كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي
) فِي رِوَايَةٍ يَحْرُمُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَحْرُمُ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ .
( وَفِي صَيْدِ الْحَرَمِ إذَا ذَبَحَهُ الْحَلَالُ قِيمَتُهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ ) ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ اسْتَحَقَّ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْحَرَمِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ { وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا } " ( وَلَا يُجْزِيهِ الصَّوْمُ ) ؛ لِأَنَّهَا غَرَامَةٌ وَلَيْسَتْ بِكَفَّارَةٍ ، فَأَشْبَهَ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ يَجِبُ بِتَفْوِيتِ وَصْفٍ فِي الْمَحَلِّ وَهُوَ الْأَمْنُ وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ جَزَاءٌ عَلَى فِعْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِيهِ وَهُوَ إحْرَامُهُ ، وَالصَّوْمُ يُصْلِحُ جَزَاءَ الْأَفْعَالِ لَا ضَمَانَ الْمَحَالِّ .
وَقَالَ زُفَرٌ : يُجْزِيهِ الصَّوْمُ اعْتِبَارًا بِمَا وَجَبَ عَلَى الْمُحْرِمِ ، وَالْفَرْقُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَهَلْ يَجْزِيهِ الْهَدْيُ ؟ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ .
قَالَ : ( وَفِي صَيْدِ الْحَرَمِ إذَا ذَبَحَهُ الْحَلَالُ ) إذَا قَتَلَ الْحَلَالُ صَيْدَ الْحَرَمِ وَجَبَ عَلَيْهِ ( قِيمَتُهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ ) لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
فَإِنْ قِيلَ : الصَّيْدُ كَمَا اسْتَحَقَّ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْحَرَمِ فَكَذَلِكَ اسْتَحَقَّهُ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ ، فَإِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدَ الْحَرَمِ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
قُلْت : وُجُوبُ الْكَفَّارَتَيْنِ وَجْهُ الْقِيَاسِ ، صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْإِيضَاحِ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّيْدُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ جَمِيعًا فَاسْتَتْبَعَ الْأَقْوَى الْأَضْعَفَ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَا يُجْزِيهِ الصَّوْمُ ) فَرَّقَ بَيْنَ قَتْلِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ وَقَتْلِ الْحَلَالِ صَيْدَ الْحَرَمِ ، فِي جَوَازِ الصَّوْمِ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاءُ فِعْلِهِ ، وَلِهَذَا تَعَدَّدَ إذَا قَتَلَ الْمُحْرِمَانِ الصَّيْدَ وَاحِدًا ، وَعَلَى الْحَلَالِ بَدَلُ مَا فَاتَ عَنْ الْمَحَلِّ مِنْ وَصْفِ الْأَمْنِ ، وَالصَّوْمُ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ جَزَاءَ الْفِعْلِ لَا بَدَلَ الْمَحَلِّ .
فَإِنْ قُلْت : هَذَا يُنَاقِضُ مَا ذَكَرْت آنِفًا أَنَّهُ يُؤَدَّى فِي ضِمْنِ أَدَاءِ جَزَاءِ الْإِحْرَامِ إذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدَ الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْمَحَلِّ لَا يُؤَدَّى فِي ضِمْنِ أَدَاءِ جَزَاءِ الْإِحْرَامِ كَمَا إذَا قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا .
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا قُلْنَا مِنْ الِاسْتِتْبَاعِ إنَّمَا كَانَ فِيمَا تَكُونُ الْحُرْمَتَانِ لِوَاحِدٍ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ فِيهِ بِإِزَاءِ الْفِعْلِ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَا وَجَبَ بِإِزَاءِ الْمَحَلِّ وَجَبَ لِلْعَبْدِ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْضِيَ بِمَا لِلَّهِ مَا لِلْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ افْتِقَارَ الْعَبْدِ مَانِعٌ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ .
وَعُورِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَدَلَ الْمَحَلِّ لَوَجَبَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْكَافِرِ إذَا
اسْتَهْلَكُوا صَيْدَ الْحَرَمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ ضَمَانَ الْمَحَلِّ لَكِنْ فِيهِ مَعْنَى الْجَزَاءِ حَتَّى إنَّ حَلَالًا إنْ أَصَابَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ فِي يَدِهِ حَلَالٌ آخَرُ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءٌ كَامِلٌ لِمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتْلِفٌ مِنْ جِهَةِ أَحَدِهِمَا بِالْأَخْذِ الْمُفَوِّتِ لِلْأَمْنِ وَالثَّانِي بِالْإِتْلَافِ حَقِيقَةً ، فَلَمْ يَلْزَمْ عَلَى مَنْ ذَكَرْتُمْ نَظَرًا إلَى الْجَزَاءِ ، ( وَهَلْ يُجْزِئُهُ الْهَدْيُ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ ) إحْدَاهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتَأَدَّى بِإِرَاقَةِ الدَّمِ بَلْ بِالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ اللَّحْمِ مِثْلَ قِيمَةِ الصَّيْدِ ؛ وَإِنْ سَرَقَ الْمَذْبُوحَ عَادَ الْوَاجِبُ كَمَا كَانَ ، وَالْأُخْرَى أَنَّهُ يَتَأَدَّى بِهَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ قَبْلَ الذَّبْحِ مِثْلَ قِيمَةِ الصَّيْدِ ، فَإِنْ سَرَقَ الْمَذْبُوحَ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ مَالٌ يُجْعَلُ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ طَرِيقٌ صَالِحٌ لِذَلِكَ شَرْعًا كَالتَّصَدُّقِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَحِّيَ يَجْعَلُ الْأُضْحِيَّةَ لِلَّهِ خَالِصَةً بِإِرَاقَةِ دَمِهَا فَكَذَلِكَ بِالْهَدْيِ .
( وَمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ بِصَيْدٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ فِيهِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ : حَقُّ الشَّرْعِ لَا يَظْهَرُ فِي مَمْلُوكِ الْعَبْدِ لِحَاجَةِ الْعَبْدِ .
وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ فِي الْحَرَمِ وَجَبَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ إذْ صَارَ هُوَ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ فَاسْتَحَقَّ الْأَمْنَ لِمَا رَوَيْنَا ( فَإِنْ بَاعَهُ رَدَّ الْبَيْعَ فِيهِ إنْ كَانَ قَائِمًا ) ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَجُزْ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ وَذَلِكَ حَرَامٌ ( وَإِنْ كَانَ فَائِتًا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ) ؛ لِأَنَّهُ تَعَرُّضٌ لِلصَّيْدِ بِتَفْوِيتِ الْأَمْنِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ ( وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ مِنْ مُحْرِمٍ أَوْ حَلَالٍ ) لِمَا قُلْنَا .وَقَوْلُهُ : ( وَمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ بِصَيْدٍ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَهُوَ حَلَالٌ حَتَّى يَظْهَرَ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ فِي الْمُحْرِمِ لَا يَتَوَقَّفُ وُجُوبُ الْإِرْسَالِ عَلَى دُخُولِ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِرْسَالُ بِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ بِالِاتِّفَاقِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الصَّيْدُ الَّذِي فِي يَدِهِ مَمْلُوكُهُ ، وَحَقُّ الشَّرْعِ لَا يَظْهَرُ فِي مَمْلُوكِ الْعَبْدِ لِحَاجَتِهِ ، ( وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ فِي الْحَرَمِ وَجَبَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ ) ، وَبَيَّنَ الْمُلَازَمَةَ بِقَوْلِهِ : ( إذْ صَارَ ) يَعْنِي الصَّيْدَ ( مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ ) بِالدُّخُولِ فِيهِ ، وَصَيْدُ الْحَرَمِ مُسْتَحِقُّ الْأَمْنِ ( لِمَا رَوَيْنَا ) مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ { وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا } ، وَقَوْلُهُ : ( فَإِنْ بَاعَهُ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( لِمَا قُلْنَا ) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ : لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَجُزْ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ .
( وَمَنْ أَحْرَمَ وَفِي بَيْتِهِ أَوْ فِي قَفَصٍ مَعَهُ صَيْدٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَرِّضٌ لِلصَّيْدِ بِإِمْسَاكِهِ فِي مِلْكِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ .
وَلَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يُحْرِمُونَ وَفِي بُيُوتِهِمْ صُيُودٌ وَدَوَاجِنُ ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ إرْسَالُهَا ، وَبِذَلِكَ جَرَتْ الْعَادَةُ الْفَاشِيَّةُ وَهِيَ مِنْ إحْدَى الْحُجَجِ ؛ وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَعَرِّضٍ مِنْ جِهَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ بِالْبَيْتِ وَالْقَفَصِ لَا بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ فِي مِلْكِهِ ، وَلَوْ أَرْسَلَهُ فِي مَفَازَةٍ فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ الْمِلْكِ .
وَقِيلَ : إذَا كَانَ الْقَفَصُ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ إرْسَالُهُ لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضِيعُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَمَنْ أَحْرَمَ وَفِي بَيْتِهِ أَوْ فِي قَفَصٍ مَعَهُ صَيْدٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ بِالِاتِّفَاقِ وَلِهَذَا قَاسَ الشَّافِعِيُّ صُورَةَ النِّزَاعِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ : ( كَمَا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ ) ، وَقَوْلُهُ : ( وَلَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَبِذَلِكَ جَرَتْ الْعَادَةُ الْفَاشِيَةُ ) فَإِنَّ النَّاسَ يُحْرِمُونَ وَلَهُمْ بُيُوتُ الْحَمَامِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ إرْسَالُهَا .
وَقَوْلُهُ : ( وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ ) دَلِيلٌ آخَرُ يَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ عَنْ دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَاجِبَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ وَهُوَ حَاصِلٌ إذَا لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ ؛ ( لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ بِالْبَيْتِ وَالْقَفَصِ لَا بِهِ ) وَالتَّعَرُّضُ بِالْإِمْسَاكِ فِي الْمِلْكِ لَيْسَ بِمُنَافٍ ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَهُ فِي الْمَفَازَةِ فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ الْمِلْكِ وَإِلَّا لَزِمَ الْجَزَاءُ أَرْسَلَ أَوْ لَمْ يُرْسِلْ ، ( وَقِيلَ إذَا كَانَ الْقَفَصُ فِي يَدِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَرِّضٌ لَهُ بِمَسْكِهِ ، ( لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضِيعُ ) بِأَنْ يُخَلِّيَهُ فِي بَيْتِهِ ؛ لِأَنَّ إضَاعَةَ الْمَالِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا .
قَالَ ( فَإِنْ أَصَابَ حَلَالٌ صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ فَأَرْسَلَهُ مِنْ يَدِهِ غَيْرُهُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَالَا : لَا يَضْمَنُ ) ؛ لِأَنَّ الْمُرْسِلَ آمِرٌ بِالْمَعْرُوفِ نَاهٍ عَنْ الْمُنْكَرِ وَ { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } وَلَهُ أَنَّهُ مَلَكَ الصَّيْدَ بِالْأَخْذِ مِلْكًا مُحْتَرَمًا فَلَا يَبْطُلُ احْتِرَامُهُ بِإِحْرَامِهِ وَقَدْ أَتْلَفَهُ الْمُرْسِلُ فَيَضْمَنُهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَخَذَهُ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ .
وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ التَّعَرُّضِ وَيُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِأَنْ يُخَلِّيَهُ فِي بَيْتِهِ ، فَإِذَا قَطَعَ يَدَهُ عَنْهُ كَانَ مُتَعَدِّيًا ، وَنَظِيرُهُ الِاخْتِلَافُ فِي كَسْرِ الْمَعَازِفِ .
وَقَوْلُهُ : ( فَإِنْ أَصَابَ حَلَالٌ صَيْدًا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( مَلَكَ الصَّيْدَ بِالْأَخْذِ مِلْكًا مُحْتَرَمًا ) احْتِرَازٌ عَمَّا أَخَذَهُ الْمُحْرِمُ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الصَّيْدَ ، وَالْمِلْكُ الْمُحْتَرَمُ لَا يَبْطُلُ بِالْإِحْرَامِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ مَلَكَهُ مِلْكًا مُحْتَرَمًا بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَلَالَ إذَا أَخَذَ الصَّيْدَ ثُمَّ أَحْرَمَ فَأَرْسَلَهُ ثُمَّ حَلَّ فَوَجَدَهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ كَانَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَخَذَ الصَّيْدَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ثُمَّ أَرْسَلَهُ ثُمَّ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ فَوَجَدَهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ ، وَإِذَا كَانَ مِلْكًا مُحْتَرَمًا وَقَدْ أَتْلَفَهُ الْمُرْسِلُ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا أَنَّهُ مَلَكَهُ مِلْكًا مُحْتَرَمًا وَلَكِنْ وَجَبَ إخْرَاجُهُ مِنْ الْمِلْكِ تَرْكًا لِلتَّعَرُّضِ الْوَاجِبِ التَّرْكِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ : ( وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ التَّعَرُّضِ ) لَا الْإِخْرَاجُ عَنْ مِلْكِهِ ، ( وَيُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِأَنْ يُخَلِّيَهُ فِي بَيْتِهِ ، فَإِذَا قَطَعَ عَنْهُ يَدَهُ ) بِالْإِرْسَالِ ( كَانَ مُتَعَدِّيًا ) فَيَضْمَنُ ، ( وَنَظِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ الِاخْتِلَافُ فِي كَسْرِ الْمَعَازِفِ ) ، فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ فِيهِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ آمِرٌ بِالْمَعْرُوفِ نَاهٍ عَنْ الْمُنْكَرِ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجِبُ الضَّمَانُ لِغَيْرِ لَهْوٍ .
( وَإِنْ أَصَابَ مُحْرِمٌ صَيْدًا فَأَرْسَلَهُ مِنْ يَدِهِ غَيْرُهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْأَخْذِ ، فَإِنَّ الصَّيْدَ لَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } فَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَى الْخَمْرَ ( فَإِنْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ فِي يَدِهِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاؤُهُ ) ؛ لِأَنَّ الْآخِذَ مُتَعَرِّضٌ لِلصَّيْدِ الْآمِنِ ، وَالْقَاتِلُ مُقَرِّرٌ لِذَلِكَ ، وَالتَّقْرِيرُ كَالِابْتِدَاءِ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ كَشُهُودِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا رَجَعُوا ( وَيَرْجِعُ الْآخِذُ عَلَى الْقَاتِلِ ) وَقَالَ زُفَرٌ : لَا يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّ الْآخِذَ مُؤَاخَذٌ بِصُنْعِهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِهِ .
وَلَنَا أَنَّ الْآخِذَ إنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ عِنْدَ اتِّصَالِ الْهَلَاكِ بِهِ ، فَهُوَ بِالْقَتْلِ جَعَلَ فِعْلَ الْآخِذِ عِلَّةً فَيَكُونُ فِي مَعْنَى مُبَاشَرَةِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ فَيُحَالُ بِالضَّمَانِ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ أَصَابَ مُحْرِمٌ صَيْدًا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( فَإِنْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ فِي يَدِهِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاؤُهُ ؛ لِأَنَّ الْآخِذَ مُتَعَرِّضٌ لِلصَّيْدِ الْآمِنِ ) ، وَالتَّعَرُّضُ لَهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ الْمُوجِبَةِ لِلْجَزَاءِ ، ( وَالْقَاتِلُ مُقَرِّرٌ لِذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بَعْدَ الْأَخْذِ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْإِرْسَالِ وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ بِهِ وَتَقَرَّرَ التَّعَرُّضُ ، ( وَالتَّقْرِيرُ كَالِابْتِدَاءِ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ كَشُهُودِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا رَجَعُوا ) ، فَإِنَّهُمْ يَضْمَنُونَ بِمَا أَقَرُّوا بِشَهَادَتِهِمْ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ بِتَمْكِينِ ابْنِ الزَّوْجِ عَلَى مَا عُرِفَ ، ( ثُمَّ يَرْجِعُ الْآخِذُ عَلَى الْقَاتِلِ ) بِمَا ضَمِنَ مِنْ الْجَزَاءِ ، ( وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَرْجِعُ ) لِأَنَّ الْآخِذَ إنَّمَا أَخَذَ بِصُنْعِهِ ، وَمَنْ أَخَذَ بِصُنْعِهِ لَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِهِ فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْمِلْكَ لِئَلَّا يَسْتَلْزِمَ تَنْزِيلَ الرَّاجِعِ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ بِوَاسِطَةِ الضَّمَانِ فِيمَا هُوَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْمِلْكِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ ، كَمُسْلِمٍ غَصَبَ خِنْزِيرَ ذِمِّيٍّ ، فَأَتْلَفَهُ فِي يَدِهِ آخَرُ فَضَمَّنَ الذِّمِّيُّ الْغَاصِبَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُتْلِفِ بِشَيْءٍ ، ( وَلَنَا أَنَّ الْأَخْذَ إنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ عِنْدَ اتِّصَالِ الْهَلَاكِ بِهِ ، فَهُوَ ) أَيْ : الْقَاتِلُ ( بِالْقَتْلِ جَعَلَ فِعْلَ الْآخِذِ عِلَّةً ، فَيَكُونُ ) قَتْلُهُ ( فِي مَعْنَى مُبَاشَرَةِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ فَيُضَافُ الضَّمَانُ إلَيْهِ ) كَغَاصِبِ الْغَاصِبِ إذَا أُتْلِفَ الْمَغْصُوبُ وَضَمِنَهُ الْغَاصِبُ ، فَإِنَّ حَاصِلَ الضَّمَانِ يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الرُّجُوعَ يَسْتَلْزِمُ تَضْمِينَ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ وَمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ وَإِلْزَامُ أَكْثَرَ مِمَّا لَزِمَهُ .
فَإِنَّ مَا لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ يُفْتَى بِهَا وَيُجْزِئُهُ الصَّوْمُ فِيهِ .
وَبِالرُّجُوعِ يُطَالِبُهُ بِضَمَانٍ مَحْكُومٍ بِهِ وَيُحْبَسُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِمَّا لَزِمَهُ فَلَا يَجُوزُ .
وَأُجِيبَ عَنْ
الْأَوَّلِ بِأَنَّ الضَّمَانَ لَمْ يَسْتَلْزِمْ الْمِلْكَ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ إزَالَةِ يَدٍ مُحْتَرَمَةٍ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْآخِذَ كَانَ مُتَمَكِّنًا بِيَدِهِ مِنْ الْإِرْسَالِ وَإِسْقَاطِ الْجَزَاءِ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَدْ فَوَّتَهَا الْقَاتِلُ عَلَيْهِ فَيَضْمَنُهُ كَغَاصِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا أَتْلَفَهُ إنْسَانٌ فِي يَدِهِ فَأَدَّى الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْقَاتِلِ بِقِيمَتِهِ كَمَا لَوْ مَلَكَهُ وَإِنْ كَانَ الْمُدَبَّرُ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّفَاوُتِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ ، كَالْأَبِ إذَا غَصَبَ مُدَبَّرَ ابْنِهِ فَغَصَبَهُ مِنْهُ آخَرُ ، ثُمَّ الِابْنُ ضَمِنَ الْأَبُ رَجَعَ الْأَبُ عَلَى الْغَاصِبِ وَيَحْبِسُهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَحْبِسُ فِيمَا لَزِمَهُ لِابْنِهِ .
وَالْجَوَابُ عَمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ زُفَرُ أَنَّ غَاصِبَ الْخِنْزِيرِ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ عَنْ مَحَلِّيَّةِ التَّمَلُّكِ لِإِهَانَتِهِ ، بِخِلَافِ الصَّيْدِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيهِ لِزِيَادَةِ احْتِرَامٍ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ بِإِحْرَامِهِ كَحُرْمَةِ الْآدَمِيِّ فَتَثْبُتُ لَهُ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ مِلْكٌ .
( فَإِنْ قَطَعَ حَشِيشَ الْحَرَمِ أَوْ شَجَرَةً لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ إلَّا فِيمَا جَفَّ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُمَا ثَبَتَتْ بِسَبَبِ الْحَرَمِ ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا } " وَلَا يَكُونُ لِلصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْقِيمَةِ مَدْخَلٌ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ تَنَاوُلِهَا بِسَبَبِ الْحَرَمِ لَا بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَكَانَ مِنْ ضَمَانِ الْمَحَالِّ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَيَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ ، وَإِذَا أَدَّاهَا مَلَكَهُ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ .
وَيُكْرَهُ بَيْعُهُ بَعْدَ الْقَطْعِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ شَرْعًا ، فَلَوْ أُطْلِقَ لَهُ فِي بَيْعِهِ لَتَطَرَّقَ النَّاسُ إلَى مِثْلِهِ ، إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ الْبَيْعُ مَعَ الْكَرَاهَةِ ، بِخِلَافِ الصَّيْدِ ، وَالْفَرْقُ مَا نَذْكُرُهُ .
وَاَلَّذِي يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً عَرَفْنَاهُ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ لِلْأَمْنِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ الْمَنْسُوبَ إلَى الْحَرَمِ وَالنِّسْبَةُ إلَيْهِ عَلَى الْكَمَالِ عِنْدَ عَدَمِ النِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ بِالْإِنْبَاتِ .
وَمَا لَا يَنْبُتُ عَادَةً إذَا أَنْبَتَهُ إنْسَانٌ الْتَحَقَ بِمَا يَنْبُتُ عَادَةً .
وَلَوْ نَبَتَ بِنَفْسِهِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ فَعَلَى قَاطِعِهِ قِيمَتَانِ : قِيمَةٌ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ حَقًّا لِلشَّرْعِ ، وَقِيمَةٌ أُخْرَى ضَمَانًا لِمَالِكِهِ كَالصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ فِي الْحَرَمِ ، وَمَا جَفَّ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ لَا ضَمَانَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَامٍ .
قَالَ : ( فَإِنْ قَطَعَ حَشِيشَ الْحَرَمِ ) اعْلَمْ أَنَّ حَشِيشَ الْحَرَمِ وَشَجَرَهُ عَلَى نَوْعَيْنِ : شَجَرٌ أَنْبَتَهُ الْإِنْسَانُ .
وَشَجَرٌ يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَوْعَيْنِ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ أَوْ لَا يَكُونُ .
وَالْأَوَّلُ بِنَوْعَيْهِ لَا يُوجِبُ الْجَزَاءَ ، وَالْأَوَّلُ مِنْ الثَّانِي كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْجَزَاءُ فِي الثَّانِي مِنْهُ وَهُوَ مَا نَبَتَ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ ، وَيَسْتَوِي فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ بِأَنْ يَنْبُتَ فِي مِلْكِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، حَتَّى قَالُوا فِي رَجُلٍ نَبَتَتْ فِي مِلْكِهِ أُمُّ غَيْلَانَ فَقَطَعَهَا إنْسَانٌ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا لِمَالِكِهَا وَعَلَيْهِ قِيمَةٌ أُخْرَى لِحَقِّ الشَّرْعِ ، فَقَوْلُهُ فَإِنْ قَطَعَ حَشِيشَ الْحَرَمِ إلَى أَنْ قَالَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ إشَارَةً إلَى هَذَا النَّوْعِ الْأَخِيرِ لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إلَى الْحَرَمِ وَقَالَ وَهُوَ مِمَّا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ .
وَقَوْلُهُ ( لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا ) أَيْ لَا يُحْصَدُ رُطَبُ مَرْعَاهَا وَلَا يُقْطَعُ شَوْكُهَا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ حُرْمَةَ تَنَاوُلِهَا بِسَبَبِ الْحَرَمِ لَا بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ ) ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَيْسَ بِمَمْنُوعٍ مِنْ الِاحْتِشَاشِ وَالِاحْتِطَابِ خَارِجَ الْحَرَمِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّا ) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهَا غَرَامَةٌ وَلَيْسَتْ بِكَفَّارَةٍ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الصَّيْدِ ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ صَيْدٍ اصْطَادَهُ مُحْرِمٌ أَوْ بَيْعُ صَيْدِ الْحَرَمِ أَصْلًا ( وَالْفَرْقُ مَا نَذْكُرُهُ ) يُرِيدُ قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ حَيًّا تَعَرُّضٌ لِلصَّيْدِ الْآمِنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَاَلَّذِي يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَهُوَ مِمَّا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا لَا يَنْبُتُ عَادَةً إذَا أَنْبَتَهُ إنْسَانٌ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَاَلَّذِي يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً : يَعْنِي مَا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً إذَا أَنْبَتَهُ إنْسَانٌ الْتَحَقَ بِمَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ فَكَانَ غَيْرَ مُسْتَحَقِّ
الْأَمْنِ إلْحَاقًا بِمَحَلِّ الْإِجْمَاعِ بِجَامِعِ انْقِطَاعِ كَمَالِ النِّسْبَةِ إلَى الْحَرَمِ عِنْدَ النِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ بِالْإِنْبَاتِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ نَبَتَ بِنَفْسِهِ ) يَعْنِي الَّذِي لَا يَنْبُتُ عَادَةً لَوْ نَبَتَ بِنَفْسِهِ ( فِي مِلْكِ رَجُلٍ ) قَدْ ظَهَرَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا .
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّبَاتَ يُمْلَكُ بِالْأَخْذِ فَكَيْفَ تَجِبُ الْقِيمَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَالثَّانِي أَنَّ الْحَرَمَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ قَوْلُهُ وَقِيمَةٌ أُخْرَى ضَمَانًا لِمَالِكِهِ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ : الْمَاءِ وَالْكَلَإِ ، وَالنَّارِ } مَحْمُولٌ عَلَى خَارِجِ الْحَرَمِ ، وَأَمَّا حُكْمُ الْحَرَمِ فَبِخِلَافِهِ لِأَنَّهُ حَرَّمَ التَّعَرُّضَ بِالنَّصِّ كَصَيْدِهِ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى تَمَلُّكَ أَرْضِ الْحَرَمِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا جَفَّ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ ) بَيَانُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي مَطْلَعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
( وَلَا يُرْعَى حَشِيشُ الْحَرَمِ وَلَا يُقْطَعُ إلَّا الْإِذْخِرَ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا بَأْسَ بِالرَّعْيِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً ، فَإِنَّ مَنْعَ الدَّوَابِّ عَنْهُ مُتَعَذِّرٌ .
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا ، وَالْقَطْعُ بِالْمَشَافِرِ كَالْقَطْعِ بِالْمَنَاجِلِ ، وَحَمْلُ الْحَشِيشِ مِنْ الْحِلِّ مُمْكِنٌ فَلَا ضَرُورَةَ ، بِخِلَافِ الْإِذْخِرِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجُوزُ قَطْعُهُ وَرَعْيُهُ ، وَبِخِلَافِ الْكَمْأَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جُمْلَةِ النَّبَاتِ .
وَقَوْلُهُ ( لَا بَأْسَ بِالرَّعْيِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً ) يَعْنِي أَنَّ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْحَرَمَ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ يَكُونُونَ عَلَى الدَّوَابِّ وَمَنْعُهَا عَنْهُ مُتَعَذِّرٌ فَتَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ ( وَلَنَا مَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا } وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الضَّرُورَةُ فِيمَا لَا يَكُونُ فِيهِ نَصٌّ بِخِلَافِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : النَّصُّ فِي الْقَطْعِ لَا فِي الرَّعْيِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَالْقَطْعُ بِالْمَشَافِرِ كَالْقَطْعِ بِالْمَنَاجِلِ ) شَفْرَةُ كُلِّ شَيْءٍ حَرْفُهُ ، وَمِشْفَرُ الْبَعِيرِ شَفَتُهُ ، وَالْمَنَاجِلُ جَمْعُ مِنْجَلٍ وَهُوَ مَا يُحْصَدُ بِهِ الزَّرْعُ ، وَقَوْلُهُ ( وَحَمْلُ الْحَشِيشِ ) يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ النَّصَّ فِي الْقَطْعِ لَا فِي الرَّعْيِ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ الضَّرُورَةَ ؛ لِأَنَّ حَمْلَ الْحَشِيشِ ( مِنْ الْحِلِّ مُمْكِنٌ فَلَا ضَرُورَةَ ) فَإِنْ قِيلَ : مَا بَالُ الْإِذْخِرِ لَمْ يَحْرُمْ رَعْيُهُ وَلَا ضَرُورَةَ فِيهِ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( بِخِلَافِ الْإِذْخِرِ ) ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَثْنَاهُ فَيَجُوزُ رَعْيُهُ .
وَرُوِيَ { أَنَّ الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا قَالَ : إلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لِقُبُورِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : إلَّا الْإِذْخِرَ } وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ يُسْتَثْنَى إلَّا أَنَّ الْعَبَّاسَ سَبَقَهُ بِذَلِكَ .
أَوْ كَانَ أَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَنْ يُرَخِّصَ فِيمَا يَسْتَثْنِيهِ الْعَبَّاسُ .
فَإِنْ قِيلَ : عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ كَانَ قَوْلُهُ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا عَامًّا مَخْصُوصًا بِمُقَارِنٍ فَلْيُخَصَّ الرَّعْيُ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ .
قُلْت : الِاسْتِثْنَاءُ لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَاهُ كَانَ الْإِذْخِرُ مَخْصُوصًا بِالضَّرُورَةِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنْ لَا ضَرُورَةَ فِي الرَّعْيِ .
وَقَوْلُهُ ( وَبِخِلَافِ الْكَمْأَةِ )
مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِخِلَافِ الْإِذْخِرِ : يَعْنِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَاخِلَةٍ فِي الْمُحَرَّمَاتِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جُمْلَةِ نَبَاتِ الْأَرْضِ بَلْ هِيَ مُودَعَةٌ فِيهَا .
( وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ الْقَارِنُ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ عَلَى الْمُفْرِدِ دَمًا فَعَلَيْهِ دَمَانِ دَمٌ لِحَجَّتِهِ وَدَمٌ لِعُمْرَتِهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : دَمٌ وَاحِدٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَنَا بِإِحْرَامَيْنِ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ .
قَالَ ( إلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ بِالْعُمْرَةِ أَوْ الْحَجِّ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ وَاحِدٌ ) خِلَافًا لِزُفَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ إحْرَامٌ وَاحِدٌ وَبِتَأْخِيرِ وَاجِبٍ وَاحِدٍ لَا يَجِبُ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ .
قَالَ ( وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ الْقَارِنُ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ عَلَى الْمُفْرِدِ دَمًا فَعَلَيْهِ دَمَانِ ) كُلُّ مَا عَلَى الْمُفْرِدِ فِيهِ دَمٌ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ الْجِنَايَاتِ فَعَلَى الْقَارِنِ فِيهِ دَمَانِ ( دَمٌ لِحَجَّتِهِ وَدَمٌ لِعُمْرَتِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : دَمٌ وَاحِدٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ عِنْدَهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ وَعِنْدَنَا بِإِحْرَامَيْنِ وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ ) فَإِنْ قِيلَ : إحْرَامُ الْحَجِّ أَقْوَى لِكَوْنِهِ فَرْضًا دُونَ الْعُمْرَةِ ، وَإِذَا اجْتَمَعَ أَمْرَانِ فِي إيجَابِ حُكْمٍ وَاحِدٍ وَأَحَدُهُمَا أَقْوَى مِنْ الْآخَرِ فَإِنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَيْهِ وَيُجْعَلُ الْأَضْعَفُ كَالْمَعْدُومِ ، كَمَا ذَكَرْتُمْ فِي الْمُحْرِمِ إذَا قَتَلَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ أَقْوَى .
فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ الْأَصْلَ صَحِيحٌ وَلَكِنْ لَيْسَ إحْرَامُ الْحَجِّ أَقْوَى مِنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ فَإِنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ عَلَى انْفِرَادِهِ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِهَا جَمِيعُ مَا يَحْرُمُ إحْرَامَ الْحَجِّ فَكَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فَلَا يَسْتَتْبِعُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَخْتَصَّ وُجُوبُ الدَّمَيْنِ عَلَى الْقَارِنِ بِمَا إذَا كَانَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، فَأَمَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ بِهَا فَفِي الْجِمَاعِ يَجِبُ دَمَانِ ، وَفِي سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ دَمٌ وَاحِدٌ لِمَا أَنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ إنَّمَا بَقِيَ فِي حَقِّ التَّحَلُّلِ لَا غَيْرُ .
قُلْت بَعْدَ ذَلِكَ : وَإِنْ كَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ذَكَرَ مِثْلَ مَا ذَكَرْت .
وَوَجْهُ الْبُعْدِ أَنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَفْعَالِهَا لَمْ يَبْقَ إلَّا فِي حَقِّ التَّحَلُّلِ خَاصَّةً فَكَانَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَعَلَيْهِ دَمَانِ ) .
وَقَوْلُهُ ( خِلَافًا لِزُفَرَ ) يَعْنِي أَنَّهُ يَقُولُ عَلَيْهِ دَمَانِ لِكُلِّ إحْرَامٍ دَمٌ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ .
وَلَنَا ( أَنَّ
الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ إحْرَامٌ وَاحِدٌ ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ لِلْعُمْرَةِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ كَانَ جَائِزًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ قَارِنٌ أَيْضًا ( وَبِتَأْخِيرِ وَاجِبٍ وَاحِدٍ لَا يَجِبُ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ ) .
( وَإِذَا اشْتَرَكَ مُحْرِمَانِ فِي قَتْلِ صَيْدٍ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءٌ كَامِلٌ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالشَّرِكَةِ يَصِيرُ جَانِيًا جِنَايَةً تَفُوقُ الدَّلَالَةَ فَيَتَعَدَّدُ الْجَزَاءُ بِتَعَدُّدِ الْجِنَايَةِ .
( وَإِذَا اشْتَرَكَ حَلَالَانِ فِي قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِمَا جَزَاءٌ وَاحِدٌ ) ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بَدَلٌ عَنْ الْمَحَلِّ لَا جَزَاءٌ عَنْ الْجِنَايَةِ فَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِ الْمَحَلِّ ، كَرَجُلَيْنِ قَتَلَا رَجُلًا خَطَأً تَجِبُ عَلَيْهِمَا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ .( وَإِذَا اشْتَرَكَ مُحْرِمَانِ فِي قَتْلِ صَيْدٍ ) وَاحِدٍ ( فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءٌ كَامِلٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : عَلَيْهِمَا جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَحَلِّ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ الدَّالُّ الَّذِي لَمْ يَتَّصِلْ فِعْلُهُ بِالْمَحَلِّ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَالْمَحَلُّ هَاهُنَا وَاحِدٌ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ ، وَقَاسَ بِصَيْدِ الْحَرَمِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالشَّرِكَةِ يَصِيرُ جَانِيًا جِنَايَةً تَفُوقُ الدَّلَالَةَ أَمَّا أَنَّهُ يَصِيرُ جَانِيًا ؛ فَلِأَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ إذَا صَدَرَ مِنْ فَاعِلَيْنِ يُضَافُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَامِلًا كَمَا فِي الْقِصَاصِ وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، وَأَمَّا أَنَّهُ جِنَايَةٌ تَفُوقُ الدَّلَالَةَ فَلِاتِّصَالِهِ بِالْمَحَلِّ دُونَهَا ، وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَانِيًا تِلْكَ الْجِنَايَةَ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُتَعَدِّدَةً وَتَعَدُّدُهَا يُوجِبُ تَعَدُّدَ الْجَزَاءِ لَا مَحَالَةَ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا اشْتَرَكَ حَلَالَانِ فِي قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ ) وَهُوَ عَكْسُ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ
( وَإِذَا بَاعَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ أَوْ ابْتَاعَهُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ) ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ حَيًّا تَعَرُّضٌ لِلصَّيْدِ الْآمِنِ وَبَيْعُهُ بَعْدَمَا قَتَلَهُ بَيْعُ مَيْتَةٍ .( وَإِذَا بَاعَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ أَوْ ابْتَاعَهُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ حَيًّا تَعَرُّضٌ لِلصَّيْدِ الْآمِنِ ) وَالتَّعَرُّضُ لِلصَّيْدِ الْآمِنِ بِالْبَيْعِ بَاطِلٌ لِخُرُوجِهِ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ بِتَحْرِيمِ الشَّرْعِ كَخُرُوجِهِ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الذَّبْحِ لِذَلِكَ وَالْبَيْعُ الْمُضَافُ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ بَاطِلٌ ( وَبَيْعُهُ بَعْدَمَا قَتَلَهُ بَيْعُ مَيْتَةٍ ) وَبَيْعُ الْمَيْتَةِ بَاطِلٌ لِعَدَمِ الْمَحَلِّ .
( وَمَنْ أَخْرَجَ ظَبْيَةً مِنْ الْحَرَمِ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا فَمَاتَتْ هِيَ وَأَوْلَادُهَا فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُنَّ ) ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْحَرَمِ بَقِيَ مُسْتَحِقًّا لِلْأَمْنِ شَرْعًا وَلِهَذَا وَجَبَ رَدُّهُ إلَى مَأْمَنِهِ ، وَهَذِهِ صِفَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَتَسْرِي إلَى الْوَلَدِ ( فَإِنْ أَدَّى جَزَاءَهَا ثُمَّ وَلَدَتْ لَيْسَ عَلَيْهِ جَزَاءُ الْوَلَدِ ) ؛ لِأَنَّ بَعْدَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ لَمْ تَبْقَ آمِنَةً ؛ لِأَنَّ وُصُولَ الْخَلَفِ كَوُصُولِ الْأَصْلِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَخْرَجَ ظَبْيَةً مِنْ الْحَرَمِ ) حَلَالًا كَانَ أَوْ مُحْرِمًا ( فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا فَمَاتَتْ هِيَ وَأَوْلَادُهَا فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُنَّ ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْحَرَمِ بَقِيَ مُسْتَحَقًّا لِلْأَمْنِ شَرْعًا ) يَعْنِي أَنَّ الصَّيْدَ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْحَرَمِ مُتَّصِفٌ بِصِفَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهِيَ بَقَاءُ اسْتِحْقَاقِهِ لِلْأَمْنِ شَرْعًا ، وَكُلُّ مَا اتَّصَفَ بِصِفَةٍ شَرْعِيَّةٍ صِفَتُهُ تِلْكَ تَسْرِي إلَى الْأَوْلَادِ .
أَمَّا اتِّصَافُهُ بِبَقَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْأَمْنِ شَرْعًا ؛ فَلِأَنَّ الرَّدَّ إلَى مَأْمَنِهِ وَاجِبٌ .
وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَا اتَّصَفَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ صِفَتُهُ تِلْكَ تَسْرِي إلَى الْأَوْلَادِ فَكَمَا فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَالْكِتَابَةِ وَغَيْرِهَا ، وَنُوقِضَ بِوَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ فَإِنَّهَا وَاجِبَةُ الرَّدِّ إلَى مَالِكِهَا ، وَهَذِهِ صِفَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَلَمْ تَسْرِ إلَى وَلَدِهَا ، فَإِنَّ زَوَائِدَ الْمَغْصُوبِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الصِّفَةَ الشَّرْعِيَّةَ تَسْرِي إلَى الْأَوْلَادِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ ، وَصِفَةُ الْمَغْصُوبِيَّةِ تَمْنَعُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصِفَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَلِأَنَّ تَصَوُّرَهَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَوْلَادِ ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ إزَالَةُ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ ، وَهِيَ فِي الْأَوْلَادِ لَا تَتَحَقَّقُ لِعَدَمِ ثُبُوتِ يَدٍ عَلَيْهَا تُزَالُ بِالْغَصْبِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
( وَإِذَا أَتَى الْكُوفِيُّ بُسْتَانَ بَنِي عَامِرٍ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى ذَاتِ عِرْقٍ وَلَبَّى بَطَلَ عَنْهُ دَمُ الْوَقْتِ ، وَإِنْ رَجَعَ إلَيْهِ وَلَمْ يُلَبِّ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ لِعُمْرَتِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : إنْ رَجَعَ إلَيْهِ مُحْرِمًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَسْقُطُ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ لَمْ تَرْتَفِعْ بِالْعَوْدِ وَصَارَ كَمَا إذَا أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ الْغُرُوبِ .
وَلَنَا أَنَّهُ تَدَارَكَ الْمَتْرُوكَ فِي أَوَانِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْأَفْعَالِ فَيَسْقُطُ الدَّمُ ، بِخِلَافِ الْإِفَاضَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَدَارَكْ الْمَتْرُوكَ عَلَى مَا مَرَّ .
غَيْرَ أَنَّ التَّدَارُكَ عِنْدَهُمَا بِعَوْدِهِ مُحْرِمًا ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ حَقَّ الْمِيقَاتِ كَمَا إذَا مَرَّ بِهِ مُحْرِمًا سَاكِنًا .
وَعِنْدَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِعَوْدِهِ مُحْرِمًا مُلَبِّيًا ؛ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ ، فَإِذَا تَرَخَّصَ بِالتَّأْخِيرِ إلَى الْمِيقَاتِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ حَقِّهِ بِإِنْشَاءِ التَّلْبِيَةِ فَكَانَ التَّلَافِي بِعَوْدِهِ مُلَبِّيًا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ بَعْدَ الْمُجَاوَزَةِ مَكَانَ الْعُمْرَةِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا .
وَلَوْ عَادَ بَعْدَمَا ابْتَدَأَ بِالطَّوَافِ ، وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَوْ عَادَ إلَيْهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ يَسْقُطُ بِالِاتِّفَاقِ ( وَهَذَا ) الَّذِي ذَكَرْنَا ( إذَا كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ ، فَإِنْ دَخَلَ الْبُسْتَانَ لِحَاجَةٍ فَلَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، وَوَقْتُهُ الْبُسْتَانُ ، وَهُوَ وَصَاحِبُ الْمَنْزِلِ سَوَاءٌ ) ؛ لِأَنَّ الْبُسْتَانَ غَيْرُ وَاجِبِ التَّعْظِيمِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِقَصْدِهِ ، وَإِذَا دَخَلَهُ الْتَحَقَ بِأَهْلِهِ ، وَلِلْبُسْتَانِيِّ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِلْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ لَهُ .
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَوَقْتُهُ الْبُسْتَانُ جَمِيعُ الْحِلِّ
الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَمِ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ ، فَكَذَا وَقْتُ الدَّاخِلِ الْمُلْحَقِ بِهِ ( فَإِنْ أَحْرَمَا مِنْ الْحِلِّ وَوَقَفَا بِعَرَفَةَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ ) يُرِيدُ بِهِ الْبُسْتَانِيَّ وَالدَّاخِلَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَحْرَمَا مِنْ مِيقَاتِهِمَا .
( بَابُ مُجَاوَزَةِ الْوَقْتِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ) : قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَمَّا ذَكَرَ بَابَ الْجِنَايَاتِ وَأَنْوَاعَهَا أَعْقَبَهُ ذِكْرَ بَابِ مُجَاوَزَةِ الْوَقْتِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْجِنَايَاتِ أَيْضًا ، إلَّا أَنَّ هَذَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ بَابِ الْجِنَايَاتِ وَمَا يَتْبَعُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ، وَمُطْلَقُ ذِكْرِ جِنَايَةِ الْمُحْرِمِ يَتَنَاوَلُ مَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَكَانَ كَامِلًا فِي اسْتِحْقَاقِ اسْمِ الْجِنَايَةِ فَلِذَلِكَ قَدَّمَهُ عَلَى هَذَا الْبَابِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرِّمَ لِلْأَشْيَاءِ الْمُوجِبَةِ لِلْكَفَّارَةِ هُوَ الْإِحْرَامُ وَالْإِحْرَامُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ارْتَكَبَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَتَمَكَّنَ بِهِ فِي حَجِّهِ نُقْصَانٌ ، وَنُقْصَانُهُ يُجْبَرُ بِالدَّمِ إلَّا إذَا تَدَارَكَ ذَلِكَ فِي أَوَانِهِ بِالرُّجُوعِ إلَى الْمِيقَاتِ مُلَبِّيًا قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ ( وَإِذَا أَتَى الْكُوفِيُّ بُسْتَانَ بَنِي عَامِرٍ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى ذَاتِ عِرْقٍ وَلَبَّى بَطَلَ عَنْهُ دَمُ الْوَقْتِ ) وَتَخْصِيصُهُ بِذَاتِ عِرْقٍ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ حَالِ الْكُوفِيِّ وَإِلَّا فَالرُّجُوعُ إلَيْهِ وَإِلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَوَاقِيتِ سَوَاءٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : يُنْظَرُ إنْ عَادَ إلَى مِيقَاتٍ .
وَذَلِكَ الْمِيقَاتُ يُحَاذِي الْمِيقَاتَ الْأَوَّلَ أَوْ أَبْعَدَ إلَى الْحَرَمِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ وَإِلَّا فَلَا ( وَإِنْ رَجَعَ إلَيْهِ لَكِنْ لَمْ يُلَبِّ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ لِعُمْرَتِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا : إنْ رَجَعَ مُحْرِمًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَسْقُطُ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ لَمْ تَرْتَفِعْ بِالْعَوْدِ ) ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمِيقَاتِ إنْشَاءُ الْإِحْرَامِ ، وَالرَّاجِعُ إلَيْهِ لَيْسَ
بِمُنْشِئٍ ( وَصَارَ كَمَا إذَا أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ الْغُرُوبِ .
وَلَنَا أَنَّهُ تَدَارَكَ الْمَتْرُوكَ فِي وَقْتِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْأَفْعَالِ ) وَتَدَارُكُ الْمَتْرُوكِ فِي أَوَانِهِ يُسْقِطُ الْكَفَّارَةَ ( بِخِلَافِ الْإِفَاضَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَدَارَكْ الْمَتْرُوكَ ) لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ هُنَاكَ اسْتِدَامَةُ الْوُقُوفِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَبِالْعَوْدِ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ عَلَى مَا مَرَّ .
وَبِهَذَا الْكَلَامِ تَمَّ الْحُجَّةُ عَلَى زُفَرَ وَبَقِيَ الْكَلَامُ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ التَّدَارُكَ هَلْ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْعَوْدِ أَوْ مَعَ التَّلْبِيَةِ ( عِنْدَهُمَا بِعَوْدِهِ مُحْرِمًا لِأَنَّهُ أَظْهَرَ حَقَّ الْمِيقَاتِ ) وَهُوَ الْمُرُورُ بِهِ مُحْرِمًا فَإِنَّهُ إذَا أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ وَمَرَّ بِهِ سَاكِتًا صَحَّ ( وَعِنْدَهُ بِعَوْدِهِ مُحْرِمًا مُلَبِّيًا ؛ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ ) فَإِذَا أَحْرَمَ مِنْهَا صَارَتْ مَوْضِعَ إحْرَامِهِ فَتُشْتَرَطُ التَّلْبِيَةُ هُنَاكَ ، فَإِذَا لَبَّى ثَمَّةَ ثُمَّ سَكَتَ عِنْدَ الْمُرُورِ بِالْمِيقَاتِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا إذَا تَرَخَّصَ بِالتَّأْخِيرِ إلَى الْمِيقَاتِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قَضَاءُ حَقِّهِ بِإِنْشَاءِ التَّلْبِيَةِ وَالْإِحْرَامِ ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ بِالْمُجَاوَزَةِ حَتَّى أَحْرَمَ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ ثُمَّ عَادَ ، فَإِنْ لَبَّى فَقَدْ أَتَى بِجَمِيعِ مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ فَلَمْ يَأْتِ بِجَمِيعِ مَا اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ ، وَالْخِلَافُ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ بَعْدَ الْمُجَاوَزَةِ كَالْخِلَافِ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ عَادَ بَعْدَمَا ابْتَدَأَ الطَّوَافَ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَإِنْ رَجَعَ إلَيْهِ وَلَمْ يُلَبِّ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ لِعُمْرَتِهِ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْعَوْدِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : فِي وَجْهٍ لَا يَسْقُطُ بِالْعَوْدِ بِالِاتِّفَاقِ .
وَفِي وَجْهٍ يَسْقُطُ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَفِي وَجْهٍ عَلَى
الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
وَبَيَانُهُ أَنَّ مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، فَإِنْ جَاوَزَ فَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ أَوْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ ، وَإِنْ عَادَ ، فَإِمَّا أَنْ يَعُودَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ عَادَ قَبْلَهُ سَقَطَ الدَّمُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ أَنْشَأَ التَّلْبِيَةَ الْوَاجِبَةَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ ، وَإِنْ عَادَ بَعْدَهُ فَإِمَّا أَنْ يَعُودَ بَعْدَمَا ابْتَدَأَ الطَّوَافَ وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ أَوْ قَبْلَهُ ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَهُ لَا يَسْقُطُ الدَّمُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَمَّا طَافَ وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَقَعَ شَوْطًا مُعْتَدًّا بِهِ ، وَذَلِكَ يُنَافِي إسْقَاطَ الدَّمِ عَنْهُ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُبْتَدِئٌ مِنْ الْمِيقَاتِ تَقْدِيرًا وَبَعْدَمَا وَقَعَ مِنْهُ شَوْطٌ مُعْتَدٌّ بِهِ لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُهُ مُبْتَدِئًا ، وَظَهَرَ لَك مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ لِبَيَانِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الشَّوْطِ وَإِنْ عَادَ قَبْلَهُ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ دَخَلَ الْبُسْتَانَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( الْتَحَقَ بِأَهْلِهِ ) يَعْنِي سَوَاءً نَوَى مُدَّةَ الْإِقَامَةِ أَوْ لَمْ يَنْوِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ شَرَطَ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ ) أَرَادَ بِهِ مَا ذَكَرَهُ فِي فَصْلِ الْمَوَاقِيتِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَوَقْتُهُ الْحِلُّ مَعْنَاهُ جَمِيعُ الْحِلِّ الَّذِي بَيْنَ الْمَوَاقِيتِ وَبَيْنَ الْحَرَمِ .
( وَمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ إلَى الْوَقْتِ ، وَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ ) ذَلِكَ ( مِنْ دُخُولِهِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجْزِيهِ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ اعْتِبَارًا بِمَا لَزِمَهُ بِسَبَبِ النَّذْرِ ، وَصَارَ كَمَا إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ .
وَلَنَا أَنَّهُ تَلَافَى الْمَتْرُوكَ فِي وَقْتِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ تَعْظِيمُ هَذِهِ الْبُقْعَةِ بِالْإِحْرَامِ ، كَمَا إذَا أَتَاهُ مُحْرِمًا بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فِي الِابْتِدَاءِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِإِحْرَامٍ مَقْصُودٍ كَمَا فِي الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ فَإِنَّهُ يَتَأَدَّى بِصَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ دُونَ الْعَامِ الثَّانِي
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ) مَعْنَاهُ مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَلَزِمَهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ ( ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ ) وَحَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَوْ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً فَإِنَّهَا تَنُوبُ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ بِدُخُولِهِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا يُجْزِئُهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ ( اعْتِبَارًا بِمَا لَزِمَهُ بِسَبَبِ النَّذْرِ ) فَإِنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَجَبَتْ بِالنَّذْرِ وَحَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهَا الْمَنْذُورَةُ كَذَلِكَ هَاهُنَا ، وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَاجِبَةٌ بِسَبَبٍ غَيْرِ سَبَبِ الْأُخْرَى ، فَإِنَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ فِي أَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ ، فَكَمَا لَا تَتَأَدَّى الْمَنْذُورَةُ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَكَذَا الْمَشْرُوعُ فِيهَا ( وَصَارَ ) ذَلِكَ ( كَمَا إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ) ثُمَّ حَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ مَقَامَ مَا لَزِمَهُ بِدُخُولِهِ مَكَّةَ بِلَا خِلَافٍ ( وَلَنَا ) وَهُوَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ( أَنَّهُ تَلَافَى الْمَتْرُوكَ فِي وَقْتِهِ ) وَهُوَ السَّنَةُ الَّتِي دَخَلَ فِيهَا مَكَّةَ ( لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ تَعْظِيمُ هَذِهِ الْبُقْعَةِ بِالْإِحْرَامِ ) لَا غَيْرُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ ( كَمَا إذَا أَتَاهُ مُحْرِمًا بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فِي الِابْتِدَاءِ ) فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي نَوَى وَعَمَّا لَزِمَهُ بِدُخُولِهِ مَكَّةَ ( بِخِلَافِ مَا إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ) بِمُضِيِّ وَقْتِ الْحَجِّ ( فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِإِحْرَامٍ مَقْصُودٍ كَمَا فِي الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ فَإِنَّهُ يَتَأَدَّى بِصَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ سَنَةٍ نَذَرَ فِيهَا دُونَ الْعَامِ الثَّانِي ) فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا أَنَّ الْحَجَّةَ بِتَحَوُّلِ السَّنَةِ تَصِيرُ دَيْنًا ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعُمْرَةَ تَصِيرُ دَيْنًا لِعَدَمِ تَوَقُّتِهَا بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَسْقُطَ الْعُمْرَةُ
الْوَاجِبَةُ بِدُخُولِهِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ بِالْعُمْرَةِ الْمَنْذُورَةِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا تَسْقُطُ بِهَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى .
أُجِيبَ بِأَنَّ تَأْخِيرَ الْعُمْرَةِ إلَى أَيَّامِ النَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ مَكْرُوهٌ ، فَإِذَا أَخَّرَهَا إلَى وَقْتٍ مَكْرُوهٍ صَارَ كَالْمُفَوِّتِ لَهَا فَصَارَتْ دَيْنًا .
( وَمَنْ جَاوَزَ الْوَقْتَ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَفْسَدَهَا مَضَى فِيهَا وَقَضَاهَا ) ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَقَعُ لَازِمًا فَصَارَ كَمَا إذَا أَفْسَدَ الْحَجَّ ( وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَقْتِ ) وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي فَائِتِ الْحَجِّ إذَا جَاوَزَ الْوَقْتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَفِيمَنْ جَاوَزَ الْوَقْتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَفْسَدَ حَجَّتَهُ ، هُوَ يَعْتَبِرُ الْمُجَاوَزَةَ هَذِهِ بِغَيْرِهَا مِنْ الْمَحْظُورَاتِ .
وَلَنَا أَنَّهُ يَصِيرُ قَاضِيًا حَقَّ الْمِيقَاتِ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ فِي الْقَضَاءِ ، وَهُوَ يَحْكِي الْفَائِتَ وَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَوَضَحَ الْفَرْقُ .
قَالَ ( وَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ ) بِغَيْرِ إحْرَامٍ .
ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ : الْمُضِيُّ فِيهَا ، وَقَضَاؤُهَا بِإِحْرَامٍ مِنْ الْمِيقَاتِ ، وَسُقُوطُ الدَّمِ .
أَمَّا الْمُضِيُّ ؛ فَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ عَقْدٌ لَازِمٌ لَا يَخْرُجُ الْمَرْءُ عَنْهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ .
وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْأَدَاءَ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ وَلَمْ يَفْعَلْ .
وَأَمَّا سُقُوطُ الدَّمِ فَلِأَنَّهُ إذَا قَضَاهَا بِإِحْرَامٍ مِنْ الْمِيقَاتِ يَنْجَبِرُ بِهِ مَا نَقَصَ مِنْ حَقِّ الْمِيقَاتِ بِالْمُجَاوَزَةِ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ فَسَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ كَمَنْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا فَقَضَاهَا سَقَطَ سُجُودُ السَّهْوِ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِيمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَفَاتَهُ الْحَجُّ ثُمَّ قَضَاهُ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْوَقْتِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ .
وَنَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِيمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَفْسَدَهُ بِالْجِمَاعِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ثُمَّ قَضَاهُ فَإِنَّ دَمَ الْوَقْتِ يَسْقُطُ عَنْهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ ، قَالَ : لِأَنَّ الدَّمَ بِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ صَارَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَلَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْحَجِّ ، كَمَا لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ بِالتَّطَيُّبِ أَوْ لُبْسِ الْمَخِيطِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِفَوَاتِ الْحَجِّ ( وَلَنَا أَنَّهُ يَصِيرُ قَاضِيًا حَقَّ الْمِيقَاتِ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ الْمِيقَاتِ ( فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ ) أَيْ الْقَضَاءُ ( يَحْكِي الْفَائِتَ ) أَيْ يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِ مَا فَاتَ وَهُوَ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ ابْتِدَاءً فَيَنْعَدِمُ بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَزِمَهُ الدَّمُ وَهُوَ الْمُجَاوَزَةُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَدِمُ بِفَوَاتِ الْحَجِّ وَقَضَائِهِ .
( وَإِذَا خَرَجَ الْمَكِّيُّ يُرِيدُ الْحَجَّ فَأَحْرَمَ وَلَمْ يَعُدْ إلَى الْحَرَمِ وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ فَعَلَيْهِ شَاةٌ ) ؛ لِأَنَّ وَقْتَهُ الْحَرَمُ وَقَدْ جَاوَزَهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، فَإِنْ عَادَ إلَى الْحَرَمِ وَلَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْآفَاقِيِّوَقَوْلُهُ ( وَإِذَا خَرَجَ الْمَكِّيُّ مِنْ الْحَرَمِ إلَخْ ) ظَاهِرٌ
( وَالْمُتَمَتِّعُ إذَا فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ فَأَحْرَمَ وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ وَأَتَى بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَكِّيِّ ، وَإِحْرَامُ الْمَكِّيِّ مِنْ الْحَرَمِ لِمَا ذَكَرْنَا فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْهُ ( فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْحَرَمِ فَأَهَلَّ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) وَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْآفَاقِيِّ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ بِعُمْرَةٍ وَطَافَ لَهَا شَوْطًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَإِنَّهُ يَرْفُضُ الْحَجَّ ، وَعَلَيْهِ لِرَفْضِهِ دَمٌ ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ ) .
( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : رَفْضُ الْعُمْرَةِ أَحَبُّ إلَيْنَا وَقَضَاؤُهَا ، وَعَلَيْهِ دَمٌ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَفْضِ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، وَالْعُمْرَةُ أَوْلَى بِالرَّفْضِ ؛ لِأَنَّهَا أَدْنَى حَالًا وَأَقَلُّ أَعْمَالًا وَأَيْسَرُ قَضَاءً لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ ، وَكَذَا إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ بِالْحَجِّ وَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لِمَا قُلْنَا .
فَإِنْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ رَفَضَ الْحَجَّ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ فَتَعَذَّرَ رَفْضُهَا كَمَا إذَا فَرَغَ مِنْهَا ، وَلَا كَذَلِكَ إذَا طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَهُ أَنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ قَدْ تَأَكَّدَ بِأَدَاءِ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهَا ، وَإِحْرَامُ الْحَجِّ لَمْ يَتَأَكَّدْ ، وَرَفْضُ غَيْرُ الْمُتَأَكِّدِ أَيْسَرُ ؛ وَلِأَنَّ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ إبْطَالَ الْعَمَلِ .
وَفِي رَفْضِ الْحَجِّ امْتِنَاعٌ عَنْهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ بِالرَّفْضِ أَيُّهُمَا رَفَضَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَحَلَّلَ قَبْلَ أَوَانِهِ ؛ لِتَعَذُّرِ الْمُضِيِّ فِيهِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْمُحْصَرِ إلَّا أَنَّ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ قَضَاءَهَا لَا غَيْرُ ، وَفِي رَفْضِ الْحَجِّ قَضَاؤُهُ وَعُمْرَةٌ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ ( وَإِنْ مَضَى عَلَيْهِمَا أَجْزَأَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى أَفْعَالَهُمَا كَمَا الْتَزَمَهُمَا ، غَيْرَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا وَالنَّهْيُ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْفِعْلِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا ( وَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا ) ؛ لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ النُّقْصَانُ فِي عَمَلِهِ لِارْتِكَابِهِ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ ، وَهَذَا فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ دَمُ جَبْرٍ ، وَفِي حَقِّ
الْآفَاقِيِّ دَمُ شُكْرٍ ( وَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ يَوْمَ النَّحْرِ بِحَجَّةٍ أُخْرَى ، فَإِنْ حَلَقَ فِي الْأُولَى لَزِمَتْهُ الْأُخْرَى وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ فِي الْأُولَى لَزِمَتْهُ الْأُخْرَى وَعَلَيْهِ دَمٌ قَصَّرَ أَوْ لَمْ يُقَصِّرْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَالَا : إنْ لَمْ يُقَصِّرْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْحَجِّ أَوْ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ بِدْعَةٌ ، فَإِذَا حَلَقَ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ نُسُكًا فِي الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ فَهُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ فَلَزِمَهُ الدَّمُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ حَتَّى حَجَّ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فَقَدْ أَخَّرَ الْحَلْقَ عَنْ وَقْتِهِ فِي الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الدَّمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَ التَّقْصِيرِ وَعَدَمِهِ عِنْدَهُ وَشَرْطُ التَّقْصِيرِ عِنْدَهُمَا .
بَابُ إضَافَةِ الْإِحْرَامِ إلَى الْإِحْرَامِ ) : إضَافَةُ الْإِحْرَامِ إلَى الْإِحْرَامِ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ وَمَنْ بِمَعْنَاهُ جِنَايَةٌ ، وَكَذَلِكَ إضَافَةُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ إلَى إحْرَامِ الْحَجِّ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ ، بِخِلَافِ إضَافَةِ إحْرَامِ الْحَجِّ إلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ ؛ فَبِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ ذَكَرَهَا عَقِيبَ الْجِنَايَاتِ ، وَبِاعْتِبَارِ عَدَمِهِ جَعَلَهُ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ بِعُمْرَةٍ وَطَافَ لَهَا شَوْطًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَإِنَّهُ يَرْفُضُ الْحَجَّ وَعَلَيْهِ لِرَفْضِهِ دَمٌ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ ) قَيَّدَ بِالْمَكِّيِّ ؛ لِأَنَّ الْآفَاقِيَّ إذَا أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا وَطَافَ لَهَا شَوْطًا ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مَضَى فِيهِمَا ، وَلَا يَرْفُضُ الْحَجَّ ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ أَعْمَالِ الْحَجِّ عَلَى أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ طَافَ لَهَا أَقَلَّ الْأَشْوَاطِ كَانَ قَارِنًا ، وَإِنْ طَافَ لَهَا الْأَكْثَرَ كَانَ مُتَمَتِّعًا ؛ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَنْ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ بَعْدَ عَمَلِ الْعُمْرَةِ ، وَلِأَكْثَرِ الطَّوَافِ حُكْمُ الْكُلِّ ، وَالْقَارِنُ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا ، وَقَيَّدَ بِالْعُمْرَةِ لِأَنَّ الْمَكِّيَّ إذَا أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَطَافَ لَهُ شَوْطًا ثُمَّ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُ يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ لِلْحَجِّ قَدْ تَأَكَّدَ ، وَقَبْلَ التَّأَكُّدِ كَانَ يُؤْمَرُ بِرَفْضِهَا فَبَعْدَهُ أَوْلَى .
وَقُيِّدَ بِالشَّوْطِ : يَعْنِي الْوَاحِدَ لِأَنَّهُ إذَا طَافَ لَهَا أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ لَا خِلَافَ فِي رَفْضِ الْحَجِّ ، وَأَمَّا فِي الشَّوْطَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فَقَدْ صَرَّحَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِوُجُودِ الْخِلَافِ الَّذِي ذُكِرَ إذَا طَافَ لَهَا شَوْطًا .
( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : رَفْضُ الْعُمْرَةِ أَحَبُّ إلَيْنَا وَقَضَاؤُهَا وَعَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَفْضِ أَحَدِهِمَا ) بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ غَيْرُ
مَشْرُوعٍ فَلَا بُدَّ مِنْ رَفْضِ أَحَدِهِمَا حَذَرًا مِنْ الِاسْتِدَامَةِ عَلَى غَيْرِ الْمَشْرُوعِ ( وَالْعُمْرَةُ أَوْلَى بِالرَّفْضِ لِأَنَّهَا أَدْنَى حَالًا ) لِكَوْنِهِ فَرْضًا دُونَهَا ( وَأَقَلُّ أَعْمَالًا ) ؛ لِأَنَّ أَعْمَالَهَا الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ لَا غَيْرُ ( وَأَيْسَرُ قَضَاءً لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ ) هَذَا إذَا كَانَ الْحَجُّ فَرْضًا .
وَأَمَّا إذَا كَانَ تَطَوُّعًا فَيُعَلَّلُ بِالْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا أَحْرَمَ ) يَعْنِي رَفْضُ الْعُمْرَةِ أَحَبُّ لَكِنَّ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ ( لِمَا قُلْنَا ) يَعْنِي مِنْ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ ، وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ عَطْفٌ بِقَوْلِهِ وَكَذَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَهُوَ مُلَبِّسٌ لَا مَحَالَةَ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ) ظَاهِرٌ مِمَّا ذُكِرَ آنِفًا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا كَذَلِكَ إذَا طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا ) اخْتَلَفَتْ النُّسَخُ هَاهُنَا فِي بَعْضِهَا عِنْدَهُمَا وَفِي بَعْضِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي بَعْضِهَا : وَكَذَلِكَ إذَا طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِحَذْفِ كَلِمَةِ لَا مِنْ قَوْلِهِ وَلَا كَذَلِكَ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ : ذَكَرَ الْإِمَامُ مَوْلَانَا حُسَامُ الدِّينِ الْأَخْسِيكَتِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَالصَّوَابُ وَكَذَلِكَ يَعْنِي النُّسْخَةَ الْأَخِيرَةَ قَالَ : وَهَكَذَا أَيْضًا وَجَدْته بِخَطِّ شَيْخِي ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ النُّسَخِ وَجْهٌ ، أَمَّا وَجْهُ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا وَجْهُ الثَّانِيَةِ فَهُوَ أَنَّهُ لِدَفْعِ سُؤَالِ سَائِلٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : لَمَّا أَخَذَ الْأَكْثَرُ حُكْمَ الْكُلِّ يَكُونُ الْأَقَلُّ مَعْدُومًا حُكْمًا ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْفُضَ الْعُمْرَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ حُكْمَ الْمَوْجُودِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَطُفْ لِلْعُمْرَةِ شَيْئًا وَهُنَاكَ يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ كَمَا مَرَّ ، فَكَذَلِكَ فِي الْمَعْدُومِ الْحُكْمِيِّ ، فَقَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَتَى بِشَيْءٍ
مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَقَدْ تَأَكَّدَتْ الْعُمْرَةُ وَلَمْ يَتَأَكَّدْ الْحَجُّ أَصْلًا فَكَانَ رَفْعُ غَيْرِ الْمُتَأَكِّدِ أَسْهَلَ ، وَهَذَا هُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْكِتَابِ مِنْ جَانِبِهِ ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( ؛ وَلِأَنَّ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ) يَعْنِي وَالْحَالَ أَنَّهُ أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ( إبْطَالَ الْعَمَلِ ) أَيْ الطَّوَافِ الَّذِي أَتَى بِهِ ( وَفِي رَفْضِ الْحَجِّ امْتِنَاعٌ عَنْهُ ) وَالِامْتِنَاعُ أَهْوَنُ مِنْ إبْطَالِ مَا وَقَعَ مُعْتَدًّا بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَيْهِ دَمٌ بِالرَّفْضِ أَيُّهُمَا رَفَضَهُ ) يَعْنِي الْحَجَّ عِنْدَهُ وَالْعُمْرَةَ عِنْدَهُمَا ( لِأَنَّهُ تَحَلَّلَ قَبْلَ أَوَانِهِ لِتَعَذُّرِ الْمُضِيِّ فِيهِ ) بِكَوْنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا غَيْرَ مَشْرُوعٍ ( فَكَانَ فِي مَعْنَى الْمُحْصَرِ ) وَعَلَى الْمُحْصَرِ دَمٌ لِلتَّحَلُّلِ وَيَكُونُ الدَّمُ دَمَ جَبْرٍ لَا دَمَ شُكْرٍ عَلَى مَا يَأْتِي .
فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا لَزِمَهُ دَمَانِ لِحُرْمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ دَمٌ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ أَحَدِهِمَا بِالنُّقْصَانِ حَيْثُمَا تَمَكَّنَ وَإِنَّمَا تَمَكَّنَ فِي أَحَدِهِمَا فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ دَمٌ وَاحِدٌ ( إلَّا أَنَّ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ قَضَاءَهَا لَا غَيْرُ وَفِي رَفْضِ الْحَجِّ قَضَاؤُهُ وَعُمْرَةٌ ) أَمَّا الْحَجُّ فَلِأَنَّهُ صَحَّ شُرُوعُهُ فِيهِ ثُمَّ رَفَضَهُ ، وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ وَفَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ بِالْحَدِيثِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ التَّحَلُّلُ بِأَفْعَالِهَا هَاهُنَا لِأَنَّهُ فِي الْعُمْرَةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْعُمْرَتَيْنِ مَنْهِيٌّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا ( وَإِنْ مَضَى عَلَيْهِمَا ) يَعْنِي إذَا لَمْ يَرْفُضْ الْمَكِّيُّ وَمَنْ بِمَعْنَاهُ الْعُمْرَةَ أَوْ الْحَجَّ وَمَضَى عَلَيْهِمَا وَأَدَّاهُمَا ( أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ أَدَّى أَفْعَالَهُمَا كَمَا الْتَزَمَهُمَا غَيْرَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا ) أَيْ عَنْ إحْرَامِ الْحَجِّ وَإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ جَمِيعًا .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَفِي نُسْخَةِ شَيْخِي بِخَطِّهِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا أَيْ عَنْ الْعُمْرَةِ إذْ هِيَ الْمُتَعَيِّنَةُ لِلرَّفْضِ إجْمَاعًا فِيمَا إذَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ وَالْكَلَامُ فِيهِ لِأَنَّهَا هِيَ الدَّاخِلَةُ فِي وَقْتِ الْحَجِّ وَبِسَبَبِهَا وَقَعَ الْعِصْيَانُ .
وَقَوْلُهُ ( وَالنَّهْيُ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْفِعْلِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا ) أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْمَشْرُوعِيَّةَ دُونَ النَّفْيِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ قِيلَ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، ثُمَّ ذَكَرَ هَاهُنَا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْفِعْلِ ، وَمَعْنَاهُ كَمَا قُلْنَا أَنَّهُ يَقْتَضِي الْمَشْرُوعِيَّةَ فَكَانَ التَّنَاقُضُ فِي كَلَامِهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ كَامِلًا كَمَا فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ وَبِهِ يَنْدَفِعُ التَّنَاقُضُ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَيْهِ دَمٌ ) وَاضِحٌ .
قَالَ ( وَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ يَوْمَ النَّحْرِ بِحَجَّةٍ أُخْرَى ) اعْلَمْ أَنَّ إضَافَةَ الْإِحْرَامِ إلَى الْإِحْرَامِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ بِالْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ : إدْخَالُ إحْرَامِ الْحَجِّ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ ، وَإِدْخَالُ إحْرَامِ الْحَجِّ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ ، وَإِدْخَالُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ ، وَإِدْخَالُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ .
وَقَدَّمَ إدْخَالَ إحْرَامِ الْحَجِّ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْأَقْسَامِ الْبَاقِيَةِ لِكَوْنِهِ أَدْخَلَ فِي كَوْنِهِ جِنَايَةً وَلِهَذَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّمُ .
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ ذَكَرَ إدْخَالَ إحْرَامِ الْحَجِّ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ لِقُوَّةِ حَالِهِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا فَرْضًا ، ثُمَّ إدْخَالَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْكَيْفِيَّةِ وَكَمِّيَّةِ الْأَفْعَالِ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْحَجِّ أَوْ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ بِدْعَةٌ ، لَكِنْ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا لَزِمَاهُ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ يَلْزَمُهُ أَحَدُهُمَا ، وَلَا كَلَامَ هَاهُنَا مَعَ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَهُ رُكْنٌ فَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ ، وَعِنْدَنَا شَرْطٌ لِلْأَدَاءِ ، لَكِنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ : وَهُوَ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا لِلْأَدَاءِ إلَّا أَنَّهُ مَا شُرِعَ إلَّا لِلْأَدَاءِ فَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْأَدَاءُ .
وَأَدَاءُ حَجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ مَعًا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِحْرَامُ لَهُمَا كَالتَّحْرِيمَةِ فِي الصَّلَاةِ ، وَهُمَا يَقُولَانِ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ الْتِزَامٌ مَحْضٌ فِي الذِّمَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ مُنْفَصِلًا عَنْ الْأَدَاءِ وَالذِّمَّةُ تَسَعُ حِجَجًا كَثِيرَةً فَصَارَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالنَّذْرِ بِخِلَافِ التَّحْرِيمَةِ لِلصَّلَاةِ لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ مُنْفَصِلَةً عَنْ الْأَدَاءِ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رَفْضِ أَحَدِهِمَا إمَّا احْتِرَازًا عَنْ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَإِمَّا ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ لِلْأَدَاءِ لَا لِلِالْتِزَامِ وَالْجَمْعُ أَدَاءٌ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ ، فَبَعْدَ هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا تَوَجَّهَ إلَى أَدَاءِ أَحَدِهِمَا صَارَ رَافِضًا لِلْأُخْرَى .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : كَمَا فَرَغَ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ يَصِيرُ رَافِضًا أَحَدَهُمَا .
وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا قَتَلَ صَيْدًا قَبْلَ أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى أَحَدِهِمَا ، فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ قِيمَتَانِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَلْزَمُهُ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَكَذَلِكَ إذَا أُحْصِرَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَحْتَاجُ إلَى هَدْيَيْنِ لِلتَّحَلُّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ .
إذَا عَرَفْت هَذَا نَعُودُ إلَى تَطْبِيقِ مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ، فَإِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ يَوْمَ النَّحْرِ بِحَجَّةٍ أُخْرَى ( فَإِنْ حَلَقَ فِي ) الْحَجَّةِ ( الْأُولَى ) ثُمَّ أَحْرَمَ يَوْمَ النَّحْرِ بِحَجَّةٍ أُخْرَى ( لَزِمَتْهُ الْأُخْرَى ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ الْتِزَامٌ مَحْضٌ (
وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّ الْأُولَى قَدْ انْتَهَتْ نِهَايَتَهَا ( وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ فِي الْأُولَى ) وَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ أُخْرَى صَارَ جَامِعًا بَيْنَ إحْرَامَيْ الْحَجِّ ، فَبَعْدَ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يَحْلِقَ لِلْأُولَى فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْ يُؤَخِّرَ الْحَلْقَ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ، فَإِنْ حَلَقَ فَقَدْ تَحَلَّلَ عَنْ الْأُولَى ، وَلَكِنْ جَنَى عَلَى الثَّانِيَةِ بِالْحَلْقِ ، وَإِنْ أَخَّرَ فَقَدْ أَخَّرَ الْحَلْقَ فِي الْأُولَى عَنْ وَقْتِهِ ، وَالتَّأْخِيرُ عَنْ الْوَقْتِ مَضْمُونٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ ( وَعَلَيْهِ دَمٌ قَصَّرَ أَوْ لَمْ يُقَصِّرْ ) أَيْ حَلَقَ أَوْ لَمْ يَحْلِقْ ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّقْصِيرِ ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ، فَذَكَرَ أَوَّلًا لَفْظَ الْحَلْقِ ثُمَّ لَفْظَ التَّقْصِيرِ لِمَا أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي حَقِّ الرِّجَالِ الْحَلْقُ ، وَفِي حَقِّ النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ ( وَقَالَا : إنْ لَمْ يُقَصِّرْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْحَجِّ أَوْ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ بِدْعَةٌ ) إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ بَعْدَ التَّأَمُّلِ فِيمَا سَبَقَ ، لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ فِي هَذَا الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا جَمَعَ بَيْنَ إحْرَامَيْنِ إنَّمَا يَلْزَمُهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ الْإِمَامِ التُّمُرْتَاشِيِّ وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ .
وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ دَمٌ ، وَإِنْ قَصَّرَ لِعَدَمِ لُزُومِ الْآخَرِ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَهْوًا فِي نَقْلِ مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ وَمَذْهَبُهُ كَمَذْهَبِهِمَا ، وَإِنَّمَا أَنْ يَكُونَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ
( وَمَنْ فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ إلَّا التَّقْصِيرَ فَأَحْرَمَ بِأُخْرَى فَعَلَيْهِ دَمٌ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ الْوَقْتِ ) ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ وَهَذَا مَكْرُوهٌ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ وَهُوَ دَمُ جَبْرٍ وَكَفَّارَةٍوَمَنْ فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ إلَّا التَّقْصِيرَ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ أُخْرَى فَعَلَيْهِ دَمٌ ) يَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ ( لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ الْوَقْتِ ) ؛ لِأَنَّ وَقْتَهُ بَعْدَ الْحَلْقِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُوجَدْ ( لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ وَهَذَا مَكْرُوهٌ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ وَهُوَ دَمُ جَبْرٍ وَكَفَّارَةٍ ) لَا يَحِلُّ التَّنَاوُلُ مِنْهُ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ خَوَاصِّ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَيَّنَ فِيهَا لُزُومَ دَمِ الْجَمْعِ فِي الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ ، وَسَكَتَ مُحَمَّدٌ بَيَانُ وُجُوبِهِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْحَجِّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَأَوْجَبَهُ فِي مَنَاسِكِ الْمَبْسُوطِ .
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ .
وَأَمَّا وُجُوبُهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ فَذَلِكَ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ مُحَمَّدٍ فِي لُزُومِ الْإِحْرَامَيْنِ كَمَذْهَبِهِمَا ، وَإِلَّا لَمَا لَزِمَ عِنْدَهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ لِعَدَمِ لُزُومِ أَحَدِهِمَا ، إلَّا إذْ أَرَادَ بِالْجَمْعِ إدْخَالَ الْإِحْرَامِ عَلَى الْإِحْرَامِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ إلَّا أَحَدُهُمَا فَيَسْتَقِيمُ .
( وَمَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ لَزِمَاهُ ) ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ ، وَالْمَسْأَلَةُ فِيهِ فَيَصِيرُ بِذَلِكَ قَارِنًا لَكِنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ فَيَصِيرُ مُسِيئًا ( وَلَوْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ وَلَمْ يَأْتِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَهُوَ رَافِضٌ لِعُمْرَتِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا إذْ هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحَجِّ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ ( فَإِنْ تَوَجَّهَ إلَيْهَا لَمْ يَكُنْ رَافِضًا حَتَّى يَقِفَ ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ ) أَيْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ ( ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ لَزِمَاهُ ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ وَالْمَسْأَلَةُ فِيهِ فَيَصِيرُ بِذَلِكَ قَارِنًا ) لِأَنَّهُ قَرَنَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ ( لَكِنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ فَيَصِيرُ مُسِيئًا ) ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ إدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ لَا إدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } جَعَلَ الْحَجَّ آخِرَ الْغَايَتَيْنِ ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يُؤَدِّ الْحَجَّ صَحَّ ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ وُجِدَ فِي الْأَفْعَالِ ، وَإِنْ فَاتَ فِي الْإِحْرَامِ فَعَلَيْهِ تَقْدِيمُ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ ، حَتَّى ( لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ وَلَمْ يَأْتِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ كَانَ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا إذْ هِيَ مَبْنِيَّةً عَلَى الْحَجِّ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ ) بَلْ الْمَشْرُوعُ هُوَ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُ الْحَجِّ مَبْنِيَّةً عَلَى أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ .
وَقَوْلُهُ مَبْنِيَّةً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَالْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَى الْإِشَارَةِ فِي هِيَ فَلِذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِقَيْدٍ سَيَجِيءُ وَفِيهِ نَظَرٌ ( فَإِنْ تَوَجَّهَ إلَيْهَا لَمْ يَكُنْ رَافِضًا ) حَتَّى لَوْ بَدَا لَهُ فَرَجَعَ مِنْ الطَّرِيقِ إلَى مَكَّةَ فَطَافَ لِعُمْرَتِهِ وَسَعَى ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ كَانَ قَارِنًا ( وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ) يَعْنِي فِي آخِرِ بَابِ الْقِرَانِ حَيْثُ قَالَ وَلَا يَصِيرُ رَافِضًا بِمُجَرَّدِ التَّوَجُّهِ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَخْ
( فَإِنْ طَافَ لِلْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فَمَضَى عَلَيْهِمَا لَزِمَاهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا ) ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ عَلَى مَا مَرَّ فَيَصِحُّ الْإِحْرَامُ بِهِمَا ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الطَّوَافِ طَوَافُ التَّحِيَّةِ ، وَأَنَّهُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ ، وَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِمَا هُوَ رُكْنٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ ، فَلِهَذَا لَوْ مَضَى عَلَيْهِمَا جَازَ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ دَمُ كَفَّارَةٍ وَجَبْرٍ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ بَانٍ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ وَجْهٍ .
( وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفُضَ عُمْرَتَهُ ) ؛ لِأَنَّ إحْرَامَ الْحَجِّ قَدْ تَأَكَّدَ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَطُفْ لِلْحَجِّ ، وَإِذَا رَفَضَ عُمْرَتَهُ يَقْضِيهَا لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا ( وَعَلَيْهِ دَمٌ ) لِرَفْضِهَا ( وَمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَزِمَتْهُ ) لِمَا قُلْنَا ( وَيَرْفُضُهَا ) أَيْ يَلْزَمُهُ الرَّفْضُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى رُكْنَ الْحَجِّ فَيَصِيرُ بَانِيًا أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَقَدْ كُرِهَتْ الْعُمْرَةُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَيْضًا عَلَى مَا نَذْكُرُ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ رَفْضُهَا ، فَإِنْ رَفَضَهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِرَفْضِهَا ( وَعُمْرَةٌ مَكَانَهَا ) لِمَا بَيَّنَّا ( فَإِنْ مَضَى عَلَيْهَا أَجْزَأَهُ ) ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهَا وَهُوَ كَوْنُهُ مَشْغُولًا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِأَدَاءِ بَقِيَّةِ أَعْمَالِ الْحَجِّ فَيَجِبُ تَخْلِيصُ الْوَقْتِ لَهُ تَعْظِيمًا ( وَعَلَيْهِ دَمٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا ) إمَّا فِي الْإِحْرَامِ أَوْ فِي الْأَعْمَالِ الْبَاقِيَةِ ، قَالُوا : وَهَذَا دَمُ كَفَّارَةٍ أَيْضًا .
وَقِيلَ إذَا حَلَقَ لِلْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ لَا يَرْفُضُهَا عَلَى ظَاهِرِ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ ، وَقِيلَ يَرْفُضُهَا احْتِرَازًا عَنْ النَّهْيِ .
.
( فَإِنْ طَافَ لِلْحَجِّ ) يَعْنِي طَوَافَ التَّحِيَّةِ ( ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فَمَضَى عَلَيْهِمَا ) وَتَفْسِيرُ الْمُضِيِّ أَنْ يُقَدِّمَ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ كَمَا هُوَ الْمَسْنُونُ فِي الْقِرَانِ ( لَزِمَاهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ عَلَى مَا مَرَّ ) يَعْنِي قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ ( فَصَحَّ الْإِحْرَامُ بِهِمَا ) وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا اخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَقَاضِي خَانْ وَالْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ أَنَّ ذَلِكَ دَمُ الْقِرَانِ فَيَكُونُ دَمَ شُكْرٍ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ مِثْلَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ فِي بِنَاءِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ كَقِرَانِ الْمَكِّيِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُسْتَحَبُّ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي يَوْمِ النَّحْرِ ) يَعْنِي قَبْلَ الْحَلْقِ أَوْ قَبْلَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ مَنْ أَهَلَّ بِهَا بَعْدَمَا حَلَّ مِنْ الْحَجَّةِ بِالْحَلْقِ يَأْتِي ذِكْرُهُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ ، وَالظَّاهِرُ الْإِطْلَاقُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ .
وَقَوْلُهُ ( لَزِمَتْهُ لِمَا قُلْنَا ) يُرِيدُ قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَرْفُضُهَا ) قَالُوا مَعْنَاهُ : يَلْزَمُهُ الرَّفْضُ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى رُكْنَ الْحَجِّ ، وَهُوَ الْوُقُوفُ فَيَصِيرُ بَانِيًا أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ كُرِهَتْ الْعُمْرَةُ ) وَجْهٌ آخَرُ فِي لُزُومِ الرَّفْضِ ( عَلَى مَا نَذْكُرُ ) إشَارَةً إلَى مَا يُذْكَرُ فِي بَابِ الْفَوَاتِ بِقَوْلِهِ الْعُمْرَةُ لَا تَفُوتُ وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ إلَّا خَمْسَةَ أَيَّامٍ يُكْرَهُ فِعْلُهَا فِيهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَعُمْرَةٌ مَكَانَهَا ) أَيْ قَضَاءً لِلْمَرْفُوضَةِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ
بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إذَا أَفْسَدَهُ وَهُنَا يَلْزَمُ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مُجَرَّدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ فِيهِ تَحْصُلُ بِهِ الْمَعْصِيَةُ وَهِيَ تَرْكُ إجَابَةِ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُؤْمَرُ بِالْإِفْطَارِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ ، وَأَمَّا بِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ لِلْعُمْرَةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَلَا تَحْصُلُ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ أَدَاءُ أَفْعَالِهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ ( وَإِنْ مَضَى عَلَيْهَا ) أَيْ عَلَى الْعُمْرَةِ الَّتِي أَحْرَمَ لَهَا يَوْمَ النَّحْرِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَيْهِمَا : أَيْ عَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ( أَجْزَأَهُ ) وَدَلِيلُهُ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَيْهِ دَمٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا ، إمَّا فِي الْإِحْرَامِ ) يَعْنِي إنْ كَانَ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ بِالْحَلْقِ ( أَوْ فِي الْأَعْمَالِ الْبَاقِيَةِ ) يَعْنِي إذَا كَانَ بَعْدَ الْحَلْقِ ، وَهَذَا يُرْشِدُك إلَى أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ عَلَى إطْلَاقِهِ لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ بِمَا قَبْلَ الْحَلْقِ كَمَا قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَبْلَ الْحَلْقِ فَفِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ أَوْ فِي الْأَعْمَالِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذُكِرَ بِكَلِمَةِ أَوْ ، وَكَذَا قَوْلُهُ وَقِيلَ إذَا حَلَقَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ يَلْزَمُهُ الرَّفْضُ مُطْلَقًا ( وَقِيلَ إذَا حَلَقَ لِلْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ لَا يَرْفُضُهَا عَلَى ظَاهِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ ) قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ الرَّفْضَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَجَوَابُهُ فِي الْأَصْلِ مُشْتَبَهٌ ظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَرْفُضُهَا ( وَقِيلَ يَرْفُضُهَا احْتِرَازًا عَنْ النَّهْيِ ) يَعْنِي النَّهْيَ عَنْ الْعُمْرَةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ كَمَا ذَكَرْنَا
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ : وَمَشَايِخُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا ( فَإِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحَجَّةٍ فَإِنَّهُ يَرْفُضُهَا ) ؛ لِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقَلِبَ إحْرَامُهُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى مَا يَأْتِيك فِي بَابِ الْفَوَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَيَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْعُمْرَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْأَفْعَالُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفُضَهَا كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَتَيْنِ ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْحَجَّتَيْنِ إحْرَامًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفُضَهَا كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا وَدَمٌ لِرَفْضِهَا بِالتَّحَلُّلِ قَبْلَ أَوَانِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَمَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : عَلَى هَذَا ) الْقَوْلِ وَهُوَ رَفْضُ الْعُمْرَةِ .
وَمَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يَرْفُضُهَا : أَيْ لَا تُرْتَفَضُ مِنْ غَيْرِ رَفْضٍ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ ) يَعْنِي فَائِتَ الْحَجِّ وَهُوَ مَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ فَإِنَّهُ يَرْفُضُ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا .
أَمَّا إذَا كَانَتْ عُمْرَةً ؛ فَلِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقَلِبَ إحْرَامُهُ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِي حَقِّ لُزُومِ الرَّفْضِ إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ أُخْرَى ، فَعِنْدَهُمَا يَرْفُضُهَا كَيْ لَا يَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَ إحْرَامَيْ الْحَجِّ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَرْفُضُهَا بَلْ يَمْضِي فِيهَا .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا يَأْتِيك ) أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لَا قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقَلِبَ إحْرَامُهُ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مَذْكُورٍ هُنَاكَ .
وَقَوْلُهُ ( فَيَصِيرُ جَامِعًا ) أَيْ فَائِتُ الْحَجِّ الَّذِي أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ يَصِيرُ جَامِعًا ( بَيْنَ الْعُمْرَتَيْنِ ) أَفْعَالًا فَيَجِبُ أَنْ يَرْفُضَ الْعُمْرَةَ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَتَيْنِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ حَجَّةً فَإِنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْحَجَّتَيْنِ إحْرَامًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفُضَهَا كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا وَدَمٌ لِرَفْضِهَا بِالتَّحَلُّلِ قَبْلَ أَوَانِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
( وَإِذَا أُحْصِرَ الْمُحْرِمُ بِعَدُوٍّ أَوْ أَصَابَهُ مَرَضٌ فَمَنَعَهُ مِنْ الْمُضِيِّ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَكُونُ الْإِحْصَارُ إلَّا بِالْعَدُوِّ ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ شُرِعَ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ ؛ لِتَحْصِيلِ النَّجَاةِ وَبِالْإِحْلَالِ يَنْجُو مِنْ الْعَدُوِّ لَا مِنْ الْمَرَضِ .
وَلَنَا أَنَّ آيَةَ الْإِحْصَارِ وَرَدَتْ فِي الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ وَالْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ وَالتَّحَلُّلُ قَبْلَ أَوَانِهِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ الْآتِي مِنْ قِبَلِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ ، وَالْحَرَجُ فِي الِاصْطِبَارِ عَلَيْهِ مَعَ الْمَرَضِ أَعْظَمُ ، وَإِذَا جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ ( يُقَالُ لَهُ ابْعَثْ شَاةً تُذْبَحُ فِي الْحَرَمِ وَوَاعِدْ مَنْ تَبْعَثُهُ بِيَوْمٍ بِعَيْنِهِ يَذْبَحُ فِيهِ ثُمَّ تَحَلَّلَ ) وَإِنَّمَا يَبْعَثُ إلَى الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ قُرْبَةٌ ، وَالْإِرَاقَةُ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان عَلَى مَا مَرَّ فَلَا يَقَعُ قُرْبَةً دُونَهُ فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } فَإِنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَتَوَقَّتُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ رُخْصَةً وَالتَّوْقِيتُ يُبْطِلُ التَّخْفِيفَ .
قُلْنَا : الْمُرَاعَى أَصْلُ التَّخْفِيفِ لَا نِهَايَتُهُ ، وَتَجُوزُ الشَّاةُ ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ وَالشَّاةُ أَدْنَاهُ ، وَتُجْزِيهِ الْبَقَرَةُ وَالْبَدَنَةُ أَوْ سُبْعُهُمَا كَمَا فِي الضَّحَايَا ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمَا ذَكَرْنَا بَعْثَ الشَّاةِ بِعَيْنِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَتَعَذَّرُ ، بَلْ لَهُ أَنْ يَبْعَثَ بِالْقِيمَةِ حَتَّى تُشْتَرَى الشَّاةُ هُنَالِكَ وَتُذْبَحَ عَنْهُ .
وَقَوْلُهُ ثُمَّ تَحَلَّلَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : عَلَيْهِ ذَلِكَ ، وَلَوْ
لَمْ يَفْعَلْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ { لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَكَانَ مُحْصَرًا بِهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ } .
وَلَهُمَا أَنَّ الْحَلْقَ إنَّمَا عُرِفَ قُرْبَةً مُرَتَّبًا عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ فَلَا يَكُونُ نُسُكًا قَبْلَهَا وَفَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ لِيُعَرِّفَ اسْتِحْكَامَ عَزِيمَتِهِمْ عَلَى الِانْصِرَافِ .
( وَإِنْ كَانَ قَارِنًا بَعَثَ بِدَمَيْنِ ) لِاحْتِيَاجِهِ إلَى التَّحَلُّلِ مِنْ إحْرَامَيْنِ ، فَإِنْ بَعَثَ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِيَتَحَلَّلَ عَنْ الْحَجِّ وَيَبْقَى فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لَمْ يَتَحَلَّلْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْهُمَا شُرِعَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ .
بَابُ الْإِحْصَارِ ) لَمَّا كَانَ مِنْ الْإِحْصَارِ مَا هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الْمُحْرِمِ أَعْقَبَهُ بَابَ الْجِنَايَاتِ بِبَابٍ عَلَى حِدَةٍ ، تَقُولُ الْعَرَبُ : أُحْصِرَ إذَا مَنَعَهُ خَوْفٌ أَوْ عَدُوٌّ أَوْ مَرَضٌ مِنْ الْوُصُولِ إلَى إتْمَامِ حَجَّتِهِ أَوْ عُمْرَتِهِ ، وَإِذَا حَبَسَهُ سُلْطَانٌ أَوْ قَاهِرٌ مَانِعٌ يَقُولُونَ حُصِرَ ، فَالْمُحْصَرُ مُحْرِمٌ مَمْنُوعٌ عَنْ الْمُضِيِّ إلَى إتْمَامِ أَفْعَالِ مَا أَحْرَمَ لِأَجْلِهِ ( فَإِذَا أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ فَمُنِعَ مِنْ الْمُضِيِّ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ ) وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حُصِرَ الْإِحْصَارُ فِي الْعَدُوِّ وَقَالَ : الْمَرِيضُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرَطَ ذَلِكَ عِنْدَ إحْرَامِهِ ، وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ إلَى أَنْ يَبْرَأَ ( لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ شُرِعَ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ لِتَحْصِيلِ النَّجَاةِ ) بِالْإِحْلَالِ وَالنَّجَاةُ بِالْإِحْلَالِ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ الْعَدُوِّ وَلِأَنَّ مَا بِهِ مِنْ الْمَرَضِ لَا يَزُولُ بِالتَّحَلُّلِ ، بِخِلَافِ الْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ فَإِنَّ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ يَزُولُ بِالتَّحَلُّلِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ فَيَنْدَفِعُ عَنْهُ شَرُّ عَدُوِّهِ ( وَلَنَا أَنَّ آيَةَ الْإِحْصَارِ وَرَدَتْ فِي الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا : الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ وَالْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ ) وَإِذَا وَرَدَتْ فِيهِ كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ أَقْوَى ، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ كَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا تَعَلُّقَ لَهُمْ بِوُرُودِ الْآيَةِ وَسَبَبِ نُزُولِهَا .
وَالثَّانِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَكَانَ الْإِحْصَارُ بِالْعَدُوِّ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ مَعْنَاهُ بِدَلَالَةِ إجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَجْمَعُوا عَلَى مَعْنًى دَلَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ وَارِدَةً فِي الْإِحْصَارِ بِمَرَضٍ .
وَعَنْ الثَّانِي بِمَا قِيلَ النُّصُوصُ الْوَارِدَةُ
مُطْلَقَةٌ يُعْمَلُ بِهَا عَلَى إطْلَاقِهَا مِنْ غَيْرِ حَمْلٍ عَلَى الْأَسْبَابِ الْوَارِدَةِ هِيَ لِأَجْلِهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَالتَّحَلُّلُ قَبْلَ أَوَانِهِ ) اسْتِدْلَالٌ بِمَعْقُولٍ فِيهِ شَائِبَةُ التَّنَزُّلِ كَأَنَّهُ قَالَ : سَلَّمْنَا أَنَّ آيَةَ الْإِحْصَارِ وَرَدَتْ فِي الْحَصْرِ بِالْعَدُوِّ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِحْصَارِ وَالْحَصْرِ ، لَكِنَّ الْمَرَضَ مُلْحَقٌ بِهِ بِالدَّلَالَةِ ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ قَبْلَ أَوَانِهِ ( لِدَفْعِ الْحَرَجِ الْآتِي مِنْ قِبَلِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَجُ فِي الِاصْطِبَارِ عَلَى الْإِحْرَامِ مَعَ الْمَرَضِ أَعْظَمُ ) لَا مَحَالَةَ لِكَثْرَةِ احْتِيَاجِهِ مُدَاوَاةً وَمُدَارَاةً إلَى مَا هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الْإِحْرَامِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا جَازَ التَّحَلُّلُ ) يَعْنِي إذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ جَوَازُ التَّحَلُّلِ لِلْمُحْصَرِ ( يُقَالُ لَهُ ابْعَثْ شَاةً تُذْبَحُ فِي الْحَرَمِ وَوَاعِدْ مَنْ تَبْعَثُهُ بِيَوْمٍ بِعَيْنِهِ يُذْبَحُ فِيهِ ثُمَّ تَحَلَّلْ ) وَهَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَهُ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ فَيَحْتَاجُ إلَى الْمُوَاعَدَةِ لِيُعْرَفَ وَقْتُ الْإِحْلَالِ ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَدَمُ الْإِحْصَارِ فِي الْحَجِّ مُوَقَّتٌ بِيَوْمِ النَّحْرِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْمُوَاعَدَةِ فِيهِ ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الْعُمْرَةِ ، فَإِذَا بَعَثَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَقَامَ بِمَكَانِهِ وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ مَمْنُوعًا مِنْ الذَّهَابِ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْمَقَامِ وَالِانْصِرَافِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : إنَّمَا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ يُذْبَحُ فِيهِ ثُمَّ يَتَحَلَّلُ لِأَنَّهُ إذَا ظَنَّ الْمُحْصَرُ بِهِ ذَبْحَ هَدْيِهِ فَفَعَلَ مَا يَفْعَلُ الْحَلَالُ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْبَحْ كَانَ عَلَيْهِ مَا عَلَى الَّذِي ارْتَكَبَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ لِبَقَاءِ إحْرَامِهِ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَإِنَّمَا يَبْعَثُ إلَى الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ قُرْبَةٌ وَالْإِرَاقَةُ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان عَلَى مَا مَرَّ ) فَدَمُ
الْإِحْصَارِ لَا يُعْرَفُ قُرْبَةً بِدُونِ أَحَدِ هَذَيْنِ فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ ) وَقَدْ عَيَّنَ الشَّارِعُ الْمَكَانَ بِإِشَارَةٍ ( قَوْلُهُ { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } فَإِنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لَمَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ ) وَالْمَحِلُّ بِالْكَسْرِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَكَانِ كَالْمَسْجِدِ وَالْمَجْلِسِ ، نَهْيٌ عَنْ الْحَلْقِ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَوْضِعَ حِلِّهِ ، ثُمَّ فُسِّرَ الْمَحِلُّ بِقَوْلِهِ ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَيْنَ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ لَا تُرَاقُ فِيهِ الدِّمَاءُ فَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمَ ، وَهَذَا وَاضِحٌ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَتَوَقَّتُ بِالْحَرَمِ لِأَنَّهُ شُرِعَ رُخْصَةً وَالتَّوْقِيتُ يُبْطِلُ التَّخْفِيفَ .
قُلْنَا : الْمُرَاعَى أَصْلُ التَّخْفِيفِ لَا نِهَايَتُهُ ) وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ التَّخْفِيفَ مَتَى لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ بَلْ يَبْقَى مُحْرِمًا أَبَدًا ، ؛ وَلِأَنَّ نِهَايَتَهُ لَوْ كَانَتْ مُرَاعَاةً لَتَحَلَّلَ فِي الْحَالِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَتَجُوزُ الشَّاةُ ) ظَاهِرٌ ، وَذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُعْسِرًا لَا يَجِدُ قِيمَةَ شَاةٍ أَقَامَ حَرَامًا حَتَّى يَطُوفَ وَيَسْعَى كَمَا يَفْعَلُهُ فَائِتُ الْحَجِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : عَلَيْهِ ذَلِكَ ) أَيْ الْحَلْقُ ( وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ مُحْصَرًا بِهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ } فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الدَّلِيلِ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِمَا أَنَّ مُجَرَّدَ فِعْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الَّذِي لَا يُفْعَلُ قُرْبَةً دَلِيلُ الْوُجُوبِ فَكَيْفَ إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَأَيْنَ دَلِيلُهُ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهَا رِوَايَتَانِ : فِي
رِوَايَةٍ يَجُوزُ ، وَفِي أُخْرَى وَاجِبٌ .
وَالْمُصَنِّفُ أَوْرَدَ دَلِيلَ رِوَايَةِ الْوُجُوبِ وَلَمْ يُورِدْ دَلِيلَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَصْلُحُ دَلِيلًا لَهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَهُمَا أَنَّ الْحَلْقَ إنَّمَا عُرِفَ قُرْبَةً ) يَعْنِي أَنَّ كَوْنَ الْحَلْقِ قُرْبَةً عُرِفَ بِالنَّصِّ ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُرَاعَى فِيهِ جَمِيعُ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ مِنْ الْأَوْصَافِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا كَوْنُهُ ( مُرَتَّبًا عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ ) فَلَا يَكُونُ فِي غَيْرِ الْمُرَتَّبِ قُرْبَةٌ ، وَأَمَّا حَلْقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فَلِيَعْرِفَ الْمُشْرِكُونَ اسْتِحْكَامَ عَزِيمَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الِانْصِرَافِ فَيَأْمَنُوا جَانِبَهُمْ وَلَا يَشْتَغِلُوا بِمَكِيدَةٍ أُخْرَى بَعْدَ الصُّلْحِ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ ) الْمُحْصَرُ ( قَارِنًا بَعَثَ بِدَمَيْنِ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى التَّحَلُّلِ عَنْ إحْرَامَيْهِ ، فَإِنْ بَعَثَ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِيَتَحَلَّلَ عَنْ الْحَجِّ وَيَبْقَى فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لَمْ يَتَحَلَّلْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْهُمَا شُرِعَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ) لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ " { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ .
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا } " وَبِالْهَدْيِ الْوَاحِدِ لَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُمَا فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ أَصْلًا .
فَإِنْ قِيلَ : دَمُ الْإِحْصَارِ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَلْقِ فِي التَّحَلُّلِ وَالْقَارِنُ يَتَحَلَّلُ بِحَلْقٍ وَاحِدٍ عَنْ الْإِحْرَامَيْنِ فَمَا بَالُهُ لَا يَتَحَلَّلُ عَنْهُمَا بِهَدْيٍ وَاحِدٍ ؟ أُجِيبَ بِجَوَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحَلْقَ فِي الْأَصْلِ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ ، وَإِنَّمَا صَارَ قُرْبَةً بِسَبَبِ التَّحَلُّلِ فَكَانَ قُرْبَةً لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ كَالْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ فَيَنُوبُ الْوَاحِدُ عَنْ
الِاثْنَيْنِ كَالطَّهَارَةِ الْوَاحِدَةِ تَكْفِي لِصَلَوَاتٍ كَثِيرَةٍ .
وَأَمَّا الْهَدْيُ فَإِنَّهُ شُرِعَ لِلتَّحَلُّلِ إلَّا أَنَّهُ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ بِدُونِ التَّحَلُّلِ وَلِهَذَا جَازَ النَّذْرُ بِهِ ، وَمَا هُوَ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهِ لَا يَنُوبُ الْوَاحِدُ فِيهِ عَنْ الِاثْنَيْنِ كَأَفْعَالِ الصَّلَاةِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْحَلْقَ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ قُرْبَةً بِسَبَبِ التَّحَلُّلِ .
فَإِنْ تَكَرَّرَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ التَّحَلُّلُ وَاقِعًا بِالْأَوَّلِ أَوْ بِالثَّانِي ، فَإِنْ وَقَعَ بِالْأَوَّلِ كَانَ الثَّانِي لَغْوًا ، وَإِنْ وَقَعَ بِالثَّانِي كَانَ الْأَوَّلُ جِنَايَةً ، فَأَمَّا الذَّبْحُ فَلَيْسَ بِمَحْظُورِ الْإِحْرَامِ فَصَحَّ الْجَمْعُ .
( وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ دَمِ الْإِحْصَارِ إلَّا فِي الْحَرَمِ ، وَيَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا : لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ لِلْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ إلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ ، وَيَجُوزُ لِلْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ مَتَى شَاءَ ) اعْتِبَارًا بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ ، وَرُبَّمَا يَعْتَبِرَانِهِ بِالْحَلْقِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَلَّلٌ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ دَمُ كَفَّارَةٍ حَتَّى لَا يَجُوزَ الْأَكْلُ مِنْهُ فَيَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ دُونَ الزَّمَانِ كَسَائِرِ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ ، بِخِلَافِ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ ؛ لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ ، وَبِخِلَافِ الْحَلْقِ ؛ لِأَنَّهُ فِي أَوَانِهِ ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَهُوَ الْوُقُوفُ يَنْتَهِي بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ دَمِ الْإِحْصَارِ إلَّا فِي الْحَرَمِ ) إنَّمَا أَعَادَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِيَجْعَلَهَا تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ وَيَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ زِيَادَةً فِي بَيَانِ أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ أَعْرَفُ فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْمَكَانِ حَيْثُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ أَصْحَابُنَا مِنْ اخْتِصَاصِهِ بِالزَّمَانِ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( اعْتِبَارًا بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ ) تَعْلِيلُ عَدَمِ جَوَازِ الذَّبْحِ لِلْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ إلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَأَمَّا قَوْلُهُ ( وَيَجُوزُ لِلْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ مَتَى شَاءَ ) فَبِالِاتِّفَاقِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَعْلِيلٍ ( وَرُبَّمَا يَعْتَبِرَانِهِ بِالْحَلْقِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَلِّلٌ ) فَكَمَا لَمْ يَجُزْ الْحَلْقُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ فَكَذَلِكَ الذَّبْحُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ ) جَوَابٌ عَنْ اعْتِبَارِهِمَا صُورَةَ النِّزَاعِ بِهِمَا ( لِأَنَّهُ ) أَيْ دَمَ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ ( دَمُ نُسُكٍ ) وَمَا هُوَ دَمُ نُسُكٍ يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ فَكَذَا هَذَا .
وَقَوْلُهُ ( وَبِخِلَافِ الْحَلْقِ ) جَوَابٌ عَنْ اعْتِبَارِهِمَا الْآخَرِ .
وَبَيَانُهُ أَنَّ التَّحَلُّلَ عَلَى نَوْعَيْنِ : تَحَلُّلٌ فِي أَوَانِهِ وَهُوَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى أَفْعَالِ مَا أَحْرَمَ لِأَجْلِهِ ، وَتَحَلُّلٌ قَبْلَ أَوَانِهِ وَهُوَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَالْأَوَّلُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ التَّوْقِيتِ بِيَوْمِ النَّحْرِ ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ ( وَهُوَ يَنْتَهِي بِهِ ) أَيْ بِوَقْتِ الْحَلْقِ ؛ لِأَنَّ وَقْتَهُ يَمْتَدُّ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ الْحَلْقُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَدَاءِ الْأَفْعَالِ فَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى التَّوْقِيتِ بِيَوْمِ النَّحْرِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الثَّانِي فَكَانَ قِيَاسُهُ عَلَى الْأَوَّلِ قِيَاسًا مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ وَهُوَ بَاطِلٌ .
قَالَ صَاحِبُ الْأَسْرَارِ : قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ زَمَانٍ ، فَاشْتِرَاطُهُ بِالْقِيَاسِ نَسْخٌ .
قَالَ : ( وَالْمُحْصَرُ بِالْحَجِّ إذَا تَحَلَّلَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ ) هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلِأَنَّ الْحَجَّةَ يَجِبُ قَضَاؤُهَا لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا وَالْعُمْرَةُ لِمَا أَنَّهُ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ ( وَعَلَى الْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ الْقَضَاءُ ) وَالْإِحْصَارُ عَنْهَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَنَا .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَتَحَقَّقُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَوَقَّتُ .
وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أُحْصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ وَكَانُوا عُمَّارًا ؛ وَلِأَنَّ شَرْعَ التَّحَلُّلِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ ، وَإِذَا تَحَقَّقَ الْإِحْصَارُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ إذَا تَحَلَّلَ كَمَا فِي الْحَجِّ .
قَالَ ( وَالْمُحْصَرُ بِالْحَجِّ إذَا تَحَلَّلَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ) قَالَا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلْيُحْلِلْ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ } " وَالْحَدِيثُ عَامٌّ فِي الَّذِي فَاتَهُ الْحَجُّ بِفَوَاتِ وَقْتِ الْوُقُوفِ وَفَوَاتُهُ بِالْإِحْصَارِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ فَاتَهُ عَرَفَةُ فَقُلْنَا بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ ، وَأَمَّا الْحَجَّةُ فَإِنَّهَا تَجِبُ قَضَاءً لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا .
فَإِنْ قِيلَ : الْعُمْرَةُ فِي فَائِتِ الْحَجِّ لِلتَّحَلُّلِ ، وَالتَّحَلُّلُ هَاهُنَا حَصَلَ بِالْهَدْيِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إيجَابِ الْعُمْرَةِ .
قُلْنَا : هَذَا رَأْيٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ لِمَا رَوَى سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ { أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : حَسْبُكُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنْ الْبَيْتِ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا } .
وَقَوْلُهُ ( وَعَلَى الْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ الْقَضَاءُ ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِحْصَارَ عَنْ الْعُمْرَةِ مُتَصَوَّرٌ .
وَقَالَ مَالِكٌ : هُوَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي الْعُمْرَةِ ( لِأَنَّهَا لَا تَتَوَقَّتُ .
وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أُحْصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ وَكَانُوا عُمَّارًا ) صَحَّ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ أُحْصِرُوا بِالْعُمْرَةِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فَقَضَوْهَا مِنْ قَابِلٍ وَكَانَتْ تُسَمَّى عُمْرَةَ الْقَضَاءِ ( ؛ وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ مَشْرُوعٌ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ ، وَإِذَا تَحَقَّقَ الْإِحْصَارُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ إذَا تَحَلَّلَ كَمَا فِي الْحَجِّ )
( وَعَلَى الْقَارِنِ حَجَّةٌ وَعُمْرَتَانِ ) أَمَّا الْحَجُّ وَإِحْدَاهُمَا فَلِمَا بَيَّنَّا ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّهُ مُخْرَجٌ مِنْهَا بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا .( وَعَلَى الْقَارِنِ حَجَّةٌ وَعُمْرَتَانِ أَمَّا الْحَجُّ وَإِحْدَاهُمَا فَلِمَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي فِي الْمُفْرِدِ مِنْ كَوْنِهِ بِمَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ ( وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا )
( فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا وَوَاعَدَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوهُ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ ، فَإِنْ كَانَ لَا يُدْرِكُ الْحَجَّ وَالْهَدْيَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ بَلْ يَصْبِرَ حَتَّى يَتَحَلَّلَ بِنَحْرِ الْهَدْيِ ) لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّوَجُّهِ وَهُوَ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ ، وَإِنْ تَوَجَّهَ لِيَتَحَلَّلَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ فَائِتُ الْحَجِّ ( وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الْحَجَّ وَالْهَدْيَ لَزِمَهُ التَّوَجُّهُ ) لِزَوَالِ الْعَجْزِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلَفِ ، وَإِذَا أَدْرَكَ هَدْيَهُ صَنَعَ بِهِ مَا شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَقَدْ كَانَ عَيَّنَهُ لِمَقْصُودٍ اسْتَغْنَى عَنْهُ ( وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الْهَدْيَ دُونَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ ) لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَصْلِ ( وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الْحَجَّ دُونَ الْهَدْيِ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ ) اسْتِحْسَانًا ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِهِمَا فِي الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَهُمَا يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ ، فَمَنْ يُدْرِكُ الْحَجَّ يُدْرِكُ الْهَدْيَ ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي الْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ يَسْتَقِيمُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِعَدَمِ تَوَقُّتِ الدَّمِ بِيَوْمِ النَّحْرِ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْحَجُّ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ ، وَهُوَ الْهَدْيُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُ التَّوَجُّهُ لَضَاعَ مَالُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَبْعُوثَ عَلَى يَدَيْهِ الْهَدْيُ يَذْبَحُهُ وَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ ، وَحُرْمَةُ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ ، وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ صَبَرَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ فِي غَيْرِهِ ؛ لِيُذْبَحَ عَنْهُ فَيَتَحَلَّلُ ، وَإِنْ شَاءَ تَوَجَّهَ لِيُؤَدِّيَ النُّسُكَ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِالْإِحْرَامِ وَهُوَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ ( وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أُحْصِرَ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا ) لِوُقُوعِ الْأَمْنِ عَنْ الْفَوَاتِ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : ذِكْرُ الْقَارِنِ هَاهُنَا وَقَعَ غَلَطًا ظَاهِرًا مِنْ النَّاسِخِ ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : فَإِنْ بَعَثَ الْمُحْصَرُ .
وَبَيَانُ الْغَلَطِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ذَكَرَ فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا وَيَجِبُ عَلَى الْقَارِنِ بَعْثُ الْهَدْيَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ بِالْوَاحِدِ لِأَنَّهُ ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا فِي هَذَا الْبَابِ ، فَإِنْ كَانَ قَارِنًا بَعَثَ بِدَمَيْنِ ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُصَنِّفَ جَمَعَ بَيْنَ رِوَايَتَيْ الْقُدُورِيِّ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ .
وَأَقُولُ : لَمَّا كَانَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ قَبْلَ هَذَا فِي الْقَارِنِ لَمْ يُرِدْ فَكَّ النَّظْمِ فَقَالَ : فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا ، وَالْهَدْيُ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ دَمَيْنِ أَوْ دَمًا وَاحِدًا أَوْ ثَوْبًا ، وَكَانَ ذَكَرَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ دَمَانِ وَهُمَا هَدْيُ الْقَارِنِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ دَمَيْنِ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ ، وَلَا هُوَ غَلَطٌ فِي الْكَلَامِ وَلَا مَنْ نَسَخَهُ ، بَلْ رُبَّمَا لَوْ قَالَ : فَإِنْ بَعَثَ الْمُحْصَرُ كَانَ مُلَبِّسًا فِي حَقِّ الْقَارِنِ ، وَلَوْ قَالَ هَدْيَيْنِ كَانَ غَيْرَ فَصِيحٍ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِجِنْسِ مَا يُهْدَى فَلَا يُثَنَّى إلَّا إذَا قَصَدَ الْأَنْوَاعَ وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ أَوْ الْعَدَدَ ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِمَّا تَقَدَّمَ فَلِهَذَا قَالَ : فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا ( وَوَاعَدَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوهُ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ ) ثُمَّ إنَّ هَاهُنَا وُجُوهًا أَرْبَعَةً بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ لَا يُدْرِكَ الْحَجَّ وَالْهَدْيَ أَوْ يُدْرِكَهُمَا أَوْ يُدْرِكَ الْهَدْيَ دُونَ الْحَجِّ أَوْ بِالْعَكْسِ ، وَالْكُلُّ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ .
فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ( لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ بَلْ يَصِيرُ حَتَّى يَحِلَّ بِنَحْرِ الْهَدْيِ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّوَجُّهِ
وَهُوَ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ ، وَإِنْ تَوَجَّهَ لِيَتَحَلَّلَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَلَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ فَائِتُ الْحَجِّ ) فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ وَجَبَ أَنْ يُؤْمَرَ بِالتَّوَجُّهِ وَالتَّحَلُّلِ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ حَتْمًا كَفَائِتِ الْحَجِّ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ فِي حَقِّ فَائِتِ الْحَجِّ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِعَيْنِهِ ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّحَلُّلُ ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ لَهُ بِالْهَدْيِ الَّذِي بَعَثَهُ لِيُنْحَرَ عَنْهُ ، فَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ بِذَلِكَ ثُمَّ يَقْضِيَ الْعُمْرَةَ ، وَلَهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ لِئَلَّا يَلْزَمَهُ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ ( لِزَوَالِ الْعَجْزِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلَفِ ) كَالْمُكَفِّرِ بِالصَّوْمِ إذَا أَيْسَرَ قَبْلَ إتْمَامِ الْكَفَّارَةِ بِهِ ( وَإِذَا أَدْرَكَ هَدْيَهُ صَنَعَ بِهِ مَا شَاءَ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَقَدْ كَانَ عَيَّنَهُ لِمَقْصُودٍ اسْتَغْنَى عَنْهُ ) وَفِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ يَتَحَلَّلُ لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَصْلِ ، وَفِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ ( وَهَذَا التَّقْسِيمُ ) يَعْنِي الْوَجْهَ الرَّابِعَ ( لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِهِمَا فِي الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ ) عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَحُرْمَةُ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ ) يَعْنِي كَمَا أَنَّ خَوْفَ النَّفْسِ كَانَ عُذْرًا لَهُ فِي التَّحَلُّلِ فَكَذَلِكَ الْخَوْفُ عَلَى مَالِهِ ، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَتَوَجَّهَ .
فَإِنْ قُلْت : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ مُخَالِفٌ لِمَا قَالَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالْأُصُولِيُّونَ أَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ فَوْقَ حُرْمَةِ الْمَالِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ ، فَإِذَا أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ غَيْرِهِ جَازَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ فَوْقَ حُرْمَةِ الْمَالِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مُبْتَذَلٌ فَأَيْنَ يُمَاثِلُ الْمَالِكُ الْمُبْتَذَلَ ، وَلَكِنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ تُشْبِهُ حُرْمَةَ النَّفْسِ مِنْ
حَيْثُ كَوْنُ إتْلَافِهِ ظُلْمًا لِقِيَامِ عِصْمَةِ صَاحِبِهِ فِيهِ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِكَافِ التَّشْبِيهِ ، فَإِنَّ الْمُشَابَهَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لَا تَقْتَضِي اتِّحَادَهُمَا مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ وَإِلَّا لَارْتَفَعَ التَّشْبِيهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَهُ الْخِيَارُ ) يَعْنِي عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ ، لَمَا جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ ( إنْ شَاءَ صَبَرَ ) إلَى أَنْ يُنْحَرَ عَنْهُ الْهَدْيُ فِي الْمِيعَادِ فَيَتَحَلَّلَ ( وَإِنْ شَاءَ تَوَجَّهَ لِأَدَاءِ النُّسُكِ ) لِزَوَالِ الْعَجْزِ ( وَهُوَ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ ، وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أُحْصِرَ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا ) ؛ لِأَنَّ سَبَبَ حُكْمِ الْإِحْصَارِ خَوْفُ الْفَوَاتِ وَقَدْ وَقَعَ الْأَمْنُ عَنْهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } لَكِنَّهُ مُحَرَّمٌ عَنْ النِّسَاءِ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ .
وَعَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ : دَمٌ لِتَرْكِ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ ، وَدَمٌ لِتَرْكِ رَمْيِ الْجِمَارِ .
وَدَمٌ لِتَأْخِيرِ الطَّوَافِ .
وَدَمٌ لِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ .
وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ الطَّوَافِ وَالْحَلْقِ شَيْءٌ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ازْدِيَادَ مُدَّةِ الْإِحْرَامِ يُثْبِتُ حُكْمَ الْإِحْصَارِ كَمَا فِي إحْصَارِ الْعُمْرَةِ وَهَاهُنَا قَدْ ازْدَادَتْ فَلْيَثْبُتْ حُكْمُهُ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّحَلُّلِ بِالْحَلْقِ إلَّا فِي حَقِّ النِّسَاءِ ، وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُهُ بَعْضُ الدِّمَاءِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْعُذْرُ الْمُوجِبُ لِلتَّحَلُّلِ .
( وَمَنْ أُحْصِرَ بِمَكَّةَ وَهُوَ مَمْنُوعٌ عَنْ الطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ فَهُوَ مُحْصَرٌ ) ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ فَصَارَ كَمَا إذَا أُحْصِرَ فِي الْحِلِّ ( وَإِنْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ ) أَمَّا عَلَى الطَّوَافِ فَلِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِهِ وَالدَّمُ بَدَلٌ عَنْهُ فِي التَّحَلُّلِ ، وَأَمَّا عَلَى الْوُقُوفِ فَلِمَا بَيَّنَّا ، وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَالصَّحِيحُ مَا أَعْلَمْتُك مِنْ التَّفْصِيلِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ أُحْصِرَ بِمَكَّةَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( فَلِمَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أُحْصِرَ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَمَنْ أُحْصِرَ بِمَكَّةَ ( خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ) وَهُوَ مَا ذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ : سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الْمُحْرِمِ يُحْصَرُ فِي الْحَرَمِ فَقَالَ : لَا يَكُونُ مُحْصَرًا ، فَقُلْت : أَلَيْسَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ مِنْ الْحَرَمِ ؟ فَقَالَ : إنَّ مَكَّةَ يَوْمئِذٍ كَانَتْ دَارَ الْحَرْبِ وَأَمَّا الْيَوْمُ فَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ فِيهَا .
قَالَ أَبُو يُوسُفَ : وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ : إذَا غَلَبَ الْعَدُوُّ عَلَى مَكَّةَ حَتَّى حَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَهُوَ مُحْصَرٌ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالصَّحِيحُ ) مِنْ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْ الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ يَكُونُ مُحْصَرًا بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا ، وَإِذَا قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ مُحْصَرًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ ( مَا أَعْلَمْتُك مِنْ التَّفْصِيلِ ) وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَفَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ ) ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ يَمْتَدُّ إلَيْهِ ( وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى وَيَتَحَلَّلَ وَيَقْضِيَ الْحَجَّ مِنْ قَابِلٍ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ ) ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلْيَحْلِلْ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ } وَالْعُمْرَةُ لَيْسَتْ إلَّا الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بَعْدَمَا انْعَقَدَ صَحِيحًا لَا طَرِيقَ لِلْخُرُوجِ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ كَمَا فِي الْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ ، وَهَاهُنَا عَجَزَ عَنْ الْحَجِّ فَتَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْعُمْرَةُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ وَقَعَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَكَانَتْ فِي حَقِّ فَائِتِ الْحَجِّ بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا .
( بَابُ الْفَوَاتِ ) مَعْنَى الْإِحْصَارِ مِنْ الْفَوَاتِ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ الْمُفْرَدِ مِنْ الْمُرَكَّبِ ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَارَ إحْرَامٌ بِلَا أَدَاءً فِي الْفَوَاتِ إحْرَامٌ وَأَدَاءٌ فَلَا جَرَمَ آثَرَ تَأْخِيرَهُ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَفَاتَهُ الْوُقُوفُ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ؛ وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بَعْدَمَا انْعَقَدَ صَحِيحًا ) أَيْ نَافِذًا لَازِمًا لَا يَرْتَفِعُ بِرَافِعٍ ، فَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ إحْرَامِ الرَّقِيقِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى ، وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي التَّطَوُّعِ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ ، فَإِنَّ لِلْمَوْلَى وَالزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَاهُمَا وَلَيْسَ بِاحْتِرَازٍ عَنْ الْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ ، كَمَا إذَا جَامَعَ الْمُحْرِمُ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَوْ أَحْرَمَ مُجَامِعًا فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ .
وَقَوْلُهُ ( لَا طَرِيقَ لِلْخُرُوجِ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ ) مَنْقُوضٌ بِالْمُحْصَرِ فَإِنَّ الْهَدْيَ طَرِيقٌ لَهُ لِلْخُرُوجِ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ بَنَى الْكَلَامَ عَلَى مَا هُوَ الْوَضْعُ وَمَسْأَلَةُ الْإِحْصَارِ مِنْ الْعَوَارِضِ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا فِي الْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ ) أَيْ الْمُبْهَمِ مِنْ النُّسُكَيْنِ الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ بِأَنْ أَبْهَمَ فِي الْإِحْرَامِ وَقَالَ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، وَلَمْ يُعَيِّنْ حَجَّةً وَلَا عُمْرَةً وَلَمْ يَنْوِ بِقَلْبِهِ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ إحْرَامُهُ وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ ، لَكِنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِي الْمُتَيَقَّنِ وَهُوَ الْعُمْرَةُ لِأَنَّهَا أَقَلُّ أَفْعَالًا وَأَيْسَرُ مَئُونَةً ( وَهَاهُنَا عَجَزَ عَنْ الْحَجِّ ) لِفَوَاتِ رُكْنِهِ الْأَعْظَمِ ( فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْعُمْرَةُ ) فَكَانَ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ الْخُرُوجُ عَنْ الْإِحْرَامِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا دَمَ عَلَيْهِ ) يَعْنِي عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الدَّمَ عَلَيْهِ قِيَاسًا عَلَى الْمُحْصَرِ .
وَقُلْنَا : التَّحَلُّلُ وَقَعَ
بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَكَانَتْ فِي حَقِّ فَائِتِ الْحَجِّ بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا ، وَلَا يُقَاسُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَادِرٌ وَعَاجِزٌ عَلَى مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْآخَرُ وَعَمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ
( وَالْعُمْرَةُ لَا تَفُوتُ وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ إلَّا خَمْسَةَ أَيَّامٍ يُكْرَهُ فِيهَا فِعْلُهَا ، وَهِيَ يَوْمُ عَرَفَةَ ، وَيَوْمُ النَّحْرِ ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ ) لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَكْرَهُ الْعُمْرَةَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ الْحَجِّ فَكَانَتْ مُتَعَيِّنَةً لَهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهَا لَا تُكْرَهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ ؛ لِأَنَّ دُخُولَ وَقْتِ رُكْنِ الْحَجِّ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا قَبْلَهُ ، وَالْأَظْهَرُ مِنْ الْمَذْهَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَوْ أَدَّاهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ صَحَّ وَيَبْقَى مُحْرِمًا بِهَا فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِغَيْرِهَا وَهُوَ تَعْظِيمُ أَمْرِ الْحَجِّ وَتَخْلِيصُ وَقْتِهِ لَهُ فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ .وَقَوْلُهُ ( وَالْعُمْرَةُ لَا تَفُوتُ ) أَيْ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ ( وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ ) يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ ، وَكَانَ عُمَرُ يَنْهَى عَنْهَا وَيَقُولُ : الْحَجُّ فِي الْأَشْهُرِ وَالْعُمْرَةُ فِي غَيْرِهَا أَكْمَلُ لِحَجِّكُمْ وَعُمْرَتِكُمْ .
وَالصَّحِيحُ جَوَازُهَا بِلَا كَرَاهَةٍ بِدَلِيلِ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِإِسْنَادِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَرْبَعَ عُمَر إلَّا الَّتِي اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ } " .
وَأَمَّا كَرَاهَتُهَا فِي الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ فَهِيَ مَذْهَبُنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تُكْرَهُ ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْأَظْهَرُ مِنْ الْمَذْهَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي كَرَاهَةَ الْعُمْرَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ
( وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَرِيضَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْعُمْرَةُ فَرِيضَةٌ كَفَرِيضَةِ الْحَجِّ } وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " الْحَجُّ فَرِيضَةٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ " ؛ وَلِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ بِوَقْتٍ وَتَتَأَدَّى بِنِيَّةِ غَيْرِهَا كَمَا فِي فَائِتِ الْحَجِّ ، وَهَذِهِ أَمَارَةُ النَّفْلِيَّةِ .
وَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِأَعْمَالٍ كَالْحَجِّ إذْ لَا تَثْبُتُ الْفَرْضِيَّةُ مَعَ التَّعَارُضِ فِي الْآثَارِ .
قَالَ ( وَهِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ التَّمَتُّعِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ ) أَيْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ بِوَقْتٍ وَتَتَأَدَّى بِنِيَّةِ غَيْرِهَا كَمَا فِي فَائِتِ الْحَجِّ وَهَذِهِ أَمَارَةُ النَّفْلِيَّةِ ) اسْتَشْكَلَ بِالْإِيمَانِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَإِنَّهُمَا فَرْضَانِ وَلَيْسَا بِمُؤَقَّتَيْنِ ، وَبِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ غَيْرِهِ وَهُوَ فَرْضٌ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّا قَدْ قُلْنَا إنَّ كُلَّ مَا هُوَ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ وَنَعْنِي بِذَلِكَ مَا هُوَ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ مِنْ أَوْقَاتِ الْعُمْرِ إذَا وَقَعَ فِيهِ انْتَفَى الْفَرْضِيَّةُ ، وَالْإِيمَانُ فَرْضٌ دَائِمٌ فَلَا يَرِدُ نَقْضًا وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ مُؤَقَّتَةٌ بِوَقْتِ حُضُورِهَا ، وَإِنَّ الْكَلَامَ فِيمَا يَكُونُ غَيْرَ مُؤَقَّتٍ وَصَوْمُ رَمَضَانَ لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَأَقُولُ : مَنْشَأُ هَذَا الِاسْتِشْكَالِ الذُّهُولُ عَنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ، فَإِنَّهُ جَعَلَ مَجْمُوعَ قَوْلِهِ وَلِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ بِوَقْتٍ وَتَتَأَدَّى بِنِيَّةِ غَيْرِهَا أَمَارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَهَذِهِ أَمَارَةُ النَّفْلِيَّةِ وَحِينَئِذٍ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ، أَمَّا الْإِيمَانُ فَلِأَنَّهُ لَا غَيْرُ ثَمَّةَ حَتَّى يَتَأَدَّى بِنِيَّتِهِ إذْ هُوَ لَا يَتَنَوَّعُ إلَى فَرْضٍ وَنَفْلٍ وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ ، وَأَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ فَلِأَنَّهُ مُؤَقَّتٌ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ .
وَقَوْلُهُ وَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { الْعُمْرَةُ فَرِيضَةٌ } " ( أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِأَعْمَالٍ كَالْحَجِّ أَوْ لَا تَثْبُتُ الْفَرْضِيَّةُ مَعَ التَّعَارُضِ فِي الْآثَارِ ) فَإِنَّ مَا رُوِيَ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ وَمَا رَوَيْنَاهُ عَلَى كَوْنِهَا سُنَّةً ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْآثَارُ لَا تَثْبُتُ الْفَرْضِيَّةُ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هُوَ ثَابِتٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } عَطَفَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ ، وَالْحَجُّ فَرِيضَةٌ ، وَأَمَرَ بِالْإِتْمَامِ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ
الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ ، وَالْأَمْرُ إنَّمَا هُوَ بِالْإِتْمَامِ ، وَالْإِتْمَامُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الشُّرُوعِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الِابْتِدَاءِ سُنَّةً .
وَقَوْلُهُ ( وَهِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ ) ظَاهِرٌ .
الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ صَدَقَةً أَوْ غَيْرَهَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، لِمَا رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدَهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرَ عَنْ أُمَّتِهِ مِمَّنْ أَقَرَّ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَهِدَ لَهُ بِالْبَلَاغِ } جَعَلَ تَضْحِيَةَ إحْدَى الشَّاتَيْنِ لِأُمَّتِهِ .
وَالْعِبَادَاتُ أَنْوَاعٌ : مَالِيَّةٌ مَحْضَةٌ كَالزَّكَاةِ ، وَبَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ كَالصَّلَاةِ ، وَمُرَكَّبَةٌ مِنْهُمَا كَالْحَجِّ ، وَالنِّيَابَةُ تَجْرِي فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ فِي حَالَتَيْ الِاخْتِيَارِ وَالضَّرُورَةِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِفِعْلِ النَّائِبِ ، وَلَا تَجْرِي فِي النَّوْعِ الثَّانِي بِحَالٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ إتْعَابُ النَّفْسِ لَا يَحْصُلُ بِهِ ، وَتَجْرِي فِي النَّوْعِ الثَّالِثِ عِنْدَ الْعَجْزِ لِلْمَعْنَى الثَّانِي وَهُوَ الْمَشَقَّةُ بِتَنْقِيصِ الْمَالِ ، وَلَا تَجْرِي عِنْدَ الْقُدْرَةِ لِعَدَمِ إتْعَابِ النَّفْسِ ، وَالشَّرْطُ الْعَجْزُ الدَّائِمُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمْرِ ، وَفِي الْحَجِّ النَّفْلِ تَجُوزُ الْإِنَابَةُ حَالَةَ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ بَابَ النَّفْلِ أَوْسَعُ ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَبِذَلِكَ تَشْهَدُ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي الْبَابِ كَحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ { حُجِّي عَنْ أَبِيك وَاعْتَمِرِي } .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْحَاجِّ ، وَلِلْآمِرِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ ، وَعِنْدَ الْعَجْزِ أُقِيمَ الْإِنْفَاقُ مُقَامَهُ كَالْفِدْيَةِ فِي بَابِ الصَّوْمِ .
بَابُ الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ ) : لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ فِي التَّصَرُّفَاتِ أَنْ تَقَعَ عَمَّنْ تَصْدُرُ مِنْهُ كَانَ الْحَجُّ عَنْ الْغَيْرِ خَلِيقًا بِأَنْ يُؤَخَّرَ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ صَلَّى أَوْ صَامَ أَوْ تَصَدَّقَ فَجَعَلَ ثَوَابَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ جَازَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } وَهَذَا لَيْسَ مِنْ سَعْيِهِ ، ؛ وَلِأَنَّ الثَّوَابَ هُوَ الْجَنَّةُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ تَمْلِيكُهَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لَهَا .
وَقُلْنَا : لَمَّا جَعَلَ سَعْيَهُ لِلْغَيْرِ صَارَ سَعْيُهُ كَسَعْيِ الْغَيْرِ ، وَلَهُ وِلَايَةُ أَنْ يَصِيرَ سَاعِيًا لِغَيْرِهِ وَأَنْ يَجْعَلَ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْجَنَّةِ لِغَيْرِهِ .
وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا فَقَوْلُهُ ( الْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ ) إشَارَةً إلَى أَنَّ ثَوَابَ الْحَجِّ لِلْآمِرِ بِجَعْلِ الْمَأْمُورِ كَذَلِكَ ، وَأَمَّا نَفْسُ الْحَجِّ هَلْ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ أَوْ عَنْ الْمَأْمُورِ فَيَذْكُرُ بُعَيْدَ هَذَا مَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَغَيْرُهُ .
وَقَوْلُهُ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ ) يُقَالُ كَبْشٌ أَمْلَحُ فِيهِ مُلْحَةٌ : وَهِيَ بَيَاضٌ يَشُوبُهُ شَعَرَاتٌ سُودٌ وَهِيَ مِنْ لَوْنِ الْمِلْحِ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( فِي حَالَتَيْ الِاخْتِيَارِ وَالضَّرُورَةِ ) أَيْ حَالَةِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ ( لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ) وَهِيَ إيصَالُ النَّفْعِ إلَى الْفُقَرَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( لَا يَحْصُلُ بِهِ ) أَيْ بِفِعْلِ النَّائِبِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهِيَ الْمَشَقَّةُ بِتَنْقِيصِ الْمَالِ ) يَعْنِي أَنَّ الْمَرْءَ كَمَا تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ عِنْدَ فِعْلِهِ بِنَفْسِهِ تَلْحَقُهُ أَيْضًا عِنْدَ فِعْلِ غَيْرِهِ إذَا كَانَ بِمَالِهِ ( وَالشَّرْطُ الْعَجْزُ الدَّائِمُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمْرِ ) وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ ، وَكِلْتَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ ظَاهِرَةٌ ، فَالْحَجُّ لَا يَتَعَيَّنُ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعَجْزُ دَائِمِيًّا
وَقَدْ أَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ زَالَ عَنْهُ الْعَجْزُ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَصْلِهِ فِي وَقْتِهِ وَذَلِكَ يُبْطِلُ النِّيَابَةَ .
فَإِنْ قِيلَ : الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ تُبْطِلُ الْخَلَفَ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلَفِ وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْخَلَفِ وَهُوَ حُصُولُ الْمَشَقَّةِ بِتَنْقِيصِ الْمَالِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّا لَمْ نَسْلُكْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَسْلَكَ الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا بِأَنَّ الْحَجَّ مُرَكَّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ وَالْآخَرُ لَا يَحْتَمِلُهَا ، فَعَمِلْنَا بِأَحَدِهِمَا عِنْدَ الْقُدْرَةِ فَلَمْ نُجَوِّزْ النِّيَابَةَ وَبِالْآخَرِ عِنْدَ الْعَجْزِ فَجَوَّزْنَاهَا ، لَكِنْ شَرَطْنَا لِكَوْنِهِ وَظِيفَةَ الْعُمْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْعَجْزِ دَائِمِيًّا لِمَا مَرَّ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ كَوْنَهُ وَظِيفَةَ الْعُمْرِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَجْزِ الدَّائِمِ لِتَخَلُّفِهِ عَنْهُ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْفِدْيَةِ لِلشَّيْخِ الْفَانِي عَنْ الصَّوْمِ وَالصَّوْمُ لَيْسَ وَظِيفَةَ الْعُمْرِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الدَّلِيلَ يَسْتَلْزِمُ الْمَدْلُولَ وَلَا يَنْعَكِسُ ، فَكُلُّ مَا كَانَ وَظِيفَةَ الْعُمْرِ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَجْزُ الدَّائِمُ ، وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَجْزُ الدَّائِمُ تَكُونُ وَظِيفَةَ الْعُمْرِ .
وَقَوْلُهُ وَفِي الْحَجِّ النَّفْلِ تَجُوزُ الْإِنَابَةُ ) ظَاهِرٌ ( ثُمَّ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ ) يَعْنِي الْأَمْرَ ( وَبِذَلِكَ تَشْهَدُ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ ) { فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْخَثْعَمِيَّةِ حِينَ قَالَتْ إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَيُجْزِينِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ حُجِّي عَنْ أَبِيك وَاعْتَمِرِي } ( وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْحَاجِّ ) يَعْنِي الْمَأْمُورَ ( وَلِلْآمِرِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ ) وَصَارَ إنْفَاقُ الْمَأْمُورِ كَإِنْفَاقِ الْآمِرِ بِنَفْسِهِ ، وَلَكِنْ يَسْقُطُ أَصْلُ الْحَجِّ عَنْ الْآمِرِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ
بَدَنِيَّةٌ حَصَلَ الْعَجْزُ عَنْ فِعْلِهِ ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ قَامَ الْإِنْفَاقُ فِيهِ مَقَامَ الْفِعْلِ كَمَا فِي الشَّيْخِ الْفَانِي ، فَإِنَّهُ لَمَّا عَجَزَ عَنْ الصَّوْمِ قَامَتْ الْفِدْيَةُ مَقَامَ الصَّوْمِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْفِدْيَةُ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُلْحَقٌ بِهَا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ ، فَإِنَّ الْإِنْفَاقَ إذَا قَامَ مَقَامَ الصَّوْمِ وَهُوَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ فَلَأَنْ يَقُومَ مَقَامَ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْبَدَنِيِّ وَالْمَالِيِّ أَوْلَى .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ مَالَ عَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ .
قَالَ ( وَمَنْ أَمَرَهُ رَجُلَانِ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَجَّةً فَأَهَلَّ بِحَجَّةٍ عَنْهُمَا فَهِيَ عَنْ الْحَاجِّ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ ) لِأَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ حَتَّى لَا يَخْرُجَ الْحَاجُّ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَهُ أَنْ يُخْلِصَ الْحَجَّ لَهُ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ ، وَلَا يُمْكِنُ إيقَاعُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَيَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَجَّ عَنْ أَبَوَيْهِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِجَعْلِ ثَوَابِ عَمَلِهِ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لَهُمَا فَيَبْقَى عَلَى خِيَارِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ سَبَبًا لِثَوَابِهِ ، وَهُنَا يَفْعَلُ بِحُكْمِ الْآمِرِ ، وَقَدْ خَالَفَ أَمْرَهُمَا فَيَقَعُ عَنْهُ .
وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ إنْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِمَا لِأَنَّهُ صَرَفَ نَفَقَةَ الْآمِرِ إلَى حَجِّ نَفْسِهِ ، وَإِنْ أَبْهَمَ الْإِحْرَامَ بِأَنْ نَوَى عَنْ أَحَدِهِمَا غَيْرَ عَيْنٍ ، فَإِنْ مَضَى عَلَى ذَلِكَ صَارَ مُخَالِفًا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ ، وَإِنْ عَيَّنَ أَحَدَهُمَا قَبْلَ الْمُضِيِّ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّعْيِينِ ، وَالْإِبْهَامُ يُخَالِفُهُ فَيَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً حَيْثُ كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ مَا شَاءَ لِأَنَّ الْمُلْتَزَمَ هُنَاكَ مَجْهُولٌ وَهَاهُنَا الْمَجْهُولُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِحْرَامَ شُرِعَ وَسِيلَةً إلَى الْأَفْعَالِ لَا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ .
وَالْمُبْهَمُ يَصْلُحُ وَسِيلَةً بِوَاسِطَةِ التَّعْيِينِ فَاكْتَفَى بِهِ شَرْطًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَدَّى الْأَفْعَالَ عَلَى الْإِبْهَامِ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى لَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ فَصَارَ مُخَالِفًا
قَالَ ( وَمَنْ أَمَرَهُ رَجُلَانِ ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ ، وَذَهَبَ الشَّارِحُونَ إلَى أَنَّ الدَّلِيلَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمَدْلُولِ ؛ لِأَنَّ الْمَدْلُولَ قَوْلُهُ ( فَهِيَ ) أَيْ الْحَجَّةُ ( عَنْ الْحَاجِّ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ ) وَدَلِيلُهُ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ وَلَا مُطَابَقَةَ بَيْنَهُمَا كَمَا تَرَى .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَلَكِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ تَعْلِيلُ حُكْمٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ : وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِأَنَّهُ خَالَفَهُمَا ، وَإِنَّمَا لَا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ إذَا وَافَقَ أَمْرَ الْآمِرِ ( ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ ) حِينَئِذٍ ( يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ حَتَّى لَا يَخْرُجَ الْحَاجُّ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ) وَهَاهُنَا قَدْ خَالَفَ فَلَا يَقَعُ الْحَجُّ عَنْ الْآمِرِ بَلْ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ ، فَكَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ تَعْلِيلًا لِمَا إذَا وَقَعَ الْحَجُّ عَنْ الْآمِرِ وَهُوَ فِي صُورَةِ عَدَمِ مُخَالَفَةِ الْمَأْمُورِ لِلْآمِرِ ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ ، وَلَا إخَالُ ذَلِكَ مَقْصُودَ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ هَذَا ( وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ إنْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِمَا لِأَنَّهُ صَرَفَ نَفَقَةَ الْآمِرِ إلَى حَجِّ نَفْسِهِ ) فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُرَادَهُ كَانَ هَذَا مُسْتَدْرَكًا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : زَلَّ فِيهِ أَقْدَامُ الشَّارِحِينَ حَيْثُ لَمْ يَفْهَمُوا كَلَامَ الْمُصَنِّفِ وَقَالُوا : لَا مُطَابَقَةَ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ ، وَلَا يُوَافِقُ التَّعْلِيلَ الْمُدَّعَى ، وَنَقَلَ تَقْرِيرَ الْكَلَامِ كَمَا قُلْنَا ثُمَّ قَالَ : فَأَقُولُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنُّوا وَلَوْ سَكَتُوا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَكَانَ أَوْلَى ، بَلْ الْمُطَابَقَةُ حَاصِلَةٌ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ بِأَنْ يُقَالَ هِيَ عَنْ الْحَاجِّ : أَيْ الْحَجَّةُ تَقَعُ عَنْ الْحَاجِّ وَهُوَ الْمَأْمُورُ ، وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ الْمُؤَدَّى فِي هَذِهِ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ مِنْ وَجْهٍ بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَاجَّ لَا يَخْرُجُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ
الْآمِرَيْنِ أَمَرَ بِأَنْ يُخْلَصَ لَهُ الْحَجُّ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالِاشْتِرَاكِ ، فَلَمَّا نَوَى عَنْهُمَا جَمِيعًا خَالَفَ الْآمِرَ فَوَقَعَ الْحَجُّ عَنْ الْحَاجِّ وَضَمِنَ النَّفَقَةَ لِوُجُودِ الْمُخَالَفَةِ هَذَا كَلَامُهُ وَلَا أَزِيدُ عَلَى الْحِكَايَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِيهِ : وَأَقُولُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى : فِي تَقْرِيرِ كَلَامِهِ الْحَجُّ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَتَّى لَا يَخْرُجَ الْحَاجُّ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُمْكِنُ هَاهُنَا إيقَاعُهُ عَنْ الْآمِرِ ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ شَخْصَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَهُ أَنْ يُخْلِصَ الْحَجَّ لَهُ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَلَا يَقَعُ عَنْهُمَا وَلَا عَنْ أَحَدِهِمَا فَيَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ ، لَكِنْ فِي كَلَامِهِ إغْلَاقٌ كَمَا لَا يَخْفَى ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ فَهِيَ عَنْ الْحَاجِّ ، وَأَمَّا تَعْلِيلُ قَوْلِهِ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ فَمَذْكُورٌ بَعْدَ هَذَا .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا وَقَعَ عَنْ الْحَاجِّ فَلْيُجْعَلْ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ كَمَا إذَا أَهَلَّ عَنْ أَبَوَيْهِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ ، أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ ) أَيْ بَعْدَمَا وَقَعَ لِنَفْسِهِ وَبَيَّنَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ أَبْهَمَ الْإِحْرَامَ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( ؛ لِأَنَّ الْمُلْتَزَمَ هُنَاكَ مَجْهُولٌ ) مَعْنَاهُ أَنَّ جَهَالَةَ الْمُلْتَزَمِ غَيْرُ مَانِعَةٍ عَنْ وُجُوبِ التَّعْيِينِ ، وَأَمَّا جَهَالَةُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَهِيَ مَانِعَةٌ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِقْرَارَ بِمَجْهُولٍ لِمَعْلُومٍ جَائِزٌ دُونَ عَكْسِهِ ( وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِحْرَامَ شُرِعَ وَسِيلَةً إلَى الْأَفْعَالِ لَا مَقْصُودًا ) بِدَلِيلِ صِحَّةِ تَقْدِيمِهِ عَلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ وَهُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ ( فَاكْتَفَى بِهِ ) أَيْ بِالْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ شَرْطٌ لِأَنَّ الشُّرُوطَ يُرَاعَى وُجُودُهَا كَيْفَمَا كَانَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَوَضَّأَ لِلتَّبَرُّدِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ هُوَ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ وَالتَّعْيِينُ فِي ابْتِدَائِهِ مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى مَا عَيَّنَ لَا عَلَى الْإِبْهَامِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَدَّى ثُمَّ عَيَّنَ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْإِبْهَامِ ابْتِدَاءً ، ثُمَّ التَّعْيِينُ يَرِدُ عَلَى مَا مَضَى وَاضْمَحَلَّ فَلَا يُفِيدُ شَيْئًا
قَالَ ( فَإِنْ أَمَرَهُ غَيْرُهُ أَنْ يَقْرُنَ عَنْهُ فَالدَّمُ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ ) لِأَنَّهُ وَجَبَ شُكْرًا لِمَا وَفَقَّهَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ وَالْمَأْمُورُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْفِعْلِ مِنْهُ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْهَدُ بِصِحَّةِ الْمَرْوِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِقَالَ ( فَإِنْ أَمَرَهُ غَيْرُهُ أَنْ يَقْرُنَ عَنْهُ فَالدَّمُ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ ) رَجُلٌ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَقْرُنَ عَنْهُ بِضَمِّ الرَّاءِ فَفَعَلَ فَالدَّمُ عَلَى الْمَأْمُورِ ( لِأَنَّهُ وَجَبَ شُكْرًا لِمَا وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ ، وَالْمَأْمُورُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْفِعْلِ ) صَدَرَتْ ( مِنْهُ .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْهَدُ بِصِحَّةِ الْمَرْوِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ ) وَفِيهِ نَظَرٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخَذُ فِي كَوْنِ الدَّمِ وَاجِبًا عَلَى الْمَأْمُورِ كَوْنُهُ نُسُكًا كَسَائِرِ الْمَنَاسِكِ ، وَسَائِرُ الْمَنَاسِكِ عَلَى الْمَأْمُورِ فَكَذَا هَذَا ، لَا كَوْنُهُ شُكْرًا لِمَا وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ لِأَنَّهُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِمُتْعَةِ الْقِرَانِ بِسُقُوطِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عَنْ ذِمَّتِهِ مَعَ فَضِيلَةِ الْقِرَانِ
( وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَهُ وَاحِدٌ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَالْآخَرُ بِأَنْ يَعْتَمِرَ عَنْهُ وَأَذِنَا لَهُ بِالْقِرَانِ ) فَالدَّمُ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا( وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَهُ وَاحِدٌ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَالْآخَرُ بِأَنْ يَعْتَمِرَ عَنْهُ وَأَذِنَا لَهُ بِالْقِرَانِ فَالدَّمُ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّهُ وَجَبَ شُكْرًا إلَخْ ؛ وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ وَأَذِنَا لَهُ بِالْقِرَانِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَأْذَنَا لَهُ بِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا لِأَجْلِهِمَا ، فَلَوْ قَرَنَ كَانَ مُخَالِفًا .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ جَعَلَ جَزَاءَ الشَّرْطِ قَوْلُهُ فَالدَّمُ عَلَيْهِ وَوُجُوبُهُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ بِإِذْنِهِمَا ، فَإِنَّهُ لَوْ قَرَنَ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا فَالدَّمُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَبِأَنَّهُ إنْ خَالَفَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِذْنِ خَالَفَ إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ وَهُوَ الْقِرَانُ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ عِنْدَنَا ، وَالْمُخَالَفَةُ إلَى خَيْرٍ غَيْرُ ضَائِرَةٍ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إذَا أَذِنَا لَهُ بِذَلِكَ كَانَ مِمَّا يُوهِمُ أَنَّهُ ضَرَرٌ مَرْضِيٌّ فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَأْذَنَا فَأَزَالَ الْوَهْمَ بِقَوْلِهِ وَأَذِنَا لَهُ بِالْقِرَانِ وَبِأَنَّ خَيْرِيَّةَ الْقِرَانِ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَامِعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ لَا إلَى الْآمِرِ ، وَلِهَذَا إذَا كَانَ مَأْمُورًا بِالْحَجِّ وَقَرَنَ عَدَّهُ أَبُو حَنِيفَةَ مُخَالِفًا وَلَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ
( وَدَمُ الْإِحْصَارِ عَلَى الْآمِرِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : عَلَى الْحَاجِّ ) لِأَنَّهُ وَجَبَ لِلتَّحَلُّلِ دَفْعًا لِضَرَرِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ ، وَهَذَا رَاجِعٌ إلَيْهِ فَيَكُونُ الدَّمُ عَلَيْهِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْآمِرَ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ ( فَإِنْ كَانَ يَحُجُّ عَنْ مَيِّتٍ فَأُحْصِرَ فَالدَّمُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ ) عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ثُمَّ قِيلَ : هُوَ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ صِلَةٌ كَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا .
وَقِيلَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّهُ وَجَبَ حَقًّا لِلْمَأْمُورِ فَصَارَ دَيْنًا ( وَدَمُ الْجِمَاعِ عَلَى الْحَاجِّ ) لِأَنَّهُ دَمُ جِنَايَةٍ وَهُوَ الْجَانِي عَنْ اخْتِيَارٍ ( وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ ) مَعْنَاهُ : إذَا جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ حَتَّى فَسَدَ حَجُّهُ لِأَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ حَيْثُ لَا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِأَنَّهُ مَا فَاتَهُ بِاخْتِيَارِهِ .
أَمَّا إذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ وَلَا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْأَمْرِ .
وَعَلَيْهِ الدَّمُ فِي مَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ عَلَى الْحَاجِّ لِمَا قُلْنَا
( وَدَمُ الْإِحْصَارِ عَلَى الْآمِرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : عَلَى الْحَاجِّ ) وَوَجْهُهُمَا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ .
وَاعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِهِ إنَّ الْآمِرَ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ بِأَنَّ الْآمِرَ إذَا أَمَرَ بِالْقِرَانِ فَهُوَ الَّذِي أَدْخَلَ الْمَأْمُورَ فِي عُهْدَةِ الدَّمِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ دَمَ الْقِرَانِ نُسُكٌ ، وَقَدْ دَفَعَ الْآمِرُ النَّفَقَةَ بِمُقَابَلَةِ جَمِيعِ مَا كَانَ مِنْ الْمَنَاسِكِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَتِهَا ، بِخِلَافِ دَمِ الْإِحْصَارِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنُسُكٍ وَلَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَ الْآمِرِ أَيْضًا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ صِلَةٌ ) الصِّلَةُ عِبَارَةٌ عَنْ أَدَاءِ مَا لَا يَكُونُ فِي مُقَابَلَتِهِ عِوَضٌ مَالِيٌّ .
وَقَوْلُهُ وَغَيْرُهَا ) يَعْنِي النُّذُورَ وَالْكَفَّارَاتِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ وَجَبَ حَقًّا لِلْمَأْمُورِ ) يَعْنِي بِإِدْخَالِهِ الْآمِرَ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ وَالدَّيْنُ مَحَلُّهُ جَمِيعُ الْمَالِ .
وَقَوْلُهُ ( ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ ) أَيْ الْحَجُّ الصَّحِيحُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ دُونَ الْفَاسِدِ ، فَإِذَا أَفْسَدَهُ لَمْ يَقَعْ مَأْمُورًا بِهِ فَكَانَ وَاقِعًا عَنْ الْمَأْمُورِ فَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ عَلَى حَجِّهِ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ ، ثُمَّ إذَا قَضَى الْحَجَّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ لَا يَسْقُطُ بِهِ حَجُّ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ بِالْإِفْسَادِ صَارَ الْإِحْرَامُ وَاقِعًا عَنْ الْمَأْمُورِ وَالْحَجُّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْحَجِّ فَكَانَ وَاقِعًا عَنْ الْمَأْمُورِ أَيْضًا .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ دَمُ جِنَايَةٍ وَهُوَ الْجَانِي عَنْ اخْتِيَارٍ .
وَمِمَّا ذَكَرْنَا عُلِمَ أَنَّ الدِّمَاءَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : دَمُ نُسُكٍ كَدَمِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ ، وَدَمُ جِنَايَةٍ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهِ ، وَدَمُ مَئُونَةٍ كَدَمِ الْإِحْصَارِ .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : كُلُّ دَمٍ يَلْزَمُ الْمُجَهِّزَ :
يَعْنِي الْحَاجَّ عَنْ الْغَيْرِ فَهُوَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ .
لِأَنَّهُ إنْ كَانَ نُسُكًا فَإِقَامَةُ الْمَنَاسِكِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ كَفَّارَةً فَالْجِنَايَةُ وُجِدَتْ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ دَمًا بِتَرْكِ وَاجِبٍ فَهُوَ الَّذِي تَرَكَ مَا كَانَ وَاجِبًا فَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الدِّمَاءُ عَلَيْهِ إلَّا دَمُ الْإِحْصَارِ فَإِنَّهُ فِي مَالِ الْآمِرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ وَهُوَ الْجَانِي عَنْ اخْتِيَارٍ .
( وَمَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَأَحَجُّوا عَنْهُ رَجُلًا فَلَمَّا بَلَغَ الْكُوفَةَ مَاتَ أَوْ سُرِقَتْ نَفَقَتُهُ وَقَدْ أَنْفَقَ النِّصْفَ يَحُجُّ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ مَنْزِلِهِ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَالَا : يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَاتَ الْأَوَّلُ ) فَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي اعْتِبَارِ الثُّلُثِ وَفِي مَكَانِ الْحَجِّ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمَذْكُورُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحُجُّ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ إنْ بَقِيَ شَيْءٌ وَإِلَّا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ اعْتِبَارًا بِتَعْيِينِ الْمُوصِي إذْ تَعْيِينُ الْوَصِيِّ كَتَعْيِينِهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحُجُّ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَحَلُّ لِنَفَاذِ الْوَصِيَّةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ قِسْمَةَ الْوَصِيِّ وَعَزْلَهُ الْمَالَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَمَّاهُ الْمُوصِي لِأَنَّهُ لَا خَصْمَ لَهُ لِيَقْبِضَ وَلَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمُ إلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْإِفْرَازِ وَالْعَزْلِ فَيَحُجُّ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ أَنَّ الْقَدْرَ الْمَوْجُودَ مِنْ السَّفَرِ قَدْ بَطَلَ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ } الْحَدِيثَ ، وَتَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَبَقِيَتْ الْوَصِيَّةُ مِنْ وَطَنِهِ كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ الْخُرُوجُ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ سَفَرَهُ لَمْ يَبْطُلْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } الْآيَةَ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ مَاتَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ كُتِبَ لَهُ حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ } وَإِذَا لَمْ يَبْطُلْ سَفَرُهُ اُعْتُبِرَتْ الْوَصِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ ، وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي الَّذِي يَحُجُّ بِنَفْسِهِ ،
وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ .
قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ ) صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رَجُلٌ لَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَمَاتَ وَكَانَ مِقْدَارُ الْحَجِّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَدَفَعَهَا الْوَصِيُّ إلَى مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فَسُرِقَ فِي الطَّرِيقِ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُؤْخَذُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ سُرِقَ ثَانِيًا يُؤْخَذُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ مَرَّةً أُخْرَى وَهَكَذَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُؤْخَذُ مَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ وَهُوَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثُ دِرْهَمٍ .
فَإِنْ سُرِقَتْ ثَانِيًا لَا يُؤْخَذُ مَرَّةً أُخْرَى .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إذَا سُرِقَتْ الْأَلْفُ الَّتِي دَفَعَهَا أَوَّلًا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ .
وَإِنْ بَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ يَحُجُّ بِهِ لَا غَيْرُ ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْوَصِيِّ كَتَعْيِينِ الْمُوصِي لِكَوْنِهِ نَائِبًا عَنْهُ ، وَلَوْ أَفْرَزَهَا الْمُوصِي ثُمَّ هَلَكَتْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ .
فَكَذَلِكَ هَذَا .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ مَحَلُّ نَفَاذِهَا الثُّلُثُ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ قِسْمَةَ الْوَصِيِّ وَعَزْلَهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَمَّاهُ الْمُوصِي لِأَنَّهُ لَا خَصْمَ لَهُ لِيَقْبِضَ وَلَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمُ إلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْإِفْرَازِ وَالْعَزْلِ ) وَفِي ذَلِكَ يَحُجُّ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ فَكَذَا فِي هَذَا .
هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُحَجُّ بِهِ ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ الْمَكَانِ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَيْضًا وَاضِحٌ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرُهُ مَتْرُوكٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْأَعْمَالِ مُنْقَطِعًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا يُثَابُ عَلَيْهَا .
وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ : أَعْمَالٌ عَمِلَهَا فَمَضَتْ ، وَأَعْمَالٌ لَمْ يَشْرَعْ فِيهَا فَهِيَ بَعْدُ
مَعْدُومَةٌ ، وَأَعْمَالٌ شَرَعَ فِيهَا وَلَمْ يُتِمَّهَا .
وَالطَّرَفَانِ لَا يُوصَفَانِ بِالِانْقِطَاعِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ ؛ فَلِأَنَّ الْمَاضِيَ لَا يَحْتَمِلُ الِانْقِطَاعَ لَكِنْ يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ بِمَا يُحْبِطُ ثَوَابَهُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الثَّانِي لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ .
وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الِانْقِطَاعَ عِبَارَةٌ عَنْ تَفَرُّقِ أَجْزَائِهِ .
وَالْمَاضِي بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ فَتَعَيَّنَ الَّذِي شَرَعَ فِيهِ وَلَمْ يُتِمَّهُ .
وَأَمَّا جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ مُوجِبِ الْكِتَابِ وَمُوجِبِ الْخَبَرِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مَسُوقٌ لِحُكْمِ الْآخِرَةِ وَالْخَبَرَ لِحُكْمِ الدُّنْيَا ، فَيَجُوزُ انْقِطَاعُ الْعَمَلِ مِنْ حَيْثُ حُكْمُ الدُّنْيَا وَيَبْقَى لَهُ ثَوَابُهُ مِنْ حَيْثُ حُكْمُ الْآخِرَةِ ، كَمَا إذَا نَوَى الصَّوْمَ فِي رَمَضَانَ وَصَامَهُ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ وَمَاتَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيصَاءُ بِفِدْيَةِ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ كَامِلًا مِنْ حَيْثُ حُكْمُ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ هُوَ مُثَابًا فِي الْآخِرَةِ بِقَدْرِ مَا صَامَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ .
وَكَذَلِكَ إذَا أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ ، وَكَذَا كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ شَرَعَ فِيهِ وَلَمْ يُتِمَّهُ ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيَاهُ .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : ثُمَّ تَأْخِيرُ تَعْلِيلِهِمَا عَنْ تَعْلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِ قَوْلِهِمَا مُخْتَارَ الْمُصَنِّفِ لِمَا أَنَّ قَوْلَهُمَا اسْتِحْسَانٌ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ قِيَاسٌ ، وَالْمَأْخُوذُ فِي عَامَّةِ الصُّوَرِ حُكْمُ الِاسْتِحْسَانِ .
قَالَ ( وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ عَنْ أَبَوَيْهِ يَجْزِيهِ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا ) لِأَنَّ مَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنَّمَا يَجْعَلُ ثَوَابَ حَجِّهِ لَهُ ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَدَاءِ الْحَجِّ فَلَغَتْ نِيَّتُهُ قَبْلَ أَدَائِهِ ، وَصَحَّ جَعْلُهُ ثَوَابَهُ لِأَحَدِهِمَا بَعْدَ الْأَدَاءِ ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ عَلَى مَا فَرَّقْنَا مِنْ قَبْلُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا فَرَّقْنَا مِنْ قَبْلُ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ يَجْعَلُ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِأَحَدِهِمَا إلَخْ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْهَدْيُ أَدْنَاهُ شَاةٌ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْهَدْيِ فَقَالَ : أَدْنَاهُ شَاةٌ } قَالَ ( وَهُوَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ : الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَعَلَ الشَّاةَ أَدْنَى فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَعْلَى وَهُوَ الْبَقَرُ وَالْجَزُورُ ، وَلِأَنَّ الْهَدْيَ مَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ لِيُتَقَرَّبَ بِهِ فِيهِ ، وَالْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْمَعْنَىبَابُ الْهَدْيِ ) لَمَّا كَثُرَ دَوْرُ لَفْظِ الْهَدْيِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَسَائِلِ نُسُكًا وَجَزَاءً وَمَئُونَةً احْتَاجَ إلَى بَيَانِ الْهَدْيِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ ، وَلَمَّا لَمْ يَخْلُ وُجُوبُهُ عَنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَخَّرَ ذِكْرَهُ عَنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
( وَلَا يَجُوزُ فِي الْهَدَايَا إلَّا مَا جَازَ فِي الضَّحَايَا ) لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ تَعَلَّقَتْ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ كَالْأُضْحِيَّةِ فَيَتَخَصَّصَانِ بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ
( وَالشَّاةُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ : مَنْ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ جُنُبًا .
وَمَنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِمَا إلَّا الْبَدَنَةُ ) وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى فِيمَا سَبَقَوَقَوْلُهُ ( وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى فِيمَا سَبَقَ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ بَعْدَ ذِكْرِ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلِأَنَّ الْجَنَابَةَ أَغْلَظُ مِنْ الْحَدَثِ .
وَقَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ أَعْلَى أَنْوَاعِ الِارْتِفَاقَاتِ فَتَغَلَّظَ مُوجِبُهُ .
( وَيَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ ) لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ فَيَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الْأُضْحِيَّةِ ، وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ مِنْ لَحْمِ هَدْيِهِ وَحَسَا مِنْ الْمَرَقَةِ } وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا لِمَا رَوَيْنَا ، وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي عُرِفَ فِي الضَّحَايَا ( وَلَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْ بَقِيَّةِ الْهَدَايَا ) لِأَنَّهَا دِمَاءُ كَفَّارَاتٍ ، وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَبَعَثَ الْهَدَايَا عَلَى يَدَيْ نَاجِيَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ لَهُ : لَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَرُفْقَتُك مِنْهَا شَيْئًا }وَقَوْلُهُ ( وَيَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ ) يَعْنِي لِلْمُهْدِي وَالْأَغْنِيَاءِ إذَا ذُبِحَ فِي مَحِلِّهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ ، وَأَمَّا الْفُقَرَاءُ فَيَجُوزُ لَهُمْ الْأَكْلُ مِنْ جَمِيعِ الْهَدَايَا .
وَقَوْلُهُ ( وَحَسَا مِنْ الْمَرَقَةِ ) أَيْ شَرِبَ .
وَقَوْلُهُ ( وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ) لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْجَوَازُ مُسْتَلْزِمًا لِلِاسْتِحْبَابِ ذَكَرَهُ ثَانِيًا بَيَانًا لِلِاسْتِحْبَابِ ، وَلَوْ ذَكَرَ الِاسْتِحْبَابَ أَوَّلًا اسْتَغْنَى عَنْ بَيَانِ الْجَوَازِ لِاسْتِلْزَامِ الِاسْتِحْبَابِ إيَّاهُ .
وَقَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا ) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَكَلَ مِنْ لَحْمِ هَدْيِهِ } .
وَإِنَّمَا أَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي مِنْهَا لِلرُّجُوعِ إلَى هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالتَّطَوُّعُ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ ) ظَاهِرٌ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَرُفْقَتُك مِنْهَا شَيْئًا } إنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْ الْأَكْلِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ .
( وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ هَدْيِ التَّطَوُّعِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ إلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ ( وَفِي الْأَصْلِ يَجُوزُ ذَبْحُ دَمِ التَّطَوُّعِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَذَبْحُهُ يَوْمَ النَّحْرِ أَفْضَلُ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ) لِأَنَّ الْقُرْبَةَ فِي التَّطَوُّعَاتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا هَدَايَا وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِتَبْلِيغِهَا إلَى الْحَرَمِ ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ جَازَ ذَبْحُهَا فِي غَيْرِ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَفِي أَيَّامِ النَّحْرِ أَفْضَلُ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي إرَاقَةِ الدَّمِ فِيهَا أَظْهَرُ ، أَمَّا دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } وَقَضَاءُ التَّفَثِ يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ ، وَلِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ فَيَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ كَالْأُضْحِيَّةِ ( وَيَجُوزُ ذَبْحُ بَقِيَّةِ الْهَدَايَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ إلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ اعْتِبَارًا بِدَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ دَمُ جَبْرٍ عِنْدَهُ .
وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ دِمَاءُ كَفَّارَاتٍ فَلَا تَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ لِأَنَّهَا لَمَّا وَجَبَتْ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ كَانَ التَّعْجِيلُ بِهَا أَوْلَى لِارْتِفَاعِ النُّقْصَانِ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ ، بِخِلَافِ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ هَدْيِ التَّطَوُّعِ ) ظَاهِرٌ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ قَضَاءَ التَّفَثِ عَلَى الْأَكْلِ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَحَرُوهَا ( وَقَضَاءُ التَّفَثِ مُخْتَصٌّ بِيَوْمِ النَّحْرِ ) فَيَكُونُ النَّحْرُ كَذَلِكَ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي فَرُبَّمَا يَكُونُ الذَّبْحُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَقَضَاءُ التَّفَثِ فِيهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مُوجِبَ ثُمَّ فِي التَّرَاخِي يَتَحَقَّقُ بِالتَّأْخِيرِ سَاعَةً ، فَلَوْ جَازَ الذَّبْحُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ جَازَ قَضَاءُ التَّفَثِ بَعْدَهُ بِسَاعَةٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمُ نُسُكٍ وَلِهَذَا حَلَّ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ فَيَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ كَالْأُضْحِيَّةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَجُوزُ ذَبْحُ بَقِيَّةِ الْهَدَايَا ) ظَاهِرٌ .
وَالْفِجَاجُ جَمْعُ الْفَجِّ : وَهُوَ الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدَايَا إلَّا فِي الْحَرَمِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } فَصَارَ أَصْلًا فِي كُلِّ دَمٍ هُوَ كَفَّارَةٌ ، وَلِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى مَكَان وَمَكَانُهُ الْحَرَمُ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ ، وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ }
( وَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِمْ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ قُرْبَةٌ مَعْقُولَةٌ ، وَالصَّدَقَةُ عَلَى كُلِّ فَقِيرٍ قُرْبَةٌ .وَقَوْلُهُ ( وَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِمْ ) يَعْنِي بَعْدَمَا ذَبَحَهَا فِي الْحَرَمِ .
قَالَ ( وَلَا يَجِبُ التَّعْرِيفُ بِالْهَدَايَا ) لِأَنَّ الْهَدْيَ يُنْبِئُ عَنْ النَّقْلِ إلَى مَكَان لِيَتَقَرَّبَ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ فِيهِ لَا عَنْ التَّعْرِيفِ فَلَا يَجِبُ ، فَإِنْ عُرِفَ بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ فَحَسَنٌ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ فَعَسَى أَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يُمْسِكُهُ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُعَرِّفَ بِهِ ، وَلِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ فَيَكُونُ مَبْنَاهُ عَلَى التَّشْهِيرِ بِخِلَافِ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ ذَبْحُهَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَسَبَبُهَا الْجِنَايَةُ فَيَلِيقُ بِهَا السَّتْرُ .وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَجِبُ التَّعْرِيفُ بِالْهَدَايَا ) أَيْ الْإِتْيَانُ بِهَا إلَى عَرَفَاتٍ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا ذَكَرْنَا ) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهَا لَمَّا وَجَبَتْ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ كَانَ التَّعْجِيلُ بِهَا أَوْلَى لِارْتِفَاعِ النُّقْصَانِ بِهِ
قَالَ ( وَالْأَفْضَلُ فِي الْبُدْنِ النَّحْرُ وَفِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الذَّبْحُ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ } قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ الْجَزُورُ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } وَالذِّبْحُ مَا أُعِدَّ لِلذَّبْحِ ، وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ الْإِبِلَ وَذَبَحَ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ ، } ثُمَّ إنْ شَاءَ نَحَرَ الْإِبِلَ فِي الْهَدَايَا قِيَامًا وَأَضْجَعَهَا ، وَأَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ فَهُوَ حَسَنٌ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَنْحَرَهَا قِيَامًا لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ الْهَدَايَا قِيَامًا } ، وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ كَانُوا يَنْحَرُونَهَا قِيَامًا مَعْقُولَةَ الْيَدِ الْيُسْرَى ، وَلَا يَذْبَحُ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ قِيَامًا لِأَنَّ فِي حَالَةِ الِاضْطِجَاعِ الْمَذْبَحَ أَبْيَنُ فَيَكُونُ الذَّبْحُ أَيْسَرَ وَالذَّبْحُ هُوَ السُّنَّةُ فِيهِمَا ..
وَقَوْلُهُ ( وَالْأَفْضَلُ فِي الْبُدْنِ النَّحْرُ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ الْجَزُورُ ) يَعْنِي انْحَرْ الْجَزُورَ وَكَلَامُهُ فِي الْبَاقِي وَاضِحٌ .
قَالَ ( وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَوَلَّى ذَبْحَهَا بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ يُحْسِنُ ذَلِكَ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَنَحَرَ نَيِّفًا وَسِتِّينَ بِنَفْسِهِ ، وَوَلَّى الْبَاقِيَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ } ، وَلِأَنَّهُ قُرْبَةٌ وَالتَّوَلِّي فِي الْقُرُبَاتِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْخُشُوعِ ، إلَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ لَا يَهْتَدِي لِذَلِكَ وَلَا يُحْسِنُهُ فَجَوَّزْنَا تَوْلِيَتَهُ غَيْرَهُ .وَقَوْلُهُ ( فَنَحَرَ نَيِّفًا وَسِتِّينَ ) النَّيِّفُ بِالتَّشْدِيدِ كُلُّ مَا كَانَ بَيْنَ عَقْدَيْنِ وَقَدْ يُخَفَّفُ ، وَعَنْ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ ، وَالنَّضْحُ الرَّشُّ وَالْبَلُّ .
وَمِنْهُ يُنْضِحُ ضَرْعَهَا بِكَسْرِ الضَّادِ .
قَالَ ( وَيَتَصَدَّقُ بِجَلَالِهَا وَخِطَامِهَا وَلَا يُعْطِي أُجْرَةَ الْجَزَّارِ مِنْهَا ) { لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَصَدَّقْ بِجَلَالِهَا وَبِخَطْمِهَا وَلَا تُعْطِ أَجْرَ الْجَزَّارِ مِنْهَا }
( وَمَنْ سَاقَ بَدَنَةً فَاضْطُرَّ إلَى رُكُوبِهَا رَكِبَهَا ، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَرْكَبْهَا ) لِأَنَّهُ جَعَلَهَا خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى ، فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَ شَيْئًا مِنْ عَيْنِهَا أَوْ مَنَافِعِهَا إلَى نَفْسِهِ إلَى أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ، إلَّا أَنْ يَحْتَاجَ إلَى رُكُوبِهَا لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ ارْكَبْهَا وَيْلَك } وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ عَاجِزًا مُحْتَاجًا وَلَوْ رَكِبَهَا فَانْتَقَصَ بِرُكُوبِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ
( وَإِنْ كَانَ لَهَا لَبَنٌ لَمْ يَحْلُبْهَا ) لِأَنَّ اللَّبَنَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهَا فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ ( وَيُنْضِحُ ضَرْعَهَا بِالْمَاءِ الْبَارِد حَتَّى يَنْقَطِعَ اللَّبَنُ ) وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ الذَّبْحِ فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنْهُ يَحْلُبُهَا وَيَتَصَدَّقُ بِلَبَنِهَا كَيْ لَا يَضُرَّ ذَلِكَ بِهَا ، وَإِنْ صَرَفَهُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ
( وَمَنْ سَاقَ هَدْيًا فَعَطِبَ ، فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ) لِأَنَّ الْقُرْبَةَ تَعَلَّقَتْ بِهَذَا الْمَحَلِّ وَقَدْ فَاتَ ( وَإِنْ كَانَ عَنْ وَاجِبٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ مَقَامَهُ ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ ( وَإِنْ أَصَابَهُ عَيْبٌ كَبِيرٌ يُقِيمُ غَيْرَهُ مَقَامَهُ ) لِأَنَّ الْمَعِيبَ بِمِثْلِهِ لَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ فَلَا بُدَّ مِنْ غَيْرِهِ ( وَصَنَعَ بِالْمَعِيبِ مَا شَاءَ ) لِأَنَّهُ اُلْتُحِقَ بِسَائِرِ أَمْلَاكِهِوَقَوْلُهُ ( وَمَنْ سَاقَ هَدْيًا فَعَطِبَ ) ظَاهِرٌ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لِمَ لَا يَكُونُ كَأُضْحِيَّةِ الْفَقِيرِ فَإِنَّ عَلَيْهِ تَطَوُّعًا وَمَعَ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ إعَادَتُهُ إذَا ضَلَّتْ الشَّاةُ الْمُشْتَرَاةُ لَهَا ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَى غَيْرَهَا ثُمَّ وَجَدَ الضَّالَّةَ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَبْحُهَا ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إذَا أَوْجَبَ الْفَقِيرُ بِلِسَانِهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الشَّاتَيْنِ بَعْدَمَا اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَفْعَلْ كَذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ لِلْأُضْحِيَّةِ قَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : لَوْ اشْتَرَى الْفَقِيرُ شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَمَاتَتْ أَوْ بَاعَهَا لَا تَلْزَمُهُ أُخْرَى وَكَذَا لَوْ ضَلَّتْ .
وَالْعَيْبُ الْكَبِيرُ هُوَ أَنْ يَذْهَبَ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ الْأُذُنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ أَنْ يَذْهَبَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِهَا ، وَالْعَطَبُ بِفَتْحَتَيْنِ : الْهَلَاكُ ، وَمَعْنَى عَطِبَتْ الْبَدَنَةُ : أَيْ قَرُبَتْ إلَى الْعَطَبِ وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قِيلَ هَذَا وَقَعَ مُكَرَّرًا بِمَا قَالَ أَوَّلًا وَمَنْ سَاقَ هَدْيًا فَعَطِبَ ؛ لِأَنَّ ذَاكَ فِي حَقِيقَةِ الْعَطَبِ وَهَذَا فِي الْإِشْرَافِ عَلَيْهِ .
وَالْجَزَرُ بِفَتْحَتَيْنِ : اللَّحْمُ الَّذِي يَأْكُلُهُ السِّبَاعُ .
( وَإِذَا عَطِبَتْ الْبَدَنَةُ فِي الطَّرِيقِ ، فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا نَحَرَهَا وَصَبَغَ نَعْلَهَا بِدَمِهَا وَضَرَبَ بِهَا صَفْحَةَ سَنَامِهَا وَلَا يَأْكُلُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ ) مِنْهَا بِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاجِيَةَ الْأَسْلَمِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْمُرَادُ بِالنَّعْلِ قِلَادَتُهَا ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ هَدْيٌ فَيَأْكُلُ مِنْهُ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ .
وَهَذَا لِأَنَّ الْإِذْنَ بِتَنَاوُلِهِ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحِلَّ قَبْلَ ذَلِكَ أَصْلًا ، إلَّا أَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَتْرُكَهُ جَزَرًا لِلسِّبَاعِ ، وَفِيهِ نَوْعُ تَقَرُّبٍ وَالتَّقَرُّبُ هُوَ الْمَقْصُودُ ( فَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً أَقَامَ غَيْرَهَا مَقَامَهَا وَصَنَعَ بِهَا مَا شَاءَ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ صَالِحًا لِمَا عَيَّنَهُ وَهُوَ مِلْكُهُ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ
( وَيُقَلِّدُ هَدْيَ التَّطَوُّعِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ ) لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ ، وَفِي التَّقْلِيدِ إظْهَارُهُ وَتَشْهِيرُهُ فَيَلِيقُ بِهِ ( وَلَا يُقَلِّدُ دَمَ الْإِحْصَارِ وَلَا دَمَ الْجِنَايَاتِ ) لِأَنَّ سَبَبَهَا الْجِنَايَةُ وَالسَّتْرُ أَلْيَقُ بِهَا ، وَدَمُ الْإِحْصَارِ جَابِرٌ فَيَلْحَقُ بِجِنْسِهَا .
ثُمَّ ذَكَرَ الْهَدْيَ وَمُرَادُهُ الْبَدَنَةُ لِأَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ الشَّاةَ عَادَةً .
وَلَا يُسَنُّ تَقْلِيدُهَا عِنْدَنَا لِعَدَمِ فَائِدَةِ التَّقْلِيدِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا تَقَدَّمَ ) إشَارَةً إلَى مَا ذُكِرَ قُبَيْلَ بَابِ الْقِرَانِ بِقَوْلِهِ وَتَقْلِيدُ الشَّاةِ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ .
( أَهْلُ عَرَفَةَ إذَا وَقَفُوا فِي يَوْمٍ وَشَهِدَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ وَقَفُوا يَوْمَ النَّحْرِ أَجْزَأَهُمْ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجْزِيَهُمْ اعْتِبَارًا بِمَا إذَا وَقَفُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ فَلَا يَقَعُ عِبَادَةٌ دُونَهُمَا .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ وَعَلَى أَمْرٍ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا نَفْيُ حَجِّهِمْ ، وَالْحَجُّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ فَلَا تُقْبَلُ ، وَلِأَنَّ فِيهِ بَلْوَى عَامًا لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ وَالتَّدَارُكُ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَفِي الْأَمْرِ بِالْإِعَادَةِ حَرَجٌ بَيِّنٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَفُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ لِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَزُولَ الِاشْتِبَاهُ يَوْمَ عَرَفَةَ ، وَلِأَنَّ جَوَازَ الْمُؤَخَّرِ لَهُ نَظِيرٌ وَلَا كَذَلِكَ جَوَازُ الْمُقَدَّمِ .
قَالُوا : يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ لَا يَسْمَعَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَيَقُولَ قَدْ تَمَّ حَجُّ النَّاسِ فَانْصَرِفُوا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إلَّا إيقَاعُ الْفِتْنَةِ .
وَكَذَا إذَا شَهِدُوا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ فِي بَقِيَّةِ اللَّيْلِ مَعَ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ لَمْ يَعْمَلْ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ .
مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ ) مِنْ عَادَةِ الْمُصَنِّفِينَ أَنْ يَذْكُرُوا فِي آخِرِ الْكِتَابِ مَا شَذَّ وَنَدَرَ مِنْ الْمَسَائِلِ فِي الْأَبْوَابِ السَّالِفَةِ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ تَكْثِيرًا لِلْفَائِدَةِ ، وَيُتَرْجِمُوا عَنْهُ بِمَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ أَوْ مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ أَوْ مَسَائِلَ شَتَّى أَوْ مَسَائِلَ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْأَبْوَابِ ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَشْهَدَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ فِي لَيْلَةٍ كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي وَقَفُوا فِيهِ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ لَا يَقْبَلُ الشَّرْحَ .
وَقَوْلُهُ وَكَذَا إذَا شَهِدُوا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ ) صُورَتُهُ أَنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقُوا عَرَفَاتٍ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَقَالُوا : رَأَيْنَا هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَهَذَا الْيَوْمُ هُوَ التَّاسِعُ ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَا يَلْحَقُ الْوُقُوفَ فِي بَقِيَّةِ اللَّيْلِ مَعَ أَكْثَرِ النَّاسِ لَا تُسْمَعُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ وَيَقِفُونَ مِنْ الْغَدِ بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا شَهِدُوا وَقَدْ تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ صَارَ كَأَنَّهُمْ شَهِدُوا بَعْدَ الْوَقْتِ فَلَا تُسْمَعُ وَإِنْ كَانَ يَلْحَقُ الْوُقُوفَ مَعَ أَكْثَرِ النَّاسِ ، وَلَكِنْ لَا يَلْحَقُ الضَّعَفَةُ فَإِنْ وَقَفَ جَازَ وَإِلَّا فَاتَ الْحَجُّ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوُقُوفَ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ قُدْرَةُ الْأَكْثَرِ دُونَ الْأَقَلِّ
قَالَ ( وَمَنْ رَمَى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى وَالثَّالِثَةَ وَلَمْ يَرْمِ الْأُولَى ، فَإِنْ رَمَى الْأُولَى ثُمَّ الْبَاقِيَتَيْنِ فَحَسَنٌ ) لِأَنَّهُ رَاعَى التَّرْتِيبَ الْمَسْنُونَ ( وَلَوْ رَمَى الْأُولَى وَحْدَهَا أَجْزَأَهُ ) لِأَنَّهُ تَدَارَكَ الْمَتْرُوكَ فِي وَقْتِهِ ، وَإِنَّمَا تَرَكَ التَّرْتِيبَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجْزِيهِ مَا لَمْ يُعِدْ الْكُلَّ لِأَنَّهُ شَرَعَ مُرَتَّبًا فَصَارَ كَمَا إذَا سَعَى قَبْلَ الطَّوَافِ أَوْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ قَبْلَ الصَّفَا .
وَلَنَا أَنَّ كُلَّ جَمْرَةٍ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا فَلَا يَتَعَلَّقُ الْجَوَازُ بِتَقْدِيمِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ ، بِخِلَافِ السَّعْيِ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلطَّوَافِ لِأَنَّهُ دُونَهُ ، وَالْمَرْوَةُ عُرِفَتْ مُنْتَهَى السَّعْيِ بِالنَّصِّ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْبُدَاءَةُ .
( وَمَنْ رَمَى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى وَالثَّالِثَةَ وَلَمْ يَرْمِ الْأُولَى ) يَعْنِي الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ ثُمَّ جَاءَ يُعِيدُ الرَّمْيَ فِي يَوْمِهِ ، فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى رَمْيِ الَّتِي تَرَكَهَا أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَصْلِ الرَّمْيِ فِي وَقْتِهِ ، وَإِنَّمَا تَرَكَ الْمَسْنُونَ مِنْ التَّرْتِيبِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا ، وَإِنْ أَعَادَ الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فَحَسَنٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ سُنَّةِ التَّرْتِيبِ ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا سَبَقَ أَنَّ الطَّائِفَ إذَا دَخَلَ الْحَطِيمَ فِي طَوَافِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ ، فَإِنْ أَعَادَ عَلَى الْحَطِيمِ وَحْدَهُ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ أَعَادَ الطَّوَافَ كُلَّهُ كَانَ حَسَنًا .
( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُجْزِئُهُ مَا لَمْ يُعِدْ الْكُلَّ لِأَنَّهُ شُرِعَ مُرَتَّبًا ) تَرْتِيبًا صَارَ بِهِ الثَّانِي كَالْجُزْءِ مِنْ الْأَوَّلِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْكُلَّ يَجِبُ دَمٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَصَارَ تَرْكُ التَّرْتِيبِ فِيهَا كَتَقْدِيمِ السَّعْيِ عَلَى الطَّوَافِ أَوْ الِابْتِدَاءِ بِالْمَرْوَةِ قَبْلَ الصَّفَا ، بِخِلَافِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ بِذَاتِهَا فَلَا يَكُونُ التَّرْتِيبُ بَيْنَهَا وَاجِبًا ( وَلَنَا أَنَّ كُلَّ جَمْرَةٍ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا ) لِتَعَلُّقِ كُلٍّ مِنْهَا بِبُقْعَةٍ عَلَى حِدَةٍ وَالْبُقْعَةُ فِي بَابِ الْحَجِّ أَصْلٌ فَكَانَ مَا شُرِعَ فِيهِ أَصْلًا فَلَا يَتَعَلَّقُ جَوَازُ الْبَعْضِ بِبَعْضٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعَادَ مُرَتَّبًا كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا .
بِخِلَافِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّ النَّصَّ فِيهَا نَاطِقٌ بِأَنَّ مَنْ صَلَّى بِلَا تَرْتِيبٍ صَلَّى قَبْلَ وَقْتِهَا فَلَا يَجُوزُ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ دُونَهُ ) أَيْ ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ دُونَ الطَّوَافِ يَعْنِي أَحَطَّ مَنْزِلَةً مِنْ الطَّوَافِ ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ فَرْضٌ كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ أَوْ مِنْ جِنْسِ الْفَرْضِ كَطَوَافِ الْقُدُومِ ، وَأَمَّا السَّعْيُ فَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَكَانَ دُونَ الطَّوَافِ فَصَلُحَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلطَّوَافِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمَرْوَةُ عُرِفَتْ مُنْتَهَى السَّعْيِ بِالنَّصِّ ) وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ } " أَرَادَ بِهِ قَوْله تَعَالَى { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } ( فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْبُدَاءَةُ )
قَالَ ( وَمَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا فَإِنَّهُ لَا يَرْكَبُ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ ) وَفِي الْأَصْلِ خَيَّرَهُ بَيْنَ الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى الْوُجُوبِ ، وَهُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْقُرْبَةَ بِصِفَةِ الْكَمَالِ فَتَلْزَمُهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ ، كَمَا إذَا نَذَرَ بِالصَّوْمِ مُتَتَابِعًا وَأَفْعَالُ الْحَجِّ تَنْتَهِي بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ فَيَمْشِي إلَى أَنْ يَطُوفَهُ .
ثُمَّ قِيلَ : يَبْتَدِئُ الْمَشْيَ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ ، وَقِيلَ مِنْ بَيْتِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ ، وَلَوْ رَكِبَا أَرَاقَ دَمًا لِأَنَّهُ أَدْخَلَ نَقْصًا فِيهِ ، قَالُوا إنَّمَا يَرْكَبُ إذَا بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ وَشَقَّ عَلَيْهِ الْمَشْيُ ، وَإِذَا قَرُبَتْ وَالرَّجُلُ مِمَّنْ يَعْتَادُ الْمَشْيَ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْكَبَ
قَالَ ( وَمَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا ) أَيْ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَرْكَبَ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ( وَخُيِّرَ فِي الْأَصْلِ ) يَعْنِي الْمَبْسُوطَ ( بَيْنَ الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ ) بَعْدَ النَّذْرِ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ مَاشِيًا يُكْرَهُ وَرَاكِبًا أَفْضَلُ لَكِنَّهُ وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فَكَانَ مُخَيَّرًا .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لَا يَرْكَبُ ، يَعْنِي رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ تَقْتَضِي تَرْكَ الرُّكُوبِ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ النَّفْيِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَشْرُوعِيَّةِ فَكَانَ الرُّكُوبُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ وَهُوَ الْأَصْلُ ) أَيْ الْمُوَافِقُ لِلْقَوَاعِدِ لِأَنَّ مَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ لَا يَتَأَدَّى نَاقِصًا ، وَالْمَشْيُ فِي الْحَجِّ صِفَةُ كَمَالٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ حَجَّ مَاشِيًا فَلَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ ، قِيلَ وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ ؟ قَالَ : كُلُّ حَسَنَةٍ بِسَبْعِمِائَةٍ } " وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَمَا كُفَّ بَصَرُهُ : مَا تَأَسَّفْت عَلَى شَيْءٍ كَتَأَسُّفِي عَلَى أَنِّي لَمْ أَحُجَّ مَاشِيًا ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الْمُشَاةَ فَقَالَ تَعَالَى { يَأْتُوك رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } فَصَارَ كَمَا إذَا نَذَرَ بِالصَّوْمِ مُتَتَابِعًا لَا يَتَأَدَّى مُتَفَرِّقًا .
وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّذْرَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِمَا لَهُ نَظِيرٌ فِي الْمَشْرُوعَاتِ الْمَفْرُوضَةِ أَوْ الْوَاجِبَةِ ، وَلَيْسَ لِلْمَشْيِ نَظِيرٌ .
وَالثَّانِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَرِهَ الْمَشْيَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ ، فَمَا وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ يُنَاقِضُ ذَلِكَ ؟ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ لَهُ أَصْلًا وَهُوَ أَنَّ الْمَكِّيَّ الْفَقِيرَ إذَا لَمْ يَمْلِكْ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَأَمْكَنَهُ الْمَشْيُ إلَى عَرَفَاتٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ
مَاشِيًا .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مَا كَرِهَ الْمَشْيَ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا كَرِهَ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْمَشْيِ لِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَاءَ خُلُقُهُ فَجَادَلَ وَالْجِدَالُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْحَجِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَفْعَالُ الْحَجِّ تَنْتَهِي بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ ) يُرِيدُ بِالْأَفْعَالِ الْأَرْكَانَ لَا مُطْلَقَ الْأَفْعَالِ ، فَإِنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ قِيلَ ) يَعْنِي أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ يَبْدَأُ .
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، فَقِيلَ : يَبْتَدِئُ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ وَعَلَيْهِ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالْإِمَامُ الْعَتَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا ( وَقِيلَ مِنْ بَيْتِهِ ) وَعَلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَمَالَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ ، وَقَالَ ( لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ ) يَعْنِي أَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ وَالْعُرْفُ مُعْتَبَرٌ فِي النَّذْرِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ وَاجِبٌ ( فَلَوْ رَكِبَ أَرَاقَ دَمًا لِأَنَّهُ أَدْخَلَ نَقْصًا فِيهِ ) يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ { عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً حَافِيَةً ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ أُخْتِك مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ وَلْتَذْبَحْ لِرُكُوبِهَا شَاةً } وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { وَلْتُرِقْ دَمًا } " وَقَوْلُهُ ( قَالُوا ) يَعْنِي الْمَشَايِخَ كَأَنَّهُ بَيَانُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَرِوَايَةِ الْجَامِعِ .
رَوَى الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَالَ ( إنَّمَا يَرْكَبُ إذَا بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ وَشَقَّ الْمَشْيُ ، وَأَمَّا إذَا قَرُبَتْ وَالرَّجُلُ مِمَّنْ يَعْتَادُ الْمَشْيَ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْكَبَ )
( وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً مُحْرِمَةً قَدْ أَذِنَ لَهَا مَوْلَاهَا فِي ذَلِكَ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَهَا وَيُجَامِعَهَا ) وَقَالَ زُفَرُ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ سَبَقَ مِلْكَهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِهِ كَمَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً مَنْكُوحَةً .
وَلَنَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَائِمٌ مَقَامَ الْبَائِعِ وَقَدْ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُحَلِّلَهَا ، فَكَذَا الْمُشْتَرِي إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِلْبَائِعِ لِمَا فِيهِ مِنْ خَلْفِ الْوَعْدِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ مَا كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَهُ إذَا بَاشَرَتْ بِإِذْنِهِ فَكَذَا لَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي ، وَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهَا بِالْعَيْبِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَتَمَكَّنُ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ غَشَيَانِهَا ، ( وَ ) ذُكِرَ ( فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَوْ يُجَامِعُهَا ) وَالْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُحَلِّلُهَا بِغَيْرِ الْجِمَاعِ بِقَصِّ شَعْرٍ أَوْ بِقَلْمِ ظُفْرٍ ثُمَّ يُجَامِعُ ، وَالثَّانِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُحَلِّلُهَا بِالْمُجَامَعَةِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ تَقْدِيمِ مَسٍّ يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهَا بِغَيْرِ الْمُجَامَعَةِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْحَجِّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً مُحْرِمَةً ) ظَاهِرٌ .
قَوْلُهُ ( وَقَدْ كَانَ لِلْبَائِعِ ) يَعْنِي عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَذِنَ لِلْعَبْدِ فِي الْحَجِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِالْإِذْنِ فَصَارَ الْعَبْدُ كَالْحُرِّ إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَمْ يَقَعْ بِإِذْنِهِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ مَا كَانَ لِلْبَائِعِ فَسْخُهُ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ زُفَرَ .
وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ إذَا كَانَ بِإِذْنِهِ لِمَا أَنَّ النِّكَاحَ حَقُّ الزَّوْجِ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِهِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمَالِكُ مِنْ فَسْخِهِ وَإِنْ بَقِيَ مِلْكُهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَبْدِ بِهِ كَالرَّاهِنِ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَرْهُونِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِإِذْنِهِ ، وَالْمُشْتَرِي قَامَ مَقَامَهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ أَيْضًا ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي الْجَارِيَةِ حَقَّانِ : حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِحْرَامِ .
وَحَقُّ الْمُشْتَرِي فِي الِاسْتِمْتَاعِ ، فَيُقَدَّمُ حَقُّ الْعَبْدِ لِحَاجَتِهِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِغِنَاهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ) أَيْ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( أَوْ يُجَامِعُهَا ) يَعْنِي قَالَ : فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَهَا أَوْ يُجَامِعَهَا ، وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ .
وَهَذَا آخِرُ الْعِبَادَاتِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُعِينُ عَلَى الْإِتْمَامِ .
( النِّكَاحُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِلَفْظَيْنِ يُعَبِّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي ) لِأَنَّ الصِّيغَةَ وَإِنْ كَانَتْ لِلْإِخْبَارِ وَضْعًا فَقَدْ جُعِلَتْ لِلْإِنْشَاءِ شَرْعًا دَفْعًا لِلْحَاجَةِ
لَمَّا فَرَغَ مِنْ الْعِبَادَاتِ شَرَعَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَابْتَدَأَ مِنْ بَيْنِهَا بِالنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَصَالِحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، وَقَدْ اشْتَهَرَتْ فِي وَعِيدِ مَنْ رَغِبَ عَنْهُ وَتَحْرِيضِ مَنْ رَغِبَ فِيهِ الْآثَارُ ، وَمَا اتَّفَقَ فِي حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِثْلُ مَا اتَّفَقَ فِي النِّكَاحِ مِنْ اجْتِمَاعِ دَوَاعِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَالطَّبْعِ .
فَأَمَّا دَوَاعِي الشَّرْعِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَظَاهِرَةٌ .
وَأَمَّا دَوَاعِي الْعَقْلِ فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يُحِبُّ أَنْ يَبْقَى اسْمُهُ وَلَا يَنْمَحِي رَسْمُهُ ، وَمَا ذَاكَ غَالِبًا إلَّا بِبَقَاءِ النَّسْلِ .
وَأَمَّا الطَّبْعُ فَإِنَّ الطَّبْعَ الْبَهِيمِيَّ مِنْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى يَدْعُو إلَى تَحْقِيقِ مَا أُعِدَّ مِنْ الْمُبَاضَعَاتِ الشَّهْوَانِيَّةِ وَالْمُضَاجَعَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ ، وَلَا مَزْجَرَةَ فِيهَا إذَا كَانَتْ بِأَمْرِ الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَتْ بِدَوَاعِي الطَّبْعِ بَلْ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَشْرُوعَاتِ .
وَالنِّكَاحُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَطْءِ ، ثُمَّ قِيلَ لِلتَّزَوُّجِ نِكَاحٌ مَجَازًا لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ ، وَقِيلَ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا .
وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَقْدٌ وُضِعَ لِتَمْلِيكِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ .
وَسَبَبُهُ تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمَقْدُورِ بِتَعَاطِيهِ .
وَشَرْطُهُ الْخَاصُّ حُضُورُ شَاهِدَيْنِ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِهِ ، بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ فِيهَا لِلظُّهُورِ عِنْدَ الْحَاكِمِ لَا الِانْعِقَادِ .
وَشَرْطُهُ الْعَامُّ الْأَهْلِيَّةُ بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَالْمَحَلِّ ، وَهِيَ امْرَأَةٌ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ نِكَاحِهَا مَانِعٌ شَرْعِيٌّ .
وَرُكْنُهُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ كَمَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ ؛ وَالْإِيجَابُ هُوَ الْمُتَلَفَّظُ بِهِ أَوَّلًا مِنْ أَيِّ جَانِبٍ كَانَ وَالْقَبُولُ جَوَابُهُ .
وَحُكْمُهُ ثُبُوتُ الْحِلِّ عَلَيْهَا وَوُجُوبُ الْمَهْرِ عَلَيْهِ وَحُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ، وَهُوَ فِي حَالَةِ التَّوَقَانِ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ الزِّنَا وَاجِبٌ وَهُوَ لَا يَتِمُّ إلَّا
بِالنِّكَاحِ ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ ، وَفِي حَالَةِ الِاعْتِدَالِ مُسْتَحَبٌّ ، وَفِي حَالَةِ خَوْفِ الْجَوْرِ مَكْرُوهٌ قَالَ ( النِّكَاحُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ) قَدْ ذَكَرْت مَعْنَى الِانْعِقَادِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ عَلَى مَا سَيَأْتِي وَقَوْلُهُ ( يُعَبَّرُ بِهِمَا ) أَيْ بِلَفْظٍ وَيُبَيَّنُ ؛ لِأَنَّ التَّعْبِيرَ الْبَيَانُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } أَيْ تُبَيِّنُونَ ، وَإِنَّمَا اُخْتِيرَ لَفْظُ الْمَاضِي لِلْإِنْشَاءِ وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي لَيْسَ لِنِسْبَتِهِ خَارِجٌ تُطَابِقُهُ أَوْ لَا تُطَابِقُهُ لِيَدُلَّ عَلَى التَّحَقُّقِ وَالثُّبُوتِ فَكَانَ أَدَلَّ عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ .
( وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبِّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْمَاضِي وَبِالْآخَرِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ زَوِّجْنِي فَيَقُولَ زَوَّجْتُك ) لِأَنَّ هَذَا تَوْكِيلٌ بِالنِّكَاحِ وَالْوَاحِدُ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ النِّكَاحِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَىوَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ ) يَعْنِي فِي أَوَّلِ فَصْلِ الْوَكَالَةِ فِي النِّكَاحِ
( وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَالْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ وَالصَّدَقَةِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَيْسَ حَقِيقَةً فِيهِ وَلَا مَجَازًا عَنْهُ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ لِلتَّلْفِيقِ وَالنِّكَاحَ لِلضَّمِّ ، وَلَا ضَمَّ وَلَا ازْدِوَاجَ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكَةِ أَصْلًا .
وَلَنَا أَنَّ التَّمْلِيكَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي مَحَلِّهَا بِوَاسِطَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَهُوَ الثَّابِتُ بِالنِّكَاحِ وَالسَّبَبِيَّةُ طَرِيقُ الْمَجَازِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ ) بَيَانُ أَلْفَاظٍ يَنْعَقِدُ بِهَا النِّكَاحُ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ ) لِأَنَّهُ إنْ انْعَقَدَ بِغَيْرِهِ مِثْلُ التَّمْلِيكِ مَثَلًا ، فَإِمَّا أَنْ يَنْعَقِدَ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ حَقِيقَةٌ أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَجَازٌ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً كَانَ التَّمْلِيكُ وَالتَّزْوِيجُ مُتَرَادِفَيْنِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ التَّمْلِيكُ يُوجَدُ بِغَيْرِ نِكَاحٍ وَلَا إلَى الثَّانِي لِعَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا ( ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ لِلتَّلْفِيقِ ) يُقَالُ : لَفَّقْت بَيْنَ ثَوْبَيْنِ وَلَفَّقْت أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ ، إذَا لَاءَمْتَ بَيْنَهُمَا بِالْخِيَاطَةِ ( وَالنِّكَاحُ لِلضَّمِّ ، وَلَا ضَمَّ وَلَا ازْدِوَاجَ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكَةِ أَصْلًا ) فَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا .
وَقُلْنَا الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُمَا مَوْجُودَةٌ ؛ لِأَنَّ ( التَّمْلِيكَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي مَحَلِّهَا ) يَعْنِي أَنَّ تَمْلِيكَ الرَّقَبَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ إذَا صَادَفَتْ مَحَلَّ الْمُتْعَةِ لِإِفْضَائِهِ إلَيْهِ ( وَ ) مِلْكُ الْمُتْعَةِ ( هُوَ الثَّابِتُ بِالنِّكَاحِ وَالسَّبَبِيَّةُ طَرِيقُ الْمَجَازِ ) وَقُيِّدَ بِقَوْلِهِ فِي مَحَلِّهَا احْتِرَازًا عَنْ تَمْلِيكِ الْغِلْمَانِ وَالْبَهَائِمِ وَالْأُخْتِ الرَّضَاعِيَّةِ وَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ إذَا وَرَدَ عَلَى مِلْكِ النِّكَاحِ أَفْسَدَهُ فَكَيْفَ يَثْبُتُ النِّكَاحُ بِهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ إفْسَادَهُ لِلنِّكَاحِ لَيْسَ مِنْ حَيْثُ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ لَا مَحَالَةَ ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إبْطَالُ ضَرْبِ مَالِكِيَّةٍ لَهَا فِي مُوَاجَبِ النِّكَاحِ مِنْ طَلَبِ الْقَسْمِ وَتَقْدِيرِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَالْمَنْعِ عَنْ الْعَزْلِ ، وَحِينَئِذٍ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مَا يُثْبِتُهُ وَيَنْفِيهِ فَجَازَتْ الِاسْتِعَارَةُ .
وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ هُوَ الصَّحِيحُ لِوُجُودِ طَرِيقِ الْمَجَازِوَقَوْلُهُ ( وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ ) يَعْنِي بِأَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ بِعْتُك نَفْسِي أَوْ قَالَ أَبُوهَا بِعْتُك بِنْتِي بِكَذَا وَكَذَا بِلَفْظِ الشِّرَاءِ بِأَنْ قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَةٍ اشْتَرَيْتُك بِكَذَا فَأَجَابَتْ بِنَعَمْ ، أَشَارَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْمَشِ إنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ خَاصٌّ لِتَمْلِيكِ مَالٍ وَالْمَمْلُوكُ بِالنِّكَاحِ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَوَجْهُ الصَّحِيحِ وُجُودُ طَرِيقِ الْمَجَازِ .
( وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ ) فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ ( وَ ) لَا بِلَفْظِ ( الْإِبَاحَةِ وَالْإِحْلَالِ وَالْإِعَارَةِ ) لِمَا قُلْنَا ( وَ ) لَا بِلَفْظِ ( الْوَصِيَّةِ ) لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْمِلْكَ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ .وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ فِي الصَّحِيحِ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ إنَّهُ يَنْعَقِدُ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالنِّكَاحِ مَنْفَعَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ جُعِلَ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْعِوَضَ أَجْرًا فِي قَوْله تَعَالَى { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ .
وَوَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْعَقِدُ شَرْعًا إلَّا مُؤَقَّتَةً ، وَالنِّكَاحُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا مُؤَبَّدًا فَكَانَ بَيْنَ مُوجِبَيْهِمَا تَنَافٍ فَلَا تَجُوزُ الِاسْتِعَارَةُ ، فَقَالَ الْمُصَنِّفُ ( لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ ) لِعَدَمِ إفْضَائِهَا إلَيْهِ ( وَلَا بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ وَالْإِحْلَالِ وَالْإِعَارَةِ لِمَا قُلْنَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِبَاحَةِ وَالْإِحْلَالِ لَا يُوجِبُ مِلْكًا أَصْلًا ، فَإِنَّ مَنْ أَحَلَّ لِغَيْرِهِ طَعَامًا أَوْ أَبَاحَهُ لَهُ لَا يَمْلِكُهُ فَإِنَّمَا يُتْلِفُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ ( وَلَا بِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْمِلْكَ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ) وَلَوْ صَرَّحَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ زَمَانُ انْتِهَاءِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَبُطْلَانِهِ لَا زَمَانُ ثُبُوتِهِ .
قَالَ ( وَلَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِحُضُورِ شَاهِدَيْنِ حُرَّيْنِ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ مُسْلِمَيْنِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عُدُولًا كَانُوا أَوْ غَيْرَ عُدُولٍ أَوْ مَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ ) اعْلَمْ أَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطٌ فِي بَابِ النِّكَاحِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ } وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي اشْتِرَاطِ الْإِعْلَانِ دُونَ الشَّهَادَةِ .قَالَ ( وَلَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِحُضُورِ شَاهِدَيْنِ حُرَّيْنِ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَيْنِ عُدُولًا كَانُوا أَوْ غَيْرَ عُدُولٍ ) أَمَّا اشْتِرَاطُ الشَّهَادَةِ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ } " وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ قَوْله تَعَالَى { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } وَغَيْرُهُ مِنْ الْآيَاتِ بِهِ .
وَأَجَابَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ هَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ ( وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي اشْتِرَاطِ الْإِعْلَانِ دُونَ الشَّهَادَةِ ) حَتَّى لَوْ أَعْلَنُوا بِحُضُورِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ صَحَّ ، وَلَوْ أَمَرَ الشَّاهِدَيْنِ أَنْ لَا يُظْهِرَا الْعَقْدَ لَمْ يَصِحَّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " { أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَلَوْ بِالدُّفِّ } " وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِعْلَانَ يَحْصُلُ بِحُضُورِ الشَّاهِدَيْنِ حَقِيقَةً ،
وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْحُرِّيَّةِ فِيهَا لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ ، لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ بِدُونِهِمَا ، وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَنْكِحَةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ وَصْفُ الذُّكُورَةِ حَتَّى يَنْعَقِدَ بِحُضُورِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ " وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَسَتَعْرِفُ فِي الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ ( لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ ) وَالشَّهَادَةُ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْوِلَايَةَ عِبَارَةٌ عَنْ نَفَاذِ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى .
وَذَلِكَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ الْأَدَاءِ ، وَكَلَامُنَا فِي حَالَةِ الِانْعِقَادِ ، فَكَمَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ فَلْيَنْعَقِدْ بِشَهَادَةِ الْعَبْدَيْنِ إذْ الْوِلَايَةُ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَدَاءَ يَحْتَاجُ إلَى وِلَايَةٍ مُتَعَدِّيَةٍ وَلَيْسَتْ بِمُرَادَةٍ هَاهُنَا .
وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا الْوِلَايَةُ الْقَاصِرَةُ تَعْظِيمًا لِخَطَرِ أَمْرِ النِّكَاحِ كَاشْتِرَاطِ أَصْلِ الشَّهَادَةِ ، وَكَذَلِكَ اعْتِبَارُ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ ( لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ بِدُونِهِمَا وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْإِسْلَامِ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ ) يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَفِيهِ النَّظَرُ الَّذِي مَرَّ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَدَاءَ حَتَّى تَكُونَ الْوِلَايَةُ شَرْطًا .
وَالْجَوَابُ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ وَصِفَةَ الشَّاهِدَيْنِ إنَّمَا كَانَتْ تَعْظِيمًا وَلَا تَعْظِيمَ لِشَيْءٍ بِسَبَبِ حُضُورِهِ لِلْكُفَّارِ ( وَلَا يُشْتَرَطُ وَصْفُ الذُّكُورَةِ حَتَّى يَنْعَقِدَ بِحُضُورِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ) وَوَعَدَ الْمُصَنِّفُ بِبَيَانِ ذَلِكَ فِي الشَّهَادَاتِ وَنَحْنُ تَابَعْنَاهُ فِي ذَلِكَ ،
وَلَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ حَتَّى يَنْعَقِدَ بِحَضْرَةِ الْفَاسِقَيْنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
لَهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ وَالْفَاسِقُ مِنْ أَهْلِ الْإِهَانَةِ .
وَلَنَا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُحَرِّمْ الْوِلَايَةَ عَلَى نَفْسِهِ لِإِسْلَامِهِ لَا يُحَرِّمُ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ ، وَلِأَنَّهُ صَلُحَ مُقَلَّدًا فَيَصْلُحُ مُقَلِّدًا وَكَذَا شَاهِدًا .
وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ تَحَمُّلًا ، وَإِنَّمَا الْفَائِتُ ثَمَرَةُ الْأَدَاءِ بِالنَّهْيِ لِجَرِيمَتِهِ فَلَا يُبَالِي بِفَوَاتِهِ كَمَا فِي شَهَادَةِ الْعُمْيَانِ وَابْنَيْ الْعَاقِدَيْنِ .
وَيَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .
هُوَ يَقُولُ ( الشَّهَادَةُ مِنْ الْكَرَامَةِ ) لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ قَوْلِهِ فِي نَفْسِهِ وَنَفَاذِهِ عَلَى الْغَيْرِ إكْرَامًا لَهُ لَا مَحَالَةَ ( وَالْفَاسِقُ مِنْ أَهْلِ الْإِهَانَةِ ) لِجَرِيمَتِهِ ، وَدَلِيلُهُ يَتِمُّ بِأَنْ يَقُولَ : وَالْفَاسِقُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَرَامَةِ ، وَلَكِنْ عَدَلَ عَنْهُ إلَى مَا ذُكِرَ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ ، وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ تَرْكِ الْإِكْرَامِ وَهُوَ الْإِهَانَةُ ( وَلَنَا أَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ ) عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ نَفْسَهُ وَعَبْدَهُ وَأَمَتَهُ وَيُقِرَّ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ مِنْ الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ ، وَكُلُّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْوِلَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ وِلَايَةٌ قَاصِرَةٌ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا مُتَعَدِّيَةٌ إلَى غَيْرِهِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَهَذَا ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ : يَعْنِي ( لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُحْرَمْ الْوِلَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ لِإِسْلَامِهِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ ) كَمَا أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَهُمْ وِلَايَةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَلَهُمْ الْوِلَايَةُ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفِسْقَ لَا يُخْرِجُ الْمَرْءَ مِنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَدَاءِ ، وَفِيهِ الْإِلْزَامُ ، فَلَأَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْهَا عَلَى الِانْعِقَادِ وَلَا إلْزَامَ فِيهِ أَوْلَى ( وَلِأَنَّهُ صَلُحَ مُقَلِّدًا ) كَالْحَجَّاجِ وَغَيْرِهِ ، فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ قَلَّمَا يَخْلُو وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ فِسْقٍ ( فَيَصْلُحُ مُقَلِّدًا ) أَيْ قَاضِيًا ( فَكَذَا شَاهِدًا ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ وَالْقَضَاءَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ .
وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ
لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ مُرَتَّبَةٌ عَلَى أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ أَهْلِيَّةَ الْقَضَاءِ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ ، وَلَوْ قَالَ بِالْوَاوِ كَانَ أَحْسَنَ .
لَا يُقَالُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا عَلَى مُقَلِّدًا بِكَسْرِ اللَّامِ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ السَّلْطَنَةِ لَيْسَتْ مُسْتَفَادَةً مِنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ عَكْسَهُ كَذَلِكَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ إذَا كَانَ الْفِسْقُ لَا يَمْنَعُ عَنْ وِلَايَةٍ هِيَ أَعَمُّ ضَرَرًا فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ عَنْ وِلَايَةِ عَامِّ الضَّرَرِ أَوْ خَاصِّهِ أَوْلَى ، وَالتَّرْتِيبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ خَافِي الصِّحَّةِ .
وَلَوْ قَالَ الْفَاسِقُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ الْقَاصِرَةِ بِلَا خِلَافٍ فَيَصْلُحُ شَاهِدًا عَلَى الِانْعِقَادِ لِأَنَّهُ لَا إلْزَامَ فِيهِ وَكَانَتْ الْوِلَايَةُ قَاصِرَةً لَكَانَ أَسْهَلَ تَأَتِّيًا ، وَيَنْعَقِدُ بِحُضُورِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ لِأَنَّهُ ( مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ ) عَلَى مَا مَرَّ ( فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ تَحَمُّلًا ) لَا أَدَاءً .
فَإِنْ قُلْت : النُّكْتَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْفَاسِقِ أَوَّلًا تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ شَهَادَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ وَلَمْ تَكُنْ فَكَانَتْ مَنْقُوضَةً .
قُلْت : كَانَ كَذَلِكَ لَوْلَا النَّصُّ الْقَاطِعُ .
وَقَوْلُهُ وَإِنَّمَا الْفَائِتُ ثَمَرَةُ الْأَدَاءِ بِالنَّهْيِ لِجَرِيمَتِهِ فَلَا يُبَالِي بِفَوَاتِهِ كَمَا فِي شَهَادَةِ الْعُمْيَانِ ) مَعْذِرَةٌ عَنْ عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ بَعْدَمَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ كَالْفَاسِقِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ السُّؤَالِ الَّذِي ذَكَرْته آنِفًا ، وَالطَّرِيقُ الَّذِي ذَكَرْته فِي الْفَاسِقِ أَسْهَلُ مَأْخَذًا .
قَالَ ( وَإِنْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ ذِمِّيَّةً بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ : لَا يَجُوزُ ) لِأَنَّ السَّمَاعَ فِي النِّكَاحِ شَهَادَةٌ وَلَا شَهَادَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَأَنَّهُمَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الْمُسْلِمِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ شُرِطَتْ فِي النِّكَاحِ عَلَى اعْتِبَارِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِوُرُودِهِ عَلَى مَحَلِّ ذِي خَطَرٍ لَا عَلَى اعْتِبَارِ وُجُوبِ الْمَهْرِ إذْ لَا شَهَادَةَ تُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ الْمَالِ وَهُمَا شَاهِدَانِ عَلَيْهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ بِكَلَامَيْهِمَا وَالشَّهَادَةُ شُرِطَتْ عَلَى الْعَقْدِ
قَالَ ( وَإِنْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ ذِمِّيَّةً بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ السَّمَاعَ ) أَيْ سَمَاعَ كَلَامِ الْعَاقِدَيْنِ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ( فِي النِّكَاحِ شَهَادَةٌ ) وَهَذَا ظَاهِرٌ لِأَنَّا لَا نُرِيدُ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى النِّكَاحِ إلَّا ذَلِكَ ( وَلَا شَهَادَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ ) وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ ( فَكَأَنَّهُمَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الزَّوْجِ ، وَلَهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ ، شُرِطَتْ فِي النِّكَاحِ عَلَى اعْتِبَارِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ ) وَتَرْكِيبُ الْحُجَّةِ ، هَكَذَا الشَّهَادَةُ فِي النِّكَاحِ ، شُرِطَتْ عَلَى اعْتِبَارِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا ، وَكُلُّ مَا شُرِطَتْ عَلَى اعْتِبَارِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا شَهَادَةٌ عَلَيْهَا فَالشَّهَادَةُ فِي النِّكَاحِ شَهَادَةٌ عَلَيْهَا .
وَبَيَّنَ الْمُصَنِّفُ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى بِقَوْلِهِ ( لِوُرُودِهِ عَلَى مَحَلٍّ ذِي خَطَرٍ ) .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي النِّكَاحِ حَالَ الِانْعِقَادِ ، إمَّا أَنْ تَكُونَ لِإِثْبَاتِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ عَلَيْهَا إبَانَةً لِخَطَرِ الْمَحَلِّ ، أَوْ لِإِثْبَاتِ مِلْكِ الْمَهْرِ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي مُنْتَفٍ لِأَنَّ الْمَهْرَ مَالٌ وَلَا يَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَى لُزُومِ الْمَالِ أَصْلًا ، وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ يُشْتَرَطُ فِي إثْبَاتِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ عَلَيْهَا إلَّا الشَّهَادَةُ ، فَإِنَّ الْوَلِيَّ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا ، وَإِذَا كَانَتْ الشَّهَادَةُ حَالَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ شَهَادَةٌ عَلَيْهَا كَانَ الذِّمِّيَّانِ شَاهِدَيْنِ عَلَيْهَا ، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الذِّمِّيَّةِ جَائِزَةٌ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَسْمَعَا ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي النِّكَاحِ شَرْطٌ عَلَى الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِكَلَامَيْهِمَا ، فَإِذَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الْمُسْلِمِ لَمْ يَشْهَدَا عَلَى الْعَقْدِ
قَالَ ( وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا بِأَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ فَزَوَّجَهَا وَالْأَبُ حَاضِرٌ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ سِوَاهُمَا جَازَ النِّكَاحُ ) لِأَنَّ الْأَبَ يُجْعَلُ مُبَاشِرًا لِلْعَقْدِ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ وَيَكُونُ الْوَكِيلُ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا فَيَبْقَى الْمُزَوِّجُ شَاهِدًا ( وَإِنْ كَانَ الْأَبُ غَائِبًا لَمْ يَجُزْ ) لِأَنَّ الْمَجْلِسَ مُخْتَلِفٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَجْعَلَ الْأَبَ مُبَاشِرًا ، وَعَلَى هَذَا إذَا زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَتَهُ الْبَالِغَةَ بِمَحْضَرِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ إنْ كَانَتْ حَاضِرَةً جَازَ ، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً لَمْ يَجُزْ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ فَزَوَّجَهَا ) بِحَضْرَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَبُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا ، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا ( جَازَ النِّكَاحُ لِأَنَّ الْأَبَ يُجْعَلُ مُبَاشِرًا لِلْعَقْدِ وَيَكُونُ الْوَكِيلُ ) شَاهِدًا لِأَنَّ الْمَجْلِسَ مُتَّحِدٌ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الْوَاقِعُ مِنْ الْمَأْمُورِ حَقِيقَةً كَالْوَاقِعِ مِنْ الْآمِرِ حُكْمًا لِكَوْنِ الْوَكِيلِ فِي بَابِ النِّكَاحِ ( سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ مُخْتَلِفٌ ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْأَبُ مُبَاشِرًا ) مَعَ عَدَمِ حُضُورِهِ فِي مَجْلِسِ الْمُبَاشَرَةِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : هَذَا تَكَلُّفٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ الْأَبَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِي بَابِ النِّكَاحِ فَلَا حَاجَةَ إلَى نَقْلِ الْمُبَاشَرَةِ مِنْ الْمَأْمُورِ إلَى الْآمِرِ حُكْمًا ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَخِيرَةِ ، وَهِيَ مَا ( إذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ الْبَالِغَةَ بِمَحْضَرِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً جَازَ ) بِنَقْلِ مُبَاشَرَةِ الْأَبِ إلَيْهَا لِعَدَمِ صَلَاحِيَّتِهَا لِلشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهَا ( وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً لَمْ يَجُزْ ) لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَقْدِرُ أَنْ لَوْ تُصُوِّرَ تَحْقِيقًا .
وَأَقُولُ : أَرَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فِي الِاحْتِيَاجِ إلَى ذَلِكَ التَّكَلُّفِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ حَاضِرًا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِي نِكَاحٍ أَمَرَهُ بِهِ ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ فَكَأَنَّ الْأَبَ هُوَ الْمُزَوِّجُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُزَوِّجُ شَاهِدًا ، وَإِذَا انْتَقَلَ إلَيْهِ الْمُبَاشَرَةُ أَيْضًا صَارَ هُوَ الْمُزَوِّجُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ شَاهِدًا ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا وَكَّلَ رَجُلًا أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَهُ فَزَوَّجَهُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَالْعَبْدُ حَاضِرٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ إمْكَانِ جَعْلِ الْعَبْدِ مُبَاشِرًا لِلْعَقْدِ
وَالْوَكِيلِ مَعَ الرَّجُلِ شَاهِدَيْنِ ، كَمَا لَوْ بَاشَرَ الْمَوْلَى عَقْدَ تَزْوِيجِ الْعَبْدِ عِنْدَ حَضْرَةِ الْعَبْدِ مَعَ رَجُلٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ مُوَكِّلًا حَتَّى تَنْتَقِلَ مُبَاشَرَةُ الْوَكِيلِ إلَيْهِ وَيَبْقَى شَاهِدًا فَبَقِيَ الْوَكِيلُ عَلَى حَالِهِ مُزَوِّجًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاشَرَهُ الْمَوْلَى بِحَضْرَةِ الْعَبْدِ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ هُنَاكَ يُجْعَلُ مُبَاشِرًا لِلنِّكَاحِ بِنَفْسِهِ وَالْمَوْلَى شَاهِدًا فَيَكُونُ النِّكَاحُ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ .
لَا يُقَالُ : الْمَوْلَى لَيْسَ بِوَكِيلٍ عَنْ الْعَبْدِ فَكَيْفَ تَنْتَقِلُ مُبَاشَرَتُهُ إلَيْهِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا كَانَ لَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُوَكِّلِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ غَائِبًا لِعَدَمِ إمْكَانِهِ مُبَاشِرًا لِمَا قُلْنَا إنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُقَدَّرُ أَنْ لَوْ تُصُوِّرَ تَحْقِيقًا .
( فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ ) قَالَ ( لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُمِّهِ وَلَا بِجَدَّاتِهِ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } وَالْجَدَّاتُ أُمَّهَاتٌ ، إذْ الْأُمُّ هِيَ الْأَصْلُ لُغَةً أَوْ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُنَّ بِالْإِجْمَاعِ ، قَالَ ( وَلَا بِبِنْتِهِ ) لِمَا تَلَوْنَا ( وَلَا بِبِنْتِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَتْ ) لِلْإِجْمَاعِ .فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ ) لَمَّا كَانَتْ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ مَنْ أَخْرَجَهَا اللَّهُ عَنْ مَحَلِّيَّةِ النِّكَاحِ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ بَنِي آدَمَ احْتَاجَ إلَى ذِكْرِهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ .
وَأَسْبَابُ حُرْمَتِهِنَّ تَتَنَوَّعُ إلَى تِسْعَةِ أَنْوَاعٍ : الْقَرَابَةُ ، وَالْمُصَاهَرَةُ ، وَالرَّضَاعُ ، وَالْجَمْعُ ، وَتَقْدِيمُ الْحُرَّةِ عَلَى الْأَمَةِ ، وَقِيَامُ حَقِّ الْغَيْرِ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ عِدَّةٍ ، وَالشِّرْكُ ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ ، وَالطَّلْقَاتُ الثَّلَاثُ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ ( لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُمِّهِ وَلَا بِجَدَّاتِهِ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } ) وَدَلَالَتُهُ عَلَى حُرْمَةِ الْأُمِّ ظَاهِرَةٌ .
وَأَمَّا عَلَى حُرْمَةِ الْجَدَّةِ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأُمَّ فِي اللُّغَةِ هِيَ الْأَصْلُ كَمَا يُقَالُ لِمَكَّةَ أُمُّ الْقُرَى ، فَتَكُونُ دَلَالَتُهَا عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى يَعُمُّهُمَا لُغَةً لَا بِاعْتِبَارِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَوْ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُنَّ بِالْإِجْمَاعِ ) وَهَذَانِ الْمَسْلَكَانِ يُسْلَكُ بِهِمَا فِي كُلِّ مَا فِيهِ مَعْنَى الْفَرْعِيَّةِ أَيْضًا كَالْبَنَاتِ وَبَنَاتِهَا وَبَنَاتُ الِابْنِ بَنَاتٌ كَذَلِكَ ، وَالْأُخْتُ وَبَنَاتُهَا وَبَنَاتُ الْأَخِ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ مُتَفَرِّقَةٌ كُنَّ أَوْ غَيْرُهَا تَنَاوَلَهَا النَّصُّ بِجِهَةِ عُمُومِ الِاسْمِ ، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَرَابَةِ .
( وَلَا بِأُخْتِهِ وَلَا بِبَنَاتِ أُخْتِهِ وَلَا بِبَنَاتِ أَخِيهِ وَلَا بِعَمَّتِهِ وَلَا بِخَالَتِهِ ) لِأَنَّ حُرْمَتَهُنَّ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَتَدْخُلُ فِيهَا الْعَمَّاتُ الْمُتَفَرِّقَاتُ وَالْخَالَاتُ الْمُتَفَرِّقَاتُ وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ الْمُتَفَرِّقِينَ لِأَنَّ جِهَةَ الِاسْمِ عَامَّةٌ .
قَالَ ( وَلَا بِأُمِّ امْرَأَتِهِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } مِنْ غَيْرِ قَيْدِ الدُّخُولِوَتَحْرُمُ أُمُّ امْرَأَتِهِ إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ بِالدُّخُولِ .
( وَلَا بِبِنْتِ امْرَأَتِهِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا ) لِثُبُوتِ قَيْدِ الدُّخُولِ بِالنَّصِّ ( سَوَاءً كَانَتْ فِي حِجْرِهِ أَوْ فِي حِجْرِ غَيْرِهِ ) لِأَنَّ ذِكْرَ الْحِجْرِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْعَادَةِ لَا مَخْرَجَ الشَّرْطِ وَلِهَذَا اكْتَفَى فِي مَوْضِعِ الْإِحْلَالِ بِنَفْيِ الدُّخُولِوَتَحْرُمُ بِنْتُ امْرَأَتِهِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا لِثُبُوتِ قَيْدِ الدُّخُولِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } وَلَيْسَ كَوْنُهَا فِي الْحِجْرِ شَرْطًا .
( قَالَ الْمُصَنِّفُ لِأَنَّ ذِكْرَ الْحِجْرِ ) يَعْنِي فِي قَوْله تَعَالَى { وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } ( خَرَجَ مَخْرَجَ الْعَادَةِ ) فَإِنَّ الْعَادَةَ أَنْ تَكُونَ الْبَنَاتُ فِي حِجْرِ زَوْجِ أُمِّهَا غَالِبًا : أَيْ فِي تَرْبِيَتِهَا لَا عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ ، وَاسْتَوْضَحَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( وَلِهَذَا اكْتَفَى فِي مَوْضِعِ الْإِحْلَالِ بِنَفْيِ الدُّخُولِ ) وَلَمْ يَشْتَرِطْ نَفْيَ الدُّخُولِ مَعَ نَفْيِ الْحِجْرِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ : فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَلَسْنَ فِي حُجُورِكُمْ ، فَإِنَّ الْإِبَاحَةَ تَتَعَلَّقُ بِضِدِّ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُرْمَةُ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحُرْمَةُ مُتَعَلِّقَةً بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ ، وَهُمَا الدُّخُولُ ، وَالْحِجْرُ .
ثُمَّ تَنْتَفِي الْحُرْمَةُ بِانْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ الشَّيْءَ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْجُزْءِ ، فَلَمْ يَكُنْ ثُبُوتُ الْإِبَاحَةِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الدُّخُولِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْحِجْرِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَادَةَ فِي مِثْلِهِ نَفْيُ الْوَصْفَيْنِ جَمِيعًا أَوْ نَفْيُ الْعِلَّةِ مُطْلَقًا ، لَا نَفْيُ أَحَدِهِمَا وَالسُّكُوتُ عَنْ الْآخَرِ .
لَا يُقَالُ : لَا يَجْرِي حُكْمُ الرِّبَا وَهُوَ حُرْمَةُ الْفَضْلِ وَالنَّسِيئَةِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْبَدَلَيْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ الْجِنْسِيَّةُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ الْقَدْرُ ، بَلْ يُقَالُ : لَمْ يُوجَدْ الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ ، أَوْ يُقَالُ : لَمْ تُوجَدْ عِلَّةُ الرِّبَا وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ ،
( قَالَ وَلَا بِامْرَأَةِ أَبِيهِ وَأَجْدَادِهِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ }وَتَحْرُمُ امْرَأَةُ أَبِيهِ وَأَجْدَادِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } فَإِنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الْأَبِ ظَاهِرَةٌ وَعَلَى الْجَدِّ بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَبِ الْأَصْلُ فَيَتَنَاوَلُ الْآبَاءُ الْأَجْدَادَ كَمَا تَتَنَاوَلُ الْأُمُّ الْجَدَّاتِ ، وَإِمَّا بِالْإِجْمَاعِ .
وَأَمَّا الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ إنْ كَانَ هُوَ الْوَطْءُ فَيَكُونُ الْعَقْدُ ثَابِتًا بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْعَقْدَ فَالْوَطْءُ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
( وَلَا بِامْرَأَةِ ابْنِهِ وَبَنِي أَوْلَادِهِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ } وَذَكَرَ الْأَصْلَابَ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ التَّبَنِّي لَا لِإِحْلَالِ حَلِيلَةِ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِوَتَحْرُمُ امْرَأَةُ الِابْنِ نَسَبًا وَرَضَاعًا وَبَنِي أَوْلَادِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ } فَحَلِيلَةُ الِابْنِ وَهِيَ زَوْجَتُهُ حَرَامٌ عَلَى الْأَبِ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا الِابْنُ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ عَلَى الدُّخُولِ ، وَأَمَّا حَلِيلَةُ ابْنِ الِابْنِ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِابْنِ هُوَ الْفَرْعُ فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَحَلَائِلُ فُرُوعِكُمْ ، وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ حَلِيلَةَ ابْنِ الِابْنِ وَابْنِ الْبِنْتِ بِعُمُومِهِ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْله تَعَالَى { مِنْ أَصْلَابِكُمْ } يَأْبَى ذَلِكَ .
أَجَابَ بِأَنَّ ( ذِكْرَ الْأَصْلَابِ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ التَّبَنِّي لَا لِإِحْلَالِ حَلِيلَةِ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ ) وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ التَّبَنِّي انْتَسَخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } وَقِصَّتُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ثُمَّ تَزَوَّجَ زَيْنَبَ بَعْدَمَا طَلَّقَهَا زَيْدٌ ، فَطَعَنَ الْمُشْرِكُونَ وَقَالُوا : إنَّهُ تَزَوَّجَ حَلِيلَةَ ابْنِهِ ، فَنَسَخَ اللَّهُ التَّبَنِّي بِقَوْلِهِ { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } وَدَفَعَ طَعْنَ الْمُشْرِكِينَ بِهَذَا التَّقْيِيدِ فَبَقِيَتْ حَلِيلَةُ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعِ دَاخِلَةً تَحْتَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } وَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ مِنْ التَّحْرِيمِ بِالْمُصَاهَرَةِ .
( وَلَا بِأُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَا بِأُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } " .وَتَحْرُمُ أُمُّ الرَّجُلِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُخْتُهُ مِنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ } وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّضَاعِ .
( وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ أُخْتَيْنِ نِكَاحًا وَلَا بِمِلْكِ يَمِينٍ وَطْئًا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْمَعَنَّ مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ } " .وَيَحْرُمُ أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِنِكَاحٍ أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ وَطْئًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَسَرَى حُكْمُهُمَا إلَى كُلِّ امْرَأَتَيْنِ لَوْ فُرِضَتْ إحْدَاهُمَا ذِكْرًا حَرُمَتْ الْأُخْرَى عَلَيْهِ بِعِلَّةِ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ سَوَاءٌ كَانَ فِي النَّسَبِ أَوْ الرَّضَاعِ .
( فَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْت أَمَةٍ لَهُ قَدْ وَطِئَهَا صَحَّ النِّكَاحُ ) لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ ( وَ ) إذَا جَازَ ( لَا يَطَأُ الْأَمَةَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَطَأْ الْمَنْكُوحَةَ ) لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مَوْطُوءَةٌ حُكْمًا ، وَلَا يَطَأُ الْمَنْكُوحَةَ لِلْجَمْعِ إلَّا إذَا حَرَّمَ الْمَوْطُوءَةَ عَلَى نَفْسِهِ لِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ فَحِينَئِذٍ يَطَأُ الْمَنْكُوحَةَ لِعَدَمِ الْجَمْعِ ، وَيَطَأُ الْمَنْكُوحَةَ إنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَ الْمَمْلُوكَةَ لِعَدَمِ الْجَمْعِ وَطْئًا إذْ الْمَرْقُوقَةُ لَيْسَتْ مَوْطُوءَةً حُكْمًا .
وَمَنْ لَهُ أَمَةٌ فَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا جَازَ ، سَوَاءٌ كَانَ وَطِئَ الْأَمَةَ أَوْ لَمْ يَطَأْهَا لِأَنَّهُ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ وَهُوَ وَاضِحٌ ( مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ ) لِأَنَّ الْأُخْتَ الْمَمْلُوكَةَ وَطْؤُهَا مِنْ بَابِ الِاسْتِخْدَامِ ، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ نِكَاحَ الْأُخْتِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ وَطِئَ الْأَمَةَ لَا يَطَؤُهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَطَأْ الْمَنْكُوحَةَ بَعْدُ لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مَوْطُوءَةٌ حُكْمًا فَوَطْءُ الْأَمَةِ يَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِوَطْءِ أَحَدِهِمَا حَقِيقَةً وَالْأُخْرَى حُكْمًا .
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ النِّكَاحَ لَوْ كَانَ قَائِمًا مَقَامَ الْوَطْءِ حَتَّى تَصِيرَ الْمَنْكُوحَةُ مَوْطُوءَةً حُكْمًا وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ هَذَا النِّكَاحُ كَيْ لَا يَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَطْئًا كَمَا قَالَ بِهِ مَالِكٌ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ نَفْسَ النِّكَاحِ لَيْسَ بِوَطْءٍ حَتَّى يَصِيرَ بِهِ جَامِعًا بَيْنَهُمَا ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ وَطْئًا بَعْدَ ثُبُوتِ حُكْمِهِ وَهُوَ حِلُّ الْوَطْءِ فَلَا يَكُونُ وَطْءُ الْأَمَةِ مَانِعًا عَنْ النِّكَاحِ ( وَلَا يَطَأُ الْمَنْكُوحَةَ ) أَيْضًا ( لِلْجَمْعِ ) بَيْنَهُمَا ( إلَّا إذَا حَرَّمَ الْمَوْطُوءَةَ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ ) كَالْبَيْعِ وَالتَّزْوِيجِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَطْءَ قَائِمٌ حُكْمًا ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الِاسْتِبْرَاءُ فَيَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا وَطْئًا حَقِيقَةً ، وَبِالتَّحْرِيمِ عَلَى نَفْسِهِ يَبْطُلُ حُكْمُ ذَلِكَ الْوَطْءِ لِزَوَالِ مَعْنَى اشْتِغَالِ رَحِمِهَا بِمَائِهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحِلُّ لِزَوْجِهَا أَنْ يَغْشَاهَا فَيَحِلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْمَنْكُوحَةَ حِينَئِذٍ لِعَدَمِ الْجَمْعِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَ الْمَمْلُوكَةَ جَازَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْمَنْكُوحَةَ لِعَدَمِ الْجَمْعِ وَطْئًا إذْ الْمَرْقُوقَةُ لَيْسَتْ مَوْطُوءَةً حُكْمًا .
( فَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عُقْدَتَيْنِ وَلَا يَدْرِي أَيَّتَهمَا أُولَى فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا ) لِأَنَّ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا بَاطِلٌ بِيَقِينٍ ، وَلَا وَجْهَ إلَى التَّعْيِينِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَلَا إلَى التَّنْفِيذِ مَعَ التَّجْهِيلِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ أَوْ لِلضَّرَرِ فَتَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ ( وَلَهُمَا نِصْفُ الْمَهْرِ ) لِأَنَّهُ وَجَبَ لِلْأُولَى مِنْهُمَا ، وَانْعَدَمَتْ الْأَوْلَوِيَّةُ لِلْجَهْلِ بِالْأَوَّلِيَّةِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِمَا ، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا الْأُولَى أَوْ الِاصْطِلَاحِ لِجَهَالَةِ الْمُسْتَحِقَّةِ .
قَوْلُهُ ( فَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عُقْدَتَيْنِ وَلَا يَدْرِي أَيَّتَهمَا أَوْلَى فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا ) قَيَّدَ بِعُقْدَتَيْنِ ، لِأَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهُمَا بِعَقْدٍ وَاحِدٍ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَلَا يَسْتَحِقَّانِ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ وَلَا يَدْرِي أَيَّتَهُمَا أَوْلَى لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا بَاطِلٌ بِيَقِينٍ ) يَعْنِي مَنْ كَانَتْ أُخْرَى فِي الْوَاقِعِ ( وَلَا وَجْهَ إلَى التَّعْيِينِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَلَا إلَى التَّنْفِيذِ ) يَعْنِي إلَى تَصْحِيحِهِ فِي إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا ( لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ ) وَهِيَ حِلُّ الْقُرْبَانِ لِلزَّوْجِ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ مَعَ الْجَهَالَةِ ( أَوْ لِلضَّرَرِ ) يَعْنِي فِي حَقِّهِمَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَبْقَى مُعَلَّقَةً لَا ذَاتَ بَعْلٍ وَلَا مُطَلَّقَةً ( فَتَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ ) وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَطَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا ثُمَّ نَسِيَهَا فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ وَلَا يُفَرَّقُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفَارِقَ تَمَكُّنُ الزَّوْجِ ثَمَّةَ مِنْ دَعْوَى ثَلَاثٍ مِنْهُنَّ بِأَعْيَانِهَا ، لِأَنَّ نِكَاحَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ ، وَلَيْسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ نِكَاحِهِمَا كَذَلِكَ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ دَعْوَى النِّكَاحِ فِي إحْدَاهُمَا تَمَسُّكًا بِالْيَقِينِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَهُمَا نِصْفُ الْمَهْرِ ) يَعْنِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ( لِأَنَّهُ وَجَبَ الْأَوْلَى مِنْهُمَا ) أَمَّا أَنَّهُ وَجَبَ فَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِسَبَبٍ مُضَافٍ إلَى الزَّوْجِ وَهُوَ التَّجْهِيلُ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمَهْرَ أَلْبَتَّةَ ، وَأَمَّا أَنَّهُ لِلْأُولَى فَلِأَنَّ نِكَاحَهَا صَحِيحٌ دُونَ الْأُخْرَى ، وَتَقْرِيرُ كَلَامِهِ الْمَهْرُ لِلْأُولَى مِنْهُمَا لِمَا قُلْنَا وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا لِكَوْنِهَا أُولَى أَوْلَى ( لِلْجَهْلِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْأَوَّلِيَّةِ (
فَيُصْرَفُ إلَيْهِمَا ) وَقَوْلُهُ ( وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ) قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ : لَا بُدَّ أَنْ تَدَّعِيَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا هِيَ الْأُولَى ، وَأَمَّا إذَا قَالَتْ لَا نَدْرِي أَيَّ النِّكَاحَيْنِ كَانَ أَوَّلًا لَا يُقْضَى لَهُمَا بِشَيْءٍ حَتَّى يَصْطَلِحَا ، لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْمَجْهُولَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّعْوَى أَوْ الِاصْطِلَاحِ لِيَقْضِيَ لَهُمَا : وَصُورَةُ هَذَا الِاصْطِلَاحِ أَنْ يَقُولَا عِنْدَ الْقَاضِي : لَنَا عَلَيْهِ الْمَهْرُ وَهَذَا الْحَقُّ لَا يَعْدُونَا فَنَصْطَلِحَ عَلَى أَخْذِ نِصْفِ الْمَهْرِ فَيَقْضِي الْقَاضِي .
( وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا أَوْ ابْنَةِ أَخِيهَا أَوْ ابْنَةِ أُخْتِهَا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَلَى ابْنَةِ أَخِيهَا وَلَا عَلَى ابْنَةِ أُخْتِهَا } " وَهَذَا مَشْهُورٌ ، يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ بِمِثْلِهِ .
قَالَ ( وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا أَوْ ابْنَةِ أَخِيهَا أَوْ ابْنَةِ أُخْتِهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَلَى ابْنَةِ أَخِيهَا وَلَا عَلَى ابْنَةِ أُخْتِهَا } ) رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ أَنَّهُ رَوَاهُ عَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو سَعِيدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَأَبُو أُمَامَةَ وَجَابِرٌ وَعَائِشَةُ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ ( وَهُوَ مَشْهُورٌ ) تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا فَائِدَةُ التَّكْرَارِ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ بِصِفَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا هُوَ أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ ، ثُمَّ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا هُوَ عَيْنُ جَمْعِ الْمَرْأَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بِنْتِ أَخِيهَا ، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا هُوَ عَيْنُ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ابْنَةِ أُخْتِهَا .
أُجِيبَ بِأَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيَّ قَالَ : ذُكِرَ هَذَا النَّفْيُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، إمَّا لِلْمُبَالَغَةِ فِي بَيَانِ التَّحْرِيمِ ، أَوْ لِإِزَالَةِ الْإِشْكَالِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ نِكَاحَ ابْنَةِ الْأَخِ عَلَى الْعَمَّةِ لَا يَجُوزُ ، وَنِكَاحَ الْعَمَّةِ عَلَى ابْنَةِ الْأَخِ يَجُوزُ لِتَفْضِيلِ الْعَمَّةِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ عَلَى الْأَمَةِ ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُبُوتَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِإِزَالَةِ الْإِشْكَالِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ قَالَ : وَهَذَا مَشْهُورٌ ( تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ بِمِثْلِهِ ) وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُحَصِّلِينَ ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ
لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } عَامٌّ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُخَصِّصُهُ .
سَلَّمْنَا جَوَازَ الِاصْطِلَاحِ عَلَى تَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالزِّيَادَةِ ، لَكِنَّ شَرْطَ التَّخْصِيصِ الْمُقَارَنَةُ عِنْدَنَا أَوَّلًا وَلَيْسَتْ بِمَعْلُومَةٍ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْكِتَابِ نَسْخٌ أَخَصُّ فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ وَإِرَادَةُ مُطْلَقِ النَّسْخِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَخَصِّ وَإِرَادَةَ الْأَعَمِّ مَجَازٌ شَائِعٌ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِهِ ، وَلَا نِزَاعَ فِي ذَلِكَ لَا سِيَّمَا أَنَّهُ تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ بِالنَّسْخِ مَرَّةً فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ } نَسْخُ عُمُومٍ قَوْله تَعَالَى { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } بِتَقْدِيرِهِ مُتَأَخِّرًا لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ النَّسْخُ ، فَجَازَ أَنْ يُنْسَخَ بِخَبَرٍ مَشْهُودٍ مَا تَنَاوَلَهُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ ، وَلَا بَأْسَ بِمُطَالَعَةِ مَا فِي النِّهَايَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كَلَامِ الْمَهَرَةِ الْحُذَّاقِ الْمُتْقِنِينَ إنْ كَانَتْ الْقَوَاعِدُ الْأُصُولِيَّةُ عَلَى ذِكْرٍ مِنْك .
( وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ لَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا رَجُلًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأُخْرَى ) لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يُفْضِي إلَى الْقَطِيعَةِ وَالْقَرَابَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلنِّكَاحِ مُحَرِّمَةٌ لِلْقَطْعِ ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَحْرَمِيَّةُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ الرَّضَاعِ يَحْرُمُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ .وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ لَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا رَجُلًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأُخْرَى ) ظَاهِرٌ ، وَهُوَ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ الَّذِي كَانَ بَحْثُنَا فِيهِ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا مُحَرَّمٌ لِإِفْضَائِهِ إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ الْقَطْعِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، وَلَا عَلَيْك أَنْ تَجْعَلَهُ ثَابِتًا بِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } كَمَا قَدَّمْته وَهُوَ أَوْلَى .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَتْ الْمَحْرَمِيَّةُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ الرَّضَاعِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا رَوَيْنَا ) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ } الْحَدِيثَ .
( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَبِنْتِ زَوْجٍ كَانَ لَهَا مِنْ قَبْلُ ) لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا وَلَا رَضَاعَ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ابْنَةَ الزَّوْجِ لَوْ قَدَّرْتَهَا ذَكَرًا لَا يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّجُ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ .
قُلْنَا : امْرَأَةُ الْأَبِ لَوْ صَوَّرْتَهَا ذَكَرًا جَازَ لَهُ التَّزَوُّجُ بِهَذِهِ وَالشَّرْطُ أَنْ يُصَوَّرَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ .وَقَوْلُهُ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ امْرَأَةٍ ) ظَاهِرٌ ، وَنُسِبَ فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُ زُفَرَ هَذَا إلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى .
وَقَوْلُهُ ( وَالشَّرْطُ أَنْ يُصَوَّرَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ) يَعْنِي كَمَا كَانَ فِي الْأُخْتَيْنِ كَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ فَرْعٌ عَلَيْهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ عَلَى وِفَاقِ الْأَصْلِ .
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَةِ عَلِيٍّ وَبِنْتِهِ ، وَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّحْرِيمِ بِسَبَبِ الْجَمْعِ .
قَالَ ( وَمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الزِّنَا لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ فَلَا تُنَالُ بِالْمَحْظُورِ .
وَلَنَا أَنَّ الْوَطْءَ سَبَبُ الْجُزْئِيَّةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ حَتَّى يُضَافَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَلًا فَتَصِيرُ أُصُولُهَا وَفُرُوعُهَا كَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَكَذَلِكَ عَلَى الْعَكْسِ ، وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالْجُزْءِ حَرَامٌ إلَّا فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ الْمَوْطُوءَةُ ، وَالْوَطْءُ مُحَرَّمٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبُ الْوَلَدِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ زِنًا .
قَالَ ( وَمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الْجَمْعِ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الزِّنَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ أَوَّلًا وَذَكَرَ الْخِلَافَ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الزِّنَا لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ ) فَإِنَّهَا تُلْحِقُ الْأَجْنَبِيَّاتِ بِالْمَحَارِمِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ نِعْمَةٌ لَا يُنَالُ بِالْمَحْظُورِ لِانْتِفَاءِ الْمُنَاسَبَةِ الْوَاجِبَةِ بَيْنَ الْحُكْمِ وَسَبَبِهِ ( وَلَنَا أَنَّ الْوَطْءَ سَبَبُ الْجُزْئِيَّةِ ) وَتَقْرِيرُهُ : الْوَلَدُ جُزْءُ مَنْ هُوَ مِنْ مَائِهِ وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالْجُزْءِ حَرَامٌ : أَمَّا أَنَّ الْوَلَدَ جُزْءُ مَنْ هُوَ مِنْهُ فَلِأَنَّ سَبَبَ الْجُزْئِيَّةِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الْوَطْءُ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلْجُزْئِيَّةِ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ لَا مَحَالَةَ ، وَكَذَا بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ بِسَبَبِ الْوَلَدِ ( حَتَّى يُضَافَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَلًا ) يُقَالُ ابْنُ فُلَانٍ وَابْنُ فُلَانَةَ ( فَتَصِيرُ أُصُولُهَا وَفُرُوعُهَا كَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ ) وَتَصِيرُ أُصُولُهُ وَفُرُوعُهُ كَأُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي نَفْسِ الْمَرْأَةِ الْمَوْطُوءَةِ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ جُزْءُ الْوَاطِئِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالْجُزْءِ حَرَامٌ إلَّا فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ الْمَوْطُوءَةُ ) لِأَنَّهَا لَوْ قِيلَ بِحُرْمَتِهَا لَمْ تَحِلَّ امْرَأَةٌ بَعْدَمَا وَلَدَتْ لِزَوْجِهَا وَعَادَ النِّكَاحُ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ لِأَنَّهُ مَا شُرِعَ إلَّا لِلتَّوَالُدِ ، فَلَوْ حَرُمَتْ بِالْوِلَادَةِ لَكَانَ مَا وُضِعَ لِلْوِلَادَةِ يَنْتَفِي بِهَا فِيهِمَا وَذَلِكَ خَلَفٌ بَاطِلٌ ، وَأَمَّا أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْجُزْءِ حَرَامٌ فَلِأَنَّ أَوَّلَ الْإِنْسَانِ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بَنَاتُهُ فَهُوَ الْأَصْلُ فِي حُرْمَةِ الْجُزْءِ ، وَاسْتَثْنَى مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ وَهِيَ امْرَأَتُهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْوَطْءُ مُحَرَّمٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبُ الْوَلَدِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ
حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ نِعْمَةٌ فَلَا تُنَالُ بِمَحْظُورٍ .
وَبَيَانُهُ أَنَّ الْوَطْءَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْحُرْمَةِ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ حَتَّى تُعْتَبَرَ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ ، وَلَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ زِنًا وَإِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ لَهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ لِلْوَلَدِ أُقِيمَ مَقَامَهُ كَالسَّفَرِ مَعَ الْمَشَقَّةِ ، وَلَا عُدْوَانَ وَلَا مَعْصِيَةَ لِلْمُسَبِّبِ الَّذِي هُوَ الْوَلَدُ لِعَدَمِ اتِّصَافِهِ بِذَلِكَ .
لَا يُقَالُ : وَلَدُ عِصْيَانٍ أَوْ عُدْوَانٍ وَالشَّيْءُ إذَا قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ يُعْتَبَرُ فِيهِ صِفَةُ أَصْلِهِ لَا صِفَةُ نَفْسِهِ كَالتُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ .
( وَمَنْ مَسَّتْهُ امْرَأَةٌ بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تَحْرُمُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَسُّهُ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ وَنَظَرُهُ إلَى فَرْجِهَا وَنَظَرُهَا إلَى ذَكَرِهِ عَنْ شَهْوَةٍ .
لَهُ أَنَّ الْمَسَّ وَالنَّظَرَ لَيْسَا فِي مَعْنَى الدُّخُولِ ، وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا فَسَادُ الصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ وَوُجُوبُ الِاغْتِسَالِ فَلَا يَلْحَقَانِ بِهِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَسَّ وَالنَّظَرَ سَبَبٌ دَاعٍ إلَى الْوَطْءِ فَيُقَامُ مُقَامَهُ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ ، ثُمَّ الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ أَنْ تَنْتَشِرَ الْآلَةُ أَوْ تَزْدَادَ انْتِشَارًا هُوَ الصَّحِيحُ ، وَالْمُعْتَبَرُ النَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ الدَّاخِلِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ اتِّكَائِهَا ، وَلَوْ مَسَّ فَأَنْزَلَ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُوجِبُهَا لِأَنَّهُ بِالْإِنْزَالِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مُفْضٍ إلَى الْوَطْءِ ، وَعَلَى هَذَا إتْيَانُ الْمَرْأَةِ فِي الدُّبُرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ مَسَّتْهُ امْرَأَةٌ بِشَهْوَةٍ ) بَيَانُ أَنَّ الْأَسْبَابَ الدَّاعِيَةَ إلَى الْوَطْءِ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ كَالْوَطْءِ فِي إثْبَاتِهَا .
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ : تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ إذَا صَدَّقَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ أَنَّهَا مَسَّتْهُ عَنْ شَهْوَةٍ وَلَوْ كَذَّبَهَا وَلَمْ يَقَعْ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ عَنْ شَهْوَةٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَحْرُمَ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا .
فَإِنْ قِيلَ : ذِكْرُ مَسْأَلَةِ الدَّوَاعِي تَكْرَارٌ لِأَنَّ نَفْسَ الْوَطْءِ الْحَرَامِ إذَا لَمْ يُوجِبْ الْحُرْمَةَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلَأَنْ لَا يُوجِبَهَا دَوَاعِيهِ أَوْلَى .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَتْ تَكْرَارًا أَنْ لَوْ كَانَتْ مُصَوَّرَةً فِي الْحَرَامِ فَقَطْ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ فِي الْحَلَالِ مِثْلُ أَنْ مَسَّتْ أَمَةٌ مَوْلَاهَا كَذَلِكَ ، غَيْرَ أَنَّا لَمْ نُمَيِّزْ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فِي شُمُولِ وُجُوبِ الْحُرْمَةِ وَالشَّافِعِيُّ فِي شُمُولِ الْعَدَمِ ( لَهُ ) فِي الْحَلَالِ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ ( أَنَّ الْمَسَّ وَالنَّظَرَ لَيْسَا فِي مَعْنَى الدُّخُولِ وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا فَسَادُ الصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ وَوُجُوبُ الِاغْتِسَالِ ) وَكُلُّ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الدُّخُولِ لَا يُلْحَقُ بِالدُّخُولِ ، لِأَنَّ الْمُلْحَقَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْمُلْحَقِ ( وَلَنَا أَنَّ الْمَسَّ وَالنَّظَرَ سَبَبٌ دَاعٍ إلَى الْوَطْءِ ) وَالسَّبَبُ الدَّاعِي إلَى الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَهُ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ ، وَهَذَا لِأَنَّا وَجَدْنَا لِصَاحِبِ الشَّرْعِ مَزِيدَ اعْتِنَاءٍ فِي حُرْمَةِ الْأَبْضَاعِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَقَامَ شُبْهَةَ الْبَعْضِيَّةِ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ مَقَامَ حَقِيقَتِهَا فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ دُونَ سَائِرِ الْأَحْكَامِ مِنْ التَّوَارُثِ وَمَنَعَ وَضْعَ الزَّكَاةِ وَمَنَعَ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فَأَقَمْنَا السَّبَبَ الدَّاعِيَ مَقَامَ الْمَدْعُوِّ احْتِيَاطًا ، وَفَسَادُ الصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ وَوُجُوبُ الِاغْتِسَالِ لَيْسَ مِنْ بَابِ حُرْمَةِ الْأَبْضَاعِ حَتَّى يَقُومَ السَّبَبُ فِيهِ مَقَامَ الْوَطْءِ .
وَنُوقِضَ بِأَنَّ مَا
ذَكَرْتُمْ إنْ كَانَ صَحِيحًا قَامَ النَّظَرُ إلَى جَمَالِ الْمَرْأَةِ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا دَاعِيًا إلَيْهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ الْمُحَرَّمِ هُوَ مَا يَكُونُ نَظَرًا إلَى دَاخِلِ الْفَرْجِ بِأَنْ كَانَتْ مُتَّكِئَةً وَهُوَ لَا يَحِلُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا فِي خَلْوَةٍ عَنْ الْأَجَانِبِ ، فَانْظُرْ بَعْدَ هَذَا فِي أَنَّ النَّظَرَ إلَى الْجَمَالِ فِي الْحَلَالِ فِي الْمِلْكِ وَغَيْرِهِ خَلَاءٌ وَمَلَأٌ هَلْ يَكُونُ دَاعِيًا إلَى الْوَطْءِ دَعْوَةَ النَّظَرِ إلَيْهِ أَوْ لَا ؟ لَا أَرَاك قَائِلًا بِذَلِكَ إلَّا مُكَذِّبًا .
وَعَرَّفَ الْمَسَّ بِشَهْوَةٍ بِأَنْ تَنْتَشِرَ الْآلَةُ : يَعْنِي إذَا لَمْ تَكُنْ مُنْتَشِرَةً قَبْلَ النَّظَرِ وَالْمَسِّ ( أَوْ تَزْدَادُ انْتِشَارًا ) إذَا كَانَتْ مُنْتَشِرَةً قَبْلَ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ الْمَشَايِخِ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ : وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ لَمْ يَشْتَرِطُوا الِانْتِشَارَ ، وَجَعَلُوا حَدَّ الشَّهْوَةِ أَنْ يَمِيلَ قَلْبُهُ إلَيْهَا وَيَشْتَهِيَ جِمَاعَهَا ، وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : هَذَا إذَا كَانَ شَابًّا قَادِرًا عَلَى الْجِمَاعِ ، فَإِنْ كَانَ شَيْخًا أَوْ عِنِّينًا فَحَدُّ الشَّهْوَةِ أَنْ يَتَحَرَّك قَلْبُهُ بِالِاشْتِهَاءِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُتَحَرِّكًا قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ يَزْدَادُ الِاشْتِهَاءُ إنْ كَانَ مُتَحَرِّكًا وَهَذَا إفْرَاطٌ .
وَكَانَ الْفَقِيهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ لَا يَعْتَبِرُ تَحَرُّكَ الْقَلْبِ وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ تَحَرُّكُ الْآلَةِ ، وَكَانَ لَا يُفْتِي بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْعِنِّينِ الَّذِي مَاتَتْ شَهْوَتُهُ حَتَّى لَمْ يَتَحَرَّكْ عُضْوُهُ بِالْمُلَامَسَةِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ .
وَقَوْلُهُ وَالْمُعْتَبَرُ النَّظَرُ ) ظَاهِرٌ ( وَلَوْ مَسَّ فَأَنْزَلَ فَقَدْ قِيلَ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ ) وَبِهِ كَانَ يُفْتِي شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْأُوزْجَنْدِيُّ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ يُثْبِتُ الْحُرْمَةَ ، فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ إنْ كَانَتْ لَا تُوجِبُ زِيَادَةَ الْحُرْمَةِ لَا تُوجِبُ خِلَافَهَا .
وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْكِتَابِ هُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَالْإِمَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ .
وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ فِي بَابِ إتْيَانِ الْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ مَأْتَاهَا مِنْ الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْجِمَاعَ فِي الدُّبُرِ لَا يُثْبِتُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ ، وَكَذَا النَّظَرُ إلَى مَوْضِعِ الْجِمَاعِ مِنْ الدُّبُرِ بِشَهْوَةٍ ( وَهَذَا أَصَحُّ لِمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ ) أَيْ الْمَسَّ ( بِالْإِنْزَالِ غَيْرُ مُفْضٍ إلَى الْوَطْءِ ) وَالْمَسُّ الْمُفْضِي إلَيْهِ هُوَ الْمُحَرَّمُ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ لَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ بِالْإِنْزَالِ : هُوَ أَنَّ الْحُرْمَةَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ كَانَ حُكْمُهَا مَوْقُوفًا إلَى أَنْ تَبَيَّنَ بِالْإِنْزَالِ ، فَإِنْ أَنْزَلَ لَمْ تَثْبُتْ وَإِلَّا ثَبَتَتْ ، لَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ تَثْبُتُ بِالْمَسِّ ، ثُمَّ بِالْإِنْزَالِ سَقَطَ مَا يَثْبُتُ مِنْ الْحُرْمَةِ لِأَنَّ مُوجِبَ الْمُصَاهَرَةِ إذَا ثَبَتَ لَا يَسْقُطُ أَبَدًا .
( وَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَةً طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ يَجُوزُ لِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ بِالْكُلِّيَّةِ إعْمَالًا لِلْقَاطِعِ ، وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ يَجِبُ الْحَدُّ .
وَلَنَا أَنَّ نِكَاحَ الْأُولَى قَائِمٌ لِبَقَاءِ بَعْضِ أَحْكَامِهِ كَالنَّفَقَةِ وَالْمَنْعِ وَالْفِرَاشِ وَالْقَاطِعُ تَأَخَّرَ عَمَلُهُ وَلِهَذَا بَقِيَ الْقَيْدُ ، وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ عَلَى إشَارَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ ، وَعَلَى عِبَارَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ يَجِبُ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ زَالَ فِي حَقِّ الْمِلْكِ فَيَتَحَقَّقُ الزِّنَا وَلَمْ يَرْتَفِعْ فِي حَقِّ مَا ذَكَرْنَا فَيَصِيرُ جَامِعًا .
قَالَ ( وَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ ) كَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ ( أَوْ ثَلَاثٍ جَازَ لِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ بِالْكُلِّيَّةِ ) لِأَنَّ الْقَاطِعَ وَهُوَ الطَّلَاقُ مَوْجُودٌ عَلَى الْكَمَالِ إذْ لَيْسَ فِيهِ شَائِبَةُ الرُّجُوعِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْمَالِهِ ، وَإِعْمَالُ الْقَاطِعِ الْكَامِلِ يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِالْكُلِّيَّةِ لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ ( وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ وَجَبَ الْحَدُّ .
وَلَنَا ) أَنَّا لَا نُسَلِّمُ انْقِطَاعَ النِّكَاحِ بِالْكُلِّيَّةِ ، فَإِنَّ ( النِّكَاحَ الْأَوَّلَ قَائِمٌ لِبَقَاءِ بَعْضِ أَحْكَامِهِ كَالنَّفَقَةِ وَالْمَنْعِ ) عَنْ الْخُرُوجِ ( وَالْفِرَاشِ ) وَهُوَ صَيْرُورَةُ الْمَرْأَةِ بِحَالٍ لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ فَإِنَّ هَذِهِ كَذَلِكَ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ لَا نِزَاعَ فِي بَقَاءِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ سِوَى النَّفَقَةِ وَلَا فِي كَوْنِهَا مُرَتَّبَةً عَلَى النِّكَاحِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ قَائِمًا حَالَ الْعِدَّةِ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْ عِلَّتِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ ، وَإِذَا كَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا كَانَ عَمَلُ الْقَاطِعِ مُتَأَخِّرًا كَمَا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَلِهَذَا بَقِيَ الْقَيْدُ ، فَلَوْ جَازَ نِكَاحُ الْأُخْتِ فِي الْعِدَّةِ لَزِمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَهُوَ حَرَامٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ وَجَبَ الْحَدُّ .
وَوَجْهُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ وُجُوبَهُ عَلَى إشَارَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ .
قَالَ : مُعْتَدَّةٌ عَنْ طَلَاقٍ ثَلَاثٍ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا لَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ لِلزَّوْجِ إذَا أَنْكَرَهُ ، فَفِي قَوْلِهِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ إذَا أَنْكَرَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْوَطْءَ فِي الْعِدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ ثَلَاثٍ لَا يَكُونُ
زِنًا ، إذْ لَوْ كَانَ زِنًا لَمَا ثَبَتَ بِهِ النَّسَبُ وَإِنْ ادَّعَى .
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ كِتَابِ الْحُدُودِ وَهِيَ مَا قَالَ : إنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا لَمْ يَدَّعِ الشُّبْهَةَ فَذَاكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمِلْكَ فِي حَقِّ الْحِلِّ قَدْ زَالَ فَيَتَحَقَّقُ الزِّنَا لِوُقُوعِ الْوَطْءِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ ، وَلَمْ يَزُلْ فِي حَقِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ النَّفَقَةِ وَالْمَنْعِ وَالْفِرَاشِ لِأَنَّا قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى بَقَاءِ الْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ وَالْفِرَاشِ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَاكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ بِقِيَامِ النِّكَاحِ فَقُلْنَا بِقِيَامِهِ فِي حَقِّ التَّزَوُّجِ بِالْأُخْتِ احْتِيَاطًا فِي التَّفَادِي عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ .
( وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمَوْلَى أَمَتَهُ وَلَا الْمَرْأَةُ عَبْدَهَا ) لِأَنَّ النِّكَاحَ مَا شُرِعَ إلَّا مُثْمِرًا ثَمَرَاتٍ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُتَنَاكِحَيْنِ ، وَالْمَمْلُوكِيَّة تُنَافِي الْمَالِكِيَّةَ فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ الثَّمَرَةِ عَلَى الشَّرِكَةِ .
قَالَ ( وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمَوْلَى أَمَتَهُ وَلَا الْمَرْأَةُ عَبْدَهَا ) خِلَافًا لِنُفَاةِ الْقِيَاسِ ، اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } وقَوْله تَعَالَى { فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ } ( وَلَنَا أَنَّ النِّكَاحَ مَا شُرِعَ إلَّا مُثْمِرًا ثَمَرَاتٍ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُتَنَاكِحَيْنِ ) يَعْنِي أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ لِلزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ حَقٌّ يَقْتَضِي مَالِكِيَّةَ الزَّوْجِ عَلَيْهَا كَطَلَبِ تَمْكِينِهِ مِنْ وَطْئِهَا وَدَوَاعِيهِ شَرْعًا وَالْمَنْعِ عَنْ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ وَالتَّحْصِينِ ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ لَهَا عَلَيْهِ حَقٌّ يَقْتَضِي مَالِكِيَّتَهَا عَلَيْهِ كَطَلَبِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ جَبْرًا وَالسُّكْنَى وَالْقَسْمِ وَالْمَنْعِ عَنْ الْعَزْلِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهَا الرَّاجِعَةِ إلَى الزَّوْجِيَّةِ ، فَكَانَ النِّكَاحُ مَشْرُوعًا لِإِيجَابِ هَذِهِ الثَّمَرَاتِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمَا ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالِكًا وَمَمْلُوكًا ، وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ لِأَنَّ الْمَالِكِيَّةَ تَقْتَضِي الْقَاهِرِيَّةَ وَالْمَمْلُوكِيَّة تَقْتَضِي الْمَقْهُورِيَّةَ وَلَا خَفَاءَ فِي التَّنَافِي بَيْنَهُمَا .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُمَا مِنْ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ ، وَلَا تَنَافِيَ حِينَئِذٍ .
وَأُجِيبَ بِمَنْعِ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ بِأَنَّ كَوْنَ الْمَرْأَةِ مَالِكَةً لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَبْدِ ، وَكَوْنَهَا مَمْلُوكَةً أَيْضًا إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَبْدِ فَلَمْ تَخْتَلِفْ الْجِهَةُ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْمَرْأَةُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا مَالِكَةً لِلْعَبْدِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَلَيْسَتْ بِمَالِكَةِ لِمَنَافِعِ بُضْعِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدُ بِالنِّكَاحِ عَلَى سَيِّدَتِهِ مَنَافِعَ بُضْعِهَا لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ عَلَى مِلْكِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مِنْ حَيْثُ مَنَافِعُ بُضْعِهِ مَمْلُوكًا ، وَلَا الْمَوْلَاةُ مِنْ حَيْثُ مَنَافِعُ بُضْعِهَا مَالِكَةٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ أَجْزَائِهَا فَاخْتَلَفَتْ الْجِهَةُ وَانْتَفَى التَّنَافِي .
وَالْجَوَابُ
أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَنَافِعَ بُضْعِهِ فَإِنَّهَا تَقْدِرُ عَلَى إتْلَافِهِ بِالْإِخْصَاءِ وَالْجَبِّ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ يَلْحَقُهَا ، فَكَانَ الْعَبْدُ مَمْلُوكًا مِنْ حَيْثُ فَرَضْته مَالِكًا فَاتَّحَدَتْ الْجِهَةُ وَتَحَقَّقَ التَّنَافِي .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ نُفَاةُ الْقِيَاسِ مِنْ الْآيَةِ فَبِأَنَّهَا يُعَارِضُهَا قَوْله تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } خَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَوَالِيَ بِإِنْكَاحِ الْإِمَاءِ لَا بِنِكَاحِهِنَّ .
فَإِنْ قِيلَ : الْآيَةُ سَاكِتَةٌ عَنْ بَيَانِ نِكَاحِهِنَّ وَالسَّاكِتُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ بَيَانٍ مَا يَحْتَجْنَ إلَيْهِ مِنْ أَمْرِ النِّكَاحِ ، وَالسُّكُوتُ عَنْ الْبَيَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ بَيَانٌ
( وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْكِتَابِيَّاتِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } أَيْ الْعَفَائِفُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكِتَابِيَّةِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى( وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْكِتَابِيَّاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( أَيْ الْعَفَائِفُ ) فَسَّرَهُ بِذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ فَسَّرَهَا بِالْمُسْلِمَاتِ ، وَلَيْسَتْ الْعِفَّةُ شَرْطًا لِجَوَازِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ ، وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } ؛ أَيْ وَأُحِلَّ لَكُمْ الْمُحْصَنَاتُ ، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَلَا خَفَاءَ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْحِلِّ ( وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكِتَابِيَّةِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ مِنْ بَعْدُ ) يَعْنِي بَعْدَ أَسْطُرٍ حَيْثُ قَالَ : وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ .
وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمَجُوسِيَّاتِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ } " قَالَ ( وَلَا الْوَثَنِيَّاتِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } .
( وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمَجُوسِيَّاتِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ } ) أَيْ اُسْلُكُوا بِهِمْ طَرِيقَتَهُمْ : يَعْنِي عَامِلُوهُمْ مُعَامَلَةَ هَؤُلَاءِ فِي إعْطَاءِ الْأَمَانِ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا ) يَجُوزُ تَزْوِيجُ ( الْوَثَنِيَّاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } ) وَهُوَ بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ الْوَثَنِيَّةَ وَهِيَ مَنْ تَعَبَّدَ الصَّنَمَ وَغَيْرَهَا .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مُشْرِكُونَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ، وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ { سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وَقَدْ ذُكِرَ فِي التَّيْسِيرِ وَالْكَشَّافِ أَنَّ اسْمَ أَهْلِ الشِّرْكِ يَقَعُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فَيَكُونُونَ دَاخِلِينَ تَحْتَ الْمُشْرِكِينَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ جَوَازَهُ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا } وَفِي قَوْلِهِ { لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ } وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ .
وَقَوْلُهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ اسْتِعَارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ تَبَعِيَّةٌ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ شَبَّهَ اتِّخَاذَهُمْ الْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ أَرْبَابًا بِإِشْرَاكِ الْمُشْرِكِينَ ، وَسَرَى ذَلِكَ إلَى الْفِعْلَيْنِ ثُمَّ تَرَكَ الْمُشَبَّهَ وَذَكَرَ الْمُشَبَّهَ بِهِ كَمَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : اتِّخَاذُهُمْ ذَلِكَ أَرْبَابًا عَيْنُ الشِّرْكِ لَا مُشَبَّهَ بِهِ .
قُلْت : فِيهِ الِاسْتِعَارَةُ التَّصْرِيحِيَّةُ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوهُمْ أَرْبَابًا حَقِيقَةً وَإِنَّمَا كَانُوا يُعَظِّمُونَهَا
تَعْظِيمَ الْأَرْبَابِ .
فَإِنْ قُلْت : فَمَا تَقُولُ فِي تَأْوِيلِ ابْنِ عُمَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ } بِالْآتِي أَسْلَمْنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ؟ قُلْت : لَسْنَا نَأْخُذُ بِهِ لِعَرَائِهِ إذْ ذَاكَ عَنْ الْفَائِدَةِ ، فَإِنَّ غَيْرَ الْكِتَابِيَّةِ أَيْضًا إذَا أَسْلَمْت حَلَّ نِكَاحُهَا ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً ، وَكَذَا عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ .
( وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الصَّابِئَاتِ إنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِدِينِ نَبِيٍّ وَيُقِرُّونَ بِكِتَابٍ ) لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( وَإِنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَلَا كِتَابَ لَهُمْ لَمْ تَجُزْ مُنَاكَحَتُهُمْ ) لِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ ، وَالْخِلَافُ الْمَنْقُولُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى اشْتِبَاهِ مَذْهَبِهِمْ ، فَكُلٌّ أَجَابَ عَلَى مَا وَقَعَ عِنْدَهُ ، وَعَلَى هَذَا حِلُّ ذَبِيحَتِهِمْ .قَالَ ( وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الصَّابِئَاتِ إنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِدِينِ نَبِيٍّ ) الصَّابِئَاتُ ، مِنْ صَبَأَ : إذَا خَرَجَ مِنْ الدِّينِ ، وَهُمْ قَوْمٌ عَدَلُوا عَنْ دِينِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة وَعَبَدُوا الْكَوَاكِبَ .
وَذُكِرَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُمْ جِنْسٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَالتَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ فِي حُكْمِهِمْ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَيْنِ التَّفْسِيرَيْنِ .
وَقَوْلُهُ وَالْخِلَافُ الْمَنْقُولُ فِيهِ ) يَعْنِي بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ أَنَّ أَنْكِحَتَهُمْ صَحِيحَةٌ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ( مَحْمُولٌ عَلَى اشْتِبَاهِ مَذْهَبِهِمْ ، فَكُلٌّ أَجَابَ بِمَا وَقَعَ عِنْدَهُ ) وَقَعَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ وَلَا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ لَكِنَّهُمْ يُعَظِّمُونَهَا كَتَعْظِيمِنَا الْقِبْلَةَ فِي الِاسْتِقْبَالِ إلَيْهَا .
وَوَقَعَ عِنْدَهُمَا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَلَا كِتَابَ لَهُمْ فَصَارُوا كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، فَإِذًا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ ، لِأَنَّهُمْ إنْ كَانُوا كَمَا قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ جَازَتْ مُنَاكَحَتُهُمْ عِنْدَهُمَا أَيْضًا ، وَإِنْ كَانُوا كَمَا قَالَا فَلَا تَجُوزُ مُنَاكَحَتُهُمْ عِنْدَهُ أَيْضًا .
وَحُكْمُ ذَبِيحَتِهِمْ عَلَى هَذَا .
قَالَ ( وَيَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَا فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ ، وَتَزْوِيجُ الْوَلِيِّ الْمُحْرِمِ وَلِيَّتَهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ .
لَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ } " وَلَنَا مَا رُوِيَ " { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ بِمَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ } " وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَطْءِ .قَالَ ( وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ ، وَتَزْوِيجُ الْوَلِيِّ الْمُحْرِمِ وَلِيَّتَهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ) لَهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ وَلَا يَخْطُبُ } ( وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ } ) قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
فَإِنْ قُلْت : النِّكَاحُ مِمَّا يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَجُوزَ عَلَى الْمُحْرِمِ قِيَاسًا عَلَى الْوَطْءِ إذَا كَانَ الْحَدِيثَانِ مُتَعَارِضَيْنِ .
قُلْت : مَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَطْءِ : أَيْ لَا يَطَأُ وَلَا تُمَكِّنُهُ الْمَرْأَةُ أَنْ يَطَأَهَا كَمَا هُوَ فِعْلُ الْبَعْضِ ، وَكَانَ الْقِيَاسُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ فَاسِدٌ
( وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ لِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْإِمَاءِ ضَرُورِيٌّ عِنْدَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الْجُزْءِ عَلَى الرِّقِّ ، وَقَدْ انْدَفَعَتْ الضَّرُورَةُ بِالْمُسْلِمَةِ وَلِهَذَا جَعَلَ طَوْلَ الْحُرَّةِ مَانِعًا مِنْهُ .
وَعِنْدَنَا الْجَوَازُ مُطْلَقٌ لِإِطْلَاقِ الْمُقْتَضَى ، وَفِيهِ امْتِنَاعٌ عَنْ تَحْصِيلِ الْجُزْءِ الْحُرِّ لَا إرْقَاقُهُ وَلَهُ أَنْ لَا يُحَصِّلَ الْأَصْلَ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ لَا يُحَصِّلَ الْوَصْفَ .
( وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ لِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْإِمَاءِ ضَرُورِيٌّ عِنْدَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الْجُزْءِ عَلَى الرِّقِّ ) إذْ الْوَلَدُ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَمَا يَثْبُتُ لِضَرُورَةٍ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالْمُسْلِمَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْكِتَابِيَّةِ ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِكَوْنِهِ ضَرُورِيًّا عِنْدَهُ ( جَعَلَ طُولَ الْحُرَّةِ مَانِعًا مِنْهُ ) أَيْ تَزَوُّجِ الْأَمَةِ لِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى تَزَوُّجِ الْحُرَّةِ ( وَعِنْدَنَا جَوَازُ نِكَاحِ الْأَمَةِ مُطْلَقٌ ) مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً ( لِإِطْلَاقِ الْمُقْتَضِي ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } وَقَوْلُهُ { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ الَّذِي هُوَ أَبْدَاهُ وَهُوَ تَعْرِيضُ الْجُزْءِ عَلَى الرِّقِّ ( لِأَنَّ فِيهِ ) أَيْ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى نِكَاحِ الْأَمَةِ ( امْتِنَاعًا عَنْ تَحْصِيلِ الْجُزْءِ الْحُرِّ لَا إرْقَاقُهُ ) لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ ، وَبَعْدَ وُجُودِ الْمَاءِ فَهُوَ مَوَاتٌ لَا يُوصَفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ إلَّا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ ، وَالِامْتِنَاعُ عَنْهُ لَيْسَ بِمَانِعٍ شَرْعًا لِأَنَّ لَهُ أَنْ لَا يُحَصِّلَ الْأَصْلَ بِالْعَزْلِ بِرِضَا الْمَرْأَةِ وَبِتَزَوُّجِ الْعَجُوزِ وَالْعَقِيمِ فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ لَا يُحَصِّلَ وَصْفَ الْحُرِّيَّةِ بِتَزَوُّجِ الْأَمَةِ أَوْلَى
( وَلَا يَتَزَوَّجُ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ } " وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَجْوِيزِهِ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ ، وَعَلَى مَالِكٍ فِي تَجْوِيزِهِ ذَلِكَ بِرِضَا الْحُرَّةِ ، وَلِأَنَّ لِلرِّقِّ أَثَرًا فِي تَنْصِيفِ النِّعْمَةِ عَلَى مَا نُقَرِّرُهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَيَثْبُتُ بِهِ حِلُّ الْمَحَلِّيَّةِ فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ دُونَ حَالَةِ الِانْضِمَامِ ( وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْحُرَّةِ عَلَيْهَا ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَتُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ } " وَلِأَنَّهَا مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ إذْ لَا مُنَصِّفَ فِي حَقِّهَا .
( وَلَا يَتَزَوَّجُ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ ) سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ بِرِضَا الْحُرَّةِ .
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ تَزَوُّجَ الْأَمَةِ مَمْنُوعٌ لِمَعْنًى فِي الْمُتَزَوِّجِ إذَا كَانَ حُرًّا وَهُوَ تَعْرِيضُ جُزْئِهِ عَلَى الرِّقِّ مَعَ الْغَنِيَّةِ عَنْهُ وَهُوَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ رَقِيقٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ .
وَوَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْمَنْعَ لِحَقِّ الْحُرَّةِ فَإِذَا رَضِيَتْ فَقَدْ أَسْقَطَتْ حَقَّهَا .
وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي مَبْسُوطِهِ : بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ } وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الرَّأْيَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ .
فَإِنْ قُلْت : جَوَّزْتُمْ نِكَاحَ الْأَمَةِ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً بِإِطْلَاقِ الْمُقْتَضَى عَلَى مَا تَلَوْتُمْ فَهَلَّا جَوَّزْتُمْ نِكَاحَهَا عَلَى الْحُرَّةِ بِذَلِكَ ؟ قُلْت : جَوَّزْنَا هُنَاكَ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَهَاهُنَا وَإِنْ كَانَ الْمُقْتَضِي مَوْجُودًا لَكِنَّ الْمَانِعَ غَيْرُ مُنْتَفٍ ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( وَلِأَنَّ لِلرِّقِّ أَثَرًا فِي تَنْصِيفِ النِّعْمَةِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الطَّلَاقِ فَيَثْبُتُ بِهِ حِلُّ الْمَحَلِّيَّةِ فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ دُونَ حَالَةِ الِانْضِمَامِ ) وَلَا عَلَيْنَا أَنْ نُقَرِّرَهُ هَاهُنَا .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْحِلَّ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَقْدُ النِّكَاحِ نِعْمَةٌ جَدِيدَةٌ فِي جَانِبِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا ، وَكَمَا يَتَنَصَّفُ ذَلِكَ الْحِلُّ بِرِقِّ الرَّجُلِ حَتَّى يَتَزَوَّجَ الْعَبْدُ ثِنْتَيْنِ وَالْحُرُّ أَرْبَعًا فَكَذَلِكَ يَتَنَصَّفُ بِرِقِّ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الرِّقَّ هُوَ الْمُنَصِّفُ وَهُوَ يَشْمَلُهُمَا ، وَلَا يُمْكِنُ إظْهَارُ هَذَا التَّنْصِيفِ فِي جَانِبِهَا بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِوَاحِدٍ ، فَظَهَرَ التَّنْصِيفُ بِاعْتِبَارِ
الْحَالَةِ ، فَبَعْدَ ذَلِكَ نَقُولُ : الْأَحْوَالُ ثَلَاثٌ : حَالُ مَا قَبْلَ نِكَاحِ الْحُرَّةِ ، وَحَالُ مَا بَعْدَهُ ، وَحَالُ الْمُقَارَنَةِ ، وَلَكِنَّ الْحَالَ الْوَاحِدَةَ لَا تَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَتُغَلَّبُ الْحُرْمَةُ عَلَى الْحِلِّ فَتُجْعَلُ مُحَلَّلَةً سَابِقَةً عَلَى الْحُرَّةِ وَمُحَرَّمَةً مُقْتَرِنَةً بِالْحُرَّةِ أَوْ مُتَأَخِّرَةً عَنْهَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ بُطْلَانُ التَّنْصِيفِ بِالرِّقِّ الثَّابِتِ بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ مَانِعٌ عَنْ الْعَمَلِ بِإِطْلَاقِ الْمُقْتَضِي فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ غَرِيبٌ وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْحُرَّةِ عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَتُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ } وَلِأَنَّهَا مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ لِعَدَمِ الْمُنَصِّفِ فِي حَقِّهَا ) فَجَازَ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِ الْمُقْتَضِي عِنْدَ انْتِفَاءِ الْمَانِعِ