كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني
قال الزجاج : كل ما لبسته فهو سربال . ومعنى { تَقِيكُمُ الحر } تدفع عنكم ضرر الحرّ ، وخصّ الحرّ ولم يذكر البرد اكتفاء بذكر أحد الضدين عن ذكر الآخر ، لأن ما وقى من الحرّ وقى من البرد . ووجه تخصيص الحرّ بالذكر أن الوقاية منه كانت أهمّ عندهم من الوقاية من البرد لغلبة الحرّ في بلادهم { وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } وهي الدروع والجواشن ، يتقون بها الطعن والضرب والرمي . والمعنى : أنها تقيهم البأس الذي يصل من بعضهم إلى بعض في الحرب .
{ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } أي : مثل ذلك الإتمام البالغ يتمّ نعمته عليكم ، فإنه سبحانه قد منّ على عباده بصنوف النعم المذكورة ها هنا وبغيرها ، وهو بفضله وإحسانه سيتمّ لهم نعمة الدين والدنيا . { لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } إرادة أن تسلموا ، فإن من أمعن النظر في هذه النعم لم يسعه إلاّ الإسلام والانقياد للحق . وقرأ ابن محيصن ، وحميد « تتم نعمته » بتاءين فوقيتين ، على أن فاعله نعمته ، وقرأ الباقون بالتحتية على أن الفاعل هو الله سبحانه . وقرأ ابن عباس ، وعكرمة « تسلمون » بفتح التاء واللام من السلامة من الجراح ، وقرأ الباقون بضم التاء وكسر اللام من الإسلام . قال أبو عبيد : والاختيار قراءة العامة ، لأن ما أنعم الله به علينا من الإسلام أفضل مما أنعم به من السلامة من الجراح . وقيل : الخطاب لأهل مكة أي : لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية ، والأولى الحمل على العموم ، وإفراد النعمة هنا لأن المراد بها المصدر .
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين } أي : إن تولوا عنك ولم يقبلوا ما جئت به ، فقد تمهد عذرك ، فإنما عليك البلاغ لما أرسلت به إليهم { المبين } أي : الواضح ، وليس عليك غير ذلك ، وصرف الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسلية له .
وجملة { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } استئناف لبيان توليهم ، أي : هم يعرفون نعمة الله التي عدّدها ، ويعترفون بأنها من عند الله سبحانه ، ثم ينكرونها بما يقع من أفعالهم القبيحة من عبادة غير الله وبأقوالهم الباطلة ، حيث يقولون : هي من الله ولكنها بشفاعة الأصنام . وحيث يقولون : إنهم ورثوا تلك النعم من آبائهم ، وأيضاً كونهم لا يستعملون هذه النعم في مرضاة الربّ سبحانه ، وفي وجوه الخير التي أمرهم الله بصرفها فيها . وقيل : نعمة الله نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفونه ، ثم ينكرون نبوّته { وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون } أي : الجاحدون لنعم الله ، أو الكافرون بالله . وعبر هنا بالأكثر عن الكلّ ، أو أراد بالأكثر العقلاء دون الأطفال ونحوهم ، أو أراد كفر الجحود ، ولم يكن كفر كلهم كذلك ، بل كان كفر بعضهم كفر جهل ، وكفر بعضهم بسبب تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم مع اعترافهم بالله وعدم الجحد لربوبيته ، ومثل هذه الآية قوله تعالى :
{ وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين } [ النمل : 14 ] .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد { سكنا } قال : تسكنون فيها . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي نحوه قال : { وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتًا } وهي خيام العرب { تَسْتَخِفُّونَهَا } يقول : في الحمل { ومتاعا } يقول بلاغاً { إلى حِينٍ } قال : إلى الموت . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ } قال : بعض بيوت السيارة بنيانه في ساعة ، وفي قوله : { وَأَوْبَارِهَا } قال : الإبل { وَأَشْعَارِهَا } قال : الغنم . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { أَثَاثاً } قال : الأثاث المتاع . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال : الأثاث المال { ومتاعا إلى حِينٍ } يقول : تنتفعون به إلى حين .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { والله جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظلالا } قال : من الشجر ومن غيرها { وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الجبال أكنانا } قال : غارات يسكن فيها { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } قال : من القطن والكتان والصوف { وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } من الحديد { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } ولذلك هذه السورة تسمى سورة النعم . وأخرج أبو عبيد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } قال : يعني : الثياب ، { وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } قال : يعني : الدروع والسلاح { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } يعني : من الجراحات ، وكان ابن عباس يقرؤها « تسلمون » كما قدّمنا ، وإسناده ضعيف .
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
لما بين سبحانه من حال هؤلاء أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها ، وأن أكثرهم كافرون ، أتبعه بأصناف وعيد يوم القيامة ، فقال : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا } أي : واذكر يوم نبعث ، أو يوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه ، وشهيد كل أمة نبيها ، يشهد لهم بالإيمان والتصديق ، وعليهم بالكفر والجحود والتكذيب { ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : في الاعتذار ، إذ لا حجة لهم ولا عذر ، كقوله سبحانه : { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 36 ] أو في كثرة الكلام ، أو في الرجوع إلى دار الدنيا ، وإيراد « ثم » ها هنا للدلالة على أن ابتلاءهم بالمنع عن الاعتذار المنبيء عن الإقناط الكلي أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } لأن العتاب إنما يطلب لأجل العود إلى الرضا ، فإذا كان على عزم السخط ، فلا فائدة في العتاب . والمعنى : أنهم لا يسترضون أي : لا يكلفون أن يرضوا ربهم ، لأن الآخرة ليست بدار تكليف ، ولا يتركون إلى رجوع الدنيا فيتوبون ، وأصل الكلمة من العتب وهو الموجد ، يقال : عتب عليه يعتب إذا وجد عليه ، فإذا أفاض عليه ما عتب فيه عليه قيل : عاتبه ، فإذا رجع إلى مسرّته قيل : أعتبه ، والاسم العتبى ، وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب قاله الهروي ، ومنه قول النابغة :
فإن كنت مظلوماً فعبداً ظلمته ... وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب
{ وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب } أي : وإذا رأى الذين أشركوا العذاب الذي يستحقونه بشركهم ، وهو عذاب جهنم { فَلاَ يُخَفَّفُ } ذلك العذاب { عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي : ولا هم يمهلون ليتوبوا ، إذ لا توبة هنالك { وَإِذَا رَءا الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءهُمْ } أي : أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها ، لما تقرّر من أنهم يبعثون مع المشركين ليقال لهم « من كان يعبد شيئاً فليتبعه » ، كما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم . { قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ } أي : الذين كنا نعبدهم من دونك . قال أبو مسلم الأصفهاني : مقصود المشركين بهذا القول إحالة الذنب على تلك الأصنام تعللاً بذلك ، واسترواحاً ، مع كونهم يعلمون أن العذاب واقع بهم لا محالة ، ولكن الغريق يتعلق بكل ما تقع يده عليه . { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول } أي : ألقى أولئك الأصنام والأوثان والشياطين ونحوهم إلى المشركين القول { إِنَّكُمْ لكاذبون } أي قالوا لهم : إنكم أيها المشركون لكاذبون فيما تزعمون من إحالة الذنب علينا الذي هو مقصودكم من هذا القول .
فإن قيل : إن المشركين أشاروا إلى الأصنام ونحوها أن هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك ، وقد كانوا صادقين في ذلك ، فكيف كذبتهم الأصنام ونحوها؟ فالجواب بأن مرادهم من قولهم { هؤلاء شركاؤنا } هؤلاء شركاء الله في المعبودية ، فكذبتهم الأصنام في دعوى هذه الشركة .
والأصنام والأوثان وإن كانت لا تقدر على النطق ، فإن الله سبحانه ينطقها في تلك الحال ، لتخجيل المشركين وتوبيخهم ، وهذا كما قالت الملائكة { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } [ سبأ : 41 ] . يعنون : أن الجنّ هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لهم .
{ وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم } أي : ألقى المشركون يوم القيامة الاستسلام والانقياد لعذابه ، والخضوع لعزته . وقيل : استسلم العابد والمعبود وانقادوا لحكمه فيهم { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي : ضاع وبطل ما كانوا يفترونه من أن لله سبحانه شركاء وما كانوا يزعمون من شفاعتهم لهم ، وأن عبادتهم لهم تقرّبهم إلى الله سبحانه .
{ الذين كَفَرُواْ } في أنفسهم { وَصُدُّواْ } غيرهم { عَن سَبِيلِ الله } أي : عن طريق الحق ، وهي : طريق الإسلام والإيمان بأن منعوهم من سلوكها وحملوهم على الكفر . وقيل : المراد بالصدّ عن سبيل الله : الصدّ عن المسجد الحرام . والأولى العموم . ثم أخبر عن هؤلاء الذين صنعوا هذا الصنع بقوله : { زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب } أي : زادهم الله عذاباً لأجل الإضلال لغيرهم فوق العذاب الذي استحقوه لأجل ضلالهم . وقيل : المعنى : زدنا القادة عذاباً فوق عذاب أتباعهم ، أي : أشد منه . وقيل : إن هذه الزيادة هي إخراجهم من النار إلى الزمهرير ، وقيل غير ذلك .
{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ } أي : نبياً يشهد عليهم { مّنْ أَنفُسِهِمْ } من جنسهم ، إتماماً للحجة وقطعاً للمعذرة ، وهذا تكرير لما سبق لقصد التأكيد والتهديد { وَجِئْنَا بِكَ } يا محمد { شَهِيدًا على هَؤُلآء } أي : تشهد على هذه الأمم وتشهد لهم . وقيل : على أمتك ، وقد تقدّم مثل هذا في البقرة والنساء { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب } أي : القرآن . والجملة مستأنفة أو في محل نصب على الحال بتقدير قد { تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء } أي : بياناً له ، والتاء : للمبالغة ، ونظيره من المصادر التلقاء ، ولم يأت غيرهما . ومثل هذه الآية قوله سبحانه : { مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَىْء } [ الأنعام : 38 ] . ومعنى كونه { تبياناً لكلّ شيء } أن فيه البيان لكثير من الأحكام ، والإحالة فيما بقي منها على السنة ، وأمرهم باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يأتي به من الأحكام ، وطاعته كما في الآيات القرآنية الدالة على ذلك . وقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إني أوتيت القرآن ومثله معه » { وهدى } للعباد { وَرَحْمَةً } لهم { وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ } خاصة دون غيرهم ، أو يكون الهدى والرحمة والبشرى خاصة بهم؛ لأنهم المنتفعون بذلك .
ثم لما ذكر سبحانه أن في القرآن تبيان كل شيء ذكر عقبة آية جامعة لأصول التكليف كلها تصديقاً لذلك ، فقال : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } .
وقد اختلف أهل العلم في تفسير العدل والإحسان؛ فقيل : العدل لا إله إلاّ الله ، والإحسان : أداء الفرائض . وقيل : العدل الفرض . والإحسان : النافلة . وقيل : العدل : استواء العلانية والسريرة ، والإحسان . أن تكون السريرة أفضل من العلانية . وقيل : العدل : الإنصاف ، والإحسان : التفضل ، والأولى : تفسير العدل بالمعنى اللغوي ، وهو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط . فمعنى أمره سبحانه بالعدل : أن يكون عباده في الدين على حالة متوسطة ، ليست بمائلة إلى جانب الإفراط ، وهو الغلوّ المذموم في الدين ، ولا إلى جانب التفريط ، وهو الإخلال بشيء مما هو من الدين . وأما الإحسان فمعناه اللغوي يرشد إلى أنه التفضل بما لم يجب ، كصدقة التطوّع ، ومن الإحسان فعل ما يثاب عليه العبد مما لم يوجبه الله عليه في العبادات وغيرها . وقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه فسر الإحسان بأن يعبد الله العبد حتى كأنه يراه ، فقال في حديث ابن عمر الثابت في الصحيحين : « والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » وهذا هو معنى الإحسان شرعاً .
{ وَإِيتَآء ذِى القربى } أي : إعطاء القرابة ما تدعو إليه حاجتهم . وفي الآية إرشاد إلى صلة الأقارب وترغيب في التصدق عليهم . وهو من باب عطف الخاص على العام ، إن كان إعطاء الأقارب قد دخل تحت العدل والإحسان . وقيل : من باب عطف المندوب على الواجب . ومثل هذه الآية قوله : { وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ } [ الإسراء : 26 ] . وإنما خصّ ذوي القربى لأن حقهم آكد ، فإن الرحم قد اشتق الله اسمها من اسمه ، وجعل صلتها من صلته ، وقطيعتها من قطيعته .
{ وينهى عَنِ الفحشاء } هي الخصلة المتزايدة في القبح من قول أو فعل . وقيل : هي الزنا . وقيل : البخل { والمنكر } ما أنكره الشرع بالنهي عنه ، وهو يعمّ جميع المعاصي على اختلاف أنواعها . وقيل : هو الشرك وأما { البغى } فقيل : هو الكبر ، وقيل : الظلم . وقيل : الحقد ، وقيل : التعدّي ، وحقيقته تجاوز الحدّ فيشمل هذه المذكورة ، ويندرج بجميع أقسامه تحت المنكر . وإنما خصّ بالذكر اهتماماً به لشدّة ضرره ووبال عاقبته . وهو من الذنوب التي ترجع على فاعلها لقوله سبحانه : { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ } [ يونس : 23 ] ، وهذه الآية هي من الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر . ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله : { يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي : يعظكم بما ذكره في هذه الآية مما أمركم به ونهاكم عنه . فإنها كافية في باب الوعظ والتذكير ، { لعلكم تذكرون } إرادة أن تتذكروا ما ينبغي تذكره ، فتتعظوا بما وعظكم الله به .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا } قال : شهيدها نبيّها على أنه قد بلغ رسالات ربه ، قال الله { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا على هَؤُلآء } قال : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية ، فاضت عيناه .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول } قال : حدّثوهم . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج { وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم } قال : استسلموا . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه .
وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وهناد بن السرّي ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في البعث والنشور ، عن ابن مسعود في قوله : { زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب } قال : زيدوا عقارب لها أنياب كالنخل الطوال . وأخرج ابن مردويه والخطيب عن البراء : «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله تعالى : { زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب } ، فقال : " عقارب أمثال النخل الطوال ينهشونهم في جهنم " وأخرج أبو يعلى ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب } أنهار من نار صبها الله عليهم يعذبون ببعضها بالليل ، وببعضها بالنهار ، وقد روى ابن مردويه من حديث جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " الزيادة خمسة أنهار تجري من تحت العرش على رءوس أهل النار ، ثلاثة أنهار على مقدار الليل ، ونهران على مقدار النهار فذلك قوله : { زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب } "
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود ، قال : إن الله أنزل في هذا الكتاب تبياناً لكل شيء ، ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن ، ثم قرأ { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء } . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن الضريس في فضائل القرآن ، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود ، قال : من أراد العلم ، فليثور القرآن ، فإن فيه علم الأوّلين والآخرين .
وأخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاص ، قال : «كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ، إذ شخص بصره فقال : " أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } الآية " وفي إسناده شهر بن حوشب . وقال ابن كثير في تفسيره : إسناده لا بأس به . وقد أخرجه مطوّلاً أحمد ، والبخاري في الأدب ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه من حديث ابن عباس . وحسن ابن كثير إسناده . وأخرج الماوردي ، وابن السكن ، وابن منده ، وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير ، أن هذه الآية لما بلغت أكثم بن صيفي ، حكيم العرب قال : إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق ، وينهى عن ملائمها ، ثم قال لقومه : كونوا في هذا الأمر رؤوساً ، ولا تكونوا فيه أذناباً ، وكونوا فيه أوّلاً ولا تكونوا فيه آخراً .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل } قال : شهادة أن لا إله إلاّ الله . { والإحسان } أداء الفرائض { وَإِيتَآء ذِى القربى } قال : إعطاء ذوي الأرحام الحق الذي أوجبه الله عليك بسبب القرابة والرحم . { وينهى عَنِ الفحشاء } قال : الزنا { والمنكر } قال : الشرك { والبغى } قال : الكبر والظلم { يَعِظُكُمُ } قال : يوصيكم { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } . وأخرج سعيد بن منصور ، والبخاري في الأدب ، ومحمد بن نصر في الصلاة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب قال : أعظم آية في كتاب الله { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم . . . } [ البقرة : 255 ] . وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر الآية التي في النحل { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان . . . } . وأكثر آية في كتاب الله تفويضاً { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] . وأشدّ آية في كتاب الله رجاء : { ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ . . . } [ الزمر : 53 ] الآية . وأخرج البيهقي في الشعب عن الحسن أنه قرأ هذه الآية : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان . . . } إلى آخرها ، ثم قال : إن الله عزّ وجلّ جمع لكم الخير كله ، والشرّ كله ، في آية واحدة ، فوالله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئاً إلاّ جمعه ، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئاً إلاّ جمعه . وأخرج البخاري في تاريخه من طريق الكلبي عن أبيه قال : مرّ عليّ بن أبي طالب بقوم يتحدثون ، فقال : فيم أنتم؟ قالوا : نتذاكر المروءة . فقال : أو ما كفاكم الله عزّ وجلّ ذلك في كتابه ، إذ يقول : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } فالعدل : الإنصاف ، والإحسان : التفضل ، فما بقي بعد هذا! .
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
خصّ سبحانه من جملة المأمورات التي تضمنها قوله : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل } الوفاء بالعهد ، فقال : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عاهدتم } وظاهره العموم في كل عهد يقع من الإنسان من غير فرق بين عهد البيعة وغيره . وخصّ هذا العهد المذكور في هذه الآية بعض المفسرين بالعهد الكائن في بيعة النبيّ صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، وهو خلاف ما يفيده العهد المضاف إلى اسم الله سبحانه من العموم الشامل لجميع عهود الله . ولو فرض أن السبب خاص بعهد من العهود ، لم يكن ذلك موجباً لقصره على السبب ، فالاعتبار بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب ، وفسره بعضهم باليمين ، وهو مدفوع بذكر الوفاء بالأَيمان بعده حيث قال سبحانه : { وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } أي : بعد تشديدها وتغليظها وتوثيقها ، وليس المراد اختصاص النهي عن النقض بالأَيمان المؤكدة ، لا بغيرها مما لا تأكيد فيه . فإن تحريم النقض يتناول الجميع ، ولكن في نقض اليمين المؤكدة من الإثم فوق الإثم الذي في نقض ما لم يوكد منها . يقال : وكد وأكد توكيداً وتأكيداً ، وهما لغتان . وقال الزجاج : الأصل الواو ، والهمزة بدل منها ، وهذا العموم مخصوص بما ثبت في الأحاديث الصحيحة من قوله صلى الله عليه وسلم فقال : « من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها ، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه » ، حتى بالغ في ذلك صلى الله عليه وسلم فقال : والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها ، إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني وهذه الألفاظ ثابتة في الصحيحين وغيرهما ، ويخصّ أيضاً من هذا العموم يمين اللغو ، لقوله سبحانه : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم } [ البقرة : 225 ] ويمكن أن يكون التقييد بالتوكيد هنا لإخراج أيمان اللغو . وقد تقدّم بسط الكلام على الأَيمان في البقرة . { وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } أي : شهيداً . وقيل : حافظاً . وقيل : ضامناً . وقيل : رقيباً؛ لأن الكفيل يراعي حال المكفول به . وقيل : إن توكيد اليمين هو حلف الإنسان على الشيء الواحد مراراً . وحكى القرطبي عن ابن عمر : أن التوكيد هو أن يحلف مرتين ، فإن حلف واحدة فلا كفارة عليه { إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } فيجازيكم بحسب ذلك ، إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشرّ ، وفيه ترغيب وترهيب .
ثم أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض ، فقال : { وَلاَ تَكُونُواْ كالتى نَقَضَتْ غَزْلَهَا } أي لا تكونوا فيما تصنعون من النقض ، بعد التوكيد كالتي نقضت غزلها ، أي : ما غزلته { مِن بَعْدِ قُوَّةٍ } أي : من بعد إبرام الغزل وإحكامه ، وهو متعلق ب { نقضت } { أنكاثا } جمع نكث بكسر النون ، ما ينكث فتله . قال الزجاج : انتصب { أنكاثاً } على المصدر؛ لأن معنى نقضت : نكثت .
وردّ بأن { أنكاثاً } ليس بمصدر ، وإنما هو جمع كما ذكرنا . وقال الواحدي : هو منصوب على أنه مفعول ثانٍ كما تقول كسرته أقطاعاً وأجزاء ، أي : جعلته أقطاعاً وأجزاء . ويحتمل أن يكون حالاً . قال ابن قتيبة : هذه الآية متعلقة بما قبلها ، والتقدير : وأوفوا بعهد الله ولا تنقضوا الأَيمان ، فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل امرأة غزلت غزلاً وأحكمته ثم جعلته أنكاثاً .
وجملة { تَتَّخِذُونَ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ } في محل نصب على الحال . قال الجوهري : والدخل : المكر والخديعة ، وقال أبو عبيدة : كلّ أمر لم يكن صحيحاً فهو دخل ، وقيل : الدخل ما أدخل في الشيء على فساده . وقال الزجاج : غشاً وغلاً { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } أي : بأن تكون جماعة هي أربى من جماعة ، أي : أكثر عدداً منها وأوفر مالاً . يقال : ربا الشيء يربو إذا كثر ، قال الفراء : المعنى : لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم ، أو لقلتكم وكثرتهم ، وقد عزرتموهم بالأَيمان . قيل : وقد كانت قريش إذا رأوا شوكة في أعادي حلفائهم ، نقضوا عهدهم وحالفوا أعداءهم . وقيل : هو تحذير للمؤمنين أن يغترّوا بكثرة قريش وسعة أموالهم فينقضوا بيعة النبيّ صلى الله عليه وسلم .
{ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ } أي : يختبركم بكونكم أكثر وأوفر ، لينظر هل تتمسكون بحبل الوفاء ، أم تنقضون اغتراراً بالكثرة؟ فالضمير في { به } راجع إلى مضمون جملة : { أن تكون أمة هي أربى من أمة } أي : إنما يبلوكم الله بتلك الكثرة ، ليعلم ما تصنعون ، أو إنما يبلوكم الله بما يأمركم وينهاكم . { وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } فيوضح الحق والمحقين ، ويرفع درجاتهم ، ويبين الباطل والمبطلين ، فينزل بهم من العذاب ما يستحقونه . وفي هذا إنذار وتحذير من مخالفة الحق والركون إلى الباطل . أو يبين لكم ما كنتم تختلفون فيه من البعث والجنة والنار . ثم بيّن سبحانه أنه قادر على أن يجمع المؤمنين والكافرين على الوفاء أو على الإيمان فقال : { وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة } متفقة على الحق { ولكن } بحكم الإلهية { يُضِلُّ مَن يَشَاء } بخذلانه إياهم عدلاً منه فيهم { وَيَهْدِى مَن يَشَاء } بتوفيقه إياهم فضلاً منه عليهم { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] . ولهذا قال : { ولتسألن عما كنتم تعملون } من الأعمال في الدنيا ، واللام في { وليبيننّ لكم } وفي { ولتسألنّ } هما الموطئتان للقسم .
ثم لما نهاهم سبحانه عن نقض مطلق الأيمان ، نهاهم عن نقض أيمان مخصوصة ، فقال : { وَلاَ تَتَّخِذُواْ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ } وهي أيمان البيعة . قال الواحدي : قال المفسرون : وهذا في نهي الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقض العهد على الإسلام ونصرة الدين . واستدلوا على هذا التخصيص بما في قوله : { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } من المبالغة ، وبما في قوله : { وَتَذُوقُواْ السوء بِمَا صَدَدتُّمْ } لأنهم إذا نقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صدّوا غيرهم عن الدخول في الإسلام .
وعلى تسليم أن هذه الأيمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هي سبب نزول هذه الآية ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . وقال جماعة من المفسرين : إن هذا تكرير لما قبله ، لقصد التأكيد والتقرير . ومعنى { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } فتزلّ قدم من اتخذ يمينه دخلاً عن محجة الحق { بعد ثبوتها } عليها ورسوخها فيها . قيل : وأفرد القدم للإيذان بأن زلل قدم واحد ، أيّ قدم كانت عزّت أو هانت محذور عظيم ، فكيف بأقدام كثيرة؟ وهذا استعارة للمستقيم الحال ، يقع في شرّ عظيم ويسقط فيه ، لأن القدم إذا زلت ، نقلت الإنسان من حال خير إلى حال شرّ . ويقال لمن أخطأ في شيء : زلت به قدمه ، ومنه قول الشاعر :
تداركتما عبساً وقد ثلّ عرشها ... وذبيان قد زلت بأقدامها النعل
{ وَتَذُوقُواْ السوء بِمَا صَدَدتُّمْ } أي : تذوقوا العذاب السيء في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما بما صددتم { عَن سَبِيلِ الله } أي : بسبب صدودكم أنتم عن سبيل الله ، وهو الإسلام ، أو بسبب صدّكم لغيركم عن الإسلام ، فإن من نقض البيعة وارتدّ ، اقتدى به غيره في ذلك ، فكان فعله سنّة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها ولهذا قال : { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي : متبالغ في العظم ، وهو عذاب الآخرة إن كان المراد بما قبله عذاب الدنيا .
ثم نهاهم سبحانه عن الميل إلى عرض الدنيا والرجوع عن العهد لأجله فقال : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله ثَمَناً قَلِيلاً } أي : لا تأخذوا في مقابلة عهدكم عوضاً يسيراً حقيراً . وكل عرض دنيوي وإن كان في الصورة كثيراً ، فهو لكونه ذاهباً زائلاً يسير ، ولهذا ذكر سبحانه بعد تقليل عرض الدنيا خيرية ما عند الله فقال : { إِنَّمَا عِنْدَ الله هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي : ما عنده من النصر في الدنيا والغنائم والرزق الواسع ، وما عنده في الآخرية من نعيم الجنة الذي لا يزول ولا ينقطع هو خير لهم . ثم علل النهي عن أن يشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً ، وأن ما عند الله هو خير لهم بقوله : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : إن كنتم من أهل العلم والتمييز بين الأشياء .
ثم ذكر دليلاً قاطعاً على حقارة عرض الدنيا وخيرية ما عند الله فقال : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ } ومعلوم لكل عاقل أن ما ينفد ويزول وإن بلغ في الكثرة إلى أي مبلغ فهو حقير يسير ، وما كان يبقى ولا يزول فهو كثير جليل . أما نعيم الآخرة فظاهر ، وأما نعيم الدنيا الذي أنعم الله به على المؤمنين فهو وإن كان زائلاً ، لكنه لما كان متصلاً بنعيم الآخرة ، كان من هذه الحيثية في حكم الباقي الذي لا ينقطع ، ثم قال : { وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } اللام هي الموطئة ، أي : لنجزينهم بسبب صبرهم على ما نالهم من مشاقّ التكليف وجهاد الكافرين والصبر على ما ينالهم منهم من الإيذاء بأحسن ما كانوا يعملون من الطاعات .
قيل : وإنما خصّ أحسن أعمالهم؛ لأن ما عداه وهو الحسن مباح ، والجزاء إنما يكون على الطاعة ، وقيل : المعنى : ولنجزينهم بجزاء أشرف وأوفر من عملهم ، كقوله : { مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] ، أو لنجزينهم بحسب أحسن أفراد أعمالهم على معنى لنعطينهم بمقابلة الفرد الأعلى من أعمالهم المذكورة ما نعطيهم بمقابلة الفرد الأعلى منها من الجزاء الجزيل ، لا أنا نعطي الأجر بحسب أفرادها المتفاوتة في مراتب الحسن بأن نجزي الحسن منها بالأجر الحسن ، والأحسن بالأحسن ، كذا قيل . قرأ عاصم وابن كثير { لنجزين } بالنون . وقرأ الباقون بالياء التحتية .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مزيدة بن جابر في قوله : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عاهدتم } قال : أنزلت هذه الآية في بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنّ من أسلم بايع على الإسلام ، فقال : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله . . . } الآية ، فلا يحملنكم قلة محمد وأصحابه ، وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } يقول : بعد تغليظها . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه .
وأخرج ابن مردويه من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس ، أن سعيدة الأسدية كانت تجمع الشعر والليف ، فنزلت فيها هذه الآية { وَلاَ تَكُونُواْ كالتى نَقَضَتْ غَزْلَهَا } . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص مثله . وفي الروايتين جميعاً أنها كانت مجنونة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدّي في سبب نزول الآية ، قال : كانت امرأة بمكة تسمى خرقاء مكة كانت تغزل فإذا أبرمت غزلها نقضته . وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن كثير معناه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } قال : ناس أكثر من ناس . وأخرجوا عن مجاهد في الآية قال : كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعزّ ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون هؤلاء الذين هم أعزّ ، فنهوا عن ذلك .
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
هذا شروع في ترغيب كل مؤمن في كل عمل صالح ، وتعميم للوعد . ومعنى { مَّنْ عَمِلَ صالحا } من عمل عملاً صالحاً أي : عمل كان . وزيادة التمييز بذكر أو أنثى مع كون لفظ { من } شاملاً لهما لقصد التأكيد والمبالغة في تقرير الوعد . وقيل : إن لفظ { من } ظاهر في الذكور ، فكان في التنصيص على الذكر والأنثى بيان لشموله للنوعين ، وجملة { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } في محل نصب على الحال ، جعل سبحانه الإيمان قيداً في الجزاء المذكور؛ لأن عمل الكافر لا اعتداد به ، لقوله سبحانه : { وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] .
ثم ذكر سبحانه الجزاء لمن عمل ذلك العمل الصالح فقال : { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً } وقد وقع الخلاف في الحياة الطيبة بماذا تكون؟ فقيل : بالرزق الحلال ، روي ذلك عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والضحاك . وقيل : بالقناعة ، قاله الحسن البصري ، وزيد بن وهب ، ووهب بن منبه . وروي أيضاً عن عليّ وابن عباس . وقيل : بالتوفيق إلى الطاعة ، قاله الضحاك . وقيل : الحياة الطيبة : هي حياة الجنة . روي عن مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم . وحكي عن الحسن أنه قال : لا تطيب الحياة لأحد إلاّ في الجنة ، وقيل : الحياة الطيبة . هي السعادة . روي ذلك عن ابن عباس . وقيل : هي المعرفة بالله ، حكي ذلك عن جعفر الصادق . وقال أبو بكر الوراق : هي حلاوة الطاعة . وقال سهل بن عبد الله التستري : هي أن ينزع عن العبد تدبير نفسه ، ويردّ تدبيره إلى الحق . وقيل : هي الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق . وأكثر المفسرين على أن هذه الحياة الطيبة هي في الدنيا ، لا في الآخرة؛ لأن حياة الآخرة قد ذكرت بقوله : { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وقد قدّمنا قريباً تفسير الجزاء بالأحسن . ووحد الضمير في « لنحيينه » وجمعه في { ولنجزينهم } حملاً على لفظ { من } وعلى معناه .
ثم لما ذكر سبحانه العمل الصالح والجزاء عليه أتبعه بذكر الاستعاذة التي تخلص بها الأعمال الصالحة عن الوساوس الشيطانية ، فقال : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم } والفاء لترتيب الاستعاذة على العمل الصالح ، وقيل : هذه الآية متصلة بقوله : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء } والتقدير : فإذا أخذت في قراءته ، فاستعذ . قال الزجاج وغيره من أئمة اللغة : معناه : إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ : وليس معناه : أستعذ بعد أن تقرأ القرآن ، ومثله : إذا أكلت فقل : بسم الله . قال الواحدي : وهذا إجماع الفقهاء أن الاستعاذة قبل القراءة ، إلاّ ما روي عن أبي هريرة ، وابن سيرين ، وداود ، ومالك ، وحمزة من القراء ، فإنهم قالوا : الاستعاذة بعد القراءة ، ذهبوا إلى ظاهر الآية ، ومعنى { فاستعذ بالله } اسأله سبحانه أن يعيذك من الشيطان الرجيم ، أي : من وساوسه .
وتخصيص قراءة القرآن من بين الأعمال الصالحة بالاستعاذة عند إرادتها للتنبيه على أنها لسائر الأعمال الصالحة عند إرادتها أهمّ؛ لأنه إذا وقع الأمر بها عند قراءة القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كانت عند إرادة غيره أولى ، كذا قيل . وتوجيه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للإشعار بأن غيره أولى منه بفعل الاستعاذة؛ لأنه إذا أمر بها لدفع وساوس الشيطان مع عصمته ، فكيف بسائر أمته؟ وقد ذهب الجمهور إلى أن الأمر في الآية للندب . وروي عن عطاء الوجوب أخذاً بظاهر الأمر . وقد تقدّم الكلام في الاستعاذة مستوفى في أوّل هذا التفسير .
والضمير في { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ } للشأن أو للشيطان ، أي : ليس له تسلط « على » إغواء { الذين ءامَنُواْ وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } وحكى الواحدي عن جميع المفسرين أنهم فسروا السلطان بالحجة . وقالوا : المعنى : ليس له حجة على المؤمنين في إغوائهم ودعائهم إلى الضلالة . ومعنى { وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } يفوّضون أمورهم إليه في كل قول وفعل . فإن الإيمان بالله والتوكل عليه يمنعان الشيطان من وسوسته لهم ، وإن وسوس لأحد منهم ، لا تؤثر فيه وسوسته . وهذه الجملة تعليل للأمر بالاستعاذة ، وهؤلاء الجامعون بين الإيمان والتوكل هم الذين قال فيهم إبليس : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ الحجر : 40 ] وقال الله فيهم : { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } [ الحجر : 42 ] .
ثم حصر سبحانه سلطان الشيطان ، فقال : { إِنَّمَا سلطانه } أي : تسلطه على الإغواء { على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ } أي : يتخذونه ولياً ويطيعونه في وساوسه { والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } الضمير في { به } يرجع إلى الله تعالى ، أي : الذين هم بالله مشركون . وقيل : يرجع إلى الشيطان . والمعنى : والذين هم من أجله وبسبب وسوسته مشركون بالله .
{ وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ } هذا شروع منه سبحانه في حكاية شبه كفرية ودفعها . ومعنى التبديل : رفع الشيء مع وضع غيره مكانه . وتبديل الآية رفعها بأخرى غيرها ، وهو نسخها بآية سواها . وقد تقدّم الكلام في النسخ في البقرة { قَالُواْ } أي : كفار قريش الجاهلون للحكمة في النسخ { إِنَّمَا أَنتَ } يا محمد { مُفْتَرٍ } أي : كاذب مختلق على الله ، متقوّل عليه بما لم يقل ، حيث تزعم أنه أمرك بشيء . ثم تزعم أنه أمرك بخلافه ، فردّ الله سبحانه عليهم بما يفيد جهلهم ، فقال : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } شيئاً من العلم أصلاً ، أو لا يعلمون بالحكمة في النسخ ، فإنه مبنيّ على المصالح التي يعلمها الله سبحانه ، فقد يكون في شرع هذا الشيء مصلحة مؤقتة بوقت ، ثم تكون المصلحة بعد ذلك الوقت في شرع غيره ، ولو انكشف الغطاء لهؤلاء الكفرة ، لعرفوا أن ذلك وجه الصواب ومنهج العدل والرفق واللطف .
ثم بين سبحانه لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ ، الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله ، وأن رسوله افتراه فقال : { قُلْ نَزَّلَهُ } أي : القرآن المدلول عليه بذكر الآية . { رُوحُ القدس } أي : جبريل ، والقدس : التطهير . والمعنى : نزله الروح المطهر من أدناس البشرية ، فهو من إضافة موصوف إلى الصفة { مِن رَبّكَ } أي : ابتداء تنزيله من عنده سبحانه ، و { بالحق } في محل نصب على الحال ، أي : متلبساً بكونه حقاً ثابتاً لحكمة بالغة { لِيُثَبّتَ الذين ءامَنُواْ } على الإيمان ، فيقولون : كلّ من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا؛ ولأنهم أيضاً إذا عرفوا ما في النسخ من المصالح ثبتت أقدامهم على الإيمان ورسخت عقائدهم . وقرىء { ليثبت } من الإثبات { وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ } وهما معطوفان على محل { ليثبت } أي : تثبيتاً لهم وهداية وبشارة ، وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم .
ثم ذكر سبحانه شبهة أخرى من شبههم فقال : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ } اللام هي الموطئة ، أي : ولقد نعلم أن هؤلاء الكفار يقولون : إنما يعلم محمداً القرآن بشر من بني آدم غير ملك . وقد اختلف أهل العلم في تعيين هذا البشر الذي زعموا عليه ما زعموا ، فقيل : هو غلام الفاكه بن المغيرة ، واسمه جبر ، وكان نصرانياً فأسلم ، وكان كفار قريش إذا سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم أخبار القرون الأولى مع كونه أمياً ، قالوا : إنما يعلمه جبر ، وقيل : اسمه يعيش ، عبد لبني الحضرميّ ، وكان يقرأ الكتب الأعجمية . وقيل : غلام لبني عامر بن لؤيّ ، وقيل : هما غلامان : اسم أحدهما يسار ، واسم الآخر جبر ، وكانا صيقليين يعملان السيوف ، وكانا يقرآن كتاباً لهم . وقيل : كانا يقرآن التوراة والإنجيل . وقيل : هو سلمان الفارسي . وقيل : عنوا نصرانياً بمكة اسمه بلعام ، وكان يقرأ التوراة . وقيل : عنوا رجلاً نصرانياً كان اسمه أبا ميسرة يتكلم بالرومية ، وفي رواية اسمه عداس . قال النحاس : وهذه الأقوال غير متناقضة ، لأنه يجوز أنهم زعموا أنهم جميعاً يعلمونه ، ولكن لا يمكن الجمع باعتبار قول من قال : إنه سلمان ، لأن هذه الآية مكية ، وهو إنما أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة .
ثم أجاب سبحانه عن قولهم هذا فقال : { لّسَانُ الذى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ } الإلحاد : الميل ، يقال : لحد وألحد أي : مال عن القصد . وقد تقدّم في الأعراف . وقرأ حمزة والكسائي « يلحدون » بفتح الياء والحاء . وقرأ من عداهما بضم الياء وكسر الحاء ، أي : لسان الذين يميلون إليه ويزعمون أنه يعلمك أعجميّ ، يقال : رجل أعجم وإمرأة عجماء ، أي : لا يفصحان ، والعجمة : الإخفاء ، وهي ضدّ البيان . والعرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بها أعجمياً . قال الفراء : الأعجم : الذي في لسانه عجمة وإن كان من العرب ، والأعجميّ : هو العجمي الذي أصله من العجم .
وقال أبو علي الفارسي : العجمي المنسوب إلى العجم الذي لا يفصح ، سواء كان من العرب أو من العجم ، وكذلك الأعجم . والأعجمي : المنسوب إلى العجم وإن كان فصيحاً . { وهذا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ } الإشارة إلى القرآن ، وسماه لساناً لأن العرب تقول للقصيدة والبيت : لساناً ، ومنه قول الشاعر :
لسان الشر تهديها إلينا ... وخنت وما حسبتك أن تخونا
أو أراد باللسان : البلاغة ، فكأنه قال : وهذا القرآن ذو بلاغة عربية وبيان واضح ، فكيف تزعمون أن بشراً يعلمه من العجم؟ وقد عجزتم أنتم عن معارضة سورة منه ، وأنتم أهل اللسان العربي ورجال الفصاحة ، وقادة البلاغة ، وهاتان الجملتان مستأنفتان سيقتا لإبطال طعنهم ودفع كذبهم .
ولما ذكر سبحانه جوابهم ، وبخهم وهددّهم فقال : { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله } أي : لا يصدّقون بها { لاَ يَهْدِيهِمُ الله } إلى الحق الذي هو سبيل النجاة ، هداية موصلة إلى المطلوب لما علم من شقاوتهم { وَلَهُمْ فِى الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } بسبب ما هم عليه من الكفر والتكذيب بآيات الله .
ثم لما وقع منهم نسبة الافتراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ عليهم بقوله : { إِنَّمَا يَفْتَرِى الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله } فكيف يقع الافتراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو رأس المؤمنين بها ، والداعين إلى الإيمان بها . وهؤلاء الكفار هم الذين لا يؤمنون بها ، فهم المفترون للكذب . قال الزجاج : المعنى : إنما يفتري الكذب الذين إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلاّ الله كذبوا بها هؤلاء أكذب الكذبة ، ثم سماهم الكاذبين . فقال : { وَأُوْلئِكَ } أي : المتصفون بذلك { هُمُ الكاذبون } أي : إن الكذب نعت لازم لهم وعادة من عادتهم فهم الكاملون في الكذب ، إذ لا كذب أعظم من تكذيبهم بآيات الله .
وقد أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد ابن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، أنه سئل عن الحياة الطيبة : المذكورة في الآية فقال : الحياة الطيبة الرزق الحلال في هذه الحياة الدنيا ، وإذا صار إلى ربه ، جازاه بأحسن ما كان يعمل . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : الكسب الطيب ، والعمل الصالح . وأخرج العسكري في الأمثال عن عليّ في الآية قال : القناعة .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس قال : القنوع ، قال : «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الّلهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه ، واخلف عليّ كل غائبة لي بخير» . وأخرج أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، وابن ماجه عن ابن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قد أفلح من أسلم ، ورزق كفافاً ، وقنّعه الله بما آتاه "
وأخرج الترمذي ، والنسائي من حديث فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « قد أفلح من هدي إلى الإسلام ، وكان عيشه كفافاً وقنع به » وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن المنذر عن عطاء قال : الاستعاذة واجبة لكل قراءة في الصلاة وغيرها من أجل قوله : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم } . وقد ورد في مشروعية الاستعاذة عند التلاوة ما لعلنا قد قدّمنا ذكره . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إِنَّمَا سلطانه على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ } يقول : سلطان الشيطان على من تولى الشيطان وعمل بمعصية الله .
وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ } وقوله : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } قال : عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار ، فأمر به رسول الله أن يقتل يوم الفتح ، فاستجار له عثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاره . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ } قال : هو كقوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا } [ البقرة : 106 ] .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه قال السيوطي : بسندٍ ضعيف عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم بمكة قينا اسمه بلعام ، وكان أعجمياً ، فكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده ، فقالوا : إنما يعلمه بلعام ، فأنزل الله { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ . . } الآية . وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في شعب الإيمان عنه في الآية ، قال : قالوا إنما يعلم محمداً عبد بن الحضرمي وهو صاحب الكتب ، فأنزل الله هذه الآية . وأخرج آدم بن أبي إياس ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن عبد الله ابن مسلم الحضرمي قال : كان لنا عبدان من أهل عين التمر ، يقال لأحدهما : يسار . والآخر : جبر ، وكان يصنعان السيوف بمكة ، وكانا يقرآن الإنجيل ، فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما يقرآن فيقف ويستمع ، فقال المشركون : إنما يتعلم منهما ، فنزلت هذه الآية .
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
قوله : { مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمانه } قد اختلف أهل العلم في إعرابه ، فذهب الأكثرون على أنه بدل إما من { الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله } وما بينهما اعتراض ، والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر ، واستثنى منهم المكره ، فلا يدخل تحت حكم الافتراء . ثم قال : { ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } أي : اعتقده وطابت به نفسه واطمأن إليه { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } وإما من المبتدأ الذي هو { أولئك } أو من الخبر الذي هو { الكاذبون } . وذهب الزجاج إلى الأوّل . وقال الأخفش : إن { من } مبتدأ وخبره محذوف اكتفي منه بخبر { من } الثانية ، كقولك : من يأتنا منكنّ نكرمه . وقيل : هو أي : { من } في { من كفر } منصوب على الذمّ؛ وقيل : إن من شرطية والجواب محذوف لأن جواب «من شرح» دالّ عليه ، وهو كقول الأخفش ، وإنما خالفه في إطلاق لفظ الشرط على من والجواب على خبرها ، فكأنه قيل على هذا من كفر بالله فعليهم غضب إلاّ من أكره ، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب ، وإنما صح استثناء المكره من الكافر مع أنه ليس بكافر لأنه ظهر منه بعد الإيمان ما لا يظهر إلاّ من الكافر لولا الإكراه .
قال القرطبي : أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولا تبين منه زوجته ، ولا يحكم عليه بحكم الكفر . وحكي عن محمد بن الحسن أنه إذا أظهر الكفر ، كان مرتداً في الظاهر ، وفيما بينه وبين الله على الإسلام ، وتبين منه امرأته ، ولا يصلى عليه إن مات ، ولا يرث أباه إن مات مسلماً ، وهذا القول مردود على قائله ، مدفوع بالكتاب والسنّة . وذهب الحسن البصري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وسحنون إلى أن هذه الرخصة المذكورة في هذه الآية إنما جاءت في القول . وأما في الفعل فلا رخصة ، مثل أن يكره على السجود لغير الله ، ويدفعه ظاهر الآية ، فإنها عامة فيمن أكره من غير فرق بين القول والفعل ، ولا دليل لهؤلاء القاصرين للآية على القول ، وخصوص السبب ، لا اعتبار به مع عموم اللفظ كما تقرر في علم الأصول .
وجملة { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } في محل نصب على الحال من المستثنى ، أي : إلا من كفر بإكراه ، والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته ، وليس بعد هذا الوعيد العظيم ، وهو الجمع للمرتدين ، بين غضب الله وعظيم عذابه .
والإشارة بقوله : { ذلك } إلى الكفر بعد الإيمان ، أو إلى الوعيد بالغضب والعذاب ، والباء في { بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا } للسببية ، أي : ذلك بسبب تأثيرهم للحياة الدنيا { على الآخرة وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين } معطوف على { أَنَّهُمْ استحبوا } أي : ذلك بأنهم استحبوا ، وبأن الله لا يهدي القوم الكافرين إلى الإيمان به .
ثم وصفهم بقوله : { أولئك } أي : الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحة { الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وأبصارهم } فلم يفهموا المواعظ ولا سمعوها ، ولا أبصروا الآيات التي يستدل بها على الحق . وقد سبق تحقيق الطبع في أوّل البقرة ، ثم أثبت لهم صفة نقص غير الصفة المتقدّمة ، فقال : { وَأُولَئِكَ هُمُ الغافلون } عما يراد بهم ، وضمير الفصل يفيد أنهم متناهون في الغفلة ، إذ لا غفلة أعظم من غفلتهم هذه .
{ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الآخرة هُمُ الخاسرون } أي : الكاملون في الخسران ، البالغون إلى غاية منه ليس فوقها غاية ، وقد تقدّم تحقيق الكلام في معنى { لاَ جَرَمَ } في مواضع ، منها ما هو في هذه السورة .
{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا } من دار الكفر إلى دار الإسلام ، وخبر " إن " محذوف ، والتقدير : لغفور رحيم ، وإنما حذف لدلالة خبر { إن ربك } المتأخرة عليه . وقيل : الخبر هو { للذين هاجروا } أي : إن ربك لهم بالولاية والنصرة لا عليهم ، وفيه بعد . وقيل : إن خبرها هو قوله { لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، و { إن ربك } الثانية تأكيد للأولى . قال في الكشاف : «ثم» ها هنا للدلالة على تباعد حال هؤلاء ، يعني : الذين نزلت الآية فيهم عن حال أولئك ، وهم عمار وأصحابه ، ويدل على ذلك ما روي أنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح ، وسيأتي بيان ذلك { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } أي : فتنهم الكفار بتعذيبهم لهم ليرجعوا في الكفر ، وقرىء " فتنوا " على البناء للفاعل ، أي : الذين فتنوا المؤمنين وعذبوهم على الإسلام { ثُمَّ جاهدوا } في سبيل الله { وصبروا } على ما أصابهم من الكفار ، وعلى ما يلقونه من مشاق التكليف { لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : كثير الغفران والرحمة لهم .
ومعنى الآية على قراءة من قرأ " فتنوا " على البناء للفاعل واضح ظاهر ، أي : إن ربك لهؤلاء الكفار الذين فتنوا من أسلم وعذبوهم ، ثم جاهدوا وصبروا لغفور رحيم . وأما على قراءة البناء للمفعول وهي قراءة الجمهور ، فالمعنى : أن هؤلاء المفتونين الذين تكلموا بكلمة الكفر مكرهين وصدورهم غير منشرحة للكفر إذا صلحت أعمالهم وجاهدوا في الله وصبروا على المكاره لغفور لهم ، رحيم بهم . وأما إذا كان سبب الآية هذه هو عبد الله بن أبي سرح الذي ارتدّ عن الإسلام ثم رجع بعد ذلك إلى الإسلام ، فالمعنى : أن هذا المفتون في دينه بالردّة إذا أسلم وجاهد وصبر ، فالله غفور له ، رحيم به . والضمير في { بعدها } يرجع إلى الفتنة ، أو إلى المهاجرة والجهاد والصبر ، أو إلى الجميع .
{ يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تجادل عَن نَّفْسِهَا } قال الزجاج : { يوم تأتي } منتصب بقوله : { رحيم } ، أو بإضمار اذكر ، أو ذكرهم ، أو أنذرهم ، وقد استشكل إضافة ضمير النفس إلى النفس ، ولا بدّ من التغاير بين المضاف والمضاف إليه .
وأجيب بأن المراد بالنفس الأولى : جملة بدن الإنسان ، وبالنفس الثانية : الذات ، فكأن قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته ، لا يهمه غيرها . ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها ، فهو مجادل ومخاصم عن نفسه ، لا يتفرّغ لغيرها يوم القيامة .
وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه : « تفرّقوا عني ، فمن كانت به قوّة فليتأخر إلى آخر الليل ، ومن لم تكن به قوّة فليذهب في أوّل الليل ، فإذا سمعتم بي قد استقرّت بي الأرض فألحقوا بي » ، فأصبح بلال المؤذن ، وخباب ، وعمار ، وجارية من قريش كانت أسلمت ، فأخذهم المشركون وأبو جهل ، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى ، فجعلوا يضعون درعاً من حديد في الشمس ، ثم يلبسونها إياه ، فإذا ألبسوها إياه ، قال : أحد أحد ، وأما خباب ، فجعلوا يجرّونه في الشوك ، وأما عمار ، فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية ، وأما الجارية فوتد لها أبو جهل أربع أوتاد ، ثم مدّها فأدخل الحربة في قبلها حتى قتلها ، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار ، فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بالذي كان من أمرهم ، واشتدّ على عمار الذي كان تكلم به . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم « كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت؟ أكان منشرحاً بالذي قلت أم لا » ؟ قال لا ، فأنزل الله { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن سعد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي ، وابن عساكر من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير ، فتركوه ، فلما أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ما وراءك؟ » قال : شرّ ، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ، قال : « كيف تجد قلبك » ؟ قال : مطمئناً بالإيمان . قال : « إن عادوا فعد » فنزلت { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } قال : ذاك عمار بن ياسر { ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } عبد الله بن أبي سرح . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن عساكر عن أبي مالك في قوله : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } قال : نزلت في عمار بن ياسر ، وفي الباب روايات مصرّحة بأنها نزلت في عمار ابن ياسر . وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين قال : نزلت هذه الآية { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } في عياش بن أبي ربيعة .
وأخرج ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : في سورة النحل { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ثم نسخ واستثنى من ذلك فقال : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } الآية قال : وهو عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأزله الشيطان ، فلحق بالكفار . فأمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم فتح مكة ، فاستجار له عثمان بن عفان ، فأجاره النبيّ صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن مثله . وأخرج ابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } فيمن كان يفتن من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن مردويه عنه قال : كان قوم من أهل مكة قد أسلموا ، وكانوا يستخفون بالإسلام ، فنزلت فيهم { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا } الآية ، فكتبوا إليهم بذلك : إنّ الله قد جعل لكم مخرجاً فأخرجوا ، فأدركهم المشركون فقاتلوهم ، فنجا من نجا ، وقتل من قتل . وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن : أن عيوناً لمسيلمة أخذوا رجلين من المسلمين ، فأتوه بهما ، فقال لأحدهما : أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال : نعم . قال : أتشهد أني رسول الله؟ فأهوى إلى أذنيه فقال : إنّي أصمّ ، فأمر به فقتل . وقال للآخر : أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال : نعم ، قال : أتشهد أني رسول الله؟ قال : نعم ، فأرسله فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له : « أما صاحبك ، فمضى على إيمانه ، وأما أنت فأخذت بالرخصة » وهو مرسل .
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
قوله : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً } قد قدّمنا أن ضرب مضمن معنى جعل ، حتى تكون { قرية } المفعول الأوّل و { مثلاً } المفعول الثاني ، وإنما تأخرت { قرية } لئلا يقع الفصل بينها وبين صفاتها . وقدّمنا أيضاً أنه يجوز أن يكون { ضرب } على بابه غير مضمن ، ويكون { مثلاً } مفعوله الأوّل وقرية بدلاً منه .
وقد اختلف المفسرون هل المراد بهذه القرية قرية معينة ، أو المراد قرية غير معينة؟ بل كل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة؟ فذهب الأكثر إلى الأول وصرحوا بأنها مكة ، وذلك لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « اللّهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف » ، فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام ، والثاني : أرجح ، لأن تنكير قرية يفيد ذلك ، ومكة تدخل في هذا العموم البدليّ دخولاً أوّلياً . وأيضاً يكون الوعيد أبلغ ، والمثل أكمل ، وغير مكة مثلها . وعلى فرض إرادتها ، ففي المثل إنذار لغيرها من مثل عاقبتها .
ثم وصف القرية بأنها { كَانَتْ ءامِنَةً } غير خائفة { مُّطْمَئِنَّةً } غير منزعجة ، أي : لا يخاف أهلها ولا ينزعجون { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا } أي : ما يرتزق به أهلها { رَغَدًا } واسعاً { مّن كُلّ مَكَانٍ } من الأمكنة التي يجلب ما فيها إليها { فَكَفَرَتْ } أي : كفر أهلها { بِأَنْعُمِ الله } التي أنعم بها عليهم ، والأنعم : جمع نعمة كالأشدّ جمع شدّة . وقيل : جمع نعمى مثل بؤسى وأبؤس . وهذا الكفر منهم هو كفرهم بالله سبحانه وتكذيب رسله { فَأَذَاقَهَا الله } أي : أذاق أهلها { لِبَاسَ الجوع والخوف } سمي ذلك لباساً لأنه يظهر به عليهم من الهزال ، وشحوبة اللون ، وسوء الحال ، ما هو كاللباس ، فاستعير له اسمه ، وأوقع عليه الإذاقة ، وأصلها الذوق بالفم . ثم استعيرت لمطلق الاتصال مع إنبائها بشدّة الإصابة لما فيها من اجتماع الإدراكين : إدراك اللمس ، والذوق .
روي أن ابن الراوندي الزنديق قال لابن الأعرابي - إمام اللغة والأدب - هل يذاق اللباس؟ فقال له ابن الأعرابي : لا بأس أيها النسناس ، هب أن محمداً ما كان نبياً أما كان عربياً؟ كأنه طعن في الآية بأن المناسب أن يقال : فكساها الله لباس الجوع ، أو فأذاقها الله طعم الجوع ، فرد عليه ابن الأعرابي .
وقد أجاب علماء البيان أن هذا من تجريد الاستعارة ، وذلك أنه استعار اللباس لما غشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف ، لاشتماله عليه اشتمال اللباس على اللابس ، ثم ذكر الوصف ملائماً للمستعار له ، وهو الجوع والخوف؛ لأن إطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة ، فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر ، وأذاقه غيره ، فكانت الاستعارة مجرّدة . ولو قال : فكساها كانت مرشحة . قيل : وترشيح الاستعارة ، وإن كان مستحسناً من جهة المبالغة ، إلاّ أن للتجريد ترجيحاً من حيث أنه روعي جانب المستعار له ، فازداد الكلام وضوحاً .
وقيل : إن أصل الذوق بالفم ، ثم قد يستعار ، فيوضع موضع التعرف والاختبار . ومن ذلك قول الشاعر :
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها ... وسيق إلينا عذبها وعذابها
وقرأ حفص بن غياث ونصر بن عاصم وابن أبي إسحاق وأبو عمرو فيما روى عنه عبد الوارث بنصب الخوف عطفاً على لباس ، وقرأ الباقون بالضم عطفاً على الجوع ، قال الفراء : كل الصفات أجريت على القرية إلاّ قوله : { يَصْنَعُونَ } تنبيهاً على أن المراد في الحقيقة أهلها .
{ وَلَقَدْ جَاءهُمْ } يعني : أهل مكة { رَسُولٌ مّنْهُمْ } من جنسهم يعرفونه ويعرفون نسبه ، فأمرهم بما فيه نفعهم ونهاهم عما فيه ضرهم { فَكَذَّبُوهُ } فيما جاء به { فَأَخَذَهُمُ العذاب } النازل بهم من الله سبحانه ، والحال أنهم في حال أخذ العذاب لهم { ظالمون } لأنفسهم بإيقاعها في العذاب الأبديّ ، ولغيرهم بالإضرار بهم وصدّهم عن سبيل الله ، وهذا الكلام من تمام المثل المضروب . وقيل : إن المراد بالعذاب هنا هو الجوع الذي أصابهم ، وقيل : القتل يوم بدر .
ثم لما وعظهم الله سبحانه بما ذكروه من حال أهل القرية المذكورة ، أمرهم أن يأكلوا مما رزقهم الله من الغنائم ونحوها ، وجاء بالفاء للإشعار بأن ذلك متسبب عن ترك الكفر . والمعنى : أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر ، فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة ، واتركوا الخبائث وهو الميتة والدم { واشكروا نِعْمَتَ الله } التي أنعم بها عليكم واعرفوا حقها { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } ولا تعبدون غيره ، أو إن صحّ زعمكم أنكم تقصدون بعبادة الآلهة التي زعمتم عبادة الله تعالى . وقيل : إن الفاء في { فكلوا } داخلة على الأمر بالشكر ، وإنما أدخلت على الأمر بالأكل ، لأن الأكل ذريعة إلى الشكر .
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } كرّر سبحانه ذكر هذه المحرمات في البقرة والمائدة والأنعام ، وفي هذه السورة قطعاً للأعذار ، وإزالة للشبهة ، ثم ذكر الرخصة في تناول شيء مما ذكر فقال : { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وقد تقدّم الكلام على جميع ما هو مذكور هنا مستوفى . ثم زيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه المحرمات كالبحيرة والسائبة ، وفي النقصان عنها كتحليل الميتة والدّم ، فقال : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب } قال الكسائي ، والزجاج : « ما » هنا مصدرية . وانتصاب الكذب ب { لا تقولوا } أي : لا تقولوا الكذب لأجل وصف ألسنتكم ، ومعناه : لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة ، ويجوز أن تكون « ما » موصولة ، والكذب منتصب ب { تصف } أي : لا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه { هذا حلال وهذا حَرَامٌ } فحذف لفظة فيه لكونه معلوماً ، فيكون قوله : { هذا حلال وهذا حرام } بدلاً من الكذب ، ويجوز أن يكون في الكلام حذف بتقدير القول : أي ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم ، فتقول : هذا حلال وهذا حرام ، أو قائلة : هذا حلال وهذا حرام ، ويجوز أن ينتصب الكذب أيضاً ب { تصف } وتكون « ما » مصدرية ، أي : لا تقولوا : هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب .
وقرىء « الكذب » بضم الكاف والذال والباء على أنه نعت للألسنة ، وقرأ الحسن بفتح الكاف وكسر الذال والباء نعتاً ل « ما » . وقيل : على البدل من « ما » أي : ولا تقولوا الكذب الذي تصفه ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام ، واللام في { لّتَفْتَرُواْ على الله الكذب } هي لام العاقبة ، لا لام العرض ، أي : فيتعقب ذلك افتراؤكم على الله الكذب بالتحليل والتحريم ، وإسناد ذلك إليه من غير أن يكون منه { إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب } أي افتراء كان { لاَ يُفْلِحُونَ } بنوع من أنواع الفلاح ، وهو الفوز بالمطلوب ، وارتفاع { متاع قَلِيلٌ } على أنه خبر مبتدأ محذوف . قال الزجاج : أي متاعهم متاع قليل ، أو هو مبتدأ خبره محذوف ، أي : لهم متاع قليل { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يردّون إليه في الآخرة .
ثم خصّ محرمات اليهود بالذكر فقال : { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا } أي : حرمنا عليهم خاصة دون غيرهم { مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ } بقولنا : { حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } [ الأنعام : 146 ] ، الآية ، و { مِن قَبْلُ } متعلق ب { قصصنا } أو ب { حرمنا } { وَمَا ظلمناهم } بذلك التحريم ، بل جزيناهم ببغيهم { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } حيث فعلوا أسباب ذلك فحرّمنا عليهم تلك الأشياء عقوبة لهم .
ثم بيّن سبحانه أن الافتراء على الله سبحانه ومخالفة أمره لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة فقال : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء بجهالة } أي : متلبسين بجهالة ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في سورة النساء { ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ } أي : من بعد عملهم للسوء ، وفيه تأكيد ، فإن « ثم » قد دلت على البعدية ، فأكدها بزيادة ذكر البعدية { وَأَصْلَحُواْ } أعمالهم التي كان فيها فساد بالسوء الذي عملوه ، ثم كرّر ذلك تأكيداً وتقريراً فقال : { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } أي : من بعد التوبة { لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } كثير الغفران ، واسع الرحمة .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً } قال : يعني مكة . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية في الآية مثله . وزاد فقال : ألا ترى أنه قال { وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ } . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال : القرية التي قال الله { كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً } هي يثرب .
قلت : ولا أدري أي دليل دله على هذا التعيين ، ولا أيّ قرينة قامت له على ذلك ، ومتى كفرت دار الهجرة ومسكن الأنصار بأنعم الله ، وأيّ وقت أذاقها الله لباس الجوع والخوف ، وهي التي تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد كما صحّ ذلك عن الصادق المصدوق . وصحّ عنه أيضاً أنه قال : « والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون »
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب } الآية ، قال : في البحيرة والسائبة . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة قال : قرأت هذه الآية في سورة النحل { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حلال وهذا حَرَامٌ } إلى آخر الآية ، فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا . قلت : صدق رحمه الله ، فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتياً من أفتى بخلاف ما في كتاب الله أو في سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، كما يقع كثيراً من المؤثرين للرأي المقدّمين له على الرواية ، أو الجاهلين لعلم الكتاب والسنّة كالمقلدة ، وإنهم لحقيقون بأن يحال بينهم وبين فتاويهم ويمنعوا من جهالاتهم ، فإنهم أفتوا بغير علم من الله ولا هدى ولا كتاب منير ، فضلوا وأضلوا ، فهم ومن يستفتيهم كما قال القائل :
كبهيمة عمياء قاد زمامها ... أعمى على عوج الطريق الجائر
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال : عسى رجل أن يقول : إن الله أمر بكذا ، أو نهى عن كذا ، فيقول الله عزّ وجلّ له : كذبت . أو يقول : إن الله حرّم كذا أو أحلّ كذا ، فيقول الله له : كذبت . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : { وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ } قال : في سورة الأنعام . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة مثله ، وقال : حيث يقول : { وَعَلَى الذين هَادُواْ } إلى قوله : { وِإِنَّا لصادقون } [ الأنعام : 146 ] .
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
لما فرغ سبحانه من دفع شبه المشركين وإبطال مطاعنهم ، وكان إبراهيم عليه السلام من الموحدين وهو قدوة كثير من النبيين ذكره الله في آخر هذه السورة فقال : { إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً } قال ابن الأعرابيّ : يقال للرجل العالم : أمّة ، والأمّة : الرجل الجامع للخير . قال الواحدي : قال أكثر أهل التفسير : أي معلماً للخير ، وعلى هذا فمعنى كون إبراهيم كان أمّة أنه كان معلماً للخير أو جامعاً لخصال الخير أو عالماً بما علمه الله من الشرائع . وقيل : أمّة بمعنى مأموم أي : يؤمه الناس ليأخذوا منه الخير كما قال سبحانه : { إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا } [ البقرة : 124 ] والقانت : المطيع . وقد تقدّم بيان معاني القنوت في البقرة . والحنيف : المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الحق ، وقد تقدّم بيانه في الأنعام . { وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين } بالله كما تزعمه كفار قريش أنه كان على دينهم الباطل .
{ شَاكِراً لأَنْعُمِهِ } التي أنعم الله بها عليه وإن كانت قليلة كما يدلّ عليه جمع القلة ، فهو شاكر لما كثر منها بالأولى { اجتباه } أي : اختاره للنبوّة واختصه بها { وَهَدَاهُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } وهو ملة الإسلام ودين الحق .
{ وءاتيناه فِى الدنيا حَسَنَةً } أي : خصلة حسنة أو حالة حسنة . وقيل : هي الولد الصالح . وقيل : الثناء الحسن . وقيل : النبوّة . وقيل : الصلاة منا عليه في التشهد . وقيل : هي أنه يتولاه جميع أهل الأديان . ولا مانع أن يكون ما آتاه الله شاملاً لذلك كله ولما عداه من خصال الخير { وَإِنَّهُ فِى الآخرة لَمِنَ الصالحين } حسبما وقع منه السؤال لربه حيث قال : { وَأَلْحِقْنِى بالصالحين * واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الآخرين * واجعلنى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم } [ الشعراء : 83 - 85 ] . { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } يا محمد مع علوّ درجتك وسموّ منزلتك ، وكونك سيد ولد آدم { أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم } وأصل الملة اسم لما شرعه الله لعباده على لسان نبيّ من أنبيائه . وقيل : والمراد هنا اتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم لملة إبراهيم في التوحيد والدعوة إليه . وقال ابن جرير : في التبرّي من الأوثان ، والتدّين بدين الإسلام . وقيل : في مناسك الحج . وقيل : في الأصول دون الفروع . وقيل : في جميع شريعته ، إلاّ ما نسخ منها ، وهذا هو الظاهر ، وقد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بالأنبياء مع كونه سيدهم ، فقال تعالى : { فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعام : 90 ] . وانتصاب { حَنِيفاً } على الحال من إبراهيم ، وجاز مجيء الحال منه؛ لأن الملة كالجزء منه . وقد تقرّر في علم النحو أن الحال من المضاف إليه جائز إذا كان يقتضي المضاف العمل في المضاف إليه ، أو كان جزءاً منه أو كالجزء { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } وهو تكرير لما سبق للنكتة التي ذكرناها .
{ إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ } أي : إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه ، أو إنما جعل فرض تعظيم السبت وترك الصيد فيه على الذين اختلفوا فيه ، لا على غيرهم من الأمم .
وقد اختلف العلماء في كيفية الاختلاف الكائن بينهم في السبت ، فقالت طائفة : إن موسى أمرهم بيوم الجمعة وعيّنه لهم ، وأخبرهم بفضيلته على غيره ، فخالفوه وقالوا : إن السبت أفضل ، فقال الله له : دعهم وما اختاروا لأنفسهم . وقيل : إن الله سبحانه أمرهم بتعظيم يوم في الأسبوع ، فاختلف اجتهادهم فيه ، فعينت اليهود السبت ، لأن الله سبحانه فرغ فيه من الخلق ، وعينت النصارى يوم الأحد لأن الله بدأ فيه الخلق . فألزم الله كلا منهم ما أدّى إليه اجتهاده ، وعيّن لهذه الأمة الجمعة من غير أن يكلهم إلى اجتهادهم فضلاً منه ونعمة . ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن اليهود كانوا يزعمون أن السبت من شرائع إبراهيم ، فأخبر الله سبحانه أنه إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ، ولم يجعله على إبراهيم ولا على غيره { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أي : بين المختلفين فيه { يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } فيجازي كلا فيه بما يستحقه ثواباً وعقاباً ، كما وقع منه سبحانه من المسخ لطائفة منهم والتنجية لأخرى .
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يدعو أمته إلى الإسلام فقال { ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ } وحذف المفعول للتعميم ، لكونه بعث إلى الناس كافة ، وسبيل الله هو الإسلام { بالحكمة } أي : بالمقالة المحكمة الصحيحة . قيل : وهي الحجج القطعية المفيدة لليقين { والموعظة الحسنة } وهي المقالة المشتملة على الموعظة الحسنة التي يستحسنها السامع ، وتكون في نفسها حسنة باعتبار انتفاع السامع بها . قيل : وهي الحجج الظنية الإقناعية الموجبة للتصديق بمقدّمات مقبولة . قيل : وليس للدعوة إلاّ هاتان الطريقتان ، ولكن الداعي قد يحتاج مع الخصم الألدّ إلى استعمال المعارضة والمناقضة ، ونحو ذلك من الجدل . ولهذا قال سبحانه : { وجادلهم بالتى هِىَ أَحْسَنُ } أي : بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة . وإنما أمر سبحانه بالمجادلة الحسنة لكون الداعي محقاً وغرضه صحيحاً ، وكان خصمه مبطلاً وغرضه فاسداً { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } لما حثّ سبحانه على الدعوة بالطرق المذكورة ، بيّن أن الرشد والهداية ليس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ذلك إليه تعالى فقال : { إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ } أي : هو العالم بمن يضلّ ومن يهتدّي { وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } أي : بمن يبصر الحقّ فيقصده غير متعنت ، وإنما شرع لك الدعوة ، وأمرك بها قطعاً للمعذرة ، وتتميماً للحجة ، وإزاحة للشبهة ، وليس عليك غير ذلك .
ثم لما كانت الدعوة تتضمن تكليف المدعوّين بالرجوع إلى الحق ، فإن أبوا قوتلوا ، أمر الداعي بأن يعدل في العقوبة فقال : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ } أي : أردتم المعاقبة { فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } أي : بمثل ما فعل بكم ، لا تجاوزوا ذلك .
قال ابن جرير : أنزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة أن لا ينال من ظالمه إذا تمكن إلاّ مثل ظلامته ، لا يتعدّاها إلى غيرها . وهذا صواب؛ لأن الآية وإن قيل : إن لها سبباً خاصاً كما سيأتي ، فالاعتبار بعموم اللفظ ، وعمومه يؤدّي هذا المعنى الذي ذكره ، وسمى سبحانه الفعل الأوّل الذي هو فعل البادىء بالشرّ عقوبة ، مع أن العقوبة ليست إلاّ فعل الثاني ، وهو المجازي للمشاكلة ، وهي باب معروف وقع في كثير من الكتاب العزيز . ثم حثّ سبحانه على العفو فقال : { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين } أي : لئن صبرتم عن المعاقبة بالمثل ، فالصبر خير لكم من الانتصاف ، ووضع { الصابرين } موضع الضمير ، ثناء من الله عليهم بأنهم صابرون على الشدائد . وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه الآية محكمة لأنها واردة في الصبر عن المعاقبة والثناء على الصابرين على العموم . وقيل : هي منسوخة بآيات القتال ، ولا وجه لذلك .
ثم أمر الله سبحانه رسوله بالصبر فقال : { واصبر } على ما أصابك من صنوف الأذى { وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله } أي : بتوفيقه وتثبيته . والاستثناء مفرغ من أعمّ الأشياء ، أي : وما صبرك مصحوباً بشيء من الأشياء إلاّ بتوفيقه لك . وفيه تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم . ثم نهاه عن الحزن فقال : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي : على الكافرين في إعراضهم عنك ، أو لا تحزن على قتلى أحد ، فإنهم قد أفضوا إلى رحمة الله . { وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ } قرأ الجمهور بفتح الضاد ، وقرأ ابن كثير بكسرها . قال ابن السكيت : هما سواء ، يعني : المفتوح والمكسور . وقال الفراء : الضيق بالفتح : ما ضاق عنه صدرك ، والضيق بالكسر : ما يكون في الذي يتسع ، مثل الدار والثوب . وكذا قال الأخفش ، وهو من الكلام المقلوب؛ لأن الضيق . وصف للإنسان يكون فيه ولا يكون الإنسان فيه ، وكأنه أراد وصف الضيق بالعظم حتى صار كالشيء المحيط بالإنسان من جميع جوانبه ، ومعنى { مما يمكرون } : من مكرهم لك فيما يستقبل من الزمان .
ثم ختم هذه السورة بآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات فقال : { إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا } أي : اتقوا المعاصي على اختلاف أنواعها { والذين هُم مُّحْسِنُونَ } بتأدية الطاعات والقيام بما أمروا بها منها . وقيل : المعنى { إن الله مع الذين اتقوا } الزيادة في العقوبة ، { والذين هم محسنون } في أصل الانتقام ، فيكون الأوّل إشارة إلى قوله : { فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } والثاني إشارة إلى قوله : { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين } ، وقيل { الذين اتقوا } إشارة إلى التعظيم لأمر الله { والذين هُم مُّحْسِنُونَ } إشارة إلى الشفقة على عباد الله تعالى .
وقد أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد ، بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن مسعود : أنه سئل عن الأمة ما هي؟ فقال : الذي يعلم الناس الخير ، قالوا : فما القانت؟ قال : الذي يطيع الله ورسوله . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قانتا لِلَّهِ } قال : كان على الإسلام ولم يكن في زمانه من قومه أحد على الإسلام غيره ، فلذلك قال الله : { كَانَ أُمَّةً قانتا لِلَّهِ } . وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { كَانَ أُمَّةً } قال : إماماً في الخير { قانتا } قال : مطيعاً . وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من عبد تشهد له أمة ، إلاّ قبل الله شهادتهم » والأمة : الرجل فما فوقه ، إن الله يقول { إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً } والأمة الرجل فما فوقه .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي عن ابن عمرو وقال : صلى جبريل بإبراهيم الظهر والعصر بعرفات ، ثم وقف حتى إذا غابت الشمس دفع به ، ثم صلى المغرب والعشاء ، بجمع ثم صلى الفجر به كأسرع ما يصلي أحدكم من المسلمين ، ثم وقف به حتى إذا كان كأبطأ ما يصلي أحد من المسلمين دفع ، به ، ثم رمى الجمرة ، ثم ذبح ، ثم حلق ، ثم أفاض به إلى البيت فطاف به ، فقال الله لنبيه : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا } . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ } قال : أراد الجمعة ، فأخذوا السبت مكانها . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق السدّي عن أبي مالك وسعيد بن جبير في الآية قال : باستحلالهم إياه . رأى موسى رجلاً يحمل حطباً يوم السبت ، فضرب عنقه ، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم . ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم ، يعني : الجمعة ، فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فالناس فيه لنا تبع ، اليهود غداً والنصارى بعد غد » وأخرج مسلم وغيره من حديث حذيفة نحوه .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وجادلهم بالتى هِىَ أَحْسَنُ } قال : أعرض عن أذاهم إياك . وأخرج الترمذي وحسنه ، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، والنسائي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن خزيمة في الفوائد ، وابن حبان ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب ، قال : لما كان يوم أحد ، أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً ، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة ، فمثّلوا بهم ، فقالت الأنصار : لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنربين عليهم ، فلما كان يوم فتح مكة ، أنزل الله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" نصبر ولا نعاقب ، كفوا عن القوم إلاّ أربعة " وأخرج ابن سعد ، والبزار ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وأبو نعيم في المعرفة ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة : «أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حيث استشهد ، فنظر إلى منظر لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه ، ونظر إليه قد مثل به ، فقال : " رحمة الله عليك ، فإنك كنت ما علمت وصولاً للرحم ، فعولاً للخير ، ولولا حزن من بعدك عليك ، لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من أرواح شتى ، أما والله لأمثلنّ بسبعين منهم مكانك " ، فنزل جبريل ، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بخواتيم سورة النحل { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ . . . } الآية ، فكفّر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه وأمسك عن الذي أراد وصبر . وأخرج ابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ . . . } الآية ، قال : هذا حين أمر الله نبيه أن يقاتل من قاتله ، ثم نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم فهذا منسوخ . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : { إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ } قال : اتقوا فيما حرّم عليهم ، وأحسنوا فيما افترض عليهم .
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
قوله : { سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } هو مصدر سبح ، يقال : سبح يسبح تسبيحاً وسبحاناً ، مثل كفر اليمين تكفيراً وكفراناً ، ومعناه التنزيه والبراءة لله من كل نقص . وقال سيبويه : العامل فيه فعل لا من لفظه ، والتقدير : أنزه الله تنزيهاً ، فوقع سبحان مكان تنزيهاً ، فهو على هذا مثل قعد القرفصاء واشتمل الصماء؛ وقيل : هو علم للتسبيح كعثمان للرجل ، وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره تقديره أسبح الله سبحان ، ثم نزل منزلة الفعل وسدّ مسدّه ، وقد قدّمنا في قوله : { سبحانك لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } [ البقرة : 32 ] . طرفاً من الكلام المتعلق بسبحان . والإسراء قيل : هو سير الليل ، يقال : سرى وأسرى ، كسقى وأسقى لغتان ، وقد جمع بينهما الشاعر في قوله :
حي النضير ربة الخدر ... أسرت إليّ ولم تكن تسري
وقيل هو سير أوّل الليل خاصة ، وإذا كان الإسراء لا يكون إلاّ في الليل فلا بدّ للتصريح بذكر الليل بعده من فائدة ، فقيل : أراد بقوله { ليلاً } تقليل مدّة الإسراء ، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسافة أربعين ليلة . ووجه دلالة { ليلاً } على تقليل المدّة ما فيه من التنكير الدالّ على البعضية ، بخلاف ما إذا قلت : سريت الليل فإنه يفيد استيعاب السير له جميعاً . وقد استدلّ صاحب الكشاف على إفادة ليلاً للبعضية بقراءة عبد الله وحذيفة ( من الليل ) . وقال الزجاج : معنى { أسرى بعبده ليلاً } سير عبده ، يعني : محمداً ليلاً ، وعلى هذا فيكون معنى أسرى : معنى سير ، فيكون للتقيد بالليل فائدة ، وقال : { بعبده } ولم يقل : بنبيه أو رسوله ، أو بمحمد تشريفاً له صلى الله عليه وسلم . قال أهل العلم : لو كان غير هذا الاسم أشرف منه ، لسماه الله سبحانه به في هذا المقام العظيم ، والحالة العلية :
لا تدعني إلا بياعبدها ... فإنه أشرف أسمائي
ادعاء بأسماء نبزا في قبائلها ... كأن أسماء أضحت بعض أسمائي
{ مّنَ المسجد الحرام } قال الحسن وقتادة : يعني المسجد نفسه ، وهو ظاهر القرآن . وقال عامة المفسرين : أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من دار أم هانىء ، فحملوا المسجد الحرام على مكة ، أو الحرام ، لإحاطة كل واحد منهما بالمسجد الحرام ، أو لأن الحرم كله مسجد . ثم ذكر سبحانه الغاية التي أسرى برسوله إليها فقال : { إلى المسجد الاقصى } وهو بيت المقدس . وسمي الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام ، ولم يكن حينئذٍ وراءه مسجد ، ثم وصف المسجد الأقصى بقوله : { الذى بَارَكْنَا حَوْلَهُ } بالثمار والأنهار والأنبياء والصالحين ، فقد بارك الله سبحانه حول المسجد الأقصى ببركات الدنيا والآخرة . وفي { باركنا } بعد قوله { أسرى } التفات من الغيبة إلى التكلم . ثم ذكر العلة التي أسرى به لأجلها فقال : { لِنُرِيَهُ مِنْ ءاياتنا } أي : ما أراه الله سبحانه في تلك الليلة من العجائب التي من جملتها قطع هذه المسافة الطويلة في جزء من الليل { إنَّهُ } سبحانه { هُوَ السميع } بكل مسموع ، ومن جملة ذلك قول رسوله صلى الله عليه وسلم { البصير } بكل مبصر ، ومن جملة ذلك ذات رسوله وأفعاله .
وقد اختلف أهل العلم هل كان الإسراء بجسده صلى الله عليه وسلم مع روحه ، أو بروحه فقط؟ فذهب معظم السلف والخلف إلى الأوّل ، وذهب إلى الثاني طائفة من أهل العلم منهم عائشة ، ومعاوية ، والحسن ، وابن إسحاق ، وحكاه ابن جرير عن حذيفة بن اليمان ، وذهبت طائفة إلى التفصيل فقالوا : كان الإسراء بجسده يقظة إلى بيت المقدس ، وإلى السماء بالروح ، واستدلوا على هذا التفصيل بقوله : { إلى المسجد الاقصى } ، فجعله غاية للإسراء بذاته صلى الله عليه وسلم . فلو كان الإسراء من بيت المقدس إلى السماء ، وقع بذاته لذكره ، والذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة الكثيرة هو ما ذهب إليه معظم السلف والخلف من أن الإسراء بجسده وروحه يقظة إلى بيت المقدس ، ثم إلى السموات ، ولا حاجة إلى التأويل وصرف هذا النظم القرآني وما يماثله من ألفاظ الأحاديث إلى ما يخالف الحقيقة ، ولا مقتضى لذلك إلاّ مجرد الاستبعاد وتحكيم محض العقول القاصرة عن فهم ما هو معلوم من أنه لا يستحيل عليه سبحانه شيء ، ولو كان ذلك مجرد رؤيا كما يقوله من زعم أن الإسراء كان بالروح فقط ، وأن رؤيا الأنبياء حق لم يقع التكذيب من الكفرة للنبي صلى الله عليه وسلم عند إخباره لهم بذلك حتى ارتدّ من ارتدّ ممن لم يشرح بالإيمان صدراً ، فإن الإنسان قد يرى في نومه ما هو مستبعد ، بل ما هو محال ولا ينكر ذلك أحد؛ وأما التمسك لمن قال بأن هذا الإسراء إنما كان بالروح على سبيل الرؤيا بقوله : { وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التى أريناك إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ } [ الإسراء : 60 ] فعلى تسليم أن المراد بهذه الرؤيا هو هذا الإسراء فالتصريح الواقع هنا بقوله : { سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } والتصريح في الأحاديث الصحيحة الكثيرة بأنه أسرى به لا تقصر عن الاستدلال بها على تأويل هذه الرؤيا الواقعة في الآية برؤية العين ، فإنه قد يقال لرؤية العين رؤيا ، وكيف يصح حمل هذا الإسراء على الرؤيا مع تصريح الأحاديث الصحيحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم ركب البراق؟ وكيف يصح وصف الروح بالركوب؟ وهكذا كيف يصح حمل هذا الإسراء على الرؤيا مع تصريحه بأنه كان عند أن أسري به بين النائم واليقظان؟
وقد اختلف أيضاً في تاريخ الإسراء ، فروي أن ذلك كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة . وروي أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام . ووجه ذلك أن خديجة صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد ماتت قبل الهجرة بخمس سنين ، وقيل : بثلاث؛ وقيل : بأربع ، ولم تفرض الصلاة إلاّ ليلة الإسراء .
وقد استدل بهذا ابن عبد البرّ على ذلك ، وقد اختلفت الرواية عن الزهري . وممن قال بأن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة الزهري في رواية عنه ، وكذلك الحربي فإنه قال : أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة سبع وعشرين من ربيع الأوّل قبل الهجرة بسنة . وقال ابن القاسم في تاريخه : كان الإسراء بعد مبعثه بثمانية عشر شهراً . قال ابن عبد البرّ : لا أعلم أحداً من أهل السير قال بمثل هذا . وروي عن الزهري أنه أسري به قبل مبعثه بسبعة أعوام ، وروي عنه أنه قال : كان قبل مبعثه بخمس سنين . وروى يونس عن عروة عن عائشة أنها قالت : توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة .
{ وَءاتَيْنَآ مُوسَى الكتاب } أي : التوراة ، قيل : والمعنى كرّمنا محمداً بالمعراج وأكرمنا موسى بالكتاب { وجعلناه } أي : ذلك الكتاب؛ وقيل : موسى { هُدًى لّبَنِى إسراءيل } يهتدون به { أَن لا تَتَّخِذُواْ } . قرأ أبو عمر بالياء التحتية ، وقرأ الباقون بالفوقية أي : لئلا يتخذوا . والمعنى : آتيناه الكتاب لهداية بني إسرائيل لئلا يتخذوا { مِن دُونِى وَكِيلاً } قال الفراء : أي كفيلاً بأمورهم ، وروي عنه أنه قال : كافياً؛ وقيل : أي متوكلون عليه في أمورهم ، وقيل : شريكاً ، ومعنى الوكيل في اللغة من توكل إليه الأمور . { ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } نصب على الاختصاص أو النداء ، ذكرهم سبحانه إنعامه عليهم في ضمن إنجاء آبائهم من الغرق ، ويجوز أن يكون المفعول الأوّل لقوله { أن لا تتخذوا } أي : لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلاً ، كقوله : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا } [ آل عمران : 80 ] . وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو بدل من فاعل { تتخذوا } ، وقرأ مجاهد بفتح الذال ، وقرأ زيد بن ثابت بكسرها ، والمراد بالذرية هنا : جميع من في الأرض ، لأنهم من ذرية من كان في السفينة؛ وقيل : موسى وقومه من بني إسرائيل . وهذا هو المناسب لقراءة النصب على النداء والنصب على الاختصاص ، والرفع على البدل وعلى الخبر ، فإنها كلها راجعة إلى بني إسرائيل المذكورين ، وأما على جعل النصب على أن { ذرية } هي المفعول الأوّل لقوله { لا تتخذوا } ، فالأولى تفسير الذرية بجميع من في الأرض من بني آدم . { إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } أي : نوحاً ، وصفه الله بكثرة الشكر وجعله كالعلة لما قبله إيذاناً بكون الشكر من أعظم أسباب الخير ، ومن أفضل الطاعات حثاً لذريته على شكر الله سبحانه .
وقد أخرج ابن مردويه عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه ، قال : أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة .
وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب قال : أسري برسول الله إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة . وأخرج البيهقي عن عروة مثله . وأخرج البيهقي أيضاً عن السدّي قال : أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مهاجره بستة عشر شهراً . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : { الذى بَارَكْنَا حَوْلَهُ } قال : أنبتنا حوله الشجر . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَءاتَيْنَآ مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِى إسراءيل } قال : جعله الله هدى يخرجهم من الظلمات إلى النور وجعله رحمة لهم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلاً } قال : شريكاً . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } قال : هو على النداء . يا ذرية من حملنا مع نوح . وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن زيد الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « { ذرية من حملنا مع نوح } ، ما كان مع نوح إلاّ أربعة أولاد : حام ، وسام ، ويافث ، وكوش ، فذلك أربعة أولاد انتسلوا هذا الخلق » واعلم أنه قد أطال كثير من المفسرين كابن كثير والسيوطي وغيرهما في هذا الموضع بذكر الأحاديث الواردة في الإسراء على اختلاف ألفاظها ، وليس في ذلك كثير فائدة ، فهي معروفة في موضعها من كتب الحديث ، وهكذا أطالوا بذكر فضائل المسجد الحرام والمسجد الأقصى ، وهو مبحث آخر ، والمقصود في كتب التفسير ما يتعلق بتفسير ألفاظ الكتاب العزيز ، وذكر أسباب النزول ، وبيان ما يؤخذ منه من المسائل الشرعية ، وما عدا ذلك فهو فضلة لا تدعو إليه حاجة .
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
قوله : { وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إسراءيل فِى الكتاب } أي : أعلمنا وأخبرنا ، أو حكمنا وأتممنا ، وأصل القضاء : الإحكام للشيء والفراغ منه؛ وقيل : أوحينا ، ويدل عليه قوله إلى بني إسرائيل ، ولو كان بمعنى الإعلام والإخبار لقال : قضينا بني إسرائيل ، ولو كان بمعنى حكمنا لقال : على بني إسرائيل ، ولو كان بمعنى أتممنا لقال : لبني إسرائيل ، والمراد بالكتاب : التوراة ، ويكون إنزالها على نبيهم موسى كإنزالها عليهم لكونهم قومه؛ وقيل : المراد بالكتاب : اللوح المحفوظ . وقرأ أبو العالية وسعيد بن جبير : ( في الكتب ) . وقرأ عيسى الثقفي : ( لتفسدنّ في الأرض ) بفتح المثناة ، ومعنى هذه القراءة قريب من معنى قراءة الجمهور ، لأنهم إذا أفسدوا فسدوا في نفوسهم ، والمراد بالفساد : مخالفة ما شرعه الله لهم في التوراة ، والمراد بالأرض أرض الشام وبيت المقدس؛ وقيل : أرض مصر ، واللام في { لتفسدن } جواب قسم محذوف . قال النيسابوري : أو أجري القضاء المبتوت مجرى القسم كأنه قيل : وأقسمنا لتفسدنّ . وانتصاب { مَّرَّتَيْنِ } على أنه صفة مصدر محذوف ، أو على أنه في نفسه مصدر عمل فيه ما هو من غير جنسه ، والمرة الأولى : قتل شعياء أو حبس أرمياء ، أو مخالفة أحكام التوراة ، والثانية : قتل يحيى بن زكريا والعزم على قتل عيسى { وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } هذه اللام كاللام التي قبلها ، أي : لتستكبرنّ عن طاعة الله ولتستعلنّ على الناس بالظلم والبغي مجاوزين للحد في ذلك { فَإِذَا جَآء وَعْدُ أولاهما } أي : أولى المرتين المذكورتين { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي : قوّة في الحروب وبطش عند اللقاء . قيل : هو بختنصر وجنوده؛ وقيل : جالوت؛ وقيل : جند من فارس؛ وقيل : جند من بابل { فَجَاسُواْ خلال الديار } أي : عاثوا وتردّدوا ، يقال : جاسوا وهاسوا وداسوا بمعنى ، ذكره ابن غرير والقتيبي . قال الزجاج : معناه طافوا خلال الديار ، هل بقي أحد لم يقتلوه؟ قال : والجوس طلب الشيء باستقصاء . قال الجوهري : الجوس مصدر قولك جاسوا خلال الديار ، أي : تخللوها ، كما يجوس الرجل للأخبار ، أي : يطلبها ، وكذا قال أبو عبيدة . وقال ابن جرير : معنى جاسوا طافوا بين الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين . وقال الفراء : معناه قتلوهم بين بيوتهم وأنشد لحسان :
وَمِنَّا الذي لاقي بسَيْفٍ مُحَمَّدٍ ... فَجاسَ بِهِ الأعْدَاءَ عُرْض العَسِاكِرِ
وقال قطرب : معناه نزلوا . وأنشد قول الشاعر :
فجسنا ديارهم عنوة ... وأُبنَا بساداتهم موثقينا
وقرأ ابن عباس ( فحاسوا ) بالحاء المهملة . قال أبو زيد : الحوس ، والجوس ، والعوس ، والهوس : الطوف بالليل ، وقيل : الطوف بالليل هو الجوسان محركاً ، كذا قال أبو عبيدة . وقرىء ( خلل الديار ) . ومعناه معنى خلال وهو : وسط الديار { وَكَانَ } ذلك { وَعْدًا مَّفْعُولاً } أي : كائناً لا محالة . { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ } أي : الدولة والغلبة والرجعة ، وذلك عند توبتهم .
قيل : وذلك حين قتل داود جالوت ، وقيل : حين قتل بختنصر { وأمددناكم بأموال وَبَنِينَ } بعد نهب أموالكم وسبي أبنائكم ، حتى عاد أمركم كما كان . { وجعلناكم أَكْثَرَ نَفِيرًا } قال أبو عبيدة : النفير : العدد من الرجال؛ فالمعنى؛ أكثر رجالاً من عدوكم ، والنفير : من ينفر مع الرجل من عشيرته ، يقال : نفير ونافر مثل : قدير وقدر ، ويجوز أن يكون النفير جمع : نفر { إِنْ أَحْسَنتُمْ } أي : أفعالكم وأقوالكم على الوجه المطلوب منكم ، { أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ } لأن ثواب ذلك عائد إليكم { وَإِنْ أَسَأْتُمْ } أفعالكم وأقوالكم فأوقعتموها لا على الوجه المطلوب منكم ، { فَلَهَا } أي : فعليها . ومثله قول الشاعر :
فخر صريعاً لليدين وللفم ... أي : على اليدين وعلى الفم . قال ابن جرير : اللام بمعنى إلى ، أي : فإليها ترجع الإساءة كقوله تعالى : { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } [ الزلزلة : 5 ] أي : إليها؛ وقيل : المعنى : فلها الجزاء أو العقاب . وقال الحسين بن الفضل : فلها ربّ يغفر الإساءة ، وهذا الخطاب : قيل هو لبني إسرائيل الملابثين لما ذكر في هذه الآيات ، وقيل : لبني إسرائيل الكائنين في زمن محمد صلى الله عليه وسلم ، ومعناه : إعلامهم ما حل بسلفهم فليرتقبوا مثل ذلك ، وقيل : هو خطاب لمشركي قريش . { فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخرة } أي : حضر وقت ما وعدوا من عقوبة المرة الآخرة ، والمرة الآخرة : هي قتلهم يحيى بن زكريا كما سبق ، وقصة قتله مستوفاة في الإنجيل ، واسمه فيه يوحنا ، قتله ملك من ملوكهم بسبب امرأة حملته على قتله ، واسم الملك لاخت قاله ابن قتيبة . وقال ابن جرير : هيردوس ، وجواب { إذا } محذوف ، تقديره : بعثناهم ، لدلالة جواب « إذا » الأولى عليه ، { يسؤووا وُجُوهَكُمْ } متعلق بهذا الجواب المحذوف أي : ليفعلوا بكم ما يسوء وجوهكم حتى تظهر عليكم آثار المساءة ، وتتبين في وجوهكم الكآبة ، وقيل : المراد بالوجوه السادة منهم . وقرأ الكسائي ( لنسوء ) بالنون ، على أن الضمير لله سبحانه . وقرأ أبيّ : ( لنسوءن ) بنون التأكيد . وقرأ أبو بكر ، والأعمش ، وابن وثاب ، وحمزة ، وابن عامر « ليسوء » بالتحتية والإفراد . قال الزجاج : كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته ، والضمير : لله أو الوعد { وَلِيَدْخُلُواْ المسجد } معطوف على { ليسوءوا } . { كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ } أي : يدمروا ويهلكوا ، وقال قطرب : يهدموا ، ومنه قول الشاعر :
فما الناسُ إلاّ عامِلان فَعَاملٌ ... يُتَبِّر ما يَبْنِي ، وآخر رافع
وقرأ الباقون بالتحتية ، وضم الهمزة ، وإثبات واو بعدها على أن الفاعل عباد لنا { مَا عَلَوْاْ } أي : ما غلبوا عليه من بلادكم ، أو مدة علوهم { تَتْبِيرًا } أي : تدميراً ، ذكر المصدر إزالة للشك وتحقيقاً للخبر . { عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ } يا بني إسرائيل بعد انتقامه منكم في المرة الثانية . { وَإِنْ عُدتُّمْ } للثالثة { عُدْنَا } إلى عقوبتكم . قال أهل السير : ثم إنهم عادوا إلى ما لا ينبغي وهو تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وكتمان ما ورد من بعثه في التوراة والإنجيل ، فعاد الله إلى عقوبتهم على أيدي العرب ، فجرى على بني قريظة والنضير وبني قينقاع وخيبر ما جرى من القتل والسبي والإجلاء وضرب الجزية على من بقي منهم ، وضرب الذلة والمسكنة .
{ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ للكافرين حَصِيرًا } وهو المحبس ، فهو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول . والمعنى : أنهم محبوسون في جهنم لا يتخلصون عنها أبداً . قال الجوهري : حصره يحصره حصراً : ضيق عليه وأحاط به؛ وقيل : فراشاً ومهاداً ، - وأراد على هذا - بالحصير : الحصير الذي يفرشه الناس { إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } يعني : القرآن يهدي الناس الطريقة التي هي أقوم من غيرها من الطرق وهي ملة الإسلام ، فالتي هي أقوم صفة لموصوف محذوف وهي الطريق . وقال الزجاج : للحال التي هي أقوم الحالات ، وهي توحيد الله والإيمان برسله ، وكذا قال الفراء . { وَيُبَشّرُ المؤمنين } قرأ حمزة والكسائي ( يبشر ) بفتح الياء وضم الشين . وقرأ الباقون بضم الياء وكسر الشين من التبشير أي : يبشر بما اشتمل عليه من الوعد بالخير آجلاً وعاجلاً للمؤمنين { الذين يَعْمَلُونَ الصالحات } التي أرشد إلى عملها القرآن { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } أي : بأنّ لهم . { وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } وأحكامها المبينة في القرآن { أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } وهو عذاب النار ، وهذه الجملة معطوفة على جملة يبشر بتقدير : يخبر ، أي : ويخبر بأن الذين لا يؤمنون بالآخرة؛ وقيل : معطوفة على قوله : { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } ، ويراد بالتبشير : مطلق الإخبار ، أو يكون المراد منه معناه الحقيقي ، ويكون الكلام مشتملاً على تبشير المؤمنين ببشارتين : الأولى : مالهم من الثواب ، والثانية : ما لأعدائهم من العقاب . { وَيَدْعُ الإنسان بالشر } المراد بالإنسان هنا : الجنس ، لوقوع هذا الدعاء من بعض أفراده ، وهو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحب أن يستجاب له { دُعَاءهُ بالخير } أي : مثل دعائه لربه بالخير لنفسه ولأهله كطلب العافية والرزق ونحوهما ، فلو استجاب الله دعاءه على نفسه بالشرّ هلك ، لكنه لم يستجب تفضلاً منه ورحمة ، ومثل ذلك { وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير } [ يونس : 11 ] . وقد تقدّم؛ وقيل : المراد بالإنسان هنا القائل هذه المقالة : هو الكافر يدعو لنفسه بالشرّ ، وهو استعجال العذاب دعاءه بالخير كقول القائل : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] . وقيل : هو أن يدعو في طلب المحظور كدعائه في طلب المباح ، وحذفت الواو من { ويدع الإنسان } في رسم المصحف لعدم التلفظ بها لوقوع اللام الساكنة بعدها كقوله : { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] و { وَيَمْحُ الله الباطل } [ الشورى : 24 ] و { وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين } [ النساء : 146 ] ونحو ذلك .
{ وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } أي : مطبوعاً على العجلة ، ومن عجلته : أنه يسأل الشر كما يسأل الخير؛ وقيل : إشارته إلى آدم عليه السلام حين نهض قبل أن تكمل فيه الروح ، والمناسب للسياق هو الأوّل .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إسراءيل } قال : أعلمناهم . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : أخبرناهم . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { وقَضَيْنَا إلى بَنِى إسراءيل } : قضينا عليهم . وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن عليّ في قوله : { لَتُفْسِدُنَّ فِى الارض مَرَّتَيْنِ } قال : الأولى : قتل زكريا ، والآخرة : قتل يحيى . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في الآية ، قال : كان أوّل الفساد قتل زكريا ، فبعث الله عليهم ملك النبط ، ثم إن بني إسرائيل تجهزوا فغزوا النبط فأصابوا منهم ، فذلك قوله : { ثم رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ } . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : بعث الله عليهم في الأولى جالوت ، وبعث عليهم في المرة الأخرى بختنصر ، فعادوا فسلط الله عليهم المؤمنين . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه { فَجَاسُواْ } قال : فمشوا . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال : { تَتْبِيرًا } تدميراً . وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله : { عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ } قال : كانت الرحمة التي وعدهم بعث محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } قال : فعادوا فبعث الله سبحانه عليهم محمداً ، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون . واعلم أنها قد اختلفت الروايات في تعيين الواقع منهم في المرّتين ، وفي تعيين من سلطه الله عليهم ، وفي كيفية الانتقام منهم ، ولا يتعلق بذلك كثير فائدة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ للكافرين حَصِيرًا } قال : سجنا . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه ، قال : معنى حصيراً : جعل الله مأواهم فيها . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : { حَصِيرًا } قال : فراشاً ومهاداً . وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : { إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } قال : للتي هي أصوب . وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه كان يتلو كثيراً « إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ » بالتخفيف . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَاءهُ بالخير } يعني قول الإنسان : اللهم العنه واغضب عليه . وأخرج ابن جرير عنه في قوله { وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } قال : ضجراً ، لا صبر له على سرّاء ولا ضرّاء . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر عن سلمان الفارسي قال : أوّل ما خلق الله من آدم رأسه ، فجعل ينظر وهو يخلق وبقيت رجلاه ، فلما كان بعد العصر قال : يا ربّ أعجل قبل الليل ، فذلك قوله : { وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } .
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
لما ذكر سبحانه دلائل النبوة والتوحيد ، أكدها بدليل آخر من عجائب صنعه وبدائع خلقه فقال : { وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ } وذلك لما فيهما من الإظلام والإنارة مع تعاقبهما وسائر ما اشتملا عليه من العجائب التي تحار في وصفها الأفهام ، ومعنى كونهما آيتين أنهما يدلان على وجود الصانع وقدرته ، وقدّم الليل على النهار لكونه الأصل . { فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل } أي : طمسنا نورها ، وقد كان القمر كالشمس في الإنارة والضوء . قيل : ومن آثار المحو السواد الذي يرى في القمر ، وقيل المراد بمحوها أنه سبحانه خلقها ممحوة الضوء مطموسة ، وليس المراد أنه محاها بعد أن لم تكن كذلك { وجعلنا آية النهار مبصرة } أي : جعل سبحانه شمسه مضيئة تبصر فيها الأشياء . قال أبو عمرو بن العلاء والكسائي : هو من قول العرب : أبصر النهار إذا صار بحالة يبصر بها؛ وقيل : مبصرة للناس من قوله أبصره فبصر . فالأوّل وصف لها بحال أهلها ، والثاني وصف لها بحال نفسها ، وإضافة آية إلى الليل والنهار بيانية أي : فمحونا الآية التي هي الليل والآية التي هي النهار كقولهم نفس الشيء وذاته . { لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ } أي : لتتوصلوا ببياض النهار إلى التصرف في وجوه المعاش ، واللام متعلق بقوله : { وجعلنا آية النهار مبصرة } أي : جعلناها لتبتغوا فضلاً من ربكم أي : رزقاً ، إذ غالب تحصيل الأرزاق وقضاء الحوائج يكون بالنهار ، ولم يذكر هنا السكون في الليل اكتفاء بما قاله في موضع آخر { وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً } [ يونس : 67 ] . ثم ذكر مصلحة أخرى في ذلك الجعل فقال : { وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } وهذا متعلق بالفعلين جميعاً ، أعني : محونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ، لا بأحدهما فقط كالأوّل . إذ لا يكون علم عدد السنين والحساب ، إلاّ باختلاف الجديدين ومعرفة الأيام والشهور والسنين . والفرق بين العدد والحساب : أن العدد إحصاء ماله كمية بتكرير أمثاله من غير أن يتحصل منه شيء ، والحساب إحصاء ماله كمية بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حدّ معين منه له اسم خاص؛ فالسنة مثلاً إن وقع النظر إليها من حيث عدد أيامها فذلك هو العدد ، وإن وقع النظر إليها من حيث تحققها وتحصلها من عدّة أشهر . قد يحصل كل شهر من عدّة أيام ، قد يحصل كل يوم من عدّة ساعات ، قد تحصلت كل ساعة من عدّة دقائق ، فذلك هو الحساب . { وَكُلَّ شَىْء فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } أي : كل ما تفتقرون إليه في أمر دينكم ودنياكم بيناه تبييناً واضحاً لا يلتبس . وعند ذلك تنزاح العلل وتزول الأعذار { لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] . ولهذا قال : { وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ } قال أبو عبيدة : الطائر عند العرب الحظ .
ويقال له البخت : فالطائر ما وقع للشخص في الأزل بما هو نصيبه من العقل والعمل والعمر والرزق والسعادة والشقاوة؛ كأن طائراً يطير إليه من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب طيراناً لا نهاية له ولا غاية إلى أن انتهى إلى ذلك الشخص في وقته المقدّر من غير خلاص ولا مناص . وقال الأزهري : الأصل في هذا أن الله سبحانه لما خلق آدم علم المطيع من ذريته والعاصي ، فكتب ما علمه منهم أجمعين ، وقضى سعادة من علمه مطيعاً وشقاوة من علمه عاصياً ، فطار لكل منهم ما هو صائر إليه عند خلقه وإنشائه؛ وذلك قوله : { وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَآئِرَهُ فِى عُنُقِهِ } أي : ما طار له في علم الله ، وفي عنقه عبارة عن اللزوم ، كلزوم القلادة العنق من بين ما يلبس . قال الزجاج : ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة العنق . { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً } . قرأ ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وابن محيصن ، وأبو جعفر ، ويعقوب ( ويخرج ) بالمثناة التحتية المفتوحة وبالراء المضمومة على معنى ويخرج له الطائر . { وكتاباً } منصوب على الحال ، ويجوز أن يكون المعنى : يخرج لها الطائر فيصير كتاباً . وقرأ يحيى بن وثاب ( يُخِرج ) بضم الياء وكسر الراء : أي : يخرج الله . وقرأ شيبة ومحمد بن السميفع ، وروي أيضاً عن أبي جعفر ( يُخرج ) بضم الياء وفتح الراء على البناء للمفعول أي : ويخرج له الطائر كتاباً . وقرأ الباقون { ونخرج } بالنون على أن المخرج هو الله سبحانه . و { كتاباً } مفعول به ، واحتج أبو عمرو لهذه القراءة بقوله تعالى : { ألزمناه } . وقرأ أبو جعفر ، والحسن ، وابن عامر ( يلقاه ) بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف ، وقرأ الباقون بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف . وإنما قال سبحانه : { يلقاه مَنْشُوراً } تعجيلاً للبشرى بالحسنة وللتوبيخ على السيئة . { اقرأ كتابك } أي نقول له : إقرأ كتابك ، أو قائلين له ، قيل : يقرأ ذلك الكتاب من كان قارئاً ، ومن لم يكن قارئاً { كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا } الباء في : { بنفسك } زائدة . و { حسيباً } تمييز ، أي : حاسباً . قال سيبويه : ضريب القادح بمعنى : ضاربها ، وصريم بمعنى صارم ، ويجوز أن يكون الحسيب بمعنى الكافي ، ثم وضع موضع الشهيد فعدّي ب { على } ، والنفس بمعنى الشخص ، ويجوز أن يكون الحسيب بمعنى : المحاسب كالشريك والجليس . { مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ } بين سبحانه أن ثواب العمل الصالح وعقاب ضدّه يختصان بفاعلهما لا يتعدان منه إلى غيره ، فمن اهتدى بفعل ما أمره الله به وترك ما نهاه الله عنه ، فإنما تعود منفعة ذلك إلى نفسه ، { وَمَن ضَلَّ } عن طريق الحق فلم يفعل ما أمر به ، ولم يترك ما نهي عنه { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي : فإن وبال ضلاله واقع على نفسه لا يجاوزها ، فكل أحد محاسب عن نفسه ، مجزيّ بطاعته معاقب بمعصيته ، ثم أكد هذا الكلام بأبلغ تأكيد فقال : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } والوزر الإثم ، يقال : وزر : يزر وزراً ووزرة ، أي : إثما ، والجمع أوزار ، والوزر : الثقل .
ومنه { يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ } [ الأنعام : 31 ] أي : أثقال ذنوبهم . ومعنى الآية : لا تحمل نفس حاملة للوزر وزر نفس أخرى حتى تخلص الأخرى عن وزرها وتؤخذ به الأولى ، وقد تقدّم مثل هذا في الأنعام . قال الزجاج في تفسير هذه الآية : إن الآثم والمذنب لا يؤاخذ بذنب غيره . { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } لما ذكر سبحانه اختصاص المهتدي بهدايته ، والضالّ بضلاله ، وعدم مؤاخذة الإنسان بجناية غيره ، ذكر أنه لا يعذب عباده إلاّ بعد الإعذار إليهم بإرسال رسله ، وإنزال كتبه ، فبين سبحانه أنه لم يتركهم سدًى ، ولا يؤاخذهم قبل إقامة الحجة عليهم ، والظاهر أنه لا يعذبهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلاّ بعد الإعذار إليهم بإرسال الرسل ، وبه قالت طائفة من أهل العلم . وذهب الجمهور إلى أن المنفي هنا هو عذاب الدنيا لا عذاب الآخرة . { وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا } اختلف المفسرون في معنى { أمرنا } على قولين : الأوّل أن المراد به الأمر الذي هو نقيض النهي ، وعلى هذا اختلفوا في المأمور به ، فالأكثر على أنه : الطاعة والخير . وقال في الكشاف : معناه أمرناهم بالفسق ففسقوا ، وأطال الكلام في تقرير هذا وتبعه المقتدون به في التفسير ، وما ذكره هو ومن تابعه معارض بمثل قول القائل : أمرته فعصاني ، فإن كل من يعرف اللغة العربية يفهم من هذا أن المأمور به شيء غير المعصية ، لأن المعصية منافية للأمر ، مناقضة له ، فكذلك : أمرته ففسق يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق؛ لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به ، فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به ويناقضه . القول الثاني أن معنى { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } أكثرنا فساقها . قال الواحدي : تقول العرب أمر القوم ، إذا كثروا وأمرهم الله : إذا أكثرهم . وقد قرأ أبو عثمان النهدي ، وأبو رجاء ، وأبو العالية ، والربيع ، ومجاهد ، والحسن ( أمَّرنا ) بتشديد الميم ، أي : جعلناهم أمراء مسلطين . وقرأ الحسن أيضاً ، وقتادة ، وأبو حيوة الشامي ، ويعقوب ، وخارجة عن نافع ، وحماد بن سلمة عن ابن كثير وعليّ وابن عباس : ( آمرنا ) بالمدّ والتخفيف ، أي : أكثرنا جبابرتها وأمراءها ، قاله الكسائي . وقال أبو عبيدة : « آمرته » بالمدّ و « أمرته » لغتان بمعنى كثرته ، ومنه الحديث : « خير المال مهرة مأمورة » أي : كثيرة النتاج والنسل ، وكذا قال ابن عزيز . وقرأ الحسن أيضاً . ويحيى بن يعمر ( أمرنا ) بالقصر وكسر الميم على معنى فعلنا ، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس . قال قتادة والحسن : المعنى أكثرنا . وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد وأنكره الكسائي وقال : لا يقال من الكثرة إلاّ آمرنا بالمدّ .
قال في الصحاح : وقال أبو الحسن أمر ماله بالكسر ، أي : كثر ، وأمر القوم ، أي : كثروا ، ومنه قول لبيد :
إن يُغْبَطُوا يَهْبِطُوا وَإنْ أمِرُوا ... يوماً يكن للهَلاكِ والفَنَدِ
وقرأ الجمهور { أمرنا } من الأمر ، ومعناه ما قدّمنا في القول الأوّل ، ومعنى { مُتْرَفِيهَا } : المنعمون الذين قد أبطرتهم النعمة وسعة العيش ، والمفسرون يقولون في تفسير المترفين : إنهم الجبارون المتسلطون ، والملوك الجائرون ، قالوا : وإنما خصوا بالذكر لأن من عداهم أتباع لهم ، ومعنى { فسقوا فيها } : خرجوا عن الطاعة وتمرضوا في كفرهم ، لأن الفسوق الخروج إلى ما هو أفحش { فَحَقَّ عَلَيْهَا القول } أي ثبت وتحقق عليهم العذاب بعد ظهور فسقهم . { فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } أي : تدميراً عظيماً لا يوقف على كنهه لشدته وعظم موقعه ، وقد قيل في تأويل { أمرنا } بأنه مجاز عن الأمر الحامل لهم على الفسق ، وهو إدرار النعم عليهم ، وقيل أيضاً : إن المراد ب { أردنا أن نهلك قرية } أنه قرب إهلاك قرية ، وهو عدول عن الظاهر بدون ملجىء إليه . ثم ذكر سبحانه أن هذه عادته الجارية مع القرون الخالية فقال : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون } أي : كثيراً ما أهلكنا منهم ، ف { كم } مفعول { أهلكنا } ، و { من القرون } بيان ل { كم } وتمييز له؛ أي : كم من قوم كفروا من بعد نوح كعاد وثمود ، فحلّ بهم البوار ونزل بهم سوط العذاب؟ وفيه تخويف لكفار مكة . ثم خاطب رسوله بما هو ردع للناس كافة فقال : { وكفى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا } قال الفراء : إنما يجوز إدخال الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أو يذم به ، كقولك : كفاك ، وأكرم به رجلاً ، وطاب بطعامك طعاماً ، ولا يقال : قام بأخيك ، وأنت تريد : قام أخوك . وفي الآية بشارة عظيمة لأهل الطاعة وتخويف شديد لأهل المعصية ، لأن العلم التام والخبرة الكاملة والبصيرة النافذة تقتضي إيصال الجزاء إلى مستحقه بحسب استحقاقه ، ولا ينافيه مزيد التفضل على من هو أهل لذلك ، والمراد بكونه سبحانه { خبيراً بصيراً } أنه محيط بحقائق الأشياء ظاهراً وباطناً لا تخفى عليه منها خافية .
وقد أخرج البيهقي في دلائل النبوّة ، وابن عساكر عن سعيد المقبري : أن عبد الله بن سلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن السواد الذي في القمر ، فقال : « كانا شمسين ، قال الله { وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل } فالسواد الذي رأيت هو المحو » وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى هذا بأطول منه . قال السيوطي : وإسناده واهٍ . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في المصاحف عن عليّ في قوله : { فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل } قال : هو السواد الذي في القمر .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وجعلنا آية النهار مبصرة } قال : منيرة . { لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ } قال : جعل لكم سبحاً طويلاً . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فَصَّلْنَاهُ } قال : بيناه . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير بسندٍ حسن عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " طائر كل إنسان في عنقه " وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ألزمناه طَآئِرَهُ فِى عُنُقِهِ } قال : سعادته وشقاوته وما قدّر الله له وعليه فهو لازمه أين كان . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر عن أنس في قوله : { طَئِرَهُ } قال : كتابه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : عمله . { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً } قال : هو عمله الذي أحصي عليه ، فأخرج له يوم القيامة ما كتب له من العمل فقرأه منشوراً . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { اقرأ كتابك } قال : سيقرأ يومئذٍ من لم يكن قارئاً في الدنيا . وأخرج ابن عبد البرّ في التمهيد عن عائشة في قوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } قال : سألت خديجة عن أولاد المشركين فقال : «هم من آبائهم " ثم سألته بعد ذلك فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ، ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } فقال : " هم على الفطرة " . أو قال : " في الجنة " . قال السيوطي : وسنده ضعيف . وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له : يا رسول الله إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين ، قال : " هم منهم " . وفي ذلك أحاديث كثيرة وبحث طويل . وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية غالب الأحاديث الواردة في أطفال المشركين ، ثم نقل كلام أهل العلم في المسألة فليرجع إليها . وأخرج إسحاق بن راهويه ، وأحمد ، وابن حبان ، وأبو نعيم في المعرفة ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في كتاب الاعتقاد عن الأسود بن سريع ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصمّ لا يسمع شيئاً ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في الفترة " ، ثم قال : " فيأخذ الله مواثيقهم ليطيعنه ويرسل إليهم رسولاً أن أدخلوا النار " ، قال : " فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاما ، ومن لم يدخلها يسحب إليها " ، وإسناده عند أحمد ، هكذا حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي عن أبي قتادة ، عن الأحنف بن قيس ، عن الأسود بن سريع .
وأخرج نحوه إسحاق بن راهويه ، وأحمد ، وابن مردويه عن أبي هريرة ، وهو عند أحمد بالإسناد المذكور عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة . وأخرج قاسم بن أصبع ، والبزار ، وأبو يعلى ، وابن عبد البرّ في التمهيد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه . وجعل مكان الأحمق المعتوه . وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، والطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يؤتى يوم القيامة بالممسوح عقلاً وبالهالك في الفترة ، وبالهالك صغيراً » فذكر معناه مطولاً . وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } قال : بطاعة الله فعصوا . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مثله . وأخرج ابن أبي حاتم عن شهر بن حوشب قال : سمعت ابن عباس يقول في الآية : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } بحق فخالفوه ، فحق عليهم بذلك التدمير . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه في الآية قال : سلطنا شرارنا فعصوا ، فإذا فعلوا ذلك ، أهلكناهم بالعذاب ، وهو كقوله : { وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } [ الأنعام : 123 ] . وأخرج البخاري ، وابن مردويه عن ابن مسعود ، قال : كنا نقول للحى إذا كثروا في الجاهلية : قد أمر بنو فلان .
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
قوله : { مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة } هذا تأكيد لما سلف من جملة { كل إنسان ألزمناه } ، ومن جملة { من اهتدى } ، والمراد بالعاجلة : المنفعة العاجلة ، أو الدار العاجلة . والمعنى : من كان يريد بأعمال البرّ أو بأعمال الآخرة ذلك ، فيدخل تحته الكفرة والفسقة والمراءون والمنافقون { عَجَّلْنَا لَهُ } أي : عجلنا لذلك المريد { فِيهَا } : أي : في تلك العاجلة ، ثم قيد المعجل بقيدين : الأوّل : قوله : { مَا نَشَاء } أي : ما يشاء الله سبحانه تعجيله له منها ، لا ما يشاؤه ذلك المريد ، ولهذا ترى كثيراً من هؤلاء المريدين للعاجلة يريدون من الدنيا ما لا ينالون ، ويتمنون ما لا يصلون إليه ، والقيد الثاني قوله : { لِمَن نُّرِيدُ } أي : لمن نريد التعجيل له منهم ما اقتضته مشيئتنا ، وجملة : { لمن نريد } بدل من الضمير في « له » بإعادة الجار بدل البعض من الكل . لأن الضمير يرجع إلى « من » وهو للعموم ، وهذه الآية تقيد الآيات المطلقة كقوله سبحانه : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ الشورى : 20 ] . وقوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } [ هود : 15 ] . وقد قيل : إنه قرىء ( ما يشاء ) بالياء التحتية ، ولا ندري من قرأ بذلك من أهل الشواذ ، وعلى هذه القراءة فقيل : الضمير لله سبحانه ، أي : ما يشاؤه الله ، فيكون معناها معنى القراءة بالنون ، وفيه بعد لمخالفته لما قبله ، وهو { عجلنا } وما بعده وهو { لمن نريد } . وقيل : الضمير راجع إلى { من } في قوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ } فيكون ذلك مقيداً بقوله { لمن نريد } : أي : عجلنا له ما يشاؤه ، لكن بحسب إرادتنا فلا يحصل لمن أراد العاجلة ما يشاؤه إلاّ إذا أراد الله له ذلك . ثم بعد هذا كله فمن وراء هذه الطلبة الفارغة التي لا تأثير لها إلاّ بالقيدين المذكورين عذاب الآخرة الدائم ، ولهذا قال : { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ } أي : جعلنا له بسبب تركه لما أمر به من العمل للآخرة وإخلاصه عن الشوائب عذاب جهنم على اختلاف أنواعه { يصلاها } في محل نصب على الحال أي : يدخلها { مَذْمُومًا مَّدْحُورًا } أي : مطروداً من رحمة الله مبعداً عنها ، فهذه عقوبته في الآخرة ، مع أنه لا ينال من الدنيا إلاّ ما قدره الله سبحانه له ، فأين حال هذا الشقيّ من حال المؤمن التقيّ؟ فإنه ينال من الدنيا ما قدّره الله له وأراده بلا هلع منه ولا جزع ، مع سكون نفسه واطمئنان قلبه وثقته بربه ، وهو مع ذلك عامل للآخرة منتظر للجزاء من الله سبحانه ، وهو الجنة ، ولهذا قال : { وَمَنْ أَرَادَ الآخرة } أي : أراد بأعماله الدار الآخرة { وسعى لَهَا سَعْيَهَا } أي : السعي الحقيق بها اللائق بطالبها ، وهو الإتيان بما أمر به ، وترك ما نهى عنه خالصاً لله غير مشوب ، وكان الإتيان به على القانون الشرعي من دون ابتداع ولا هوى { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } بالله إيماناً صحيحاً ، لأن العمل الصالح لا يستحق صاحبه الجزاء عليه إلاّ إذا كان من المؤمنين :
{ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } [ المائدة : 27 ] ، والجملة في محل نصب على الحال ، والإشارة بقوله : { فَأُوْلَئِكَ } إلى المريدين للآخرة الساعين لها سعيها وخبره { كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } عند الله ، أي : مقبولاً غير مردود ، وقيل : مضاعفاً إلى أضعاف كثيرة ، فقد اعتبر سبحانه في كون السعي مشكوراً أموراً ثلاثة : الأول : إرادة الآخرة ، الثاني : أن يسعى لها السعي الذي يحق لها ، والثالث : أن يكون مؤمناً . ثم بين سبحانه كمال رأفته وشمول رحمته فقال : { كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ } التنوين في «كلاً» عوض عن المضاف إليه ، والتقدير كل واحد من الفريقين نمدّ ، أي : نزيده من عطائنا على تلاحق من غير انقطاع ، نرزق المؤمنين والكفار ، وأهل الطاعة وأهل المعصية ، لا تؤثر معصية العاصي في قطع رزقه ، وما به الإمداد هو ما عجله لمن يريد الدنيا ، وما أنعم به في الأولى والأخرى على من يريد الآخرة ، وفي قوله : { مِنْ عَطَاء رَبّكَ } إشارة إلى أن ذلك بمحض التفضل وهو متعلق ب { نمد } ، { وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ مَحْظُورًا } أي : ممنوعاً ، يقال : حظره يحظره حظراً : منعه ، وكل ما حال بينك وبين شيء ، فقد حظره عليك ، و { هؤلاء } بدل من «كلا» وهؤلاء معطوف على البدل . قال الزجاج : أعلم الله سبحانه أنه يعطي المسلم الكافر وأنه يرزقهما جميعاً الفريقين فقال : { هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ } . { انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن يكون لكل من له أهلية النظر والاعتبار ، وهذه الجملة مقرّرة لما مرّ من الإمداد وموضحة له ، والمعنى : انظر كيف فضلنا في العطايا العاجلة بعض العباد على بعض ، فمن غني وفقير ، وقوي وضعيف ، وصحيح ومريض ، وعاقل وأحمق ، وذلك لحكمة بالغة تقصر العقول عن إدراكها . { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } وذلك لأن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا ، وليس للدنيا بالنسبة إلى الآخرة مقدار ، فلهذا كانت الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً ، وقيل : المراد : أن المؤمنين يدخلون الجنة ، والكافرين يدخلون النار ، فتظهر فضيلة المؤمنين على الكافرين . وحاصل المعنى أن التفاضل في الآخرة ودرجاتها فوق التفاضل في الدنيا ومراتب أهلها فيها من بسط وقبض ونحوهما . ثم لما أجمل سبحانه أعمال البرّ في قوله : { وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } أخذ في تفصيل ذلك مبتدئاً بأشرفها الذي هو التوحيد فقال : { لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ } والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته ، تهييجاً وإلهاباً ، أو لكل متأهل له صالح لتوجيهه إليه ، وقيل : هو على إضمار القول ، والتقدير : قل لكل مكلف : لا تجعل ، وانتصاب { تقعد } على جواب النهي ، والتقدير : لا يكون منك جعل فقعود؛ ومعنى { تقعد } : تصير ، من قولهم : شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها خربة ، وليس المراد حقيقة القعود المقابل للقيام؛ وقيل : هو كناية عن عدم القدرة على تحصيل الخيرات ، فإن السعي فيه إنما يتأتى بالقيام ، والعجز عنه يلزمه أن يكون قاعداً عن الطلب؛ وقيل : إن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادماً مفكراً على ما فرط منه ، فالقعود على هذا حقيقة ، وانتصاب { مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } على خبرية تقعد أو على الحال : أي فتصير جامعاً بين الأمرين : الذم لك من الله ومن ملائكته ، ومن صالحي عباده ، والخذلان لك منه سبحانه ، أو حال كونك جامعاً بين الأمرين .
ثم لما ذكر ما هو الركن الأعظم وهو التوحيد ، أتبعه سائر الشعائر والشرائع فقال : { وقضى رَبُّكَ } أي : أمر أمراً جزماً ، وحكماً قطعاً ، وحتماً مبرماً { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ } أي : بأن لا تعبدوا ، فتكون «أن» ناصبة ، ويجوز أن تكون مفسرة ، و " لا " نهي . وقرىء ( ووصى ربك ) أي : وصى عباده بعبادته وحده ، ثم أردفه بالأمر ببرّ الوالدين فقال : { وبالوالدين إحسانا } أي : وقضى بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا ، أو وأحسنوا بهما إحساناً ، ولا يجوز أن يتعلق { بالوالدين ب { إحسانا } ، لأن المصدر لا يتقدّم عليه ما هو متعلق به . قيل : ووجه ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد عبادة الله سبحانه أنهما السبب الظاهر في وجود المتولد بينهما ، وفي جعل الإحسان إلى الأبوين قريناً لتوحيد الله وعبادته من الإعلان بتأكد حقهما والعناية بشأنهما ما لا يخفى ، وهكذا جعل سبحانه في آية أخرى شكرهما مقترناً بشكره فقال : { أَنِ اشكر لِى ولوالديك } [ لقمان : 14 ] . ثم خص سبحانه حالة الكبر بالذكر ، لكونها إلى البر من الولد أحوج من غيرها ، فقال : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } : " إما " مركبة من " إن " الشرطية و " ما " الإبهامية لتأكيد معنى الشرط ، ثم أدخلت نون التوكيد في الفعل لزيادة التقرير ، كأنه قيل : إن هذا الشرط مما سيقع ألبتة عادة . قال النحويون : إن الشرط يشبه النهي من حيث الجزم وعدم الثبوت ، فلهذا صح دخول النون المؤكدة عليه . وقرأ حمزة والكسائي ( يبلغان ) . قال الفراء : ثنى لأن الوالدين قد ذكرا قبله ، فصار الفعل على عددهما ، ثم قال : { أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } على الاستئناف ، وأما على قراءة { يبلغن } فأحدهما فاعل بالاستقلال . وقوله : { أَوْ كِلاَهُمَا } فاعل أيضاً ، لكن لا بالاستقلال ، بل بتبعية العطف ، والأولى أن يكون أحدهما على قراءة ( يبلغان ) بدل من الضمير الراجع إلى الوالدين في الفعل ، ويكون { كلاهما } عطفاً على البدل ، ولا يصحّ جعل { كلاهما } تأكيداً للضمير ، لاستلزام العطف المشاركة ، ومعنى { عندك } في كنفك وكفالتك ، وتوحيد الضمير في { عندك } و { لا تقل } وما بعدهما للإشعار بأن كل فرد من الأفراد منهيّ بما فيه النهي ، ومأمور بما فيه الأمر ، ومعنى { فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ } : لا تقل لواحد منهما في حالتي الاجتماع والانفراد ، وليس المراد حالة الاجتماع فقط .
وفي { أف } لغات : ضم الهمزة مع الحركات الثلاث في الفاء ، وبالتنوين وعدمه ، وبكسر الهمز والفاء بلا تنوين ، وأفى ممالاً ، وأفه بالهاء . قال الفراء : تقول العرب : فلان يتأفف من ريح وجدها ، أي : يقول أف أف . وقال الأصمعي : الأف وسخ الأذن ، والثف : وسخ الأظفار ، يقال ذلك : عند استقذار الشيء ، ثم كثر حتى استعملوه في كل ما يتأذون به . وروى ثعلب عن ابن الأعرابيّ أن الأفف : الضجر ، وقال القتيبي : أصله : أنه إذا سقط عليه تراب ونحوه نفخ فيه ليزيله ، فالصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قول القائل : أفّ ، ثم توسعوا فذكروه عند كل مكروه يصل إليهم . وقال الزجاج : معناه النتن . وقال أبو عمرو بن العلاء : الأف : وسخ بين الأظفار ، والثف : قلامتها . والحاصل أنه اسم فعل ينبىء عن التضجر والاستثقال ، أو صوت ينبىء عن ذلك ، فنهى الولد عن أن يظهر منه ما يدل على التضجر من أبويه أو الاستثقال لهما ، وبهذا النهي يفهم النهي عن سائر ما يؤذيهما بفحوى الخطاب أو بلحنه كما هو متقرر في الأصول . { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } النهر : الزجر والغلظة ، يقال : نهره وانتهره : إذا استقبله بكلام يزجره . قال الزجاج : معناه لا تكلمهما ضجراً صائحاً في وجوههما . { وَقُل لَّهُمَا } بدل التأفيف والنهر { قَوْلاً كَرِيمًا } أي : ليناً لطيفاً أحسن ما يمكن التعبير عنه من لطف القول وكرامته مع التأدب والحياء والاحتشام { واخفض لهما جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة } ذكر القفال في معنى خفض الجناح وجهين : الأول : أن الطائر إذا أراد ضم فراخه إليه للتربية خفض لها جناحه ، فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التدبير ، فكأنه قال للولد : أكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك في حال صغرك . والثاني : أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه ، وإذا أراد النزول خفض جناحه ، فصار خفض الجناح كناية عن التواضع وترك الارتفاع؛ وفي إضافة الجناح إلى الذلّ وجهان : الأوّل : أنها كإضافة حاتم إلى الجود في قولك : حاتم الجود ، فالأصل فيه : الجناح الذليل ، والثاني : سلوك سبيل الاستعارة كأنه تخيل للذلّ جناحاً ، ثم أثبت لذلك الجناح خفضاً . وقرأ الجمهور ( الذلّ ) بضم الذال من ذلّ يذل ذلاً وذلة ومذلة فهو ذليل . وقرأ سعيد بن جبير ، وعروة بن الزبير بكسر الذال ، وروي ذلك عن ابن عباس وعاصم ، من قولهم : دابة ذلول ، بنية الذل ، أي : منقادة سهلة لا صعوبة فيها ، و { من الرحمة } فيه معنى التعليل ، أي : من أجل فرط الشفقة والعطف عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم لمن كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس ، ثم كأنه قال له سبحانه : ولا تكتف برحمتك التي لا دوام لها ولكن { قُل رَّبّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا } والكاف في محل نصب على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي : رحمة مثل تربيتهما لي ، أو مثل رحمتهما لي ، وقيل : ليس المراد رحمة مثل الرحمة ، بل الكاف لاقترانهما في الوجود ، فلتقع هذه كما وقعت تلك .
والتربية : التنمية ، ويجوز أن يكون الكاف للتعليل ، أي : لأجل تربيتهما ، لي كقوله : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] . ولقد بالغ سبحانه في التوصية بالوالدين مبالغة تقشعرّ لها جلود أهل العقوق وتقف عندها شعورهم .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله : { مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة } قال : من كان يريد بعمله الدنيا ، { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ } ذاك به . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية عن الحسن في قوله : { كُلاًّ نُّمِدُّ } الآية ، قال : كل يرزق الله في الدنيا البرّ والفاجر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال : يرزق الله من أراد الدنيا ، ويرزق من أراد الآخرة . وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال : { مَحْظُورًا } ممنوعاً . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن زيد مثله . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما من عبد يريد أن يرتفع في الدنيا درجة ، فارتفع بها إلاّ وضعه الله في الآخرة درجة أكبر منها وأطول ، ثم قرأ { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } » ، وهو من رواية زاذان عن سلمان . وثبت في الصحيحين : « أن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما يرون الكوكب الغابر في أفق السماء » وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { مَذْمُومًا } يقول : ملوماً . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قرأ : ( ووصى ربك ) ، مكان { وقضى } ، وقال : التزقت الواو والصاد ، وأنتم تقرءونها : ( وقضى ربك ) . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عنه مثله . وأخرج أبو عبيد ، وابن منيع ، وابن المنذر ، وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه أيضاً مثله ، وزاد « ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد » . وأقول : إنما يلزم هذا لو كان القضاء بمعنى الفراغ من الأمر ، وهو وإن كان أحد معاني مطلق القضاء ، كما في قوله : { قُضِىَ الامر الذى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ }
[ يوسف : 41 ] . وقوله : { فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم } [ البقرة : 200 ] . { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة } [ النساء : 103 ] . ولكنه ها هنا بمعنى الأمر ، وهو أحد معاني القضاء ، والأمر لا يستلزم ذلك ، فإنه سبحانه قد أمر عباده بجميع ما أوجبه ، ومن جملة ذلك إفراده بالعبادة وتوحيده ، وذلك لا يستلزم أن لا يقع الشرك من المشركين ، ومن معاني مطلق القضاء معانٍ أخر غير هذين المعنيين ، كالقضاء بمعنى : الخلق ، ومنه { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات } [ فصلت : 12 ] . وبمعنى الإرادة كقوله : { إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 47 ] . وبمعنى العهد كقوله : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر } [ القصص : 44 ] . وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { وقضى رَبُّكَ } قال : أمر . وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في الآية قال : عهد ربك . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : { وبالوالدين إحسانا } يقول : برّاً . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ } لما تميط عنهما من الأذى : الخلاء ، والبول كما كانا لا يقولانه فيما كانا يميطان عنك من الخلاء والبول . وأخرج الديلمي عن الحسين بن عليّ مرفوعاً : لو علم الله شيئاً من العقوق أدنى من أف لحرّمه . وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد في قوله : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا } قال : إذا دعواك فقل : لبيكما وسعديكما . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية ، قال : قولاً ليناً سهلاً . وأخرج البخاري في الأدب ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عروة في قوله : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل } قال : يلين لهما حتى لا يمتنع من شيء أحبّاه . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية ، قال : اخضع لوالديك كما يخضع العبد للسيد الفظ الغليظ . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { وَقُل رَّبّ ارحمهما } ثم أنزل الله بعد هذا { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قربى } [ التوبة : 113 ] . وأخرج البخاري في الأدب المفرد ، وأبو داود ، وابن جرير ، وابن المنذر من طرق عنه نحوه ، وقد ورد في برّ الوالدين أحاديث كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما ، وهي معروفة في كتب الحديث .
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
قوله : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ } أي : بما في ضمائركم من الإخلاص وعدمه في كل الطاعات ، ومن التوبة من الذنب الذي فرط منكم أو الإصرار عليه ، ويندرج تحت هذا العموم ما في النفس من البرّ والعقوق اندراجاً أوّلياً؛ وقيل : إن الآية خاصة بما يجب للأبوين من البرّ ، ويحرم على الأولاد من العقوق ، والأوّل أولى اعتباراً بعموم اللفظ ، فلا تخصصه دلالة السياق ولا تقيده { إِن تَكُونُواْ صالحين } قاصدين الصلاح ، والتوبة من الذنب ، والإخلاص للطاعة فلا يضركم ما وقع من الذنب الذي تبتم عنه . { فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً } أي : الرجاعين عن الذنوب إلى التوبة ، وعن عدم الإخلاص إلى محض الإخلاص . غفوراً لما فرط منهم من قول أو فعل أو اعتقاد ، فمن تاب تاب الله عليه ، ومن رجع إلى الله رجع الله إليه . ثم ذكر سبحانه التوصية بغير الوالدين من الأقارب بعد التوصية بهما فقال : { وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ } والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم تهييجاً وإلهاباً لغيره من الأمة ، أو لكل من هو صالح لذلك من المكلفين كما في قوله : { وقضى رَبُّكَ } [ الإسراء : 23 ] والمراد بذي القربى : ذو القرابة ، وحقهم هو صلة الرحم التي أمر الله بها ، وكرّر التوصية فيها . والخلاف بين أهل العلم في وجوب النفقة للقرابة ، أو لبعضهم كالوالدين على الأولاد . والأولاد على الوالدين معروف ، والذي ينبغي الاعتماد عليه وجوب صلتهم بما تبلغ إليه القدرة وحسبما يقتضيه الحال { والمساكين } معطوف على { ذا القربى } ، وفي هذا العطف دليل على أن المراد بالحق الحق المالي { وابن السبيل } معطوف على المسكين ، والمعنى : وآت من اتصف بالمسكنة ، أو بكونه من أبناء السبيل حقه . وقد تقدّم بيان حقيقة المسكين وابن السبيل في البقرة ، وفي التوبة ، والمراد في هذه الآية التصدّق عليهما بما بلغت إليه القدرة من صدقة النفل ، أو مما فرضه الله لهما من صدقة الفرض ، فإنهما من الأصناف الثمانية التي هي مصرف الزكاة . ثم لما أمر سبحانه بما أمر به ها هنا ، نهى عن التبذير فقال : { وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا } التبذير : تفريق المال كما يفرّق البذر كيفما كان من غير تعمد لمواقعه ، وهو الإسراف المذموم لمجاوزته للحدّ المستحسن شرعاً في الإنفاق ، أو هو الإنفاق في غير الحق ، وإن كان يسيراً . قال الشافعي : التبذير : إنفاق المال في غير حقه ، ولا تبذير في عمل الخير . قال القرطبيّ بعد حكايته القول الشافعي هذا : وهذا قول الجمهور . قال أشهب عن مالك : التبذير هو أخذ المال من حقه ، ووضعه في غير حقه ، وهو الإسراف ، وهو حرام لقوله : { إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين } فإن هذه الجملة تعليل للنهي عن التبذير ، والمراد بالأخوة الممائلة التامة ، وتجنب مماثلة الشيطان ولو في خصلة واحدة من خصاله واجب ، فكيف فيما هو أعمّ من ذلك كما يدلّ عليه إطلاق المماثلة ، والإسراف في الإنفاق من عمل الشيطان ، فإذا فعله أحد من بني آدم فقد أطاع الشيطان واقتدى به { وَكَانَ الشيطان لِرَبّهِ كَفُورًا } أي : كثير الكفران عظيم التمرّد عن الحق ، لأنه مع كفره لا يعمل إلاّ شراً ، ولا يأمر إلاّ بعمل الشرّ ، ولا يوسوس إلاّ بما لا خير فيه .
وفي هذه الآية تسجيل على المبذرين بمماثلة الشياطين ، ثم التسجيل على جنس الشيطان بأنه كفور ، فاقتضى ذلك أن المنذر مماثل للشيطان ، وكل مماثل للشيطان له حكم الشيطان ، وكل شيطان كفور ، فالمبذر كفور . { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ } قد تقدّم قريباً أن أصل «إما» هذه مركب من " إن " الشرطية و " ما " الإبهامية ، وأن دخول نون التأكيد على الشرط لمشابهته للنهي؛ أي : إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل لأمر اضطرك إلى ذلك الإعراض { ابتغاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ } أي لفقد رزق من ربك ، ولكنه أقام المسبب الذي هو ابتغاء رحمة الله مقام السبب الذي هو فقد الرزق ، لأن فاقد الرزق مبتغٍ له ، والمعنى : وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح الله به عليك { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا } أي : قولاً سهلاً ليناً كالوعد الجميل أو الاعتذار المقبول . قال الكسائي : يسرت له القول أي : لينته . قال الفراء : معنى الآية إن تعرض عن السائل إضاقة وإعساراً { فقل لهم قولاً ميسوراً } : عدهم عدة حسنة . ويجوز أن يكون المعنى : وإن تعرض عنهم ولم تنفعهم لعدم استطاعتك فقل لهم قولاً ميسوراً ، وليس المراد هنا الإعراض بالوجه . وفي هذه الآية تأديب من الله سبحانه لعباده إذا سألهم سائل ما ليس عندهم كيف يقولون . ربما يردّون ، ولقد أحسن من قال :
إنْ لا يَكُنْ وَرِقٌ يَوْماً أَجُوُد بِها ... لِلسَائِلين فإنِّي لينّ العُودِ
لا يَعْدم السَائِلوُنَ الخْيرَ مِنْ خُلِقي ... إمَّا نَوالٌ وإمَّا حُسنُ مَرْدُودِ
لما ذكر سبحانه أدب المنع بعد النهي عن التبذير بيّن أدب الإنفاق فقال : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } وهذا النهي يتناول كل مكلف ، سواء كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تعريضاً لأمته وتعليماً لهم ، أو الخطاب لكل من يصلح له من المكلفين . والمراد : النهي للإنسان بأن يمسك إمساكاً يصير به مضيقاً على نفسه وعلى أهله ، ولا يوسع في الإنفاق توسيعاً لا حاجة إليه ، بحيث يكون به مسرفاً ، فهو نهى عن جانبي الإفراط والتفريط . ويتحصل من ذلك مشروعية التوسط ، وهو العدل الذي ندب الله إليه :
ولا تك فيها مُفْرِطاً أو مفَرِّطا ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقد مثّل الله سبحانه في هذه الآية حال الشحيح بحال من كانت يده مغلولة إلى عنقه ، بحيث لا يستطيع التصرّف بها ، ومثّل حال من يجاوز الحدّ في التصرف بحال من يبسط يده بسطاً لا يتعلق بسببه فيها شيء مما تقبض الأيدي عليه ، وفي هذا التصوير مبالغة بليغة . ثم بيّن سبحانه غائلة الطرفين المنهيّ عنهما فقال : { فَتَقْعُدَ مَلُومًا } عند الناس بسبب ما أنت عليه من الشح { مَّحْسُوراً } بسبب ما فعلته من الإسراف ، أي : منقطعاً عن المقاصد بسبب الفقر ، والمحسور في الأصل : المنقطع عن السير ، من حسره السفر إذا بلغ منه ، والبعير الحسير : هو الذي ذهبت قوّته فلا انبعاث به ، ومنه قوله تعالى : { يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ } [ الملك : 4 ] . أي : كليل منقطع؛ وقيل : معناه نادماً على ما سلف ، فجعله هذا القائل من الحسرة التي هي الندامة ، وفيه نظر ، لأن الفاعل من الحسرة : حسران . ولا يقال محسور إلاّ للملوم . ثم سلى رسوله والمؤمنين بأن الذين يرهقهم من الإضافة ليس لهوانهم على الله سبحانه ، ولكن لمشيئة الخالق الرازق فقال : { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ } أي : يوسعه على بعض ويضيقه على بعض لحكمة بالغة لا لكون من وسع له رزقه مكرماً عنده ، ومن ضيقه عليه هائناً لديه . قيل : ويجوز أن يراد أن البسط والقبض إنما هما من أمر الله الذي لا تفنى خزائنه . فأما عباده فعليهم أن يقتصدوا . ثم علل ما ذكره من البسط للبعض والتضييق على البعض بقوله : { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } أي : يعلم ما يسرون وما يعلنون ، لا يخفى عليه من ذلك خافية ، فهو الخبير بأحوالهم ، البصير بكيفية تدبيرهم في أرزاقهم ، وفي هذه الآية دليل على أنه المتكفل بأرزاق عباده ، فلذلك قال بعدها : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إملاق } أملق الرجل : لم يبق له إلاّ الملقات ، وهي الحجارة العظام الملس ، قال الهذلي يصف صائداً :
أتيح لها أقيدر ذو خشيف ... إذا سامت على الملقات ساما
الأقيدر تصغير الأقدر : وهو الرجل القصير ، والخشيف من الثياب : الخلق ، وسامت : مرّت ، ويقال : أملق : إذا افتقر وسلب الدهر ما بيده . قال أوس :
وأملق ما عندي خطوب تنبل ... نهاهم الله سبحانه عن أن يقتلوا أولادهم خشية الفقر ، وقد كانوا يفعلون ذلك ، ثم بيّن لهم أن خوفهم من الفقر حتى يبلغوا بسبب ذلك إلى قتل الأولاد لا وجه له ، فإن الله سبحانه هو الرازق لعباده ، يرزق الأبناء كما يرزق الآباء ، فقال : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } ولستم لهم برازقين حتى تصنعوا بهم هذا الصنع ، وقد مرّ مثل هذه الآية في الأنعام ثم علل سبحانه النهي عن قتل الأولاد لذلك بقوله : { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا } . قرأ الجمهور بكسر الخاء وسكون الطاء وبالهمز المقصور .
وقرأ ابن عامر ( خطأ ) بفتح الخاء والطاء والقصر في الهمز ، يقال : خطىء في دينه خطئاً : إذا أثم ، وأخطأ : إذا سلك سبيل خطأً عامداً أو غير عامد . قال الأزهري ، خطىء يخطأ خطئاً ، مثل : أثم يأثم إثماً ، إذا تعمد الخطأ ، وأخطأ : إذا لم يتعمد إخطاء وخطأ ، قال الشاعر :
دَعِيني إنمَّا خَطْئِي وصَوْبِي ... عليَّ وأَنَّ مَا أهلكتُ ، مالُ
والخطأ : الاسم يقوم مقام الأخطاء ، وفيه لغتان : القصر ، وهو الجيد ، والمدّ وهو قليل . وقرأ ابن كثير بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمز . قال النحاس : ولا أعرف لهذه القراءة وجهاً ، وكذلك جعلها أبو حاتم غلطاً . وقرأ الحسن ( خطا ) بفتح الخاء والطاء منوّنة من غير همز . ولما نهى سبحانه عن قتل الأولاد المستدعي لإفناء النسل ، ذكر النهي عن الزنا المفضي إلى ذلك لما فيه من اختلاط الأنساب فقال : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى } وفي النهي عن قربانه بمباشرة مقدماته نهي عنه بالأولى ، فإن الوسيلة إلى الشيء إذا كانت حراماً كان المتوسل إليه حراماً بفحوى الخطاب ، والزنى فيه لغتان : المد ، والقصر . قال الشاعر :
كَانَتْ فَرِيضةُ مَا تَقُولُ كَمَا ... كان الزناء فريضةَ الرَّجْمِ
ثم علل النهي عن الزنا بقوله : { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } أي : قبيحاً متبالغاً في القبح ، مجاوزاً للحدّ { وَسَاء سَبِيلاً } أي : بئس طريقاً طريقه ، وذلك لأنه يؤدي إلى النار ، ولا خلاف في كونه من كبائر الذنوب . وقد ورد في تقبيحه والتنفير عنه من الأدلة ما هو معلوم . ولما فرغ من ذكر النهي عن القتل لخصوص الأولاد ، وعن النهي عن الزنا الذي يفضي إلى ما يفضي إليه قتل الأولاد ، من اختلاط الأنساب ، وعدم استقرارها ، نهى عن قتل الأنفس المعصومة على العموم فقال : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } . والمراد بالتي حرّم الله : التي جعلها معصومة بعصمة الدين أو عصمة العهد . والمراد بالحق الذي استثناه : هو ما يباح به قتل الأنفس المعصومة في الأصل ، وذلك كالردّة ، والزنا من المحصن ، وكالقصاص من القاتل عمداً عدواناً ، وما يلتحق بذلك . والاستثناء مفرّغ ، أي : لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلاّ بسبب متلبس بالحق ، أو إلاّ متلبسين بالحق ، وقد تقدّم الكلام في هذا في الأنعام . ثم بين حكم بعض المقتولين بغير حق فقال : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا } أي : لا بسبب من الأسباب المسوّغة لقتله شرعاً { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا } أي : لمن يلي أمره من ورثته إن كانوا موجودين ، أو ممن له سلطان إن لم يكونوا موجودين ، والسلطان : التسلط على القاتل ، إن شاء قتل ، وإن شاء عفا ، وإن شاء أخذ الدية . ثم لما بيّن إباحة القصاص ، لمن هو مستحق لدم المقتول ، أو ما هو عوض عن القصاص نهاه عن مجاوزة الحدّ فقال : { فَلاَ يُسْرِف فّى القتل } أي : لا يجاوز ما أباحه الله له ، فيقتل بالواحد اثنين أو جماعة ، أو يمثل بالقاتل أو يعذبه .
قرأ الجمهور { لا يسرف } بالياء التحتية ، أي : الولي ، وقرأ حمزة والكسائي ( تسرف ) بالتاء الفوقية ، وهو خطاب للقاتل الأوّل ، ونهي له عن القتل أي : فلا تسرف أيها القاتل بالقتل فإن عليك القصاص مع ما عليك من عقوبة الله وسخطه ولعنته . وقال ابن جرير : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأئمة من بعده ، أي : لا تقتل يا محمد غير القاتل ، ولا يفعل ذلك الأئمة بعدك . وفي قراءة أبي : ولا تسرفوا ، ثم علل النهي عن السرف فقال : { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } أي : مؤيداً معاناً ، يعني : الولي ، فإن الله سبحانه قد نصره بإثبات القصاص له بما أبرزه من الحجج ، وأوضحه من الأدلة ، وأمر أهل الولايات بمعونته والقيام بحقه حتى يستوفيه ، ويجوز أن يكون الضمير راجعاً إلى المقتول ، أي : إن الله نصره بوليّه ، قيل : وهذه الآية من أوّل ما نزل من القرآن في شأن القتل لأنها مكية .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : { إِن تَكُونُواْ صالحين } قال : تكون البادرة من الولد إلى الوالد ، فقال الله : { إِن تَكُونُواْ صالحين } إن تكن النية صادقة { فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً } للبادرة التي بدرت منه ، وأخرج ابن أبي الدنيا ، والبيهقي في الشعب عنه في قوله : { إِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً } قال : الرجاعين إلى الخير . وأخرج سعيد بن منصور ، وهناد ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن الضحاك في الآية ، قال : الرجاعين من الذنب إلى التوبة ، ومن السيئات إلى الحسنات . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لِلأوَّابِينَ } قال : للمطيعين المحسنين . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عنه ، قال : للتوابين . وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ } قال : أمره بأحقّ الحقوق ، وعلمه كيف يصنع إذا كان عنده ، وكيف يصنع إذا لم يكن عنده ، فقال : { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا } قال : إذا سألوك وليس عندك شيء انتظرت رزقاً من الله { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا } يكون إن شاء الله يكون شبه العدة . قال سفيان : والعدة من النبي صلى الله عليه وسلم دين . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال : هو أن تصل ذا القرابة ، وتطعم المسكين ، وتحسن إلى ابن السبيل . وأخرج ابن جرير عن علي بن الحسين أنه قال لرجل من أهل الشام : أقرأت القرآن؟ قال : نعم ، قال : فما قرأت في بني إسرائيل : { وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ } ؟ قال : وإنكم للقرابة التي أمر الله أن يؤتي حقهم؟ قال : نعم .
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في الآية ، قال : والقربى : قربى بني عبد المطلب .
وأقول : ليس في السياق ما يفيد هذا التخصيص ، ولا دلّ على ذلك دليل ، ومعنى النظم القرآني واضح ، إن كان الخطاب مع كل من يصلح له من الأمة ، لأن معناه أمر كل مكلف متمكن من صلة قرابته بأن يعطيهم حقهم وهو الصلة التي أمر الله بها . وإن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، فإن كان على وجه التعريض لأمته فالأمر فيه كالأوّل ، وإن كان خطاباً له من دون تعريض ، فأمته أسوته ، فالأمر له صلى الله عليه وسلم بإيتاء ذي القربى حقه ، أمر لكل فرد من أفراد أمته ، والظاهر أن هذا الخطاب ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بدليل ما قبل هذه الآية ، وهي قوله : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه } [ الأسراء : 23 ] وما بعدها ، وهي قوله : { وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين } .
وفي معنى هذه الآية الدالة على وجوب صلة الرحم أحاديث كثيرة . وأخرج أحمد ، والحاكم وصححه عن أنس : أن رجلاً قال : يا رسول الله إني ذو مال كثير وذو أهل وولد وحاضرة ، فأخبرني كيف أنفق وكيف أصنع؟ قال : « تخرج الزكاة المفروضة ، فإنها طهرة تطهرك وتصل أقاربك وتعرف حقّ السائل والجار والمسكين » ، فقال : يا رسول الله أقلل لي؟ قال : « فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً » قال : حسبي يا رسول الله . وأخرج البزار ، وأبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت هذه الآية { وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فأعطاها فدك . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت { وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ } أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فدك . قال ابن كثير بعد أن ساق حديث أبي سعيد هذا ما لفظه : وهذا الحديث مشكل لو صح إسناده ، لأن الآية مكية ، وفدك إنما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة ، فكيف يلتئم هذا مع هذا؟ انتهى . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، والبخاري في الأدب ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود في قوله : { وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا } قال : التبذير إنفاق المال في غير حقه . وأخرج ابن جرير عنه قال : كنا - أصحاب محمد - نتحدّث أن التبذير : النفقة في غير حقه . وأخرج سعيد بن منصور ، والبخاري في الأدب ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ المبذرين } قال : هم الذين ينفقون المال في غير حقه . وأخرج البيهقي في الشعب عن عليّ قال : ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير وما تصدقت فلك ، وما أنفقت رياء وسمعة فذلك حظ الشيطان .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا } قال : العدة . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر عن يسار أبي الحكم قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برّ من العراق ، وكان معطاء كريماً ، فقسمه بين الناس ، فبلغ ذلك قوماً من العرب ، فقالوا : إنا نأتي النبي صلى الله عليه وسلم نسأله ، فوجدوه وقد فرغ منه ، فأنزل الله { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ } قال : محبوسة { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُومًا } يلومك الناس { مَّحْسُوراً } ليس بيدك شيء . أقول : ولا أدري كيف هذا؟ فالآية مكية ، ولم يكن إذ ذاك عرب يقصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحمل إليه شيء من العراق ولا مما هو أقرب منه ، على أن فتح العراق لم يكن إلاّ بعد موته صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير عن المنهال بن عمرو : بعثت امرأة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بابنها فقالت : قل له : اكسني ثوباً ، فقال : « ما عندي شيء » ، فقالت : ارجع إليه فقل له : اكسني قميصك ، فرجع إليه ، فنزع قميصه فأعطاها إياه ، فنزلت { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً } الآية . وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود نحوه . وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة وضرب بيده : « أنفقي ما على ظهر كفي » ، قالت : إذن لا يبقى شيء . قال ذلك ثلاث مرات ، فأنزل الله { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً } الآية ، ويقدح في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوّج بعائشة إلاّ بعد الهجرة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً } قال : يعني بذلك : البخل . وأخرجا عنه في الآية قال : هذا في النفقة ، يقول : لا تجعلها مغلولة لا تبسطها بخير ، ولا تبسطها كل البسط ، يعني : التبذير { فَتَقْعُدَ مَلُومًا } ، يلوم نفسه على ما فاته من ماله { مَّحْسُوراً } ذهب ماله كله . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ } قال : ينظر له ، فإن كان الغنى خيراً له ، أغناه ، وإن كان الفقر خيراً له ، أفقره . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { خَشْيَةَ إملاق } قال : مخافة الفقر والفاقة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه في قوله : { خطأ } قال : خطيئة . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنا } قال : يوم نزلت هذه الآية لم يكن حدود ، فجاءت بعد ذلك الحدود في سورة النور .
وأخرج أبو يعلى ، وابن مردويه عن أبيّ بن كعب أنه قرأ : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنا إِنَّهُ كَانَ فاحشة وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً إِلاَّ مَن تَابَ فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } فذكر لعمر ، فأتاه فسأله ، فقال : أخذتها من فيّ رسول الله ، وليس لك عمل إلاّ الصفق بالبقيع . وقد ورد في الترهيب عن فاحشة الزنا أحاديث كثيرة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن الضحاك في قوله : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس . . . } الآية ، قال : هذا بمكة ونبي الله صلى الله عليه وسلم بها ، وهو أوّل شيء نزل من القرآن في شأن القتل ، كان المشركون من أهل مكة يغتالون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله : من قتلكم من المشركين ، فلا يحملنكم قتله إياكم على أن تقتلوا له أباً أو أخاً أو واحداً من عشيرته وإن كانوا مشركين ، فلا تقتلوا إلاّ قاتلكم ، وهذا قبل أن تنزل براءة ، وقبل أن يؤمر بقتال المشركين ، فذلك قوله : { فَلاَ يُسْرِف فّى القتل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } يقول : لا تقتل غير قاتلك ، وهي اليوم على ذلك الموضع من المسلمين لا يحل لهم أن يقتلوا إلاّ قاتلهم . وأخرج البيهقي في سننه عن زيد بن أسلم أن الناس في الجاهلية كانوا إذا قتل الرجل من القوم رجلاً لم يرضوا حتى يقتلوا به رجلاً شريفاً ، إذا كان قاتلهم غير شريف لم يقتلوا قاتلهم وقتلوا غيره ، فوعظوا في ذلك بقول الله سبحانه : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس . . . } إلى قوله : { فَلاَ يُسْرِف فّى القتل } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا } قال : بينة من الله أنزلها ، يطلبها وليّ المقتول ، القود أو العقل ، وذلك السلطان . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مجاهد عنه { فَلاَ يُسْرِف فّى القتل } قال : لا يكثر في القتل . وأخرج ابن المنذر من طريق أبي صالح عنه أيضاً : لا يقاتل إلاّ قاتل رحمه .
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)
لما ذكر سبحانه النهي عن إتلاف النفوس ، أتبعه بالنهي عن إتلاف الأموال ، وكان أهمها بالحفظ والرعايا مال اليتيم فقال : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم } . والنهي عن قربانه مبالغة في النهي عن المباشرة له وإتلافه . ثم بيّن سبحانه أن النهي عن قربانه ، ليس المراد منه النهي عن مباشرته فيما يصلحه ويفسده ، بل يجوز لوليّ اليتيم أن يفعل في مال اليتيم ما يصلحه ، وذلك يسلتزم مباشرته ، فقال : { إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ } أي : إلاّ بالخصلة التي هي أحسن الخصال ، وهي حفظه وطلب الربح فيه والسعي فيما يزيد به . ثم ذكر الغاية التي للنهي عن قربان مال اليتيم فقال : { حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } أي : لا تقربوه إلاّ بالتي هي أحسن حتى يبلغ اليتيم أشدّه ، فإذا بلغ أشدّه كان لكم أن تدفعوه إليه ، أو تتصرفوا فيه بإذنه . وقد تقدّم الكلام على هذا مستوفى في الأنعام { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } قد مضى الكلام فيه في غير موضع . قال الزجاج : كل ما أمر الله به ونهى عنه ، فهو من العهد ، فيدخل في ذلك ما بين العبد وربه ، وما بين العباد بعضهم البعض . والوفاء بالعهد : هو القيام بحفظه على الوجه الشرعي والقانون المرضي ، إلاّ إذا دلّ دليل خاص على جواز النقض { إِنَّ العهد كَانَ مَّسْئُولاً } أي : مسئولاً عنه ، فالمسئول هنا : هو صاحبه ، وقيل : إن العهد يسأل تبكيتاً لناقضه . { وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ } أي : أتموا الكيل ولا تخسروه وقت كيلكم للناس . { وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم } . قال الزجاج : هو ميزان العدل أيّ : ميزان كان من موازين الدراهم وغيرها ، وفيه لغتان : ضم القاف ، وكسرها ، وقيل هو القبّان المسمى بالقرسطون؛ وقيل هو العدل نفسه ، وهي لغة الروم ، وقيل : لغة سريانية . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم في رواية أبي بكر ( القُسطاس ) بضم القاف ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بكسر القاف ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى إيفاء الكيل والوزن ، وهو مبتدأ ، وخبره { خَيْرٌ } أي : خير لكم عند الله وعند الناس ، يتأثر عنه حسن الذكر وترغيب الناس في معاملة من كان كذلك { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } أي : أحسن عاقبة ، من آل إذا رجع . ثم أمر سبحانه بإصلاح اللسان والقلب فقال : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي : لا تتبع ما لا تعلم ، من قولك : قفوت فلاناً : إذا اتبعت أثره ، ومنه قافية الشعر ، لأنها تقفو كل بيت ، ومنه القبيلة المشهورة بالقافة ، لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس . وحكى ابن جرير عن فرقة أنها قالت : قفا وقاف ، مثل عثا وعاث . قال منذر بن سعيد البلوطي : قفا وقاف ، مثل جذب وجبذ . وحكى الكسائي عن بعض القراء أنه قرأ ( تَقُفْ ) بضم القاف وسكون الفاء .
وقرأ الفراء بفتح القاف وهي لغة لبعض العرب ، وأنكرها أبو حاتم وغيره . ومعنى الآية : النهي عن أن يقول الإنسان ما لا يعلم ، أو يعمل بما لا علم له به ، وهذه قضية كلية ، وقد جعلها جماعة من المفسرين خاصة بأمور : فقيل : لا تذم أحداً بما ليس لك به علم؛ وقيل : هي في شهادة الزور؛ وقيل : هي في القذف . وقال القتيبي : معنى الآية : لا تتبع الحدس والظنون ، وهذا صواب ، فإن ما عدا ذلك هو العلم؛ وقيل : المراد بالعلم هنا : هو الاعتقاد الراجح المستفاد من مستند قطعياً كان أو ظنياً . قال أبو السعود في تفسيره : واستعماله بهذا المعنى مما لا ينكر شيوعه . وأقول : إن هذه الآية قد دلت على عدم جواز العمل بما ليس بعلم ، ولكنها عامة مخصصة بالأدلة الواردة بجواز العمل بالظنّ كالعمل بالعامّ ، وبخبر الواحد ، والعمل بالشهادة ، والاجتهاد في القبلة وفي جزاء الصيد ونحو ذلك ، فلا تخرج من عمومها ومن عموم { إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا } [ يونس : 36 ] . إلاّ ما قام دليل جواز العمل به ، فالعمل بالرأي في مسائل الشرع إن كان لعدم وجود الدليل في الكتاب والسنّة ، فقد رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه قاضياً : «بم تقضي؟ قال بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد ، قال : فبسنّة رسول الله ، قال : فإن لم تجد ، قال : أجتهد رأيي» . وهو حديث صالح للاحتجاج به كما أوضحنا ذلك في بحث مفرد . وأما التوثب على الرأي مع وجود الدليل في الكتاب أو السنّة ، ولكنه قصر صاحب الرأي عن البحث فجاء برأيه فهو داخل تحت هذا النهي دخولاً أوّلياً ، لأنه محض رأي في شرع الله ، وبالناس عنه غنىً بكتاب الله سبحانه وبسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم تدع إليه حاجة ، على أن الترخيص في الرأي عند عدم وجود الدليل إنما هو رخصة للمجتهد يجوز له أن يعمل به ، ولم يدل دليل على أنه يجوز لغيره العمل به ، وينزله منزلة مسائل الشرع ، وبهذا يتضح لك أتمّ اتضاح ، ويظهر لك أكمل ظهور أن هذه الآراء المدوّنة في الكتب الفروعية ليست من الشرع في شيء ، والعامل بها على شفا جرف هار ، فالمجتهد المستكثر من الرأي قد قفا ما ليس له به علم ، والمقلد المسكين العامل برأي ذلك المجتهد قد عمل بما ليس له به علم ولا لمن قلده { ظلمات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } [ النور : 40 ] . وقد قيل : إن هذه الآية خاصة بالعقائد ولا دليل على ذلك أصلاً . ثم علل سبحانه النهي عن العمل بما ليس بعلم بقوله : { إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَّسْئُولاً } إشارة إلى الأعضاء الثلاثة ، وأجريت مجرى العقلاء لما كانت مسئولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها .
وقال الزجاج : إن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل ب : أولئك ، وأنشد ابن جرير مستدلاً على جواز هذا قول الشاعر :
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام
واعترض بأن الرواية بعد أولئك الأقوام ، وتبعه غيره على هذا الخطأ كصاحب الكشاف . والضمير في { كان } من قوله : { كَانَ عَنْهُ مَّسْئُولاً } يرجع إلى " كل " ، وكذا الضمير في " عنه " ، وقيل : الضمير في { كان } يعود إلى القافي المدلول عليه بقوله : { وَلاَ تَقْفُ } . وقوله : «عنه» في محل رفع لإسناد { مسئولاً } إليه ، ورد بما حكاه النحاس من الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل إذا كان جاراً أو مجروراً . قيل : والأولى أن يقال : إنه فاعل { مسئولاً } المحذوف ، والمذكور مفسر له . ومعنى سؤال هذه الجوارح : أنه يسأل صاحبها عما استعملها فيه لأنها آلات ، والمستعمل لها : هو الروح الإنساني ، فإن استعملها في الخير استحق الثواب ، وإن استعملها في الشرّ استحق العقاب؛ وقيل : إن الله سبحانه ينطق الأعضاء هذه عند سؤالها فتخبر عما فعله صاحبها . { وَلاَ تَمْشِ فِى الأرض مَرَحًا } المرح : قيل : هو شدّة الفرح ، وقيل : التكبر في المشي؛ وقيل : تجاوز الإنسان قدره؛ وقيل : الخيلاء في المشي؛ وقيل : البطر والأشر ، وقيل : النشاط . والظاهر أن المراد به هنا : الخيلاء والفخر ، قال الزجاج في تفسير الآية : لا تمش في الأرض مختالاً فخوراً ، وذكر الأرض مع أن المشي لا يكون إلاّ عليها ، أو على ما هو معتمد عليها تأكيداً وتقريراً ، ولقد أحسن من قال :
ولا تمش فوق الأرض إلاّ تواضعا ... فكم تحتها قوم هم منك أرفع
وإن كنت في عزّ وحرز ومنعة ... فكم مات من قوم هم منك أمنع
والمرح مصدر وقع حالاً ، أي : ذا مرح . وفي وضع المصدر موضع الصفة نوع تأكيد . وقرأ الجمهور { مرحاً } بفتح الراء على المصدر . وحكى يعقوب عن جماعة كسرها على أنه اسم فاعل ثم علل سبحانه هذا النهي فقال : { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض } يقال : خرق الثوب أي : شقه ، وخرق الأرض : قطعها ، والخرق : الواسع من الأرض ، والمعنى : أنك لن تخرق الأرض بمشيك عليها تكبراً ، وفيه تهكم بالمختال المتكبر { وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً } أي : ولن تبلغ قدرتك إلى أن تطاول الجبال حتى يكون عظم جثتك حاملاً لك على الكبر والاختيال ، فلا قوّة لك حتى تخرق الأرض بالمشي عليها ، ولا عظم في بدنك حتى تطاول الجبال ، فما الحامل لك على ما أنت فيه؟ . و { طولاً } مصدر في موضع الحال ، أو تمييز ، أو مفعول له؛ وقيل : المراد بخرق الأرض نقبها ، لا قطعها بالمسافة . وقال الأزهري : خرقها : قطعها ، قال النحاس : وهذا أبين كأنه مأخوذ من الخرق ، وهو : الفتحة الواسعة ، ويقال : فلان أخرق من فلان : أي أكثر سفراً ، والإشارة بقوله : { كُلُّ ذلك } إلى جميع ما تقدّم ذكره من الأوامر والنواهي ، أو إلى ما نهى عنه فقط من قوله : { وَلاَ تَقْفُ } { وَلاَ تَمْشِ } .
قرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، ومسروق ( سيئه ) على إضافة سيء إلى الضمير ، ويؤيد هذه القراءة قوله : { مَكْرُوهًا } فإن السيء هو المكروه . ويؤيدها أيضاً قراءة أبيّ : ( كان سيئاته ) ، واختار هذه القراءة أبو عبيد . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ( سيئة ) على أنها واحدة السيئات ، وانتصابها على خبرية كان ، ويكون { مكروهاً } صفة ل « سيئة » على المعنى ، فإنها بمعنى « سيئاً » ، أو هو بدل من « سيئة »؛ وقيل : هو خبر ثانٍ ل « كان » حملاً على لفظ { كل } ، ورجح أبو علي الفارسي البدل ، وقد قيل في توجيهه بغير هذا مما فيه تعسف لا يخفى . قال الزجاج : والإضافة أحسن ، لأن ما تقدّم من الآيات فيها سيء وحسن ، فسيئه المكروه . ويقوّي ذلك التذكير في المكروه ، قال : ومن قرأ بالتنوين جعل { كل ذلك } إحاطة بالمنهيّ عنه دون الحسن . المعنى : كل ما نهى الله عنه كان سيئة وكان مكروهاً . قال : والمكروه على هذه القراءة بدل من السيئة ، وليس بنعت . والمراد بالمكروه عند الله : هو الذي يبغضه ولا يرضاه ، لا أنه غير مراد مطلقاً ، لقيام الأدلة القاطعة على أن الأشياء واقعة بإرادته سبحانه ، وذكر مطلق الكراهة مع أن في الأشياء المتقدّمة ما هو من الكبائر إشعاراً بأن مجرّد الكراهة عنده تعالى يوجب انزجار السامع واجتنابه لذلك . والحاصل : أن في الخصال المتقدّمة ما هو حسن وهو المأمور به ، وما هو مكروه وهو المنهيّ عنه ، فعلى قراءة الإضافة تكون الإشارة بقوله : { كُلُّ ذلك } إلى جميع الخصال حسنها ومكروهها ، ثم الإخبار بأن ما هو سيء من هذه الأشياء وهو المنهي عنه مكروه عند الله ، وعلى قراءة الإفراد من دون إضافة تكون الإشارة إلى المنهيات ، ثم الإخبار عن هذه المنهيات بأنها سيئة مكروهة عند الله . { ذلك مِمَّا أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة } الإشارة إلى ما تقدّم ذكره من قوله : { لاَّ تَجْعَل } إلى هذه الغاية ، وترتقي إلى خمسة وعشرين تكليفاً ، { مِمَّا أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ } أي : من جنسه أو بعض منه ، وسمي حكمة لأنه كلام محكم ، وهو ما علمه من الشرائع ، أو من الأحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها الفساد ، وعند الحكماء : أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته ، و { من الحكمة } متعلق بمحذوف وقع حالاً ، أي : كائناً من الحكمة ، أو بدل من الموصول بإعادة الجار ، أو متعلق ب { أوحى } . { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } كرر سبحانه النهي عن الشرك تأكيداً وتقريراً وتنبيهاً عن أنه رأس خصال الدين وعمدته .
قيل : وقد راعى سبحانه في هذا التأكيد دقيقة ، فرتب على الأوّل كونه مذموماً مخذولاً ، وذلك إشارة إلى حال الشرك في الدنيا ، ورتب على الثاني أنه يلقى { فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا } وذلك إشارة إلى حاله في الآخرة ، وفي القعود هناك ، والإلقاء هنا إشارة إلى أن للإنسان في الدنيا صورة اختيار بخلاف الآخرة ، وقد تقدّم تفسير الملوم والمدحور . { أفأصفاكم رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملئكة إِنَاثًا } قال أبو عبيدة : { أصفاكم } : خصكم ، وقال الفضل : أخلصكم ، وهو خطاب للكفار القائلين بأن الملائكة بنات الله ، وفيه توبيخ شديد ، وتقريع بالغ لما كان يقوله هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل ، والفاء للعطف على مقدّر ، كنظائره مما قد كررناه . { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ } يعني : القائلين بأن لهم الذكر ولله الإناث { قَوْلاً عَظِيمًا } بالغاً في العظم والجراءة على الله إلى مكان لا يقادر قدره . { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هذا القرءان } أي : بينا ضروب القول فيه من الأمثال وغيرها ، أو كررنا فيه؛ وقيل . «في» زائدة ، والتقدير ولقد صرفنا هذا القرآن . والتصريف في الأصل : صرف الشيء من جهة إلى جهة؛ وقيل : معنى التصريف : المغايرة ، أي : غايرنا بين المواعظ ليتذكروا ويعتبروا ، وقراءة الجمهور { صرّفنا } بالتشديد ، وقرأ الحسن بالتخفيف ، ثم علل تعالى ذلك فقال : { لّيَذْكُرُواْ } أي : ليتعظوا ويتدبروا بعقولهم ويتفكروا فيه حتى يقفوا على بطلان ما يقولونه . قرأ يحيى بن وثاب ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ( ليذكروا ) مخففاً ، والباقون بالتشديد ، واختارها أبو عبيد لما تفيده من معنى التكثير ، وجملة { وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا } في محل نصب على الحال ، أي : والحال أن هذا التصريف والتذكير ما يزيدهم إلاّ تباعداً عن الحق وغفلة عن النظر في الصواب ، لأنهم قد اعتقدوا في القرآن أنه حيلة وسحر وكهانة وشعر ، وهم لا ينزعون عن هذه الغواية ولا وازع لهم يزعهم إلى الهداية .
وقد أخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم } قال : كانوا لا يخالطونهم في مال ولا مأكل ولا مركب حتى نزلت { وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم } [ البقرة : 220 ] . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : { إِنَّ العهد كَانَ مَّسْئُولاً } قال : يسأل الله ناقض العهد عن نقضه . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية ، قال : يسأل عهده من أعطاه إياه . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : { وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ } يعني : لغيركم { وَزِنُواْ بالقسطاس } يعني : الميزان ، وبلغة الروم : الميزان : القسطاس : { ذلك خَيْرٌ } يعني : وفاء الكليل والميزان خير من النقصان { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } عاقبة . وأخرج ابن أبي شيبة ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : القسطاس : العدل بالرومية .
وأخرج ابن المنذر عن الضحاك قال : القسطاس : القبّان . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : الحديد . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَقْفُ } قال : لا تقل . وأخرج ابن جرير عنه قال : لا ترم أحداً بما ليس لك به علم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن الحنفية في الآية قال : شهادة الزور . وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : { إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَّسْئُولاً } يقول : سمعه وبصره وفؤاده تشهد عليه . وأخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله : { كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَّسْئُولاً } قال : يوم القيامة أكذلك كان أم لا؟ . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَلاَ تَمْشِ فِى الارض مَرَحًا } قال : لا تمش فخراً وكبراً ، فإن ذلك لا يبلغ بك الجبال ولا أن تخرق الأرض بفخرك وكبرك . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : إن التوارة في خمس عشرة آية من بني إسرائيل ثم تلا { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { مَّدْحُورًا } قال : مطروداً .
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
قوله : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءالِهَةٌ كَمَا تَقُولُونَ } . قرأ ابن كثير ، وحفص : { يقولون } بالياء التحتية ، وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب للقائلين بأن مع الله آلهة أخرى ، وإذن : جواب عن مقالتهم الباطلة وجزاء ل « لو » { لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِى العرش } وهو الله سبحانه . { سَبِيلاً } : طريقاً للمغالبة والممانعة كما تفعل الملوك مع بعضهم البعض من المقاتلة والمصاولة؛ وقيل : معناه إذن لابتغت الآلهة إلى الله القربة والزلفة عنده ، لأنهم دونه ، والمشركون إنما اعتقدوا أنها تقرّبهم إلى الله . والظاهر المعنى الأول ، ومثل معناه قوله سبحانه : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] . ثم نزه تعالى نفسه ، فقال : { سبحانه } والتسبيح : التنزيه ، وقد تقدّم ، { وتعالى } متباعد { عَمَّا يَقُولُونَ } من الأقوال الشنيعة والفرية العظيمة { عُلُوّاً } أي : تعالياً ، ولكنه وضع العلوّ موضع التعالي كقوله : { والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] . ثم وصف العلوّ بالكبر مبالغة في النزاهة ، وتنبيهاً على أن بين الواجب لذاته والممكن لذاته ، وبين الغني المطلق ، والفقير المطلق ، مباينة لا تعقل الزيادة عليها . ثم بين سبحانه جلالة ملكه وعظمة سلطانه فقال : { يُسَبّحُ لَهُ السموات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ } قرىء بالمثناة التحتية في يسبح ، وبالفوقية ، وقال : { فيهنّ } بضمير العقلاء لإسناده إليها التسبيح الذي هو فعل العقلاء ، وقد أخبر سبحانه عن السموات والأرض بأنها تسبحه ، وكذلك من فيها من مخلوقاته الذين لهم عقول وهم الملائكة والإنس والجن وغيرهم من الأشياء التي لا تعقل ، ثم زاد ذلك تعميماً وتأكيداً فقال : { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ } فشمل كل ما يسمى شيئاً كائناً ما كان ، وقيل : إنه يحمل قوله : { وَمَن فِيهِنَّ } على الملائكة والثقلين ، ويحمل { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ } على ما عدا ذلك من المخلوقات .
وقد اختلف أهل العلم في هذا العموم هل هو مخصوص أم لا؟ فقالت طائفة : ليس بمخصوص ، وحملوا التسبيح على تسبيح الدلالة ، لأن كل مخلوق يشهد على نفسه ويدلّ غيره بأن الله خالق قادر . وقالت طائفة : هذا التسبيح على حقيقته والعموم على ظاهره . والمراد أن كل المخلوقات تسبح لله سبحانه هذا التسبيح الذي معناه التنزيه وإن كان البشر لا يسمعون ذلك ولا يفهمونه ، ويؤيد هذا قوله سبحانه : { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } فإنه لو كان المراد تسبيح الدلالة لكان أمراً مفهوماً لكل أحد ، وأجيب : بأن المراد بقوله { لاَّ تَفْقَهُونَ } الكفار الذين يعرضون عن الاعتبار . وقالت طائفة : إن هذا العموم مخصوص بالملائكة والثقلين دون الجمادات ، وقيل : خاص بالأجسام النامية فيدخل النباتات ، كما روي هذا القول عن عكرمة والحسن وخصا تسبيح النباتات بوقت نموها لا بعد قطعها .
وقد استدلّ لذلك بحديث : « أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على قبرين . . . وفيه : ثم دعا بعسيب رطب فشقه اثنين ، وقال : » إنه يخفف عنهما ما لم ييبسا « . ويؤيد حمل الآية على العموم قوله : { إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبّحْنَ بالعشى والإشراق } [ ص : 18 ] . وقوله : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله } [ البقرة : 74 ] . وقوله : { وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً } [ مريم : 90 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وثبت في الصحيح أنهم كانوا يسمعون تسبيح الطعام ، وهم يأكلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهكذا حديث حنين الجذع ، وحديث : أن حجراً بمكة كان يسلّم على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكلها في الصحيح ، ومن ذلك تسبيح الحصى في كفه صلى الله عليه وسلم ، ومدافعة عموم هذه الآية بمجرّد الاستبعادات ليس دأب من يؤمن بالله سبحانه ويؤمن بما جاء من عنده . ومعنى { إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ } إلاّ يسبح متلبساً بحمده { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } . قرأ الحسن ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وحفص ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف ( تسبح ) بالمثناة الفوقية على الخطاب ، وقرأ الباقون بالتحتية ، واختار هذه القراءة أبو عبيدة { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } فمن حلمه الإمهال لكم وعدم إنزال عقوبته عليكم ، ومن مغفرته لكم أنه لا يؤاخذ من تاب منكم . ولما فرغ سبحانه من الإلهيات شرع في ذكر بعض من آيات القرآن وما يقع من سامعيه فقال : { وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا } جعلنا بينك يا محمد وبين المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً أي : إنهم لإعراضهم عن قراءتك وتغافلهم عنك كمن بينك وبينه حجاب يمرّون بك ولا يرونك ، ذكر معناه الزجاج وغيره ، ومعنى { مستوراً } : ساتر . قال الأخفش : أراد ساتراً ، والفاعل قد يكون في لفظ المفعول كما تقول : إنك لمشئوم وميمون ، وإنما هو شائم ويامن؛ وقيل : معنى { مستوراً } : ذا ستر ، كقولهم : سيل مفعم : أي : ذو إفعام ، وقيل : هو حجاب لا تراه الأعين فهو مستور عنها ، وقيل : حجاب من دونه حجاب فهو مستور بغيره ، وقيل : المراد بالحجاب : المستور الطبع والختم . { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } الأكنة : جمع كنان . وقد تقدّم تفسيره في الأنعام ، وقيل : هو حكاية لما كانوا يقولونه ، من قولهم : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } [ البقرة : 88 ] { وفي آذننا وقر ومن بينا وبينك حجاب } [ فصلت : 5 ] . و { أَن يَفْقَهُوهُ } مفعول لأجله ، أي : كراهة أن يفقهوه ، أو لئلا يفقهوه ، أي : يفهموا ما فيه من الأوامر والنواهي والحكم والمعاني { وفي آذانهم وقرا } أي : صمماً وثقلاً ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : أن يسمعوه . ومن قبائح المشركين أنهم كانوا يحبون أن يذكر آلهتهم كما يذكر الله سبحانه ، فإذا سمعوا ذكر الله دون ذكر آلهتهم نفروا عن المجلس ، ولهذا قال الله : { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده } أي : واحداً غير مشفوع بذكر آلهتهم ، فهو مصدر وقع موقع الحال { وَلَّوْاْ على أدبارهم نُفُوراً } هو مصدر ، والتقدير : هربوا نفوراً ، أو نفروا نفوراً؛ وقيل : جمع نافر كقاعد وقعود .
والأوّل أولى . ويكون المصدر في موضع الحال أي : ولوا نافرين . { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } أي : يستمعون إليك متلبسين به من الاستخفاف بك وبالقرآن واللغو في ذكرك لربك وحده ، وقيل : الباء زائدة والظرف في { إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } متعلق ب { أعلم } أي : نحن أعلم وقت يستمعون إليك بما يستمعون به ، وفيه تأكيد للوعيد ، وقوله : { وَإِذْ هُمْ نجوى } متعلق بأعلم أيضاً ، أي : ونحن أعلم بما يتناجون به فيما بينهم وقت تناجيهم ، وقد كانوا يتناجون بينهم بالتكذيب والاستهزاء ، { يقول } بدل من { إذ هم نجوى } . { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا } أي : يقول كل منهم للآخرين عند تناجيهم : ما تتبعون إلاّ رجلاً سحر فاختلط عقله وزال عن حدّ الاعتدال . قال ابن الأعرابيّ : المسحور الذاهب العقل الذي أفسد ، من قولهم : طعام مسحور إذا أفسد عمله ، وأرض مسحورة أصابها من المطر أكثر مما ينبغي فأفسدها؛ وقيل : المسحور : المخدوع ، لأن السحر حيلة وخديعة ، وذلك لأنهم زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يتعلم من بعض الناس ، وكانوا يخدعونه بذلك التعليم . وقال أبو عبيدة : معنى { مسحوراً } أن له سحراً ، أي : رئة ، فهو لا يستغني عن الطعام والشراب فهو مثلكم ، وتقول العرب للجبان : قد انتفخ سحره ، وكل من كان يأكل من آدمي أو غيره مسحور ، ومنه قول امرىء القيس :
أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب
أي : نغذى ونعلل . قال ابن قتيبة : لا أدري ما حمله على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسرّوه بالوجوه الواضحة . { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال } أي قالوا تارة : إنك كاهن ، وتارة ساحر ، وتارة شاعر ، وتارة مجنون { فضّلواْ } عن طريق الصواب في جميع ذلك { فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } إلى الهدى أو إلى الطعن الذي تقبله العقول ويقع التصديق له لا أصل الطعن ، فقد فعلوا منه ما قدروا عليه؛ وقيل : لا يستطيعون مخرجاً لتناقض كلامهم كقولهم : ساحر مجنون .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : { إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِى العرش سَبِيلاً } قال : على أن يزيلوا ملكه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن عبد الرحمن بن قرط : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى المسجد الأقصى كان جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، فطارا به حتى بلغ السموات العلى ، فلما رجع قال : « سمعت تسبيحاً من السموات العلى مع تسبيح كثير سبحت السموات العلى من ذي المهابة مشفقات لذي العلوّ بما علا ، سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى »
وأخرج ابن مردويه عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو جالس مع أصحابه إذ سمع هدّة فقال : « أطت السماء ويحقها أن تئط ، والذي نفس محمد بيده ما فيها موضع شبر إلاّ فيه جبهة ملك ساجد يسبح بحمده » وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه؟ إن نوحاً قال لابنه : يا بني آمرك أن تقول : سبحان الله ، فإنها صلاة الخلائق ، وتسبيح الخلق ، وبها يرزق الخلق » قال الله تعالى : { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ } . وأخرج أحمد ، وابن مردويه من حديث ابن عمر نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال : ما من عبد سبّح تسبيحة إلاّ سبّح ما خلق الله من شيء ، قال الله { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ } قال ابن كثير : إسناده فيه ضعف . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قرصت نملة نبياً من الأنبياء ، فأمر بقرية النمل فأحرقت ، فأوحي الله إليه : من أجل نملة واحدة أحرقت أمة من الأمم تسبح » وأخرج النسائي ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن ابن عمرو قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع وقال : « نقيقها تسبيح » وأخرج أبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ } قال : الزرع يسبح وأجره لصاحبه ، والثوب يسبح ويقول الوسخ : إن كنت مؤمناً فاغسلني إذن . وأخرج أبو الشيخ عنه قال : كل شيء يسبح إلاّ الكلب والحمار . وأخرج ابن راهويه في مسنده من طريق الزهري قال : أتى أبو بكر بغراب وافر الجناحين ، فجعل ينشر جناحيه ويقول : ما صِيد من صيدٍ ولا عضد من شجرة إلاّ بما ضيعت من التسبيح . وأخرجه أحمد في الزهد ، وأبو الشيخ عن ميمون بن مهران قال : أتى أبو بكر الصديق فذكره من قوله غير مرفوع . وأخرجه أبو نعيم في الحلية ، وابن مردويه من حديث أبي هريرة بنحوه . وأخرج ابن مردويه من حديث ابن مسعود بمعنى بعضه . وأخرج أبو الشيخ من حديث أبي الدرداء بمعناه . وأخرج ابن عساكر من حديث أبي رهم نحوه . وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال : هذه الآية في التوراة كقدر ألف آية { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ } قال : في التوراة تسبح له الجبال ويسبح له الشجر ، ويسبح له كذا ويسبح له كذا . وأخرج أحمد ، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : صلى داود ليلة حتى أصبح ، فلما أصبح وجد في نفسه سروراً ، فنادته ضفدعة : يا داود ، كنت أدأب منك قد أغفيت إغفاء .
وأخرج البيهقي في الشعب عن صدقة بن يسار قال : كان داود في محرابه فأبصر دودة صغيرة ففكر في خلقها وقال : ما يعبأ الله بخلق هذه ، فأنطقها الله فقالت : يا داود ، أتعجبك نفسك ، لأنا على قدر ما آتاني الله أذكر لله وأشكر له منك على ما آتاك الله ، قال الله : { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ } . وفي الباب أحاديث وروايات عن السلف فيها التصريح بتسبيح جميع المخلوقات . وأخرج أبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن أسماء بنت أبي بكر قال : لما نزلت { تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ } [ المسد : 1 ] أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة ، وفي يدها فهر وهي تقول :
مذمماً أبينا ... ودينه قلينا وأمره عصينا
ورسول الله جالس وأبو بكر إلى جنبه ، فقال أبو بكر : لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك ، فقال : إنها لن تراني ، وقرأ قرآناً اعتصم به كما قال تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا } فجاءت حتى قامت على أبي بكر فلم ترَ النبيّ فقالت : يا أبا بكر بلغني أن صاحبك هجاني ، فقال أبو بكر : لا وربّ هذا البيت ما هجاك ، فانصرفت وهي تقول : قد علمت قريش أني بنت سيدها ، وقد رويت هذه القصة بألفاظ مختلفة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا } قال : الحجاب المستور : أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به ، أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم . وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد في الآية قال : ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن على المشركين بمكة سمعوا قراءته ولا يرونه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وَلَّوْاْ على أدبارهم نُفُوراً } قال : الشياطين . وأخرج ابن مردويه عنه في قوله : { إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } قال : عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل .
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
لما فرغ سبحانه من حكاية شبه القوم في النبوّات حكى شبهتهم في أمر المعاد فقال : { وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا } والاستفهام ، للاستنكار والاستبعاد . وتقرير الشبهة : أن الإنسان إذا مات جفت عظامه وتناثرت وتفرقت في جوانب العالم ، واختلطت بسائطها بأمثالها من العناصر ، فكيف يعقل بعد ذلك اجتماعها بأعيانها ، ثم عود الحياة إلى ذلك المجموع ، فأجاب سبحانه عنهم بأن إعادة بدن الميت إلى حال الحياة أمر ممكن ، ولو فرضتم أن بدنه قد صار أبعد شيء من الحياة ومن رطوبة الحي كالحجارة والحديد ، فهو كقول القائل : أتطمع فيّ وأنا ابن فلان؟ فيقول : كن ابن السلطان أو ابن من شئت فسأطلب منك حقي . والرفات : ما تكسر وبلى من كلّ شيء كالفتات والحطام والرضاض ، قاله أبو عبيدة ، والكسائي ، والفراء ، والأخفش . تقول منه : رفت الشيء رفتاً ، أي : حطم فهو مرفوت . وقيل : الرفات : الغبار ، وقيل : التراب { أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } كرّر الاستفهام الدالّ على الاستنكار والاستبعاد؛ تأكيداً وتقريراً ، والعامل في « إذا » هو ما دلّ عليه { لمبعوثون } ، لا هو نفسه ، لأن ما بعد إنّ والهمزة واللام لا يعمل فيما قبلها ، والتقدير : { ءإذا كنا عظاماً ورفاتاً } نبعث { ءإنا لمبعوثون } ، وانتصاب { خلقاً } على المصدرية من غير لفظه ، أو على الحال ، أي : مخلوقين ، و { جديداً } صفة له . { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً . أَوْ خَلْقًا } آخر { مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ } قال ابن جرير : معناه : إن عجبتم من إنشاء الله لكم عظاماً ولحماً فكونوا أنتم حجارة أو حديداً إن قدرتم على ذلك ، وقال علي بن عيسى : معناه : إنكم لو كنتم حجارة أو حديداً لم تفوتوا الله عزّ وجلّ إذا أرادكم . إلاّ أنه خرج مخرج الأمر لأنه أبلغ في الإلزام؛ وقيل : معناه : لو كنتم حجارة أو حديداً لأعادكم كما بدأكم ولأماتكم ثم أحياكم ، قال النحاس : وهذا قول حسن ، لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة أو حديداً ، وإنما المعنى : أنهم قد أقرّوا بخالقهم وأنكروا البعث ، فقيل لهم : استشعروا أن تكونوا ما شئتم ، فلو كنتم حجارة أو حديداً لبعثتم كما خلقتم أوّل مرة . قلت : وعلى هذا الوجه قررنا جواب الشبهة قبل هذا . { أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ } أي : يعظم عندكم مما هو أكبر من الحجارة والحديد مباينة للحياة فإنكم مبعوثون لا محالة ، وقيل : المراد به السموات والأرض والجبال لعظمها في النفوس . وقال جماعة من الصحابة والتابعين : المراد به الموت ، لأنه ليس شيء أكبر في نفس ابن آدم منه . والمعنى : لو كنتم الموت لأماتكم الله ثم بعثكم . ولا يخفى ما في هذا من البعد ، فإن معنى الآية : الترقي من الحجارة إلى الحديد ، ثم من الحديد إلى ما هو أكبر في صدور القوم منه ، والموت نفسه ليس بشيء يعقل ويحسّ حتى يقع الترقي من الحديد إليه { فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا } إذا كنا عظاماً ورفاتاً ، أو حجارة أو حديداً مع ما بين الحالتين من التفاوت .
{ قُلِ الذى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : يعيدكم الذي خلقكم واخترعكم عند ابتداء خلقكم من غير مثال سابق ولا صورة متقدّمة { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءوسِهِمُ } أي : يحركونها استهزاءً ، يقال : نغض رأسه ينغض وينغض وينغض نغضاً ونغوضاً أي : تحرك ، وأنغض رأسه حركه كالمتعجب ، ومنه قول الراجز :
أنغض نحوي رأسه : وأقنعا ... وقول الراجز الآخر :
ونغضت من هرم أسنانها ... وقال آخر :
لما رأتني أنغضت لي رأسها ... { وَيَقُولُونَ متى هُوَ } أي : البعث والإعادة استهزاء منهم وسخرية { قُلْ عسى أَن يَكُونَ قَرِيبًا } أي : هو قريب ، لأن عسى في كلام الله واجب الوقوع ، ومثله { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً } [ الأحزاب : 63 ] ، وكل ما هو آتٍ قريب { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } الظرف منتصب بفعل مضمر أي : اذكر ، أو بدل من { قريباً } ، أو التقدير : يوم يدعوكم كان ما كان ، الدعاء : النداء إلى المحشر بكلام يسمعه الخلائق ، وقيل : هو الصيحة التي تسمعونها ، فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض المحشر { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } أي : منقادين له ، حامدين لما فعله بكم ، فهو في محل نصب على الحال . وقيل : المعنى : فتستجيبون والحمد لله كما قال الشاعر :
وإني بحمد الله لا ثوب فاخر ... لبست ولا من غدرة أتقنع
وقد روي أن الكفار عند خروجهم من قبورهم يقولون : سبحانك وبحمدك؛ وقيل : المراد بالدعاء هنا البعث ، وبالاستجابة : أنهم يبعثون ، فالمعنى : يوم يبعثكم فتبعثون منقادين { وَتَظُنُّونَ إِن لبثتم إِلاَّ قَلِيلاً } أي : تظنون عند البعث أنكم ما لبثتم في قبوركم إلاّ زمناً قليلاً ، وقيل : بين النفختين ، وذلك أن العذاب يكف عن المعذبين بين النفختين ، وذلك أربعون عاماً ينامون فيها ، فلذلك { قَالُواْ مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } [ ياس : 52 ] ، وقيل : إن الدنيا تحقرت في أعينهم وقلّت حين رأوا يوم القيامة ، فقالوا هذه المقالة . { وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ التى هِىَ أَحْسَنُ } أي قل : يا محمد لعبادي المؤمنين : أن يقولو عند محاورتهم للمشركين الكلمة التي هي أحسن من غيرها من الكلام الحسن كقوله سبحانه : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ } [ العنكبوت : 46 ] . وقوله : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً } [ طه : 44 ] لأن المخاشنة لهم ربما تنفرهم عن الإجابة أو تؤدي إلى ما قال سبحانه : { وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الأنعام : 108 ] . وهذا كان قبل نزول آية السيف ، وقيل : المعنى : قل لهم يأمروا بما أمر الله وينهوا عما نهى عنه ، وقيل : هذه الآية للمؤمنين فيما بينهم خاصة ، والأوّل أولى كما يشهد به السبب الذي سنذكره إن شاء الله { إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } أي : بالفساد وإلقاء العداوة والإغراء .
قال اليزيدي : يقال نزغ بيننا أي : أفسد . وقال غيره : النزغ الإغراء { إِنَّ الشيطان كَانَ للإنسان عَدُوّا مُّبِينًا } أي : متظاهراً بالعداوة مكاشفاً بها ، وهو تعليل لما قبله ، وقد تقدّم مثل هذا في البقرة . { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ } قيل : هذا خطاب للمشركين . والمعنى : إن يشأ يوفقكم للإسلام فيرحمكم أو يميتكم عن الشرك فيعذبكم ، وقيل : هو خطاب للمؤمنين أي : { إن يشأ يرحمكم } بأن يحفظكم من الكفار { أو إن يشأ يعذبكم } بتسليطهم عليكم؛ وقيل : إن هذا تفسير لكلمة { التي هي أحسن } { وَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } أي : ما وكلناك في منعهم من الكفر ، وقسرهم على الإيمان؛ وقيل : ما جعلناك كفيلاً لهم تؤخذ بهم ، ومنه قول الشاعر :
ذكرت أبا أروى فبتّ كأنني ... بردّ الأمور الماضيات وكيل
أي : كفيل . { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السموات والارض } أعلم بهم ذاتاً وحالاً واستحقاقاً ، وهو أعمّ من قوله : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ } لأن هذا يشمل كل ما في السموات والأرض من مخلوقاته ، وذاك خاص ببني آدم أو ببعضهم ، وهذا كالتوطئة لقوله : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ } أي : إن هذا التفضيل عن علم منه بمن هو أعلى رتبة وبمن دونه ، وبمن يستحق مزيد الخصوصية بتكثير فضائله وفواضله . وقد تقدّم هذا في البقرة . وقد اتخذ الله إبراهيم خليلاً ، وموسى كليماً ، وجعل عيسى كلمته وروحه ، وجعل لسليمان ملكاً عظيماً ، وغفر لمحمد ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وجعله سيد ولد آدم . وفي هذه الآية دفع لما كان ينكره الكفار مما يحكيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ارتفاع درجته عند ربه عزّ وجلّ ، ثم ذكر ما فضل به داود ، فقال : { وَءاتَيْنَا داود زبورا } أي : كتاباً مزبوراً . قال الزجاج : أي فلا تنكروا تفضيل محمد وإعطاءه القرآن فقد أعطى الله داود زبوراً .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ورفاتا } قال : غباراً . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { ورفاتا } قال : تراباً ، وفي قوله : { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } قال : ما شئتم فكونوا ، فسيعيدكم الله كما كنتم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله : { أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ } قال : الموت ، لو كنتم موتاً لأحييتكم . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير ، والحاكم عن ابن عباس مثله . وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن الحسن مثله أيضاً . وأخرج عبد الله بن أحمد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه ، وزاد قال : فكونوا الموت إن استطعتم فإن الموت سيموت .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءوسِهِمُ } قال : سيحركونها استهزاءً . وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله : { وَيَقُولُونَ متى هُوَ } قال : الإعادة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } قال : بأمره . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية قال : يخرجون من قبورهم وهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } قال : بمعرفته وطاعته { وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي : في الدنيا ، تحاقرت الدنيا في أنفسهم ، وقلّت حين عاينوا يوم القيامة . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن سيرين في قوله : { وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ التى هِىَ أَحْسَنُ } قال : لا إله إلاّ الله . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال : يعفو عن السيئة . وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : يقول له يرحمك الله ، يغفر الله لك . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : نزغ الشيطان : تحريشه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً } قال : كنا نحدّث أنه دعاء علمه داود ، وتحميد وتمجيد لله عزّ وجلّ ليس فيه حلال ولا حرام ، ولا فرائض ولا حدود . وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال : الزبور : ثناء على الله ودعاء وتسبيح . قلت : الأمر كما قاله قتادة والربيع ، فإنا وقفنا على الزبور فوجدناه خطباً يخطبها داود عليه السلام ، ويخاطب بها ربه سبحانه عند دخوله الكنيسة ، وجملته مائة وخمسون خطبة ، كل خطبة تسمى مزموراً بفتح الميم الأولى وسكون الزاي وضم الميم الثاينة وآخره راء ، ففي بعض هذه الخطب يشكو داود على ربه من أعدائه ويستنصره عليهم ، وفي بعضها يحمد الله ويمجده ويثني عليه بسبب ما وقع من النصر عليهم والغلبة لهم ، وكان عند الخطبة يضرب بالقيثارة ، وهي آلة من آلات الملاهي . وقد ذكر السيوطي في الدرّ المنثور ها هنا روايات عن جماعة من السلف يذكرون ألفاظاً وقفوا عليها في الزبور ليس لها كثير فائدة ، فقد أغنى عنها وعن غيرها ما اشتمل عليه القرآن من المواعظ والزواجر .
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
قوله : { قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مّن دُونِهِ } هذا ردّ على طائفة من المشركين كانوا يعبدون تماثيل على أنها صور الملائكة ، وعلى طائفة من أهل الكتاب كانوا يقولون بإلهية عيسى ومريم وعزير ، فأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم : ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله؛ وقيل : أراد ب { الذين زعمتم } نفراً من الجن عندهم ناس من العرب ، وإنما خصصت الآية بمن ذكرنا لقوله : { يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة } ، فإن هذا لا يليق بالجمادات { فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ } أي : لا يستطيعون ذلك ، والمعبود الحق هو الذي يقدر على كشف الضرّ ، وعلى تحويله من حال إلى حال ، ومن مكان إلى مكان ، فوجب القطع بأن هذه التي تزعمونها آلهة ليست بآلهة ، ثم إنه سبحانه أكد عدم اقتدارهم ببيان غاية افتقارهم إلى الله في جلب المنافع ودفع المضارّ ، فقال : { أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة } ف { أولئك } مبتدأ { والذين يدعون } صفته ، وضمير الصلة محذوف أي : يدعونهم ، وخبر المبتدأ : { يبتغون إلى ربهم الوسيلة } ، ويجوز أن يكون { الذين يدعون } خبر المبتدأ أي : الذين يدعون عباده إلى عبادتهم ، ويكون { يبتغون } في محل نصب على الحال . وقرأ ابن مسعود ( تدعون ) بالفوقية على الخطاب . وقرأ الباقون بالتحتية على الخبر؛ ولا خلاف في { يبتغون } أنه بالتحتية . و { الوسيلة } : القربة بالطاعة والعبادة أي : يتضرّعون إلى الله في طلب ما يقربهم إلى ربهم ، والضمير في ربهم يعود إلى العابدين أو المعبودين { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } مبتدأ وخبر . قال الزجاج : المعنى أيهم أقرب بالوسيلة إلى الله أي : يتقرّب إليه بالعمل الصالح ، ويجوز أن يكون بدلاً من الضمير في { يبتغون } أي : يبتغي من هو أقرب إليه تعالى الوسيلة ، فكيف بمن دونه؟ وقيل : إن يبتغون مضمن معنى يحرصون أي : يحرصون أيهم أقرب إليه سبحانه بالطاعة والعبادة { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ } كما يرجوها غيرهم { ويخافون عَذَابَهُ } كما يخافه غيرهم { إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا } تعليل قوله { يخافون عذابه } أي : إن عذابه سبحانه حقيق بأن يحذره العباد من الملائكة والأنبياء وغيرهم . ثم بيّن سبحانه مآل الدنيا وأهلها فقال : { وَإِن مّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة } « إن » نافية ، و « من » للاستغراق أي : ما من قرية ، أيّ قرية كانت من قرى الكفار . قال الزجاج : أي ما من أهل قرية إلاّ سيهلكون إما بموت وإما بعذاب يستأصلهم ، فالمراد بالقرية : أهلها ، وإنما قيل : { قبل يوم القيامة } لأن الإهلاك يوم القيامة غير مختص بالقرى الكافرة ، بل يعم كل قرية لانقضاء عمر الدنيا؛ وقيل : الإهلاك للصالحة والتعذيب للطالحة ، والأوّل أولى لقوله :
{ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون } [ القصص : 59 ] . { كَانَ ذَلِكَ } المذكور من الإهلاك ، والتعذيب { فِى الكتاب } أي : اللوح المحفوظ { مَسْطُورًا } أي : مكتوباً ، والسطر الخط وهو في الأصل مصدر ، والسطر بالتحريك مثله . قال جرير :
من شاء بايعته مالي وخلعته ... ما يكمل التيم في ديوانهم سطرا
والخلفة بضم الخاء : خيار المال ، والسطر : جمع أسطار ، وجمع السطر بالسكون أسطر . { وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالأيات وَلاَ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون } قال المفسرون : إن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن ينحي عنهم جبال مكة ، فأتاه جبريل فقال : إن شئت كان ما سأل قومك ، ولكنهم إن لم يؤمنوا بها يمهلوا وإن شئت استأنيت بهم ، فأنزل الله هذه الآية . والمعنى : وما منعنا من إرسال الآيات التي سألوها إلاّ تكذيب الأوّلين ، فإن أرسلناها وكذب بها هؤلاء عوجلوا ولم يمهلوا كما هو سنّة الله سبحانه في عباده ، فالمنع مستعار للترك ، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأشياء ، أي : ما تركنا إرسالها لشيء من الأشياء إلاّ تكذيب الأوّلين ، فإن كذب بها هؤلاء كما كذب بها أولئك لاشتراكهم في الكفر والعناد حلّ بهم ما حلّ بهم ، و «أن» الأولى في محل نصب وبإيقاع المنع عليها ، و «أن» الثانية في محل رفع ، والباء في { بالآيات } زائدة . والحاصل : أن المانع من إرسال الآيات التي اقترحوها هو أن الاقتراح مع التكذيب موجب للهلاك الكلي وهو الاستئصال ، وقد عزمنا على أن نؤخر أمر من بعث إليهم محمد إلى يوم القيامة؛ وقيل : معنى الآية : إن هؤلاء الكفار من قريش ونحوهم مقلدون لآبائهم فلا يؤمنون ألبتة كما لم يؤمن أولئك ، فيكون إرسال الآيات ضائعاً ، ثم إنه سبحانه استشهد على ما ذكر بقصة صالح وناقته ، فإنهم لما اقترحوا عليه ما اقترحوا من الناقة وصفتها التي قد بينت في محل آخر ، وأعطاهم الله ما اقترحوا فلم يؤمنوا استؤصلوا بالعذاب . وإنما خصّ قوم صالح بالاستشهاد ، لأن آثار إهلاكهم في بلاد العرب قريبة من قريش وأمثالهم يبصرها صادرهم وواردهم فقال : { وآتينا ثمود الناقة مبصرة } أي : ذات إبصار يدركها الناس بأبصارهم كقوله : { وجعلنا آية النهار مبصرة } [ الإسراء : 12 ] أو أسند إليها حال من يشاهدها مجازاً ، أو أنها جعلتهم ذوي إبصار ، من أبصره جعله بصيراً . وقرىء على صيغة المفعول . وقرىء بفتح الميم والصاد وانتصابها على الحال . وقرىء برفعها على أنها خبر مبتدأ محذوف ، والجملة معطوفة على محذوف يقتضيه سياق الكلام أي : فكذبوها وآتينا ثمود الناقة ، ومعنى { فَظَلَمُواْ بِهَا } فظلموا بتكذيبها أو على تضمين ظلموا معنى جحدوا أو كفروا أي : فجحدوا بها أو كفروا بها ظالمين ولم يكتفوا بمجرد الكفر أو الجحد { وَمَا نُرْسِلُ بالأيات إِلاَّ تَخْوِيفًا } اختلف في تفسير { بالآيات } على وجوه : الأوّل : أن المراد بها العبر والمعجزات التي جعلها الله على أيدي الرسل من دلائل الإنذار تخويفاً للمكذبين؛ الثاني : أنها آيات الانتقام تخويفاً من المعاصي؛ الثالث : تقلب الأحوال من صغر إلى شباب ثم إلى تكهل ثم إلى شيب ، ليعتبر الإنسان بتقلب أحواله فيخاف عاقبة أمره؛ الرابع آيات القرآن ، الخامس : الموت الذريع ، والمناسب للمقام أن تفسر الآيات المذكورة بالآيات المقترحة ، أي : لا نرسل الآيات المقترحة إلا تخويفاً من نزول العذاب ، فإن لم يخافوا وقع عليهم .
والجملة مستأنفة لا محل لها ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير ظلموا بها أي : فظلموا بها ، ولم يخافوا ، والحال أنّ ما نرسل بالآيات التي هي من جملتها إلاّ تخويفاً . قال ابن قتيبة : وما نرسل بالآيات المقترحة إلاّ تخويفاً من نزول العذاب العاجل . ولما ذكر سبحانه الامتناع من إرسال الآيات المقترحة على رسوله للصارف المذكور ، قوي قلبه بوعد النصر والغلبة فقال : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس } الظرف متعلق بمحذوف ، أي : اذكر إذ قلنا لك ، أي : أنهم في قبضته وتحت قدرته ، فلا سبيل لهم إلى الخروج مما يريده بهم لإحاطته لهم بعلمه وقدرته ، وقيل : المراد بالناس : أهل مكة ، وإحاطته بهم إهلاكه إياههم أي : إن الله سيهلكهم ، وعبر بالماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه ، وذلك كما وقع يوم بدر ويوم الفتح ، وقيل : المراد أنه سبحانه عصمه من الناس أن يقتلوه حتى يبلّغ رسالة ربه { وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التى أريناك إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ } لما بين سبحانه أن إنزال الآيات يتضمن التخويف ضمّ إليه ذكر آية الإسراء ، وهي المذكورة في صدر السورة ، وسماها رؤيا لأنها وقعت بالليل ، أو لأن الكفرة قالوا لعلها رؤيا ، وقد قدّمنا في صدر السورة وجهاً آخر في تفسير هذه الرؤيا ، وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسري به ، وقيل : كانت رؤيا نوم ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أنه يدخل مكة فافتتن المسلمون لذلك ، فلما فتح الله مكة نزل قوله تعالى : { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق } [ الفتح : 27 ] وقد تعقب هذا بأن هذه الآية مكية ، والرؤيا المذكورة كانت بالمدينة ، وقيل : إن هذه الرؤيا المذكورة في هذه الآية هي أنه رأى بني مروان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك ، فقيل : إنما هي الدنيا أعطوها فسرّي عنه ، وفيه ضعف ، فإنه لا فتنة للناس في هذه الرؤيا إلاّ أن يراد بالناس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده ، ويراد بالفتنة ما حصل من المساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو يحمل على أنه قد كان أخبر الناس بها فافتتنوا ، وقيل : إن الله سبحانه أراه في المنام مصارع قريش حتى قال : « والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم » ، وهو يومىء إلى الأرض ويقول : « هذا مصرع فلان ، هذا مصرع فلان » فلما سمع قريش ذلك جعلوا رؤياه سخرية .
{ والشجرة الملعونة فِى القرءان } عطف على الرؤيا ، قيل : وفي الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلاّ فتنة للناس . قال جمهور المفسرين : وهي شجرة الزقوم ، والمراد بلعنها لعن آكلها كما قال سبحانه : { إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم } [ الدخان : 43 - 44 ] . وقال الزجاج : إن العرب تقول : لكل طعام مكروه : ملعون ، ومعنى الفتنة فيها : أن أبا جهل وغيره قالوا : زعم صاحبكم أن نار جهنم تحرق الحجر ، ثم يقول : ينبت فيها الشجر ، فأنزل الله هذه الآية . وروي أن أبا جهل أمر جارية فأحضرت تمراً وزبداً وقال لأصحابه : تزقموا . وقال ابن الزبعري : كثر الله من الزقوم في داركم ، فإنه التمر بالزبد بلغة اليمن ، وقيل : إن الشجرة الملعونة : هي الشجرة التي تلتوي على الشجر فتقتلها ، وهي شجرة الكشوث؛ وقيل : هي الشيطان؛ وقيل : اليهود؛ وقيل : بنو أمية { وَنُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا } أي : نخوّفهم بالآيات فما يزيدهم التخويف إلاّ طغياناً متجاوزاً للحد ، متمادياً غاية التمادي ، فما يفيدهم إرسال الآيات إلاّ الزيادة في الكفر ، فعند ذلك نفعل بهم ما فعلناه بمن قبلهم من الكفار ، وهو عذاب الاستئصال ، ولكنا قد قضينا بتأخير العقوبة .
وقد أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، والبخاري ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود في قوله : { قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً } قال : كان نفر من الإنس يعبدون نفراً من الجن فأسلم النفر من الجنّ وتمسك الإنسيون بعبادتهم ، فأنزل الله { أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة } كلاهما ، يعني : الفعلين بالياء التحتية ، وروي نحو هذا عن ابن مسعود من طرق أخرى . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : كان أهل الشرك يعبدون الملائكة والمسيح وعزيراً . وروي عنه من وجه آخر بلفظ عيسى وأمه وعزير . وروي عنه أيضاً من وجه آخر بلفظ هم : عيسى وعزير ، والشمس والقمر . وأخرج الترمذي ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سلوا الله لي الوسيلة ، قالوا وما الوسيلة؟ قال القرب من الله ، ثم قرأ { يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } " وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم التيمي في قوله : { كَانَ ذلك فِى الكتاب مَسْطُورًا } قال : في اللوح المحفوظ . وأخرج أحمد ، والنسائي ، والبزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : «سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً ، وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا ، فقيل له : إن شئت أن تستأني بهم وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا ، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم من الأمم ، قال : " لا بل أستأني بهم " ، فأنزل الله { وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالايات } " الآية .
وأخرج أحمد ، والبيهقي من طريق أخرى عنه نحوه . وأخرج البيهقي في الدلائل عن الربيع بن أنس قال : قال الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو جئتنا بآية كما جاء بها صالح والنبيّون؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن شئتم دعوت الله فأنزلها عليكم ، فإن عصيتم هلكتم » ، فقالوا : لا نريدها . وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس { وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفًا } قال : الموت . وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد في الزهد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن الحسن قال : هو الموت الذريع . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس } قال : عصمك من الناس . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : فهم في قبضته . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وأحمد ، والبخاري ، والترمذي ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { وَمَا جَعَلْنَا الرءيا } الآية قال : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس ، وليست برؤيا منام { والشجرة الملعونة فِى القرءان } قال : هي شجرة الزقوم . وأخرج أبو سعيد ، وأبو يعلى ، وابن عساكر عن أم هانىء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أسري به أصبح يحدّث نفراً من قريش وهم يستهزئون به ، فطلبوا منه آية فوصف لهم بيت المقدس ، وذكر لهم قصة العير ، فقال الوليد بن المغيرة : هذا ساحر ، فأنزل الله إليه { وَمَا جَعَلْنَا الرءيا } الآية . وأخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكاً حتى مات . فأنزل الله { وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التى أريناك إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ } . قال ابن كثير بعد أن ساق إسناده : وهذا السند ضعيف جداً . وذكر من جملة رجال السند محمد بن الحسن بن زبالة وهو متروك وشيخه عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد ضعيف جداً . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
« رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة ، فأنزل الله { وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التى أريناك إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ والشجرة الملعونة } » يعني : الحكم وولده . وأخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رأيت بني أمية على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء » ، واهتمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك ، فأنزل الله الآية . وأخرج ابن مردويه عن الحسين بن عليّ نحوه مرفوعاً وهو مرسل . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي ، وابن عساكر عن سعيد بن المسيب نحوه وهو مرسل . وأخرج ابن مردويه عن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبيك وجدّك : « إنكم الشجرة الملعونة في القرآن » وفي هذا نكارة ، لقولها : يقول لأبيك وجدّك ، ولعل جدّ مروان لم يدرك زمن النبوّة . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أنه دخل مكة هو وأصحابه ، وهو يومئذٍ بالمدينة فسار إلى مكة قبل الأجل فردّه المشركون ، فقال ناس : قد ردّ ، وقد كان حدّثنا أنه سيدخلها ، فكانت رجعته فتنتهم . وقد تعارضت هذه الأسباب ، ولم يمكن الجمع بينها فالواجب المصير إلى الترجيح ، والراجح كثرة وصحة هو كون سبب نزول هذه الآية قصة الإسراء فيتعين ذلك . وقد حكى ابن كثير إجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك في الرؤيا ، وفي تفسير الشجرة وأنها شجرة الزقوم ، فلا اعتبار بغيرهم معهم . وأخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال : قال أبو جهل لما ذكر رسول الله شجرة الزقوم تخويفاً لهم : يا معشر قريش هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد؟ قالوا لا ، قال : عجوة يثرب بالزبد . والله لئن استمكنا منها لنزقمنها تزقماً . قال الله سبحانه : { إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم } [ الدخان : 43 44 ] ، وأنزل { والشجرة الملعونة فِى القرءان } الآية . وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { والشجرة الملعونة } قال : ملعونة لأنه قال : { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ الشياطين } [ الصافات : 65 ] . والشياطين ملعونون .
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
لما ذكر سبحانه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في بلية عظيمة من قومه ومحنة شديدة ، أراد أن يبين أن جميع الأنبياء كانوا كذلك ، حتى أن هذه عادة قديمة ، سنها إبليس اللعين ، وأيضاً لما ذكر أن الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ذكر ها هنا ما يحقق ذلك فقال : { وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ } هذه القصة قد ذكرها الله سبحانه في سبعة مواضع : في البقرة ، والأعراف ، والحجر ، وهذه السورة ، والكهف ، وطه ، وص ، وقد تقدّم تفسيرها مبسوطاً فلنقتصر ها هنا على تفسير ما لم يتقدّم ذكره من الألفاظ ، فقوله : { طِينًا } منتصب بنزع الخافض ، أي : من طين ، أو على الحال . قال الزجاج : المعنى لمن خلقته طيناً ، وهو منصوب على الحال . { أَرَءيْتَكَ } أي : أخبرني عن هذا الذي فضلته عليّ لم فضلته؟ وقد { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الاعراف : 12 ] فحذف هذا للعلم به { لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ } أي : لأستولينّ عليهم بالإغواء والإضلال . قال الواحدي : أصله من احتناك الجراد الزرع ، وهو أن تستأصله بأحناكها وتفسده ، هذا هو الأصل ، ثم سمي الاستيلاء على الشيء وأخذه كله احتناكاً؛ وقيل معناه : لأسوقنّهم حيث شئت ، وأقودنّهم حيث أردت ، من قولهم : حنكت الفرس أحنكه حنكاً : إذا جعلت في فيه الرسن ، والمعنى الأوّل أنسب بمعنى هذه الآية ، ومنه قول الشاعر :
أشكو إليك سنة قد أجحفت ... جهدا إلى جهد بنا وأضعفت
واحتنكت أموالنا واختلفت ... أي : استأصلت أموالنا ، واللام في { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ } هي الموطئة ، وإنما أقسم اللعين هذا القسم على أنه سيفعل بذرية آدم ما ذكره لعلم قد سبق إليه من سمع استرقه ، أو قاله لما ظنه من قوة نفوذ كيده في بني آدم ، وأنه يجري منهم في مجاري الدم ، وأنهم بحيث يروج عندهم كيده وتنفق لديهم وسوسته إلاّ من عصم الله ، وهم المرادون بقوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } وفي معنى هذا الاستثناء قوله سبحانه : { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان } ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } [ سبأ : 20 ] . فإنه يفيد أنه قال ما قاله هنا اعتماداً على الظن ، وقيل : إنه استنبط ذلك من قول الملائكة { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } [ البقرة : 30 ] ، وقيل : علم ذلك من طبع البشر لما ركب فيهم من الشهوات ، أو ظنّ ذلك لأنه وسوس لآدم ، فقبل منه ذلك ولم يجد له عزماً ، كما روي عن الحسن . { قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } أي : أطاعك { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ } أي : إبليس ومن أطاعه { جَزَاء مَّوفُورًا } أي : وافراً مكملاً ، يقال : وفرته أفره وفراً ، ووفر المال بنفسه يفر وفوراً ، فهو وافر ، فهو مصدر ، ومنه قول زهير :
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتّقي الشتم يشتم
ثم كرّر سبحانه الإمهال لإبليس اللعين فقال : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } أي : استزعج واستخف من استطعت من بني آدم ، يقال : أفزه واستفزه أي : أزعجه واستخفه ، والمعنى : أستخفهم بصوتك داعياً لهم إلى معصية الله ، وقيل : هو الغناء واللهو واللعب والمزامير { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } قال الفراء وأبو عبيدة : أجلب من الجلبة والصياح ، أي : صح عليهم . وقال الزجاج أي : أجمع عليهم كل ما تقدر من مكايدك . فالإجلاب : الجمع . والباء في { بخيلك } زائدة . وقال ابن السكيت : الإجلاب : الإعانة ، والخيل تقع على الفرسان كقوله صلى الله عليه وسلم : «يا خيل الله اركبي» ، وتقع على الأفراس ، والرجل بسكون الجيم : جمع رجل كتاجر وتجر ، وصاحب وصحب . وقرأ حفص بكسر الجيم على أنه صفة . قال أبو زيد : يقال : رجل ورجل ، بمعنى راجل ، فالخيل والرجل كناية عن جميع مكايد الشيطان ، أو المراد كل راكب وراجل في معصية الله . { وَشَارِكْهُمْ فِى الأموال والأولاد } أما المشاركة في الأموال ، فهي : كل تصرف فيها يخالف وجه الشرع سواء كان أخذاً من غير حق ، أو وضعاً في غير حق كالغصب والسرقة والربا ، ومن ذلك تبتيك آذان الأنعام وجعلها بحيرة وسائبة ، والمشاركة في الأولاد : دعوى الولد بغير سبب شرعي ، وتحصيله بالزنا وتسميتهم بعبد اللات وعبد العزى ، والإساءة في تربيتهم على وجه يألفون فيه خصال الشر وأفعال السوء ويدخل فيه ما قتلوا من أولادهم خشية إملاق ، ووأد البنات وتصيير أولادهم على الملة الكفرية التي هم عليها ، ومن ذلك مشاركة الشيطان للمجامع إذا لم يسم ، ثم قال : { وعدهُمْ } قال الفراء : قل لهم : لا جنة ولا نار . وقال الزجاج : وعدهم بأنهم لا يبعثون { وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } أي : باطلاً ، وأصل الغرور : تزيين الخطأ بما يوهم الصواب؛ وقيل معناه : وعدهم النصرة على من خالفهم ، وهذه الأوامر للشيطان من باب التهديد والوعيد الشديد ، وقيل : هي على طريقة الاستخفاف به وبمن تبعه . { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان } يعني : عباده المؤمنين كما في غير هذا الموضع من الكتاب العزيز من أن إضافة العباد إليه يراد بها المؤمنون لما في الإضافة من التشريف ، وقيل : المراد جميع العباد بدليل الاستثناء بقوله في غير هذا الموضع { إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } [ الحجر : 42 ] والمراد بالسلطان : التسلط { وكفى بِرَبّكَ وَكِيلاً } يتوكلون عليه ، فهو الذي يدفع عنهم كيد الشيطان ويعصمهم من إغوائه .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قال إبليس إن آدم خلق من تراب من طين ، خلق ضعيفاً وإني خلقت من نار ، والنار تحرق كل شيء { لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً } فصدق ظنّه عليهم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه { لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ } قال : لأستولينّ .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد { لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ } قال : لأحتوينّهم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : لأضلنّهم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد { مَّوفُورًا } قال : وافراً . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } قال : صوته : كل داع دعا إلى معصية الله { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ } قال : كل راكب في معصية الله { وَرَجِلِكَ } قال : كل راجل في معصية الله { وَشَارِكْهُمْ فِى الأموال } قال : كل مال في معصية الله { والأولاد } قال : كل ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم الحرام . وأخرج الفريابي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه في الآية قال : كل خيل تسير في معصية الله ، وكل مال أخذ بغير حقه ، وكل ولد زنا . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : { الأموال } ما كانوا يحرّمون من أنعامهم { والأولاد } أولاد الزنا . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال : { الأموال } البحيرة والسائبة والوصيلة لغير الله { والأولاد } سموا عبد الحارث وعبد شمس .
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
قوله : { رَّبُّكُمُ الذى يُزْجِى لَكُمُ الفلك فِى البحر } الإزجاء : السوق والإجراء والتسيير ، ومنه قوله سبحانه { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِى سَحَاباً } [ النور : 43 ] . وقول الشاعر :
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... سائل بني أسد : ما هذه الصور
وقول الآخر :
عوذا تزجي خلفها أطفالها ... والمعنى : أن الله سبحانه يسيّر الفلك في البحر بالريح ، والفلك ها هنا جمع ، وقد تقدّم ، والبحر هو الماء الكثير عذباً كان أو مالحاً ، وقد غلب هذا الاسم على المشهور { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي : من رزقه الذي تفضل به على عباده ، أو من الربح بالتجارة ، و « من » زائدة أو للتبعيض ، وفي هذه الآية تذكير لهم بنعم الله سبحانه عليهم حتى لا يعبدوا غيره ولا يشركوا به أحداً ، وجملة : { إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } تعليل لما تقدّم أي : كان بكم رحيماً فهداكم إلى مصالح دنياكم . { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر } يعني : خوف الغرق { فِى البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ } من الآلهة وذهب عن خواطركم ، ولم يوجد لإغاثتكم ما كنتم تدعون من دونه من صنم ، أو جنّ ، أو ملك ، أو بشر { إِلاَّ إِيَّاهُ } وحده فإنكم تعقدون رجاءكم برحمته وإغاثته ، والاستثناء منقطع ، ومعنى الآية : أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم وسائر معبوداتهم أنها نافعة لهم في غير هذه الحالة ، فأما في هذه الحالة فإن كل واحد منهم يعلم بالفطرة علماً لا يقدر على مدافعته أن الأصنام ونحوها لا فعل لها { فَلَمَّا نجاكم إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ } عن الإخلاص لله وتوحيده ورجعتم إلى دعاء أصنامكم والاستغاثة بها { وَكَانَ الإنسان كَفُورًا } أي : كثير الكفران لنعمة الله ، وهو تعليل لما تقدّمه ، والمعنى : أنهم عند الشدائد يتمسكون برحمة الله ، وفي الرخاء يعرضون عنه . ثم أنكر سبحانه عليهم سوء معاملتهم قائلاً : { أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر } الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره : أنجوتم فأمنتم فحملكم ذلك على الإعراض ، فبين لهم أنه قادر على هلاكهم في البرّ وإن سلموا من البحر . والخسف أن تنهار الأرض بالشيء ، يقال : بئر خسيف إذا انهدم أصلها ، وعين خاسف : أي . غائرة حدقتها في الرأس ، وخسفت عين الماء : إذا غار ماؤها ، وخسفت الشمس : إذا غابت عن الأرض ، و { جانب البرّ } ناحية الأرض ، وسماه جانباً ، لأنه يصير بعد الخسف جانباً ، وأيضاً فإن البحر جانب من الأرض والبرّ جانب؛ وقيل : إنهم كانوا على ساحل البحر ، وساحله جانب البرّ فكانوا فيه آمنين من مخاوف البحر ، فحذرهم ما أمنوه من البرّ كما حذرهم ما خافوه من البحر { أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } قال أبو عبيدة والقتيبي : الحصب : الرمي أي : ريحاً شديدة حاصبة ، وهي التي ترمي بالحصى الصغار .
وقال الزجاج : الحاصب : التراب الذي فيه حصباء ، فالحاصب : ذو الحصباء كاللابن ، والتامر؛ وقيل : الحاصب : حجارة من السماء تحصبهم كما فعل بقوم لوط ، ويقال للسحابة التي ترمي بالبرد : حاصب ، ومنه قول الفرزدق :
مستقبلين جبال الشام تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور
{ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً } أي : حافظاً ونصيراً يمنعكم من بأس الله . { أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أخرى } أي : في البحر مرة أخرى بأن يقوي دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى ركوبه ، وجاء بفي ولم يقل إلى البحر ، للدلالة على استقرارهم فيه { فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مّنَ الريح } القاصف : الريح الشديدة التي تكسر بشدّة ، من قصف الشيء يقصفه أي : كسره بشدّة ، والقصف : الكسر ، أو هو الريح التي لها قصيف أي : صوت شديد من قولهم رعد قاصف أي : شديد الصوت { فَيُغْرِقَكُم } قرأ أبو جعفر ، وشيبة ، ورويس ، ومجاهد ( فتغرقكم ) بالتاء الفوقية على أن فاعله الريح . وقرأ الحسن وقتادة ، وابن وردان ( فيغرقكم ) بالتحتية والتشديد في الراء . وقرأ أبو جعفر أيضاً ( الرياح ) . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنون في جميع هذه الأفعال . وقرأ الباقون بالياء التحتية في جميعها أيضاً ، والباء في { بما كفرتم } للسببية أي : بسبب كفركم { ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا } أي : ثائراً يطالبنا بما فعلنا . قال الزجاج : لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم . قال النحاس : وهو من الثأر ، وكذا يقال لكل من طلب بثأر أو غيره تبيع وتابع . { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ } هذا إجمال لذكر النعمة التي أنعم الله بها على بني آدم أي : كرّمناهم جميعاً ، وهذه الكرامة يدخل تحتها خلقهم على هذه الهيئة الحسنة وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس على وجه لا يوجد لسائر أنواع الحيوان مثله . وحكى ابن جرير عن جماعة أن هذا التكريم هو أنهم يأكلون بأيديهم ، وسائر الحيوانات تأكل بالفم ، وكذا حكاه النحاس . وقيل : ميزهم بالنطق والعقل والتمييز ، وقيل : أكرم الرجال باللحى والنساء بالذوائب . وقال ابن جرير : أكرمهم بتسليطهم على سائر الخلق وتسخير سائر الخلق لهم ، وقيل : بالكلام والخط والفهم ، ولا مانع من حمل التكريم المذكور في الآية على جميع هذه الأشياء . وأعظم خصال التكريم العقل ، فإن به تسلطوا على سائر الحيوانات ، وميزوا بين الحسن والقبيح ، وتوسعوا في المطاعم والمشارب ، وكسبوا الأموال التي تسببوا بها إلى تحصيل أمور لا يقدر عليها الحيوان ، وبه قدروا على تحصيل الأبنية التي تمنعهم مما يخافون ، وعلى تحصيل الأكسية التي تقيهم الحرّ والبرد ، وقيل تكريمهم : هو أن جعل محمداً صلى الله عليه وسلم منهم { وحملناهم فِى البر والبحر } هذا تخصيص لبعض أنواع التكريم ، حملهم سبحانه في البرّ على الدواب ، وفي البحر على السفن ، وقيل : حملناهم فيهما حيث لم نخسف بهم ولم نغرقهم { وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات } أي : لذيذ المطاعم والمشارب وسائر ما يستلذونه وينتفعون به { وفضلناهم على كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } أجمل سبحانه هذا الكثير ولم يبين أنواعه فأفاد ذلك أن بني آدم فضلهم سبحانه على كثير من مخلوقاته .
وقد جعل بعض أهل العلم الكثير هنا بمعنى الجميع وهو تعسف لا حاجة إليه .
وقد شغل كثير من أهل العلم بما لم تكن إليه حاجة ولا تتعلق به فائدة ، وهو مسألة تفضيل الملائكة على الأنبياء أو الأنبياء على الملائكة ، ومن جملة ما تمسك به مفضلو الأنبياء على الملائكة هذه الآية ، ولا دلالة لها على المطلوب لما عرفت من إجمال الكثير وعدم تبيينه ، والتعصب في هذه المسألة هو الذي حمل بعض الأشاعرة على تفسير الكثير هنا بالجميع حتى يتم له التفضيل على الملائكة ، وتمسك بعض المعتزلة بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء . ولا دلالة بها على ذلك ، فإنه لم يقم دليل على أن الملائكة من القليل الخارج عن هذا الكثير ، ولو سلمنا ذلك فليس فيما خرج عن هذا الكثير ما يفيد أنه أفضل من بني آدم ، بل غاية ما فيه أنه لم يكن الإنسان مفضلاً عليه . فيحتمل أن يكون مساوياً للإنسان ، ويحتمل أن يكون أفضل منه ، ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال ، والتأكيد بقوله : { تَفْضِيلاً } يدل على عظم هذا التفضيل وأنه بمكان مكين ، فعلى بني آدم أن يتلقوه بالشكر ويحذروا من كفرانه .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { يُزْجِى } قال : يجري ، وأخرجوا عن قتادة قال : يسيرها في البحر . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { حاصبا } قال : مطر الحجارة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة قال : حجارة من السماء . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس { قَاصِفًا مّنَ الريح } قال : التي تغرق . وأخرج أبو عبيد ، وابن المنذر ، عن عبد الله بن عمرو قال : القاصف والعاصف في البحر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { قَاصِفًا } قال : عاصفاً ، وفي قوله : { ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا } قال : نصيراً . وأخرج الطبراني ، والبيهقي في الشعب ، والخطيب في تاريخه عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم قيل : يا رسول الله ولا الملائكة؟ قال : ولا الملائكة ، الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر » ، وأخرجه البيهقي من وجه آخر عن ابن عمرو موقوفاً قال : وهو الصحيح . وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال : المؤمن أكرم على الله من ملائكته . وأخرج الطبراني عن ابن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
« إن الملائكة قالت : يا رب أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو ، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة ، قال : لا أجعل صالح ذرّية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان » وأخرجه عبد الرزاق ، وابن جرير عن زيد بن أسلم قال : قالت الملائكة . وإسناد الطبراني هكذا : حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي ، حدّثنا إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي ، حدّثنا حجاج بن محمد ، حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف ، عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره . وأخرج ابن عساكر من طريق عروة بن رويم قال : حدثني أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحو حديث ابن عمرو الأول مع زيادة . وأخرج نحوه البيهقي أيضاً في الأسماء والصفات من وجه آخر عن عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس في قوله : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ } قال : جعلناهم يأكلون بأيديهم وسائر الخلق يأكلون بأفواههم . وأخرج الحاكم في التاريخ ، والديلمي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله : « الكرامة الأكل بالأصابع » .
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
قوله : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم } قال الزجاج : يعني يوم القيامة ، وهو منصوب على معنى أذكر يوم ندعوا . وقرى : ( يدعو ) بالياء التحتية على البناء للفاعل و ( يدعى ) على البناء للمفعول ، والباء في { بإمامهم } للإلصاق كما تقول : أدعوك باسمك ، ويجوز أن تكون متعلقة بمحذوف هو حال ، والتقدير : ندعو كل أناس متلبسين بإمامهم ، أي : يدعون وإمامهم فيهم نحو ركب بجنوده ، والأوّل أولى . والإمام في اللغة كل ما يؤتمّ به من نبيّ أو مقدّم في الدين أو كتاب .
وقد اختلف المفسرون في تعيين الإمام الذي تدعى كل أناس به ، فقال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك إنه كتاب كلّ إنسان الذي فيه عمله أي : يدعى كل إنسان بكتاب عمله ، ويؤيد هذا قوله : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه } [ الحاقة : 19 ] . الآية ، وقال ابن زيد : الإمام هو الكتاب المنزل عليهم فيدعى أهل التوراة بالتوراة ، وأهل الإنجيل بالإنجيل ، وأهل القرآن بالقرآن ، فيقال : يا أهل التوراة ، يا أهل الإنجيل ، يا أهل القرآن . وقال مجاهد وقتادة : إمامهم : نبيهم فيقال : هاتوا متبعي إبراهيم ، هاتوا متبعي موسى ، هاتوا متبعي عيسى ، هاتوا متبعي محمد ، وبه قال الزجاج . وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه؛ المراد بالإمام إمام عصرهم ، فيدعى أهل كل عصر بإمامهم الذي كانوا يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه . وقال الحسن وأبو العالية : المراد { بإمامهم } : أعمالهم ، فيقال مثلاً : أين المجاهدون ، أين الصابرون ، أين الصائمون ، أين المصلون؟ ونحو ذلك . وروي عن ابن عباس وأبي هريرة . وقال أبو عبيدة ، المراد بإمامهم صاحب مذهبهم ، فيقال مثلاً : أين التابعون للعالم فلان بن فلان ، وهذا من البعد بمكان . وقال محمد بن كعب : { بإمامهم } : بأمهاتهم ، على أن إمام جمع أمّ كخف وخفاف ، وهذا بعيد جدّاً . وقيل : الإمام : هو كل خلق يظهر من الإنسان حسن كالعلم والكرم والشجاعة ، أو قبيح كأضدادها ، فالداعي إلى تلك الأفعال خلق باطن هو كالإمام ، ذكر معناه الرازي في تفسيره { فَمَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ } من أولئك المدعوّين ، وتخصيص اليمين بالذكر للتشريف والتبشير { فَأُوْلَئِكَ } الإشارة إلى « من » باعتبار معناه . قيل : ووجه الجمع الإشارة إلى أنهم مجتمعون على شأن جليل ، أو الإشعار بأن قراءتهم لكتبهم تكون على وجه الاجتماع لا على وجه الانفراد { يَقْرَءونَ كتابهم } الذي أوتوه { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } أي : لا ينقصون من أجورهم قدر فتيل ، وهو القشرة التي في شق النواة ، أو هو عبارة عن أقلّ شيء ، ولم يذكر أصحاب الشمال تصريحاً ، ولكنه ذكر سبحانه ما يدلّ على حالهم القبيح فقال : { وَمَن كَانَ فِى هذه أعمى } أي : من كان من المدعوّين في هذه الدنيا أعمى أي : فاقد البصيرة . قال النيسابوري : لا خلاف أن المراد بهذا العمى عمى القلب ، وأما قوله : { فَهُوَ فِى الآخرة أعمى } فيحتمل أن يراد به : عمى البصر كقوله :
{ وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى * قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } [ طه : 124 125 ] وفي هذا زيادة العقوبة ، ويحتمل أن يراد عمى القلب؛ وقيل : المراد بالآخرة : عمل الآخرة ، أي : فهو في عمل ، أو في أمر الآخرة أعمى؛ وقيل : المراد : من عمي عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى؛ وقيل : من كان في الدنيا التي تقبل فيها التوبة أعمى فهو في الآخرة التي لا توبة فيها أعمى؛ وقيل : من كان في الدنيا أعمى عن حجج الله فهو في الآخرة أعمى ، وقد قيل : إن قوله : { فَهُوَ فِى الآخرة أعمى } أفعل تفضيل ، أي : أشدّ عمى ، وهذا مبنيّ على أنه من عمى القلب ، إذ لا يقال ذلك في عمى العين . قال الخليل وسيبويه : لأنه خلقه بمنزلة اليد والرجل ، فلا يقال ما أعماه كما لا يقال : ما أيداه . وقال الأخفش : لا يقال فيه ذلك لأنه أكثر من ثلاثة أحرف . وقد حكى الفراء عن بعض العرب أنه سمعه يقول : ما أسود شعره ، ومن ذلك قول الشاعر :
أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم ... لؤما وأبيضهم سربال طباخ
والبحث مستوفي في النحو . وقرأ أبو بكر ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف . ( أعمى ) بالإمالة في الموضعين . وقرأهما أبو عمرو ويعقوب والباقون بغير إمالة ، وأمال أبو عبيد الأوّل دون الثاني { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } يعني : أن هذا أضلّ سبيلاً من الأعمى لكونه لا يجد طريقاً إلى الهداية ، بخلاف الأعمى فقد يهتدي في بعض الأحوال . ثم لما عدد سبحانه في الآيات المتقدّمة أقسام النعم على بني آدم أردفه بما يجري مجرى التحذير من الاغترار بوساوس الأشقياء فقال : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } : « إن » هي المخففة من الثقيلة ، واسمها : ضمير شأن محذوف ، واللام : هي الفارقة بينها وبين النافية ، والمعنى : وإن الشأن قاربوا أن يخدعوك فاتنين ، وأصل الفتنة : الاختبار ، ومنه فتن الصائغ الذهب ، ثم استعمل في كل من أزال الشيء عن حدّه وجهته ، وذلك لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن وافتراء على الله سبحانه من تبديل الوعد بالوعيد وغير ذلك { عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد { لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ } لتتقوّل علينا غير الذي أوحينا إليك مما اقترحه عليك كفار قريش { وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } أي : لو اتبعت أهواءهم لاتخذوك خليلاً لهم أي : والوك وصافوك ، مأخوذ من الخلة بفتح الخاء . { وَلَوْلاَ أَن ثبتناك } على الحق وعصمناك عن موافقتهم { لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } لقاربت أن تميل إليهم أدنى ميل ، والركون هو الميل اليسير ، ولهذا قال : { شَيْئًا قَلِيلاً } لكن أدركته صلى الله عليه وسلم العصمة فمنعته من أن يقرب من أدنى مراتب الركون إليهم ، فضلاً عن نفس الركون ، وهذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم ما همّ بإجابتهم ، ذكر معناه القشيري وغيره ، وقيل : المعنى وإن كادوا ليخبرون عنك بأنك ملت إلى قولهم ، فنسب فعلهم إليه مجازاً واتساعاً كما تقول للرجل : كدت تقتل نفسك ، أي : كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت ، ذكر معناه المهدوي .
ثم توعده سبحانه في ذلك أشدّ الوعيد فقال : { إِذًا لأذقناك ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات } أي : لو قاربت أن تركن إليهم ، أي : مثلي ما يعذب به غيرك ممن يفعل هذا الفعل في الدارين ، والمعنى : عذاباً ضعفاً في الحياة وعذاباً ضعفاً في الممات أي : مضاعفاً ، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وأضيفت ، وذلك لأن خطأ العظيم عظيم كما قال سبحانه : { يانساء النبى مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة مُّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ } [ الأحزاب : 30 ] . وضعف الشيء : مثلاه ، وقد يكون الضعف النصيب كقوله : { لِكُلّ ضِعْفٌ } [ الأعراف : 38 ] أي : نصيب . قال الرازي : حاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك وعقدت على الركون همك لاستحققت تضعيف العذاب عليك في الدنيا والآخرة ولصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا } ينصرك فيدفع عنك هذا العذاب . قال النيسابوري : اعلم أن القرب من الفتنة لا يدل على الوقوع فيها ، والتهديد على المعصية لا يدلّ على الإقدام عليها ، فلا يلزم من الآية طعن في العصمة . { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ } الكلام في هذا كالكلام في { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } أي : وإن الشأن أنهم قاربوا أن يزعجوك من أرض مكة لتخرج عنها ، ولكنه لم يقع ذلك منهم ، بل منعهم الله منه حتى هاجر بأمر ربه بعد أن هموا به ، وقيل : إنه أطلق الإخراج على إرادة الإخراج تجويزاً { وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خلفك إِلاَّ قَلِيلاً } معطوف على { ليستفزونك } أي : لا يبقون بعد إخراجك إلاّ زمناً قليلاً ، ثم عوقبوا عقوبة تستأصلهم جميعاً . وقرأ عطاء بن أبي رباح : ( لا يلبثوا ) بتشديد الباء الموحدة . وقرىء : ( لا يلبثوا ) بالنصب على إعمال « إذ » ، على أن الجملة معطوف على جملة : { وَإِن كَادُواْ } لا على الخبر فقط . وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو بكر ، وأبو عمرو ( خلفك ) ومعناه : بعدك . وقرأ ابن عامر ، وحفص ، وحمزة ، والكسائي { خلافك } ومعناه أيضاً : بعدك . وقال ابن الأنباري : { خلافك } بمعنى : مخالفتك ، واختار أبو حاتم القراءة الثانية لقوله : { فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خلاف رَسُولِ الله } [ التوبة : 81 ] ومما يدلّ على أن خلاف بمعنى بعد قول الشاعر :
عفت الديار خلافها فكأنما ... بسط الشواطب بينهنّ حصيرا
يقال : شطبت المرأة الجريد : إذا شققته لتعمل منه الحصير . قال أبو عبيدة : ثم تلقيه الشاطبة إلى المثقبة .
{ سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا } { سنّة } منتصبة على المصدرية ، أي : سنّ الله سنّة . وقال الفراء : أي يعذبون كسنّة من قد أرسلنا فلما سقط الخافض عمل الفعل . وقيل : المعنى : سنّتنا سنّة من قد أرسلنا . قال الزجاج : يقول إن سنّتنا هذه السنّة فيمن أرسلنا قبلك إليهم أنهم إذا أخرجوا نبيهم من بين أظهرهم أو قتلوه أن ينزل العذاب بهم { وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } أي : ما أجرى الله به العادة لم يتمكن أحد من تحويله ولا يقدر على تغييره .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم } قال : إمام هدى وإمام ضلالة . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والخطيب في تاريخه عن أنس في الآية قال : نبيهم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد مثله . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : بكتاب أعمالهم . وأخرج ابن مردويه عن عليّ في الآية قال : يدعى كل قوم بإمام زمانهم ، وكتاب ربهم وسنّة نبيهم . وأخرج الترمذي وحسنه ، والبزار ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم } قال : « يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمدّ له في جسمه ستين ذراعاً ويبيض وجهه ، ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ ، فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون : اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا ، حتى يأتيهم فيقول : أبشروا لكل رجل منكم مثل هذا ، وأما الكافر فيسود وجهه ويمدّ له في جسمه ستين ذراعاً على صورة آدم ، ويلبس تاجاً فيراه أصحابه فيقولون : نعوذ بالله من شر هذا ، اللّهم لا تأتنا بهذا ، قال : فيأتيهم فيقولون : اللهم اخزه ، فيقول : أبعدكم الله ، فإن لكل رجل منكم مثل هذا » قال البزار بعد إخراجه : لا يروى إلا من هذا الوجه . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله : { وَمَن كَانَ فِى هذه أعمى } يقول : من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرتي من خلق السماء والأرض والجبال والبحار والناس والدواب وأشباه هذا { فَهُوَ } عما وصفت له { فِى الآخرة } ولم يره { أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً } يقول : أبعد حجة . وأخرج الفريابي ، وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عنه نحو هذا . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً يقول : من عمي عن قدرة الله في الدنيا فهو في الآخرة أعمى . وأخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه أيضاً قال : إن أمية بن خلف وأبا جهل بن هشام ورجالاً من قريش أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : تعال فتمسح آلهتنا وندخل معك في دينك ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتدّ عليه فراق قومه ويحب إسلامهم فرق لهم ، فأنزل الله { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } إلى قوله : { نَصِيراً } .
وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن ياذان ، عن جابر بن عبد الله مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر ، فقالوا لا ندعك تستلمه حتى تستلم بآلهتنا ، فقال رسول الله : « وما عليّ لو فعلت والله يعلم مني خلافه »؟ فأنزل الله : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } الآية . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير : أن قريشاً أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له : إن كنت أرسلت إلينا فاطرد الذين اتبعوك من سقاط الناس ومواليهم لنكون نحن أصحابك ، فركن إليهم ، فأوحى الله إليه { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } الآية . وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال : أنزل الله { والنجم إِذَا هوى } [ النجم : 1 ] . فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى } [ النجم : 19 ] . فألقى عليه الشيطان : تلك الغراييق العلى . وأين شفاعتهم لترتجى ، فقرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم ما بقي من السورة وسجد ، فأنزل الله { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } الآية ، فما زال مهموماً مغموماً حتى أنزل الله { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى } الآية [ الحج : 52 ] . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس : أن ثقيفاً قالوا للنبيّ : أجلنا سنة حتى يُهدى لآلهتنا ، فإذا قبضنا الذي يهدى للآلهة أحرزناه ثم أسلمنا وكسرنا الآلهة فهمّ أن يؤجلهم ، فنزلت { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } الآية . وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات } يعني : ضعف عذاب الدنيا والآخرة . وأخرج البيهقي عن الحسن في الآية قال : هو عذاب القبر . وأخرج أيضاً عن عطاء مثله . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم كانت الأنبياء تسكن الشام ، فمالك والمدينة؟ فهمّ أن يشخص ، فأنزل الله : { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض } الآية . وأخرج ابن جرير عن حضرمي أنه بلغه أن بعض اليهود فذكر نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر عن عبد الرحمن بن غنم ، أن اليهود أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن كنت نبياً فالحق بالشام ، فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء ، فصدّق النبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا ، فتحرّى غزوة تبوك لا يريد إلاّ الشام ، فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعدما ختمت السورة : { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ } إلى قوله : { تَحْوِيلاً } فأمره بالرجوع إلى المدينة ، وقال : فيها محياك وفيها مماتك ومنها تبعث ، وقال له جبريل : سل ربك فإن لكل نبي مسألة فقال : « ما تأمرني أن أسأل؟ » قال : { قُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ واجعل لّى مِن لَّدُنْكَ سلطانا نَّصِيرًا } فهؤلاء نزلن عليه في رجعته من تبوك .
قال ابن كثير : وفي هذا الإسناد نظر ، والظاهر أنه ليس بصحيح ، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يغز تبوك عن قول اليهود ، وإنما غزاها امتثالاً لقوله : { قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار } [ التوبة : 123 ] . وغزاها ليقتصّ وينتقم ممن قتل أهل مؤتة من أصحابه . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الارض } قال : همّ أهل مكة بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ، وقد فعلوا بعد ذلك ، فأهلكهم الله يوم بدر ، ولم يلبثوا بعده إلاّ قليلاً حتى أهلكهم الله يوم بدر ، وكذلك كانت سنّة الله في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خلافك إِلاَّ قَلِيلاً } قال : يعني بالقليل : يوم أخذهم ببدر ، فكان ذلك هو القليل الذين لبثوا بعده .
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
لما ذكر سبحانه الإلهيات والمعاد والجزاء أردفها بذكر أشرف الطاعات ، وهي الصلاة ، فقال : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس } . وقد أجمع المفسرون على أن هذه الآية المراد بها : الصلوات المفروضة .
وقد اختلف العلماء في الدلوك المذكور في هذه الآية على قولين : أحدهما : أنه زوال الشمس عن كبد السماء ، قاله عمر وابنه ، وأبو هريرة ، وأبو برزة ، وابن عباس ، والحسن ، والشعبي ، وعطاء ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وأبو جعفر الباقر ، واختاره ابن جرير . والقول الثاني : أنه غروب الشمس ، قاله علي ، وابن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وروي عن ابن عباس . قال الفراء : دلوك الشمس : من لدن زوالها إلى غروبها . قال الأزهري : معنى الدلوك في كلام العرب الزوال ، ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار : دالكة ، وقيل لها إذا أفلت : دالكة ، لأنها في الحالتين زائلة . قال : والقول عندي أنه زوالها نصف النهار لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس ، والمعنى : أقم الصلاة من وقت دلوك الشمس { إلى غسق الليل } فيدخل فيها الظهر والعصر وصلاتا غسق الليل ، وهما العشاءان ، ثم قال : { وقرآن الفجر } هذه خمس صلوات . وقال أبو عبيد : دلوكها غروبها ، ودلكت براح : يعني الشمس أي : غابت ، وأنشد قطرب على هذا قول الشاعر :
هذا مقام قدمي رباح ... ذبَّب حتى دلكت براح
اسم من أسماء الشمس على وزن حذام وقطام ، ومن ذلك قول ذي الرمة :
مصابيح ليست باللواتي تقودها ... نجوم ، ولا بالآفلات الدوالك
أي : الغوارب ، وغسق الليل : اجتماع الظلمة . قال الفراء والزجاج : يقال غسق الليل وأغسق : إذا أقبل بظلامه ، قال أبو عبيد : الغسق : سواد الليل . قال قيس بن الرقيات :
إن هذا الليل قد غسقا ... واشتكيت الهمّ والأرقا
وقيل : غسق الليل : مغيب الشفق ، ومنه قول زهير :
طلت تجود يداها وهي لاهية ... حتى إذا جنح الإظلام والغسق
وأصل الكلمة من السيلان يقال : غسقت : إذا سالت . وحكى الفراء غسق الليل وأغسق ، وظلم وأظلم ، ودجى وأدجى ، وغبش وأغبش ، وقد استدل بهذه الغاية ، أعني قوله : { إلى غسق الليل } من قال : إن صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب ، روي ذلك عن الأوزاعي ، وأبي حنيفة وجوّزه مالك والشافعي في حال الضرورة ، وقد وردت الأحاديث الصحيحة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعيين أوقات الصلوات ، فيجب حمل مجمل هذه الآية على ما بينته السنة فلا نطيل بذكر ذلك . قوله : { وقرآن الفجر } انتصاب { قرآن } لكونه معطوفاً على { الصلاة } أي : وأقم قرآن الفجر ، قاله الفراء . وقال الزجاج والبصريون : انتصابه على الإغراء : أي فعليك قرآن الفجر . قال المفسرون : المراد بقرآن الفجر صلاة الصبح . قال الزجاج : وفي هذه فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة لا تكون إلا بقراءة حتى سميت الصلاة قرآناً ، وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أنه « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » ، وفي بعض الأحاديث الخارجة من مخرج حسن « وقرآن معها » ، وورد ما يدل على وجوب الفاتحة في كل ركعة ، وقد حررته في مؤلفاتي تحريراً مجوّداً .
ثم علّل سبحانه ذلك بقوله : { إن قرآن الفجر مشهوداً } أي : تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار كما ورد ذلك في الحديث الصحيح ، وبذلك قال جمهور المفسرين { وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } : « من » للتبعيض ، وانتصابه على الظرفية بمضمر ، أي : قم بعض الليل فتهجد به ، والضمير المجرور راجع إلى القرآن ، وما قيل من أنه منتصب على الإغراء ، والتقدير : عليك بعض الليل ، فبعيد جداً ، والتهجد مأخوذ من الهجود . قال أبو عبيدة وابن الأعرابي : هو من الأضداد ، لأنه يقال : هجد الرجل : إذا نام ، وهجد : إذا سهر ، فمن استعماله في السهر قول الشاعر :
ألا زارت وأهل منى هجود ... فليت خيالها بمنى يعود
يعني : منتبهين ، ومن استعماله في النوم قول الآخر :
ألا طرقتنا والرفاق هجود ... فباتت بعلات النوال تجود
يعني : نياماً . وقال الأزهري : الهجود في الأصل هو النوم بالليل ، ولكن جاء التفعل فيه لأجل التجنب ومنه تأثم وتحرّج ، أي : تجنب الإثم والحرج ، فالمتهجد : من تجنب الهجود ، فقام بالليل . وروي عن الأزهري أيضاً أنه قال : المتهجد : القائم إلى الصلاة من النوم ، هكذا حكى عنه الواحدي ، فقيد التهجد بالقيام من النوم ، وهكذا قال مجاهد ، وعلقمة ، والأسود فقالوا : التهجد بعد النوم . قال الليث : تهجد إذا استيقظ للصلاة { نَافِلَةً لَّكَ } معنى النافلة في اللغة : الزيادة على الأصل ، فالمعنى أنها للنبي صلى الله عليه وسلم نافلة زائدة على الفرائض ، والأمر بالتهجد وإن كان ظاهره الوجوب لكن التصريح بكونه نافلة قرينة صارفة للأمر ، وقيل : المراد بالنافلة هنا أنها فريضة زائدة على الفرائض الخمس في حقه صلى الله عليه وسلم ، ويدفع ذلك التصريح بلفظ النافلة ، وقيل : كانت صلاة الليل فريضة في حقه صلى الله عليه وسلم ، ثم نسخ الوجوب فصار قيام الليل تطوعاً ، وعلى هذا يحمل ما ورد في الحديث أنها عليه فريضة ، ولأمته تطوع . قال الواحدي : إن صلاة الليل كانت زيادة للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة لرفع الدرجات ، لا للكفارات ، لأنه غفر له من ذنبه ما تقدّم وما تأخر ، وليس لنا بنافلة لكثرة ذنوبنا ، إنما نعمل لكفارتها ، قال : وهو قول جميع المفسرين . والحاصل : أن الخطاب في هذه الآية وإن كان خاصاً بالنبيّ في قوله { أَقِمِ الصلاة } ، فالأمر له أمر لأمته ، فهو شرع عام ، ومن ذلك الترغيب في صلاة الليل ، فإنه يعمّ جميع الأمة ، والتصريح بكونه نافلة يدل على عدم الوجوب ، فالتهجد من الليل مندوب إليه ومشروع لكل مكلف .
ثم وعده سبحانه على إقامة الفرائض والنوافل فقال : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } قد ذكرنا في مواضع أن { عسى } من الكريم إطماع واجب الوقوع ، وانتصاب { مقاماً } على الظرفية بإضمار فعل ، أو بتضمين البعث معنى الإقامة ، ويجوز أن يكون انتصابه على الحال أي : يبعثك ذا مقام محمود؛ ومعنى كون المقام محموداً : أنه يحمده كل من علم به . وقد اختلف في تعيين هذا المقام على أقوال : الأول أنه المقام الذي يقومه النبي صلى الله عليه وسلم للشفاعة يوم القيامة للناس ليريحهم ربهم سبحانه مما هو فيه ، وهذا القول هو الذي دلت عليه الأدلة الصحيحة في تفسير الآية ، وحكاه ابن جرير عن أكثر أهل التأويل ، قال الواحدي : وإجماع المفسرين على أن المقام المحمود هو مقام الشفاعة . القول الثاني : أن المقام المحمود إعطاء النبيّ لواء الحمد يوم القيامة . ويمكن أن يقال : إن هذا لا ينافي القول الأوّل ، إذ لا منافاة بين كونه قائماً مقام الشفاعة وبيده لواء الحمد . القول الثالث : أن المقام المحمود : هو أن الله سبحانه يجلس محمداً صلى الله عليه وسلم معه على كرسيه ، حكاه ابن جرير عن فرقة منهم مجاهد ، وقد ورد في ذلك حديث . وحكى النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال : من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم ، ما زال أهل العلم يتحدّثون بهذا الحديث . قال ابن عبد البرّ : مجاهد وإن كان أحد الأئمة بالتأويل ، فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم : أحدهما هذا ، والثاني في تأويل { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 23 ] . قال : معناه تنتظر الثواب ، وليس من النظر . انتهى . وعلى كل حال فهذا القول غير منافٍ للقول الأوّل لإمكان أن يقعده الله سبحانه هذا المقعد ويشفع تلك الشفاعة . القول الرابع : أنه مطلق في كل مقام يجلب الحمد من أنواع الكرامات ، ذكره صاحب الكشاف والمقتدون به في التفسير ، ويجاب عنه بأن الأحاديث الصحيحة الواردة في تعيين هذا المقام المحمود متواترة ، فالمصير إليها متعين ، وليس في الآية عموم في اللفظ حتى يقال : الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ومعنى قوله : « وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد » أنه عام في كل ما هو كذلك ، ولكنه يعبر عن العام بلفظ المطلق ، كما ذكره في ذبح البقرة ، ولهذا قال هنا . وقيل : المراد : الشفاعة ، وهي نوع واحد مما يتناوله ، يعني : لفظ المقام ، والفرق بين العموم البدليّ والعموم الشموليّ معروف ، فلا نطيل بذكره . { وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ } . قرأ الجمهور { مدخل صدق ومخرج صدق } بضم الميمين . وقرأ الحسن ، وأبو العالية ، ونصر بن عاصم بفتحهما ، وهما مصدران بمعنى الإدخال والإخراج ، والإضافة إلى الصدق لأجل المبالغة نحو حاتم الجود أي : إدخالاً يستأهل أن يسمى إدخالاً ، ولا يرى فيه ما يكره .
قال الواحدي : وإضافتهما إلى الصدق مدح لهما ، وكل شيء أضفته إلى الصدق فهو مدح .
وقد اختلف المفسرون في معنى الآية ، فقيل : نزلت حين أمر بالهجرة ، يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة واختاره ابن جرير ، وقيل : المعنى : أمتني إماتة صدق ، وابعثني يوم القيامة مبعث صدق ، وقيل : المعنى : أدخلني فيما أمرتني به ، وأخرجني مما نهيتني عنه ، وقيل : إدخاله موضع الأمن وإخراجه من بين المشركين ، وهو كالقول الأوّل ، وقيل : المراد إدخال عزّ وإخراج نصر ، وقيل : المعنى أدخلني في الأمر الذي أكرمتني به من النبوّة مدخل صدق ، وأخرجني منه إذا أمتني مخرج صدق ، وقيل : أدخلني القبر عند الموت مدخل صدق ، وأخرجني منه عند البعث مخرج صدق ، وقيل : أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق ، وأخرجني بالصدق . وقيل : الآية عامة في كل ما تتناوله من الأمور فهي دعاء ، ومعناها : ربّ أصلح لي وردي في كل الأمور وصدري عنها . { واجعل لّى مِن لَّدُنْكَ سلطانا نَّصِيرًا } أي : حجة ظاهرة قاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني ، وقيل : اجعل لي من لدنك ملكاً وعزاً قوّياً وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلاّ بسلطان ، فسأل سلطاناً نصيراً . وبه قال الحسن وقتادة واختاره ابن جرير . قال ابن كثير : وهو الأرجح لأنه لا بدّ مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه ، ولهذا يقول تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزْلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ومنافع لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله من ينصره ورسله بالغيب } [ الحديد : 25 ] وفي الحديث : « إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن » ، أي : ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمنع كثيراً من الناس بالقرآن ، وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد ، وهذا هو الواقع . انتهى . { وَقُلْ جَاء الحق وَزَهَقَ الباطل } المراد بالحق : الإسلام ، وقيل : القرآن ، وقيل : الجهاد ولا مانع من حمل الآية على جميع ذلك وعلى ما هو حق كائناً ما كان ، والمراد بالباطل : الشرك ، وقيل : الشيطان ولا يبعد أن يحمل على كل ما يقابل الحق من غير فرق بين باطل وباطل . ومعنى زهق : بطل واضمحل ، ومنه زهوق النفس وهو بطلانها { إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا } أي : إن هذا شأنه فهو يبطل ولا يثبت ، والحق ثابت دائماً . { وَنُنَزّلُ مِنَ القرءان مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ } قرأ الجمهور { ننزل } بالنون . وقرأ أبو عمرو بالتخفيف . وقرأ مجاهد بالياء التحتية والتخفيف ، ورواها المروزي عن حفص ، و « من » لابتداء الغاية ، ويصح أن تكون لبيان الجنس . وقيل : للتبعيض ، وأنكره بعض المفسرين لاستلزامه أن بعضه لا شفاء فيه ، ورده ابن عطية بأن المبعض هو إنزاله .
واختلف أهل العلم في معنى كونه شفاء على القولين : الأوّل : أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وذهاب الريب وكشف الغطاء عن الأمور الدالة على الله سبحانه .
القول الثاني : أنه شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقي والتعوّذ ونحو ذلك ، ولا مانع من حمل الشفاء على المعنيين من باب عموم المجاز ، أو من باب حمل المشترك على معنييه . ثم ذكر سبحانه أنه رحمة للمؤمنين لما فيه من العلوم النافعة المشتملة على ما فيه صلاح الدين والدنيا ، ولما في تلاوته وتدبره من الأجر العظيم الذي يكون سبباً لرحمة الله سبحانه ومغفرته ورضوانه ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء والذين لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } [ فصلت : 44 ] . ثم لما ذكر سبحانه ما في القرآن من المنفعة لعباده المؤمنين ، ذكر ما فيه لمن عداهم من المضرّة عليهم فقال : { وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا } أي : ولا يزيد القرآن كله أو كل بعض منه الظالمين الذي وضعوا التكذيب موضع التصديق ، والشك والارتياب موضع اليقين والاطمئنان { إَلاَّ خَسَارًا } أي : هلاكاً ، لأن سماع القرآن يغيظهم ويحنقهم ويدعوهم إلى زيادة ارتكاب القبائح تمرّداً وعناداً ، فعند ذلك يهلكون؛ وقيل : الخسار : النقص كقوله : { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] . ثم نبّه سبحانه على فتح بعض ما جبل عليه الإنسان من الطبائع المذمومة فقال : { وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان } أي : على هذا الجنس بالنعم التي توجب الشكر كالصحة والغنى { أَعْرَضَ } عن الشكر لله والذكر له { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } النأي : البعد ، والباء للتعدية أو للمصاحبة ، وهو تأكيد للإعراض ، لأن الإعراض عن الشيء هو أن يوليه عرض وجهه أي : ناحيته ، والنأي بالجانب : أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره ، ولا يبعد أن يراد بالإعراض هنا : الإعراض عن الدعاء والابتهال الذي كان يفعله عند نزول البلوى والمحنة به ، ويراد بالنأي بجانبه : التكبر والبعد بنفسه عن القيام بحقوق النعم . وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وأبو جعفر ( ناء ) مثل باع بتأخير الهمزة على القلب ، وقرأ حمزة ( ناءى ) بإمالة الفتحتين ووافقه الكسائي ، وأمال شعبة والسوسي الهمزة فقط . وقرأ الباقون بالفتح فيهما { وَإِذَا مَسَّهُ الشر } من مرض أو فقر { كَانَ يَئُوساً } شديد اليأس من رحمة الله ، والمعنى : أنه إن فاز بالمطلوب الدنيوي وظفر بالمقصود نسي المعبود ، وإن فاته شيء من ذلك استولى عليه الأسف ، وغلب عليه القنوط ، وكلتا الخصلتين قبيحة مذمومة ولا ينافي ما في هذه الآية قوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ } [ فصلت : 51 ] . ونظائره ، فإن ذلك شأن بعض آخر منهم غير البعض المذكور في هذه الآية ، ولا يبعد أن يقال : لا منافاة بين الآيتين ، فقد يكون مع شدة يأسه وكثرة قنوطه كثير الدعاء بلسانه . { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ } الشاكلة قال الفراء : الطريقة ، وقيل : الناحية ، وقيل : الطبيعة ، وقيل : الدين ، وقيل : النية ، وقيل : الجبلة ، وهي مأخوذة من الشكل ، يقال : لست على شكلي ولا على شاكلتي ، والشكل : هو المثل والنظير .
والمعنى : أن كل إنسان يعمل على ما يشاكل أخلاقه التي ألفها ، وهذا ذمّ للكافر ومدح للمؤمن { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً } لأنه الخالق لكم ، العالم بما جبلتم عليه من الطبائع وما تباينتم فيه من الطرائق ، فهو الذي يميز بين المؤمن الذي لا يعرض عند النعمة ولا ييأس عند المحنة ، وبين الكافر الذي شأنه البطر للنعم والقنوط عند النقم . ثم لما انجرّ الكلام إلى ذكر الإنسان وما جبل عليه ، ذكر سبحانه سؤال السائلين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح فقال : { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح } قد اختلف الناس في الروح المسئول عنه ، فقيل : هو الروح المدبر للبدن الذي تكون به حياته ، وبهذا قال أكثر المفسرين . قال الفراء : الروح الذي يعيش به الإنسان لم يخبر الله سبحانه به أحداً من خلقه ، ولم يعط علمه أحداً من عباده فقال : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى } أي : إنكم لا تعلمونه ، وقيل : الروح المسئول عنه جبريل ، وقيل : عيسى ، وقيل القرآن ، وقيل : ملك من الملائكة عظيم الخلق ، وقيل : خلق كخلق بني آدم ، وقيل : غير ذلك مما لا طائل تحته ولا فائدة في إيراده ، والظاهر القول الأول ، وسيأتي ذكر سبب نزول هذه الآية ، وبيان السائلين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح ، ثم الظاهر أن السؤال عن حقيقة الروح ، لأن معرفة حقيقة الشيء أهم وأقدم من معرفة حال من أحواله ، ثم أمره سبحانه أن يجيب على السائلين له عن الروح فقال : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى } « من » بيانية ، والأمر : الشأن ، والإضافة للاختصاص ، أي : هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأشياء التي لم يعلم بها عباده ، وقيل : معنى { مِنْ أَمْرِ رَبّى } من وحيه وكلامه لا من كلام البشر . وفي هذه الآية ما يزجر الخائضين في شأن الروح المتكلفين لبيان ما هيئته وإيضاح حقيقته أبلغ زجر ويردعهم أعظم ردع ، وقد أطالوا المقال في هذا البحث بما لا يتم له المقام ، وغالبه بل كله من الفضول الذي لا يأتي بنفع في دين ولا دنيا .
وقد حكى بعض المحققين أن أقوال المختلفين في الروح بلغت إلى ثمانية عشر مائة قول ، فانظر إلى هذا الفضول الفارغ والتعب العاطل عن النفع ، بعد أن علموا أن الله سبحانه قد استأثر بعلمه ولم يطلع عليه أنبياءه ولا أذن لهم بالسؤال عنه ولا البحث عن حقيقته فضلاً عن أممهم المقتدين بهم ، فيالله العجب حيث تبلغ أقوال أهل الفضول إلى هذا الحدّ الذي لم تبلغه ولا بعضه في غير هذه المسألة مما أذن الله بالكلام فيه ، ولم يستأثر بعلمه .
ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله سبحانه : { وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } أي : أن علمكم الذي علمكم الله ، ليس إلاّ المقدار القليل بالنسبة إلى علم الخالق سبحانه ، وإن أوتي حظاً من العلم وافراً ، بل علم الأنبياء عليهم السلام ليس هو بالنسبة إلى علم الله سبحانه إلاّ كما يأخذ الطائر في منقاره من البحر ، كما في حديث موسى والخضر عليهم السلام .
وقد أخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن مسعود قال : { دلوك الشمس } : غروبها ، تقول العرب إذا غربت الشمس : دلكت الشمس . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن علي قال : دلوكها : غروبها . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس ، قال : { لِدُلُوكِ الشمس } : لزوال الشمس . وأخرج البزار ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والديلمي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « دلوك الشمس زوالها » وضعف السيوطي إسناده . وأخرجه مالك في الموطأ ، وعبد الرزاق ، والفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عمر من قوله . وأخرج عبد الرزاق عنه قال : « دلوك الشمس : زياغها بعد نصف النهار » وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير عن ابن عباس قال : دلوكها : زوالها . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر عنه في قوله : { لِدُلُوكِ الشمس } قال : إذا فاء الفيء . وأخرج ابن جرير عن أبي مسعود وعقبة بن عمرو قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر » وأخرج ابن جرير عن أبي برزة الأسلمي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس ، ثم تلا { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس } . وأخرج ابن مردويه من حديث أنس نحوه . ومما يستشهد به على أن الدلوك الزوال وسط النهار ما أخرجه ابن جرير عن جابر قال : دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه يطعمون عندي ، ثم خرجوا حين زالت الشمس ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « أخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس » ، وفي إسناده رجل مجهول ولكنه أخرجه عنه من طريق أخرى عن سهل بن بكار ، عن أبي عوانة ، عن الأسود بن قيس ، عن نبيح العنبري ، عن جابر فذكر نحوه مرفوعاً . وأخرج الطبراني عن ابن مسعود في قوله : { إلى غسق الليل } قال : إلى العشاء الآخرة . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : { غَسَقِ اليل } اجتماع الليل وظلمته . وأخرج ابن جرير عنه قال : { غَسَقِ اليل } : بدّو الليل .
وأخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة قال : دلوك الشمس : إذا زالت الشمس عن بطن السماء وغسق الليل : غروب الشمس . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { وقرآن الفجر } قال : صلاة الصبح . وأخرج أحمد ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } قال : « تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار تجتمع فيها » ، وهو في الصحيحين عنه مرفوعاً بلفظ « تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر » ، ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني عن ابن مسعود موقوفاً نحوه . وأخرج الحكيم الترمذي ، وابن جرير ، والطبراني ، وابن مردويه عن أبي الدرداء قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن قرآن الفجر كان مشهودا } قال : « تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار » وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { نَافِلَةً لَّكَ } يعني : خاصة للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، أمر بقيام الليل وكتب عليه . وأخرج الطبراني في الأوسط ، والبيهقي في سننه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ثلاث هنّ عليّ فرائض وهنّ لكم سنّة : الوتر ، والسواك ، وقيام الليل » وأخرج أحمد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي أمامة في قوله : { نَافِلَةً لَّكَ } قال : كانت للنبي صلى الله عليه وسلم نافلة ولكم فضيلة ، وفي لفظ : إنما كانت النافلة خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وأخرج أحمد ، والترمذي وحسنه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } وسئل عنه ، قال : « هو المقام المحمود الذي أشفع فيه لأمتي » . وأخرج أحمد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تلّ ، ويكسوني ربى حلة خضراء ، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود » وأخرج البخاري وغيره عن ابن عمر قال : إن كل أمة يوم القيامة تتبع نبيها ، يقولون : يا فلان ، اشفع ، يا فلان ، اشفع ، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذلك يوم يبعثه الله مقاماً محموداً . وأخرج عنه نحوه مرفوعاً ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدّاً ثابتة في الصحيحين وغيرهما فلا نطيل بذكرها ، ومن رام الاستيفاء نظر في أحاديث الشفاعة في الأمهات وغيرها .
وأخرج الطبراني في قوله : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } قال : يجلسه فيما بينه وبين جبريل ويشفع لأمته ، فذلك المقام المحمود . وأخرج الديلمي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } ، قال : يجلسني معه على السرير » وينبغي الكشف عن إسناد هذين الحديثين . وأخرج أحمد ، والترمذي ، وصححه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي ، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة ، فأنزل الله { وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ واجعل لّى مِن لَّدُنْكَ سلطانا نَّصِيرًا } . وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الدلائل عن قتادة في قوله : { وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى } الآية ، قال : أخرجه الله من مكة مخرج صدق ، وأدخله المدينة مدخل صدق . قال : وعلم نبيّ الله أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلاّ بسلطان فسأل سلطاناً نصيراً لكتاب الله وحدوده وفرائضه ولإقامة كتاب الله ، فإن السلطان عزة من الله جعلها بين أظهر عباده ، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض ، وأكل شديدهم ضعيفهم . وأخرج الخطيب عن عمر بن الخطاب قال : والله لما يزع الله بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب ، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : { جَاء الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا } و { جَاء الحق وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ } [ سبأ : 49 ] . وفي الباب أحاديث . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } قال : تباعد . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { كَانَ يَئُوساً } قال : قنوطاً ، وفي قوله : { كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ } قال : على ناحيته . وأخرج هناد ، وابن المنذر عن الحسن قال : على شاكلته : على نيته . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : كنت أمشي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في خرب المدينة وهو متكىء على عسيب ، فمرّ بقوم من اليهود فقال بعضهم لبعض : اسألوه عن الروح ، فقال بعضهم : لا تسألوه ، فقالوا : يا محمد ، ما الروح؟ فما زال متكئاً على العسيب ، فظننت أنه يوحى إليه ، فقال : { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } . وأخرج أحمد ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن المنذر ، وابن حبان ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن ابن عباس قال : قالت قريش لليهود : أعطونا شيئاً نسأل هذا الرجل ، قالوا : سلوه عن الروح ، فنزلت { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } قالوا : أوتينا علماً كثيراً ، أوتينا التوراة ، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً ، فأنزل الله { قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لكلمات رَبّى لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } [ الكهف : 109 ] . وفي الباب أحاديث وآثار .
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
لما بيّن سبحانه أنه ما آتاهم من العلم إلاّ قليلاً بيّن أنه لو شاء أن يأخذ منهم هذا القليل لفعل ، فقال : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } واللام هي الموطئة ، و { لنذهبن } جواب القسم سادّ مسد جواب الشرط . قال الزجاج : معناه : لو شئنا لمحوناه من القلوب ومن الكتب حتى لا يوجد له أثر . انتهى . وعبر عن القرآن بالموصول تفخيماً لشأنه { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ } أي : بالقرآن { عَلَيْنَا وَكِيلاً } أي : لا تجد من يتوكل علينا في ردّ شيء منه بعد أن ذهبنا به ، والاستثناء بقوله : { إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } إن كان متصلاً فمعناه : إلاّ أن يرحمك ربك فلا نذهب به ، وإن كان منقطعاً فمعناه : لكن لا يشأ ذلك رحمة من ربك ، أو لكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به { إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا } حيث جعلك رسولاً وأنزل عليك الكتاب وصيرك سيد ولد آدم ، وأعطاك المقام المحمود وغير ذلك مما أنعم به عليه . ثم احتج سبحانه على المشركين بإعجاز القرآن فقال : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان } المنزل من عند الله الموصوف بالصفات الجليلة من كمال البلاغة وحسن النظم وجزالة اللفظ { لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } أظهر في مقام الإضمار ، ولم يكتف بأن يقول : لا يأتون به على أن الضمير راجع إلى المثل المذكور ، لدفع توهم أن يكون له مثل معين ، وللإشعار بأن المراد نفي المثل على أي صفة كان ، وهو جواب قسم محذوف كما تدل عليه اللام الموطئة ، وسادّ مسدّ جواب الشرط ، ثم أوضح سبحانه عجزهم عن المعارضة سواء كان المتصدي لها كل واحد منهم على الانفراد ، أو كان المتصدر بها المجموع بالمظاهرة فقال : { وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } أي : عوناً ونصيراً ، وجواب لو محذوف ، والتقدير : ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً لا يأتون بمثله ، فثبت أنهم لا يأتون بمثله على كل حال ، وقد تقدّم وجه إعجاز القرآن في أوائل سورة البقرة . وفي هذه الآية ردّ لما قاله الكفار : { لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا } [ الأنفال : 31 ] ، وإكذاب لهم . ثم بين سبحانه أن الكفار مع عجزهم عن المعارضة استمروا على كفرهم وعدم إيمانهم فقال : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ } أي : رددنا القول فيه بكلّ مثل يوجب الاعتبار من الآيات والعبر والترغيب والترهيب والأوامر والنواهي وأقاصيص الأوّلين والجنة والنار والقيامة { فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا } يعني : من أهل مكة ، فإنهم جحدوا وأنكروا كون القرآن كلام الله بعد قيام الحجة عليهم ، واقترحوا من الآيات ما ليس لهم ، وأظهر في مقام الإضمار حيث قال : { فأبى أكثر الناس } توكيداً أو توضيحاً ، ولما كان { أبى } مؤولاً بالنفي ، أي : ما قبل ، أو لم يرض ، صح الاستثناء منه قوله : { إِلاَّ كُفُورًا } .
{ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } أي قال رؤساء مكة كعتبة وشيبة ابني ربيعة وأبي سفيان والنضر بن الحرث ، ثم علقوا نفي إيمانهم بغاية طلبوها فقالوا : { حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } . قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم { حتى تفجر } مخففاً ، مثل : تقتل . وقرأ الباقون بالتشديد ، ولم يختلفوا في { فتفجر الأنهار } أنها مشدّدة ، ووجه ذلك أبو حاتم بأن الأولى بعدها ينبوع وهو واحد ، والثانية بعدها الأنهار وهي جمع . وأجيب عنه : بأن الينبوع وإن كان واحداً في اللفظ فالمراد به الجمع ، فإن الينبوع العيون التي لا تنضب . ويردّ بأن الينبوع : عين الماء ، والجمع : الينابيع ، وإنما يقال للعين ينبوع إذا كانت غزيرة من شأنها النبوع من غير انقطاع ، والياء زائدة كيعبوب ، من عبّ الماء . { أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ } أي : بستان تستر أشجاره أرضه . والمعنى : هب أنك لا تفجر الأنهار لأجلنا ففجرها من أجلك بأن تكون لك جنة { مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الأنهار } أي : تجريها بقوة { خلالها تَفْجِيرًا } أي : وسطها تفجيراً كثيراً { أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا } قرأ مجاهد ( أو تسقط ) مسنداً إلى السماء . وقرأ من عداه ( أو تسقط ) على الخطاب ، أي : أو تسقط أنت يا محمد السماء . والكسف بفتح السين جمع كسفة . وهي قراءة نافع وابن عامر ، وعاصم ، والكسفة : القطعة . وقرأ الباقون «كسفاً» بإسكان السين . قال الأخفش : من قرأ بإسكان السين جعله واحداً ومن قرأ بفتحها جعله جمعاً . قال المهدوي : ويجوز أن يكون على قراءة الكون جمع كسفة ، ويجوز أن يكون مصدراً . قال الجوهري : الكسفة القطعة من الشيء ، يقال : أعطني كسفة من ثوبك ، والجمع كِسْفٌ وكِسَفٌ ، ويقال : الكسف والكسفة واحد ، وانتصاب { كسفاً } على الحال ، والكاف في { كما زعمت } في محل نصب على أنه صفة مصدر محذوف ، أي : إسقاطاً ممائلاً لما زعمت ، يعنون بذلك قول الله سبحانه { إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السماء } [ سبأ : 9 ] . قال أبو علي : الكسف بالسكون : الشيء المقطوع ، كالطحن للمطحون ، واشتقاقه على ما قال أبو زيد من كسفت الثوب كسفاً : إذا قطعته . وقال الزجاج : من كسفت الشيء ، إذا غطيته ، كأنه قيل : أو تسقطها طبقاً علينا { أَوْ تَأْتِىَ بالله والملئكة قَبِيلاً } .
اختلف المفسرون في معنى { قَبِيلاً } فقيل : معناه : معاينة ، قاله قتادة وابن جريج ، واختاره أبو علي الفارسي فقال : إذا حملته على المعاينة كان القبيل مصدراً كالنكير والنذير . وقيل : معناه : كفيلاً ، قاله الضحاك ، وقيل : شهيداً ، قاله مقاتل ، وقيل هو جمع القبيلة ، أي : تأتي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة ، قاله مجاهد وعطاء ، وقيل : ضمناً ، وقيل : مقابلاً كالعشير والمعاشر . { أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ } أي : من ذهب ، وبه قرأ ابن مسعود ، وأصله : الزينة ، والمزخرف : المزين ، وزخارف الماء : طرائقه ، وقال الزجاج : هو الزينة ، فرجع إلى الأصل معنى الزخرف ، وهو بعيد؛ لأنه يصير المعنى : أو يكون لك بيت من زينة { أَوْ ترقى فِى السماء } أي : تصعد في معارجها يقال : رقيت في السلم : إذا صعدت وارتقيت .
مثله { وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ } أي : لأجل رقيك ، وهو مصدر نحو : مضى يمضي مضياً ، وهوى يهوي هوياً { حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ } أي : حتى تنزل علينا من السماء كتاباً يصدقك ويدل على نبوّتك نقرؤه جميعاً ، أو يقرؤه كل واحد منا ، وقيل : معناه : كتاباً من الله إلى كل واحد منا كما في قوله : { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } [ المدثر : 52 ] فأمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بما يفيد التعجب من قولهم ، والتنزيه للربّ سبحانه عن اقتراحاتهم القبيحة فقال : { قُلْ سبحان رَبّى } أي : تنزيهاً لله عن أن يعجز عن شيء . وقرأ أهل مكة والشام ( قال سبحان ربي ) يعني النبي صلى الله عليه وسلم { هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا } من البشر لا ملكاً حتى أصعد السماء { رَسُولاً } مأموراً من الله سبحانه بإبلاغكم ، فهل سمعتم أيها المقترحون لهذه الأمور أن بشراً قدر على شيء منها؟ وإن أردتم أني أطلب ذلك من الله سبحانه حتى يظهرها على يدي ، فالرسول إذا أتى بمعجزة واحدة كفاه ذلك ، لأن بها يتبين صدقه ، ولا ضرورة إلى طلب الزيادة ، وأنا عبد مأمور ليس لي أن أتحكم على ربي بما ليس بضروري ، ولا دعت إليه حاجة ، ولو لزمتني الإجابة لكل متعنت لاقترح كل معاند في كل وقت اقتراحات ، وطلب لنفسه إظهار آيات ، فتعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً ، وتنزّه عن تعنتاتهم ، وتقدّس عن اقتراحاتهم .
وقد أخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال : إن هذا القرآن سيرفع ، قيل : كيف يرفع وقد أثبته الله في قلوبنا وأثبتناه في المصاحف؟ قال : يسري عليه في ليلة واحدة فلا يترك منه آية في قلب ولا مصحف إلاّ رفعت ، فتصبحون وليس فيكم منه شيء ، ثم قرأ { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } وقد روي عنه هذا من طرق . وأخرج ابن عدّي عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه . وأخرج محمد بن نصر عن عبد الله بن عمرو نحوه موقوفاً . وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن معاذ بن جبل مرفوعاً نحوه أيضاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن أبي هريرة موقوفاً نحوه أيضاً . وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، والديلمي عن حذيفة بن اليمان مرفوعاً نحوه أيضاً .
وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعاً نحوه أيضاً . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمود بن شيخان ونعيمان بن آصي وبحري بن عمرو وسلام بن مشكم ، فقالوا : أخبرنا يا محمد بهذا الذي جئت به أحق من عند الله ، فإنا لا نراه متناسقاً كما تناسق التوراة؟ فقال لهم : " والله إنكم لتعرفونه أنه من عند الله " ، قالوا : إنا نجيئك بمثل ما تأتي به ، فأنزل الله { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن } » ، الآية . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ، ورجلاً من بني عبد الدار ، وأبا البحتري أخا بني أسيد والأسود بن عبد المطلب وربيعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبا جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أمية ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل ، ونبيهاً ومنبها ابني الحجاج السهميين اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه ، وذكر حديثاً طويلاً يشتمل على ما سألوه عنه وتعنتوه ، وأن ذلك كان سبب نزول قوله : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } إلى قوله : { بَشَرًا رَّسُولاً } . وإسناده عند ابن جرير هكذا : حدّثنا أبو كريب ، حدّثنا يونس بن بكير ، حدّثنا محمد بن إسحاق ، حدّثني شيخ من أهل مصر ، قدم منذ بضع وأربعين سنة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس فذكره ، ففيه هذا الرجل المجهول . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } قال : نزلت في أخي أمّ سلمة عبد الله بن أبي أمية . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { يَنْبُوعًا } قال : عيوناً . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال : الينبوع : هو النهر الذي يجري من العين . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ } يقول : ضيعة . وأخرج ابن جرير عنه { كسفاً } قال : قطعاً . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً { قَبِيلاً } قال : عياناً . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً { مّن زُخْرُفٍ } قال : من ذهب . وأخرج أبو عبيد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري ، وأبو نعيم عن مجاهد قال : لم أكن أحس ما الزخرف؟ حتى سمعتها في قراءة عبد الله ( أو يكون لك بيت من ذهب ) . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { كِتَابًا نَّقْرَءهُ } قال : من ربّ العالمين إلى فلان ابن فلان . يصبح عند كل رجل صحيفة عند رأسه موضوعة يقرؤها .
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
حكى سبحانه عنهم شبهة أخرى قد تكرر في الكتاب العزيز التعرّض لإيرادها وردّها في غير موضع فقال : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ } المراد : الناس على العموم ، وقيل : المراد : أهل مكة على الخصوص أي : ما منعهم الإيمان بالقرآن وبنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وهو المفعول الثاني لمنع ، ومعنى { إِذْ جَاءهُمُ الهدى } : أنه جاءهم الوحي من الله سبحانه على رسوله ، وبيّن ذلك لهم وأرشدهم إليه ، وهو ظرف ل { منع } أو { يؤمنوا } أي : ما منعهم وقت مجيء الهدى أن يؤمنوا بالقرآن والنبوّة { إِلاَّ أَن قَالُواْ } أي : ما منعهم إلاّ قولهم ، فهو في محل رفع على أنه فاعل منع ، والهمزة في { أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولاً } للإنكار منهم أن يكون الرسول بشراً ، والمعنى : أن هذا الاعتقاد الشامل لهم ، وهو إنكار أن يكون الرسول من جنس البشر ، هو الذي منعهم عن الإيمان بالكتاب وبالرسول ، وعبّر عنه بالقول للإشعار بأنه ليس إلاّ مجرد قول قالوه بأفواههم . ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عن شبهتهم هذه فقال : { قُل لَوْ كَانَ فِى الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ } أي : لو وجد وثبت أن في الأرض بدل من فيها من البشر ، ملائكة يمشون على الأقدام كما يمشي الإنس مطمئنين مستقرين فيها ساكنين بها . قال الزجاج : { مطمئنين } : مستوطنين في الأرض ، ومعنى الطمأنينة : السكون ، فالمراد ها هنا : المقام والاستيطان ، فإنه يقال : سكن البلد فلان : إذا أقام فيها وإن كان ماشياً متقلباً في حاجاته { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً } حتى يكون من جنسهم ، وفيه إعلام من الله سبحانه بأن الرسل ينبغي أن تكون من جنس المرسل إليهم ، فكأنه سبحانه اعتبر في تنزيل الرسول من جنس الملائكة أمرين : الأوّل : كون سكان الأرض ملائكة ، والثاني : كونهم ماشين على الأقدام غير قادرين على الطيران بأجنحتهم إلى السماء ، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لطاروا إليها ، وسمعوا من أهلها ما يجب معرفته وسماعه فلا يكون في بعثة الملائكة إليهم فائدة . وانتصاب { بشراً } و { ملكاً } على أنهما مفعولان للفعلين ، و { رسولاً } في الموضعين وصف لهما . وجوّز صاحب الكشاف أن يكونا حالين في الموضعين من { رسولاً } فيهما وقوّاه صاحب الكشاف ، ولعل وجه ذلك أن الإنكار يتوجه إلى الرسول المتصف بالبشرية في الموضع الأوّل ، فيلزم بحكم التقابل أن يكون الآخر كذلك . ثم ختم الكلام بما يجري مجرى التهديد ، فقال : { قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أي قل لهم يا محمد من جهتك : كفى بالله وحده شهيداً على إبلاغي إليكم ما أمرني به من أمور الرسالة ، وقال : { بيني وبينكم } ولم يقل : بيننا؛ تحقيقاً للمفارقة الكلية ، وقيل : إن إظهار المعجزة على وفق دعوى النبيّ شهادة من الله له على الصدق ، ثم علّل كونه سبحانه شهيداً كافياً بقوله : { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } أي : عالماً بجميع أحوالهم محيطاً بظواهرها وبواطنها بصيراً بما كان منها وما يكون .
ثم بيّن سبحانه أن الإقرار والإنكار مستندان إلى مشيئته فقال : { وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدى } أي : من يرد الله هدايته فهو المهتدي إلى الحق أو إلى كل مطلوب { وَمَن يُضْلِلِ } أي : يرد إضلاله { فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء } ينصرونهم { مِن دُونِهِ } يعني : الله سبحانه ، ويهدونهم إلى الحق الذي أضلهم الله عنه أو إلى طريق النجاة ، وقوله : { فَهُوَ المهتدى } حملاً على لفظ «من» ، وقوله : { فَلَن تَجِدَ لَهُمْ } حملاً على المعنى ، والخطاب في قوله : { فَلَن تَجِدَ } إما للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يصلح له { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ } هذا الحشر على الوجوه فيه وجهان للمفسرين : الأوّل : أنه عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم ، من قول العرب : قد مرّ القوم على وجوههم : إذا أسرعوا . الثاني : أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم حقيقة كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في إهانته وتعذيبه ، وهذا هو الصحيح ، لقوله تعالى : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النار على وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] . ولما صح في السنة كما سيأتي ، ومحل { على وجوههم } النصب على الحال من ضمير المفعول . و { عُمْيًا } منتصب على الحال { وَبُكْمًا وَصُمّا } معطوفان عليه ، والأبكم : الذي لا ينطق ، والأصمّ : الذي لا يسمع ، وهذه هيئة يبعثون عليها في أقبح صورة ، وأشنع منظر ، قد جمع الله لهم بين عمى البصر وعدم النطق وعدم السمع مع كونهم مسحوبين على وجوههم ، ثم من وراء ذلك { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي : المكان الذي يأوون إليه ، والجملة في محل نصب على الحال أو هي مستأنفة لا محل لها { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } أي : كلما سكن لهبها ، يقال : خبت النار تخبو خبواً : إذا خمدت وسكن لهبها . قال ابن قتيبة : ومعنى { زدناهم سعيراً } : تسعراً ، وهو التلهب . وقد قيل : إن في خبوّ النار تخفيفاً لعذاب أهلها ، فكيف يجمع بينه وبين قوله : { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب } [ البقرة : 162 ] ؟ وأجيب بأن المراد بعدم التخفيف : أنه لا يتخلل زمان محسوس بين الخبوّ والتسعر ، وقيل : إنها تخبو من غير تخفيف عنهم من عذابها . { ذلك } أي : العذاب { جَزَآؤُهُمْ } الذي أوجبه الله لهم واستحقوه عنده ، والباء في قوله : { بأنهم كفروا بآياتنا } للسببية أي : بسبب كفرهم بها فلم يصدّقوا بالآيات التنزيلية ، ولا تفكّروا في الآيات التكوينية ، واسم الإشارة مبتدأ وخبره { جزاؤهم } ، و { بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ } خبر آخر ، ويجوز أن يكون { جزاؤهم } مبتدأً ثانياً ، وخبره ما بعده ، والجملة خبر المبتدأ الأوّل . { وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا } الهمزة للإنكار ، وقد تقدم تفسير الآية في هذه السورة ، و { خلقاً } في قوله : { أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } مصدر من غير لفظه أو حال أي : مخلوقين ، فجاء سبحانه بحجة تدفعهم عن الإنكار وتردّهم عن الجحود .
فقال : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذى خَلَقَ السموات والأرض *قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } أي : من هو قادر على خلق هذا ، فهو على إعادة ما هو أدون منه أقدر ، وقيل : المراد أنه قادر على إفنائهم وإيجاد غيرهم ، وعلى القول الأوّل يكون الخلق بمعنى الإعادة ، وعلى هذا القول هو على حقيقته ، وجملة : { وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ } عطف على { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } ، والمعنى : قد علموا بدليل العقل أن من قدر على خلق السموات والأرض فهو قادر على خلق أمثالهم ، لأنهم ليسوا بأشدّ خلقاً منهنّ كما قال : { أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السماء } [ النازعات : 27 ] . { وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ } وهو الموت أو القيامة ، ويحتمل أن تكون الواو للاستئناف ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، أي : أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه قادر على أن يخلق مثلهم { فأبى الظالمون إَلاَّ كُفُورًا } أي : أبى المشركون إلاّ جحوداً ، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر للحكم عليهم بالظلم ومجاوزة الحدّ . ثم لما وقع من هؤلاء الكفار طلب إجراء الأنهار والعيون في أراضيهم لتتسع معايشهم ، بيّن الله سبحانه أنهم لا يقنعون ، بل يبقون على بخلهم وشحهم فقال : { قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى } : { أنتم } مرتفع على أنه فاعل فعل محذوف يفسره ما بعده ، أي : لو تملكون أنتم تملكون على أن الضمير المنفصل مبدل من الضمير المتصل وهو الواو ، وخزائن رحمته سبحانه : هي خزائن الأرزاق . قال الزجاج : أعلمهم الله أنهم لو ملكوا خزائن الأرزاق لأمسكوا شحاً وبخلاً ، وهو خشية الإنفاق ، أي : خشية أن ينفقوا فيفتقروا ، وفي حذف الفعل الذي ارتفع به أنتم ، وإيراد الكلام في صورة المبتدأ والخبر دلالة على أنهم هم المختصون بالشحّ . قال أهل اللغة : أنفق وأصرم وأعدم وأقتر بمعنى : قلّ ماله ، فيكون المعنى : لأمسكتم خشية قلّ المال { وَكَانَ الإنسان قَتُورًا } أي : بخيلاً مضيقاً عليه . يقال : قتر على عياله يقتر ويقتر قتراً وقتوراً : ضيق عليهم في النفقة ، ويجوز أن يراد : وكان الإنسان قتوراً أي : قليل المال ، والظاهر : أن المراد : المبالغة في وصفه بالشح ، لأن الإنسان ليس بقليل المال على العموم . بل بعضهم كثير المال ، إلاّ أن يراد أن جميع النوع الإنساني قليل المال بالنسبة إلى خزائن الله وما عنده . وقداختلف في هذه الآية على قولين : أحدهما أنها نزلت في المشركين خاصة ، وبه قال الحسن ، والثاني : أنها عامة وهو قول الجمهور ، حكاه الماوردي .
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال؛ قيل يا رسول الله : كيف يحشر الناس على وجوههم قال :