًا لَهُمْ ؛ لِصَيْرُورَتِهِ مَقْهُورًا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَلِهَذَا يَصِيرُ مُقِيمًا بِإِقَامَتِهِمْ وَمُسَافِرًا بِسَفَرِهِمْ فَيَبْطُلُ بِهِ الْإِحْرَازُ أَصْلًا وَصَارَ كَالْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا ، وَخَصَّ الْخَطَأَ بِالْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي الْعَمْدِ عِنْدَنَا .وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا تَبْطُلُ بِعَارِضِ الدُّخُولِ بِالْأَمَانِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ بِالْأَسْرِ صَارَ تَبَعًا لَهُمْ ) يَعْنِي وَأَهْلُ الْحَرْبِ أُصُولٌ وَالْأُصُولُ غَيْرُ مَعْصُومِينَ فَكَذَلِكَ الْأَتْبَاعُ ( قَوْلُهُ وَلِهَذَا ) تَوْضِيحٌ لِلتَّبَعِيَّةِ .
وَقَوْلُهُ ( فَيَبْطُلُ بِهِ الْإِحْرَازُ أَصْلًا ) أَيْ يَبْطُلُ الْإِحْرَازُ بِالْعِصْمَةِ الْمُقَوَّمَةِ بِالْكُلِّيَّةِ ( وَصَارَ كَالْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا ) بِجَامِعِ تَبَعِيَّةِ أَهْلِ الدَّارِ بِالتَّوَطُّنِ فَلَمْ تَجِبْ الدِّيَةُ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى تِلْكَ الْعِصْمَةِ ، بِخِلَافِ الْكَفَّارَةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ بِالْعِصْمَةِ الْمُؤَثِّمَةِ وَهِيَ بِالْإِسْلَامِ .
فَصْلٌ : قَالَ : ( وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ إلَيْنَا مُسْتَأْمَنًا لَمْ يُمَكَّنْ أَنْ يُقِيمَ فِي دَارِنَا سَنَةً وَيَقُولُ لَهُ الْإِمَامُ : إنْ أَقَمْتَ تَمَامَ السَّنَةِ وَضَعْتُ عَلَيْك الْجِزْيَةُ ) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَا يُمَكَّنُ مِنْ إقَامَةٍ دَائِمَةٍ فِي دَارِنَا إلَّا بِالِاسْتِرْقَاقِ أَوْ الْجِزْيَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ عَيْنًا لَهُمْ وَعَوْنًا عَلَيْنَا فَتَلْتَحِقُ الْمَضَرَّةُ بِالْمُسْلِمِينَ ، وَيُمَكَّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ الْيَسِيرَةِ ؛ لِأَنَّ فِي مَنْعِهَا قَطْعَ الْمِيرَةِ وَالْجَلَبِ وَسَدَّ بَابِ التِّجَارَةِ ، فَفَصَلْنَا بَيْنَهُمَا بِسَنَةٍ ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ تَجِبُ فِيهَا الْجِزْيَةُ فَتَكُونُ الْإِقَامَةُ لِمَصْلَحَةِ الْجِزْيَةِ ، ثُمَّ إنْ رَجَعَ بَعْدَ مَقَالَةِ الْإِمَامِ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ إلَى وَطَنِهِ فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ ، وَإِذَا مَكَثَ سَنَةً فَهُوَ ذِمِّيٌّ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَامَ سَنَةً بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ إلَيْهِ صَارَ مُلْتَزِمًا الْجِزْيَةَ فَيَصِيرُ ذِمِّيًّا ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَقِّتَ فِي ذَلِكَ مَا دُونَ السَّنَةِ كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرَيْنِ ( وَإِذَا أَقَامَهَا بَعْدَ مَقَالَةِ الْإِمَامِ يَصِيرُ ذِمِّيًّا ) لِمَا قُلْنَا ( ثُمَّ لَا يُتْرَكُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ) ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ لَا يُنْقَضُ ، كَيْفَ وَأَنَّ فِيهِ قَطْعَ الْجِزْيَةِ وَجَعْلَ وَلَدِهِ حَرْبًا عَلَيْنَا وَفِيهِ مَضَرَّةٌ بِالْمُسْلِمِينَ .
( فَصْلٌ ) : فَصَلَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ عَمَّا قَبْلَهَا لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهَا ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ ، وَالْعَيْنُ : هُوَ الْجَاسُوسُ ، وَالْعَوْنُ : الظَّهِيرُ عَلَى الْأَمْرِ وَالْجَمْعُ الْأَعْوَانُ ، وَالْمِيرَةُ : الطَّعَامُ يَمْتَارُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَارَ يَمِيرُ ، وَالْجَلَبُ وَالْأَجْلَابُ الَّذِينَ يَجْلِبُونَ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ لِلْبَيْعِ .
وَقَوْلُهُ ( بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ ) يُقَالُ تَقَدَّمَ إلَيْهِ الْأَمِيرُ بِكَذَا أَوْ فِي كَذَا إذَا أَمَرَهُ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُوَقِّتَ فِي ذَلِكَ مَا دُونَ السَّنَةِ ) يَعْنِي أَنَّ تَقْدِيرَ الْحَوْلِ لَيْسَ بِلَازِمٍ ، بَلْ لَوْ قَدَّرَ الْإِمَامُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ جَازَ لَكِنْ إنْ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ مُدَّةً فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْحَوْلُ ( فَإِذَا أَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي دَارِنَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا ) قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ : فَإِذَا مَضَتْ سَنَةٌ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ كَانَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِمُجَاوَزَةِ الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ فَيُعْتَبَرُ الْحَوْلُ بَعْدَمَا صَارَ ذِمِّيًّا إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا جَاوَزَ السَّنَةَ يَأْخُذُ الْخَرَاجَ فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ مِنْهُ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَامَ سَنَةً بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ صَارَ مُلْتَزِمًا لِلْجِزْيَةِ .
( فَإِنْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَاشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ فَإِذَا وُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ فَهُوَ ذِمِّيٌّ ) ؛ لِأَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ خَرَاجِ الرَّأْسِ ، فَإِذَا الْتَزَمَهُ صَارَ مُلْتَزِمًا الْمَقَامَ فِي دَارِنَا ، أَمَّا بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَشْتَرِيهَا لِلتِّجَارَةِ ، وَإِذَا لَزِمَهُ خَرَاجُ الْأَرْضِ فَبَعْدَ ذَلِكَ تَلْزَمُهُ الْجِزْيَةُ لِسَنَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِلُزُومِ الْخَرَاجِ فَتُعْتَبَرُ الْمُدَّةُ مِنْ وَقْتِ وُجُوبِهِ .
وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ فَإِذَا وُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ فَهُوَ ذِمِّيٌّ تَصْرِيحٌ بِشَرْطِ الْوَضْعِ فَيَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ جَمَّةٌ فَلَا تَغْفُلْ عَنْهُ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِذَا وُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ فَهُوَ ذِمِّيٌّ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَكَذَلِكَ لَوْ لَزِمَهُ عَشْرٌ فِي قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ بِأَنْ اشْتَرَى أَرْضًا عُشْرِيَّةً لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِنْ مُؤَنِ الْأَرْضِ ( لِأَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ خَرَاجِ الرَّأْسِ ) إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَحْكَامِ دَارِنَا ، فَلَمَّا رَضِيَ بِوُجُوبِ الْخَرَاجِ عَلَيْهِ رَضِيَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا ، وَقَوْلُهُ ( فَتُعْتَبَرُ الْمُدَّةُ مِنْ وَقْتِ وُجُوبِهِ ) أَيْ وُجُوبِ الْخَرَاجِ ( وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ ) أَيْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( فَإِذَا وُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ فَهُوَ ذِمِّيٌّ تَصْرِيحٌ مِنْ مُحَمَّدٍ بِشَرْطِ الْوَضْعِ ) أَيْ بِأَنَّ وَضْعَ الْخَرَاجِ عَلَيْهِ شَرْطٌ فِي جَعْلِهِ ذِمِّيًّا ، وَالْمُرَادُ مِنْ وَضْعِ الْخَرَاجِ الْتِزَامُ خَرَاجِ أَرْضٍ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ وَهُوَ الزِّرَاعَةُ أَوْ تَعْطِيلُهَا عَنْهَا مَعَ التَّمَكُّنِ ، وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ .
وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ : يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِنَفْسِ الشِّرَاءِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ وَحَكَمَ الشَّرْعُ فِيهَا بِوُجُوبِ الْخَرَاجِ صَارَ مُلْتَزِمًا حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ ، كَذَا ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَشْتَرِيهَا لِلتِّجَارَةِ .
وَقَوْلُهُ ( فَيَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى أَنَّ الْوَضْعَ شَرْطٌ ( أَحْكَامٌ جَمَّةٌ فَلَا تَغْفُلْ عَنْهُ ) أَيْ عَنْ شَرْطِ الْوَضْعِ وَهِيَ الْمَنْعُ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَجَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي إتْلَافِ خَمْرِهِ وَخِنْزِيرِهِ وَوُجُوبِ الدِّيَةِ بِقَتْلِهِ خَطَأً ، وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ إنَّمَا تَثْبُتُ بَعْدَ كَوْنِهِ ذِمِّيًّا لَا قَبْلَهُ ، وَبِوَضْعِ الْخَرَاجِ يَصِيرُ ذِمِّيًّا فَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا يُغْفَلَ عَنْ شَرْطِ الْوَضْعِ .
( وَإِذَا دَخَلَتْ حَرْبِيَّةٌ بِأَمَانٍ فَتَزَوَّجَتْ ذِمِّيًّا صَارَتْ ذِمِّيَّةً ) ؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ الْمُقَامَ تَبَعًا لِلزَّوْجِ ( وَإِذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ بِأَمَانٍ فَتَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً لَمْ يَصِرْ ذِمِّيًّا ) ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَيَرْجِعُ إلَى بَلَدِهِ فَلَمْ يَكُنْ مُلْتَزِمًا الْمُقَامَ .وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا دَخَلَتْ حَرْبِيَّةٌ بِأَمَانٍ ) ظَاهِرٌ ، وَكَذَا عَكْسُهُ ،
( وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَتَرَكَ وَدِيعَةً عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِمْ فَقَدْ صَارَ دَمُهُ مُبَاحًا بِالْعَوْدِ ) ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ أَمَانَهُ ( وَمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ مَالِهِ عَلَى خَطَرٍ ، فَإِنْ أُسِرَ أَوْ ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَقُتِلَ سَقَطَتْ دُيُونُهُ وَصَارَتْ الْوَدِيعَةُ فَيْئًا ) أَمَّا الْوَدِيعَةُ فَلِأَنَّهَا فِي يَدِهِ تَقْدِيرًا ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِهِ فَيَصِيرُ فَيْئًا تَبَعًا لِنَفْسِهِ ، وَأَمَّا الدَّيْنُ فَلِأَنَّ إثْبَاتَ الْيَدِ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْمُطَالَبَةِ وَقَدْ سَقَطَتْ ، وَيَدُ مَنْ عَلَيْهِ أَسْبَقُ إلَيْهِ مِنْ يَدِ الْعَامَّةِ فَيَخْتَصُّ بِهِ فَيَسْقُطُ ( وَإِنْ قُتِلَ وَلَمْ يُظْهَرْ عَلَى الدَّارِ فَالْقَرْضُ الْوَدِيعَةُ لِوَرَثَتِهِ ) وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ لَمْ تَصِرْ مَغْنُومَةً فَكَذَلِكَ مَالُهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ بَاقٍ فِي مَالِهِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى وَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ .وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ( وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ ) خَلَا أَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ كَيَدِهِ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَهُ وَدِيعَةٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ فَإِنَّهَا تَكُونُ فَيْئًا فَلَمْ تَكُنْ يَدُ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ إذَا اتَّفَقَا عِصْمَةً وَقْتَ الْإِيدَاعِ ، وَفِي صُورَةِ النَّقْضِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَيْسَتْ دَارَ عِصْمَةٍ .
قَالَ : ( وَمَا أَوْجَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ قِتَالٍ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يُصْرَفُ الْخَرَاجُ ) قَالُوا : هُوَ مِثْلُ الْأَرَاضِي الَّتِي أَجْلَوْا أَهْلَهَا عَنْهَا وَالْجِزْيَةِ وَلَا خُمُسَ فِي ذَلِكَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِيهِمَا الْخُمُسُ اعْتِبَارًا بِالْغَنِيمَةِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ " أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ " وَكَذَا عُمَرُ وَمُعَاذٌ ، وَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَمْ يُخَمَّسْ وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَأْخُوذٌ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ ، بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِمُبَاشَرَةِ الْغَانِمِينَ وَبِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَحَقَّ الْخُمُسَ بِمَعْنًى وَاسْتَحَقَّهُ الْغَانِمُونَ بِمَعْنًى ، وَفِي هَذَا السَّبَبِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الْخُمُسِ .
قَالَ ( وَمَا أَوْجَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ ) يُقَالُ وَجَفَ الْفَرَسُ أَوْ الْبَعِيرُ غَدَا وَجِيفًا وَأَوْجَفَهُ صَاحِبُهُ إيجَافًا .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا أَوْجَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ ) أَيْ أَعْمَلُوا خَيْلَهُمْ وَرِكَابَهُمْ فِي تَحْصِيلِهِ .
وَالْجَلَاءُ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ الْخُرُوجُ عَنْ الْوَطَنِ أَوْ الْإِخْرَاجُ ، يُقَالُ جَلَا السُّلْطَانُ الْقَوْلَ عَلَى أَوْطَانِهِمْ وَأَجْلَاهُمْ فَجَلَوْا : أَيْ أَخْرَجَهُمْ فَخَرَجُوا ، كِلَاهُمَا يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى .
وَقَوْلُهُ ( وَالْجِزْيَةِ ) بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ الْأَرَاضِي أَيْ هُوَ مِثْلُ الْأَرَاضِي الَّتِي أَجْلَوْا عَنْهَا أَهْلَهَا وَمِثْلُ الْجِزْيَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِمَا ) أَيْ فِي الْأَرَاضِيِ الَّتِي أَجْلَوْا عَنْهَا أَهْلَهَا وَفِي الْجِزْيَةِ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : فِيهَا أَيْ فِي الْأَرَاضِي وَالْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ ) أَيْ وَلِأَنَّ مَا أَوْجَفَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمَالِ .
وَقَوْلُهُ ( مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ ) يَعْنِي بَلْ بِوُقُوعِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ مِنْ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ ( بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْغَنِيمَةَ بِتَأْوِيلِ الْمَغْنُومِ ( مَمْلُوكٌ ) بِسَبَبَيْنِ وَهُمَا مُبَاشَرَةُ الْغَانِمِينَ وَقُوَّةُ الْمُسْلِمِينَ ( فَاسْتَحَقَّ الْخُمُسَ بِمَعْنًى ) وَهُوَ الرُّعْبُ ( وَاسْتَحَقَّ الْغَانِمُونَ الْبَاقِيَ بِمَعْنًى ) وَهُوَ مُبَاشَرَةُ الْغَانِمِينَ الْقِتَالَ ( وَفِي هَذَا ) أَيْ فِيمَا أَوْجَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ ( السَّبَبُ وَاحِدٌ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ أَنَّهُ مَالٌ مَأْخُوذٌ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الْخُمُسِ
( وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَلَهُ امْرَأَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَوْلَادٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ وَمَالٌ أَوْدَعَ بَعْضَهُ ذِمِّيًّا وَبَعْضَهُ حَرْبِيًّا وَبَعْضَهُ مُسْلِمًا فَأَسْلَمَ هَاهُنَا ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَذَلِكَ كُلُّهُ فَيْءٌ ) أَمَّا الْمَرْأَةُ وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُمْ حَرْبِيُّونَ كِبَارٌ وَلَيْسُوا بِأَتْبَاعٍ ، وَكَذَلِكَ مَا فِي بَطْنِهَا لَوْ كَانَتْ حَامِلًا لِمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ .
وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَلِأَنَّ الصَّغِيرَ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِإِسْلَامِ أَبِيهِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ وَتَحْتَ وِلَايَتِهِ ، وَمَعَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ ، وَكَذَا أَمْوَالُهُ لَا تَصِيرُ مُحْرَزَةً بِإِحْرَازِهِ نَفْسَهُ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فَبَقِيَ الْكُلُّ فَيْئًا وَغَنِيمَةً ( وَإِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ جَاءَ فَظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَأَوْلَادُهُ الصِّغَارُ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ ) تَبَعًا لِأَبِيهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا تَحْتَ وِلَايَتِهِ حِينَ أَسْلَمَ إذْ الدَّارُ وَاحِدَةٌ ( وَمَا كَانَ مِنْ مَالٍ أَوْدَعَهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَهُوَ لَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدٍ مُحْتَرَمَةٍ وَيَدُهُ كَيَدِهِ ( وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَيْءٌ ) أَمَّا الْمَرْأَةُ وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَلِمَا قُلْنَا .
وَأَمَّا الْمَالُ الَّذِي فِي يَدِ الْحَرْبَى ؛ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَعْصُومًا ؛ لِأَنَّ يَدَ الْحَرْبِيِّ لَيْسَتْ يَدًا مُحْتَرَمَةً .( قَوْلُهُ لِمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ ) أَيْ فِي بَابِ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ وَزَوْجَتُهُ فَيْءٌ لِأَنَّهَا كَافِرَةٌ حَرْبِيَّةٌ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ ) ظَاهِرٌ ( قَوْلُهُ وَمَا كَانَ مِنْ مَالٍ أَوْدَعَهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا ) إنَّمَا قَيَّدَ بِالْإِيدَاعِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ غَصْبًا فِي أَيْدِيهِمَا يَكُونُ فَيْئًا لِعَدَمِ النِّيَابَةِ ( قَوْلُهُ فَلِمَا قُلْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ حَرْبِيُّونَ كِبَارٌ وَلَيْسُوا بِأَتْبَاعٍ .
( وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَلَهُ وَرَثَةٌ مُسْلِمُونَ هُنَاكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ وَالْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ ؛ لِأَنَّهُ أَرَاقَ دَمًا مَعْصُومًا ( لِوُجُودِ الْعَاصِمِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ ) لِكَوْنِهِ مُسْتَجْلِبًا لِلْكَرَامَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ أَصْلُهَا الْمُؤْثِمَةُ ؛ لِحُصُولِ أَصْلِ الزَّجْرِ بِهَا وَهِيَ ثَابِتَةٌ إجْمَاعًا ، وَالْمُقَوَّمَةُ كَمَالٍ فِيهِ لِكَمَالِ الِامْتِنَاعِ بِهِ فَيَكُونُ وَصْفًا فِيهِ فَتَتَعَلَّقُ بِمَا عُلِّقَ بِهِ الْأَصْلُ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } الْآيَةَ .
جَعَلَ التَّحْرِيرَ كُلَّ الْمُوجِبِ رُجُوعًا إلَى حَرْفِ الْفَاءِ أَوْ إلَى كَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ فَيَنْتَفِي غَيْرُهُ ، وَلِأَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُؤْثِمَةَ بِالْآدَمِيَّةِ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ خُلِقَ مُتَحَمِّلًا أَعْبَاءَ التَّكْلِيفِ ، وَالْقِيَامَ بِهَا بِحُرْمَةِ التَّعَرُّضِ ، وَالْأَمْوَالُ تَابِعَةٌ لَهَا .
أَمَّا الْمُقَوَّمَةُ فَالْأَصْلُ فِيهَا الْأَمْوَالُ ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ يُؤْذِنُ بِجَبْرِ الْفَائِتِ وَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ دُونَ النُّفُوسِ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ التَّمَاثُلَ ، وَهُوَ فِي الْمَالِ دُونَ النَّفْسِ فَكَانَتْ النُّفُوسُ تَابِعَةً ، ثُمَّ الْعِصْمَةُ الْمُقَوَّمَةُ فِي الْأَمْوَالِ بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ ؛ لِأَنَّ الْعِزَّةَ بِالْمَنَعَةِ فَكَذَلِكَ فِي النُّفُوسِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ مَنَعَةِ الْكَفَرَةِ ؛ لِمَا أَنَّهُ أَوْجَبَ إبْطَالَهَا .
وَالْمُرْتَدُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِنَا مِنْ أَهْلِ دَارِهِمْ حُكْمًا لِقَصْدِهِمَا الِانْتِقَالَ إلَيْهَا .
( قَوْلُهُ وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَلَهُ وَرَثَةٌ مُسْلِمُونَ هُنَاكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا الْكَفَّارَةَ فِي الْخَطَإِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ وَالْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ لِأَنَّهُ أَرَاقَ دَمًا مَعْصُومًا لِوُجُودِ الْعَاصِمِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ لِكَوْنِهِ مُسْتَجْلِبًا لِلْكَرَامَةِ ) وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْعِصْمَةَ تَثْبُتُ نِعْمَةً وَكَرَامَةً فَتُعَلَّقَ بِمَا لَهُ أَثَرٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ إذْ بِهِ تَحْصُلُ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ لَا بِالدَّارِ الَّتِي هِيَ جَمَادٌ لَا أَثَرَ لَهَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ ، وَمَنْ أَرَاقَ دَمًا مَعْصُومًا إنْ كَانَ خَطَأً فَفِيهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَفِيهِ الْقِصَاصُ كَمَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ( وَهَذَا ) أَيْ وُجُوبُ الدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ ، وَالْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ إنَّمَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى وُجُودِ الْعَاصِمِ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ ( لِأَنَّ الْعِصْمَةَ أَصْلُهَا الْمُؤَثِّمَةُ لِحُصُولِ أَصْلِ الزَّجْرِ بِهَا ) فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَأْثَمُ بِقَتْلٍ يَنْزَجِرُ عَنْهُ نَظَرًا إلَى الْجِبِلَّةِ السَّلِيمَةِ عَنْ الْمَيْلِ عَنْ الِاعْتِدَالِ ( وَهِيَ ثَابِتَةٌ ) فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ( إجْمَاعًا ) فَإِنَّهُ لَا قَائِلَ بِعَدَمِ الْإِثْمِ عَلَى مَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ ( وَالْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ كَمَالٍ فِيهِ ) أَيْ فِي أَصْلِ الْعِصْمَةِ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ الْإِثْمُ وَالْمَالُ كَانَ ذَلِكَ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ فِي الْمَنْعِ مِنْ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ الْإِثْمُ دُونَ الْمَالِ ، فَكَانَتْ الْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ وَصْفًا زَائِدًا عَلَى الْعِصْمَةِ الَّتِي هِيَ الْمُؤَثِّمَةُ ( فَتُعَلَّقُ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْأَصْلُ ) وَهُوَ الْعِصْمَةُ الْمُؤَثِّمَةُ وَالْعِصْمَةُ الْمُؤَثِّمَةُ تَعَلَّقَتْ بِالْإِسْلَامِ ، فَالْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ كَذَلِكَ ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الْحَرْبِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ
يُهَاجِرْ إلَيْنَا ( وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } ) وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُؤَوِّلُ هَذِهِ الْآيَةَ بِاَلَّذِينَ أَسْلَمُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرُوا ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ أَيْضًا .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَيَّزَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي هُوَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَنَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ الْمُخْتَصِّ بِالْقَتْلِ ، فَجَعَلَ الْحُكْمَ فِي الْأَوَّلِ الدِّيَةَ وَالْكَفَّارَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٍ مُسَلَّمَةٍ إلَى أَهْلِهِ } وَفِي الثَّانِي الْكَفَّارَةُ دُونَ الدِّيَةِ وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ذُكِرَ بِحَرْفِ الْفَاءِ فَإِنَّهُ لِلْجَزَاءِ وَالْجَزَاءُ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ كَافِيًا ، فَإِذَا كَانَ كَافِيًا كَانَ كُلُّ الْمُوجِبِ ضَرُورَةً .
وَالثَّانِي أَنَّهُ كُلُّ الْمَذْكُورِ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ غَيْرِهِ لِأَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ فِي مِثْلِهِ إخْرَاجُ الْعَبْدِ عَنْ عُهْدَةِ الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْحَادِثَةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِبَيَانِ كُلِّ الْحُكْمِ بِلَا إخْلَالٍ ، فَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْ تَتِمَّةِ هَذَا الْحُكْمِ لَذَكَرَهُ فِي مَوْضِعِ الْبَيَانِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُؤَثِّمَةَ بِالْآدَمِيَّةِ ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ عَلَى عَدَمِ الْعِصْمَةِ الْمُقَوِّمَةِ الْمُوجِبَةِ لِلدِّيَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمُشْتَمِلٌ عَلَى بَيَانِ أَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُقَوِّمَةَ لَيْسَتْ بِوَصْفِ كَمَالٍ فِي الْعِصْمَةِ الْمُؤَثِّمَةِ فَتَكُونُ تَابِعَةً لَهَا .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُؤَثِّمَةَ بِالْآدَمِيَّةِ ( لِأَنَّ الْآدَمِيَّ خُلِقَ مُتَحَمِّلًا أَعْبَاءَ التَّكَالِيفِ ) أَيْ أَثْقَالَهَا ، وَمَنْ خُلِقَ لِشَيْءٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ فَالْآدَمِيُّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِأَعْبَاءِ التَّكَالِيفِ ( وَالْقِيَامُ بِهَا بِحُرْمَةِ التَّعَرُّضِ ) أَيْ إنَّمَا
يَتَحَقَّقُ لَهُ الْقِيَامُ بِهَا إذَا كَانَ حَرَامَ التَّعَرُّضِ ، فَالْآدَمِيُّ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ حَرَامَ التَّعَرُّضِ مُطْلَقًا ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْطَلَ ذَلِكَ فِي الْكَافِرِ بِعَارِضِ الْكُفْرِ ، فَإِذَا زَالَ الْكُفْرُ بِالْإِسْلَامِ عَادَ إلَى الْأَصْلِ ( وَالْأَمْوَالُ تَابِعَةٌ لَهَا ) أَيْ لِلْآدَمِيَّةِ الَّتِي تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ الْمُؤَثِّمَةُ لَهَا لِأَنَّهَا خُلِقَتْ فِي الْأَصْلِ مُبَاحَةً ، وَإِنَّمَا صَارَتْ مَعْصُومَةً لِتَمَكُّنِ الْآدَمِيِّ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي حَاجَتِهِ فَكَانَتْ تَابِعَةً لِلْآدَمِيَّةِ ( أَمَّا الْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ فَالْأَصْلُ فِيهَا الْأَمْوَالُ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ يُؤْذِنُ بِجَبْرِ الْفَائِتِ ) لِأَنَّ الْمُتَقَوِّمَ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ وَاجِبَ الْإِبْقَاءِ وَالدَّوَامِ بِالْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ ( وَذَلِكَ ) أَيْ جَبْرُ الْفَائِتِ ( فِي الْأَمْوَالِ دُونَ النُّفُوسِ ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْمِثْلِ صُورَةً وَمَعْنًى أَوْ مَعْنًى فَقَطْ ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ النُّفُوسِ وَمَا يُجْبَرُ بِهِ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ( فَكَانَتْ النُّفُوسُ تَابِعَةً ) لِلْأَمْوَالِ فِي الْعِصْمَةِ ، وَمِنْ هَذَا عُلِمَ أَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُؤَثِّمَةَ أَصْلٌ مُسْتَقِلٌّ فِي شَيْءٍ وَالْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ أَصْلٌ مُسْتَقِلٌّ فِي شَيْءٍ آخَرَ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِكَمَالٍ فِي الْآخَرِ وَلَا وَصْفٍ زَائِدٍ عَلَيْهِ ، ثُمَّ الْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ فِي الْأَمْوَالِ بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ لِأَنَّهَا عِزَّةٌ وَالْعِزَّةُ بِالْمَنَعَةِ ، فَالْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ فِي الْأَمْوَالِ بِالْمَنَعَةِ وَالدَّارُ إنَّمَا تَكُونُ بِالْمَنَعَةِ فَلِهَذَا تَعَرَّضَ لِذِكْرِهَا ، وَإِذَا كَانَتْ الْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ فِي الْأَمْوَالِ بِالْمَنَعَةِ فَكَذَلِكَ فِي النُّفُوسِ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهَا لِمَا ذَكَرْنَا ، لَكِنْ لَا مَنَعَةَ لِدَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ مَنَعَةِ الْكُفْرِ لِمَا أَنَّهُ أَوْجَبَ إبْطَالَهَا ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَنَعَةٌ لَا يُوجَدُ الْإِحْرَازُ ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الْإِحْرَازُ لَا تُوجَدُ
الْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ ، وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ الْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ لَا تَجِبُ الدِّيَةُ ، وَهَذَا فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ ، خَلَا أَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنْ لَا يَمْلِكُوا أَمْوَالَنَا بِالْإِحْرَازِ إلَى الدَّارِ كَمَا قَالَ بِهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَدَفَعَهُ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ مَنَعَتِهِمْ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي دَارِهِمْ ، وَأَمَّا إذَا وَقَعَ خُرُوجُهُمْ إلَى دَارِنَا وَأَحْرَزُوا أَمْوَالَنَا بِالْيَدِ الْحَافِظَةِ وَالنَّاقِلَةِ فَقَدْ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ كَمَا مَرَّ ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمِلْكَ لَا مَحَالَةَ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُرْتَدُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّهُمَا مُحْرَزَانِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ ذَاتًا فَيَجِبُ أَنْ يَتَقَوَّمَا وَلَمْ يَتَقَوَّمَا حَتَّى لَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَتْلِهِمَا وَكَوْنُ الْمُسْتَأْمَنِ مِنْ أَهْلِ دَارِهِمْ حُكْمًا لِقَصْدِهِ الِانْتِقَالَ ظَاهِرٌ ، وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقْصِدُهُ هَرَبًا مِنْ الْقَتْلِ
( وَمَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً لَا وَلِيَّ لَهُ أَوْ قَتَلَ حَرْبِيًّا دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَأَسْلَمَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِلْإِمَامِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ) ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً خَطَأً فَتُعْتَبَرُ بِسَائِرِ النُّفُوسِ الْمَعْصُومَةِ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ لِلْإِمَامِ أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ ( وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَتَلَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ ) ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ مَعْصُومَةٌ ، وَالْقَتْلَ عَمْدٌ ، وَالْوَلِيَّ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْعَامَّةُ أَوْ السُّلْطَانُ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ } وَقَوْلُهُ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ مَعْنَاهُ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ وَهُوَ الْقَوَدُ عَيْنًا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ أَنْفَعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْقَوَدِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ وِلَايَةُ الصُّلْحِ عَلَى الْمَالِ ( وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ ) ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْعَامَّةِ وَوِلَايَتُهُ نَظَرِيَّةٌ وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ إسْقَاطُ حَقِّهِمْ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً إلَخْ ) وَاضِحٌ .
وَاعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِهِ وَهُوَ الْعَامَّةُ أَوْ السُّلْطَانُ بِأَنَّ التَّرَدُّدَ فِيمَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْقِصَاصِ يُوجِبُ سُقُوطَهُ كَمَا فِي الْمُكَاتَبِ إذَا قَتَلَ عَنْ وَفَاءٍ وَلَهُ وَارِثٌ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِمَامَ هَاهُنَا نَائِبٌ عَنْ الْعَامَّةِ فَصَارَ كَأَنَّ الْوَلِيَّ وَاحِدٌ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ .
( بَابُ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ ) : قَالَ : ( أَرْضُ الْعَرَبِ كُلُّهَا أَرْضُ عُشْرٍ ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الْعُذَيْبِ إلَى أَقْصَى حَجَرٍ بِالْيَمَنِ بِمَهْرَةَ إلَى حَدِّ الشَّامِ وَالسَّوَادُ أَرْضُ خَرَاجٍ ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعُذَيْبِ إلَى عَقَبَةِ حُلْوَانَ ، وَمِنْ الثَّعْلَبِيَّةِ وَيُقَالُ مِنْ الْعَلَثِ إلَى عَبَّادَانَ ) ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ لَمْ يَأْخُذُوا الْخَرَاجَ مِنْ أَرَاضِي الْعَرَبِ ، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْفَيْءِ فَلَا يَثْبُتُ فِي أَرَاضِيِهِمْ كَمَا لَا يَثْبُتُ فِي رِقَابِهِمْ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْخَرَاجِ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يُقَرَّ أَهْلُهَا عَلَى الْكُفْرِ كَمَا فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ ، وَعُمَرُ حِينَ فَتَحَ السَّوَادَ وَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَيْهَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَوَضَعَ عَلَى مِصْرَ حِينَ افْتَتَحَهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ ، وَكَذَا اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى وَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَى الشَّامِ .
بَابُ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ ) لَمَّا ذَكَرَ مَا يَصِيرُ بِهِ الْحَرْبِيُّ ذِمِّيًّا شَرَعَ فِي بَيَانِ الْخَرَاجِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ ، وَذَكَرَ الْعُشْرَ اسْتِطْرَادًا لِأَنَّ سَبَبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ ، وَقَدَّمَهُ عَلَى الْخَرَاجِ لِكَوْنِهِ مِنْ الْوَظَائِفِ الْإِسْلَامِيَّةِ .
وَالْعُشْرُ بِضَمِّ الْعَيْنِ أَحَدُ أَجْزَاءِ الْعَشَرَةِ ، وَالْخَرَاجُ اسْمٌ لَمَا يُخْرَجُ مِنْ غَلَّةِ الْأَرْضِ أَوْ الْغُلَامِ ، ثُمَّ سُمِّيَ مَا يَأْخُذُهُ السُّلْطَانُ خَرَاجًا فَيُقَالُ أَدَّى فُلَانٌ خَرَاجَ أَرْضِهِ وَأَدَّى أَهْلُ الذِّمَّةِ خَرَاجَ رُءُوسِهِمْ : يَعْنِي الْجِزْيَةَ .
وَالْعُذَيْبُ مَاءٌ لِتَمِيمٍ ، وَالْحَجَرُ بِفَتْحَتَيْنِ بِمَعْنَى الصَّخْرِ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي أَمَالِي أَبِي يُوسُفَ : الصَّخْرُ مَوْضِعُ الْحَجَرِ ، وَيَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ رَوَى بِسُكُونِ الْجِيمِ وَفَسَّرَهُ بِالْجَانِبِ فَقَدْ حَرَّفَ .
وَمَهْرَةُ بِالْفَتْحِ وَالسُّكُونِ اسْمُ رَجُلٍ ، وَقِيلَ اسْمُ قَبِيلَةٍ يُنْسَبُ إلَيْهَا الْإِبِلُ الْمَهْرِيَّةُ سُمِّيَ ذَلِكَ الْمَقَامُ بِهِ فَيَكُونُ بِمَهْرَةَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ بِالْيَمَنِ ، وَهَذَا طُولُهَا ، وَمِنْ يَبْرِينَ وَالدَّهْنَاءِ وَرَمْلِ عَالِجٍ أَسْمَاءُ مَوَاضِعَ إلَى مَشَارِفِ الشَّامِ : أَيْ قُرَاهَا عَرْضُهَا ، وَالسَّوَادُ : أَيْ أَرَاضِي سَوَادِ الْعِرَاقِ : أَيْ قُرَاهَا سُمِّيَ بِالسَّوَادِ لِخُضْرَةِ أَشْجَارِهِ وَزُرُوعِهِ ، وَحَدُّهُ عَرْضًا مِنْ الْعُذَيْبِ إلَى عُقْبَةِ حُلْوَانَ وَهُوَ اسْمُ بَلَدٍ ، وَمِنْ الثَّعْلَبِيَّةِ وَهِيَ مَنَازِلُ الْبَادِيَةِ إلَى عَبَّادَانِ وَهُوَ حِصْنٌ صَغِيرٌ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ طُولُهُ .
وَقِيلَ فِي مَوْضِعٍ الثَّعْلَبِيَّةُ الْعَلْثُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ اللَّامِ ، وَهِيَ قَرْيَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْعَلَوِيَّةِ وَهُوَ أَوَّلُ الْعِرَاقِ شَرْقِيَّ دِجْلَةَ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
قَالَ : ( وَأَرْضُ السَّوَادِ مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِهَا يَجُوزُ بَيْعُهُمْ لَهَا وَتَصَرُّفُهُمْ فِيهَا ) ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا فَتَحَ أَرْضًا عَنْوَةً وَقَهْرًا لَهُ أَنْ يُقِرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَيَضَعَ عَلَيْهَا وَعَلَى رُءُوسِهِمْ الْخَرَاجَ فَتَبْقَى الْأَرَاضِي مَمْلُوكَةً لِأَهْلِهَا وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .وَقَوْلُهُ ( قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ) يَعْنِي فِي أَوَّلِ بَابِ الْغَنَائِمِ .
قَالَ ( : وَكُلُّ أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا أَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقُسِّمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ ) ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ابْتِدَاءِ التَّوْظِيفِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْعُشْرُ أَلْيَقُ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ ، وَكَذَا هُوَ أَخَفُّ حَيْثُ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْخَارِجِ .
( وَكُلُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَأُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ ) وَكَذَا إذَا صَالَحَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ابْتِدَاءِ التَّوْظِيفِ عَلَى الْكَافِرِ وَالْخَرَاجُ أَلْيَقُ بِهِ ، وَمَكَّةُ مَخْصُوصَةٌ مِنْ هَذَا ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَهَا عَنْوَةً وَتَرَكَهَا لِأَهْلِهَا ، وَلَمْ يُوَظِّفْ الْخَرَاجَ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كُلُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَوَصَلَ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ ، وَمَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ وَاسْتُخْرِجَ مِنْهَا عَيْنٌ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ ) ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَرْضِ النَّامِيَةِ ، وَنَمَاؤُهَا بِمَائِهَا فَيُعْتَبَرُ السَّقْيُ بِمَاءِ الْعُشْرِ أَوْ بِمَاءِ الْخَرَاجِ .قَوْلُهُ وَالْخَرَاجُ أَلْيَقُ بِهِ ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ ، وَإِنَّ فِيهِ تَغْلِيظًا لِوُجُوبِهِ وَإِنْ لَمْ يُزْرَعْ ، وَالْكَافِرُ أَلْيَقُ بِالْعُقُوبَةِ وَالتَّغْلِيظِ .
وَكَانَ الْقِيَاسُ { فِي أَرْضِ مَكَّةَ أَنْ تَكُونَ خَرَاجِيَّةً لِأَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً : أَيْ قَهْرًا ، لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَظِّفْ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ } ، وَكَمَا لَا رِقَّ عَلَى الْعَرَبِ فَكَذَا لَا خَرَاجَ فِي أَرْضِهِمْ ( قَوْلُهُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، إلَى قَوْلِهِ : فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ ) يَعْنِي سَوَاءٌ قُسِمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ أَوْ أُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا ، وَذُكِرَ لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ .
قَالَ : ( وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مُعْتَبَرَةٌ بِحَيِّزِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ ) وَمَعْنَاهُ بِقُرْبِهِ ( فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ ) ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْعُشْرِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ ( وَالْبَصْرَةُ عِنْدَهُ عُشْرِيَّةٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ) ؛ لِأَنَّ حَيِّزَ الشَّيْءِ يُعْطَى لَهُ حُكْمُهُ ، كَفِنَاءِ الدَّارِ يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الدَّارِ حَتَّى يَجُوزَ لِصَاحِبِهَا الِانْتِفَاعُ بِهِ .
وَكَذَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ مَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ ، وَكَانَ الْقِيَاسُ فِي الْبَصْرَةِ أَنْ تَكُونَ خَرَاجِيَّةً ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ ، إلَّا أَنَّ الصَّحَابَةَ وَظَّفُوا عَلَيْهَا الْعُشْرَ فَتُرِكَ الْقِيَاسُ لِإِجْمَاعِهِمْ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ أَحْيَاهَا بِبِئْرٍ حَفَرَهَا أَوْ بِعَيْنٍ اسْتَخْرَجَهَا أَوْ مَاءِ دِجْلَةَ أَوْ الْفُرَاتِ أَوْ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ ) وَكَذَا إنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ السَّمَاءِ ( وَإِنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الَّتِي احْتَفَرَهَا الْأَعَاجِمُ ) مِثْلَ نَهْرِ الْمَلِكِ وَنَهْرِ يَزْدَجْرِدْ ( فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ ) لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ الْمَاءِ إذْ هُوَ السَّبَبُ لِلنَّمَاءِ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَوْظِيفُ الْخَرَاجِ ابْتِدَاءً عَلَى الْمُسْلِمِ كَرْهًا فَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْمَاءُ ؛ لِأَنَّ السَّقْيَ بِمَاءِ الْخَرَاجِ دَلَالَةُ الْتِزَامِهِ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مُعْتَبَرَةٌ بِحَيِّزِهَا ) قِيلَ هَذَا الْإِطْلَاقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الْمُحْيِي مُسْلِمًا ، وَأَمَّا إذَا كَانَ ذِمِّيًّا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْعُشْرِ ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مُقَيَّدًا بِكَوْنِهِ مُسْلِمًا وَجَبَ أَنْ يُقَيَّدَ قَوْلُهُمْ الْمُسْلِمُ لَا يُبْتَدَأُ بِتَوْظِيفِ الْخَرَاجِ بِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ صَنِيعٌ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَهُوَ السَّقْيُ مِنْ مَاءِ الْخَرَاجِ ، إذْ الْخَرَاجُ يَجِبُ جَبْرًا لِلْمُقَاتِلَةِ فَيَخْتَصُّ وُجُوبُ الْخَرَاجِ بِمَا يُسْقَى بِمَاءٍ حَمَتْهُ الْمُقَاتِلَةُ ، وَالْمَاءُ الَّذِي حَمَتْهُ الْمُقَاتِلَةُ مَاءُ الْخَرَاجِ ، فَلِهَذَا يَجِبُ الْخَرَاجُ إذَا سَقَاهُ بِمَاءِ الْخَرَاجِ ، إلَى هَذَا أَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ ( قَوْلُهُ وَالْبَصْرَةُ عِنْدَهُ عُشْرِيَّةٌ ) جَوَابُ إشْكَالٍ يَرُدُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا ذُكِرَ أَنَّ الْإِحْيَاءَ فِي حَيِّزِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ يَجْعَلُ الْأَرْضَ خَرَاجِيَّةً ، وَالْبَصْرَةُ فِي حَيِّزِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ وَإِنْ أَحْيَا فِيهَا مُسْلِمٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعُشْرُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقِيَاسَ ذَلِكَ لَكِنْ تُرِكَ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ حَيِّزَ الشَّيْءِ يُعْطِي لَهُ حُكْمَهُ ) دَلِيلُ أَبِي يُوسُفَ عَلَى مَذْهَبِهِ ( قَوْلُهُ كَفِنَاءِ الدَّارِ ) يَعْنِي فِنَاءَ الدَّارِ يُعْطِي لَهُ حُكْمَ الدَّارِ فِي حَقِّ الِانْتِفَاعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْفِنَاءُ مَمْلُوكًا لِصَاحِبِ الدَّارِ لِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ ، فَكَذَا هَاهُنَا تُعْطَى هَذِهِ الْأَرْضُ الْمُحْيَاةُ حُكْمَ جِوَارِهَا لِاتِّصَالِهَا بِهِ ، وَلَا يُظَنُّ فِي إعَادَةِ قَوْلِهِ : " وَكَانَ الْقِيَاسُ فِي الْبَصْرَةِ أَنْ تَكُونَ خَرَاجِيَّةً " تَكْرَارٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ الْقُدُورِيِّ وَالثَّانِي ذَكَرَهُ شَرْحًا لِذَلِكَ .
وَنَهْرُ الْمَلِكِ عَلَى طَرِيقِ الْكُوفَةِ مِنْ بَغْدَادَ ، وَيَزْدَجْرِدُ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الْعَجَمِ ( قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا ) مِنْ قَبْلُ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْعُشْرَ
يَتَعَلَّقُ بِالْأَرْضِ النَّامِيَةِ وَنَمَاؤُهَا بِمَائِهَا .
قَالَ ( : وَالْخَرَاجُ الَّذِي وَضَعَهُ عُمَرُ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ مِنْ كُلِّ جَرِيبٍ يَبْلُغُهُ الْمَاءُ قَفِيزٌ هَاشِمِيٌّ وَهُوَ الصَّاعُ وَدِرْهَمٌ ، وَمِنْ جَرِيبِ الرَّطْبَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَمِنْ جَرِيبِ الْكَرْمِ الْمُتَّصِلِ وَالنَّخِيلِ الْمُتَّصِلِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ) وَهَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ عُمَرَ ، فَإِنَّهُ بَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ حَتَّى يَمْسَحَ سَوَادَ الْعِرَاقِ ، وَجَعَلَ حُذَيْفَةَ مُشْرِفًا عَلَيْهِ ، فَمَسَحَ فَبَلَغَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ وَوَضَعَ عَلَى ذَلِكَ مَا قُلْنَا ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ .
وَلِأَنَّ الْمُؤَنَ مُتَفَاوِتَةٌ فَالْكَرْمُ أَخَفُّهَا مُؤْنَةً وَالْمَزَارِعَ أَكْثَرُهَا مُؤْنَةً وَالرُّطَبُ بَيْنَهُمَا ، وَالْوَظِيفَةُ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِهَا فَجُعِلَ الْوَاجِبُ فِي الْكَرْمِ أَعْلَاهَا وَفِي الزَّرْعِ أَدْنَاهَا وَفِي الرُّطَبَةِ أَوْسَطَهَا .
قَالَ : ( وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَصْنَافِ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْبُسْتَانِ وَغَيْرِهِ يُوضَعُ عَلَيْهَا بِحَسَبِ الطَّاقَةِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَوْظِيفُ عُمَرَ وَقَدْ اعْتَبَرَ الطَّاقَةَ فِي ذَلِكَ فَنَعْتَبِرُهَا فِيمَا لَا تَوْظِيفَ فِيهِ .
قَالُوا : وَنِهَايَةُ الطَّاقَةِ أَنْ يَبْلُغَ الْوَاجِبُ نِصْفَ الْخَارِجِ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ التَّنْصِيفَ عَيْنُ الْإِنْصَافِ لِمَا كَانَ لَنَا أَنْ نُقَسِّمَ الْكُلَّ بَيْنَ الْغَانِمِينَ .
وَالْبُسْتَانُ كُلُّ أَرْضٍ يَحُوطُهَا حَائِطٌ وَفِيهَا نَخِيلٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَأَشْجَارٌ أُخَرُ ، وَفِي دِيَارِنَا وَظَّفُوا مِنْ الدَّرَاهِمِ فِي الْأَرَاضِي كُلِّهَا وَتُرِكَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ .
قَالَ ( فَإِنْ لَمْ تُطِقْ مَا وُضِعَ عَلَيْهَا نَقَصَهُمْ الْإِمَامُ ) وَالنُّقْصَانُ عِنْدَ قِلَّةِ الرِّيعِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ عُمَرَ : لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ ، فَقَالَا : لَا بَلْ حَمَّلْنَاهَا مَا تُطِيقُ ، وَلَوْ زِدْنَا لَأَطَاقَتْ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النُّقْصَانِ ،
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عِنْدَ زِيَادَةِ الرِّيعِ يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارًا بِالنُّقْصَانِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَزِدْ حِينَ أُخْبِرَ بِزِيَادَةِ الطَّاقَةِ ، ( وَإِنْ غَلَبَ عَلَى أَرْضِ الْخَرَاجِ الْمَاءُ أَوْ انْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْهَا أَوْ اصْطَلَمَ الزَّرْعَ آفَةٌ فَلَا خَرَاجَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ فَاتَ التَّمَكُّنُ مِنْ الزِّرَاعَةِ ، وَهُوَ النَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ الْمُعْتَبَرُ فِي الْخَرَاجِ ، وَفِيمَا إذَا اصْطَلَمَ الزَّرْعَ آفَةٌ فَاتَ النَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ وَكَوْنُهُ نَامِيًا فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ شَرْطٌ كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ أَوْ يُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ عِنْدَ خُرُوجِ الْخَارِجِ .
قَالَ ( وَإِنْ عَطَّلَهَا صَاحِبُهَا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ ) ؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ كَانَ ثَابِتًا وَهُوَ الَّذِي فَوَّتَهُ .
قَالُوا : مَنْ انْتَقِلْ إلَى أَخَسِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ خَرَاجُ الْأَعْلَى ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ضَيَّعَ الزِّيَادَةَ ، وَهَذَا يُعْرَفُ وَلَا يُفْتَى بِهِ كَيْ لَا يَتَجَرَّأَ الظَّلَمَةُ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ .
قَالَ ( وَالْخَرَاجُ الَّذِي وَضَعَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) اعْلَمْ أَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى نَوْعَيْنِ : خَرَاجُ وَظِيفَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ فِي الذِّمَّةِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ ( فِي كُلِّ جَرِيبٍ ) وَهُوَ أَرْضٌ طُولُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهَا سِتُّونَ بِذِرَاعِ الْمَلِكِ كِسْرَى وَهُوَ يَزِيدُ عَلَى ذِرَاعِ الْعَامَّةِ بِقَبْضَةٍ ( قَفِيزٌ هَاشِمِيٌّ وَهُوَ الصَّاعُ ) مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ عَلَى مَا قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتْوَاهُ أَوْ مِمَّا يُزْرَعُ فِيهَا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ ( وَدِرْهَمٌ ) قَوْلُهُ فَالْكَرْمُ أَخَفُّهَا ) يَعْنِي وَأَكْثَرُهَا رِيعًا لِأَنَّهُ يَبْقَى عَلَى الْأَبَدِ بِلَا مُؤْنَةٍ ( وَالْمَزَارِعُ أَكْثَرُهَا مُؤْنَةً ) لِاحْتِيَاجِهَا إلَى الزِّرَاعَةِ وَإِلْقَاءُ الْبَذْرِ فِي كُلِّ عَامٍ ( وَالرُّطَبُ بَيْنَهُمَا ) لِأَنَّهَا تَبْقَى أَعْوَامًا وَلَا تَدُومُ دَوَامَ الْكُرُومِ فَكَانَتْ مُؤْنَتُهَا فَوْقَ مُؤْنَةِ الْكُرُومِ وَدُونَ مُؤْنَةِ الْمَزَارِعِ .
وَخَرَاجُ مُقَاسَمَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ شَيْئًا مِنْ الْخَارِجِ كَالْخُمُسِ وَالسُّدُسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ( لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَوْظِيفُ عُمَرَ ) فَنَعْتَبِرُ فِيهِ الطَّاقَةَ كَمَا اعْتَبَرَهَا فِي الْمُوَظَّفِ ، وَمِنْ الْإِنْصَافِ أَنْ لَا يُزَادَ عَلَى النِّصْفِ ( قَوْلُهُ وَالْبُسْتَانُ كُلُّ أَرْضٍ يَحُوطُهَا حَائِطٌ ) ظَاهِرٌ ( وَإِنْ غَلَبَ عَلَى أَرْضِ الْخَرَاجِ الْمَاءُ أَوْ انْقَطَعَ عَنْهَا فَلَا خَرَاجَ عَلَيْهِ ) بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ فَاتَ التَّمَكُّنُ مِنْ الزِّرَاعَةِ وَهُوَ النَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ الْمُعْتَبَرُ فِي الْخَرَاجِ ، وَفِيمَا إذَا اصْطَلَمَ الزَّرْعَ آفَةٌ ) أَيْ اسْتَأْصَلَهُ حَرٌّ شَدِيدٌ أَوْ بَرْدٌ شَدِيدٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَلَا خَرَاجَ أَيْضًا ( لِأَنَّهُ فَاتَ النَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ ) الَّذِي أُقِيمَ مَقَامَ النَّمَاءِ الْحَقِيقِيِّ ( فِي بَعْضِ الْحَوْلِ وَكَوْنُهُ نَامِيًا فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ شَرْطٌ كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ ) فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً لِلتِّجَارَةِ فَمَضَى عَلَيْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ
نَوَاهَا لِلْخِدْمَةِ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْقَ نَامِيَةً فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ ( أَوْ ) يُقَالُ ( يُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ عِنْدَ خُرُوجِ الْخَارِجِ ) يَعْنِي أَنَّ النَّمَاءَ التَّقْدِيرِيَّ كَانَ قَائِمًا مَقَامَ الْحَقِيقِيِّ ، فَلَمَّا وُجِدَ الْحَقِيقِيُّ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ لِكَوْنِهِ الْأَصْلَ وَقَدْ هَلَكَ فَيَهْلَكُ مَعَهُ الْخَرَاجُ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ فَاصْطَلَمَ الزَّرْعَ آفَةٌ لَمْ تَسْقُطْ الْأُجْرَةُ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَرَاجِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَجْرَ يَجِبُ إلَى وَقْتِ هَلَاكِ الزَّرْعِ لَا بَعْدَهُ ، وَلَيْسَ الْأَجْرُ كَالْخَرَاجِ لِأَنَّهُ وُضِعَ عَلَى مِقْدَارِ الْخَارِجِ إذَا صَلُحَتْ الْأَرْضُ لِلزِّرَاعَةِ ، فَإِذَا لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ جَازَ إسْقَاطُهُ وَالْأَجْرُ لَمْ يُوضَعْ عَلَى مِقْدَارِ الْخَارِجِ فَجَازَ إيجَابُهُ وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ .
ثُمَّ قَالَ مَشَايِخُنَا : مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ بِالِاصْطِلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ السَّنَةِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُ أَنْ تُزْرَعَ الْأَرْضُ ثَانِيًا ، أَمَّا إذَا بَقِيَ فَلَا يَسْقُطُ الْخَرَاجُ .
قَالَ ( وَإِنْ عَطَّلَهَا صَاحِبُهَا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ ) إذَا عَطَّلَ الْأَرْضَ الْخَرَاجِيَّةَ صَاحِبُهَا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ كَانَ ثَابِتًا وَهُوَ الَّذِي فَوَّتَهُ .
قِيلَ هَذَا إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ وَالْمَالِكُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الزِّرَاعَةِ وَعَطَّلَهَا ، أَمَّا إذَا عَجَزَ الْمَالِكُ عَنْ الزِّرَاعَةِ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ قُوَّتِهِ وَأَسْبَابِهِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ مُزَارَعَةً وَيَأْخُذَ الْخَرَاجَ مِنْ نَصِيبِ الْمَالِكِ وَيُمْسِكَ الْبَاقِيَ لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ آجَرَهَا وَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْ الْأُجْرَةِ ، وَإِنْ شَاءَ زَرَعَهَا بِنَفَقَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَقْبَلُ ذَلِكَ بَاعَهَا وَأَخَذَ الْخَرَاجَ مِنْ ثَمَنِهَا ، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ حَجْرٍ وَهُوَ ضَرَرٌ وَلَكِنَّهُ إلْحَاقُ ضَرَرٍ بِوَاحِدٍ لِلْعَامَّةِ
( قَوْلُهُ قَالُوا ) يَعْنِي الْمَشَايِخَ ( مَنْ انْتَقَلَ إلَى أَخَسِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ) بِأَنْ كَانَتْ الْأَرْضُ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ لِلْأَعْلَى وَهُوَ الزَّعْفَرَانُ مَثَلًا فَزَرَعَ الشَّعِيرَ مَثَلًا ( وَجَبَ خَرَاجُ الزَّعْفَرَانِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ضَيَّعَ الزِّيَادَةَ ، وَهَذَا يُعْرَفُ وَلَا يُفْتَى بِهِ كَيْ لَا يَتَجَرَّأَ الظَّلَمَةُ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ ) وَرُدَّ بِأَنَّهُ كَيْفَ يَجُوزُ الْكِتْمَانُ وَأَنَّهُمْ لَوْ أَخَذُوا كَانَ فِي مَوْضِعِهِ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا ، وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَوْ أَفْتَيْنَا بِذَلِكَ لَادَّعَى كُلُّ ظَالِمٍ فِي أَرْضٍ لَيْسَ شَأْنُهَا ذَلِكَ أَنَّهَا قَبْلَ هَذَا كَانَتْ تُزْرَعُ الزَّعْفَرَانَ فَيَأْخُذُ خَرَاجَ ذَلِكَ وَهُوَ ظُلْمٌ وَعُدْوَانٌ .
( وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ أُخِذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ عَلَى حَالِهِ ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ فَيُعْتَبَرُ مُؤْنَةً فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ فَأَمْكَنَ إبْقَاؤُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ ( وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُسْلِمُ أَرْضَ الْخَرَاجِ مِنْ الذِّمِّيِّ وَيُؤْخَذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ لِمَا قُلْنَا ) ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ اشْتَرَوْا أَرَاضِيَ الْخَرَاجِ وَكَانُوا يُؤَدُّونَ خَرَاجَهَا ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الشِّرَاءِ وَأَخْذِ الْخَرَاجِ وَأَدَائِهِ لِلْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ ( وَلَا عُشْرَ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ وَجَبَا فِي مَحِلَّيْنِ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَلَا يَتَنَافَيَانِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي أَرْضِ مُسْلِمٍ } ، وَلِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ وَالْجَوْرِ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا ، وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةً ؛ وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً قَهْرًا ، وَالْعُشْرُ فِي أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا طَوْعًا ، وَالْوَصْفَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ ، وَسَبَبُ الْحَقَّيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْعُشْرِ تَحْقِيقًا وَفِي الْخَرَاجِ تَقْدِيرًا ، وَلِهَذَا يُضَافَانِ إلَى الْأَرْضِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الزَّكَاةُ مَعَ أَحَدِهِمَا .
( قَوْلُهُ وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ ) ظَاهِرٌ .
قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ ) احْتِرَازٌ عَمَّا يَقُولُهُ الْمُتَقَشِّفَةُ وَهْم طَائِفَةٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ إنَّهُ مَكْرُوهٌ ، لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَيْئًا مِنْ آلَاتِ الْحِرَاثَةِ فَقَالَ : مَا دَخَلَ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إلَّا ذَلُّوا } " ظَنُّوا أَنَّ الْمُرَادَ بِالذُّلِّ الْتِزَامُ الْخَرَاجِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا اشْتَغَلُوا بِالزِّرَاعَةِ وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَقَعَدُوا عَنْ الْجِهَادِ كَرَّ عَلَيْهِمْ عَدُوُّهُمْ وَجَعَلَهُمْ أَذِلَّةً ، وَلِأَنَّ الصَّغَارَ إنْ كَانَ قَائِمًا يَكُونُ فِي الْوَضْعِ ابْتِدَاءً وَأَمَّا بَقَاءً فَلَا ، بِخِلَافِ خَرَاجِ الرُّءُوسِ فَإِنَّهُ ذُلٌّ وَصَغَارٌ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً فَلِذَلِكَ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ .
( قَوْلُهُ وَجَبَا فِي مَحَلَّيْنِ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ) يَعْنِي وَلِمَصْرِفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، أَمَّا اخْتِلَافُ الْمَحَلِّ فَلِأَنَّ الْخَرَاجَ فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ وَالْعُشْرَ فِي الْخَارِجِ ، وَأَمَّا اخْتِلَافُ السَّبَبِ فَلِأَنَّ سَبَبَ الْخَرَاجِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ تَقْدِيرًا ، وَسَبَبُ الْعُشْرِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ تَحْقِيقًا .
وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْمَصْرِفِ فَإِنَّ مَصْرِفَ الْخَرَاجِ الْمُقَاتِلَةُ وَمَصْرِفَ الْعُشْرِ الْفُقَرَاءُ ( فَلَا يَتَنَافَيَانِ ) لِأَنَّ التَّنَافِيَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِاتِّحَادِ الْمَحَلِّ ( وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي أَرْضِ مُسْلِمٍ } " ) رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَوْلُهُ وَالْوَصْفَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ ) لِأَنَّ الطَّوْعَ ضِدُّ الْكُرْهِ الْحَاصِلِ مِنْ الْقَهْرِ ، وَإِذَا لَمْ يَجْتَمِعْ السَّبَبَانِ لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمَانِ ( قَوْلُهُ وَلِهَذَا يُضَافَانِ إلَى الْأَرْضِ ) يُقَالُ عُشْرُ الْأَرْضِ وَخَرَاجُ الْأَرْضِ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الزَّكَاةُ مَعَ أَحَدِهِمَا ) أَيْ الْعُشْرُ أَوْ الْخَرَاجُ .
صُورَتُهُ
: رَجُلٌ اشْتَرَى أَرْضَ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ لِلتِّجَارَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ مَعَ الْعُشْرِ أَوْ الْخَرَاجِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَنَّ عَلَيْهِ زَكَاةَ التِّجَارَةِ مَعَ الْعُشْرِ أَوْ الْخَرَاجِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَمَفْرَعُهُمَا تَوَهُّمُ اخْتِلَافِ الْمَحَلَّيْنِ أَنَّ مَحَلَّ الْعُشْرِ الْخَارِجُ وَمَحَلَّ الزَّكَاةِ عَيْنُ مَالِ التِّجَارَةِ وَهُوَ الْأَرْضُ فَلَمْ يَجْتَمِعَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ ، فَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْآخَرِ كَالدَّيْنِ مَعَ الْعُشْرِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَحَلَّ وَاحِدٌ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ وَظِيفَةُ الْمَالِ النَّامِي وَهُوَ الْأَرْضُ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجِبُ بِسَبَبِ مِلْكِ مَالٍ وَاحِدٍ حَقَّانِ لِلَّهِ تَعَالَى ، كَمَا لَا تَجِبُ زَكَاةُ السَّائِمَةِ وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ بِاعْتِبَارِ مَالٍ وَاحِدٍ .
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا .
قُلْنَا الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ صَارَا وَظِيفَتَيْنِ لَازِمَتَيْنِ لِهَذِهِ الْأَرْضِ فَلَا يَسْقُطَانِ بِإِسْقَاطِ الْمَالِكِ وَهُوَ أَسْبَقُ ثُبُوتًا مِنْ زَكَاةِ التِّجَارَةِ الَّتِي كَانَ وُجُوبُهَا بِنِيَّةٍ فَلِهَذَا بَقِيَتْ عُشْرِيَّةً وَخَرَاجِيَّةً كَمَا كَانَتْ وَبِقَوْلِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ وُجُوبِ الدَّيْنِ مَعَ الْعُشْرِ ، فَإِنَّ الدَّيْنَ يَجِبُ لِلْعَبْدِ وَالْعُشْرَ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا فَيَجِبَانِ وَإِنْ كَانَا بِسَبَبِ مِلْكٍ وَاحِدٍ ، وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ .
( وَلَا يَتَكَرَّرُ الْخَرَاجُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ فِي سَنَةٍ ) ؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يُوَظِّفْهُ مُكَرَّرًا ، بِخِلَافِ الْعُشْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ عُشْرًا إلَّا بِوُجُوبِهِ فِي كُلِّ خَارِجٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( بَابُ الْجِزْيَةِ ) : ( وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : جِزْيَةٌ تُوضَعُ بِالتَّرَاضِي وَالصُّلْحِ فَتَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ ) كَمَا { صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ } ، وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ التَّرَاضِي فَلَا يَجُوزُ التَّعَدِّي إلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ ( وَجِزْيَةٌ يَبْتَدِئُ الْإِمَامُ وَضْعَهَا إذَا غَلَبَ الْإِمَامُ عَلَى الْكُفَّارِ ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ ، فَيَضَعُ عَلَى الْغَنِيِّ الظَّاهِرِ الْغِنَى فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا يَأْخُذُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ .
وَعَلَى وَسَطِ الْحَالِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمَيْنِ ، وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمًا ) وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَضَعُ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ مَا يَعْدِلُ الدِّينَارَ ، وَالْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُعَاذٍ خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ .
وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ كَالذَّرَارِيِّ وَالنِّسْوَانِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْتَظِمُ الْفَقِيرَ وَالْغَنِيَّ .
وَمَذْهَبُنَا مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ؛ وَلِأَنَّهُ وَجَبَ نُصْرَةً لِلْمُقَاتِلَةِ فَتَجِبُ عَلَى التَّفَاوُتِ بِمَنْزِلَةِ خَرَاجِ الْأَرْضِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ وَجَبَ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ بِكَثْرَةِ الْوَفْرِ وَقِلَّتِهِ ، فَكَذَا أُجْرَتُهُ هُوَ بَدَلُهُ ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ صُلْحًا ، وَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالْأَخْذِ مِنْ الْحَالِمَةِ وَإِنْ كَانَتْ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا الْجِزْيَةُ .
بَابُ الْجِزْيَةِ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ خَرَاجِ الْأَرَاضِي ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ خَرَاجَ الرُّءُوسِ وَهُوَ الْجِزْيَةُ ، إلَّا أَنَّهُ قَدَّمَ الْأَوَّلَ لِأَنَّ الْعُشْرَ يُشَارِكُهُ فِي سَبَبِهِ ، وَفِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَبَيَانُ الْقُرُبَاتِ مُقَدَّمٌ .
وَالْجِزْيَةُ اسْمٌ لِمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْجَمْعُ الْجِزَى كَاللِّحْيَةِ وَاللِّحَى ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِهَا لِأَنَّهَا تُجْزِي عَنْ الذِّمِّيِّ : أَيْ تَقْضِي وَتَكْفِي عَنْ الْقَتْلِ ، فَإِنَّهُ إذَا قَبِلَهَا سَقَطَ عَنْهُ الْقَتْلُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهْم صَاغِرُونَ } فَإِنْ قِيلَ الْكُفْرُ مَعْصِيَةٌ وَهُوَ أَعْظَمُ الْكَبَائِرِ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَخْذُ الْبَدَلِ عَلَى تَقْرِيرِهِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْجِزْيَةَ لَمْ تَكُنْ بَدَلًا عَنْ تَقْرِيرِ الْكُفْرِ ، وَإِنَّمَا هِيَ عِوَضٌ عَنْ تَرْكِ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ الْوَاجِبَيْنِ فَجَازَ كَإِسْقَاطِ الْقِصَاصِ بِعِوَضٍ ، أَوْ هِيَ عُقُوبَةٌ عَلَى الْكُفْرِ فَيَجُوزُ كَالِاسْتِرْقَاقِ ( قَوْلُهُ وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ ) ظَاهِرٌ .
وَنَجْرَانُ بِلَادٌ وَأَهْلُهَا نَصَارَى ، وَالْحُلَّةُ إزَارٌ وَرِدَاءٌ هُوَ الْمُخْتَارُ ، وَلَا تُسَمَّى حُلَّةً حَتَّى تَكُونَ ثَوْبَيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ التَّرَاضِي ) أَيْ الْمُوجِبُ لِتَقْرِيرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ مِنْ الْمَالِ هُوَ التَّرَاضِي لَا الْمُوجِبُ لِوُجُوبِ الْجِزْيَةِ ، فَإِنَّ مُوجِبَهُ فِي الْأَصْلِ اخْتِيَارُهُمْ الْبَقَاءَ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ غَلَبُوا .
وَقَوْلُهُ ( فَيَضَعُ عَلَى الْغَنِيِّ الظَّاهِرِ الْغِنَى ) قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : مَنْ مَلَكَ مَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ أَوْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا لَكِنَّهُ مُعْتَمِلٌ فَعَلَيْهِ اثْنَا عَشَرَ ، وَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا إلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَهُوَ مُعْتَمِلٌ أَيْضًا فَعَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا ، وَمَنْ مَلَكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَهُوَ مُعْتَمِلٌ
أَيْضًا فَعَلَيْهِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ .
ثُمَّ قَالَ : وَإِنَّمَا شَرْطُ الْمُعْتَمِلِ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ عُقُوبَةٌ فَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ حَتَّى لَا يَلْزَمَ الزَّمِنَ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ وَإِنْ كَانَ مُفْرِطًا فِي الْيَسَارِ .
قَالَ : وَالْمُعْتَمِلُ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ حِرْفَةً .
وَكَانَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ يَقُولُ : يُنْظَرُ إلَى عَادَةِ كُلِّ بَلَدٍ لِأَنَّ عَادَةَ الْبُلْدَانِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْغِنَى ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَاحِبَ خَمْسِينَ أَلْفًا بِبَلْخٍ يُعَدُّ مِنْ الْمُكْثِرِينَ وَإِنْ كَانَ بِبَغْدَادَ أَوْ بِالْبَصْرَةِ لَا يُعَدُّ مِنْ الْمُكْثِرِينَ ، وَفِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ صَاحِبُ عَشَرَةِ آلَافٍ يُعَدُّ مِنْ الْمُكْثِرِينَ ، فَيَعْتَبِرُ عَادَةُ كُلِّ بَلَدٍ وَذُكِرَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ } مَعْنَاهُ بَالِغٌ وَبَالِغَةٌ ( أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ ) أَيْ أَوْ خُذْ مِثْلَ دِينَارٍ بُرْدًا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ يُقَالُ ثَوْبٌ مَعَافِرِيٌّ مَنْسُوبٌ إلَى مَعَافِرِ بْنِ مُرٍّ ثُمَّ صَارَ لَهُ اسْمًا بِغَيْرِ نِسْبَةٍ .
وَذُكِرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ مَعَافِرٌ حَيٌّ مِنْ هَمْدَانَ يُنْسَبُ إلَيْهِ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الثِّيَابِ وَعَدْلُ الشَّيْءِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ مِثْلُهُ إذَا كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ وَبِالْكَسْرِ مِثْلُهُ مِنْ جِنْسِهِ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ وَجَبَ نُصْرَةً لِلْمُقَاتِلَةِ ) وَكُلُّ مَا وَجَبَ نُصْرَةً لِلْمُقَاتِلَةِ وَجَبَ مُتَفَاوِتًا ( كَمَا فِي خَرَاجِ الْأَرْضِ ) وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ وَجَبَ نُصْرَةً لِلْمُقَاتِلَةِ : يَعْنِي وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ نُصْرَةً لِلْمُقَاتِلَةِ لِأَنَّهَا تَجِبُ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ لِلْمُسْلِمِينَ بِبَذْلِ النَّفْسِ وَالْمَالِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ تَجِبُ عَلَيْهِ النُّصْرَةُ لِلدَّارِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى