كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني
{ حَقّاُ عَلَى المتقين } [ البقرة : 241 ] أي : أن الوفاء بذلك ، والقيام به شأن أهل التقوى ، وكل مسلم يجب عليه أن يتقي الله سبحانه ،
وقد وقع الخلاف أيضا هل المتعة مشروعة لغير هذه المطلقة قبل المسيس ، والفرض أم ليست بمشروعة إلا لها فقط؟ فقيل : إنها مشروعة لكل مطلقة ، وإليه ذهب ابن عباس ، وابن عمر ، وابن عطاء وعطاء ، وجابر بن زيد ، وسعيد بن جبير ، وأبو العالية ، والحسن البصري ، والشافعي في أحد قوليه ، وأحمد وإسحاق ، ولكنهم اختلفوا هل هي واجبة في غير المطلقة قبل البناء ، والفرض أم مندوبة فقط ، واستدلوا بقوله تعالى : { وللمطلقات متاع بالمعروف حَقّا عَلَى المتقين } وبقوله تعالى : { ياأيها النبى قُل لأزواجك إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحاً جميلاً } [ الأحزاب : 28 ] والآية الأولى عامة لكل مطلقة ، والثانية في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد كنّ مفروضاً لهنّ مدخولاً بهنّ . وقال سعيد بن المسيب : إنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس ، وإن كانت مفروضاً لها لقوله تعالى : { وَكِيلاً ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتّعُوهُنَّ } [ الأحزاب : 49 ] قال : هذه الآية التي في الأحزاب نسخت التي في البقرة .
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المتعة مختصة بالمطلقة قبل البناء . والتسمية؛ لأن المدخول بها تستحق جميع المسمى ، أو مهر المثل ، وغير المدخولة التي قد فرض لها زوجها فريضة ، أي : سمى لها مهراً ، وطلقها قبل الدخول تستحق نصف المسمى ، ومن القائلين بهذا ابن عمر ، ومجاهد . وقد وقع الإجماع على أن المطلقة قبل الدخول ، والفرض لا تستحق إلا المتعة إذا كانت حرة . وأما إذا كانت أمة ، فذهب الجمهور إلى أن لها المتعة ، وقال الأوزاعي ، والثوري : لا متعة لها؛ لأنها تكون لسيدها ، وهو لا يستحق مالاً في مقابل تأذي مملوكته؛ لأن الله سبحانه إنما شرع المتعة للمطلقة قبل الدخول ، والفرض ، لكونها تتأذى بالطلاق قبل ذلك . وقد اختلفوا في المتعة المشروعة هل هي مقدّرة بقدر أم لا؟ فقال مالك ، والشافعي في الجديد : لا حدّ لها معروف بل ما يقع عليه اسم المتعة . وقال أبو حنيفة : إنه إذا تنازع الزوجان في قدر المتعة وجب لها نصف مهر مثلها ، ولا ينقص من خمسة دراهم؛ لأن أقل المهر عشرة دراهم . وللسلف فيها أقوال سيأتي ذكرها إن شاء الله .
وقوله : { عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ } يدل على أن الاعتبار في ذلك بحال الزوج ، فالمتعة من الغني فوق المتعة من الفقير . وقرأ الجمهور على الموسع بسكون الواو ، وكسر السين ، وهو الذي اتسعت حاله .
وقرأ أبو حيوة بفتح الواو ، وتشديد السين ، وفتحها . وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم في رواية أبي بكر قدره بسكون الدال فيهما . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية حفص بفتح الدال فيهما . قال الأخفش ، وغيره : هما لغتان فصيحتان ، وهكذا يقرأ في قوله تعالى : { فَسَألَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [ الرعد : 17 ] . وقوله : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } [ الأنعام : 91 ] والمقتر المقلّ ، ومتاعاً مصدر مؤكد لقوله : { وَمَتّعُوهُنَّ } . والمعروف : ما عرف في الشرع ، والعادة الموافقة له . وقوله : { حَقّاً } وصف لقوله : { متاعا } أو مصدر لفعل محذوف ، أي : حق ذلك حقاً ، يقال : حققت عليه القضاء ، وأحققت ، أي : أوجبت .
قوله : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } الآية ، فيه دليل على أن المتعة لا تجب لهذه المطلقة لوقوعها في مقابلة المطلقة قبل البناء ، والفرض التي تستحق المتعة . وقوله : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } أي قالوا : وجب عليكم نصف ما سميتم لهنّ من المهر ، وهذا مجمع عليه . وقرأ الجمهور : { فَنِصْفُ } بالرفع . وقرأ من عدا الجمهور بالنصب ، أي : فادفعوا نصف ما فرضتم ، وقرىء أيضاً بضم النون ، وكسرها ، وهما لغتان . وقد وقع الاتفاق أيضاً على أن المرأة التي لم يدخل بها زوجها ، ومات ، وقد فرض لها مهراً تستحقه كاملاً بالموت ، ولها الميراث ، وعليها العدة . واختلفوا في الخلوة هل تقوم مقام الدخول ، وتستحق المرأة بها كمال المهر ، كما تستحقه بالدخول أم لا؟ فذهب إلى الأول مالك ، والشافعي في القديم ، والكوفيون ، والخلفاء الراشدون ، وجمهور أهل العلم ، وتجب عندهم أيضاً العدّة . وقال الشافعي في الجديد : لا يجب إلا نصف المهر ، وهو ظاهر الآية لما تقدّم من أن المسيس هو الجماع ، ولا تجب عنده العدّة ، وإليه ذهب جماعة من السلف .
قوله : { إَّلا أَن يَعْفُونَ } أي : المطلقات ، ومعناه : يتركن ، ويصفحن ، ووزنه يفعلن ، وهو استثناء مفرغ من أعمّ العام ، وقيل : منقطع ، ومعناه : يتركن النصف الذي يجب لهنّ على الأزواج . ولم تسقط النون مع " أن " لأن جمع المؤنث في المضارع على حالة واحدة في الرفع ، والنصب ، والجزم لكون النون ضميراً ، وليست بعلامة إعراب كما في المذكر في قولك : الرجال يعفون ، وهذا عليه جمهور المفسرين . وروى عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : { إَّلا أَن يَعْفُونَ } يعني : الرجال ، وهو ضعيف لفظاً . ومعنى قوله : { أَوْ يَعْفُوَاْ الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } معطوف على محل قوله : «إلا أن يعفون» لأن الأول مبني ، وهذا معرب؛ قيل : هو الزوج ، وبه قال جبير بن مطعم ، وسعيد بن المسيب ، وشريح ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والشعبي ، وعكرمة ، ونافع ، وابن سيرين ، والضحاك ، ومحمد بن كعب القرظي ، وجابر بن زيد ، وأبو مجْلَز ، والربيع بن أنس ، وإياس بن معاوية ، ومكحول ، ومقاتل بن حيان ، وهو الجديد من قول الشافعي ، وبه قال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، وابن شبرمة ، والأوزاعي ، ورجحه ابن جرير .
وفي هذا القول قوّة وضعف؛ أما قوته ، فلكون الذي بيده عقدة النكاح حقيقة هو الزوج؛ لأنه هو الذي إليه رفعه بالطلاق ، وأما ضعفه فلكون العفو منه غير معقول ، وما قالوا به من أن المراد بعفوه أن يعطيها المهر كاملاً غير ظاهر . لأن العفو لا يطلق على الزيادة .
وقيل : المراد بقوله : { أَوْ يَعْفُوَاْ الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } هو : الولي ، وبه قال النخعي ، وعلقمة ، والحسن ، وطاوس ، وعطاء ، وأبو الزناد ، وزيد بن أسلم ، وربيعة ، والزهري ، والأسود بن يزيد ، والشعبي ، وقتادة ، ومالك ، والشافعي في قوله القديم ، وفيه قوّة وضعف؛ أما قوّته لفكون معنى العفو فيه معقولاً؛ وأما ضعفه ، فلكون عقدة النكاح بيد الزوج لا بيده ، ومما يزيد هذا القول ضعفاً أنه ليس للولي أن يعفو عن الزوج مما لا يملكه . وقد حكى القرطبي الإجماع على أن الوليّ لا يملك شيئاً من مالها ، والمهر مالها . فالراجح ما قاله الأوّلون لوجهين : الأوّل أن الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح حقيقة . الثاني : أن عفوه بإكمال المهر هو صادر عن المالك مطلق التصرف بخلاف الولي ، وتسمية الزيادة عفواً ، وإن كان خلاف الظاهر ، لكن لما كان الغالب أنهم يسوقون المهر كاملاً عند العقد كان العفو معقولاً ، لأنه تركه لها ، ولم يسترجع النصف منه ، ولا يحتاج في هذا إلى أن يقال : إنه من باب المشاكلة كما في الكشاف ، لأنه عفو حقيقي أي : ترك لما يستحق المطالبة به ، إلا أن يقال : إنه مشاكلة ، أو يطيب في توفية المهر قبل أن يسوقه الزوج .
قوله : { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى } قيل : هو خطاب للرجال ، والنساء تغليباً؛ وقرأه الجمهور بالتاء الفوقية ، وقرأ أبو نهيك ، والشعبي بالياء التحتية ، فيكون الخطاب مع الرجال . وفي هذا دليل على ما رجحناه من أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج؛ لأن عفو الوليّ عن شيء لا يملكه ليس هو أقرب إلى التقوى ، بل أقرب إلى الظلم والجور . قوله : { ولا تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ } قرأه الجمهور بضم الواو ، وقرأ يحيى بن يعمر بكسرها ، وقرأ علي ، ومجاهد ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : «ولا تناسوا» والمعنى : أن الزوجين لا ينسيان التفضل من كل واحد منهما على الآخر ، ومن جملة ذلك أن تتفضل المرأة بالعفو عن النصف ، ويتفضل الرجل عليها بإكمال المهر ، وهو إرشاد للرجال ، والنساء من الأزواج إلى ترك التقصي على بعضهم بعضاً ، والمسامحة فيما يستغرقه أحدهما على الآخر للوصلة التي قد وقعت سهماً من إفضاء البعض إلى البعض ، وهي وصلة لا يشبهها ، وصلة ، فمن رعاية حقها ، ومعرفتها حق معرفتها الحرص منهما على التسامح . وقوله : { إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فيه من رغيب المحسن ، وترهيب غيره ما لا يخفى .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } قال : المس : النكاح ، والفريضة : الصداق { ومتعوهنّ } قال : هو على الرجل يتزوج المرأة ، ولم يسم لها صداقاً ، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها . فأمره الله أن يمتعها على قدر عسره ، ويسره ، فإن كان موسراً متعها بخادم ، وإن كان معسراً متعها بثلاثة أثواب ، أو نحو ذلك . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه؛ أنه قال : متعة الطلاق : أعلاها الخادم ، ودون ذلك الورق ، ودون ذلك الكسوة . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، عن ابن عمر قال : أدنى ما يكون من المتعة ثلاثون درهماً . وروى القرطبي في تفسيره عن الحسن بن علي أنه متع بعشرين ألفاً ، ورقاق من عسل . وعن شريح أنه متع بخمسمائة درهم . وأخرج الدارقطني عن الحسن بن علي أنه متع بعشرة آلاف . وأخرج عبد الرزاق ، عن ابن سيرين أنه كان يمتع بالخادم ، والنفقة أو بالكسوة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } قال المسّ : الجماع ، فلها نصف صداقها ، وليس لها أكثر من ذلك إلا أن يعفون . وهي المرأة الثيب ، والبكر يزوجها غير أبيها ، فجعل الله العفو لهنّ إن شئن عفون بتركهن ، وإن شئن أخذن نصف الصداق { أَوْ يَعْفُوَاْ الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } وهو أبو الجارية البكر جعل العفو إليه ليس لها معه أمر إذا طلقت ما كانت في حجره .
وأخرج الشافعي ، وسعيد بن منصور ، والبيهقي عن ابن عباس قال في الرجل يتزوج المرأة ، فيخلو بها ولا يمسها ، ثم يطلقها : ليس لها إلا نصف الصداق؛ لأن الله يقول : { فَإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ } الآية . وأخرج البيهقي عن ابن مسعود قال : لها نصف الصداق ، وإن جلس بين رجليها . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، والبيهقي بسند حسن ، عن ابن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الذي بيده عقدة النكاح الزوج » وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والدارقطني ، والبيهقي ، عن عليّ مثله من قوله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن عباس مثله . وأخرج ابن أبي حاتم ، والبيهقي عنه قال : هو أبوها ، وأخوها ، ومن لا تنكح إلا بإذنه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد في قوله : { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ } قال : في هذا ، أو غيره .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، وأبو داود ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن ماجه ، والحاكم ، وصححه البيهقي؛ أن قوماً أتوا ابن مسعود ، فقالوا : إن رجلاً تزوج منا امرأة ، ولم يفرض لها صداقاً ، ولم يجمعها إليه حتى مات ، فقال : أرى أن أجعل لها صداقاً كصداق نسائها ، لا وَكَسَ ، ولا شطط ، ولها الميراث ، وعليها العدة أربعة أشهر وعشر ، فسمع بذلك ناس من أشجع منهم : مَعقِل بن سنان ، فقالوا : نشهد أنك قضيت مثل الذي قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة منا يقال لها : بِروَع بنت واشق .
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي عن عليّ؛ أنه قال في المتوفي عنها زوجها ، ولم يفرض لها صداقاً : لها الميراث ، وعليها العدّة ، ولا صداق لها . وقال : لا يقبل قول أعرابي من أشجع على كتاب الله . وأخرج الشافعي ، والبيهقي ، عن ابن عباس قال في المرأة التي يموت عنها زوجها ، وقد فرض لها صداقاً : لها الصداق ، والميراث .
وأخرج مالك ، والشافعي ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي ، عن عمر بن الخطاب أنه قضى في المرأة يتزوجها الرجل : أنه إذا أرخيت الستور ، فقد وجب الصداق . وأخرج ابن أبي شيبة ، والبيهقي ، عن عُمَر ، وَعلي قال : إذا أرخى ستراً ، وأغلق باباً ، فلها الصداق كاملاً ، وعليها العدّة . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي ، عن زرارة بن أوْفى قال : قضى الخلفاء الراشدون أنه مَنْ أغلق باباً ، أو أرخى ستراً ، فقد وجب الصداق ، والعدّة . وأخرج مالك ، والبيهقي عن زيد بن ثابت نحوه . وأخرج البيهقي ، عن محمد بن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من كشف امرأة ، فنظر إلى عورتها ، فقد وجب الصداق » .
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
المحافظة على الشيء : المداومة ، والمواظبة عليه ، والوسطى : تأنيث الأوسط ، وأوسط الشيء ووسطه : خياره . ومنه قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا } [ البقرة : 143 ] ، ومنه قول بعض العرب يمدح النبي صلى الله عليه وسلم :
يا أوسط النَّاسِ طُراً في مفاخرهم ... وأكرم النَّاسِ أُما بَرَّةً وأباً
وَوَسَط فلان القوم يسطهم ، أي : صار في وسطهم . وأفرد الصلاة الوسطى بالذكر بعد دخولها في عموم الصلوات تشريفاً لها . وقرأ أبو جعفر : { والصلاة الوسطى } بالنصب على الإغراء ، وكذلك قرأ الحلواني؛ وقرأ قالون عن نافع « الوصطي » بالصاد لمجاورة الطاء ، وهما لغتان : كالسراط ، والصراط . وقد اختلف أهل العلم في تعيينها على ثمانية عشر قولاً أوردتها في شرحي للمنتقى ، وذكرت ما تمسكت به كل طائفة ، وأرجح الأقوال ، وأصحها ما ذهب إليه الجمهور من أنها العصر . لما ثبت عند البخاري ، ومسلم ، وأهل السنن ، وغيرهم من حديث علي قال : كنا نراها الفجر حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب : « شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله قبورهم وأجوافهم ناراً » وأخرج مسلم ، والترمذي ، وابن ماجه ، وغيرهم من حديث ابن مسعود مرفوعاً مثله . وأخرجه أيضاً ابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني من حديث ابن عباس مرفوعاً . وأخرجه البزار بإسناد صحيح من حديث جابر مرفوعاً ، وأخرجه أيضاً البزار بإسناد صحيح من حديث حذيفة مرفوعاً . وأخرجه الطبراني بإسناد ضعيف من حديث أم سلمة مرفوعاً .
وورد في تعيين أنها العصر من غير ذكر يوم الأحزاب أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم : منها عن ابن عمر ، عن ابن منده ، ومنها عن سَمُرة عند أحمد ، وابن جرير ، والطبراني ، ومنها أيضاً عند ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ابن جرير ، والطبراني ، والبيهقي ، وعن أبي هريرة ، عند ابن جرير ، والبيهقي ، والطحاوي . وأخرجه عنه أيضاً ابن سعيد ، والبزار ، وابن جرير ، والطبراني ، وعن ابن عباس ، عند البزار بأسانيد صحيحة ، وعن أبي مالك الأشعري ، عند ابن جرير ، والطبراني ، فهذه أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مصرحة بأنها العصر . وقد روي ، عن الصحابة في تعيين أنها العصر آثار كبيرة ، وفي الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يحتاج معه إلى غيره .
وأما ما روي عن عليّ ، وابن عباس أنهما قالا : إنها صلاة الصبح كما أخرجه مالك في الموطأ عنهما ، وأخرجه ابن جرير ، عن ابن عباس ، وكذلك أخرجه ، عنه عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وكذلك أخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عمر ، وكذلك أخرجه ابن جرير ، عن جابر ، وكذلك أخرجه ابن أبي حاتم ، عن أبي أمامة ، وكل ذلك من أقوالهم ، وليس فيها شيء من المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا تقوم بمثل ذلك حجة لا سيما إذا عارض ما قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ثبوتاً يمكن أن يدعي فيه التواتر ، وإذا لم تقم الحجة بأقوال الصحابة لم تقم بأقوال من بعدهم من التابعين ، وتابعهم بالأولى ،
وهكذا لا تقوم الحجة بما أخرجه ابن أبي حاتم بإسناد حسن ، عن ابن عباس أنه قال : صلاة الوسطى المغرب ، وهكذا لا اعتبار بما ورد من قول جماعة من الصحابة : أنها الظهر ، أو غيرها من الصلوات ، ولكن المحتاج إلى إمعان نظر ، وفكر ما ورد مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما فيه دلالة على أنها الظهر ، كما أخرجه ابن جرير ، عن زيد بن ثابت مرفوعاً :
« إن الصلاة الوسطى صلاة الظهر » ولا يصح رفعه بل المرويّ ، عن زيد بن ثابت ذلك من قوله ، واستدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالهاجرة ، وكانت أثقل الصلاة على أصحابه ، وأين يقع هذا الاستدلال من تلك الأحاديث الصحيحة الثابتة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهكذا الاعتبار بما روي ، عن ابن عمر من قوله : إنها الظهر . وكذلك ما روي ، عن عائشة ، وأبي سعيد الخدري ، وغيرهم ، فلا حجة في قول أحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما ما رواه عبد الرزاق ، وابن جرير ، وغيرهما أن حفصة قالت لأبي رافع مولاها ، وقد أمرته أن يكتب لها مصحفاً : إذا أتيت على هذه الآية : { حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } فتعال حتى أمليها عليك ، فلما بلغ ذلك أمرته أن يكتب : « حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر » . وأخرجه أيضاً ، عنها مالك ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي في سننه ، وزادوا : وقالت أشهد أني سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأخرج مالك ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم ، عن أبي يونس مولى عائشة أنها أمرته أن يكتب لها مصحفاً ، وقالت : إذا بلغت هذه الآية فآذِنِّي { حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } قال : فلما بلغتها آذنتها ، فأملَتْ عليّ : « حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر » قالت عائشة : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأخرج وكيع ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن أم سلمة أنها أمرت مَنْ يكتب لها مصحفاً ، وقالت له ، كما قالت حفصة ، وعائشة . فغاية ما في هذه الروايات ، عن أمهات المؤمنين الثلاث رضي الله عنهنّ أنَّهنّ يروين هذا الحرف هكذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس فيه ما يدل على تعيين الصلاة الوسطى أنها الظهر ، أو غيرها ، بل غاية ما يدل عليه عطف صلاة العصر على صلاة الوسطى أنها غيرها؛ لأن المعطوف غير المعطوف عليه ، وهذا الاستدلال لا يعارض ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا يدفع أنها العصر كما قدمنا بيانه .
فالحاصل أن هذه القراءة التي نقلتها أمهات المؤمنين الثلاث بإثبات قوله : «وصلاة العصر» معارَضة بما أخرجه ابن جرير ، عن عروة قال : كان في مصحف عائشة : " حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَهِىَ صلاة العصر " . وأخرج وكيع ، عن حميدة قالت : قرأت في مصحف عائشة : " حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى * صلاة العصر " . وأخرج ابن أبي داود ، عن قبيصة بن ذؤيب مثله . وأخرج سعيد بن منصور ، وأبو عبيد ، عن زياد بن أبي مريم أن عائشة أمرت بمصحف لها أن يكتب ، وقالت : إذا بلغتم { حافظوا عَلَى الصلوات } فلا تكتبوها حتى تؤذنوني ، فلما أخبروها أنهم قد بلغوا قالت : اكتبوها صلاة الوسطى صلاة العصر . وأخرج ابن جرير ، والطحاوي ، والبيهقي ، عن عمرو بن رافع : قال كان مكتوباً في مصحف حفصة " حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَهِىَ صلاة العصر " . وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وابن المنذر عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها : " حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر " . وأخرج أبو عبيد ، وعبد بن حميد ، والبخاري في تاريخه ، وابن جرير ، والطحاوي ، عن ابن عباس : أنه كان ليقرؤها : " حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر " . وأخرج المحاملي عن السائب بن يزيد أنه تلاها كذلك ، فهذه الروايات تعارض تلك الروايات باعتبار التلاوة ، ونقل القراءة ، ويبقى ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من التعيين صافياً ، عن شوب كدر المعارضة ، على أنه قد ورد ما يدل على نسخ تلك القراءة التي نقلتها حفصة ، وعائشة ، وأم سلمة . فأخرج عبد بن حميد ، ومسلم ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، والبيهقي ، عن البراء بن عازب ، قال : نزلت : " حافظوا عَلَى الصلوات وصلاة العصر " فقرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله ، ثم نسخها الله ، فأنزل : { حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } فقيل له : هي إذن : صلاة العصر؟ قال : قد حدثتك كيف نزلت ، وكيف نسخها الله ، والله أعلم . وأخرج البيهقي ، عنه من وجه آخر ، نحوه .
وإذا تقرر لك هذا ، وعرفت ما سقناه تبين لك أنه لم يرد ما يعارض أن الصلاة الوسطى صلاة العصر . وأما حجج بقية الأقوال ، فليس فيها شيء مما ينبغي الاشتغال به؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء ، وبعض القائلين عوَّل على أمر لا يعوَّل عليه ، فقال : إنها صلاة كذا؛ لأنها وسطى بالنسبة إلى أن قبلها كذا من الصلوات ، وبعدها كذا من الصلوات ، وهذا الرأي المحض ، والتخمين البحت لا ينبغي أن تسند إليه الأحكام الشرعية على فرض عدم وجود ما يعارضه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فكيف مع وجود ما هو في أعلى درجات الصحة ، والقوّة ، والثبوت ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ويالله العجب من قوم لم يكتفوا بتقصيرهم في علم السنة ، وإعراضهم عن خير العلوم ، وأنفعها ، حتى كلفوا أنفسهم التكلم على أحكام الله ، والتجري على تفسير كتاب الله بغير علم ولا هدى ، فجاءوا بما يضحك منه تارة ، ويبكي منه أخرى .
قوله : { وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين } القنوت قيل : هو الطاعة ، أي : قوموا لله في صلاتكم طائعين ، قاله جابر بن زيد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والشافعي . وقيل : هو الخشوع ، قاله ابن عمر ، ومجاهد . ومنه قول الشاعر :
قانتاً لله يَدعُو ربه ... وَعَلى عَمْدٍ منِ النَّاسِ اعْتَزَلَ
وقيل : هو الدعاء ، وبه قال ابن عباس . وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على رعْلٍ ، وَذَكْوَان . وقال قوم : إن القنوت طول القيام ، وقيل معناه : ساكتين قاله السدي ، ويدل عليه حديث زيد بن أرقم في الصحيحين ، وغيرهما قال : كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الحاجة في الصلاة حتى نزلت هذه الآية : { وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين } فأمرنا بالسكوت . وقيل : أصل القنوت في اللغة : الدوام على الشيء ، فكل معنى يناسب الدوام يصح إطلاق القنوت عليه . وقد ذكر أهل العلم أن القنوت ثلاثة عشر معنى ، وقد ذكرنا ذلك في شرح المنتقى ، والمتعين هاهنا حمل القنوت على السكوت للحديث المذكور .
قوله : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا } الخوف هو : الفزع ، والرجال : جمع رَجِل ، أو راجل ، من قولهم رجل الإنسان يرجل راجلاً : إذا عدم المركوب ، ومشى على قدميه ، فهو رجل ، وراجل . يقول أهل الحجاز : مشى فلان إلى بيت الله حافياً رجلاً ، حكاه ابن جرير الطبري ، وغيره . لما ذكر الله سبحانه الأمر بالمحافظة على الصلوات ، ذكر حالة الخوف أنهم يضيعون فيها ما يمكنهم ، ويدخل تحت طوقهم من المحافظة على الصلاة بفعلها حال الترجل ، وحال الركوب ، وأبان لهم أن هذه العبادة لازمة في كل الأحوال بحسب الإمكان . وقد اختلف أهل العلم في حدّ الخوف المبيح لذلك ، والبحث مستوفي في كتب الفروع . قوله : { فَإِذَا أَمِنتُمْ } أي : إذا زال خوفكم ، فارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام الصلاة مستقبلين القبلة ، قائمين بجميع شروطها ، وأركانها ، وهو قوله : { فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم } وقيل : معنى الآية : خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة ، وهو خلاف معنى الآية . وقوله : { كَمَا عَلَّمَكُم } أي : مثل ما علمكم من الشرائع : { مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } والكاف صفة لمصدر محذوف أي : ذكراً كائناً كتعليمه إياكم ، أو مثل تعليمه إياكم .
وقد أخرج ابن جرير ، عن سعيد بن المسيب قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا ، وشبك بين أصابعه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عمر؛ أنه سئل عن الصلاة الوسطى؟ فقال : هي فيهن ، فحافظوا عليهن . وأخرج عبد بن حميد ، عن زيد بن ثابت : أنه سأله رجل عن الصلاة الوسطى ، فقال : حافظ على الصلوات تدركها . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، عن الربيع بن خُيَثْم : أن سائلاً سأله عن الصلاة الوسطى ، قال : حافظ عليهنّ ، فإنك إن فعلت أصبتها ، إنما هي واحدة منهنّ . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن ابن سيرين قال : سئل شريح عن الصلاة الوسطى ، فقال : حافظوا عليها تصيبوها . وقد قدمنا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن أصحابه رضي الله عنهم في تعيينها .
وأخرج الطبراني ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين } مثل ما قدمنا ، عن زيد ابن أرقم . وأخرج ابن جرير ، عن ابن مسعود ، نحوه . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، عن محمد بن كعب ، نحوه أيضاً . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن عكرمة نحوه . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين } قال : مصلين . وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : كل أهل دين يقومون فيها عاصين ، قوموا أنتم مطيعين ، وأخرج ابن أبي شيبة ، عن الضحاك مثله . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله : { وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين } قال : من القنوت الركوع ، والخشوع ، وطول الركوع : يعني طول القيام ، وغض البصر ، وخفض الجناح ، والرهبة لله . وقد ثبت في الصحيحين ، وغيرهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن في الصلاة لشغلاً » وفي صحيح مسلم ، وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هو التسبيح ، والتكبير ، وقراءة القرآن » وقد اختلفت الأحاديث في القنوت المصطلح عليه ، هل هو قبل الركوع ، أو بعده ، وهل هو في جميع الصلوات ، أو بعضها ، وهل هو مختص بالنوازل أم لا؟ والراجح اختصاصه بالنوازل ، وقد أوضحنا ذلك في شرحنا للمنتقى ، فليرجع إليه .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا } قال : يصلي الراكب على دابته ، والراجل على رجليه . { فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } يعني : كما علمكم أن يصلي الراكب على دابته ، والراجل على رجليه . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن جابر بن عبد الله ، قال : إذا كانت المسابقة ، فليُومِ برأسه حيث كان وجهه ، فذلك قوله : { فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا } . وأخرج عبد بن حميد ، عن ابن عباس قال : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا } قال : ركعة ركعة . وأخرج وكيع ، وابن جرير ، عن مجاهد : { فَإِذَا أَمِنتُمْ } قال : خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة .
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
هذا عَود إلى بقية الأحكام المفصلة فيما سلف ، وقد اختلف السلف ، ومن تبعهم من المفسرين في هذه الآية هل هي محكمة ، أو منسوخة؟ فذهب الجمهور إلى أنها منسوخة بالأربعة الأشهر والعشر كما تقدم ، وأن الوصية المذكورة فيها منسوخة بما فرض الله لهنّ من الميراث . وحكى ابن جرير ، عن مجاهد أن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها ، وأن العدة أربعة أشهر وعشر ، ثم جعل الله لهنّ وصية منه سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة ، فإذا شاءت المرأة سكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت . وقد حكى ابن عطية ، والقاضي عياض أن الإجماع منعقد على أن الحول منسوخ ، وأن عدتها أربعة أشهر وعشر . وقد أخرج عن مجاهد ، ما أخرجه ابن جرير عنه البخاري في صحيحه . وقوله : { وَصِيَّةٍ } قرأنا نافع ، وابن كثير ، وعاصم في رواية أبي بكر ، والكسائي بالرفع على أن ذلك مبتدأ لخبر محذوف يقدر مقدماً . أي : عليهم وصية ، وقيل : إن الخبر قوله : { لاّزْوَاجِهِم } وقيل : إنه خبر مبتدأ محذوف . أي : وصية الذين يتوفون وصية ، أو حكم الذين يتوفون وصية . وقرأ أبو أبو بكر ، وحمزة ، وابن عامر بالنصب على تقدير فعل محذوف . أي : فليوصوا وصية ، أو أوصى الله وصية ، أو كتب الله عليهم وصية . وقوله : { متاعا } منصوب بوصية ، أو بفعل محذوف . أي : متعوهن متاعاً ، أو جعل الله لهنّ ذلك متاعاً ، ويجوز أن يكون منتصباً على الحال . والمتاع هنا : نفقة السنة . وقوله : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } صفة لقوله : { متاعا } وقال الأخفش : إنه مصدر كأنه قال لا إخراجاً ، وقيل : إنه حال ، أي : متعوهن غير مخرجات ، وقيل : منصوب بنزع الخافض ، أي : من غير إخراج ، والمعنى : أنه يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل نزول الموت بهم لأزواجهم أن يمتعن بعدهم حولاً كاملاً بالنفقة ، والسكنى من تركتهم ، ولا يُخْرَجْن من مساكنهنّ . وقوله : { فَإِنْ خَرَجْنَ } يعني : باختيارهنّ قبل الحول { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أي : لا حرج على الوليّ ، والحاكم ، وغيرهما { فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ } من التعرّض للخطاب ، والتزين لهم . وقوله : { مِن مَّعْرُوفٍ } أي : بما هو معروف في الشرع غير منكر .
وفيه دليل على أن النساء كنّ مخيرات في سكنى الحول ، وليس ذلك بحتم عليهنّ؛ وقيل : المعنى : لا جناح عليكم في قطع النفقة عنهنّ ، وهو ضعيف؛ لأن متعلق الجناح هو مذكور في الآية بقوله : { فِيمَا فَعَلْنَ }
وقوله : { وللمطلقات متاع } قد اختلف المفسرون في هذه الآية ، فقيل : هي المتعة ، وأنها واجبة لكل مطلقة . وقيل : إن هذه الآية خاصة بالثيبات اللواتي قد جومعن؛ لأنه قد تقدّم قبل هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهنّ الأزواج . وقد قدّمنا الكلام على هذه المتعة ، والخلاف في كونها خاصة بمن طلقت قبل البناء والفرض ، أو عامة للمطلقات ، وقيل : إن هذه الآية شاملة للمتعة الواجبة ، وهي متعة المطلقة قبل البناء ، والفرض ، وغير الواجبة ، وهي : متعة سائر المطلقات ، فإنها مستحبة فقط .
وقيل : المراد بالمتعة هنا : النفقة .
وقد أخرج البخاري ، وغيره عن ابن الزبير ، قال : قلت لعثمان بن عفان : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا } قد نسختها الآية الأخرى ، فلم تكتبها ، أو لم تَدَعها؟ قال : يا ابن أخي لا أغير شيئاً منه من مكانه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في الآية ، قال : كان للمتوفي عنها زوجها نفقتها ، وسكناها في الدار سنة ، فنسختها آية المواريث ، فجعل لهنّ الربع ، والثمن مما ترك الزوج . وأخرج ابن جرير ، نحوه عن عطاء . وأخرج نحوه أيضاً أبو داود ، والنسائي ، عن ابن عباس من وجه آخر . وأخرج الشافعي ، وعبد الرزاق ، عن جابر بن عبد الله ، قال : ليس للمتوفى عنها زوجها نفقة حَسْبُها الميراث . وأخرج أبو داود في ناسخه ، والنسائي عن عكرمة قال : نسختها : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } [ البقرة : 234 ] . وأخرج ابن الأنباري في المصاحف ، عن زيد بن أسلم نحوه . وأخرج أيضاً ، عن قتادة نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ } قال : النكاح الحلال الطيب .
وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد ، قال : لما نزل قوله : { متاعا بالمعروف حَقّا عَلَى المحسنين } [ البقرة : 236 ] قال رجل : إن أحسنت ، فعلت ، وإن لم أرد ذلك لم أفعل ، فأنزل الله : { وللمطلقات متاع بالمعروف حَقّا عَلَى المتقين } . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن المسيب ، قال : نسخت هذه الآية بقوله : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] . وأخرج أيضاً عن عتاب بن خصيف في قوله : { وللمطلقات متاع } قال : كان ذلك قبل الفرائض . وأخرج مالك ، وعبد الرزاق ، والشافعي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن عمر قال : لكل مطلقة متعة إلا التي تطلقها ، ولم تدخل بها ، وقد فرض لها ، كفى بالنصف متاعاً . وأخرج ابن المنذر ، عن عليّ بن أبي طالب قال : لكل مؤمنة طلقت حرّة ، أو أمة متعة ، وقرأ : { وللمطلقات متاع بالمعروف حَقّا عَلَى المتقين } . وأخرج البيهقي ، عن جابر بن عبد الله ، قال «لما طلق حفص بن المغيرة امرأته فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لزوجها : " متّعها " قال : لا أجد ما أمتعها ، قال : " فإنه لا بد من المتاع ، متِّعها ، ولو نصف صاع من تمر " وأخرج عبد بن حميد ، عن أبي العالية في الآية ، قال : لكل مطلقة متعة .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
الاستفهام هنا للتقرير ، والرؤية المذكورة هي رؤية القلب لا رؤية البصر . والمعنى ، عند سيبويه : تنبه إلى أمر الذين خرجوا ، ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين كذا قيل . وحاصله أن الرؤية هنا التي بمعنى الإدراك مضمنة معنى التنبيه ، ويجوز أن تكون مضمنة معنى الانتهاء . أي : ألم ينته علمك إليهم؛ أم معنى الوصول . أي : ألم يصل علمك إليهم ، ويجوز أن تكون بمعنى الرؤية البصرية . أي : ألم تنظر إلى الذين خرجوا . جعل الله سبحانه قصة هؤلاء لما كانت بمكان من الشيوع ، والشهرة يحمل كل أحد على الإقرار بها بمنزلة المعلومة لكل فرد ، أو المبصرة لكل مبصر؛ لأن أهل الكتاب قد أخبروا بها ودوَّنوها ، وأشهروا أمرها ، والخطاب هنا لكل من يصلح له . والكلام جار مجرى المثل في مقام التعجيب ادّعاءً لظهوره ، وجلائه بحيث يستوي في إدراكه الشاهد ، والغائب .
وقوله : { وَهُمْ أُلُوفٌ } في محل نصب على الحال من ضمير خرجوا ، وألوف من جموع الكثرة ، فدل على أنها ألوف كثيرة . وقوله : { حَذَرَ الموت } مفعول له . وقوله : { فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ } هو أمر تكوين عبارة عن تعلق إرادته بموتهم دفعة ، أو تمثيل لإماتته سبحانه إياهم ميتة نفس واحدة كأنهم أمروا ، فأطاعوا . قوله : { ثُمَّ أحياهم } هو معطوف على مقدّر يقتضيه المقام ، أي : قال الله لهم : موتوا ، فماتوا ثم أحياهم ، أو على قال لما كان عبارة ، عن الإماتة ، وقوله : { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } التنكير في قوله فضل للتعظيم . أي : لذو فضل عظيم على الناس جميعاً ، أما هؤلاء الذين خرجوا ، فلكونه أحياهم ، ليعتبروا ، وأما المخاطبون ، فلكونه قد أرشدهم إلى الاعتبار ، والاستبصار بقصة هؤلاء ،
قوله : { وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله } هو معطوف على مقدّر ، كأنه قيل : اشكروا فضله بالاعتبار بما قصّ عليكم ، وقاتلوا ، هذا إذا كان الخطاب بقوله : { وَقَاتِلُواْ } راجعاً إلى المخاطبين بقوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ } كما قاله جمهور المفسرين ، وعلى هذا يكون إيراد هذه القصة لتشجيع المسلمين على الجهاد ، وقيل : إن الخطاب للذين أحيوا من بني إسرائيل ، فيكون عطفاً على قوله : { مُوتُواْ } وفي الكلام محذوف تقديره ، وقال لهم قاتلوا . وقال ابن جرير : لا وجه لقول من قال : إن الأمر بالقتال للذين أحيوا . وقوله : { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله } لما أمر سبحانه بالقتال ، والجهاد أمر بالإنفاق في ذلك ، و { من } استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء ، و«ذا» خبره ، و«الذي» وصلته وصف له ، أو بدل منه ، وإقراض الله مثل لتقديم العمل الصالح الذي يستحق به فاعله الثواب ، وأصل القرض اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء ، يقال : أقرض فلان فلاناً . أي : أعطاه ما يتجازاه . قال الشاعر :
وَإذا جوزِيت قَرضاً فاجزْه ... وقال الزجاج : القرض في اللغة : البلاء الحسن ، والبلاء السيء .
قال أمية :
كلُّ امرىء سَوفَ يُجْزَي قْرضَه حَسَناً ... أو سَيِئاً وَمديناً مِثْل مَا دَانَا
وقال آخر :
فجازَى القُرُوض بِأمثَالها ... فبالخْيَر خَيْراً وبِالشر شرّاً
وقال الكسائي : القرض : ما أسلفت من عمل صالح ، أو سيء ، وأصل الكلمة القطع ، ومنه المقراض ، واستدعاء القرض في الآية إنما هو : تأنيس ، وتقريب للناس بما يفهمونه . والله هو الغني الحميد . شبه عطاء المؤمن ما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض ، كما شبه إعطاء النفوس ، والأموال في أخذ الجنة بالبيع ، والشراء . وقوله : { حَسَنًا } أي : طيبة به نفسه من دون مَنِّ ، ولا أذى . وقوله : { فَيُضَاعِفَهُ } قرأ عاصم ، وغيره بالألف ، ونصب الفاء . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي بإثبات الألف ، ورفع الفاء ، وقرأ ابن عامر ، ويعقوب : «فيضعفه» بإسقاط الألف مع تشديد العين ، ونصب الفاء . وقرأ ابن كثير ، وأبو جعفر بالتشديد ، ورفع الفاء . فمن نصب ، فعلى أن جواب الاستفهام ، ومن رفع ، فعلى تقدير مبتدأ ، أي : هو يضاعفه . وقد اختلف في تقدير هذا التضعيف على أقوال . وقيل : لا يعلمه إلا الله وحده . وقوله : { والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } هذا عام في كل شيء ، فهو القابض الباسط ، والقبض : التقتير ، والبسط : التوسيع ، وفيه وعيد بأن من بخل من البسط يوشك أن يبدل بالقبض ، ولهذا قال : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : هو يجازيكم بما قدمتم عند الرجوع إليه ، وإذا أنفقتم مما وسع به عليكم أحسن إليكم ، وإن بخلتم عاقبكم .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم عن ابن عباس في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم } قال : كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون ، وقالوا : نأتي أرضاً ليس بها موت ، حتى إذا كانوا بموضع كذا ، وكذا قال لهم الله : موتوا ، فماتوا ، فمر عليهم نبيّ من الأنبياء ، فدعا ربه أن يحييهم حتى يعبدوه ، فأحياهم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عنه : أن القرية التي خرجوا منها داوردان . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم هذه القصة مطوّلة ، عن أبي مالك ، وفيها : أنهم بضعة وثلاثون ألفاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن عبد العزيز : أن ديارهم هي أذَرُعات . وأخرج أيضاً ، عن أبي صالح قال : كانوا تسعة آلاف . وأخرج جماعة من محدثي المفسرين هذه القصة على أنحاء ، ولا يأتي الاستكثار من طرقها بفائدة . وقد ورد في الصحيحين ، وغيرهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي ، عن الفرار من الطاعون ، وعن دخول الأرض التي هو بها من حديث عبد الرحمن بن عوف .
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن سعد ، والبزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن مسعود ، قال : «لما نزلت : { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا } قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله إن الله ليريد منا القرض؟ قال : نعم يا أبا الدحداح ، قال : أرني يدك يا رسول الله ، فناوله يده ، قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي ، وله فيه ستمائة نخلة» .
وقد أخرج هذه القصة عبد الرزاق ، وابن جرير من طريق زيد بن أسلم ، زاد الطبراني ، عن أبيه ، عن عمر بن الخطاب ، وابن مردويه ، عن أبي هريرة ، وابن إسحاق ، وابن المنذر ، عن ابن عباس . وأخرج ابن جرير ، عن السدي في قوله : { أَضْعَافًا كَثِيرَةً } قال : هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو . وأخرج أحمد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي عثمان النَّهْدي قال : بلغني عن أبي هريرة ، حديث أنه قال : «إن الله ليكتب لعبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة» فحججت ذلك العام ، ولم أكن أريد أن أحج إلا لألقاه في هذا الحديث ، فلقيت أبا هريرة ، فقلت له ، فقال : ليس هذا ، قلت : ولم يحفظ هذا الحديث الذي حدثك ، إنما ، قلت : «إن الله ليعطي العبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة» ثم قال أبو هريرة : أوليس تجدون هذا في كتاب الله؟ { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } فالكثيرة عند الله أكثر من ألفي ألف ، وألفي ألف ، والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة " وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان في صحيحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن ابن عمر قال : «لما نزلت { مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } [ البقرة : 261 ] إلى آخره ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رب زِدْ أمتي ، " فنزلت : { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } قال : رب زد أمتي فنزلت : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] . وأخرج ابن المنذر ، عن سفيان ، قال لما نزلت { مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] قال : ربّ زد أمتي ، فنزلت : { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله } قال : ربّ زد أمتي ، فنزلت : { مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم في سبيل الله } [ البقرة : 261 ] قال : رب زد أمتي ، فنزلت : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون } وفي الباب أحاديث هذه أحسنها وستأتي عند تفسير قوله تعالى : { كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } فابحثها . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله : { والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } قال : يقبض الصدقة ، ويبسط : قال يخلف : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } قال : من التراب ، وإلى التراب تعودون . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد في الآية قال : علم الله أن فيمن يقاتل في سبيل الله من لا يجد قوّة ، وفيمن لا يقاتل في سبيل الله من يجد غنى ، فندب هؤلاء إلى القرض ، فقال : { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قرضاً حسناً } قال : يبسط عليك ، وأنت ثقيل ، عن الخروج لا تريده ، ويقبض عن هذا ، وهو يطيب نفساً بالخروج ، ويخفّ له ، فقوّه مما بيدك يكن لك الحظ .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ } الكلام فيه كالكلام في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم } [ البقرة : 243 ] وقد قدمناه . والملأ : الأشراف من الناس ، كأنهم ملئوا شرفاً . وقال الزجاج : سموا بذلك؛ لأنهم مَلِئون بما يحتاج إليه منهم ، وهو : اسم جمع كالقوم ، والرهط . ذكر الله سبحانه في التحريض على القتال قصة أخرى جرت في بني إسرائيل بعد القصة المتقدمة ، وقوله : { مِن بَعْدِ موسى } " من " ابتدائية ، وعاملها مقدر ، أي : كائنين من بعد موسى ، أي : بعد وفاته . وقوله : { لِنَبِىّ لَّهُمُ } قيل : هو شمويل بن يار ابن علقمة ، ويعرف بابن العجوز ، ويقال فيه : شمعون ، وهو : من ولد يعقوب ، وقيل : من نسل هارون ، وقيل : هو يوشع بن نون ، وهذا ضعيف جداً؛ لأن يوشع هو فتى موسى ، ولم يوجد داود ، إلا بعد ذلك بدهر طويل . وقيل : اسمه إسماعيل . وقوله : { ابعث لَنَا مَلِكًا } أي : أميراً نرجع إليه ، ونعمل على رأيه . وقوله : { نقاتل } بالنون ، والجزم على جواب الأمر ، وبه قرأ الجمهور . وقرأ الضحاك ، وابن أبي عبلة بالياء ، ورفع الفعل على أنه صفة للملك . وقرىء بالنون ، والرفع على أنه حال ، أو كلام مستأنف .
وقوله : { هَلْ عَسَيْتُمْ } بالفتح للسين ، وبالكسر لغتان ، وبالثانية قرأ نافع ، وبالأولى قرأ الباقون . قال في الكشاف : وقراءة الكسر ضعيفة . وقال أبو حاتم : ليس للكسر وجه . انتهى . وقال أبو علي : وجه الكسر قول العرب : هو عَس بذلك ، مثل حَرٍ وشَجٍ ، وقد جاء فَعَل وفَعِل في نحو نَقَم ونَقِم ، فكذلك عسيت وعسيت ، وكذا قال مكي . وقد قرأ بالكسر أيضاً الحسن وطلحة فلا وجه لتضعيف ذلك ، وهو من أفعال المقاربة ، أي : هل قاربتم أن لا تقاتلوا ، وإدخال حرف الاستفهام على فعل المقاربة لتقرير ما هو متوقع عنده ، والإشعار بأنه كائن ، وفصل بين عسى ، وخبرها بالشرط للدلالة على الاعتناء به . قال الزجاج : أن لا تقاتلوا في موضع نصب ، أي : هل عسيتم مقاتلة . قال الأخفش : «أن» في قوله : { وَمَا لَنَا أَلاَّ نقاتل } زائدة . وقال الفراء : هو محمول على المعنى ، أي : وما منعنا ، كما تقول مالك ألا تصلي ، وقيل : المعنى : وأي شيء لنا في أن لا نقاتل . قال النحاس : وهذا أجودها . وقوله : { وَقَدْ أُخْرِجْنَا } تعليل ، والجملة حالية ، وإفراد الأولاد بالذكر؛ لأنهم الذين وقع عليهم السبي ، أو لأنهم بمكان فوق مكان سائر القرابة { فَلَمَّا كُتِبَ } أي : فرض ، أخبر سبحانه أنهم تولوا لاضطراب نياتهم ، وفتور عزائمهم . واختلف في عدد القليل الذين استثناهم الله سبحانه ، وهم الذين اكتفوا بالغَرْفةَ .
وقوله { وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ } شروع في تفصيل ما جرى بينهم وبين نبيهم من الأقوال والأفعال . وطالوت : اسم أعجمي ، وكان سقاء ، وقيل : دباغاً ، وقيل : مكارياً ، ولم يكن من سبط النبوة ، وهم بنو لاوى ، ولا من سبط الملك ، وهم بنو يهوذا ، فلذلك : { قَالُواْ أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا } أي : كيف ذلك؟ ولم يكن من بيت الملك ، ولا هو ممن أوتي سعة من المال حتى نتبعه لشرفه ، أو لماله .
وهذه الجملة أعني قوله : { وَنَحْنُ أَحَقُّ } حالية وكذلك الجملة المعطوفة عليها . وقوله : { اصطفاه عَلَيْكُمْ } أي : اختاره ، واختيار الله هو الحجة القاطعة . ثم بين لهم مع ذلك وجه الاصطفاء : بأن الله زاده بسطة في العلم ، الذي هو ملاك الإنسان ، ورأس الفضائل ، وأعظم وجوه الترجيح ، وزاده بسطة في الجسم الذي يظهر به الأثر في الحروب ، ونحوها ، فكان قوياً في دينه ، وبدنه ، وذلك هو المعتبر ، لا شرف النسب . فإن فضائل النفس مقدّمة عليه { والله يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء } فالملك ملكه ، والعبيد عبيده ، فما لكم والاعتراض على شيء ليس هو لكم ، ولا أمره إليكم . وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن قوله : { والله يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء } من قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : هو من قول نبيهم ، وهو الظاهر . وقوله : { واسع } أي : واسع الفضل ، يوسع على من يشاء من عباده { عَلِيمٌ } بمن يستحق الملك ، ويصلح له .
والتابوت ، فعلوت من التوب ، وهو الرجوع؛ لأنهم يرجعون إليه ، أي : علامة ملكه إتيان التابوت الذي أخذ منهم ، أي : رجوعه إليكم ، وهو صندوق التوراة . والسكينة فعيلة مأخوذة من السكون ، والوقار ، والطمأنينة أي : فيه سبب سكون قلوبكم فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت . قال ابن عطية : الصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء ، وآثارهم ، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك ، وتأنس به ، وتتقوى . وقد اختلف في السكينة على أقوال سيأتي بيان بعضها ، وكذلك اختلف في البقية ، فقيل : هي عصا موسى ، ورُضَاض الألواح ، وقيل : غير ذلك . قيل : والمراد بآل موسى ، وهارون هما أنفسهما . أي : مما ترك هارون ، وموسى ، ولفظ « آل » مقحمة ، لتفخيم شأنهما ، وقيل المراد : الأنبياء من بني يعقوب؛ لأنهما من ذرية يعقوب ، فسائر قرابته ومن تناسل منه آل لهما . وفصل معناه : خرج بهم ، فَصَلْتُ الشيء ، فانفصل أي : قطعته ، فانقطع ، وأصله مُتَعَدٍّ ، يقال فصل نفسه ، ثم استعمل استعمال اللازم كانفصل ، وقيل : إن فصل يستعمل لازماً ، ومتعدياً ، يقال : فصل عن البلد فصولاً ، وفصل نفسه فصلاً . والابتلاء : الاختبار .
والنهر : قيل : هو بين الأردن ، وفلسطين ، وقرأه الجمهور { بنهر } بفتح الهاء . وقرأ حميد ، ومجاهد ، والأعرج بسكون الهاء . والمراد بهذا الابتلاء : اختبار طاعتهم ، فمن أطاع في ذلك الماء أطاع فيما عداه ، ومن عصى في هذا ، وغلبته نفسه ، فهو بالعصيان في سائر الشدائد أحرى ، ورخص لهم في الغرفة؛ ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع ، وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال ، وفيه أن الغرفة تكف سورة العطش عند الصابرين على شظف العيش الدافعين أنفسهم عن الرفاهية .
فالمراد بقوله : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ } أي : كرع ، ولم يقتصر على الغرفة ، و«من» ابتدائية . ومعنى قوله : { فَلَيْسَ مِنّى } أي : ليس من أصحابي . من قولهم : فلان من فلان ، كأنه بعضه لاختلاطهما ، وطول صحبتهما ، وهذا مَهْيَع في كلام العرب معروف ، ومنه قول الشاعر :
إذا حَاولْتَ في أسَدٍ فجُوراً ... فَإني لستُ مِنْكَ وَلستَ منِّي
وقوله : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } يقال طعمت الشيء أي : ذقته ، وأطعمته الماء أي : أذقته ، وفيه دليل على أن الماء يقال له طعام . والاغتراف : الأخذ من الشيء باليد ، أو بآلة ، والغرف مثل الاغتراف ، والغَرفة المرة الواحدة . وقد قرىء بفتح الغين ، وضمها ، فالفتح للمرة ، والضم اسم للشيء المغترف ، وقيل : بالفتح الغَرفة بالكف الواحدة ، وبالضم : الغرفة بالكفين ، وقيل : هما لغتان بمعنى واحد ، ومنه قول الشاعر :
لا يَدْلفون إلى ماء بآنية ... إلا اغْتِرافاً من الغُدران بالرَّاح
قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } سيأتي بيان عددهم ، وقرىء «إلا قليل» ولا وجه له إلا ما قيل من أنه من هجر اللفظ إلى جانب المعنى أي : لم يعطه إلا قليل ، وهو تعسف . قوله : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ } أي : جاوز النهر طالوت : { والذين ءامَنُواْ مَعَهُ } وهم القليل الذين أطاعوه ، ولكنهم اختلفوا في قوّة اليقين ، فبعضهم قال : { لاَ طَاقَةَ لَنَا } و { قَالَ الذين يَظُنُّونَ } أي : يتيقنون { أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله } والفئة : الجماعة ، والقطعة منهم من فأوْتُ رأسه بالسيف أي : قطعته .
وقوله { بَرَزُواْ } أي : صاروا في البراز ، وهو المتسع من الأرض . وجالوت أمير العمالقة . قالوا : أي : جميع من معه من المؤمنين ، والإفراغ يفيد معنى الكثرة . وقوله : { وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا } هذا عبارة ، عن القوّة ، وعدم الفشل ، يقال : ثبت قدم فلان على كذا إذا استقرّ له ، ولم يزل عنه ، وثبت قدمه في الحرب إذا كان الغلب له ، والنصر معه . قوله : { وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } هم جالوت ، وجنوده . ووضع الظاهر موضع المضمر؛ إظهاراً لما هو العلة الموجبة للنصر عليهم ، وهي كفرهم ، وذكر النصر بعد سؤال تثبيت الأقدام ، لكون الثاني هو غاية الأوّل .
قوله : { فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ الله } الهزم : الكسر ، ومنه سقاء مُنَهَزِم أي : انثنى بعضه على بعض مع الجفاف ، ومنه ما قيل في زمزم إنها هَزمَة جِبريل أي : هزمها برجله ، فخرج الماء ، والهزم : ما يكسر من يابس الحطب ، وتقدير الكلام : فأنزل الله عليهم النصر { فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ الله } أي : بأمره وإرادته . قوله : { وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ } هو : داود بن إيشا بكسر الهمزة ، ثم تحتية ساكنة بعدها معجمة . ويقال داود بن زكريا بن بشوى من سبط يهوذا بن يعقوب جمع الله له بين النبوّة ، والملك بعد أن كان راعياً ، وكان أصغر إخوته ، اختاره طالوت لمقاتلة جالوت ، فقتله .
والمراد بالحكمة هنا : النبوّة ، وقيل : هي تعليمه صنعة الدروع ، ومنطق الطير ، وقيل : هي إعطاؤه السلسلة التي كانوا يتحاكمون إليها . قوله : { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء } قيل : إن المضارع هنا موضوع موضع الماضي ، وفاعل هذا الفعل هو الله تعالى ، وقيل : داود ، وظاهر هذا التركيب أن الله سبحانه علمه مما قضت به مشيئته ، وتعلقت به إرادته . وقد قيل : إن من ذلك ما قدّمنا من تعليمه صنعة الدروع ، وما بعده .
قوله : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } قرأه الجماعة : «ولولا دفع الله» وقرأ نافع : «دفاع» وهما مصدران لدفع ، كذا قال سيبويه . وقال أبو حاتم : دافع ، ودفع واحد مثل : طرقت نعلي ، وطارقته . واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور ، وأنكر قراءة " دفاع " ، قال : لأن الله عزّ وجلّ لا يغالبه أحد ، قال مكي : يوهم أبو عبيدة أن هذا من باب المفاعلة ، وليس به ، وعلى القراءتين ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل : أي : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس } وبعضهم بدل من الناس ، وهم الذين يباشرون أسباب الشرّ ، والفساد ببعض آخر منهم ، وهم الذين يكفونهم عن ذلك ويردّونهم عنه { لَفَسَدَتِ الأرض } لتغلب أهل الفساد عليها ، وإحداثهم للشرور التي تهلك الحرث ، والنسل ، وتنكير { فضل } للتعظيم . { وآيات الله } هي : ما اشتملت عليه هذه القصة من الأمور المذكورة . والمراد { بالحق } هنا : الخبر الصحيح الذي لا ريب فيه عند أهل الكتاب ، والمطلعين على أخبار العالم . وقوله : { إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } إخبار من الله سبحانه بأنه من جملة رسل الله سبحانه تقوية لقلبه ، وتثبيتاً لجنانه ، وتشييداً لأمره .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بَنِى إِسْرءيلَ } قال هذا حين رفعت النبوّة ، واستخرج أهل الإيمان ، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم ، وأبنائهم { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال } وذلك حين أتاهم التابوت ، قال : وكان من إسرائيل سبطان : سبط نبوّة ، وسبط خلافة ، فلا تكون الخلافة إلا في سبط الخلافة ، ولا تكون النبوّة إلا في سبط النبوّة؛ فَقَالَ لَهُمُ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ وليس من أحد السبطين لا من سبط النبوّة ، ولا من سبط الخلافة { قَالَ إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ } فأبوا أن يسلموا له الرياسة حتى قال لهم : { إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ من ربكم وبقية } وكان موسى حين ألقى الألواح تكسرت ، ورفع منها وجمع ما بقي ، فجعله في التابوت ، وكانت العمالقة قد سَبَتْ ذلك التابوت ، والعمالقة فرقة من عاد كانوا بأريحاء ، فجاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء ، والأرض ، وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت ، فلما رأوا ذلك قالوا : نعم .
فسلموا له ، وملَّكُوه ، وكانت الأنبياء إذا حضروا قتالاً قدّموا التابوت بين أيديهم ، ويقولون : إن آدم نزل بذلك التابوت ، وبالركن ، وبعصى موسى من الجنة . وبلغني أن التابوت ، وعصى موسى في بحيرة طبرية ، وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة . وقد ورد هذا المعنى مختصراً ، ومطولاً عن جماعة من السلف ، فلا يأتي التطويل بذكر ذلك بفائدة يعتدّ بها .
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي ، عن أبي مالك عن ابن عباس { وَزَادَهُ بَسْطَةً } يقول : فضيلة { فِي العلم والجسم } يقول : كان عظيماً جسيماً يفضل بني إسرئيل بعنقه . وأخرج أيضاً عن وهب بن منبه { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم } قال : العلم بالحرب . وأخرج ابن المنذر عنه : أنه سئل : أنبياً كان طالوت؟ قال : لا ، لم يأته وحي ، وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه : أنه سئل عن تابوت موسى ما سعته؟ قال : نحو من ثلاثة أذرع في ذراعين .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : السكينة الرحمة . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عنه قال : السكينة الطمأنينة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال : السكينة : دابة قدر الهرّ لها عينان لهما شعاع ، وكان إذا التقى الجمعان أخرجت يديها ، ونظرت إليهم ، فيهزم الجيش من الرعب . وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن عليّ قال : السكينة : ريح خجوج ، ولها رأسان . وأخرج عبد الرزاق ، وأبو عبيد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه عن عليّ قال : السكينة : لها وجه كوجه الإنسان ، ثم هي بعد ريح هفافة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال : السكينة من الله كهيئة الريح ، لها وجه كوجه الهِرّ ، وجناحان ، وذَنَب مثل ذَنب الهِرّ . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن ابن عباس قال : { فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ } قال : طست من ذهب من الجنة كان يغسل بها قلوب الأنبياء ألقى الألواح فيها . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه قال : هي روح من الله لا تتكلم ، إذا اختلفوا في شيء تكلم ، فأخبرهم ببيان ما يريدون . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : هي شيء تسكن إليه قلوبهم . وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال { فيه سكينة } ، أي : وقار .
وأقول : هذه التفاسير المتناقضة لعلها وصلت إلى هؤلاء الأعلام من جهة اليهود أقماهم الله ، فجاءوا بهذه الأمور لقصد التلاعب بالمسلمين رضي الله عنهم ، والتشكيك عليهم ، وانظر إلى جعلهم لها تارة حيواناً ، وتارة جماداً ، وتارة شيئاً لا يعقل ، كقول مجاهد : كهيئة الريح لها وجه كوجه الهرّ ، وجناحان ، وذنب مثل ذنب الهرّ . وهكذا كل منقول عن بني إسرائيل يتناقض ، ويشتمل على ما لا يعقل في الغالب ، ولا يصح أن يكون مثل هذه التفاسير المتناقضة مروياً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولا رأياً رآه قائله ، فهم أجلّ قدراً من التفسير بالرأي ، وبما لا مجال للاجتهاد فيه .
إذا تقرّر لك هذا عرفت أن الواجب الرجوع في مثل ذلك إلى معنى السكينة لغة ، وهو معروف ، ولا حاجة إلى ركوب هذه الأمور المتعسفة المتناقضة ، فقد جعل الله عنها سعة ، ولو ثبت لنا في السكينة تفسير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم لوجب علينا المصير إليه ، والقول به ، ولكنه لم يثبت من وجه صحيح بل ثبت أنها تنزلت على بعض الصحابة عند تلاوته للقرآن ، كما في صحيح مسلم ، عن البراء قال : كان رجل يقرأ سورة الكهف ، وعنده فرس مربوط ، فتغشته سحابة ، فجعلت تدور وتدنو ، وجعل فرسه ينفر منها ، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له ، فقال : " تلك السكينة نزلت للقرآن " . وليس في هذا إلا أن هذه التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم سكينة : سحابة دارت على ذلك القاريء ، فالله أعلم .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَبَقِيَّةٌ مّمَّا تَرَكَ ءَالُ موسى } قال : عصاه ، ورُضاض الألواح . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن أبي صالح قال : كان في التابوت عصى موسى ، وعصى هارون ، وثياب موسى ، وثياب هارون ، ولوحان من التوراة ، والمنّ وكلمة الفرج : «لا إله إلا الله الحليم الكريم وسبحان الله ربّ السموات السبع ، ورب العرش العظيم ، والحمد لله رب العالمين» . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، عن قتادة في قوله : { تَحْمِلُهُ الملائكة } قال : أقبلت به الملائكة تحمله حتى وضعته في بيت طالوت ، فأصبح في داره . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } قال : علامة .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : { إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ } يقول : بالعطش ، فلما انتهى إلى النهر ، وهو نهر الأردن كرع فيه عامة الناس ، فشربوا منه ، فلم يزد من شرب منه إلا عطشاً ، وأجزأ من اغترف غرفة بيده ، وانقطع الظمأ عنه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير : { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ } قال : القليل ثلثمائة وبضعة عشر عدة أهل بدر . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن البراء قال : كنا أصحاب محمد نتحدّث أن أصحاب بدر على عدّة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ، ولم يجاوز معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة . وقد أخرج ابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر :
« أنتم بعدّة أصحاب طالوت يوم لقي جالوت » وأخرج ابن عساكر من طريق جويبر ، عن الضحاك عن ابن عباس قال : كانوا ثلاثمائة ألف وثلاثة الآف وثلاثمائة وثلاثة عشر ، فشربوا منه كلهم إلا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً عدّة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، فردّهم طالوت ، ومضى ثلثمائة وثلاثة عشر . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السديّ في قوله : { الذين يَظُنُّونَ } قال : الذين يستيقنون .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كان طالوت أميراً على الجيش ، فبعث أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته ، فقال داود لطالوت : ماذا لي ، وأقتل جالوت؟ فقال : لك ثلث ملكي ، وأنكحك ابنتي ، فأخذ مخلاة ، فجعل فيها ثلاث مَرْوَات ، ثم سمي إبراهيم ، وإسحاق ويعقوب ، ثم أدخل يده ، فقال : بسم الله إلهي ، وإله آبائي إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، فخرج على إبراهيم ، فجعله في مرحمته ، فرمى بها جالوت ، فخرق ثلاثة وثلاثين بيضة عن رأسه ، وقتلت ما وراءه ثلاثين ألفاً . وقد ذكر المفسرون أقاصيص كثيرة من هذا الجنس ، والله أعلم . وأخرج ابن أبي حاتم ، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } قال : يدفع الله بمن يصلي عمن لا يصلي ، وبمن يحج عمن لا يحج ، وبمن يزكي عمن لا يزكي . وأخرج ابن عدي ، وابن جرير بسند ضعيف عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء » ثم قرأ ابن عمر : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس } الآية . وفي إسناده يحيى بن سعيد العطار الحمصي ، وهو ضعيف جداً .
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
قوله : { تِلْكَ الرسل } قيل : هو إشارة إلى جميع الرسل ، فتكون الألف واللام للاستغراق ، وقيل : هو إشارة إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة ، وقيل : إلى الأنبياء الذين بلغ علمهم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم . والمراد بتفضيل بعضهم على بعض : أن الله سبحانه جعل لبعضهم من مزايا الكمال فوق ما جعله للآخر ، فكان الأكثر مزايا فاضلاً ، والآخر مفضولاً . وكما دلت هذه الآية على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض كذلك دلت الآية الأخرى ، وهي قوله تعالى : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً } [ الإسراء : 55 ] . وقد استشكل جماعة من أهل العلم الجمع بين هذه الآية ، وبين ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ : « لا تفضلوني على الأنبياء » وفي لفظ آخر « لا تفضلوا بين الأنبياء » وفي لفظ « لا تخيروا بين الأنبياء » فقال قوم : إن هذا القول منه صلى الله عليه وسلم كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل ، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل ، وقيل : إنه قال صلى الله عليه وسلم ذلك على سبيل التواضع كما قال : « لا يقل أحدكم أنا خير من يونس بن متى » تواضعاً مع علمه أنه أفضل الأنبياء كما يدل عليه قوله : « أنا سيد ولد آدم » ؛ وقيل : إنما نهى عن ذلك قطعاً للجدال ، والخصام في الأنبياء ، فيكون مخصوصاً بمثل ذلك لا إذا كان صدور ذلك مأموناً ، وقيل : إن النهي إنما هو من جهة النبوة فقط؛ لأنها خصلة واحدة لا تفاضل فيها ، ولا نهي عن التفاضل بزيادة الخصوصيات ، والكرامات . وقيل : إن المراد النهي عن التفضيل لمجرد الأهواء ، والعصبية . وفي جميع هذه الأقوال ضعف . وعندي أنه لا تعارض بين القرآن ، والسنة ، فإن القرآن دلّ على أن الله فضل بعض أنبيائه على بعض ، وذلك لا يستلزم أنه يجوز لنا أن نفضل بعضهم على بعض ، فإن المزايا التي هي مناط التفضيل معلومة عند الله لا تخفى عليه منها خافية فيه ، وليست بمعلومة عند البشر ، فقد يجهل اتباع نبيّ من الأنبياء بعض مزاياه ، وخصوصياته فضلاً عن مزايا غيره ، والتفضيل لا يجوز إلا بعد العلم بجميع الأسباب التي يكون بها هذا فاضلاً ، وهذا مفضولاً ، لا قبل العلم ببعضها ، أو بأكثرها ، أو بأقلها ، فإن ذلك تفضيل بالجهل ، وإقدام على أمر لا يعلمه الفاعل له ، وهو ممنوع منه ، فلو فرضنا أنه لم يرد إلا القرآن في الإخبار لنا بأن الله فضل بعض أنبيائه على بعض لم يكن فيه دليل على أنه يجوز للبشر أن يفضلوا بين الأنبياء ، فكيف وقد وردت السنة الصحيحة بالنهي عن ذلك؟ وإذا عرفت هذا علمت أنه لا تعارض بين القرآن ، والسنة بوجه من الوجوه ، فالقرآن فيه الإخبار من الله بأنه فضل بعض أنبيائه على بعض ، والسنة فيها النهي لعباده أن يفضلوا بين أنبيائه ، فمن تعرّض للجمع بينهما زاعماً أنهما متعارضان ، فقد غلط غلطاً بيناً .
قوله : { مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } وهو موسى ، ونبينا سلام الله عليهما . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في آدم : « إنه نبيّ مكلم » وقد ثبت ما يفيد ذلك في صحيح ابن حبان من حديث أبي ذر . قوله : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات } هذا البعض يحتمل أن يراد به من عظمت منزلته عند الله سبحانه من الأنبياء ، ويحتمل أن يراد به نبينا صلى الله عليه وسلم لكثرة مزاياه المقتضية لتفضيله ، ويحتمل أن يراد به إدريس؛ لأن الله سبحانه أخبرنا بأنه رفعه مكاناً علياً ، وقيل : إنهم أولوا العزم ، وقيل : إبراهيم ، ولا يخفاك أن الله سبحانه أبهم هذا البعض المرفوع ، فلا يجوز لنا التعرّض للبيان له إلا ببرهان من الله سبحانه ، أو من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ، ولم يرد ما يرشد إلى ذلك ، فالتعرّض لبيانه هو من تفسير القرآن الكريم بمحض الرأي ، وقد عرفت ما فيه من الوعيد الشديد مع كون ذلك ذريعة إلى التفضيل بين الأنبياء ، وقد نهينا عنه ، وقد جزم كثير من أئمة التفسير أنه نبينا ، وأطالوا في ذلك ، واستدلوا بما خصه الله به من المعجزات ، ومزايا الكمال ، وخصال الفضل ، وهم بهذا الجزم بدليل لا يدل على المطلوب ، قد وقعوا في خطرين ، وارتكبوا نهيين ، وهما : تفسير القرآن بالرأي ، والدخول في ذرائع التفضيل بين الأنبياء ، وإن لم يكن ذلك تفضيلاً صريحاً ، فهو ذريعة إليه بلا شك ، ولا شبهة؛ لأن من جزم بأن هذا البعض المرفوع درجات هو النبيّ الفلاني ، انتقل من ذلك إلى التفضيل المنهيّ عنه ، وقد أغني الله نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم عن ذلك بما لا يحتاج معه إلى غيره من الفضائل ، والفواضل ، فإياك أن تتقرّب إليه صلى الله عليه وسلم بالدخول في أبواب نهاك عن دخولها ، فتعصيه ، وتسيء ، وأنت تظن أنك مطيع محسن .
قوله : { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } أي : الآيات الباهرة ، والمعجزات الظاهرة من إحياء الأموات ، وإبراء المرضى ، وغير ذلك . قوله : { وأيدناه بِرُوحِ القدس } هو : جبريل ، وقد تقدّم الكلام على هذا . قوله : { وَلَوْ شَاء الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم } أي : من بعد الرسل ، وقيل : من بعد موسى ، وعيسى ، ومحمد؛ لأن الثاني مذكور صريحاً ، والأول ، والثالث وقعت الإشارة إليهما بقوله : { مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } أي : لو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا ، فمفعول المشيئة محذوف على القاعدة { ولكن اختلفوا } استثناء من الجملة الشرطية ، أي : ولكن الاقتتال ناشيء عن اختلافهم اختلافاً عظيماً حتى صاروا مللاً مختلفة { مِنْهُمْ مّنْ آمن وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء الله } عدم اقتتالهم بعد هذا الاختلاف { مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } لا رادّ لحكمه ، ولا مبدّل لقضائه ، فهو يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى : { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } قال : اتخذ الله إبراهيم خليلاً ، وكلم موسى تكليماً ، وجعل عيسى كمثل آدم { خلقه من تراب ، ثم قال له كن ، فيكون } [ آل عمران : 59 ] وهو عبد الله ، وكلمته وروحه ، وآتى داود زبوراً ، وآتى سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، وغفر لمحمد ما تقدم من ذنبه ، وما تأخر . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن مجاهد في قوله : { مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } قال : كلم الله موسى ، وأرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عامر الشعبي في قوله : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات } قال : محمداً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة { وَلَوْ شَاء الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم } يقول : من بعد موسى ، وعيسى . وأخرج ابن عساكر ، عن ابن عباس قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، ومعاوية إذ أقبل عليّ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية : " أتحب علياً؟ " قال : نعم قال " إنها ستكون بينكم فتنة هنيهة ، " قال معاوية : فما بعد ذلك يا رسول الله؟ قال : " عفو الله ورضوانه ، " قال : رضينا بقضاء الله ، فعند ذلك نزلت هذه الآية : { وَلَوْ شَاء الله مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } » قال السيوطي : وسنده واهٍ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
ظاهر الأمر في قوله : { أَنفَقُواْ } الوجوب ، وقد حمله جماعة على صدقة الفرض لذلك ، ولما في آخر الآية من الوعيد الشديد ، وقيل : إن هذه الآية تجمع زكاة الفرض ، والتطوّع . قال ابن عطية : وهذا صحيح ، ولكن ما تقدّم من الآيات في ذكر القتال ، وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله . قال القرطبي : وعلى هذا التأويل يكون إنفاق المال مرة واجباً ، ومرة ندباً بحسب تعين الجهاد ، وعدم تعينه . قوله : { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ } أي : أنفقوا ما دمتم قادرين { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ } ما لا يمكنكم الإنفاق فيه ، وهو : { يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ } أي : لا يتبايع الناس فيه . والخلة : خالص الموّدة مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين . أخبر سبحانه أنه لا خلة في يوم القيامة نافعة ، ولا شفاعة مؤثرة إلا لمن أذن الله له . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، بنصب لا بيع ولا خلة ، ولا شفاعة ، من غير تنوين . وقرأ الباقون برفعها منوّنة ، وهما لغتان مشهورتان للعرب ، ووجهان معروفان عند النحاة ، فمن الأوّل قول حسان بن ثابت :
ألا طِعانَ ألا فُرسانَ عَادِية ... ألا تجسُّؤكم حول التَّنَانير
ومن الثاني قول الراعي :
وما صَرَمْتِكِ حَتَّى قُلْتَ مُعْلِنَةً ... لا ناقة لِيَ في هَذَا وَلاَ جَمَلُ
ويجوز في غير القرآن التغاير برفع البعض ، ونصب البعض ، كما هو مقرر في علم الإعراب . قوله : { والكافرون هُمُ الظالمون } فيه دليل على أن كل كافر ظالم لنفسه ، ومن جملة من يدخل تحت هذا العموم مانع الزكاة منعاً يوجب كفره لوقوع ذلك في سياق الأمر بالإنفاق .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن جريج في قوله تعالى : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم } قال : من الزكاة ، والتطوّع . وأخرج ابن المنذر ، عن سفيان قال : يقال : نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن ، ونسخ شهر رمضان كل صوم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : قد علم الله أن ناساً يتخاللون في الدنيا ، ويشفع بعضهم لبعض ، فأما يوم القيامة ، فلا خلة إلا خلة المتقين . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن عطاء قال : الحمد لله الذي قال : { والكافرون هُمُ الظالمون } ولم يقل : والظالمون هم الكافرون .
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
قوله : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أي : لا معبود بحق إلا هو ، وهذه الجملة خبر المبتدأ . و { الحيّ } : الباقي . وقيل : الذي لا يزول ، ولا يحول . وقيل : المصرّف للأمور ، والمقدّر للأشياء . قال الطبري عن قوم إنه يقال : حيّ كما وصف نفسه ، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه ، وهو خبر ثان ، أو مبتدأ خبره محذوف . و { القيوم } : القائم على كل نفس بما كسبت . وقيل : القائم بذاته المقيم لغيره ، وقيل : القائم بتدبير الخلق ، وحفظه ، وقيل : هو الذي لا ينام ، وقيل : الذي لا بديل له . وأصل قيوم : قيووم اجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء . وقرأ ابن مسعود ، وعلقمة ، والنخعي ، والأعمش : «الحيّ القيام» بالألف ، وروي ذلك عن عمر ، ولا خلاف بين أهل اللغة أن القيوم أعرف عند العرب ، وأصح بناء ، وأثبت علة .
والسنة : النعاس في قول الجمهور ، والنعاس : ما يتقدّم النوم من الفتور ، وانطباق العينين ، فإذا صار في القلب صار نوماً . وفرق المفصّل بين السِّنَة ، والنعاس ، والنوم فقال : السنة من الرأس ، والنعاس في العين ، والنوم في القلب . انتهى . والذي ينبغي التعويل عليه في الفرق بين السنة والنوم ، أن السِّنة لا يفقد معها العقل ، بخلاف النوم ، فإنه استرخاء أعضاء الدماغ من رطوبات الأبخرة حتى يفقد معه العقل ، بل وجميع الإدراكات بسائر المشاعر ، والمراد : أنه لا يعتريه سبحانه شيء منهما ، وقدّم السنة على النوم ، لكونها تتقدّمه في الوجود . قال الرازي في تفسيره : إن السنة ما تتقدّم النوم ، فإذا كانت عبارة عن مقدّمة النوم ، فإذا قيل : لا تأخذه سنة دلّ على أنه لا يأخذه نوم بطريق الأولى ، فكان ذكر النوم تكراراً ، قلنا : تقدير الآية لا تأخذه سنة فضلاً عن أن يأخذه نوم ، والله أعلم بمراده . انتهى . وأقول : إن هذه الأولوية التي ذكرها غير مسلمة ، فإن النوم قد يرد ابتداء من دون ما ذكر من النعاس . وإذا ورد على القلب ، والعين دفعة واحدة ، فإنه يقال له نوم ، ولا يقال له سنة ، فلا يستلزم نفي السنة نفي النوم . وقد ورد عن العرب نفيهما جميعاً ، ومنه قول زهير :
وَلاَ سِنَةٌ طوالُ الدّهْرِ تَأخَذه ... وَلا يَنَامُ وَمَا في أمْرِه فَنَدُ
فلم يكتف بنفي السنة ، وأيضاً ، فإن الإنسان يقدر على أن يدفع عن نفسه السنة ، ولا يقدر على أن يدفع عن نفسه النوم ، فقد يأخذه النوم ، ولا تأخذه السنة ، فلو وقع الاقتصار في النظم القرآني على نفي السنة لم يفد ذلك نفي النوم ، وهكذا لو وقع الاقتصار على نفي النوم لم يفد نفي السنة ، فكم من ذي سِنة غير نائم . وكرّر حرف النفي للتنصيص على شمول النفي لكل واحد منهما .
قوله : { مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } في هذا الاستفهام من الإنكار على من يزعم أن أحداً من عباده يقدر على أن ينفع أحداً منهم بشفاعة ، أو غيرها ، والتقريع ، والتوبيخ له ما لا مزيد عليه ، وفيه من الدفع في صدور عباد القبور ، والصدّ في وجوههم ، والفت في أعضادهم ما لا يقادر قدره ، ولا يبلغ مداه ، والذي يستفاد منه فوق ما يستفاد من قوله تعالى : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] وقوله تعالى : { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } [ النبأ : 28 ] بدرجات كثيرة . وقد بينت الأحاديث الصحيحة الثابتة في دواوين الإسلام صفة الشفاعة ، ولمن هي ، ومن يقوم بها .
قوله : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } الضميران لما في السموات ، والأرض بتغليب العقلاء على غيرهم ، وما بين أيديهم ، وما خلفهم عبارة ، عن المتقدّم عليهم ، والمتأخر عنهم ، أو عن الدنيا ، والآخرة ، وما فيهما . قوله : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ } قد تقدّم معنى الإحاطة ، والعلم هنا بمعنى : المعلوم أي : لا يحيطون بشيء من معلوماته . قوله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } الكرسي الظاهر أنه الجسم الذي وردت الآثار بصفته كما سيأتي بيان ذلك . وقد نفي وجوده جماعة من المعتزلة ، وأخطئوا في ذلك خطأ بيناً ، وغلطوا غلطاً فاحشاً . وقال بعض السلف : إن الكرسي هنا عبارة عن العلم . قالوا : ومنه قيل للعلماء : الكراسي ، ومنه الكراسة التي يجمع فيها العلم ، ومنه قول الشاعر :
تَحُفُّ بِهْم بِيضُ الوُجُوه وعُصْبَةٌ ... كَراسيَّ بالأخْبَارِ حِينَ تَنُوبُ
ورجح هذا القول ابن جرير الطبري . وقيل : كرسيه : قدرته التي يمسك بها السموات والأرض ، كما يقال اجعل لهذا الحائط كرسياً ، أي ما يعمده ، وقيل : إن الكرسي هو العرش . وقيل : هو تصوير لعظمته ، ولا حقيقة له . وقيل : هو عبارة عن الملك . والحق القول الأوّل ، ولا وجه للعدول عن المعنى الحقيقي إلا مجرد خيالات تسببت ، عن جهالات وضلالات ، والمراد بكونه وسع السموات والأرض : أنها صارت فيه ، وأنه وسعها ، ولم يضق عنها لكونه بسيطاً واسعاً . وقوله : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } معناه : لا يثقله ثقال أدنى الشيء ، بمعنى أثقلني ، وتحملت منه مشقة . وقال الزجاج : يجوز أن يكون الضمير في قوله : { يَؤُودُهُ } لله سبحانه ، ويجوز أن يكون للكرسي؛ لأنه من أمر الله و { العليّ } يراد به علوّ القدرة ، والمنزلة . وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا : هو العليّ عن خلقه بارتفاع مكانه ، عن أماكن خلقه . قال ابن عطية : وهذه أقوال جهلة مجسِّمين ، وكان الواجب أن لا تحكى . انتهى .
والخلاف في إثبات الجهة معروف في السلف ، والخلف ، والنزاع فيه كائن بينهم ، والأدلة من الكتاب ، والسنة معروفة ، ولكن الناشيء على مذهب يرى غيره خارجاً عن الشرع ، ولا ينظر في أدلته ، ولا يلتفت إليها ، والكتاب ، والسنة هما المعيار الذي يعرف به الحق من الباطل ، ويتبين به الصحيح من الفاسد
{ وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السموات والأرض } [ المؤمنون : 71 ] ولا شك أن هذا اللفظ يطلق على الظاهر الغالب كما في قوله : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرض } [ القصص : 4 ] وقال الشاعر :
فَلَمَّا عَلَوْنَا واسْتَوْيَنا عليهم ... تَركْنَاهُمُ صَرْعى لِنْسرٍ وَكَاسرٍ
والعظيم بمعنى : عظم شأنه ، وخطره . قال في الكشاف : إن الجملة الأولى : بيان لقيامه بتدبير الخلق ، وكونه مهيمناً عليه غير ساهٍ عنه ، والثانية : بيان لكونه مالكاً لما يدبره . والجملة الثالثة : بيان لكبرياء شأنه . والجملة الرابعة : بيان لإحاطته بأحوال الخلق ، وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة ، وغير المرتضى . والجملة الخامسة : بيان لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها ، أو لجلاله ، وعظم قدره .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم في قوله : { الحى } أي : حيّ لا يموت و { القيوم } القائم الذي لا بديل له . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي عن مجاهد في قوله : { القيوم } قال : القائم على كل شيء . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : القيوم الذي لا زوال له . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } قال : السنة : النعاس ، والنوم هو : النوم . وأخرجوا إلا البيهقي عن السدّي قال : السنة ريح النوم الذي تأخذه في الوجه ، فينعس الإنسان . وأخرج ابن جرير ، عن مجاهد في قوله : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } قال : ما مضى من الدنيا : { وَمَا خَلْفَهُمْ } من الآخرة . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس : { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } ما قدّموا من أعمالهم { وَمَا خَلْفَهُمْ } ما أضاعوا من أعمالهم .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } قال : علمه ، ألا ترى إلى قوله : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } . وأخرج الدارقطني في الصفات ، والخطيب في تاريخه عنه قال : «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } قال : " كرسيه موضع قدمه ، " والعرش لا يقدّر قدره إلا الله عزّ وجلّ» . وأخرجه الحاكم وصححه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، والبيهقي عن أبي موسى الأشعري مثله موقوفاً . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس؛ قال : لو أن السموات السبع ، والأرضين السبع بسطن ، ثم وصلن بعضهنّ إلى بعض ما كنّ في سعته - يعني الكرسي -إلا بمنزلة الحلقة في المفازة . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي ذرّ الغفاري؛ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الكرسي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ما السموات السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة "
وأخرج عبد بن حميد ، والبزار ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، والطبراني ، والضياء المقدسي في المختارة عن عمر؛ قال : «أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالت : ادع الله أن يدخلني الجنة ، فعظم الربّ سبحانه وقال : " إن كرسيه وسع السموات والأرض ، وإن له أطيطاً كأطيط المرحل الحديد من ثقله " وفي إسناده عبد الله بن خليفة ، وليس بالمشهور . وفي سماعه من عمر نظر ، ومنهم من يرويه ، عن عمر موقوفاً . وأخرج ابن مردويه ، عن أبي هريرة مرفوعاً : أنه موضع القدمين . وفي إسناده الحكم بن ظهير الفزاري الكوفي وهو متروك . وقد ورد عن جماعة من السلف من الصحابة ، وغيرهم ، في وصف الكرسي آثار لا حاجة في بسطها . وقد روى أبو داود في كتاب السنة من سننه من حديث جبير بن مطعم حديثاً في صفته ، وكذلك أورد ابن مردويه عن بريدة ، وجابر ، وغيرهما . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } قال : لا يثقل عليه . وأخرج ابن أبي حاتم عنه : { وَلاَ يَؤُودُهُ } قال : ولا يكثره . وأخرج ابن جرير عنه قال : العظيم الذي قد كمل في عظمته .
واعلم أنه قد ورد في فضل هذه الآية أحاديث . فأخرج أحمد ، ومسلم ، واللفظ له عن أبيّ بن كعب : «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سأله " أيّ آية من كتاب الله أعظم؟ " قال : آية الكرسي ، قال : " ليهنك العلم أبا المنذر " وأخرج النسائي ، وأبو يعلى ، وابن حبان ، وأبو الشيخ في العظمة ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، عن أبيّ بن كعب : أنه كان له جُرْن فيه تمر ، فكان يتعاهده ، فوجده ينقص ، فحرسه ذات ليلة ، فإذا هو بدابة شبه الغلام المحتلم ، قال : فسلمت فردّ السلام ، فقلت : ما أنت ، جنيّ أم إنسي؟ قال : جنيّ ، قلت : ناولني يدك ، فناولني ، فإذا يده يد كلب ، وشعره شعر كلب ، فقلت : هكذا خلق الجنّ؟ قال : لقد علمت الجنّ أن ما فيهم من هو أشدّ مني ، قلت : ما حملك على ما صنعت؟ قال : بلغني أنك رجل تحبّ الصدقة ، فأحببنا أن نصيب من طعامك ، فقال له أبيّ : فما الذي يجيرنا منكم؟ قال : هذه الآية ، آية الكرسي التي في سورة البقرة «من قالها حين يمسي أجير منا حتى يصبح ، ومن قالها حين يصبح أجير منا حتى يمسي ، فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره ، فقال : " صدق الخبيث "
وأخرج البخاري في تاريخه ، والطبراني ، وأبو نعيم في المعرفة بسند رجاله ثقات عن ابن الأسقع البكري : «أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم في صُفَّة المهاجرين ، فسأله إنسان أيّ آية في القرآن أعظم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
" { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } " حتى انقضت الآية» . وأخرج أحمد من حديث أبي ذرّ مرفوعاً نحوه . وأخرج الخطيب البغدادي في تاريخه ، عن أنس مرفوعاً نحوه أيضاً . وأخرج الدارمي ، عن أيفع بن عبد الله الكلاعي نحوه . وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال : «وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني آت ، فجعل يحثو ، وذكر قصة ، وفي آخرها أنه قال له : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها ، قلت : ما هي؟ قال : إذا أويت إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسي ، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح ، فأخبر أبو هريرة بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أما إنه صدقك ، وهو كذوب ، تعلم من تخاطب يا أبا هريرة؟ " قال : لا ، قال : " ذلك شيطان كذا " وأخرج نحو ذلك أحمد عن أبي أيوب . وأخرج الطبراني ، والحاكم ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن معاذ بن جبل مرفوعاً نحوه .
وأخرج ابن مردويه ، عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أعظم آية في كتاب الله { الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم " وأخرج نحوه أحمد ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن أبي ذرّ مرفوعاً . وأخرج نحوه أيضاً أحمد ، والطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعاً . وأخرج سعيد ابن منصور ، والحاكم ، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه ، آية الكرسي " قال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . وأخرج الحاكم من حديث زائدة مرفوعاً " لكل شيء سنام ، وسنام القرآن سورة البقرة ، وفيها آية هي سيدة آي القرآن ، آية الكرسي " ، وقال : غريب لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير . وقد تكلم فيه شعبة ، وضعفه ، وكذا ضعفه أحمد ، ويحيى بن معين ، وغير واحد ، وتركه ابن مهدي ، وكذبه السعدي . وأخرج أبو داود ، والترمذي وصححه من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هاتين الآيتين { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } و { الما الله لا إله إلاهو } [ آل عمران : 1 ، 2 ] إن فيهما اسم الله الأعظم . وقد وردت أحاديث في فضلها غير هذه ، وورد أيضاً في فضل قراءتها دبر الصلوات ، وفي غير ذلك ، وورد أيضاً في فضلها مع مشاركة غيرها أحاديث ، وورد عن السلف في ذلك شيء كثير .
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
قد اختلف أهل العلم في قوله : { لا إِكْرَاهَ فِى الدين } على أقوال : الأوّل أنها منسوخة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام ، وقاتلهم ، ولم يرض منهم إلا بالإسلام ، والناسخ لها قوله تعالى : { ا ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين } [ التوبة : 73 ، التحريم : 9 ] وقال تعالى : { ياأيها الذين ءامَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } [ التوبة : 123 ] وقال : { سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ } [ الفتح : 16 ] ، وقد ذهب إلى هذا كثير من المفسرين . القول الثاني : أنها ليست بمنسوخة ، وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة ، وأنهم لا يُكْرَهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية ، بل الذين يُكْرَهون هم أهل الأوثان ، فلا يقبل منهم إلا الإسلام ، أو السيف ، وإلى هذا ذهب الشعبي ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك . القول الثالث أن هذه الآية في الأنصار خاصة ، وسيأتي بيان ما ورد في ذلك . القول الرابع : أن معناها : لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف إنه مكره ، فلا إكراه في الدين . القول الخامس : أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا على الإسلام . وقال ابن كثير في تفسيره : أي : لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام ، فإنه بيِّن واضح جليُّ دلائله ، وبراهينه لا تحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه ، بل من هداه الله للإسلام ، وشرح صدره ، ونوّر بصيرته دخل فيه على بينة ، ومن أعمى الله قلبه ، وختم على سمعه ، وبصره ، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً ، وهذا يصلح أن يكون قولاً سادساً . وقال في الكشاف في تفسيره هذه الآية : أي : لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار ، والقسر ، ولكن على التمكين ، والاختيار ، ونحوه قوله : { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ يونس : 99 ] أي : لو شاء لقسرهم على الإيمان ، ولكن لم يفعل ، وبني الأمر على الاختيار ، وهذا يصلح أن يكون قولاً سابعاً .
والذي ينبغي اعتماده ، ويتعين الوقوف عنده : أنها في السبب الذي نزلت لأجله محكمة غير منسوخة ، وهو أن المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد ، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده ، فلما أجليت يهود بني نضير كان فيهم من أبناء الأنصار ، فقالوا : لا ندع أبناءنا ، فنزلت ، أخرجه أبو داود ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وابن مردويه ، والبيهقي في السنن ، والضياء في المختارة عن ابن عباس . وقد وردت هذه القصة من وجوه ، حاصلها ما ذكره ابن عباس مع زيادات تتضمن أن الأنصار : قالوا إنما جعلناهم على دينهم أي : دين اليهود ، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا ، وأن الله جاء بالإسلام ، فلنكرههم؛ فلما نزلت خيرّ الأبناءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكرههم على الإسلام ، وهذا يقتضي أن أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام إذا اختاروا البقاء على دينهم ، وأدّوا الجزية .
وأما أهل الحرب ، فالآية وإن كانت تعمهم؛ لأن النكرة في سياق النفي ، وتعريف الدين يفيدان ذلك ، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، لكن قد خص هذا العموم بما ورد من آيات في إكراه أهل الحرب من الكفار على الإسلام .
قوله : { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } الرشد هنا : الإيمان ، والغيّ : الكفر أي : قد تميز أحدهما من الآخر . وهذا استئناف يتضمن التعليل لما قبله . والطاغوت : فعلوت من طغى يطغي ، ويطغو : إذا جاوز الحدّ . قال سيبويه : هو اسم مذكر مفرد أي : اسم جنس يشمل القليل ، والكثير ، وقال أبو علي الفارسي : إنه مصدر كرهبوت ، وجبروت يوصف به الواحد ، والجمع ، وقلبت لامه إلى موضع العين ، وعينه إلى موضع اللام كجبذ ، وجذب ، ثم تقلب الواو ألفاً لتحركها ، وتحرك ما قبلها ، فقيل : طاغوت ، واختار هذا القول النحاس ، وقيل : أصل الطاغوت في اللغة مأخوذ من الطغيان يؤدي معناه من غير اشتقاق ، كما قيل : لآلىء من اللؤلؤ . وقال المبرد : هو جمع . قال ابن عطية : وذلك مردود . قال الجوهري : والطاغوت : الكاهن ، والشيطان ، وكل رأس في الضلال ، وقد يكون واحداً . قال الله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } [ النساء : 60 ] وقد يكون جمعاً . قال الله تعالى : { أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت } والجمع الطواغيت أي : فمن يكفر بالشيطان ، أو الأصنام ، أو أهل الكهانة ، ورءوس الضلالة ، أو بالجميع { وَيُؤْمِن بالله } عزّ وجلّ بعد ما تميز له الرشد من الغيّ ، فقد فاز ، وتمسك بالحبل الوثيق أي : المحكم . والوثقى : فعلى من الوثاقة ، وجمعها وُثَق مثل الفضلى ، والفُضَل . وقد اختلف المفسرون في تفسير العروة الوثقى بعد اتفاقهم على أن ذلك من باب التشبيه ، والتمثيل لما هو معلوم بالدليل بما هو مدرك بالحاسة ، فقيل : المراد بالعروة الإيمان . وقيل : الإسلام . وقيل : لا إله إلا الله ، ولا مانع من الحمل على الجميع . والانفصام : الانكسار من غير بينونة . قال الجوهري : فصم الشيء : كسره من غير أن يبين . وأما القصم بالقاف ، فهو الكسر مع البينونة ، وفسر صاحب الكشاف الانفصام بالانقطاع .
قوله : { الله وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ } الوليّ : فعيل بمعنى فاعل ، وهو الناصر . وقوله : { يُخْرِجُهُم } تفسير للولاية ، أو حال من الضمير في وليّ ، وهذا يدل على أن المراد بقوله : { الذين كَفَرُواْ } الذين أرادوا الإيمان؛ لأن من قد وقع منه الإيمان قد خرج من الظلمات إلى النور إلا أن يراد بالإخراج إخراجهم من الشبه التي تعرض للإيمان ، فلا يحتاج إلى تقدير الإرادة ، والمراد بالنور في قوله : { يُخْرِجُونَهُم مّنَ النور إِلَى الظلمات } ما جاء به أنبياء الله من الدعوة إلى الدين ، فإن ذلك نور للكفار أخرجهم أولياؤهم عنه إلى ظلمة الكفر ، أي : قررهم أولياؤهم على ما هم عليه من الكفر بسبب صرفهم عن إجابة الداعي إلى الله من الأنبياء .
وقيل : المراد : بالذين كفروا هنا : الذين ثبت في علمه تعالى كفرهم يخرجهم أولياؤهم من الشياطين ، ورؤوس الضلال من النور الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها إلى ظلمات الكفر التي وقعوا فيها بسبب ذلك الإخراج .
وقد أخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي ، عن سعيد بن جبير نحو ما تقدّم ، عن ابن عباس من ذكر سبب نزول قوله تعالى : { لا إِكْرَاهَ فِى الدين } وزاد : أن النبي صلى الله عليه وسلم خيَّر الأبناء . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن الشعبي نحوه أيضاً ، وقال : فلحق بهم أي : ببني النضير من لم يسلم ، وبقي من أسلم . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال : كان ناس من الأنصار مسترضعين في بني قريظة ، فثبتوا على دينهم ، فلما جاء الإسلام أراد أهلوهم أن يكرهوهم على الإسلام ، فنزلت . وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه .
وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { لا إِكْرَاهَ فِى الدين } قال : نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين ، كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو رجلاً مسلماً ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا أستكرههما ، فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فنزلت . وأخرج عبد بن حميد ، عن عبد الله بن عبيدة نحوه . وكذلك أخرج أبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن السديّ نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير عن قتادة قال : كانت العرب ليس لها دين ، فأكرهوا على الدين بالسيف . قال : ولا تكرهوا اليهود ، ولا النصارى ، والمجوس إذا أعطوا الجزية . وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن نحوه . وأخرج البخاري عن أسلم : سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية : أسلمي تسلمي ، فأبت ، فقال : اللهم اشهد ، ثم تلا : { لا إِكْرَاهَ فِى الدين } وروى عنه سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم أنه قال لزنبق الرومي غلامه : لو أسلمت استعنت بك على أمانة المسلمين فأبى ، فقال : { لا إِكْرَاهَ فِى الدين } . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن سليمان بن موسى في قوله : { لا إِكْرَاهَ فِى الدين } قال : نسختها { جاهد الكفار والمنافقين } [ التوبة : 73 ] .
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب قال : الطاغوت : الشيطان .
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : الطاغوت الكاهن ، وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال : الطاغوت : الساحر . وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك بن أنس قال : الطاغوت ما يعبد من دون الله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : العروة الوثقى لا إله إلا الله . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم عن أنس بن مالك : أنها القرآن . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد : أنها الإيمان ، وعن سفيان : أنها كلمة الإخلاص . وقد ثبت في الصحيحين تفسير العروة الوثقى في غير هذه الآية بالإسلام مرفوعاً في تعبيره صلى الله عليه وسلم لرؤيا عبد الله بن سلام . وأخرج ابن عساكر عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ، فإنهما حبل الله الممدود ، فمن تمسك بهما ، فقد تمسك بعروة الله الوثقى التي لا انفصام لها » وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس قال : إذا وحد الله وآمن بالقدر فهي العروة الوثقى .
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن معاذ أنه سئل عن قوله : { لاَ انفصام لَهَا } قال : لا انقطاع لها دون دخول الجنة . وأخرج ابن المنذر ، والطبراني عن ابن عباس في قوله { الله وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ } الآية ، قال : هم قوم كانوا كفروا بعيسى فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم { والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت } الآية ، قال : هم قوم آمنوا بعيسى ، فلما بعث محمد كفروا به . وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : الظلمات الكفر . والنور : الإيمان . وأخرج أبو الشيخ عن السدي مثله .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
في هذه الآية استشهاد على ما تقدم ذكره ، من أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت ، وهمزة الاستفهام لإنكار النفي ، والتقرير المنفي ، أي : ألم ينته علمك ، أو نظرك إلى هذا الذي صدرت منه هذه المحاجة؟ قال الفراء : { ألم تر } بمعنى هل رأيت : أي : هل رأيت الذي حاجّ إبراهيم ، وهو النمروذ بن كوس بن كنعان بن سلم بن نوح ، وقيل : إنه النمروذ بن فالخ بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام . وقوله : { أَنْ آتاه الله الملك } أي : لأن آتاه الله ، أو من أجل أن آتاه الله ، على معنى : أن إيتاء الملك أبطره ، وأورثه الكبر ، والعتو ، فحاج لذلك ، أو على أنه وضع المحاجة التي هي أقبح وجوه الكفر موضع ما يجب عليه من الشكر ، كما يقال : عاديتني؛ لأني أحسنت إليك ، أو وقت أن آتاه الله الملك . وقوله : { إِذْ قَالَ إبراهيم } هو ظرف لحاج . وقيل : بدل من قوله : { أَنْ آتاه الله الملك } على الوجه الأخير ، وهو بعيد . قوله : { رَبّى * الذى يُحْيىِ وَيُمِيتُ } بفتح ياء ربي ، وقرىء بحذفها . وقوله : { أَنَاْ أحيى } قرأ جمهور القراء { أنا أحيى } بطرح الألف التي بعد النون من أنا في الوصل ، وأثبتها نافع ، وابن أبي أويس ، كما في قول الشاعر :
أنَا شَيْخُ العَشيرة فَاعْرِفُوني ... حُمْيداً قد تَذَرَّبْتُ السَّنامَا
أراد إبراهيم عليه السلام : أن الله هو : الذي يخلق الحياة ، والموت في الأجساد ، وأراد الكافر : أنه يقدر أن يعفو عن القتل ، فيكون ذلك إحياء ، وعلى أن يقتل ، فيكون ذلك إماتة ، فكان هذا جواباً أحمق لا يصح نصبه في مقابلة حجة إبراهيم؛ لأنه أراد غير ما أراده الكفار ، فلو قال له : ربه الذي يخلق الحياة ، والموت في الأجساد ، فهل تقدر على ذلك؟ لبهت الذي كفر باديء بدء ، وفي أوّل ، وهلة ، ولكنه انتقل معه إلى حجة أخرى تنفيساً لخناقه ، وإرسالاً لعنان المناظرة فقال : { إبراهيم فَإِنَّ الله يَأْتِى بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب } لكون هذه الحجة لا تجري فيها المغالطة ، ولا يتيسر للكافر أن يخرج عنها بمخرج مكابرة ، ومشاغبة .
قوله : { فَبُهِتَ الذى كَفَرَ } بُهِتَ الرجل ، وبَهُتَ ، وبَهِتَ : إذا انقطع ، وسكت متحيراً . قال ابن جرير : وحكى عن بعض العرب في هذا المعنى بهت بفتح الباء ، والهاء . قال ابن جني : قرأ أبو حيوة ، " فَبَهُتَ " بفتح الباء ، وضم الهاء ، وهي لغة في بهت بكسر الهاء؛ قال : وقرأ ابن السميفع ، " فبهت " بفتح الباء ، والهاء على معنى ، فبهت إبراهيم الذي كفر ، فالذي في موضع نصب ، قال : وقد يجوز أن يكون بهت بفتحهما لغة في بهت . وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة : «فبهت» بكسر الهاء ، قال : والأكثر بالفتح في الهاء .
قال ابن عطية : وقد تأوّل قومٌ في قراءة من قرأ ، « فبهت » بفتحهما أنه بمعنى سبَّ ، وقذف ، وأن النمروذ ، هو الذي سبّ حين انقطع ، ولم يكن له حيلة . انتهى . وقال سبحانه : { فَبُهِتَ الذى كَفَرَ } ولم يقل ، فبهت الذي حاجّ ، إشعاراً بأن تلك المحاجة كفر . وقوله : { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } تذييل مقرر لمضمون الجملة التي قبله .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن علي بن أبي طالب أن الذي حاجّ إبراهيم في ربه هو : نمروذ بن كنعان . وأخرجه ابن جرير ، عن مجاهد ، وقتادة ، والربيع ، والسديّ . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عن زيد بن أسلم : أن أول جبار كان في الأرض نمروذ ، وكان الناس يخرجون يمتارون من عنده الطعام ، فخرج إبراهيم عليه السلام يمتار مع من يمتار ، فإذا مرَّ به ناس قال : من ربكم؟ قالوا : أنت ، حتى مرّ به إبراهيم ، فقال : من ربك؟ قال : الذي يحيي ويميت ، قال : أن أحيي وأميت ، قال : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق ، فأت بها من المغرب ، فبهت الذي كفر ، فردّه بغير طعام . فرجع إبراهيم إلى أهله ، فمرّ على كثيب من رمل أصفر فقال : ألا آخذ من هذا فآتي به أهلي ، فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم ، فأخذ منه فأتى أهله ، فوضع متاعه ، ثم نام ، فقامت امرأته إلى متاعه ، ففتحته فإذا هي بأجود طعام رآه آخذ ، فصنعت له منه ، فقرّبته إليه ، وكان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام ، فقال : من أين هذا؟ قالت : من الطعام الذي جئت به ، فعرف أن الله رزقه ، فحمد الله ، ثم بعث الله إلى الجبار ملكاً أن آمن وأتركك على ملكك . قال : فهل ربّ غيري؟ فجاءه الثانية ، فقال له ذلك فأبى عليه ، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه ، فقال له الملك : فاجمع جموعك إلى ثلاثة أيام ، فجمع الجبار جموعه ، فأمر الله الملَك ، ففتح عليه باباً من البعوض ، وطلعت الشمس ، فلم يروها من كثرتها ، فبعثها الله عليهم ، فأكلت شحومهم ، وشربت دماءهم ، فلم يبق إلا العظام ، والملك كما هو لا يصيبه من ذلك شيء ، فبعث الله عليه بعوضة ، فدخلت في منخره ، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرحم الناس به من جمع يديه ، ثم ضرب بهما رأسه ، وكان جباراً أربعمائة سنة ، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه ، ثم أماته الله ، وهو الذي كان بنى صرحاً إلى السماء ، { فأتى الله بنيانه من القواعد } [ النحل : 26 ] . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس في الآية ، قال : هو نمروذ بن كنعان ، يزعمون أنه أوّل من ملك في الأرض أتى برجلين قتل أحدهما ، وترك الآخر ، فقال : { أنا أحيي وأميت } . وأخرج أبو الشيخ ، عن السدي : { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } قال : إلى الإيمان .
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
قوله : { أَوْ كالذى } " أو " للعطف حملاً على المعنى ، والتقدير : هل رأيت كالذي حاجّ ، أو كالذي مرّ على قرية؟ قاله الكسائي ، والفراء . وقال المبرد : إن المعنى : ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه؟ ألم تر من هو كالذي مرّ على قرية ، فحذف قوله من هو . وقد اختار جماعة أن الكاف زائدة ، واختار آخرون أنها إسمية . والمشهور أن القرية هي بيت المقدس بعد تخريب بختنصر لها ، وقيل : المراد بالقرية : أهلها . وقوله : { خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } أي : ساقطة على عروشها ، أي : سقط السقف ، ثم سقطت الحيطان عليه ، قاله السُّدِّيُ ، واختاره ابن جرير ، وقيل : معناه خالية من الناس ، والبيوت قائمة ، وأصل الخواء الخلوّ ، يقال خوت الدار وخويت تخوى خواء - ممدود - وخوياً ، وخويا : أقفرت ، والخواء أيضاً : الجوع لخلوّ البطن عن الغذاء ، والظاهر القول الأوّل بدلالة قوله : { على عُرُوشِهَا } من خوى البيت إذا سقط ، أو من خوت الأرض إذا تهدمت ، وهذه الجملة حالية : أي : من حال كونها كذلك . وقوله : { أنّى يُحْيِي هذه الله } أي : متى يحيي ، أو كيف يحيي ، وهو استبعاد لإحيائها ، وهي على تلك الحالة المشابهة لحالة الأموات المباينة لحالة الأحياء ، وتقديم المفعول لكون الاستبعاد ناشئاً من جهته لا من جهة الفاعل . فلما قال المارُّ هذه المقالة مستبعداً لإحياء القرية المذكورة بالعمارة لها ، والسكون فيها ضرب الله له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه { فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال : كان هذا القول شكاً في قدرة الله على الإحياء ، فلذلك ضرب له المثل في نفسه . قال ابن عطية : ليس يدخل شكّ في قدرة الله سبحانه على إحياء قرية بجلب العمارة إليها ، وإنما يتصور الشك إذا كان سؤاله ، عن إحياء موتاها .
وقوله : { مِاْئَةَ عَامٍ } منصوب على الظرفية . والعام : السنة أصله مصدر كالعوم سمي به هذا القدر من الزمان . وقوله : { بَعَثَهُ } معناه : أحياه . قوله : { قَالَ كَمْ لَبِثْتَ } هو استئناف كأنّ سائلاً سأله ماذا قال له بعد بعثه؟ واختلف في فاعل قال؛ فقيل : هو الله عزّ وجل ، وقيل : ناداه بذلك ملك من السماء ، قيل : هو جبريل ، وقيل : غيره ، وقيل : إنه نبيّ من الأنبياء . قيل : رجل من المؤمنين من قومه شاهده عند أنْ أماته الله ، وعمر إلى عند بعثه . والأول أولى لقوله فيما بعد { وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنشِزُهَا } وقرأ ابن عامر ، وأهل الكوفة إلا عاصماً { كَمْ لبثت } بإدغام الثاء في التاء لتقاربهما في المخرج . وقرأ غيرهم بالإظهار ، وهو أحسن لبعد مخرج الثاء من مخرج التاء . و«كم» في موضع نصب على الظرفية ، وإنما قال : { يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } بناء على ما عنده ، وفي ظنه ، فلا يكون كاذباً ، ومثله قول أصحاب الكهف
{ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } [ الكهف : 19 ] ومثله قوله صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين " لم تَقُصر ولم أنس " وهذا ما يؤيد قول من قال : إن الصدق ما طابق الاعتقاد ، والكذب ما خالفه . وقوله : { قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ } هو : استئناف أيضاً كما سلف : أي : ما لبثت يوماً ، أو بعض يوم بل لبثت مائة عام .
وقوله : { فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } أمره سبحانه أن ينظر إلى هذا الأثر العظيم من آثار القدرة ، وهو عدم تغير طعامه ، وشرابه مع طول تلك المدّة . وقرأ ابن مسعود : «وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه» وقرأ طلحة ابن مصرِّف «وانظر لطعامك وشرابك لمائة سنة» . وروى عن طلحة أيضاً أنه قرأ : «لم يسَّن» بإدغام التاء في السين ، وحذف الهاء . وقرأه الجمهور بإثبات الهاء في الوصل ، والتسنه مأخوذ من السنة أي : لم تغيره السنون ، وأصلها سنهة ، أو سنوة من سنهت النخلة ، وتسنهت : إذا أتت عليها السنون ، ونخلة سنا أي : تحمل سنة ، ولا تحمل أخرى ، وأسنهت عند بني فلان : أقمت عندهم ، وأصله يتسنا سقطت الألف للجزم ، والهاء للسكت . وقيل : هو من أسن الماء : إذا تغيَّر ، وكان يجب على هذا أن يقال يتأسن من قوله : { حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 26 ، 33 ] قاله أبو عمرو الشيباني . وقال الزجاج : ليس كذلك؛ لأن قوله { مَّسْنُونٍ } ليس معناه متغير ، وإنما معناه مصبوب على سنَّه الأرض . وقوله : { وانظر إلى حِمَارِكَ } اختلف المفسرون في معناه ، فذهب الأكثر إلى أن معناه : انظر إليه كيف تفرّقت أجزاؤه ، ونخرت عظامه ، ثم أحياه الله ، وعاد كما كان . وقال الضحاك ، ووهب بن منبه : انظر إلى حمارك قائماً في مربطه لم يصبه شيء بعد أن مضت عليه مائة عام ، ويؤيد القول الأول قوله تعالى : { وانظر إِلَى العظام كَيْفَ ننشزها } ويؤيد القول الثاني مناسبته لقوله : { فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } وإنما ذكر سبحانه عدم تغير طعامه ، وشرابه ، بعد إخباره أنه لبث مائة عام ، مع أن عدم تغير ذلك الطعام ، والشراب لا يصلح أن يكون دليلاً على تلك المدة الطويلة ، بل على ما قاله من لبثه يوماً ، أو بعض يوم لزيادة استعظام ذلك الذي أماته الله تلك المدة ، فإنه إذا رأى طعامه ، وشرابه لم يتغير مع كونه قد ظنّ أنه لم يلبث إلا يوماً ، أو بعض يوم زادت الحيرة ، وقويت عليه الشبهة ، فإذا نظر إلى حماره عظاماً نخرة تقرّر لديه أن ذلك صنع من تأتي قدرته بما لا تحيط به العقول ، فإن الطعام ، والشراب سريع التغير . وقد بقي هذه المدّة الطويلة غير متغير ، والحمار يعيش المدة الطويلة .
وقد صار كذلك { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] . قوله : { وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً لِلنَّاسِ } قال الفراء : إنه أدخل الواو في قوله : { وَلِنَجْعَلَكَ } دلالةً على أنها شرط لفعل بعدها؛ معناه : ولنجعلك آية للناس ، ودلالة على البعث بعد الموت جعلنا ذلك . وإن شئت جعلت الواو مقحمة زائدة . قال الأعمش : موضع كونه آية هو أنه جاء شباباً على حاله يوم مات ، فوجد الأبناء ، والحفدة شيوخاً .
قوله : وانظر إلى العظام كيف ننشزها» قرأ الكوفيون ، وابن عامر بالزاي ، والباقون بالراء . وروى أبان عن عاصم : «نَنْشُرها» بفتح النون الأولى ، وسكون الثانية ، وضم الشين ، والراء . وقد أخرج الحاكم وصححه ، عن زيد بن ثابت؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قرأ : «كيف ننشزها» بالزاي . فمعنى القراءة بالزاي نرفعها ، ومنه النشر : وهو المرتفع من الأرض : أي : يرفع بعضها إلى بعض . وأما معنى القراءة بالراء المهملة ، فواضحة من أنشر الله الموتى أي : أحياهم ، وقوله : { ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا } أي : نسترها به كما نستر الجسد باللباس ، فاستعار اللباس لذلك ، كما استعاره النابغة للإسلام ، فقال :
فَالْحَمْدُ للهِ إِذ لَمْ يَأتِنِي أَجَلي ... حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإِسْلاَمِ سِرْبَالاَ
قوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ } أي : ما تقدّم ذكره من الآيات التي أراه الله سبحانه ، وأمره بالنظر إليها ، والتفكر فيها : { قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } لا يستعصي عليه شيءٌ من الأشياء . قال ابن جرير : المعنى في قوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ } أي : لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل عيانه . { قَالَ أَعْلَمُ } وقال أبو علي الفارسي معناه : أعلم أن هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته . وقرأ حمزة ، والكسائي : " قَالَ أَعْلَمُ " على لفظ الأمر خطاباً لنفسه على طريق التجريد .
وقد أخرج عبد بن حيمد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن عليّ في قوله : { أَوْ كالذى مَرَّ على قَرْيَةٍ } قال : خرج عزير نبيّ الله من مدينته ، وهو شاب ، فمرّ على قرية خَرِبة ، وهي خاوية على عروشها ، فقال : { أنى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه } فأوّل ما خلق الله عيناه ، فجعل ينظر إلى عظامه ينضم بعضها إلى بعض ، ثم كسيت لحماً ، ثم نفخ فيه الروح ، فقيل له : { كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ } فأتى مدينته . وقد ترك جاراً له إسكافاً شاباً ، فجاء ، وهو شيخ كبير .
وقد روي عن جماعة من السلف أن الذي أماته الله عزير ، منهم ابن عباس عند ابن جرير ، وابن عساكر ، ومنهم عبد الله بن سلام عند الخطيب ، وابن عساكر ، ومنهم عكرمة ، وقتادة ، وسليمان ، وبريدة ، والضحاك ، والسديّ عند ابن جرير ، وورود عن جماعة آخرين أن الذي أماته الله هو نبيّ اسمه أرمياء ، فمنهم عبد الله بن عبيد بن عمير ، عند عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، ومنهم : وهب بن منبه ، عند عبد الرزاق ، وابن جرير ، وأبي الشيخ .
وأخرج ابن إسحاق عنه أيضاً أنه الخضر . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن رجل من أهل الشام أنه حزقيل . وروى ابن كثير ، عن مجاهد أنه رجل من بني إسرائيل . والمشهور القول الأوّل ،
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { خَاوِيَةٍ } قال : خراب . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة قال : { خَاوِيَةٍ } ليس فيها أحد . وأخرج أيضاً عن الضحاك قال : { على عُرُوشِهَا } سقوفها . وأخرج ابن جرير ، عن السديّ قال : ساقطة على سقوفها . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : { لَبِثْتُ يَوْمًا } ثم التفت فرأى الشمس ، فقال : { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } . وأخرج عنه أيضاً قال : كان طعامه الذي معه سلة من تين ، وشرابه زقّ من عصير . وأخرج أيضاً عن مجاهد نحوه . وأخرج أبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لَمْ يَتَسَنَّهْ } قال : لم يتغير . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير قال : { لَمْ يَتَسَنَّهْ } لم ينتن . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن مسعود في قوله : { وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً لِلنَّاسِ } مثل ما تقدّم عن الأعمش ، وكذلك أخرج مثله أيضاً عن عكرمة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { كَيْفَ نُنشِزُهَا } قال : نخرجها . وأخرج ابن جرير ، عن زيد بن ثابت قال : نحييها .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
قوله : " وَإِذْ " ظرف منصوب بفعل محذوف ، أي : اذكر وقت قول إبراهيم ، وإنما كان الأمر بالذكر موجهاً إلى الوقت دون ما وقع فيه مع كونه المقصود لقصد المبالغة؛ لأن طلب وقت الشيء يستلزم طلبه بالأولى ، وهكذا يقال في سائر المواضع الواردة في الكتاب العزيز بمثل هذا الظرف . وقوله : { رَبّ } آثره على غيره لما فيه من الاستعطاف الموجب لقبول ما يرد بعده من الدعاء . وقوله : { أَرِنِى } قال الأخفش : لم يرد رؤية القلب ، وإنما أراد رؤية العين ، وكذا قال غيره ، ولا يصح أن يراد الرؤية القلبية هنا؛ لأن مقصود إبراهيم أن يشاهد الإحياء لتحصل له الطمأنينة ، والهمزة الداخلة على الفعل لقصد تعديته إلى المفعول الثاني ، وهو الجملة : أعني قوله : { كَيْفَ تُحْىِ الموتى } وكيف : في محل نصب على التشبيه بالظرف ، أو بالحال ، والعامل فيها الفعل الذي بعدها . وقوله : { أَوَلَمْ تُؤْمِن } عطف على مقدر أي : ألم تعلم ، ولم تؤمن بأني قادر على الإحياء حتى تسألني إراءته؟ { قَالَ بلى } علمت ، وآمنت بأنك قادر على ذلك ، ولكن سألت ليطمئن قلبي باجتماع دليل العيان إلى دلائل الإيمان .
وقد ذهب الجمهور إلى أن إبراهيم لم يكن شاكاً في إحياء الموتى قط ، وإنما طلب المعاينة لما جُبلت عليه النفوس البشرية من رؤية ما أخبرت عنه ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس الخبر كالمعاينة " وحكى ابن جرير ، عن طائفة من أهل العلم أنه سأل ذلك؛ لأنه شك في قدرة الله . واستدلوا بما صح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين ، وغيرهما من قوله : " نحن أحق بالشك من إبراهيم " وبما روى عن ابن عباس أنه قال : «ما في القرآن عندي آية أرجى منها» . أخرجه عنه عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، ورجح هذا ابن جرير بعد حكايته له . قال ابن عطية : وهو عندي مردود ، يعني : قول هذه الطائفة ، ثم قال : وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم : " نحن أحق بالشك من إبراهيم " فمعناه : أنه لو كان شاكاً لكنا نحن أحق به ، ونحن لا نشك ، فإبراهيم أحرى أن لا يشك . فالحديث مبني على نفي الشكّ عن إبراهيم . وأما قول ابن عباس : هي أرجى آية ، فمن حيث أن فيها الإدلال على الله ، وسؤال الإحياء في الدنيا ، وليست مظنة ذلك . ويجوز أن نقول هي أرجى آية لقوله : { أَوَلَمْ تُؤْمِن } أي : أن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير ، وبحث ، قال : فالشك يبعد على من ثبت قدمه في الإيمان فقط ، فكيف بمرتبة النبوة ، والخلة؟ والأنبياء معصومون من الكبائر ، ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً ، وإذا تأملت سؤاله عليه السلام ، وسائر الألفاظ للآية لم تعط شكاً ، وذلك أن الاستفهام ب { كيف } إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل ، والمسئول نحو قولك : كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا ، ومتى قلت : كيف ثوبك؟ وكيف زيد؟ فإنما السؤال عن حال من أحواله .
وقد تكون { كيف } خبراً ، عن شيء شأنه أن يستفهم ، عنه بكيف نحو قولك : كيف شئت فكن ، ونحو قول البخاري : كيف كان بدء الوحي؟ وهي في هذه الآية استفهام ، عن هيئة الإحياء ، والإحياء متقرّر ، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبرون ، عن إنكاره بالاستفهام ، عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح ، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح ، مثال ذلك أن يقول مدُعَّ : أنا أرفع هذا الجبل ، فيقول المكذب له : أرني كيف ترفعه . فهذه طريقة مجاز في العبارة ، ومعناها تسليم جدل ، كأنه يقول : افرض أنك ترفعه . فلما كان في عبارة الخليل هذا الاشتراك المجازي خلص الله له ذلك ، وحمله على أن بين له الحقيقة ، فقال له : { أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى } فكمل الأمر ، وتخلص من كل شيء ، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة .
قال القرطبي : هذا ما ذكره ابن عطية ، وهو بالغ ، ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك ، فإنه كفر ، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث . وقد أخبر الله سبحانه أن أنبياءه ، وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل : فقال : { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان } [ الإسراء : 65 ] . وقال اللعين : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ الحجر : 40 ] وإذا لم يكن له عليهم سلطنة ، فكيف يشككهم ، وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها ، واتصال الأعصاب ، والجلود بعد تمزيقها ، فأراد أن يرقى من علم اليقين إلى عين اليقين ، فقوله : { أَرِنِى كَيْفَ } طلب مشاهدة الكيفية . قال الماوردي : وليست الألف في قوله : { أَوَلَمْ تُؤْمِن } ألف الاستفهام ، وإنما هي ألف إيجاب ، وتقرير ، كما قال جرير :
ألَستُم خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا ... وَأنْدَى العَالَمين بُطونَ رَاحِ
والواو واو الحال ، و { تؤمن } : معناه إيماناً مطلقاً دخل فيه فضل إحياء الموتى ، والطمأنينة : اعتدال ، وسكون . وقال ابن جرير : معنى : { لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } ليوقن . قوله : { فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطير } الفاء جواب شرط محذوف أي : إن أردت ذلك فخذ ، والطير : اسم جمع لطائر كركب لراكب ، أو جمع ، أو مصدر ، وخص الطير بذلك ، قيل : لأنه أقرب أنواع الحيوان إلى الإنسان ، وقيل : إن الطير همته الطيران في السماء ، والخليل كانت همته العلوّ ، وقيل : غير ذلك من الأسباب الموجبة لتخصيص الطير . وكل هذه لا تسمن ، ولا تغني من جوع ، وليس إلا خواطر أفهام ، وبوادر أذهان لا ينبغي أن تجعل وجوها لكلام الله ، وعللاً لما يرد في كلامه ، وهكذا قيل : ما وجه تخصيص هذا العدد ، فإن الطمأنينة تحصل بإحياء واحد؟ فقيل إن الخليل إنما سأل واحداً على عدد العبودية ، فأعطى أربعاً على قدر الربوبية ، وقيل : إن الطيور الأربعة إشارة إلى الأركان الأربعة التي منها تتركب أركان الحيوان ، ونحو ذلك من الهذيان .
قوله : { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } قرىء بضم الصاد ، وكسرها أي : اضممهنّ إليك ، وأملْهُنّ ، واجمعهن ، يقال : رجل أصور : إذا كان مائل العنق ، ويقال : صار الشيء يصوره : أماله . قال الشاعر :
اللهُ يَعْلَمُ أَنَّا في تَلَفِتُّنا ... يَوْمَ الفِرَاقِ إلى جِيَرانِنا صُورُ
وقيل : معناه قطعهنّ . يقال صار الشيء يصوره ، أي : قطعه ، ومنه قول توبة بن الحميِّر :
فَأَدْنَتَ لي الأَسْبَابَ حَتَّى بَلَغْتُها ... بِنَهْضِى وَقَد كَادَ اجْتِماعِي يَصُورُهَا
أي : يقطعها ، وعلى هذا يكون قوله : { إِلَيْكَ } متعلقاً بقوله : { خُذ } . وقوله : { ثُمَّ اجعل على كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا } فيه الأمر بالتجزئة؛ لأن جعل كل جزء على جبل تستلزم تقدّم التجزئة . قال الزجاج : المعنى ، ثم اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءاً ، والجزء : النصيب . وقوله : { يَأْتِينَكَ } في محل جزم على أنه جواب الأمر ، ولكنه بُنِي لأجل نون الجمع المؤنث . وقوله : { سَعْيًا } المراد به : الإسراع في الطيران ، أو المشي .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، عن ابن عباس قال : إن إبراهيم مرّ برجل ميت زعموا أنه حبشي على ساحل البحر ، فرأى دواب البحر تخرج ، فتأكل منه ، وسباع الأرض تأتيه ، فتأكل منه ، والطير يقع عليه ، فيأكل منه ، فقال إبراهيم عند ذلك : ربّ ، هذه دواب البحر تأكل من هذا ، وسباع الأرض ، والطير ، ثم تميت هذه فتبلى ، ثم تحييها ، فأرني كيف تحيي الموتى؟ { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن } يا إبراهيم أني أحيي الموتى؟ { قَالَ بلى } يا ربّ { ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } يقول : لأرى من آياتك ، وأعلم أنك قد أجبتني ، فقال الله : خذ أربعاً من الطير ، واصنع ما صنع ، والطير الذي أخذ : وز ، ورأل ، وديك ، وطاوس ، وأخذ نصفين مختلفين : ثم أتى أربعة أجْبُل ، فجعل على كل جبل نصفين مختلفين ، وهو قوله : { ثُمَّ اجعل على كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءاً } ثم تنحى ورءوسها تحت قدميه ، فدعا باسم الله الأعظم ، فرجع كل نصف إلى نصفه ، وكل ريش إلى طائره ، ثم أقبلت تطير بغير رءوس إلى قدميه تريد رءوسها بأعناقها ، فرفع قدميه ، فوضع كل طائر منها عنقه في رأسه ، فعادت كما كانت . وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة نحوه . وأخرج أيضاً ، عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن الحسن ، نحوه .
وأخرج ابن جرير ، عن ابن جريج أنها كانت جيفة حمار . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } يقول : أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك ، وتعطيني إذا سألتك .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطير } قال : الغرنوق ، والطاوس ، والديك ، والحمامة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، قال الأربعة من الطير : الديك ، والطاوس ، والغراب ، والحمام وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن عباس : { قصرهنّ } قال : قطعهنّ . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه قال : هي بالنبطية : شققهن . وأخرجا عنه أنه قال : { فَصُرْهُنَّ } أوثقهنّ ، وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : وضعهن على سبعة أجبل ، وأخذ الرءوس بيده ، فجعل ينظر إلى القطرة تلقي القطرة ، والريشة تلقي الريشة حتى صرن أحياء ليس لهن رءوس ، فجئن إلى رءوسهن ، فدخلن فيها .
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
قوله : { كَمَثَلِ حَبَّةٍ } لا يصح جعل هذا خبراً عن قوله : { مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ } لاختلافهما ، فلا بد من تقدير محذوف إما في الأوّل أي : مثل نفقة الذين ينفقون ، أو في الثاني : أي : كمثل زارع حبة ، والمراد بالسبع السنابل : هي التي تخرج في ساق واحد يتشعب منه سبع شعب في كل شعبة سنبلة ، والحبة اسم لكل ما يزدرعه ابن آدم ، ومنه قول المتلمس :
آليتُ حَبّ العراق الدَّهْر أطْعمه ... والحَبُّ يأكُله في القَرْيةِ السُّوسُ
قيل : المراد بالسنابل هنا سنابل الدخن ، فهو الذي يكون في السنبلة منه هذا العدد . وقال القرطبي : إن سنبل الدُّخن يجيء في السنبلة منه أكثر من هذا العدد بضعفين ، وأكثر على ما شاهدنا . قال ابن عطية : وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة ، وأما في سائر الحبوب ، فأكثر ، ولكن المثال ، وقع بهذا القدر . وقال الطبري : إن قوله : { فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ } معناه إن وجد ذلك ، وإلا فعلى أن تفرضه . قوله : { والله يضاعف لِمَن يَشَاء } يحتمل أن يكون المراد : يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء ، أو يضاعف هذا العدد ، فيزيد عليه أضعافه لمن يشاء ، وهذا هو الراجح لما سيأتي . وقد ورد القرآن بأن الحسنة بعشر أمثالها ، واقتضت هذه الآية بأن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف ، فيبني العام على الخاص ، وهذا بناء على أن سبيل الله هو الجهاد فقط ، وأما إذا كان المراد به : وجوه الخير ، فيخص هذا التضعيف إلى سبعمائة بثواب النفقات ، وتكون العشرة الأمثال فيما عدا ذلك . قوله : { الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله } هذه الجملة متضمنة لبيان كيفية الإنفاق الذي تقدّم ، أي : هو إنفاق الذين ينفقون ، ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ، ولا أذى . والمنّ هو : ذكر النعمة على معنى التعديد لها ، والتقريع بها ، وقيل : المنّ : التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطي فيؤذيه ، والمن من الكبائر ، كما ثبت في صحيح مسلم ، وغيره أنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب عظيم . والأذى : السب ، والتطاول ، والتشكي . قال في الكشاف : ومعنى : «ثم» إظهار التفاوت بين الإنفاق ، وترك المنّ ، والأذى ، وإن تركهما خير من نفس الإنفاق ، كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدخول فيه بقوله { ثُمَّ استقاموا } [ فصلت : 30 ] . انتهى . وقدم المنّ على الأذى لكثرة وقوعه ، ووسط كلمة " لا " للدلالة على شمول النفي . وقوله : { عِندَ رَبّهِمْ } فيه تأكيد ، وتشريف . وقوله : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } ظاهره نفي الخوف عنهم . في الدارين لما تفيده النكرة الواقعة في سياق النفي من الشمول ، وكذلك { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } يفيد دوام انتفاء الحزن عنهم .
قوله : { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ } قيل : الخبر محذوف أي : أولى ، وأمثل ، ذكره النحاس . قال : ويجوز أن يكون خبراً ، عن مبتدأ محذوف ، أي : الذي أمرتم به قول معروف . وقوله : { وَمَغْفِرَةٌ } مبتدأ أيضاً ، وخبره قوله : { خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ } وقيل : إن قوله : { خير } خبر عن قوله : { قول معروف } وعن قوله : { ومغفرة } وجاز الابتداء بالنكرتين؛ لأن الأولى تخصصت بالوصف ، والثانية بالعطف ، والمعنى : أن القول المعروف من المسؤول للسائل ، وهو التأنيس ، والترجية بما عند الله ، والرد الجميل خير من الصدقة التي يتبعها أذى . وقد ثبت في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم : « الكلمة الطيبة صدقة » ، و « إن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق » وما أحسن ما قاله ابن دريد :
لا تدخلنَّك ضَجرةٌ من سائل ... فَلخيرُ دهِركَ أنْ ترى مَسْئولا
لاَ تَجْبَهنْ برّد وجه مؤملٍ ... فَبَقَاءُ عِزَّك أن تُرى مَأمُولاَ
والمراد بالمغفرة : الستر للخلة ، وسوء حالة المحتاج ، والعفو عن السائل إذا صدر منه من الإلحاح ما يكدر صدر المسئول ، وقيل : المراد : أن العفو من جهة السائل؛ لأنه إذا ردة رداً جميلاً عذره ، وقيل : المراد : فعل يؤدى إلى المغفرة خير من صدقة أي : غفران الله خير من صدقتكم . وهذه الجملة مستأنفة مقدرة لترك اتباع المنِّ ، والأذى للصدقة .
قوله : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والاذى } الإبطال للصدقات : إذهاب أثرها ، وإفساد منفعتها ، أي : لا تبطلوها بالمنِّ ، والأذى ، أو بأحدهما ، قوله : { كالذى } أي : إبطالاً كإبطال الذي على أنه نعت لمصدر محذوف ، ويجوز أن يكون حالاً أي : لا تبطلوا مشابهين للذي ينفق ماله رئاء الناس ، وانتصاب رئاء على أنه علة لقوله : { يُنفِقُ } أي : لأجل الرئاء ، أو حال أي ينفق مرائياً لا يقصد بذلك وجه الله ، وثواب الآخرة ، بل يفعل ذلك رياء للناس استجلاباً لثنائهم عليه ، ومدحهم له . قيل : والمراد به : المنافق بدليل قوله : { وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الاخر } . قوله : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } الصفوان : الحجر ، الكبير ، الأملس . وقال الأخفش : صفوان جمع صفوانة . وقال الكسائي : صفوان : واحد ، وجمعه صفي ، وأصفى ، وأنكره المبرد . وقال النحاس : يجوز أن يكون جمعاً ، ويجوز أن يكون واحداً ، وهو أولى لقوله : { عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ } والوابل المطر الشديد ، مثل الله سبحانه هذا المنفق بصفوان عليه تراب يظنه الظانّ أرضاً منبتة طيبة ، فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب ، وبقي صلداً أي : أجرد نقياً من التراب الذي كان عليه ، فكذلك هذا المرائي ، فإن نفقته لا تنفعه ، كما لا ينفع المطر الواقع على الصفوان الذي عليه تراب . قوله : { لاَّ يَقْدِرُونَ على شَىْء مّمَّا كَسَبُواْ } أي : لا ينتفعون بما فعلوه رياء ، ولا يجدون له ثواباً ، والجملة مستأنفة ، كأنه قيل : ماذا يكون حالهم حينئذ؟ فقيل : لا يقدرون الخ ، والضميران للموصول أي : كالذي باعتبار المعنى ، كما في قوله تعالى :
{ وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ } [ التوبة : 69 ] أي : الجنس ، أو الجمع ، أو الفريق .
قوله : { وَمَثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم ابتغاء مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ } قيل : إن قوله : { ابتغاء مرضات الله } مفعول له ، و { تثبيتاً } معطوف عليه ، وهو أيضاً مفعول له . أي : الإنفاق لأجل الابتغاء . والتثبيت كذا قال مكي في المشكل . قال ابن عطية : وهو مردود لا يصح في { تثبيتاً } أنه مفعول من أجله؛ لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت . قال : { ابتغاء } نصب على المصدر في موضع الحال ، وكان يتوجه فيه النصب على المفعول من أجله ، لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو تثبيتاً عليه ، وابتغاء معناه طلب ، ومرضات مصدر رضي يرضى ، وتثبيتاً معناه : أنهم يتثبتون من أنفسهم ببذل أموالهم على الإيمان ، وسائر العبادات رياضة لها ، وتدريباً ، وتمريناً ، أو يكون التثبيت بمعنى التصديق أي : تصديقاً للإسلام ناشئاً من جهة أنفسهم . وقد اختلف السلف في معنى هذا الحرف ، فقال الحسن ، ومجاهد : معناه أنهم يتثبتون أين يضعوا صدقاتهم ، وقيل : معناه : تصديقاً ، ويقيناً ، روى ذلك عن ابن عباس ، وقيل : معناه : احتساباً من أنفسهم ، قاله قتادة ، وقيل : معناه : أن أنفسهم لها بصائر ، فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تثبيتاً . قاله الشعبي ، والسديّ ، وابن زيد ، وأبو صالح ، وهذا أرجح مما قبله . يقال ثَبَّتُّ فلاناً في هذا الأمر أثَبِّتُه تثبيتاً : أي : صححتُ عزمه
قوله : { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ } الجنة : البستان ، وهي أرض تنبت فيها الأشجار حتى تغطيها ، مأخوذة من لفظ الجن ، والجنين لاستتارها . والربوة : المكان المرتفع ارتفاعاً يسيراً ، وهي مثلثة الراء ، وبها قرىء؛ وإنما خص الربوة ، لأن نباتها يكون أحسن من غيره ، مع كونه لا يصطلمه البرد في الغالب للطافة هوائه بهبوب الرياح الملطفة له ، قال الطبري : وهي رياض الحزن التي تستكثر العرب من ذكرها ، واعترض ابن عطية ، فقال : إن رياض الحزن منسوبة إلى نجد؛ لأنها خير من رياض تهامة ، ونبات نجد أعطر ، ونسيمه أبرد وأرق ، ونجد يقال لها : حزن ، وليست هذه المذكورة هنا من ذاك ، ولفظ الربوة مأخوذ من ربا يربو إذا زاد . وقال الخليل الربوة : أرض مرتفعة طيبة . والوابل : المطر الشديد ، كما تقدم ، يقال : وبلت السماء تبل ، والأرض موبولة . قال الأخفش : ومنه قوله تعالى : { أَخْذاً وَبِيلاً } [ المزمل : 16 ] أي : شديداً ، وضرب وبيل ، وعذاب وبيل { فَأَتَتْ أُكُلَهَا } بضم الهمزة : الثمر الذي يؤكل كقوله تعالى : { تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } [ إبراهيم : 25 ] وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص ، كسرج الفرس ، وباب الدار قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمر : و « أكلها » بضم الهمزة ، وسكون الكاف تخفيفاً . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بتحريك الكاف بالضم . وقوله : { ضِعْفَيْنِ } أي : مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل .
فالمراد بالضعف : المثل . وقيل : أربعة أمثال ، ونصبه على الحال من أكلها أي : مضاعفاً .
قوله : { فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } أي : فإن الطلّ يكفيها : وهو المطر الضعيف المستدقّ القطر . قال المبرد ، وغيره : وتقديره : فطل يكفيها . وقال الزجاج : تقديره ، فالذي يصيبها طلّ ، والمراد أن الطلّ ينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين . وقال قوم : الطل : الندى ، وفي الصحاح : الطل : أضعف المطر ، والجمع : أطلال . قال الماوردي : وزرع الطل أضعف من زرع المطر . والمعنى : أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله لا تضيع بحال ، وإن كانت متفاوتة ، ويجوز أن يعتبر التمثيل ما بين حالهم باعتبار ما صدر عنهم من النفقة الكثيرة والقليلة ، وبين الجنة المعهودة باعتبار ما أصابها من المطر الكثير ، والقليل ، فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكلها ، فكذلك نفقتهم جلَّت ، أو قلت بعد أن يطلب بها وجه الله زاكية زائدة في أجورهم . وقوله : { والله بِمَا تَعْلَمُونَ بَصِيرٌ } . قرأ الزهري بالتاء التحتية . وقرأ الجمهور بالفوقية ، وفي هذا ترغيب لهم في الإخلاص مع ترهيب من الرياء ، ونحوه ، فهو وعد ، ووعيد .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم في قوله : { كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } عن الربيع قال : كان من «بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة ، ورابط معه بالمدينة ، ولم يذهب وجهاً ، إلا بإذنه ، كانت له الحسنة بسبعمائة ضعف ، ومن بايع على الإسلام كانت الحسنة له عشر أمثالها» . وأخرج أحمد ، والنسائي ، والحاكم ، والبيهقي ، عن ابن مسعود : أن رجلاً تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة " وأخرج أحمد ، والترمذي وحسنه ، والنسائي ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن خُزيم بن فاتك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أنفق نفقة في سبيل الله كتب له سبعمائة ضعف " وأخرجه البخاري في تاريخه من حديث أنس . وأخرجه أحمد من حديث أبي عبيدة وزاد : " ومن أنفق على نفسه ، وأهله ، أو عاد مريضاً ، فالحسنة بعشر أمثالها " وأخرج نحوه النسائي في الصوم . وأخرج ابن ماجه ، وابن أبي حاتم ، من حديث عمران بن حصين ، وعلي ، وأبي الدرداء ، وأبي هريرة ، وأبي أمامة ، وعبد الله بن عمرو ، وجابر ، كلهم ، يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أرسل بنفقة في سبيل الله ، وأقام في بيته ، فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة درهم ، ومن غزا بنفسه في سبيل الله ، وأنفق في وجهه ذلك ، فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم ، ثم تلا هذه الآية : { والله يضاعف لِمَن يَشَاء } " وأخرجه أيضاً ابن ماجه ، من حديث الحسن بن علي .
وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله ، يقول الله إلا الصوم ، فإنه لي ، وأنا أجزي به " وأخرجه أيضاً مسلم . وأخرج الطبراني من حديث معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " طوبى لمن أكثر ، في الجهاد في سبيل الله من ذكر الله ، فإن له بكل كلمة سبعين ألف حسنة ، كل حسنة منها عشرة أضعاف " وقد تقدّم ذكر طرف من أحاديث التضعيف للحسنات عند قوله تعالى : { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] . وقد وردت الأحاديث الصحيحة في أجر من جهز غازياً . وأخرج أبو داود ، والحاكم وصححه ، عن سهل بن معاذ ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الصلاة ، والصوم ، والذكر تضاعف على النفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف " وأخرج أحمد ، والطبراني في الأوسط ، والبيهقي في سننه عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف " وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن قال في تفسير قوله تعالى : { ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ مَنّا وَلا أَذىً } إن أقواماً يبعثون الرجل منهم في سبيل الله ، أو ينفق على الرجل ، أو يعطيه النفقة ، ثم يمنّ عليه ويؤذيه : يعني : أن هذا سبب النزول . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة نحوه . وقد وردت الأحاديث الصحيحة في النهي ، عن المنّ ، والأذى ، وفي فضل الإنفاق في سبيل الله ، وعلى الأقارب ، وفي وجوه الخير ، ولا حاجة إلى التطويل بذكرها ، فهي معروفة في مواطنها .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عمرو بن دينار قال : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من صدقة أحبّ إلى الله من قول الحقّ ، ألم تسمع قول الله تعالى : { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى } " وأخرج ابن المنذر ، عن الضحاك في قوله : { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } قال : ردّ جميل ، تقول : يرحمك الله ، يرزقك الله ، ولا تنهره ، ولا تغلظ له القول .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : «لا يدخل الجنة منَّان ، وذلك في كتاب الله : { لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والأذى } » . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { صَفْوَانٍ } يقول : الحجر { فَتَرَكَهُ صَلْدًا } يقول : ليس عليه شيء . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : الوابل المطر . وأخرجا عن قتادة قال : الوابل : المطر الشديد . قال : وهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة { لاَّ يَقْدِرُونَ على شَىْء مّمَّا كَسَبُواْ } يومئذ ، كما ترك هذا المطر هذا الحجر ليس عليه شيءٌ أنقى مما كان .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس : { فَتَرَكَهُ صَلْدًا } قال : يابساً جاثياً لا ينبت شيئاً .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الربيع في قوله : { وَمَثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم ابتغاء مَرْضَاتِ الله } قال : هذا مثلٌ ضربه الله لعمل المؤمن . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن الشعبي في قوله : { وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ } قال : تصديقاً ، ويقيناً . وأخرج ابن جرير ، عن أبي صالح نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير قال : يتثبتون أين يضعون أموالهم . وأخرجا عن الحسن قال : كان الرجل إذا هَمَّ بصدقة تثبت ، فإن كان لله أمضاه ، وإن خالطه شيء من الرياء أمسك . وأخرج ابن المنذر ، عن قتادة في قوله : { تَثْبِيتاً } قال : النية ، وأخرج الحاكم وصححه ، عن ابن عباس قال : الربوة : النشز من الأرض . وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : الربوة : الأرض المستوية المرتفعة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس قال : هي المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار . وأخرج ابن جرير عنه في قوله تعالى : { فَطَلٌّ } قال : النَّدي . أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن الضحاك قال : الطل : الرذاذ من المطر : يعني : اللين منه . وأخرجا عن قتادة قال : هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن يقول : ليس لخيره خلف كما ليس لخير هذه الجنة خلف على أيّ حال كان ، إن أصابها وابل ، وإن أصابها طل .
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
الودّ : الحب للشيء مع تمنيه ، والهمزة الداخلة على الفعل ، لإنكار الوقوع ، والجنة تطلق على الشجر الملتفّ ، وعلى الأرض التي فيها الشجر . والأول أولى هنا لقوله : { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } بإرجاع الضمير إلى الشجر من دون حاجة إلى مضاف محذوف ، وأما على الوجه الثاني ، فلا بدّ من تقديره ، أي : من تحت أشجارها ، وهكذا قوله : { فاحترقت } لا يحتاج إلى تقدير مضاف على الوجه الأول ، وأما على الثاني ، فيحتاج إلى تقديره ، أي : فاحترقت أشجارها ، وخص النخيل ، والأعناب بالذكر مع قوله : { لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثمرات } لكونهما أكرم الشجر ، وهذه الجمل صفات للجنة ، والواو في قوله : { وَأَصَابَهُ الكبر } قيل : عاطفة على قوله : { تَكُونُ } ماض على مستقبل . وقيل : على قوله : { يَوَدُّ } وقيل : إنه محمول على المعنى إذ تكون في معنى كانت . وقيل : إنها واو الحال ، أي : وقد أصابه الكبر ، وهذا أرجح . وكبر السنّ هو : مظنة شدّة الحاجة لما يلحق صاحبه من العجز . عن تعاطي الأسباب .
وقوله : { وَلَهُ ذُرّيَّةٌ ضُعَفَاء } حال من الضمير في أصابه أي : والحال أن له ذرية ضعفاء ، فإن من جمع بين كبر السنّ ، وضعف الذرية كان تحسره على تلك الجنة في غاية الشدة . والإعصار : الريح الشديدة التي تهب من الأرض إلى السماء كالعمود ، وهي التي يقال لها : الزوبعة ، قاله الزجاج . قال الجوهري : الزوبعة رئيس من رؤساء الجنّ ، ومنه سمي الإعصار زوبعة ، ويقال أمّ زوبعة : وهي ريح يثير الغبار ، ويرتفع إلى السماء ، كأنه عمود ، وقيل : هي ريح تثير سحاباً ذات رعد ، وبرق . وقوله : { فاحترقت } عطف على قوله : { فَأَصَابَهَا } وهذه الآية تمثيل من يعمل خيراً ، ويضم إليه ما يحبطه ، فيجده يوم القيامة عند شدة حاجته إليه لا يسمن ، ولا يغني من جوع بحال من له هذه الجنة الموصوفة ، وهو متصف بتلك الصفة .
وقد أخرج البخاري ، وغيره عن ابن عباس قال : قال عمر يوماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فيم ترون هذه الآية نزلت : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ } ؟ قالوا : الله أعلم ، قال : قولوا : نعلم أو لا نعلم ، فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين ، فقال عمر : يابن أخي قل ، ولا تحقر نفسك ، قال ابن عباس : ضربت مثلاً لعمل ، قال عمر : أي عمل؟ قال ابن عباس : لرجل عني يعمل بطاعة الله ، ثم بعث الله له الشيطان ، فعمل في المعاصي حتى أغرق عمله . وأخرج ابن جرير عن عمر قال : هذا مثل ضرب لإنسان يعمل عملاً صالحاً حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه عمل عمل السوء . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، من طرق عن ابن عباس في قوله : { إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ } قال : ريح فيها سموم شديدة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
قوله : { مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ } أي : من جيد ما كسبتم ، ومختاره ، كذا قال الجمهور . وقال جماعة : إن معنى الطيبات هنا : الحلال . ولا مانع من اعتبار الأمرين جميعاً؛ لأن جيد الكسب ، ومختاره إنما يطلق على الحلال عند أهل الشرع ، وإن أطلقه أهل اللغة على ما هو جيد في نفسه حلالاً كان أو حراماً ، فالحقيقة الشرعية مقدّمة على اللغوية . وقوله : { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الارض } أي : ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض ، وحذف لدلالة ما قبله عليه ، وهي : النباتات ، والمعادن ، والركاز . قوله : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } أي : لا تقصدوا المال الرديء ، وقرأه الجمهور بفتح حرف المضارعة وتخفيف الياء ، وقرأ ابن كثير بتشديدها . وقرأ ابن مسعود : «ولا تأمموا» وهي لغة . وقرأ أبو مسلم بن خباب بضم الفوقية ، وكسر الميم . وحكى أبو عمرو : أن ابن مسعود قرأ : «تئمموا» بهمزة بعد المضمومة ، وفي الآية الأمر بإنفاق الطيب ، والنهي عن إنفاق الخبيث . وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن الآية في الصدقة المفروضة ، وذهَب آخرون إلى أنها تعم صدقة الفرض ، والتطوّع ، وهو : الظاهر ، وسيأتي من الأدلة ما يؤيد هذا ، وتقديم الظرف في قوله : { مِنْهُ تُنفِقُونَ } يفيد التخصيص أي : لا تخصوا الخبيث بالإنفاق ، والجملة في محل نصب على الحال أي : لا تقصدوا المال الخبيث مخصصين الإنفاق به قاصرين له عليه . قوله : { وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ } أي : والحال أنكم لا تأخذونه في معاملاتكم في وقت من الأوقات هكذا بين معناه الجمهور ، وقيل : معناه : ولستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع . وقوله : { إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } هو من أغمض الرجل في أمر كذا : إذا تساهل ورضي ببعض حقه ، وتجاوز ، وغض بصره عنه ، ومنه قول الشاعر :
إلى كَمْ وَكَمْ أشْيَاءُ مِنْكَ تُرِيبُني ... أُغَمِّض عنها لستُ عَنْها بِذي عَمَي
وقرأ الزهري بفتح التاء ، وكسر الميم مخففاً . وروى عنه أنه قرأ بضم التاء ، وفتح الغين ، وكسر الميم مشدّدة ، وكذلك قرأ قتادة ، والمعنى على القراءة الأولى من هاتين القراءتين : إلا أن تهضموا سومها من البائع منكم ، وعلى الثانية : إلا أن تأخذوا بنقصان . قال ابن عطية : وقراءة الجمهور تخرّج على التجاوز ، أو على تغميض العين ، لأن أغمض بمنزلة غمض ، وعلى أنها بمعنى حتى ، أي : حتى تأتوا غامضاً من التأويل ، والنظر في أخذ ذلك .
قوله : { الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر } قد تقدّم معنى الشيطان ، واشتقاقه . و { يعدكم } معناه يخوّفكم الفقر أي : بالفقر لئلا تنفقوا ، فهذه الآية متصلة بما قبلها . وقريء : «الفقر» بضم الفاء ، وهي لغة . قال الجوهري : والفقر لغة في الفقر ، مثل الضعف ، والضعف . والفحشاء الخصلة الفحشاء ، وهي المعاصي ، والإنفاق فيها ، والبخل عن الإنفاق في الطاعات .
قال في الكشاف : والفاحش عند العرب البخيل . انتهى . ومنه قول طرفة بن العبد :
أَرَى الموتَ يَعْتامُ الكِرَامَ وَيْصَ ... طِفى عَقِيلةَ مالِ الفَاحِش المُتَشَدِّدِ
ولكن العرب ، وإن أطلقته على البخيل ، فذلك لا ينافي إطلاقهم له على غيره من المعاصي ، وقد وقع كثيراً في كلامهم . وقوله : { والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً } الوعد في كلام العرب : إذا أطلق ، فهو في الخير ، وإذا قيد ، فقد يقيد تارة بالخير ، وتارة بالشرّ . ومنه قوله تعالى : { النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ } [ الحج : 72 ] ومنه أيضاً ما في هذه الآية من تقييد ، وعد الشيطان بالفقر ، وتقييد وعد الله سبحانه بالمغفرة ، والفضل . والمغفرة : الستر على عباده في الدنيا ، والآخرة لذنوبهم ، وكفارتها ، والفضل أن يخلف عليهم أفضل مما أنفقوا ، فيوسع لهم في أرزاقهم ، وينعم عليهم في الآخرة بما هو أفضل ، وأكثر ، وأجل ، وأجمل .
قوله : { يُؤْتِى الْحِكْمَةَ } هي : العلم ، وقيل : الفهم ، وقيل : الإصابة في القول . ولا مانع من الحمل على الجميع شمولاً ، أو بدلاً . وقيل : إنها النبوة . وقيل : العقل . وقيل : الخشية . وقيل : الورع . وأصل الحكمة : ما يمنع من السفه ، وهو كل قبيح . والمعنى : أن من أعطاه الله الحكمة ، فقد أعطاه خيراً كثيراً . أي : عظيماً قدره ، جليلاً خطره . وقرأ الزهري ، ويعقوب : «ومن يؤت الحكمة» على البناء للفاعل ، وقرأه الجمهور على البناء للمفعول ، والألباب : العقول ، واحدها لبّ ، وقد تقدّم الكلام فيه .
قوله : { وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ } " ما " شرطية ، ويجوز أن تكون موصولة ، والعائد محذوف أي : الذي أنفقتموه ، وهذا بيان لحكم عام يشمل كل صدقة مقبولة ، وغير مقبولة ، وكل ندر مقبول ، أو غير مقبول . وقوله : { فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ } فيه معنى الوعد لمن أنفق ونذر على الوجه المقبول ، والوعيد لمن جاء بعكس ذلك . ووحد الضمير مع كون مرجعه شيئين ، هما النفقة ، والنذر؛ لأن التقدير : وما أنفقتم من نفقة ، فإن الله يعلمها ، أو نذرتم من نذر ، فإن الله يعلمه ، ثم حذف أحدهما استغناء بالآخر ، قاله النحاس . وقيل : إن ما كان العطف فيه بكلمة : «أو» كما في قولك : زيد ، أو عمرو ، فإنه يقال : أكرمته ، ولا يقال : أكرمتهما ، والأولى أن يقال : إن العطف ب " أو " يجوز فيه الأمران توحيد الضمير ، كما في هذه الآية ، وفي قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أو لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] . وقوله : { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } [ النساء : 112 ] ، وتثنيته كما في قوله تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] ومن الأوّل في العطف بالواو قول امرىء القيس :
فتُوضِح فالمِقْراةِ لم يَعْفُ رسمها ... لِما نَسَجَتْه من جَنُوبِ وَشَمأَلِ
ومنه قول الشاعر :
نَحْن بِما عِنْدنا وَأنتَ بِما ... عِنْدكَ رَاضٍ وَالرَّأي مُخْتَلِفٌ
ومنه { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا } [ التوبة : 34 ] وقيل : إنه إذا وحد الضمير بعد ذكر شيئين ، أو أشياء ، فهو بتأويل المذكور أي : فإن الله يعلم المذكور ، وبه جزم ابن عطية ، ورجحه القرطبي ، وذكر معناه كثير من النحاة في مؤلفاتهم .
قوله : { وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ } أي : ما للظالمين أنفسهم ، بما وقعوا فيه من الإثم لمخالفة ما أمر الله به من الإنفاق في وجوه الخير من أنصار ينصرونهم يمنعونهم من عقاب الله بما ظلموا به أنفسهم ، والأولى الحمل على العموم من غير تخصيص لما يفيده السياق ، أي : ما للظالمين بأيّ مظلمة كانت من أنصار .
قوله : { إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِىَ } قرىء بفتح النون ، وكسر العين ، وبكسرهما ، وبكسر النون ، وسكون العين ، وبكسر النون ، وإخفاء حركة العين . وقد حكى النحويون في : «نعمّ» أربع لغات ، وهي : هذه التي قرىء بها ، وفي هذا نوع تفصيل لما أجمل في الشرطية المتقدمة ، أي : إن تظهروا الصدقات ، فنعم شيئاً إظهارها ، وإن تخفوها ، وتصيبوا بها مصارفها من الفقراء ، فالإخفاء خير لكم . وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوّع لا في صدقة الفرض ، فلا فضيلة للإخفاء فيها بل قد قيل : إن الإظهار فيها أفضل ، وقالت طائفة : إن الإخفاء أفضل في الفرض ، والتطوّع . قوله : { وَيُكَفّرُ عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ } قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وعاصم في رواية أبي بكر ، وقتادة ، وابن إسحاق " نكفر " بالنون ، والرفع . وقرأ ابن عامر ، وعاصم في رواية حفص بالياء ، والرفع . وقرأ الأعمش ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي ، بالنون ، والجزم . وقرأ ابن عباس بالتاء الفوقية ، وفتح الفاء ، والجزم . وقرأ الحسين بن علي الجعفي بالنون ، ونصب الراء . فمن قرأ بالرفع ، فهو معطوف على محل الجملة الواقعة جواباً بعد الفاء ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف . ومن قرأ بالجزم ، فهو معطوف على الفاء ، وما بعدها . ومن قرأ بالنصب فعلى تقدير " أن " قال سيبويه : والرفع هاهنا الوجه الجيد ، وأجاز الجزم بتأويل ، وإن تخفوها يكن الإخفاء خيراً لكم ، ويكفر ، وبمثل قول سيبويه قال الخليل . ومن في قوله : { مّن سَيّئَاتِكُمْ } للتبعيض ، أي : شيئاً من سيئاتكم . وحكى الطبري عن فرقة أنها زائدة ، وذلك على رأي الأخفش . قال ابن عطية : وذلك منهم خطأ .
وقد أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ } قال : من الذهب ، والفضة { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الارض } يعني من الحبّ ، والثمر ، وكل شيء عليه زكاة . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن مجاهد في قوله : { أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ } قال : من التجارة : { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الأرض } قال : من الثمار . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه عن البراء بن عازب في قوله : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنفِقُونَ } قال : نزلت فينا معشر الأنصار ، كنا أصحاب نخل ، وكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته ، وقلته ، وكان الرجل يأتي بالقِنْو والقِنْوين ، فيعلقه في المسجد ، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام ، فكان أحدهم إذا جاع أتى القِنو فضربه بعصاه ، فيسقط البسر ، والتمر ، فيأكل ، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص ، والحشف ، وبالقنو قد انكسر ، فيعلقه ، فأنزل الله : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الأرض وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إلا أن تعصموا فيه } قال : لو أن أحدكم أهدى إليه مثل ما أعطى لم يأخذه إلا على إغماض ، وحياء .
قال : فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده .
وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن الرجل كان يكون له الحائطان ، فينظر إلى أردئهما تمراً ، فيتصدق به ، ويخلط به الحشف ، فنزلت الآية ، فعاب الله ذلك عليهم ، ونهاهم عنه . وأخرج عبد بن حميد ، عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر ، فجاء رجل بتمر رديء ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخرص النخل أن لا يجيز . فأنزل الله تعالى الآية هذه . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والدارقطني ، والحاكم ، والبيهقي في سننه عن سهل بن حنيف قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة ، فجاء رجل بكبائس من هذا السخل : يعني : الشيص فوضعه ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « من جاء بهذا؟ » وكان كل من جاء بشيء نسب إليه ، فنزلت : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } الآية . ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لونين من التمر أن يوجدا في الصدقة ، الجعرور ولون الحُبَيْق . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون الطعام الرخيص ، ويتصدّقون ، فأنزل الله : { يأيها الذين آمنوا } الآية . وأخرج ابن جرير ، عن عَبِيدة السَّلماني قال : سألت علي بن أبي طالب عن قول الله تعالى : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ } الآية ، فقال : نزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة ، كان الرجل يعمد إلى التمر ، فيصرمه ، فيعزل الجيد ناحية ، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء } قال : المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ، محكمه ومتشابهه ، ومقدّمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه وأمثاله .
وأخرج ابن مردويه عنه : أنها القرآن يعني : تفسيره . وأخرج ابن المنذر عنه أنها النبوّة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه قال : إنها الفقه في القرآن . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي الدرداء : { يُؤْتِى الْحِكْمَةَ } قال : قراءة القرآن ، والفكرة فيه . وأخرج ابن جرير ، عن أبي العالية قال : هي الكتاب ، والفهم به . وأخرج أيضاً عن النخعي نحوه ، وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد قال : هي الكتاب يؤتى إصابته من يشاء . وأخرج عبد بن حميد عنه قال : هي الإصابة في القول . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي العالية قال : هي الخشية لله . وأخرج أيضاً عن مَطَر الوَرَّاق مثله . وأخرج ابن المنذر ، عن سعيد بن جبير مثله .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ } قال : يحصيه . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في نذر الطاعة ، والمعصية في الصحيح ، وغيره ما هو معروف ، كقوله صلى الله عليه وسلم : « لانذر في معصية الله » وقوله : « من نذر أن يطيع الله ، فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه ، فلا يعصه » وقوله : « النذر ما ابتغى به وجه الله » وثبت عنه في كفارة النذر ما هو معروف .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِىَ } الآية ، قال : فجعل السرّ في التطوّع يفضل علانيتها سبعين ضعفاً ، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً . وكذلك جميع الفرائض ، والنوافل في الأشياء كلها . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { إِن تُبْدُواْ الصدقات } الآية ، قال : كان هذا يعمل قبل أن تنزل براءة ، فلما نزلت براءة بفرائض الصدقات ، وتفصيلها انتهت الصدقات إليها . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { إِن تُبْدُواْ الصدقات } الآية ، قال : هذا منسوخ . وقوله : { فِى أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ لَّلسَّائِلِ والمحروم } [ المعارج : 25 ] قال : منسوخ ، نسخ كل صدقة في القرآن الآية التي في سورة التوبة : { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء } [ التوبة : 60 ] وقد ورد في فضل صدقة السرّ أحاديث صحيحة مرفوعة .
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
قوله : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } أي : ليس بواجب عليك أن تجعلهم مهديين قابلين لما أمروا به ونهوا عنه : { ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء } هداية توصله إلى المطلوب ، وهذه الجملة معترضة ، وفيها الالتفات ، وسيأتي بيان السبب الذي نزلت لأجله ، والمراد بقوله : { مّنْ خَيْرٍ } كل ما يصدق عليه اسم الخير كائناً ما كان ، وهو متعلق بمحذوف ، أي : أيّ شيء تنفقون كائناً من خير ، ثم بين أن النفقة المعتدّ بها المقبولة إنما هي ما كان ابتغاء وجه الله سبحانه ، أي : لابتغاء وجه الله . وقوله : { يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } أي : أجره ، وثوابه على الوجه الذي تقدّم ذكره من التضعيف .
قوله : { لِلْفُقَرَاء } متعلق بقوله : { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ } أو بمحذوف : أي : اجعلوا ذلك للفقراء ، أو خبر مبتدأ محذوف : أي : إنفاقكم للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله بالغزو ، أو الجهاد ، وقيل : منعوا عن التكسب لما هم فيه من الضعف { الذين لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الأرض } للتكسب بالتجارة ، والزراعة ، ونحو ذلك بسبب ضعفهم . قيل : هم فقراء الصفة . وقيل : كل من يتصف بالفقر ، وما ذكر معه . ثم ذكر سبحانه من أحوال أولئك الفقراء ما يوجب الحُنُوّ عليهم ، والشفقة بهم ، وهو : كونهم متعففين عن المسئلة ، وإظهار المسكنة بحيث يظنهم الجاهل بهم أغنياء . والتعفف تفعل ، وهو بناء مبالغة من عف عن الشيء : إذا أمسك عنه ، وتنزّه عن طلبه ، وفي : «يحسبهم» لغتان : فتح السين ، وكسرها . قال أبو عليّ الفارسيّ : والفتح أقيس؛ لأن العين من الماضي مكسورة ، فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة . فالقراءة بالكسر على هذا حسنة ، وإن كانت شاذة . و«من» في قوله : «من التعفف» لابتداء الغاية ، وقيل : لبيان الجنس . قوله : { تَعْرِفُهُم بسيماهم } أي : برثاثة ثيابهم ، وضعف أبدانهم ، وكل ما يشعر بالفقر ، والحاجة . والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يصلح للمخاطبة ، والسيما مقصورة : العلامة ، وقد تمد . والإلحاف : الإلحاح في المسئلة ، وهو مشتق من اللحاف ، سمي بذلك؛ لاشتماله على وجوه الطلب في المسئلة ، كاشتمال اللحاف على التغطية . ومعنى قوله : { لا يسألون الناس إلحافاً } أنهم لا يسألونهم ألبتة ، لا سؤال إلحاح ، ولا سؤال غير إلحاح . وبه قال الطبري ، والزجاج ، وإليه ذهب جمهور المفسرين ، ووجهه أن التعَفُّفَّ صفةٌ ثابتة لهم لا تفارقهم ، ومجرد السؤال ينافيها . وقيل : المراد أنهم إذا سألوا سألوا بتلطف ، ولا يلحفون في سؤالهم ، وهذا ، وإن كان هو الظاهر من توجه النفي إلى القيد دون المقيد ، لكن صفة التعفف تنافيه ، وأيضاً كون الجاهل بهم يحسبهم أغنياء لا يكون إلا مع عدم السؤال ألبتة .
وقوله : { بالليل والنهار } يفيد زيادة رغبتهم في الإنفاق ، وشدّة حرصهم عليه حتى أنهم لا يتركون ذلك ليلاً ، ولا نهاراً ، ويفعلونه سرّاً وجهراً عند أن تنزل بهم حاجة المحتاجين ، ويظهر لديهم فاقة المفتاقين في جميع الأزمنة على جميع الأحوال .
ودخول الفاء في خبر الموصول أعني قوله : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } للدلالة على سببية ما قبلها لما بعدها ، وقيل : هي للعطف ، والخبر للموصول محذوف ، أي : ومنهم الذين ينفقون .
وقد أخرج عبد بن حميد ، والنسائي ، والبزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس ، قال : كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين ، فنزلت هذه الآية : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } إلى قوله : { وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } فرخص لهم . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والضياء عنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن لا نتصدّق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية ، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن سعيد بن جبير ، نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن ابن الحنفية ، نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس قال : كان أناس من الأنصار لهم نسب ، وقرابة من قريظة ، والنضير ، وكان يتقون أن لا يتصدّقوا عليهم ، ويريدونهم أن يسلموا ، فنزلت : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } الآية . وأخرج ابن المنذر ، عن عمرو الهلالي قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم أنتصدّق على فقراء أهل الكتاب؟ فأنزل الله : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } الآية . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عطاء الخراساني قال في قوله : { وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ الله } قال : إذا أعطيت لوجه الله ، فلا عليك ما كان عمله .
وأخرج ابن المنذر من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس في قوله : { لِلْفُقَرَاء الذين أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ الله } قال : هم أصحاب الصفة . وأخرج ابن سعد ، عن محمد بن كعب القرظي ، نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال : هم مهاجرو قريش بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم أمروا بالصدقة عليهم . وأخرج ابن جرير ، عن الربيع في قوله : { الذين أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ الله } قال : حصروا أنفسهم في سبيل الله للغزو فلا يستطيعون تجارة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير قال : هم قوم أصابتهم ، الجراحات في سبيل الله ، فصاروا زمني ، فجعل لهم في أموال المسلمين حقاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن رجاء بن حيوة في قوله : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الارض } قال : لا يستطيعون تجارة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السديّ ، نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن في قوله : { يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَاء } قال : دلّ الله المؤمنين عليهم ، وجعل نفقاتهم لهم ، وأمرهم أن يضعوا نفقاتهم فيهم ، ورضي عنهم .
وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { تَعْرِفُهُم بسيماهم } قال : التخشع . وأخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الربيع أن معناه تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد : { تَعْرِفُهُم بسيماهم } قال : رثاثة ثيابهم ، وثبت في الصحيحين ، وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ليس المسكين الذي تردّه التمرة ، والتمرتان ، واللقمة ، واللقمتان ، إنما المسكين الذي يتعفف ، واقرءوا إن شئتم : { لا يسألون الناس إلحافاً } » وقد ورد في تحريم المسئلة أحاديث كثيرة إلا لذي سلطان ، أو في الأمر لا يجد منه بدّاً .
وأخرج ابن سعد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن عديّ ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، عن يزيد بن عبد الله بن عَرِيب المليكي ، عن أبيه ، عن جدّه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أنزلت هذه الآية { الذين يُنفِقُونَ أموالهم باليل والنهار } في أصحاب الخيل » وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر ، عن أبي أمامة الباهلي نحوه قال : فيمن لا يربطها خيلاء ، ولا رياء ، ولا سمعة . وأخرج ابن جرير ، عن أبي الدرداء نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن حنش الصنعاني أنه سمع ابن عباس يقول في هذه الآية : هم الذين يعلفون الخيل في سبيل الله . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن عساكر من طريق عبد الوهاب بن مجاهد ، عن أبيه عن ابن عباس في هذه الآية؛ قال : نزلت في عليّ بن أبي طالب كانت له أربعة دراهم ، فأنفق بالليل درهماً ، وبالنهار درهماً ، ودرهماً سرّاً ، ودرهماً علانية . وعبد الوهاب ضعيف ، ولكن قد رواه ابن مردويه من وجه آخر ، عن ابن عباس . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة في هذه الآية قال : هؤلاء قوم أنفقوا في سبيل الله الذي افترض عليهم في غير سَرَفٍ ، ولا إِمْلاقٍ ، ولا تبذير ، ولا فساد . وأخرج ابن المنذر ، عن سعيد بن المسيب قال : نزلت في عبد الرحمن بن عوف ، وعثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة .
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
الربا في اللغة : الزيادة مطلقاً ، يقال : ربا الشيء يربو : إذا زاد ، وفي الشرع يطلق على شيئين ، على ربا الفضل ، وربا النسيئة حسبما هو مفصل في كتب الفروع ، وغالب ما كانت تفعله الجاهلية أنه إذا حلَّ أجل الدين قال من هو له لمن هو عليه : أتقضي أم تربي؟ فإذا لم يقض زاد مقداراً في المال الذي عليه ، وأخر له الأجل إلى حين . وهذا حرام بالاتفاق ، وقياس كتابة الربا بالياء للكسرة في أوّله . وقد كتبوه في المصحف بالواو . قال في الكشاف : على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة ، والزكاة ، وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع . انتهى .
قلت : وهذا مجرد اصطلاح لا يلزم المشي عليه ، فإن هذه النقوش الكتابية أمور اصطلاحية لا يشاحح في مثلها إلا فيما كان يدل به منها على الحرف الذي كان في أصل الكلمة ، ونحوه ، كما هو مقرر في مباحث الخط من علم الصرف ، وعلى كل حال ، فرسم الكلمة ، وجعل نقشها الكتابي على ما يقتضيه اللفظ بها هو الأولى ، فما كان في النطق ألفاً كالصلاة ، والزكاة ، ونحوهما كان الأولى في رسمه أن يكون كذلك ، وكون أصل هذا الألف واواً ، أو ياء لا يخفى على من يعرف علم الصرف ، وهذه النقوش ليست إلا لفهم اللفظ الذي يدل بها عليه كيف هو : في نطق من ينطق به لا لتفهيم أن أصل الكلمة كذا مما لا يجري به النطق ، فاعرف هذا ، ولا تشتغل بما يعتبره كثير من أهل العلم في هذه النقوش ، ويلزمون به أنفسهم ، ويعيبون من خالفه ، فإن ذلك من المشاححة في الأمور الاصطلاحية التي لا تلزم أحداً أن يتقيد بها ، فعليك بأن ترسم هذه النقوش على ما يلفظ به اللافظ عند قراءتها ، فإنه الأمر المطلوب من وضعها ، والتواضع عليها ، وليس الأمر المطلوب منها أن تكون دالة على ما هو أصل الكلمة التي يتلفظ بها المتلفظ مما لا يجري في لفظه الآن ، فلا تغترّ بما يروى عن سيبويه ، ونحاة البصرة أن يكتب الربا بالواو؛ لأنه يقول في تثنيته ربوان . وقال الكوفيون : يكتب بالياء ، وتثنيته ربيان . قال الزجاج : ما رأيت خطأ أقبح من هذا ، ولا أشنع ، لا يكفيهم الخطأ في الخط حتى يخطئوا في التثنية ، وهم يقرءون : { وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً لّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُواْ عند الله } [ الروم : 39 ] وليس المراد بقوله هنا : { الذين يَأْكُلُونَ الربا } اختصاص هذا الوعيد بمن يأكله ، بل هو عام لكل من يعامل بالربا ، فيأخذه ، ويعطيه ، وإنما خص الآكل؛ لزيادة التشنيع على فاعله ، ولكونه هو الغرض الأهمّ ، فإن آخذ الربا إنما أخذه للأكل . قوله : { لاَ يَقُومُونَ } أي : يوم القيامة ، كما يدل عليه قراءة ابن مسعود : { لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس يَوْمُ القيامة .
أخرجه عبد ابن حميد ، وابن أبي حاتم ، وبهذا ، فسره جمهور المفسرين قالوا : إنه يبعث كالمجنون عقوبة له ، وتمقيتاً عند أهل المحشر . وقيل : إن المراد تشبيه من يحرص في تجارته ، فيجمع ماله من الربا بقيام المجنون؛ لأن الحرص ، والطمع ، والرغبة في الجمع قد استفزته حتى صار شبيهاً في حركته بالمجنون ، كما يقال لمن يسرع في مشيه ، ويضطرب في حركاته : أنه قد جُنَّ ، ومنه قول الأعشى في ناقته :
وَتُصْبِحُ عَنْ غِبِّ السُّرَي وَكأَنَّها ... ألَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الجِنِّ أوْلَقُ
فجعلها بسرعة مشيها ، ونشاطها كالمجنون . قوله : { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس } أي : إلا قياماً كقيام الذي يتخبطه ، والخبط : الضرب بغير استواء كخبط العشواء ، وهو المصروع . والمسّ : الجنون ، والأمس : المجنون ، وكذلك الأولق ، وهو : متعلق بقوله : { يَقُومُونَ } أي : لا يقومون من المسّ الذي بهم { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان } أو متعلق ب { يقوم } . وفي الآية دليل على فساد قول من قال : إن الصرع لا يكون من جهة الجنّ ، وزعم أنه من فعل الطبائع ، وقال : إن الآية خارجة على ما كانت العرب تزعمه من أن الشيطان يصرع الإنسان ، وليس بصحيح ، وإن الشيطان لا يسلك في الإنسان ، ولا يكون منه مسّ . وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من أن يتخبطه الشيطان؛ كما أخرجه النسائي ، وغيره . قوله : { ذلك } إشارة إلى ما ذكر من حالهم ، وعقوبتهم بسبب قولهم : { إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا } أي : أنهم جعلوا البيع ، والربا شيئاً واحداً ، وإنما شبهوا البيع بالربا مبالغة بجعلهم الربا أصلاً ، والبيع فرعاً ، أي : إنما البيع بلا زيادة عند حلول الأجل ، كالبيع بزيادة عند حلوله ، فإن العرب كانت لا تعرف رباً إلا ذلك ، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } أي : أن الله أحلّ البيع ، وحرّم نوعاً من أنواعه ، وهو البيع المشتمل على الربا . والبيع مصدر باع يبيع ، أي : دفع عوضاً ، وأخذ معوّضاً ، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب .
قوله : { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ } أي : من بلغته موعظة من الله من المواعظ التي اشتمل عليها الأوامر ، والنواهي ، ومنها ما وقع هنا من النهي عن الربا { فانتهى } أي : فامتثل النهي الذي جاءه ، وانزجر عن المنهي عنه ، وهو معطوف ، أي : قوله : { فانتهى } على قوله : { جَاءهُ } . وقوله : { مّن رَّبّهِ } متعلق بقوله : { جَاءهُ } أو بمحذوف وقع صفة لموعظة ، أي : كائنة { مّن رَّبّهِ فَلَهُ مَا سَلَفَ } أي : ما تقدّم منه من الربا لا يؤاخذ به؛ لأنه فعله قبل أن يبلغه تحريم الربا ، أو قبل أن تنزل آية تحريم الربا .
وقوله : { أَمْرُهُ إِلَى الله } قيل : الضمير عائد إلى الربا ، أي : وأمر الربا إلى الله في تحريمه على عباده ، واستمرار ذلك التحريم ، وقيل : الضمير عائد إلى ما سلف ، أي : أمره إلى الله في العفو عنه ، وإسقاط التبعة فيه ، وقيل : الضمير يرجع إلى المربي ، أي : أمر من عامل بالربا إلى الله في تثبيته على الإنتهاء ، أو الرجوع إلى المعصية { وَمَنْ عَادَ } إلى أكل الربا ، والمعاملة به { فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } والإشارة إلى { من عاد } وجمع أصحاب باعتبار معنى « من » ، وقيل : إن معنى { من عاد } : هو أن يعود إلى القول : ب { إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا } وأنه يكفر بذلك ، فيستحق الخلود ، وعلى التقدير الأوّل يكون الخلود مستعاراً على معنى المبالغة ، كما تقول العرب : ملك خالد ، أي : طويل البقاء ، والمصير إلى هذا التأويل واجب للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار .
قوله : { يَمْحَقُ الله الربا } أي : يذهب بركته في الدنيا ، وإن كان كثيراً ، فلا يبقى بيد صاحبه . وقيل : يمحق بركته في الآخرة . قوله : { وَيُرْبِى الصدقات } أي : يزيد في المال الذي أخرجت صدقته ، وقيل : يبارك في ثواب الصدقة ، ويضاعفه ، ويزيد في أجر المتصدّق ، ولا مانع من حمل ذلك على الأمرين جميعاً . قوله : { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } أي : لا يرضى؛ لأن الحبّ مختص بالتوّابين ، وفيه تشديد ، وتغليظ عظيم على من أربى حيث حكم عليه بالكفر ، ووصفه بأثيم للمبالغة ، وقيل : لإزالة الاشتراك ، إذ قد يقع على الزراع ، ويحتمل أن المراد بقوله : { كُلَّ كَفَّارٍ } من صدرت منه خصلة توجب الكفر ، ووجه التصاقه بالمقام أن الذين قالوا : إنما البيع مثل الربا كفار . وقد تقدم تفسير قوله : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } إلى آخر الآية .
وقد أخرج أبو يعلى من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس في قوله : { الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس } قال : يعرفون يوم القيامة بذلك لا يستطيعون القيام ، إلا كما يقوم المتخبط المنخنق : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا } وكذبوا على الله : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } ومن عاد فأكل الربا : { فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه في الآية قال : آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق . وأخرج عبد ابن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر من وجه آخر عنه أيضاً في قوله : { لاَ يَقُومُونَ } قال : ذلك حين يبعث من قبره . وأخرج الأصبهاني في ترغيبه ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلاً يجر شفتيه »
ثم قرأ : { لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس } ، وقد وردت أحاديث كثيرة في تعظيم ذنب الربا ، منها من حديث عبد الله بن مسعود ، عند الحاكم وصححه ، والبيهقي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الربا ثلاثة وسبعون باباً ، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم " ومن حديث أبي هريرة مرفوعاً ، عند ابن ماجه ، والبيهقي بلفظ : " سبعون باباً " وورد هذا المعنى مع اختلاف العدد عن عبد الله بن سَلاَم ، وكعب ، وابن عباس ، وأنس .
وأخرج ابن جرير ، عن الربيع في الآية قال : يبعثون يوم القيامة ، وبهم خَبَل من الشيطان ، وهي في بعض القراءات : «لا يقومون يوم القيامة» . يعني قراءة ابن مسعود المتقدم ذكرها . وفي الصحيحين ، وغيرهما من حديث عائشة قالت : لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ، فقرأهنّ على الناس ، ثم حرّم التجارة في الخمر» وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، عن عمر بن الخطاب : أنه خطب ، فقال : إن من آخر القرآن نزولاً آية الربا ، وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يبينه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم . وأخرج البخاري ، وغيره ، عن ابن عباس أنه قال : آخر آية أنزلها الله على رسوله آية الربا . وأخرج البيهقي في الدلائل ، عن عمر مثله .
وأخرج ابن جرير ، عن مجاهد في الربا الذي نهى الله ، عنه قال : كان أهل الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين ، فيقول : لك كذا وكذا ، وتؤخر عني ، فيؤخر عنه . وأخرج أيضاً ، عن قتادة نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، نحوه أيضاً ، وزاد في قوله : { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ } قال : يعني البيان الذي في القرآن في تحريم الربا ، فانتهى عنه : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } يعني : فله ما كان أكل من الربا قبل التحريم : { وَأَمْرُهُ إِلَى الله } يعني بعد التحريم ، وبعد تركه إن شاء عصمه منه ، وإن شاء لم يفعل { وَمَنْ عَادَ } يعني في الربا بعد التحريم ، فاستحله بقولهم : { إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا } { فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } يعني لا يموتون .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، من طريق ابن جريج ، عن ابن عباس في قوله : { يَمْحَقُ الله الربا } قال : ينقص الربا { وَيُرْبِى الصدقات } قال : يزيد فيها ، وقد ثبت في الصحيحين ، وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعاً " من تصدق بعْدل تمرة من كسبٍ طيبٍ ، ولا يقبل الله إلا طيباً ، فإن الله يقبلها بيمينه ، ثم يُرْبَيها لصاحبها ، كما يربي أحدكم فلوّه حتى تكون مثل الجبل " وأخرج البزار ، وابن جرير ، وابن حبان ، والطبراني من حديث عائشة نحوه . وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، عن ابن عمر مرفوعاً نحوه أيضاً . وفي حديث عائشة ، وابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بعد أن ساق الحديث : { يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِى الصدقات } . وأخرج الطبراني عن أبي برزة الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن العبد ليتصدّق بالِكْسَرة تربو عند الله حتى تكون مثل أحد " وهذه الأحاديث تبين معنى الآية .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
قوله : { اتقوا الله } أي : قوا أنفسكم من عقابه ، واتركوا البقايا التي بقيت لكم من الربا ، وظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضاً . قوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } قيل : هو شرط مجازي على جهة المبالغة ، وقيل : إنَّ «إنّ» في هذه الآية بمعنى " إذ " . قال ابن عطية : وهو مردود لا يعرف في اللغة ، والظاهر أن المعنى : إن كنتم مؤمنين على الحقيقة ، فإن ذلك يستلزم امتثال أوامر الله ونواهيه .
قوله : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } يعني ما أمرتم به من الاتقاء ، وترك ما بقي من الربا { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } أي : فاعلموا بها ، من أذن بالشيء إذا علم به ، قيل : هو من الإذن بالشيء ، وهو الاستماع ، لأنه من طرق العلم . وقرأ أبو بكر عن عاصم ، وحمزة : { فأذنوا } على معنى فأعلموا غيركم أنكم على حربهم ، وقد دلت هذه على أن أكل الربا ، والعمل به من الكبائر ، ولا خلاف في ذلك ، وتنكير الحرب للتعظيم ، وزادها تعظيماً نسبتها إلى اسم الله الأعظم ، وإلى رسوله الذي هو : أشرف خليقته . قوله : { فَإِن تُبْتُمْ } أي من الربا { فَلَكُمْ رُءوسُ أموالكم } تأخذونها { لاَ تَظِلَمُونَ } غرماءكم بأخذ الزيادة { وَلاَ تُظْلَمُونَ } أنتم من قبلهم بالمطل ، والنقص ، والجملة حالية ، أو استئنافية . وفي هذا دليل على أن أموالهم مع عدم التوبة حلال لمن أخذها من الأئمة ، ونحوهم ممن ينوب عنهم .
قوله : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } لما حَكَم سبحانه لأهل الربا برءوس أموالهم عند الواجدين للمال حكم في ذوي العسرة بالنظرة إلى يسار ، والعسرة : ضيق الحال من جهة عدم المال ، ومنه جيش العسرة . والنظرة : التأخير ، والميسرة مصدر بمعنى اليسر ، وارتفع { ذو } بكان التامة التي بمعنى وجد ، وهذا قول سيبويه ، وأبي عليّ الفارسي ، وغيرهما . وأنشد سيبويه :
فِدىً لبني ذُهْلِ بن شَيْبَان يا فتى ... إذا كان يومٌ ذو كواكب أَشْهَبُ
وفي مصحف أبيّ : «وإن كان ذا عسرة» على معنى : وإن كان المطلوب ذا عسرة . وقرأ الأعمش : «وإن كان معسراً» . قال أبو عمرو الداني ، عن أحمد بن موسى ، وكذلك في مصحف أبيّ بن كعب . وروى المعتمر ، عن حجاج الوراق ، قال في مصحف عثمان : { وَإِن كَانَ ذَاعُسْرَةٍ } قال النحاس ، ومكي ، والنقاش : وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا ، وعلى من قرأ : «ذو» فهي عامة في جميع مَنْ عليه دين ، وإليه ذهب الجمهور . وقرأ الجماعة : { فَنَظِرَةٌ } بكسر الظاء . وقرأ مجاهد ، وأبو رجاء ، والحسن بسكونها ، وهي لغة تميم . وقرأ نافع ، وحده : { مَيْسَرَةٍ } بضم السين ، والجمهور بفتحها ، وهي اليسار . قوله : { وَأَن تَصَدَّقُواْ } بحذف إحدى التاءين ، وقريء بتشديد الصاد ، أي : وأن تصدقوا على معسري غرمائكم بالإبراء خير لكم ، وفيه الترغيب لهم بأن يتصدقوا برءوس أموالهم على من أعسر ، وجعل ذلك خيراً من إنظاره ، قاله السدي ، وابن زيد ، والضحاك .
قال الطبري : وقال آخرون : معنى الآية : وأن تصدقوا على الغنيّ ، والفقير خير لكم . والصحيح الأوّل ، وليس في الآية مدخل للغنيّ . قوله : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } جوابه محذوف ، أي : إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتم به .
قوله : { واتقوا يَوْمًا } هو يوم القيامة ، وتنكيره للتهويل ، وهو منصوب على أنه مفعول به لا ظرف . وقوله : { تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } وصف له . وقرأ أبو عمر ، وبفتح التاء ، وكسر الجيم ، والباقون بضم التاء ، وفتح الجيم ، وذهب قوم إلى أن هذا اليوم المذكور هو يوم الموت . وذهب الجمهور إلى أنه يوم القيامة ، كما تقدّم . وقوله : { إِلَى الله } فيه مضاف محذوف تقديره إلى حكم الله { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ } من النفوس المكلفة { مَّا كَسَبَتْ } أي : جزاء ما عملت من خير ، أو شرّ ، وجملة : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } حالية ، وجمع الضمير؛ لأنه أنسب بحال الجزاء ، كما أن الإفراد أنسب بحال الكسب ، وهذ الآية فيها الموعظة الحسنة لجميع الناس .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن السدي في قوله : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا } قال : نزلت في العباس بن عبد المطلب ، ورجل من بني المغيرة ، كانا شريكين في الجاهلية يسلفان الربا إلى ناس من ثقيف ، فجاء الإسلام ، ولهما أموال عظيمة في الربا ، فأنزل الله هذه الآية . وأخرج ابن جرير ، عن ابن جريج ، قال : كانت ثقيف قد صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أن ما لهم من ربا على الناس ، وما كان للناس عليهم من ربا ، فهو موضوع ، فلما كان الفتح استعمل عتاب بن أسيد على مكة ، وكانت بنو عمرو بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة ، وكان بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية ، فجاء الإسلام ، ولهم عليهم مال كثير ، فأتاهم بنو عمرو ، يطلبون رباهم ، فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام ، ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد ، فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا } فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتَّاب ، وقال : « إن رضوا ، وإلا فأذنهم بحرب » . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ } قال : من كان مقيماً على الربا لا ينزع منه ، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع ، وإلا ضرب عنقه . وأخرجوا أيضاً عنه في قوله : { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ } قال : استيقنوا بحرب ، وأخرج أهل السنن ، وغيرهم عن عمرو بن الأحوص ، أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال :
« ألا إنّ كل ربا في الجاهلية موضوع ، لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ، ولا تظلمون ، وأول ربا موضوع ربا العباس » وأخرج ابن منده ، عن ابن عباس ، قال : نزلت هذه الآية في ربيعة بن عمرو ، وأصحابه : { وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أموالكم } .
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } قال : نزلت في الربا . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، عن شريح ، نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن الضحاك في الآية ، قال : وكذلك كل ديْنٍ على مسلم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، نحوه . وقد وردت أحاديث صحيحة في الصحيحين ، وغيرهما في الترغيب لمن له دين على معسر أن ينظره .
وأخرج أبو عبيد ، وعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي ، عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم : { واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } وأخرج ابن أبي شيبة ، عن السدي ، وعطية العُوفي مثله . وأخرج ابن الأنباري ، عن أبي صالح ، وسعيد بن جبير ، مثله أيضاً وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس أنها آخر آية نزلت ، وكان بين نزولها ، وبين موت النبي صلى الله عليه وسلم إحدى وثمانون يوماً . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير : أنه عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها تسع ليال ، ثم مات .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
هذا شروع في بيان حال المداينة الواقعة بين الناس بعد بيان حال الربا ، أي : إذا داين بعضكم بعضاً ، وعاملهُ بذلك ، وذكر الدين بعد ذكر ما يغني عنه من المداينة لقصد التأكيد مثل قوله : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] وقيل : إنه ذكر ليرجع إليه الضمير من قوله : { فاكتبوه } ولو قال : فاكتبوا الدين لم يكن فيه من الحسن ما في قوله : { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } ، والدين عبارة ، عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقداً ، والآخر في الذمة نسيئة ، فإن العين عند العرب ما كان حاضراً ، والدين ما كان غائباً ، قال الشاعر :
وَعَدتْنَا بِدْرِهَمْيِنا طِلاءً ... وسِواء معجلاً غَيرِ دَيْنِ
وقال الآخر :
إذا ما أوقدوا ناراً وحطبا ... فَذَاك الموتُ نَقْداً غَير دَيُن
وقد بين الله سبحانه هذا المعنى بقوله : { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } وقد استدل به على أن الأجل المجهول لا يجوز ، وخصوصاً أجل السلم . وقد ثبت في الصحيح ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : « من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم » وقد قال بذلك الجمهور ، واشترطوا توقيته بالأيام ، أو الأشهر ، أو السنين ، قالوا : ولا يجوز إلى الحصاد ، أو الدياس ، أو رجوع القافلة ، أو نحو ذلك ، وجوَّزه مالك . قوله : { فاكتبوه } أي : الدين بأجله؛ لأنه أدفع للنزاع ، وأقطع للخلاف . قوله : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ } هو : بيان لكيفية الكتابة المأمور بها ، وظاهر الأمر الوجوب ، وبه قال عطاء ، والشعبي ، وغيرهما ، فأوجبوا على الكاتب أن يكتب إذا طلب منه ذلك ، ولم يوجد كاتب سواه . وقيل : الأمر للندب . وقوله : { بالعدل } متعلق بمحذوف صفة لكاتب أي : كاتب كائن بالعدل ، أي : يكتب بالسوية لا يزيد ، ولا ينقص ، ولا يميل إلى أحد الجانبين ، وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب متصف بهذه الصفة لا يكون في قلبه ، ولا قلمه هوادة لأحدهما على الآخر ، بل يتحرّى الحق بينهم ، والمعدلة فيهم .
قوله : { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } النكرة في سياق النفي مشعرة بالعموم ، أي : لا يمتنع أحد من الكتاب أن يكتب كتاب التداين ، كما علمه الله ، أي : على الطريقة التي علمه الله من الكتابة ، أو كما علمه الله بقوله : { بالعدل } . قوله : { وَلْيُمْلِلِ الذى عَلَيْهِ الحق } الإملال ، والإملاء لغتان : الأولى لغة أهل الحجاز ، وبني أسد ، والثانية لغة بني تميم ، فهذه الآية جاءت على اللغة الأولى ، وجاء على اللغة الثانية قوله تعالى : { فَهِىَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 5 ] { والذى عَلَيْهِ الحق } هو من عليه الدين ، أمره الله تعالى بالإملاء ، لأن الشهادة إنما تكون على إقراره بثبوت الدين في ذمته ، وأمره الله بالتقوى فيما يمليه على الكاتب ، بالغ في ذلك بالجمع بين الإسم ، والوصف في قوله : { وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } ونهاه عن البخس ، وهو النقص ، وقيل : إنه نهي للكاتب .
والأوّل أولى؛ لأن من عليه الحق هو الذي يتوقع منه النقص ، ولو كان نهياً للكاتب لم يقتصر في نهيه على النقص؛ لأنه يتوقع منه الزيادة ، كما يتوقع منه النقص . والسفيه : هو الذي لا رأي له في حسن التصرف ، فلا يحسن الأخذ ، ولا الإعطاء ، شبه بالثوب السفيه ، وهو الخفيف النسج ، والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة ، وعلى ضعف البدن أخرى ، فمن الأوّل قول الشاعر :
نَخَافُ أن تَسْفَه أَحْلامُنا ... ويجْهلُ الدهرُ مع الجاهلِ
ومن الثاني قول ذي الرمة :
مَشَيْن كما اهتزَّت رماحٌ تَسَفَّهَتْ ... أعالِيها مَرُّ الرياحِ النّواسِم
أي : استضعفها ، واستلانها بحركتها ، وبالجملة فالسفيه هو المبذر إما لجهله بالصرف ، أو لتلاعبه بالمال عبثاً مع كونه لا يجهل الصواب . والضعيف هو : الشيخ الكبير ، أو الصبي . قال أهل اللغة : الضُعف بضم الضاد في البدن ، وبفتحها في الرأي . والذي لا يستطيع أن يُمِلَّ هو الأخرس ، أو العَيِيُّ الذي لا يقدر على التعبير كما ينبغي ، وقيل : إن الضعيف هو المذهول العقل الناقص الفطنة العاجز عن الإملاء ، والذي لا يستطيع أن يملّ هو : الصغير . قوله : { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل } الضمير عائد إلى الذي عليه الحق فيملّ عن السفيه وليه المنصوب عنه بعد حجره ، عن التصرف في ماله ، ويملّ عن الصبي ، ووصيه ، أو وليه ، وكذلك يملّ عن العاجز ، الذي لا يستطيع الإملال لضعف وليه؛ لأنه في حكم الصبيّ ، أو المنصوب عنه من الإمام ، أو القاضي ، ويملّ عن الذي لا يستطيع ، وكيله إذا كان صحيح العقل ، وعرضت له آفة في لسانه ، أو لم تعرض ، ولكنه جاهل لا يقدر على التعبير ، كما ينبغي . وقال الطبري : إن الضمير في قوله : { وَلِيُّهُ } يعود إلى الحق ، وهو ضعيف جداً . قال القرطبي في تفسيره : وتصرّف السفيه المحجور عليه دون وليه فاسد إجماعاً مفسوخ أبداً لا يوجب حكماً ، ولا يؤثر شيئاً ، فإن تصرف سفيه ، ولا حجر عليه ، ففيه خلاف . انتهى .
قوله : { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ } الاستشهاد : طلب الشهادة ، وسماهما شهيدين قبل الشهادة من مجاز الأول أي : باعتبار ما يئول إليه أمرهما من الشهادة ، و { مّن رّجَالِكُمْ } متعلق بقوله : { واستشهدوا } أو بمحذوف هو : صفة لشهيدين ، أي : كائنين من رجالكم ، أي : من المسلمين ، فيخرج الكفار ، ولا وجه لخروج العبيد من هذه الآية . فهم إذا كانوا مسلمين من رجال المسلمين ، وبه قال شريح ، وعثمان البتي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو ثور . وقال أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وجمهور العلماء : لا تجوز شهادة العبد لما يلحقه من نقص الرق . وقال الشعبي ، والنخعي : يصح في الشيء اليسير دون الكثير . واستدل الجمهور على عدم جواز شهادة العبد بأن الخطاب في هذه الآية مع الذين يتعاملون بالمداينة ، والعبيد لا يملكون شيئاً تجري فيه المعاملة .
ويجاب عن هذا بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وأيضاً العبد تصح منه المداينة ، وسائر المعاملات إذا أذن له مالكه بذلك . وقد اختلف الناس هل الإشهاد واجب ، أو مندوب ، فقال أبو موسى الأشعري ، وابن عمر ، والضحاك ، وعطاء ، وسعيد بن المسيب ، وجابر بن زيد ، ومجاهد ، وداود بن علي الظاهري ، وابنه : إنه واجب ، ورجحه ابن جرير الطبري ، وذهب الشعبي ، والحسن ، ومالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابه إلى أنه مندوب ، وهذا الخلاف بين هؤلاء هو في وجوب الإشهاد على البيع . واستدل الموجبون بقوله تعالى : { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } ولا فرق بين هذا الأمر ، وبين قوله : { واستشهدوا } فيلزم القائلين بوجوب الإشهاد في البيع أن يقولوا بوجوبه في المداينة . قوله : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا } أي : الشهيدان { رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان } أي : فليشهد رجل ، وامرأتان ، أو فرجل ، وامرأتان يكفون . وقوله : { ممن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء } متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل ، وامرأتان ، أي : كائنون ممن ترضون حال كونهم من الشهداء . والمراد ممن ترضون دينهم ، وعدالتهم ، وفيه أن المرأتين في الشهادة برجل ، وأنها لا تجوز شهادة النساء إلا مع الرجل لا وحدهنّ ، إلا فيما لا يطلع عليه غيرهنّ للضرورة . واختلفوا هل يجوز الحكم بشهادة امرأتين مع يمين المدّعي كما جاز الحكم برجل مع يمين المدّعي؟ فذهب مالك ، والشافعي إلى أنه يجوز ذلك ، لأن الله سبحانه قد جعل المرأتين كالرجل في هذه الآية . وذهب أبو حنيفة ، وأصحابه إلى أنه لا يجوز ذلك ، وهذا يرجع إلى الخلاف في الحكم بشاهد مع يمين المدّعي ، والحق أنه جائز لورود الدليل عليه ، وهو زيادة لم تخالف ما في الكتاب العزيز ، فيتعين قبولها . وقد أوضحنا ذلك في شرحنا للمنتقي ، وغيره من مؤلفاتنا ، ومعلوم عند كل من يفهم أنه ليس في هذه الآية ما يردّ به قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاهد ، واليمين ، ولم يدفعوا هذا إلا بقاعدة مبنية على شفا جرف هارٍ هي قولهم : إن الزيادة على النص نسخ ، وهذه دعوى باطلة ، بل الزيادة على النص شريعة ثابتة جاءنا بها من جاءنا بالنص المتقدم عليها ، وأيضاً كان يلزمهم أن لا يحكموا بنكول المطلوب ، ولا بيمين الرد على الطالب . وقد حكموا بهما ، والجواب الجواب .
قوله : { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى } قال أبو عبيد : معنى تضلّ تنسى ، والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها ، وذكر جزء . وقرأ حمزة : «إن تضلّ» بكسر الهمزة . وقوله : { فَتُذَكّرَ } جوابه على هذه القراءة ، وعلى قراءة الجمهور هو منصوب بالعطف على تضلّ ، ومن رفعه فعلى الاستئناف . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «فتذكر» بتخفيف الذال ، والكاف ، ومعناه : تزيدها ذكراً .
وقراءة الجماعة بالتشديد ، أي : تنبهها إذا غفلت ، ونسيت ، وهذه الآية تعليل لاعتبار العدد في النساء ، أي : فليشهد رجل ، وتشهد امرأتان عوضاً ، عن الرجل الآخر؛ لأجل تذكير إحداهما للأخرى إذا ضلت ، وعلى هذا ، فيكون في الكلام حذف ، وهو سؤال سائل عن وجه اعتبار امرأتين عوضاً عن الرجل الواحد ، فقيل وجهه أن تضلّ إحداهما ، فتذكر إحداهما الأخرى ، والعلة في الحقيقة هي : التذكير ، ولكن الضلال لما كان سبباً له نزل منزلته ، وأبهم الفاعل في تضلّ ، وتذكر ، لأن كلا منهما يجوز عليه الوصفان؛ فالمعنى : إن ضلت هذه ذكرتها هذه ، وإن ضلت هذه ذكرتها هذه لا على التعيين ، أي : إن ضلت إحدى المرأتين ذكرتها المرأة الأخرى ، وإنما اعتبر فيهما هذا التذكير لما يلحقهما من ضعف النساء بخلاف الرجال . وقد يكون الوجه في الإبهام أن ذلك يعني الضلال ، والتذكير يقع بينهما متناوباً حتى ربما ضلت هذه عن وجه وضلت تلك عن وجه آخر ، فذكرت كل واحدة منهما صاحبتها . وقال سفيان بن عيينة : معنى قوله : { فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى } تصيرها ذكراً ، يعني : أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد . وروى نحوه عن أبي عمرو بن العلاء ، ولا شك أن هذا باطل لا يدل عليه شرع ، ولا لغة ، ولا عقل .
قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ } أي : لأداء الشهادة التي قد تحملوها من قبل ، وقيل : إذا ما دعوا لتحمل الشهادة ، وتسميتهم شهداء مجاز كما تقدم ، وحملها الحسن على المعنيين . وظاهر هذا النهي أن الامتناع من أداء الشهادة حرام . قوله : { ولا تسأموا أن تكتبوه } معنى تسأموا : تملوا . قال الأخفش : يقال سئمت أسأم سآمة ، وسآما ، ومنه قول الشاعر :
سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الحياةِ وَمَنْ يَعِشْ ... ثَمانِين حَوْلاً لاَ أبا لك يَسأَمِ
أي : لا تملوا أن تكتبوه ، أي : الدين الذي تداينتم به ، وقيل : الحق ، وقيل : الشاهد ، وقيل : الكتاب ، نهاهم الله سبحانه عن ذلك؛ لأنهم ربما ملُّوا من كثرة المداينة أن يكتبوا ، ثم بالغ في ذلك ، فقال : { صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا } أي : حال كون ذلك المكتوب صغيراً ، أو كبيراً أي : لا تملوا في حال من الأحوال سواء كان الدين كثيراً ، أو قليلاً . وقيل : إنه كنى بالسآمة عن الكسل . والأول أولى . وقدّم الصغير هنا على الكبير للاهتمام به لدفع ما عساه أن يقال إن هذا مال صغير ، أي : قليل لا احتياج إلى كتبه ، والإشارة في قوله : { ذلكم } إلى المكتوب المذكور في ضمير قوله : { أَن تَكْتُبُوهُ } و { أقسط } معناه أعدل ، أي : أصح ، وأحفظ { وَأَقْوَمُ للشهادة } أي : أعون على إقامة الشهادة ، وأثبت لها ، وهو مبني من أقام ، وكذلك أقسط مبني من فعله ، أي : أقسط . وقد صرح سيبويه بأنه قياسي ، أي : بني أفعل التفضيل . ومعنى قوله : { وَأَدْنَى أَن لا تَرْتَابُواْ } أقرب لنفي الريب في معاملاتكم ، أي : الشك ، ذلك أن الكتاب الذي يكتبونه يدفع ما يعرض لهم من الريب كائناً ما كان .
قوله : { إِلا أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } " أن " في موضع نصب على الإستثناء قاله الأخفش ، و " كان " تامة ، أي : إلا أن تقع ، أو توجد تجارة ، والإستثناء منقطع ، أي : لكن وقت تبايعكم ، وتجارتكم حاضرة بحضور البدلين { تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } تتعاطونها يداً بيد ، فالإدارة : التعاطي ، والتقابض ، فالمراد التبايع الناجز يداً بيد ، فلا حرج عليكم إن تركتم كتابته . وقرىء بنصب تجارة على أن " كان " ناقصة ، أي : إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة . قوله : { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } قيل : معناه : وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع المذكور هنا ، وهو التجارة الحاضرة على أن الإشهاد فيها يكفي . وقيل : معناه : إذا تبايعتم أيّ تبايع كان حاضراً أو كالِئاً ، لأن ذلك أدفع لمادة الخلاف وأقطع لمنشأ الشجار . وقد تقدّم قريباً ذكر الخلاف في كون هذا الإشهاد واجباً ، أو مندوباً .
قوله : { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يحتمل أن يكون مبنياً للفاعل ، أو للمفعول ، فعلى الأوّل معناه : لا يضار كاتب ، ولا شهيد من طلب ذلك منهما ، إما بعدم الإجابة ، أو بالتحريف ، والتبديل ، والزيادة ، والنقصان في كتابته ، ويدل على هذا قراءة عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وابن أبي إسحاق : «ولا يضارر» بكسر الراء الأولى ، وعلى الثاني لا يضارَر كاتب ، ولا شهيد بأن يدعيا إلى ذلك ، وهما مشغولان بمهمّ لهما ، ويضيق عليهما في الإجابة ، ويؤذيا إن حصل منهما التراخي ، أو يطلب منهما الحضور من مكان بعيد ، ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود : « ولا يضارر» بفتح الراء الأولى ، وصيغة المفاعلة تدل على اعتبار الأمرين جميعاً . وقد تقدّم في تفسير قوله تعالى : { لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا } [ البقرة : 233 ] ما إذا راجعته زادك بصيرة إن شاء الله . قوله : { وَإِن تَفْعَلُواْ } أي : ما نهيتم عنه من المضارة { فَإِنَّهُ } أي : فعلكم هذا { فُسُوقٌ بِكُمْ } أي : خروج عن الطاعة إلى المعصية ملتبس بكم { واتقوا الله } في فعل ما أمركم به ، وترك ما نهاكم عنه { وَيُعَلّمُكُمُ الله } ما تحتاجون إليه من العلم ، وفيه الوعد لمن اتقاه أن يعلمه ، ومنه قوله تعالى : { إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا } [ الأنفال : 29 ] .
قوله : { وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ } لما ذكر سبحانه مشروعية الكتابة ، والإشهاد لحفظ الأموال ، ودفع الريب ، عقب ذلك بذكر حالة العذر ، عن وجود الكاتب ، ونص على حالة السفر ، فإنها من جملة أحوال العذر ، ويلحق بذلك كل عذر يقوم مقام السفر ، وجعل الرهان المقبوضة قائمة مقام الكتابة ، أي : فإن كنتم مسافرين { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا } في سفركم { فرهان مَّقْبُوضَةٌ } قال أهل العلم : الرهن في السفر ثابت بنص التنزيل ، وفي الحضر بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما ثبت في الصحيحين : «أنه رهن درعاً له من يهودي» .
وقرأ الجمهور : «كاتباً» أي : رجلاً يكتب لكم . وقرأ ابن عباس ، وأبيّ ومجاهد ، والضحاك ، وعكرمة ، وأبو العالية : «كتاباً» قال ابن الأنباري : فسره مجاهد فقال : معناه فإن لم تجدوا مداداً : يعني في الأسفار . وقرأ أبو عمرو وابن كثير «فرُهُنٌ» بضم الراء والهاء . وروي عنهما تخفيف الهاء جمع رهان ، قاله الفراء ، والزجاج ، وابن جرير الطبري . وقرأ عاصم بن أبي النجود : «فرَهْن» بفتح الراء ، وإسكان الهاء . وقراءة الجمهور : «رهان» . قال الزجاج : يقال في الرهن رهنت ، وأرهنت ، وكذا قال ابن الأعرابي ، والأخفش . وقال أبو علي الفارسي : يقال أرهنت في المعاملات ، وأما في القرض ، والبيع : فرهنت ، وقال ثعلب : الرواة كلهم في قول الشاعر :
فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرهُمْ ... نَجَوتُ وأرْهَنْتُهم مَالِكاً
على أرهنتهم على أنه يجوز : رهنته ، وأرهنته إلا الأصمعي ، فإنه رواه : وأرهنهم على أنه عطف لفعل مستقبل على فعل ماض وشبهه بقوله قمت ، وأصك وجهه . وقال ابن السكيت : أرهنت فيهما بمعنى أسلفت ، والمرتهن الذي يأخذ الرهن ، والشيء مرهون ، ورهين ، وراهنت فلاناً على كذا مراهنة خاطرته . وقد ذهب الجمهور إلى اعتبار القبض ، كما صرح به القرآن ، وذهب مالك إلى أنه يصح الارتهان بالإيجاب ، والقبول من دون قبض . قوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الذى اؤتمن أمانته } أي : إن كان الذي عليه الحق أميناً ، عند صاحب الحق لحسن ظنه به ، وأمانته لديه ، واستغنى بأمانته عن الارتهان { فَلْيُؤَدّ الذى اؤتمن } وهو : المديون { أمانته } أي : الدين الذي عليه ، والأمانة مصدر سمي به الذي في الذمة ، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث أن لها إليه نسبة ، وقريء : «ايتمن» بقلب الهمزة ياء ، وقريء بإدغام الياء في التاء ، وهو خطأ؛ لأن المنقلبة من الهمزة لا تدغم؛ لأنها في حكمها { وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } في أن لا يكتم من الحق شيئاً .
قوله : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة } نهي للشهود أن يكتموا ما تحملوه من الشهادة ، وهو في حكم التفسير لقوله : { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ } أي : لا يضارر بكسر الراء الأولى على أحد التفسيرين المتقدّمين . قوله : { وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ } خص القلب بالذكر؛ لأن الكتم من أفعاله ، ولكونه رئيس الأعضاء ، وهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله ، وإن فسدت فسد كله ، وارتفاع القلب على أنه فاعل ، أو مبتدأ ، وآثم خبره على ما تقرر في علم النحو ، ويجوز أن يكون قلبه بدلاً من آثم بدل البعض من الكل ، ويجوز أن يكون أيضاً بدلاً من الضمير الذي في آثم الراجع إلى من ، وقريء : «قلبه» بالنصب كما في قوله { إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } قال : نزلت في السلم في كيل معلوم إلى أجل معلوم .
وأخرج الشافعي ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وغيرهم عنه قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أجله ، وقرأ هذه الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه في الآية . قال : أمر بالشهادة عند المداينة لكيلا يدخل في ذلك جحود ، ولا نسيان ، فمن لم يشهد على ذلك ، فقد عصى { وَلاَ يَأْبَ الشهداء } يعني من احتيج إليه من المسلمين ليشهد على شهادة ، أو كانت عنده شهادة ، فلا يحلّ له أن يأبى إذا ما دُعي ، ثم قال بعد هذا : { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } والضرار أن يقول الرجل للرجل ، وهو عنه غنيّ إن الله قد أمرك أن لا تأبى إذا دعيت ، فيضارّه بذلك ، وهو مكتف بغيره ، فنهاه الله عن ذلك . وقال : { وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } يعني : معصية . قال : ومن الكبائر كتمان الشهادة ، لأن الله تعالى يقول : { وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ } .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم في قوله : { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } قال : واجب على الكاتب أن يكتب . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك قال : كانت الكتابة عزيمة ، فنسخها { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، قال : { فَإن كَانَ الذى عَلَيْهِ الحق سَفِيهًا } قال : هو الجاهل . { أَوْ ضَعِيفًا } قال : هو الأحمق . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك ، والسدي ، في قوله : { سَفِيهًا } قالا : هو الصبيّ الصغير . وأخرج ابن جرير ، من طريق عطية العوفي ، عن ابن عباس : { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ } قال صاحب الدين . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن قال : ولي اليتيم . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك : قال وليّ السفيه ، أو الضعيف . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، والبيهقي ، عن مجاهد في قوله : { مّن رّجَالِكُمْ } قال : من الأحرار . وأخرج ابن جرير ، عن الربيع في قوله : { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء } قال : عدول . وأخرج الشافعي ، والبيهقي ، عن مجاهد قال : عدلان حران مسلمان .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } يقول أن تنسى إحدى المرأتين الشهادة { فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى } يعني تذكرها التي حبطت شهادتها . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشهداء } قال : إذا كانت عندهم شهادة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الربيع قال : كان الرجل يطوف في القوم الكثير يدعوهم يشهدون ، فلا يتبعه أحد منهم ، فأنزل الله : { وَلاَ يَأْبَ الشهداء } .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة نحوه . وأخرج ابن المنذر ، عن عائشة في قوله : { أَقْسَطُ عِندَ الله } قالت : أعدل . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } قال : يأتي الرجل الرجلين ، فيدعوهما إلى الكتابة ، والشهادة ، فيقولان إنا على حاجة ، فيقول إنكما قد أمرتما أن تجيبا ، فليس له أن يضارّهما . وأخرج ابن جرير ، عن طاوس : { لا يُضَارَّ كَاتِبٌ } ، فيكتب ما لم يُملّ عليه { وَلاَ شَهِيدٌ } فيشهد بما لم يستشهد .
وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك في قوله : { وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ } الآية ، قال : من كان على سفر ، فبايع بيعاً إلى أجل ، فلم يجد كاتباً ، فرخص له في الرهان المقبوضة ، وليس له إن وجد كاتباً أن يرتهن . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال : لا يكون الرهن إلا في السفر . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، قال : لا يكون الرهن ، إلا مقبوضاً . وأخرج البخاري في تاريخه ، وأبو داود ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن ماجه ، وأبو نعيم ، والبيهقي ، عن أبي سعيد الخدري ، أنه قرأ هذه الآية : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } حتى بلغ { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا } قال : هذه نسخت ما قبلها . وأقول : رضي الله عن هذا الصحابي الجليل ، ليس هذا من باب النسخ ، فهذا مقيد بالائتمان ، وما قبله ثابت محكم لم ينسخ ، وهو مع عدم الائتمان . وأخرج ابن جرير ، عن السدّي في قوله : { قَلْبُهُ والله } قال : فاجر قلبه . وأخرج ابن جرير ، بإسناد صحيح ، عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين . وأخرج أبو عبيد في فضائله ، عن ابن شهاب قال : آخر القرآن عهداً بالعرش آية الربا ، وآية الدين .
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
قوله : { للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } قد تقدّم تفسيره . قوله : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ } إلى آخر الآية ، ظاهره أن الله يحاسب العباد على ما أضمرته أنفسهم ، أو أظهرته من الأمور التي يحاسب عليها ، فيغفر لمن يشاء منهم ما يغفره منها ، ويعذب من يشاء منهم بما أسرَّ ، أو أظهر منها ، هذا معنى الآية على مقتضى اللغة العربية .
وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية على أقوال : الأول : أنها ، وإن كانت عامة ، فهي : مخصوصة بكتمان الشهادة ، وأن الكاتم للشهادة يحاسب على كتمه ، سواء أظهر للناس أنه كاتم للشهادة ، أو لم يظهر . وقد روى هذا عن ابن عباس ، وعكرمة ، والشعبي ومجاهد ، وهو : مردود بما في الآية من عموم اللفظ ، ولا يصلح ما تقدم قبل هذه الآية من النهي عن كتم الشهادة أن تكون مختصة به . والقول الثاني أن ما في الآية مختص بما يطرأ على النفوس من الأمور التي هي بين الشك ، واليقين ، قاله مجاهد ، وهو أيضاً : تخصيص بلا مخصِّص . والقول الثالث : أنها محكمة عامة ، ولكن العذاب على ما في النفس يختص بالكفار ، والمنافقين . حكاه الطبري عن قوم ، وهو أيضاً : تخصيص بلا مخصِّص ، فإن قوله : { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } لا يختص ببعض معين إلا بدليل . والقول الرابع : أن هذه الآية منسوخة ، قاله ابن مسعود ، وعائشة ، وأبو هريرة ، والشعبي ، وعطاء ، ومحمد بن سيرين ، ومحمد بن كعب ، وموسى بن عبيدة ، وهو مرويّ ، عن ابن عباس ، وجماعة من الصحابة ، والتابعين ، وهذا هو الحق لما سيأتي من التصريح بنسخها ، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها » قوله : { يُحَاسِبْكُم بِهِ الله } قدم الجار ، والمجرور على الفاعل لإظهار العناية به ، وقدم الإبداء على الإخفاء؛ لأن الأصل في الأمور التي يحاسب عليها هو الأعمال البادية ، وأما تقديم الإخفاء في قوله سبحانه : { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله } [ آل عمران : 29 ] فلكون العلم يتعلق بالأعمال الخافية ، والبادية على السوية . وقدم المغفرة على التعذيب؛ لكون رحمته سبقت غضبه ، وجملة قوله : { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } مستأنفة ، أي : فهو يغفر ، وهي متضمنة لتفصيل ما أجمل في قوله : { يُحَاسِبْكُم بِهِ الله } وهذا على قراءة ابن عامر ، وعاصم . وأما على قراءة ابن كثير ، ونافع ، وأبي عمرو ، وحمزة ، والكسائي بجزم الراء ، والباء ، فالفاء عاطفة لما بعدها على المجزوم قبلها ، وهو : جواب الشرط ، أعني قوله : { يُحَاسِبْكُم بِهِ الله } . وقرأ ابن عباس ، والأعرج ، وأبو العالية ، وعاصم الجحدري بنصب الراء ، والباء في قوله : { فَيَغْفِرُ } { وَيُعَذّبَ } على إضمار أن عطفاً على المعنى .
وقرأ طلحة بن مصرف يغفر بغير فاء على البدل ، وبه قرأ الجعفي ، وخلاد .
وقد أخرج أحمد ، ومسلم ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي هريرة قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ } الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جثوا على الركب ، فقالوا : يا رسول الله كُلِّفْنا من الأعمال ما نطيق الصلاة ، والصيام ، والجهاد ، والصدقة ، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتريدون أن تقولوا ، كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا ، وعصينا ، بل قولوا : { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير } » فلما اقترأها القوم ، وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها : { آمنَ ;لرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ } الآية ، فلما فعلوا ذلك نسخها الله ، فأنزل : { لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } إلى آخرها . وأخرج أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، والبيهقي ، عن ابن عباس مرفوعاً نحوه ، وزاد ، فأنزل { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قال : قد فعلت : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا } قال : قد فعلت : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال : قد فعلت : { واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنا } الآية ، قال : قد فعلت . وقد رويت هذه القصة ، عن ابن عباس من طرق . وأخرج البخاري ، والبيهقي عن مروان الأصفر ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحسبه ابن عمر : { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } قال : نسختها الآية التي بعدها . وأخرج عبد بن حميد ، والترمذي ، عن علي نحوه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، والطبراني ، عن ابن مسعود ، نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن عائشة نحوه أيضاً .
وبمجموع ما تقدم يظهر لك ضعف ما أخرجه سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال : نزلت في كتمان الشهادة ، فإنها لو كانت كذلك لم يشتد الأمر على الصحابة . وعلى كل حال ، فبعد هذه الأحاديث المصرّحة بالنسخ ، والناسخ لم يبق مجال لمخالفتها ، ومما يؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين ، والسنن الأربع من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم ، أو تعمل به » وأخرج ابن جرير ، عن عائشة قالت : كل عبدٍ همَّ بسوءٍ ، ومعصيةٍ ، وحدَّث نفسه به حاسبه الله في الدنيا يخاف ، ويحزن ويشتدُّ همُّه لا يناله من ذلك شيئاً ، كما هم بالسوء ، ولم يعمل منه بشيء . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، عنها نحوه ، والأحاديث المتقدمة المصرِّحة بالنسخ تدفعه . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس قال : إن الله يقول يوم القيامة : إن كتَّابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها ، فأمَّا ما أسررتم في أنفسكم ، فأنا أحاسبكم به اليوم ، فأغفر لمن شئت ، وأعذب من شئت ، وهو مدفوع بما تقدم .
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
قوله : { بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ } أي : بِجَمِيع ما أنزل الله : { والمؤمنون } عطف على الرسول ، وقوله : { كُلٌّ } أي : من الرسول والمؤمنين { آمن بالله } ويجوز أن يكون قوله : { والمؤمنون } مبتدأ . وقوله : { كُلٌّ } مبتدأ ثان . وقوله : { آمن بالله } خبر المبتدأ الثاني ، وهو وخبره خبر المبتدأ الأوّل . وأفرد الضمير في قوله : { آمن بالله } مع رجوعه إلى كل المؤمنين ، لما أن المراد بيان إيمان كل فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع ، كما اعتبر ذلك في قوله تعالى : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين } [ النمل : 87 ] . قال الزجاج لما ذكر الله سبحانه في هذه السورة فرض الصلاة ، والزكاة ، وبين أحكام الحج ، وحكم الحيض ، والطلاق ، والإيلاء ، وأقاصيص الأنبياء ، وبين حكم الربا ، ذكر تعظيمه سبحانه بقوله : { للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض } ثم ذكر تصديق نبيه صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر تصديق المؤمنين بجميع ذلك ، فقال { آمن الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ والمؤمنون } أي : صدّق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها ، وكذلك المؤمنون كلهم صدّقوا بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، وقيل : سبب نزولها الآية التي قبلها . وقد تقدّم بيان ذلك .
قوله : { وَمَلَئِكَتِهِ } أي : من حيث كونهم عباده المكرّمين المتوسطين بينه ، وبين أنبيائه في إنزال كتبه ، وقوله : { وَكُتُبِهِ } لأنها المشتملة على الشرائع التي تَعبَّد بها عباده . وقوله : { وَرُسُلِهِ } لأنهم المبلغون لعباده ما نُزَّل إليهم . وقرأ نافع ، وابن كثير ، وعاصم في رواية أبي بكر ، وابن عامر ، وكتبه بالجمع . وقرءوا في التحريم ، و " كتابه " . وقرأ ابن عباس هنا ، و " كتابه " ، وكذلك قرأ حمزة ، والكسائي ، وروى عنه أنه قال : الكتاب أكثر من الكتب . وبينه صاحب الكشاف ، فقال : لأنه إذا أريد بالواحد الجنس ، والجنسية قائمة في وجدان الجنس كلها لم يخرج منه شيء ، وأما الجمع ، فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع . انتهى . ومن أراد تحقيق المقام ، فليرجع إلى شرح التلخيص المطوّل عند قول صاحب التلخيص «واستغراق المفرد أشمل» . وقرأ الجمهور { ورسُله } بضم السين . وقرأ أبو عمرو ، بتخفيف السين . وقرأ الجمهور { لا نفرّق } بالنون . والمعنى : يقولون : لا نفرق . وقرأ سعيد بن جبير ، ويحيى بن يعمر ، وأبو زرعة ، وابن عمر ، وابن جرير ، ويعقوب «لا يفرق» بالياء التحتية . وقوله : { بَيْنَ أَحَدٍ } ولم يقل بين آحاد ، لأن الأحد يتناول الواحد ، والجمع ، كما في قوله تعالى : { فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين } [ الحاقة : 47 ] فوصفه بقوله : { حاجزين } لكونه في معنى الجمع ، وهذه الجملة يجوز أن تكون في محل نصب على الحال ، وأن تكون خبراً آخر لقوله : { كُلٌّ } . وقوله : { مِن رُسُلِهِ } أظهر في محل الإضمار للاحتراز عن توهم اندراج الملائكة في الحكم ، أو الإشعار بعلة عدم التفريق بينهم .
وقوله : { وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } هو : معطوف على قوله : { آمن } وهو : وإن كان للمفرد ، وهذا للجماعة ، فهو جائز نظراً إلى جانب المعنى ، أي : أدركناه بأسماعنا ، وفهمناه ، وأطعنا ما فيه؛ وقيل : معنى سمعنا : أجبنا دعوتك . قوله : { غُفْرَانَكَ } مصدر منصوب بفعل مقدّر ، أي : اغفر غفرانك . قاله الزجاج ، وغيره ، وقدّم السمع ، والطاعة على طلب المغفرة؛ لكون الوسيلة تتقدّم على المتوسل إليه . قوله : { لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } التكليف هو : الأمر بما فيه مشقة ، وكُلفة ، والوُسْع : الطاقة ، والوسع : ما يسع الإنسان ، ولا يضيق عليه ، وهذه جملة مستقلة جاءت عقب قوله سبحانه { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ } الآية لكشف كربة المسلمين ، ودفع المشقة عليهم في التكليف بما في الأنفس ، وهي كقوله سبحانه { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } قوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } فيه ترغيب ، وترهيب ، أي : لها ثواب ما كسبت من الخير ، وعليها وزر ما اكتسبت من الشرّ ، وتقدّم « لها » ، و « عليها » على الفعلين ، ليفيد أن ذلك لها لا لغيرها ، وعليها لا على غيرها ، وهذا مبنيّ على أن كسب للخير فقط ، واكتسب للشرّ فقط ، كما قاله صاحب الكشاف ، وغيره ، وقيل : كل واحد من الفعلين يصدق على الأمرين ، وإنما كرّر الفعل ، وخالف بين التصريفين تحسيناً للنظم ، كما في قوله تعالى : { فَمَهّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [ الطارق : 17 ] . قوله : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } أي : لا تؤاخذنا بإثم ما يصدر منا من هذين الأمرين . وقد استشكل هذا الدعاء جماعة من المفسرين ، وغيرهم قائلين إن الخطأ ، والنسيان مغفوران غير مؤاخذ بهما ، فما معنى الدعاء بذلك ، فإنه من تحصيل الحاصل؟ وأجيب عن ذلك بأن المراد : طلب عدم المؤاخذة بما صدر عنهم من الأسباب المؤدية إلى النسيان ، والخطأ من التفريط ، وعدم المبالاة ، لا من نفس النسيان ، والخطأ ، فإنه لا مؤاخذة بهما ، كما يفيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « رفع عن أمتي الخطأ ، والنسيان » وسيأتي مخرّجه . وقيل : إنه يجوز للإنسان أن يدعو بحصول ما هو حاصل له قبل الدعاء لقصد استدامته . وقيل : إنه وإن ثبت شرعاً أنه لا مؤاخذة بهما ، فلا امتناع في المؤاخذة بهما عقلاً ، وقيل : لأنهم كانوا على جانب عظيم من التقوى . بحيث لا يصدر عنهم الذنب تعمداً ، وإنما يصدر عنهم خطأ ، أو نسياناً ، فكأنه وصفهم بالدعاء بذلك إيذاناً بنزاهة ساحتهم ، عما يؤاخذون به ، كأنه قيل : إن كان النسيان ، والخطأ مما يؤاخذ به ، فما منهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ ، والنسيان . قال القرطبي : وهذا لم يختلف فيه أن الإثم مرفوع ، وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام هل ذلك مرفوع ، ولا يلزم منه شيء ، أو يلزم أحكام ذلك كله؟ اختلف فيه ، والصحيح أن ذلك يختلف بحسب الوقائع ، فقسم لا يسقط باتفاق كالغرامات ، والديات ، والصلوات المفروضات ، وقسم يسقط باتفاق كالقصاص ، والنطق بكلمة الكفر ، وقسم ثالث مختلف فيه كمن أكل ناسياً في رمضان ، أو حنث ساهياً ، وما كان مثله مما يقع خطأ ، ونسياناً ، ويعرف ذلك في الفروع .
قوله : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا } عطف على الجملة التي قبله ، وتكرير النداء للإيذان بمزيد التضرّع ، واللُّجأ إلى الله سبحانه . والإصر : العبء الثقيل الذي يأصر صاحبه ، أي : يحبسه مكانه لا يستقل به لثقله . والمراد به هنا : التكليف الشاق ، والأمر الغليظ الصعب . وقيل : الإصر : شدّة العمل ، وما غلظ على بني إسرائيل من قتل الأنفس ، وقطع موضع النجاسة ، ومنه قول النابغة :
يا مانِعَ الضَّيْمِ أَنْ تَغْشَى سَرَاتَهم ... والحَامِل الإصر عَنْهمُ بَعْدَ مَا غَرقُوا
وقيل : الإصر : المسخ قردة ، وخنازير . وقيل : العهد ، ومنه قوله تعالى : { وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِى } [ آل عمران : 81 ] وهذا الخلاف يرجع إلى بيان ما هو الإصر الذي كان على من قبلنا ، لا إلى معنى الإصر في لغة العرب ، فإنه ما تقدّم ذكره بلا نزاع ، والإصار : الحبل الذي تربط به الأحمال ، ونحوها ، يقال أصر يأصر إصراً : حبس ، والإصر بكسر الهمزة من ذلك . قال الجوهري : والموضع مأصر ، والجمع مآصر ، والعامة تقول معاصر . ومعنى الآية : أنهم طلبوا من الله سبحانه أن لا يُحَمَّلهم مَنْ ثقل التكاليف ما حمَّل الأمم قبلهم . وقوله : { كَمَا حَمَلْتَهُ } صفة مصدر محذوف ، أي : حملاً مثل حملك إياه على من قبلنا ، أو صفة ل { إصراً } ، أي : إصراً مثل الإصر الذي حملته على من قبلنا . قوله : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } هو أيضاً عطف على ما قبله ، وتكرير النداء للنكتة المذكورة قبل هذا . والمعنى : لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق وقيل : هو عبارة عن إنزال العقوبات ، كأنه قال : لا تنزل علينا العقوبات بتفريطنا في المحافظة على تلك التكاليف الشاقة التي كَلَّفْتَ بها مَنْ قبلنا . وقيل : المراد به : الشاق الذي لا يكاد يستطاع من التكاليف . قال في الكشاف : وهذا تقرير لقوله : { وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا } .
قوله : { واعف عَنَّا } أي : عن ذنوبنا ، يقال عفوت عن ذنبه : إذا تركته ، ولم تعاقبه عليه { واغفر لَنَا } أي : استر على ذنوبنا . والغفر : الستر { وارحمنا } أي : تفضل برحمة منك علينا { أَنتَ مولانا } أي : ولينا ، وناصرنا ، وخرج هذا مخرج التعليم كيف يدعون؟ وقيل : معناه : أنت سيدنا ، ونحن عبيدك { فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } فإن من حق المولى أن ينصر عبيده ، والمراد عامة الكفرة ، وفيه إشارة إلى إعلاء كلمة الله في الجهاد في سبيله . وقد قدّمنا في شرح الآية التي قبل هذه أعني قوله : { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ } إلخ ، أنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال عقب كل دعوة من هذه الدعوات : قد فعلت ، فكان ذلك دليلاً على أنه سبحانه لم يؤاخذهم بشيء من الخطأ ، والنسيان ، ولا حمل ، عليهم شيئاً من الإصر الذي حمله على من قبلهم ، ولا حملهم ما لا طاقة لهم به ، وعفا عنهم ، وغفر لهم ، ورحمهم ، ونصرهم على القوم الكافرين ، والحمد لله رب العالمين .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن مقاتل بن حبان { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } لا نكفر بما جاءت به الرسل ، ولا نفرّق بين أحد منهم ، ولا نكذب به : { وَقَالُواْ سَمِعْنَا } للقرآن الذي جاء من الله { وَأَطَعْنَا } ، أقرّوا لله أن يطيعوه في أمره ونهيه . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } قال : قد غفرت لكم { وَإِلَيْكَ المصير } قال : إليك المرجع ، والمآب يوم يقوم الحساب .
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن حكيم بن جابر قال : لما نزلت : { آمن الرسول } الآية ، قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أحسن الثناء عليك ، وعلى أمتك ، فسل تعطه ، فقال : { لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } حتى ختم السورة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } قال : هم المؤمنون وسع الله عليهم أمر دينهم ، فقال { مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] . وقال : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } [ البقرة : 185 ] وقال : { فاتقوا الله مَا استطعتم } [ التغابن : 16 ] وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه في قوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } قال : من العمل . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { إِلاَّ وُسْعَهَا } قال : إلا طاقتها . وأخرج ابن المنذر ، عن الضحاك ، نحوه . وقد أخرج ابن ماجه ، وابن المنذر ، وابن حبان في صحيحه ، والطبراني ، والدارقطني ، والحاكم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه » وأخرجه ابن ماجه من حديث أبي ذرّ مرفوعاً ، والطبراني من حديث ثوبان ، ومن حديث ابن عمر ، ومن حديث عقبة بن عامر . وأخرجه البيهقي أيضاً من حديثه . وأخرجه ابن عديّ في الكامل ، وأبو نعيم من حديث أبي بكرة . وأخرجه ابن أبي حاتم من حديث أمّ الدرداء . وأخرجه سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، من حديث الحسن مرسلاً ، وأخرجه عبد بن حميد ، من حديث الشعبي مرسلاً . وفي أسانيد هذه الأحاديث مقال ، ولكنها يقوّي بعضها بعضاً ، فلا تقصر عن رتبة الحسن لغيره .
وقد تقدّم حديث : «إن الله قال قد فعلت» وهو في الصحيح وهو يشهد لهذه الأحاديث .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { إِصْرًا } قال : عهداً . وأخرج عبد بن حميد ، عن مجاهد مثله . وأخرج ابن جرير ، عن ابن جريج مثله . وأخرج أيضاً عن عطاء بن أبي رباح في قوله : { وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا } قال : لا تمسخنا قردة ، وخنازير . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد في الآية؛ أن الإصر : الذنب الذي ليس فيه توبة ، ولا كفارة . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الفضيل في الآية قال : كان الرجل من بني إسرائيل إذا أذنب قيل له : توبتك أن تقتل نفسك ، فيقتل نفسه ، فوضعت الآصار عن هذه الأمة . وأخرج عبد بن حميد ، عن عطاء قال : لما نزلت هذه الآيات : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا } إلخ ، كلما قالها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " آمين رب العالمين " . وأخرج أبو عبيد ، عن ميسرة أن جبريل لقن النبي صلى الله عليه وسلم خاتمة البقرة آمين . وأخرج أبو عبيد ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن معاذ بن جبل أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال : آمين . وأخرج أبو عبيد عن جبير بن نفير : أنه كان يقول : آمين آمين . وأخرج عبد بن حميد ، عن أبي ذرّ قال : هي للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك في هذه الآية قال : سألها نبيّ الله ربه ، فأعطاه إياها ، فكانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة .
وقد ثبت عند الشيخين ، وأهل السنن ، وغيرهم ، عن ابي مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه " وأخرج أبو عبيد ، والدارمي ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، والبيهقي ، عن النعمان بن بشير؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام ، فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ، ولا يقرآن في دار ثلاث ليال ، فيقربها شيطان " وأخرج أحمد ، والنسائي ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب بسند صحيح ، عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " أعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش ، لم يعطها نبيّ قبلي " وأخرج أحمد ، والبيهقي ، عن أبي ذرّ مرفوعاً ، نحوه . وأخرج أبو عبيد ، وأحمد ، ومحمد بن نصر ، عن عقبة بن عامر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اقرءوا هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة : { آمن الرسول } إلى خاتمتها ، فإن الله اصطفى بها محمداً "
وإسناده حسن . وأخرج مسلم ، عن ابن مسعود قال : لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى ، وأعطى ثلاثاً ، أعطى الصلوات الخمس ، وأعطى خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات .
وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب ، عن أبي ذرّ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش ، فتعلموهما ، وعلموهما نساءكم ، وأبناءكم ، فإنهما صلاة ، وقرآن ، ودعاء » وأخرج الديلمي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اثنان هما قرآن ، وهما يشفيان ، وهما مما يحبهما الله الآيتان من آخر البقرة » وأخرج الطبراني بسند جيد ، عن شدّاد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام ، فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ، لا يقرآن في دار ثلاث ليال ، فيقربها شيطان » وأخرج ابن عدي ، عن ابن مسعود الأنصاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أنزل الله آيتين من كنوز الجنة ، كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة ، من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل » وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ آخر سورة البقرة ، أو آية الكرسي ضحك وقال : « إنهما من كنز تحت العرش » . وأخرج ابن مردويه ، عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أعطيت فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش » وأخرج مسلم ، والنسائي ، واللفظ له ، عن ابن عباس قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضاً ، فرفع جبريل بصره فقال : هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط ، قال : فنزل منه ملك ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفاً منهما إلا أوتيته . فهذه ثلاثة عشر حديثاً في فضل هاتين الآيتين مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وقد روى في فضلهما من غير المرفوع ، عن عمر ، وعليّ ، وابن مسعود ، وأبي مسعود ، وكعب الأحبار ، والحسن ، وأبي قلابة ، وفي قول النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يغني عن غيره .
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
قرأ الحسن ، وعمرو بن عبيد ، وعاصم بن أبي النجود ، وأبو جعفر الرواسي « الم * الله » بقطع ألف الوصل على تقدير الوقف على { الم } كما يقدرون الوقف على أسماء الأعداد نحو واحد اثنان ثلاثة أربعة مع وصلهم . قال الأخفش : ويجوز « الم * الله » بكسر الهمزة لالتقاء الساكنين . قال الزجاج : هذا خطأ ، ولا تقوله العرب لثقله . وقد ذكر سيبويه في الكتاب أن فواتح السور التي لم تكن موازنة لمفرد طريق التلفظ بها الحكاية فقط ساكنة الأعجاز على الوقف ، سواء جعلت أسماء ، أو مسرودة على نمط التعديد ، وإن لزمها التقاء الساكنين لما أنه مغتفر في باب الوقف ، فحق هذه الفاتحة أن يوقف عليها ، ثم يبدأ بما بعدها ، كما فعله الحسن ، ومن معه في قراءتهم المحكية سابقاً . وأما فتح الميم على القراءة المشهورة ، فوجهه ما روى عن سيبويه أن الميم فتحت لالتقاء الساكنين . وقال الكسائي : حروف التهجي إذا لقيتها ألف وصل ، فحذفت الألف ، وحركت الميم بحركة الألف ، وكذا قال الفراء . وهذه الفواتح إن جعلت مسرودة على نمط التعديد ، فلا محل لها من الإعراب ، وإن جعلت أسماء للسورة ، فمحلها إما الرفع على أنها أخبار لمبتدآت مقدرة قبلها ، أو النصب على تقدير أفعال يقتضيها المقام كاذكر ، أو اقرأ ، أو نحوهما ، وقد تقدم في أوائل سورة البقرة ما يغني عن الإعادة .
وقوله : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ } مبتدأ ، وخبر ، والجملة مستأنفة ، أي : هو المستحق للعبودية . و { الحيّ القيوم } : خبران آخران للاسم الشريف ، أو خبران لمبتدأ محذوف ، أي : هو الحي القيوم ، وقيل : إنهما صفتان للمبتدإ الأول ، أو بدلان منه ، أو من الخبر ، وقد تقدّم تفسير الحيّ والقيوم . وقرأ جماعة من الصحابة « القيام » عمر ، وأبيّ بن كعب ، وابن مسعود . قوله : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب } أي : القرآن ، وقدم الظرف على المفعول به للاعتناء بالمنزل عليه صلى الله عليه وسلم وهي : إما جملة مستأنفة ، أو خبر آخر للمبتدأ الأوّل . قوله : { بالحق } أي : بالصدق ، وقيل : بالحجة الغالبة ، وهو في محل نصب على الحال . وقوله : { مُصَدّقاً } حال آخر من الكتاب مؤكدة؛ لأنه لا يكون إلا مصدقاً ، فلا تكون الحال منتقلة أصلاً ، وبهذا قال الجمهور ، وجوّز بعضهم الانتقال على معنى أنه مصدق لنفسه ولغيره . وقوله : { لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من الكتب المنزلة ، وهو متعلق بقوله : { مصدقاً } ، واللام للتقوية . قوله : { وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل } هذه الجملة في حكم البيان لقوله : لما بين يديه . وإنما قال هنا { أنزل } ، وفيما تقدّم { نزّل } : لأن القرآن نزل منجماً ، والكتابان نزلا دفعة واحدة ، ولم يذكر في الكتابين من أنزلا عليه ، وذكر فيما تقدّم أن الكتاب نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن القصد هنا ليس إلا إلى ذكر الكتابين لا ذكر من نزلا عليه .
وقوله : { مِن قَبْلُ } أي : أنزل التوراة ، والإنجيل من قبل تنزيل الكتاب . وقوله : { هُدًى لّلنَّاسِ } إما حال من الكتابين ، أو علة للإنزال . والمراد بالناس : أهل الكتابين ، أو ما هو أعمّ؛ لأن هذه الأمة متعبدة بما لم ينسخ من الشرائع . قال ابن فورك : هدى للناس المتقين ، كما قال في البقرة : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] ، قوله : { وَأَنزَلَ الفرقان } أي : الفارق بين الحق ، والباطل ، وهو القرآن ، وكرر ذكره تشريفاً له مع ما يشتمل عليه هذا الذكر الآخر من الوصف له بأنه يفرق بين الحق ، والباطل ، وذكر التنزيل أولاً ، والإنزال ثانياً لكونه جامعاً بين الوصفين ، فإنه أنزل إلى سماء الدنيا جملة ، ثم نزل منها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مفرّقاً منجماً على حسب الحوادث كما سبق . وقيل : أراد بالفرقان جميع الكتب المنزلة من الله تعالى على رسله ، وقيل : أراد الزبور لاشتماله على المواعظ الحسنة ، وقوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله } أي : بما يصدق عليه أنه آية من الكتب المنزلة وغيرها ، أو بما في الكتب المنزلة وغيرها أو بما في الكتب المنزلة المذكورة على وضع آيات الله موضع الضمير العائد إليها ، وفيه بيان الأمر الذي استحقوا به الكفر { لَهُمْ } بسبب هذا الكفر { عَذَابٌ شَدِيدٌ } أي : عظيم { والله عَزِيزٌ } لا يغالبه مغالب { ذُو انتقام } عظيم ، والنقمة : السطوة ، يقال : انتقم منه : إذا عاقبه بسبب ذنب قد تقدّم منه .
قوله : { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرض وَلاَ فِى السماء } هذه الجملة استئنافية لبيان سعة علمه ، وإحاطته بالمعلومات ، بما في الأرض والسماء ، مع كونها أوسع من ذلك ، لقصور عباده عن العلم بما سواهما من أمكنة مخلوقاته ، وسائر معلوماته ، ومن جملة ما لا يخفى عليه إيمان من آمن من خلقه ، وكفر من كفر .
قوله : { هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء } أصل اشتقاق الصورة من صاره إلى كذا أي : أماله إليه ، فالصورة مائلة إلى شبه وهيئة ، وأصل الرحم من الرحمة؛ لأنه مما يتراحم به ، وهذه الجملة مستأنفة مشتملة على بيان إحاطة علمه ، وأن من جملة معلوماته ما لا يدخل تحت الوجود ، وهو : تصوير عباده في أرحام أمهاتهم من نطف آبائهم كيف يشاء من حسن ، وقبيح ، وأسود ، وأبيض ، وطويل ، وقصير . و { كيف } معمول يشاء ، والجملة حالية .
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن جعفر بن محمد بن الزبير قال : «قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران ستون راكباً ، فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم ، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة ، والعاقب ، وعبد المسيح ، والسيد ، وهو الأيهم ، ثم ذكروا القصة في الكلام الذي دار بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الله أنزل في ذلك صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الربيع ، فذكر وفد نجران ، ومخاصمتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام ، وأن الله أنزل : { الم * الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم } .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد في قوله : { مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } قال : لما قبله من كتاب ، أو رسول . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة نحوه ، وقال في قوله : { وَأَنزَلَ الفرقان } هو القرآن فرق بين الحق ، والباطل ، فأحل فيه حلاله ، وحرم فيه حرامه ، وشرع فيه شرائعه ، وحد فيه حدوده ، وفرض فيه فرائضه ، وبين فيه بيانه ، وأمر بطاعته ، ونهى عن معصيته . وأخرج ابن جرير ، عن محمد بن جعفر بن الزبير في قوله : { وَأَنزَلَ الفرقان } أي : الفصل بين الحق ، والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى ، وغيره ، وقوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } أي : إن الله ينتقم ممن كفر بآياته بعد علمه بها ، ومعرفته بما جاء منه فيها . وفي قوله : { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرض وَلاَ فِى السماء } أي : قد علم ما يريدون ، وما يكيدون ، وما يضاهون بقولهم في عيسى إذ جعلوه رباً وإلهاً ، وعندهم من علمه غير ذلك غرّة بالله ، وكفراً به { هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء } قد كان عيسى ممن صوّر في الأرحام لا يدفعون ذلك ، ولا ينكرونه ، كما صوّر غيره من بني آدم ، فكيف يكون إلهاً ، وقد كان بذلك المنزل؟! وأخرج ابن المنذر ، عن ابن مسعود في قوله : { يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء } قال : ذكوراً ، وإناثاً . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وناس من الصحابة في قوله : { يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء } قال : إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين يوماً ، ثم تكون علقة أربعين يوماً ، ثم تكون مضغة أربعين يوماً ، فإذا بلغ أن يخلق بعث الله ملكاً يصوّرها ، فيأتي الملك بتراب بين أصبعيه ، فيخلط منه المضغة ، ثم يعجنه بها ، ثم يصوّر ، كما يؤمر فيقول : أذكر أم أنثى ، أشقيّ أم سعيد ، وما رزقه ، وما عمره؟ وما أثره ، وما مصائبه؟ فيقول الله ، ويكتب الملك ، فإذا مات ذلك الجسد دفن حيث أخذ ذلك التراب . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله : { يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء } قال : من ذكر ، وأنثى ، وأحمر ، وأسود ، وتامّ الخلق ، وغير تام الخلق .
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
{ الكتاب } هو : القرآن ، فاللام للعهد ، وقدم الظرف ، وهو { عليك } لما يفيده من الاختصاص . وقوله : { مِنْهُ آيات محكمات } الموافق لقواعد العربية أن يكون الظرف خبراً مقدّماً ، والأولى بالمعنى أن يكون مبتدأ تقديره : من الكتاب آيات بينات ، على نحو ما تقدّم في قوله : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ } [ البقرة : 8 ] وإنما كان أولى؛ لأن المقصود انقسام الكتاب إلى القسمين المذكورين لا مجرّد الإخبار عنهما بأنهما من الكتاب ، والجملة حالية في محل نصب ، أو مستأنفة لا محل لها .
وقد اختلف العلماء في تفسير المحكمات ، والمتشابهات على أقوال : فقيل : إن المحكم : ما عرف تأويله ، وفهم معناه ، وتفسيره ، والمتشابه : ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل؛ ومن القائلين بهذا جابر بن عبد الله ، والشعبي ، وسفيان الثوري ، قالوا : وذلك بجر الحروف المقطعة في أوائل السور . وقيل : المحكم : ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً ، والمتشابه ما يحتمل وجوهاً ، فإذا ردّت إلى وجه واحد ، وأبطل الباقي صار المتشابه محكماً ، وقيل : إن المحكم ناسخه ، وحرامه ، وحلاله ، وفرائضه ، وما نؤمن به ، ونعمل عليه ، والمتشابه : منسوخه ، وأمثاله ، وأقسامه وما نؤمن به ، ولا نعمل به . روى هذا عن ابن عباس ، وقيل : المحكم : الناسخ ، والمتشابه : المنسوخ ، روي عن ابن مسعود ، وقتادة ، والربيع ، والضحاك؛ وقيل : المحكم : الذي ليس فيه تصريف ، ولا تحريف عما وضع له ، والمتشابه : ما فيه تصريف ، وتحريف ، وتأويل قاله مجاهد ، وابن إسحاق . قال ابن عطية : وهذا أحسن الأقوال ، وقيل : المحكم : ما كان قائماً بنفسه لا يحتاج إلى أن يرجع فيه إلى غيره ، والمتشابه : ما يرجع فيه إلى غيره . قال النحاس : وهذا أحسن ما قيل في المحكمات ، والمتشابهات . قال القرطبي ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية ، وهو الجاري على وضع اللسان ، وذلك أن المحكم اسم مفعول من أحكم ، والإحكام : الإتقان ، ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ، ولا تردّد ، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته ، وإتقان تركيبها ، ومتى اختلّ أحد الأمرين جاء التشابه ، والإشكال . وقال ابن خويز منداد : للمتشابه وجوه : ما اختلف فيه العلماء : أيّ الآيتين نسخت الأخرى ، كما في الحامل المتوفى عنها زوجها ، فإن من الصحابة من قال : إن آية وضع الحمل نسخت آية الأربعة الأشهر ، والعشر ، ومنهم من قال بالعكس . وكاختلافهم في الوصية للوارث ، وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن يقدّم إذا لم يعرف النسخ ، ولم توجد شرائطه ، وكتعارض الأخبار ، وتعارض الأقيسة ، هذا معنى كلامه .
والأولى أن يقال : إن المحكم هو : الواضح المعنى الظاهر الدلالة ، إما باعتبار نفسه ، أو باعتبار غيره ، والمتشابه ما لا يتضح معناه ، أو لا تظهر دلالته لا باعتبار نفسه ، ولا باعتبار غيره . وإذا عرفت هذا عرفت أن هذا الاختلاف الذي قدّمناه ليس كما ينبغي ، وذلك لأن أهل كل قول عرفوا المحكم ببعض صفاته ، وعرفوا المتشابه بما يقابلها .
وبيان ذلك أن أهل القول الأول جعلوا المحكم ما وجد إلى علمه سبيل ، والمتشابه ما لا سبيل إلى علمه ، ولا شك أن مفهوم المحكم ، والمتشابه أوسع دائرة مما ذكروه ، فإن مجرد الخفاء ، أو عدم الظهور ، أو الإحتمال ، أو التردّد يوجب التشابه؛ وأهل القول الثاني : خصوا المحكم بما ليس فيه احتمال ، والمتشابه بما فيه احتمال ، ولا شك أن هذا بعض أوصاف المحكم ، والمتشابه لا كلها ، وهكذا أهل القول الثالث ، فإنهم خصوا كل واحد من القسمين بتلك الأوصاف المعينة دون غيرها؛ وأهل القول الرابع خصوا كل واحد منهما ببعض الأوصاف التي ذكرها أهل القول الثالث ، والأمر أوسع مما قالوه جميعاً ، وأهل القول الخامس خصوا المحكم بوصف عدم التصريف ، والتحريف ، وجعلوا المتشابه مقابله ، وأهملوا ما هو أهمّ من ذلك مما لا سبيل إلى علمه من دون تصريف ، وتحريف كفواتح السور المقطعة ، وأهل القول السادس خصوا المحكم بما يقوم بنفسه ، والمتشابه بما لا يقوم بها ، وأن هذا هو بعض أوصافهما ، وصاحب القول السابع ، وهو ابن خويز منداد عمد إلى صورة الوفاق ، فجعلها محكماً ، وإلى صورة الخلاف ، والتعارض ، فجعلها متشابهاً ، فأهمل ما هو أخص أوصاف كل واحد منهما من كونه باعتبار نفسه مفهوم المعنى ، أو غير مفهوم .
قوله : { هُنَّ أُمُّ الكتاب } أي : أصله الذي يعتمد عليه ، ويردّ ما خالفه إليه ، وهذه الجملة صفة لما قبلها . قوله : { وَأُخَرُ متشابهات } وصف لمحذوف مقدر ، أي : وآيات أخر متشابهات ، وهي جمع أخرى ، وإنما لم ينصرف؛ لأنه عدل بها عن الآخر؛ لأن أصلها أن يكون كذلك . وقال أبو عبيد : لم ينصرف؛ لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ، ولا نكرة ، وأنكر ذلك المبرّد . وقال الكسائي : لم تنصرف؛ لأنها صفة ، وأنكره أيضاً المبرّد . وقال سيبويه : لا يجوز أن يكون { أخر } معدولة عن الألف ، واللام؛ لأنها لو كانت معدولة عنها لكان معرفة ، ألا ترى أن « سحر » معرفة في جميع الأقاويل لما كانت معدولة . قوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } الزيغ : الميل : ومنه زاغت الشمس ، وزاغت الأبصار؛ ويقال : زاغ يزيغ زيغاً : إذا ترك القصد ، ومنه قوله تعالى : { فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] وهذه الآية تعمّ كل طائفة من الطوائف الخارجة عن الحق . وسبب النزول نصارى نجران ، كما تقدّم ، وسيأتي .
قوله : { فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ } أي : يتعلقون بالمتشابه من الكتاب ، فيشككون به على المؤمنين ، ويجعلونه دليلاً على ما هم فيه من البدعة المائلة عن الحق ، كما تجده في كل طائفة من طوائف البدعة ، فإنهم يتلاعبون بكتاب الله تلاعباً شديداً ، ويوردون منه لتنفيق جهلهم ما ليس من الدلالة في شيء .
قوله : { ابتغاء الفتنة } أي : طلباً منهم لفتنة الناس في دينهم ، والتلبيس عليهم ، وإفساد ذات بينهم { وابتغاء تَأْوِيلِهِ } أي : طلباً لتأويله على الوجه الذي يريدونه ، ويوافق مذاهبهم الفاسدة . قال الزجاج : معنى ابتغائهم تأويله : أنهم طلبوا تأويل بعثهم ، وإحيائهم ، فأعلم الله عز وجلّ أن تأويل ذلك ، ووقته لا يعلمه إلا الله . قال : والدليل على ذلك قوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ } [ الأعراف : 53 ] أي : يوم يرون ما يوعدون من البعث ، والنشور ، والعذاب { يَقُولُ الذين نَسُوهُ } [ الأعراف : 53 ] أي تركوه { قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق } [ الأعراف : 53 ] أي : قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل . قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } التأويل يكون بمعنى التفسير ، كقولهم : تأويل هذه الكلمة على كذا ، أي : تفسيرها ، ويكون بمعنى ما يئول الأمر إليه ، واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يئول إليه ، أي : صار ، وأوّلته تأويلاً ، أي : صيرته ، وهذه الجملة حالية ، أي : يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله ، والحال أن ما يعلم تأويله إلا الله .
وقد اختلف أهل العلم في قوله : { والرسخون فِي العلم } هل هو كلام مقطوع ، عما قبله ، أو معطوف على ما قبله؟ فتكون الواو للجمع ، فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع عما قبله ، وأن الكلام تمّ عند قوله : { إِلاَّ الله } هذا قول ابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة ، وعروة بن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبي الشعثاء ، وأبي نهيك ، وغيرهم ، وهو مذهب الكسائي ، والفراء ، والأخفش ، وأبي عبيد ، وحكاه ابن جرير الطبري ، عن مالك ، واختاره ، وحكاه الخطابي ، عن ابن مسعود ، وأبيّ بن كعب قال : وإنما روي عن مجاهد أنه نسق الراسخين على ما قبله ، وزعم أنهم يعلمونه ، قال : واحتج له بعض أهل اللغة ، فقال : معناه : والراسخون في العلم يعلمونه قائلين { آمنا به } وزعم أن موضع { يَقُولُونَ } نصب على الحال ، وعامة أهل اللغة ينكرونه ، ويستبعدونه؛ لأن العرب لا تضمر الفعل ، والمفعول معاً ، ولا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل ، فإذا لم يظهر فعل لم يكن حالاً ، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال : عبْد الله راكباً ، يعني : أقبل عبد الله راكباً ، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله : عبد الله يتكلم يصلح بين الناس ، فكان يصلح حالاً كقول الشاعر : أنشدنيه أبو عمرو . قال : أنشدنا أبو العباس ثعلب :
أرسَلْتُ فِيها رَجلاً لَكُالِكا ... يَقْصُر يَمْشِي وَيَطول بَارِكاً
فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده . وأيضاً ، فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئاً عن الخلق ، وينسبه لنفسه ، فيكون له في ذلك شريك ، ألا ترى قوله عزّ وجلّ : { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السموات والأرض الغيب إِلاَّ الله } [ النمل : 65 ] ، وقوله : { لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] ، وقوله : { كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }
[ القصص : 88 ] فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه به لا يشركه فيه غيره ، وكذلك قوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } ولو كانت الواو في قوله : { والرسخون } للنسق لم يكن لقوله : { كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا } فائدة . انتهى . قال القرطبي : ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره . فقد روي عن ابن عباس : أن الراسخين معطوف على اسم الله عزّ وجلّ ، وأنهم داخلون في علم المتشابه ، وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به . وقاله الربيع ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، والقاسم بن محمد ، وغيرهم ، و { يَقُولُونَ } على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخون كما قال :
الرِيحُ يَبْكِي شَجْوه ... والبرقُ يَلْمَعُ في الغَمَامَهْ
وهذا البيت يحتمل المعنيين ، فيجوز أن يكون ، و « البرق » مبتدأ ، والخبر « يلمع » على التأويل الأوّل ، فيكون مقطوعاً مما قبله ، ويجوز أن يكون معطوفاً على الريح ، ويلمع في موضع الحال على التأويل الثاني أي : لامعاً . انتهى . ولا يخفاك أن ما قاله الخطابي في وجه امتناع كون قوله : { يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ } حالاً مع أن العرب لا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل إلى آخر كلامه لا يتم إلا على فرض أنه لا فعل هنا ، وليس الأمر كذلك ، فالفعل مذكور ، وهو قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ } ولكنه جاء الحال من المعطوف ، وهو قوله : { والرسخون } دون المعطوف عليه ، وهو قوله : { إِلاَّ الله } وذلك جائز في اللغة العربية . وقد جاء مثله في الكتاب العزيز . ومنه قوله تعالى : { لِلْفُقَرَاء المهاجرين الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن ديارهم } [ الحشر : 8 ] إلى قوله : { والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا } الآية [ الحشر : 10 ] ، وكقوله : { وَجَاء رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ] أي : وجاءت الملائكة صفا صفا ، ولكن ها هنا مانع آخر من جعل ذلك حالاً ، وهو أن تقييد علمهم بتأويله بحال كونهم قائلين آمنا به ليس بصحيح ، فإن الراسخين في العلم على القول بصحة العطف على الإسم الشريف يعلمونه في كل حال من الأحوال لا في هذه الحالة الخاصة ، فاقتضى هذا أن جعل قوله : { يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ } حالاً غير صحيح ، فتعين المصير إلى الاستئناف والجزم بأن قوله : { والرسخون فِي العلم } مبتدأ خبره { يَقُولُونَ } ، ومن جملة ما استدل به القائلون بالعطف أن الله سبحانه وصفهم بالرسوخ في العلم ، فكيف يمدحهم ، وهم لا يعلمون ذلك؟ ويجاب عن هذا : بأن تركهم لطلب علم ما لم يأذن الله به ، ولا جعل لخلقه إلى علمه سبيلاً هو من رسوخهم؛ لأنهم علموا أن ذلك مما استأثر الله بعلمه ، وأن الذين يتبعونه هم الذين في قلوبهم زيغ ، وناهيك بهذا من رسوخ . وأصل الرسوخ في لغة العرب : الثبوت في الشيء ، وكل ثابت راسخ ، وأصله في الأجرام أن ترسخ الخيل ، أو الشجر في الأرض ، ومنه قول الشاعر :
لَقَدْ رَسَخَتْ فِي الصَّدْر مِنى مَوَدةٌ ... لِلَيْلى أبَتْ آياتُها أن تُغيَّرا
فهؤلاء ثبتوا في امتثال ما جاءهم عن الله من ترك اتباع المتشابه ، وإرجاع علمه إلى الله سبحانه . ومن أهل العلم من توسط بين المقامين فقال : التأويل يطلق ويراد به في القرآن شيئان : أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشيء ، وما يئول أمره إليه ، ومنه قوله : { هذا تَأْوِيلُ رؤياى } [ يوسف : 100 ] ، وقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ } [ الأعراف : 53 ] أي : حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد ، فإن أريد بالتأويل هذا ، فالوقف على الجلالة؛ لأن حقائق الأمور ، وكنهها لا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ ، ويكون قوله : { والرسخون فِي العلم } مبتدأ ، و { يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ } خبره . وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر ، وهو : التفسير ، والبيان ، والتعبير عن الشيء ، كقوله : { نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } [ يوسف : 36 ] أي بتفسيره فالوقف على { والرسخون فِي العلم } لأنهم يعلمون ، ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار ، وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه ، وعلى هذا ، فيكون { يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ } حالاً منهم ، ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون تأويله ، وأطنب في ذلك ، وهكذا جماعة من محققي المفسرين رجحوا ذلك . قال القرطبي : قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر : وهو : الصحيح ، فإن تسميتهم راسخين تقضي بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع ، لكن المتشابه يتنوع ، فمنه ما لا يعلم ألبتة كأمر الروح ، والساعة مما استأثر الله بعلمه ، وهذا لا يتعاطى علمه أحد ، فمن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه ، فإنما أراد هذا النوع . وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة ، فيتأول ، ويعلم تأويله المستقيم ، ويزال ما فيه من تأويل غير مستقيم . انتهى .
واعلم أن هذا الاضطراب الواقع في مقالات أهل العلم أعظم أسبابه اختلاف أقوالهم في تحقيق معنى المحكم ، والمتشابه؛ وقد قدّمنا لك ما هو الصواب في تحقيقهما ، ونزيدك ها هنا إيضاحاً ، وبياناً ، فنقول : إن من جملة ما يصدق عليه تفسير المتشابه الذي قدّمناه فواتح السور ، فإنها غير متضحة المعنى ، ولا ظاهرة الدلالة ، لا بالنسبة إلى أنفسها؛ لأنه لا يدري من يعلم بلغة العرب ، ويعرف عرف الشرع ما معنى آلم ، آلمر ، حم، طس ، طسما ونحوها؛ لأنه لا يجد بيانها في شيء من كلام العرب ، ولا من كلام الشرع ، فهي غير متضحة المعنى ، لا باعتبارها نفسها ، ولا باعتبار أمر آخر يفسرها ، ويوضحها ، ومثل ذلك الألفاظ المنقولة عن لغة العجم ، والألفاظ الغريبة التي لا يوجد في لغة العرب ، ولا في عرف الشرع ما يوضحها ، وهكذا ما استأثر الله بعلمه كالروح ، وما في قوله :
{ إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } إلى الآخر الآية [ لقمان : 34 ] ، ونحو ذلك ، وهكذا ما كانت دلالته غير ظاهرة لا باعتبار نفسه ، ولا باعتبار غيره ، كورود الشيء محتملاً لأمرين احتمالاً لا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك الشيء في نفسه ، وذلك كالألفاظ المشتركة مع عدم ورود ما يبين المراد من معنى ذلك المشترك من الأمور الخارجة ، وكذلك ورود دليلين متعارضين تعارضاً كلياً بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر ، لا باعتبار نفسه ، ولا باعتبار أمر آخر يرجحه . وأما ما كان واضح المعنى باعتبار نفسه بأن يكون معروفاً في لغة العرب ، أو في عرف الشرع ، أو باعتبار غيره ، وذلك كالأمور المجملة التي ورد بيانها في موضع آخر من الكتاب العزيز ، أو في السنة المطهرة ، أو الأمور التي تعارضت دلالتها ، ثم ورد ما يبين راجحها من مرجوحها في موضع آخر من الكتاب ، أو السنة ، أو سائر المرجحات المعروفة عند أهل الأصول المقبولة عند أهل الإنصاف ، فلا شك ، ولا ريب أن هذه من المحكم لا من المتشابه ، ومن زعم أنها من المتشابه ، فقد اشتبه عليه الصواب ، فاشدد يديك على هذا فإنك تنجو به من مضايق ، ومزالق وقعت للناس في هذا المقام حتى صارت كل طائفة تسمى ما دل لما ذهب إليه محكماً ، وما دل على ما يذهب إليه من يخالفها متشابهاً : سيما أهل علم الكلام ، ومن أنكر هذا ، فعليه بمؤلفاتهم .
واعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على أنه جميعه محكم ، ولكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية بل بمعنى آخر ، ومن ذلك قوله تعالى : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءاياته } [ هود : 1 ] وقوله : { تِلْكَ ءايات الكتاب الحكيم } [ يونس : 1 ] والمراد بالمحكم بهذا المعنى : أنه صحيح الألفاظ قويم المعاني فائق في البلاغة ، والفصاحة على كل كلام . وورد أيضاً ما يدل على أنه جميعه متشابه لكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها بل بمعنى آخر ، ومنه قوله تعالى : { كتابا متشابها } [ الزمر : 23 ] والمراد بالمتشابه بهذا المعنى : أنه يشبه بعضه بعضاً في الصحة ، والفصاحة ، والحسن ، والبلاغة .
وقد ذكر أهل العلم لورود المتشابه في القرآن فوائد : منها : أنه يكون في الوصول إلى الحق مع وجودها فيه مزيد صعوبة ، ومشقة ، وذلك يوجب مزيد الثواب للمستخرجين للحق ، وهم الأئمة المجتهدون ، وقد ذكر الزمخشري ، والرازي ، وغيرهما وجوهاً هذا أحسنها ، وبقيتها لا تستحق الذكر ها هنا .
قوله : { كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا } فيه ضمير مقدر عائد على مسمى المحكم ، والمتشابه ، أي : كله ، أو المحذوف غير ضمير ، أي : كل واحد منهما ، وهذا من تمام المقول المذكور قبله . وقوله : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } أي : العقول الخالصة : وهم الراسخون في العلم ، الواقفون عند متشابهه ، العالمون بمحكمه العاملون بما أرشدهم الله إليه في هذه الآية .
وقوله : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ } الخ من تمام ما يقوله الراسخون ، أي : يقولون آمنا به كل من عند ربنا ، ويقولون : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا } قال ابن كيسان : سألوا ألا يزيغوا ، فتزيغ قلوبهم نحو قوله تعالى : { فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] كأنهم لما سمعوا قوله سبحانه : { وَأَمَّا الذين فِى قُلُوبِهِم زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ } قالوا : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا } باتباع المتشابه : { بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } إلى الحق بما أذنت لنا من العمل بالآيات المحكمات ، والظرف ، وهو قوله : { بعد } منتصب بقوله : لا تزغ . قوله : { وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } أي : كائنة من عندك ، و « من » لابتداء الغاية و « لدن » بفتح اللام ، وضم الدال ، وسكون النون ، وفيه لغات أخر هذه أفصحها ، وهو ظرف مكان ، وقد يضاف إلى الزمان ، وتنكير { رحمة } للتعظيم أي : رحمة عظيمة واسعة . وقوله : { إِنَّكَ أَنتَ الوهاب } تعليل للسؤال ، أو لإعطاء المسئول .
وقوله : { رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس } أي : باعثهم ومحييهم بعد تفرّقهم { لِيَوْمٍ } هو يوم القيامة أي : لحساب يوم ، أو لجزاء يوم ، على تقدير حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه . قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي : في وقوعه ووقوع ما فيه من الحساب ، والجزاء ، وقد تقدم تفسير الريب ، وجملة قوله : { إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } للتعليل لمضمون ما قبلها ، أي : أن الوفاء بالوعد شأن الإله سبحانه ، وخلفه يخالف الألوهية ، كما أنها تنافيه ، وتباينه .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : المحكمات ناسخه ، وحلاله ، وحرامه ، وحدوده ، وفرائضه ، وما نؤمن به ، ونعمل به . والمتشابهات منسوخه ، ومقدّمه ، ومؤخره ، وأمثاله ، وأقسامه ، وما نؤمن به ، ولا نعمل به . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال في قوله : { مِنْهُ آيات محكمات } قال : الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات : { قُلْ تَعَالَوْاْ } [ الأنعام : 151 ] والآيتان بعدها . وفي رواية عنه أخرجها عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم في قوله : { آيات محكمات } قال : من هنا { قُلْ تَعَالَوْاْ } إلى ثلاث آيات ، ومن هنا { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه } [ الإسراء : 23 ] إلى ثلاث آيات بعدها . وأقول : رحم الله ابن عباس ما أقل جدوى هذا الكلام المنقول عنه . فإن تعيين ثلاث آيات ، أو عشر ، أو مائة من جميع آيات القرآن ، ووصفها بأنها محكمة ليس تحته من الفائدة شيء ، فالمحكمات هي أكثر القرآن على جميع الأقوال حتى على قوله المنقول عنه قريباً من أن المحكمات ناسخه ، وحلاله الخ ، فما معنى تعيين تلك الآيات من آخر سورة الأنعام؟ . وأخرج عبد بن حميد ، عنه قال : المحكمات : الحلال والحرام ، وللسلف أقوال كثيرة هي راجعة إلى ما قدّمنا في أوّل هذا البحث .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : { فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } يعني : أهل الشك ، فيحملون المحكم على المتشابه ، والمتشابه على المحكم ، ويلبسون ، فلبس الله عليهم : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } قال : تأويله يوم القيامة لا يعلمه إلا الله . وأخرج ابن جرير ، عن ابن مسعود { زَيْغٌ } قال : شك . وفي الصحيحين ، وغيرهما ، عن عائشة قالت «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { هُوَ الذى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب } إلى قوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } إلى قوله : { أُوْلُواْ الالباب } قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا رأيتم الذين يجادلون فيه ، فهم الذين عني ، فاحذروهم " وفي لفظ «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذي سماهم الله ، فاحذروهم» هذا لفظ البخاري ، ولفظ ابن جرير ، وغيره «فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ، والذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله ، فلا تجالسوهم» وأخرج عبد بن حميد ، وعبد الرزاق ، وأحمد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ } قال : هم الخوارج .
وأخرج ابن جرير ، والحاكم وصححه ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان الكتاب الأوّل ينزل من باب واحد على حرف واحد ، ونزل القرآن على سبعة أحرف : زاجر ، وآمر ، وحلال وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال ، فأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، وافعلوا ما أمرتم به ، وانتهوا عما نهيتم عنه ، واعتبروا بأمثاله ، واعملوا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا " وأخرجه ابن أبي حاتم ، عن ابن مسعود موقوفاً . وأخرج الطبراني ، عن عمر بن أبي سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن مسعود ، فذكر نحوه ، وأخرج البخاري في التاريخ عن علي مرفوعاً بإسناد ضعيف نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي داود في المصاحف ، عن ابن مسعود نحوه . وأخرج ابن جرير ، وأبو يعلى ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نزل القرآن على سبعة أحرف ، والمراء في القرآن كفر ، ما عرفتم ، فاعملوا به ، وما جهلتم منه ، فردوه إلى عالمه " وإسناده صحيح . وأخرج البيهقي في الشعب ، عن أبي هريرة مرفوعاً ، وفيه : " واتبعوا المحكم وآمنوا بالمتشابه " وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، عن طاوس قال : كان ابن عباس يقرؤها : " وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله وَيَقُولُ الراسخون فِى العلم آمنا بِهِ " وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن الأعمش قال في قراءة عبد الله : وإن حقيقة تأويله إلا عند الله ، والراسخون في العلم يقولون : آمنا به .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي الشعثاء ، وأبي نهيك قال : إنكم تصلون هذه الآية ، وهي مقطوعة : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والرسخون فِي العلم يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا } فانتهى علمهم إلى قولهم الذي قالوا . وأخرج ابن جرير ، عن عروة . قال : الراسخون في العلم لا يعلمون تأويله ، ولكنهم يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن عمر بن عبد العزيز نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، عن أبيّ قال : كتاب الله ما استبان ، فاعمل به ، وما اشتبه عليك ، فآمِن به ، وكله إلى عالمه . وأخرج أيضاً ، عن ابن مسعود قال : إن للقرآن مناراً ، كمنار الطريق ، فما عرفتم ، فتمسكوا به ، وما اشتبه عليكم ، فذروه . وأخرج أيضاً ، عن معاذ نحوه .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس قال : تفسير القرآن على أربعة وجوه : تفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعذر الناس بجهالته من حلال ، أو حرام ، وتفسير تعرفه العرب بلغتها ، وتفسير لا يعلم تأويله إلا الله ، من ادعى علمه ، فهو كذاب . وأخرج ابن جرير عنه قال : أنزل القرآن على سبعة أحرف : حلال وحرام لا يعذر أحد بالجهالة به ، وتفسير تفسره العرب ، وتفسير تفسره العلماء ، ومتشابه لا يعلمه إلا الله ، ومن ادّعى علمه سوى الله ، فهو كاذب . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه قال : أنا ممن يعلم تأويله . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق عطية العوفي عنه في قوله : { يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ } نؤمن بالمحكم ، وندين به ، ونؤمن بالمتشابه ، ولا ندين به ، وهو من عند الله كله .
وأخرج الدارمي في مسنده ، ونصر المقدسي في الحجة ، عن سليمان بن يسار : أن رجلاً يقال له ضبيع قدم المدينة ، فجعل يسأل عن متشابه القرآن . فأرسل إليه عمر ، وقد أعدّ له عراجين النخل ، فقال : من أنت؟ فقال : أنا عبد الله ضبيع ، فقال : وأنا عبد الله عمر ، فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين ، فضربه حتى دمى رأسه ، فقال : يا أمير المؤمنين حسبك قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي . وأخرجه الدارمي أيضاً من وجه آخر ، وفيه : أنه ضربه ثلاث مرات يتركه في كل مرة حتى يبرأ ، ثم يضربه . وأخرج أصل القصة ابن عساكر في تاريخه ، عن أنس . وأخرج الدارمي ، وابن عساكر : أن عمر كتب إلى أهل البصرة أن لا يجالسوا ضبيعاً ، وقد أخرج هذه القصة جماعة .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، عن أنس ، وأبي أمامة ، وواثلة بن الأسقع ، وأبي الدرداء؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم؟ فقال :
" من برّت يمينه ، وصدق لسانه ، واستقام قلبه ، ومن عفّ بطنه ، وفرجه ، فذلك من الراسخين في العلم " وأخرج ابن عساكر من طريق عبد الله بن يزيد الأزدي عن أنس مرفوعاً نحوه . وأخرج أبو داود ، والحاكم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الجدال في القرآن كفر " وأخرج نصر المقدسي في الحجة ، عن ابن عمر قال : «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن وراء حجرته قوم يتجادلون بالقرآن ، فخرج محمرة وجنتاه ، كأنما يقطران دماً ، فقال : " يا قوم لا تجادلوا بالقرآن ، فإنما ضل من كان قبلكم بجدالهم ، إن القرآن لم ينزل ، ليكذب بعضه بعضاً ، ولكن نزل ليصدق بعضه بعضاً ، فما كان من محكمه ، فاعملوا به ، وما كان من متشابهه ، فآمنوا به " وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أم سلمة : «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول " يا مقلب القلوب ثبت قلبي علي دينك ، ثم قرأ : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } الآية " وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي ، وابن جرير ، والطبراني ، وابن مردويه عنها مرفوعاً نحوه بأطول منه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وابن مردويه ، عن عائشة مرفوعاً نحوه . وقد ورد نحوه من طرق أخر . وأخرج ابن النجار في تاريخه في قوله : { رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ } الآية . عن جعفر بن محمد الخلدي قال : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن : " من قرأ هذه الآية على شيء ضاع منه ردّه الله عليه ، ويقول بعد قراءتها : يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع بيني وبين مالي إنك على كل شيء قدير " .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
المراد ب { الذين كفروا } : جنس الكفرة . وقيل : وفد نجران ، وقيل : قريظة ، وقيل : النضير ، وقيل : مشركو العرب . وقرأ السلمي : « لن يُغني » بالتحتية ، وقرأ الحسن بكون الياء الآخرة تخفيفاً . قوله : { مِنَ الله شَيْئاً } أي : من عذابه شيئاً من الإغناء ، وقيل : إن كلمة من بمعنى عند ، أي : لا تغني عند الله شيئاً قاله أبو عبيد ، وقيل : هي بمعنى بدل . والمعنى : بدل رحمة الله ، وهو بعيد . قوله : { وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النار } الوقود : اسم للحطب ، وقد تقدم الكلام عليه في سورة البقرة ، أي : هم حطب جهنم الذي تسعر به ، وهم : مبتدأ ، ووقود خبره ، والجملة خبر أولئك ، أو هم ضمير فصل ، وعلى التقديرين ، فالجملة مستأنفة مقرّرة لقوله : { لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم } الآية . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وطلحة بن مصرف « وَقُودُ » بضم الواو ، وهو مصدر ، وكذلك الوقود بفتح الواو في قراءة الجمهور يحتمل أن يكون اسماً للحطب ، كما تقدم ، فلا يحتاج إلى تقدير ، ويحتمل أن يكون مصدراً؛ لأنه من المصادر التي تأتي على وزن الفعول ، فتحتاج إلى تقدير ، أي : هم أهل ، وقود النار .
قوله : { كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ } الدأب : الاجتهاد ، يقال دأب الرجل في عمله يدأب دأباً ودءوباً : إذا جدّ ، واجتهد ، والدائبان الليل ، والنهار ، والدأب : العادة ، والشأن ، ومنه قول امرىء القيس :
كدأبك من أمِّ الحُوَيِرِثِ قَبْلَها ... وَجَارَتها أمِّ الرَّبابِ بِمَأسَلِ
والمراد هنا : كعادة آل فرعون ، وشأنهم ، وحالهم ، واختلفوا في الكاف ، فقيل : هي في موضع رفع تقديره دأبهم كدأب آل فرعون مع موسى . وقال الفراء : إن المعنى : كفرت العرب ، ككفر آل فرعون . قال النحاس : لا يجوز أن تكون الكاف متعلقة بكفروا ، لأن كفروا داخلة في الصلة ، وقيل : هي متعلقة بأخذهم الله ، أي : أخذهم أخذه ، كما أخذ آل فرعون ، وقيل : هي متعلقة ب { لن تغني } ، أي : لم تغن عنهم غناء ، كما لم تغن عن آل فرعون ، وقيل : إن العامل فعل مقدر من لفظ الوقود ، ويكون التشبيه في نفس الإحراق . قالوا : ويؤيده قوله تعالى : { اأدخلوا آل فرعون أشد العذاب } [ غافر : 46 ] . { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] ، والقول الأوّل هو الذي قاله جمهور المحققين ، ومنهم الأزهري . قوله : { والذين مِن قَبْلِهِمْ } أي : من قبل آل فرعون من الأمم الكافرة ، أي : وكدأب الذين من قبلهم . قوله : { كَذَّبُواْ بأياتنا فَأَخَذَهُمُ الله } يحتمل أن يريد الآيات المتلوّة ، ويحتمل أن يريد الآيات المنصوبة للدلالة على الوحدانية ، ويصح إرادة الجميع . والجملة بيان ، وتفسير لدأبهم ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من آل فرعون والذين من قبلهم على إضمار قد : أي دأب هؤلاء كدأب أولئك قد كذبوا الخ . وقوله { بِذُنُوبِهِمْ } أي بسائر ذنوبهم التي من جملتها تكذيبهم .
قوله : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } قيل : هم اليهود ، وقيل : هم مشركو مكة ، وسيأتي بيان سبب نزول الآية . وقوله : { سَتُغْلَبُونَ } قريء بالفوقية ، والتحتية ، وكذلك { تُحْشَرُونَ } . وقد صدق الله ، وعده بقتل بني قريظة ، وإجلاء بني النضير ، وفتح خيبر ، وضرب الجزية على سائر اليهود ، ولله الحمد . قوله : { وَبِئْسَ المهاد } يحتمل أن يكون من تمام القول الذي أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم ، ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة تهويلاً ، وتفظيعاً .
قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ } أي : علامة عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم ، وهذه الجملة جواب قسم محذوف ، وهي : من تمام القول المأمور به لتقرير مضمون ما قبله ، ولم يقل " كانت "؛ لأن التأنيث غير حقيقي . وقال الفراء : إنه ذكر الفعل لأجل الفصل بينه ، وبين الإسم بقوله : { لَكُمْ } . والمراد بالفئتين : المسلمون ، والمشركون لما الْتقوا يوم بدر . قوله : { فِئَةٌ تقاتل فِى سَبِيلِ الله } قراءة الجمهور برفع { فئة } . وقرأ الحسن ، ومجاهد «فئة» و«كافرة» بالخفض ، فالرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف ، أي : إحداهما فئة . وقوله : { تقاتل } في محل رفع على الصفة ، والجرّ على البدل من قوله : { فِئَتَيْنِ } . وقوله : { وأخرى } أي : وفئة أخرى كافرة . وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب فيهما . قال ثعلب : هو على الحال ، أي : التقتا مختلفتين ، مؤمنة ، وكافرة . وقال الزجاج : النصب بتقدير أعني؛ وسميت الجماعة من الناس فئة؛ لأنه يفاء إليها : أي : يرجع إليها في وقت الشدة . وقال الزجاج : الفئة : الفرقة مأخوذة من فأوت رأسه بالسيف : إذا قطعته ، ولا خلاف أن المراد بالفئتين هما : المقتتلتان في يوم بدر ، وإنما وقع الخلاف في المخاطب بهذا الخطاب ، فقيل : المخاطب بها : المؤمنون . وقيل : اليهود . وفائدة الخطاب للمؤمنين : تثبيت نفوسهم ، وتشجيعها ، وفائدته إذا كان مع اليهود عكس الفائدة المقصودة بخطاب المسلمين .
قوله : { يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ } قال أبو علي الفارسي : الرؤية في هذه الآية رؤية العين ، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد ، ويدل عليه قوله : { رَأْىَ العين } والمراد أنه يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين ، أو مثلي عدد المسلمين ، وهذا على قراءة الجمهور بالياء التحتية ، وقرأ نافع بالفوقية . وقوله : { مّثْلَيْهِمْ } منتصب على الحال . وقد ذهب الجمهور إلى أن فاعل ترون هم المؤمنون ، والمفعول هم الكفار . والضمير في مثليهم يحتمل أن يكون للمشركين ، أي : ترون أيها المسلمون المشركين مثلي ما هم عليه من العدد ، وفيه بُعْد أن يكثر الله المشركين في أعين المؤمنين ، وقد أخبرنا أنه قللهم في أعين المؤمنين ، فيكون المعنى ترون أيها المسلمون المشركين مثليكم في العدد ، وقد كانوا ثلاثة أمثالهم ، فقلل الله المشركين في أعين المسلمين ، فأراهم إياهم مثلي عدتهم لتقوى أنفسهم . وقد كانوا أعلموا أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار ، ويحتمل أن يكون الضمير في { مثليهم } للمسلمين ، أي : ترون أيها المسلمون أنفسكم مثلي ما أنتم عليه من العدد لتقوى بذلك أنفسكم ، وقد قال من ذهب إلى التفسير الأوّل - أعني : أن فاعل الرؤية المشركون ، وأنهم رأوا المسلمين مثلي عددهم - أنه لا يناقض هذا ما في سورة الأنفال من قوله تعالى :
{ وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ } [ الأنفال : 44 ] بل قللوا أوّلا في أعينهم ليلاقوهم ، ويجترئوا عليهم ، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا . قوله : { رَأْىَ العين } مصدر مؤكد لقوله : { يَرَوْنَهُمْ } أي : رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها { والله يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء } أي : يقوّي من يشاء أن يقويه ، ومن جملة ذلك تأييد أهل بدر بتلك الرؤية { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي : في رؤية القليل كثيراً { لَعِبْرَةً } فعلة من العبور ، كالجلسة من الجلوس . والمرد الاتعاظ ، والتنكير للتعظيم ، أي : عبرة عظيمة ، وموعظة جسيمة .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ } قال : كصنيع آل فرعون . وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عنه قال كفعل . وأخرج مثله أبو الشيخ ، عن مجاهد . وأخرج ابن جرير ، عن الربيع قال : كسنتهم . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب ، ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع قال : " يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشاً ، " قالوا يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً كانوا غماراً لا يعرفون القتال ، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ، وأنك لم تلق مثلنا ، فأنزل الله : { قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ } إلى قوله : { أُوْلِى الأبصار } » . وأخرج ابن جرير ، وابن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، عن عاصم بن عمر بن قتادة مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن عكرمة قال : قال فنحاص اليهودي ، وذكر نحوه .
وأخرج ابن جرير ، عن قتادة في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ } عبرة ، وتفكر . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تقاتل فِى سَبِيلِ الله } أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر { وأخرى كَافِرَةٌ } فئة قريش الكفار . وأخرج عبد الرزاق أن هذه الآية نزلت في أهل بدر . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الربيع في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ } يقول : قد كان لكم في هؤلاء عبرة ، ومتفكر أيدهم الله ، ونصرهم على عدوهم يوم بدر ، كان المشركون تسعمائة وخمسين رجلاً ، وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً . وأخرج ابن جرير ، عن ابن مسعود في الآية قال : هذا يوم بدر نظرنا إلى المشركين ، فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم ، فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في الآية قال : أنزلت في التخفيف يوم بدر على المؤمنين كانوا يومئذ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، وكان المشركون مثليهم ستمائة وستة وعشرين ، فأيد الله المؤمنين .
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
قوله : { زُيّنَ لِلنَّاسِ } الخ : كلام مستأنف لبيان حقارة ما تستلذه الأنفس في هذه الدار ، والمزين قيل : هو الله سبحانه ، وبه قال عمر ، كما حكاه عنه البخاري ، وغيره ، ويؤيد قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ } [ الكهف : 7 ] . وقيل : المزين هو الشيطان ، وبه قال الحسن ، حكاه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه . وقرأ الضحاك : «زين» على البناء للفاعل . وقرأه الجمهور على البناء للمفعول . والمراد بالناس : الجنس . والشهوات جمع شهوة ، وهي نزوع النفس إلى ما تريده . والمراد هنا : المشتهيات عبر عنها بالشهوات ، مبالغة في كونها مرغوباً فيها ، أو تحقيراً لها؛ لكونها مسترذلة عند العقلاء من صفات الطبائع البهيمية ، ووجه تزيين الله سبحانه لها : ابتلاء عباده ، كما صرح به في الآية الأخرى . وقوله : { مِنَ النساء والبنين } في محل الحال : أي : زين للناس حب الشهوات حال كونها من النساء ، والبنين الخ . وبدأ بالنساء لكثرة تشوّق النفوس إليهنّ؛ لأنهن حبائل الشيطان ، وخص البنين دون البنات؛ لعدم الاطراد في محبتهن . والقناطير جمع قنطار ، وهو اسم للكثير من المال . قال الزجاج : القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه : تقول العرب قنطرت الشيء : إذا أحكمته ، ومنه سميت القنطرة لإحكامها . وقد اختلف في تقديره على أقوال للسلف ستأتي إن شاء الله . واختلفوا في معنى { المقنطرة } ، فقال ابن جرير الطبري : معناها المضعفة ، وقال القناطير : ثلاثة ، والمقنطرة تسعة . وقال الفراء : القناطير جمع القنطار ، والمقنطرة جمع الجمع ، فتكون تسع قناطير ، وقيل : المقنطرة : المضروبة ، وقيل : المكلمة كما يقال : بدرة مبدرة ، وألوف مؤلفة ، وبه قال مكي ، وحكاه الهروي . وقال ابن كيسان : لا تكون المقنطرة أقلّ من سبع قناطير . وقوله : { مِنَ الذهب والفضة } بيان للقناطير ، أو حال { والخيل المسومة } قيل : هي المرعية في المروج ، والمسارح ، يقال سامت الدابة ، والشاة : إذا سرحت ، وقيل : هي المعدّة للجهاد . وقيل : هي الحسان ، وقيل : المعلمة من السومة ، وهي العلامة ، أي : التي يجعل عليها علامة لتتميز عن غيرها . وقال ابن فارس في المجمل : المسومة : المرسلة ، وعليها ركبانها . وقال ابن كيسان : البلق . والأنعام هي : الإبل ، والبقر ، والغنم ، فإذا قلت : نعم : فهي الإبل خاصة قاله الفراء ، وابن كيسان ، ومنه قول حسان :
وَكَانَتْ لا يَزَالُ بِها أنِيس ... خِلاَلَ مُروجَهَا نَعمٌ وشَاءُ
والحرث : اسم لكل ما يحرث ، وهو مصدر سمي به المحروث ، يقول حرث الرجل حرثاً : إذا أثار الأرض ، فيقع على الأرض ، والزرع . قال ابن الأعرابي الحرث : التفتيش . قوله : { ذلك متاع الحياة الدنيا } أي : ذلك المذكور ما يتمتع به ، ثم يذهب ، ولا يبقى ، وفيه تزهيد في الدنيا ، وترغيب في الآخرة . و { المآب } : المرجع آب يئوب إياباً : إذا رجع ، ومنه قول امريء القيس :
لَقَد طَوّفْتُ فِي الآفَاقِ حَتَّى ... رَضِيتُ منَ الغَنِيمةِ بالإيَابِ
قوله : { قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم } أي : هل أخبركم بما هو خير لكم من تلك المستلذات؟ وإبهام الخير للتفخيم ، ثم بينه بقوله : { لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبّهِمْ جنات } وعند في محل نصب على الحال من جنات ، وهي مبتدأ ، وخبرها للذين اتقوا ، ويجوز أن تتعلق اللام بخير . وجنات خبر مبتدأ مقدّر ، أي : هو جنات ، وخص المتقين؛ لأنهم المنتفعون بذلك . وقد تقدّم تفسير قوله : { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } وما بعده .
قوله : { الذين يَقُولُونَ } بدل من قوله : { لّلَّذِينَ اتقوا } أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين ، أو منصوب على المدح ، والصابرين ، وما بعده نعت للموصول على تقدير كونه بدلاً ، أو منصوباً على المدح ، وعلى تقدير كونه خبراً يكون الصابرين ، وما بعده منصوبة على المدح ، وقد تقدّم تفسير الصبر ، والصدق ، والقنوت . قوله : { والمستغفرين بالأسحار } هم : السائلون للمغفرة بالأسحار . وقيل : المصلون . والأسحار جمع سحر بفتح الحاء ، وسكونها . قال الزجاج : هو من حين يدبر الليل إلى أن يطلع الفجر ، وخص الأسحار؛ لأنها من أوقات الإجابة .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن عمر بن الخطاب ، لما نزلت : { زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات } قال : الآن يا ربّ حين زينتها لنا ، فنزلت : { قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ } . وأخرجه ابن المنذر عنه بلفظ « خير » انتهى إلى قوله : { قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ } فبكى ، وقال : بعد ماذا ، بعد ماذا بعد ما زينتها . وأخرج أحمد ، وابن ماجه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « القنطار اثنا عشر ألف أوقية » رواه أحمد من حديث عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن حماد ، عن عاصم عن أبي صالح عنه . ورواه ابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن عبد الصمد به . وقد رواه ابن جرير موقوفاً على أبي هريرة . قال ابن كثير : وهذا أصح . وأخرج الحاكم وصححه ، عن أنس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القناطير المقنطرة ، فقال : « القنطار ألف أوقية » ورواه ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه مرفوعاً بلفظ « ألف دينار » . وأخرج ابن جرير ، عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « القنطار ألف أوقية ، ومائتا أوقية » وأخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي من قول معاذ بن جبل . وأخرجه ابن جرير من قول ابن عمر . وأخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي من قول أبي هريرة . وأخرجه ابن جرير ، والبيهقي من قول ابن عباس . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن أبي سعيد الخدري ، قال : القنطار ملء مسك جلد الثور ذهباً .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عمر أنه قال : القنطار سبعون ألفاً ، وأخرجه عبد بن حميد ، عن مجاهد . وأخرج أيضاً عن سعيد بن المسيب قال القنطار ثمانون ألفاً . وأخرج أيضاً ، عن أبي صالح قال : القنطار مائة رطل . وأخرجه أيضاً عن قتادة ، وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي جعفر قال : القنطار خمسة عشر ألف مثقال ، والمثقال أربعة وعشرون قيراطاً ، وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك قال : هو المال الكثير من الذهب ، والفضة . وأخرجه أيضاً ، عن الربيع . وأخرج عن السدي : أن المقنطرة : المضروبة . وأخرج ابن جرير من طريق العوفي ، عن ابن عباس { والخيل المسومة } قال : الراعية . وأخرج ابن المنذر ، عنه من طريق مجاهد . وأخرج ابن جرير عنه قال : هي الراعية ، والمطهمة الحسان . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد قال : هي المطهمة الحسان . وأخرجا ، عن عكرمة قال : تسويمها حسنها . وأخرج ابن أبي حاتم ، قال : { الخيل المسومة } الغرّة ، والتحجيل ، وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة في قوله الصابرين قال : قوم صبروا على طاعة الله ، وصبروا عن محارمه ، والصادقون : قوم صدقت نياتهم ، واستقامت قلوبهم ، وألسنتهم ، وصدقوا في السرّ ، والعلانية ، والقانتون : هم المطيعون ، والمستغفرون بالأسحار : أهل الصلاة . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة قال : هم الذين يشهدون صلاة الصبح . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، عن أنس قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستغفر بالأسحار سبعين مرة . وأخرج ابن جرير ، وأحمد في الزهد ، عن سعيد الجريري؛ قال : بلغنا أن داود عليه السلام سأل جبريل ، فقال : يا جبريل أي الليل أفضل؟ قال : يا داود ما أدري إلا أن العرش يهتز في السحر . وقد ثبت في الصحيحين ، وغيرهما ، عن جماعة من الصحابة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى سماء الدنيا حتى يبقي ثلث الليل الآخر ، فيقول هل من سائل ، فأعطيه ، هل من داع ، فأستجيب له ، هل من مستغفر ، فأغفر له؟ » .
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
قوله : { شَهِدَ الله } أي : بين وأعلم . قال الزجاج : الشاهد هو الذي يعلم الشيء ، ويبينه ، فقد دلنا الله على وحدانيته بما خلق وبيّن ، وقال أبو عبيدة : شهد الله بمعنى قضى ، أي : أعلم . قال ابن عطية : وهذا مردود من جهات ، وقيل : إنها شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله ، ووحيه بشهادة الشاهد في كونها مبينة . وقوله { أنه } بفتح الهمزة . قال المبرد : أي : بأنه ثم حذفت الباء ، كما في أمرتك الخير ، أي : بالخير . وقرأ ابن عباس : «إنه» بكسر الهمزة بتضمين { شهد } معنى " قال " . وقرأ أبو المهلب : «شهداء لله» بالنصب على أنه حال من الصابرين ، وما بعده ، أو على المدح : { والملئكة } عطف على الاسم الشريف ، وشهادتهم إقرارهم بأنه لا إله إلا الله . وقوله : { وَأُوْلُواْ العلم } معطوف أيضاً على ما قبله ، وشهادتهم بمعنى الإيمان منهم ، وما يقع من البيان للناس على ألسنتهم ، وعلى هذا لا بدّ من حمل الشهادة على معنى يشمل شهادة الله ، وشهادة الملائكة ، وأولي العلم . وقد اختلف في أولي العلم هؤلاء من هم؟ فقيل : هم الأنبياء؛ وقيل : المهاجرون ، والأنصار ، قاله ابن كيسان . وقيل : مؤمنو أهل الكتاب ، قاله مقاتل . وقيل : المؤمنون كلهم ، قاله السدي ، والكلبي ، وهو الحق إذ لا وجه للتخصيص . وفي ذلك فضيلة لأهل العلم جليلة ، ومنقبة نبيلة؛ لقربهم باسمه ، واسم ملائكته ، والمراد بأولي العلم هنا : علماء الكتاب ، والسنة ، وما يتوصل به إلى معرفتهما ، إذ لا اعتداد بعلم لا مدخل له في العلم الذي اشتمل عليه الكتاب العزيز ، والسنة المطهرة .
وقوله : { قَائِمَاً بالقسط } أي : العدل ، أي : قائماً بالعدل في جميع أموره ، أو مقيماً له ، وانتصاب { قائماً } على الحال من الاسم الشريف . قال في الكشاف : إنها حال مؤكدة كقوله : { وَهُوَ الحق مُصَدّقًا } [ البقرة : 91 ] وجاز إفراده سبحانه بذلك دون ما هو معطوف عليه من الملائكة ، وأولي العلم لعدم اللبس ، وقيل : إنه منصوب على المدح . وقيل : إنه صفة لقوله : { إِلَهٍ } أي : لا إله قائماً بالقسط ، إلا هو ، أو هو حال من قوله : { إِلاَّ هُوَ } والعامل فيه معنى الجملة . وقال الفراء : هو منصوب على القطع؛ لأن أصله الألف ، واللام ، فلما قطعت نصب كقوله : { وَلَهُ الدين وَاصِبًا } [ النحل : 52 ] ويدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود " القائم بالقسط " . وقوله : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } تكرير لقصد التأكيد؛ وقيل : إن قوله : { أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ } كالدعوى ، والأخيرة كالحكم . وقال جعفر الصادق الأولى وصف ، وتوحيد ، والثانية رسم ، وتعليم . وقوله : { العزيز الحكيم } مرتفعان على البدلية من الضمير ، أو الوصفية لفاعل شهد لتقرير معنى الوحدانية .
قوله : { إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام } .
قرأه الجمهور بكسر إن على أن الجملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى ، وقريء بفتح أن . قال الكسائي : أنصبهما جميعاً يعني قوله : { شَهِدَ الله أَنَّهُ } وقوله : { إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام } بمعنى شهد الله أنه كذا ، وأن الدين عند الله الإسلام . قال ابن كيسان : إن الثانية بدل من الأولى . وقد ذهب الجمهور إلى أن الإسلام هنا بمعنى الإيمان ، وإن كانا في الأصل متغايرين ، كما في حديث جبريل الذي بيّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم معنى الإسلام ، ومعنى الإيمان ، وصدقه جبريل ، وهو في الصحيحين ، وغيرهما ولكنه قد يسمى كل واحد منهما باسم الآخر ، وقد ورد ذلك في الكتاب والسنة . قوله : { وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ } فيه الإخبار بأن اختلاف اليهود ، والنصارى كان لمجرد البغي بعد أن علموا بأنه يجب عليهم الدخول في دين الإسلام بما تضمنته كتبهم المنزلة إليهم . قال الأخفش : وفي الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : ما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم . والمراد بهذا الخلاف الواقع بينهم هو خلافهم في كون نبينا صلى الله عليه وسلم نبياً أم لا؟ وقيل اختلافهم في نبوّة عيسى ، وقيل : اختلافهم في ذات بينهم حتى قالت اليهود : ليست النصارى على شيء ، وقالت النصارى : ليست اليهود على شيء . قوله : { وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله } أي : بالآيات الدالة على أن الدين عند الله الإسلام { فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } فيجازيه ، ويعاقبه على كفره بآياته ، والإظهار في قوله : { فإن الله } مع كونه مقام الإضمار للتهويل عليهم ، والتهديد لهم .
قوله : { فَإنْ حَاجُّوكَ } أي : جادلوك بالشبه الباطلة ، والأقوال المحرّفة ، { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ } أي : أخلصت ذاتي لله ، وعبر بالوجه عن سائر الذات لكونه أشرف أعضاء الإنسان ، وأجمعها للحواس ، وقيل : الوجه هنا بمعنى : القصد . وقوله : { وَمَنِ اتبعن } عطف على فاعل أسلمت ، وجاز للفصل . وأثبت نافع ، وأبو عمرو ، ويعقوب الياء في { اتبعن } على الأصل ، وحذفها الآخرون اتباعاً لرسم المصحف ، ويجوز أن تكون « الواو » بمعنى « مع » والمراد بالأميين هنا : مشركو العرب . وقوله : { ءأَسْلَمْتُمْ } استفهام تقريري يتضمن الأمر ، أي : أسلموا ، كذا قاله ابن جرير ، وغيره . وقال الزجاج : { ءأَسْلَمْتُمْ } تهديد ، والمعنى : أنه قد أتاكم من البراهين ما يوجب الإسلام ، فهل علمتم بموجب ذلك أم لا؟ تبكيتا لهم ، وتصغيراً لشأنهم في الإنصاف ، وقبول الحق . وقوله : { فَقَدِ اهتدوا } أي : ظفروا بالهداية التي هي الحظ الأكبر ، وفازوا بخير الدنيا ، والآخرة { وَإِن تَوَلَّوْاْ } أي : أعرضوا عن قبول الحجة ، ولم يعملوا بموجبها { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } أي : فإنما عليك أن تبلغهم ما أنزل إليك ، ولست عليهم بمسيطر ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، والبلاغ مصدر .
وقوله : { والله بَصِيرٌ بالعباد } فيه وعد ووعيد لتضمنه أنه عالم بجميع أحوالهم .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن في قوله : { قَائِمَاً بالقسط } قال : بالعدل . وأخرج أيضاً ، عن ابن عباس مثله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله : { إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام } قال : الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله ، والإقرار بما جاء به من عند الله ، وهو دين الله الذي شرع لنفسه ، وبعث به رسله ، ودلّ عليه أولياءه لا يقبل غيره . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الضحاك قال : لم يبعث الله رسولاً إلا بالإسلام . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن سعيد بن جبير قال : كان حول البيت ستون وثلثمائة صنم لكل قبيلة من قبائل العرب صنم ، أو صنمان ، فأنزل الله : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ } الآية ، فأصبحت الأصنام كلها قد خرّت ، سجداً للكعبة . وأخرج ابن السني في عمل اليوم ، والليلة ، وأبو منصور الشحامي في الأربعين ، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن فاتحة الكتاب ، وآية الكرسي ، والآيتين من آل عمران { شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَائِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم . إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } { قُلِ اللهم مالك الملك تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء } إلى قوله : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 26 ، 27 ] هن معلقات بالعرش ما بينهن ، وبين الله حجاب ، يقلن : يا ربّ تهبطنا إلى أرضك ، وإلى من يعصيك؟ قال الله : إني حلفت لا يقرؤكن أحد من عبادي دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مأواه على ما كان منه ، وإلا أسكنته حظيرة القدس ، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة كل يوم سبعين نظرة ، وإلا قضيت له كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة ، وإلا أعذته من كل عدو ، ونصرته منه " وأخرج الديلمي في مسند الفردوس ، عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعاً نحوه ، وفيه : " لا يتلوكن عبد دبر كل صلاة مكتوبة إلا غفرت له ما كان منه ، وأسكنته جنة الفردوس ، ونظرت إليه كل يوم سبعين مرة ، وقضيت له سبعين حاجة أدناها المغفرة " وأخرج أحمد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن السني ، عن الزبير بن العوام قال : «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بعرفة يقرأ هذه الآية : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَائِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } فقال : " وأنا على ذلك من الشاهدين " ولفظ الطبراني «وأنا أشهد أن لا إله إلا أنت العزيز الحكيم» . وأخرج ابن عدي ، والطبراني في الأوسط ، والبيهقي في شعب الإيمان ، وضعفه ، والخطيب في تاريخه ، وابن النجار عن غالب القطان؛ قال : أتيت الكوفة في تجارة ، فنزلت قريباً من الأعمش .
فلما كان ليلة أردت أن أنحدر قام ، فتهجد من الليل ، فمرّ بهذه الآية { شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ } إلى قوله : { إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام } فقال : وأنا أشهد بما شهد به الله ، وأستودع الله هذه الشهادة ، وهي لي وديعة عند الله ، قالها مراراً ، فقلت : لقد سمع فيها شيئاً ، فسألته فقال : حدثني أبو وائل عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يجاء بصاحبها يوم القيامة ، فيقول الله : عبدي عهد إليَّ ، وأنا أحق من وفيَّ بالعهد أدخلوا عبدي الجنة » وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : { وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب } قال : بنو إسرائيل . وأخرج ابن جرير ، عن أبي العالية في قوله : { بَغْياً بَيْنَهُمْ } يقول : بغياً على الدنيا ، وطلب ملكها ، وسلطانها . فقتل بعضهم بعضاً على الدنيا من بعد ما كانوا علماء الناس .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن في قوله : { فَإنْ حَاجُّوكَ } قال : إن حاجك اليهود ، والنصارى . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن جريج ، ونحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس : { وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب } قال : اليهود ، والنصارى { والأميين } قال : هم : الذين لا يكتبون .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
قوله : { بآيات الله } ظاهره عدم الفرق بين آية وآية { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقّ } يعني : اليهود قتلوا الأنبياء { وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس } أي : بالعدل ، وهم الذين يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، قال المبرد : كان ناس من بني إسرائيل جاءهم النبيون ، فدعوهم إلى الله ، فقتلوهم ، فقام أناس من بعدهم من المؤمنين ، فأمروهم بالإسلام ، فقتلوهم . ففيهم نزلت الآية . وقوله : { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } خبر { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ } الخ ، ودخلته الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط ، وذهب بعض أهل النحو إلى أن الخبر قوله : { أُولَئِكَ الذين حَبِطَتْ أعمالهم } وقالوا إن الفاء لا تدخل في خبر إن ، وإن تضمن اسمها معنى الشرط؛ لأنه قد نسخ بدخول « إن » عليه ، ومنهم سيبويه ، والأخفش ، وذهب غيرهما إلى أن ما يتضمنه المبتدأ من معنى الشرط لا ينسخ بدخول « إن » عليه ، ومثل المكسورة المفتوحة ، ومنه قوله تعالى : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } [ الأنفال : 41 ] .
وقوله : { حَبِطَتْ أعمالهم } قد تقدم تفسير الإحباط ، ومعنى كونها حبطت في الدنيا ، والآخرة أنه لم يبق لحسناتهم أثر في الدنيا ، حتى يعاملوا فيها معاملة أهل الحسنات ، بل عوملوا معاملة أهل السيئات ، فلعنوا وحل بهم الخزي ، والصغار ، ولهم في الآخرة عذاب النار .
قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب } فيه تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكل من تصح منه الرؤية من حال هؤلاء ، وهم أحبار اليهود . والكتاب : التوراة ، وتنكير النصيب للتعظيم ، أي : نصيباً عظيماً ، كما يفيده مقام المبالغة ، ومن قال : إن التنكير للتحقير ، لم يصب ، فلم ينتفعوا بذلك ، وذلك بأنهم يدعون إلى كتاب الله الذي أوتوا نصيباً منه ، وهو التوراة : { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ } والحال أنهم معرضون عن الإجابة إلى ما دعوا إليه مع علمهم به ، واعترافهم بوجوب الإجابة إليه ، و { ذلك } إشارة إلى ما مر من التولي ، والإعراض بسبب { أَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلا أَيَّامًا معدودات } وهي : مقدار عبادتهم العجل . وقد تقدم تفسير ذلك : { وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من الأكاذيب التي من جملتها هذا القول .
قوله : { فَكَيْفَ إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } هو : ردّ عليهم ، وإبطال لما غرهم من الأكاذيب ، أي : فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ، وهو يوم الجزاء الذي لا يرتاب مرتاب في وقوعه ، فإنهم يقعون لا محالة ، ويعجزون عن دفعه بالحيل ، والأكاذيب { وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أي : جزاء ما كسبت على حذف المضاف { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } بزيادة ، ولا نقص . والمراد كل الناس المدلول عليهم بكل نفس .
قال الكسائي : اللام في قوله : { لِيَوْمِ } بمعنى " في " ، وقال البصريون : المعنى لحساب يوم . وقال ابن جرير الطبري المعنى لما يحدث في يوم .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي عبيدة بن الجراح : قلت يا رسول الله أي الناس أشدّ عذاباً يوم القيامة؟ قال : " رجل قتل نبياً ، أو رجلاً أمر بالمعروف ، ونهى عن المنكر " ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { الذين يقتلون النبيين بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس } إلى قوله : { وَمَا لَهُم مّن ناصرين } ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً أوّل النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة رجل وسبعون رجلاً من عباد بني إسرائيل ، فأمروا من قتلهم بالمعروف ، ونهوهم عن المنكر ، فقتلوا جميعاً من آخر النهار من ذلك اليوم ، فهم الذين ذكر الله " وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، عن ابن عباس قال : بعث عيسى يحيى بن زكريا في اثني عشر رجلاً من الحواريين يعلمون الناس ، فكان ينهي عن نكاح بنت الأخ ، وكان ملك له بنت أخ تعجبه ، فأرادها ، وجعل يقضي لها كل يوم حاجة ، فقالت لها أمها : إذا سألك عن حاجة ، فقولي حاجتي أن تقتل يحيى بن زكريا ، فقال : سلي غير هذا ، فقالت : لا أسألك غير هذا ، فلما أبت أمر به ، فذبح في طست ، فبدرت قطرة من دمه ، فلم تزل تغلي حتى بعث الله بختنصر ، فدلت عجوز عليه ، فألقى في نفسه أن لا يزال يقتل حتى يسكن هذا الدم ، فقتل في يوم واحد من ضرب واحد وسن واحد سبعين ألفاً فسكن . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن معقل بن أبي مسكين في الآية قال : كان الوحي يأتي بني إسرائيل ، فيذكرون قومهم ، ولم يكن يأتيهم كتاب ، فيقوم رجال ممن اتبعهم ، وصدقهم ، فيذكرون قومهم ، فيقتلون فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس . وأخرج ابن جرير ، عن قتادة ، نحوه . وأخرج ابن عساكر ، عن ابن عباس ، قال : { الذين يأمرون بالقسط من الناس } : ولاة العدل .
وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود ، فدعاهم إلى الله ، فقال له النعمان بن عمرو ، والحارث بن زيد : على أي دين أتيت يا محمد؟ قال : " على ملة إبراهيم ، ودينه ، " قال : فإن إبراهيم كان يهودياً قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : " فهلما إلى التوراة ، فهي بيننا ، وبينكم ، " فأبيا عليه ، فأنزل الله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كتاب الله } الآية» .