كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني
وأخرج ابن جرير عنه قال : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ } أي : عرفتم { واعتدوا } يقول : اجترءوا في السبت بصيد السمك ، فمسخهم الله قردة بمعصيتهم ، ولم يعش مسيخ قط فوق ثلاثة أيام ، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل . وأخرج ابن المنذر عنه قال : القردة والخنازير من نسل الذين مسخوا . وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال : انقطع ذلك النسل . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال : مسخت قلوبهم ، ولم يمسخوا قردة ، وإنما هو : مثل ضربه الله لهم كقوله : { كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [ الجمعة : 5 ] وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في الآية ، قال : أحلت لهم الحيتان ، وحرّمت عليهم يوم السبت ، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ، فكان فيهم ثلاثة أصناف ، وذكر نحو ما قدّمناه عن المفسرين . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : صار شباب القوم قردة ، والمشيخة صاروا خنازير . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { خاسئين } قال : ذليلين . وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { خاسئين } قال : صاغرين . وأخرج ابن جرير ، عن مجاهد مثله . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { فجعلناها نكالا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } من القرى { وَمَا خَلْفَهَا } من القرى : { وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ } الذين من بعدهم إلى يوم القيامة . وأخرج ابن جرير عنه : { فَجَعَلْنَاهَا } يعني الحيتان { نكالا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } من الذنوب التي عملوا قبل وبعد . وأخرج ابن جرير عنه : { فَجَعَلْنَاهَا } قال : جعلنا تلك العقوبة ، وهي المسخة { نكالا } عقوبة { لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } يقول : ليحذر من بعدهم عقوبتي { وَمَا خَلْفَهَا } يقول : للذين كانوا معهم { وَمَوْعِظَةً } قال : تذكرة ، وعبرة للمتقين .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
قيل : إن قصة ذبح البقرة المذكورة هنا مقدّم في التلاوة ، ومؤخر في المعنى ، على قوله تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا } [ البقرة : 72 ] ويجوز أن يكون قوله : { قتلتم } مقدّماً في النزول ، ويكون الأمر بالذبح مؤخراً ، ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها ، فكأن الله أمر بذبح البقرة حتى ذبحوها ، ثم وقع ما وقع من أمر القتل ، فأمروا أن يضربوه ببعضها هذا على فرض أن الواو تقتضي الترتيب ، وقد تقرر في علم العربية أنها لمجرد الجمع ، من دون ترتيب ، ولامعية ، وسيأتي في قصة القتل تمام الكلام ، والبقرة اسم للأنثى ، ويقال للذكر ثور ، وقيل إنها تطلق عليهما ، وأصله من البقر ، وهو : الشق؛ لأنها تشق الأرض بالحرث ، قال الأزهري : البقر اسم جنس ، وجمعه باقر ، وقد قرأ عكرمة ، ويحيى بن يعمر : { إن * البقر تشابه عَلَيْنَا } وقوله : { هُزُواً } الهزو هنا : اللعب والسخرية . وقد تقدم تفسيره . وإنما يفعل ذلك أهل الجهل؛ لأنه نوع من العبث الذي لا يفعله العقلاء ، ولهذا أجابهم موسى بالاستعاذة بالله سبحانه من الجهل . وقوله : { قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ } هذا نوع من أنواع تعنتهم المألوفة ، فقد كانوا يسلكون هذه المسالك في غالب ما أمرهم الله به ، ولو تركوا التعنت والأسئلة المتكلفة ، لأجزأهم ذبح بقرة من عُرْض البقر ، ولكنهم شدّدوا فشدّد الله عليهم كما سيأتي بيانه . والفارض : المسنة ، ومعناه في اللغة : الواسع . قال في الكشاف : وكأنها سميت فارضاً؛ لأنها فرضت سنها أي : قطعتها وبلغت آخرها . انتهى . ويقال للشيء القديم : فارض ، ومنه قول الراجز :
يَا ربَّ ذِي ضغن عَليَّ فَارِضٍ ... لَهُ قُرُو كَقُرُو الحَائِض
أي قدي . وقيل : الفارض : التي قد ولدت بطوناً كثيرة فيتسع جوفها ، والبكر : الصغيرة التي لم تحمل ، وتطلق في إناث البهائم وبني آدم على ما لم يفتحله الفحل ، وتطلق أيضاً على الأوّل من الأولاد ، ومنه قول الراجز :
يَا بَكْر بَكرين وَيَا صُلْبَ الكْبِد ... أصْبَحْت مِني كَذِراعٍ من عَضُدْ
والعوان : المتوسطة بين سني الفارض والبكر ، وهي التي قد ولدت بطناً ، أو بطنين؛ ويقال : هي التي قد ولدت مرة بعد مرة ، والإشارة بقوله : { بَيْنَ ذلك } إلى الفارض ، والبكر ، وهما : وإن كانتا مؤنثتين ، فقد أشير إليهما بما هو للمذكر على تأويل المذكور ، كأنه قال : بين ذلك المذكور . وجاز دخول بين المقتضية لشيئين؛ لأن المذكور متعدد . وقوله : { فافعلوا } تجديد للأمر وتأكيد له ، وزجر لهم عن التعنت ، فلم ينفعهم ذلك ، ولا نجع فيهم ، بل رجعوا إلى طبيعتهم ، وعادوا إلى مكرهم ، واستمرّوا على عادتهم المألوفة ، فقالوا : { ادع لَنَا رَبَّكَ } . واللون : واحد الألوان ، وجمهور المفسرين على أنها كانت جميعها صفراء . قال بعضهم : حتى قرنها ، وظلفها .
وقال الحسن . وسعيد بن جبير : إنها كانت صفراء القرن . والظلف فقط ، وهو : خلاف الظاهر . والمراد بالصفرة هنا الصفرة المعروفة . وروى عن الحسن أن صفراء معناه سوداء ، وهذا من بدع التفاسير ومنكراتها ، وليت شعري كيف يصدق على اللون الأسود الذي هو : أقبح الألوان أنه يسرّ الناظرين ، وكيف يصح وصفه بالفقوع الذي يعلم كل من يعرف لغة العرب أنه لا يجزي على الأسود بوجه من الوجوه ، فإنهم يقولون في وصف الأسود : حالك ، وحلكوك ، ودجوجى وغربيب . قال الكسائي : يقال : فقع لونها يفقع فقوعاً : إذا خلصت صفرته . وقال في الكشاف : « الفقوع أشدّ ما يكون من الصفرة وأنصعه » . ومعنى { تَسُرُّ الناظرين } : تدخل عليهم السرور إذا نظروا إليها إعجاباً بها ، واستحساناً للونها . قال وهب : كانت كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها . ثم لم ينزعوا عن غوايتهم ، ولا ارعووا من سفههم وجهلهم ، بل عادوا إلى تعنتهم فقال : { ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَّنَا مَا هِىَ إِنَّ البقر تشابه عَلَيْنَا } أي : أن جنس البقر يتشابه عليهم لكثرة ما يتصف منها بالعوان الصفراء الفاقعة ، ووعدوا من أنفسهم بالاهتداء إلى ما دلهم عليه ، والامتثال لما أمروا به . والذلول : التي لم يذللها العمل ، أي : هي غير مذللة بالعمل ، ولا ريضة به . وقوله : { تُثِيرُ } في موضع رفع على الصفة لبقرة ، أي : هي بقرة لا ذلول مثيرة ، وكذلك قوله : { وَلاَ تَسْقِى الحرث } في محل رفع؛ لأنه وصف لها ، أيّ ليست من النواضح التي يُسْنَى عليها لسقي الزروع ، وحرف النفي الآخر توكيد للأوّل ، أي هي : بقرة غير مذللة بالحرث ، ولا بالنضح ، ولهذا قال الحسن : كانت البقرة وحشية . وقال قوم : إن قوله : { تثير } فعل مستأنف ، والمعنى : إيجاب الحرث لها ، والنضح بها . والأوّل أرجح؛ لأنها لو كانت مثيرة ساقية ، لكانت مذللة ريضة ، وقد نفى الله ذلك عنها . وقوله : { مُّسَلَّمَةٌ } مرتفع على أنه من أوصاف البقرة ، ويجوز أن يكون مرتفعاً على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هي : مسلمة . والجملة في محل رفع على أنها صفة ، والمسلَّمة : هي التي لا عيب فيها . وقيل : مسلمة من العمل ، وهو ضعيف؛ لأن الله سبحانه قد نفى ذلك عنها ، والتأسيس خير من التأكيد ، والإفادة أولى من الإعادة . والشية أصلها : وشِيَة حذفت الواو كما حذفت من يشي ، وأصله يوشى ، ونظيره الزنة ، والعدة ، والصلة ، وهي مأخوذة من وشي الثوب : إذا نسج على لونين مختلفين ، وثور موشى في وجهه ، وقوائمه سواد . والمراد أن هذه البقرة خالصة الصفرة ليس في جسمها لمعة من لون آخر . فلما سمعوا هذه الأوصاف التي لا يبقى بعدها ريب ، ولا يخالج سامعها شك ، ولا تحتمل الشركة بوجه من الوجوه ، أقصروا من غوايتهم ، وانتبهوا من رقدتهم ، وعرفوا بمقدار ما أوقعهم فيه تعنتهم من التضييق عليهم { قَالُواْ الئان جِئْتَ بالحق } أي : أوضحت لنا الوصف ، وبينت لنا الحقيقة التي يجب الوقوف عندها ، فحصلوا تلك البقرة الموصوفة بتلك الصفات { فَذَبَحُوهَا } وامتثلوا الأمر الذي كان يسراً ، فعسروه ، وكان واسعاً فضيقوه { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } ما أمروا به؛ لما وقع منهم من التثبط ، والتعنت ، وعدم المبادرة .
فكان ذلك مظنة للاستبعاد ، ومحلا للمجىء بعبارة مشعرة بالتثبط الكائن منهم . وقيل : إنهم ما كادوا يفعلون؛ لعدم وجدان البقرة المتصفة بهذه الأوصاف ، وقيل : لارتفاع ثمنها . وقيل : لخوف انكشاف أمر المقتول ، والأوّل أرجح . وقد استدل جماعة من المفسرين والأصوليين بهذه الآية على جواز النسخ قبل إمكان الفعل .
وليس ذلك عندي بصحيح لوجهين : الأوّل : أن هذه الأوصاف المزيدة بسبب تكرر السؤال هي من باب التقييد للمأمور به ، لا من باب النسخ ، وبين البابين بَوْن بعيد كما هو مقرر في علم الأصول .
الثاني : أنا لو سلمنا أن هذا من باب النسخ لا من باب التقييد لم يكن فيه دليل على ما قالوه ، فإنه قد كان يمكنهم بعد الأمر الأوّل أن يعمدوا إلى بقرة من عُرْض البقر فيذبحونها ، ثم كذلك بعد الوصف بكونها جامعة بين الوصف بالعوان ، والصفراء ، ولا دليل يدل على أن هذه المحاورة بينهم ، وبين موسى عليه السلام واقعة في لحظة واحدة ، بل الظاهر أن هذه الأسئلة المتعنتة كانوا يتواطؤون عليها ، ويديرون الرأي بينهم في أمرها ، ثم يوردونها ، وأقلّ الأحوال الاحتمال القادح في الاستدلال .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن عبيدة السلماني؛ قال : كان رجل من بني إسرائيل عقيماً لا يولد له ، وكان له مال كثير ، وكان ابن أخيه وارثه ، فقتله ثم احتمله ليلاً ، فوضعه على باب رجل منهم ، ثم أصبح يدّعيه عليهم حتى تسلحوا ، وركب بعضهم إلى بعض ، فقال ذو الرأي منهم : علام يقتل بعضكم بعضاً ، وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى ، فذكروا ذلك له ، فقال : { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } الآية ، قال : فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ، ولكنهم شدّدوا ، فشدّد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها ، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها ، فقال : والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً ، فأخذوها بملء جلدها ذهباً ، فذبحوها فضربوه ببعضها ، فقام فقالوا : من قتلك؟ فقال : هذا ، لابن أخيه ، ثم مال ميتاً ، فلم يعط من ماله شيئاً ، ولم يورّث قاتل بعده . وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب : «من عاش بعد الموت» عن ابن عباس؛ أن القتيل وجد بين قريتين؛ وأن البقرة كانت لرجل كان يبرّ أباه ، فاشتروها بوزنها ذهباً . وأخرج ابن جرير ، عنه ، نحواً من ذلك ، ولم يذكر ما تقدم في البقرة .
وقد روى في هذا قصص مختلفة لا يتعلق بها كثير فائدة .
وأخرج البزار ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن بني إسرائيل لو أخذوا أدنى بقرة لأجزأهم ، أو لأجزأت عنهم » وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لولا أن بني إسرائيل قالوا : { وَإِنَّا إِن شَاء الله لَمُهْتَدُونَ } ما أعطوا أبداً ، ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر ، فذبحوها لأجزأت عنهم ، ولكنهم شدّدوا ، فشدّد الله عليهم » وأخرج نحوه الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر عن عكرمة؛ يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم . وأخرجه ابن جرير ، عن ابن جريج يرفعه . وأخرجه ابن جرير ، عن قتادة يرفعه أيضاً ، وهذه الثلاثة مرسلة . وأخرج نحوه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس؛ قال :
الفارض الهرمة ، والبكر الصغيرة ، والعوان النصف . وأخرج نحوه عن مجاهد . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } قال : بين الصغيرة ، والكبيرة ، وهي أقوى ما يكون ، وأحسنه .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه أيضاً في قوله : { صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا } قال : شديدة الصفرة ، تكاد من صفرتها تبيض . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عمر في قوله : { صَفْرَاء } قال : صفراء الظلف { فَاقِعٌ لَّوْنُهَا } قال : صافي . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال : { فَاقِعٌ لَّوْنُهَا } أي : صاف { تَسُرُّ الناظرين } أي : تعجب . وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في قوله : { صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا } قال : سوداء شديدة السواد . وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله : { لاَّ ذَلُولٌ } أي : لم يذلها العمل { تُثِيرُ الأرض } يعني ليست بذلول ، فتثير الأرض { وَلاَ تَسْقِى الحرث } يقول : ولا تعمل في الحرث { مُّسَلَّمَةٌ } قال : من العيوب . وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد . وقال : { لأشية فِيهَا } لا بياض فيها ولا سواد . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس { مُّسَلَّمَةٌ } لا عوار فيها . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة : { قَالُواْ الئان جِئْتَ بالحق } قالوا : الآن بينت لنا { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب في قوله : { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } لغلاء ثمنها .
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
قد تقدم ما ذكرناه في قصة ذبح البقرة ، فيكون تقدير الكلام : { وَإِذَا * قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادارأتم فِيهَا والله مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } فقال موسى لقومه : { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } إلى آخر القصة ، وبعدها : { فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا } الآية . وقال الرازي في تفسيره : اعلم أن وقوع القتل لا بد أن يكون متقدماً لأمره تعالى بالذبح ، فأما الإخبار عن وقوع ذلك القتل ، وعن أنه لا بدّ أن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة ، فلا يجب أن يكون متقدماً على الإخبار عن قصة البقرة ، فقول من يقول : هذه القصة يجب أن تكون متقدمة في التلاوة على الأولى ، خطأ؛ لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأولى في الوجود ، فأما التقدم في الذكر ، فغير واجب؛ لأنه تارة يقدم ذكر السبب على ذكر الحكم ، وأخرى على العكس من ذلك ، فكأنهم لما وقعت تلك الواقعة أمرهم الله بذبح البقرة ، فلما ذبحوها قال : وإذ قتلتم نفساً من قبل ، ونسب القتل إليهم بكون القاتل منهم . وأصل ادّارأتم تدارأتم ، ثم أدغمت التاء في الدال ، ولما كان الابتداء بالمدغم الساكن لا يجوز زادوا ألف الوصل ، ومعنى ادّارأتم : اختلفتم وتنازعتم؛ لأن المتنازعين يدرأ بعضهم بعضاً ، أي : يدفعه ، ومعنى { مُخْرِجٌ } مظهر : أي : ما كتمتم بينكم من أمر القتل ، فالله مظهره لعباده ، ومبينه لهم ، وهذه الجملة معترضة بين أجزاء الكلام ، أي : فادّارأتم فيها فقلنا . واختلف في تعيين البعض الذي أمروا أن يضربوا القتيل به ، ولا حاجة إلى ذلك مع ما فيه من القول بغير علم ، ويكفينا أن نقول : أمرهم الله بأن يضربوه ببعضها ، فأيّ : بعض ضربوا به ، فقد فعلوا ما أمروا به ، وما زاد على هذا ، فهو من فضول العلم ، إذ لم يرد به برهان .
قوله : { كذلك يحيىلله الموتى } في الكلام حذف ، والتقدير { فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا } فأحياه الله { كذلك * يحيى * الله الموتى } أي : إحياء كمثل هذا الإحياء . { وَيُرِيكُمْ ءاياته } أي : علاماته ، ودلائله الدالة على كمال قدرته ، وهذا يحتمل أن يكون خطاباً لمن حضر القصة ، ويحتمل أن يكون خطاباً للموجودين عند نزول القرآن . والقسوة : الصلابة واليبس ، وهي : عبارة عن خلوّها من الإنابة ، والإذعان لآيات الله ، مع وجود ما يقتضى خلاف هذه القسوة من إحياء القتيل ، وتكلمه ، وتعيينه لقاتله ، والإشارة بقوله : { مِن بَعْدِ ذلك } إلى ما تقدم من الآيات الموجبة لِلين القلوب ورقتها .
قيل : «أو» في قوله : { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } بمعنى الواو كما في قوله تعالى : { آثماً أَوْ كَفُوراً } [ الأَنسان : 24 ] وقيل : هي بمعنى بل ، وعلى أن «أو» على أصلها ، أو بمعنى الواو ، فالعطف على قوله : { كالحجارة } أي : هذه القلوب هي كالحجارة أو هي أشدّ قسوة منها ، فشبهوها بأيّ الأمرين شئتم ، فإنكم مصيبون في هذا التشبيه ، وقد أجاب الرازي في تفسيره عن وقوع «أو» ههنا مع كونها للترديد ، أي : لا يليق لعلام الغيوب بثمانية أوجه ، وإنما توصل إلى أفعل التفضيل بأشدّ مع كونه يصح أن يقال : وأقسى من الحجارة ، لكونه أبين وأدلّ على فرط القسوة ، كما قاله في الكشاف .
وقرأ الأعمش : «أو أشد» بنصب الدال ، وكأنه عطفه على الحجارة ، فيكون أشدّ مجروراً بالفتحة . وقوله : { وَإِنَّ مِنَ الحجارة } إلى آخره ، قال في الكشاف إنه بيان لفضل قلوبهم على الحجارة في شدّة القسوة ، وتقرير لقوله : { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } . انتهى . وفيه أن مجيء البيان بالواو غير مألوف ، ولا معروف ، والأولى جعل ما بعد الواو تذييلاً أو حالاً . التفجر : التفتح ، وقد سبق تفسيره . وأصل { يَشَّقَّقُ } يتشقق أدغمت التاء في الشين ، وقد قرأ الأعمش : «يتشقق» على الأصل . وقرأ ابن مصرف " ينشقّ " بالنون . والشق : واحد الشقوق ، وهو : يكون بالطول ، أو بالعرض ، بخلاف الانفجار ، فهو الانفتاح من موضع واحد مع اتساع الخرق . والمراد : أن الماء يخرج من الحجارة من مواضع الانفجار ، والانشقاق ، ومن الحجارة ما يهبط أي : ينحطّ من المكان الذي هو فيه إلى أسفل منه من الخشية لله التي تداخله ، وتحل به . وقيل : إن الهبوط مجاز عن الخشوع منها ، والتواضع الكائن فيها ، انقياداً لله عزّ وجلّ ، فهو مثل قوله تعالى : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ الله } [ الحشر : 21 ] وقد حكى ابن جرير عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة ، كما استعيرت الإرادة للجدار ، وكما قال الشاعر :
لَمَا أتَى خَبَرُ الزُّبير تواضَعَتْ ... سُورُ المَدينَة والجِبَالُ الخُشَّعُ
وذكر الجاحظ أن الضمير في قوله : { وَإِنَّ مِنْهَا } راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة ، وهو فاسد ، فإن الغرض من سياق هذا الكلام هو التصريح بأن قلوب هؤلاء بلغت في القسوة ، وفرط اليبس الموجبين لعدم قبول الحق ، والتأثر للمواعظ إلى مكان لم تبلغ إليه الحجارة ، التي هي أشدّ الأجسام صلابة ، وأعظمها صلادة ، فإنها ترجع إلى نوع من اللين ، وهي تفجرها بالماء ، وتشققها عنه ، وقبولها لما توجبه الخشية لله من الخشوع ، والانقياد ، بخلاف تلك القلوب ، وفي قوله : { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } من التهديد ، وتشديد الوعيد ما لا يخفى ، فإن الله عز وجل إذا كان عالماً بما يعملونه مطلعاً عليه غير غافل عنه كان لمجازاتهم بالمرصاد .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد في قوله : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادارأتم فِيهَا } قال : اختلفتم فيها { والله مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } قال : ما تغيبون . وأخرج ابن أبي حاتم ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن المسيب بن رافع قال : «ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله ، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله ، وتصديق ذلك في كتاب الله : { والله مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } » وأخرج أحمد ، والحاكم وصححه عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" لو أن رجلاً عمل عملاً في صخرة صماء لا باب لها ، ولا كوّة خرج عمله إلى الناس كائناً ما كان " وأخرج البيهقي من حديث عثمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كانت له سريرة صالحة ، أو سيئة أظهر الله منها ردّاءً ، يعرف به " ورواه البيهقي أيضاً بنحوه من قول عثمان قال : والموقوف أصح . وأخرج أبو الشيخ ، والبيهقي عن أنس مرفوعاً ، حديثاً طويلاً في هذا المعنى ومعناه : أن الله يلبس كل عامل عمله حتى يتحدّث به الناس ، ويزيدون ، ولو عمله في جوف بيت إلى سبعين بيتاً على كل بيت باب من حديد ، وفي إسناده ضعف . وأخرج ابن عديّ من حديث أنس أيضاً مرفوعاً : «إن الله مردّ كل امرىء رداء عمله» . ولجماعة من الصحابة ، والتابعين كلمات تفيد هذا المعنى .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا } قال : ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف . وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة أنهم ضربوه بفخذها . وأخرج مثله ابن جرير ، عن عكرمة . وأخرج نحوه عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد . وأخرج ابن جرير عن السدي قال : ضرب بالبضعة التي بين الكتفين . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ في العظمة ، عن وهب بن منبه قصة طويلة في ذكر البقرة ، وصاحبها لا حاجة إلى التطويل بذكرها ، وقد استوفاها في الدرّ المنثور .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذلك } قال : من بعد ما أراهم الله من إحياء الموتى ، ومن بعد ما أراهم من أمر القتيل : { فَهِىَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } ثم عذر الله الحجارة ، ولم يعذر شقيّ بني آدم فقال : { وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار } إلى آخر الآية . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس؛ قال : أي : من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس؛ قال : «إن الحجر ليقع على الأرض ولو اجتمع عليه فئام من الناس ما استطاعوه ، وأنه ليهبط من خشية الله» .
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)
قوله : { أَفَتَطْمَعُونَ } هذا الاستفهام فيه معنى الإنكار ، كأنه آيسهم من إيمان هذه الفرقة من اليهود . والخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو له ولهم . و { يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } أي : لأجلكم ، أو على تضمين آمن معنى استجاب ، أي : أتطمعون أن يستجيبوا لكم . والفريق : اسم جمع لا واحد له من لفظه . و { كَلاَمَ الله } أي : التوراة . وقيل : إنهم سمعوا خطاب الله لموسى حين كلمه ، وعلى هذا فيكون الفريق هم : السبعون الذين اختارهم موسى ، وقرأ الأعمش : { كلم الله } . والمراد من التحريف : أنهم عمدوا إلى ما سمعوه من التوراة ، فجعلوا حلاله حراماً ، أو نحو ذلك مما فيه موافقة لأهوائهم كتحريفهم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإسقاط الحدود عن أشرافهم ، أو سمعوا كلام الله لموسى فزادوا فيه ، ونقصوا ، وهذا إخبار عن إصرارهم على الكفر ، وإنكار على من طمع في إيمانهم ، وحالهم هذه الحال : أي : ولهم سلف حرفوا كلام الله ، وغيروا شرائعه ، وهم مقتدون بهم ، متبعون سبيلهم . ومعنى قوله : { مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } أي : من بعد ما فهموه بعقولهم مع كونهم يعلمون أن ذلك الذي ، فعلوه تحريف مخالف لما أمرهم الله به من بليغ شرائعه كما هي ، فهم وقعوا في المعصية عالمين بها ، وذلك أشد لعقوبتهم ، وأبين لضلالهم .
{ وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ } يعني أن المنافقين إذا لقوا الذين آمنوا : { قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } أي : إذا خلا الذين لم ينافقوا بالمنافقين قالوا لهم عاتبين عليهم : { أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ } أي : حكم عليكم من العذاب ، وذلك أن ناساً من اليهود أسلموا ، ثم نافقوا ، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذّب به آباؤهم ، وقيل إن المراد ما فتح الله عليهم في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدم معنى خلا . والفتح عند العرب : القضاء ، والحكم ، والفتاح : القاضي بلغة اليمن . والفتح : النصر ، ومن ذلك قوله تعالى : { يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ } [ البقرة : 89 ] وقوله : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح } [ الأنفال : 19 ] ومن الأوّل : { ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق } [ سبأ : 26 ] { وأنت خير الفاتحين } [ الأعراف : 89 ] أي : الحاكمين ، ويكون الفتح بمعنى الفرق بين الشيئين ، والمحاجة : إبراز الحجة ، أي : لا تخبروهم بما حكم الله به عليكم من العذاب ، فيكون ذلك حجة لهم عليكم ، فيقولون : نحن أكرم على الله منكم ، وأحق بالخير منه . والحجة ، الكلام المستقيم ، وحاججت فلاناً ، فحججته أي غلبته بالحجة . { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ما فيه الضرر عليكم من هذا التحدث الواقع منكم لهم . ثم وبخهم الله سبحانه { أَولا * يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } من جميع أنواع الإسرار وأنواع الإعلان ، ومن ذلك إسرارهم الكفر ، وإعلانهم الإيمان .
وقد أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : ثم قال الله لنبيه ، ومن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كلام الله } وليس قوله يسمعون التوراة كلهم قد سمعها ، ولكنهم الذين سألوا موسى رؤية ربهم ، فأخذتهم الصاعقة فيها . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله : { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } الآية ، قال : هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ، ثم يحرّفونه من بعد ما سمعوه ، ووعوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد في قوله : { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } الآية ، قال : الذين يحرفونه ، والذين يكتبونه هم العلماء منهم ، والذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم هؤلاء كلهم يهود . وأخرج ابن جرير ، عن السدى في قوله : { يَسْمَعُونَ كلام الله } قال : هي التوراة حرفوها . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا } أي : بصاحبكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنه إليكم خاصة { وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } قالوا لا تحدثوا العرب بهذا ، فقد كنتم تستفتحون به عليهم ، وكان منهم { لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبّكُمْ } أي : تقرّون بأنه نبيّ ، وقد علمتم أنه قد أخذ عليكم الميثاق باتباعه ، وهو يخبرهم أنه النبيّ الذي كان ينتظر ، ونجد في كتابنا : اجحدوه ولا تقرّوا به . وأخرج ابن جرير ، عنه أن هذه الآية في المنافقين من اليهود وقوله : { بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ } يعني : بما أكرمكم به . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي قال : نزلت هذه الآية في ناس من اليهود آمنوا ، ثم نافقوا ، وكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به ، فقال بعضهم لبعض : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب لتقولوا نحن أحبّ إلى الله منكم ، وأكرم على الله منكم .
وقد أخرج ابن جرير ، عن ابن زيد أن سبب نزول الآية : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يدخلنّ علينا قصبة المدينة إلا مؤمن " فكان اليهود يظهرون الإيمان ، فيدخلون ويرجعون إلى قومهم بالأخبار ، وكان المؤمنون يقولون لهم : أليس قد قال الله في التوراة كذا وكذا؟ فيقولون : نعم ، فإذا رجعوا إلى قومهم : { قَالُواْ أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ } الآية» . وروى عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، أن سبب نزول هذه الآية : «أن النبي صلى الله عليه وسلم قام لقوم قريظة تحت حصونهم فقال : " يا إخوان القردة ، والخنازير ، ويا عبدة الطاغوت " فقالوا : من أخبر هذا الأمر محمداً؟ ما خرج هذا الأمر إلا منكم : { أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ } » أي : بما حكم الله ليكون لهم حجة عليكم .
وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة أن السبب في نزول الآية : «أن امرأة من اليهود أصابت فاحشة ، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبتغون منه الحكم رجاء الرخصة ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عالمهم ، وهو ابن صوريا فقال له : " احكم " قال : فجبوه والتجبية : يحملونه على حمار ويجعلون وجهه إلى ذنب الحمار ، فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم : " أبحكم الله حكمت؟ " قال : لا ، ولكن نساءنا كنّ حساناً ، فأسرع فيهنّ رجالنا ، فغيرنا الحكم ، وفيه نزل : { وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } الآية»
وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة في قوله : { وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا } قال : هم اليهود ، وكانوا إذا لقوا الذين إمنوا قالوا آمنا ، فصانعوهم بذلك ليرضوا عنهم : { وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } نهى بعضهم بعضاً أن يحدثوا بما فتح الله عليهم ، وبين لهم في كتابه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، ونعته ، ونبوّته ، وقالوا : إنكم إذا ، فعلتم ذلك احتجوا بذلك عليكم عند ربكم { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أو لا يعلمون أن الله يعلم وما يسرّون إذا خلا بعضهم إلى بعض من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وتكذيبهم به ، وهم يجدونه مكتوباً عندهم . واخرج ابن جرير ، عن أبي العالية في قوله : { أَولا * يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } يعني من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولكذبهم ، وما يعلنون حين قالوا للمؤمنين آمناً ، وقد قال بمثل هذا جماعة من السلف .
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
قوله : { مِنْهُمْ } أي : من اليهود . والأمي منسوب إلى الأمة الأمية ، التي هي على أصل ، ولادتها من أمهاتها ، لم تتعلم الكتابة ، ولا تحسن القراءة للمكتوب ، ومنه حديث " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " وقال أبو عبيدة : إنما قيل لهم : أميون؛ لنزول الكتاب عليهم ، كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب ، فكأنه قال : ومنهم أهل الكتاب . وقيل : هم نصارى العرب . وقيل : هم قوم كانوا أهل كتاب فرفع كتابهم لذنوب ارتكبوها وقيل : هم : المجوس ، وقيل : غير ذلك . والراجح الأوّل . ومعنى { لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِىَّ } أنه لا علم لهم به إلا ما هم عليه من الأماني التي يتمنونها ، ويعللون بها أنفسهم . والأمانيّ : جمع أمنية ، وهي ما يتمناه الإنسان لنفسه ، فهؤلاء لا علم لهم بالكتاب الذي هو التوراة لما هم عليه من كونهم لا يكتبون ، ولا يقرءون المكتوب . والاستثناء منقطع ، أي : لكن الأمانيّ ثابتة لهم من كونهم مغفوراً لهم بما يدّعونه لأنفسهم من الأعمال الصالحة ، أو بما لهم من السلف الصالح في اعتقادهم . وقيل الأمانيّ : الأكاذيب ، كما سيأتي عن ابن عباس . ومنه قول عثمان بن عفان : ما تمنيت منذ أسلمت ، أي : ما كذبت ، حكاه عنه القرطبي في تفسيره ، وقيل الأماني : التلاوة ، ومنه قوله تعالى : { إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ } [ الحج : 52 ] أي : إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته ، أي : لا علم لهم إلا مجرد التلاوة من دون تفهم وتدبر ، ومنه قول كعب بن مالك :
تمنى كتابَ اللهِ أوّلَ لَيْلةٍ ... وأخِرَه لاقى حِمامَ المقادر
وقال آخر :
تمنَّى كتابَ الله آخِرَ لَيْلةٍ ... تَمنِّي داودَ الزَّبُورَ على رِسْلَ
وقيل الأماني : التقدير . قال الجوهري : يقال مني له ، أي قدّر ، ومنه قول الشاعر :
لا تأمنَنَّ وإن أمسيتَ في حَرَم ... حتى تُلاقِي ما يَمْنِي لك المانِي
أي : يقدر لك المقدر . قال في الكشاف : " والاشتقاق من مَنّي إذا قدّر؛ لأن المتمني يقدر في نفسه ، ويجوّز ما يتمناه ، وكذلك المختلق ، والقارىء يقدران كلمة كذا بعد كذا " . انتهى . و«إن» في قوله : { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } نافية ، أي : ما هم . والظن هو : التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد الغير الجازم . كذا في القاموس . أي : ما هم إلا يترددون بغير جزم ، ولا يقين ، وقيل الظن هنا بمعنى : الكذب . وقيل : هو : مجرد الحدس ، لما ذكر الله سبحانه أهل العلم منهم بأنهم غير عاملين بل يحرّفون كلام الله من بعد ما عقلوه ، وهم يعلمون ، ذكر أهل الجهل منهم بأنهم يتكلمون على الأماني ، ويعتمدون على الظن ، الذي لا يقفون من تقليدهم على غيره ، ولا يظفرون بسواه .
والويل : الهلاك . وقال الفراء : الأصل في الويل : وي ، أي : حزن كما تقول وي لفلان : أي : حزن له ، فوصلته العرب باللام ، قال الخليل : ولم نسمع على بنائه إلا ويح ، وويس ، وويه ، وويك ، وويب ، وكله متقارب في المعنى ، وقد فرّق بينها قوم ، وهي : مصادر لم ينطق العرب بأفعالها ، وجاز الابتداء به ، وإن كان نكرة؛ لأن فيه معنى الدعاء . والكتابة معروفة ، والمراد : أنهم يكتبون الكتاب المحرّف ، ولا يبينون ، ولا ينكرونه على فاعله . وقوله : { بِأَيْدِيهِمْ } تأكيد؛ لأن الكتابة لا تكون إلا باليد ، فهو مثل قوله : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] وقوله : { يَقُولُونَ بأفواههم } [ آل عمران : 167 ] وقال ابن السراج : هو : كناية عن أنه من تلقائهم . دون أن ينزل عليهم . وفيه أنه قد دلّ على أنه من تلقائهم قوله : { يَكْتُبُونَ الكتاب } فإسناد الكتابة إليهم يفيد ذلك . والاشتراء : الاستبدال ، وقد تقدّم الكلام عليه ، ووصفه بالقلة لكونه فانياً لا ثواب فيه ، أو لكونه حراماً لا تحلّ به البركة ، فهؤلاء الكتبة لم يكتفوا بالتحريف ، ولا بالكتابة لذلك المحرّف ، حتى نادوا في المحافل بأنه من عند الله ، لينالوا بهذه المعاصي المتكرّرة هذا الغرض النزير ، والعوض الحقير . وقوله : { مِّمَّا يَكْسِبُونَ } قيل من الرشا ونحوها . وقيل من المعاصي . وكرر الويل؛ تغليظاً عليهم ، وتعظيماً لفعلهم ، وهتكاً لأستارهم
{ وَقَالُواْ } أي : اليهود { لَن تَمَسَّنَا النار } الآية . وقد اختلف في سبب نزول الآية كما سيأتي بيانه . والمراد بقوله : { قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْدًا } الإنكار عليهم لما صدر منهم من هذه الدعوى الباطلة أنها لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة : أي : لم يتقدّم لكم مع الله عهداً بهذا ، ولا أسلفتم من الأعمال الصالحة ما يصدق هذه الدعوى حتى يتعين الوفاء بذلك ، وعدم إخلاف العهد ، أي : إن اتخذتم عند الله عهداً ، فلن يخلف الله عهده { أم تقولون على الله مالا تعلمون } . قال في الكشاف ، " و«أم» إما أن تكون معادلة بمعنى ، أيّ الأمرين كائن على سبيل التقرير؛ لأن العلم واقع بكون أحدهما ، ويجوز أن تكون منقطعة " . انتهى . وهذا توبيخ لهم شديد . قال الرازي في تفسيره : العهد في هذا الموضع يجري مجرى الوعد ، وإنما سمي خبره سبحانه عهداً؛ لأن خبره أوكد من العهود المؤكدة .
وقوله : { بلى } إثبات بعد النفي : أي بلى تمسكم ، لا على الوجه الذي ذكرتم من كونه أياماً معدودة ، والسيئة : المراد بها الجنس هنا ، ومنه قوله تعالى { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] { مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] ثم أوضح سبحانه أن مجرد كسب السيئة لا يوجب الخلود في النار ، بل لا بد أن تكون سيئة محيطة به . قيل : هي الشرك ، وقيل الكبيرة ، وتفسيرها بالشرك أولى؛ لما ثبت في السنة تواتراً من خروج عصاة الموحدين من النار ، ويؤيد ذلك كونها نازلة في اليهود ، وإن كان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وقد قرأ نافع { خطياته } بالجمع ، وقرأ الباقون بالإفراد ، وقد تقدم تفسير الخلود .
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب } قال : لا يدرون ما فيه : { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } قال : وهم يجحدون ، نبوّتك بالظن . وأخرج ابن جرير عنه قال : الأميون قوم لم يصدقوا رسولاً أرسله الله ولا كتاباً أنزله الله ، فكتبوا كتاباً بأيديهم ، ثم قالوا لقوم سفلة جهال : هذا من عند الله . وقد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم ، ثم سماهم أميين؛ لجحودهم كتب الله ورسله . وأخرج ابن جرير ، عن النخعي قال : منهم من لا يحسن أن يكتب . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { إِلاَّ أَمَانِىَّ } قال : الأحاديث . وأخرج ابن جرير عنه أنها الكذب . وكذا روى مثله عبد بن حميد ، عن مجاهد ، وزاد { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } قال : إلا يكذبون .
وأخرج النسائي ، وابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب } قال : نزلت في أهل الكتاب . وأخرج أحمد ، والترمذي ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، وصححه عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره » وأخرج ابن جرير من حديث عثمان مرفوعاً قال : « الويل جبل في النار » وأخرج البزار ، وابن مردويه ، من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعاً : أنه حجرٌ في النار . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بأيديهم } قال : هم أحبار اليهود ، وجدوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة أكحل ، أعين ، ربعة ، جعد الشعر ، حسن الوجه ، فلما وجدوه في التوراة مَحَوهُ حسداً ، وبغياً ، فأتاهم نفر من قريش ، فقالوا : تجدون في التوراة نبياً أمياً؟ فقالوا : نعم ، نجده طويلاً ، أزرق ، سبط الشعر . فأنكرت قريش ، وقالوا : ليس هذا منا . وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { ثَمَناً قَلِيلاً } قال : عرضاً من عرض الدنيا { فَوَيْلٌ لَّهُمْ } قال : فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب { وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } يقول : مما يأكلون به الناس السفلة ، وغيرهم . وقد ذكر صاحب الدرّ المنثور آثاراً عن جماعة من السلف أنهم كرهوا بيع المصاحف مستدلين بهذه الآية ، ولادلالة فيها على ذلك ، ثم ذكر اثارا عن جماعة منهم أنهم جوّزوا ذلك ولم يكرهوه .
وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والواحدي ، عن ابن عباس؛ أن اليهود كانوا يقولون : مدة الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنما نعذب بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوماً واحداً في النار ، وإنما هي : سبعة أيام معدودة ، ثم ينقطع العذاب ، فأنزل الله في ذلك : { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار } الآية .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال : وجد أهل الكتاب مسيرة ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين ، فقالوا : لن تعذب أهل النار إلا قدر أربعين ، فإذا كان يوم القيامة ألجموا في النار ، فساروا فيها حتى انتهوا إلى سقر ، وفيها شجرة الزقوم إلى آخر يوم من الأيام المعدودة ، فقال لهم خزنة النار : يا أعداء الله ، زعمتم أنكم لن تعذبوا في النار إلا أياماً معدودة ، فقد انقضى العدد وبقي الأمد ، فيأخذون في الصعود يرهقون على وجوههم . وأخرج ابن جرير عنه أن اليهود قالوا : لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة مدة عبادة العجل . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن عكرمة؛ قال : اجتمعت يهود يوماً ، فخاصموا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات ، أربعين يوماً ، ثم يخلفنا فيها ناس ، وأشاروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وردّ يديه على رأسه : «كذبتم بل أنتم خالدون مخلدون فيها لا نخلفكم فيها ، إن شاء الله أبداً ، ففيهم نزلت هذه الآية : { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار } » وأخرج ابن جرير ، عن زيد بن أسلم مرفوعاً نحوه . وأخرج أحمد ، والبخاري ، والدارمي ، والنسائي ، من حديث أبي هريرة؛ «أن النبي سأل اليهود في خيبر : " من أهل النار؟ " فقالوا : نكون فيها يسيراً ، ثم تخلفونا فيها ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اخسئوا ، والله لا نخلفكم فيها أبداً " وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد في قوله : { قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْدًا } أي : موثقاً من الله بذلك أنه كما تقولون . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس أنه فسر العهد هنا بأنهم قالوا لا إله إلا الله ، لم يشركوا به ولم يكفروا . وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة في قوله : { أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } قال : قال القوم : الكذب والباطل .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { بلى مَن كَسَبَ سَيّئَةً } قال : الشرك . وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وعكرمة وقتادة مثله . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة في قوله : { وأحاطت بِهِ خطيئته } قال : أحاط به شركه ، وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم في قوله : { بلى مَن كَسَبَ سَيّئَةً } أي : من عمل مثل أعمالكم ، وكفر بمثل ما كفرتم حتى يحيط كفره بماله من حسنة { فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون * والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي : من آمن بما كفرتم به ، وعمل بما تركتم من دينه ، فلهم الجنة خالدين فيها . وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة في قوله : { وأحاطت بِهِ خطيئته } قال : هي : الكبيرة الموجبة لأهلها النار . وأخرج وكيع ، وابن جرير ، عن الحسن أنه قال : كل ما وعد الله عليه النار ، فهو الخطيئة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، عن الربيع بن خيثم؛ قال : هو الذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب . وأخرج مثله ابن جرير عن الأعمش .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
قد تقدّم تفسير الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل . وقال مكي : إن الميثاق الذي أخذه الله عليهم هنا هو : ما أخذه الله عليهم في حياتهم ، على ألسن أنبيائهم ، وهو قوله : { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله } وعبادة الله إثبات توحيده ، وتصديق رسله ، والعمل بما أنزل في كتبه . قال سيبويه : إن قوله : { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله } هو : جواب قسم ، والمعنى ، استحلفناهم ، والله لا تعبدون إلا الله . وقيل : هو : إخبار في معنى الأمر . ويدل عليه قراءة أبيّ ، وابن مسعود : «لا تعبدوا» على النهي ، ويدل عليه أيضاً ما عطف عليه من قوله : { وقولوا وأقيموا وآتوا } وقال قطرب ، والمبرّد : إن قوله : { لاَ تَعْبُدُونَ } جملة حالية ، أي : أخذنا ميثاقهم موحدين أو غير معاندين . قال القرطبي : وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير ، وحمزة والكسائي : «يعبدون» بالياء التحتية . وقال الفراء ، والزجاج وجماعة : إن معناه أخذنا ميثاقكم بأن لا تعبدوا إلا الله ، وبأن تحسنوا بالوالدين ، وبأن لا تسفكوا الدماء . ثم حذف " أن " ، فارتفع الفعل لزوالها . قال المبرّد : هذا خطأ؛ لأن كل ما أضمر في العربية ، فهو يعمل عمله مظهراً . وقال القرطبي : ليس بخطأ بل هما وجهان صحيحان ، وعليهما أنشد :
ألا أيُّهذا الزّاجِري أحْضُرَ الوَغَى ... وأنْ أشْهَدَ اللّذاتِ هل أنت مُخْلِدي
بالنصب لقوله أحضر ، وبالرفع . والإحسان إلى الوالدين : معاشرتهما بالمعروف ، والتواضع لهما ، وامتثال أمرهما ، وسائر ما أوجبه الله على الولد لوالديه من الحقوق . والقربى : مصدر كالرجعى ، والعقبى ، هم القرابة ، والإحسان بهم : صلتهم ، والقيام بما يحتاجون إليه بحسب الطاقة ، وبقدر ما تبلغ إليه القدرة . واليتامى جمع يتيم ، واليتيم في بني آدم من فقد أبوه . وفي سائر الحيوانات من فقدت أمه . وأصله الانفراد يقال : صبيّ يتيم ، أي : منفرد من أبيه ، والمساكين جمع مسكين ، وهو : من أسكنته الحاجة وذللته ، وهو أشدّ فقراً من الفقير عند أكثر أهل اللغة ، وكثير من أهل الفقه . وروى عن الشافعي أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين . وقد ذكر أهل العلم لهذا البحث أدلة مستوفاة في مواطنها . ومعنى قوله : { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حسنا } أي : قولوا لهم قولاً حسناً ، فهو صفة مصدر محذوف ، وهو : مصدر كبشرى . وقرأ حمزة ، والكسائي : «حسناً» بفتح الحاء ، والسين ، وكذلك قرأ زيد بن ثابت ، وابن مسعود . قال الأخفش هما بمعنى واحد ، مثل البُخل ، والبَخل ، والرُّشد ، والرَّشد ، وحكى الأخفش أيضاً : «حسنى» بغير تنوين على فعلى . قال النحاس : وهذا لا يجوز في العربية ، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف ، واللام نحو الفضلى ، والكبرى ، والحسنى ، وهذا قول سيبويه . وقرأ عيسى ، بن عمر : «حُسُناً» بضمتين : والظاهر أن هذا القول الذي أمرهم الله به لا يختص بنوع معين ، بل كل ما صدق عليه أنه حسن شرعاً كان من جملة ما يصدق عليه هذا الأمر ، وقد قيل : إن ذلك هو : كلمة التوحيد .
وقيل : الصدق . وقيل الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر . وقيل غير ذلك .
وقوله : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } قد تقدّم تفسيره ، وهو : خطاب لبني إسرائيل ، فالمراد : الصلاة التي كانوا يصلونها ، والزكاة التي كانوا يخرجونها . قال ابن عطية : وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها ، فتنزل النار على ما يُقبل ، ولا ينزل على ما لا يُقبَل . وقوله : { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } قيل الخطاب للحاضرين منهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم مثل سلفهم في ذلك ، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب . وقوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } منصوب على الاستثناء ، ومنهم عبد الله بن سلام ، وأصحابه . وقوله : { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } في موضع النصب على الحال ، والإعراض ، والتولي بمعنى واحد ، وقيل : التولي بالجسم ، والإعراض بالقلب .
وقوله : { لاَ تَسْفِكُونَ } الكلام فيه كالكلام في لا تعبدون ، وقد سبق . وقرأ طلحة بن مُصَرَّف ، وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء ، وهي لغة . وقرأ أبو نهيك بضم الياء ، وتشديد الفاء ، وفتح السين ، والسفك : الصبّ ، وقد تقدّم ، والمراد أنه لا يفعل ذلك بعضهم ببعض ، والدار : المنزل الذي فيه أبنية المقام ، بخلاف منزل الارتحال . وقال الخليل : كل موضع حلّه قوم ، فهو دار لهم ، وإن لم يكن فيه أبنية؛ وقيل سميت داراً؛ لدورها على سكانها ، كما يسمى الحائط حائطاً؛ لإحاطته على ما يحويه . وقوله : { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ } من الإقرار : أي حصل منكم الاعتراف بهذا الميثاق المأخوذ عليكم ، في حال شهادتكم على أنفسكم بذلك ، قيل الشهادة هنا بالقلوب ، وقيل هي بمعنى الحضور : أي : أنكم الآن تشهدون على أسلافكم بذلك . وكان الله سبحانه قد أخذ في التوراة على بني إسرائيل أن لا يقتل بعضهم بعضاً ، ولا ينفيه ، ولا يسترقه .
وقوله : { ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء } أي : أنتم هؤلاء المشاهدون الحاضرون تخالفون ما أخذه الله عليكم في التوراة ، فتقتلون أنفسكم إلى آخر الآية . وقيل { إن هؤلاء } منصوب بإضمار أعني ، ويمكن أن يقال منصوب بالذم ، أو الاختصاص ، أي : أذمّ ، أو أخص . وقال القتيبي : إن التقدير : يا هؤلاء قال النحاس : هذا خطأ على قول سيبويه لا يجوز . وقال الزجاج هؤلاء بمعنى الذين ، أي : ثم أنتم الذين تقتلون . وقيل هؤلاء مبتدأ ، وأنتم خبره مقدّم ، وقرأ الزهري : { تقتلون } مشدّداً ، فمن جعل قوله : { أَنتُمْ هؤلاء } مبتدأ ، وخبراً جعل قوله : { تَقْتُلُونَ } بياناً؛ لأن معنى قوله : { أَنتُمْ هؤلاء } أنهم على حالة كحالة أسلافهم من نقض الميثاق ، ومن جعل هؤلاء منادى ، أو منصوباً بما ذكرنا جعل الخبر تقتلون وما بعده . وقوله : { تظاهرون } بالتشديد ، وأصله تتظاهرون أدغمت التاء في الظاء لقربها منها في المخرج ، وهي : قراءة أهل مكة .
وقرأ أهل الكوفة : «تظاهرون» مخففاً بحذف التاء الثانية ، لدلالة الأولى عليها . وأصل المظاهرة المعاونة ، مشتقة من الظهر؛ لأن بعضهم يقوي بعضاً ، فيكون له كالظهر ، ومنه قول الشاعر :
تظاهرتُم من كل أوب ووجهة ... على واحد لا زلْتُمْ قِرنَ واحدِ
ومنه قوله تعالى : { وَكَانَ الكافر على رَبّهِ ظَهِيراً } [ الفرقان : 55 ] وقوله : { وَالْمَلَئِكَةُ بَعْدَ ذلك ظَهِيرٌ } [ التحريم : 4 ] . و { أسارى } حال . قال أبو عبيد ، وكان أبو عمرو يقول : ما صار في أيديهم ، فهو أسارى ، وما جاء مستأسراً ، فهو الأسرى . ولا يعرف أهل اللغة ما قال أبو عمرو ، وإنما هذا كما تقول سكارى ، وسكرى . وقد قرأ حمزة : «أسرى» . وقرأ الباقون : { أسارى } ، والأسرى جمع أسير ، كالقتلى جمع قتيل ، والجرحى جمع جريح . قال أبو حاتم : ولا يجوز أسارى . وقال الزجاج : يقال أسارى كما يقال سكارى . وقال ابن فارس : يقال في جمع أسير : أسرى وأسارى . انتهى . فالعجب من أبي حاتم حيث ينكر ما ثبت في التنزيل . وقرأ به الجمهور ، والأسير مشتق من السير ، وهو : القيد الذي يشدّ به المحمل ، فسمي أسيراً؛ لأنه يشدّ وثاقه ، والعرب تقول : قد أسَرَقتْبه : أي : شدّه ، ثم سمي كل أخيذ أسيراً ، وإن لم يؤخذ . وقوله : { تفادوهم } جواب الشرط ، وهي : قراءة حمزة ، ونافع ، والكسائي ، وقرأ الباقون : «تفدوهم» . والفداء : هو : ما يؤخد من الأسير ليفكّ به أسره ، يقال : فداه ، وفاداه : إذا أعطاه فداءه . قال الشاعر :
قفى فادى أسيرك إن قومي ... وقومك ما أرى لهم اجتماعاً
وقوله : { وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } الضمير للشأن وقيل مبهم تفسره الجملة التي بعده ، وزعم الفراء أن هذا الضمير عماد ، واعترض عليه بأن العماد لا يكون في أوّل الكلام . و { إِخْرَاجُهُمْ } مرتفع بقوله : { مُحَرَّمٌ } سادّ مسدّ الخبر ، وقيل بل مرتفع بالابتداء ، ومحرّم خبره . قال المفسرون : كان الله سبحانه قد أخذ على بني إسرائيل أربعة عهود : ترك القتل ، وترك الإخراج ، وترك المظاهرة ، وفداء أسراهم ، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء ، فوبخهم الله على ذلك . بقوله : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } . والخزي : الهوان . قال الجوهري : والخزي بالكسر يخزي خزياً : إذا ذلّ وهان ، وقد وقع هذا الجزاء الذي وعد الله به الملاعين اليهود موفراً ، فصاروا في خزي عظيم ، بما ألصق بهم من الذلّ ، والمهانة بالقتل ، والأسر ، وضرب الجزية ، والجلاء ، وإنما ردهم الله يوم القيامة إلى أشدّ العذاب؛ لأنهم جاءوا بذنب شديد ، ومعصية فظيعة . وقد قرأ الجمهور " يردّون " بالياء التحتية . وقرأ الحسن بالفوقية على الخطاب . وقد تقدّم تفسير قوله : { وَمَا الله بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ } وكذلك تفسير { أُولَئِكَ الذين اشتروا }
وقوله : { فَلاَ يُخَفَّفُ } إخبار من الله سبحانه بأن اليهود لا يزالون في عذاب موفر لازم لهم بالجزية ، والصغار ، والذلة والمهانة ، فلا يخفف عنهم ذلك أبداً ما داموا ، ولا يوجد لهم ناصر يدفع عنهم ، ولا يثبت لهم نصر في أنفسهم على عدّوهم .
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاق بَنِى إِسْرءيلَ } قال يؤنبهم أي ميثاقكم . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حسنا } قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وروى البيهقي في الشعب عن عليّ في قوله : { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ } قال : يعني الناس كلهم ، ومثله روى عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن عطاء . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } قال : أي : تركتم ذلك كله . وأخرج ابن جرير عنه أنه قال : معناه أعرضتم عن طاعتي إلا قليلاً منكم ، وهم : الذين اخترتهم لطاعتي .
وأخرج ابن جرير ، عن أبي العالية في قوله : { لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ } لا يقتل بعضكم بعضاً { وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مّن دياركم } لا يخرج بعضكم بعضاً من الديار { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ } بهذا الميثاق { وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } وأنتم شهود . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ } أن هذا حق من ميثاقي عليكم { ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ } أي : أهل الشرك حتى تسفكوا دماءهم معهم { وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم مّن ديارهم } قال : تخرجونهم من ديارهم معهم { تظاهرون علَيْهِم بالإثم والعدوان } فكانوا إذا كان بين الأوس ، والخزرج حرب خرجت معهم بنو قينقاع مع الخزرج ، والنضير ، وقريظة مع الأوس ، وظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى يسافكوا دماءهم ، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة { وَإِن يَأْتُوكُمْ أسارى تفادوهم } وقد عرفتم أن ذلك عليكم في دينكم { وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ } في كتابكم لإخراجهم { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } أتفادونهم مؤمنين بذلك ، وتخرجونهم كفراً بذلك . وأخرج ابن جرير ، عن قتادة في قوله : { أُولَئِكَ الذين اشتروا الحياة الدنيا بالأخرة } قال : استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
الكتاب : التوراة ، والتقفية : الإتباع ، والإرداف ، مأخوذة من القفا ، وهو مؤخر العنق ، تقول : استقفيته : إذا جئت من خلفه ، ومنه سميت قافية الشعر؛ لأنها تتلو سائر الكلام . والمراد : أن الله سبحانه أرسل على أثره رسلاً جعلهم تابعين له ، وهم أنبياء بني إسرائيل المبعوثون من بعده . و { البينات } الأدلة التي ذكرها الله في " آل عمران " ، و " المائدة " . والتأييد : التقوية . وقرأ مجاهد وابن محيصن : { آيدناه } بالمدّ ، وهما لغتان . وروح القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة : أي : الروح المقدّسة . والقدس : الطهارة ، والمقدّس : المطهر ، وقيل : هو : جبريل أيد الله به عيسى ، ومنه قول حسان :
وَجِبرِيل أمِينُ الله فينا ... وَرَوحُ القُدسِ لَيْس بِه خَفَاءُ
قال النحاس : وسمي جبريل روحاً ، وأضيف إلى القدس؛ لأنه كان بتكوين الله له من غير ولادة . وقيل : القدس ، هو الله عز وجل ، وروحه : جبريل ، وقيل المراد بروح القدس : الاسم الذي كان عيسى يحيى به الموتى ، وقيل المراد به الإنجيل . وقيل : المراد به الروح المنفوخ فيه ، أيده الله به لما فيه من القوّة . وقوله : { بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم } أي : بما لا يوافقها ، ويلائمها ، وأصل الهوى : الميل إلى الشيء . قال الجوهري : وسمي الهوى هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه إلى النار . وبخهم الله سبحانه بهذا الكلام المعنون بهمزة التوبيخ فقال : { أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ } منكم { بِمَا لاَ } يوافق ما تهوونه استكبرتم عن إجابته ، احتقاراً للرسل ، واستبعاداً للرسالة . والفاء في قوله : { أفكلما } للعطف على مقدّر ، أي : آتيناكم يا بني إسرائيل من الأنبياء ما آتيناكم ، أفكلما جاءكم رسول . وفريقاً منصوب بالفعل الذي بعده ، والفاء للتفصيل ، ومن الفريق المكذبين عيسى ومحمد ، ومن الفريق المقتولين يحيى وزكريا . والغُلف جمع أغلف ، المراد به هنا : الذي عليه غشاوة تمنع من وصول الكلام إليه ، ومنه : غلفت السيف ، أي : جعلت له غلافاً . قال في الكشاف : هو : مستعار من الأغلف الذي لم يختن كقوله : { قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [ فصلت : 5 ] وقيل إن الغلف جمع غلاف مثل حمار وحمر : أي : قلوبنا أوعية للعلم ، فما بالها لا تفهم عنك ، وقد وعينا علماً كثيراً ، فردّ الله عليهم ما قالوه فقال : { بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ } وأصل اللعن في كلام العرب الطرد ، والإبعاد ، ومنه قول الشماخ :
ذَعَرْتُ به القَطا وَنَفَيْتُ عنه ... مَقامَ الذِّئِب كالرجل اللّعين
أي : كالرجل المطرود . والمعنى : أبعدهم الله من رحمته ، و { قَلِيلاً } نعت لمصدر محذوف ، أي : إيماناً قليلاً { مَّا يُؤْمِنُونَ } و«ما» زائدة ، وصف إيمانهم بالقلة؛ لأنهم الذين قصّ الله علينا من عنادهم ، وعجرفتهم ، وشدّة لجاجهم ، وبعدهم عن إجابة الرسل ما قصه ، ومن جملة ذلك : أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ، ويكفرون ببعض .
وقال معمر : المعنى لا يؤمنون إلا قليلاً مما في أيديهم ، ويكفرون بأكثره ، وعلى هذا يكون { قليلاً } منصوباً بنزع الخافض . وقال الواقدي : معناه لا يؤمنون قليلاً ، ولا كثيراً . قال الكسائي : تقول العرب مررنا بأرض قلَّ ما تنبت الكراث ، والبصل ، أي : لا تنبت شيئاً .
وقد أخرج ابن عساكر عن ابن عباس في قوله : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب } يعني به التوراة جملة ، واحدة مفصلة محكمة { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل } يعني رسولاً يدعى أشمويل بن بابل ، ورسولاً يدعى منشابيل ، ورسولاً يدعي شعياء ، ورسولاً يدعى حزقيل ، ورسولاً يدعى أرمياء ، وهو الخضر ، ورسولاً يدعى داود ، وهو أبو سليمان ، ورسولاً يدعى المسيح عيسى ابن مريم ، فهؤلاء الرسل ابتعثهم الله ، وانتخبهم من الأمة بعد موسى ، فأخذنا عليهم ميثاقاً غليظاً أن يؤدوا إلى أمتهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وصفة أمته . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } قال : هي الآيات التي وضع على يديه من إحياء الموتى ، وخلقه من الطين كهيئة الطير ، وإبراء الأسقام . والخبر بكثير من الغيوب ، وما ورد عليهم من التوراة ، والإنجيل الذي أحدث الله إليه . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { وأيدناه } قال : قوّيناه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال : روح من القدس الاسم الذي كان عيسى يحيى به الموتى . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال : القدس : الله تعالى . وأخرج عن الربيع بن أنس مثله . وأخرج عن ابن عباس قال : القدس الطهر . وأخرج عن السدّي قال : القدس البركة . وأخرج عن إسماعيل بن أبي خالد أن روح القدس جبريل . وأخرج عن ابن مسعود مثله . وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « روح القدس جبريل » وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « اللهم أيد حسان بروح القدس » وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { فَرِيقاً } قال : طائفة .
وأخرج عن ابن عباس قال : إنما سمي القلب لتقلبه . وأخرج الطبراني في الأوسط عنه أنه كان يقرأ : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } مثقلة أي : كيف نتعلم ، وقلوبنا غلف للحكمة أي : أوعية للحكمة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } مملوءة علماً لا تحتاج إلى علم محمد ، ولا غيره . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } قال : في غطاء . وروى ابن إسحاق ، وابن جرير عنه أنه قال : { في أكِنَّةٍ } [ فصلت : 5 ] . وأخرج ابن جرير عنه أنه قال : هي القلوب المطبوع عليها . وأخرج وكيع عن عكرمة ، وابن جرير ، عن مجاهد نحوه .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة قال : هي التي لا تفقه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص ، وابن جرير عن حذيفة قال : القلوب أربعة : قلب أغلف ، فذلك قلب الكافر ، وقلب مصفح ، فذلك قلب المنافق ، وقلب أجرد فيه مثل السراج ، فذلك قلب المؤمن ، وقلب فيه إيمان ، ونفاق ، فمثل الإيمان كمثل شجرة يمدّها ماء طيب ، ومثل المنافق كمثل قرحة يمدّها القيح ، والدم . وأخرج أحمد بسند جيد ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « القلوب أربعة : قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر ، وقلب أغلف مربوط على غلافه ، وقلب منكوس ، وقلب مصفح ، فأما القلب الأجرد ، فقلب المؤمن سراجه فيه نوره ، وأما القلب الأغلف ، فقلب الكافر ، وأما القلب المنكوس ، فقلب المنافق عرف ثم أنكر ، وأما القلب المصفح ، فقلب فيه إيمان ، ونفاق ، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدّها الماء الطيب ، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدّها القيح ، فأيّ المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه » وأخرج ابن أبي حاتم عن سلمان الفارسي مثله سواء موقوفاً . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } قال : لا يؤمن منهم إلا قليل .
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
{ وَلَمَّا جَاءهُمُ } يعني اليهود { كِتَابٌ } يعني القرآن ، و { مُّصَدّقٌ } وصف له ، وهو في مصحف أبي منصور ، ونصبه على الحال ، وإن كان صاحبها نكرة ، فقد تخصصت بوصفها بقوله : { مِنْ عِندِ الله } وتصديقه لما معهم من التوراة ، والإنجيل أنه يخبرهم بما فيهما ، ويصدقه ، ولا يخالفه ، والاستفتاح : الاستنصار ، أي : كانوا من قبل يطلبون من الله النصر على أعدائهم ، بالنبيّ المنعوت في آخر الزمان الذي يجدون صفته عندهم في التوراة ، وقيل الاستفتاح هنا بمعنى الفتح ، أي : يخبرونهم بأنه سيبعث ، ويعرّفونهم بذلك . وجواب «لما» في قوله : { وَلَمَّا جَاءهُمْ كتاب } قيل هو : قوله : { فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ } وما بعده ، وقيل هو محذوف ، أي : كذبوا ، أو نحوه ، كذا قال الأخفش ، والزجاج . وقال المبرّد : إن جواب «لما» الأولى هو قوله : { كَفَرُواْ } وأعيدت «لما» الثانية لطول الكلام ، واللام في الكافرين للجنس . ويجوز أن تكون للعهد ، ويكون هذا من وضع الظاهر موضع المضمر . والأوّل أظهر .
و«ما» في قوله : { بِئْسَمَا } موصولة ، أو موصوفة ، أي : بئس الشيء ، أو شيئاً { اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ } قاله سيبويه . وقال الأخفش «ما» في موضع نصب على التمييز كقولك : بئس رجلاً زيد . وقال الفراء : بئسما بجملته شيء واحد رُكب كحبذا . وقال الكسائي : «ما» ، و«اشتروا» بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه ، والتقدير : بئس اشتراؤهم أن يكفروا . وقوله : { أَن يَكْفُرُواْ } في موضع رفع على الابتداء عند سيبويه ، وخبره ما قبله . وقال الفراء ، والكسائي : إن شئت كان في موضع خفض بدلاً من الهاء في به ، أي : اشتروا أنفسهم بأن يكفروا ، وقال في الكشاف : إن «ما» نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس ، بمعنى شيئاً اشتروا به أنفسهم ، والمخصوص بالذم أن يكفروا ، واشتروا بمعنى باعوا . وقوله : { بَغِيّاً } أي : حسداً . قال الأصمعي : البغي مأخوذ من قولهم قد بغى الجرح : إذا فسد ، وقيل أصله الطلب ، ولذلك سميت الزانية بغياً . وهو علة لقوله : { اشتروا } وقوله : { أَن يُنَزِّلَ } علة لقوله : { بَغِيّاً } أي : لأن ينزل . والمعنى : أنهم باعوا أنفسهم بهذا الثمن البخس حسداً ، ومنافسة { أَن يُنَزّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وابن محيصن : «أن ينزل» بالتخفيف . { فباءوا } أي : رجعوا ، وصاروا أحقاء { بِغَضَبٍ على غَضَبٍ } وقد تقدّم معنى باءوا ، ومعنى الغضب . قيل الغضب ، الأول : لعبادتهم العجل ، والثاني لكفرهم بمحمد . وقيل : كفرهم بعيسى ، ثم كفرهم بمحمد . وقيل كفرهم بمحمد ، ثم البغي عليه وقيل غير ذلك . والمهين مأخوذ من الهوان ، قيل وهو : ما اقتضى الخلود في النار .
وقوله : { بِمَا أنزَلَ الله } هو : القرآن ، وقيل كل كتاب ، أي : صدّقوا بالقرآن ، أو صدّقوا بما أنزل الله من الكتب { قَالُواْ نُؤْمِنُ } أي : نصدّق { بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا } أي : التوراة .
وقوله : { وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ } قال الفراء : بما سواه . وقال أبو عبيدة : بما بعده . قال الجوهري : وراء بمعنى خلف ، وقد يكون بمعنى قدّام ، وهي من الأضداد . ومنه قوله تعالى : { وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ } [ الكهف : 79 ] أي : قدّامهم ، وهذه الجملة ، أعني { ويكفرون } في محل النصب على الحال ، أي : قالوا نؤمن بما أنزل علينا حال كونهم كافرين بما وراءه ، مع كون هذا الذي هو وراء ما يؤمنون به هو الحق . وقوله : { مُصَدّقاً } حال مؤكدة ، وهذه أحوال متداخلة أعني قوله : { وَيَكْفُرونَ } وقوله : { وَهُوَ الحق } وقوله : { مُصَدّقاً } ثم اعترض الله سبحانه عليهم ، لما قالوا نؤمن بما أنزل علينا ، بهذه الجملة المتشملة على الاستفهام المفيد للتوبيخ ، أي : إن كنتم تؤمنون بما أنزل عليكم ، فكيف تقتلون الأنبياء ، وقد نهيتم عن قتلهم ، فيما أنزل عليكم؟ وهذا الخطاب ، وإن كان مع الحاضرين من اليهود ، فالمراد به أسلافهم ، ولكنهم لما كانوا يرضون بأفعال سلفهم كانوا مثلهم . واللام في قوله : { وَلَقَدْ } جواب لقسم مقدّر . والبينات يجوز أن يراد بها التوراة ، أو التسع الآيات المشار إليها بقوله تعالى : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى تِسْعَ ءايات بَيّنَاتٍ } [ الإسراء : 101 ] ويجوز أن يراد الجميع ، ثم عبدتم العجل بعد النظر في تلك البينات حال كونكم ظالمين بهذه العبادة الصادرة منكم ، عناداً بعد قيام الحجة عليكم .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن قتادة في قوله : { وَلَمَّا جَاءهُمْ كتاب مّنْ عِندِ الله مُصَدّقٌ لما معهم } قال : هو القرآن { مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } من التوراة ، والإنجيل . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو نعيم ، والبيهقي كلاهما في الدلائل من طريق عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري؛ قال : حدّثني أشياخ منا قالوا : لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا؛ لأن معنا يهود ، وكانوا أهل كتاب ، وكنا أصحاب وَثَن ، وكانوا إذا بلغهم منا ما يكرهون قالوا : إن نبياً ليبعث الآن قد أظلّ زمانه نتبعه ، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم اتبعناه ، وكفروا به ، ففينا والله ، وفيهم أنزل الله : { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ } وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وناس من الصحابة قالوا : كانت العرب تمرّ باليهود ، فيؤذونهم ، وكانوا يجدون محمداً في التوراة ، فيسألون الله أن يبعثه نبياً ، فيقاتلون معه العرب ، فلما جاء محمد كفروا به حين لم يكن من بني إسرائيل . وقد روى نحو هذا ، عن ابن عباس من غير وجه بألفاظ مختلفة ، ومعانيها متقاربة . وروى عن غيره من السلف نحو ذلك .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله : { بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ } قال : هم : اليهود كفروا بما أنزل الله ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم بغياً ، وحسداً للعرب { فَبَاءو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ } قال : غضب الله عليهم مرتين بكفرهم بالإنجيل ، وبعيسى ، وبكفرهم بالقرآن ، وبمحمد .
وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { بَغْيًا أَن يُنَزّلَ الله } أي : أن الله جعله من غيرهم { فَبَاءو بِغَضَبٍ } بكفرهم بهذا النبي { على غَضَبٍ } كان عليهم بما صنعوه من التوراة . وأخرج ابن جرير ، عن عكرمة نحوه . وأخرج أيضاً عن مجاهد معناه . وأخرج ابن جرير ، عن أبي العالية في قوله : { وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ } قال : بما بعده . وأخرج ابن جرير عن السدي قال : بما وراءه : أي القرآن .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
قد تقدّم تفسير أخذ الميثاق ، ورفع الطور . والأمر بالسماع معناه : الطاعة والقبول ، وليس المراد مجرد الإدراك بحاسة السمع ، ومنه قولهم : «سمع الله لمن حمده» أي : قبل وأجاب ، ومنه قول الشاعر :
دعوت الله حتى خفت أن لا ... يكون الله يسمع ما أقول
أي يقبل ، وقولهم في الجواب { سَمِعْنَا } هو : على بابه ، وفي معناه؛ أي : سمعنا قولك بحاسة السمع ، وعصيناك ، أي : لا نقبل ما تأمرنا به ، ويجوز أن يكونوا أرادوا بقولهم : «سمعنا» ما هو معهود من تلاعبهم ، واستعمالهم المغالطة في مخاطبة أنبيائهم ، وذلك بأن يحملوا قوله تعالى : { *اسمعوا } على معناه الحقيقي أي : السماع بالحاسة ، ثم أجابوا بقولهم : { سَمِعْنَا } أي : أدركنا ذلك بأسماعنا ، عملاً بموجب ما تأمر به ، ولكنهم لما كانوا يعلمون أن هذا غير مراد لله عزّ وجلّ ، بل مراده بالأمر سماع الأمر بالطاعة والقبول لم يقتصروا على هذه المغالطة بل ضموا إلى ذلك ما هو الجواب عندهم فقالوا : { وَعَصَيْنَا } . وفي قوله : { واشربوا } تشبيه بليغ ، أي : جعلت قلوبهم لتمكن حب العجل منها كأنها تشربه ، ومثله قول زهير :
فصحوتُ عنها بعد حُبٍّ داخل ... والحبُّ يشُرْبِهُ فؤادك داء
وإنما عبر عن حبّ العجل بالشرب دون الأكل؛ لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها ، والطعام يجاوزها ، ولا يتغلغل فيها ، والباء في قوله : { بِكُفْرِهِمْ } سببية : أي : كان ذلك بسبب كفرهم عقوبة لهم ، وخذلاناً . وقوله : { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانكم } أي : إيمانكم الذي زعمتم أنكم تؤمنون بما أنزل عليكم ، وتكفرون بما وراءه ، فإن هذا الصنع ، وهو قولكم : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } في جواب ما أمرتم به في كتابكم ، وأخذ عليكم الميثاق به مناد عليكم بأبلغ نداء بخلاق ما زعمتم ، وكذلك ما وقع منكم من عبادة العجل ، ونزول حبه من قلوبكم منزلة الشراب هو من أعظم ما يدل على أنكم كاذبون في قولكم : { نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا } [ البقرة : 91 ] لا صادقون ، فإن زعمتم أن كتابكم الذي آمنتم به أمركم بهذا ، فبئسما يأمركم به إيمانكم بكتابكم ، وفي هذا من التهكم بهم ما لا يخفى .
وقوله : { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الأخرة } هو ردٌّ عليهم لما ادّعوا أنهم يدخلون الجنة ، ولا يشاركهم في دخولها غيرهم ، وإلزام لهم بما يتبين به أنهم كاذبون في تلك الدعوى ، وأنها صادرة منهم لا عن برهان ، و { خَالِصَةٌ } منصوب على الحال ، ويكون خبر كان هو عند الله ، أو يكون خبر كان هو خالصة ، ومعنى الخلوص أنه لا يشاركهم فيها غيرهم ، إذا كانت اللام في قوله : { مّن دُونِ الناس } للجنس ، أو لا يشاركهم فيها المسلمون ، إن كانت اللام للعهد .
وهذا أرجح لقولهم في الآية الأخرى : { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] وإنما أمرهم بتمني الموت؛ لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة كان الموت أحب إليه من الحياة ، ولما كان ذلك منهم مجرد دعوى أحجموا ، ولهذا قال سبحانه : { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا } ،
و«ما» في قوله : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } موصولة ، والعائد محذوف ، أي بما قدّمته من الذنوب التي يكون فاعلها غير آمن من العذاب ، بل غير طامع في دخول الجنة ، فضلاً عن كونه قاطعاً بها ، فضلاً عن كونها خالصة له مختصة به ، وقيل إن الله سبحانه صرفهم عن التمني؛ ليجعل ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وسلم . والمراد بالتمني هنا هو اللفظ بما يدل عليه ، لا مجرد خطوره بالقلب ، وميل النفس إليه ، فإن ذلك لا يراد في مقام المحاجة ، ومواطن الخصومة ، ومواقف التحدي . وفي تركهم للتمني أو صرفهم عنه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنهم قد كانوا يسلكون من التعجرف ، والتجرؤ على الله ، وعلى أنبيائه بالدعاوى الباطلة ، في غير موطن ما قد حكاه عنهم التنزيل ، فلم يتركوا عادتهم هنا إلا لما قد تقرّر عندهم من أنهم إذا فعلوا ذلك التمني نزل بهم الموت ، إما لأمر قد علموه ، أو للصرفة من الله عز وجل . وقد يقال : ثبت النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت ، فكيف أمره الله أن يأمرهم بما هو منهيّ عنه في شريعته؟ ويجاب بأن المراد هنا : إلزامهم الحجة ، وإقامة البرهان على بطلان دعواهم . وقوله : { والله عَلِيمٌ بالظالمين } تهديد لهم ، وتسجيل عليهم بأنهم كذلك .
واللام في قوله : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ } جواب قسم محذوف ، وتنكير حياة للتحقير ، أي : أنهم أحرص الناس على أحقر حياة ، وأقلّ لبث في الدنيا ، فكيف بحياة كثيرة ، ولبث متطاول؟ وقال في الكشاف : إنه أراد بالتنكير حياة مخصوصة ، وهي : الحياة المتطاولة ، وتبعه في ذلك الرازي في تفسيره . وقوله : { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } قيل : هو : كلام مستأنف ، والتقدير : ومن الذين أشركوا ناس { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } وقيل إنه معطوف على الناس أي : أحرص الناس ، وأحرص من الذين أشركوا ، وعلى هذا يكون قوله : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } راجعاً إلى اليهود بياناً لزيادة حرصهم على الحياة ، ووجه ذكر { الذين أشركوا } بعد ذكر { الناس } مع كونهم داخلين فيهم الدلالة على مزيد حرص المشركين من العرب ، ومن شابههم من غيرهم . فمن كان أحرص منهم ، وهم : اليهود كان بالغاً في الحرص إلى غاية لا يقادر قدرها . وإنما بلغوا في الحرص إلى هذا الحدّ الفاضل على حرص المشركين؛ لأنهم يعلمون بما يحلّ بهم من العذاب في الآخرة ، بخلاف المشركين من العرب ، ونحوهم ، فإنهم لا يقرّون بذلك ، وكان حرصهم على الحياة دون حرص اليهود .
والأول ، وإن كان فيه خروج من الكلام في اليهود إلى غيرهم من مشركي العرب لكنه أرجح؛ لعدم استلزامه للتكليف ، ولا ضير في استطراد ذكر حرص المشركين بعد ذكر حرص اليهود . وقال الرازي : إن الثاني أرجح ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم ، وفي إظهار كذبهم في قولهم : إن الدار الآخرة لنا لا لغيرنا . انتهى . ويجاب عنه بأن هذا الذي جعله مرجحاً قد أفاده قوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على الحياة } ولا يستلزم استئناف الكلام في المشركين ، أن لا يكونوا من جملة الناس ، وخص الألف بالذكر؛ لأن العرب كانت تذكر ذلك عند إرادة المبالغة . وأصل سنة : سنهة ، وقيل : سنوة .
واختلف في الضمير في قوله : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ } فقيل : هو : راجع إلى أحدهم ، والتقدير : وما أحدهم بمزحزحه من العذاب أن يعمر ، وعلى هذا يكون قوله : { أَن يُعَمَّرَ } فاعلاً لمزحزحه . وقيل : هو : لما دل عليه يعمر من مصدره ، أي : وما التعمير بمزحزحه ، ويكون قوله : { أن يعمر } بدلاً منه . وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : هو : عماد . وقيل : هو : ضمير الشأن . وقيل : «ما» هي الحجازية ، والضمير اسمها ، وما بعده خبرها ، والأوّل أرجح ، وكذلك الثاني ، والثالث ضعيف جداً؛ لأن العماد لا يكون إلا بين شيئين ، ولهذا يسمونه ضمير الفصل ، والرابع فيه : أن ضمير الشأن يفسر بجملة سالمة عن حرف جرّ كما حكاه ابن عطية عن النحاة . والزحزحة : التنحية ، يقال : زحزحته ، فتزحزح : أي نحيته فتنحى ، وتباعد ، ومنه قول ذي الرمة :
يا قَابِضَ الرُّوح عَنْ جِسْم عصىَ زَمناً ... وغافر الذنب زَحْزِحْني عَن النَّارِ
والبصير : العالم بالشيء الخبير به ، ومنه قولهم : فلان بصير بكذا : أي خبير به ، ومنه قول الشاعر :
فإِنْ تَسألُوني بِالنِّساءِ فَإننِي ... بَصيرٌ بأدْواءِ النِّساءِ طِبيبُ
وقد أخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله : { وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ العجل } قال : أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم . وأخرج ابن جرير ، عن أبي العالية ، أن اليهود لما قالوا : { لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] ، نزل قوله تعالى : { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الاخرة } الآية . وأخرج ابن جرير ، مثله عن قتادة . وأخرج البيهقي ، في الدلائل عن ابن عباس ، أن قوله : { خَالِصَةً مّن دُونِ الناس } يعني المؤمنين : { فَتَمَنَّوُاْ الموت } فقال لهم رسول الله : " إن كنتم في مقالتكم صادقين ، فقولوا : " اللهم أمتنا " ، فوالذي نفسي بيده لا يقولها رجل منكم إلا غصّ بريقه ، فمات مكانه "
وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { فَتَمَنَّوُاْ الموت } أي : ادعوا بالموت على أيّ الفريقين أكذب ، فأبوا ذلك ، ولو تمنوه يوم قال ذلك ما بقي على الأرض يهوديّ إلا مات .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر وأبو نعيم عنه قال : «لو تمنى اليهود الموت لماتوا» . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه نحوه . وأخرج البخاري ، وغيره من حديثه مرفوعاً : «لو أن اليهود تمنوا لماتوا ، ولرأوا مقاعدهم من النار» . وأخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عنه في قوله : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة } قال اليهود : { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } قال : وذلك أن المشركين لا يرجون بعثاً بعد الموت ، فهو يحب طول الحياة ، وأن اليهودي قد عرف ماله من الخزي بما ضيع ما عنده من العلم : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ } قال : بمنحيه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم عنه في قوله : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : هو قول الأعاجم إذا عطس أحدهم «ده هزار رسال» يعني عش ألف سنة .
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
هذه الآية قد أجمع المفسرون على أنها نزلت في اليهود . قال ابن جرير الطبري : وأجمع أهل التأويل جميعاً أن هذه الآية نزلت جواباً على اليهود إذ زعموا أن جبريل عدوّ لهم ، وأن ميكائيل وليّ لهم . ثم اختلفوا ما كان سبب قولهم ذلك؟ فقال بعضهم : إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر نبوّته ، ثم ذكر روايات في ذلك ستأتي آخر البحث إن شاء الله . والضمير في قوله : { فَإِنَّهُ } يحتمل ، وجهين : الأوّل : أن يكون لله ، ويكون الضمير في قوله : { نَزَّلَهُ } لجبريل ، أي : فإن الله سبحانه نزل جبريل على قلبك ، وفيه ضعف كما يفيده قوله : { مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } . الثاني أنه لجبريل ، والضمير في { نزله } للقرآن ، أي : فإن جبريل نزل القرآن على قلبك ، وخص القلب بالذكر؛ لأنه موضع العقل ، والعلم . وقوله : { بِإِذُنِ الله } أي : بعلمه ، وإرادته ، وتيسيره ، وتسهيله ، و { مَا بَيْنَ يَدَيْهِ } هو : التوراة كما سلف ، أو جميع الكتب المنزلة ، وفي هذا الدليل على شرف جبريل ، وارتفاع منزلته ، وأنه لا وجه لمعاداة اليهود له ، حيث كان منه ما ذكر من تنزيل الكتاب على قلبك ، أو من تنزيل الله له على قلبك ، وهذا هو وجه الربط بين الشرط ، والجواب ، أي : من كان معادياً لجبريل منهم ، فلا وجه لمعاداته له ، فإنه لم يصدر منه إلا ما يوجب المحبة دون العداوة ، أو من كان معادياً له ، فإن سبب معاداته أنه وقع منه ما يكرهونه من التنزيل ، وليس ذلك بذنب له ، وإن نزهوه ، فإن هذه الكراهة منهم له بهذا السبب ظلم ، وعدوان؛ لأن هذا الكتاب الذي نزل به هو مصدق لكتابهم ، وهدى ، وبشرى للمؤمنين .
ثم أتبع سبحانه هذا الكلام بجملة مشتملة على شرط ، وجزاء يتضمن الذمّ لمن عادى جبريل بذلك السبب ، والوعيد الشديد له فقال : { مَن كَانَ عَدُوّاً لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال فَإِنَّ الله عَدُوٌّ للكافرين } والعداوة من العبد هي : صدور المعاصي منه لله ، والبغض لأوليائه ، والعداوة من الله للعبد هي : تعذيبه بذنبه ، وعدم التجاوز عنه ، والمغفرة له ، وإنما خص جبريل ، وميكائيل بالذكر بعد ذكر الملائكة؛ لقصد التشريف لهما ، والدلالة على فضلهما ، وأنهما ، وإن كانا من الملائكة ، فقد صارا باعتبار ما لهما من المزية بمنزلة جنس آخر أشرف من جنس الملائكة ، تنزيلاً للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي كما ذكره صاحب الكشاف ، وقرره علماء البيان . وفي جبريل عشر لغات ذكرها ابن جرير الطبري ، وغيره ، وقد قدّمنا الإشارة إلى ذلك . وفي ميكائيل ست لغات ، وهما اسمان عجميان ، والعرب إذا نطقت بالعجمي تساهلت فيه .
وحكى الزمخشري عن ابن جني أنه قال : العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه . وقوله : { للكافرين } من وضع الظاهر موضع المضمر ، أي : فإن الله عدوّ لهم ، لقصد الدلالة على أن هذه العداوة موجبة لكفر من وقعت منه . وقد أخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن ابن عباس قال : «حضرت عصابة من اليهود النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهنّ لا يعلمهنّ إلا نبيّ ، قال : " سلوني عما شئتم " فسألوه ، وأجابهم ، ثم قالوا : فحدثنا مَنْ وليك من الملائكة ، فعندها نجامعك ، أو نفارقك ، فقال : " وليي جبريل ، ولم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه " قالوا : فعندها نفارقك ، لو كان وليك سواه من الملائكة لاتبعناك ، وصدقناك ، قال : " فما يمنعكم أن تصدقوه؟ " قالوا : هذا عدوّنا . فعند ذلك أنزل الله الآية . وأخرج نحو ذلك ابن أبي شيبة في المصنف ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الشعبي عن عمر بن الخطاب في قصة جرت له معهم ، وإسنادها صحيح ، ولكن الشعبي لم يدرك عمر وقد رواها عكرمة وقتادة ، والسدّي ، وعبد الرحمن ابن أبي ليلى ، عن عمر .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، والنسائي ، وغيرهم ، عن أنس؛ قال : «سمع عبد الله بن سلام بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلا نبيّ؟ ما أوّل أشراط الساعة؟ وما أوّل طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه ، أو إلى أمه؟ فقال : " أخبرني بهنّ جبريل آنفاً " فقال جبريل؟ قال " نعم " قال : ذاك عدوّ اليهود من الملائكة ، فقرأ هذه الآية : { مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ } قال : " أما أوّل أشراط الساعة ، فنار تخرج من المشرق ، فتحشر الناس إلى المغرب ، وأما أوّل ما يأكل أهل الجنة ، فزيادة كبد حوت ، وأما ما ينزع الولد إلى أبيه أو أمه ، فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع إليه الولد ، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع إليها " قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله» وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله } يقول : فإن جبريل نزل القرآن بأمر الله يشدد به فؤادك ، ويربط به على قلبك : { مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } يقول : لما قبله من الكتب التي أنزلها والآيات ، والرسل الذين بعثهم الله . وقد ذكر السيوطي في هذا الموضع من تفسيره : «الدرّ المنثور» أحاديث كثيرة واردة في جبريل ، وميكائيل ، وليست مما يتعلق بالتفسير حتى نذكرها .
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
الضمير في قوله : { إِلَيْكَ } للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أي : أنزلنا إليك علامات واضحات دالة على نبوتك . وقوله : { إِلاَّ الفاسقون } قد تقدّم تفسيره ، والظاهر أن المراد جنس الفاسقين ، ويحتمل أن يراد اليهود؛ لأن الكلام معهم ، والواو في قوله : { أَوْ كُلَّمَا } للعطف دخلت عليها همزة الاستفهام كما تدخل على الفاء ، ومن ذلك قوله تعالى : { أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } [ المائدة : 50 ] { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم } [ الزخرف : 40 ] { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ } [ الكهف : 50 ] وكما تدخل على ثم ، ومن ذلك قوله تعالى : { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ } [ يونس : 51 ] وهذا قول سيبويه . وقال الأخفش : الواو زائدة . وقال الكسائي : إنها « أو » حركت الواو تسهيلاً . قال ابن عطية : وهذا كله متكلف ، والصحيح قول سيبويه ، والمعطوف عليه محذوف ، والتقدير : أكفروا بالآيات البينات ، وكلما عاهدوا . قوله : { نَبَذَ فَرِيقٌ } قال ابن جرير : أصل النبذ الطرح ، والإلقاء ، ومنه سمى اللقيط منبوذاً ، ومنه سمي النبيذ ، وهو التمر ، والزبيب إذا طرحا في الماء ، قال أبو الأسود :
نظرتَ إلى عنوانه فنبذته ... كنبذك نعلاً أخلقت من نعالكا
وقال آخر :
إن الَّذين أمَرْتَهم أن يَعْدِلُوا ... نبذوا كتابك واستحل المحرمَا
وقوله : { وَرَاء ظُهُورِهِمْ } أي : خلف ظهورهم ، وهو : مثل يُضرب لمن يستخف بالشيء ، فلا يعمل به ، تقول العرب : اجعل هذا خلف ظهرك ، ودبر أذنك ، وتحت قدمك : أي اتركه ، واعرض عنه ، ومنه ما أنشده الفراء :
تميم بنُ زيدٍ لا تكوننَّ حَاجَتِي ... بظَهرٍ فلا يَعْيَا عليّ جوابُها
وقوله : { كتاب الله } أي : التوراة؛ لأنهم لما كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وبما أنزل عليه بعد أن أخذ الله عليهم في التوراة الإيمان به ، وتصديقه ، واتباعه ، وبين لهم صفته ، كان ذلك منهم نبذاً للتوراة ، ونقضاً لها ، ورفضاً لما فيها ، ويجوز أن يراد بالكتاب هنا : القرآن ، أي : لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم من التوراة نبذوا كتاب الله الذي جاء به هذا الرسول ، وهذا أظهر من الوجه الأول . وقوله : { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } تشبيه لهم بمن لا يعلم شيئاً ، مع كونهم يعلمون علماً يقيناً من التوراة بما يجب عليهم من الإيمان بهذا النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم لما لم يعملوا بالعلم بل عملوا عمل من لا يعلم من نبذ كتاب الله وراء ظهورهم ، كانوا بمنزلة من لا يعلم .
قوله : { واتبعوا مَا تَتْلُو الشياطين } معطوف على قوله : { نبذوا } أي : نبذوا كتاب الله ، واتبعوا ما تتلوا الشياطين من السحر ونحوه . قال الطبري : اتبعوا بمعنى فعلوا . ومعنى : { تتلو } تتقوّله ، وتقرؤه و { على مُلْكِ سليمان } على عهد ملك سليمان ، قاله الزجاج ، وقيل المعنى في ملك سليمان : يعني في قصصه ، وصفاته ، وأخباره .
قال الفراء : تصلح «على» ، وفي «في» هذا الموضع ، والأوّل أظهر ، وقد كانوا يظنون أن هذا هو : علم سليمان ، وأنه يستجيزه ، ويقول به ، فردّ الله ذلك عليهم ، وقال : { وَمَا كَفَرَ سليمان ولكن الشياطين كَفَرُواْ } ولم يتقدم أنّ أحداً نسب سليمان إلى الكفر ، ولكن لما نسبته اليهود إلى السحر صاروا بمنزلة من نسبه إلى الكفر؛ لأن السحر يوجب ذلك ، ولهذا أثبت الله سبحانه كفر الشياطين فقال : { ولكن الشياطين كَفَرُواْ } أي : بتعليمهم . وقوله : { يُعَلّمُونَ الناس السحر } في محل نصب على الحال ، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر بعد خبر . وقرأ ابن عامر ، والكوفيون سوى عاصم : «ولكن الشياطين» بتخفيف لكن ، ورفع الشياطين ، والباقون بالتشديد والنصب .
والسحر هو : ما يفعله الساحر من الحيل والتخيلات التي تحصل بسببها للمسحور ما يحصل من الخواطر الفاسدة الشبيهة بما يقع لمن يرى السراب فيظنه ماء ، وما يظنه راكب السفينة ، أو الدابة من أن الجبال تسير ، وهو مشتق من سحرت الصبيّ : إذا خدعته . وقيل : أصله الخفاء ، فإن الساحر يفعله خفية . وقيل أصله الصرف؛ لأن السحر مصروف عن جهته . وقيل أصله الاستمالة؛ لأن من سحرك ، فقد استمالك . وقال الجوهري : السحر الأخذة ، وكل ما لطف مأخذه ودقَّ ، فهو سحر . وقد سحره يسحره ، سحراً . والساحر : العالم ، وسحره أيضاً بمعنى خدعه . وقد اختلف : هل له حقيقة أم لا؟ فذهبت المعتزلة ، وأبو حنيفة إلى أنه خدع لا أصل له ، ولا حقيقة . وذهب من عداهم إلى أن له حقيقة مؤثرة . وقد صح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، سحره لُبيد بن الأعصم اليهودي ، حتى كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولم يكن قد أتاه ، ثم شفاه الله سبحانه ، والكلام في ذلك يطول . وقوله : { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين } أي : ويعلمون الناس ما أنزل على الملكين ، فهو معطوف على السحر ، وقيل : هو معطوف على قوله : «ما تتلو الشياطين» أي : واتبعوا ما أنزل على الملكين . وقيل إن «ما» في قوله : { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين } نافية ، والواو عاطفة على قوله : { وَمَا كَفَرَ سليمان } وفي الكلام تقديم ، وتأخير ، والتقدير : وما كفر سليمان ، وما أنزل على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت ، وماروت ، فهاروت ، وماروت بدل من الشياطين في قوله : { ولكن الشياطين كَفَرُواْ } ذكر هذا ابن جرير ، وقال : فإن قال لنا قائل : وكيف وجه تقديم ذلك؟ قيل : وجه تقديمه أن يقال : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ، وما كفر سليمان وما أنزل الله على الملكين ، ولكنّ الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت ، فيكون معنياً بالملكين جبريل وميكائيل؛ لأن سحرة اليهود ، فيما ذكر ، كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل ، إلى سليمان بن داود ، فأكذبهم الله بذلك ، وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر ، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر ، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل ، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان أحدهما هاروت ، والآخر ماروت ، فيكون هاروت وماروت ، على هذا التأويل ترجمة عن الناس وردّاً عليهم .
انتهى .
وقال القرطبي في تفسيره ، بعد أن حكى معنى هذا الكلام ، ورجح أن هاروت وماروت بدل من الشياطين ، ما لفظه : هذا أولى ما حملت عليه الآية ، وأصح ما قيل فيها ، ولا يلتفت إلى سواه ، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ، ودقة أفهامهم ، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء ، وخاصة في حال طمثهن ، قال الله : { وَمِن شَرّ النفاثات فِى العقد } [ الفلق : 4 ] ثم قال : إن قيل كيف يكون اثنان بدلاً من جمع ، والبدل إنما يكون على حدّ المبدل؟ ثم أجاب عن ذلك بأن الاثنين قد يطلق عليهما الجمع ، أو أنهما خُصا بالذكر دون غيرهما لتمردهما ، ويؤيد هذا أنه قرأ ابن عباس والضحاك والحسن : «الملكين» بكسر اللام ، ولعل وجه الجزم بهذا التأويل مع بعده ، وظهور تكلفه ، تنزيه الله سبحانه أن ينزل السحر إلى ارضه ، فتنة لعباده على ألسن ملائكته . وعندي أنه لا موجب لهذا التعسف المخالف لما هو الظاهر ، فإن لله سبحانه أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن بنهر طالوت ، ولهذا يقول الملكان : { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } قال ابن جرير : وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء ، وأنهما أنزلا إلى الأرض ، فكان من أمرهما ما كان ، وبابل قيل : هي العراق ، وقيل نهاوند ، وقيل نصيبين . وقيل المغرب : وهاروت وماروت اسمان أعجميان لا ينصرفان . وقوله : { وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ } قال الزجاج : تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه ، قال : وهو الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر ، ومعناه : أنهما يعلمان على النهي ، فيقولان لهم : لا تفعلوا كذا . و«من» في قوله : { من أحد } زائدة للتوكيد ، وقد قيل : إن قوله : { يعلمان } من الإعلام لا من التعليم ، وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى أعلم ، كما حكاه ابن الأنباري ، وابن الأعرابي ، وهو كثير من أشعارهم كقول كعب بن مالك :
تعلَّم رسول اللهِ أنَّك مُدْرِكي ... وَأنَّ وَعِيداً مْنِك كالأخْذِ باليَدِ
وقال القطامي :
تعلَّم أن بعد الغَيّ رُشداً ... وأن لذلك الغيّ انْقِشاعاً
وقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } هو : على ظاهره ، أي : إنما نحن ابتلاء ، واختبار من الله لعباده . وقيل : إنه استهزاء منهما؛ لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله . وفي قولهما : { فَلاَ تَكْفُرْ } أبلغ إنذار ، وأعظم تحذير ، أي : أن هذا ذنب يكون مَنْ فعله كافراً ، فلا تكفر ، وفيه دليل على أن تعلم السحر كفر ، وظاهره عدم الفرق بين المعتقد ، وغير المعتقد ، وبين من تعلمه ليكون ساحراً ، ومن تعلمه ليقدر على دفعه .
وقوله : { فَيَتَعَلَّمُونَ } فيه ضمير يرجع إلى قوله : «مِنْ أحَدٍ» قال سيبويه : التقدير ، فهم يتعلمون ، قال : ومثله { كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] وقيل هو : معطوف على موضع ما يعلمان؛ لأنه وإن كان منفياً ، فهو يتضمن الإيجاب . وقال الفراء : هي مردودة على قوله : «يعلمون الناس السحر» أي : يعلمون الناس ، فيتعلمون ، وقوله : { مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ } في إسناد التفريق إلى السحرة ، وجعل السحر سبباً لذلك دليل على أن للسحر تأثيراً في القلوب بالحبّ والبغض ، والجمع ، والفرقة ، والقرب ، والبعد . وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر لا يقدر على أكثر مما أخبر الله به من التفرقة؛ لأن الله ذكر ذلك في معرض الذمّ للسحر ، وبين ما هو الغاية في تعليمه ، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره . وقالت طائفة أخرى : إن ذلك خرج مخرج الأغلب ، وأن الساحر يقدر على غير ذلك المنصوص عليه ، وقيل ليس للسحر تأثير في نفسه أصلاً لقوله تعالى : { وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } والحق أنه لا تنافي بين قوله : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ } وبين قوله : { وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } فإن المستفاد من جميع ذلك أن للسحر تأثيراً في نفسه ، ولكنه لا يؤثر ضرراً إلا فيمن أذن الله بتأثيره فيه ، وقد أجمع أهل العلم على أن له تأثيراً في نفسه ، وحقيقة ثابتة ، ولم يخالف في ذلك إلا المعتزلة ، وأبو حنيفة كما تقدم ،
وقوله : { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } فيه تصريح بأن السحر لا يعود على صاحبه بفائدة ، ولا يجلب إليه منفعة بل هو : ضرر محض ، وخسران بحت ، واللام في قوله : { وَلَقَدْ } جواب قسم محذوف ، وفي قوله : { لَمَنِ اشتراه } للتأكيد و«مَنْ» موصولة ، وهي في محل رفع على الابتداء ، والخبر قوله : { مَالَهُ فِى الأخرة مِنَ خلاق } وقال الفراء : إنها شرطية للمجازاة . وقال الزجاج : ليس هذا بموضع شَرط ، ورجح أنها موصولة كما ذكرنا . والمراد بالشراء هنا : لاستبدال أي من استبدل ما تتلوا الشياطين على كتاب الله . والخَلاق : النصيب عند أهل اللغة ، كذا قال الزجاج . والمراد بقوله : { مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ } أي : باعوها . وقد أثبت لهم العلم في قوله : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ } ونفاه عنهم في قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } واختلفوا في توجيه ذلك ، فقال قطرب ، والأخفش : إن المراد بقوله : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ } الشياطين ، والمراد بقوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } الإنس . وقال الزجاج : إن الأول للملكين ، وإن كان بصيغة الجمع ، فهو مثل قولهم : الزيدان قاموا ، والثاني : المراد به علماء اليهود . وإنما قال : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } لأنهم تركوا العمل بعلمهم .
وقوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ } أي بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به من القرآن ، { واتقوا } ما وقعوا فيه من السحر ، والكفر . واللام في قوله : { لَمَثُوبَةٌ } جواب " لو " ، والمثوبة : الثواب . وقال الأخفش : إن الجواب محذوف ، والتقدير ، ولو أنهم آمنوا ، واتقوا لأثيبوا ، فحذف لدلالة قوله : { لمثوبة } عليه . وقوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } هو : إما للدلالة على أنه لا علم لهم ، أو لتنزيل علمهم مع عدم العمل منزلة العدم .
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس : «قال ابن صوريا للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد ما جئتنا بشيء يعرف ، وما أنزل الله عليك من آية بينة ، فأنزل الله تعالى في ذلك : { وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ءايات بينات وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الفاسقون } وقال مالك بن الصيف ، حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق ، وما عهد إليهم في محمد : والله ما عهد إلينا في محمد ، ولا أخذ علينا شيئاً ، فأنزل الله : { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } الآية . وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { آيات بَيّنَاتٍ } يقول : فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة ، وعشية ، وبين ذلك ، وأنت عندهم أميّ لم تقرأ الكتاب ، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه ، ففي ذلك عبرة لهم ، وحجة عليهم { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
وأخرج ابن جرير ، عن قتادة في قوله : { نبذة } نقضه . وأخرج أيضاً عن السدي في قوله : { مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } قال : لما جاءهم محمد عارضوه بالتوراة ، واتفقت التوراة ، والقرآن ، فنبذوا التوراة ، وأخذوا بكتاب آصف ، وسحر هاروت وماروت ، كأنهم لا يعلمون بما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، وتصديقه .
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، عن ابن عباس قال : إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء ، فإذا سمع أحدهم بكلمة حقّ كذب معها ألف كذبة ، فأشْرِبَتْها قلوب الناس ، واتخذوها دواوين ، فأطلع الله على ذلك سليمان بن داود ، فأخذها ، فدفنها تحت الكرسي . فلما مات سليمان قام شيطان بالطريق ، فقال : ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحد مثل كنزه الممنع؟ قالوا : نعم ، فأخرجوه فإذا هو : سحر ، فتناسختها الأمم ، وأنزل الله عذر سليمان ، فيما قالوا من السحر ، فقال : { واتبعوا مَا تَتْلُو الشياطين على مُلْكِ سليمان } الآية . وأخرج النسائي وابن أبي حاتم عنه قال : كان آصف كاتب سليمان ، وكان يعلم الاسم الأعظم ، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه ، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين ، فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكفراً ، وقالوا : هذا الذي كان سليمان يعمل بها ، فأكفره جهال الناس ، وسبوه ، ووقف علماؤهم ، فلم يزل جهالهم يسبونه حتى أنزل الله على محمد : { واتبعوا مَا تَتْلُو الشياطين } الآية ، وأخرج ابن جرير ، عنه قال : كان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئاً من شأنه أعطى الجرادة ، وهي : امرأته ، خاتمه ، فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه ، فجاء الشيطان في صورة سليمان ، فقال لها : هاتي خاتمي ، فأخذه ، فلبسه ، فلما لبسه دانت له الشياطين ، والجنّ ، والإنس ، فجاء سليمان ، فقال : هاتي خاتمي ، فقالت له : كذبت لست سليمان ، فعرف أنه بلاء ابتلى به ، فانطلقت الشياطين ، فكتبت في تلك الأيام كتباً فيها سحر ، وكفر ، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ، ثم أخرجوها ، فقرءوها على الناس ، وقالوا : إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب ، فبرىء الناس من سليمان ، وأكفروه حتى بعث الله محمداً ، وأنزل عليه : { وَمَا كَفَرَ سليمان ولكن الشياطين كَفَرُو } وأخرج ابن جرير ، عنه في قوله : { وَمَا تَتْلُو } قال : ما تتبع .
وأخرج أيضاً عن عطاء في قوله : { مَا تَتْلُواْ } قال : نراه ما تحدث . وأخرج أيضاً عن ابن جريج في قوله : { على مُلْكِ سليمان } يقول : في ملك سليمان .
وأخرج أيضاً عن السدي في قوله : { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين } قال : هذا سحر آخر خاصموه به ، فإن كلام الملائكة ، فيما بينهم إذا علمته الإنس ، فصنع ، وعمل به كان سحراً . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين } قال : لم ينزل الله السحر . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عليّ قال : هما ملكان من ملائكة السماء . وأخرج نحوه ابن مردويه من وجه آخر عنه مرفوعاً . وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن المنذر عن ابن عباس : { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين } يعني جبريل وميكائيل : { بِبَابِلَ هاروت وماروت } يعلمان الناس السحر . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عبد الرحمن ، بن أبزي أنه كان يقرؤها وما أنزل على الملكين داود ، وسليمان . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الضحاك قال : هما علجان من أهل بابل . وأخرج البيهقي في شعب الإيمان من حديث ، ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أشرفت الملائكة على الدنيا ، فرأت بني آدم يعصون ، فقالت يا رب ما أجهل هؤلاء ، ما أقل معرفة هؤلاء بعظمتك؟ فقال الله : لو كنتم في محلاتهم لعصيتموني ، قالوا : كيف يكون هذا ، ونحن نسبح بحمدك ، ونقدس لك؟ قال : فاختاروا منكم ملكين ، فاختاروا هاروت وماروت ، ثم أهبطا إلى الأرض ، وركبت ، فيهما شهوات بني آدم ، ومثلت لهما امرأة ، فما عصما حتى واقعا المعصية ، فقال الله : اختارا عذاب الدنيا ، أو عذاب الآخرة ، فنظر أحدهما لصاحبه قال ما تقول؟ قال : أقول إن عذاب الدنيا ينقطع ، وإن عذاب الآخرة لا ينقطع ، فاختارا عذاب الدنيا ، فهما اللذان ذكر الله في كتابه : { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين } الآية »
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عمر ، أنه كان يقول : أطلعت الحمراء بعد ، فإذا رآها قال : لا مرحباً ، ثم قال : إن ملكين من الملائكة هاروت وماروت سألا الله أن يهبطهما إلى الأرض ، فأهبطا إلى الأرض فكانا يقضيان بين الناس ، فإذا أمسيا تكلما بكلمات ، فعرجا بها إلى السماء ، فقيض لهما امرأة من أحسن النساء ، وألقيت عليهما الشهوة ، فجعلا يؤخرانها ، وألقيت في أنفسهما ، فلم يزالا يفعلان حتى وعدتهما ميعاداً ، فأتتهما للميعاد فقالت : علماني الكلمة التي تعرجان بها ، فعلماها الكلمة فتكلمت بها فعرجت إلى السماء ، فمسخت فجُعلت كما ترون ، فلما أمسيا تكلما بالكلمة ، فلم يعرجا ، فبعث إليهما : إن شئتما فعذاب الآخرة ، وإن شئتما ، فعذاب الدنيا إلي أن تقوم الساعة على أن تلقيا الله ، فإن شاء عذبكما ، وإن شاء رحمكما ، فنظر أحدهما إلي صاحبه ، فقال : بل نختار عذاب الدنيا ألف ألف ضعف ، فهما يعذبان إلى يوم القيامة . وقد رويت هذه القصة عن ابن عمر بألفاظ ، وفي بعضها أنه يروي ذلك ابن عمر عن كعب الأحبار . كما أخرجه عبد الرزاق ، وابن شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب من طريق الثوري ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن كعب قال : ذكرت الملائكة أعمال بني آدم ، وما يأتون من الذنوب ، فقيل لو كنتم مكانهم لأتيتم مثل ما يأتون ، فاختاروا منكم اثنين ، فاختاروا هاروت وماروت ، فقال لهما : إني أرسل إلى بني آدم رسلاً ، فليس بيني ، وبينكم رسول . انزلا لا تشركا بي شيئاً ، ولا تزنيا ، ولا تشربا الخمر ، قال كعب : فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استعملا جميع ما نهيا عنه . قال ابن كثير : وهذا أصح ، يعني من الإسنادين اللذين ذكرهما قبله .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصححه عن عليّ بن أبي طالب ، قال : إن هذه الزهرة تسميها العربُ الزهرةَ ، والعجمُ أناهيدَ ، وذكر نحو الرواية السابقة عن ابن عمر ، عند الحاكم . قال ابن كثير : وهذا الإسناد رجاله ثقات ، وهو غريب جداً . وقد أخرج عبد بن حميد ، والحاكم وصححه عن ابن عباس ، قال : كانت الزهرة امرأة . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، عنه؛ أن المرأة التي فتن بها الملكان مسخت ، فهي هذه الكوكبة الحمراء؛ يعني الزهرة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عنه ، فذكر قصة طويلة ، وفيها التصريح بأن الملكين شربا الخمر ، وزنيا بالمرأة ، وقتلاها . وأخرج ابن جرير ، عن ابن مسعود ، وابن عباس هذه القصة ، وقالا : إنها أنزلت إليهما الزهرة في صورة امرأة ، وأنهما وقعا في الخطيئة .
وقد روي في هذا الباب قصص طويلة وروايات مختلفة استوفاها السيوطي في الدرّ المنثور .
وذكر ابن كثير في تفسيره بعضها ، ثم قال : وقد روى في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد ، والسدّي ، والحسن البصري ، وقتادة ، وأبي العالية ، والزهري ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم ، وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين ، والمتأخرين . وحاصلها راجع في تفصليها إلى أخبار بني إسرائيل ، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد ، إلى الصادق المصدوق المعصوم ، الذي لا ينطق عن الهوى ، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ، ولا إطناب فيها ، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى ، والله أعلم بحقيقة الحال . انتهى .
وقال القرطبي بعد سياق بعض ذلك : قلنا هذا كله ضعيف ، وبعيد عن ابن عمر ، غيره لا يصح منه شيء ، فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم : أمناء الله على وحيه ، وسفراؤه إلى رسله { لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون } [ التحريم : 6 ] ، ثم ذكر ما معناه : أن العقل يجوِّز وقوع ذلك منهم ، لكن وقوع هذا الجائز لا يدرى إلا بالسمع ، ولم يصح . انتهى . وأقول هذا مجرد استبعاد . وقد ورد الكتاب العزيز في هذا الموضع بما تراه ، ولا وجه لإخراجه عن ظاهره بهذه التكلفات ، وما ذكره من أن الأصول تدفع ذلك ، فعلى فرض ، وجود هذه الأصول ، فهي مخصصة بما وقع في هذه القصة ، ولا وجه لمنع التخصيص ، وقد كان إبليس يملك المنزلة العظيمة ، وصار أشرّ البرية ، وأكفر العالمين . وأخرج ابن جرير ، عن قتادة في قوله : { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } قال : بلاء . وأخرج البزار بإسناد صحيح ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود ، قال : «من أتى ساحراً ، أو كاهناً ، وصدّقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد» . وأخرج البزار عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تطير ، أو تُطير له ، أو تكهنَّ ، تُكهن له أو سحر ، أو سحَر له ، ومن عقد عقدة ، ومن أتى كاهناً ، فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد " وأخرج عبد الرزاق ، عن صفوان بن سُليمْ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تعلم شيئاً من السحر قليلاً ، أو كثيراً كان آخر عهده من الله " وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { مِنْ خلاق } قال : قوام . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه قال : { مِنْ خلاق } من نصيب ، وكذا روى ابن جرير ، عن مجاهد . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، عن الحسن : { مَا لَهُ فِى الأخرة مِنْ خلاق } قال : ليس له دين . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي في قوله : { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ } قال : باعوا . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله : { لَمَثُوبَةٌ } قال : ثواب .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
قوله : { رَاعِنَا } أي : راقبنا ، واحفظنا ، وصيغة المفاعلة تدل على أن معنى { رَاعِنَا } : ارعنا ونرعاك ، واحفظنا ونحفظك ، وارقبنا ونرقبك ، ويجوز أن يكون من : أرعنا سمعك ، أي : فرغه لكلامنا ، وجه النهي عن ذلك أن هذا اللفظ كان بلسان اليهود سباً ، قيل إنه في لغتهم بمعنى اسمع لا سمعت؛ وقيل غير ذلك ، فلما سمعوا المسلمين يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم راعنا؛طلباً منه أن يراعيهم من المراعاة ، اغتنموا الفرصة ، وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم كذلك مظهرين أنهم يريدون المعنى العربي ، مبطنين أنهم يقصدون السبّ الذي هو : معنى هذا اللفظ في لغتهم وفي ذلك دليل على أنه ينبغي تجنب الألفاظ المحتملة للسبّ ، والنقص ، وإن لم يقصد المتكلم بها ذلك المعنى المفيد للشتم؛ سداً للذريعة ودفعاً للوسيلة ، وقطعاً لمادة المفسدة ، والتطرق إليه ، ثم أمرهم الله بأن يخاطبوا النبيّ صلى الله عليه وسلم بما لا يحتمل النقص ، ولا يصلح للتعريض ، فقال : { وَقُولُواْ انظرنا } أي : أقبل علينا ، وانظر إلينا ، فهو ، من باب الحذف ، والايصال ، كما قال الشاعر :
ظَاهِراتُ الْجَمَال والحَسُنِ يَنْظُر ... نَ كَمَا يَنْظُر الأرَاكَ الظِّباءُ
أي : إلى الأراك . وقيل : معناه : انتظرنا وتأنّ بنا ، ومنه قول الشاعر :
فإنكما إن تنظراني ساعةً ... من الدهر تنفعني لَدَى أمِّ جُنْدبَ
وقرأ الأعمش « انظرنا » بقطع الهمزة ، وكسر الظاء ، بمعنى أخرنا وأمهلنا ، حتى نفهم عنك ، ومنه قول الشاعر :
أبا هندٍ فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرِّك اليقينا
وقرأ الحسن : « راعنا » بالتنوين ، وقال : الراعن من القول السخريِّ . منه . انتهى . وأمرهم بعد هذا النهي ، والأمر بأمر آخر وهو قوله : { واسمعوا } أي : اسمعوا ما أمرتم به ونهيتم عنه ، ومعناه : أطيعوا الله في ترك خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك اللفظ ، وخاطبوه ما أمرتم به ، ويحتمل أن يكون معناه : اسمعوا ما يخاطبكم به الرسول من الشرع ، حتى يحصل لكم المطلوب بدون طلب للمراعاة ، ثم توعد اليهود بقوله : { وللكافرين عَذَابٌ أَلِيمٌ } ويحتمل أن يكون وعيداً شاملاً لجنس الكفرة . قال ابن جرير : والصواب من القول عندنا في ذلك أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم : { راعنا } لأنها كلمة كرهها الله أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا تقولوا للعنب الكرم ، ولكن قولوا الحَبَلَة ، ولا تقولوا عبدي ، ولكن قولوا فتاي » وما أشبه ذلك .
وقوله : { مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب } الآية ، فيه بيان شدة عداوة الكفار للمسلمين حيث لا يودّون إنزال الخير عليهم من الله سبحانه .
ثم ردّ الله سبحانه ذلك عليهم ، فقال : { والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء } الآية . وقوله : { أَن يُنَزّلَ } في محل نصب على المفعولية ، و«من» في قوله : { مّنْ خَيْرٍ } زائدة ، قاله النحاس ، وفي الكشاف أن «من» في قوله : { مّنْ أَهْلِ الكتاب } بيانية ، وفي قوله : { مّنْ خَيْرٍ } مزيدة لاستغراق الخير ، وفي قوله : { مّن رَّبّكُمْ } لابتداء الغاية ، وقد قيل بأن الخير الوحي . وقيل غير ذلك ، والظاهر أنهم لا يودّون أن ينزل على المسلمين أيّ خير كان ، فهو لا يختص بنوع معين ، كما يفيده وقوع هذه النكرة في سياق النفي ، وتأكيد العموم بدخول «من» المزيدة عليها ، وإن كان بعض أنواع الخير أعظم من بعض ، فذلك لا يوجب التخصيص . والرحمة قيل : هي القرآن . وقيل النبوّة . وقيل : جنس الرحمة من غير تعيين كما يفيد ذلك الإضافة إلى ضميره تعالى : { والله ذُو الفضل العظيم } أي : صاحب الفضل العظيم ، فكيف لا تودون أن يختص برحمته من يشاء من عباده .
وقد أخرج سعيد بن منصور في سننه ، وأحمد في الزهد ، وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود؛ أن رجلاً أتاه ، فقال : اعهد إلىَّ ، فقال : إذا سمعت الله يقول : فأوعها سمعك ، فإنه خير يأمر به ، أو شرّ ينهي عنه . وأخرج أبو نعيم في الدلائل ، عن ابن عباس قال : { راعنا } بلسان اليهود : السبّ القبيح ، وكان اليهود يقولون ذلك لرسول الله سرّاً ، فلما سمعوا أصحابه يقولون ذلك أعلنوا بها ، فكانوا يقولون ذلك ، ويضحكون ، فيما بينهم ، فأنزل الله الآية . وأخرج أبو نعيم في الدلائل ، عنه أنه قال المؤمنون بعد هذه الآية : من سمعتموه يقولها ، فاضربوا عنقه . فانتهت اليهود بعد ذلك . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن السدي قال : كان رجلان من اليهود : مالك بن الصيف ، ورفاعة بن زيد ، إذا لقيا النبيّ صلى الله عليه وسلم قالا له ، وهما يكلمانه : راعنا سمعك ، واسمع غير مسمع ، فظنّ المسلمون أن هذا شيء كان أهل الكتاب يعظمون به أنبياءهم ، فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي صخر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين ، فقالوا : ارعنا سمعك ، فأعظم الله رسوله أن يقال له ذلك ، وأمرهم أن يقولوا : { انظرنا } ليعزروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويوقروه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وأبو نعيم ، عن قتادة : أن اليهود كانت تقول ذلك استهزاءً ، فكره الله للمؤمنين أن يقولوا كقولهم ، وأخرج ابن حاتم ، عن مجاهد قال : الرحمة القرآن والإسلام .
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
النسخ في كلام العرب على وجهين : أحدهما : النقل ، كنقل كتاب من آخر ، وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخاً ، أعنى من اللوح المحفوظ ، فلا مدخل لهذا المعنى في هذه الآية ، ومنه : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 29 ] أي نأمر بنسخه . الوجه الثاني : الإبطال ، والإزالة . وهو المقصود هنا . وهذا الوجه الثاني ينقسم إلى قسمين عند أهل اللغة . أحدهما : إبطال الشيء ، وزواله ، وإقامة آخر مقامه ، ومنه نسخت الشمس الظل : إذا أذهبته ، وحلت محله ، وهو : معنى قوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ } وفي صحيح مسلم : « لم تكن نبوّة قط إلا تناسخت » أي : تحوّلت من حال إلى حال . والثاني إزالة الشيء دون أن يقوم مقامه آخر كقولهم : نسخت الريح الأثر ، ومن هذا المعنى { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان } [ الحج : 52 ] أي : يزيله . وروي عن أبي عبيد أن هذا قد كان يقع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت تنزل عليه السورة ، فترفع ، فلا تتلى ، ولا تكتب . ومنه ما روي عن أُبيّ ، وعائشة ، أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة في الطول . قال ابن فارس : النسخ نسخ الكتاب ، والنسخ أن تزيل أمراً كان من قبل يعمل به ، ثم تنسخه بحادث غيره ، كالآية تنزل بأمر ، ثم تنسخ بأخرى ، وكل شيء خلف شيئاً ، فقد انتسخه ، يقال نسخت الشمس الظل ، والشيب الشباب ، وتناسخ الورثة أن يموت ورثة بعد ورثة ، وأصل الميراث قائم ، وكذا تناسخ الأزمنة والقرون . وقال ابن جرير : { مَا نَنسَخْ } ما ننقل من حكم آية إلى غيره ، فنبدله ، ونغيره ، وذلك أن نحوّل الحلال حراماً ، والحرام حلالاً ، والمباح محظوراً ، والمحظور مباحاً ، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي ، والحظر والإطلاق والمنع ، والإباحة ، فأما الأخبار ، فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ ، وأصل النسخ من نسخ الكتاب ، وهو نقله من نسخة أخرى ، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله إلى غيره وسواء نسخ حكمها ، أو خطها ، إذ هي في كلتي حالتيها منسوخة . انتهى .
وقد جعل علماء الأصول مباحث النسخ من جملة مقاصد ذلك الفن ، فلا نطول بذكره ، بل نحيل من أراد الاستشفاء عليه . وقد اتفق أهل الإسلام على ثبوته سلفاً ، وخلفاً ، ولم يخالف في ذلك أحد إلا من لا يعتدَّ بخلافه ولا يؤبه لقوله . وقد اشتهر عن اليهود ، أقمأهم الله إنكاره ، وهم محجوجون بما في التوراة أن الله قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة : إني قد جعلت كل دابة مأكلاً لك ، ولذريتك ، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم ، فلا تأكلوه ، ثم وقد حرّم الله ذلك على موسى عليه السلام وعلى بني اسرائيل كثيراً من الحيوان ، وثبت في التوراة أن آدم كان يزوّج الأخ من الأخت ، وقد حرّم الله ذلك على موسى عليه السلام ، وعلى غيره .
وثبت فيها أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح ابنه ، ثم قال الله له لا تذبحه ، وبأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل ، ثم أمرهم برفع السيف عنهم ، ونحو هذا كثير في التوراة الموجودة بأيديهم .
وقوله : { أَوْ نُنسِهَا } قرأ أبو عمرو ، وابن كثير بفتح النون ، والسين ، والهمز ، وبه قرأ عمر ، وابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد وأبيّ بن كعب ، وعبيد بن عمير والنخعي ، وابن محيصن ، ومعنى هذه القراءة نؤخرها عن النسخ ، من قولهم : نسأت هذا الأمر : إذا أخرته . قال ابن فارس : ويقولون : نسأ الله في أجلك ، وأنسأ الله أجلك . وقد انتسأ القوم : إذا تأخروا ، وتباعدوا ، ونسأتهم أنا : أخرتهم . وقيل : معناه نؤخر نسخ لفظها؛ أي نتركه في أم الكتاب ، فلا يكون . وقيل : نذهبها عنكم حتى لا تقرأ ، ولا تذكر ، وقرأ الباقون { نُنسِهَا } بضم النون من النسيان الذي بمعنى الترك ، أي : نتركها ، فلا نبدلها ، ولا ننسخها ، ومنه قوله تعالى : { نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] أي تركوا عبادته ، فتركهم في العذاب . واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم ، وحكى الأزهري أن معناه : نأمر بتركها يقال : أنسيته الشيء ، أي أمرته بتركه ، ونسيته تركته ، ومنه قول الشاعر :
إن عليّ عُقْبة أقْضِيها ... لستُ بناسِيها ولا مُنْسِيها
أي : ولا آمر بتركها . وقال الزجاج : إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك ، لا يقال : أنسى بمعنى ترك؛ قال : وما روى عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { أَوْ نُنسِهَا } قال : نتركها لا نبدلها ، فلا يصح ، والذي عليه أكثر أهل اللغة ، والنظر أن معنى : { أَوْ نُنسِهَا } نبح لكم تركها ، من نسي إذا ترك ، ثم تعديه . ومعنى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } نأت بما هو : أنفع للناس منها في العاجل والآجل ، أو في أحدهما ، أو بما هو مماثل لها من غير زيادة ، ومرجع ذلك إلى إعمال النظر في المنسوخ والناسخ ، فقد يكون الناسخ أخفّ ، فيكون أنفع لهم في العاجل ، وقد يكون أثقل وثوابه أكثر ، فيكون أنفع لهم في الآجل ، وقد يستويان ، فتحصل المماثلة .
وقوله : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } يفيد أن النسخ من مقدوراته ، وأن إنكاره إنكار للقدرة الإلهية ، وهكذا قوله : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والأرض } أي : له التصرف في السموات والأرض بالإيجاد ، والاختراع ، ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته ، فهو أعلم بمصالح عباده ، وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها ، وشرعها لهم . وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال ، والأزمنة ، والأشخاص ، وهذا صنع من لا وليّ لهم غيره ، ولا نصير سواه ، فعليهم أن يتلقوه بالقبول ، والامتثال ، والتعظيم ، والإجلال .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم في الكنى ، وابن عدي ، وابن عساكر ، عن ابن عباس ، قال : كان مما ينزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل ، وينساه بالنهار ، فأنزل الله : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وفي إسناده الحجاج الرَّقِّي ينظر فيه . وأخرج الطبراني ، عن ابن عمر ، قال : «قرأ رجلان من الأنصار سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانا يقرآن بها ، فقاما يقرآن ذات ليلة يصليان ، فلم يقدرا منها على حرف ، فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " إنها مما نسخ ، أو نسي ، فالهوا عنها " وفي إسناده سليمان بن أرقم ، وهو ضعيف . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس ، في قوله : " مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ ننسأها " يقول : ما نبدل من آية ، أو نتركها لا نبدلها : { نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } يقول : خير لكم في المنفعة ، وأرفق بكم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه أنه قال : ننسأها نؤخرها . وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود في قوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ } قال : نثبت خطها ونبدل حكمها : " أَوْ ننساها " قال : نؤخرها . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } يقول فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر ، فيها نهي .
وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف ، وأبو ذرّ الهروى في فضائله ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف؛ «أن رجلاً كانت معه سورة ، فقام من الليل : فقام بها ، فلم يقدر عليها ، وقام آخر يقرأ بها ، فلم يقدر عليها ، وقام آخر ، فلم يقدر عليها ، فأصبحوا ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا عنده ، فأخبروه ، فقال : " إنها نسخت البارحة " وقد روى نحوه عنه من وجه آخر . وقد ثبت في البخاري ، وغيره عن أنس ، أن الله أنزل في الذين قتلوا في بئر معونة : «أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضى عنا ، وأرضانا» ثم نسخ ، وهكذا ثبت في مسلم ، وغيره عن أبي موسى قال : كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول ، والشدّة ببراءة ، فأنسيتُها ، غير أني حفظت منها : «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ، ولا يملأ جوفه إلا التراب» وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات ، أوّلها { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السموات } [ الحديد : 1 ، الحشر : 1 ، الصف : 1 ] فأنسيناها ، غير أني حفظت منها : «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألوا عنها يوم القيامة» وقد روى مثل هذا من طريق جماعة من الصحابة ، ومنه آية الرجم كما رواه عبد الرزاق ، وأحمد ، وابن حبان ، عن عمر .
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
{ أَمْ } هذه هي المنقطعة التي بمعنى بل ، أي : بل تريدون ، وفي هذا توبيخ ، وتقريع ، والكاف في قوله : { كَمَا سُئِلَ } في موضع نصب نعت لمصدر محذوف ، أي : سؤالاً مثل ما سئل موسى من قبل ، حيث سألوه أن يريهم الله جهرة ، وسألوا محمداً صلى الله عليه وسلم : أن يأتي بالله ، والملائكة قبيلاً . وقوله : { سَوَآء } هو الوسط من كل شيء قاله أبو عبيدة ، ومنه قوله تعالى : { فِى سَوَاء الجحيم } [ الصافات : 55 ] ومنه قول حسان يرثي النبيّ صلى الله عليه وسلم :
يَا وَيْحَ أصْحابِ النَّبيّ وَرهْطِه ... بَعْد المُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ المُلْحَدِ
وقال الفراء : السواء : القصد ، أي : ذهب عن قصد الطريق ، وسمته أي : طريق طاعة الله . وقوله تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب } فيه إخبار المسلمين بحرص اليهود على فتنتهم ، وردّهم عن الإسلام ، والتشكيك عليهم في دينهم . وقوله : { لَوْ يَرُدُّونَكُم } في محل نصب على أنه مفعول للفعل المذكور . وقوله : { مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } يحتمل أن يتعلق بقوله { ودّ } أي : ودّوا ذلك من عند أنفسهم ، ويحتمل أن يتعلق بقوله : { حَسَدًا } أي : حسداً ناشئاً من عند أنفسهم ، وهو : علة لقوله : { ودّ } . والعفو : ترك المؤاخذة بالذنب . والصفح : إزالة أثره من النفس ، صفحت عن فلان : إذا أعرضت عن ذنبه ، وقد ضربت عنه صفحاً : إذا أعرضت عنه ، وفيه الترغيب في ذلك ، والإرشاد إليه ، وقد نسخ ذلك بالأمر بالقتال ، قاله أبو عبيدة .
وقوله : { حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ } هو غاية ما أمر الله سبحانه به من العفو والصفح أي : افعلوا ذلك إلى أن يأتي إليكم الأمر من الله سبحانه في شأنهم بما يختاره ويشاؤه ، وما قد قضى به في سابق علمه ، وهو : قتل من قتل منهم ، وإجلاء من أجلى ، وضرب الجزية على من ضربت عليه ، وإسلام من أسلم . وقوله : { وأقيموا الصلاة } حثّ من الله سبحانه لهم على الاشتغال بما ينفعهم ويعود عليهم بالمصلحة ، من إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة . وتقديم الخير الذي يثابون عليه حتى يمكن الله لهم ، وينصرهم على المخالفين لهم .
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، أنه قال : قال رافع بن حُريَمْلة ، ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد ائتنا بكتاب يَنزَّل علينا من السماء نقرؤه ، أو فجِّر لنا أنهاراً نتَّبعك ، ونصدقك ، فأنزل الله في ذلك : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ } الى قوله { سَوَاء السبيل } وكان حيي بن أخطب [ وأبو ياسر بن أخطب ] من أشدّ اليهود حسداً للعرب ، إذ خصهم الله برسوله ، وكانا جاهديْن في ردّ الناس عن الإسلام ما استطاعا ، فأنزل الله فيهما : { وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب } الآية .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن السدي؛ قال : سألت العرب محمداً صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرةً ، فنزلت هذه الآية . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : قال رجل : لو كانت كفَّاراتنا كفَّارات بني إسرائيل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما أعطاكم الله خيرٌ ، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه ، وكفَّارتَها ، فإن كفَّرها كانت له خزاياً في الدنيا ، وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة . وقد أعطاكم الله خيراً من ذلك قال { وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء : 10 ] الآية ، والصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن ، فأنزل الله : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ } » الآية . وأخرج ابن جرير ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال : سألت قريش محمداً صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً ، فقال : « نعم ، وهو : لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم » فأبوا ورجعوا ، فأنزل الله : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ } أن يريهم الله جهرة . وأخرج ابن جرير ، عن أبي العالية في قوله : { وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان } قال : يتبدل الشدّة بالرخاء . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل } قال : عدل عن السبيل .
وأخرج أبو داود ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل عن كعب بن مالك ، قال : كان اليهود ، والمشركون من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه أشدّ الأذى ، فأمر الله بالصبر على ذلك ، والعفو عنهم ، وأنزل الله : { وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب } وفي الصحيحين ، وغيرهما عن أسامة بن زيد ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه يعفون عن المشركين ، وأهل الكتاب كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله تعالى : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ أَذىً كَثِيراً } [ آل عمران : 186 ] وقال : { وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم } الآية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأوّل في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم بقتل ، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش . وأخرج ابن جرير ، عن الربيع بن أنس في قوله : { مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } قال : من قبل أنفسهم : { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق } يقول : إن محمداً رسول الله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة ، نحوه وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { فاعفوا واصفحوا } وقوله { وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين } [ الأنعام : 106 ] ونحو هذا في العفو عن المشركين قال : نسخ ذلك كله بقوله { قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله } [ التوبة : 29 ] الآية ، وقوله { اقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . وأخرج ابن جرير ، عن السدي نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { وَمَا تُقَدّمُواْ لأنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ } يعنى من الأعمال من الخير في الدنيا . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية في قوله : { تَجِدُوهُ عِندَ الله } قال : تجدوا ثوابه .
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
قوله : { هُودًا } قال الفراء : يجوز أن يكون هوداً بمعنى يهودياً ، وأن يكون جمع هائد . وقال الأخفش : إن الضمير المفرد في كان هو باعتبار لفظ « من » ، والجمع في قوله : { هوداً } باعتبار معنى « من » ، قيل : في هذا الكلام حذف ، وأصله : وقالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً . هكذا قال كثير من المفسرين ، وسبقهم إلى ذلك بعض السلف ، وظاهر النظم القرآني أن طائفتي اليهود ، والنصارى وقع منهم هذا القول ، وأنهم يختصون بذلك دون غيرهم ، ووجه القول بأن في الكلام حذفاً ما هو معلوم من أن كل طائفة من هاتين الطائفتين تضلل الأخرى ، وتنفي عنها أنها على شيء من الدين فضلاً عن دخول الجنة كما في هذا الموضع ، فإنه قد حكى الله عن اليهود أنها قالت : ليست النصارى على شيء ، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ، والأماني قد تقدّم تفسيرها ، والإشارة بقوله : تلك إلى ما تقدّم لهم من الأمانيّ التي آخرها أنه لا يدخل الجنة غيرهم ، وقيل إن الإشارة إلى هذه الأمنية الآخرة ، والتقدير أمثال تلك الأمنية أمانيهم ، على حذف المضاف ليطابق أمانيهم ، قوله : { هَاتُواْ } أصله هاتيوا حذفت الضمة لثقلها ، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين ، ويقال للمفرد المذكر : هات ، وللمؤنث هاتي ، وهو : صوت بمعنى أحْضر ، والبرهان : الدليل الذي يحصل عنده اليقين . قال ابن جرير : طلب الدليل هنا يقتضي إثبات النظر ، ويردّ على من ينفيه .
وقوله : { إِن كُنتُمْ صادقين } أي : في تلك الأمانيّ المجردة ، والدعاوي الباطلة ، ثم ردّ عليهم ، فقال : { بلى مَنْ أَسْلَمَ } وهو : إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة ، أي : ليس كما يقولون؛ بل يدخلها من أسلم وجهه لله . ومعنى أسلم : استسلم ، وقيل : أخلص . وخص الوجه؛ بالذكر لكونه أشرف ما يرى من الإنسان . ولأنه موضع الحواس الظاهرة . وفيه يظهر العزّ والذل ، وقيل إن العرب تخبر بالوجه عن جملة الشيء ، وأن المعنى هنا الوجه وغيره . وقيل : المراد بالوجه هنا المقصد ، أي : من أخلص مقصده وقوله : { وَهُوَ مُحْسِنٌ } في محل نصب على الحال ، والضمير في قوله : { وَجْهَهُ } { وَلَهُ } باعتبار لفظ من ، وفي قوله : { عَلَيْهِمْ } باعتبار معناها . وقوله : { مِنْ } إن كانت الموصولة ، فهي فاعل لفعل محذوف أي : بلى يدخلها من أسلم . وقوله : { فَلَهُ } معطوف على : { من أسلم } وإن كانت « من » شرطية ، فقوله : { فله } هو : الجزاء ، ومجموع الشرط ، والجزاء ردّ على أهل الكتاب ، وإبطال لتلك الدعوى .
وقوله : { وَقَالَتِ اليهود } وما بعده فيه أن كل طائفة تنفي الخير عن الأخرى ، ويتضمن ذلك إثباته لنفسها تحجراً لرحمة الله سبحانه .
قال في الكشاف : إن الشيء هو : الذي يصح ويعتدّ به ، قال : وهذه مبالغة عظيمة؛ لأن المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء ، وإذا نفي إطلاق اسم الشيء عليه ، فقد بولغ في ترك الاعتداد به إلى ما ليس بعده ، وهكذا قولهم أقلّ من لا شيء . وقوله : { وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب } أي التوراة ، والإنجيل ، والجملة حالية ، وقيل : المراد جنس الكتاب ، وفي هذا أعظم توبيخ ، وأشدّ تقريع؛ لأن الوقوع في الدعاوى الباطلة ، والتكلم بما ليس عليه برهان هو : وإن كان قبيحاً على الإطلاق لكنه من أهل العلم ، والدراسة لكتب الله أشدّ قبحاً ، وأفظع جرماً ، وأعظم ذنباً . وقوله : { كذلك قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } المراد بهم : كفار العرب ، الذين لا كتاب لهم قالوا : مثل مقالة اليهود اقتداءً بهم؛ لأنهم جهلة لا يقدرون على غير التقليد لمن يعتقدون أنه من أهل العلم . وقيل : المراد بهم طائفة من اليهود ، والنصارى ، وهم الذين لا علم عندهم ، ثم أخبرنا سبحانه بأنه المتولى لفصل هذه الخصومة التي وقع فيها الخلاف عند الرجوع إليه ، فيعذب من يستحق التعذيب ، وينجي من يستحق النجاة .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي العالية في قوله : { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة } الآية ، قال : قالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً ، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً : { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } قال : أمانيّ يتمنونها على الله بغير حق : { قُلْ هَاتُواْ برهانكم } قال : حجتكم : { إِن كُنتُمْ صادقين } بما تقولونه أنه كما تقولون : { بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } يقول : أخلص لله . وأخرج ابن جرير ، عن مجاهد في قوله : { قُلْ هَاتُواْ برهانكم } قال : حجتكم ، وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ } قال : أخلص دينه .
وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : لما قدم وفد نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتتهم أحبار اليهود ، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رافع بن حريملة : ما أنتم على شيء وكفر بعيسى والإنجيل ، فقال له رجل من أهل نجران : ما أنتم على شيء ، وجحد نبوّة موسى ، وكفر بالتوراة ، قال : فأنزل الله في ذلك : { وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَىْء وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَىْء وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب } أي : كلّ يتلو في كتابه تصديق من كفر به . وأخرج ابن جرير ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال : هم : أمم كانت قبل اليهود والنصارى . وأخرج ابن جرير عن السدي قال : هم العرب قالوا ليس محمد على شيء .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
هذا الاستفهام فيه أبلغ دلالة على أن هذا الظلم متناه ، وأنه بمنزلة لا ينبغي أن يلحقه سائر أنواع الظلم : أي : لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ، واسم الاستفهام في محل رفع على الابتداء ، وأظلم خبره . وقوله : { أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه } قيل : هو بدل من مساجد . وقيل : إنه مفعول له بتقدير كراهية أن يذكر . وقيل : إن التقدير من أن يذكر ، ثم حذف حرف الجر لطول الكلام؛ وقيل إنه مفعول ثان لقوله : { مَنَعَ } والمراد بمنع المساجد أن يذكر فيها اسم الله : منع من يأتي إليها للصلاة ، والتلاوة ، والذكر ، وتعليمه . والمراد بالسعي في خرابها : هو السعي في هدمها ، ورفع بنيانها ، ويجوز أن يراد بالخراب تعطيلها عن الطاعات التي وضعت لها ، فيكون أعم من قوله : { أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه } فيشمل جميع ما يمنع من الأمور التي بنيت لها المساجد ، كتعلم العلم وتعليمه ، والقعود للاعتكاف ، وانتظار الصلاة ، ويجوز أن يراد ما هو أعم من الأمرين من باب عموم المجاز ، كما قيل في قوله تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله } [ التوبة : 18 ] .
وقوله : { مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ } أي : ما كان ينبغي لهم دخولها إلا حال خوفهم ، وفيه إرشاد للعباد من الله عزّ وجل أنه ينبغي لهم أن يمنعوا مساجد الله من أهل الكفر من غير فرق بين مسجد ومسجد ، وبين كافر وكافر ، كما يفيده عموم اللفظ ، ولا ينافيه خصوص السبب ، وأن يجعلوهم بحالة إذا أرادوا الدخول كانوا على وجل وخوف ، من أن يفطن لهم أحد من المسلمين ، فينزلون بهم ما يوجب الإهانة ، والإذلال ، وليس فيه الإذن لنا بتمكينهم من ذلك حال خوفهم ، بل هو كناية عن المنع لهم منا عن دخول مساجدنا ، والخزي : قيل : هو ضرب الجزية عليهم ، وإذلالهم ، وقيل غير ذلك ، وقد تقدّم تفسيره . والمشرق : موضع الشروق . والمغرب : موضع الغروب ، أي : هما ملك لله ، وما بينهما من الجهات ، والمخلوقات ، فيشمل الأرض كلها .
وقوله : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ } أي : أيّ جهة تستقبلونها ، فهناك وجه الله ، أي : المكان الذي يرتضى لكم استقباله ، وذلك يكون عند التباس جهة القبلة التي أمرنا بالتوجه إليها بقوله سبحانه : { فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } [ البقرة : 150 ] قال في الكشاف : والمعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام ، أو : في بيت المقدس ، فقد جعلت لكم الأرض مسجداً ، فصلوا في أيّ بقعة شئتم من بقاعها ، وافعلوا التولية فيها ، فإن التولية ممكنة في كل مكان ، لا تختص أماكنها في مسجد دون مسجد ، ولا في مكان دون مكان . انتهى . وهذا التخصيص لا وجه له ، فإن اللفظ أوسع منه .
وإن كان المقصود به بيان السبب ، فلا بأس . وقوله : { إِنَّ الله واسع عَلِيمٌ } فيه إرشاد إلى سعة رحمته . وأنه يوسع على عباده في دينهم ، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم . وقيل : واسع بمعنى أنه يسع علمه كل شيء كما قال : { وَسِعَ كُلَّ شَىْء عِلْماً } [ طه : 98 ] ، وقال الفراء : الواسع الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء .
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، أن قريشاً منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام ، فأنزل الله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مساجد الله } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه قال : هم النصارى ، وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن السدي قال : هم الروم كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس . وفي قوله : { أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ } قال : فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه ، وقد أخيف بأداء الجزية ، فهو يؤديها . وفي قوله : { لَهُمْ فِى الدنيا خِزْىٌ } قال : أما خزيهم في الدنيا ، فإنه إذا قام المهدي ، وفتحت القسطنطينية قتلهم ، فذلك الخزي . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة أنهم الروم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن كعب : أنهم النصارى لما أظهروا على بيت المقدس حرقوه . وأخرج ابن جرير ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، قال : هم : المشركون حين صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن البيت يوم الحديبية . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن أبي صالح قال : ليس للمشركين أن يدخلوا المسجد إلا خائفين . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير عن قتادة في قوله : { لَهُمْ فِى الدنيا خِزْىٌ } قال : يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس ، قال : أوّل ما نسخ من القرآن ، فيما ذكر لنا ، والله أعلم شأن القبلة ، قال الله تعالى : { وَلِلَّهِ المشرق والمغرب } الآية ، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى نحو بيت المقدس ، وترك البيت العتيق ، ثم صرفه الله إلى البيت العتيق ، ونسخها فقال : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } [ البقرة : 149 ] ، وأخرج ابن المنذر ، عن ابن مسعود نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم عن ابن عمر قال : « كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته تطوّعاً أينما توجهت به » ، ثم قرأ ابن عمر هذه الآية : { فأينما * تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } وقال : في هذا أنزلت هذه الآية . وأخرج نحوه عنه ابن جرير ، والدارقطني ، والحاكم وصححه : وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
« أنه كان يصلي على راحلته قبل المشرق ، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل واستقبل القبلة ، وصلى » . وروى نحوه من حديث أنس مرفوعاً أخرجه ابن أبي شيبة ، وأبو داود .
وأخرج عبد بن حميد ، والترمذي وضعفه ، وابن ماجه وابن جرير وغيرهم عن عامر بن ربيعة؛ قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة ، فنزلنا منزلاً ، فجعل الرجل يأخذ الأحجار ، فيعمل مسجداً ، فيصلي فيه ، فلما أن أصبحنا إذا نحن قد صلينا على غير القبلة ، فقلنا يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة ، فأنزل الله : { وَلِلَّهِ المشرق والمغرب } الآية ، فقال : « مضت صلاتكم » وأخرج الدارقطني ، وابن مردويه ، والبيهقي عن جابر مرفوعاً نحوه ، إلا أنه ذكر أنهم خطوا خطوطاً . وأخرج نحوه ابن مردويه بسند ضعيف ، عن ابن عباس مرفوعاً . وأخرج نحوه أيضاً سعيد بن منصور ، وابن المنذر عن عطاء يرفعه ، وهو مرسل . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : { فَثَمَّ وَجْهُ الله } قال : قبلة الله أينما توجهت شرقاً أو غرباً . وأخرج ابن أبي شيبة ، والترمذي وصححه وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما بين المشرق والمغرب قبلة » وأخرج ابن أبي شيبة ، والدارقطني ، والبيهقي ، عن ابن عمر مثله . وأخرج ابن أبي شيبة ، والبيهقي عن عمر نحوه .
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
قوله : { وَقَالُواْ } هم اليهود والنصارى ، وقيل اليهود : أي قالوا : { عُزَيْرٌ ابن الله } [ التوبة : 30 ] وقيل النصارى : أي : { قَالُواْ المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] وقيل : هم كفار العرب : أي : قالوا الملائكة بنات الله . وقوله : { سبحانه } قد تقدم تفسيره ، والمراد هنا تبرؤ الله تعالى عما نسبوه إليه من اتخاذ الولد . وقوله : { بَل لَّهُ مَا فِي السموات والأرض } ردّ على القائلين : بأنه اتخذ ولداً ، أي بل هو مالك لما في السموات ، والأرض ، وهؤلاء القائلون داخلون تحت ملكه ، والولد من جنسهم لا من جنسه ، ولا يكون الولد إلا من جنس الوالد . والقانت : المطيع الخاضع ، أي : كل من في السموات والأرض مطيعون له ، خاضعون لعظمته ، خاشعون لجلاله . والقنوت في أصل اللغة أصله القيام . قال الزجاج : فالخلق قانتون ، أي : قائمون بالعبودية ، إما إقراراً ، وإما أن يكونوا على خلاف ذلك ، فأثر الصنعة بين عليهم ، وقيل أصله الطاعة ، ومنه { والقانتين والقانتات } [ الأحزاب : 35 ] وقيل : السكون ، ومنه قوله : { وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين } [ البقرة : 238 ] ولهذا قال زيد بن أرقم : كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت { وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين } فأمرنا بالسكوت ، ونهينا عن الكلام . وقيل القنوت : الصلاة ، ومنه قول الشاعر :
قَانِتاً لله يَتْلو كتُبْه ... وَعَلى عَمدٍ من النَّاسِ اعْتَزَل
والأولى أن القنوت لفظ مشترك بين معان كثيرة ، قيل : هي ثلاثة عشر معنى ، وهي مبنية ، وقد نظمها بعض أهل العلم ، كما أوضحت ذلك في شرحي علم المنتقى . وبديع : فعيل للمبالغة ، وهو خبر مبتدأ ، محذوف ، أي : هو بديع سمواته ، وأرضه ، أبدع الشيء : أنشأه لا عن مثال ، وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له مبدع . وقوله : { وَإِذَا قضى أَمْرًا } أي : أحكمه ، وأتقنه . قال الأزهري : قضى في اللغة على وجوه مرجعها الى انقطاع الشيء ، وتمامه ، قيل : هو مشترك بين معان ، يقال قضى بمعنى : خلق ، ومنه : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات } [ فصلت : 12 ] وبمعنى أعلم ، ومنه : { وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إسراءيل فِى الكتاب } [ الإسراء : 4 ] وبمعنى أمر ، ومنه : { وقضى رَبُّكَ ألا لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إيّاه } [ الإسراء : 23 ] وبمعنى ألزم ، ومنه : قضى عليه القاضي ، وبمعنى أوفاه ، ومنه : { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل } [ القصص : 29 ] وبمعنى أراد ومنه : { فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ } [ غافر : 68 ] ، والأمر واحد الأمور .
وقد ورد في القرآن على أربعة عشر معنى : الأوّل الدين ، ومنه : { حتى جَاء الحق وَظَهَرَ أَمْرُ الله } [ التوبة : 48 ] الثاني : بمعنى القول ، ومنه : { فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا } [ المؤمنون : 27 ] الثالث : العذاب ، ومنه قوله : { لَمَّا قُضِىَ الأمر } [ إبراهيم : 22 ] الرابع : عيسى ، ومنه : { فَإِذَا قضى أَمْراً } [ مريم : 35 ] أي : أوجد عيسى عليه السلام . الخامس القتل ، ومنه { فَإِذَا جَاء أَمْرُ الله } [ غافر : 78 ] السادس : فتح مكة ، ومنه : { فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ } [ التوبة : 24 ] . السابع : قتل بني قريظة ، وإجلاء النضير ، ومنه :
{ فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ } [ البقرة : 109 ] ، الثامن : القيامة ، ومنه : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] التاسع : القضاء ، ومنه : { يُدَبّرُ الأمر } [ يونس : 3 ] ، العاشر الوحي ، ومنه : { يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ } [ الطلاق : 12 ] الحادي عشر : أمر الخلائق ، ومنه : { أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور } [ الشورى : 53 ] الثاني عشر : النصر ، ومنه : { هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَىْء } [ البقرة : 154 ] . الثالث عشر : الذنب ، ومنه : { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا } [ الطلاق : 9 ] الرابع عشر : الشأن ، ومنه : { وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [ هود : 97 ] هكذا أورد هذه المعاني بأطول من هذا بعض المفسرين ، وليس تحت ذلك كثير فائدة ، وإطلاقه على الأمور المختلفة لصدق اسم الأمر عليها . وقوله : { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } الظاهر في هذا المعنى الحقيقي ، وأنه يقول سبحانه هذا اللفظ ، وليس في ذلك مانع ، ولا جاء ما يوجب تأويله ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] وقال تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] وقال : { وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة كَلَمْحٍ بالبصر } [ القمر : 50 ] ومنه قول الشاعر :
إذا ما أراد الله أمراً فإنما ... يقول له كن قوله فيكون
وقد قيل : إن ذلك مجاز ، وأنه لا قول ، وإنما هو : قضاء يقضيه ، فعبر عنه بالقول ، ومنه قول الشاعر ، وهو عمر بن حممة الدوسي :
فَأصْبَحْتُ مِثْل النَّسْرِ طَارَ فَرِاخُه ... إذَا رَامَ تَطْيَاراً يُقَالُ لَهُ قَعِ
وقال آخر :
قالت جناحاه لساقيه الحقا ... ونجيا لحكمكما أن يمزقا
والمراد بقوله : { وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } اليهود ، وقيل النصارى ، ورجّحه ابن جرير؛ لأنهم المذكورون في الآية؛ وقيل مشركو العرب ، و " لَوْلاَ " حرف تحضيض ، أي : هلا { يُكَلّمُنَا الله } بنبوّة محمد ، فنعلم أنه نبيّ ، { أَوْ تَأْتِينَا } بذلك علامة على نبوّته . والمراد بقوله : { قَالَ الذين مِن قَبْلِهِم } قيل : هم اليهود ، والنصارى ، في قول من جعل الذين لا يعلمون كفار العرب ، أو الأمم السالفة ، في قول من جعل الذين لا يعلمون اليهود ، والنصارى ، أو اليهود في قول من جعل الذين لا يعلمون النصارى { تشابهت } أي : في التعنت ، والاقتراح ، وقال الفراء : { تشابهت } في اتفاقهم على الكفر ، { قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي : يعترفون بالحق ، وينصفون في القول ، ويذعنون لأوامر الله سبحانه لكونهم مصدقين له سبحانه مؤمنين بآياته متبعين لما شرعه لهم .
وقد أخرج البخاري من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى : «كذبني ابن آدم وشتمني ، فأما تكذيبه إياي ، فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان ، وأما شتمه إياي ، فقوله لي ولد ، فسبحاني أن اتخذ صاحبة ، أو ولداً " وأخرج نحوه أيضاً من حديث أبي هريرة ، وفي الباب أحاديث . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { سبحانه } قال : تنزيه الله نفسه عن السوء .
وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه سئل عن التسبيح أن يقول الإنسان : سبحان الله ، قال : « برأه الله من السوء » . وأخرجه الحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي من طريق طلحة بن يحيى بن طلحة عن أبيه عن جدّه طلحة بن عبيد الله ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير سبحان الله ، فقال : « تنزيه الله من كل سوء » . وأخرجه ابن مردويه ، عنه من طريق أخرى مرفوعاً . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والطبراني في الأوسط ، وأبو نعيم في الحلية ، والضياء في المختارة ، عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت ، فهو الطاعة » وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { كُلٌّ لَّهُ قانتون } قال مطيعون .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : { بَدِيعُ السموات والأرض } يقول : ابتدع خلقهما ، ولم يشركه في خلقهما أحد . وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس؛ قال : قال رافع بن حُرَيْملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، إن كنت رسولاً من الله كما تقول ، فقل لله ، فليكلمنا حتى نسمع كلامه ، فأنزل الله في ذلك : { وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } الآية . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة؛ أنهم كفار العرب . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد قال : هم النصارى ، والذين من قبلهم يهود .
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
قوله : { بَشِيراً وَنَذِيراً } يحتمل أن يكون منصوباً على الحال ، ويحتمل أن يكون مفعولاً له ، أي : أرسلناك لأجل التبشير ، والإنذار . وقوله : { وَلاَ تُسْئَلُ } قرأه الجمهور بالرفع مبنياً للمجهول ، أي : حال كونك غير مسؤول ، وقرىء بالرفع مبنياً للمعلوم . قال الأخفش : ويكون في موضع الحال عطفاً على { بَشِيراً وَنَذِيراً } أي : حال كونك غير سائل عنهم؛ لأن علم الله بكفرهم بعد إنذارهم يغني عن سؤاله عنهم ، وقرأ نافع : { وَلاَ تُسْئَلُ } بالجزم : أي : لا يصدر منك السؤال عن هؤلاء ، أو لا يصدر منك السؤال عمن مات منهم على كفره ، ومعصيته تعظيماً لحاله ، وتغليظاً لشأنه ، أي أن هذا أمر فظيع ، وخطب شنيع ، يتعاظم المتكلم أن يجريه على لسانه ، أو يتعاظم السامع أن يسمعه .
قوله : { وَلَن ترضى عَنكَ اليهود } الآية ، أي : ليس غرضهم ، ومبلغ الرضا منهم ما يقترحونه عليك من الآيات ، ويوردونه من التعنتات ، فإنك لو جئتهم بكل ما يقترحون ، وأجبتهم عن كل تعنت لم يرضوا عنك ، ثم أخبره بأنهم لن يرضوا عنه حتى يدخل في دينهم ويتبع ملتهم ، والملة : اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه على ألسن أنبيائه ، وهكذا الشريعة ، ثم ردّ عليهم سبحانه ، فأمره بأن يقول لهم : { إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى } الحقيقي ، لا ما أنتم عليه من الشريعة المنسوخة ، والكتب المحرّفة ثم أتبع ذلك بوعيد شديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن اتبع أهواءهم وحاول رضاهم وأتعب نفسه في طلب ما يوافقهم . ويحتمل أن يكون تعريضاً لأمته ، وتحذيراً لهم أن يوافقوا شيئاً من ذلك ، أو يدخلوا في أهوية أهل الملل ، ويطلبوا رضا أهل البدع .
وفي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب ، وتتصدع منه الأفئدة ، ما يوجب على أهل العلم الحاملين لحجج الله سبحانه ، والقائمين ببيان شرائعه ، ترك الدِّهان لأهل البدع المتمذهبين بمذاهب السوء ، التاركين للعمل بالكتاب والسنة ، المؤثرين لمحض الرأي عليهما؛ فإن غالب هؤلاء ، وإن أظهر قبولاً ، وأبان من أخلاقه ليناً لا يرضيه إلا اتباع بدعته ، والدخول في مداخله ، والوقوع في حبائله ، فإن فعل العالم ذلك بعد أن علمه الله من العلم ما يستفيد به أن هدى الله هو ما في كتابه ، وسنّة رسوله ، لا ماهم عليه من تلك البدع التي هي ضلالة محضة ، وجهالة بينة ، ورأي منهار ، وتقليد على شفا جرف هار ، فهو إذ ذاك ما له من الله من وليّ ، ولا نصير ، ومن كان كذلك ، فهو مخذول لا محالة ، وهالك بلا شك ، ولا شبهة .
وقوله : { الذين ءاتيناهم الكتاب } قيل : هم المسلمون ، والكتاب هو : القرآن ، وقيل من أسلم من أهل الكتاب .
والمراد بقوله : { يَتْلُونَهُ } أنهم يعلمون بما فيه ، فيحلُّون حلاله ، ويحرّمون حرامه ، فيكون من تلاه يتلوه إذا اتبعه ، ومنه قوله تعالى : { والقمر إِذَا تلاها } [ الشمس : 2 ] أي : اتبعها ، كذا قيل ، ويحتمل أن يكون من التلاوة : أي : يقرءونه حق قراءته لا يحرّفونه ، ولا يبدّلونه . وقوله : { الذين ءاتيناهم الكتاب } مبتدأ وخبره { يَتْلُونَهُ } أو الخبر قوله : { أولئك } مع ما بعده .
وقد أخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ليت شعري ما فعل أبواي » فنزل : { إِنَّا أرسلناك بالحق بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أصحاب الجحيم } فما ذكرهما حتى توفاه الله . قال السيوطي : هذا مرسل ضعيف الإسناد ، ثم رواه من طريق ابن جرير ، عن داود بن أبي عاصم مرفوعاً ، وقال : هو معضل الإسناد ضعيف لا تقوم به ، ولا بالذي قبله حجة . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال : { الجحيم } ما عظم من النار . وأخرج الثعلبي عن ابن عباس قال : إن يهود المدينة ، ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم ، فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة شقّ ذلك عليهم ، وأيسوا منه أن يوافقهم على دينهم . فأنزل الله : { وَلَن ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى } الآية . وأخرج عبد الرزاق عن قتادة في قوله : { الذين ءاتيناهم الكتاب } قال : هم اليهود والنصارى . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } قال : يحلون حلاله ، ويحرّمون حرامه ، ولا يحرّفونه عن مواضعه . وأخرجوا عنه أيضاً قال : يتبعونه حق اتباعه ، ثم قرءوا : { والقمر إِذَا تلاها } [ الشمس : 2 ] يقول اتبعها . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عمر بن الخطاب ، قال في قوله : { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } إذا مرَّ بذكر الجنة سأل الله الجنة ، وإذا مرّ بذكر النار تعوَّذ بالله من النار . وأخرج الخطيب في كتاب الرواة بسند فيه مجاهيل ، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } قال : « يتبعونه حق اتباعه » ، وكذا قال القرطبي في تفسيره : أن في إسناده مجاهيل ، قال : لكن معناه صحيح ، وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير من طرق ، عن ابن مسعود في تفسيره هذه الآية مثل ما سبق عن ابن عباس في قوله : ( يحلون حلاله ) إلى آخره . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن زيد بن أسلم قال : يتكلمون به كما أنزل ، ولا يكتمونه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في هذه الآية قال : هم أصحاب محمد ، ثم حكى نحو ذلك عن عمر بن الخطاب . وأخرج وكيع ، وابن جرير عن الحسن في قوله : { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } قال : يعملون بمحكمه ، ويؤمنون بمتشابهه ، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه .
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
قوله : { يا بني إسرائيل } إلى قوله : { ولا هم ينصرون } قد سبق مثل هذا في صدر السورة ، وتقدم تفسيره ، ووجه التكرار الحثّ على اتباع الرسول النبي الأميّ ، ذكر معناه ابن كثير في تفسيره . وقال البقاعي في تفسيره : إنه لما طال المدى في استقصاء تذكيرهم بالنعم ، ثم في بيان عوارهم ، وهتك أستارهم ، وختم ذلك بالترهيب لتضييع أديانهم بأعمالهم ، وأحوالهم ، وأقوالهم ، أعاد ما صدّر به قصتهم من التذكير بالنعم ، والتحذير من حلول النقم يوم تجمع الاْمم ، ويدوم فيه الندم لمن زلت به القدم ، ليعلم أن ذلك ، فذلكة القصة ، والمقصود بالذات الحثّ على انتهاز الفرصة . انتهى . وأقول : ليس هذا بشيء ، فإنه لو كان سبب التكرار ما ذكره من طول المدى ، وأنه أعاد ما صدّر به قصتهم لذلك لكان الأولى بالتكرار ، والأحق بإعادة الذكر هو قوله سبحانه : { يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وإياى فارهبون } [ البقرة : 40 ] فإن هذه الآية مع كونها أوّل الكلام معهم والخطاب لهم في هذه السورة ، هي أولى بأن تعاد ، وتكرر لما فيها من الأمر بذكر النعم ، والوفاء بالعهد ، والرهبة لله سبحانه ، وبهذا تعرف صحة ما قدّمناه لك عند أن شرع الله سبحانه في خطاب بني إسرائيل من هذه السورة فراجعه ، ثم حكى البقاعي بعد كلامه السابق عن الحوالي أنه قال : كرّره تعالى إظهاراً لمقصد التئام آخر الخطاب بأوّله ، وليتخذ هذا الإفصاح ، والتعليم أصلاً ، لما يمكن بأن يرد من نحوه في سائر القرآن حتى كان الخطاب إذاً انتهى إلى غاية خاتمه يجب أن يلحظ القلب بذاته تلك الغاية ، فيتلوها ليكون في تلاوته جامعاً لطرفي الثناء ، وفي تفهيمه جامعاً لمعاني طرفي المعنى . انتهى . وأقول : لو كان هذا هو سبب التكرار لكان الأولى به ما عرفناك . وأما قوله : وليتخذ ذلك أصلاً لما يرد من التكرار في سائر القرآن فمعلوم أن حصول هذا الأمر في الأذهان ، وتقرره في الأفهام ، لا يختص بتكرير آية معينة يكون افتتاح هذا المقصد بها ، فلم تتم حينئذ النكتة في تكرير هاتين الآيتين بخصوصهما ، ولله الحكمة البالغة التي لا تبلغها الأفهام ، ولا تدركها العقول ، فليس في تكلف هذه المناسبات المتعسفة إلا ما عرفناك به هنالك فتذكر .
قوله : { وَإِذِ ابتلى } الابتلاء : الامتحان والاختبار ، أي : ابتلاه بما أمره به ، و { إِبْرَاهِيمَ } معناه في السريانية أب رحيم ، كذا قال الماوردي ، قال ابن عطية : ومعناه في العربية ذلك . قال السهيلي : وكثيراً ما يقع الاتفاق بين السرياني ، والعربي . وقد أورد صاحب الكشاف هنا سؤالاً في رجوع الضمير إلى إبراهيم مع كون رتبته التأخير ، وأجاب عنه بأنه قد تقدّم لفظاً ، فرجع إليه ، والأمر في هذا أوضح من أن يشتغل بذكره ، أو ترد في مثله الأسئلة ، أو يسوّد وجه القرطاس بإيضاحه .
قوله : { بكلمات } قد اختلف العلماء في تعيينها ، فقيل : هي شرائع الإسلام ، وقيل ذبح ابنه ، وقيل أداء الرسالة ، وقيل : هي خصال الفطرة ، وقيل : هي قوله { إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا } وقيل : بالطهارة كما سيأتي بيانه . قال الزجاج : وهذه الأقوال ليست بمتناقضة؛ لأن هذا كله مما ابتلى به إبراهيم . انتهى . وظاهر النظم القرآني أن الكلمات هي قوله : { قَالَ إِنّى جاعلك } وما بعده ، ويكون ذلك بياناً للكلمات ، وسيأتي عن بعض السلف ما يوافق ذلك ، وعن آخرين ما يخالفه . وعلى هذا ، فيكون قوله : { قَالَ إِنّى جاعلك للناس } مستأنفاً كأنه قيل : ماذا قال له . وقال ابن جرير ما حاصله إنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ذلك ، وجائز أن يكون بعض ذلك ، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين ، إلا بحديث أو إجماع ، ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ، ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له ، ثم قال : فلو قال قائل : إن الذي قاله مجاهد ، وأبو صالح ، والربيع بن أنس أولى بالصواب : يعني أن الكلمات هي قوله : { إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا } وقوله : { وَعَهِدْنَا إلى إبراهيم } [ البقرة : 125 ] وما بعده ، ورجح ابن كثير أنها تشمل جميع ما ذكر ، وسيأتي التصريح بما هو الحق بعد إيراد ما ورد عن السلف الصالح .
وقوله : { فَأَتَمَّهُنَّ } أي قام بهنّ أتم قيام ، وامتثل أكمل امتثال . والإمام هو : ما يؤتم به ، ومنه قيل : للطريق : إمام ، وللبناء إمام ، لأنه يؤتمّ بذلك ، أي : يهتدي به السالك ، والإمام لما كان هو القدوة للناس ، لكونهم يأتمون به ، ويهتدون بهديه ، أطلق عليه هذا اللفظ . وقوله : { وَمِن ذُرّيَتِى } يحتمل أن يكون ذلك دعاء من إبراهيم ، أي : واجعل من ذريتي أئمة ، ويحتمل أن يكون هذا من إبراهيم بقصد الاستفهام ، وإن لم يكن بصيغته : أي : ومن ذريتي ماذا يكون يا ربّ؟ فأخبره أن فيهم عصاة ، وظلمة ، وأنهم لا يصلحون لذلك ، ولا يقومون به ، ولا ينالهم عهد الله سبحانه . والذرية مأخوذة من الذرّ؛ لأن الله أخرج الخلق من ظهر آدم حين أشهدهم على أنفسهم كالذرّ ، وقيل مأخوذة من ذرأ الله الخلق يذرؤهم : إذا خلقهم . وفي الكتاب العزيز : { فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرياح } [ الكهف : 45 ] قال في الصحاح : ذرت الريح السحاب وغيره تذروه وتذريه ذرواً وذرياً ، أي : نسفته ، وقال الخليل : إنما سموا ذرية؛ لأن الله تعالى ذرأها على الأرض كما ذرأ الزارع البذر . واختلف في المراد بالعهد ، فقيل الإمامة ، وقيل النبوّة ، وقيل : عهد الله : أمره . وقيل الأمان من عذاب الآخرة ، ورجّحها الزجاج ، والأوّل أظهر كما يفيده السياق .
وقد استدل بهذه الآية جماعة من أهل العلم على أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل ، والعمل بالشرع ، كما ورد؛ لأنه إذا زاغ عن ذلك كان ظالماً .
ويمكن أن ينظر إلى ما يصدق عليه اسم العهد ، وما تفيده الإضافة من العموم ، فيشمل جميع ذلك اعتباراً بعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ، ولا إلى السياق ، فيستدل به على اشتراط السلامة من وصف الظلم في كل من تعلق بالأمور الدينية . وقد اختار ابن جرير أن هذه الآية ، وإن كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالماً ، ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل أنه سيوجد من ذريته من هو ظالم لنفسه . انتهى . ولا يخفاك أنه لا جدوى لكلامه هذا . فالأولى أن يقال : إن هذا الخبر في معنى الأمر لعباده أن لا يولوا أمور الشرع ظالماً ، وإنما قلنا : إنه في معنى الأمر؛ لأن أخباره تعالى لا يجوز أن تتخلف . وقد علمنا أنه قد نال عهده من الإمامة ، وغيرها كثيراً من الظالمين .
قوله : { وَإِذْ جَعَلْنَا البيت } هو : الكعبة غلب عليه كما غلب النجم على الثريا ، و { مَثَابَةً } مصدر من ثاب يثوب مثاباً ، ومثابة ، أي : مرجعاً يرجع الحجاج إليه بعد تفرقهم عنه ، ومنه قول ورقة بن نوفل في الكعبة :
مَثاب لأفْنَاءِ القبائل كُلَّها ... تَخُبُّ إلَيها اليَعْمَلاتُ الذَّوابلُ
وقرأ الأعمش «مثابات» وقيل المثابة من الثواب ، أي : يثابون هنالك . وقال مجاهد : المراد أنهم لا يقضون منه أوطارهم ، قال الشاعر :
جُعِل البيْتُ مَثابات لَهُم ... ليْسَ منه الدهرَ يَقْضُونَ الوَطرْ
قال الأخفش : ودخلت الهاء لكثرة من يثوب إليه ، فهي كعلامة ونسابة . وقال غيره : هي للتأنيث ، وليست للمبالغة . وقوله : { وَأَمْناً } هو اسم مكان أي : موضع أمن . وقد استدل بذلك جماعة من أهل العلم على أنه لا يقام الحدّ على من لجأ إليه ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً } [ آل عمران : 97 ] وقيل إن ذلك منسوخ . وقوله : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلّىً } قرأ نافع ، وابن عامر بفتح الخاء على أنه فعل ماض : أي : جعلنا البيت مثابة للناس ، وأمناً ، واتخذوه مصلى . وقرأ الباقون على صيغة الأمر عطفاً على { اذكروا } المذكور أوّل الآيات ، أو على " اذكروا " المقدّر عاملاً في قوله : { وَإِذْ } ويجوز أن يكون على تقدير القول ، أي : وقلنا اتخذوا . والمقام في اللغة : موضع القيام ، قال النحاس ، هو من قام يقوم ، يكون مصدراً واسماً للموضع ، ومقام من أقام ، وليس من هذا قول الشاعر :
وَفيِهم مَقَامات حِسانٌ وجوهها ... وأنديةٌ ينتابُها القولُ والفعلُ
لأن معناه أهل مقامات . واختلف في تعيين المقام على أقوال ، أصحها أنه الحجر الذي يعرفه الناس ، ويصلون عنده ركعتي الطواف ، وقيل المقام الحج كله ، روى ذلك عن عطاء ، ومجاهد ، وقيل : عرفة ، والمزدلفة ، روي عن عطاء أيضاً ، وقال الشعبي : الحرم كله مقام إبراهيم ، وروى عن مجاهد .
وقد أخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِذِ ابتلى إبراهيم رَبُّهُ } قال : ابتلاه الله بالطهارة : خمس في الرأس؛ وخمس في الجسد . في الرأس قص الشارب ، والمضمضة ، والاستنشاق ، والسواك ، وفرق الرأس ، وفي الجسد : تقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والختان ، ونتف الإبط ، وغسل مكان الغائط ، والبول بالماء . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر عنه نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وابن مردويه ، وابن عساكر عنه؛ قال : ما ابتلى أحد بهذا الدين ، فقام به كله إلا إبراهيم . وقرأ هذه الآية فقيل له : ما الكلمات؟ قال : سهام الإسلام ثلاثون سهماً : عشرة في براءة { التائبون العابدون } إلى آخر الآية [ التوبة : 112 ] ، وعشرة في أوّل سورة { قد أفلح } و { سأل سائل } [ المعارج : 1 ] { والذين يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدين } الآيات [ المعارج : 26 ] ، وعشرة في الأحزاب { إِنَّ المسلمين } إلى آخر الآية [ الأحزاب : 35 ] ، فَأَتَمَّهُنَّ كلهنّ فكتب له براءة قال تعالى : { وإبراهيم الذى وفى } [ النجم : 37 ] . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم عنه قال : منهنّ مناسك الحج . وأخرج ابن جرير عنه قال : الكلمات : { إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا } و { وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد } والآيات في شأن المناسك ، والمقام الذي جعل لإبراهيم ، والرزق الذي رزق ساكنو البيت ، وبعث محمد في ذريتهما .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، عن مجاهد في قوله : { وَإِذَا ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلمات } قال : ابتلي بالآيات التي بعدها . وأخرجا أيضاً ، عن الشعبي مثله . وأخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : الكلمات التي ابتلي بهنّ إبراهيم ، فأتمهنّ : فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم ، ومحاجته نمروذ في الله حين وقفه على ما وقفه عليه ، من خطر الأمر الذي فيه خلافهم ، وصبره على قذفهم إياه في النار ، ليحرقوه في الله ، والهجرة بعد ذلك من وطنه ، وبلاده حين أمره بالخروج عنهم ، وما أمره به من الضيافة ، والصبر عليها ، وما ابتلى به من ذبح ولده ، فلما مضى على ذلك كله : قَالَ الله له : { أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ العالمين } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن قال : ابتلاه بالكوكب ، فرضي عنه ، وابتلاه بالقمر فرضي عنه ، وابتلاه بالشمس ، فرضي عنه ، وابتلاه بالهجرة ، فرضي عنه ، وابتلاه بالختان ، فرضي عنه ، وابتلاه بابنه ، فرضي عنه . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { فَأَتَمَّهُنَّ } قال : فأداهُنّ . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عطاء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من فطرة إبراهيم السواك » قلت : وهذا على تقدير أن إسناده إلى عطاء صحيح ، فهو مرسل لا تقوم به الحجة ، ولا يحلّ الاعتماد على مثله في تفسيره كلام الله سبحانه ، وهكذا لا يحل الاعتماد على مثل ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : من فطرة إبراهيم غسل الذكر والبراجم ، ومثل ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عنه قال : ست من فطرة إبراهيم : قص الشارب ، والسواك ، والفرق ، وقص الأظفار ، والاستنجاء ، وحلق العانة ، قال : ثلاثة في الرأس وثلاثة في الجسد .
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح ، وغيره من طريق جماعة من الصحابة مشروعية تلك العشر لهذه الأمة ، ولم يصح عن النبي أنها الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم . وأحسن ما روي عنه ما أخرجه الترمذي ، وحسنه عن ابن عباس قال : « كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصّ ، أو يأخذ من شاربه » . قال : « وكان خليل الرحمن إبراهيم يفعله » . ولا يخفاك أن فعل الخليل له لا يستلزم أنه من الكلمات التي ابتلى بها ، وإذا لم يصح شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا جاءنا من طريق تقوم بها الحجة تعيين تلك الكلمات لم يبق لنا إلا أن نقول : إنها ما ذكره الله سبحانه في كتابه بقوله : { قَالَ إِنّى جاعلك } إلى آخر الآيات ، ويكون ذلك بياناً للكلمات ، أو السكوت ، وإحالة العلم في ذلك على الله سبحانه ،
وأما ما روي عن ابن عباس ، ونحوه من الصحابة ، ومن بعدهم في تعيينها ، فهو أوّلاً أقوال صحابة لا تقوم بها الحجة فضلاً عن أقوال من بعدهم ، وعلى تقدير أنه لا مجال للاجتهاد في ذلك ، وأن له حكم الرفع ، فقد اختلفوا في التعيين اختلافاً يمتنع معه العمل ببعض ما روى عنهم دون البعض الآخر ، بل اختلفت الروايات عن الواحد منهم كما قدمنا عن ابن عباس ، فكيف يجوز العمل بذلك؟ وبهذا تعرف ضعف قول من قال : إنه يصار إلى العموم ، ويقال تلك الكلمات هي : جميع ما ذكر هنا ، فإن هذا يستلزم تفسير كلام الله بالضعيف ، والمتناقض ، وما لا تقوم به الحجة .
وأخرج عبد بن حميد ، عن ابن عباس ، { قَالَ إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا } يقتدى بدينك ، وهديك ، وسنتك { قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى } إماماً لغير ذريتي : { قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } أن يقتدي بدينهم ، وهديهم ، وسنتهم . وأخرج الفريابي ، وابن أبي حاتم ، عنه قال : قال الله لإبراهيم : { إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى } فأبى أن يفعل ، ثم قال : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة قال : هذا عند الله يوم القيامة لا ينال عهده ظالم ، فأما في الدنيا ، فقد نالوا عهده ، فوارثوا به المسلمين ، وغازوهم ، وناكحوهم ، فلما كان يوم القيامة قصر الله عهده ، وكرامته على أوليائه .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد في تفسير الآية أنه قال : لا أجعل إماماً ظالماً يقتدى به ، وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : يخبره أنه إن كان في ذريته ظالم لا ينال عهده ، ولا ينبغي له أن يوليه شيئاً من أمره . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عنه أنه قال : ليس لظالم عليك عهد في معصية الله . وقد أخرج وكيع ، وابن مردويه من حديث عليّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } قال : « لا طاعة إلا في المعروف » ، وإسناده عند ابن مردويه هكذا : قال حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن سعد الأسدي ، حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني ، حدثنا وكيع عن الأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره . وأخرج عبد بن حميد ، من حديث عمران بن حصين ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « لا طاعة لمخلوق في معصية الله » وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس ، أنه قال في تفسير الآية : ليس للظالم عهد ، وإن عاهدته فانقضه . قال ابن كثير : وروى عن مجاهد ، وعطاء ، ومقاتل ، وابن حبان نحو ذلك .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْناً } قال : يثوبون إليه ، ثم يرجعون . وأخرج ابن جرير ، عنه أنه قال : لا يقضون منه وطراً يأتونه ، ثم يرجعون إلى أهليهم ، ثم يعودون إليه . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَأَمْناً } قال : أمناً للناس . وأخرج البخاري ، وغيره من حديث أنس ، عن عمر بن الخطاب قال : وافقت ربي في ثلاث ووافقني ربي في ثلاث ، قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى } وقلت : يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهنّ البرّ ، والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن ، فنزلت آية الحجاب ، واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة ، فقلت لهنّ : { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أزواجا خَيْراً مّنكُنَّ } [ التحريم : 5 ] فنزلت كذلك ، وأخرجه مسلم ، وغيره مختصراً من حديث ابن عمر عنه . وأخرج مسلم ، وغيره من حديث جابر : « أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعاً ، حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم ، فصلى خلفه ركعتين ، ثم قرأ : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى } » وفي مقام إبراهيم عليه السلام أحاديث كثيرة مستوفاة في الأمهات ، وغيرها ، والأحاديث الصحيحة تدل على أن مقام إبراهيم هو : الحجر الذي كان إبراهيم يقوم عليه لبناء الكعبة لما ارتفع الجدار ، أتاه إسماعيل به ليقوم فوقه ، كما في البخاري من حديث ابن عباس ، وهو : الذي كان ملصقاً بجدار الكعبة ، وأوّل من نقله عمر بن الخطاب كما أخرجه عبد الرزاق ، والبيهقي ، بإسناد صحيح ، وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق مختلفة .
وأخرج ابن أبي حاتم من حديث جابر في وصف حج النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ قال : « لما طاف النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له عمر : هذا مقام إبراهيم؟ » قال : « نعم » . وأخرج نحوه ابن مردويه .
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
قوله : { عَهِدْنَا } معناه هنا : أمرنا أو أوجبنا . وقوله : { أَن طَهّرَا } في موضع نصب بنزع الخافض ، أي : بأن طهراً قاله الكوفيون ، وقال سيبويه : هو : بتقدير أي : المفسرة : أي : أن طهراً ، فلا موضع لها من الإعراب ، والمراد بالتطهير قيل : من الأوثان ، وقيل من الآفات ، والريب . وقيل : من الكفار . وقيل : من النجاسات ، وطواف الجنب ، والحائض ، وكل خبيث . والظاهر أنه لا يختص بنوع من هذه الأنواع ، وأن كل ما يصدق عليه مسمى التطهير ، فهو يتناوله ، إما تناولاً شمولياً أو بدلياً . والإضافة في قوله : { بَيْتِىَ } للتشريف والتكريم ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ، وأهل المدينة ، وهشام ، وحفص «بيتي» بفتح الياء ، وقرأ الآخرون بإسكانها . والطائف : الذي يطوف به . وقيل : الغريب الطارىء على مكة . والعاكف : المقيم : وأصل العكوف في اللغة : اللزوم ، والإقبال على الشيء ، وقيل : هو : المجاور دون المقيم من أهلها ، والمراد بقوله : { والركع السجود } المصلون ، وخص هذين الركنين بالذكر؛ لأنهما أشرف أركان الصلاة .
وقوله : { وَإِذْ قَالَ إبراهيم } ستأتي الأحاديث الدالة على أن إبراهيم هو الذي حرّم مكة ، والأحاديث الدالة على أن الله حرّمها يوم خلق السموات والأرض ، والجمع بين هذه الأحاديث في هذا البحث . وقوله : { بَلَدًا آمِنًا } أي : مكة ، والمراد الدعاء لأهله من ذريته وغيرهم كقوله : { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] أي : راض صاحبها . وقوله : { مَنْ ءامَنَ } بدل من قول أهلَه ، أي : ارزق من آمن من أهله دون من كفر . وقوله : { وَمَن كَفَرَ } الظاهر أن هذا من كلام الله سبحانه ردّاً على إبراهيم حيث طلب الرزق للمؤمنين دون غيرهم ، أي : وارزق من كفر ، فأمتعه بالرزق قليلاً ، ثم أضطره إلى عذاب النار ، ويحتمل أن يكون كلاماً مستقلاً بياناً لحال من كفر ، ويكون في حكم الإخبار عن حال الكافرين بهذه الجملة الشرطية ، أي : من كفر ، فإني أمتعه في هذه الدنيا بما يحتاجه من الرزق ، { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ } بعد هذا التمتيع { إلى عَذَابِ النار } فأخبر سبحانه أنه لا ينال الكفرة من الخير إلا تمتيعهم في هذه الدنيا ، وليس لهم بعد ذلك إلا ما هو شرّ محض ، وهو : عذاب النار؛ وأما على قراءة من قرأ : { فَأُمَتّعُهُ } بصيغة الأمر ، وكذلك قوله : { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ } بصيغة الأمر ، فهي مبنية على أن ذلك من جملة كلام إبراهيم ، وأنه لما فرغ من الدعاء للمؤمنين دعا للكافرين بالإمتاع قليلاً ، ثم دعا عليهم بأن يضطرهم إلى عذاب النار . ومعنى : { أَضْطَرُّهُ } ألزمه حتى صيره مضطراً لذلك لا يجد عنه مخلصاً ، ولا منه متحوّلاً .
قوله : { وَإِذْ يَرْفَعُ } هو : حكاية لحال ماضية استحضاراً لصورتها العجيبة . والقواعد : الأساس ، قاله أبو عبيدة والفراء . وقال الكسائي : هي الجدر .
والمراد برفعها رفع ما هو مبنيّ فوقها لا رفعها في نفسها ، فإنها لم ترتفع ، لكنها لما كانت متصلة بالبناء المرتفع فوقها صارت كأنها مرتفعة بارتفاعه ، كما يقال ارتفع البناء ، ولا يقال ارتفع أعالي البناء ، ولا أسافله . قوله : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } في محل الحال بتقدير القول ، أي : قائلين ربنا . وقرأ أبيّ ، وابن مسعود : «وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ، ويقولان ربنا تقبل منا» . وقوله : { واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } أي : اجعلنا ثابتين عليه ، أو زدنا منه . قيل : المراد بالإسلام هنا مجموع الإيمان ، والأعمال . وقوله : { وَمِن ذُرّيَّتِنَا } أي : واجعل من ذريتنا ، و«من» للتبعيض ، أو للتبيين . وقال ابن جرير : إنه أراد بالذرية العرب خاصة ، وكذا قال السهيلي . قال ابن عطية : وهذا ضعيف؛ لأن دعوته ظهرت في العرب وغيرهم من الذين آمنوا به . والأمة : الجماعة في هذا الموضع ، وقد تطلق على الواحد ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قانتا لِلَّهِ } [ النحل : 120 ] وتطلق على الدين ، ومنه : { إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا على أمة } [ الزخرف : 22 ] وتطلق على الزمان ، ومنه { وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] . وقوله : { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } هي من الرؤية البصرية . وقرأ عمر بن عبد العزيز ، وقتادة ، وابن كثير ، وابن محيصن ، وغيرهم : «أرنا» بسكون الراء ، ومنه قول الشاعر :
أرِنَا إدَاوةَ عَبْد الله يَمْلؤُهَا ... مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ إنَّ القَوْمَ قَدْ ظَمِئواُ
والمناسك جمع نسك ، وأصله في اللغة : الغسل ، يقال : نسك ثوبه : إذا غسله . وهو في الشرع : اسم للعبادة ، والمراد هنا : مناسك الحج . وقيل مواضع الذبح . وقيل : جميع المتعبدات . وقوله : { وَتُبْ عَلَيْنَا } قيل : المراد بطلبهما للتوبة : التثبيت؛ لأنهما معصومان لا ذنب لهما . وقيل : المراد : تب على الظلمة منا .
وقد أخرج ابن جرير ، عن عطاء قال : { وَعَهِدْنَا إلى إبراهيم } أي : أمرناه . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أَن طَهّرَا بَيْتِىَ } قال : من الأوثان . وأخرج أيضاً عن مجاهد ، وسعيد بن جبير مثله ، وزادوا الريب ، وقول الزور ، والرجس . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : إذا كان قائماً ، فهو من الطائفين ، وإذا كان جالساً ، فهو من العاكفين ، وإذا كان مصلياً ، فهو من الركع السجود . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن الذين ينامون في المسجد فقال : هم العاكفون . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن إبراهيم حرَّم مكة ، وإني حرّمت المدينة ما بين لابَتَيْها ، فلا يصاد صيدها ، ولا يقطع عضاهها " كما أخرجه أحمد ، ومسلم ، والنسائي ، وغيرهم من حديث جابر . وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق جماعة من الصحابة ، منهم رافع بن خديج عند مسلم ، وغيره ، ومنهم أبو قتادة عند أحمد ، ومنهم أنس عند الشيخين ، ومنهم أبو هريرة عند مسلم ، ومنهم عليّ بن أبي طالب عند الطبراني في الأوسط ، ومنهم أسامة بن زيد عند أحمد ، والبخاري ، ومنهم عائشة عند البخاري .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الله حرّم مكة يوم خلق السموات ، والأرض ، وهي حرام إلى يوم القيامة » أخرجه البخاري تعليقاً ، وابن ماجه من حديث صفية بنت شيبة . وأخرجه الشيخان ، وغيرهما من حديث ابن عباس . وأخرجه الشيخان ، وأهل السنن من حديث أبي هريرة ، وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا ، ولا تعارض بين هذه الأحاديث ، فإن إبراهيم عليه السلام لما بلغ الناس أن الله حرّمها ، وأنها لم تزل حرماً ، آمناً نسب إليه أنه حرّمها ، أي أظهر للناس حكم الله فيها ، وإلى هذا الجمع ذهب ابن عطية ، وابن كثير . وقال ابن جرير : إنها كانت حراماً ، ولم يتعبد الله الخلق بذلك حتى سأله إبراهيم ، فحرّمها ، وتعبَّدهم بذلك . انتهى . وكلا الجمعين حسن .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن محمد بن مسلم الطائفي قال : بلغني أنه لما دعا إبراهيم للحرم فقال : { وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات } نقل الله الطائف من فلسطين . وأخرج نحوه ابن أبي حاتم ، والأزرقي ، عن الزهري . وأخرج نحوه أيضاً الأزرقي عن بعض ولد نافع بن جبير بن مطعم . وقد أخرج الأزرقي نحوها مرفوعاً من طريق محمد بن المنكدر . وأخرج أيضاً عن محمد بن كعب القرظي قال : دعا إبراهيم للمؤمنين ، وترك الكفار ، ولم يدع لهم بشيء ، قال الله : { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ } الآية . وأخرج نحوه سفيان بن عيينة ، عن مجاهد . وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { مَنْ ءامَنَ بالله } قال : كأنّ إبراهيم احتجرها على المؤمنين دون الناس : فأنزل الله : { وَمَن كَفَرَ } أيضاً فأنا أرزقهم كما أرزق المؤمنين ، أخلق خلقاً لا أرزقهم؟ أمتعهم قليلاً ، ثم أضطرهم إلى عذاب النار ، ثم قرأ ابن عباس : { كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء } الآية [ الإسراء : 20 ] . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية قال : قال أبَيّ بن كعب في قوله : { وَمَن كَفَرَ } أن هذا من قول الربّ . وقال ابن عباس : هذا من قول إبراهيم يسأل ربه أن من كفر ، فأمتعه قليلاً .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : القواعد أساس البيت ، وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وابن جرير ، وغيرهم عن سعيد بن جبير [ عن ابن عباس ] ، قصة مطوّلة ، وآخرها في بناء البيت . قال : فعند ذلك رفع إبراهيم القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة ، وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر ، فوضعه له ، فقام عليه ، وهو يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهما يقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد } قال : القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك . وقد أكثر المفسرون في تفسير هذه الآية من نقل أقوال السلف في كيفية بناء البيت ، ومن أي أحجار الأرض بني ، وفي أي زمان عرف ، ومن حجه؟ وما ورد فيه من الأدلة الدالة على فضله ، أو فضل بعضه كالحجر الأسود . وفي الدرّ المنثور من ذلك مالم يكن في غيره ، فليرجع إليه ، وفي تفسير ابن كثير بعض من ذلك ، ولما لم يكن ما ذكروه متعلقاً بالتفسير لم نذكره .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سلام بن أبي مطيع في هذه الآية : { رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } قال : كانا مسلمين ، ولكن سألاه الثبات . وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الكريم ، قال : مخلصين . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { وَمِن ذُرّيَّتِنَا } قال : يعنيان العرب . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال : قال إبراهيم : ربّ ، أرنا مناسكنا ، فأتاه جبريل ، فأتى به البيت ، فقال : ارفع القواعد ، فرفع القواعد ، وأتمّ البنيان ، ثم أخذ بيده ، فأخرجه ، فانطلق به نحو مِنىً ، فلما كان عند العتبة ، فإذا إبليس قائم عند الشجرة ، فقال : كبر وارمه ، فكبر ورماه ، فذهب إبليس حتى أتى الجمرة الوسطى ، ففعل به إبراهيم كما فعل في الأولى ، ثم كذلك في الجمرة الثالثة ، ثم أخذ جبريل بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام فقال : هذا المشعر الحرام ، ثم ذهب حتى أتى به عرفات ، قال : وقد عرفت ما أريتك؟ قالها ثلاثاً ، قال : نعم . قال : فأذِّن في الناس بالحج ، قال : وكيف أؤذن؟ قال : قل : ياأيها الناس ، أجيبوا ربكم ثلاث مرات ، فأجاب العباد : لبيك اللهم لبيك ، فمن أجاب إبراهيم يومئذ من الخلق ، فهو حاجّ . وأخرج ابن جرير من طريق ابن المسيب ، عن عليّ؛ قال : لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال : قد فعلت أي ربّ ، فأرنا مناسكنا : أبرزها لنا عَلِّمْنَاها ، فبعث الله جبريل ، فحجّ به . وفي الباب آثار كثيرة عن السلف من الصحابة ، ومن بعدهم تتضمن أن جبريل أرى إبراهيم المناسك ، وفي أكثرها أن الشيطان تعرّض له كما تقدّم عن مجاهد . وقد أخرج ابن خزيمة ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس نحو ذلك ، وكذلك أخرج عنه أحمد ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي .
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
الضمير في قوله : { وابعث فِيهِمْ } راجع إلى الأمة المسلمة المذكورة سابقاً . وقرأ أبيّ : «وابعث في آخرهم» ويحتمل أن يكون الضمير راجعاً إلى الذرية . وقد أجاب الله لإبراهيم عليه السلام هذه الدعوة ، فبعث في ذريته { رَسُولاً مّنْهُمْ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم . وقد أخبر عن نفسه بأنه دعوة إبراهيم كما سيأتي تخريج ذلك إن شاء الله ، ومراده هذه الدعوة . والرسول هو : المرسل . قال ابن الأنباري : يشبه أن يكون أصله ناقة مرسال ، ورسلة إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النوق . ويقال جاء القوم أرسالاً ، أي : بعضهم في أثر بعض ، والمراد بالكتاب : القرآن . والمراد بالحكمة : المعرفة بالدين ، والفقه في التأويل ، والفهم للشريعة ، وقوله : { يُزَكّيهِمْ } أي : يطهرهم من الشرك ، وسائر المعاصي . وقيل : إن المراد بالآيات ظاهر الألفاظ ، والكتاب معانيها ، والحكمة : الحكم ، وهو : مراد الله بالخطاب ، والعزيز : الذي لا يعجزه شيء قاله ابن كيسان . وقال الكسائي : العزيز الغالب .
{ وَمَن يَرْغَبُ } في موضع رفع على الابتداء ، والاستفهام للإنكار . وقوله : { إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } في موضع الخبر . وقيل : هو : بدل من فاعل يرغب ، والتقدير : وما يرغب عن ملة إبراهيم أحد إلا من سفه نفسه . قال الزجاج : سفه بمعنى جهل ، أي : جهل أمر نفسه ، فلم يفكر فيها . وقال أبو عبيدة : المعنى أهلك نفسه . وحكى ثعلب ، والمبرد أن سفه بكسر الفاء يتعدى كسفَّه بفتح الفاء مشدّدة . قال الأخفش : { سَفِهَ نَفْسَهُ } أي : فعل بها من السفه ما صار به سفيهاً ، وقيل : إن نفسه منتصب بنزع الخافض . وقيل : هو : تمييز ، وهذان ضعيفان جداً ، وأما سفُه بضم الفاء ، فلا يتعدى قاله المبرد ، وثعلب . والاصطفاء : الاختيار ، أي : اخترناه في الدنيا ، وجعلناه في الآخرة من الصالحين ، فكيف يرغب عن ملته راغب؟
وقوله : { إِذْ قَالَ لَهُ } يحتمل أن يكون متعلقاً بقوله : { اصطفيناه } أي : اخترناه وقت أمرنا له بالإسلام ، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف هو : اذكر . قال في الكشاف : كأنه قيل اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله ، والضمير في قوله : { ووصى بِهَا } راجع إلى الملة أو إلى الكلمة : أي : أسلمت لربّ العالمين . قال القرطبي : وهو أصوب؛ لأنه أقرب مذكور ، أي : قولوا أسلمنا . انتهى . والأوّل أرجح؛ لأن المطلوب ممن بعده هو : إتباع ملته لا مجرد التكلم بكلمة الإسلام ، فالتوصية بذلك أليق بإبراهيم ، وأولى بهم . ووصى وأوصى بمعنى ، وقرىء بهما ، وفي مصحف عثمان : { وأوصى } وهي قراءة أهل الشام ، والمدينة ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود { ووصى } وهي قراءة الباقين . { وَيَعْقُوبَ } معطوف على إبراهيم أي : وأوصى يعقوب بنيه كما أوصى إبراهيم بنيه . وقرأ عمر بن فايد الأسواري ، وإسماعيل ابن عبد الله المكي ، بنصب يعقوب ، فيكون داخلاً فيمن أوصاه إبراهيم .
قال القشيري : وهو بعيد ، لأن يعقوب لم يدرك جدّه إبراهيم ، وإنما ولد بعد موته . وقوله : { يا بني } هو بتقدير « أن » . وقد قرأ أبيّ ، وابن مسعود ، والضحاك بإثباتها . قال الفراء : ألغيت « أن » ، لأن التوصية كالقول ، وكل كلام رجع إلى القول جاز فيه دخول « أن » وجاز فيه إلغاؤها . وقيل : إنه على تقدير القول أي قائلاً : يا بنيّ . روى ذلك عن البصريين . وقوله : { اصطفى لَكُمُ الدين } أي : اختاره لكم ، والمراد : ملته التي لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه ، وهي الملة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله : { فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } فيه إيجاز بليغ . والمراد : الزموا الإسلام ، ولا تفارقوه حتى تموتوا .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إبراهيم } قال : رغبت اليهود والنصارى عن ملته ، واتخذوا اليهودية ، والنصرانية بدعة ليست من الله؛ تركوا ملة إبراهيم الإسلام ، وبذلك بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بملة إبراهيم . وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي مالك في قوله : { وَلَقَدِ اصطفياه } قال : اخترناه . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ووصى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ } قال : وصاهم بالإسلام ، ووصى يعقوب بنيه بمثل ذلك . وأخرج الثعلبي ، عن فضيل بن عياض في قوله : { فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } أي : محسنون بربكم الظنّ .
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
قوله : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء } أم هذه قيل : هي المنقطعة . وقيل : هي المتصلة . وفي الهمزة الإنكار المفيد للتقريع ، والتوبيخ ، والخطاب لليهود ، والنصارى الذين ينسبون إلى إبراهيم ، وإلى بنيه أنهم على اليهودية ، والنصرانية ، فردّ الله ذلك عليهم ، وقال لهم : أشهدتم يعقوب ، وعلمتم بما أوصى به بنيه ، فتدّعون ذلك عن علم ، أم لم تشهدوا بل أنتم مفترون . والشهداء : جمع شاهد ، ولم ينصرف؛ لأن فيه ألف التأنيث التي لتأنيث الجماعة ، والعامل في { إذ } الأولى معنى الشهادة ، و { إذ } الثانية بدل من الأولى ، والمراد بحضور الموت : حضور مقدماته . وإنما جاء بما دون مَنْ في قوله : { مَا تَعْبُدُونَ } لأن المعبودات من دون الله غالبها جمادات كالأوثان ، والنار ، والشمس ، والكواكب ، ومعنى : { مِن بَعْدِى } أي من بعد موتي . وقوله : { إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } عطف بيان لقوله : { آبَائِكَ } وإسماعيل ، وإن كان عماً ليعقوب؛ لأن العرب تسمى العمّ أباً ، وقوله : { إلها } بدل من إلهك ، وإن كان نكرة ، فذلك جائز ، ولا سيما بعد تخصيصه بالصفة التي هي قوله : { واحدا } فإنه قد حصل المطلوب من الإبدال بهذه الصفة . وقيل إن إلهاً منصوب على الاختصاص ، وقيل إنه حال . قال ابن عطية : وهو قول حسن؛ لأن الغرض الإثبات حال الوحدانية . وقرأ الحسن ، ويحيى بن يعمر ، وأبو رجاء العطاردي : «وإله أبيك» فقيل أراد إبراهيم وحده . ويكون قوله : { وإسماعيل } عطفاً على أبيك ، وكذلك { إسحاق } وإن كان هو أباه حقيقة ، وإبراهيم جدّه ، ولكن لإبراهيم مزيد خصوصية ، وقيل إن قوله : «أبيك» جمع كما روى عن سيبويه أن أبين جمع سلامة ، ومثله أبون ، ومنه قول الشاعر :
فلما تَبَيَّن أصواتنا ... بكيْنَ وقد بننا بالأبينا
وقوله : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } جملة حالية : أي : نعبده حال إسلامنا له ، وجوَّز الزمخشري أن تكون اعتراضية على ما يذهب إليه من جواز وقوع الجمل الاعتراضية آخر الكلام .
والإشارة بقوله : { تِلْكَ } إلى إبراهيم ، وبنيه ، ويعقوب ، وبنيه ، و { أُمَّةٌ } بدل منه ، وخبره { قَدْ خَلَتْ } أو أمة خبره ، وقد خلت نعت لأمة ، وقوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } بيان لحال تلك الأمة ، وحال المخاطبين بأن لكل من الفريقين كسبه ، لا ينفعه كسب غيره ، ولا يناله منه شيء ، ولا يضرّه ذنب غيره ، وفيه الردّ على من يتكل على عمل سلفه ، ويُرَوِّح نفسه بالأماني الباطلة ، ومنه ما ورد في الحديث : " من بطأ به عمله لم يسرع نسبه " والمراد : أنكم لا تنتفعون بحسناتهم ، ولا تؤاخَذون بسيئاتهم ، ولا تُسألون عن أعمالهم ، كما لا يُسْألَون عن أعمالكم ، ومثله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الزمر : 7 ]
{ وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] .
ولما ادّعت اليهود ، والنصارى أن الهداية بيدها ، والخير مقصور عليها ردّ الله ذلك عليهم بقوله : { بَلْ مِلَّةَ إبراهيم } أي : قل يا محمد هذه المقالة ، ونصب { ملة } بفعل مقدر ، أي : نتبع . وقيل : التقدير : نكون ملة إبراهيم ، أي : أهل ملته . وقيل : بل نهتدي بملة إبراهيم ، فلما حذف حرف الجر صار منصوباً . وقرأ الأعرج ، وابن أبي عبلة : «ملة» بالرفع : أي : بل الهدى ملة إبراهيم . والحنيف : المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الحق ، وهو في أصل اللغة : الذي تميل قدماه كل واحدة إلى أختها . قال الزجاج ، وهو منصوب على الحال ، أي نتبع ملة إبراهيم حال كونه حنيفاً . وقال عليّ بن سليمان : هو منصوب بتقدير أعني ، والحال خطأ كما لا يجوز جاءني غلام هند مسرعة . وقال في الكشاف : هو حال من المضاف إليه كقولك : رأيت وجه هند قائمة ، وقال قوم : الحنف الاستقامة ، فسمى دين إبراهيم حنيفاً لاستقامته ، وسمي معوج الرجلين أحنف؛ تفاؤلاً بالاستقامة ، كما قيل للدَّيغ : سليم ، وللمهلكة : مفازة . وقد استدل من قال بأن الحنيف في اللغة المائل لا المستقيم بقول الشاعر :
إذا حوّل الظل العشى رأيته ... حنيفاً ومن قَرْن الضمن يَتَضّرُ
أي : إن الحرباء تستقبل القبلة بالعشيّ ، وتستقبل المشرق بالغداة ، وهي قبلة النصارى ، ومنه قول الشاعر :
والله لولا حَنَف في رِجْلهِ ... مَا كَانَ في رجِالكم من مِثْلِه
وقوله : { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } فيه تعريض باليهود لقولهم : { عُزَيْرٌ ابن الله } [ التوبة : 30 ] وبالنصارى لقولهم : { المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] أي : أن إبراهيم ما كان على هذه الحالة التي أنتم عليها من الشرك بالله ، فكيف تدّعون عليه أنه كان على اليهودية ، أو النصرانية .
وقوله : { قُولُواْ ءَامَنَّا بالله } خطاب للمسلمين ، وأمر لهم بأن يقولوا هذه المقالة ، وقيل إنه خطاب للكفار بأن يقولوا ذلك ، حتى يكونوا على الحق ، والأول أظهر . والأسباط : أولاد يعقوب ، وهم اثنا عشر ولداً ، ولكل واحد منهم من الأولاد جماعة ، والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في العرب ، وسموا الأسباط من السبط ، وهو : التتابع ، فهم جماعة متتابعون ، وقيل : أصله من السبط بالتحريك ، وهو الشجر ، أي : هم في الكثرة بمنزلة الشجر ، وقيل : الأسباط : حفدة يعقوب : أي : أولاد أولاده لا أولاده؛ لأن الكثرة إنما كانت فيهم دون أولاد يعقوب في نفسه ، فهم أفراد لا أسباط .
وقوله : { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ } قال الفراء : معناه لا نؤمن ببعضهم ، ونكفر ببعضهم كما فعلت اليهود ، والنصارى . قال في الكشاف : وأحد في معنى الجماعة ، ولذلك صح دخول بين عليه .
وقوله : { فَإِنْ ءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ } هذا الخطاب للمسلمين أيضاً : أي : فإن آمن أهل الكتاب ، وغيرهم بمثل ما آمنتم به من جميع كتب الله ورسله ، ولم يفرّقوا بين أحد منهم ، فقد اهتدوا ، وعلى هذا ، فمثل زائدة كقوله :
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء } [ الشورى : 11 ] وقول الشاعر :
فصيروا مثل كعصف مأكول ... وقيل : إن المماثلة وقعت بين الإيمانين ، أي : فإن آمنوا بمثل إيمانكم . وقال في الكشاف : إنه من باب التبكيت؛ لأن دين الحق واحد لا مثل له ، وهو : دين الإسلام ، قال : أي : فإن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم مساوياً له في الصحة ، والسداد ، فقد اهتدوا ، وقيل إن الباء زائدة مؤكدة . وقيل إنها للاستعانة . والشقاق أصله من الشق ، وهو : الجانب ، كأنّ كل واحد من الفريقين في جانب غير الجانب الذي فيه الآخر . وقيل إنه مأخوذ من فعل ما يشقّ ، ويصعب ، فكل واحد من الفريقين يحرص على فعل ما يشق على صاحبه ، ويصح حمل الآية على كل واحد من المعنيين ، وكذلك قول الشاعر :
وإلا فَاعْلَمُوا أنَّا وَأنتُمْ ... بُغاةٌ ما بقينا في شِقَاقِ
وقوله الآخر :
إلى كَمْ تَقتُل العُلَماءَ قَسْراً ... وتَفخَرُ بِالشِقَاقِ وَبالِنفَاقِ
وقوله : { فسيكفيكهم الله } وعد من الله تعالى لنبيه أنه سيكفيه من عانده ، وخالفه من المتولِّين ، وقد أنجز له وعده بما أنزله من بأسه بقريظة ، والنضير ، وبني قينقاع .
وقوله : { صِبْغَةَ الله } قال الأخفش ، وغيره أي : دين الله ، قال : وهي : منتصبة على البدل من ملة . وقال الكسائي : هي : منصوبة على تقدير اتبعوا ، أو على الإغراء ، أي : الزموا ، ورجح الزجاج الانتصاب على البدل من ملة ، كما قاله الفراء . وقال في الكشاف : إنها مصدر مؤكد منتصب عن قوله : { بالله آمنا } كما انتصب و { عَبْدُ الله } عما تقدّمه ، وهي فعلة من صبغ كالجلسة من جلس ، وهي : الحالة التي يقع عليها الصبغ ، والمعنى تطهير الله ، لأن الإيمان تطهير النفوس . انتهى . وبه قال سيبويه ، أي : كونه مصدراً موكّداً . وقد ذكر المفسرون أن أصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في الماء ، وهو الذي يسمونه المعمودية ، ويجعلون ذلك تطهيراً لهم ، فإذا فعلوا ذلك قالوا : الآن صار نصرانياً حقاً ، فردّ الله عليهم بقوله : { صِبْغَةَ الله } أي : الإسلام ، وسماه صبغة استعارة ، ومنه قول بعض شعراء همدان :
وكلُّ أناس لهم صبِغْةٌ ... وَصِبغةُ همدان خير الصِبَغْ
صبغنا على ذاك أولادنا ... فأكرم بصبغتنا في الصبغ
وقيل : إن الصبغة : الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلام بدلاً من معمودية النصارى ، ذكره الماوردي . وقال الجوهري : صبغة الله : دينه . وهو : يؤيد ما تقدم عن الفراء . وقيل : الصبغة : الختان . وقوله : { قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِى اللَّهِ } أي : أتجادلوننا في الله : أي : في دينه ، والقرب منه ، والحظوة عنده ، وذلك كقولهم { نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] وقرأ ابن محيصن : «أتحاجونا» بالإدغام لاجتماع المثلين . وقوله : { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } أي : نشترك نحن ، وأنتم في ربوبيته لنا وعبوديتنا له ، فكيف تدّعون أنكم أولى به منا وتحاجوننا في ذلك .
وقوله : { لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم } أي : لنا أعمال ، ولكم أعمال ، فلستم بأولى بالله منا ، وهو مثل قوله تعالى : { فَقُل لّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ } [ يونس : 41 ] . وقوله : { وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } أي : نحن أهل الإخلاص للعبادة دونكم ، وهو : المعيار الذي يكون به التفاضل ، والخصلة التي يكون صاحبها أولى بالله سبحانه من غيره ، فكيف تدّعون لأنفسكم ما نحن أولى به منكم ، وأحق؟ وفيه توبيخ لهم ، وقطع لما جاءوا به من المجادلة ، والمناظرة .
وقوله : { أَمْ يَقُولُونَ } قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية حفص : { تقولون } بالتاء الفوقية ، وعلى هذه القراءة تكون « أم » هاهنا معادلة للهمزة في قوله : { أَتُحَاجُّونَنَا } أي : أتحاجوننا في الله أم تقولون إن هؤلاء الأنبياء على دينكم ، وعلى قراءة الياء التحتية تكون أم منقطعة ، أي : بل يقولون . وقوله : { قُلْ أَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله } فيه تقريع ، وتوبيخ : أي : أن الله أخبرنا بأنهم لم يكونوا هوداً ولا نصارى ، وأنتم تدّعون أنهم كانوا هوداً أو نصارى ، فهل أنتم أعلم أم الله سبحانه؟ وقوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ } استفهام : أي : لا أحد أظلم : { مِمَّنْ كَتَمَ شهادة عِندَهُ مِنَ الله } يحتمل أن يريد بذلك الذمّ لأهل الكتاب ، بأنهم يعلمون أن هؤلاء الأنبياء ما كانوا هوداً ، ولا نصارى ، بل كانوا على الملة الإسلامية ، فظلموا أنفسهم بكتمهم لهذه الشهادة بل بادّعائهم لما هو مخالف لها ، وهو أشدّ في الذنب ممن اقتصر على مجرد الكتم الذي لا أحد أظلم منه ، ويحتمل أن المراد أن المسلمين لو كتموا هذه الشهادة لم يكن أحد أظلم منهم ، ويكون المراد بذلك التعريض بأهل الكتاب ،
وقيل المراد هنا ما كتموه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم . وفي قوله : { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } وعيد شديد ، وتهديد ليس عليه مزيد ، وإعلام بأن الله سبحانه لا يترك عقوبتهم على هذا الظلم القبيح ، والذنب الفظيع ، وكرّر قوله سبحانه : { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } إلى آخر الآية لتضمنها معنى التهديد ، والتخويف الذي هو المقصود في هذا المقام .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء } يعني أهل الكتاب . وأخرج أيضاً عن الحسن في قوله : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء } قال : يقول لم يشهد اليهود ، ولا النصارى ، ولا أحد من الناس يعقوب إذ أخذ على بنيه الميثاق إذ حضره الموت أن لا تعبدوا إلا الله ، فأقرّوا بذلك ، وشهد عليهم أن قد أقرّوا بعبادتهم أنهم مسلمون . وأخرج عن ابن عباس أنه كان يقول : الجدّ أب ، ويتلو الآية . وأخرج أيضاً عن أبي العالية في الآية قال : سمي العمّ أباً . وأخرج أيضاً نحوه عن محمد بن كعب .
وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : قال عبد الله بن صوريا الأعور للنبي صلى الله عليه وسلم : ما الهدى إلا ما نحن عليه ، فاتبعنا يا محمد تهتد ، وقالت النصارى مثل ذلك ، فأنزل الله فيهم : { وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { حَنِيفاً } قال : متبعاً . وأخرجا أيضاً ، عن ابن عباس في قوله : { حَنِيفاً } قال : حاجاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن محمد بن كعب قال : الحنيف المستقيم . وأخرج أيضاً ، عن خصيف قال : الحنيف المخلص . وأخرج أيضاً عن أبي قلابة قال : الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أوّلهم إلى آخرهم . وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بعثت بالحنيفية السمحة " وأخرج أحمد أيضاً ، والبخاري في الأدب المفرد ، وابن المنذر ، عن ابن عباس قال : «قيل يا رسول الله أيّ الأديان أحب إلى الله؟ قال : الحنيفية السمحة» . وأخرج الحاكم في تاريخه ، وابن عساكر ، من حديث أسعد بن عبد الله بن مالك الخزاعي مرفوعاً مثله .
وأخرج أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما الآية التي في البقرة : { قُولُواْ ءامَنَّا بالله } كلها وفي الآخرة { آمنا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 52 ] . وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تصدقوا أهل الكتاب ، ولا تكذبوهم ، " الآية . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس قال : الأسباط بنو يعقوب ، كانوا اثني عشر رجلاً كل واحد منهم ولد أمة من الناس . وروى نحوه ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي ، وحكاه ابن كثير في تفسيره عن أبي العالية ، والربيع ، وقتادة .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال : لا تقولوا ، فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ، فإن الله لا مثل له ، ولكن قولوا ، فإن آمنوا بالذي آمنتم به ، وأخرج ابن أبي داود ، في المصاحف ، والخطيب في تاريخه عن أبي جمرة قال : كان ابن عباس يقرأ : " فإن آمنوا بالذي آمنتم به " وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : { فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ } قال فراق .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { صِبْغَةَ الله } قال : دين الله . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال : فطرة الله التي فطر الناس عليها . وأخرج ابن مردويه ، والضياء في المختارة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
« إن بني إسرائيل قالوا يا موسى هل يصبغ ربك؟ فقال : اتقوا الله ، فناداه ربه : يا موسى ، سألوك هل يصبغ ربك؟ فقل : نعم . أنا أصبغ الألوان ، الأحمر والأبيض والأسود والألوان كلها في صبغتي » وأنزل الله على نبيه : { صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً } . وأخرجه ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، عن ابن عباس موقوفاً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة؛ قال : إن اليهود تصبغ أبناءها يهوداً ، والنصارى تصبغ أبناءها نصارى ، وإن صبغة الله الإسلام ، ولا صبغة أحسن من صبغة الإسلام ، ولا أطهر ، وهو دين الله الذي بعث به نوحاً ، ومن كان بعده من الأنبياء . وأخرج ابن النجار في تاريخ بغداد عن ابن عباس في قوله : { صِبْغَةَ الله } قال : البياض .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أَتُحَاجُّونَنَا } قال : أتخاصموننا . وأخرج ابن جرير ، عنه قال : أتجادلوننا . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شهادة } الآية قال : أولئك أهل الكتاب كتموا الإسلام ، وهم يعلمون أنه دين الله ، واتخذوا اليهودية ، والنصرانية ، وكتموا محمداً ، وهم يعلمون أنه رسول الله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن الحسن نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن قتادة ، والربيع في قوله : { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } قال يعني إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط .
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
قوله : { سَيَقُولُ } هذا إخبار من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، بأن السفهاء من اليهود ، والمنافقين سيقولون هذه المقالة عند أن تتحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة . وقيل إن : { سَيَقُولُ } بمعنى : قال ، وإنما عبر عن الماضي بلفظ المستقبل للدلالة على استدامته ، واستمرار عليه ، وقيل : إن الإخبار بهذا الخبر كان قبل التحول إلى الكعبة ، وأن فائدة ذلك أن الإخبار بالمكروه إذا وقع قبل وقوعه كان فيه تهوين لصدمته ، وتخفيف لروعته ، وكسراً لسَوْرته . والسفهاء : جمع سفيه ، وهو : الكذَّاب البَهَّات المعتقد خلاف ما يعلم ، كذا قال بعض أهل اللغة . وقال في الكشاف : هم خفاف الأحلام ، ومثله في القاموس . وقد تقدّم في تفسير قوله : { إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] ما ينبغي الرجوع إليه ، ومعنى : { مَا ولاهم } ما صرفهم { عَن قِبْلَتِهِمُ التى كَانُواْ عَلَيْهَا } وهي بيت المقدس . فردّ الله عليهم بقوله : { قُل لّلَّهِ المشرق والمغرب } فله أن يأمر بالتوجه إلى أيّ جهة شاء . وفي قوله : { يَهْدِى مَن يَشَآء } إشعار بأن تحويل القبلة إلى الكعبة من الهداية للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولأهل ملته إلى الصراط المستقيم وقوله : { وكذلك جعلناكم } أي : مثل ذلك الجعل جعلناكم ، قيل معناه : وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا . والوسط الخيار ، أو العدل ، والآية محتملة للأمرين ، ومما يحتملهما قول زهير :
هُمُ وَسَطٌ تَرْضَى الأنَامُ بِحُكْمِهِم ... إذَا نَزَلت إحْدَى الليالِي بِمُعْظِم
ومثله قول الآخر :
أنْتُم أوْسطُ حَيٍّ علِمُوا ... بِصَغِير الأمْرِ أو إحْدى الكُبرَ
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير الوسط هنا بالعدل كما سيأتي ، فوجب الرجوع إلى ذلك ، ومنه قول الراجز :
لا تذهبنَّ في الأمور مفرطا ... لا تسألنّ إن سألتَ شطَطَا
وكن مِن النَّاسِ جميعاً وسَطَاً ... ولما كان الوسط مجانباً للغلو ، والتقصير كان محموداً ، أي : هذه الأمة لم تغلُ غلوّ النصارى في عيسى ، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم ، ويقال : فلان أوسط قومه وواسطتهم : أي : خيارهم . وقوله : { لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } أي : يوم القيامة تشهدون للأنبياء على أممهم ، أنهم قد بلَّغوهم ما أمرهم الله بتبليغه إليهم ، ويكون الرسول شهيداً على أمته بأنهم قد فعلوا ما أمر بتبليغه إليهم ، ومثله قوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] ، قيل : إن قوله : { عَلَيْكُمْ } يعني لكم ، أي : يشهد لهم بالإيمان . وقيل معناه : يشهد عليكم بالتبليغ لكم . قال في الكشاف : لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له جيء بكلمة الاستعلاء ، ومنه قوله تعالى : { والله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } [ المجادلة : 9 ] { كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ }
[ المائدة : 117 ] . انتهى . وقالت طائفة : معنى الآية : يشهد بعضكم على بعض بعد الموت . وقيل : المراد : لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا ، فيما لا يصح إلا بشهادة العدول ، وسيأتي من المرفوع ما يبين معنى الآية إن شاء الله . وإنما أخر لفظ «على» في شهادة الأمة على الناس ، وقدّمها في شهادة الرسول عليهم ، لأن الغرض كما قال صاحب الكشاف في الأوّل : إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم . وقوله : { وَمَا جَعَلْنَا القبلة التى كُنتَ عَلَيْهَا } قيل المراد بهذه القبلة : هي بيت المقدس ، أي : ما جعلناها إلا لنعلم المتبع والمنقلب ، ويؤيد هذا قوله : { كُنتَ عَلَيْهَا } إذا كان نزول هذه الآية بعد صرف القبلة إلى الكعبة . وقيل : المراد : الكعبة ، أي : ما جعلنا القبلة التي أنت عليها الآن بعد أن كانت إلى بيت المقدس إلا لذلك الغرض ، ويكون { كُنتُ } بمعنى الحال ، وقيل المراد بذلك القبلة التي كان عليها قبل استقبال بيت المقدس ، فإنه كان يستقبل في مكة الكعبة ، ثم لما هاجر توجه إلى بيت المقدس تألفاً لليهود ، ثم صُرِف إلى الكعبة . وقوله : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } قيل المراد بالعلم هنا الرؤية ، وقيل : المراد إلا لتعلموا أنا نعلم بأن المنافقين كانوا في شك ، وقيل : ليعلم النبي؛ وقيل : المراد لنعلم ذلك موجوداً حاصلاً ، وهكذا ما ورد معللاً بعلم الله سبحانه لا بدّ أن يؤول بمثل هذا كقوله : { وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء } [ آل عمران : 140 ] . وقوله : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } أي : ما كانت إلا كبيرة ، كما قاله الفراء في " أن " و " إن " أنهما بمعنى ما وإلا . وقال البصريون : هي : الثقيلة خففت ، والضمير في كانت راجع إلى ما يدل عليه قوله : { وَمَا جَعَلْنَا القبلة التى كُنتَ عَلَيْهَا } من التحويلة ، أو التولية ، أو الجعلة ، أو الردّة ، ذكر معنى ذلك الأخفش ، ولا مانع من أن يرجع الضمير إلى القبلة المذكورة : أي : وإن كانت القبلة المتصفة بأنك كنت عليها لكبيرة إلا على الذين هداهم الله للإيمان ، فانشرحت صدورهم لتصديقك ، وقبلت ما جئت به عقولهم . وهذا الاستثناء مفرّغ ، لأن ما قبله في قوّة النفي ، أي : أنها لا تخفّ ، ولا تسهل إلا على الذين هدى الله . وقوله : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم } قال القرطبي : اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات ، وهو يصلي إلى بيت المقدس ، ثم قال : فسمى الصلاة إيماناً؛ لاجتماعها على نية ، وقول ، وعمل ، وقيل : المراد ثبات المؤمنين على الإيمان عند تحويل القبلة ، وعدم ارتيابهم كما ارتاب غيرهم . والأول يتعين القول به ، والمصير إليه لما سيأتي من تفسيره صلى الله عليه وسلم للآية بذلك . والرءوف كثير الرأفة ، وهي أشدّ من الرحمة . قال أبو عمرو بن العلاء : الرأفة أكبر من الرحمة ، والمعنى متقارب .
وقرأ أبو جعفر بن يزيد بن القعقاع : «لروف» بغير همز ، وهي : لغة بني أسد ، ومنه قول الوليد بن عتبة :
وَشَرُّ الغالبين فلا تَكُنْه ... يقَاتِلِ عمه الروف الرحِيم
وقد أخرج البخاري ومسلم ، وغيرهما عن البراء؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أوّل ما نزل المدينة نزل على أخواله من الأنصار وأنه صلى إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وأن أوّل صلاة صلاها العصر ، وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان صلى معه ، فمرّ على أهل المسجد ، وهم راكعون فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الكعبة ، فداروا كما هم قبل البيت ، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس ، وأهل الكتاب ، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك ، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال ، وقتلوا ، فلم ندر ما يقول فيهم ، فأنزل الله : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم إِنَّ الله بالناس لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ } وله طرق أخر ، وألفاظ متقاربة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس؛ قال : إن أوّل ما نسخ في القرآن القبلة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأبو داود في ناسخه ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس ، والكعبة بين يديه ، وبعد ما تحوّل إلى المدينة ستة عشر شهراً ، ثم صرفه الله إلى الكعبة . وفي الباب أحاديث كثيرة بمضمون ما تقدّم . وكذلك وردت أحاديث في الوقت الذي نزل فيه استقبال القبلة ، وفي كيفية استدارة المصلين لما بلغهم ذلك ، وقد كانوا في الصلاة ، فلا نطوّل بذكرها . وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، والنسائي ، والترمذي وصححه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والإسماعيلي في صحيحه ، والحاكم وصححه عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا } قال : عدلاً . وأخرج ابن جرير ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس مثله . وأخرج أحمد ، والبخاري ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم ، عن أبي سعيد؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يدعى نوح يوم القيامة ، فيقال له : هل بلغت؟ فيقول نعم ، فيدعى قومه ، فيقال لهم : هل بلغكم؟ فيقولون : ما أتانا من نذير ، وما أتانا من أحد ، فيقال لنوح : من يشهد لك؟ فيقول : محمد وأمته فذلك قوله : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا } قال : والوسط العدل ، فتُدْعَون ، فَتَشْهَدون له بالبلاغ ، وأشهد عليكم . " وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، والنسائي ، وابن ماجه ، عن أبي سعيد نحوه .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أنا وأمتي يوم القيامة على كَوْم مشرفين على الخلائق ، ما من الناس أحد إلا ودّ أنه منا ، وما من نبيّ كذبه قومه إلا ، ونحن نشهد أنه بلغ رسالة ربه » وأخرج ابن جرير ، عن أبي سعيد في قوله : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } بأن الرسل قد بلغوا : { وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } بما عملتم ، وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، عن أنس قال مرّوا بجنازة ، فأثنوا عليها خيراً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « وجبت وجبت وجببت » ومرّوا بجنازة فأثنى عليها شراً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « وجبت وجبت وجبت » فسأله عمر فقال : « من أثنيتم عليه خيراً ، وجبت له الجنة ، ومن أثنيتم عليه شرّاً ، وجبت له النار ، أنتم شهداء الله في الأرض ، أنتم شهداء الله في الأرض ، أنتم شهداء الله في الأرض » زاد الحكيم الترمذي : ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا } الآية ، وفي الباب أحاديث منها عن جابر مرفوعاً عند ابن المنذر ، والحاكم وصححه ، ومنها عن عمر مرفوعاً عند ابن أبي شيبة وأحمد ، والبخاري ، والترمذي ، والنسائي ، ومنها عن أبي زهير الثقفي مرفوعاً عند أحمد وابن ماجه والطبراني ، والدارقطني في الإفراد ، والحاكم في المستدرك ، والبيهقي في السنن ، ومنها عن أبي هريرة مرفوعاً عند ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، ومنها عن سلمة بن الأكوع مرفوعاً عند ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، والطبراني . وأخرج ابن جرير عن عطاء في قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا القبلة التى كُنتَ عَلَيْهَا } قال : يعني بيت المقدس { إلا لنعلم } قال نبتليهم لنعلم من يسلم لأمره . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } قال لنميز أهل اليقين من أهل الشك { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } يعني تحويلها على أهل الشرك ، والريب . وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : بلغني أن ناساً ممن أسلم رجعوا ، فقالوا مرة ها هنا ، ومرة ها هنا . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن حبان ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن ابن عباس ، قال : لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبلة ، قالوا : يا رسول الله ، فكيف بالذين ماتوا ، وهم يصلون إلى بيت المقدس ، فأنزل الله { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم } . وقد تقدّم حديث البراء . وفي الباب أحاديث كثيرة ، وآثار عن السلف .
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
قوله : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ } قال القرطبي في تفسيره : قال العلماء : هذه الآية مقدّمة في النزول على قوله : { سَيَقُولُ السفهاء } ، ومعنى : { قَدْ } تكثير الرؤية ، كما قاله صاحب الكشاف ، ومعنى : { تَقَلُّبَ وَجْهِكَ } تحوّل وجهك إلى السماء ، قاله قطرب . وقال الزجاج : تقلب عينيك في النظر إلى السماء ، والمعنى متقارب . وقوله : { فَلَنُوَلّيَنَّكَ } هو إما من الولاية ، أي : فلنعطينك ذلك ، أو من التولي ، أي : فلنجعلنك متولياً إلى جهتها ، وهذا أولى لقوله : { فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } . والمراد بالشطر هنا : الناحية والجهة ، وهو منتصب على الظرفية ومنه قول الشاعر :
أقول لأم زِنْبَاعٍ أقيِمي ... صدُورَ العِيسِ شَطْرَ بني تَميم
ومنه أيضاً قول الآخر :
ألا مَنْ مُبْلغ عمراً رَسُولا ... وَمَا تُغْنِي الرِسَالةُ شَطْرَ عمرو
وقد يراد بالشطر النصف ، ومنه «الوضوء شطر الإيمان» ، ومنه قول عنترة :
إني امرؤ مِنْ خَيرِ عَبْس منصباً ... شَطِري وَأحْمِي سَائِري بِالمْنصَلِ
قال ذلك؛ لأن أباه من سادات عبس ، وأمّه أمَة ، ويرد معنى البعض مطلقاً . ولا خلاف أن المراد بشطر المسجد هنا : الكعبة ، وقد حكى القرطبي الإجماع على أن استقبال عين الكعبة فرض على المعاين ، وعلى أن غير المعاين يستقبل الناحية ، ويستدل على ذلك بما يمكنه الاستدلال به ، والضمير في قوله : { أَنَّهُ الحق } راجع إلى ما يدل عليه الكلام من التحويل إلى جهة الكعبة ، وعلم أهل الكتاب بذلك إما لكونه قد بلغهم عن أنبيائهم ، أو وجدوا في كتب الله المنزلة عليهم أن هذا النبيّ يستقبل الكعبة ، أو لكونهم قد علموا من أنبيائهم ، أو كتبهم أن النسخ سيكون في هذه الشريعة ، فيكون ذلك موجباً عليهم الدخول في الإسلام ، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم . قوله : { وَمَا الله بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ } قد تقدّم معناه . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي " تعملون " بالمثناة الفوقية على مخاطبة أهل الكتاب ، أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقرأ الباقون بالياء التحتية .
وقوله : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ } هذه اللام هي موطئة للقسم ، والتقدير : والله لئن أتيت . وقوله : { مَّا تَبِعُواْ } جواب القسم المقدّر . قال الأخفش والفراء : أجيب " لئن " بجواب و " لو " لأن المعنى : ولو أتيت ، ومثله قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ } [ الروم : 51 ] أي : ولو أرسلنا . وإنما قالا هكذا؛ لأن " لئن " هي ضد " لو " ، وذلك أن " لو " تطلب في جوابها المضيّ ، والوقوع ، و " لئن " تطلب في جوابها الاستقبال . وقال سيبويه : إن معنى " لئن " يخالف معنى لو ، فلا تدخل إحداهما على الأخرى ، فالمعنى : ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية لا يتبعون قبلتك .
قال سيبويه : ومعنى : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً } ليظللن . انتهى . وفي هذه الآية مبالغة عظيمة ، وهي متضمنة للتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وترويح خاطره ، لأن هؤلاء لا تؤثر فيهم كل آية ، ولا يرجعون إلى الحق ، وإن جاءهم بكل برهان فضلاً عن برهان واحد ، وذلك أنهم لم يتركوا اتباع الحق لدليل عندهم ، أو لشبهة طرأت عليهم ، حتى يوازنوا بين ما عندهم ، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويقلعوا عن غوايتهم عند وضوح الحق ، بل كان تركهم للحق تمرداً ، وعناداً مع علمهم بأنهم ليسوا على شيء ، ومن كان هكذا ، فهو لا ينتفع بالبرهان أبداً .
وقوله : { وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } هذا الإخبار ممكن أن يكون بمعنى النهي من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم : أي : لا تتبع يا محمد قبلتهم ، ويمكن أن يكون على ظاهره ، دفعاً لأطماع أهل الكتاب ، وقطعاً لما يرجونه من رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى القبلة التي كان عليها . وقوله : { وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } فيه إخبار بأن اليهود ، والنصارى مع حرصهم على مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما عندهم مختلفون في دينهم ، حتى في هذا الحكم الخاص الذي قصه الله سبحانه على رسوله ، فإن بعضهم لا يتابع الآخر في استقبال قبلته . قال في الكشاف : « وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس ، والنصارى تستقبل مطلع الشمس » . انتهى . وقوله : { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم } إلى آخر الآية ، فيه من التهديد العظيم ، والزجر البليغ ما تقشعرّ له الجلود ، وترجف منه الأفئدة ، وإذا كان الميل إلى أهوية المخالفين لهذه الشريعة الغراء ، والملة الشريفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد ولد آدم يوجب عليه أن يكون - وحاشاه - من الظالمين ، فما ظنك بغيره من أمته ، وقد صان الله هذه الفرقة الإسلامية بعد ثبوت قدم الإسلام ، وارتفاع مناره عن أن يميلوا إلى شيء من هوى أهل الكتاب ، ولم تبق إلا دسيسة شيطانية ، ووسيلة طاغوتية ، وهي ميل بعض من تحمل حجج الله إلى هوى بعض طوائف المبتدعة ، لما يرجوه من الحطام العاجل من أيديهم ، أو الجاه لديهم إن كان لهم في الناس دولة ، أو كانوا من ذوي الصولة ، وهذا الميل ليس بدون ذلك الميل ، بل اتباع أهوية المبتدعة تشبه اتباع أهوية أهل الكتاب ، كما يشبه الماء الماء ، والبيضة البيضة ، والتمرة التمرة؛ وقد تكون مفسدة اتباع أهوية المبتدعة أشدّ على هذه الملة من مفسدة اتباع أهوية أهل الملل ، فإن المبتدعة ينتمون إلى الإسلام ، ويظهرون للناس أنهم ينصرون الدين ، ويتبعون أحسنه ، وهم على العكس من ذلك ، والضدّ لما هنالك ، فلا يزالون ينقلون من يميل إلى أهويتهم من بدعة إلى بدعة ، ويدفعونه من شنعة إلى شنعة ، حتى يسلخوه من الدين ، ويخرجوه منه ، وهو يظنّ أنه منه في الصميم ، وأن الصراط الذي هو عليه هو الصراط المستقيم ، هذا إن كان في عداد المقصرين ، ومن جملة الجاهلين ، وإن كان من أهل العلم والفهم المميزين بين الحق ، والباطل كان في اتباعه لأهويتهم ممن أضله الله على علم ، وختم على قلبه ، وصار نقمة على عباد الله ، ومصيبة صبها الله على المقصرين؛ لأنهم يعتقدون أنه في علمه وفهمه لا يميل إلا إلى حق ، ولا يتبع إلا الصواب ، فيضلون بضلاله ، فيكون عليه إثمه ، وإثم من اقتدى به إلى يوم القيامة .
نسأل الله اللطف ، والسلامة ، والهداية
وقوله : { الذين آتيناهم الكتاب يَعْرِفُونَهُ } قيل الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم ، أي : يعرفون نبوّته . روي ذلك عن مجاهد وقتادة وطائفة من أهل العلم . وقيل : يعرفون تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة ، بالطريق التي قدّمنا ذكرها ، وبه قال جماعة من المفسرين ، ورجح صاحب الكشاف الأوّل . وعندي أن الراجح الآخر كما يدل عليه السياق الذي سيقت له هذه الآيات . وقوله : { لَيَكْتُمُونَ الحق } هو عند أهل القول الأوّل نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وعند أهل القول الثاني استقبال القبلة . وقوله : { الحق مِن رَّبّكَ } يحتمل أن يكون المراد به الحقّ الأوّل ، ويحتمل أن يراد به جنس الحق على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ وخبره قوله : { من ربك } أي الحق هو الذي من ربك لا من غيره . وقرأ عليّ بن أبي طالب { الحق } بالنصب على أنه بدل من الأول ، أو منصوب على الإغراء ، أي : الزم الحق . وقوله : { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والامتراء : الشك ، نهاه الله سبحانه عن الشك في كونه الحق من ربه ، أو في كون كتمانهم الحق مع علمهم ، وعلى الأول هو : تعريض للأمة ، أي لا يكن أحد من أمته من الممترين ، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يشك في كون ذلك هو الحق من الله سبحانه .
وقد أخرج ابن ماجه عن البراء قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهراً ، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخوله إلى المدينة بشهرين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى إلى بيت المقدس أكثر تقليب وجهه في السماء ، وعلم الله من قلب نبيه أنه يهوى الكعبة ، فصعد جبريل ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره ، وهو يصعد بين السماء ، والأرض ينظر ما يأتيه به ، فأنزل الله : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء } الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا جبريل كيف حلنا في صلاتنا إلى بيت المقدس؟ »
فأنزل الله : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم } . وأخرجه الطبراني من حديث معاذ مختصراً لكنه قال : سبعة عشر شهراً . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الكبير ، والحاكم وصححه عن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى : { فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } قال : قبلة إبراهيم نحو الميزاب .
وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن البراء في قوله : { فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } قال : قبله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه عن عليّ مثله . وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، والبيهقي عن ابن عباس؛ قال : { شَطْرَهُ } نحوه . وأخرج البيهقي ، عن مجاهد مثله . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، عن أبي العالية قال : { شَطْرَ المسجد الحرام } تلقاءه ، وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس قال : « البيت كله قبلة ، وقبلة البيت الباب . وأخرج البيهقي في سننه عنه ، مرفوعاً قال : البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ، ومغاربها من أمتي ، » وأخرج ابن جرير عن السدّي في قوله : { وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب } قال : أنزل ذلك في اليهود . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق } قال : يعني بذلك القبلة . وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن جرير عن أبي العالية نحوه .
وأخرج ابن جرير عن السدّي في قوله : { وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } يقول : ما اليهود بتابعي قبلة النصارى ، ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { الذين ءاتيناهم الكتاب } قال : اليهود والنصارى : { يَعْرِفُونَهُ } أي قال : يعرفون رسول الله في كتابهم : { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عنه في قوله : { يَعْرِفُونَهُ } أي : يعرفون أن البيت الحرام هو : القبلة . وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد في قوله : { وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال : يكتمون محمداً ، وهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة ، والإنجيل . وأخرج أبو داود ، في ناسخه ، وابن جرير ، عن أبي العالية قال : قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : { الحق مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } يقول : لا تكوننّ في شك يا محمد أن الكعبة هي قبلتك ، وكانت قبلة الأنبياء من قبلك .
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
قوله : { وَلِكُلّ } بحذف المضاف إليه لدلالة التنوين عليه : أي : لكل أهل دين وجهة ، والوجهة فعلة من المواجهة ، وفي معناها الجهة ، والوجه ، والمراد القبلة : أي : أنهم لا يتبعون قبلتك ، وأنت لا تتبع قبلتهم { وَلِكُلّ وِجْهَةٌ } إما بحق ، وإما بباطل ، والضمير في قوله : { هُوَ مُوَلّيهَا } راجع إلى لفظ كل . والهاء في قوله : { مُوَلّيهَا } هي : المفعول الأوّل ، والمفعول الثاني محذوف أي : موليها وجهه . والمعنى : أن لكل صاحب ملة قبلة صاحب القبلة موليها وجهه ، أو لكل منكم يا أمة محمد قبلة يصلي إليها من شرق ، أو غرب ، أو جنوب ، أو شمال إذا كان الخطاب للمسلمين ، ويحتمل أن يكون الضمير لله سبحانه ، وإن لم يجر له ذكر ، إذ هو معلوم أن الله فاعل ذلك ، والمعنى : أن لكل صاحب ملة قبلة الله موليها إياه . وحكى الطبري أن قوماً قرءوا : «ولكل وجهة» بالإضافة ، ونسب هذه القراءة أبو عمرو الداني إلى ابن عباس . قال في الكشاف : والمعنى : وكل وجهة الله موليها ، فزيدت اللام لتقدم المفعول كقولك لزيد ضربت ، ولزيد أبوه ضاربه . انتهى . وقرأ ابن عباس ، وابن عامر : «مولاها» على ما لم يسمّ فاعله . قال الزجاج : والضمير على هذه القراءة لواحد : أي : ولكل واحد من الناس قبلة الواحد مولاها : أي : مصروف إليها . وقوله : { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } أي : إلى الخيرات على الحذف ، والإيصال : أي : بادروا إلى ما أمركم الله من استقبال البيت الحرام كما يفيده السياق ، وإن كان ظاهره الأمر بالاستباق إلى كل ما يصدق عليه أنه خير كما يفيده العموم المستفاد من تعريف الخيرات ، والمراد من الاستباق إلى الاستقبال : الاستباق إلى الصلاة في أول وقتها . ومعنى قوله : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ * يَأْتِ بِكُمُ الله } أي : في أيّ : جهة من الجهات المختلفة تكونوا يأت بكم الله للجزاء يوم القيامة ، أو يجمعكم جميعاً ، ويجعل صلاتكم في الجهات المختلفة كأنها إلى جهة واحدة ، وقوله : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ } كرّر سبحانه هذا لتأكيد الأمر باستقبال الكعبة ، وللاهتمام به ، لأن موقع التحويل كان معتنى به في نفوسهم ، وقيل وجه التكرير أن النسخ من مظانّ الفتنة ، ومواطن الشبهة ، فإذا سمعوه مرّة بعد أخرى ثبتوا ، واندفع ما يختلج في صدورهم ، وقيل إنه كرّر هذا الحكم لتعدد علله ، فإنه سبحانه ذكر للتحويل ثلاث علل : الأول ابتغاء مرضاته ، والثانية جرى العادة الإلهية أن يولى كل أهل ملة ، وصاحب دعوة جهة يستقلّ بها ، والثالثة دفع حجج المخالفين ، فقرن بكل علة معلولها ، وقيل أراد بالأول : ولّ وجهك شطر الكعبة إذا صليت تلقاءها ، ثم قال : وحيثما كنتم معاشر المسلمين في سائر المساجد بالمدينة ، وغيرها ، فولوا وجوهكم شطره ، ثم قال : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ } يعني وجوب الاستقبال في الأسفار ، فكان هذا أمر بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواطن من نواحي الأرض .
وقوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } قيل معناه : لئلا يكون لليهود عليكم حجة إلا للمعاندين منهم القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه فعلى هذا المراد بالذين ظلموا : المعاندون من أهل الكتاب ، وقيل هم مشركو العرب ، وحجتهم قولهم : راجعت قبلتنا ، وقيل معناه : لئلا يكون للناس عليكم حجة لئلا يقولوا لكم قد أمرتم باستقبال الكعبة ، ولستم ترونها . وقال أبو عبيدة : إنّ إلا ها هنا بمعنى الواو : أي : والذين ظلموا ، فهو استثناء بمعنى الواو ، ومنه قول الشاعر :
ما بالمدينة دار غير واحدة ... دار الخليفة إلا دار مروانا
كأنه قال : إلا دار الخليفة ودار مروان ، وأبطل الزجاج هذا القول ، وقال : إنه استثناء منقطع : أي : لكن الذين ظلموا منهم ، فإنهم يحتجون ، ومعناه إلا من ظلم باحتجاجه ، فيما قد وضح له كما تقول مالك عليّ حجة إلا أن تظلمني : أي : مالك عليّ حجة البتة ، ولكنك تظلمني ، وسمي ظلمه حجة؛ لأن المحتجّ بها سماه حجة ، وإن كانت داحضة . وقال قطرب : يجوز أن يكون المعنى : لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا ، فالذين بدل من الكاف ، والميم في عليكم . ورجح ابن جرير الطبري أن الاستثناء متصل ، وقال : نفى الله أن يكون لأحد حجة على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه في استقبالهم الكعبة ، والمعنى : لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة حيث قالوا ما ولاهم ، وقالوا : إن محمداً تحير في دينه ، وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا أهدى منه . وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن ، أو من يهوديّ ، أو منافق . قال : والحجة بمعنى المحاجة التي هي المخاصمة ، والمجادلة ، وسماها تعالى حجة ، وحكم بفسادها حيث كانت من ظالم . ورجح ابن عطية أن الاستثناء منقطع ، كما قال الزجاج . قال القرطبي : وهذا على أن يكون المراد بالناس اليهود ، ثم استثنى كفار العرب كأنه قال : لكن الذين ظلموا في قولهم رجع محمد إلى قبلتنا ، وسيرجع إلى ديننا كله . وقوله : { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } يريد الناس : أي : لا تخافوا مطاعنهم ، فإنها داحضة باطلة لا تضركم . وقوله : { وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ } معطوف على : { لِئَلاَّ يَكُونَ } أي : ولأن أتمّ قاله الأخفش ، وقيل هو مقطوع عما قبله في موضع رفع بالابتداء ، والخبر مضمر ، والتقدير : ولأتمّ نعمتي عليكم عرّفتكم قبلتي قاله الزجاج ، وقيل معطوف على علة مقدرة كأنه قيل : واخشوني لأوفقكم ، ولأتمّ نعمتي عليكم . وإتمام النعمة الهداية إلى القبلة ، وقيل دخول الجنة . وقوله : { كَمَا أَرْسَلْنَا } الكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف . والمعنى : ولأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل ما أرسلنا قاله الفراء ، ورجحه ابن عطية .
وقيل : الكاف في موضع نصب على الحال ، والمعنى : ولأتم نعمتي عليكم في هذه الحال ، والتشبيه واقع على أن النعمة في القبلة كالنعمة في الرسالة . وقيل معنى الكلام على التقديم والتأخير : أي : فاذكروني كما أرسلنا قاله الزجاج . وقوله : { فاذكرونى أَذْكُرْكُمْ } أمر وجوابه ، وفيه معنى المجازاة . قال سعيد بن جبير : ومعنى : الآية اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب ، والمغفرة حكاه عنه القرطبي في تفسيره ، وأخرجه عنه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وقد روى نحوه مرفوعاً كما سيأتي . وقوله : { واشكروا لِي } قال الفراء : شكر لك وشكرت لك . والشكر : معرفة الإحسان ، والتحدّث به ، وأصله في اللغة : الطهور . وقد تقدّم الكلام فيه . وقوله : { وَلاَ تَكْفُرُونِ } نهى ، ولذلك حذفت نون الجماعة ، وهذه الموجودة في الفعل هي : نون المتكلم ، وحذفت الياء؛ لأنها رأس آية ، وإثباتها حسن في غير القرآن . والكفر هنا : ستر النعمة لا التكذيب ، وقد تقدّم الكلام فيه .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا } قال : يعني بذلك أهل الأديان ، يقول : لكل قبلة يرضونها . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال في تفسير هذه الآية : صلوا نحو بيت المقدس مرة ، ونحو الكعبة مرة أخرى . وأخرج أبو داود في ناسخه ، عن قتادة نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن قتادة في قوله : { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } يقول : لا تغلبنّ على قبلتكم . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد في قوله : { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } قال : الأعمال الصالحة . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي العالية في قوله : { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } يقول : فسارعوا في الخيرات : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ * يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعًا } قال : يوم القيامة . وأخرج ابن جرير ، من طريق السدّي ، عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وناس من الصحابة قال : لما صرف النبي صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة بعد صلاته إلى بيت المقدس قال المشركون من أهل مكة : تحير على محمد دينه ، فتوجه بقبلته إليكم ، وعلم أنكم أهدى منه سبيلاً ، ويوشك أن يدخل في دينكم ، فأنزل الله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشونى } وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } قال : يعني بذلك أهل الكتاب حين صرف نبي الله إلى الكعبة قالوا : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ، ودين قومه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد قال : حجتهم قولهم قد أحبّ قبلتنا ، وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة ، ومجاهد في قوله : { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } قال : الذين ظلموا منهم مشركو قريش أنهم سيحتجون بذلك عليكم ، واحتجوا على نبيّ الله بانصرافه إلى البيت الحرام ، وقالوا : سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا ، فأنزل الله في ذلك كله :
{ تَكْفُرُونِ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ استعينوا بالصبر والصلاة إِنَّ الله مَعَ الصابرين } [ البقرة : 153 ] . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي العالية في قوله : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ } يقول : كما فعلت فاذكروني . وأخرج أبو الشيخ ، والديلمي من طريق جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فاذكرونى أَذْكُرْكُمْ } يقول : اذكروني يا معشر العباد بطاعتي أذكركم بمغفرتي » . وأخرج الديلمي ، وابن عساكر مثله مرفوعاً من حديث أبي هند الداري وزاد : « فمن ذكرني ، وهو مطيع ، فحق عليّ أن أذكره بمغفرتي ، ومن ذكرني ، وهو لي عاص ، فحق عليّ أن أذكره بمقت » . وأخرج عبد بن حميد ، عن ابن عباس : يقول الله : ذكرى لكم خير من ذكركم لي . وقد ورد في فضل ذكر الله على الإطلاق ، وفضل الشكر أحاديث كثيرة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
لما فرغ سبحانه من إرشاد عباده إلى ذكره ، وشكره ، عقب ذلك بإرشادهم إلى الاستعانة بالصبر ، والصلاة ، فإنّ من جمع بين ذكر الله ، وشكره ، واستعان بالصبر ، والصلاة على تأدية ما أمر الله به ، ودفع ما يرد عليه من المحن ، فقد هُدِى إلى الصواب ، ووُفِّق إلى الخير ، وإن هذه المعية التي أوضحها الله بقوله : { إِنَّ الله مَعَ الصابرين } فيها أعظم ترغيب لعباده سبحانه إلى لزوم الصبر على ما ينوب من الخطوب ، فمن كان الله معه لم يخش من الأهوال ، وإن كانت كالجبال . وأموات ، وأحياء مرتفعان على أنهما خبران لمحذوفين ، أي : لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هم أموات ، بل هم أحياء ، ولكن لا تشعرون بهذه الحياة عند مشاهدتكم لأبدانهم ، بعد سلب أرواحهم؛ لأنكم تحكمون عليها بالموت في ظاهر الأمر بحسب ما يبلغ إليه علمكم الذي هو بالنسبة إلى علم الله كما يأخذ الطائر في منقاره من ماء البحر ، وليسوا كذلك في الواقع ، بل هم أحياء في البرزخ . وفي الآية دليل على ثبوت عذاب القبر ، ولا اعتداد بخلاف من خالف في ذلك ، فقد تواترت به الأحاديث الصحيحة ، ودلت عليه الآيات القرآنية ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أمواتا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] .
والبلاء أصله المحنة ، ومعنى نبلوكم : نمتحنكم لنختبركم ، هل تصبرون على القضاء أم لا؟ وتنكير شيء للتقليل ، أي : بشيء قليل من هذه الأمور . وقرأ الضحاك : « بأشياء » . والمراد بالخوف : ما يحصل لمن يخشى من نزول ضرر به من عدوّ أو غيره ، وبالجوع : المجاعة التي تحصل عند الجدب ، والقحط ، وبنقص الأموال : ما يحصل فيها بسبب الجوائج ، وما أوجبه الله فيها من الزكاة ، ونحوها . وبنقص الأنفس : الموت والقتل في الجهاد ، وبنقص الثمرات : ما يصيبها من الآفات ، وهو من عطف الخاص على العام ، لشمول الأموال للثمرات وغيرها ، وقيل : المراد بنقص الثمرات : موت الأولاد .
وقوله : { وَبَشّرِ الصابرين } أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يقدر على التبشير . وقد تقدّم معنى البشارة . والصبر أصله الحبس ، ووصفهم بأنهم المسترجعون عند المصيبة؛ لأن ذلك تسليم ورضا . والمصيبة واحدة المصائب ، وهي : النكبة التي يتأذّى بها الإنسان ، وإن صغرت .
وقوله : { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون } فيه بيان أن هذه الكلمات ملجأ للمصابين ، وعصمة للممتحنين ، فإنها جامعة بين الإقرار بالعبودية لله ، والاعتراف بالبعث ، والنشور . ومعنى الصلوات هنا : المغفرة ، والثناء الحسن . قاله الزجاج . وعلى هذا ، فذكر الرحمة القصد التأكيد . وقال في الكشاف : « الصلاة الرحمة ، والتعطف ، فوضعت موضع الرأفة ، وجمع بينها ، وبين الرحمة كقوله : { رأفة ورحمة } [ الحديد : 27 ] { رَءوفٌ رَّحِيمٌ }
[ التوبة : 117 ، 128 ، النور : 20 ، الحشر : 20 ] والمعنى : عليهم رأفة بعد رأفة ، ورحمة بعد رحمة « . انتهى . وقيل المراد بالرحمة : كشف الكربة ، وقضاء الحاجة . و { المهتدون } قد تقدّم معناه . وإنما وصفوا هنا بذلك؛ لكونهم فعلوا ما فيه الوصول إلى طريق الصواب من الاسترجاع ، والتسليم .
وأخرج الحاكم ، والبيهقي في الدلائل ، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال : غشي على عبد الرحمن بن عوف في وجعه غشية ظنوا أنه قد فاضت نفسه فيها ، حتى قاموا من عنده ، وجللُوه ثوباً ، وخرجت أم كلثوم بنت عقبة امرأته إلى المسجد تستعين بما أمرت به من الصبر ، والصلاة ، فلبثوا ساعة ، وهو في غشيته ، ثم أفاق . وأخرج ابن منده في المعرفة ، عن ابن عباس قال : قتل عمير بن الحمام ببدر ، وفيه وفي غيره نزلت : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ } الآية . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير قال : { فِى سَبِيلِ الله } في طاعة الله في قتال المشركين . وقد وردت أحاديث أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تأكل من ثمار الجنة . فمنها عن كعب بن مالك مرفوعاً عند أحمد ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن ماجه . وروي أن أرواح الشهداء تكون على صور طيور بيض ، كما أخرجه عبد الرزاق ، عن قتادة قال : بلغنا ، فذكر ذلك . وأخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير عنه أيضاً بنحوه ، وروى أنها على صور طيور خضر ، كما أخرجه ابن أبي حاتم ، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي العالية . وأخرجه ابن أبي شيبة في البعث ، والنشور عن كعب . وأخرجه هناد بن السَرِيِّ عن هذيل . وأخرجه عنه عبد الرزاق في المصنف عن عبد الله بن كعب بن مالك مرفوعاً ، وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن عطاء في قوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مّنَ الخوف والجوع } قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُم } الآية ، قال : أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء ، وأنه مبتليهم فيها ، وأمرهم بالصبر ، وبشرهم فقال : { وَبَشّرِ الصابرين } وأخبر أن المؤمن إذا سلم لأمر الله ورجع واسترجع عند المصيبة كتب الله له ثلاث خصال من الخير : الصلاة من الله ، والرحمة ، وتخفيف سبيل الهدى . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه « وأخرج عبد بن حميد وابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن رجاء بن حيوة في قوله : { وَنَقْصٍ مّن الثمرات } قال : يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة فيه إلا تمرة . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : » أعطيت أمتي شيئاً لم يعطه أحد من الأمم ، أن يقولوا عند المصيبة : { إنا لله ، وإنا إليه راجعون } « وقد ورد في فضل الاسترجاع عند المصيبة أحاديث كثيرة .
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
{ الصفا } في اللغة : الحجر الأملس ، وهو هنا علم لجبل من جبال مكة معروف ، وكذلك { المروة } عَلَمُ لجبل بمكة معروف ، وأصلها في اللغة : واحدة المروى ، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين . وقيل : التي فيها صلابة ، وقيل : تعم الجميع . قال أبو ذؤيب :
حَتَّى كأنِّي لِلْحَوادِثِ مَرْوَة ... بِصَفَا المُشَقَّر كُلَّ يوم تُقْرَعُ
وقيل : إنها الحجارة البيض البراقة . وقيل : إنها الحجارة السود . والشعائر : جمع شعيرة ، وهي : العلامة ، أي : من أعلام مناسكه ، والمراد بها مواضع العبادة التي أشعرها الله إعلاماً للناس من الموقف ، والسعي ، والمنحر ، ومنه : إشعار الهدى ، أي : إعلامه بغرز حديدة في سنامه ، ومنه قول الكميت :
نُقَتِّلُهُمْ جِيَلا فجيلاً تَرَاهُمُ ... شَعَائِر قُرْبَانٍ بِهِمْ يُتَقَرَّبُ
وحجّ البيت في اللغة : قصده ، ومنه قول الشاعر :
وأشْهَد مِنْ عوف حُلُولاً كَثِيرةً ... يَحجُّونَ سِبَّ الزِّبْرقَانِ المُزَعْفَرا
والسب : العمامة : وفي الشرع : الإتيان بمناسك الحج التي شرعها الله سبحانه . والعمرة في اللغة : الزيارة . وفي الشرع : الإتيان بالنسك المعروف على الصفة الثابتة ، والجناح أصله من الجنوح ، وهو : الميل ، ومنه الجوانح لاعوجاجها . وقوله : { يَطَّوَّفَ } أصله يتطوف ، فأدغم . وقرىء : «أن يطوف» ، ورفع الجناح يدل على عدم الوجوب ، وبه قال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري . وحكى الزمخشري في الكشاف عن أبي حنيفة ، أنه يقول : إنه واجب ، وليس بركن ، وعلى تاركه دم . وقد ذهب إلى عدم الوجوب ابن عباس ، وابن الزبير وأنس بن مالك ، وابن سيرين ، ومما يقوّي دلالة هذه الآية على عدم الوجوب قوله تعالى في آخر الآية : { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ } وذهب الجمهور إلى أن السعي واجب ، ونسك من جملة المناسك ، واستدلوا بما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عائشة أن عروة قال لها : أرأيت قول الله : { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } فما أرى على أحد جناحاً أن لا يطوّف بهما؟ فقالت عائشة : بئس ما قلت يا ابن أختي ، إنها لو كانت على ما أوّلتها كانت : فلا جناح عليه أن لا يطوّف بهما ، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية ، التي كانوا يعبدونها ، وكان مَنْ أهلّ لها يتحرّج أن يطوّف بالصفا ، والمروة في الجاهلية . فأنزل الله : { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَائِرِ الله } الآية ، قالت عائشة : ثم قد سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما ، فليس لأحد أن يدع الطواف بهما .
وأخرج مسلم ، وغيره عنها أنها قالت : لعمري ما أتمّ الله حج من لم يسع بين الصفا والمروة ، ولا عمرته؛ لأن الله قال : { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَائِرِ الله } . وأخرج الطبراني ، عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال :
" إن الله كتب عليكم السعي ، فاسعوا " وأخرج أحمد في مسنده ، والشافعي ، وابن سعد ، وابن المنذر ، وابن قانع ، والبيهقي عن حبيبة بنت أبي تُجْرَأة قالت : «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا ، والمروة ، والناس بين يديه ، وهو وراءهم يسعى ، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره ، وهو يقول : " اسعوا ، فإن الله عزّ وجلّ كتب عليكم السعي " وهو في مسند أحمد ، من طريق شيخه عبد الله بن المؤمل عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة عنها ، ورواه من طريق أخرى عن عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة ، عن صفية بنت شيبة أن امرأة أخبرتها ، فذكرته . ويؤيد ذلك حديث : " خذوا عني مناسككم " .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
قوله : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ } إلى آخر الآية فيه الإخبار بأن الذي يكتم ذلك ملعون ، واختلفوا مَن المراد بذلك؟ فقيل أحبار اليهود ، ورهبان النصارى ، الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل كل من كتم الحق ، وترك بيان ما أوجب الله بيانه ، وهو الراجح؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول ، فعلى فرض أن سبب النزول ما وقع من اليهود ، والنصارى من الكتم ، فلا ينافي ذلك تناول هذه الآية كل من كتم الحق . وفي هذه الآية من الوعيد الشديد ما لا يقادر قدره ، فإن من لعنه الله ، ولعنه كل من يتأتي منه اللعن من عباده ، قد بلغ من الشقاوة ، والخسران إلى الغاية التي لا تلحق ، ولا يدرك كنهها . وفي قوله : { مِنَ البينات والهدى } دليل على أنه يجوز كتم غير ذلك ، كما قال أبو هريرة : «حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعاءين : أما أحدهما ، فبثثته ، وأما الآخر ، فلو بثثته قطع هذا البلعوم» أخرجه البخاري . والضمير في قوله : { مِن بَعْدِ مَا بيناه } راجع إلى ما أنزلنا . والكتاب اسم جنس ، وتعريفه يفيد شموله لجميع الكتب . وقيل : المراد به التوراة . واللعن : الإبعاد والطرد . والمراد بقوله : { اللاعنون } الملائكة ، والمؤمنون قاله ، الزجاج وغيره ، ورجحه ابن عطية . وقيل : كل من يتأتى منه اللعن ، فيدخل في ذلك الجن؛ وقيل هم الحشرات والبهائم .
وقوله : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } الخ ، فيه استثناء التائبين ، والمصلحين لما فسد من أعمالهم ، والمبينين للناس ما بينه الله في كتبه ، وعلى ألسن رسله . قوله : { وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ } هذه الجملة حالية ، وقد استدل بذلك على أنه لا يجوز لعن كافر معين؛ لأن حاله عند الوفاة لا يعلم ، ولا ينافي ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من لعنه لقوم من الكفار بأعيانهم؛ لأنه يعلم بالوحي ما لا نعلم ، وقيل : يجوز لعنه عملاً بظاهر الحال كما يجوز قتاله . قوله : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله } الخ ، استدل به على جواز لعن الكفار على العموم . قال القرطبي : ولا خلاف في ذلك . قال : وليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر؛ بل هو جزاء على الكفر ، وإظهار قبح كفره ، سواء كان الكافر عاقلاً ، أو مجنوناً . وقال قوم من السلف : لا فائدة في لعن من جُنّ ، أو مات منهم لا بطريق الجزاء ، ولا بطريق الزجر . قال : ويدل على هذا القول أن الآية دالة على الإخبار عن الله ، والملائكة ، والناس بلعنهم ، لا على الأمر به . قال ابن العربي : إن لعن العاصي المعين لا يجوز باتفاق ، لما روى : «أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتى بشارب خمر مراراً ، فقال بعض من حضر : لعنه الله ما أكثر ما يشربه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
« لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم » والحديث في الصحيحين . وقوله : { والناس أَجْمَعِينَ } قيل : هذا يوم القيامة ، وأما في الدنيا ففي الناس المسلم ، والكافر ، ومن يعلم بالعاصي ، ومعصيته ومن لا يعلم ، فلا يتأتى اللعن له من جميع الناس . وقيل : في الدنيا ، والمراد أنه يلعنه غالب الناس ، أو كل من علم بمعصيته منهم . وقوله : { خالدين فِيهَا } أي : في النار . وقيل : في اللعنة . والإنظار : الإمهال ، وقيل : معنى لا ينظرون : لا ينظر الله إليهم ، فهو من النظر . وقيل : هو من الانتظار ، أي : لا ينتظرون ليعتذروا ، وقد تقدّم تفسير : { الرحمن الرحيم } . وقوله : { وإلهكم إله واحد } فيه الإرشاد إلى التوحيد ، وقطع علائق الشرك ، والإشارة إلى أن أوّل ما يجب بيانه ، ويحرم كتمانه هو أمر التوحيد .
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس؛ قال : سأل معاذ بن جبل أخو بني سلمة ، وسعد بن معاذ أخو بني الأشهل ، وخارجة ابن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج ، نفراً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة ، فكتموهم إياه ، وأبوا أن يخبروهم ، فأنزل الله فيهم : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا } الآية . وقد روي عن جماعة من السلف أن الآية نزلت في أهل الكتاب لكتمهم نبوّة نبينا صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن ماجه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن البراء بن عازب؛ قال : كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه وسلم . فقال : « إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه ، فتسمعه كل دابة غير الثقلين ، فتلعنه كل دابة سمعت صوته ، فذلك قول الله تعالى : { وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون } يعني دوابّ الأرض » وأخرج عبد بن حميد ، عن عطاء قال : الجنّ ، والإنس ، وكل دابة . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، عن مجاهد قال : إذا أجدبت البهائم دعت على فجار بني آدم . وأخرج عنه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في شعب الإيمان قال في تفسير الآية : إن دوابّ الأرض ، والعقارب ، والخنافس يقولون : إنما مُنِعْنا القطْرَ بذنوبهم ، فيلعنونهم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن عكرمة نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، عن أبي جعفر قال : يلعنهم كل شيء حتى الخنفساء . وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن كتم العلم ، والوعيد لفاعله .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله : { إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ } قال : أصلحوا ما بينهم ، وبين الله . وبينوا الذي جاءهم من الله ، ولم يكتموه ، ولم يجحدوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } يعني : أتجاوز عنهم .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية قال : إن الكافر يوقف يوم القيامة ، فيلعنه الله ، ثم تلعنه الملائكة ، ثم يلعنه الناس أجمعون . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة قال : يعني بالناس أجمعين : المؤمنين . وأخرج ابن جرير ، عن أبي العالية في قوله : { خالدين فِيهَا } يقول : خالدين في جهنم في اللعنة . وقال في قوله : { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } يقول : لا ينظرون ، فيعتذرون . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } قال : لا يؤخرون .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والدارمي ، وأبو داود ، والترمذي وصححه ، وابن ماجه ، عن أسماء بنت يزيد بن السكن ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قال : « اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين { وإلهكم إله واحد لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم } و { الم * الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم } » [ آل عمران : 1 2 ] . وأخرج الديلمي ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ليس شيء أشدّ على مردة الجن من هؤلاء الآيات التي في سورة البقرة : { وإلهكم إله واحد } » الآيتين .
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
لما ذكر سبحانه التوحيد بقوله : { وإلهكم إله واحد } عقب ذلك بالدليل الدالّ عليه ، وهو هذه الأمور التي هي من أعظم صنعة الصانع الحكيم ، مع علم كل عاقل بأنه لا يتهيأ من أحد من الآلهة التي أثبتها الكفار أن يأتي بشيء منها ، أو يقتدر عليه ، أو على بعضه ، وهي خلق السموات ، وخلق الأرض ، وتعاقب الليل والنهار ، وجرى الفلك في البحر ، وإنزال المطر من السماء ، وإحياء الأرض به ، وبثّ الدوابّ منها بسببه ، وتصريف الرياح ، فإن من أمعن نظره ، وأعمل فكره في واحد منها انبهر له ، وضاق ذهنه عن تصوّر حقيقته . وتحتم عليه التصديق بأن صانعه هو الله سبحانه ، وإنما جمع السموات؛ لأنها أجناس مختلفة ، كل سماء من جنس غير جنس الأخرى ، ووحد الأرض؛ لأنها كلها من جنس واحد ، وهو التراب . والمراد باختلاف الليل ، والنهار تعاقبهما بإقبال أحدهما ، وإدبار الآخر ، وإضاءة أحدهما ، وإظلام الآخر . والنهار : ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس . وقال النضر بن شميل : أوّل النهار طلوع الشمس ، ولا يعدّ ما قبل ذلك من النهار . وكذا قال ثعلب ، واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت :
والشَّمْسُ تَطْلع كلَّ آخر لَيْلةٍ ... حمراء يُصْبح لوْنُهَا يتورَّدُ
وكذا قال الزجاج . وقسم ابن الأنباري الزمان إلى ثلاثة أقسام : قسماً جعله ليلاً محضاً ، وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر . وقسماً جعله نهاراً محضاً ، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها . وقسماً جعله مشتركاً بين النهار والليل ، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لبقايا ظلمة الليل ومبادىء ضوء النهار . هذا باعتبار مصطلح أهل اللغة . وأما في الشرع فالكلام في ذلك معروف . والفلك : السفن ، وإفراده ، وجمعه بلفظ واحد ، وهو هذا ، ويذكر ، ويؤنث . قال الله تعالى : { فِى الفلك المشحون } [ الشعراء : 19 ] { والفلك التى تَجْرِى فِى البحر } وقال : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] وقيل : واحده فلَك بالتحريك ، مثل أسد وأسَد . وقوله : { بِمَا يَنفَعُ الناس } يحتمل أن تكون « ما » موصولة ، أي : بالذي ينفعهم ، أو مصدرية ، أي : بنفعهم ، والمراد بما أنزل من السماء المطر الذي به حياة العالم ، وإخراج النبات ، والأرزاق . والبثّ : النشر ، والظاهر أن قوله : { بَثَّ } معطوف على قوله : { فَأَحْيَا } لأنهما أمران متسببان عن إنزال المطر . وقال في الكشاف : إن الظاهر عطفه على أنزل . والمراد بتصريف الرياح : إرسالها عقيماً ، وملقحة ، وصرّاً ، ونصراً ، وهلاكاً ، وحارة ، وباردة ، ولينة ، وعاصفة ، وقيل : تصريفها : إرسالها جنوباً ، وشمالاً ودَبُوراً ، وصباً ، ونكباً وهي : التي تأتي بين مهبَّي ريحين ، وقيل تصريفها : أن تأتي السفن الكبار بقدر ما تحملها ، والصغار كذلك ، ولا مانع من حمل التصريف على جميع ما ذكر . والسحاب سمي سحاباً؛ لانسحابه في الهواء ، وسحبت ذيلي سحباً ، وتسحب فلان على فلان : اجترأ .
والمسخر : المذلل ، وسخره : بعثه من مكان إلى آخر . وقيل : تسخيره : ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ، ولا علائق والأوّل أظهر . والآيات : الدلالات على وحدانيته سبحانه لمن ينظر ببصره ، ويتفكر بعقله .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال : قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهباً نتقوى به على عدوّنا ، فأوحى الله إليه : « إني معطيهم ، فأجعل لهم الصفار ذهباً ، ولكن إن كفروا بعد ذلك عذبتهم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين » ، فقال : « ربّ ، دعني ، وقومي ، فأدعوهم يوماً بيوم ، » فأنزل الله هذه الآية . وأخرج نحوه عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن سعيد بن جبير . وأخرج وكيع ، والفريابي وآدم ابن أبي إياس ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة ، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي الضحى قال : لما نزلت : { وإلهكم إله واحد } عجب المشركون ، وقالوا : إن محمداً يقول : { وإلهكم إله واحد } فليأتنا بآية إن كان من الصادقين ، فأنزل الله : { إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عطاء نحوه .
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن سلمان قال : الليل موكل به ملك يقال له : شراهيل ، فإذا حان وقت الليل أخذ خرزة سوداء ، فدلاها من قبل المغرب ، فإذا نظرت إليها الشمس وجبت في أسرع من طرفة عين ، وقد أمرت الشمس أن لا تغرب حتى ترى الخرزة ، فإذا غربت جاء الليل ، فلا تزال الخرزة معلقة حتى يجىء ملك آخر يقال له هراهيل بخرزة بيضاء ، فيعلقها من قبل المطلع ، فإذا رآها شراهيل مدّ إليه خرزته ، وترى الشمس الخرزة البيضاء ، فتطلع ، وقد أمرت أن لا تطلع حتى تراها ، فإذا طلعت جاء النهار . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي مالك في قوله : { والفلك } قال : السفينة . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال : { بَثَّ } خلق ، وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله : { وَتَصْرِيفِ الرياح } قال : إذا شاء جعلها رحمة لواقح للسحاب ، وبشراً بين يدي رحمته ، وإذا شاء جعلها عذاباً ريحاً عقيماً لا تلقح . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي بن كعب قال : كل شيء في القرآن من الرياح ، فهي رحمة ، وكل شيء في القرآن من الريح ، فهي عذاب . وقد ورد في النهي عن سبّ الريح ، وأوصافها أحاديث كثيرة لا تعلق لها بالآية .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
لما فرغ سبحانه من الدليل على وحدانيته ، أخبر أن مع هذا الدليل الظاهر المفيد لعظيم سلطانه ، وجليل قدرته ، وتفرّده بالخلق ، قد وجد في الناس من يتخذ معه سبحانه ندّاً يعبده من الأصنام . وقد تقدّم تفسير الأنداد ، مع أن هؤلاء الكفار لم يقتصروا على مجرد عبادة الأنداد ، بل أحبوها حباً عظيماً ، وأفرطوا في ذلك إفراطاً بالغاً ، حتى صار حبهم لهذه الأوثان ، ونحوها متمكناً في صدورهم كتمكن حبّ المؤمنين لله سبحانه ، فالمصدر في قوله : { كَحُبّ الله } مضاف إلى المفعول ، والفاعل محذوف ، وهو المؤمنون . ويجوز أن يكون المراد : كحبهم لله ، أي : عبدة الأوثان ، قاله ابن كيسان ، والزجاج ، ويجوز أن يكون هذا المصدر من المبني للمجهول : أي : كما يُحَب الله . والأولى أولى لقوله : { والذين ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ } فإنه استدرك لما يفيده التشبيه من التساوي ، أي : أن حبّ المؤمنين لله أشدّ من حبّ الكفار للأنداد؛ لأن المؤمنين يخصون الله سبحانه بالعبادة ، والدعاء ، والكفار لا يخصون أصنامهم بذلك ، بل يشركون الله معهم ، ويعترفون بأنهم إنما يعبدون أصنامهم؛ ليقرّبوهم إلى الله ، ويمكن أن يجعل هذا ، أعني قوله : { والذين ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ } دليلاً على الثاني؛ لأن المؤمنين إذا كانوا أشد حباً لله لم يكن حبّ الكفار للأنداد كحبّ المؤمنين لله؛ وقيل : المراد بالأنداد هنا الرؤساء ، أي : يطيعونهم في معاصي الله ، ويقوى هذا الضمير في قلوبهم : { يُحِبُّونَهُمْ } فإنه لمن يعقل ، ويقوّيه أيضاً قوله سبحانه عقب ذلك : { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا } الآية . قوله : { وَلَوْ تَرَى الذين ظَلَمُواْ } قراءة أهل مكة ، والكوفة ، وأبو عمر وبالياء التحتية ، وهو : اختيار أبي عبيد . وقراءة أهل المدينة ، وأهل الشام بالفوقية ، والمعنى على القراءة الأولى : لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة؛ لعلموا حين يرونه أن القوّة لله جميعاً ، قاله أبو عبيد . قال النحاس : وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير . انتهى . وعلى هذا ، فالرؤية هي : البصرية لا القلبية . وروي عن محمد بن يزيد المبرّد أنه قال : هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيد بعيد ، وليست عبارته فيه بالجيدة؛ لأنه يقدّر : ولو يرى الذين ظلموا العذاب ، فكأنه يجعله مشكوكاً فيه . وقد أوجبه الله تعالى ، ولكن التقدير ، وهو الأحسن : ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله ، ويرى بمعنى يعلم ، أي : لو يعلمون حقيقة قوّة الله ، وشدّة عذابه . قال : وجواب لو محذوف : أي : لتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة ، كما حذف في قوله : { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار } [ الأنعام : 27 ] { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ } [ الأنام : 30 ] .
ومن قرأ بالفوقية ، فالتقدير : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب ، وفزعهم منه لعلمت أن القوّة لله جميعاً .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك ، ولكن خوطب بهذا الخطاب ، والمراد به أمته ، وقيل : " أن " في موضع نصب مفعول لأجله : أي : لأن القوّة لله ، كما قال الشاعر :
وأغفُر عوراءَ الكَرِيمِ ادّخارَه ... وأعْرِضُ عَنْ شَتْمِ اللئيم تكَرُّمَا
أي : لادّخاره ، والمعنى : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب؛ لأن القوّة لله لعلمت مبلغهم من النكال ، ودخلت " إذ " وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات ، تقريباً للأمر ، وتصحيحاً لوقوعه .
وقرأ ابن عامر : { إِذْ يَرَوْنَ } بضم الياء ، والباقون بفتحها . وقرأ الحسن ، ويعقوب ، وأبو جعفر : «إن القوّة» و«إن الله» بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف ، وعلى تقدير القول .
قوله : { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا } بدل من قوله : { إِذْ يَرَوْنَ العذاب } ومعناه : أن السادة ، والرؤساء تبرءوا ممن اتبعهم على الكفر .
وقوله : { وَرَأَوُاْ العذاب } في محل نصب على الحال : يعني التابعين ، والمتبوعين ، قيل : عند المعاينة في الدنيا ، وقيل : عند العرض ، والمساءلة في الآخرة ، ويمكن أن يقال فيهما جميعاً ، إذ لا مانع من ذلك .
قوله : { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب } هي : جمع سبب ، وأصله في اللغة : الحبل الذي يشد به الشيء ، ويجذب به ، ثم جعل كل ما جرّ شيئاً سبباً ، والمراد بها : الوُصَل التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا من الرحم ، وغيره ، وقيل : هي الأعمال . والكرّة : الرجعة ، والعودة إلى حال قد كانت ، و " لو " هنا في معنى التمني كأنه قيل : ليت لنا كرّة ، ولهذا وقعت الفاء في الجواب . والمعنى : أن الأتباع قالوا : لو رُددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحاً ، ونتبرأ منهم كما تبرّءوا منا . والكاف في قوله : { كَمَا تَبَرَّءواْ مِنَّا } في محل نصب على النعت لمصدر محذوف . وقيل : في محل نصب على الحال ، ولا أراه صحيحاً .
وقوله : { كذلك يُرِيهِمُ الله } في موضع رفع ، أي : الأمر كذلك ، أي : كما أراهم الله العذاب يريهم أعمالهم ، وهذه الرؤية إن كانت البصرية فقوله : { حسرات } منتصب على الحال ، وإن كانت القلبية ، فهو المفعول الثالث ، والمعنى : أن أعمالهم الفاسدة يريهم الله إياها ، فتكون عليهم حسرات ، أو يريهم الأعمال الصالحة التي أوجبها عليهم ، فتركوها ، فيكون ذلك حسرة عليهم . وقوله : { وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار } فيه دليل على خلود الكفار في النار ، وظاهر هذا التركيب يفيد الاختصاص ، وجعله الزمخشري للتقوية لغرض له يرجع إلى المذهب ، والبحث في هذا يطول .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد في قوله : { وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا } قال : مباهاة ، ومضاهاة للحق بالأنداد { والذين ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ } قال : من الكفار لآلهتهم . وأخرج ابن جرير ، عن أبي زيد في هذه الآية قال : هؤلاء المشركون أندادهم آلهتهم التي عبدوا مع الله يحبونهم كما يحبّ الذين آمنوا الله { والذين ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ } من حبهم لآلهتهم .
وأخرج ابن جرير ، عن السدّي في الآية قال : الأنداد من الرجال يطيعونهم كما يطيعون الله إذا أمروهم أطاعوهم ، وعصوا الله . وأخرج عبد بن حميد ، عن عكرمة نحو ما قال ابن زيد . وأخرج ابن جرير ، عن الربيع في قوله : { وَلَوْ تَرَى * الذين ظَلَمُواْ } قال : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا أنفسهم ، فاتخذوا من دوني أنداداً يحبونهم كحبكم إياي حين يعاينون عذابي يوم القيامة الذي أعددت لهم ، لعلمتم أن القوّة كلها لي دون الأنداد ، والآلهة لا تغني عنهم هنالك شيئاً ، ولا تدفع عنهم عذاباً أحللت بهم ، وأيقنتهم أني شديد عذابي لمن كفر بي ، وادّعى معي إلهاً غيري .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله : { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا } قال : هم الجبابرة ، والقادة ، والرءوس في الشرك . { مِنَ الذين اتبعوا } قال : هم : الشياطين تبرّءوا من الإنس .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، عن ابن عباس في قوله : { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب } قال : المودة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه قال : هي : المنازل .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عنه قال : هي : الأرحام . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وأبو نعيم في الحلية ، عن مجاهد قال : هي الأوصال التي كانت بينهم في الدنيا ، والمودة . وأخرج عبد بن حميد ، عن أبي صالح قال : هي الأعمال . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن الربيع قال : هي المنازل . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله : { لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } قال : رجعة إلى الدنيا .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي العالية في قوله : { حسرات } قال : صارت أعمالهم الخبيثة حسرة عليهم يوم القيامة . وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله { وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار } قال : أولئك أهلها الذين هم أهلها . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ثابت بن معبد قال : ما زال أهل النار يأملون الخروج منها حتى نزلت { وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار } .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
قوله : { أَيُّهَا الناس } قيل : إنها نزلت في ثقيف ، وخزاعة ، وبني مدلج فيما حرّموه على أنفسهم من الأنعام . حكاه القرطبي في تفسيره ، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . وقوله : { حلالا } مفعول ، أو حال ، وسمي الحلال حلالاً لانحلال عقدة الحظر عنه . والطِّيب هنا : هو المُسْتَلَذّ كما قاله الشافعي ، وغيره . وقال مالك ، وغيره : هو الحلال ، فيكون تأكيداً لقوله : { حلالا } . و " منْ " في قوله : { مِمَّا فِى الأرض } للتبعيض للقطع بأن في الأرض ما هو حرام
{ خطوات } جمع خُطْوة بالفتح ، والضم ، وهي : بالفتح للمرة ، وبالضم لما بين القدمين . وقرأ القراء " خَطوات " بفتح الخاء ، وقرأ أبو سماك بفتح الخاء ، والطاء ، وقرأ عليّ ، وقتادة ، والأعرج ، وعمرو بن ميمون ، والأعمش : «خُطؤات» بضم الخاء ، والطاء ، والهمز على الواو . قال الأخفش : وذهبوا بهذه القراءة إلى أنها جمع خَطية من الخطأ؛ لا من الخطو . قال الجوهري : والخطوة بالفتح : المرة الواحدة ، والجمع خطوات ، وخطا . انتهى . والمعنى على قراءة الجمهور : لا تَقْفُوا أثر الشيطان ، وعمله ، وكلُّ ما لم يرد به الشرع ، فهو منسوب إلى الشيطان ، وقيل : هي النذور ، في المعاصي ، والأول التعميم ، وعدم التخصيص بفرد ، أو نوع .
وقوله : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } أي : ظاهر العداوة ، ومثله قوله تعالى : { إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } [ القصص : 15 ] وقوله : { إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً } [ فاطر : 6 ] وقوله : { بالسوء } سمي السوء سوءاً؛ لأنه يسوء صاحبه بسوء عاقبته ، وهو مصدر ساءه يسوؤه سوءاً ، ومساءة إذا أحزنه . { والفحشاء } أصله سوء المنظر ، ومنه قول الشاعر :
وَجِيدٍ كَجِيد الرِّئم لَيْسَ بِفَاحِشٍ ... ثم استعمل فيما يقبح من المعاني ، وقيل : السوء : والقبيح ، والفحشاء : التجاوز للحدّ في القبح ، وقيل السوء : ما لا حدَّ فيه ، والفحشاء : ما فيه الحدّ ، وقيل : الفحشاء : الزنا . وقيل : إن كل ما نهت عنه الشريعة ، فهو من الفحشاء .
وقوله : { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } قال ابن جرير الطبري : يريد ما حرّموه من البحيرة ، والسائبة ، ونحوهما ، مما جعلوه شرعاً . وقيل : هو قولهم : هذا حلال ، وهذا حرام ، بغير علم . والظاهر أنه يصدق على كل ما قيل في الشرع بغير علم ، وفي هذه الآية دليل على أن كل ما لم يرد فيه نصّ ، أو ظاهر من الأعيان الموجودة في الأرض ، فأصله الحلّ حتى يرد دليل يقتضي تحريمه ، وأوضح دلالة على ذلك من هذه الآية قوله تعالى : { هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض } [ البقرة : 29 ] والضمير في قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } راجع إلى الناس؛ لأن الكفار منهم ، وهم المقصودون هنا ، وقيل : كفار العرب خاصة ، و { أَلْفَيْنَا } معناه : وجدنا ، والألف في قوله : { أوَ لو كان آباؤهم } للاستفهام ، وفتحت الواو؛ لأنها واو العطف .
وفي هذه الآية من الذم للمقلدين ، والنداء بجهلهم الفاحش ، واعتقادهم الفاسد ما لا يقادر قدره ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا } الآية [ المائدة : 104 ] ، وفي ذلك دليل على قبح التقليد ، والمنع منه ، والبحث في ذلك يطول . وقد أفردتُه بمؤلَّفٍ مستقلّ سميته " القول المفيد في حكم التقليد " واستوفيت الكلام فيه في " أدب الطلب ومنتهى الأرب " .
وقوله : { وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذى يَنْعِقُ } فيه تشبيه واعظ الكافرين ، وداعيهم ، وهو : محمد صلى الله عليه وسلم بالراعي الذي ينعق بالغنم ، أو الإبل ، فلا يسمع إلا دعاءً ، ونداءً ، ولا يفهم ما يقول ، هكذا فسره الزجاج ، والفراء ، وسيبويه ، وبه قال جماعة من السلف ، قال سيبويه : لم يشبهوا بالناعق ، إنما شبهوا بالمنعوق به ، والمعنى : مثلك يا محمد ، ومثل الذين كفروا ، كمثل الناعق ، والمنعوق به من البهائم التي لا تفهم ، فحذف لدلالة المعنى عليه . وقال قُطْرُب : المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم ما لا يفهم : يعني الأصنام ، كمثل الراعي إذا نعق بغنمه ، وهو لا يدري أين هي . وبه قال ابن جرير الطبري . وقال ابن زيد : المعنى : مثل الذين كفروا في دعائهم الآلهة الجماد كمثل الصائح في جوف الليل ، فيجيبه الصدى ، فهو يصيح بما لا يسمع ، ويجيبه ما لا حقيقة فيه . والنعيق : زجر الغنم ، والصياح بها ، يقال نعق الراعي بغنمه ، ينعق نعيقاً ، ونعاقاً ، ونعقاناً : أي : صاح بها وزجرها ، والعرب تضرب المثل براعي الغنم في الجهل ، ويقولون : أجهل من راعي ضأن . وقوله : { صُمٌّ } وما بعده إخبار لمبتدإ محذوف : أي : هم صمّ بكم عمي . وقد تقدم تفسير ذلك .
وقد أخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس قال : «تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم يعني : { يأَيُّهَا الناس كُلُواْ مِمَّا فِى الأرض حلالا طَيّباً } فقام سعد بن أبي وقاص فقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة ، فقال : " يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ، فما يتقبل منه أربعين يوماً ، وأيّما عبد نبت لحمه من السُّحت ، والربا ، فالنار أولى به " وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه في قوله : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان } قال : عمله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه أنه قال : «ما خالف القرآن ، فهو من خطوات الشيطان» وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد أنه قال : خطاه . وأخرجا أيضاً ، عن عكرمة قال : هي نزغات الشيطان . وأخرج أبو الشيخ ، عن سعيد بن جبير ، قال : هي تزيين الشيطان . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة قال : كل معصية لله ، فهي من خطوات الشيطان .
وأخرج عبد بن حميد ، عن ابن عباس قال : ما كان من يمين ، أو نذر في غضب ، فهو من خطوات الشيطان ، وكفارته كفارة يمين . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، عن ابن مسعود أنه أتى بضرع ، وملح ، فجعل يأكل ، فاعتزل رجل من القوم ، فقال ابن مسعود : ناولوا صاحبكم . فقال : لا أريد ، فقال : أصائم أنت؟ قال لا . قال : فما شأنك؟ قال : حَرَّمْتُ على نفسي أن آكل ضرعاً ، فقال ابن مسعود : هذا من خطوات الشيطان ، فأطْعَمْ ، وكفَرّ عن يمينك . وأخرج عبد بن حميد ، عن عثمان بن غياث ، قال : سألت جابر بن زيد ، عن رجل نذر أن يجعل في أنفه حلقة من ذهب ، فقال : هي من خطوات الشيطان ، ولا يزال عاصياً لله ، فليكفر عن يمينه . وأخرج عبد بن حميد ، عن الحسن أنه جعل يمين من حلف أن يحجّ حبواً من خطوات الشيطان . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ ، عن أبي مجلز قال : هي : النذور في المعاصي .
وأخرج ابن جرير ، عن السدي في قوله : { إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بالسوء } قال : المعصية؛ { والفحشاء } قال : الزنا . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس؛ قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام ، ورغّبهم فيه ، وحذَّرهم عذاب الله ، ونقمته ، فقال له رافع بن خارجة ، ومالك بن عوف : بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءنا ، فهم كانوا أعلم ، وخيراً منا ، فأنزل الله في ذلك : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا } وأخرج ابن جرير ، عن الربيع ، وقتادة في قوله : { أَلْفَيْنَا } قالا : وجدنا . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ } الآية ، قال : كمثل البقر والحمار والشاة ، إن قلت لبعضهم كلاماً لم يعلم ما تقول غير أنه يسمع صوتك ، وكذلك الكافر إن أمرتَه بخير ، أو نهيتَه عن شرٍّ ، أو وعظته لم يعقل ، ما تقول غير أنه يسمع صوتك . وروى نحو ذلك عن مجاهد أخرجه عبد بن حميد ، وعن عكرمة ، أخرجه وكيع . وأخرج ابن جرير ، عن ابن جريج قال : قال لي عطاء في هذه الآية : هم اليهود الذين أنزل الله فيهم : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب } إلى قوله : { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار } .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
قوله : { كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم } هذا تأكيد للأمر الأول : أعني قوله : { يأَيُّهَا الناس كُلُواْ مِمَّا فِى الأرض حلالا طَيّباً } وإنما خص المؤمنين هنا؛ لكونهم أفضل أنواع الناس . وقيل : والمراد بالأكل الانتفاع . وقيل المراد به الأكل المعتاد ، وهو الظاهر . قوله : { واشكروا للَّهِ } قد تقدّم أنه يقال شكره ، وشكر له يتعدى بنفسه ، وبالحرف . وقوله : { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } أي : تخصونه بالعبادة كما يفيده تقدّم المفعول .
قوله : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة } قرأ أبو جعفر : " حُرِّم " على البناء للمفعول ، و { إِنَّمَا } كلمة موضوعة للحصر تثبت ما تناوله الخطاب ، وتنفي ما عداه . وقد حصرت ها هنا التحريم في الأمور المذكورة بعدها . قوله : { الميتة } قرأ ابن أبي عبلة بالرفع ، ووجه ذلك أنه يجعل «ما» في { إنما } موصولة منفصلة في الخط ، والميتة وما بعدها خبر الموصول ، وقراءة الجميع بالنصب . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع " المِّيتة " بتشديد الياء ، وقد ذكر أهل اللغة أنه يجوز في ميت التشديد والتخفيف . والميتة : ما فارقها الروح من غير ذكاة . وقد خصص هذا العموم بمثل حديث : «أحلّ لنا ميتتان ودمان» أخرجه أحمد ، وابن ماجه ، والدارقطني ، والحاكم ، وابن مردويه ، عن ابن عمر مرفوعاً ، ومثل حديث جابر في العنبر الثابت في الصحيحين مع قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر } [ المائدة : 96 ] فالمراد بالميتة هنا ميتة البرّ لا ميتة البحر . وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أكل جميع حيوانات البحر حيها ، وميتها . وقال بعض أهل العلم : إنه يحرم من حيوانات البحر ما يحرم شبهه في البر ، وتوقف ابن حبيب في خنزير الماء . وقال ابن القاسم : وأنا أتقيه ، ولا أراه حراماً .
قوله : { والدم } قد اتفق العلماء على أن الدم حرام ، وفي الآية الأخرى : { أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا } [ الأنعام : 145 ] فيحمل المطلق على المقيد؛ لأن ما خلط باللحم غير محرم ، قال القرطبي : بالإجماع . وقد روت عائشة؛ أنها كانت تطبخ اللحم ، فتعلو الصفرة على البُرْمَة من الدم ، فيأكل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا ينكره .
قوله : { وَلَحْمَ الخنزير } ظاهر هذه الآية ، والآية الأخرى أعني قوله تعالى : { قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ اِلي مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ } [ الأنعام : 145 ] أن المحرّم إنما هو : اللحم فقط . وقد أجمعت الأمة على تحريم شحمه كما حكاه القرطبي في تفسيره وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن اللحم يدخل تحته الشحم . وحكى القرطبي الإجماع أيضاً على أن جملة الخنزير محرّمة إلا الشعر ، فإنه تجوز الخرازة به . قوله : { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } الإهلال : رفع الصوت ، يقال أهلّ بكذا ، أي : رفع صوته .
قال الشاعر يصف فلاة :
تُهِلّ بالفَرْقَد رُكْبانُها ... كما يُهِلّ الراكبُ المُعتَمِر
وقال النابغة :
أو دُرةٌ صَدَفِيةٌ غَوّاصُها ... بَهِجٌ مَتَى يرها يُهِلّ ويَسجُد
ومنه إهلال الصبيّ ، واستهلاله ، وهو : صياحه عند ولادته . والمراد هنا : ما ذكر عليه اسم غير الله كاللات والعزّى ، إذا كان الذابح ، وثنياً ، والنار إذا كان الذابح مجوسياً . ولا خلاف في تحريم هذا ، وأمثاله ، ومثله ما يقع من المعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم ، فإنه مما أهلّ به لغير الله ، ولا فرق بينه ، وبين الذبح للوثن .
قوله : { فَمَنِ اضطر } قرىء بضم النون للاتباع ، وبكسرها على الأصل في التقاء الساكنين ، وفيه إضمار . أي : فمن اضطرّ إلى شيء من هذه المحرمات . وقرأ ابن محيصن بإدغام الضاد في الطاء . وقرأ أبو السماك بكسر الطاء . والمراد مَنْ صيَّره الجوع ، والعدم إلى الاضطرار إلى الميتة . قوله : { غَيْرَ بَاغٍ } نصب على الحال . قيل المراد بالباغي : من يأكل فوق حاجته ، والعادي : من يأكل هذه المحرمات ، وهو يجد عنها مندوحة ، وقيل : غير باغٍ على المسلمين ، وعادٍ عليهم ، فيدخل في الباغي ، والعادي قطاع الطريق ، والخارج على السلطان ، وقاطع الرحم ، ونحوهم ، وقيل المراد غير باغٍ على مضطرٍّ آخر ، ولا عادٍ سدَّ الجوعة .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم } قال : من الحلال . وأخرج ابن سعد ، عن عمر بن عبد العزيز ، أن المراد بما في الآية : طيب الكسب؛ لا طيب الطعام . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك : أنها حلال الرزق . وأخرج أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين » فقال : { يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ المؤمنون : 51 ] وقال : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم } [ البقرة : 172 ] « ثم ذكر الرجلَ يطيل السفر أشعث أغبر يمدُّ يديه إلى السماء : يا ربّ يا ربّ ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغُذي بالحرام ، فأنى يستجاب له » وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا أُهِلَّ } قال : ذبح . وأخرج ابن جرير ، عنه قال : { مَا أَهْل بِهِ } للطواغيت . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال : ما ذبح لغير الله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي العالية . قال : ما ذكر عليه اسم غير الله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } يقول : من أكل شيئاً من هذه ، وهو مضطرّ ، فلا حرج ، ومن أكله ، وهو غير مضطرّ ، فقد بَغَى ، واعتدى . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم ، عنه في قوله : { غَيْرَ بَاغٍ } قال : في الميتة { وَلاَ عَادٍ } قال : في الأكل .
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } قال : غير باغ على المسلمين ، ولا مُعْتَد عليهم ، فمن خرج يقطع الرحم ، أو يقطع السبيل ، أو يفسد في الأرض ، أو مفارقاً للجماعة ، والأئمة ، أو خرج في معصية الله ، فاضطرّ إلى الميتة لم تحلّ له . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن سعيد بن جبير ، قال : العادي الذي يقطع الطريق . وقوله : { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } يعني في أكله { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن أكل من الحرام ، رحيم به إذ أحلّ له الحرام في الاضطرار . وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة : { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } في أكله ، ولا عادٍ يتعدى الحلال إلى الحرام ، وهو يجد عنه بُلْغَةً ، ومندوحة .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
قوله : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ } قيل : المراد بهذه الآية : علماء اليهود؛ لأنهم كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم . والاشتراء هنا : الاستبدال ، وقد تقدّم تحقيقه ، وسماه قليلاً؛ لانقطاع مدّته وسوء عاقبته ، وهذا السبب ، وإن كان خاصاً ، فالاعتبار بعموم اللفظ ، وهو يشمل كل من كتم ما شرعه الله ، وأخذ عليه الرشا ، وذكر البطون دلالة ، وتأكيداً أن هذا الأكل حقيقة ، إذ قد يستعمل مجازاً في مثل : أكل فلان أرضى ، ونحوه ، وقال في الكشاف : إن معنى : { فِي بُطُونِهِمْ } ملء بطونهم : قال : يقول : أكل فلان في بطنه ، وأكل في بعض بطنه . انتهى .
وقوله : { إِلاَّ النار } أي : أنه يوجب عليهم عذاب النار ، فسمى ما أكلوه ناراً؛ لأنه يؤول بهم إليها ، هكذا قال أكثر المفسرين ، وقيل إنهم يعاقبون على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة ، ومثله قوله سبحانه : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً } [ النساء : 10 ] وقوله : { وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله } فيه كناية عن حلول غضب الله عليهم ، وعدم الرضا عنهم ، يقال فلان لا يكلم فلاناً : إذا غضب عليه . وقال ابن جرير الطبري : المعنى : ولا يكلمهم بما يحبونه لا بما يكرهونه . كقوله تعالى : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] ، وقوله : { وَلاَ يُزَكّيهِمْ } معناه : لا يثنى عليهم خيراً . قاله الزجاج . وقيل معناه : لا يصلح أعمالهم الخبيثة ، فيطهرهم .
وقوله : { اشتروا الضلالة بالهدى } قد تقدّم تحقيق معناه . وقوله : { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار } ذهب الجمهور ومنهم الحسن ومجاهد إلى أن معناه التعجب ، والمراد : تعجيب المخلوقين من حال هؤلاء الذين باشروا الأسباب الموجبة لعذاب النار ، فكأنهم بهذه المباشرة للأسباب صبروا على العقوبة في نار جهنم . وحكى الزجاج أن المعنى : ما أبقاهم على النار ، من قولهم : ما أصبر فلاناً على الحبس ، أي : ما أبقاه فيه ، وقيل المعنى : ما أقلّ جزعهم من النار ، فجعل قلة الجزع صبراً . وقال الكسائي وقُطْرُب : أي ما أدومهم على عمل أهل النار . وقيل : «ما» استفهامية ، ومعناه التوبيخ : أي أيّ شيء أصبرهم على عمل النار . قاله ابن عباس ، والسدي ، وعطاء ، وأبو عبيدة .
{ ذلك بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق } الإشارة باسم الإشارة إلى الأمر ، أي : ذلك الأمر ، وهو العذاب . قاله الزجاج . وقال الأخفش : إن خبر اسم الإشارة محذوف ، والتقدير : ذلك معلوم . والمراد بالكتاب هنا : القرآن ، { بالحق } أي : بالصدق . وقيل بالحجة . وقوله : { وَإِنَّ الذين اختلفوا فِى الكتاب } قيل : المراد بالكتاب هنا التوراة ، فادّعى النصارى أن فيها صفة عيسى ، وأنكرهم اليهود ، وقيل : خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم واختلفوا فيها . وقيل : المراد : القرآن ، والذين اختلفوا كفار قريش ، يقول بعضهم هو سحر ، وبعضهم يقول : هو أساطير الأوّلين ، وبعضهم يقول غير ذلك .
{ لَفِى شِقَاقٍ } أي : خلاف { بَعِيدٍ } عن الحق ، وقد تقدم معنى الشقاق .
وقد أخرج ابن جرير ، عن عكرمة في قوله : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله } قال : نزلت في يهود . وأخرج ابن جرير ، عن السدي قال : كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم ، وأخذوا عليه طمعاً قليلاً . وأخرج ابن جرير ، أيضاً عن أبي العالية نحوه . وأخرج الثعلبي ، عن ابن عباس بسندين ضعيفين أنها نزلت في اليهود .
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } قال : اختاروا الضلالة على الهدى ، والعذاب على المغفرة { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار } قال : ما أجرأهم على عمل النار ، وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد ابن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله : { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار } قال : ما أعملهم بأعمال أهل النار . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر [ عن الحسن ] في قوله : { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار } قال : والله ما لهم عليها من صبر ، ولكن يقول : ما أجرأهم على النار . وأخرج ابن جرير ، عن قتادة ونحوه . وأخرج ابن جرير أيضاً عن السدي في الآية قال : هذا على وجه الاستفهام ، يقول : ما الذي أصبرهم على النار؟ وقوله : { وَإِنَّ الذين اختلفوا فِى الكتاب } قال : هم اليهود والنصارى { لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ } قال : في عداوة بعيدة .
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
قوله : { لَّيْسَ البر } قرأ حمزة ، وحفص بالنصب على أنه خبر ليس ، والاسم : { أَن تُوَلُّواْ } وقرأ الباقون بالرفع على أنه الاسم . قيل : إن هذه الآية نزلت للردّ على اليهود ، والنصارى ، لما أكثروا الكلام في شأن القبلة عند تحويل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة ، وقيل : إن سبب نزولها أنه سأل رسول الله سائل ، وسيأتي ذلك آخر البحث إن شاء الله . وقوله : { قِبَلَ المشرق والمغرب } قيل : أشار سبحانه بذكر المشرق إلى قبلة النصارى؛ لأنهم يستقبلون مطلع الشمس ، وأشار بذكر المغرب إلى قبلة اليهود؛ لأنهم يستقبلون بيت المقدس ، وهو : في جهة الغرب منهم إذ ذاك . وقوله : { ولكن البر } هو : اسم جامع للخير ، وخبره محذوف تقديره : برّ من آمن . قاله الفراء وقطرب والزجاج . وقيل : إن التقدير : ولكن ذو البر من آمن ، ووجه هذا التقدير : الفرار عن الإخبار باسم العين عن اسم المعنى ، ويجوز أن يكون البرّ بمعنى البار ، وهو يطلق المصدر على اسم الفاعل كثيراً ، ومنه في التنزيل : { إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً } [ الملك : 30 ] أي : غائراً ، وهذا اختيار أبي عبيدة . والمراد بالكتاب هنا : الجنس ، أو القرآن ، والضمير في قوله : { على حُبّهِ } راجع إلى المال ، وقيل : راجع إلى الإيتاء المدلول عليه بقوله : { وآتى المال } وقيل : إنه راجع إلى الله سبحانه ، أي : على حبّ الله ، والمعنى على الأوّل : أنه أعطى المال ، وهو يحبه ، ويشح به ، ومنه قوله تعالى : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] والمعنى على الثاني : أنه يحب إيتاء المال ، وتطيب به نفسه ، والمعنى على الثالث : أنه أعطى من تضمنته الآية في حبّ الله عزّ وجلّ؛ لا لغرض آخر ، وهو مثل قوله : { وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبّهِ } [ الإنسان : 8 ] ومثله قول زهير :
إن الكريم على علاته هرم ... وقدّم { ذوي القربى } لكون دفع المال إليهم صدقة ، وصلة إذا كانوا فقراء ، وهكذا اليتامى الفقراء أولى بالصدقة من الفقراء الذين ليسوا بيتامى ، لعدم قدرتهم على الكسب . والمسكين : الساكن إلى ما في أيدي الناس لكونه لا يجد شيئاً . { وابن السبيل } المسافر المنقطع ، وجعل ابناً للسبيل؛ لملازمته له . وقوله : { وَفِي الرقاب } أي : في معاونة الأرقاء الذين كاتبهم المالكون لهم ، وقيل : المراد شراء الرقاب ، وإعتاقها ، وقيل : المراد فكّ الأسارى . وقوله : { وَاتى ;لزكواة } فيه دليل على أن الإيتاء المتقدم هو صدقة التطوّع ، لا صدقة الفريضة . وقوله : { والموفون } قيل : هو : معطوف على «من آمن» ، كأنه قيل : ولكن البرّ المؤمنون والموفون . قاله الفراء ، والأخفش . وقيل : هو مرفوع على الابتداء ، والخبر محذوف . وقيل : هو : خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هم الموفون . وقيل : إنه معطوف على الضمير في آمن ، وأنكره أبو عليّ ، وقال : ليس المعنى عليه .
وقوله : { والصابرين } منصوب على المدح كقوله تعالى : { والمقيمين الصلاة } [ النساء : 162 ] ومنه ما أنشده أبو عبيدة :
لا يَبْعَدن قَومْي الذين هُمُ ... سَمُّ العُدَاةِ وآفةُ الجزُرِ
النازِلِين بِكلَ مَعْركَةٍ ... والطيبين مَعاقد الأزر
وقال الكسائي : هو : معطوف على ذوي القربى ، كأنه قال : وآتي الصابرين . وقال النحاس : إنه خطأ . قال الكسائي : وفي قراءة عبد الله : { الموفين والصابرين } . قال النحاس : يكونان على هذه القراءة منسوقين على ذوي القربى ، أو على المدح . وقرأ يعقوب والأعمش : « والموفون والصابرون » بالرفع فيهما . و { البأساء } الشدة والفقر ، و { الضراء } المرض ، والزمانة { وَحِينَ البأس } قيل : المراد وقت الحرب ، والبأساء ، والضراء اسمان بنيا على فَعْلاء ولا فعل لهما؛ لأنهما اسمان ، وليسا بنعت . وقوله : { صَدَقُواْ } وصفهم بالصدق ، والتقوى في أمورهم ، والوفاء بها ، وأنهم كانوا جادّين ، وقيل المراد : صدقوهم القتال ، والأول أولى .
وقد أخرج ابن أبي حاتم وصححه عن أبي ذرّ ، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان ، فتلا { لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ } حتى فرغ منها ، ثم سأله أيضاً ، فتلاها ، ثم سأله ، فتلاها ، قال : « وإذا عملت بحسنة أحبها قلبك ، وإذا عملت بسيئة أبغضها قلبك . » وأخرج عبد بن حميد ، وابن مردويه ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، قال : جاء رجل إلى أبي ذر فقال : ما الإيمان؟ فتلا عليه هذه الآية ، ثم ذكر له نحو الحديث السابق . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : يقول ليس البرّ أن تصلوا ، ولا تعملوا ، هذا حين تحوّل من مكة إلى المدينة ، وأنزلت الفرائض . وأخرج عنه ابن جرير ، أنه قال : هذه الآية نزلت بالمدينة ، يقول : ليس البرّ أن تصلوا ، ولكن البرّ ما ثبت في القلب من طاعة الله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن البرّ ، فأنزل الله : { لَّيْسَ البر } الآية . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، عن قتادة قال : كانت اليهود تصلي قِبَلَ المغرب ، والنصارى قِبَلَ المشرق ، فنزلت : { لَّيْسَ البر } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية مثله .
وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن ابن مسعود في قوله : قال : يعطي ، وهو صحيح شحيح يأمل العيش ، ويخاف الفقر . وأخرج عنه مرفوعاً مثله ، وأخرج البيهقي في الشعب عن المطلب : ؛أنه قيل : يا رسول ما آتى المال على حب؟ فكلنا نحبه . قال رسول صلى الله عليه وسلم : « تؤتيه حين تؤتيه ، ونفسك تحدثك بطول العمر ، والفقر » وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { وآتى المال على حبه } يعني على حب المال .
وأخرج عنه أيضاً في قوله : { ذَوِى القربى } يعني قرابته . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الصدقة على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة » أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد ، والترمذي وحسنه ، والنسائي ، وابن ماجه ، والحاكم ، والبيهقي في سننه من حديث سلمان بن عامر الضبي . وفي الصحيحين ، وغيرهما من حديث زينب امرأة ابن مسعود : أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تجزي عنها من الصدقة النفقة على زوجها ، وأيتام في حجرها؟ « فقال : لك أجران : أجر الصدقة ، وأجر القرابة » وأخرج الطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه من حديث أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح » وأخرج أحمد ، والدارمي والطبراني من حديث حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين . وأخرج ابن جرير ، عن مجاهد قال : هو الذي يمرّ بك ، وهو مسافر ، وأخرج ابن جرير ، عن عكرمة في قوله : { والسائلين } قال : السائل الذي يسألك . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { وَفِي الرقاب } قال : يعني فكّ الرقاب . وأخرج عنه أيضاً في قوله : { وأقام الصلاة } يعني وأتمّ الصلاة المكتوبة . { وآتى الزكاة } يعني الزكاة المفروضة
وأخرج الترمذي ، وابن ماجه ، وابن جرير وابن حاتم وابن المنذر ، وابن عدي ، والدارقطني ، وابن مردويه عن فاطمة بنت قيس قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، « في المال حقّ سوى الزكاة ، ثم قرأ : { لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ } الآية » وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية في قوله : { والموفون بِعَهْدِهِمْ } قال : فمن أعطى عهد الله ، ثم نقضه ، فالله ينتقم منه ، ومن أعطى ذمة النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم غدر بها ، فالنبي صلى الله عليه وسلم خصمه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عاهدوا } يعني فيما بينهم ، وبين الناس . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود في الآية قال : { البأساء } الفقر و { الضراء } السقم و { حِينَ البأس } حين القتال . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { أُولَئِكَ الذين صَدَقُوا } قال : فعلوا ما ذكر الله في هذه الآية ، وأخرج ابن جرير ، عن الربيع في قوله : { أُولَئِكَ الذين صَدَقُوا } قال : تكلموا بكلام الإيمان ، فكانت حقيقة العمل صدقوا الله . قال : وكان الحسن يقول هذا كلام الإيمان ، وحقيقته العمل ، فإن لم يكن مع القول عمل ، فلا شيء .