كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني
وقد ذكر هنا : { أرأيت } ثلاث مرات ، وصرح بعد الثالثة منها . بجملة استفهامية ، فتكون في موضع المفعول الثاني لها ، ومفعولها الأوّل محذوف ، وهو ضمير يعود على { الذي ينهى } الواقع مفعولاً أوّل ل { أرأيت } الأولى ، ومفعول { أرأيت } الأولى الثاني محذوف ، وهو جملة استفهامية كالجملة الواقعة بعد { أرأيت } الثانية . وأما { أرأيت } الثانية فلم يذكر لها مفعول لا أوّل ، ولا ثاني ، حذف الأوّل لدلالة مفعول { أرأيت } الثالثة عليه فقد حذف الثاني من الأولى ، والأول من الثالثة ، والاثنان من الثانية ، وليس طلب كل من رأيت للجملة الاستفهامية على سبيل التنازع؛ لأنه يستدعي إضماراً ، والجمل لا تضمر ، إنما تضمر المفردات ، وإنما ذلك من باب الحذف للدلالة ، وأما جواب الشرط المذكور مع { أرأيت } في الموضعين الآخرين . فهو محذوف تقديره : إن كان على الهدى ، أو أمر بالتقوى : { أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى } ، وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني . ومعنى : { أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى } أي : يطلع على أحواله ، فيجازيه بها ، فكيف اجترأ على ما اجترأ عليه؟ والاستفهام للتقريع والتوبيخ . وقيل : { أرأيت } الأولى مفعولها الأوّل الموصول ، ومفعولها الثاني الشرطية الأولى بجوابها المحذوف المدلول عليه بالمذكور . و { أرأيت } في الموضعين تكرير للتأكيد . وقيل كل واحدة من { أرأيت } بدل من الأولى . و : { أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى } الخبر .
قوله { كَلاَّ } ردع للناهي ، واللام في قوله : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ } هي الموطئة للقسم ، أي : والله لئن لم ينته عما هو عليه ولم ينزجر { لَنَسْفَعاً بالناصية } السفع الجذب الشديد ، والمعنى : لنأخذنّ بناصيته ، ولنجرّنه إلى النار . وهذا كقوله : { فَيُؤْخَذُ بالنواصى والاقدام } [ الرحمن : 41 ] ويقال سفعت الشيء : إذا قبضته وجذبته . . ويقال : سفع بناصية فرسه . قال الراغب : السفع الأخذ بسفعة الفرس ، أي : بسواد ناصيته ، وباعتبار السواد : قيل : به سفعة غضب اعتباراً بما يعلو من اللون الدخاني وجه من اشتدّ به الغضب ، وقيل للصقر أسفع لما فيه من لمع السواد ، وامرأة سفعاء اللون انتهى . وقيل : هو مأخوذ من سفع النار والشمس : إذا غيرت وجهه إلى سواد . ومنه قول الشاعر :
أثافيّ سفعاً في معرّس مرجل ... وقوله : { نَاصِيَةٍ } بدل من الناصية . وإنما أبدل النكرة من المعرفة لوصفها بقوله : { كاذبة خَاطِئَةٍ } وهذا على مذهب الكوفيين فإنهم لا يجيزون إبدال النكرة من المعرفة إلا شرط وصفها . وأما على مذهب البصريين ، فيجوز إبدال النكرة من المعرفة ، وأنشدوا :
فلا وأبيك خير منك إني ... ليؤذيني التحمحم والصهيل
قرأ الجمهور بجرّ : { ناصية كاذبة خاطئة } والوجه ما ذكرنا . وقرأ الكسائي في رواية عنه برفعها على إضمار مبتدأ ، أي : هي ناصية ، وقرأ أبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، وزيد بن عليّ بنصبها على الذمّ .
قال مقاتل : أخبر عنه بأنه فاجر خاطىء ، فقال : ناصية كاذبة خاطئة ، تأويلها : صاحبها كاذب خاطىء . { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } أي : أهل ناديه . والنادي : المجلس الذي يجلس فيه القوم ، ويجتمعون فيه من الأهل والعشيرة . والمعنى : ليدع عشيرته وأهله ليعينوه وينصروه ، ومنه قول الشاعر :
واستبّ بعدك يا كليب المجلس ... أي : أهله . قيل : إن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتهدّدني وأنا أكثر الوادي نادياً؟ فنزلت : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزبانية } أي : الملائكة الغلاظ الشداد ، كذا قال الزجاج . قال الكسائي ، والأخفش وعيسى بن عمر : واحدهم زابن . وقال أبو عبيدة : زبنية . وقيل : زباني . وقيل : هو اسم للجمع لا واحد له من لفظه كعباديد وأبابيل . وقال قتادة : هم الشرط في كلام العرب ، وأصل الزبن الدفع ، ومنه قول الشاعر :
ومستعجب مما يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم
والعرب تطلق هذا الاسم على من اشتدّ بطشه ، ومنه قول الشاعر :
مطاعيم في القصوى مطاعين في الوغى ... زبانية غلب عظام حلومها
قرأ الجمهور : { سندع } بالنون ، ولم ترسم الواو ، كما في قوله : { يَوْمَ يَدْعُو الداع } [ القمر : 6 ] وقرأ ابن أبي عبلة : ( سيدعى ) على البناء للمفعول ، ورفع الزبانية على النيابة . ثم كرّر الردع والزجر فقال : { كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ } أي : لا تطعه فيما دعاك إليه من ترك الصلاة : { واسجد } أي : صلّ لله غير مكترث به ، ولا مبال بنهيه : { واقترب } أي : تقرّب إليه سبحانه بالطاعة والعبادة . وقيل المعنى : إذا سجدت اقترب من الله بالدعاء . وقال زيد بن أسلم : واسجد أنت يا محمد ، واقترب أنت يا أبا جهل من النار . والأوّل أولى . والسجود هذا الظاهر أن المراد به الصلاة ، وقيل سجود التلاوة ، ويدلّ على هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من السجود عند تلاوة هذه الآية ، كما سيأتي إن شاء الله .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وأبو نعيم في الدلائل عن عبد الله بن شداد قال : «أتى جبريل محمداً صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد اقرأ . فقال : وما أقرأ؟ فضمه ثم قال : يا محمد اقرأ ، قال : وما أقرأ؟ قال : { اقرأ باسم رَبّكَ الذى خَلَقَ } حتى بلغ : { مَا لَمْ يَعْلَمْ } » . وفي الصحيحين : وغيرهما من حديث عائشة فجاءه الملك ، فقال : اقرأ ، فقال : " قلت ما أنا بقارىء ، " قال : " فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني " فقال : اقرأ ، فقلت : " ما أنا بقارىء ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني " فقال : اقرأ ، فقلت : " ما أنا بقارىء ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ منى الجهد " فقال : { اقرأ باسم رَبّكَ الذى خَلَقَ * خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ * اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم * الذى عَلَّمَ بالقلم } الآية .
وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن ابن عباس قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لأطأنّ عنقه ، فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : " لو فعل لأخذته الملائكة عياناً " وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي وصححه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي عنه قال : «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي ، فجاء أبو جهل فقال : ألم أنهك عن هذا؟ إنك لتعلم أن ما بها رجل أكثر نادياً مني . فأنزل الله : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزبانية } فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي ، فقيل : ما يمنعك؟ فقال : قد اسودّ ما بيني وبينه» . قال ابن عباس : والله لو تحرّك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه .
وأخرج أحمد ، ومسلم ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا : نعم ، قال : واللات والعزّى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأنّ على رقبته ، ولأعفرن وجهه في التراب فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأنّ على رقبته ، قال : فما فجأهم منه إلاّ وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيده ، فقيل له مالك؟ فقال : إن بيني وبينه خندقاً من نار وهولاً وأجنحة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً " قال : وأنزل الله : { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّءاهُ استغنى } إلى آخر السورة . يعني أبا جهل { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } يعني قومه . { سَنَدْعُ الزبانية } يعني الملائكة ، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { أَرَأَيْتَ الذى ينهى * عبداً إِذَا صلى } قال : أبو جهل بن هشام حين رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلى على ظهره وهو ساجد لله عزّ وجلّ . وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { لَنَسْفَعاً } قال : لنأخذن . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } قال : ناصره . وقد قدّمنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسجد في : { إِذَا السماء انشقت } [ الإِنشقاق : 1 ] وفي : { اقرأ باسم رَبّكَ الذى خَلَقَ } .
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
الضمير في : { أنزلناه } للقرآن ، وإن لم يتقدّم له ذكر . أنزل جملة واحدة في ليلة القدر إلى سماء الدنيا من اللوح المحفوظ ، وكان ينزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم نجوماً على حسب الحاجة ، وكان بين نزول أوّله وآخره على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث وعشرون سنة ، وفي آية أخرى : { إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةٍ مباركة } [ الدخان : 3 ] وهي : ليلة القدر؛ وفي آية أخرى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن } [ البقرة : 185 ] وليلة القدر في شهر رمضان . قال مجاهد : في ليلة القدر ليلة الحكم . { وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر } ليلة الحكم ، قيل سميت ليلة القدر لأن الله سبحانه يقدّر فيها ما شاء من أمره إلى السنة القابلة . وقيل : إنها سميت بذلك لعظيم قدرها وشرفها ، من قولهم : لفلان قدر ، أي : شرف ومنزلة ، كذا قال الزهري . وقيل : سميت بذلك لأن للطاعات فيها قدراً عظيماً ، وثواباً جزيلاً . وقال الخليل : سميت ليلة القدر؛ لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة ، كقوله : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] أي ضيق .
وقد اختلف في تعيين ليلة القدر على أكثر من أربعين قولاً ، قد ذكرناها بأدلتها ، وبينا الراجح منها في شرحنا للمنتقى .
{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر } هذا الاستفهام فيه تفخيم لشأنها حتى كأنها خارجة عن دراية الخلق لا يدري بها إلاّ الله سبحانه . قال سفيان : كلّ ما في القرآن من قوله : وما أدراك ، فقد أدراه ، وكلّ ما فيه { وما يدريك } [ عبس : 3 ] ، فلم يدره ، وكذا قال الفراء . والمعنى : أيّ شيء تجعله دارياً بها؟ وقد قدّمنا الكلام في إعراب هذه الجملة في قوله { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحاقة } [ الحاقة : 3 ] ثم قال : { لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } قال كثير من المفسرين ، أي : العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر . واختار هذا الفراء ، والزجاج ، ولك أن الأوقات إنما يفضل بعضها على بعض بما يكون فيها من الخير والنفع . فلما جعل الله الخير الكثير في ليلة كانت خيراً من ألف شهر لا يكون فيها من الخير والبركة ما في هذه الليلة . وقيل : أراد بقوله ألف شهر جميع الدهر؛ لأن العرب تذكر الألف في كثير من الأشياء على طريق المبالغة . وقيل : وجه ذكر الألف الشهر أن العابد كان فيما مضى لا يسمى عابداً حتى يعبد الله ألف شهر ، وذلك ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر ، فجعل الله سبحانه لأمة محمد عبادة ليلة خيراً من عبادة ألف شهر كانوا يعبدونها . وقيل : إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى أعمار أمته قصيرة ، فخاف أن لا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر ، فأعطاه الله ليلة القدر وجعلها خيراً من ألف شهر لسائر الأمم .
وقيل : غير ذلك مما لا طائل تحته .
وجملة : { تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم } مستأنفة مبينة لوجه فضلها موضحة للعلة التي صارت بها خيراً من ألف شهر .
وقوله : { بِإِذْنِ رَبّهِمْ } يتعلق ب { تنزل } ، أو بمحذوف ، هو حال ، أي : ملتبسين بإذن ربهم ، والإذن الأمر ، ومعنى { تنزل } : تهبط من السماوات إلى الأرض . والروح هو جبريل عند جمهور المفسرين ، أي : تنزل الملائكة ومعهم جبريل ، ووجه ذكره بعد دخوله في الملائكة التعظيم له والتشريف لشأنه . وقيل الرّوح صنف من الملائكة هم أشرافهم . وقيل هم جند من جنود الله من غير الملائكة . وقيل : الروح الرحمة ، وقد تقدّم الخلاف في الروح عند قوله : { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً } [ النبأ : 38 ] . قرأ الجمهور : { تنزل } بفتح التاء ، وقرأ طلحة بن مصرف ، وابن السميفع بضمها على البناء للمفعول ، وقوله : { مّن كُلّ أَمْرٍ } أي : من أجل كلّ أمر من الأمور التي قضى الله بها في تلك السنة . وقيل : إن { من } بمعنى اللام ، أي : لكلّ أمر . وقيل : هي بمعنى الباء ، أي : بكلّ أمر ، قرأ الجمهور : { أمر } وهو واحد الأمور ، وقرأ عليّ ، وابن عباس ، وعكرمة ، والكلبي : ( امرىء ) مذكر امرأة ، أي : من أجل كلّ إنسان ، وتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل مع الملائكة ، فيسلمون على كلّ إنسان ، فمن على هذا بمعنى على ، والأوّل أولى .
وقد تمّ الكلام عند قوله من كلّ أمر ، ثم ابتدأ فقال : { سلام هِىَ } أي : ما هي إلاّ سلامة وخير كلها لا شرّ فيها . وقيل : هي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن أو مؤمنة . قال مجاهد : هي ليلة سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً ولا أذى . وقال الشعبي : هو تسليم الملائكة على أهل المساجد من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر يمرّون على كلّ مؤمن ويقولون السلام عليك أيها المؤمن . وقيل : يعني سلام الملائكة بعضهم على بعض . قال عطاء : يريد سلام على أولياء الله ، وأهل طاعته : { حتى مَطْلَعِ الفجر } أي : حتى وقت طلوعه . قرأ الجمهور : { مطلع } بفتح اللام . وقرأ الكسائي ، وابن محيصن بكسرها . فقيل : هما لغتان في المصدر ، والفتح أكثر نحو المخرج والمقتل . وقيل : بالفتح اسم مكان ، وبالكسر المصدر . وقيل : العكس ، و « حتى » متعلقة يتنزل على أنها غاية لحكم التنزل ، أي : لمكثهم في محل تنزلهم بأن لا ينقطع تنزلهم فوجاً بعد فوج إلى طلوع الفجر . وقيل متعلقة ب { سلام } بناءً على أن الفصل بين المصدر ، ومعموله بالمبتدأ مغتفر .
وقد أخرج ابن الضريس ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر } قال : أنزل القرآن في ليلة القدر حتى وضع في بيت العزّة في السماء الدنيا ، ثم جعل جبريل ينزل على محمد بجواب كلام العباد وأعمالهم .
وأخرج عبد بن حميد عن أنس قال : العمل في ليلة القدر ، والصدقة ، والصلاة ، والزكاة أفضل من ألف شهر . وأخرج الترمذي وضعفه ، وابن جرير ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أري بني أمية على منبره ، فساءه ذلك ، فنزلت : { إِنَّا أعطيناك الكوثر } [ الكوثر : 1 ] يا محمد . يعني نهراً في الجنة ، ونزلت : { إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر * لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } يملكها بعدك بنو أمية .
قال القاسم : فعددنا فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً ، ولا تنقص يوماً ، والمراد بالقاسم هو القاسم بن الفضل المذكور في إسناده . قال الترمذي : إن يوسف هذا مجهول ، يعني يوسف بن سعد الذي رواه عن الحسن بن عليّ . قال ابن كثير : فيه نظر ، فإنه قد روى عنه جماعة : منهم حماد بن سلمة ، وخالد الحذاء ، ويونس بن عبيد . وقال فيه يحيى بن معين هو مشهور . وفي رواية عن ابن معين قال : هو ثقة ، ورواه ابن جرير من طريق القاسم بن الفضل عن عيسى بن مازن . قال ابن كثير ، ثمّ هذا الحديث على كلّ تقدير منكر جداً . قال المزي : هو حديث منكر ، وقول القاسم بن الفضل إنه حسب مدة بني أمية فوجدها ألف شهر لا تزيد ، ولا تنقص ليس بصحيح ، فإن جملة مدّتهم من عند أن استقلّ بالملك معاوية ، وهي سنة أربعين إلى أن سلبهم الملك بنو العباس ، وهي سنة اثنين وثلاثين ومائة مجموعها اثنتان وتسعون سنة .
وأخرج الخطيب في تاريخه عن ابن عباس نحو ما روي عن الحسن بن عليّ . وأخرج الخطيب عن سعيد بن المسيب مرفوعاً مرسلاً نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، عن ابن عباس في قوله : { سلام } قال : في تلك الليلة تصفد مردة الشياطين ، وتغلّ عفاريت الجنّ ، وتفتح فيها أبواب السماء كلها ، ويقبل الله فيها التوبة لكلّ تائب ، فلذا قال : { سلام هِىَ حتى مَطْلَعِ الفجر } قال : وذلك من غروب الشمس إلى أن يطلع الفجر ، والأحاديث في فضل ليلة القدر كثيرة ، وليس هذا موضع بسطها ، وكذلك الأحاديث في تعيينها ، والاختلاف في ذلك .
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
المراد ب { الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب } : اليهود والمراد ب { المشركين } : مشركو العرب ، وهم عبدة الأوثان . و { مُنفَكّينَ } خبر كان . يقال فككت الشيء فانفك ، أي انفصل . والمعنى : أنهم لم يكونوا مفارقين لكفرهم ، ولا منتهين عنه . { حتى تَأْتِيَهُمُ البينة } وقيل : الانفكاك بمعنى الانتهاء وبلوغ الغاية ، أي : لم يكونوا يبلغون نهاية أعمارهم ، فيموتوا حتى تأتيهم البينة . وقيل : منفكين زائلين ، أي : لم تكن مدّتهم؛ لتزول حتى تأتيهم البينة ، يقال ما انفك فلان قائماً ، أي : ما زال قائماً ، وأصل الفكّ الفتح . ومنه فكّ الخلخال . وقيل : منفكين بارحين . أي : لم يكونوا ليبرحوا أو يفارقوا الدنيا حتى تأتيهم البينة . وقال ابن كيسان : المعنى لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى الله عليه وسلم حتى بعث . فلما بعث حسدوه وجحدوه ، وهو كقوله : { فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [ البقرة : 89 ] وعلى هذا فيكون قوله : { والمشركين } أنهم ما كانوا يسيئون القول في محمد صلى الله عليه وسلم حتى بعث ، فإنهم كانوا يسمونه « الأمين » ، فلما بعث عادوه وأساءوا القول فيه . وقيل : مُنفَكّينَ هالكين . من قولهم : انفكّ صلبه ، أي : انفصل . فلم يلتئم فيهلك ، والمعنى : لم يكونوا معذبين ، ولا هالكين إلاّ بعد قيام الحجة عليهم . وقيل : إن المشركين هم أهل الكتاب ، فيكون وصفاً لم؛ لأنهم قالوا المسيح ابن الله ، وعزير ابن الله .
قال الواحدي : ومعنى الآية : إخبار الله تعالى عن الكفار أنهم لن ينتهوا عن كفرهم ، وشركهم بالله حتى أتاهم محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن ، فبيّن لهم ضلالتهم وجهالتهم ، ودعاهم إلى الإيمان ، وهذا بيان عن النعمة ، والإنقاذ به من الجهل والضلالة ، والآية فيمن آمن من الفريقين . قال : وهذه الآية من أصعب ما في القرآن نظماً وتفسيراً ، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء ، وسلكوا في تفسيرها طرقاً لا تفضي بهم إلى الصواب . والوجه ما أخبرتك ، فاحمد الله إذ أتاك بيانها من غير لبس ولا إشكال . قال : ويدلّ على أن البينة محمد صلى الله عليه وسلم أنه فسرها وأبدل منها فقال : { رَسُولٌ مّنَ الله يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } يعني : ما تتضمنه الصحف من المكتوب فيها ، وهو القرآن ، ويدلّ على ذلك أنه كان يتلو عن ظهر قلبه ، لا عن كتاب انتهى كلامه . وقيل : إن الآية حكاية لما كان يقوله أهل الكتاب والمشركون إنهم لا يفارقون دينهم حتى يبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم الموعود به ، فلما بعث تفرّقوا ، كما حكاه الله عنهم في هذه السورة . والبينة على ما قاله الجمهور هو : محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه في نفسه بينة وحجة ، ولذلك سماه سراجاً منيراً ، وقد فسر الله سبحانه هذه البينة المجملة بقوله : { رَسُولٌ مّنَ الله } فاتضح الأمر ، وتبين أنه المراد بالبينة .
وقال قتادة ، وابن زيد : البينة هي القرآن كقوله : { أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا فِى الصحف الأولى } [ طه : 133 ] وقال أبو مسلم : المراد بالبينة مطلق الرسل ، والمعنى : حتى تأتيهم رسل من الله ، وهم الملائكة يتلون عليهم صحفاً مطهرة ، والأوّل أولى .
قرأ الجمهور : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } وقرأ ابن مسعود : ( لم يكن المشركون وأهل الكتاب ) . قال ابن العربي : وهي : قراءة في معرض البيان ، لا في معرض التلاوة . وقرأ الأعمش ، والنخعي : « والمشركون » بالرفع عطفاً على الموصول . وقرأ أبيّ : ( فما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون ) . قرأ الجمهور : { رسول من الله } برفع { رسول } على أنه بدل كل من كلّ مبالغة ، أو بدل اشتمال . قال الزجاج : رسول رفع على البدل من البينة . وقال الفراء : رفع على أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هي رسول ، أو هو رسول . وقرأ أبيّ ، وابن مسعود : ( رسولاً ) بالنصب على القطع ، وقوله : { مِنَ الله } متعلق بمحذوف هو صفة لرسول ، أي : كائن من الله ، ويجوز تعلقه بنفس رسول ، وجوّز أبو البقاء أن يكون حالاً « من صحف » . والتقدير : يتلو صحفاً مطهرة منزلة من الله . وقوله : { يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } يجوز أن تكون صفة أخرى لرسول ، أو حالاً من متعلق الجار والمجرور قبله . ومعنى { يتلو } : يقرأ ، يقال تلا يتلو تلاوة ، والصحف جمع صحيفة . وهي ظرف المكتوب . ومعنى { مطهرة } : أنها منزّهة من الزور والضلال . قال قتادة : مطهرة من الباطل . وقيل : مطهرة من الكذب ، والشبهات ، والكفر ، والمعنى واحد؛ والمعنى : أنه يقرأ ما تتضمنه الصحف من المكتوب فيها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتلو عن ظهر قلبه ، لا عن كتاب كما تقدّم .
وقوله : { فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ } صفة ل { صحفاً } ، أو حال من ضميرها ، والمراد الآيات ، والأحكام المكتوبة فيها ، والقيمة المستقيمة المستوية المحكمة ، من قول العرب : قام الشيء : إذا استوى وصحّ . وقال صاحب النظم : الكتب بمعنى الحكم كقوله : { كَتَبَ الله لأغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [ المجادلة : 21 ] أي : حكم . وقوله صلى الله عليه وسلم في قصة العسيف : « لأقضين بينكما بكتاب الله » ثم قضى بالرجم ، وليس الرجم في كتاب الله ، فالمعنى : لأقضينّ بينكما بحكم الله ، وبهذا يندفع ما قيل : إن الصحف هي الكتب ، فكيف قال : { صُحُفاً مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ } وقال الحسن : يعني : بالصحف المطهرة التي في السماء ، يعني في اللوح المحفوظ ، كما في قوله : { بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ * فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [ البروج : 21 ، 22 ] .
{ وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة } هذه الجملة مستأنفة لتوبيخ أهل الكتاب وتقريعهم ، وبيان أن ما نسب إليهم من عدم الانفكاك لم يكن لاشتباه الأمر ، بل كان بعد وضوح الحق ، وظهور الصواب .
قال المفسرون : لم يزل أهل الكتاب مجتمعين حتى بعث الله محمداً . فلما بعث تفرقوا في أمره واختلفوا ، فآمن به بعضهم ، وكفر آخرون . وخصّ أهل الكتاب ، وإن كان غيرهم مثلهم في التفرّق بعد مجيء البينة؛ لأنهم كانوا أهل علم ، فإذا تفرّقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف ، والاستثناء في قوله : { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة } مفرّغ من أعم الأوقات ، أي : وما تفرّقوا في وقت من الأوقات إلاّ من بعد ما جاءتهم الحجة الواضحة ، وهي : بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشريعة الغرّاء ، والمحجة البيضاء . وقيل البينة : البيان الذي في كتبهم أنه نبيّ مرسل كقوله : { وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم } [ آل عمران : 19 ] قال القرطبي : قال العلماء : من أوّل السورة إلى قوله : { كُتُبٌ قَيّمَةٌ } حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين . وقوله : { وَمَا تَفَرَّقَ . . } إلخ فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب والمشركين بعد قيام الحجج .
وجملة : { وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله } في محل نصب على الحال مفيدة؛ لتقريعهم وتوبيخهم بما فعلوا من التفرّق بعد مجيء البينة ، أي : والحال أنهم ما أمروا في كتبهم إلاّ لأجل أن يعبدوا الله ، ويوحدوه حال كونهم { مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } أي : جاعلين دينهم خالصاً له سبحانه ، أو جاعلين أنفسهم خالصة له في الدين . وقيل : إن اللام في : { ليعبدوا } بمعنى « أن » ، أي : ما أمروا إلاّ بأن يعبدوا كقوله : { يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ } [ النساء : 26 ] أي : أن يبيّن ، و { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله } [ الصف : 8 ] أي : أن يطفئوا . قرأ الجمهور : { مخلصين } بكسر اللام . وقرأ الحسن بفتحها . وهذه الآية من الأدلة الدالة على وجوب النية في العبادات؛ لأن الإخلاص من عمل القلب . وانتصاب { حُنَفَاء } على الحال من ضمير { مخلصين } ، فتكون من باب التداخل ، ويجوز أن تكون من فاعل « يعبدوا » ، والمعنى : مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام . قال أهل اللغة : أصله أن يحنف إلى دين الإسلام ، أي : يميل إليه . { وَيُقِيمُواْ الصلاة وَيُؤْتُواْ الزكواة } أي : يفعلوا الصلوات في أوقاتها ، ويعطوا الزكاة عند محلها ، وخصّ الصلاة والزكاة؛ لأنهما من أعظم أركان الدين . قيل : إن أريد بالصلاة والزكاة ما في شريعة أهل الكتاب من الصلاة والزكاة ، فالأمر ظاهر . وإن أريد ما في شريعتنا ، فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أمرهم باتباع شريعتنا ، وهما : من جملة ما وقع الأمر به فيها . { وَذَلِكَ دِينُ القيمة } أي : وذلك المذكور من عبادة الله ، وإخلاصها ، وإقامة الصلاة ، والزكاة { دِينُ القيمة } أي : دين الملة المستقيمة . قال الزجاج : أي ذلك دين الملة المستقيمة ، فالقيمة صفة لموصوف محذوف . قال الخليل : القيمة جمع القيم ، والقيم : القائم .
قال الفرّاء : أضاف الدين إلى القيمة . وهو نعته لاختلاف اللفظين . وقال أيضاً : هو من إضافة الشيء إلى نفسه ، ودخلت الهاء للمدح والمبالغة .
ثم بيّن سبحانه حال الفريقين في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا فقال : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين فِى نَارِ جَهَنَّمَ } . الموصول اسم « إنّ » ، و { المشركين } معطوف عليه ، وخبرها { في نار جهنم } ، و { خالدين فِيهَا } حال من المستكنّ في الخبر . ويجوز أن يكون قوله : و { المشركين } مجروراً عطفاً على أهل الكتاب . ومعنى كونهم في نار جهنم أنهم يصيرون إليها يوم القيامة ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى من تقدّم ذكرهم من أهل الكتاب ، والمشركين المتصفين بالكون في نار جهنم ، والخلود فيها { هُمْ شَرُّ البرية } أي : الخليقة ، يقال برأ ، أي : خلق . والبارىء الخالق . والبرية الخليقة . قرأ الجمهور : { البرية } بغير همز في الموضعين . وقرأ نافع ، وابن ذكوان فيها بالهمز . قال الفرّاء : إن أخذت البرية من البراء ، وهو التراب لم تدخل الملائكة تحت هذا اللفظ ، وإن أخذتها من بريت القلم ، أي : قدّرته دخلت . وقيل : إن الهمز هو الأصل ، لأنه يقال برأ الله الخلق بالهمز ، أي : ابتدعه واخترعه ومنه قوله : { مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا } [ الحديد : 22 ] ولكنها خففت الهمزة ، والتزم تخفيفها عند عامة العرب .
ثم بيّن حال الفريق الآخر فقال : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي : جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح { أولئك } المنعوتون بهذا { هُمْ خَيْرُ البرية } قال : والمراد أن أولئك شرّ البرية في عصره صلى الله عليه وسلم . ولا يبعد أن يكون كفار الأمم من هو شرّ منهم ، وهؤلاء خير البرية في عصره صلى الله عليه وسلم ولا يبعد أن يكون في مؤمني الأمم السابقة من هو خير منهم . { جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ } أي ثوابهم عند خالقهم بمقابلة ما وقع منهم من الإيمان ، والعمل الصالح { جنات عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } . والمراد بجنات عدن : هي أوسط الجنات وأفضلها . يقال عدن بالمكان يعدن عدناً ، أي : أقام . ومعدن الشيء : مركزه ومستقرّه ، ومنه قول الأعشى :
وإن يستضافوا إلى علمه ... يضافوا إلى راجح قد عدن
وقد قدّمنا في غير موضع أنه إن أريد بالجنات الأشجار الملتفة ، فجريان الأنهار من تحتها ظاهر . وإن أريد مجموع قرار الأرض والشجر ، فجري الأنهار من تحتها باعتبار جزئها الظاهر ، وهو الشجر . { خالدين فِيهَا أَبَداً } لا يخرجون منها ، ولا يظعنون عنها ، بل هم دائمون في نعيمها مستمرّون في لذاتها ، { رَّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } الجملة مستأنفة لبيان ما تفضل الله به عليهم من الزيادة على مجرّد الجزاء . وهو رضوانه عنهم حيث أطاعوا أمره ، وقبلوا شرائعه ، ورضاهم عنه حيث بلغوا من المطالب ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
ويجوز أن تكون الجملة خبراً ثانياً ، وأن تكون في محل نصب على الحال بإضمار قد . { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ } أي : ذلك الجزاء والرضوان لمن وقعت منه الخشية لله سبحانه في الدنيا ، وانتهى عن معاصيه بسبب تلك الخشية التي وقعت له لا مجرّد الخشية مع الانهماك في معاصي الله سبحانه ، فإنها ليست بخشية على الحقيقة .
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { مُنفَكّينَ } قال : برحين . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : أتعجبون من منزلة الملائكة من الله ، والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله يوم القيامة أعظم من منزلة ملك . واقرءوا إن شئتم : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البرية } . وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : «قلت يا رسول الله من أكرم الخلق على الله؟ قال : " يا عائشة أما تقرئين : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البرية } " وأخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : كنا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأقبل عليّ ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة " ونزلت : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البرية } فكان أصحاب محمد إذا أقبل قالوا : قد جاء خير البرية» . وأخرج ابن عدي ، وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعاً : «علي خير البرية» . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : «لما نزلت هذه الآية : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البرية } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ : " هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين " وأخرج ابن مردويه عن عليّ مرفوعاً نحوه . وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بخير البرية؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما كانت هيعة استوى عليه . ألا أخبركم بشرّ البرية؟ قالوا بلى ، قال : الذي يسأل بالله ولا يعطي به " قال أحمد : حدّثنا إسحاق بن عيسى ، حدّثنا أبو معشر عن أبي وهب مولى أبو هريرة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . . فذكره .
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
قوله : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا } أي : إذا حركت حركة شديدة . وجواب الشرط : { تحدث } ، والمراد : تحركها عند قيام الساعة ، فإنها تضطرب حتى يتكسر كلّ شيء عليها . قال مجاهد : وهي النفخة الأولى لقوله تعالى : { يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة } [ النازعات : 6 ، 7 ] وذكر المصدر للتأكيد ، ثم أضافه إلى الأرض ، فهو مصدر مضاف إلى فاعله ، والمعنى : زلزالها المخصوص الذي يستحقه ، ويقتضيه جرمها وعظمها . قرأ الجمهور : { زلزالها } بكسر الزاي ، وقرأ الجحدري ، وعيسى بفتحها ، وهما مصدران بمعنى . وقيل : المكسور مصدر ، والمفتوح اسم . قال القرطبي : والزلزال بالفتح مصدر كالوسواس ، والقلقال { وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا } أي : ما في جوفها من الأموات والدفائن ، والأثقال جمع ثقل ، قال أبو عبيدة ، والأخفش : إذا كان الميت في بطن الأرض ، فهو ثقل لها ، وإذا كان فوقها ، فهو ثقل عليها . قال مجاهد : أثقالها موتاها تخرجهم في النفخة الثانية . وقد قيل : للإنس والجنّ الثقلان ، وإظهار الأرض في موضع الإضمار لزيادة التقرير .
{ وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا } أي : قال كل فرد من أفراد الإنسان ما لها زلزلت؟ لما يدهمه من أمرها ، ويبهره من خطبها . وقيل : المراد بالإنسان الكافر ، وقوله : { ما لها } مبتدأ وخبر ، وفيه معنى التعجيب ، أي : أيّ شيء لها ، أو لأيّ شيء زلزلت وأخرجت أثقالها؟ وقوله : { يَوْمَئِذٍ } بدل من « إذا » ، والعامل فيهما قوله : { تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا } ويجوز أن يكون العامل في إذا محذوفاً ، والعامل في يومئذ تحدّث ، والمعنى : يوم إذا زلزلت وأخرجت تخبر بأخبارها ، وتحدّثهم بما عمل عليها من خير وشرّ ، وذلك إما بلسان الحال حيث يدلّ على ذلك دلالة ظاهرة ، أو بلسان المقال ، بأن ينطقها الله سبحانه . وقيل هذا متصل بقوله : { وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا } أي : قال ما لها { تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا } متعجباً من ذلك ، وقال يحيى بن سلام : تحدّث أخبارها بما أخرجت من أثقالها . وقيل : تحدّث بقيام الساعة ، وأنها قد أتت ، وأن الدنيا قد انقضت . قال ابن جرير : تبين أخبارها بالرجفة والزلزلة ، وإخراج الموتى ، ومفعول تحدّث الأوّل محذوف ، والثاني هو أخبارها ، أي : تحدّث الخلق أخبارها . { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } متعلق ب { تحدّث } ، ويجوز أن يتعلق بنفس أخبارها . وقيل : الباء زائدة ، وأنّ وما في حيزها بدل من { أخبارها } ، وقيل : الباء سببية ، أي : بسبب إيحاء الله إليها . قال الفرّاء : تحدّث أخبارها بوحي الله وإذنه لها ، واللام في { أوحى لها } بمعنى إلى وإنما أثرت على « إلى » لموافقة الفواصل ، والعرب تضع لام الصفة موضع إلى . كذا قال أبو عبيدة . وقيل : إن { أوحى } يتعدّى باللام تارة ، وبإلى أخرى . وقيل : إن اللام على بابها من كونها للعلة . والموحى إليه محذوف ، وهو الملائكة ، والتقدير : أوحى إلى الملائكة لأجل الأرض ، أي : لأجل ما يفعلون فيها .
والأوّل أولى .
{ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتاً } الظرف إما بدل من { يومئذ } الذي قبله ، وإما منصوب بمقدّر هو " اذكر " ، وإما منصوب بما بعده ، والمعنى : يوم إذ يقع ما ذكر يصدر الناس من قبورهم إلى موقف الحساب أشتاتاً ، أي : متفرّقين ، والصدر : الرجوع وهو ضدّ الورود . وقيل : يصدرون من موضع الحساب إلى الجنة أو النار ، وانتصاب { أشتاتاً } على الحال والمعنى : أن بعضهم آمن ، وبعضهم خائف ، وبعضهم بلون أهل الجنة ، وهو البياض ، وبعضهم بلون أهل النار وهو السواد ، وبعضهم ينصرف إلى جهة اليمين ، وبعضهم إلى جهة الشمال ، مع تفرّقهم في الأديان ، واختلافهم في الأعمال . { لّيُرَوْاْ أعمالهم } متعلق ب { يصدر } ، وقيل : فيه تقديم وتأخير ، أي : تحدّث أخبارها بأن ربك أوحى لها؛ ليروا أعمالهم { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتاً } . قرأ الجمهور : { ليروا } مبنياً للمفعول . وهو من رؤية البصر ، أي : ليريهم الله أعمالهم . وقرأ الحسن ، والأعرج ، وقتادة ، وحماد بن سلمة ، ونصر بن عاصم ، وطلحة بن مصرف على البناء للفاعل ، ورويت هذه القراءة عن نافع ، والمعنى : ليروا جزاء أعمالهم .
{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } أي : وزن نملة . وهي أصغر ما يكون من النمل . قال مقاتل : فمن يعمل في الدنيا مثقال ذرّة خيراً يره يوم القيامة في كتابه ، فيفرح به . وكذلك { الجن مَن يَعْمَلُ } في الدنيا { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } يوم القيامة فيسوؤه . ومثل هذه الآية قوله : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] . وقال بعض أهل اللغة : إن الذرّة هو أن يضرب الرجل بيده على الأرض ، فما علق من التراب ، فهو الذرّة . وقيل : الذرّ ما يرى في شعاع الشمس من الهباء ، والأوّل أولى . ومنه قول امرىء القيس :
من القاصرات الطرف لو دبّ محول ... من الذرّ فوق الإتب منها لأثرا
و«من» الأولى عبارة عن السعداء ، و «من» الثانية عبارة عن الأشقياء . وقال محمد بن كعب : فمن يعمل مثقال ذرّة من خير من كافر يرى ثوابه في الدنيا ، وفي نفسه ، وماله ، وأهله ، وولده حتى يخرج من الدنيا ، وليس له عند الله خير ، ومن يعمل مثقال ذرّة من شرّ من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في ماله ، ونفسه ، وأهله ، وولده حتى يخرج من الدنيا ، وليس له عند الله شرّ ، والأوّل أولى . قال مقاتل : نزلت في رجلين كان أحدهما يأتيه السائل ، فيستقلّ أن يعطيه التمرة والكسرة ، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ، ويقول : إنما أوعد الله النار على الكافرين . قرأ الجمهور : { يره } في الموضعين بضم الهاء وصلاً ، وسكونها وقفاً ، وقرأ هشام بسكونها وصلاً ووقفاً . ونقل أبو حيان عن هشام ، وأبي بكر سكونها ، وعن أبي عمرو ضمها مشبعة ، وباقي السبعة بإشباع الأولى ، وسكون الثانية ، وفي هذا الثقل نظر ، والصواب ما ذكرنا .
وقرأ الجمهور : { يره } مبنياً للفاعل في الموضعين . وقرأ ابن عباس ، وابن عمر ، والحسن والحسين ابنا عليّ ، وزيد بن عليّ ، وأبو حيوة ، وعاصم ، والكسائي في رواية عنهما ، والجحدري ، والسلمي ، وعيسى على البناء للمفعول فيهما ، أي : يريه الله إياه . وقرأ عكرمة : { يراه } على توهم أن من موصولة ، أو على تقدير الجزم بحذف الحركة المقدّرة في الفعل .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا } قال : تحرّكت من أسفلها { وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا } قال : الموتى . { وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا } قال : الكافر يقول ما لها . { يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا } قال : قال لها ربك قولي . { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } قال : أوحى لها : { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتاً } قال : من كل من هاهنا ، وهاهنا . وأخرج ابن المنذر عنه { وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا } قال : الكنوز والموتى . وأخرج مسلم ، والترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة ، فيجيء القاتل فيقول : في هذا قتلت ، ويجيء القاطع فيقول : في هذا قطعت رحمي ، ويجيء السارق فيقول : في هذا قطعت يدي ، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئًا " وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا } قال : أتدرون ما أخبارها؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها ، تقول عمل كذا ، وكذا ، فهذا أخبارها " وأخرج ابن مردويه ، والبيهقي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الأرض لتجيء يوم القيامة بكل عمل عمل على ظهرها " وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا } حتى بلغ { يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا } .
وأخرج الطبراني عن ربيعة الخرشي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تحفظوا من الأرض فإنها أمكم ، وإنه ليس من أحد عامل عليها خيراً ، أو شرّاً إلاّ وهي مخبرة " وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، والحاكم في تاريخه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أنس قال : «بينما أبو بكر الصدّيق يأكل مع النبيّ إذ نزلت عليه : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } . فرفع أبو بكر يده ، وقال : يا رسول الله إني لراء ما عملت من مثقال ذرّة من شرّ . فقال : " يا أبا بكر أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره ، فبمثاقيل ذرّ الشرّ ، ويدخر لك مثاقيل ذرّ الخير حتى توفاه يوم القيامة "
وأخرج إسحاق بن راهويه ، وعبد بن حميد ، والحاكم ، وابن مردويه عن أبي أسماء قال : بينا أبو بكر يتغدّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نزلت هذه الآية : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } فأمسك أبو بكر وقال : يا رسول الله ما عملنا من شرّ رأيناه ، فقال : « ما ترون مما تكرهون ، فذاك مما تجزون ، ويؤخر الخير لأهله في الآخرة » وأخرج ابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : أنزلت { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا } ، وأبو بكر الصديق قاعد ، فبكى ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما يبكيك يا أبا بكر؟ » قال : يبكيني هذه السورة ، فقال : « لولا أنكم تخطئون وتذنبون ، فيغفر لكم لخلق الله قوماً يخطئون ويذنبون ، فيغفر لهم » وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الخيل لثلاثة : لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر . . . » الحديث . وقال : وسئل عن الحمر فقال : « ما أنزل عليّ فيها إلاّ هذه الآية الجامعة الفاذة { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } » .
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
العاديات جمع عادية . وهي الجارية بسرعة ، من العدو : وهو المشي بسرعة ، فأبدلت الواو ياء لكسر ما قبلها كالغازيات من الغزو . والمراد بها الخيل العادية في الغزو نحو العدوّ . وقوله : { ضَبْحاً } مصدر مؤكد لاسم الفاعل . فإن الضبح نوع من السير ، ونوع من العدو . يقال ضبح الفرس : إذا عدا بشدّة ، مأخوذ من الضبع ، وهو الدفع ، وكأن الحاء بدل من العين . قال أبو عبيدة ، والمبرد : الضبح من إضباحها في السير ومنه قول عنترة :
والخيل تكدح في حياض الموت ضبحا ... ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال ، أي : ضابحات ، أو ذوات ضبح ، ويجوز أن يكون مصدراً لفعل محذوف ، أي : تضبح ضبحاً . وقيل الضبح : صوت حوافرها إذا عدت . وقال الفراء : الضبح صوت أنفاس الخيل إذا عدت ، قيل كانت تكعم لئلا تصهل ، فيعلم العدوّ بهم ، فكانت تتنفس في هذه الحالة بقوّة ، وقيل الضبح : صوت يسمع من صدور الخيل عند العدو ليس بصهيل . وقد ذهب الجمهور إلى ما ذكرنا من أن { العاديات ضبحاً } هي الخيل . وقال عبيد بن عمير ، ومحمد بن كعب والسديّ : هي الإبل ، ومنه قول صفية بنت عبد المطلب :
فلا والعاديات غداة جمع ... بأيديها إذا صدع الغبار
ونقل أهل اللغة أن أصل الضبح للثعلب ، فاستعير للخيل ، ومنه قول الشاعر :
تضبح في الكف ضباح الثعلب ... { فالموريات قَدْحاً } هي الخيل حين توري النار بسنابكها . والإيراء إخراج النار ، والقدح الصكّ ، فجعل ضرب الخيل بحوافرها كالقدح بالزناد . قال الزجاج : إذا عدت الخيل بالليل ، وأصاب حوافرها الحجارة انقدح منها النيران ، والكلام في انتصاب { قدحاً } كالكلام في انتصاب { ضبحاً } ، والخلاف في كونها الخيل أو الإبل ، كالخلاف الذي تقدّم في العاديات . والراجح أنها الخيل ، كما ذهب إليه الجمهور ، وكما هو الظاهر من هذه الأوصاف المذكورة في هذه السورة ما تقدّم منها وما سيأتي ، فإنها في الخيل أوضح منها في الإبل ، وسيأتي ما في ذلك من الخلاف بين الصحابة . { فالمغيرات صُبْحاً } أي : التي تغير على العدوّ وقت الصباح ، يقال أغار يغير إغارة إذا باغت عدوّه بقتل ، أو أسر ، أو نهب ، وأسند الإغارة إليها وهي لأهلها للإشعار بأنها عمدتهم في إغارتهم ، وانتصاب { صبحاً } على الظرفية .
{ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } معطوف على الفعل الذي دلّ عليه اسم الفاعل ، إذ المعنى : واللاتي عدون فأثرن ، أو على اسم الفاعل نفسه لكونه في تأويل الفعل لوقوعه صلة للموصول ، فإن الألف واللام في الصفات أسماء موصولة ، فالكلام في قوّة : واللاتي عدون ، فأورين ، فأغرن ، فأثرن ، والنقع : الغبار الذي أثرته في وجه العدو عند الغزو ، وتخصيص إثارته بالصبح؛ لأنه وقت الإغارة ، ولكونه لا يظهر أثر النقع في الليل الذي اتصل به الصبح .
وقيل المعنى : فأثرن بمكان عدوهنّ نقعاً ، يقال ثار النقع ، وأثرته ، أي : هاج ، أو هيجته . قرأ الجمهور ( فأثرن ) بتخفيف المثلثة . وقرأ أبو حيوة ، وابن أبي عبلة بالتشديد ، أي : فأظهرن به غباراً ، وقال أبو عبيدة : النقع رفع الصوت ، وأنشد قول لبيد :
فمتى ينقع صراخ صادق ... يجلبوها ذات جرس وزجل
يقول . حين سمعوا صراخاً أجلبوا الحرب ، أي : جمعوا لها . قال أبو عبيدة : وعلى هذا رأيت قول أكثر أهل العلم انتهى ، والمعروف عند جمهور أهل اللغة والمفسرين أن النقع : الغبار ، ومنه قول الشاعر :
يخرجن من مستطار النقع دامية ... كأنّ أذنابها أطراف أقلام
وقول عبد الله بن رواحة :
عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع من كنفي كداء
وقول الآخر :
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وهذا هو المناسب لمعنى الآية ، وليس لتفسير النقع بالصوت فيها كثير معنى ، فإن قولك أغارت الخيل على بني فلان صبحاً ، فأثرن به صوتاً ، قليل الجدوى مغسول المعنى بعيد من بلاغة القرآن المعجزة . وقيل النقع : شقّ الجيوب ، وقال محمد بن كعب : النقع ما بين مزدلفة إلى منى . وقيل : إنه طريق الوادي . قال في الصحاح : النقع الغبار ، والجمع أنقاع ، والنقع محبس الماء ، وكذلك ما اجتمع في البئر منه ، والنقع الأرض الحرّة الطين يستنقع فيها الماء . { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً } أي : توسطن بذلك الوقت ، أو توسطن ملتبسات بالنقع جمعاً من جموع الأعداء ، أو صرن بعدوهن وسط جمع الأعداء ، والباء إما للتعدية ، أو للحالية ، أو زائدة ، يقال : وسطت المكان ، أي : صرت في وسطه ، وانتصاب جمعاً على أنه مفعول به ، والفاآت في المواضع الأربعة للدلالة على ترتب ما بعد كل واحدة منها على ما قبلها . قرأ الجمهور : { فوسطن } بتخفيف السين . وقرىء بالتشديد .
{ إِنَّ الإنسان لِرَبّهِ لَكَنُودٌ } هذا جواب القسم ، والمراد بالإنسان بعض أفراده ، وهو الكافر ، والكنود : الكفور للنعمة . وقوله : { لِرَبّهِ } متعلق بكنود . قدّم لرعاية الفواصل ، ومنه قول الشاعر :
كنود لنعماء الرجال ومن يكن ... كنوداً لنعماء الرجال يبعد
أي : كفور لنعماء الرجال . وقيل : هو الجاحد للحقّ . قيل : إنها إنما سميت كندة ، لأنها جحدت أباها . وقيل : الكنود مأخوذ من الكند . وهو القطع ، كأنه قطع ما ينبغي أن يواصله من الشكر . يقال كند الحبل : إذا قطعه ، ومنه قول الأعشى :
وصول حبال وكنادها ... وقيل : الكنود : البخيل ، وأنشد أبو زيد :
إن نفسي لم تطب منك نفسا ... غير أني أمسي بدين كنود
وقيل : الكنود الحسود . وقيل : الجهول لقدره ، وتفسير الكنود بالكفور للنعمة أولى بالمقام؛ والجاحد للنعمة كافر لها ، ولا يناسب المقام سائر ما قيل . { وَإِنَّهُ على ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } أي : وإن الإنسان على كنوده لشهيد يشهد على نفسه به لظهور أثره عليه . وقيل المعنى : وإن الله جلّ ثناؤه على ذلك من ابن آدم لشهيد ، وبه قال الجمهور .
وقال بالأوّل الحسن ، وقتادة ، ومحمد بن كعب ، وهو أرجح من قول الجمهور لقوله : { وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير لَشَدِيدٌ } فإن الضمير راجع إلى الإنسان ، والمعنى : إنه لحبّ المال قويّ مجدّ في طلبه ، وتحصيله متهالك عليه ، يقال هو شديد لهذا الأمر وقويّ له : إذا كان مطيقاً له ، ومنه قوله تعالى : { إِن تَرَكَ خَيْرًا } [ البقرة : 180 ] ومنه قول عديّ بن حاتم :
ماذا ترجى النفوس من طلب ال ... خير وحبّ الحياة كاربها
وقيل المعنى : وإن الإنسان من أجل حب المال لبخيل ، والأوّل أولى . واللام في : { لِحُبّ } متعلقة بشديد . قال ابن زيد : سمى الله المال خيراً ، وعسى أن يكون شرّاً ، ولكن الناس يجدونه خيراً ، فسماه خيراً . قال الفراء : أصل نظم الآية أن يقال : وإنه لشديد الحبّ للخير ، فلما قدّم الحبّ قال : لشديد ، وحذف من آخره ذكر الحبّ؛ لأنه قد جرى ذكره ، ولرؤوس الآي كقوله : { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } [ إبراهيم : 18 ] والعصوف للريح لا لليوم ، كأنه قال : في يوم عاصف الريح .
{ أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى القبور } الاستفهام للإنكار ، والفاء للعطف على مقدّر يقتضيه المقام ، أي : يفعل ما يفعل من القبائح ، فلا يعلم ، و { بعثر } معناه نثر وبحث ، أي : نثر ما في القبور من الموتى ، وبحث عنهم وأخرجوا . قال أبو عبيدة : بعثرت المتاع جعلت أسفله أعلاه . قال الفرّاء : سمعت بعض العرب من بني أسد يقول : بحثر بالحاء مكان العين ، وقد تقدّم الكلام على هذا في قوله : { وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ } [ الانفطار : 4 ] . { وَحُصّلَ مَا فِى الصدور } أي : ميز وبيّن ما فيها من الخير والشرّ ، والتحصيل التمييز ، كذا قال المفسرون ، وقيل : حصل أبرز . قرأ الجمهور : { حصل } بضم الحاء ، وتشديد الصاد مكسوراً مبنياً للمفعول . وقرأ عبيد بن عمير ، وسعيد بن جبير ، ويحيى بن يعمر ، ونصر بن عاصم حصل بفتح الحاء والصاد ، وتخفيفها مبنياً للفاعل ، أي : ظهر . { إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ } أي : إن ربّ المبعوثين بهم لخبير لا تخفى عليه منهم خافية ، فيجازيهم بالخير خيراً ، وبالشرّ شرّاً . قال الزجاج : الله خبير بهم في ذلك اليوم ، وفي غيره ، ولكن المعنى : إن الله يجازيهم على كفرهم في ذلك اليوم ، ومثله قوله تعالى : { أُولَئِكَ الذين يَعْلَمُ الله مَا فِى قُلُوبِهِمْ } [ النساء : 63 ] معناه : أولئك الذين لا يترك الله مجازاتهم . قرأ الجمهور : { إن ربهم } بكسر الهمزة ، وباللام في لخبير . وقرأ أبو السماك بفتح الهمزة ، وإسقاط اللام من { لخبير } .
وقد أخرج البزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والدارقطني في الأفراد ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً ، فاستمرّت شهراً لا يأتيه منها خبر ، فنزلت : { والعاديات ضَبْحاً } ضبحت بأرجلها . ولفظ ابن مردويه : ضبحت بمناخرها . { فالموريات قَدْحاً } قدحت بحوافرها الحجارة ، فأورت ناراً .
{ فالمغيرات صُبْحاً } صبحت القوم بغارة . { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } أثارت بحوافرها التراب . { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً } صبحت القوم جميعاً . وأخرج ابن مردويه من وجه آخر عنه قال : «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى العدوّ ، فأبطأ خبرها ، فشقّ ذلك عليه ، فأخبره الله خبرهم ، وما كان من أمرهم ، فقال : { والعاديات ضَبْحاً } . قال : هي الخيل» . والضبح نخير الخيل حين تنخر . { فالموريات قَدْحاً } قال : حين تجري الخيل توري ناراً أصابت بسنابكها الحجارة . { فالمغيرات صُبْحاً } قال : هي الخيل أغارت ، فصبحت العدوّ { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } قال : هي الخيل أثرن بحوافرها ، يقول تعدو الخيل ، والنقع الغبار . { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً } قال : الجمع العدو . وأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال : تقاولت أنا ، وعكرمة في شأن العاديات ، فقال : قال ابن عباس : هي الخيل في القتال ، وضبحها حين ترخي مشافرها إذا عدت { فالموريات قَدْحاً } أرت المشركين مكرهم . { فالمغيرات صُبْحاً } قال : إذا صبحت العدو { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً } قال : إذا توسطت العدو . وقال أبو صالح : فقلت قال عليّ : هي الإبل في الحج ومولاي كان أعلم من مولاك .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في كتاب الأضداد ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : بينما أنا في الحجر جالس إذ أتاني رجل يسأل عن { العاديات ضبحاً } ، فقلت : الخيل حين تغير في سبيل الله ، ثم تأوي إلى الليل ، فيصنعون طعامهم ، ويورون نارهم ، فانفتل عني ، فذهب إلى عليّ بن أبي طالب ، وهو جالس تحت سقاية زمزم ، فسأله عن { العاديات ضبحاً } ، فقال : سألت عنها أحداً قبلي؟ قال : نعم سألت عنها ابن عباس ، فقال : هي الخيل حين تغير في سبيل الله ، فقال : اذهب ، فادعه لي ، فلما وقفت على رأسه قال : تفتي الناس بما لا علم لك ، والله إن كانت لأوّل غزوة في الإسلام لبدر ، وما كان معنا إلاّ فرسان فرس للزبير ، وفرس للمقداد بن الأسود ، فكيف تكون { والعاديات ضَبْحاً } . إنما العاديات ضبحاً من عرفة إلى المزدلفة ، فإذا أووا إلى المزدلفة أوقدوا النيران ، والمغيرات صبحاً : من المزدلفة إلى منى ، فذلك جمع ، وأما قوله : { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } فهي : نقع الأرض تطؤه بأخفافها وحوافرها . قال ابن عباس : فنزعت عن قولي ، ورجعت إلى الذي قال عليّ . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود : { والعاديات ضَبْحاً } قال : الإبل . أخرجه عنه من طريق الأعمش عن إبراهيم النخعي . قال إبراهيم : وقال عليّ بن أبي طالب : هي الإبل . وقال ابن عباس هي الخيل . فبلغ علياً قول ابن عباس : فقال : ما كانت لنا خيل يوم بدر . قال ابن عباس : إنما كانت تلك في سرية بعثت . وأخرج عبد بن حميد عن عامر الشعبي قال : تمارى عليّ ، وابن عباس في { العاديات ضبحاً } فقال ابن عباس : هي الخيل؛ وقال عليّ : كذبت يا ابن فلانة ، والله ما كان معنا يوم بدر فارس إلاّ المقداد كان على فرس أبلق .
قال : وكان يقول هي : الإبل ، فقال ابن عباس : ألا ترى أنها تثير نقعاً ، فما شيء تثير إلاّ بحوافرها .
وأخرج عبد بن حميد ، والحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عباس { والعاديات ضَبْحاً } قال : الخيل . { فالموريات قَدْحاً } قال : الرجل إذا أورى زنده . { فالمغيرات صُبْحاً } قال : الخيل تصبح العدوّ . { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } قال : التراب . { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً } قال : العدوّ . وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد : { والعاديات ضَبْحاً } قال : قال ابن عباس : القتال . وقال ابن مسعود : الحج . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق عمرو بن دينار عن ابن عباس { والعاديات ضَبْحاً } قال : ليس شيء من الدواب يضبح إلاّ الكلب ، أو الفرس . { فالموريات قَدْحاً } قال : هو مكر الرجل قدح ، فأورى . { فالمغيرات صُبْحاً } قال : غارة الخيل صبحاً . { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } قال : غبار وقع سنابك الخيل . { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً } قال : جمع العدوّ . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس : { والعاديات ضَبْحاً } قال : الخيل ضبحها زحيرها . ألم تر أن الفرس إذا عدا قال : أح أح ، فذلك ضبحها . وأخرج ابن المنذر عن عليّ قال : الضبح من الخيل الحمحمة ، ومن الإبل النفس . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود : { والعاديات ضَبْحاً } قال : هي الإبل في الحج . { فالموريات قَدْحاً } إذا سفت الحصى بمناسمها ، فضرب الحصى بعضه بعضاً ، فيخرج منه النار . { فالمغيرات صُبْحاً } حين يفيضون من جمع . { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } قال : إذا سرن يثرن التراب .
وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال : الكنود بلساننا أهل البلد الكفور . وأخرج ابن عساكر عن أبي أمامة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { إِنَّ الإنسان لِرَبّهِ لَكَنُودٌ } قال لكفور . وأخرج عبد بن حميد ، والبخاري في الأدب ، والحكيم الترمذي ، وابن مردويه عن أبي أمامة قال : الكنود الذي يمنع رفده ، وينزل وحده ، ويضرب عبده . ورواه عنه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، والديلمي ، وابن عساكر مرفوعاً ، وضعف إسناده السيوطي ، وفي إسناده جعفر بن الزبير ، وهو متروك ، والموقوف أصح؛ لأنه لم يكن من طريقه . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس : { وَإِنَّهُ على ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } قال : الإنسان { وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير } قال : المال . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه : { إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى القبور } قال : بحث { وَحُصّلَ مَا فِى الصدور } قال : أبرز .
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
{ القارعة } من أسماء القيامة؛ لأنها تقرع القلوب بالفزع ، وتقرع أعداء الله بالعذاب . والعرب تقول قرعتهم القارعة : إذا وقع بهم أمر فظيع . قال ابن أحمر :
وقارعة من الأيام لولا ... سبيلهم لراحت عنك حينا
وقال آخر :
متى نقرع بمروتكم نسؤكم ... ولما يوقد لنا في القدر نار
{ والقارعة } مبتدأ ، وخبرها قوله : { مَا القارعة } . وبالرفع قرأ الجمهور ، وقرأ عيسى بنصبها على تقدير : احذروا القارعة . والاستفهام للتعظيم ، والتفخيم لشأنها ، كما تقدّم بيانه في قوله : { الحاقة * مَا الحاقة * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحاقة } [ الحاقة : 1 3 ] . وقيل : معنى الكلام على التحذير . قال الزجاج : والعرب تحذر وتغري بالرفع كالنصب ، وأنشد قول الشاعر :
لجديرون بالوفاء إذا قال ... أخو النجدة السلاح السلاح
والحمل على معنى التفخيم ، والتعظيم أولى ، ويؤيده وضع الظاهر موضع الضمير ، فإنه أدلّ على هذا المعنى . ويؤيده أيضاً قوله : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا القارعة } فإنه تأكيد لشدّة هولها ، ومزيد فظاعتها حتى كأنها خارجة عن دائرة علوم الخلق بحيث لا تنالها دراية أحد منهم ، وما الاستفهامية مبتدأ ، و { أدراك } خبرها . و { ما القارعة } مبتدأ وخبر . والجملة في محل نصب على أنها المفعول الثاني؛ والمعنى : وأيّ شيء أعلمك ما شأن القارعة؟ ثم بيّن سبحانه متى تكون القارعة فقال : { يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث } . وانتصاب الظرف بفعل محذوف تدلّ عليه القارعة ، أي : تقرعهم يوم يكون الناس إلخ ، ويجوز أن يكون منصوباً بتقدير اذكر . وقال ابن عطية ، ومكي ، وأبو البقاء : هو منصوب بنفس القارعة ، وقيل : هو خبر مبتدأ محذوف ، وإنما نصب لإضافته إلى الفعل ، فالفتحة فتحة بناء لا فتحة إعراب ، أي : هي يوم يكون إلخ . وقيل التقدير : ستأتيكم القارعة يوم يكون . وقرأ زيد بن عليّ برفع يوم على الخبرية للمبتدأ المقدّر . والفراش : الطير الذي تراه يتساقط في النار ، والسراج ، والواحدة فراشة ، كذا قال أبو عبيدة وغيره . قال الفراء : الفراش هو الطائر من بعوض وغيره ، ومنه الجراد . قال وبه يضرب المثل في الطيش ، والهوج ، يقال : أطيش من فراشة ، وأنشد :
فراشة الحلم فرعون العذاب وإن ... يطلب نداه فكلب دونه كلب
وقول آخر :
وقد كان أقوام رددت حلومهم ... عليهم وكانوا كالفراش من الجهل
والمراد بالمبثوث المتفرّق المنتشر . يقال بثه : إذا فرقه . ومثل هذا قوله سبحانه في آية أخرى : { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } [ القمر : 7 ] وقال { المبثوث } ، ولم يقل المبثوثة؛ لأن الكل جائز ، كما في قوله : { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] و { أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] وقد تقدّم بيان وجه ذلك . { وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش } أي : كالصوف الملوّن بالألوان المختلفة الذي نفش بالندف . والعهن عند أهل اللغة : الصوف المصبوغ بالألوان المختلفة ، وقد تقدّم بيان هذا في سورة سأل سائل ، وقد ورد في الكتاب العزيز أوصاف للجبال يوم القيامة .
وقد قدّمنا بيان الجمع بينها .
ثم ذكر سبحانه أحوال الناس ، وتفرّقهم فريقين على جهة الإجمال فقال : { فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ موازينه * فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } قد تقدّم القول في الميزان في سورة الأعراف ، وسورة الكهف ، وسورة الأنبياء .
وقد اختلف فيها هنا . فقيل : هي جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله ، وبه قال الفرّاء وغيره . وقيل : هي جمع ميزان . وهو الآلة التي توضع فيها صحائف الأعمال ، وعبر عنه بلفظ الجمع ، كما يقال لكلّ حادثة ميزان ، وقيل : المراد بالموازين الحجج والدلائل ، كما في قول الشاعر :
لقد كنت قبل لقائكم ذا مرة ... عندي لكلّ مخاصم ميزانه
ومعنى عيشة راضية مرضية يرضاها صاحبها . قال الزجاج ، أي : ذات رضى يرضاها صاحبها . وقيل : عيشة راضية أي : فاعلة للرضى ، وهو اللين ، والانقياد لأهلها . والعيشة كلمة تجمع النعم التي في الجنة : { وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ موازينه } أي : رجحت سيئاته على حسناته ، أو لم تكن له حسنات يعتدّ بها { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } أي : فمسكنه جهنم . وسماها أمه؛ لأنه يأوي إليه ، كما يأوي إلى أمه . والهاوية من أسماء جهنم . وسميت هاوية؛ لأنه يهوي فيها مع بعد قعرها . ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
فالأرض معقلنا وكانت أمنا ... فيها مقابرنا وفيها نولد
وقول الآخر :
يا عمرو لو نالتك أرماحنا ... كنت كمن تهوي به الهاوية
والمهوى ، والمهواة : ما بين الجبلين ، وتهاوى القوم في المهواة : إذا سقط بعضهم في إثر بعض . قال قتادة : معنى { فَأُمُّهُ هاوية } فمصيره إلى النار . قال عكرمة : لأنه يهوي فيها على أمّ رأسه . قال الأخفش : أمه مستقرّه . { وَمَا أَدْرَاكَ ماهية } هذا الاستفهام للتهويل ، والتفظيع ببيان أنها خارجة عن المعهود بحيث لا تحيط بها علوم البشر ، ولا تدري كنهها . ثم بيّنها سبحانه فقال : { نَارٌ حَامِيَةٌ } أي : قد انتهى حرّها ، وبلغ في الشدّة إلى الغاية ، وارتفاع نار على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي نار حامية .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال : { القارعة } من أسماء يوم القيامة . وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } قال : كقوله هوت أمه . وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة : { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } قال : أمّ رأسه هاوية في جهنم . وأخرج ابن مردويه عن أنس قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا مات المؤمن تلقته أرواح المؤمنين يسألونه ما فعل فلان ما فعلت فلانة؟ فإذا كان مات ، ولم يأتهم قالوا : خولف به إلى أمه الهاوية ، فبئست الأمّ ، وبئست المربية » وأخرج ابن مردويه من حديث أبي أيوب الأنصاري نحوه . وأخرج ابن المبارك من حديث أبي أيوب نحوه أيضاً .
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
قوله : { ألهاكم التكاثر } أي : شغلكم التكاثر بالأموال والأولاد ، والتفاخر بكثرتها ، والتغالب فيها . يقال : ألهاه عن كذا ، وألهاه : إذا شغله ، ومنه قول امرىء القيس :
فألهيتها عن ذي تمائم محول ... وقال الحسن : معنى ألهاكم : أنساكم . { حتى زُرْتُمُ المقابر } أي : حتى أدرككم الموت ، وأنتم على تلك الحال . وقال قتادة : إن التكاثر التفاخر بالقبائل والعشائر . وقال الضحاك : ألهاكم التشاغل بالمعاش . وقال مقاتل ، وقتادة أيضاً ، وغيرهما : نزلت في اليهود حين قالوا نحن أكثر من بني فلان ، وبنو فلان أكثر من بني فلان ، ألهاهم ذلك حتى ماتوا . وقال الكلبي : نزلت في حيين من قريش : بني عبد مناف ، وبني سهم تعادّوا ، وتكاثروا بالسيادة والأشراف في الإسلام ، فقال كل حيّ منهم : نحن أكثر سيداً ، وأعزّ عزيزاً ، وأعظم نفراً ، وأكثر قائداً ، فكثر بنو عبد مناف بني سهم ، ثم تكاثروا بالأموات ، فكثرتهم بهم ، فنزلت : { ألهاكم التكاثر } فلم ترضوا { حتى زُرْتُمُ المقابر } مفتخرين بالأموات . وقيل : نزلت في حيين من الأنصار . والمقابر جمع مقبرة بفتح الباء وضمها . وفي الآية دليل على أن الاشتغال بالدنيا ، والمكاثرة بها ، والمفاخرة فيها من الخصال المذمومة ، وقال سبحانه : { ألهاكم التكاثر } ولم يقل عن كذا ، بل أطلقه؛ لأن الإطلاق أبلغ في الذمّ؛ لأنه يذهب الوهم فيه كلّ مذهب ، فيدخل فيه جميع ما يحتمله المقام ، ولأن حذف المتعلق مشعر بالتعميم ، كما تقرّر في علم البيان؛ والمعنى أنه شغلكم التكاثر عن كلّ شيء يجب عليكم الاشتغال به من طاعة الله ، والعمل للآخرة ، وعبر عن موتهم بزيارة المقابر؛ لأن الميت قد صار إلى قبره ، كما يصير الزائر إلى الموضع الذي يزوره هذا على قول من قال : إن معنى { زُرْتُمُ المقابر } متم ، أما على قول من قال : إن معنى : { زُرْتُمُ المقابر } ذكرتم الموتى ، وعددتموهم للمفاخرة ، والمكاثرة ، فيكون ذلك على طريق التهكم بهم ، وقيل : إنهم كانوا يزورون المقابر ، فيقولون هذا قبر فلان ، وهذا قبر فلان يفتخرون بذلك .
{ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } ردع وزجر لهم عن التكاثر ، وتنبيه على أنهم سيعلمون عاقبة ذلك يوم القيامة ، وفيه وعيد شديد . قال الفرّاء : أي : ليس الأمر على ما أنتم عليه من التكاثر والتفاخر . ثم كرّر الردع والزجر ، والوعيد فقال : { ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } وثم للدلالة على أن الثاني أبلغ من الأوّل ، وقيل : الأوّل عند الموت أو في القبر ، والثاني يوم القيامة . قال الفرّاء : هذا التكرار على وجه التغليظ والتأكيد . قال مجاهد : هو وعيد بعد وعيد . وكذا قال الحسن ، ومجاهد . { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين } أي : لو تعلمون الأمر الذي أنتم صائرون إليه علماً يقيناً كعلمكم ما هو متيقن عندكم في الدنيا ، وجواب « لو » محذوف ، أي : لشغلكم ذلك عن التكاثر والتفاخر ، أو لفعلتم ما ينفعكم من الخير ، وتركتم ما لا ينفعكم مما أنتم فيه .
و { كلا } في هذا الموضع الثالث للزجر ، والردع كالموضعين الأوّلين . وقال الفرّاء : هي بمعنى حقاً . وقيل : هي في المواضع الثلاثة بمعنى ألا . قال قتادة : اليقين هنا الموت ، وروي عنه أيضاً أنه قال : هو البعث . قال الأخفش : التقدير لو تعلمون علم اليقين ما ألهاكم . وقوله : { لَتَرَوُنَّ الجحيم } جواب قسم محذوف ، وفيه زيادة وعيد وتهديد ، أي : والله لترونّ الجحيم في الآخرة . قال الرازي : وليس هذا جواب لو ، لأن جواب لو يكون منفياً ، وهذا مثبت . ولأنه عطف عليه { ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ } وهو : مستقبل لا بدّ من وقوعه قال : وحذف جواب لو كثير ، والخطاب للكفار ، وقيل : عام كقوله : { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] قرأ الجمهور : { لترون } بفتح التاء مبنياً للفاعل وقرأ الكسائي ، وابن عامر بضمها مبنياً للمفعول . ثم كرّر الوعيد والتهديد للتأكيد فقال : { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين } أي : ثم لترونّ الجحيم الرؤية التي هي نفس اليقين ، وهي المشاهدة والمعاينة ، وقيل المعنى : لترونّ الجحيم بأبصاركم على البعد منكم ، ثم لترونها مشاهدة على القرب . وقيل المراد بالأوّل رؤيتها قبل دخولها ، والثاني رؤيتها حال دخولها . وقيل : هو إخبار عن دوام بقائهم في النار ، أي : هي رؤية دائمة متصلة . وقيل المعنى : لو تعلمون اليوم علم اليقين ، وأنتم في الدنيا لترونّ الجحيم بعيون قلوبكم ، وهو أن تتصوّروا أمر القيامة وأهوالها .
{ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم } أي : عن نعيم الدنيا الذي ألهاكم عن العمل للآخرة . قال قتادة : يعني : كفار مكة كانوا في الدنيا في الخير والنعمة ، فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه ، ولم يشكروا ربّ النعم حيث عبدوا غيره ، وأشركوا به . قال الحسن : لا يسأل عن النعيم إلاّ أهل النار . وقال قتادة : إن الله سبحانه سائل كل ذي نعمة عما أنعم عليه ، وهذا هو الظاهر ، ولا وجه لتخصيص النعيم بفرد من الأفراد ، أو نوع من الأنواع؛ لأن تعريفه للجنس ، أو الاستغراق ، ومجرّد السؤال لا يستلزم تعذيب المسئول على النعمة التي يسئل عنها ، فقد يسأل الله المؤمن عن النعم التي أنعم بها عليه فيم صرفها ، وبم عمل فيها؟ ليعرف تقصيره ، وعدم قيامه بما يجب عليه من الشكر . وقيل : السؤال عن الأمن والصحة . وقيل : عن الصحة والفراغ ، وقيل : عن الإدراك بالحواسّ ، وقيل : عن ملاذ المأكول والمشروب . وقيل : عن الغداء والعشاء . وقيل : عن بارد الشراب وظلال المساكن . وقيل : عن اعتدال الخلق . وقيل : عن لذة النوم ، والأولى العموم ، كما ذكرنا .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بردة في قوله : { ألهاكم التكاثر } قال : نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار في بني حارثة وبني الحارث تفاخروا وتكاثروا ، فقالت إحداهما : فيكم مثل فلان ، وفلان .
وقال الآخرون : مثل ذلك تفاخروا بالأحياء . ثم قالوا : انطلقوا بنا إلى القبور ، فجعلت إحدى الطائفتين تقول : فيكم مثل فلان يشيرون إلى القبر ، ومثل فلان ، وفعل الآخرون كذلك ، فأنزل الله : { ألهاكم التكاثر * حتى زُرْتُمُ المقابر } لقد كان لكم فيما زرتم عبرة وشغل . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { ألهاكم التكاثر } قال : في الأموال والأولاد . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألهاكم التكاثر» يعني عن الطاعة { حتى زُرْتُمُ المقابر } يقول : حتى يأتيكم الموت { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } يعني : لو قد دخلتم قبوركم { ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } يقول : لو قد خرجتم من قبوركم إلى محشركم . { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين } قال : لو قد وقفتم على أعمالكم بين يدي ربكم . { لَتَرَوُنَّ الجحيم } وذلك أن الصراط يوضع وسط جهنم ، فناج مسلم ، ومخدوش مسلم ، ومكدوش في نار جهنم . { ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم } يعني : شبع البطون ، وبارد الشرب ، وظلال المساكن ، واعتدال الخلق ، ولذة النوم . وأخرج ابن مردويه عن عياض بن غنم مرفوعاً نحوه .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم } قال : صحة الأبدان ، والأسماع ، والأبصار ، وهو أعلم بذلك منهم ، وهو قوله : { إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَّسْئُولاً } [ الإسراء : 36 ] وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : { ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم } قال : الأمن ، والصحة . وأخرج البيهقي عن عليّ بن أبي طالب قال : النعيم العافية . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : من أكل خبز البرّ ، وشرب ماء الفرات مبرداً ، وكان له منزل يسكنه ، فذلك من النعيم الذي يسأل عنه . وأخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية : " أكل خبز البرّ ، والنوم في الظلّ ، وشرب ماء الفرات مبرداً " ولعل رفع هذا لا يصح ، فربما كان من قول أبي الدرداء . وأخرج أحمد في الزهد ، وابن مردويه عن أبي قلابة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الآية قال : " ناس من أمتي يعقدون السمن والعسل بالنقيّ ، فيأكلونه " وهذا مرسل .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : لما نزلت هذه الآية . قال الصحابة : «يا رسول الله أيّ نعيم نحن فيه؟ وإنما نأكل في أنصاف بطوننا خبز الشعير ، فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن قل لهم : أليس تحتذون النعال ، وتشربون الماء البارد ، فهذا من النعيم» .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وهناد ، وأحمد ، وابن جرير ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن محمود بن لبيد قال : لما نزلت : { ألهاكم التكاثر } فقرأ حتى بلغ : { ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم } قالوا : يا رسول الله أيّ نعيم نسأل عنه؟ وإنما هما الأسودان : الماء ، والتمر ، وسيوفنا على رقابنا ، والعدوّ حاضر ، فعن أيّ نعيم نسأل؟ قال : « أما إن ذلك سيكون » وأخرجه عبد بن حميد ، والترمذي ، وابن مردويه من حديث أبي هريرة . وأخرجه أحمد ، والترمذي وحسنه ، وابن ماجه ، وابن المنذر ، وابن مردويه من حديث الزبير بن العوّام . وأخرج أحمد في الزهد ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن حبان ، وابن مردويه ، والحاكم ، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن أوّل ما يسأل العبد عنه يوم القيامة من النعيم أن يقال له : ألم نصحّ لك جسدك ، ونروك من الماء البارد؟ » وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن جابر بن عبد الله قال : جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، وعمر ، فأطعمناهم رطباً ، وسقيناهم ماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هذا من النعيم الذي تسألون عنه » وأخرج عبد بن حميد ، وابن مردويه ، والبيهقي من حديث جابر بن عبد الله نحوه . وأخرج مسلم ، وأهل السنن ، وغيرهم عن أبي هريرة قال : خرج النبيّ ، فإذا هو بأبي بكر وعمر ، فقال : « ما أخرجكما من بيوتكما الساعة؟ » قالا : الجوع يا رسول الله ، قال : « والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما فقوما » فقاما معه ، فأتى رجلاً من الأنصار ، فإذا هو ليس في بيته ، فلما رأته المرأة قالت : مرحباً ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم « أين فلان؟ » قالت : انطلق يستعذب لنا الماء إذ جاء الأنصاريّ فنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ، فقال : الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني ، فانطلق ، فجاء بعذق فيه بسر ، وتمر . فقال : كلوا من هذا ، وأخذ المدية ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إياك والحلوب » فذبح لهم فأكلوا من الشاة ، ومن ذلك العذق ، وشربوا ، فلما شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ، وعمر : « والذي نفسي بيده لنسألن عن هذا النعيم يوم القيامة » وفي الباب أحاديث .
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
أقسم سبحانه بالعصر ، وهو الدهر ، لما فيه من العبر من جهة مرور الليل والنهار على تقدير الأدوار ، وتعاقب الظلام والضياء ، فإن في ذلك دلالة بينة على الصانع عزّ وجلّ ، وعلى توحيده ، ويقال لليل عصر ، وللنهار عصر ، ومنه قول حميد بن ثور :
ولم ينته العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تمنيا
ويقال للغداة والعشيّ : عصران ، ومنه قول الشاعر :
وأمطله العصرين حتى يملني ... ويرضى بنصف الدين والأنف راغم
وقال قتادة والحسن : المراد به في الآية العشيّ ، وهو ما بين زوال الشمس وغروبها ، ومنه قول الشاعر :
يروح بنا عمرو وقد قصر العصر ... وفي الروحة الأولى الغنيمة والأجر
وروي عن قتادة أيضاً : أنه آخر ساعة من ساعات النهار . وقال مقاتل : إن المراد به صلاة العصر ، وهي الصلاة الوسطى التي أمر الله سبحانه بالمحافظة عليها . وقيل : هو قسماً بعصر النبيّ صلى الله عليه وسلم . قال الزجاج : قال بعضهم : معناه ، ورب العصر . والأوّل أولى . { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ } هذا جواب القسم . الخسر ، والخسران : النقصان ، وذهاب رأس المال ، والمعنى : أن كل إنسان في المتاجر والمساعي وصرف الأعمار في أعمال الدنيا لفي نقص ، وضلال عن الحق حتى يموت . وقيل : المراد بالإنسان الكافر . وقيل : جماعة من الكفار : وهم : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد المطلب بن أسد ، والأوّل أولى لما في لفظ الإنسان من العموم ، ولدلالة الاستثناء عليه . قال الأخفش : { فِى خُسْرٍ } في هلكة . وقال الفراء : عقوبة . وقال ابن زيد : لفي شرّ . قرأ الجمهور : { والعصر } بسكون الصاد . وقرءوا أيضاً : { خسر } بضم الخاء ، وسكون السين . وقرأ يحيى بن سلام : ( والعصر ) بكسر الصاد . وقرأ الأعرج ، وطلحة ، وعيسى : ( خسر ) بضم الخاء والسين ، ورويت هذه القراءة عن عاصم .
{ إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي : جمعوا بين الإيمان بالله والعمل الصالح ، فإنهم في ربح لا في خسر؛ لأنهم عملوا للآخرة ، ولم تشغلهم أعمال الدنيا عنها ، والاستثناء متصل ، ومن قال : إن المراد بالإنسان الكافر فقط ، فيكون منقطعاً ، ويدخل تحت هذا الاستثناء كل مؤمن ومؤمنة ، ولا وجه لما قيل : من أن المراد الصحابة أو بعضهم ، فإن اللفظ عام لا يخرج عنه أحد ممن يتصف بالإيمان ، والعمل الصالح { وَتَوَاصَوْاْ بالحق } أي : وصى بعضهم بعضاً بالحق الذي يحق القيام به ، وهو الإيمان بالله ، والتوحيد ، والقيام بما شرعه الله ، واجتناب ما نهى عنه . قال قتادة : { بالحق } ، أي : بالقرآن ، وقيل : بالتوحيد ، والحمل على العموم أولى . { وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } أي : بالصبر عن معاصي الله سبحانه ، والصبر على فرائضه . وفي جعل التواصي بالصبر قريناً للتواصي بالحق دليل على عظيم قدره ، وفخامة شرفه ، ومزيد ثواب الصابرين على ما يحق الصبر عليه :
{ إِنَّ الله مَعَ الصابرين } [ الأنفال : 46 ] وأيضاً التواصي بالصبر مما يندرج تحت التواصي بالحق ، فإفراده بالذكر ، وتخصيصه بالنص عليه من أعظم الأدلة الدالة على إنافته على خصال الحق ، ومزيد شرفه عليها ، وارتفاع طبقته عنها .
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { والعصر } قال : الدهر . وأخرج ابن جرير عنه قال : هو ساعة من ساعات النهار . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال : هو ما قبل مغيب الشمس من العشيّ . وأخرج الفريابي ، وأبو عبيد في فضائله ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف عن عليّ بن أبي طالب أنه كان يقرأ : ( والعصر ونوائب الدهر ، إن الإنسان لفي خسر ، وإنه فيه إلى آخر الدهر ) . وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود أنه كان يقرأ : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ، وإنه لفيه إلى آخر الدهر ) .
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
الويل : هو مرتفع على الابتداء ، وسوّغ الابتداء به مع كونه نكرة كونه دعاء عليهم ، وخبره : { لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } والمعنى : خزي ، أو عذاب ، أو هلكة أو واد في جهنم لكل همزة لمزة . قال أبو عبيدة ، والزجاج : الهمزة اللمزة الذي يغتاب الناس ، وعلى هذا هما بمعنى وقال أبو العالية ، والحسن ، ومجاهد ، وعطاء بن أبي رباح : الهمزة الذي يغتاب الرجل في وجهه ، واللمزة : الذي يغتابه من خلفه . وقال قتادة عكس هذا . وروي عن قتادة ، ومجاهد أيضاً أن الهمزة : الذي يغتاب الناس في أنسابهم . وروي عن مجاهد أيضاً أن الهمزة : الذي يهمز الناس بيده . واللمزة الذي يلمزهم بلسانه . وقال سفيان الثوري : يهمزهم بلسانه ، ويلمزهم بعينه . وقال ابن كيسان الهمزة : الذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ ، واللمزة : الذي يكسر عينه على جليسه ، ويشير بيده وبرأسه وبحاجبه ، والأوّل أولى ، ومنه قول زياد الأعجم :
تدلي بودّي إذا لاقيتني كذبا ... وإن أغيب فأنت الهامز اللمزه
وقول الآخر :
إذا لقيتك عن سخط تكاشرني ... وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه
وأصل الهمز : الكسر . يقال : همز رأسه كسره ، ومنه قول العجاج :
ومن همزنا رأسه تهشما ... وقيل : أصل الهمز واللمز : الضرب والدفع . يقال : همزه يهمزه همزاً ، ولمزه يلمزه لمزاً : إذا دفعه وضربه ، ومنه قول الشاعر؛
ومن همزنا عزه تبركعا ... على أسته زوبعة أو زوبعا
البركعة : القيام على أربع . يقال بركعه ، فتبركع ، أي : صرعه ، فوقع على أسته . كذا في الصحاح ، وبناء فعلة يدلّ على الكثرة ، ففيه دلالة على أنه يفعل ذلك كثيراً ، وأنه قد صار ذلك عادة له ، ومثله ضحكة ولعنة . قرأ الجمهور : { همزة لمزة } بضم أوّلهما ، وفتح الميم فيهما . وقرأ الباقر ، والأعرج بسكون الميم فيهما . وقرأ أبو وائل ، والنخعي ، والأعمش : ( ويل للهمزة اللمزة ) والآية تعمّ كلّ من كان متصفاً بذلك ، ولا ينافيه نزولها عل سبب خاص ، فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . { الذى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ } الموصول بدل من كلّ ، أو في محل نصب على الذمّ ، وهذا أرجح؛ لأن البدل يستلزم أن يكون المبدل منه في حكم الطرح ، وإنما وصفه سبحانه بهذا الوصف؛ لأنه يجري مجرى السبب ، والعلة في الهمز واللمز ، وهو إعجابه بما جمع من المال ، وظنه أنه الفضل ، فلأجل ذلك يستقصر غيره . قرأ الجمهور : { جمع } مخففاً . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بالتشديد . وقرأ الجمهور : { وعدّده } بالتشديد . وقرأ الحسن ، والكلبي ، ونصر بن عاصم ، وأبو العالية بالتخفيف ، والتشديد في الكلمتين يدلّ على التكثير وهو جمع الشيء بعد الشيء ، وتعديده مرّة بعد أخرى . قال الفراء : معنى : { عدّده } أحصاه . وقال الزجاج : وعدّده لنوائب الدّهور . يقال : أعددت الشيء وعددته : إذا أمسكته . قال السديّ : أحصى عدده .
وقال الضحاك : أعدّ ماله لمن يرثه . وقيل : المعنى فاخر بكثرته وعدده ، والمقصود ذمه على جمع المال ، وإمساكه ، وعدم إنفاقه في سبيل الخير . وقيل : المعنى على قراءة التخفيف في « عدّده » : أنه جمع عشيرته وأقاربه . قال المهدوي : من خفف « وعدّده » ، فهو معطوف على المال ، أي : وجمع عدده .
وجملة : { يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ } مستأنفة : لتقرير ما قبلها ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال ، أي : يعمل عمل من يظنّ أن ماله يتركه حياً مخلداً لا يموت . وقال عكرمة : يحسب أن ماله يزيد في عمره ، والإظهار في موضع الإضمار للتقريع والتوبيخ . وقيل : هو تعريض بالعمل الصالح ، وأنه الذي يخلد صاحبه في الحياة الأبدية لا المال . وقوله : { كَلاَّ } ردع له عن ذلك الحسبان أي : ليس الأمر على ما يحسبه هذا الذي جمع المال وعدده ، واللام في : { لَيُنبَذَنَّ فِى الحطمة } جواب قسم محذوف ، أي : ليطرحنّ في النار ، وليلقينّ فيها . قرأ الجمهور : { لينبذنّ } وقرأ عليّ ، والحسن ، ومحمد بن كعب ، ونصر بن عاصم ، ومجاهد ، وحميد ، وابن محيصن : ( لينبذانّ ) بالتثنية ، أي : لينبذ هو وماله في النار . وقرأ الحسن أيضاً : { لينبذنّ } أي : لينبذن ماله في النار . { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحطمة } ؟ هذا الاستفهام للتهويل والتفظيع حتى كأنها ليست مما تدركه العقول ، وتبلغه الأفهام . ثم بيّنها سبحانه فقال : { نَارُ الله الموقدة } أي : هي نار الله الموقدة بأمر الله سبحانه ، وفي إضافتها إلى الاسم الشريف تعظيم لها وتفخيم ، وكذلك في وصفها بالإيقاد . وسميت « حطمة »؛ لأنها تحطم كل ما يلقى فيها وتهشمه ، ومنه :
إنا حطمنا بالقضيب مصعبا ... يوم كسرنا أنفه ليغضبا
قيل : هي الطبقة السادسة من طبقات جهنم . وقيل : الطبقة الثانية منها . وقيل : الطبقة الرابعة { التى تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة } أي : يخلص حرّها إلى القلوب فيعلوها ويغشاها ، وخصّ الأفئدة مع كونها تغشى جميع أبدانهم؛ لأنها محلّ العقائد الزائغة ، أو لكون الألم إذا وصل إليها مات صاحبها ، أي : إنهم في حال من يموت ، وهم لا يموتون . وقيل معنى : { تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة } أنها تعلم بمقدار ما يستحقه كل واحد منهم من العذاب ، وذلك بأمارات عرّفها الله بها . { إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ } أي : مطبقة مغلقة ، كما تقدّم بيانه في سورة البلد ، يقال أصدت الباب : إذا أغلقته ، ومنه قول قيس بن الرقيات :
إن في القصر لو دخلنا غزالا ... مصفقاً موصداً عليه الحجاب
{ فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ } في محل نصب على الحال من الضمير في { عليهم } ، أي : كائنين في عمد ممدّدة موثقين فيها ، أو في محلّ رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم في عمد ، أو صفة لمؤصدة ، أي : مؤصدة بعمد ممدّدة . قال مقاتل : أطبقت الأبواب عليهم ، ثم شدّت بأوتادٍ من حديد ، فلا يفتح عليهم باب ، ولا يدخل عليهم روح .
ومعنى كون العمد ممدّدة : أنها مطوّلة ، وهي : أرسخ من القصيرة . وقيل : العمد أغلال في جهنم ، وقيل : القيود . قال قتادة : المعنى : هم في عمد يعذّبون بها ، واختار هذا ابن جرير . قرأ الجمهور : { في عمد } بفتح العين ، والميم . وقيل : هو اسم جمع لعمود . وقيل : جمع له . قال الفرّاء : هي جمع لعمود كأديم وأدم . وقال أبو عبيدة : هي جمع عماد . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر بضم العين ، والميم جمع عمود . قال الفرّاء : هما جمعان صحيحان لعمود . واختار أبو عبيد ، وأبو حاتم وقراءة الجمهور . قال الجوهري : العمود عمود البيت ، وجمع القلة أعمدة ، وجمع الكثرة عمد وعمد ، وقرىء بهما . قال أبو عبيدة : العمود كل مستطيل من خشب أو حديد .
وقد أخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه سئل عن قوله : { وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } قال : هو المشاء بالنميمة ، المفرّق بين الجمع ، المغري بين الإخوان . وأخرج ابن جرير عنه : { وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ } قال : طعان . { لُّمَزَةٍ } قال : مغتاب . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً في قوله : { إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ } قال : مطبقة . { فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ } قال : عمد من نار . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : هي الأدهم . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الأبواب هي الممدّدة . وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : أدخلهم في عمد ، فمدّت عليهم في أعناقهم ، فشدّت بها الأبواب .
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
الاستفهام في قوله : { أَلَمْ تَرَ } لتقرير رؤيته صلى الله عليه وسلم بإنكار عدمها . قال الفراء : المعنى ألم تخبر . وقال الزجاج : ألم تعلم . وهو تعجيب له صلى الله عليه وسلم بما فعله الله { بأصحاب الفيل } الذين قصدوا تخريب الكعبة من الحبشة ، وكيف منصوبة بالفعل الذي بعدها ، ومعلقة لفعل الرؤية ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن يكون لكلّ من يصلح له . والمعنى : قد علمت يا محمد ، أو علم الناس الموجودون في عصرك ، ومن بعدهم بما بلغكم من الأخبار المتواترة من قصة أصحاب الفيل ، وما فعل الله بهم ، فما لكم لا تؤمنون؟ والفيل هو الحيوان المعروف ، وجمعه أفيال ، وفيول ، وفيلة . قال ابن السكيت : ولا تقول أفيلة ، وصاحبه فيال ، وسيأتي ذكر قصة أصحاب الفيل إن شاء الله . { أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ } أي : ألم يجعل مكرهم وسعيهم في تخريب الكعبة ، واستباحة أهلها في تضليل عما قصدوا إليه حتى لم يصلوا إلى البيت ولا إلى ما أرادوه بكيدهم ، والهمزة للتقرير كأنه قيل : قد جعل كيدهم في تضليل ، والكيد : هو إرادة المضرّة بالغير؛ لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشاً بالقتل والسبي ، ويكيدوا البيت الحرام بالتخريب والهدم .
{ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ } أي : أقاطيع يتبع بعضها بعضاً كالإبل المؤبلة . قال أبو عبيدة : { أبابيل } جماعات في تفرقة ، يقال جاءت الخيل أبابيل ، أي : جماعات من هاهنا وهاهنا . قال النحاس : وحقيقته أنها جماعات عظام ، يقال فلان ، توبل على فلان أي : تعظم عليه ، وتكبر ، وهو مشتق من الإبل ، وهو من الجمع الذي لا واحد له . وقال بعضهم : واحده أبول مثل عجول . وقال بعضهم : أبيل ، قال الواحدي : ولم نر أحداً يجعل لها واحداً . قال الفراء : لا واحد له من لفظه . وزعم الرؤاسي وكان ثقة أنه سمع في واحدها : أبالة مشدّداً . وحكى الفرّاء أيضاً : أبالة بالتخفيف . قال سعيد بن جبير : كانت طيراً من السماء لم ير قبلها ولا بعدها . قال قتادة : هي : طير سود جاءت من قبل البحر فوجاً فوجاً مع كل طائر ثلاثة أحجار : حجران في رجليه ، وحجر في منقاره لا يصيب شيئًا إلاّ هشمه . وقيل : كانت طيراً خضراً خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع . وقيل : كان لها خراطيم كخراطيم الطير ، وأكفّ كأكف الكلاب . وقيل : في صفتها غير ذلك ، والعرب تستعمل الأبابيل في الطير ، كما في قول الشاعر :
تراهم إلى الداعي سرعاً كأنهم ... أبابيل طير تحت دجن مسجن
وتستعملها في غير الطير كقول الآخر :
كادت تهدّ من الأصوات راحلتي ... أن سالت الأرض بالجرد الأبابيل
{ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ } الجملة في محلّ نصب صفة لطير .
قرأ الجمهور : { ترميهم } بالفوقية . وقرأ أبو حنيفة ، وأبو معمر ، وعيسى ، وطلحة بالتحتية ، واسم الجمع يذكر ويؤنث . وقيل : الضمير في القراءة الثانية لله عزّ وجلّ . قال الزجاج : { مّن سِجّيلٍ } أي : مما كتب عليهم العذاب به ، مشتقاً من السجل . قال في الصحاح قالوا : هي حجارة من طين طبخت بنار جهنم مكتوب فيها أسماء القوم . قال عبد الرحمن بن أبزى : { مّن سِجّيلٍ } من السماء ، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط . وقيل : من الجحيم التي هي سجين ، ثم أبدلت النون لاماً ، ومنه قول ابن مقبل :
ضرباً تواصت به الأبطال سجيلا ... وإنما هو سجيناً . قال عكرمة : كانت ترميهم بحجارة معها ، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجحدري ، وكان الحجر كالحمصة ، وفوق العدسة ، وقد قدّمنا الكلام في سجيل في سورة هود . { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ } أي : جعل الله أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته الدّواب فرمت به من أسفل ، شبه تقطع أوصالهم بتفرّق أجزائه . وقيل المعنى : أنهم صاروا كورق زرع قد أكلت منه الدّواب وبقي منه بقايا ، أو أكلت حبه ، فبقي بدون حبه . والعصف جمع عصفة ، وعصافة ، وعصيفة ، وقد قدّمنا الكلام في العصف في سورة الرحمن ، فارجع إليه .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن ابن عباس قال : جاء أصحاب الفيل حتى نزلوا الصفاح ، فأتاهم عبد المطلب فقال : إن هذا بيت الله لم يسلط عليه أحداً ، قالوا : لا نرجع حتى نهدمه ، وكانوا لا يقدّمون فيلهم إلاّ تأخر ، فدعا الله الطير الأبابيل ، فأعطاها حجارة سوداً عليها الطين ، فلما حاذتهم رمتهم ، فما بقي منهم أحد إلاّ أخذته الحكة ، فكان لا يحكّ الإنسان منهم جلده إلاّ تساقط لحمه . وأخرج ابن المنذر ، والحاكم ، وأبو نعيم ، والبيهقي عنه قال : أقبل أصحاب الفيل حتى إذا دنوا من مكة استقبلهم عبد المطلب ، فقال لملكهم : ما جاء بك إلينا؟ ألا بعثت ، فنأتيك بكل شيء؟ فقال : أخبرت بهذا البيت الذي لا يدخله أحد إلاّ أمن ، فجئت أخيف أهله ، فقال : إنا نأتيك بكل شيء تريد ، فارجع ، فأبى إلاّ أن يدخله ، وانطلق يسير نحوه ، وتخلف عبد المطلب ، فقام على جبل فقال : لا أشهد مهلك هذا البيت وأهله ، فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر حتى أظلتهم طير أبابيل التي قال الله : { تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ } فجعل الفيل يعجّ عجاً { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ } . وقصة أصحاب الفيل مبسوطة مطوّلة في كتب التاريخ والسير ، فلا نطوّل بذكرها .
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ } قال : حجارة مثل البندق ، وبها نضح حمرة مختمة مع كل طائر ثلاثة أحجار : حجران في رجليه ، وحجر في منقاره حلقت عليهم من السماء ، ثم أرسلت عليهم تلك الحجارة ، فلم تعد عسكرهم .
وأخرج أبو نعيم من طريق عطاء ، والضحاك عنه أن أبرهة الأشرم قدم من اليمن يريد هدم الكعبة ، فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل بريد مجتمعة ، لها خراطيم تحمل حصاة في منقارها ، وحصاتين في رجليها ، ترسل واحدة على رأس الرجل ، فيسيل لحمه ودمه ويبقى عظاماً خاوية لا لحم عليها ولا جلد ولا دم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الدلائل عنه أيضاً { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ } يقول : كالتبن . وأخرج ابن إسحاق في السيرة ، والواقديّ ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن عائشة قالت : لقد رأيت قائد الفيل ، وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان . وأخرج الواقديّ نحوه عن أسماء بنت أبي بكر . وأخرج أبو نعيم ، والبيهقي عن ابن عباس قال : ولد النبيّ صلى الله عليه وسلم عام الفيل . وأخرج ابن إسحاق ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن قيس بن مخرمة قال : ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل .
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
اللام في قوله : { لإيلاف } قيل : هي متعلقة بآخر السورة التي قبلها . كأنه قال سبحانه : أهلكت أصحاب الفيل لأجل تألف قريش . قال الفرّاء : هذه السورة متصلة بالسورة الأولى؛ لأنه ذكر سبحانه أهل مكة بعظيم نعمته عليهم فيما فعل بالحبشة . ثم قال : { لإيلاف قُرَيْشٍ } أي : فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش ، وذلك أن قريشاً كانت تخرج في تجارتها ، فلا يغار عليها في الجاهلية ، يقولون : هم أهل بيت الله عزّ وجلّ ، حتى جاء صاحب الفيل ليهدم الكعبة ، ويأخذ حجارتها فيبني بها بيتاً في اليمن يحجّ الناس إليه ، فأهلكهم الله عزّ وجلّ ، فذكرهم نعمته ، أي : فعل ذلك لإيلاف قريش ، أي : ليألفوا الخروج ولا يجترأ عليهم ، وذكر نحو هذا ابن قتيبة . قال الزجاج : والمعنى : فجعلهم كعصف مأكول { لإيلاف قُرَيْشٍ } أي : أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش ، وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف . وقال في الكشاف : إن اللام متعلق بقوله : { فَلْيَعْبُدُواْ } . أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين ، ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط؛ لأن المعنى : أما لا ، فليعبدوه . وقد تقدّم صاحب الكشاف إلى هذا القول الخليل بن أحمد ، والمعنى : إن لم يعبدوه لسائر نعمه ، فليعبدوه لهذه النعمة الجليلة . وقال الكسائي والأخفش : اللام لام التعجب ، أي اعجبوا لإيلاف قريش . وقيل : هي بمعنى إلى . قرأ الجمهور : ( لإئلاف ) بالياء مهموزاً من ألفت أؤلف إئلافاً . يقال : ألفت الشيء ألافاً وألفاً . وألفته إيلافاً بمعنى ، ومنه قول الشاعر :
المنعمين إذا النجوم تغيرت ... والظاعنين لرحلة الإيلاف
وقرأ ابن عامر : ( لإلاف ) بدون الياء . وقرأ أبو جعفر : ( لإلف ) . وقد جمع بين هاتين القراءتين الشاعر ، فقال :
زعمتم أن إخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاّف
وقرأ عكرمة : ( ليألف قريش ) بفتح اللام على أنها لام الأمر ، وكذلك هو : في مصحف ابن مسعود ، وفتح لام الأمر لغة معروفة . وقرأ بعض أهل مكة : ( إلاّف قريش ) واستشهد بقول أبي طالب :
تذود الورى من عصبة هاشمية ... إلاّفهم في الناس خير إلاّف
وقريش هم : بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ، فكل من كان من ولد النضر فهو قرشي ، ومن لم يلده النضر فليس بقرشي ، وقريش يأتي منصرفاً إن أريد به الحيّ ، وغير منصرف إن أريد به القبيلة ومنه قول الشاعر :
وكفى قريش المعضلات وسادها ... وقيل إنّ قريشاً بنو فهر بن مالك بن النضر . والأوّل أصح . وقوله : { إيلافهم } بدل من إيلاف قريش . و { رِحْلَةَ } مفعول به لإيلافهم وأفردها ، ولم يقل رحلتي الشتاء والصيف لأمن الإلباس . وقيل : إن إيلافهم تأكيد للأوّل لا بدل ، والأوّل أولى . ورجحه أبو البقاء .
وقيل : إن رحلة منصوبة بمصدر مقدّر ، أي : ارتحالهم رحلة { الشتاء والصيف } وقيل : هي منصوبة على الظرفية والرحلة : الارتحال ، وكانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء؛ لأنها بلاد حارّة ، والرحلة الأخرى إلى الشام في الصيف؛ لأنها بلاد باردة . وروي أنهم كانوا يشتون بمكة ، ويصيفون بالطائف ، والأوّل أولى ، فإن ارتحال قريش للتجارة معلوم معروف في الجاهلية والإسلام . قال ابن قتيبة : إنما كانت تعيش قريش بالتجارة ، وكانت لهم رحلتان في كل سنة : رحلة في الشتاء إلى اليمن ، ورحلة في الصيف إلى الشام ، ولولا هاتان الرحلتان لم يمكن بها مقام ، ولولا الأمن بجوارهم البيت لم يقدروا على التصرّف . { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت } أمرهم سبحانه بعبادته بعد أن ذكر لهم ما أنعم به عليهم أي : إن لم يعبدوه لسائر نعمه ، فليعبدوه لهذه النعمة الخاصة المذكورة ، والبيت الكعبة . وعرّفهم سبحانه بأنه ربّ هذا البيت؛ لأنها كانت لهم أوثان يعبدونها ، فميز نفسه عنها . وقيل : لأنهم بالبيت تشرفوا على سائر العرب ، فذكر لهم ذلك تذكيراً لنعمته . { الذى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ } أي : أطعمهم بسبب تينك الرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما . وقيل : إن هذا الإطعام هو أنهم لما كذبوا النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا عليهم ، فقال : اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ، فاشتد القحط ، فقالوا : يا محمد ادع الله لنا فإنا مؤمنون ، فدعا ، فأخصبوا وزال عنهم الجوع ، وارتفع القحط . { وآمنهم من خوف } أي : من خوف شديد كانوا فيه . قال ابن زيد : كانت العرب يغير بعضها على بعض ويسبي بعضها بعضاً ، فأمنت قريش من ذلك لمكان الحرم . وقال الضحاك ، والربيع ، وشريك ، وسفيان : آمنهم من خوف الحبشة مع الفيل .
وقد أخرج أحمد ، وابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « { لإيلاف قُرَيْشٍ * إيلافهم رِحْلَةَ الشتاء والصيف } ويحكم يا قريش ، اعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمكم من جوع ، وآمنكم من خوف » وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { لإيلاف قُرَيْشٍ } قال : نعمتي على قريش . { إيلافهم رِحْلَةَ الشتاء والصيف } كانوا يشتون بمكة ، ويصيفون بالطائف . { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت } قال : الكعبة . { الذى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ } قال : الجذام . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه : { لإيلاف قُرَيْشٍ * إيلافهم } قال : لزومهم . { الذى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ } يعني قريشاً أهل مكة بدعوة إبراهيم حيث قال : { وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات } [ البقرة : 126 ] { وآمنهم من خوف } حيث قال إبراهيم { رَبّ اجعل هذا البلد امِنًا } [ البقرة : 35 ] وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عنه أيضاً في قوله : { لإيلاف قُرَيْشٍ . . . } الآية ، قال : نهاهم عن الرحلة ، وأمرهم أن يعبدوا ربّ هذا البيت ، وكفاهم المؤنة ، وكانت رحلتهم في الشتاء والصيف ، ولم يكن لهم راحة في شتاء ولا صيف ، فأطعمهم الله بعد ذلك من جوع ، وآمنهم من خوف ، فألفوا الرحلة ، وكان ذلك من نعمة الله عليهم . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في الآية قال : أمروا أن يألفوا عبادة ربّ هذا البيت كإلفهم رحلة الشتاء والصيف ، وقد وردت أحاديث في فضل قريش ، وإن الناس تبع لهم في الخير والشرّ ، وإن هذا الأمر يعني الخلافة لا يزال فيهم ما بقي منهم اثنان ، وهي في دواوين الإسلام .
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له . والاستفهام لقصد التعجيب من حال من يكذب بالدين . والرؤية : بمعنى المعرفة ، والدين : الجزاء والحساب في الآخرة . قيل : وفي الكلام حذف ، والمعنى : أرأيت الذي يكذب بالدين أمصيب هو أم مخطىء . قال مقاتل ، والكلبي : نزلت في العاص بن وائل السهمي . وقال السديّ : في الوليد بن المغيرة . وقال الضحاك : في عمرو بن عائذ . وقال ابن جريج في أبي سفيان . وقيل : في رجل من المنافقين . قرأ الجمهور : { أرأيت } بإثبات الهمزة الثانية . وقرأ الكسائي بإسقاطها . قال الزجاج : لا يقال في « رأيت » : ريت ، ولكن ألف الاستفهام سهلت الهمزة ألفاً . وقيل الرؤية : هي البصرية ، فيتعدّى إلى مفعول واحد ، وهو الموصول ، أي : أبصرت المكذب . وقيل : إنها بمعنى أخبرني ، فيتعدى إلى اثنين . الثاني محذوف ، أي من هو؟
{ فَذَلِكَ الذى يَدُعُّ اليتيم } الفاء جواب شرط مقدّر ، أي إن تأملته أو طلبته ، فذلك الذي يدعّ اليتيم ، ويجوز أن تكون عاطفة على الذي يكذب : إما عطف ذات على ذات ، أو صفة على صفة . فعلى الأوّل يكون اسم الإشارة مبتدأ ، وخبره الموصول بعده ، أو خبر لمبتدأ محذوف ، أي : فهو ذلك ، والموصول صفته . وعلى الثاني يكون في محل نصب لعطفه على الموصول الذي هو في محل نصب . ومعنى { يدعّ } : يدفع دفعاً بعنف ، وجفوة ، أي : يدفع اليتيم عن حقه دفعاً شديداً ، ومنه قوله سبحانه : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } [ الطور : 13 ] وقد قدّمنا أنهم كانوا لا يورّثون النساء والصبيان { وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين } أي : لا يحضّ نفسه ، ولا أهله ، ولا غيرهم على ذلك بخلاً بالمال ، أو تكذيباً بالجزاء ، وهو مثل قوله في سورة الحاقة : { وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين } [ الحاقة : 34 ] .
{ فَوَيْلٌ } يومئذ { لّلْمُصَلّينَ } الفاء جواب لشرط محذوف كأنه قيل : إذا كان ما ذكر من عدم المبالاة باليتيم والمسكين ، فويل للمصلين { الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ } أي : عذاب لهم ، أو هلاك ، أو واد في جهنم لهم ، كما سبق الخلاف في معنى الويل ، ومعنى ساهون : غافلون غير مبالين بها ، ويجوز أن تكون الفاء؛ لترتيب الدعاء عليهم بالويل على ما ذكر من قبائحهم ، ووضع المصلين موضع ضميرهم للتوصل بذلك إلى بيان أن لهم قبائح أخر غير ما ذكر . قال الواحدي : نزلت في المنافقين الذين لا يرجون بصلاتهم ثواباً إن صلوا ، ولا يخافون عليها عقاباً إن تركوا ، فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها ، وإذا كانوا مع المؤمنين صلوا رياء ، وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا ، وهو معنى قوله : { الذين هُمْ يُرَاءونَ } أي : يراءون الناس بصلاتهم إن صلوا ، أو يراءون الناس بكل ما عملوه من أعمال البرّ؛ ليثنوا عليهم .
قال النخعي : { الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ } هو الذي إذا سجد قال برأسه هكذا ، وهكذا ملتفتاً . وقال قطرب : هو الذي لا يقرأ ولا يذكر الله . وقرأ ابن مسعود الذين هم عن صلاتهم لاهون . { وَيَمْنَعُونَ الماعون } . قال أكثر المفسرين : { الماعون } : اسم لما يتعاوزه الناس بينهم : من الدلو ، والفأس ، والقدر . وما لا يمنع كالماء ، والملح . وقيل هو الزكاة ، أي : يمنعون زكاة أموالهم . وقال الزجاج ، وأبو عبيد ، والمبرّد : الماعون في الجاهلية كل ما فيه منفعة حتى الفأس ، والدلو ، والقدر ، والقداحة وكل ما فيه منفعة من قليل وكثير ، وأنشدوا قول الأعشى :
بأجود منه بماعونه ... إذا ما سماؤهم لم تغم
قال الزجاج ، وأبو عبيد ، والمبرّد أيضاً : والماعون في الإسلام : الطاعة والزكاة ، وأنشدوا قول الراعي :
أخليفة الرحمن إنا معشر ... حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله من أموالنا ... حقّ الزكاة منزلا تنزيلا
قوم على الإسلام لما يمنعوا ... ماعونهم ويضيعوا التهليلا
وقيل : { الماعون } الماء . قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول : الماعون الماء ، وأنشدني :
تمجّ صبيرة الماعون صبا ... والصبيرة : السحاب . وقيل : الماعون : هو الحق على العبد على العموم . وقيل : هو المستغلّ من منافع الأموال ، مأخوذ من المعن ، وهو القليل . قال قطرب : أصل الماعون من القلة ، والمعن : الشيء القليل ، فسمى الله الصدقة والزكاة ، ونحو ذلك من المعروف ماعوناً؛ لأنه قليل من كثير . وقيل : هو ما لا يبخل به كالماء ، والملح ، والنار .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { أَرَءيْتَ الذى يُكَذّبُ بالدين } قال : يكذب بحكم الله . { فَذَلِكَ الذى يَدُعُّ اليتيم } قال : يدفعه عن حقه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عنه { فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ } قال : هم المنافقون يراءون الناس بصلاتهم إذا حضروا ، ويتركونها إذا غابوا ، ويمنعونهم العارية بغضاً لهم ، وهي الماعون . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عنه أيضاً : { الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ } قال : هم : المنافقون يتركون الصلاة في السرّ ، ويصلون في العلانية . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن مصعب بن سعد قال : قلت لأبيّ : أرأيت قول الله : { الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ } أينا لا يسهو؟ أينا لا يحدّث نفسه؟ قال : إنه ليس ذلك ، إنه إضاعة الوقت .
وأخرج أبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن سعد بن أبي وقاص قال : سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قوله : { الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ } قال : « هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها »
قال الحاكم ، والبيهقي : الموقوف أصح . قال ابن كثير : وهذا يعني الموقوف أصح إسناداً . قال : وقد ضعف البيهقي رفعه وصحّح وقفه ، وكذلك الحاكم . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف عن أبي برزة الأسلمي قال : لما نزلت هذه الآية : { الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الله أكبر ، هذه الآية خير لكم من أن يعطى كلّ رجل منكم جميع الدنيا ، هو الذي إن صلى لم يرج خير صلاته ، وإن تركها لم يخف ربه » وفي إسناده جابر الجعفي ، وهو ضعيف ، وشيخه مبهم لم يسمّ . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : هم الذين يؤخرونها عن وقتها . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وأبو داود ، والنسائي ، والبزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه من طرق عن ابن مسعود قال : كنا نعدّ الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية الدلو ، والقدر ، والفأس ، والميزان ، وما تتعاطون بينكم . وأخرج ابن مردويه عنه قال : كان المسلمون يستعيرون من المنافقين القدر ، والفأس ، وشبهه ، فيمنعونهم ، فأنزل الله : { وَيَمْنَعُونَ الماعون } .
وأخرج أبو نعيم ، والديلمي ، وابن عساكر عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الآية قال : « ما تعاون الناس بينهم الفأس ، والقدر ، والدلو ، وأشباهه » وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن قرّة بن دعموص النميري : أنهم وفدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ما تعهد إلينا؟ قال : « لا تمنعوا الماعون » قالوا : وما الماعون؟ قال : « في الحجر ، والحديدة ، وفي الماء » قالوا : فأيّ الحديدة؟ قال : « قدوركم النحاس ، وحديد الفأس الذي تمتهنون به » قالوا : وما الحجر؟ قال : « قدوركم الحجارة » قال ابن كثير : غريب جداً ، ورفعه منكر ، وفي إسناده من لا يعرف . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير عن سعيد بن عياض عن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : { الماعون } : الفأس ، والقدر ، والدلو . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي ، والضياء في المختارة من طرق عن ابن عباس في الآية قال : عارية متاع البيت . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، والبيهقي في سننه عن عليّ بن أبي طالب قال : الماعون الزكاة المفروضة { يُرَاءونَ } بصلاتهم { وَيَمْنَعُونَ } زكاتهم .
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
قرأ الجمهور : { إنا أعطيناك } وقرأ الحسن ، وابن محيصن ، وطلحة ، والزعفراني : ( أنطيناك ) بالنون . قيل : هي لغة العرب العاربة . قال الأعشى :
حباؤك خير حبا الملوك ... يصان الحلال وتنطى الحلولا
و { الكوثر } فوعل من الكثرة وصف به للمبالغة في الكثرة ، مثل النوفل من النفل ، والجوهر من الجهر . العرب تسمي كلّ شيء كثير في العدد ، أو القدر ، أو الخطر كوثراً ، ومنه قول الشاعر :
وقد ثار نقع الموت حتى تكوثرا ... فالمعنى على هذا : إنا أعطيناك يا محمد الخير الكثير البالغ في الكثرة إلى الغاية . وذهب أكثر المفسرين ، كما حكاه الواحدي إلى أن الكوثر نهر في الجنة . وقيل : هو حوض النبيّ صلى الله عليه وسلم في الموقف قاله عطاء . وقال عكرمة : الكوثر النبوّة . وقال الحسن : هو القرآن . وقال الحسن بن الفضل : هو تفسير القرآن ، وتخفيف الشرائع . وقال أبو بكر بن عياش : هو كثرة الأصحاب والأمة . وقال ابن كيسان : هو الإيثار . وقيل هو الإسلام . وقيل : رفعة الذكر . وقيل : نور القلب . وقيل : الشفاعة . وقيل : المعجزات . وقيل : إجابة الدعوة . وقيل : لا إله إلاّ الله . وقيل : الفقه في الدين . وقيل : الصلوات الخمس ، وسيأتي بيان ما هو الحق { فَصَلّ لِرَبّكَ } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، والمراد الأمر له صلى الله عليه وسلم بالدوام على إقامة الصلوات المفروضة . { وانحر } البدن التي هي خيار أموال العرب . قال محمد بن كعب : إن ناساً كانوا يصلون لغير الله ، وينحرون لغير الله ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن تكون صلاته ونحره له . وقال قتادة ، وعطاء ، وعكرمة : المراد صلاة العيد ، ونحر الأضحية . وقال سعيد بن جبير : صلّ لربك صلاة الصبح المفروضة بجمع . وانحر البدن في منى . وقيل : النحر وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة حذاء النحر قاله محمد بن كعب . وقيل : هو أن يرفع يديه في الصلاة عند التكبيرة إلى حذاء نحره . وقيل : هو أن يستقبل القبلة بنحره قاله الفراء ، والكلبي ، وأبو الأحوص . قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول نتناحر ، أي : نتقابل : نحر هذا ، إلى نحر هذا أي : قبالته ، ومنه قول الشاعر :
أبا حكم ما أنت عمّ مجالد ... وسيد أهل الأبطح المتناحر
أي : المتقابل . وقال ابن الأعرابي : هو : انتصاب الرجل في الصلاة بازاء المحراب . من قولهم : منازلهم تتناحر تتقابل . وروي عن عطاء أنه قال : أمره أن يستوي بين السجدتين جالساً حتى يبدو نحره . وقال سليمان التيمي : المعنى : وارفع يديك بالدعاء إلى نحرك ، وظاهر الآية الأمر له صلى الله عليه وسلم بمطلق الصلاة ، ومطلق النحر ، وأن يجعلهما لله عزّ وجلّ لا لغيره ، وما ورد في السنة من بيان هذا المطلق بنوع خاص ، فهو في حكم التقييد له ، وسيأتي إن شاء الله .
{ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر } أي : إن مبغضك هو المنقطع عن الخير على العموم . فيعمّ خيري الدنيا والآخرة ، أو الذي لا عقب له ، أو الذي لا يبقى ذكره بعد موته ، وظاهر الآية العموم ، وأن هذا شأن كل من يبغض النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولا ينافي ذلك كون سبب النزول هو العاص بن وائل ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، كما مرّ غير مرّة . قيل : كان أهل الجاهلية إذا مات الذكور من أولاد الرجل قالوا : قد بتر فلان ، فلما مات ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم خرج أبو جهل إلى أصحابه فقال : بتر محمد ، فنزلت الآية . وقيل : القائل بذلك عقبة بن أبي معيط . قال أهل اللغة : الأبتر من الرجال : الذي لا ولد له ، ومن الدوابّ : الذي لا ذنب له ، وكل أمر انقطع من الخير أثره فهو أبتر ، وأصل البتر القطع ، يقال بترت الشيء بتراً : قطعته .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن أنس قال : أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة ، فرفع رأسه مبتسماً فقال : « إنه أنزل عليّ آنفاً سورة » فقرأ : { بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم } { إِنَّا أعطيناك الكوثر } حتى ختمها قال : « هل تدرون ما الكوثر؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : « هو نهر أعطانيه ربي في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته كعدد الكواكب يختلج العبد منهم فأقول يا ربّ إنه من أمتي ، فيقال إنك لا تدري ما أحدث بعدك » وأخرجه أيضاً مسلم في صحيحه . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « دخلت الجنة ، فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ ، فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء ، فإذا مسك أذفر ، قلت : ما هذا يا جبريل؟ قال : هذا الكوثر الذي أعطاكه الله » وقد روي عن أنس من طرق كلها مصرحة بأن الكوثر هو النهر الذي في الجنة .
وأخرج ابن أبي شيبة ، والبخاري ، وابن جرير ، وابن مردويه عن عائشة أنها سئلت عن قوله : { إِنَّا أعطيناك الكوثر } قالت : هو نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم في بطنان الجنة . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه نهر في الجنة . وأخرج الطبراني في الأوسط عن حذيفة في قوله : { إِنَّا أعطيناك الكوثر } قال : نهر في الجنة . وحسن السيوطي إسناده . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن أسامة بن زيد مرفوعاً : أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك أعطيت نهراً في الجنة يدعى الكوثر ، فقال : « أجل ، وأرضه ياقوت ، ومرجان ، وزبرجد ، ولؤلؤ »
وأخرج ابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن رجلاً قال : يا رسول الله ما الكوثر؟ قال : " هو نهر من أنهار الجنة أعطانيه الله " فهذه الأحاديث تدلّ على أن الكوثر هو النهر الذي في الجنة ، فيتعين المصير إليها ، وعدم التعويل على غيرها ، وإن كان معنى الكوثر : هو الخير الكثير في لغة العرب ، فمن فسره بما هو أعمّ مما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فهو تفسير ناظر إلى المعنى اللغويّ .
كما أخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي وصححه ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن عطاء بن السائب قال : قال محارب بن دثار : قال سعيد بن جبير في الكوثر : قلت حدّثنا عن ابن عباس أنه قال : هو الخير الكثير ، فقال : صدق إنه للخير الكثير ، ولكن حدّثنا ابن عمر قال : نزلت : { إِنَّا أعطيناك الكوثر } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب يجري على الدرّ ، والياقوت ، تربته أطيب من المسك ، وماؤه أشد بياضاً من اللبن ، وأحلى من العسل " وأخرج البخاري ، وابن جرير ، والحاكم من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال في الكوثر : هو الخير الذي أعطاه الله إياه . قال أبو بشر : قلت لسعيد بن جبير ، فإن ناساً يزعمون أنه نهر في الجنة ، قال : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه . وهذا التفسير من حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه ناظر إلى المعنى اللغويّ كما عرّفناك ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فسّره فيما صح عنه أنه النهر الذي في الجنة ، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل . وأخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن عليّ بن أبي طالب قال : لما نزلت هذه السورة على النبيّ صلى الله عليه وسلم : { إِنَّا أعطيناك الكوثر * فَصَلّ لِرَبّكَ وانحر } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل : " ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟ " فقال : إنها ليست بنحيرة ، ولكن يأمرك إذا تحرّمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت ، وإذا ركعت ، وإذا رفعت رأسك من الركوع ، فإنها صلاتنا ، وصلاة الملائكة الذين هم في السماوات السبع ، وإن لكل شيء زينة ، وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " رفع اليدين من الاستكانة التي قال الله : { فَمَا استكانوا لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } " [ المؤمنون : 76 ] هو من طريق مقاتل بن حيان عن الأصبغ بن نباتة عن عليّ . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : «إن الله أوحى إلى رسوله أن ارفع يديك حذاء نحرك إذا كبرت للصلاة ، فذاك النحر» .
وأخرج ابن أبي شيبة ، والبخاري في تاريخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والدارقطني في الأفراد ، وأبو الشيخ ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن عليّ بن أبي طالب في قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وانحر } قال : وضع يده اليمنى على وسط ساعده اليسرى ، ثم وضعهما على صدره في الصلاة . وأخرج أبو الشيخ ، والبيهقي في سننه عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن شاهين في سننه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن ابن عباس { فَصَلّ لِرَبّكَ وانحر } قال : إذا صليت ، فرفعت رأسك من الركوع ، فاستو قائماً . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال : الصلاة المكتوبة ، والذبح يوم الأضحى . وأخرج البيهقي في سننه عنه : { وانحر } قال : يقول : واذبح يوم النحر . وأخرج البزار ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : قدم كعب بن الأشرف مكة . فقالت له قريش : أنت خير أهل المدينة وسيدهم ، ألا ترى إلى هذا الصابىء المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ، ونحن أهل الحجيج ، وأهل السقاية ، وأهل السدانة ، قال : أنتم خير منه ، فنزلت : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر } ونزلت : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب } [ النساء : 51 ] إلى قوله : { فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً } [ النساء : 52 ] . قال ابن كثير : وإسناده صحيح . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه عن أبي أيوب قال : لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى المشركون بعضهم إلى بعض فقالوا : إن هذا الصابىء قد بتر الليلة ، فأنزل الله : { إِنَّا أعطيناك الكوثر } إلى آخر السورة . وأخرج ابن سعد ، وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان أكبر ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم القاسم ، ثم زينب ، ثم عبد الله ، ثم أم كلثوم ، ثم فاطمة ، ثم رقية ، فمات القاسم ، وهو : أوّل ميت من أهله ، وولده بمكة ، ثم مات عبد الله ، فقال العاص بن وائل السهمي : قد انقطع نسله فهو أبتر ، فأنزل الله { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر } . وفي إسناده الكلبي . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر } قال : أبو جهل . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه { إِنَّ شَانِئَكَ } يقول : عدوّك .
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
الألف ، واللام في : { يا أيها الكافرون } للجنس ، ولكنها لما كانت الآية خطاباً لمن سبق في علم الله أنه يموت على كفره كان المراد بهذا العموم خصوص من كان كذلك؛ لأن من الكفار عند نزول هذه الآية من أسلم وعبد الله سبحانه . وسبب نزول هذه السورة أن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم سنة ، ويعبدوا إلهه سنة ، فأمره الله سبحانه أن يقول لهم : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } أي : لا أفعل ما تطلبون مني من عبادة ما تعبدون من الأصنام . قيل : والمراد فيما يستقبل من الزمان؛ لأن " لا " النافية لا تدخل في الغالب إلاّ على المضارع الذي في معنى الاستقبال ، كما أن «ما» لا تدخل إلاّ على مضارع في معنى الحال . { وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ } أي : ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي . { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } أي : ولا أنا قط فيما سلف عابد ما عبدتم فيه ، والمعنى : أنه لم يعهد مني ذلك .
{ وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ } أي : وما عبدتم في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته ، كذا قيل ، وهذا عل قول من قال إنه لا تكرار في هذه الآيات؛ لأن الجملة الأولى لنفي العبادة في المستقبل لما قدّمنا من أن «لا» لا تدخل إلاّ على مضارع في معنى الاستقبال ، والدليل على ذلك أن " لن " تأكيد لما تنفيه " لا " . قال الخليل في " لن " : إن أصله " لا " ، فالمعنى : لا أعبد ما تعبدون في المستقبل ، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أطلبه من عبادة إلهي . ثم قال : { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } أي : ولست في الحال بعابد معبودكم ، ولا أنتم في الحال بعابدين معبودي . وقيل : بعكس هذا ، وهو أن الجملتين الأوليين للحال ، والجملتين الأخريين للاستقبال بدليل قوله : { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } كما لو قال القائل : أنا ضارب زيداً ، وأنا قاتل عمراً ، فإنه لا يفهم منه إلاّ الاستقبال . قال الأخفش ، والفرّاء : المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون الساعة ما أعبد ، ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد .
قال الزجاج : نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال وفيما يستقبل ، ونفى عنهم عبادة الله في الحال وفيما يستقبل . وقيل : إن كل واحد منهما يصلح للحال ، والاستقبال ، ولكنا نخص أحدهما بالحال ، والثاني بالاستقبال رفعاً للتكرار . وكل هذا فيه من التكلف والتعسف مالا يخفى على منصف ، فإن جعل قوله : ولا { أعبد ما تعبدون } للاستقبال ، وإن كان صحيحاً على مقتضى اللغة العربية ، ولكنه لا يتمّ جعل قوله : { وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ } للاستقبال؛ لأن الجملة اسمية تفيد الدوام ، والثبات في كل الأوقات ، فدخول النفي عليها يرفع ما دلت عليه من الدوام ، والثبات في كل الأوقات ، ولو كان حملها على الاستقبال صحيحاً للزم مثله في قوله : { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } وفي قوله : { وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ } فلا يتمّ ما قيل من حمل الجملتين الأخريين على الحال ، وكما يندفع هذا يندفع ما قيل من العكس ، لأن الجملة الثانية ، والثالثة ، والرابعة كلها جمل اسمية مصدرة بالضمائر التي هي المبتدأ في كل واحد منها مخبر عنها باسم الفاعل العامل فيما بعده منفية كلها بحرف واحد ، وهو لفظ لا في كل واحد منها ، فكيف يصح القول مع هذا الاتحاد بأن معانيها في الحال والاستقبال مختلفة .
وأما قول من قال : إن كل واحد منها يصلح للحال والاستقبال ، فهو إقرار منه بالتكرار؛ لأن حمل هذا على معنى ، وحمل هذا على معنى مع الاتحاد يكون من باب التحكم الذي لا يدلّ عليه دليل .
وإذا تقرّر لك هذا ، فاعلم أن القرآن نزل بلسان العرب ، ومن مذاهبهم التي لا تجحد ، واستعمالاتهم التي لا تنكر أنهم إذا أرادوا التأكيد كرّروا؛ كما أن مذاهبهم أنهم إذا أرادوا الاختصار أوجزوا ، هذا معلوم لكل من له علم بلغة العرب ، وهذا مما لا يحتاج إلى إقامة البرهان عليه؛ لأنه إنما يستدل على ما فيه خفاء ، ويبرهن على ما هو متنازع فيه . وأما ما كان من الوضوح ، والظهور والجلاء بحيث لا يشك فيه شاك ، ولا يرتاب فيه مرتاب ، فهو مستغن عن التطويل غير محتاج إلى تكثير القال والقيل . وقد وقع في القرآن من هذا ما يعلمه كل من يتلو القرآن ، وربما يكثر في بعض السور ، كما في سورة الرحمن ، وسورة المرسلات ، وفي أشعار العرب من هذا ما لا يأتي عليه الحصر ، ومن ذلك قول الشاعر :
يا لبكر انشروا لي كليبا ... يا لبكر أين أين الفرار
وقول الآخر :
هلا سألت جموع كن ... دة يوم ولوا أين أينا
وقول الآخر :
يا علقمة يا علقمة يا علقمه ... خير تميم كلها وأكرمه
وقول الآخر :
ألا يا اسلمى ثم اسلمى ثمت اسلمى ... ثلاث تحيات وإن لم تكلم
وقول الآخر :
يا جعفر يا جعفر يا جعفر ... إن أك دحداحاً فأنت أقصر
وقول الآخر :
أتاك أتاك اللاحقون احبس احبس ... وقد ثبت عن الصادق المصدوق ، وهو أفصح من نطق بلغة العرب أنه كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاث مرات ، وإذا عرفت هذا ، ففائدة ما وقع في السورة من التأكيد هو قطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم ، وإنما عبر سبحانه بما التي لغير العقلاء في المواضع الأربعة؛ لأنه يجوز ذلك كما في قوله : سبحان ما سخركن لنا ، ونحوه ، والنكتة في ذلك أن يجري الكلام على نمط واحد ، ولا يختلف .
وقيل : إنه أراد الصفة كأنه قال : لا أعبد الباطل ، ولا تعبدون الحق . وقيل : إن «ما» في المواضع الأربعة هي : المصدرية لا الموصولة ، أي : لا أعبد عبادتكم ، ولا أنتم عابدون عبادتي إلخ ، وجملة : { لَكُمْ دِينَكُمْ } مستأنفة؛ لتقرير قوله : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } وقوله : { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } . كما أن قوله : { وَلِىَ دِينِ } تقرير لقوله : { وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ } في الموضعين ، أي : إن رضيتم بدينكم ، فقد رضيت بديني ، كما في قوله : { لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم } [ الشورى : 15 ] والمعنى : أن دينكم الذي هو الإشراك مقصور على الحصول لكم لا يتجاوزه إلى الحصول لي ، كما تطمعون . وديني الذي هو التوحيد مقصور على الحصول لي لا يتجاوزه إلى الحصول لكم . وقيل المعنى : لكم جزاؤكم ولي جزائي؛ لأن الدين الجزاء . قيل : وهذه الآية منسوخة بآية السيف . وقيل : ليست بمنسوخة؛ لأنها أخبار ، والأخبار لا يدخلها النسخ . قرأ الجمهور بإسكان الياء من قوله : { ولي } وقرأ نافع ، وهشام ، وحفص ، والبزي بفتحها . وقرأ الجمهور أيضاً بحذف الياء من ديني وقفاً ووصلاً ، وأثبتها نصر بن عاصم ، وسلام ، ويعقوب ، وصلاً ووقفاً . قالوا : لأنها اسم ، فلا تحذف . ويجاب بأن حذفها لرعاية الفواصل سائغ ، وإن كانت اسماً .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن ابن عباس : «أن قريشاً دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة ، ويزوّجوه ما أراد من النساء ، فقالوا : هذا لك يا محمد ، وكفّ عن شتم آلهتنا ، ولا تذكرها بسوء ، فإن لم تفعل ، فإنا نعرض عليك خصلة واحدة ، ولك فيها صلاح ، قال : ما هي؟ قالوا : تعبد آلهتنا سنة ، ونعبد إلهك سنة ، قال : حتى أنظر ما يأتيني من ربي ، فجاء الوحي من عند الله : { قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } إلى آخر السورة ، وأنزل الله : { قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون } إلى قوله : { بَلِ الله فاعبد وَكُن مّنَ الشاكرين } [ الزمر : 64- 66 ] .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في المصاحف عن سعيد بن مينا مولى أبي البحتري قال : «لقي الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن المطلب ، وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا محمد هلمّ ، فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، ونشترك نحن ، وأنت في أمرنا كله ، فإن كان الذي نحن عليه أصحّ من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظاً ، وإن كان الذي أنت عليه أصحّ من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظاً ، فأنزل الله : { قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون } إلى آخر السورة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عباس أن قريشاً قالت : لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك ، فأنزل الله : { قُلْ يأَيُّهَا الكافرون } السورة كلها .
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
النصر : العون ، مأخوذ من قولهم : قد نصر الغيث الأرض : إذا أعان على نباتها ، ومنع من قحطها ، ومنه قول الشاعر :
إذا انصرف الشهر الحرام فودّعي ... بلاد تميم وانصري أرض عامر
يقال نصره على عدوّه ينصره نصراً : إذا أعانه . والاسم النصرة . واستنصره على عدوّه : إذا سأله أن ينصره عليه . قال الواحدي : قال المفسرون : { إِذَا جَاء } ك يا محمد { نَصْرُ الله } على من عاداك ، وهم : قريش { والفتح } فتح مكة . وقيل : المراد نصره صلى الله عليه وسلم على قريش من غير تعيين . وقيل : نصره على من قاتله من الكفار . وقيل : هو فتح سائر البلاد . وقيل : هو ما فتحه الله عليه من العلوم ، وعبر عن حصول النصر ، والفتح بالمجيء للإيذان بأنهما متوجهان إليه صلى الله عليه وسلم . وقيل : « إذا » بمعنى قد . وقيل : بمعنى « إذ » . قال الرازي : الفرق بين النصر والفتح : أن الفتح هو تحصيل المطلوب الذي كان منغلقاً ، والنصر كالسبب للفتح ، فلهذا بدأ بذكر النصر ، وعطف عليه الفتح . أو يقال النصر كمال الدين ، والفتح إقبال الدنيا الذي هو تمام النعمة . أو يقال : النصر الظفر ، والفتح الجنة ، هذا معنى كلامه . ويقال : الأمر أوضح من هذا وأظهر ، فإن النصر هو التأييد الذي يكون به قهر الأعداء وغلبهم ، والاستعلاء عليهم ، والفتح هو فتح مساكن الأعداء ، ودخول منازلهم .
{ وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِى دِينِ الله أفواجا } أي : أبصرت الناس من العرب ، وغيرهم يدخلون في دين الله الذي بعثك به جماعات فوجاً بعد فوج . قال الحسن : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال العرب : أما إذ ظفر محمد بأهل الحرم ، وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل ، فليس لكم به يدان ، فكانوا يدخلون في دين الله أفواجاً ، أي : جماعات كثيرة بعد أن كانوا يدخلون واحداً واحداً ، واثنين اثنين ، فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام . قال عكرمة ، ومقاتل : أراد بالناس أهل اليمن ، وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين . وانتصاب { أفواجاً } على الحال من فاعل يدخلون ، ومحل قوله : يدخلون في دين الله النصب على الحال إن كانت الرؤية بصرية ، وإن كانت بمعنى العلم ، فهو في محل نصب عى أنه المفعول الثاني .
{ فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ } هذا جواب الشرط ، وهو العامل فيه ، والتقدير : فسبح بحمد ربك إذا جاء نصر الله . وقال مكي : العامل في « إذا » هو { جاء } . ورجحه أبو حيان ، وضعف الأوّل بأن ما جاء بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبلها ، وقوله : { بِحَمْدِ رَبّكَ } في محل نصب على الحال ، أي : فقل سبحان الله ملتبساً بحمده ، أو حامداً له . وفيه الجمع بين تسبيح الله المؤذن بالتعجب مما يسره الله له مما لم يكن يخطر بباله ولا بال أحد من الناس ، وبين الحمد له على جميل صنعه له ، وعظيم منته عليه بهذه النعمة التي هي النصر ، والفتح لأمّ القرى التي كان أهلها قد بلغوا في عداوته إلى أعلى المبالغ حتى أخرجوه منها بعد أن افتروا عليه من الأقوال الباطلة ، والأكاذيب المختلفة ما هو معروف من قولهم : هو مجنون ، هو ساحر ، هو شاعر ، هو كاهن .
ونحو ذلك . ثم ضم سبحانه إلى ذلك أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار ، أي : اطلب منه المغفرة لذنبك هضماً لنفسك ، واستقصاراً لعملك ، واستدراكاً لما فرط منك من ترك ما هو الأولى .
وقد كان صلى الله عليه وسلم يرى قصوره عن القيام بحق الله ، ويكثر من الاستغفار والتضرّع ، وإن كان قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر . وقيل : إن الاستغفار منه صلى الله عليه وسلم ومن سائر الأنبياء هو تعبد تعبدهم الله به ، لا لطلب المغفرة لذنب كائن منهم . وقيل : إنما أمره الله سبحانه بالاستغفار تنبيهاً لأمته ، وتعريضاً بهم فكأنهم هم المأمورون بالاستغفار . وقيل : إن الله سبحانه أمره بالاستغفار لأمته لا لذنبه . وقيل : المراد بالتسبيح هنا الصلاة . والأولى حمله على معنى التنزيه مع ما أشرنا إليه من كون فيه معنى التعجب سروراً بالنعمة ، وفرحاً بما هيأه الله من نصر الدين ، وكبت أعدائه ، ونزول الذلة بهم ، وحصول القهر لهم . قال الحسن : أعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أنه قد اقترب أجله ، فأمر بالتسبيح ، والتوبة؛ ليختم له في آخر عمره بالزيادة في العمل الصالح ، فكان يكثر أن يقول : « سبحانك اللَّهم وبحمدك اغفر لي إنك أنت التوّاب » قال قتادة ، ومقاتل : وعاش صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين . وجملة : { إِنَّهُ كَانَ تواباً } تعليل لأمره صلى الله عليه وسلم بالاستغفار ، أي : من شأنه التوبة على المستغفرين له يتوب عليهم ، ويرحمهم بقبول توبتهم ، وتوّاب من صيغ المبالغة ، ففيه دلالة على أنه سبحانه مبالغ في قبول توبة التائبين . وقد حكى الرازي في تفسيره اتفاق الصحابة على أن هذه السورة دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن عمر سألهم عن قول الله : { إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح } فقالوا : فتح المدائن والقصور ، قال : فأنت يا ابن عباس ما تقول؟ قال : قلت مثل ضرب لمحمد صلى الله عليه وسلم نعيت له نفسه . وأخرج البخاري ، وغيره عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه ، فقال : لم يدخل هذا معنا ، ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر : إنه من قد علمتم ، فدعاهم ذات يوم ، فأدخله معهم ، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلاّ ليريهم ، فقال : ما تقولون في قول الله عزّ وجلّ : { إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح } ؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم ، فلم يقل شيئًا ، فقال لي : أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت : لا ، فقال : ما تقول؟ فقلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له ، قال : { إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح } فذلك : علامة أجلك { فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوابَا } فقال عمر : لا أعلم منها إلاّ ما تقول .
وأخرج ابن النجار عن سهل بن سعد عن أبي بكر أن سورة : { إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح } حين أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نفسه نعيت إليه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول : « سبحان الله وبحمده ، وأستغفره وأتوب إليه » فقلت : يا رسول الله أراك تكثر من قول سبحان الله وبحمده ، وأستغفر الله وأتوب إليه فقال : « خبرني ربي أني سأرى علامة من أمتي ، فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده ، وأستغفر الله وأتوب إليه ، فقد رأيتها : { إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح } فتح مكة . { وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِى دِينِ الله أفواجا * فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوبَا } » وأخرج البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، وغيرهم عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : « سبحانك اللهم وبحمدك ، اللَّهم اغفر لي » يتأوّل القرآن يعني : { إذا جاء نصر الله والفتح } ، وفي الباب أحاديث .
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : لما نزلت : { إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « جاء أهل اليمن هم أرقّ قلوباً ، الإيمان يمان ، والفقه يمان ، والحكمة يمانية » وأخرج الطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة إذ قال : « الله أكبر قد جاء نصر الله والفتح ، وجاء أهل اليمن ، قوم رقيقة قلوبهم لينة طاعتهم ، الإيمان يمان ، والفقه يمان ، والحكمة يمانية » وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الناس دخلوا في دين الله أفواجاً ، وسيخرجون منه أفواجاً » وأخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِى دِينِ الله أفواجا } قال : « ليخرجنّ منه أفواجاً ، كما دخلوا فيه أفواجاً » .
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
معنى : { تَبَّت } هلكت . وقال مقاتل : خسرت . وقيل : خابت . وقال عطاء : ضلت . وقيل : صفرت من كل خير ، وخصّ اليدين بالتباب ، لأن أكثر العمل يكون بهما . وقيل : المراد باليدين نفسه ، وقد يعبر باليد عن النفس ، كما في قوله : { بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [ الحج : 10 ] أي : نفسك . والعرب تعبر كثيراً ببعض الشيء عن كله ، كقولهم : أصابته يد الدهر ، وأصابته يد المنايا ، كما في قول الشاعر :
لما أكبت يد الرزايا ... عليه نادى ألا مخبر
وأبو لهب : اسمه عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم . وقوله : { وَتَبَّ } أي : هلك . قال الفراء : الأوّل دعاء عليه ، والثاني خبر ، كما تقول : أهلكه الله وقد هلك . والمعنى : أنه قد وقع ما دعا به عليه ، ويؤيده قراءة ابن مسعود : ( وقد تبّ ) . وقيل : كلاهما إخبار ، أراد بالأوّل هلاك عمله ، وبالثاني هلاك نفسه . وقيل : كلاهما دعاء عليه ، ويكون في هذا شبه من مجيء العامّ بعد الخاص ، وإن كان حقيقة اليدين غير مرادة ، وذكره سبحانه بكنيته لاشتهاره بها ، ولكون اسمه ، كما تقدّم عبد العزى ، والعزّى اسم صنم ، ولكون في هذه الكنية ما يدلّ على أنه ملابس للنار؛ لأن اللهب هي لهب النار ، وإن كان إطلاق ذلك عليه في الأصل لكونه كان جميلاً ، وأن وجهه يتلهب لمزيد حسنه ، كما تتلهب النار . قرأ الجمهور : { لهب } بفتح اللام ، والهاء . وقرأ مجاهد ، وحميد ، وابن كثير وابن محيصن بإسكان الهاء ، واتفقوا على فتح الهاء في قوله : { ذَاتَ لَهَبٍ } . وروى صاحب الكشاف أنه قرىء : " تبت يدا أبو لهب " وذكر وجه ذلك . { مَا أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } أي : ما دفع عنه ما حلّ به من التباب ، وما نزل به من عذاب الله ما جمع من المال ، ولا ما كسب من الأرباح والجاه؛ أو المراد بقوله : { ماله } ما ورثه من أبيه ، وبقوله : { وَمَا كَسَبَ } الذي كسبه بنفسه . قال مجاهد : وما كسب من ولد ، وولد الرجل من كسبه ، ويجوز أن تكون «ما» في قوله : { مَا أغنى } استفهامية ، أي : أيّ شيء أغنى عنه؟ وكذا يجوز في قوله : { وَمَا كَسَبَ } أن تكون استفهامية ، أي : وأيّ شيء كسب؟ ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : وكسبه . والظاهر أن «ما» الأولى نافية ، والثانية موصولة .
ثم أوعده سبحانه بالنار فقال : { سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ } . قرأ الجمهور : { سيصلى } بفتح الياء ، وإسكان الصاد ، وتخفيف اللام ، أي : سيصلى هو بنفسه ، وقرأ أبو رجاء ، وأبو حيوة ، وابن مقسم ، والأشهب العقيلي ، وأبو السماك ، والأعمش ، ومحمد بن السميفع بضم الياء ، وفتح الصاد ، وتشديد اللام ، ورويت هذه القراءة عن ابن كثير ، والمعنى سيصليه الله ، ومعنى { ذَاتَ لَهَبٍ } ذات اشتعال وتوقد ، وهي : نار جهنم .
{ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب } معطوف على الضمير في " يصلى " . وجاز ذلك للفصل . أي : وتصلى امرأته ناراً ذات لهب . وهي أمّ جميل بنت حرب أخت أبي سفيان . وكانت تحمل الغضى والشوك ، فتطرحه بالليل على طريق النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كذا قال ابن زيد ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، ومرّة الهمداني . وقال مجاهد ، وقتادة ، والسديّ : إنها كانت تمشي بالنميمة بين الناس . والعرب تقول : فلان يحطب على فلان : إذا نمّ به ، ومنه قول الشاعر :
إن بني الأدرم حمالوا الحطب ... هم الوشاة في الرضا والغضب
عليهم اللعنة تترى والحرب ... وقال آخر :
من البيض لم يصطد على ظهر لأمة ... ولم يمش بين الناس بالحطب الرطب
وجعل الحطب في هذا البيت رطباً لما فيه من التدخين الذي هو زيادة في الشرّ ، ومن الموافقة للمشي بالنميمة . وقال سعيد بن جبير : معنى حمالة الحطب أنها حمالة الخطايا والذنوب ، من قولهم : فلان يحتطب على ظهره ، كما في قوله : { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ } [ الأنعام : 31 ] . وقيل : المعنى حمالة الحطب في النار . قرأ الجمهور : ( حمالة ) بالرفع على الخبرية على أنها جملة مسوقة للإخبار بأن امرأة أبي لهب حمالة الحطب ، وأما على ما قدّمنا من عطف ، { وامرأته } على الضمير في { تصلى } ، فيكون رفع حمالة على النعت لامرأته ، والإضافة حقيقية؛ لأنها بمعنى المضيّ ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هي حمالة . وقرأ عاصم بنصب : { حمالة } على الذمّ ، أو على أنه حال من امرأته . وقرأ أبو قلابة ( حاملة الحطب ) . { فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ } الجملة في محل نصب على الحال من { امرأته } . والجيد العنق ، والمسد الليف الذي تفتل منه الحبال ، ومنه قول النابغة :
مقذوفة بدخيس النحض بازلها ... له صريف صريف القعو بالمسد
وقول الآخر :
يا مسد الخوص تعوّذ مني ... إن كنت لدنا لينا فإني
وقال أبو عبيدة : المسد هو الحبل يكون من صوف . وقال الحسن : هي حبال تكون من شجر ينبت باليمن تسمى بالمسد . وقد تكون الحبال من جلود الإبل أو من أوبارها . قال الضحاك ، وغيره : هذا في الدنيا ، كانت تعير النبيّ صلى الله عليه وسلم بالفقر ، وهي تحتطب في حبل تجعله في عنقها فخنقها الله به فأهلكها . وهو في الآخرة حبل من نار . وقال مجاهد ، وعروة بن الزبير : هو سلسلة من نار تدخل في فيها وتخرج من أسفلها . وقال قتادة : هو قلادة من ودع كانت لها . قال الحسن : إنما كان خرزاً في عنقها . وقال سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة فاخرة من جوهر ، فقالت : واللات والعزّى ، لأنفقنها في عداوة محمد ، فيكون ذلك عذاباً في جسدها يوم القيامة . والمسد الفتل يقال : مسد حبله يمسده مسداً : أجاد فتله .
وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن عباس قال : «لما نزلت :
{ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } [ الشعراء : 214 ] خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا ، فهتف : " يا صباحاه " فاجتمعوا إليه ، فقال : " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدّقيّ؟ " قالوا : ما جربنا عليك كذباً ، قال : " فإني نذير لكم بني يدي عذاب شديد " فقال أبو لهب : تباً لك إنما جمعتنا لهذا؟ ثم قام فنزلت هذه السورة : { تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ } » . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ } . قال : خسرت . وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة قالت : إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ابنه من كسبه . ثم قرأت : { مَا أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } قالت : وما كسب ولده . وأخرج عبد الرزاق ، والحاكم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وَمَا كَسَبَ } قال : كسبه ولده . وأخرج ابن جرير ، والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر عن ابن عباس في قوله : { وامرأته حَمَّالَةَ الحطب } قال : كانت تحمل الشوك فتطرحه على طريق النبيّ صلى الله عليه وسلم ليعقره وأصحابه ، وقال : { حَمَّالَةَ الحطب } نقالة الحديث . { حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ } قال : هي حبال تكون بمكة . ويقال : المسد العصا التي تكون في البكرة . ويقال : المسد قلادة من ودع . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو زرعة عن أسماء بنت أبي بكر ، قالت : «لما نزلت : { تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ } أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة ، وفي يدها فهر ، وهي تقول :
مذمما أبينا ... ودينه قلينا وأمره عصينا
ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ، ومعه أبو بكر ، فلما رآها أبو بكر قال يا رسول الله قد أقبلت ، وأنا أخاف أن تراك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها لن تراني " وقرأ قرآناً اعتصم به ، كما قال تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا } [ الإسراء : 45 ] فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر ، ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني ، قال : لا ، وربّ البيت ما هجاك فولت وهي تقول : قد علمت قريش أني ابنة سيدها . وأخرجه البزار بمعناه ، وقال : لا نعلمه يروى بأحسن من هذا الإسناد .
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
قوله : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } الضمير يجوز أن يكون عائداً إلى ما يفهم من السياق لما قدمنا من بيان سبب النزول ، وأن المشركين قالوا : يا محمد انسب لنا ربك . فيكون مبتدأ ، والله مبتدأ ثان . و { أحد } خبر المبتدأ الثاني ، والجملة خبر المبتدأ الأوّل . ويجوز أن يكون { الله } بدلاً من { هو } ، والخبر { أحد } . ويجوز أن يكون الله خبراً أوّلاً ، و { أحد } خبراً ثانياً ، ويجوز أن يكون { أحد } خبراً لمبتدأ محذوف ، أي : هو أحد . ويجوز أن يكون { هو } ضمير شأن؛ لأنه موضع تعظيم ، والجملة بعده مفسرة له وخبر عنه ، والأوّل أولى . قال الزجاج : هو كناية عن ذكر الله ، والمعنى : إن سألتم تبيين نسبته { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } . قيل : وهمزة { أحد } بدل من الواو ، وأصله واحد . وقال أبو البقاء : همزة { أحد } أصل بنفسها غير مقلوبة ، وذكر أن أحد يفيد العموم دون واحد . ومما يفيد الفرق بينهما ما قاله الأزهري : أنه لا يوصف بالأحدية غير الله تعالى ، لا يقال رجل أحد ، ولا درهم أحد؛ كما يقال رجل واحد ، ودرهم واحد ، قيل : والواحد يدخل في الأحد ، والأحد لا يدخل فيه فإذا قلت لا يقاومه واحد جاز أن يقال لكنه يقاومه اثنان بخلاف قولك لا يقاومه أحد . وفرّق ثعلب بين واحد وبين أحد بأن الواحد يدخل في العدد وأحد لا يدخل فيه . وردّ عليه أبو حيان بأنه يقال أحد وعشرون ، ونحوه ، فقد دخله العدد ، وهذا كما ترى ، ومن جملة القائلين بالقلب الخليل . قرأ الجمهور : { قل هو الله أحد } بإثبات { قل } . وقرأ عبد الله بن مسعود وأبيّ : ( الله أحد ) بدون { قل } . وقرأ الأعمش : ( قل هو الله الواحد ) وقرأ الجمهور : بتنوين { أحد } ، وهو : الأصل . وقرأ زيد بن عليّ ، وأبان بن عثمان ، وابن أبي إسحاق ، والحسن ، وأبو السماك ، وأبو عمرو في رواية عنه بحذف التنوين للخفة ، كما في قول الشاعر :
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
وقيل : إن ترك التنوين لملاقاته لام التعريف ، فيكون الترك لأجل الفرار من التقاء الساكنين . ويجاب عنه بأن الفرار من التقاء الساكنين قد حصل مع التنوين بتحريك الأوّل منهما بالكسر { الله الصمد } الإسم الشريف مبتدأ ، و { الصمد } خبره . والصمد : هو الذي يصمد إليه في الحاجات ، أي : يقصد لكونه قادراً على قضائها ، فهو فعل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى المقبوض؛ لأنه مصمود إليه ، أي : مقصود إليه ، قال الزجاج : الصمد السند الذي انتهى إليه السؤدد . فلا سيد فوقه ، قال الشاعر :
ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
وقيل : معنى الصمد : الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزول . وقيل : معنى الصمد ما ذكر بعده من أنه الذي لم يلد ولم يولد .
وقيل : هو المستغني عن كل أحد ، والمحتاج إليه كل أحد . وقيل : هو المقصود في الرغائب ، والمستعان به في المصائب ، وهذان القولان يرجعان إلى معنى القول الأوّل . وقيل : هو الذي يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد . وقيل : هو الكامل الذي لا عيب فيه . وقال الحسن ، وعكرمة ، والضحاك ، وسعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب ، ومجاهد ، وعبد الله بن بريدة ، وعطاء ، وعطية العوفي ، والسديّ ، الصمد هو المصمت الذي لا جوف ، ومنه قول الشاعر :
شهاب حروب لا تزال جياده ... عوابس يعلكن الشكيم المصمدا
وهذا لا ينافي القول الأوّل لجواز أن يكون هذا أصل معنى الصمد ، ثم استعمل في السيد المصمود إليه في الحوائج ، ولهذا أطبق على القول الأوّل أهل اللغة وجمهور أهل التفسير ، ومنه قول الشاعر :
علوته بحسام ثم قلت له ... خذها حذيف فأنت السيد الصمد
وقال الزبرقان بن بدر :
سيروا جميعاً بنصف الليل واعتمدوا ... ولا رهينة إلاّ سيد صمد
وتكرير الاسم الجليل؛ للإشعار بأن من لم يتصف بذلك ، فهو بمعزل عن استحقاق الألوهية ، وحذف العاطف من هذه الجملة؛ لأنها كالنتيجة للجملة الأولى . وقيل : إن الصمد صفة للاسم الشريف ، والخبر هو ما بعده . والأوّل أولى؛ لأن السياق يقتضي استقلال كل جملة . { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } أي : لم يصدر عنه ولد ، ولم يصدر هو عن شيء ، لأنه لا يجانسه شيء ، ولاستحالة نسبة العدم إليه سابقاً ولاحقاً . قال قتادة : إن مشركي العرب قالوا : الملائكة بنات الله . وقالت اليهود : عزير ابن الله . وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، فأكذبهم الله فقال : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } . قال الرازي : قدّم ذكر نفي الولد مع أن الولد مقدّم للاهتمام ، لأجل ما كان يقوله الكفار من المشركين : إن الملائكة بنات الله ، واليهود : عزير ابن الله ، والنصارى : المسيح ابن الله ، ولم يدّع أحد أن له والداً ، فلهذا السبب بدأ بالأهمّ ، فقال : { لَمْ يَلِدْ } ثم أشار إلى الحجة فقال : { وَلَمْ يُولَدْ } ، كأنه قيل : الدليل على امتناع الولد اتفاقنا على أنه ما كان ولداً لغيره ، وإنما عبّر سبحانه بما يفيد انتفاء كونه لم يلد ولم يولد في الماضي ، ولم يذكر ما يفيد انتفاء كونه كذلك في المستقبل؛ لأنه ورد جواباً عن قولهم : ولد الله ، كما حكى الله عنهم بقوله : { أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ الله } [ الصافات : 151 ، 152 ] فلما كان المقصود من هذه الآية تكذيب قولهم ، وهم : إنما قالوا ذلك بلفظ يفيد النفي فيما مضى ، وردت الآية لدفع قولهم هذا .
{ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها؛ لأنه سبحانه إذا كان متصفاً بالصفات المتقدمة كان متصفاً بكونه لم يكافئه أحد ، ولا يماثله ولا يشاركه في شيء ، وأخر اسم كان لرعاية الفواصل ، وقوله : { له } متعلق بقوله : { كفواً } قدم عليه لرعاية الاهتمام؛ لأن المقصود نفي المكافأة عن ذاته .
وقيل : إنه في محل نصب على الحال ، والأوّل أولى . وقد ردّ المبرد على سيبويه بهذه الآية؛ لأن سيبويه قال : إنه إذا تقدّم الظرف كان هو الخبر ، وههنا لم يجعل خبراً مع تقدّمه ، وقد ردّ على المبرد بوجهين : أحدهما أن سيبويه لم يجعل ذلك حتماً بل جوّزه . والثاني أنا لا نسلم كون الظرف هنا ليس بخبر ، بل يجوز أن يكون خبراً ويكون كفواً منتصباً على الحال وحكى في الكشاف عن سيبويه على أن الكلام العربيّ الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقرّ ، واقتصر في هذه الحكاية على نقل أوّل كلام سيبويه ، ولم ينظر إلى أخره ، فإنه قال في آخر كلامه : والتقديم والتأخير والإلغاء ، والاستقرار عربيّ جيد كثير . انتهى . قرأ الجمهور : { كفواً } بضم الكاف والفاء ، وتسهيل الهمزة ، وقرأ الأعرج ، وسيبويه ، ونافع في رواية عنه بإسكان الفاء ، وروي ذلك عن حمزة مع إبداله الهمزة واواً وصلاً ووقفاً ، وقرأ نافع في رواية عنه : ( كفأ ) بكسر الكاف ، وفتح الفاء من غير مدّ . وقرأ سليمان بن عليّ بن عبد الله بن العباس كذلك مع المد ، وأنشد قول النابغة :
لا تقذفني بركن لا كفاء له ... والكفء في لغة العرب النظير . يقول . هذا كفؤك أي : نظيرك . والاسم الكفاءة بالفتح .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والمحاملي في أماليه ، والطبراني ، وأبو الشيخ في العظمة عن بريد لا أعلمه إلاّ رفعه . قال : { الصمد } الذي لا جوف له ، ولا يصح رفع هذا . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : { الصمد } الذي لا جوف له ، وفي لفظ : ليس له أحشاء . وأخرج ابن أبي عاصم ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس مثله . وأخرج ابن المنذر عنه قال : { الصمد } الذي لا يطعم ، وهو المصمت . وقال : أو ما سمعت النائحة ، وهي تقول :
لقد بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
وكان لا يطعم عند القتال ، وقد روي عنه أن الذي يصمد إليه في الحوائج ، وأنه أنشد البيت ، واستدلّ به على هذا المعنى ، وهو أظهر في المدح ، وأدخل في الشرف ، وليس لوصفه بأنه لا يطعم عند القتال كثير معنى . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : { الصمد } السيد الذي قد كمل في سؤدده ، والشريف الذي قد كمل في شرفه ، والعظيم الذي قد كمل في عظمته ، والحليم الذي قد كمل في حلمه ، والغنيّ الذي قد كمل في غناه ، والجبار الذي قد كمل في جبروته ، والعالم الذي قد كمل في علمه ، والحكيم الذي قد كمل في حكمته ، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد ، وهو الله سبحانه هذه صفة لا تنبغي إلاّ له ليس له كفو وليس كمثله شيء .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن مسعود قال : { الصمد } هو السيد الذي قد انتهى سؤدده ، فلا شيء أسود منه . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال : { الصمد } الذي تصمد إليه الأشياء إذا نزل بهم كربة أو بلاء . وأخرج ابن جرير من طرق عنه في قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } قال : ليس له كفو ولا مثل .
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
{ الفلق } الصبح ، يقال : هو أبين من فلق الصبح . وسمي فلقاً ، لأنه يفلق عنه الليل . وهو فعل بمعنى مفعول . قال الزجاج : لأن الليل ينفلق عنه الصبح ، ويكون بمعنى مفعول . يقال : هو أبين من فلق الصبح ، ومن فرق الصبح ، وهذا قول جمهور المفسرين ، ومنه قول ذي الرّمة :
حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلق ... هادئة في أخريات الليل منتصب
وقول الآخر :
يا ليلة لم أنمها بتّ مرتفقا ... أرعى النجوم لي أن نوّر الفلق
وقيل : هو سجن في جهنم . وقيل : هو اسم من أسماء جهنم . وقيل : شجرة في النار . وقيل : هو الجبال والصخور ، لأنها تفلق بالمياه ، أي : تشقق . وقيل : هو التفليق بين الجبال؛ لأنها تنشق من خوف الله . قال النحاس : يقال لكل ما اطمأنّ من الأرض فلق ، ومنه قول زهير :
ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت ... أيدي الركاب بهم من راكس فلقا
والراكس : بطن الوادي ، ومثله قول النابغة :
أتاني ودوني راكس فالضواجع ... وقيل : هو الرحم تنفلق بالحيوان . وقيل : هو كل ما انفلق عن جميع ما خلق الله من الحيوان والصبح والحبّ والنوى ، وكلّ شيء من نبات ، وغيره قاله الحسن ، والضحاك . قال القرطبي : هذا القول يشهد له الانشقاق ، فإن الفلق الشقّ ، فلقت الشيء فلقاً : شققته ، والتفليق مثله ، يقال فلقته ، فانفلق وتفلق ، فكلّ ما انفلق عن شيء من حيوان ، وصبح ، وحبّ ، ونوى ، وماء فهو فلق ، قال الله سبحانه : { فَالِقُ الإصباح } [ الأنعام : 96 ] وقال : { فَالِقُ الحب والنوى } [ الأنعام : 95 ] . انتهى . والقول الأوّل أولى؛ لأن المعنى ، وإن كان أعمّ منه وأوسع مما تضمنه لكنه المتبادر عند الإطلاق . وقد قيل في وجه تخصيص الفلق الإيماء إلى أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كلّ هذا العالم يقدر أيضاً أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه ، ويخشاه . وقيل : طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرح؛ فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظراً لطلوع الصباح . كذلك الخائف يكون مترقباً لطلوع صباح النجاح ، وقيل : غير هذا مما هو مجرّد بيان مناسبة ليس فيها كثير فائدة تتعلق بالتفسير .
{ مِن شَرّ مَا خَلَقَ } متعلق ب { أعوذ } أي : من شرّ كلّ ما خلقه سبحانه من جميع مخلوقاته ، فيعمّ جميع الشرور . وقيل : هو إبليس وذرّيته . وقيل : جهنم ، ولا وجه لهذا التخصيص ، كما أنه لا وجه لتخصيص من خصّص هذا العموم بالمضارّ البدنية . وقد حرّف بعض المتعصبين هذه الآية مدافعة عن مذهبه ، وتقويماً لباطله ، فقرءوا بتنوين : " شرّ " على أن : «ما» نافية . والمعنى : من شرّ لم يخلقه . ومنهم عمرو بن عبيد ، وعمرو بن عائذ . { وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } الغاسق الليل . والغسق الظلمة . يقال غسق الليل يغسق إذا أظلم . قال الفراء : يقال غسق الليل ، وأغسق إذا أظلم ، ومنه قول قيس بن الرقيات :
إن هذا الليل قد غسقا ... واشتكيت الهمّ والأرقا
وقال الزجاج : قيل لليل غاسق؛ لأنه أبرد من النهار ، والغاسق البارد ، والغسق البرد ، ولأن في الليل تخرج السباع من آجامها ، والهوامّ من أماكنها ، وينبعث أهل الشرّ على العبث والفساد ، كذا قال ، وهو : قول بارد ، فإن أهل اللغة على خلافه ، وكذا جمهور المفسرين ووقوبه : دخول ظلامه ، ومنه قول الشاعر :
وقب العذاب عليهم فكأنهم ... لحقتهم نار السموم فأخمدوا
أي : دخل العذاب عليهم . ويقال وقبت الشمس : إذا غابت . وقيل : الغاسق الثريا . وذلك أنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين ، وإذا طلعت ارتفع ذلك ، وبه قال ابن زيد . وهذا محتاج إلى نقل عن العرب أنهم يصفون الثريا بالغسوق . وقال الزهري : هو الشمس إذا غربت ، وكأنه لاحظ معنى الوقوب ، ولم يلاحظ معنى الغسوق . وقيل : هو القمر إذا خسف . وقيل : إذا غاب . وبهذا قال قتادة ، وغيره . واستدلوا بحديث أخرجه أحمد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن عائشة قالت : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً إلى القمر لما طلع فقال : « يا عائشة استعيذي بالله من شرّ هذا ، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب » قال الترمذي : بعد إخراجه حسن صحيح ، وهذا لا ينافي قول الجمهور؛ لأن القمر آية الليل ، ولا يوجد له سلطان إلاّ فيه ، وهكذا يقال في جواب من قال : إنه الثريا . قال ابن الأعرابي في تأويل هذا الحديث : وذلك أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر . وقيل الغاسق : الحية إذا لدغت . وقيل الغاسق : كل هاجم يضرّ كائناً ما كان ، من قولهم غسقت القرحة : إذا جرى صديدها . وقيل : الغاسق هو السائل ، وقد عرّفناك أن الراجح في تفسير هذه الآية هو ما قاله أهل القول الأوّل ، ووجه تخصيصه أن الشرّ فيه أكثر ، والتحرز من الشرور فيه أصعب ، ومنه قولهم : الليل أخفى للويل . { وَمِن شَرّ النفاثات فِى العقد } النفاثات هنّ السواحر ، أي : ومن شر النفوس النفاثات ، أو النساء النفاثات ، والنفث النفخ ، كما يفعل ذلك من يرقي ويسحر . وقيل : مع ريق . وقيل : بدون ريق ، والعقد جمع عقدة ، وذلك أنهنّ كن ينفثن في عقد الخيوط حين يسحرن بها ، ومنه قول عنترة :
فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يعقد فحقّ له العقود
وقول متمم بن نويرة :
نفث في الخيط شبيه الرقى ... من خشية الجنة والحاسد
قال أبو عبيدة : النفاثات هيّ : بنات لبيد الأعصم اليهودي ، سحرن النبيّ صلى الله عليه وسلم . قرأ الجمهور : { النفاثات } جمع نفاثة على المبالغة . وقرأ يعقوب ، وعبد الرحمن بن ساباط ، وعيسى بن عمر : ( النافثات ) جمع نافثة . وقرأ الحسن : ( النفاثات ) بضم النون . وقرأ أبو الربيع : ( النفثات ) بدون ألف .
{ وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } الحسد : تمني زوال النعمة التي أنعم الله بها على المحسود . ومعنى { إذا حسد } : إذا أظهر ما في نفسه من الحسد ، وعمل بمقتضاه ، وحمله الحسد على إيقاع الشرّ بالمحسود . قال عمر بن عبد العزيز : لم أر ظالماً أشبه بالمظلوم من حاسد ، وقد نظم الشاعر هذا المعنى فقال :
قل للحسود إذا تنفس طعنة ... يا ظالماً وكأنه مظلوم
ذكر الله سبحانه في هذه السورة إرشاد رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الاستعاذة من شرّ كل مخلوقاته على العموم ، ثم ذكر بعض الشرور على الخصوص مع اندراجه تحت العموم لزيادة شرّه ، ومزيد ضرّه ، وهو الغاسق ، والنفاثات ، والحاسد ، فكأن هؤلاء لما فيهم من مزيد الشرّ حقيقون بإفراد كل واحد منهم بالذكر .
وقد أخرج ابن مردويه عن عمرو بن عبسة قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق } فقال : « يا ابن عبسة أتدري ما الفلق؟ » قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : « بئر في جهنم » وأخرجه ابن أبي حاتم من قول عمرو بن عبسة غير مرفوع . وأخرج ابن مردويه عن عقبة بن عامر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اقرأ : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق } هل تدري ما الفلق؟ باب في النار إذا فتحت سعرت جهنم » وأخرج ابن مردويه ، والديلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عزّ وجلّ : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق } فقال : « هو سجن في جهنم يحبس فيه الجبارون والمتكبرون ، وإن جهنم لتتعوّذ بالله منه » وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الفلق جبّ في جهنم » وهذه الأحاديث لو كانت صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان المصير إليها واجباً ، والقول بها متعيناً .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : الفلق سجن في جهنم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : الفلق الصبح . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال : الفلق الخلق . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } وقال : النجم هو الغاسق ، وهو الثريا . وأخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم من وجه آخر عنه غير مرفوع . وقد قدّمنا تأويل هذا ، وتأويل ما ورد أن الغاسق القمر .
وأخرج أبو الشيخ عنه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا ارتفعت النجوم رفعت كل عاهة عن كل بلد »
وهذا لو صح لم يكن فيه دليل على أن الغاسق هو النجم أو النجوم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس : { وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } قال : الليل إذا أقبل . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس : { وَمِن شَرّ النفاثات فِى العقد } قال : الساحرات . وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : هو ما خالط السحر من الرقي . وأخرج النسائي ، وابن مردويه عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ، ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلق شيئًا وكل إليه » وأخرج ابن سعد ، وابن ماجه ، والحاكم ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال : جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم يعودني فقال : « ألا أرقيك برقية رقاني بها جبريل؟ » فقلت : بلى بأبي أنت وأمي ، قال : « بسم الله أرقيك ، والله يشفيك من كل داء فيك مِن شَرّ النفاثات فِى العقد ، وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ » فرقى بها ثلاث مرّات . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } قال : نفس ابن آدم وعينه .
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
وقرأ الجمهور : { قُلْ أَعُوذُ } بالهمزة . وقرىء بحذفها ، ونقل حركتها إلى اللام . وقرأ الجمهور بترك الإمالة في الناس ، وقرأ الكسائي بالإمالة . ومعنى { ربّ الناس } : مالك أمرهم ، ومصلح أحوالهم ، وإنما قال { ربّ الناس } مع أنه ربّ جميع مخلوقاته للدلالة على شرفهم ، ولكون الاستعاذة وقعت من شرّ ما يوسوس في صدورهم . وقوله : { مَلِكِ الناس } عطف بيان جيء به لبيان أن ربيته سبحانه ليست كربية سائر الملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم ، بل بطريق الملك الكامل ، والسلطان القاهر . { إله الناس } هو أيضاً عطف بيان كالذي قبله لبيان أن ربوبيته ، وملكه قد انضمّ إليهما المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي بالاتحاد والإعدام ، وأيضاً الربّ قد يكون ملكاً ، وقد لا يكون ملكاً ، كما يقال ربّ الدار ، وربّ المتاع ، ومنه قوله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله } [ التوبة : 31 ] فبين أنه ملك الناس . ثم الملك قد يكون إلها ، وقد لا يكون ، فبيّن أنه إله؛ لأن اسم الإله خاصّ به لا يشاركه فيه أحد ، وأيضاً بدأ باسم الربّ ، وهو اسم لمن قام بتدبيره ، وإصلاحه من أوائل عمره إلى أن صار عاقلاً كاملاً ، فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك ، فذكر أنه ملك الناس . ثم لما علم أن العبادة لازمة له واجبة عليه ، وأنه عبد مخلوق ، وأن خالقه إله معبود بيّن سبحانه أنه إله الناس ، وكرّر لفظ الناس في الثلاثة المواضع؛ لأن عطف البيان يحتاج إلى مزية الإظهار؛ ولأن التكرير يقتضي مزيد شرف الناس .
{ مِن شَرّ الوسواس } قال الفرّاء : هو : بفتح الواو بمعنى الاسم ، أي : الموسوس ، وبكسرها المصدر ، أي : الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة . وقيل : هو بالفتح اسم بمعنى الوسوسة ، والوسوسة : هي حديث النفس ، يقال : وسوست إليه نفسه وسوسة ، أي : حدّثته حديثاً ، وأصلها الصوت الخفيّ . ومنه قيل : لأصوات الحلي وسواس ، ومنه قول الأعشى :
تسمع للحلى وسواساً إذا انصرفت ... قال الزجاج : الوسواس هو الشيطان ، أي : ذي الوسواس . ويقال إن الوسواس ابن لإبليس ، وقد سبق تحقيق معنى الوسوسة في تفسير قوله : { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان } [ الأعراف : 20 ] ومعنى { الخناس } : كثير الخنس ، وهو التأخر ، يقال خنس يخنس : إذا تأخر ، ومنه قول العلاء بن الحضرمي يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فإذا دخسوا بالشرّ فاعف تكرّما ... وإن خنسوا عند الحديث فلا تسل
قال مجاهد : إذا ذكر الله خنس وانقبض . وإذا لم يذكر انبسط على القلب . ووصف بالخناس؛ لأنه كثير الاختفاء ، ومنه قوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس } [ التكوير : 15 ] يعني : النجوم لاختفائها بعد ظهورها ، كما تقدّم . وقيل : الخناس اسم لابن إبليس ، كما تقدّم في الوسواس . { الذى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ الناس } الموصول يجوز أن يكون في محل جرّ نعتاً للوسواس ، ويجوز أن يكون منصوباً على الذم ، ويجوز أن يكون مرفوعاً على تقدير مبتدأ .
وقد تقدّم معنى الوسوسة . قال قتادة : إن الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان ، فإذا غفل ابن آدم عن ذكر الله وسوس له ، وإذا ذكر العبد ربه خنس . قال مقاتل : إن الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه سلطه الله على ذلك ، ووسوسته هي الدعاء إلى طاعته بكلام خفيّ يصل إلى القلب من غير سماع صوت .
ثم بيّن سبحانه الذي يوسوس بأنه ضربان : جني ، وإنسي ، فقال : { مِنَ الجنة والناس } أما شيطان الجنّ ، فيوسوس في صدور الناس ، وأما شيطان الإنس ، فوسوسته في صدور الناس أنه يرى نفسه كالناصح المشفق ، فيوقع في الصدر من كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة ما يوقع الشيطان فيه بوسوسته ، كما قال سبحانه : { شياطين الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] ويجوز أن يكون متعلقاً ب { يوسوس } أي : يوسوس في صدورهم من جهة الجنة ، ومن جهة الناس ، ويجوز أن يكون بياناً للناس . قال الرازي ، وقال قوم : من الجنة والناس قسمان مندرجان تحت قوله : { فِى صُدُورِ الناس } لأن القدر المشترك بين الجنّ والإنس يسمى إنساناً ، والإنسان أيضاً يسمى إنساناً ، فيكون لفظ الإنسان واقعاً على الجنس ، والنوع بالاشتراك . والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه لفظ الإنس والجنّ ما روي أنه جاء نفر من الجنّ . فقيل لهم : من أنتم؟ قالوا : ناس من الجنّ . وأيضاً قد سماهم الله رجالاً في قوله : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن } [ الجن : 6 ] . وقيل : يجوز أن يكون المراد أعوذ بربّ الناس من الوسواس الخنّاس الذي يوسوس في صدور الناس ، ومن الجنة والناس ، كأنه استعاذ ربّه من ذلك الشيطان الواحد ، ثم استعاذ بربّه من جميع الجنة ، والناس . وقيل : المراد بالناس الناسي ، وسقطت الياء كسقوطها في قوله : { يَوْمَ يَدْعُو الداع } [ القمر : 6 ] ثم بيّن بالجنة والناس؛ لأن كل فرد من أفراد الفريقين في الغالب مبتلى بالنسيان ، وأحسن من هذا أن يكون قوله : { والناس } معطوفاً على الوسواس ، أي : من شرّ الوسواس ، ومن شرّ الناس كأنه أمر أن يستعيذ من شرّ الجنّ والإنس . قال الحسن : أما شيطان الجنّ ، فيوسوس في صدور الناس ، وأما شيطان الإنس ، فيأتي علانية . وقال قتادة : إن من الجنّ شياطين ، وإن من الإنس شياطين ، فنعوذ بالله من شياطين الجنّ والإنس . وقيل : إن إبليس يوسوس في صدور الجنّ ، كما يوسوس في صدور الإنس ، وواحد الجنة جنيّ كما أن واحد الإنس إنسيّ . والقول الأوّل هو أرجح هذه الأقوال ، وإن كان وسوسة الإنس في صدور الناس لا تكون إلاّ بالمعنى الذي قدّمنا ، ويكون هذا البيان تذكر الثقلين للإرشاد إلى أن من استعاذ بالله منهما ارتفعت عنه محن الدنيا والآخرة .
وقد أخرج ابن أبي داود عن ابن عباس في قوله : { الوسواس الخناس } قال : مثل الشيطان كمثل ابن عرس واضع فمه على فم القلب ، فيوسوس إليه ، فإن ذكر الله خنس ، وإن سكت عاد إليه فهو الوسواس الخنّاس . وأخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان ، وأبو يعلى ، وابن شاهين ، والبيهقي في الشعب عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم ، فإن ذكر الله خنس ، وإن نسيه التقم قلبه ، فذلك الوسواس الخنّاس » وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { الوسواس الخناس } قال : الشيطان جاث على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، وإذا ذكر الله خنس . وأخرج ابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة ، والبيهقي عنه قال : ما من مولود يولد إلاّ على قلبه الوسواس ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا غفل وسوس ، فذلك قوله : { الوسواس الخناس } . وقد ورد في معنى هذا غيره ، وظاهره أن مطلق ذكر الله يطرد الشيطان ، وإن لم يكن على طريق الاستعاذة ، ولذكر الله سبحانه فوائد جليلة حاصلها الفوز بخيري الدنيا والآخرة .