كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
قوله : { وَمَا نَتَنَزَّلُ } أي قال الله سبحانه : قل يا جبريل . وما نتنزل ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استبطأ نزول جبريل عليه ، فأمر جبريل أن يخبره بأن الملائكة ما تتنزل عليه إلا بأمر الله . قيل : احتبس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً؛ وقيل : خمسة عشر وقيل : اثني عشر وقيل : ثلاثة أيام؛ وقيل : إن هذا حكاية عن أهل الجنة ، وأنهم يقولون عند دخولها : وما نتنزل هذه الجنان { إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ } والأوّل أولى بدلالة ما قبله ، ومعناه يحتمل وجهين : الأوّل : وما نتنزّل عليك إلا بأمر ربك لنا بالتنزل . والثاني : وما نتنزّل عليك إلا بأمر ربك الذي يأمرك به بما شرعه لك ولأمتك ، والتنزل : النزول على مهل ، وقد يطلق على مطلق النزول . ثم أكد جبريل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك } أي من الجهات والأماكن ، أو من الأزمنة الماضية والمستقبلة ، وما بينهما من الزمان أو المكان الذي نحن فيه ، فلا نقدر على أن ننتقل من جهة إلى جهة ، أو من زمان إلى زمان إلا بأمر ربك ومشيئته ، وقيل : المعنى : له ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة وما بين ذلك ، وهو ما بين النفختين وقيل : الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا ، والسماء التي وراءنا وما بين السماء والأرض وقيل : ما مضى من أعمارنا وما غبر منها والحالة التي نحن فيها . وعلى هذه الأقوال كلها يكون المعنى : أن الله سبحانه هو المحيط بكل شيء لا يخفى عليه خافية ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرّة ، فلا نقدم على أمر إلا بإذنه ، وقال : { وما بين ذلك } ولم يقل وما بين ذينك ، لأن المراد : وما بين ما ذكرنا كما في قوله سبحانه : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] . { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } أي لم ينسك وإن تأخر عنك الوحي ، وقيل : المعنى إنه عالم بجميع الأشياء لا ينسى منها شيئاً وقيل : المعنى : وما كان ربك ينسى الإرسال إليك عند الوقت الذي يرسل فيه رسله .
{ رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } أي خالقهما وخالق ما بينهما ، ومالكهما ومالك ما بينهما ، ومن كان هكذا فالنسيان محال عليه . ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعبادته والصبر عليها فقال : { فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ } والفاء للسببية لأن كونه ربّ العالمين سبب موجب لأن يعيد ، وعدى فعل الصبر باللام دون على التي يتعدّى بها لتضمنه معنى الثبات { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } الاستفهام للإنكار . والمعنى : أنه ليس له مثل ولا نظير حتى يشاركه في العبادة ، فيلزم من ذلك أن تكون غير خالصة له سبحانه ، فلما انتفى المشارك استحق الله سبحانه أن يفرد بالعبادة وتخلص له ، هذا مبنيّ على أن المراد بالسميّ : هو الشريك في المسمى وقيل : المراد به : الشريك في الاسم كما هو الظاهر من لغة العرب ، فقيل : المعنى إنه لم يسمّ شيء من الأصنام ولا غيرها بالله قط ، يعني : بعد دخول الألف واللام التي عوّضت عن الهمزة ولزمت .
وقيل : المراد : هل تعلم أحداً اسمه الرحمن غيره؟ قال الزجاج : تأويله والله أعلم : هل تعلم له سمياً يستحق أن يقال له : خالق وقادر وعالم بما كان وبما يكون ، وعلى هذا لا سميّ لله في جميع أسمائه ، لأن غيره وإن سمي بشيء من أسمائه ، فللّه سبحانه حقيقة ذلك الوصف ، والمراد بنفي العلم المستفاد من الإنكار هنا : نفي المعلوم على أبلغ وجه وأكمله .
{ وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } قرأ الجمهور على الاستفهام ، وقرأ ابن ذكوان : « إذا ما متّ » على الخبر ، والمراد بالإنسان ها هنا : الكافر ، لأن هذا الاستفهام هنا للإنكار والاستهزاء والتكذيب بالبعث وقيل : اللام في الإنسان للجنس بأسره وإن لم يقل هذه المقالة إلا البعض ، وهم الكفرة فقد يسند إلى الجماعة ما قام بواحد منهم ، والمراد بقوله : { أخرج } أي من القبر ، والعامل في الظرف فعل دلّ عليه أخرج ، لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها . { أَوَ لاَ يَذْكُرُ إلإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } الهمزة للإنكار التوبيخي ، والواو لعطف الجملة التي بعدها على الجملة التي قبلها ، والمراد بالذكر هنا : إعمال الفكر ، أي ألا يتفكر هذا الجاحد في أوّل خلقه فيستدلّ بالابتداء على الإعادة ، والابتداء أعجب وأغرب من الإعادة ، لأن النشأة الأولى هي إخراج لهذه المخلوقات من العدم إلى الوجود ابتداعاً واختراعاً ، لم يتقدّم عليه ما يكون كالمثال له ، وأما النشأة الآخرة فقد تقدّم عليها النشأة الأولى فكانت كالمثال لها ، ومعنى { مِن قَبْلُ } : قبل الحالة التي هو عليها الآن ، وجملة : { ولم يك شيئاً } في محل نصب على الحال ، أي والحال أنه لم يكن حينئذٍ شيئاً من الأشياء أصلاً ، فإعادته بعد أن كان شيئاً موجوداً أسهل وأيسر . قرأ أهل مكة وأبو عمرو وأبو جعفر وأهل الكوفة إلا عاصماً « { أو لا يذكر } بالتشديد ، وأصله يتذكر . وقرأ شيبة ونافع وعاصم وابن عامر » يذكر « بالتخفيف ، وفي قرءاة أبيّ : » أو لا يتذكر « .
ثم لما جاء سبحانه وتعالى بهذه الحجة التي أجمع العقلاء على أنه لم يكن في حجج البعث حجة أقوى منها ، أكدها بالقسم باسمه سبحانه مضافاً إلى رسوله تشريفاً له وتعظيماً ، فقال : { فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ } ومعنى { لنحشرنهم } : لنسوقنهم إلى المحشر بعد إخراجهم من قبورهم أحياء كما كانوا ، والواو في قوله : { والشياطين } للعطف على المنصوب ، أو بمعنى مع .
والمعنى : أن هؤلاء الجاحدين يحشرهم الله مع شياطينهم الذين أغووهم وأضلوهم ، وهذا ظاهر على جعل اللام في الإنسان للعهد ، وهو الإنسان الكافر ، وأما على جعلها للجنس فكونه قد وجد في الجنس من يحشر مع شيطانه { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً } الجثي جمع جاث ، من قولهم جثا على ركبتيه يجثو جثواً ، وهو منتصب على الحال ، أي جاثين على ركبهم لما يصيبهم من هول الموقف وروعة الحساب ، أو لكون الجثي على الركب شأن أهل الموقف كما في قوله سبحانه : { وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } [ الجاثية : 28 ] . وقيل : المراد بقوله : { جثياً } : جماعات ، وأصله ، جمع جثوة ، والجثوة هي : المجموع من التراب أو الحجارة . قال طرفة :
أرى جثوتين من تراب عليهما ... صفائح صم من صفيح منضد
{ ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ } الشيعة : الفرقة التي تبعت ديناً من الأديان ، وخصص ذلك الزمخشري فقال : هي الطائفة التي شاعت أي تبعت غاوياً من الغواة قال الله تعالى : { إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا } [ الأنعام : 159 ] . ومعنى { أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً } من كان أعصى لله وأعتى فإنه ينزع من كل طائفة من طوائف الغيّ والفساد أعصاهم وأعتاهم ، فإذا اجتمعوا طرحهم في جهنم . والعتيّ ها هنا مصدر كالعتوّ ، وهو التمرّد في العصيان . وقيل : المعنى لننزعن من أهل كلّ دين قادتهم ورؤساءهم في الشرّ . وقد اتفق القراء على قراءة { أيهم } بالضم إلا هارون الغازي فإنه قرأها بالفتح . قال الزجاج : في رفع أيهم ثلاثة أقوال : الأوّل : قول الخليل بن أحمد إنه مرفوع على الحكاية ، والمعنى : ثم لننزعن من كل شيعة الذين يقال لهم أيهم أشدّ . وأنشد الخليل في ذلك قول الشاعر :
وقد أبيت من الفتاة بمنزل ... فأبيت لا حرج ولا محروم
أي فأبيت بمنزلة الذي يقال له هو لا حرج ولا محروم . قال النحاس : ورأيت أبا إسحاق ، يعني : الزجاج ، يختار هذا القول ويستحسنه . القول الثاني : قول يونس : وهو أن { لننزعنّ } بمنزلة الأفعال التي تلغى وتعلق . فهذا الفعل عنده معلق عن العمل في أيّ ، وخصص الخليل وسيبويه وغيرهما التعليق بأفعال الشك ونحوها مما لم يتحقق وقوعه . القول الثالث : قول سيبويه : إن أيهم ها هنا مبنيّ على الضم ، لأنه خالف أخواته في الحذف ، وقد غلط سيبويه في قوله هذا جمهور النحويين حتى قال الزجاج : ما تبين لي أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما ، وللنحويين في إعراب { أيهم } هذه في هذا الموضع كلام طويل .
{ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً } يقال : صلى يصلي صلياً مثل مضى الشيء يمضي مضياً ، قال الجوهري : يقال صليت الرجل ناراً إذا أدخلته النار وجعلته يصلاها ، فإن ألقيته إلقاءً كأنك تريد الإحراق قلت : أصليته بالألف وصليته تصلية ومنه :
{ ويصلى سَعِيراً } [ الإنشقاق : 12 ] ومن خفف فهو من قولهم : صلي فلان النار بالكسر يصلى صلياً احترق ، قال الله تعالى : { الذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً } قال العجاج :
والله لولا النار أن تصلاها ... ومعنى الآية : أن هؤلاء الذين هم أشدّ على الرحمن عتياً هم أولى بصليها ، أو صليهم أولى بالنار .
{ وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } الخطاب للناس من غير التفات ، أو للإنسان المذكور ، فيكون التفاتاً ، أي ما منكم من أحد إلا واردها ، أي واصلها .
وقد اختلف الناس في هذا الورود . فقيل : الورود : الدخول ويكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم . وقالت فرقة : الورود : هو المرور على الصراط وقيل : ليس الورود الدخول إنما هو كما يقول : وردت البصرة ولم أدخلها ، وقد توقف كثير من العلماء عن تحقيق هذا الورود ، وحمله على ظاهره لقوله تعالى : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [ الأنبياء : 101 ] . قالوا : فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده عنها ، ومما يدلّ على أن الورود لا يستلزم الدخول قوله تعالى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ } [ القصص : 23 ] فإن المراد : أشرف عليه لا أنه دخل فيه ، ومنه قول زهير :
فلما وردن الماء زرقاً حمامه ... وضعن عصي الحاضر المتخيم
ولا يخفى أن القول بأن الورود هو : المرور على الصرط ، أو الورود على جهنم وهي خامدة فيه ، جمع بين الأدلة من الكتاب والسنّة ، فينبغي حمل هذه الآية على ذلك ، لأنه قد حصل الجمع بحمل الورود على دخول النار مع كون الداخل من المؤمنين مبعداً من عذابهما ، أو بحمله على المضيّ فوق الجسر المنصوب عليها ، وهو الصراط { كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } أي كان ورودهم المذكور أمراً محتوماً قد قضى سبحانه أنه لا بدّ من وقوعه لا محالة . وقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن العقاب واجب على الله ، وعند الأشاعرة أن هذا مشبه بالواجب من جهة استحالة تطرّق الخلف إليه .
{ ثُمَّ نُنَجّي الذين اتقوا } أي : اتقوا ما يوجب النار ، وهو الكفر بالله ومعاصيه ، وترك ما شرعه ، وأوجب العمل به . قرأ عاصم الجحدري ومعاوية بن قرة « ننجي » بالتخفيف من أنجى ، وبها قرأ حميد ويعقوب والكسائي ، وقرأ الباقون بالتشديد ، وقرأ ابن أبي ليلى : « ثُمَّ نذر » بفتح الثاء من ثم ، والمراد بالظالمين : الذين ظلموا أنفسهم بفعل ما يوجب النار ، أو ظلموا غيرهم بمظلمة في النفس أو المال أو العرض ، والجثيّ جمع جاثٍ وقد تقدّم قريباً تفسير الجثيّ وإعرابه .
وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل : « ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ » فنزلت : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ } إلى آخر الآية .
وزاد ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وكان ذلك الجواب لمحمد . وأخرج ابن مردويه من حديث أنس قال : «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ البقاع أحبّ إلى الله ، وأيها أبغض إلى الله؟ قال : " ما أدري حتى أسأل " ، فنزل جبريل ، وكان قد أبطأ عليه ، فقال : " لقد أبطأت عليّ حتى ظننت أن بربي عليّ موجدة " ، فقال : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ } . وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : أبطأ جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً ثم نزل ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : " ما نزلت حتى اشتقت إليك " ، فقال له جبريل : أنا كنت إليك أشوق ، ولكني مأمور ، فأوحى الله إلى جبريل أن قل له : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ } . وهو مرسل . وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : أبطأت الرسل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أتاه جبريل فقال له : " ما حبسك عني " ؟ قال : وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ، ولا تنقون براجمكم ، ولا تأخذون شواربكم ، ولا تستاكون؟ وقرأ : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ } » . وهو مرسل أيضاً . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } قال : من أمر الآخرة { وَمَا خَلْفَنَا } قال : من أمر الدنيا { وَمَا بَيْنَ ذلك } قال : ما بين الدنيا والآخرة . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة { وَمَا بَيْنَ ذلك } قال : ما بين النفختين . وأخرج ابن المنذر عن أبي العالية مثله . وأخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني والبيهقي ، والحاكم وصححه عن أبي الدرداء رفع الحديث قال : " ما أحلّ الله في كتابه فهو حلال ، وما حرّم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عافية ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً ، ثم تلا : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } " وأخرج ابن مردويه من حديث جابر مثله . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } قال : هل تعرف للربّ شبهاً أو مثلاً؟ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عنه : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } ؟ قال : ليس أحد يسمى الرحمن غيره . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال : يا محمد هل تعلم لإلهك من ولد؟ وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : { وَيَقُولُ الإنسان } قال : العاص بن وائل ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { جِثِيّاً } قال : قعوداً ، وفي قوله : { عِتِيّاً } قال : معصية .
وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { عِتِيّاً } قال : عصياً . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ } قال : لننزعن من أهل كل دين قادتهم ورؤوسهم في الشرّ . وأخرج ابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث عن ابن مسعود قال : نحشر الأوّل على الآخر حتى إذا تكاملت العدة أثارهم جميعاً ، ثم بدأ بالأكابر فالأكابر جرماً ، ثم قرأ : { فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ } إلى قوله : { عِتِيّاً } .
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً } قال : يقول : إنهم أولى بالخلود في جهنم . وأخرج أحمد وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود ، فقال بعضنا : لا يدخلها مؤمن ، وقال بعضنا : يدخلونها جميعاً { ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا } فلقيت جابر بن عبد الله فذكرت له ، فقال وأهوى بأصبعه إلى أذنيه صُمَّتاً : إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يبقى برٌّ ولا فاجر إلا دخلها ، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم حتى إن للنار ضجيجاً من بردها . { ثُمَّ نُنَجّي الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً } » وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن مجاهد قال : خاصم نافع بن الأزرق ابن عباس ، فقال ابن عباس : الورود : الدخول ، وقال نافع : لا ، فقرأ ابن عباس : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [ الأنبياء : 98 ] . وقال : وردوا أم لا؟ وقرأ { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار } [ هود : 98 ] أوردوا أم لا؟ أما أنا وأنت فسندخلها فانظر هل نخرج منها أم لا؟ وأخرج الحاكم عن ابن مسعود في قوله : { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قال : وإن منكم إلا داخلها . وأخرج هناد والطبراني عنه في الآية قال : ورودها الصراط . وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي وابن الأنباري وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ليرد الناس كلهم النار ، ثم يصدرون عنها بأعمالهم ، فأوّلهم كلمح البرق ، ثم كالريح ، ثم كحضر الفرس ، ثم كالراكب في رحله ، ثم كشدّ الرحل ، ثم كمشيه » وقد روي نحو هذا من حديث ابن مسعود من طرق . وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } » يقول : « مجتاز فيها »
وأخرج مسلم وغيره عن أم مبشر قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية » قالت حفصة : أليس الله يقول : { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قالت : ألم تسمعيه يقول : { ثُمَّ نُنَجّي الذين اتقوا } . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم » ، ثم قرأ سفيان { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } . وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه ، وأبو يعلى والطبراني وابن مردويه عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوّعاً لا يأخذه سلطان : لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم ، فإن الله يقول : { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } » والأحاديث في تفسير هذه الآية كثيرة جدّاً . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { حَتْماً مَّقْضِيّاً } قال : قضاء من الله . وأخرج الخطيب في تالي التلخيص عن عكرمة حتماً مقضياً قال : قسماً واجباً . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً } قال : باقين فيها .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
الضمير في { عَلَيْهِمْ } راجع إلى الكفار الذين سبق ذكرهم في قوله : { أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } أي : هؤلاء إذا قرىء عليهم القرآن تعذروا بالدنيا ، وقالوا : لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أطيب من حالنا ، ولم يكن بالعكس ، لأن الحكيم لا يليق به أن يهين أولياءه ويعزّ أعداءه ، ومعنى البينات : الواضحات التي لا تلتبس معانيها . وقيل : ظاهرات الإعجاز . وقيل : إنها حجج وبراهين ، والأوّل أولى . وهي حال مؤكدة لأن آيات الله لا تكون إلا واضحة ، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله : { قَالَ الذين كَفَرُواْ } للإشعار بأن كفرهم هو السبب لصدور هذا القول عنهم . وقيل : المراد بالذين كفروا هنا : هم المتمردّون المصرّون منهم ، ومعنى قالوا { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } قالوا : لأجلهم . وقيل : هذه اللام هي لام التبليغ كما في قوله : { وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ } [ البقرة : 247 ] أي خاطبوهم بذلك وبلغوا القول إليهم { أَىُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً } المراد بالفريقين : المؤمنون والكافرون ، كأنهم قالوا : أفريقنا خير أم فريقكم؟ قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد « مقاماً » بضم الميم ، وهو موضع الإقامة ، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الإقامة ، وقرأ الباقون بالفتح أي منزلاً ومسكناً . وقيل : المقام : الموضع الذي يقام فيه بالأمور الجليلة ، والمعنى : أي الفريقين أكبر جاهاً وأكثر أنصاراً وأعواناً ، والنديّ والنادي : مجلس القوم ومجتمعهم ، ومنه قوله تعالى : { وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ المنكر } [ العنكبوت : 29 ] . وناداه جالسه في النادي ، ومنه دار الندوة ، لأن المشركين كانوا يتشاورون فيها في أمورهم ، ومنه أيضاً قول الشاعر :
أنادي به آل الوليد جعفرا ... { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ } القرن : الأمة والجماعة { هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ورئيا } الأثاث : المال أجمع ، الإبل والغنم والبقر والعبيد والمتاع . وقيل : هو متاع البيت خاصة . وقيل : هو الجديد من الفرش . وقيل : اللباس خاصة . واختلفت القراءات في : { ورئياً } فقرأ أهل المدينة وابن ذكوان « ورياً » بياء مشدّدة ، وفي ذلك وجهان : أحدهما : أن يكون من رأيت ثم خففت الهمزة فأبدل منها ياء وأدغمت الياء في الياء والمعنى على هذه القراءة : هم أحسن منظراً وبه قول جمهور المفسرين ، وحسن المنظر يكون من جهة حسن اللباس ، أو حسن الأبدان وتنعمها ، أو مجموع الأمرين . وقرأ أهل الكوفة وأبو عمرو وابن كثير : « ورئياً » بالهمز ، وحكاها ورش عن نافع ، وهشام عن ابن عامر ، ومعناها معنى القراءة الأولى . قال الجوهري : من همز جعله من المنظر من رأيت ، وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة ، وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي :
أشاقتك الظعائن يوم بانوا ... بذي الرئي الجميل من الأثاث
ومن لم يهمز : إما أن يكون من تخفيف الهمزة ، أو يكون من رويت ألوانهم أو جلودهم رياً ، أي امتلأت وحسنت .
وقد ذكر الزجاج معنى هذا كما حكاه عنه الواحدي . وحكى يعقوب أن طلحة بن مصرف قرأ بياء واحدة خفيفة ، فقيل : إن هذه القراءة غلط ، ووجهها بعض النحويين أنه كان أصلها الهمزة فقلبت ياء ثم حذفت إحدى الياءين ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ بالزاي مكان الراء ، وروي مثل ذلك عن أبيّ بن كعب وسعيد بن جبير والأعصم المكي واليزيدي . والزيّ : الهيئة والحسن . قيل : ويجوز أن يكون من زويت أي : جمعت ، فيكون أصلها زوياً فقلبت الواو ياء ، والزيّ محاسن مجموعة .
{ قُلْ مَن كَانَ فِى الضلالة } أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب على هؤلاء المفتخرين بحظوظهم الدنيوية ، أي من كان مستقرّاً في الضلالة { فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } هذا وإن كان على صيغة الأمر ، فالمراد به الخبر ، وإنما خرج مخرج الأمر لبيان الإمهال منه سبحانه للعصاة ، وأن ذلك كائن لا محالة لتنقطع معاذير أهل الضلال ، ويقال لهم يوم القيامة : { أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } [ فاطر : 37 ] . أو للاستدراج كقوله سبحانه : { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] وقيل : المراد بالآية الدعاء بالمد والتنفيس . قال الزجاج : تأويله أن الله جعل جزاء ضلالته أن يتركه ويمدّه فيها ، لأن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر كأن المتكلم يقول : أفعل ذلك وآمر به نفسي { حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } يعني : الذين مدّ لهم في الضلالة ، وجاء بضمير الجماعة اعتباراً بمعنى من ، كما أن قوله : { كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ } اعتبار بلفظها ، وهذه غاية للمدّ ، لا لقول المفتخرين إذ ليس فيه امتداد { إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة } هذا تفصيل لقوله : { ما يوعدون } أي هذا الذي توعدون هو أحد أمرين : إما العذاب في الدنيا بالقتل والأسر ، وإما يوم القيامة وما يحلّ بهم حينئذٍ من العذاب الأخروي { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً } هذا جواب الشرط ، وهو جواب على المفتخرين ، أيّ هؤلاء القائلون : { أيّ الفريقين خير مقاماً } إذا عاينوا ما يوعدون به من العذاب الدنيوي بأيدي المؤمنين ، أو الأخروي ، فسيعلمون عند ذلك من هو شرّ مكاناً من الفريقين ، وأضعف جنداً منهما ، أي أنصاراً وأعواناً . والمعنى : أنهم سيعلمون عند ذلك أنهم شرّ مكاناً لا خير مكاناً ، وأضعف جنداً لا أقوى ولا أحسن من فريق المؤمنين؛ وليس المراد أن للمفتخرين هنالك جنداً ضعفاء ، بل لا جند لهم أصلاً كما في قوله سبحانه : { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً } [ الكهف : 43 ] .
ثم لما أخبر سبحانه عن حال أهل الضلالة ، أراد أن يبين حال أهل الهداية فقال : { وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى } وذلك أن بعض الهدى يجرّ إلى البعض الآخر ، والخير يدعو إلى الخير وقيل : المراد بالزيادة : العبادة من المؤمنين ، والواو في { ويزيد } للاستئناف ، والجملة مستأنفة لبيان حال المهتدين وقيل : الواو للعطف على { فليمدد } وقيل : للعطف على جملة { من كان في الضلالة } .
قال الزجاج : المعنى أن الله يجعل جزاء المؤمنين أن يزيدهم يقيناً كما جعل جزاء الكافرين أن يمدّهم في ضلالتهم { والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا } هي الطاعات المؤدية إلى السعادة الأبدية ، ومعنى كونها خيراً عند الله ثواباً : أنها أنفع عائدة مما يتمتع به الكفار من النعم الدنيوية { وَخَيْرٌ مَّرَدّاً } المردّ ها هنا مصدر كالردّ ، والمعنى : وخير مردّاً للثواب على فاعلها ليست كأعمال الكفار التي خسروا فيها ، والمردّ : المرجع والعاقبة والتفضل للتهكم بهم للقطع بأن أعمال الكفار لا خير فيها أصلاً .
ثم أردف سبحانه مقالة أولئك المفتخرين بأخرى مثلها على سبيل التعجب فقال : { أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بئاياتنا } أي أخبرني بقصة هذا الكافر واذكر حديثه عقب حديث أولئك ، وإنما استعملوا أرأيت بمعنى أخبر ، لأن رؤية الشيء من أسباب صحة الخبر عنه ، والآيات تعمّ كل آية ومن جملتها آية البعث ، والفاء للعطف على مقدّر يدل عليه المقام ، أي أنظرت فرأيت ، واللام في { لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } هي الموطئة للقسم ، كأنه قال : والله لأوتينّ في الآخرة مالاً وولداً ، أي أنظر إلى حال هذا الكافر وتعجب من كلامه وتأليه على الله مع كفره به وتكذيبه بآياته .
ثم أجاب سبحانه عن قول هذا الكافر بما يدفعه ويبطله ، فقال : { أَطَّلَعَ } على { الغيب } أي أعلم ما غاب عنه حتى يعلم أنه في الجنة { أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } بذلك ، فإنه لا يتوصل إلى العلم إلا بإحدى هاتين الطريقتين وقيل : المعنى : أنظر في اللوح المحفوظ؟ أم اتخذ عند الرحمن عهداً؛ وقيل : معنى { أم اتخذ عند الرحمن عهداً } أم قال : لا إله إلا الله فأرحمه بها . وقيل : المعنى أم قدّم عملاً صالحاً فهو يرجوه . واطلع مأخوذ من قولهم : اطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه . وقرأ حمزة والكسائي ويحيى بن وثاب والأعمش : « وولداً » بضم الواو ، والباقون بفتحها ، فقيل : هما لغتان معناهما واحد ، يقال : ولد وولد كما يقال : عدم وعُدم ، قال الحارث بن حلزّة :
ولقد رأيت معاشرا ... قد ثمروا مالاً وولداً
وقال آخر :
فليت فلاناً كان في بطن أمه ... وليت فلاناً كان ولد حمار
وقيل : الولد بالضم للجمع وبالفتح للواحد . وقد ذهب الجمهور إلى أن هذا الكافر أراد بقوله : { لأوتينّ مالاً وولداً } أنه يؤتى ذلك في الدنيا . وقال جماعة : في الجنة ، وقيل : المعنى : إن أقمت على دين آبائي لأوتين . وقيل : المعنى : لو كنت على باطل لما أوتيت مالاً وولداً .
{ كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ } : « كلا » حرف ردع وزجر ، أي ليس الأمر على ما قال هذا الكافر من أنه يؤتى المال والولد ، سيكتب ما يقول أي سنحفظ عليه ما يقوله فنجاز به في الآخرة ، أو سنظهر ما يقول ، أو سننتقم منه انتقام من كتبت معصيته { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً } أي نزيده عذاباً فوق عذابه مكان ما يدّعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد ، أو نطوّل له من العذاب ما يستحقه وهو عذاب من جمع بين الكفر والاستهزاء .
{ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } أي نميته فنرثه المال والولد الذي يقول إنه يؤتاه . والمعنى : مسمى ما يقول ومصداقه . وقيل : المعنى نحرمه ما تمناه ونعطيه غيره . { وَيَأْتِينَا فَرْداً } أي يوم القيامة لا مال له ولا ولد ، بل نسلبه ذلك ، فكيف يطمع في أن نؤتيه . وقيل : المراد بما يقول : نفس القول لا مسماه ، والمعنى : إنما يقول هذا القول ما دام حياً ، فإذا أمتناه حلنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا رافضاً له منفرداً عنه ، والأوّل أولى .
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { أَىُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً } قال : قريش تقوله لها ولأصحاب محمد . وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { خَيْرٌ مَّقَاماً } قال : المنازل { وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } قال : المجالس ، وفي قوله : { أَحْسَنُ أَثَاثاً } قال : المتاع والمال { ورئياً } قال : المنظر . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } : فليدعه الله في طغيانه . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حبيب بن أبي ثابت قال في حرف أبيّ : «قل من كان في الضلالة فإنه يزيده الله ضلالة» .
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما في قوله : { أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ } من حديث خباب بن الأرت قال : كنت رجلاً قيناً وكان لي على العاص بن وائل دين ، فأتيته أتقاضاه فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ، فقلت : والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث ، قال : فإني إذا متّ ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك ، فأنزل الله فيه هذه الآية . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } قال : لا إله إلا الله يرجو بها . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } قال : ماله وولده .
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
حكى سبحانه ما كان عليه هؤلاء الكفار الذين تمنوا ما لا يستحقونه ، وتألوا على الله سبحانه من اتخاذهم الآلهة من دون الله لأجل يتعززون بذلك . قال الهروّي : معنى { لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً } : ليكونوا لهم أعواناً . قال الفراء : معناه : ليكونوا لهم شفعاء في الآخرة . وقيل : معناه ليتعززوا بهم من عذاب الله ويمتنعوا بها . { كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بعبادتهم } أي ليس الأمر كما ظنوا وتوهموا ، والضمير في الفعل إما للآلهة أي ستجحد هذه الأصنام عبادة الكفار لها يوم ينطقها الله سبحانه ، لأنها عند أن عبدوها جمادات لا تعقل ذلك ، وإما للمشركين ، أي سيجحد المشركون أنهم عبدوا الأصنام ، ويدل على الوجه الأوّل قوله تعالى : { مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } [ القصص : 63 ] وقوله : { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لكاذبون } [ النحل : 86 ] ويدلّ على الوجه الثاني قوله تعالى : { والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] وقرأ ابن أبي نهيك : « كلا » بالتنوين ، وروي عنه مع ذلك ضمّ الكاف وفتحها ، فعلى الضم هي بمعنى جميعاً ، وانتصابها بفعل مضمر ، كأنه قال : سيكفرون كلا سيكفرون بعبادهم ، وعلى الفتح يكون مصدراً لفعل محذوف تقديره : كل هذا الرأي كلا ، وقراءة الجمهور هي الصواب ، وهي حرف ردع وزجر { وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } أي تكون هذه الآلهة التي ظنوها عزّاً لهم ضدّاً عليهم ، أي ضدّاً للعزّ وضدّ العزّ : الذلّ ، هذا على الوجه الأوّل ، وأما على الوجه الثاني فيكون المشركون للآلهة ضدّاً وأعداء يكفرون بها بعد أن كانوا يحبونها ويؤمنون بها .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين } ذكر الزجاج في معنى هذا وجهين : أحدهما : أن معناه : خلينا بين الكافرين وبين الشياطين فلم نعصمهم منهم ولم نعذهم ، بخلاف المؤمنين الذين قيل فيهم : { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان } [ الإسراء : 65 ] . الوجه الثاني : أنهم أرسلوا عليهم وقيضوا لهم بكفرهم قال : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً } [ الزخرف : 36 ] فمعنى الإرسال ها هنا : التسليط ومن ذلك قوله سبحانه لإبليس { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } [ الإسراء : 64 ] ويؤيد الوجه الثاني تمام الآية ، وهو { تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } فإن الأزّ والهزّ والاستفزاز معناها : التحريك والتهييج والإزعاج ، فأخبر الله سبحانه أن الشياطين تحرّك الكافرين وتهيجهم وتغويهم ، وذلك هو التسليط لها عليهم ، وقيل : معنى الأزّ : الاستعجال ، وهو مقارب لما ذكرنا لأن الاستعجال تحريك وتهييج واستفزاز وإزعاج ، وسياق هذه الآية لتعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم من حالهم ، وللتنبيه له على أن جميع ذلك بإضلال الشياطين وإغوائهم ، وجملة : { تؤزهم أزّاً } في محل نصب على الحال ، أو مستأنفة على تقدير سؤال يدل عليه المقام ، كأنه قيل : ماذا تفعل الشياطين بهم؟
{ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ } بأن تطلب من الله إهلاكهم بسبب تصميمهم على الكفر ، وعنادهم للحق ، وتمرّدهم عن داعي الله سبحانه .
ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله : { إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } يعني نعدّ الأيام والليالي والشهور والسنين من أعمارهم إلى انتهاء آجالهم . وقيل : نعدّ أنفاسهم . وقيل خطواتهم . وقيل : لحظاتهم . وقيل : الساعات . وقال قطرب : نعدّ أعمالهم . وقيل : المعنى : لا تعجل عليهم فإنما نؤخرهم ليزدادوا إثماً .
ثم لما قرّر سبحانه أمر الحشر وأجاب عن شبهة منكريه أراد أن يشرح حال المكلفين حينئذٍ ، فقال : { يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً } الظرف منصوب بفعل مقدّر ، أي اذكر يا محمد يوم الحشر . وقيل : منصوب بالفعل الذي بعده ، ومعنى حشرهم إلى الرحمن : حشرهم إلى جنته ودار كرامته ، كقوله : { إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى } [ الصافات : 99 ] والوفد جمع وافد ، كالركب جمع راكب ، وصحب جمع صاحب ، يقال : وفد يفد وفداً إذا خرج إلى ملك أو أمر خطير كذا قال الجوهري . { وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً } السوق : الحثّ على السير ، والورد : العطاش قاله الأخفش وغيره . وقال الفراء وابن الأعرابي : هم المشاة ، وقال الأزهري : هم المشاة العطاش ، كالإبل ترد الماء . وقيل : { وردا } أي : للورد ، كقولك : جئتك إكراماً ، أي للإكرام ، وقيل : أفراداً . قيل : ولا تناقض بين هذه الأقوال فهم يساقون مشاة عطاشاً أفراداً ، وأصل الورد : الجماعة التي ترد الماء من طير أو إبل أو قوم أو غير ذلك . والورد الماء الذي يورد .
وجملة : { لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة } مستأنفة لبيان بعض ما يكون في ذلك اليوم من الأمور ، والضمير في { يملكون } راجع إلى الفريقين . وقيل : للمتقين خاصة . وقيل : للمجرمين خاصة ، والأوّل أولى . ومعنى { لا يملكون الشفاعة } : أنهم لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم . وقيل : لا يملك غيرهم أن يشفع لهم ، والأوّل أولى { إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } هذا الاستثناء متصل على الوجه الأوّل أي لا يملك الفريقان المذكوران الشفاعة إلا من استعدّ لذلك بما يصير به من جملة الشافعين لغيرهم بأن يكون مؤمناً متقياً ، فهذا معنى اتخاذ العهد عند الله . وقيل : معنى اتخاذ العهد أن الله أمره بذلك كقولهم : عهد الأمير إلى فلان إذا أمره به . وقيل : معنى اتخاذ العهد : شهادة أن لا إله إلا الله . وقيل : غير ذلك . وعلى الاتصال في هذا الاستثناء يكون محل « من » في { من اتخذ } الرفع على البدل ، أو النصب على أصل الاستثناء . وأما على الوجه الثاني فالاستثناء منقطع؛ لأن التقدير : لا يملك المجرمون الشفاعة { إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } وهم المسلمون . وقيل : هو متصل على هذا الوجه أيضاً ، والتقدير : لا يملك المجرمون الشفاعة إلا من كان منهم مسلماً .
{ وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً } قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي : « ولداً » بضم الواو وإسكان اللام ، وقرأ الباقون في الأربعة المواضع الأربعة في هذه السورة بفتح الواو واللام ، وقد قدّمنا الفرق بين القراءتين .
والجملة مستأنفة لبيان قول اليهود والنصارى ومن يزعم من العرب أن الملائكة بنات الله ، وفي قوله : { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } التفات من الغيبة إلى الخطاب ، وفيه ردّ لهذه المقالة الشنعاء ، والإدّ كما قال الجوهري : الداهية والأمر الفظيع ، وكذلك الأدّة ، وجمع الأدّة أدد ، يقال : أدّت فلاناً الداهية تؤدّه أدا بالفتح . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : « أدّاً » بفتح الهمزة ، وقرأ الجمهور بالكسر ، وقرأ ابن عباس وأبو العالية « آدّاً » مثل مادّاً ، وهي مأخوذة من الثقل ، يقال : أدّه الحمل يؤده : إذا أثقله . قال الواحدي : { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } أي عظيماً في قول الجميع ، ومعنى الآية : قلتم قولاً عظيماً . وقيل : الإدّ : العجب ، والإدّة : الشدّة ، والمعنى متقارب ، والتركيب يدور على الشدّة والثقل .
{ يَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } قرأ نافع والكسائي وحفص ويحيى بن وثاب « يكاد » بالتحتية ، وقرأ الباقون بالفوقية وقرأ نافع وابن كثير وحفص « يتفطرن » بالتاء الفوقية ، وقرأ حمزة وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر والمفضل { يتفطرن } بالتحتية من الانفطار ، واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله : { إِذَا السماء انفطرت } [ الإنفطار : 1 ] ، وقوله : { السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ } [ المزمل : 18 ] وقرأ ابن مسعود : « يتصدّعن » والانفطار والتفطر : التشقق { وَتَنشَقُّ الأرض } أي وتكاد أن تنشق الأرض ، وكرر الفعل للتأكيد لأن تتفطرن وتنشق معناهما واحد { وَتَخِرُّ الجبال } أي تسقط وتنهدم ، وانتصاب { هَدّاً } على أنه مصدر مؤكد؛ لأن الخرور في معناه ، أو هو مصدر لفعل مقدّر ، أي وتنهد هدّاً ، أو على الحال أي مهدودة ، أو على أنه مفعول له ، أي لأنها تنهد . قال الهروي : يقال هدني الأمر وهدّ ركني ، أي كسرني وبلغ مني . قال الجوهري : هدّ البناء يهدّه هدّاً كسره وضعضعه ، وهدّته المصيبة أوهنت ركنه ، وانهدّ الجبل ، أي انكسر ، والهدّة : صوت وقع الحائط ، كما قال ابن الأعرابي ، ومحل { أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً } الجرّ بدلاً من الضمير في { منه } . وقال الفراء : في محل نصب بمعنى لأن دعوا . وقال الكسائي : هو في محل خفض بتقدير الخافض . وقيل : في محل رفع على أنه فاعل { هدّاً } . والدعاء بمعنى التسمية ، أي سموا للرحمن ولداً ، أو بمعنى النسبة أي نسبوا له ولداً .
{ وَمَا يَنبَغِى للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } أي لا يصلح له ولا يليق به لاستحالة ذلك عليه؛ لأن الولد يقتضي الجنسية والحدوث ، والجملة في محل نصب على الحال ، أي قالوا اتخذ الرحمن ولداً ، أو أن دعوا للرحمن ولداً ، والحال أنه ما يليق به سبحانه ذلك . { إِن كُلُّ مَن فِي السموات والأرض } أي ما كل من في السموات والأرض { إِلا } وهو { آتِي } الله يوم القيامة مقرّاً بالعبودية خاضعاً ذليلاً كما قال : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين } [ النمل : 87 ] أي صاغرين . والمعنى : أن الخلق كلهم عبيده فكيف يكون واحد منهم ولداً له؟ وقرى « آتٍ » على الأصل .
{ لَّقَدْ أحصاهم } أي حصرهم وعلم عددهم { وَعَدَّهُمْ عَدّاً } أي عدّ أشخاصهم بعد أن حصرهم فلا يخفى عليه أحد منهم . { وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً } أي كل واحد منهم يأتيه يوم القيامة فرداً لا ناصر له ولا مال معه ، كما قال سبحانه { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ } [ الشعراء : 88 ] .
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } قال : أعواناً . وأخرج عبد بن حميد عنه { ضِدّاً } قال : حسرة . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : { تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } : تغويهم إغواءً . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً : { تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } قال : تحرّض المشركين على محمد وأصحابه . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : تزعجهم إزعاجاً إلى معاصي الله . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس : { وَفْداً } قال : ركباناً . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن أبي هريرة { وَفْداً } قال : على الإبل . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق : راغبين وراهبين ، واثنان على بعير ، وثلاثة على بعير وأربعة على بعير ، وعشرة على بعير ، وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا ، وتبيت معهم حيث باتوا » والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس : { وِرْداً } قال : عطاشاً . وأخرج ابن المنذر عن أبي هريرة مثله . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، وتبرأ من الحول والقوّة ، ولا يرجو إلا الله . وأخرج ابن مردويه عنه في الآية قال : من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة . وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قرأ { إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } قال : إن الله يقول يوم القيامة : من كان له عندي عهد فليقم ، فلا يقوم إلا من قال هذا في الدنيا ، قولوا : اللّهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في الحياة الدنيا أنك إن تكلني إلى عملي تقربني من الشرّ وتباعدني من الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، فاجعله لي عندك عهداً تؤديه إليّ يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« من أدخل على مؤمن سروراً فقد سرّني ، ومن سرّني فقد اتخذ عند الرحمن عهداً ، ومن اتخذ عند الرحمن عهداً فلا تمسه النار ، إن الله لا يخلف الميعاد » وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من جاءنا بالصلوات الخمس يوم القيامة قد حافظ على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها لم ينقص منها شيئاً جاء وله عند الله عهد أن لا يعذبه ، ومن جاء قد انتقص منهم شيئاً فليس له عند الله عهد ، إن شاء رحمه وإن شاء عذبه »
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } قال : قولاً عظيماً ، وفي قوله : { يَكَادُ السموات } قال : إن الشرك فزعت منه السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين ، وكادت تزول منه لعظمة الله سبحانه ، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك ، كذلك يرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين ، وفي قوله : { وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً } قال : هدماً . وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، والطبراني والبيهقي في الشعب من طريق عون عن ابن مسعود قال : إن الجبل لينادي الجبل باسمه ، يا فلان ، هل مرّ بك اليوم أحد ذكر الله؟ فإذا قال : نعم ، استبشر . قال عون : أفيسمعن الزور إذا قيل ولا يسمعن الخير؟ هنّ للخير أسمع ، وقرأ : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً } الآيات .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
ذكر سبحانه من أحوال المؤمنين بعض ما خصهم به بعد ذكره لقبائح الكافرين فقال : { إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } أي حباً في قلوب عباده ، يجعله لهم من دون أن يطلبوه بالأسباب التي توجب ذلك ، كما يقذف في قلوب أعدائهم الرعب ، والسين في { سيجعل } للدلالة على أن ذلك لم يكن من قبل وأنه مجعول من بعد نزول الآية . وقرىء « ودّاً » بكسر الواو ، والجمهور من السبعة وغيرهم على الضم . ثم ذكر سبحانه تعظيم القرآن خصوصاً هذه السورة لاشتمالها على التوحيد والنبوّة ، وبيان حال المعاندين فقال : { فَإِنَّمَا يسرناه بِلَسَانِكَ } أي يسرنا القرآن بإنزالنا له على لغتك ، وفصلناه وسهلناه ، والباء بمعنى على ، والفاء لتعليل كلام ينساق إليه النظم كأنه قيل : بلغ هذا المنزل أو بشر به أو أنذر { فَإِنَّمَا يسرناه } الآية . ثم علل ما ذكره من التيسير فقال : { لِتُبَشّرَ بِهِ المتقين } أي المتلبسين بالتقوى ، المتصفين بها { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } اللدّ : جمع الألد ، وهو الشديد الخصومة . ومنه قوله تعالى : { أَلَدُّ الخصام } [ البقرة : 204 ] . قال الشاعر :
أبيت نجياً للهموم كأنني ... أخاصم أقواماً ذوي جدل لدّاً
وقال أبو عبيدة : الألدّ الذي لا يقبل الحق ويدّعي الباطل . وقيل : اللدّ : الصم . وقيل : الظلمة { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ } أي من أمة وجماعة من الناس ، وفي هذا وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بهلاك الكافرين ووعيد لهم { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ } هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها ، أي هل تشعر بأحد منهم أو تراه { أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } الركز : الصوت الخفي ، ومنه ركز الرمح : إذا غيب طرفه في الأرض . قال طرفة :
وصادفتها سمع التوجس للسرى ... لركز خفي أو لصوت مفند
وقال ذو الرمة :
إذا توجس ركزاً مقفر ندس ... بنبأة الصوت ما في سمعه كذب
أي في استماعه كذب بل هو صادق الاستماع ، والندس : الحاذق ، والنبأة : الصوت الخفي .
وقال اليزيدي وأبو عبيد : الركز : ما لا يفهم من صوت أو حركة .
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف؛ أنه لما هاجر إلى المدينة وجد في نفسه على فراق أصحابه بمكة منهم شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف ، فأنزل الله { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } الآية . قال ابن كثير : وهو خطأ ، فإن السورة مكية بكمالها لم ينزل شيء منها بعد الهجرة ولم يصح سند ذلك . وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت في علي بن أبي طالب { إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } قال : محبة في قلوب المؤمنين .
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ : « قل اللّهم اجعل لي عندك عهداً ، واجعل لي عندك ودّاً ، واجعل لي في صدور المؤمنين مودة » ، فأنزل الله الآية في عليّ . وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس { وُدّاً } قال : محبة في الناس في الدنيا . وأخرج الحكيم الترمذي وابن مردويه عن عليّ قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } ما هو؟ قال : « المحبة الصادقة في صدور المؤمنين » وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أحب الله عبداً نادى جبريل : إني قد أحببت فلاناً فأحبه ، فينادي في السماء ، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض فذلك قوله : { إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل إني قد أبغضت فلاناً ، فينادي في أهل السماء ، ثم ينزل له البغضاء في الأرض » والأحاديث والآثار في هذا الباب كثيرة .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } قال : فجاراً . وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال : صماً . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ } قال : هل ترى منهم من أحد . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { رِكْزاً } قال : صوتاً .
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
قوله : { طه } قرأ بإمالة الهاء وفتح الطاء أبو عمرو وابن أبي إسحاق ، وأمالهما جميعاً أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش . وقرأهما أبو جعفر وشيبة ونافع بين اللفظين ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وقرأ الباقون بالتفخيم . قال الثعلبي : وهي كلها لغات صحيحة فصيحة . وقال النحاس : لا وجه للإمالة عند أكثر أهل العربية لعلتين : الأولى أنه ليس هاهنا ياء ولا كسرة حتى تكون الإمالة ، والعلة الثانية أن الطاء من موانع الإمالة .
وقد اختلف أهل العلم في معنى هذه الكلمة على أقوال : الأوّل أنها من المتشابه الذي لا يفهم المراد به . والثاني : أنها بمعنى : يا رجل في لغة عكل ، وفي لغة عكّ . قال الكلبي : لو قلت لرجل من عك : يا رجل لم يجب حتى تقول : طه ، وأنشد ابن جرير في ذلك :
دعوت بطه في القتال فلم يجب ... فخفت عليه أن يكون موائلا
ويروى مزايلاً وقيل : إنها في لغة عكّ بمعنى : يا حبيبي . وقال قطرب : هي كذلك في لغة طيّ أي بمعنى : يا رجل ، وكذلك قال الحسن وعكرمة وقيل : هي كذلك في اللغة السريانية ، حكاه المهدوي . وحكى ابن جرير أنها كذلك في اللغة النبطية ، وبه قال السديّ وسعيد بن جبير . وحكى الثعلبي : عن عكرمة أنها كذلك في لغة الحبشة ، ورواه عن عكرمة ، ولا مانع من أن تكون هذه الكلمة موضوعة لذلك المعنى في تلك اللغات كلها إذا صح النقل . القول الثالث : أنها اسم من أسماء الله سبحانه . والقول الرابع : أنها اسم للنبيّ صلى الله عليه وسلم . القول الخامس : أنها اسم للسورة . القول السادس : أنها حروف مقطعة يدل كل واحد منها على معنى . ثم اختلفوا في هذه المعاني التي تدل عليها هذه الحروف على أقوال كلها متكلفة متعسفة . القول السابع : أن معناها : طوبى لمن اهتدى . القول الثامن : أن معناها : طأ الأرض يا محمد . قال ابن الأنباري : وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتحمل مشقة الصلاة حتى كادت قدماه تتورم ويحتاج إلى التروّح ، فقيل له : طأ الأرض ، أي لا تتعب حتى تحتاج إلى التروّح . وحكى القاضي عياض في الشفاء عن الربيع بن أنس قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى ، فأنزل الله : { طه } يعني : طأ الأرض يا محمد ، وحكي عن الحسن البصري أنه قرأ : « طه » على وزن دع ، أمر بالوطء ، والأصل : طأ ، فقلبت الهمزة هاء . وقد حكى الواحدي عن أكثر المفسرين أن هذه الكلمة معناها : يا رجل ، يريد النبي صلى الله عليه وسلم قال : وهو قول الحسن وعكرمة وسعيد ابن جبير والضحّاك ، وقتادة ومجاهد وابن عباس في رواية عطاء والكلبي غير أن بعضهم يقول : هي بلسان الحبشة والنبطية والسريانية ، ويقول الكلبي : هي بلغة عك .
قال ابن الأنباري : ولغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا المعنى؛ لأن الله سبحانه لم يخاطب نبيه بلسان غير قريش . انتهى .
وإذا تقرّر أنها لهذا المعنى في لغة من لغات العرب كانت ظاهرة المعنى واضحة الدلالة خارجة عن فواتح السور التي قدّمنا بيان كونها من المتشابه في فاتحة سورة البقرة ، وهكذا إذا كانت لهذا المعنى في لغة من لغات العجم واستعملتها العرب في كلامها في ذلك المعنى كسائر الكلمات العجمية التي استعملتها العرب الموجودة في الكتاب العزيز ، فإنها صارت بذلك الاستعمال من لغة العرب .
وجملة : { مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى } مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يعتريه من جهة المشركين من التعب ، والشقاء يجيء في معنى التعب . قال ابن كيسان : وأصل الشقاء في اللغة : العناء والتعب ، ومنه قول الشاعر :
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
والمعنى : ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم ، وتحسرك على أن يؤمنوا ، فهو كقوله سبحانه : { فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ } [ الكهف : 6 ] . قال النحاس : بعض النحويين يقول : هذه اللام في : { لتشقى } لام النفي ، وبعضهم يقول : لام الجحود . وقال ابن كيسان : هي لام الخفض ، وهذا التفسير للآية هو على قول من قال : إن طه كسائر فواتح السور التي ذكرت تعديداً لأسماء الحروف ، وإن جعلت اسماً للسورة كان قوله : { مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى } خبراً عنها ، وهي في موضع المبتدأ ، وأما على قول من قال : إن معناها : يا رجل ، أو بمعنى الأمر بوطء الأرض ، فتكون الجملة مستأنفة لصرفه صلى الله عليه وسلم عما كان عليه من المبالغة في العبادة .
وانتصاب { إِلاَّ تَذْكِرَةً } على أنه مفعول له لأنزلنا كقولك : ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقاً عليك . وقال الزجاج : هو بدل من لتشقى ، أي : ما أنزلناه إلا تذكرة . وأنكره أبو علي الفارسي من جهة أن التذكرة ليست بشقاء ، قال : وإنما هو منصوب على المصدرية ، أي أنزلناه لتذكر به تذكرة ، أو على المفعول من أجله ، أي ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به ، ما أنزلناه إلا للتذكرة .
وانتصاب { تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق الأرض } على المصدرية ، أي أنزلناه تنزيلاً . وقيل : بدل من قوله { تذكرة } وقيل : هو منصوب على المدح . وقيل : منصوب ب { يخشى } أي : يخشى تنزيلاً من الله على أنه مفعول به . وقيل : منصوب على الحال بتأوله باسم الفاعل . وقرأ أبو حيوة الشامي : « تنزيل » بالرفع على معنى هذا تنزيل؛ و { ممن خلق } متعلق ب { تنزيلاً } أو بمحذوف هو صفة له ، وتخصيص خلق الأرض والسموات؛ لكونهما أعظم ما يشاهده العباد من مخلوقاته عزّ وجلّ ، والعلى : جمع العليا ، أي المرتفعة كجمع كبرى وصغرى على كبر وصغر .
ومعنى الآية : إخبار العباد عن كمال عظمته سبحانه وعظيم جلاله .
وارتفاع { ;لرحمن } على أنه خبر مبتدأ محذوف كما قال الأخفش ، ويجوز أن يكون مرتفعاً على المدح أو على الابتداء . وقرىء بالجر ، قال الزجاج : على البدل ممن ، وجوز النحاس أن يكون مرتفعاً على البدل من المضمر في خلق ، وجملة { عَلَى العرش استوى } في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف ، أو على أنها خبر الرحمن عند من جعله مبتدأ . قال أحمد بن يحيى : قال ثعلب : الاستواء : الإقبال على الشيء ، وكذا قال الزجاج والفراء . وقيل : هو كناية عن الملك والسلطان ، والبحث في تحقيق هذا يطول ، وقد تقدّم البحث عنه في الأعراف . والذي ذهب إليه أبو الحسن الأشعري أنه سبحانه مستوٍ على عرشه بغير حدّ ولا كيف ، وإلى هذا القول سبقه الجماهير من السلف الصالح الذي يمرون الصفات كما وردت من دون تحريف ولا تأويل .
{ لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض } أي أنه مالك كل شيء ومدبره { وَمَا بَيْنَهُمَا } من الموجودات { وَمَا تَحْتَ الثرى } الثرى في اللغة : التراب النديّ ، أي ما تحت التراب من شيء . قال الواحدي : والمفسرون يقولون : إنه سبحانه أراد الثرى الذي تحت الصخرة التي عليها الثور الذي تحت الأرض ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله سبحانه { وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } الجهر بالقول : هو رفع الصوت به ، والسرّ : ما حدّث به الإنسان غيره وأسرّه إليه ، والأخفى من السرّ : هو ما حدّث به الإنسان نفسه وأخطره بباله . والمعنى : إن تجهر بذكر الله ودعائه فاعلم أنه غنيّ عن ذلك ، فإنه يعلم السرّ وما هو أخفى من السرّ ، فلا حاجة لك إلى الجهر بالقول ، وفي هذا معنى النهي عن الجهر كقوله سبحانه : { واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } [ الأعراف : 205 ] . وقيل : السر ما أسرّ الإنسان في نفسه ، والأخفى منه هو ما خفي على ابن آدم مما هو فاعله وهو لا يعلمه . وقيل : السرّ : ما أضمره الإنسان في نفسه ، والأخفى منه ما لم يكن ولا أضمره أحد ، وقيل : السرّ سرّ الخلائق ، والأخفى منه : سرّ الله عزّ وجلّ ، وأنكر ذلك ابن جرير وقال : إن الأخفى : ما ليس في سرّ الإنسان وسيكون في نفسه .
ثم ذكر أن الموصوف بالعبادة على الوجه المذكور هو الله سبحانه المنزه عن الشريك المستحق لتسميته بالأسماء الحسنى فقال : { الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسماء الحسنى } فالله خبر مبتدأ محذوف ، أي الموصوف بهذه الصفات الكمالية الله ، وجملة . { لا إله إلا هو } مستأنفة لبيان اختصاص الإلهية به سبحانه ، أي لا إله في الوجود إلا هو ، وهكذا جملة : { له الأسماء الحسنى } مبينة لاستحقاقه تعالى للأسماء الحسنى ، وهي التسعة والتسعون التي ورد بها الحديث الصحيح .
وقد تقدم بيانها في قوله سبحانه : { وَللَّهِ الأسماء الحسنى } [ الأعراف : 180 ] . من سورة الأعراف والحسنى تأنيث الأحسن ، والأسماء مبتدأ وخبرها الحسنى . ويجوز أن يكون الله مبتدأ وخبره الجملة التي بعده ، ويجوز أن يكون بدلاً من الضمير في يعلم . ثم قرّر سبحانه أمر التوحيد بذكر قصة موسى المشتملة على القدرة الباهرة ، والخبر الغريب ، فقال : { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى } الاستفهام للتقرير ، ومعناه : أليس قد أتاك حديث موسى . وقيل : معناه قد أتاك حديث موسى . وقال الكلبي : لم يكن قد أتاه حديث موسى إذ ذاك . وفي سياق هذه القصة تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم لما يلاقيه من مشاق أحكام النبوّة ، وتحمل أثقالها ومقاساة خطوبها ، وأن ذلك شأن الأنبياء قبله . والمراد بالحديث القصة الواقعة لموسى . و { إِذْ رَأَى نَاراً } ظرف للحديث . وقيل : العامل فيه مقدر ، أي اذكر . وقيل : يقدر مؤخراً أي حين رأى ناراً كان كيت وكيت ، وكانت رؤيته للنار في ليلة مظلمة لما خرج مسافراً إلى أمه بعد استئذانه لشعيب فلما رآها { قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا } والمراد بالأهل هنا : امرأته ، والجمع لظاهر لفظ الأهل أو للتفخيم؛ وقيل : المراد بهم المرأة والولد والخادم ، ومعنى { امكثوا } : أقيموا مكانكم ، وعبر بالمكث دون الإقامة؛ لأن الإقامة تقتضي الدوام ، والمكث ليس كذلك . وقرأ حمزة : « لأهله » بضم الهاء ، وكذا في القصص . قال النحاس : وهذا على لغة من قال : مررت بهو يا رجل ، فجاء به على الأصل وهو جائز ، إلا أن حمزة خالف أصله في هذين الموضعين خاصة . { إِنّي آنَسْتُ نَاراً } أي أبصرت ، يقال : آنست الصوت سمعته ، وآنست الرجل : أبصرته . وقيل : الإيناس : الإبصار البين . وقيل : الإيناس مختص بإبصار ما يؤنس . والجملة تعليل للأمر بالمكث ، ولما كان الإتيان بالقبس ، ووجود الهدى متوقعين بني الأمر على الرجاء ، فقال : { لَّعَلّي آتِيكُمْ مّنْهَا بِقَبَسٍ } أي أجيئكم من النار بقبس . والقبس : شعلة من النار ، وكذا المقباس ، يقال : قبست منه ناراً أقبس ناراً قبساً فأقبسني ، أي أعطاني وكذا اقتبست . قال اليزيدي : أقبست الرجل علماً وقبسته ناراً ، فإن كنت طلبتها له قلت : أقبسته . وقال الكسائي : أقبسته ناراً وعلماً سواء ، قال : وقبسته أيضاً فيهما . { أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى } أي هادياً يهديني إلى الطريق ويدلني عليها . قال الفراء : أراد هادياً ، فذكره بلفظ المصدر ، أو عبر بالمصدر لقصد المبالغة على حذف المضاف ، أي ذا هدى ، وكلمة « أو » في الموضعين لمنع الخلوّ دون الجمع ، وحرف الاستعلاء للدلالة على أن أهل النار مستعلون على أقرب مكان إليها .
{ فَلَمَّا أتاها نُودِيَ } أي : فلما أتى النار التي آنسها { نُودِيَ } من الشجرة ، كما هو مصرّح بذلك في سورة القصص ، أي من جهتها ، ومن ناحيتها { نُودِيَ ياموسى إِنّي أَنَاْ رَبُّكَ } أي نودي ، فقيل : يا موسى .
وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبو جعفر وابن محيصن وحميد واليزيدي : « أني » بفتح الهمزة ، وقرأ الباقون بكسرها ، أي بأني . { فاخلع نَعْلَيْكَ } أمره الله سبحانه بخلع نعليه؛ لأن ذلك أبلغ في التواضع ، وأقرب إلى التشريف والتكريم وحسن التأدب . وقيل : إنهما كانا من جلد حمار غير مدبوغ . وقيل : معنى الخلع للنعلين : تفريغ القلب من الأهل والمال ، وهو من بدع التفاسير ، ثم علل سبحانه الأمر بالخلع فقال : { إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى } المقدّس : المطهر . والقدس : الطهارة . والأرض المقدّسة : المطهرة؛ سميت بذلك؛ لأن الله أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين ، و { طوى } اسم للوادي . قال الجوهري : وطوى : اسم موضع بالشام يكسر طاؤه ويضم ، يصرف ولا يصرف ، فمن صرفه جعله اسم وادٍ ومكان وجعله نكرة ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة ، وقرأ عكرمة : « طوى » بكسر الطاء ، وقرأ الباقون بضمها . وقيل : إن طوى كثنى من الطي مصدر لنودي ، أو للمقدس ، أي نودي نداءين ، أو قدس مرة بعد أخرى .
{ وَأَنَا اخترتك } قرأ أهل المدينة ، وأهل مكة وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي { وأنا اخترتك } بالإفراد . وقرأ حمزة : « وإنا اخترناك » بالجمع . قال النحاس : والقراءة الأولى أولى من جهتين : إحداهما أنها أشبه بالخط ، والثانية أنها أولى بنسق الكلام لقوله : { ياموسى إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ } ومعنى { اخترتك } : اصطفيتك للنبوّة والرسالة ، والفاء في قوله : { فاستمع لِمَا يُوحَى } لترتيب ما بعدها على ما قبلها و « ما » موصولة أو مصدرية ، أي فاستمع للذي يوحى إليك ، أو للوحي ، وجملة { إِنَّنِى أَنَا الله } بدل من ما في : { لما يوحى } . ثم أمره سبحانه بالعبادة ، فقال : { فاعبدنى } والفاء هنا كالفاء التي قبلها؛ لأن اختصاص الإلهية به سبحانه موجب لتخصيصه بالعبادة { وأقم الصلاة لذكري } خصّ الصلاة بالذكر مع كونها داخلة تحت الأمر بالعبادة ، لكونها أشرف طاعة وأفضل عبادة ، وعلل الأمر بإقامة الصلاة بقوله { لذكري } أي لتذكرني فإن الذكر الكامل لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة ، أو المعنى : لتذكرني فيهما لاشتمالهما على الأذكار ، أو المعنى : أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة . وقيل : المعنى : لأذكرك بالمدح في عليين ، فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول .
وجملة { إِنَّ الساعة ءَاتِيَةٌ } تعليل لما قبلها من الأمر ، أي إن الساعة التي هي وقت الحساب والعقاب آتية ، فاعمل الخير من عبادة الله والصلاة .
ومعنى { أَكَادُ أُخْفِيهَا } : مختلف فيه . قال الواحدي : قال أكثر المفسرين : أخفيها من نفسي ، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة . وقال المبرد وقطرب : هذا على عادة مخاطبة العرب يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء : كتمته حتى من نفسي ، أي لم أطلع عليه أحداً؛ ومعنى الآية : أن الله بالغ في إخفاء الساعة ، فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب .
وقد روي عن سعيد بن جبير أنه قرأ : « أخفيها » بفتح الهمزة ، ومعناه : أظهرها . وكذا روى أبو عبيد عن الكسائي عن محمد بن سهل عن وفاء بن إياس عن سعيد ابن جبير . قال النحاس : وليس لهذه الرواية طريق غير هذا . قال القرطبي : وكذا رواه ابن الأنباري في كتاب الردّ قال : حدّثني أبي ، حدّثنا محمد بن الجهم ، حدثنا الفراء حدثنا الكسائي فذكره . قال النحاس : وأجود من هذا الإسناد ما رواه يحيى القطان عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير أنه قرأ { أخفيها } بضم الهمزة . قال ابن الأنباري : قال الفراء : ومعنى قراءة الفتح : أكاد أظهرها ، من خفيت الشيء : إذا أظهرته أخفيه . قال القرطبي : وقد قال بعض اللغويين : يجوز أن يكون { أخفيها } بضم الألف معناه : أظهرها؛ لأنه يقال : خفيت الشيء وأخفيته من حروف الأضداد يقع على الستر والإظهار . قال أبو عبيدة : خفيت وأخفيت بمعنى واحد . قال النحاس : وهذا حسن ، وقد أنشد الفراء وسيبويه ما يدل على أن معنى أخفاه أظهر ، وذلك قول امرىء القيس :
فإن تكتموا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
أي : وإن تكتموا الداء لا نظهره . وقد حكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أنه بضم النون من نخفه ، وقال : امرؤ القيس :
خفاهن من أنفاقهن كأنما ... خفاهن ودق من عشيّ مُجَلَّب
أي أظهرهن . وقد زيف النحاس هذا القول وقال : ليس المعنى على أظهرها ، ولا سيما و « أخفيها » قراءة شاذة ، فكيف تردّ القراءة الصحيحة الشائعة . وقال ابن الأنباري : في الآية تفسير آخر ، وهو أن الكلام ينقطع على : { أكاد } وبعده مضمر ، أي أكاد آتي بها ، ووقع الابتداء بأخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى ، ومثله قول عمير بن ضابىء البرجمي :
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
أي وكدت أفعل . واختار هذا النحاس . وقال أبو عليّ الفارسي : هو من باب السلب وليس من الأضداد ، ومعنى أخفيها : أزيل عنها خفاءها ، وهو سترها ، ومن هذا قولهم : أشكيته ، أي أزلت شكواه . وحكى أبو حاتم عن الأخفش أن أكاد زائدة للتأكيد ، قال : ومثله { إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [ النور : 40 ] ، ومثله قول الشاعر :
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه ... فما أن يكاد قرنه يتنفس
قال : والمعنى : أكاد أخفيها؛ أي أقارب ذلك ، لأنك إذا قلت : كاد زيد يقوم ، جاز أن يكون قام وأن يكون لم يقم ، ودلّ على أنه قد أخفاها بدلالة غير هذه الآية على هذا . وقوله : { لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى } متعلق بآتية ، أو بأخفيها ، و « ما » مصدرية ، أي لتجزى كل نفس بسعيها . والسعي وإن كان ظاهراً في الأفعال ، فهو هنا يعمّ الأفعال والتروك؛ للقطع بأن تارك ما يجب عليه معاقب بتركه مأخوذ به .
{ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا } أي لا يصرفنك عن الإيمان بالساعة ، والتصديق بها ، أو عن ذكرها ومراقبتها { مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا } من الكفرة ، وهذا النهي وإن كان للكافر بحسب الظاهر ، فهو في الحقيقة نهي له صلى الله عليه وسلم عن الانصداد ، أو عن إظهار اللين للكافرين فهو من باب : لا أرينك ها هنا ، كما هو معروف . وقيل : الضمير في : { عنها } للصلاة وهو بعيد ، وقوله : { واتبع هَوَاهُ } معطوف على ما قبله ، أي من لا يؤمن ، ومن اتبع هواه أي هوى نفسه بالانهماك في اللذات الحسية الفانية { فتردى } أي فتهلك؛ لأن انصدادك عنها بصدّ الكفارين لك مستلزم للهلاك ومستتبع له .
وقد أخرج ابن المنذر وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، وابن عساكر عن ابن عباس؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم : أوّل ما نزل عليه الوحي كان يقوم على صدر قدميه إذا صلى ، فأنزل الله : { طه * مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى } . وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه قال : قالوا لقد شقي هذا الرجل بربه ، فأنزل الله هذه الآية . وأخرج ابن عساكر عنه أيضاً قال : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يربط نفسه بحبل لئلا ينام ، فأنزل الله هذه الآية» . وأخرج البزار عن عليّ قال : «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يراوح بين قدميه يقوم على كل رجل حتى نزلت : { مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى } » وحسن السيوطي إسناده . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً بأطول منه . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما قرأ القرآن إذا صلى ، فقام على رجل واحدة ، فأنزل الله : { طه } برجليك فما أنزلنا عليك القرآن لتشقى . وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنه في قوله : { طه } قال : يا رجل . وأخرج الحارث بن أبي أسامة وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : { طه } بالنبطية ، أي طأ يا رجل . وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : هو كقولك : اقعد . وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه قال : { طه } بالنبطية : يا رجل . وأخرج ابن جرير عنه قال : { طه } : يا رجل بالسريانية . وأخرج الحاكم عنه أيضاً قال : { طه } هو كقولك : يا محمد بلسان الحبش . وفي هذه الروايات عن ابن عباس اختلاف وتدافع . وأخرج ابن مردويه عن أبي الطفيل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لي عند ربي عشرة أسماء " ، قال أبو الطفيل : حفظت منها ثمانية : محمد ، وأحمد ، وأبو القاسم ، والفاتح ، والخاتم ، والماحي ، والعاقب ، والحاشر . وزعم سيف أن أبا جعفر قال له الاسمان الباقيان : طه ويس .
وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { طه * مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى } قال : يا رجل ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ، وكان يقوم الليل على رجليه فهي لغة لعك إن قلت لعكي : يا رجل ، لم يلتفت ، وإذا قلت طه ، التفت إليك . وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : { طه } قسم أقسم الله به ، وهو من أسمائه .
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَمَا تَحْتَ الثرى } قال : الثرى : كل شيء مبتل . وأخرج أبو يعلى عن جابر : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل ما تحت هذه الأرض؟ قال : « الماء » ، قيل : فما تحت الماء؟ قال : « ظلمة » قيل : فما تحت الظلمة؟ قال : « الهواء » قيل : فما تحت الهواء؟ قال : « الثرى » قيل : فما تحت الثرى؟ قال : « انقطع علم المخلوقين عند علم الخالق » وأخرج ابن مردويه عنه نحوه بأطول منه . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : و { يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } قال : السرّ ما أسرّه ابن آدم في نفسه ، وأخفى : ما خفي عن ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعمله ، فإنه يعلم ذلك كله فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد وجميع الخلائق عنده في ذلك كنفس واحدة وهو كقوله : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة } [ لقمان : 28 ] . وأخرج الحاكم وصححه عنه في الآية قال : السرّ : ما علمته أنت ، وأخفى : ما قذف الله في قلبك مما لم تعلمه . وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وأبو الشيخ في العظمة ، والبيهقي بلفظ : يعلم ما تسرّ في نفسك ويعلم ما تعمل غداً .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى } يقول : من يدلّ على الطريق . وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عليّ في قوله : { فاخلع نَعْلَيْكَ } قال : كانتا من جلد حمار ميت فقيل له : اخلعهما . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { إِنَّكَ بالواد المقدس } قال المبارك : { طوى } قال : اسم الوادي . وأخرج ابن أبي حاتم عنه { بالواد المقدس طُوًى } يعني : الأرض المقدسة ، وذلك أنه مرّ بواديها ليلاً فطوى يقال : طويت وادي كذا وكذا . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله : { طُوًى } قال : طإ الوادي .
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها ، فإن الله قال : { أَقِمِ الصلاة لِذِكْرِى } » وأخرج الترمذي وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها ، فإن الله قال : { أَقِمِ الصلاة لِذِكْرِي } » وكان ابن شهاب يقرؤها : « للذكرى » . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أَكَادُ أُخْفِيهَا } قال : لا أظهر عليها أحداً غيري . وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : { أَكَادُ أُخْفِيهَا } من نفسي .
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
قوله : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى } قال الزجاج والفراء : إن { تلك } اسم ناقص وصلت { بيمينك } أي ما التي بيمينك؟ وروي عن الفراء أنه قال : تلك بمعنى هذه ، ولو قال : ما ذلك لجاز ، أي ما ذلك الشيء؟ وبالأوّل قال الكوفيون . قال الزجاج : ومعنى سؤال موسى عمّا في يده من العصا التنبيه له عليها لتقع المعجزة بها بعد التثبيت فيها والتأمل لها . قال الفراء : ومقصود السؤال تقرير الأمر حتى يقول موسى : هي عصاي لتثبيت الحجة عليه بعد ما اعترف ، وإلا فقد علم الله ما هي في الأزل ، ومحل «ما» الرفع على الابتداء ، و { تلك } خبره ، و { بيمينك } في محل نصب على الحال إن كانت تلك اسم إشارة على ما هو ظاهر اللفظ ، وإن كانت اسماً موصولاً كان { بيمينك } صلة للموصول .
{ قَالَ هِيَ عَصَايَ } قرأ ابن أبي إسحاق : " عصى " على لغة هذيل . وقرأ الحسن : " عَصَايَ " بكسر الياء لالتقاء الساكنين { أتوكأ عليها } أي أتحامل عليها في المشي وأعتمدها عند الإعياء والوقوف ، ومنه الاتكاء . { وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي } هش بالعصا يهش هشاً : إذا خبط بها الشجر ليسقط منه الورق . قال الشاعر :
أهش بالعصا على أغنامي ... من ناعم الأوراك والشام
وقرأ النخعي " أهس " بالسين المهملة ، وهو زجر الغنم ، وكذا قرأ عكرمة ، وقيل : هما لغتان لمعنى واحد { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } أي حوائج ، واحدها مَأْرَبَة ومَأْرُبُة ومأربة مثلث الراء ، كذا قال ابن الأعرابي وقطرب ، ذكر تفصيل منافع العصا ، ثم عقبه بالإجمال .
وقد تعرّض قوم لتعداد منافع العصا ، فذكروا من ذلك أشياء منها قول بعض العرب : عصاي أركزها لصلاتي ، وأعدّها لعداتي ، وأسوق بها دابتي ، وأقوى بها على سفري ، وأعتمد بها في مشيتي ، ليتسع خطوي ، وأثب بها النهر ، وتؤمنني العثر ، وألقي عليها كسائي ، فتقيني الحرّ ، وتدفيني من القرّ ، وتدني إليّ ما بعد مني وهي تحمل سفرتي ، وعلاقة إداوتي ، أعصي بها عند الضراب ، وأقرع بها الأبواب ، وأقي بها عقور الكلاب ، وتنوب عن الرمح في الطعان ، وعن السيف عند منازلة الأقران ، ورثتها عن أبي وأورثها بعدي بنيّ . انتهى .
وقد وقفت على مصنف في مجلد لطيف في منافع العصا لبعض المتأخرين ، وذكر فيه أخباراً وأشعاراً وفوائد لطيفة ونكتاً رشيقة . وقد جمع الله سبحانه لموسى في عصاه من البراهين العظام والآيات الجسام ما أمن به من كيد السحرة ومعرّة المعاندين ، واتخذها سليمان لخطبته وموعظته وطول صلاته ، وكان ابن مسعود صاحب عصا النبيّ صلى الله عليه وسلم وعنزته ، وكان يخطب بالقضيب وكذلك الخلفاء من بعده ، وكان عادة العرب العرباء أخذ العصا والاعتماد عليها عند الكلام ، وفي المحافل والخطب .
{ قَالَ أَلْقِهَا ياموسى } هذه جملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، أمره سبحانه بإلقائها ليريه ما جعل له فيها من المعجزة الظاهرة { فألقاها } موسى على الأرض { فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى } وذلك بقلب الله سبحانه لأوصافها وأعراضها حتى صارت حية تسعى ، أي تمشي بسرعة وخفة ، قيل : كانت عصا ذات شعبتين فصار الشعبتان فما وباقيها جسم حية ، تنتقل من مكان إلى مكان وتلتقم الحجارة مع عظم جرمها وفظاعة منظرها ، فلما رآها كذلك خاف وفزع وولى مدبراً ولم يعقب ، فعند ذلك { قَالَ } سبحانه : { خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى } قال الأخفش والزجاج : التقدير : إلى سيرتها ، مثل
{ واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] . قال : ويجوز أن يكون مصدراً؛ لأن معنى سنعيدها : سنسيرها ، ويجوز أن يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل ، أي سائرة ، أو بمعنى اسم المفعول ، أي مسيرة . والمعنى : سنعيدها بعد أخذك لها إلى حالتها الأولى التي هي العصوية . قيل : إنه لما قيل له : { لا تخف } بلغ من عدم الخوف إلى أن كان يدخل يده في فمها ويأخذ بلحيها .
{ واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ } قال الفراء والزجاج : جناح الإنسان عضده ، وقال قطرب : جناح الإنسان جنبه . وعبر عن الجنب بالجناح؛ لأنه في محل الجناح ، وقيل : إلى بمعنى مع ، أي مع جناحك ، وجواب الأمر { تَخْرُجْ بَيْضَاء } أي تخرج يدك حال كونها بيضاء ، ومحل { مِنْ غَيْرِ سُوء } النصب على الحال ، أي كائنة من غير سوء . والسوء : العيب ، كني به عن البرص ، أي تخرج بيضاء ساطعاً نورها تضيء بالليل والنهار كضوء الشمس من غير برص . وانتصاب { آيةً أُخْرَى } على الحال أيضاً ، أي معجزة أخرى غير العصا . وقال الأخفش : إن آية منتصبة على أنها بدل من بيضاء . قال النحاس : وهو قول حسن . وقال الزجاج : المعنى : آتيناك أو نؤتيك آية أخرى لأنه لما قال : { تَخْرُجْ بَيْضَاء } دلّ على أنه قد آتاه آية أخرى ، ثم علل سبحانه ذلك بقوله : { لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتنا الكبرى } قيل : والتقدير : فعلنا ذلك لنريك ، و { من آياتنا } متعلق بمحذوف وقع حالاً ، و { الكبرى } معناها : العظمى ، وهو صفة لموصوف محذوف ، والتقدير : لنريك من آياتنا الآية الكبرى ، أي لنريك بهاتين الآيتين يعني : اليد والعصا بعض آياتنا الكبرى ، فلا يلزم أن تكون اليد هي الآية الكبرى وحدها حتى تكون أعظم من العصا ، فيرد على ذلك أنه لم يكن في اليد إلا تغير اللون فقط بخلاف العصا ، فإن فيها مع تغير اللون الزيادة في الحجم وخلق الحياة والقدرة على الأمور الخارقة .
ثم صرّح سبحانه بالغرض المقصود من هذه المعجزات ، فقال : { اذهب إلى فِرْعَوْنَ } وخصه بالذكر؛ لأن قومه تبع له ، ثم علل ذلك بقوله : { إِنَّهُ طغى } أي عصى وتكبر وكفر وتجبر وتجاوز الحدّ ، وجملة { قَالَ رَبّ اشرح لِي صَدْرِي } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا قال؟ ومعنى شرح الصدر : توسيعه ، تضرّع عليه السلام إلى ربه وأظهر عجزه بقوله :
{ وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى } [ الشعراء : 13 ] ، ومعنى تيسير الأمر : تسهيله . { واحلل عُقْدَةً مّن لّسَانِى } يعني : العجمة التي كانت فيه من الجمرة التي ألقاها في فيه وهو طفل ، أي أطلق عن لساني العقدة التي فيه ، قيل : أذهب الله سبحانه تلك العقدة جميعها بدليل قوله : { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى } . وقيل : لم تذهب كلها؛ لأنه لم يسأل حلّ عقدة لسانه بالكلية ، بل سأل حلّ عقدة تمنع الإفهام بدليل قوله : { مّن لّسَانِي } أي كائنة من عقد لساني ، ويؤيد ذلك قوله : { هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً } [ القصص : 34 ] ، وقوله حكاية عن فرعون : { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } [ الزخرف : 52 ] ، وجواب الأمر قوله : { يَفْقَهُواْ قَوْلِي } أي يفهموا كلامي ، والفقه في كلام العرب : الفهم ، ثم خص به علم الشريعة والعالم به فقيه ، قاله الجوهري .
{ واجعل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى * هارون أَخِي } الوزير : الموازر ، كالأكيل المواكل ، لأنه يحمل عن السلطان وزره ، أي ثقله . قال الزجاج : واشتقاقه في اللغة من الوزر ، وهو الجبل الذي يعتصم به لينج من الهلكة . والوزير : الذي يعتمد الملك على رأيه في الأمور ويلتجىء إليه . وقال الأصمعي : هو مشتق من الموازرة ، وهي المعاونة . وانتصاب { وزيراً } و { هارون } على أنهما مفعولا اجعل ، وقيل : مفعولاه : لي وزيراً ، ويكون هارون عطف بيان للوزير ، والأوّل أظهر ، ويكون لي متعلقاً بمحذوف ، أي : كائناً لي ، و { من أهلي } صفة ل { وزيراً } ، وأخي بدل من هارون . قرأ الجمهور : { اشدد } بهمزة وصل ، و { أشركه } بهمزة قطع كلاهما على صيغة الدعاء ، أي يا رب أحكم به قوّتي واجعله شريكي في أمر الرسالة ، والأزر : القوة ، يقال : آزره ، أي قوّاه . وقيل : الظهر ، أي أشدد به ظهري . وقرأ ابن عامر ويحيى بن الحارث وأبو حيوة والحسن وعبد الله بن أبي إسحاق « أشدد » بهمزة قطع « وأشركه » بضم الهمزة ، أي أشدد أنا به أزري وأشركه أنا في أمري . قال النحاس : جعلوا الفعلين في موضع جزم جواباً لقوله { اجعل لي وزيراً } ، وقرأ بفتح الياء من : « أخي » ابن كثير وأبو عمرو . { كَيْ نُسَبّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً } هذا التسبيح والذكر هما الغاية من الدعاء المتقدّم . والمراد التسبيح هنا باللسان . وقيل : المراد به : الصلاة ، وانتصاب { كثيراً } في الموضعين على أنه نعت مصدر محذوف ، أو لزمان محذوف { إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً } البصير المبصر والبصير العالم بخفيات الأمور ، وهو المراد هنا ، أي إنك كنت بنا عالماً في صغرنا فأحسنت إلينا ، فأحسن إلينا أيضاً كذلك الآن .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في عصا موسى قال : أعطاه ملك من الملائكة إذ توجه إلى مدين فكانت تضيء له بالليل ، ويضرب بها الأرض فتخرج له النبات ، ويهشّ بها على غنمه ورق الشجر .
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : { وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِى } قال : أضرب بها الشجر فيتساقط منه الورق على غنمي ، وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَلِىَ فِيهَا مَآرِبُ } قال : حوائج . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ نحوه . وأخرج أيضاً عن قتادة قال : كانت تضيء له بالليل ، وكانت عصا آدم عليه السلام .
وأخرج أيضاً عن ابن عباس في قوله : { فألقاها فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى } قال : ولم تكن قبل ذلك حية فمرّت بشجرة فأكلتها ، ومرّت بصخرة فابتلعتها ، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها فولى مدبراً ، فنودي أن يا موسى خذها ، فلم يأخذها ، ثم نودي الثانية : أن خذها ولا تخف ، فقيل له في الثالثة : إنك من الآمنين فأخذها . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه : { سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى } قال : حالتها الأولى . وأخرجا عنه أيضاً : { مِنْ غَيْرِ سُوء } قال : من غير برص . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { واجعل لّي وَزِيراً مّنْ أَهْلِي * هارون أَخِي } قال : كان أكبر من موسى . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي } قال : نبىء هارون ساعتئذٍ حين نبىء موسى .
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
لما سأل موسى ربه سبحانه أن يشرح صدره وييسر له أمره ويحلل عقدة من لسانه ويجعل له وزيراً من أهله أخبره الله سبحانه بأنه قد أجاب ذلك الدعاء ، فقال : { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى } أي : أعطيت ما سألته ، والسؤل المسؤول ، أي المطلوب ، كقولك : خبر بمعنى مخبور ، وزيادة قوله : { يا موسى } لتشريفه بالخطاب مع رعاية الفواصل ، وجملة : { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى } كلام مستأنف لتقوية قلب موسى بتذكيره نعم الله عليه ، والمنّ : الإحسان والإفضال ، والمعنى : ولقد أحسنا إليك مرّة أخرى قبل هذه المرّة ، وهي حفظ الله سبحانه له من شرّ الأعداء كما بينه سبحانه ها هنا ، وأخرى تأنيث آخر بمعنى غير .
{ إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمّكَ مَا يوحى } أي مننا ذلك الوقت وهو وقت الإيحاء ، فإذ ظرف للإيحاء ، والمراد بالإيحاء إليها : إما مجرّد الإلهام لها ، أو في النوم بأن أراها ذلك ، أو على لسان نبيّ ، أو على لسان ملك ، لا على طريق النبوّة كالوحي إلى مريم ، أو بإخبار الأنبياء المتقدمين بذلك وانتهى الخبر إليها ، والمراد بما يوحى : ما سيأتي من الأمر لها ، أبهمه أوّلاً ، وفسّره ثانياً؛ تفخيماً لشأنه ، وجملة : { أَنِ اقذفيه فِي التابوت } مفسرة؛ لأن الوحي فيه معنى القول ، أو مصدرية على تقدير بأن اقذفيه ، والقذف ها هنا : الطرح ، أي اطرحيه في التابوت وقد مرّ تفسير التابوت في البقرة في قصة طالوت { فاقذفيه فِي اليم } أي اطرحيه في البحر ، واليم : البحر أو النهر الكبير . قال الفراء : هذا أمر وفيه المجازاة ، أي اقذفيه يلقه اليم بالساحل ، والأمر للبحر مبني على تنزيله منزلة من يفهم ويميز ، لما كان إلقاؤه إياه بالساحل أمراً واجب الوقوع . والساحل : هو شط البحر ، سمي ساحلاً ، لأن الماء سحله ، قاله ابن دريد . والمراد هنا : ما يلي الساحل من البحر لا نفس الساحل ، والضمائر هذه كلها لموسى لا للتابوت ، وإن كان قد ألقي معه لكن المقصود هو موسى مع كون الضمائر قبل هذا وبعده له ، وجملة : { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } جواب الأمر بالإلقاء ، والمراد بالعدوّ : فرعون ، فإن أمّ موسى لما ألقته في البحر ، وهو النيل المعروف ، وكان يخرج منه نهر إلى دار فرعون ، فساقه الله في ذلك النهر إلى داره ، فأخذ التابوت فوجد موسى فيه؛ وقيل : إن البحر ألقاه بالساحل فنظره فرعون فأمر من يأخذه . وقيل : وجدته ابنة فرعون ، والأوّل أولى .
{ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى } أي ألقى الله على موسى محبة كائنة منه تعالى في قلوب عباده لا يراه أحد إلا أحبه . وقيل : جعل عليه مسحة من جمال لا يراه أحد من الناس إلا أحبه . وقال ابن جرير : المعنى وألقيت عليك رحمتي .
وقيل : كلمة « مِنْ » متعلقة ب { ألقيت } ، فيكون المعنى : ألقيت مني عليك محبة أي أحببتك ، ومن أحبه الله أحبه الناس . { وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى } أي ولتربى وتغذى بمرأى مني ، يقال : صنع الرجل جاريته : إذا رباها ، وصنع فرسه : إذا داوم على علفه والقيام عليه ، وتفسير { على عَيْنِي } : بمرأى مني صحيح . قال النحاس : وذلك معروف في اللغة ، ولكن لا يكون في هذا تخصيص لموسى ، فإن جميع الأشياء بمرآى من الله . وقال أبو عبيدة وابن الأنباري : إن المعنى لتغذى على محبتي وإرادتي ، تقول : أتخذ الأشياء على عيني ، أي على محبتي . قال ابن الأنباري : العين في هذه الآية يقصد بها قصد الإرادة والاختيار ، من قول العرب : غدا فلان على عيني ، أي على المحبة مني . قيل : واللام متعلقة بمحذوف ، أي فعلت ذلك لتصنع ، وقيل : متعلقة ب { ألقيت } ، وقيل : متعلقة بما بعده ، أي ولتصنع على عيني قدّرنا مشي أختك . وقرأ ابن القعقاع : « ولتصنع » بإسكان اللام على الأمر ، وقرأ أبو نهيك بفتح التاء . والمعنى : ولتكون حركتك وتصرّفك بمشيئتي ، وعلى عين مني .
{ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ } ظرف لألقيت ، أو لتصنع ، ويجوز أن يكون بدلاً من { إِذْ أَوْحَيْنَا } وأخته اسمها مريم { فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ } وذلك أنها خرجت متعرّفة لخبره ، فوجدت فرعون وامرأته آسية يطلبان له مرضعة ، فقالت لهما هذا القول ، أي هل أدلكم على من يضمه إلى نفسه ويربيه؟ فقالا لها : ومن هو؟ قالت : أمي ، فقالا : هل لها لبن؟ قالت : نعم لبن أخي هارون ، وكان هارون أكبر من موسى بسنة . وقيل : بأكثر ، فجاءت الأم فقبل ثديها ، وكان لا يقبل ثدي مرضعة غيرها ، وهذا هو معنى : { فرجعناك إلى أُمّكَ } وفي مصحف أبيّ : « فرددناك » ، والفاء فصيحة . { كَي تَقَرَّ عَيْنُها } قرأ ابن عامر في رواية عبد الحميد عنه : « كي تقرّ » بكسر القاف ، وقرأ الباقون بفتحها . قال الجوهري : قررت به عيناً قرّة وقروراً ، ورجل قرير العين ، وقد قرّت عينه تقرّ وتقرّ ، نقيض سخنت ، والمراد بقرّة العين : السرور برجوع ولدها إليها بعد أن طرحته في البحر وعظم عليها فراقه . { وَلاَ تَحْزَنْ } أي لا يحصل لها ما يكدّر ذلك السرور من الحزن بسبب من الأسباب ، ولو أراد الحزن بالسبب الذي قرّت عينها بزواله لقدّم نفي الحزن على قرّة العين ، فيحمل هذا النفي للحزن على ما يحصل بسبب يطرأ بعد ذلك ، ويمكن أن يقال : إن الواو لما كانت لمطلق الجمع كان هذا الحمل غير متعين . وقيل : المعنى : ولا تحزن أنت يا موسى بفقد إشفاقها ، وهو تعسف { وَقَتَلْتَ نَفْساً } المراد بالنفس هنا : نفس القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه ، وكان قتله له خطأ { فنجيناك مِنَ الغم } أي الغمّ الحاصل معك من قتله خوفاً من العقوبة الأخروية أو الدنيوية أو منهما جميعاً؛ وقيل : الغمّ هو القتل بلغة قريش ، وما أبعد هذا { وفتناك فُتُوناً } الفتنة تكون بمعنى المحنة ، وبمعنى الأمر الشاقّ ، وكل ما يبتلى به الإنسان .
والفتون يجوز أن يكون مصدراً كالثبور والشكور والكفور ، أي ابتليناك ابتلاءً ، واختبرناك اختباراً ، ويجوز أن يكون جمع فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كحجور في حجرة وبدور في بدرة ، أي خلصناك مرّة بعد مرّة مما وقعت فيه من المحن التي سبق ذكرها قبل أن يصطفيه الله لرسالته . ولعلّ المقصود بذكر تنجيته من الغمّ الحاصل له بذلك السبب وتنجيته من المحن هو : الامتنان عليه بصنع الله سبحانه له ، وتقوية قلبه عند ملاقاة ما سيقع له من ذلك مع فرعون وبني إسرائيل { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ } قال الفراء : تقدير الكلام : وفتناك فتوناً ، فخرجت إلى أهل مدين فلبثت سنين ، ومثل هذا الحذف كثير في التنزيل ، وكذا في كلام العرب فإنهم يحذفون كثيراً من الكلام إذا كان المعنى معروفاً . ومدين هي بلد شعيب ، وكانت على ثماني مراحل من مصر ، هرب إليها موسى فأقام بها عشر سنين ، وهي أتمّ الأجلين . وقيل : أقام عند شعيب ثمان وعشرين سنة ، منها عشر مهر امرأته ابنة شعيب ، ومنها ثماني عشرة سنة بقي فيها عنده حتى ولد له ، والفاء في : { فَلَبِثْتَ } تدل على أن المراد بالمحن المذكورة : هي ما كان قبل لبثه في أهل مدين { ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى } أي في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأجعلك نبياً ، أو على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء ، وهو رأس أربعين سنة ، أو على موعد قد عرفته بإخبار شعيب لك به . قال الشاعر :
نال الخلافة إذ كانت له قدرا ... كما أتى ربه موسى على قدر
وكلمة : « ثم » المفيدة للتراخي للدلالة على أن مجيئه عليه السلام كان بعد مدّة ، وذلك بسبب ما وقع له من ضلال الطريق وتفرّق غنمه ونحو ذلك . { واصطنعتك لِنَفْسِي } الاصطناع : اتخاذ الصنعة ، وهي الخير تسديه إلى إنسان ، والمعنى : اصطنعتك لوحيي ورسالتي لتتصرّف على إرادتي . قال الزجاج : تأويله اخترتك لإقامة حجتي ، وجعلتك بيني وبين خلقي ، وصرت بالتبليغ عني بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم واحتججت عليهم . قيل : وهو تمثيل لما خوّله الله سبحانه من الكرامة العظمى بتقريب الملك لبعض خواصه . { اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ } أي وليذهب أخوك ، وهو كلام مستأنف مسوق لبيان ما هو المقصود من الاصطناع ، ومعنى { بآياتي } : بمعجزاتي التي جعلتها لك آية ، وهي التسع الآيات . { وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي } أي لا تضعفا ولا تفترا ، يقال : ونى يني ونياً : إذا ضعف . قال الشاعر :
فما ونى محمد مذ أن غفر ... له الإله ما مضى وما غبر
وقال امرؤ القيس :
يسيح إذا ما السابحات على الوني ... أثرن غباراً بالكديد الموكل
قال الفراء : في ذكري وعن ذكري سواء ، والمعنى : لا تقصرا عن ذكري بالإحسان إليكما ، والإنعام عليكما وذكر النعمة شكرها . وقيل : معنى { لا تنيا } : لا تبطئا في تبليغ الرسالة ، وفي قراءة ابن مسعود « لا تَنِيَا فِي ذِكْرِي » .
{ اذهبا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى } هذا أمر لهما جميعاً بالذهاب ، وموسى حاضر وهارون غائب تغليباً لموسى؛ لأنه الأصل في أداء الرسالة ، وعلل الأمر بالذهاب بقوله : { إِنَّهُ طغى } أي جاوز الحدّ في الكفر والتمرّد ، وخص موسى وحده بالأمر بالذهاب فيما تقدّم ، وجمعهما هنا تشريفاً لموسى بإفراده ، وتأكيداً للأمر بالذهاب بالتكرير . وقيل : إن في هذا دليلاً على أنه لا يكفي ذهاب أحدهما . وقيل الأوّل : أمر لموسى بالذهاب إلى كل الناس ، والثاني : أمر لهما بالذهاب إلى فرعون . ثم مرهما سبحانه بإلانة القول له لما في ذلك من التأثير في الإجابة ، فإن التخشين بادىء [ ذي ] بدء يكون من أعظم أسباب النفور والتصلب في الكفر ، والقول اللين : هو الذي لا خشونة فيه ، يقال : لان الشيء يلين ليناً ، والمراد : تركهما للتعنيف ، كقولهما : { هَل لَّكَ إلى أَن تزكى } [ النازعات : 18 ] . وقيل : القول اللين هو الكنية له ، وقيل : أن يعداه بنعيم الدنيا إن أجاب ، ثم علل الأمر بإلانة القول له بقوله : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } أي باشرا ذلك مباشرة من يرجو ويطمع ، فالرجاء راجع إليهما كما قاله جماعة من النحويين : سيبويه وغيره . وقد تقدّم تحقيقه في غير موضع قال الزجاج : « لَعَلَّ » لفظة طمع وترج ، فخاطبهم بما يعقلون . وقيل : لعلّ ها هنا بمعنى الاستفهام . والمعنى : فانظرا هل يتذكر أو يخشى؟ وقيل : بمعنى كي . والتذكر : النظر فيما بلغاه من الذكر وإمعان الفكر فيه حتى يكون ذلك سبباً في الإجابة ، والخشية هي خشية عقاب الله الموعود به على لسانهما ، وكلمة « أو » لمنع الخلوّ دون الجمع .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في قوله : { فاقذفيه فِي اليم } قال : هو النيل . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّي } قال : كان كل من رآه ألقيت عليه منه محبته . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سلمة بن كهيل قال : حببتك إلى عبادي . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عمران الجوني في قوله : { وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِي } قال : تربى بعين الله . وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : لتغذى على عيني . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال : يقول أنت بعيني ، إذ جعلتك أمك في التابوت ، ثم في البحر ، وإذ تمشي أختك .
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والخطيب عن ابن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ » يقول الله سبحانه : { وَقَتَلْتَ نَفْساً فنجيناك مِنَ الغم } قال : « من قتل النفس » { وفتناك فُتُوناً } قال : « أخلصناك إخلاصاً »
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وفتناك فُتُوناً } قال : ابتليناك ابتلاءً . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال : اختبرناك اختباراً . وقد أخرج عبد بن حميد ، والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أثراً طويلاً في تفسير الآية ، فمن أحبّ استيفاء ذلك فلينظره في كتاب التفسير من سنن النسائي . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ } قال : لميقات . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد وقتادة { على قَدَرٍ } قال : موعد . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وَلاَ تَنِيَا } قال : لا تبطئا . وأخرج ابن أبي حاتم عن عليّ في قوله : { قَوْلاً لَّيّناً } قال : كنَّه . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال : كنياه . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } قال : هل يتذكر؟
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
قرأ الجمهور : { أن يفرط } بفتح الياء وضم الراء ، ومعنى ذلك : أننا نخاف أن يعجل ويبادر بعقوبتنا ، يقال : فرط منه أمر ، أي بدر ، ومنه الفارط ، وهو الذي يتقدّم القوم إلى الماء ، أي يعذبنا عذاب الفارط في الذنب ، وهو المتقدّم فيه ، كذا قال المبرد ، وقال أيضاً : فرط منه أمر وأفرط : أسرف ، وفرط : ترك . وقرأ ابن محيصن : « يفرط » بضم الياء وفتح الراء ، أي يحمله حامل على التسرّع إلينا ، وقرأت طائفة بضم الياء وكسر الراء ، ومنهم ابن عباس ومجاهد ، وعكرمة من الإفراط ، أي يشتطّ في أذيتنا . قال الراجز :
قد أفرط العلج علينا وعجل ... ومعنى { أَوْ أَن يطغى } قد تقدّم قريباً ، وجملة : { قَالَ لاَ تَخَافَا } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، نهى لهما عن الخوف الذي حصل معهما من فرعون ، ثم علل ذلك بقوله : { إِنَّنِى مَعَكُمَا } أي بالنصر لهما ، والمعونة على فرعون ، ومعنى { أَسْمَعُ وأرى } : إدراك ما يجري بينهما وبينه ، بحيث لا يخفى عليه سبحانه منه خافية ، وليس بغافل عنهما ، ثم أمرهما بإتيانه الذي هو عبارة عن الوصول إليه بعد أمرهما بالذهاب إليه فلا تكرار . { فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ } أرسلنا إليك { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسراءيل } أي خلّ عنهم وأطلقهم من الأسر { وَلاَ تُعَذّبْهُمْ } بالبقاء على ما كانوا عليه ، وقد كانوا عند فرعون في عذاب شديد : يذبح أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، ويكلفهم من العمل ما لا يطيقونه ، ثم أمرهما سبحانه أن يقولا لفرعون : { قَدْ جئناك بِئَايَةٍ مّن رَّبّكَ } قيل : هي العصا واليد . وقيل إن فرعون قال لهما : وما هي؟ فأدخل موسى يده في جيب قميصه ، ثم أخرجها لها شعاع كشعاع الشمس ، فعجب فرعون من ذلك ، ولم يره موسى العصا إلا يوم الزينة { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } أي السلامة . قال الزجاج : أي من اتبع الهدى سلم من سخط الله عزّ وجلّ ومن عذابه ، وليس بتحية ، قال : والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب . قال الفراء : السلام على من اتبع الهدى ، ولمن اتبع الهدى سواء .
{ إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا } من جهة الله سبحانه { أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى } المراد بالعذاب : الهلاك والدمار في الدنيا والخلود في النار . والمراد بالتكذيب : التكذيب بآيات الله وبرسله . والتولي : الإعراض عن قبولها والإيمان بها . { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى } أي قال فرعون لهما : فمن ربكما؟ فأضاف الربّ إليهما ولم يضفه إلى نفسه؛ لعدم تصديقه لهما ولجحده للربوبية . وخص موسى بالنداء لكونه؛ الأصل في الرسالة وقيل : لمطابقة رؤوس الآي . { قَالَ رَبُّنَا الذى أعطى كُلَّ شَيء خَلْقَهُ } أي : قال موسى مجيباً له ، و { ربنا } مبتدأ ، وخبره { الذي أعطى كُلَّ شَيء خَلْقَهُ } ، ويجوز أن يكون { ربنا } خبر مبتدأ محذوف ، وما بعده صفته .
قرأ الجمهور : { خلقه } بسكون اللام ، وروى زائدة عن الأعمش أنه قرأ : « خلقه » بفتح اللام على أنه فعل ، وهي قراءة ابن أبي إسحاق ، ورواها نصير عن الكسائي . فعلى القراءة الأولى يكون خلقه ثاني مفعولي أعطى . والمعنى : أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به المطابقة له كاليد للبطش ، والرجل للمشي واللسان للنطق ، والعين للنظر ، والأذن للسمع ، كذا قال الضحاك وغيره . وقال الحسن وقتادة : أعطى كل شيء صلاحه وهداه لما يصلحه . وقال مجاهد : المعنى لم يخلق خلق الإنسان في خلق البهائم ، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان ، ولكن خلق كل شيء فقدّره تقديراً ، ومنه قول الشاعر :
وله في كل شيء خِلْقُهُ ... وكذاك الله ما شاء فعل
وقال الفراء : المعنى خلق للرجل المرأة ، ولكل ذكر ما يوافقه من الإناث . ويجوز أن يكون خلقه على القراءة الأولى هو المفعول الأوّل لأعطى ، أي أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به ، ومعنى { ثُمَّ هدى } : أنه سبحانه هداهم إلى طرق الانتفاع بما أعطاهم فانتفعوا بكل شيء فيما خلق له ، وأما على القراءة الآخرة ، فيكون الفعل صفة للمضاف أو للمضاف إليه ، أي أعطى كل شيء خلقه الله سبحانه ولم يخله من عطائه ، وعلى هذه القراءة يكون المفعول الثاني محذوفاً ، أي أعطى كل شيء خلقه ما يحتاج إليه ، فيوافق معناها معنى القراءة الأولى .
{ قَالَ فَمَا بَالُ القرون الاولى } لما سمع فرعون ما احتج به موسى في ضمن هذا الكلام على إثبات الربوبية كما لا يخفى من أن الخلق والهداية ثابتان بلا خلاف ، ولا بدّ لهما من خالق وهادٍ ، وذلك الخالق والهادي هو الله سبحانه لا ربّ غيره . قال فرعون : فما بال القرون الأولى؟ فإنها لم تقرّ بالربّ الذي تدعو إليه يا موسى بل عبدت الأوثان ونحوها من المخلوقات ، ومعنى البال : الحال والشان ، أي ما حالهم وما شأنهم؟ وقيل : إن سؤال فرعون عن القرون الأولى مغالطة لموسى لما خاف أن يظهر لقومه أنه قد قهره بالحجة أي : ما حال القرون الماضية ، وماذا جرى عليهم من الحوادث؟ فأجابه موسى ، فقال { عِلْمُهَا عِندَ رَبّى } أي إن هذا الذي سألت عنه ليس مما نحن بصدده ، بل هو من علم الغيب الذي استأثر الله به لا تعلمه أنت ولا أنا . وعلى التفسير الأوّل يكون معنى { عِلْمُهَا عِندَ رَبّي } : أن علم هؤلاء الذين عبدوا الأوثان ونحوها محفوظ عند الله في كتابه سيجازيهم عليها ، ومعنى كونها في كتاب : أنها مثبتة في اللوح المحفوظ . قال الزجاج : المعنى أن أعمالهم محفوظة عند الله يجازي بها ، والتقدير : علم أعمالها عند ربي في كتاب .
وقد اختلف في معنى { لاَّ يَضِلُّ رَبّي وَلاَ يَنسَى } على أقوال : الأوّل : أنه ابتداء كلام تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين . وقد تمّ الكلام عند قوله : { في كتاب } كذا قال الزجاج ، قال : ومعنى { لاَّ يَضِلُّ } : لا يهلك من قوله : { أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الأرض } [ السجدة : 10 ] { وَلاَ يَنسَى } شيئاً من الأشياء ، فقد نزّهه عن الهلاك والنسيان . القول الثاني : أن معنى { لاَّ يَضِلُّ } : لا يخطىء . القول الثالث : أن معناه لا يغيب . قال ابن الأعرابي : أصل الضلال الغيبوبة . القول الرابع : أن المعنى : لا يحتاج إلى كتاب ، ولا يضلّ عنه علم شيء من الأشياء ، ولا ينسى ما علمه منها ، حكي هذا عن الزجاج أيضاً . قال النحاس : وهو أشبهها بالمعنى . ولا يخفى أنه كقول ابن الأعرابي . القول الخامس : أن هاتين الجملتين صفة لكتاب ، والمعنى : أن الكتاب غير ذاهب عن الله ولا هو ناس له .
{ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مهادا } الموصول محل رفع على أنه صفة لربي متضمنة لزيادة البيان ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أو في محل نصب على المدح . قرأ الكوفيون { مهداً } على أنه مصدر لفعل مقدّر ، أي مهدها مهداً ، أو على تقدير مضاف محذوف ، أي ذات مهد ، وهو اسم لما يمهد كالفراش لما يفرش . وقرأ الباقون : { مهاداً } واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم قالا : لاتفاقهم على قراءة : { أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا } [ النبأ : 6 ] . قال النحاس : والجمع أولى من المصدر؛ لأن هذا الموضع ليس وضع المصدر إلا على حذف المضاف . قيل : يجوز أن يكون مهاداً مفرداً كالفراش ، ويجوز أن يكون جمعاً . ومعنى الهاد : الفراش ، فالمهاد جمع المهد ، أي جعل كل موضع منها مهداً لكل واحد منكم . { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } السلك : إدخال الشيء في الشيء . والمعنى : أدخل في الأرض لأجلكم طرقاً تسلكونها وسهلها لكم . وفي الآية الأخرى : { الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مهادا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ الزخرف : 10 ] .
ثم قال سبحانه ممتناً على عباده : { وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء } هو ماء المطر . قيل : إلى هنا انتهى كلام موسى ، وما بعده هو : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نبات شتى } من كلام الله سبحانه . وقيل : هو من الكلام المحكيّ عن موسى معطوف على أنزل ، وإنما التفت إلى التكلم للتنبيه إلى ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة . ونوقش بأن هذا خلاف الظاهر مع استلزامه فوت الالتفات لعدم اتحاد المتكلم ، ويجاب عنه : بأن الكلام كله محكيّ عن واحد هو موسى ، والحاكي للجميع هو الله سبحانه والمعنى : فأخرجنا بذلك الماء بسبب الحرث والمعالجة أزواجاً ، أي ضروباً وأشباهاً من أصناف النبات المختلفة . وقوله { من نبات } صفة ل { أزواجاً } أو بيان له ، وكذا { شتى } صفة أخرى له ، أي متفرّقة جمع شتيت . وقال الأخفش : التقدير : أزواجاً شتى من نبات .
قال : وقد يكون النبات شتى ، فيجوز أن يكون شتى { نعتاً } ل { أزواجاً } ويجوز أن يكون نعتاً للنبات ، يقال : أمر شَتٌّ أي متفرّق ، وشتّ الأمر شتاً وشتاتاً تفرّق ، واستشتّ مثله ، والشتيت المتفرّق . قال رؤبة :
جاءت معاً وأطَّرقتْ شتيتاً ... وجملة : { كُلُواْ وارعوا } في محل نصب على الحال بتقدير القول ، أي قائلين لهم ذلك ، والأمر للإباحة ، يقال : رعت الماشية الكلأ ورعاها صاحبها رعاية ، أي أسامها وسرّحها يجيء لازماً ومتعدّياً . والإشارة بقوله : { إِنَّ فِى ذلك لآيات لأُوْلِى النهى } إلى ما تقدّم ذكره في هذه الآيات ، والنهى : العقول جمع نهية ، وخص ذوي النهى؛ لأنهم الذين يُنتهى إلى رأيهم . وقيل : لأنهم ينهون النفس عن القبائح ، وهذا كله من موسى ، احتجاج على فرعون في إثبات الصانع جواباً لقوله : { فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى } والضمير في : { مِنْهَا خلقناكم } وما بعده راجع إلى الأرض المذكورة سابقاً . قال الزجاج وغيره : يعني أن آدم خلق من الأرض وأولاده منه . وقيل : المعنى أن كل نطفة مخلوقة من التراب في ضمن خلق آدم؛ لأن كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه { وَفِيهَا } أي في الأرض { نُعِيدُكُمْ } بعد الموت فتدفنون فيها وتتفرّق أجزاؤكم حتى تصير من جنس الأرض ، وجاء بفي دون إلى؛ للدلالة على الاستقرار { وَمِنْهَا } أي من الأرض { نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى } أي بالبعث والنشور وتأليف الأجسام وردّ الأرواح إليها على ما كانت عليه قبل الموت ، والتارة كالمرّة .
{ وَلَقَدْ أريناه ءاياتنا كُلَّهَا } أي أرينا فرعون وعرفناه آياتنا كلها ، والمراد بالآيات هي : الآيات التسع المذكورة في قوله : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى تِسْعَ ءايات } [ الإسراء : 101 ] . على أن الإضافة للعهد . وقيل : المراد : جميع الآيات التي جاء بها موسى ، والتي جاء بها غيره من الأنبياء ، وأن موسى قد كان عرّفه جميع معجزاته ومعجزات سائر الأنبياء ، والأوّل أولى ، وقيل : المراد بالآيات : حجج الله سبحانه الدالة على توحيده . { فَكَذَّبَ وأبى } أي كذب فرعون موسى وأبى عليه أن يجيبه إلى الإيمان ، وهذا يدل على أن كفر فرعون كفر عناد؛ لأنه رأى الآيات وكذب بها كما في قوله : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] . وجملة : { قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ياموسى } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا قال فرعون بعد هذا؟ والهمزة للإنكار لما جاء به موسى من الآيات ، أي جئت يا موسى لتوهم الناس بأنك نبيّ يجب عليهم اتباعك ، والإيمان بما جئت به ، حتى تتوصل بذلك الإيهام الذي هو شعبة من السحر إلى أن تغلب على أرضنا وتخرجنا منها . وإنما ذكر الملعون الإخراج من الأرض؛ لتنفير قومه عن إجابة موسى ، فإنه إذا وقع في أذهانهم وتقرّر في أفهامهم أن عاقبة إجابتهم لموسى الخروج من ديارهم وأوطانهم كانوا غير قابلين لكلامه ولا ناظرين في معجزاته ولا ملتفتين إلى ما يدعو إليه من الخير .
{ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها واللام هي الموطئة للقسم ، أي والله لنعارضنك بمثل ما جئت به من السحر ، حتى يتبين للناس أن الذي جئت به سحر يقدر على مثله الساحر . { فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً } هو مصدر ، أي وعداً . وقيل : اسم مكان ، أي اجعل لنا يوماً معلوماً ، أو مكاناً معلوماً لا نخلفه . قال القشيري : والأظهر أنه مصدر ، ولهذا قال : { لاَّ نُخْلِفُهُ } أي لا نخلف ذلك الوعد . والإخلاف أن تعد شيئاً ولا تنجزه . قال الجوهري : الميعاد : المواعدة والوقت والموضع ، وكذلك الموعد . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والأعرج : « لاَّ نُخْلِفُهُ » بالجزم على أنه جواب لقوله : { اجعل } . وقرأ الباقون بالرفع على أنه صفة لموعداً ، أي لا نخلف ذلك الوعد { نَحْنُ وَلا أَنتَ } وفوّض تعيين الموعد إلى موسى؛ إظهاراً لكمال اقتداره على الإتيان بمثل ما أتى به موسى . وانتصاب : { مَكَاناً سُوًى } بفعل مقدّر يدل عليه المصدر ، أو على أنه بدل من موعد . قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة : « سوى » بضم السين ، وقرأ الباقون بكسرها وهما لغتان . واختار أبو عبيد وأبو حاتم كسر السين ، لأنها اللغة العالية الفصيحة ، والمراد : مكاناً مستوياً . وقيل : مكاناً منصفاً عدلاً بيننا وبينك . قال سيبويه : يقال : سِوًى وسُوًى ، أي عدل ، يعني عدلاً بين المكانين . قال زهير :
أرونا خطة لا ضيم فيها ... يسوّى بيننا فيها السواء
قال أبو عبيدة والقتيبي : معناه مكاناً وسطاً بين الفريقين ، وأنشد أبو عبيدة لموسى بن جابر الحنفي :
وجدنا أبانا كان حلّ ببلدة ... سوّى بين قيس غيلان والفزر
والفزر : سعد بن زيد مناة . ثم واعده موسى بوقت معلوم فقَال { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } قال مجاهد وقتادة ومقاتل والسديّ : كان ذلك يوم عيد يتزينون فيه . وقال سعيد بن جبير : كان ذلك يوم عاشوراء . وقال الضحاك : يوم السبت . وقيل : يوم النيروز . وقيل : يوم كسر الخليج . وقرأ الحسن والأعمش وعيسى الثقفي والسلمي وهبيرة عن حفص : « يوم الزينة » بالنصب ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو ، أي في يوم الزينة إنجاز موعدنا ، وقرأ الباقون بالرفع على أنه خبر موعدكم ، وإنما جعل الميعاد زماناً بعد أن طلب منه فرعون أن يكون مكاناً سوى؛ لأن يوم الزينة يدلّ على مكان مشهور يجتمع فيه الناس ذلك اليوم ، أو على تقدير مضاف محذوف ، أي موعدكم مكان يوم الزينة .
{ وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى } معطوف على { يوم الزينة } فيكون في محل رفع ، أو على { الزينة } فيكون في محل جرّ ، يعني ضحى ذلك اليوم . والمراد بالناس : أهل مصر . والمعنى : يحشرون إلى العيد وقت الضحى ، وينظرون في أمر موسى وفرعون . قال الفراء : المعنى إذا رأيت الناس يحشرون من كل ناحية ضحى فذلك الموعد .
قال : وجرت عادتهم بحشر الناس في ذلك اليوم . والضحى قال الجوهري : ضحوة النهار بعد طلوع الشمس ثم بعده الضحى ، وهو حين تشرق الشمس . وخص الضحى؛ لأنه أوّل النهار ، فإذا امتدّ الأمر بينهما كان في النهار متسع . وقرأ ابن مسعود والجحدري : « وأن يحشر » على البناء للفاعل ، أي وأن يحشر الله الناس ضحى . وروي عن الجحدري أنه قرأ : « وأن نحشر » بالنون وقرأ بعض القرّاء بالتاء الفوقية ، أي وأن تحشر أنت يا فرعون ، وقرأ الباقون بالتحتية على البناء للمفعول .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إننا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا } قال : يعجل { أَوْ أَن يطغى } قال : يعتدي . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : { أَسْمَعُ وأرى } قال : أسمع ما يقول وأرى ما يجاوبكما به ، فأوحي إليكما فتجاوبانه . وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : لما بعث الله موسى إلى فرعون قال : ربّ أي شيء أقول؟ قال : قل أهيا شراهيا . قال الأعمش : تفسير ذلك الحيّ قبل كل شيء ، والحيّ بعد كل شيء . وجوّد السيوطي إسناده ، وسبقه إلى تجويد إسناده ابن كثير في تفسيره . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { على مَن كَذَّبَ وتولى } قال : كذب بكتاب الله وتولى عن طاعة الله . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ } قال : خلق لكل شيء زوجه { ثُمَّ هدى } قال : هداه لمنكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لاَّ يَضِلُّ رَبّي } قال : لا يخطىء .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { مّن نبات شتى } قال : مختلف . وفي قوله : { لأُوْلِي النهى } قال : لأولي التقى . وأخرج ابن المنذر عنه { لأُوْلِي النهى } قال : لأولي الحجا والعقل . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال : إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذرّه على النطفة ، فيخلق من التراب ومن النطفة ، وذلك قوله : { مِنْهَا خلقناكم وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } . وأخرج أحمد والحاكم عن أبي أمامة قال : لما وضعت أمّ كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « { مِنْهَا خلقناكم وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى } بسم الله ، وفي سبيل الله ، وعلى ملة رسول الله » وفي حديث في السنن : « نه أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال : { مِنْهَا خلقناكم } ثم أخرى وقال : { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } ثم أخرى وقال : { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى } » وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } قال : يوم عاشوراء . وأخرج ابن المنذر عن ابن عمرو نحوه .
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
قوله : { فتولى فِرْعَوْنُ } أي انصرف من ذلك المقام ليهيىء ما يحتاج إليه مما تواعدوا عليه وقيل : معنى : تولى أعرض عن الحق ، والأوّل أولى { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } أي جمع ما يكيد به من سحره وحيلته . والمراد : أنه جمع السحرة . قيل : كانوا اثنين وسبعين . وقيل : أربعمائة . وقيل : اثنا عشر ألفاً . وقيل : أربعة عشر ألفاً . وقال ابن المنذر : كانوا ثمانين ألفاً { ثُمَّ أتى } أي أتى الموعد الذي تواعدا إليه مع جمعه الذي جمعه ، وجملة { قَالَ لَهُمْ موسى } مستأنفة جواب سؤال مقدّر { وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً } دعا عليهم بالويل ، ونهاهم عن افتراء الكذب . قال الزجاج : هو منصوب بمحذوف ، والتقدير : ألزمهم الله ويلاً . قال : ويجوز أن يكون نداء ، كقوله : { ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } [ ياس : 52 ] . { فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } السحت : الاستئصال ، يقال : سحت وأسحت بمعنى ، وأصله استقصاء الشعر . وقرأ الكوفيون إلا شعبة : { فيسحتكم } بضم حرف المضارعة من أسحت ، وهي لغة بني تميم ، وقرأ الباقون بفتحه من سحت ، وهي لغة الحجاز ، وانتصابه على أنه جواب للنهي { وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى } أي : خسر وهلك ، والمعنى : قد خسر من افترى على الله أي : كذب كان { فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } أي السحرة لما سمعوا كلام موسى ، تناظروا وتشاوروا وتجاذبوا أطراف الكلام في ذلك { وَأَسَرُّواْ النجوى } أي من موسى ، وكانت نجواهم هي قولهم : { إِنْ هاذان لساحران } . وقيل : إنهم تناجوا فيما بينهم فقالوا : إن كان ما جاء به موسى سحراً فسنغلبه ، وإن كان من عند الله فسيكون له أمر . وقيل : الذي أسروه : أنه إذا غلبهم اتبعوه ، قاله الفرّاء والزجاج . وقيل : الذي أسروه : أنهم لما سمعوا قول موسى : { ويلكم لا تفتروا على الله } قالوا : ما هذا بقول ساحر . والنجوى : المناجاة يكون اسماً ومصدراً .
قرأ أبو عمرو : « إن هذين لساحران » بتشديد الحرف الداخل على الجملة وبالياء في اسم الإشارة على إعمال إن عملها المعروف ، وهو نصب الاسم ورفع الخبر . ورويت هذه القراءة عن عثمان وعائشة وغيرهما من الصحابة ، وبها قرأ الحسن وسعيد بن جبير والنخعي وغيرهم من التابعين ، وبها قرأ عاصم الجحدري وعيسى بن عمر كما حكاه النحاس ، وهذه القراءة موافقة للإعراب الظاهر مخالفة لرسم المصحف فإنه مكتوب بالألف . وقرأ الزهري والخليل بن أحمد والمفضل وأبان وابن محيصن وابن كثير وعاصم في رواية حفص عنه : « إن هذان » بتخفيف إن على أنها نافية ، وهذه القراءة موافقة لرسم المصحف وللإعراب . وقرأ ابن كثير مثل قراءتهم إلا أنه يشدّد النون من هذان . وقرأ المدنيون والكوفيون وابن عامر : « إنّ هذان » بتشديد إن وبالألف ، فوافقوا الرسم وخالفوا الإعراب الظاهر .
وقد تكلم جماعة من أهل العلم في توجيه قراءة المدنيين والكوفيين وابن عامر ، وقد استوفى ذكر ذلك ابن الأنباري والنحاس ، فقيل إنها لغة بني الحارث بن كعب وخثعم وكنانة يجعلون رفع المثنى ونصبه وجره بالألف ، ومنه قول الشاعر :
فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ... مساغاً لناباه الشجاع لصمما
وقول الآخر :
تزوّد منا بين أذناه ضربة ... وقول الآخر :
إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها
ومما يؤيد هذا تصريح سيبويه والأخفش وأبي زيد والكسائي والفراء : إن هذه القراءة على لغة بني الحارث بن كعب وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أنها لغة بني كنانة . وحكى غيره أنها لغة خثعم . وقيل : إن « إنّ » بمعنى نعم ها هنا ، كما حكاه الكسائي عن عاصم ، وكذا حكاه سيبويه . قال النحاس : رأيت الزجاج والأخفش يذهبان إليه ، فيكون التقدير : نعم هذان لساحران ، ومنه قول الشاعر :
ليت شعري هل للمحبّ شفاء ... من جوى حبهنّ إنّ اللقاء
أي نعم اللقاء . قال الزجاج : والمعنى في الآية : أن هذا لهما ساحران ، ثم حذف المبتدأ وهو هما . وأنكره أبو علي الفارسي وأبو الفتح بن جني ، وقيل : إن الألف في { هذان } مشبهة بالألف في يفعلان فلم تغير . وقيل : إن الهاء مقدّرة ، أي إنه هذان لساحران ، حكاه الزجاج عن قدماء النحويين ، وكذا حكاه ابن الأنباري . وقال ابن كيسان : إنه لما كان يقال : هذا بالألف في الرفع والنصب والجرّ على حال واحدة ، وكانت التثنية لا تغير الواحد أجريت التثنية مجرى الواحد فثبت الألف في الرفع والنصب والجر ، فهذه أقوال تتضمن توجيه هذه القراءة توجيها تصح به وتخرج به عن الخطأ ، وبذلك يندفع ما روي عن عثمان وعائشة أنه غلط من الكاتب للمصحف .
{ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ } وهي أرض مصر { بِسِحْرِهِمَا } الذي أظهراه { وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى } قال الكسائي : بطريقتكم : بسنّتكم . و { المثلى } نعت ، كقولك : امرأة كبرى ، تقول العرب : فلان على الطريقة المثلى ، يعنون : على الهدى المستقيم . قال الفراء : العرب تقول هؤلاء طريقة قومهم وطرائق قومهم لأشرافهم ، والمثلى تأنيث الأمثل ، وهو الأفضل ، يقال : فلان أمثل قومه ، أي أفضلهم ، وهم الأماثل . والمعنى : أنهما إن يغلبا بسحرهما مال إليهما السادة والأشراف منكم ، أو يذهبا بمذهبكم الي هو أمثل المذاهب .
{ فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } الإجماع : الإحكام ، والعزم على الشيء قاله الفراء . تقول : أجمعت على الخروج مثل أزمعت . وقال الزجاج : معناه ليكن عزمكم كلكم كالكيد مجمعاً عليه . وقد اتفق القراء على قطع الهمزة في أجمعوا إلا أبا عمرو ، فإنه قرأ بوصلها وفتح الميم من الجمع . قال النحاس : وفيما حكي لي عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال : يجب على أبي عمرو أن يقرأ بخلاف هذه القراءة ، وهي القراءة التي عليها أكثر الناس .
{ ثُمَّ ائتوا صَفّاً } أي مصطفين مجتمعين ليكون أنظم لأمورهم وأشد لهيبتهم ، وهذا قول جمهور المفسرين . وقال أبو عبيدة : الصف : موضع المجمع ويسمى المصلى الصف . قال الزجاج : وعلى هذا معناه : ثم ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم ، يقال : أتيت الصف بمعنى : أتيت المصلى ، فعلى التفسير الأول يكون انتصاب { صفاً } على الحال ، وعلى تفسير أبي عبيدة يكون انتصابه على المفعولية . قال الزجاج : يجوز أن يكون المعنى ثم ائتوا والناس مصطفون ، فيكون على هذا مصدراً في موضع الحال ، ولذلك لم يجمع . وقرىء بكسر الهمزة بعدها ياء ، ومن ترك الهمزة أبدل منها ألفاً { وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى } أي من غلب ، يقال : استعلى عليه : إذا غلبه ، وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض . وقيل : من قول فرعون لهم .
وجملة : { قَالُواْ موسى إَمَا أَن تُلْقِيَ } مستأنفة جواباً لسؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا فعلوا بعدما قالوا فيما بينهم ما قالوا؟ فقيل : قالوا يا موسى ، إما أن تلقي ، وإن مع ما في حيزها في محل نصب بفعل مضمر ، أي اختر إلقاءك أولاً أو إلقاءنا ، ويجوز أن تكون في محل رفع على أنها وما بعدها خبر مبتدأ محذوف ، أي الأمر إلقاؤك ، أو إلقاؤنا ، ومفعول تلقي محذوف ، والتقدير : إما أن تلقي ما تلقيه أوّلاً { وَإِمَّا أَن نَّكُونَ } نحن { أَوَّلَ مَنْ ألقى } ما يلقيه ، أو أوّل من يفعل الإلقاء . والمراد : إلقاء العصيّ على الأرض ، وكانت السحرة معهم عصيّ ، وكان موسى قد ألقى عصاه يوم دخل على فرعون ، فلما أراد السحرة معارضته قالوا له هذا القول ، فقال لهم موسى { بَلْ أَلْقُواْ } أمرهم بالإلقاء أوّلاً؛ لتكون معجزته أظهر إذا ألقوا هم ما معهم ثم يلقي هو عصاه فتبتلع ذلك ، وإظهاراً لعدم المبالاة بسحرهم { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ } في الكلام حذف ، والتقدير : فألقوا فإذا حبالهم ، والفاء فصيحة ، وإذا للمفاجأة أو ظرفية . والمعنى : فألقوا ففاجأ موسى وقت أن { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ } سعي حبالهم وعصيهم ، وقرأ الحسن « عصيهم » بضم العين وهي لغة بني تميم ، وقرأ الباقون بكسرها اتباعاً لكسرة الصاد ، وقرأ ابن عباس ، وابن ذكوان وروح عن يعقوب : « تخيل » بالمثناة؛ لأن العصيّ والحبال مؤنثة ، وذلك أنهم لطخوها بالزئبق ، فلما أصابها حرّ الشمس ارتعشت واهتزّت ، وقرىء : « نخيل » بالنون على أن الله سبحانه هو المخيل لذلك ، وقرىء : « يخيل » بالياء التحتية مبنياً للفاعل ، على أن المخيل هو الكيد . وقيل : المخيل هو أنها تسعى ، فأن في موضع رفع ، أي يخيل إليه سعيها ، ذكر معناه الزجاج . وقال الفراء : إنها في موضع نصب ، أي بأنها ثم حذف الباء . قال الزجاج : ومن قرأ بالتاء : يعني : الفوقية جعل أنّ في موضع نصب ، أي تخيل إليه ذات سعي . قال : ويجوز أن يكون في موضع رفع بدلاً من الضمير في تخيل ، وهو عائد على الحبال والعصيّ ، والبدل فيه بدل اشتمال ، يقال : خيل إليه : إذا شبه له وأدخل عليه البهمة والشبهة .
{ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى } أي أحسّ . وقيل : وجد . وقيل : أضمر . وقيل : خاف ، وذلك لما يعرض من الطباع البشرية عند مشاهدة ما يخشى منه . وقيل : خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي عصاه . وقيل : إن سبب خوفه هو أن سحرهم كان من جنس ما أراهم في العصا ، فخاف أن يلتبس أمره على الناس فلا يؤمنوا ، فأذهب الله سبحانه ما حصل معه من الخوف بما بشّره به بقوله : { قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاعلى } أي : المستعلي عليهم بالظفر والغلبة ، والجملة تعليل للنهي عن الخوف .
{ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ } يعني العصا ، وإنما أبهمها تعظيماً وتفخيماً ، وجزم { تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ } على أنه جواب الأمر ، قرىء بتشديد القاف ، والأصل تتلقف فحذف إحدى التاءين ، وقرىء : « تلقف » بكسر اللام من لقفه إذا ابتلعه بسرعة ، وقرىء : « تلقف » بالرفع على تقدير فإنها تتلقف ، ومعنى { مَا صَنَعُواْ } : الذي صنعوه من الحبال والعصيّ . قال الزجاج : القراءة بالجزم جواب الأمر ، ويجوز الرفع على معنى الحال ، كأنه قال : ألقها متلقفة ، وجملة { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } تعليل لقوله : { تلقف } وارتفاع كيد على أنه خبر لإن ، وهي قراءة الكوفيين إلا عاصماً . وقرأ هؤلاء : « ساحر » بكسر السين وسكون الحاء ، وإضافة الكيد إلى السحر على الاتساع من غير تقدير ، أو بتقدير ذي سحر . وقرأ الباقون : { كيد ساحر } { وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى } أي لا يفلح جنس الساحر حيث أتى وأين توجه ، وهذا من تمام التعليل { فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً } أي فألقي ذلك الأمر الذي شاهدوه من موسى والعصا السحرة سجداً لله تعالى ، وقد مرّ تحقيق هذا في سورة الأعراف . { قَالُواْ آمَنَّا بِرَبّ هارون وموسى } إنما قدّم هارون على موسى في حكاية كلامهم؛ رعاية لفواصل الآي وعناية بتوافق رؤوسها .
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } قال : يهلككم . أخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة { فَيُسْحِتَكُم } قال : يستأصلكم . وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي صالح قال : فيذبحكم . وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عليّ : { وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى } قال : يصرفا وجوه الناس إليهما . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : يقول : أمثلكم ، وهم بنو إسرائيل . وأخرج عبد بن حميد وعبد الرزاق في قوله : { تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ } ما يأفكون ، عن قتادة قال : ألقاها موسى فتحوّلت حية تأكل حبالهم وما صنعوا . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة؛ أن سحرة فرعون كانوا تسعمائة ، فقالوا لفرعون : إن يكن هذان ساحرين فإنا نغلبهما فإنه لا أسحر منا ، وإن كانا من ربّ العالمين فإنه لا طاقة لنا بربّ العالمين ، فلما كان من أمرهم أن خرّوا سجداً أراهم الله في سجودهم منازلهم التي إليها يصيرون فعندها { قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَاءنَا مِنَ البينات } إلى قوله : { والله خَيْرٌ وأبقى } .
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
قوله : { قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ } يقال : آمن له وآمن به ، فمن الأوّل : قوله : { فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ } [ العنكبوت : 26 ] ، ومن الثاني : قوله في الأعراف : { ءامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذن لكم } [ الأعراف : 123 ] . وقيل : إن الفعل هنا متضمن معنى الاتباع . وقرىء على الاستفهام التوبيخي ، أي كيف آمنتم به من غير إذن مني لكم بذلك؟ { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر } أي إن موسى لكبيركم ، أي أسحركم وأعلاكم درجة في صناعة السحر ، أو معلمكم وأستاذكم كما يدلّ عليه قوله : { الذى عَلَّمَكُمُ السحر } قال الكسائي : الصبي بالحجاز إذا جاء من عند معلمه قال : جئت من عند كبيري . وقال محمد بن إسحاق : إنه لعظيم السحر . قال الواحدي : والكبير في اللغة : الرئيس ، ولهذا يقال للمعلم : الكبير . أراد فرعون بهذا القول أن يدخل الشبهة على الناس حتى لا يؤمنوا ، وإلا فقد علم أنهم لم يتعلموا من موسى ، ولا كان رئيساً لهم ، ولا بينه وبينهم مواصلة { فَلأُقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ } أي : والله لأفعلنّ بكم ذلك . والتقطيع للأيدي والأرجل من خلاف هو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ، و « من » للابتداء { وَلأُصَلّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } أي على جذوعها كقوله : { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } [ الطور : 38 ] أي عليه ، ومنه قول سويد بن أبي كاهل :
هم صلبوا العبديّ في جذع نخلة ... فلا عطست شيبان إلا بأجدعا
وإنما آثر كلمة « فِي » للدلالة على استقرارهم عليها كاستقرار المظروف في الظرف { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى } أراد : لتعلمنّ هل أنا أشدّ عذاباً لكم أم موسى؟ ومعنى { أبقى } : أدوم ، وهو يريد بكلامه هذا : الاستهزاء بموسى ، لأن موسى لم يكن من التعذيب في شيء ، ويمكن أن يريد : العذاب الذي توعدهم به موسى إن لم يؤمنوا . وقيل : أراد بموسى ربّ موسى على حذف المضاف .
{ قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَاءنَا مِنَ البينات } أي لن نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات الواضحة من عند الله سبحانه كاليد والعصا . وقيل : إنهم أرادوا بالبينات ما رأوه في سجودهم من المنازل المعدّة لهم في الجنة { والذي فَطَرَنَا } معطوف على { ما جاءنا } أي لن نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات وعلى الذي فطرنا ، أي خلقنا . وقيل هو قسم ، أي والله الذي فطرنا لن نؤثرك ، أو لا نؤثرك ، وهذان الوجهان في تفسير الآية ذكرهما الفراء والزجاج { فاقض مَا أَنتَ قَاضٍ } هذا جواب منهم لفرعون لما قال لهم : { لأقطعنّ } إلخ ، والمعنى : فاصنع ما أنت صانع ، واحكم ما أنت حاكم ، والتقدير : ما أنت صانعه { إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } أي إنما سلطانك علينا ونفوذ أمرك فينا في هذه الدنيا ولا سبيل لك علينا فيما بعدها ، فاسم الإشارة في محل نصب على الظرفية أو على المفعولية و « ما » كافة ، وأجاز الفراء الرفع على أن تجعل ما بمعنى الذي ، أي أن الذي تقضيه هذه الحياة الدنيا فقضاؤك وحكمك منحصر في ذلك .
{ إِنَّا آمَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا } التي سلفت منا من الكفر وغيره { وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر } معطوف على { خطايانا } أي ويغفر لنا الذي أكرهتنا عليه من عمل السحر في معارضة موسى فما في محل نصب على المفعولية وقيل : هي نافية ، قال النحاس : والأوّل أولى . قيل : ويجوز أن يكون في محل رفع بالابتداء والخبر مقدّر ، أي وما أكرهتنا عليه من السحر موضوع عنا { والله خَيْرٌ وأبقى } أي خير منك ثواباً وأبقى منك عقاباً ، وهذا جواب قوله : { ولتعلمنّ أينا أشدّ عذاباً وأبقى } . { إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى } المجرم هو المتلبس بالكفر والمعاصي ، ومعنى { لا يموت فيها ولا يحيى } : أنه لا يموت فيستريح ولا يحيى حياة تنفعه . قال المبرد : لا يموت ميتة مريحة ولا يحيا حياة ممتعة ، فهو يألم كما يألم الحي ، ويبلغ به حال الموت في المكروه ، إلا أنه لا يبطل فيها عن إحساس الألم ، والعرب تقول : فلان لا حيّ ولا ميت ، إذا كان غير منتفع بحياته ، وأنشد ابن الأنباري في مثل هذا :
ألا من لنفس لا تموت فينقضي ... شقاها ولا تحيا حياة لها طعم
وهذه الآية من جملة ما حكاه الله سبحانه من قول السحرة . وقيل : هو ابتداء كلام . والضمير في : { إنه } على هذا الوجه للشأن { وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات } أي ومن يأت ربه مصدّقاً به قد عمل الصالحات ، أي الطاعات ، والموصوف محذوف ، والتقدير : الأعمال الصالحات ، وجملة : { قد عمل } في محل نصب على الحال وهكذا { مؤمناً } منتصب على الحال ، والإشارة ب { أولئك } إلى من باعتبار معناه { لَهُمُ الدرجات العلى } أي المنازل الرفيعة التي قصرت دونها الصفات { جنات عَدْنٍ } بيان للدرجات أو بدل منها ، والعدن : الإقامة ، وقد تقدّم بيانه ، وجملة { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } حال من الجنات؛ لأنها مضافة إلى عدن ، وعدن علم للإقامة كما سبق . وانتصاب { خالدين فِيهَا } على الحال من ضمير الجماعة في لهم ، أي ماكثين دائمين ، والإشارة { ذلك } إلى ما تقدّم لهم من الأجر ، وهو مبتدأ ، و { جَزَاء مَن تزكى } خبره ، أي جزاء من تطهر من الكفر والمعاصي الموجبة للنار .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر } قال : أخذ فرعون أربعين غلاماً من بني إسرائيل ، فأمر أن يعلموا السحر بالفَرَما ، قال : علموهم تعليماً لا يغلبهم أحد في الأرض .
قال ابن عباس : فهم من الذين آمنوا بموسى ، وهم الذين قالوا : { آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر } . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في قوله : { والله خَيْرٌ وأبقى } قال : خير منك إن أطيع ، وأبقى منك عذاباً إن عصى .
وأخرج أحمد ومسلم وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فأتى على هذه الآية : { إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أما أهلها الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، وأما الذين ليسوا بأهلها فإن النار تميتهم إماتة ، ثم يقوم الشفعاء فيشفعون ، فيؤتى بهم ضبائر على نهر يقال له : الحياة أو الحيوان ، فينبتون كما ينبت الغثاء في حميل السيل » وأخرج أبو داود وابن مردويه عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدريّ في أفق السماء ، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما » ، وفي الصحيحين بلفظ : « إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء » .
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)
هذا شروع في إنجاء بني إسرائيل وإهلاك عدوّهم ، وقد تقدّم في البقرة ، وفي الأعراف ، وفي يونس واللام في : { لقد } هي الموطئة للقسم ، وفي ذلك من التأكيد ما لا يخفى ، و « أن » في : { أن أسر بعبادي } إما المفسرة لأن في الوحي معنى القول ، أو مصدرية ، أي بأن أسر ، أي أسر بهم من مصر . وقد تقدّم هذا مستوفى . { فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً } أي اجعل لهم طريقاً ، ومعنى { يبساً } : يابساً ، وصف به الفاعل مبالغة ، وذلك أن الله تعالى أيبس لهم تلك الطريق حتى لم يكن فيها ماء ولا طين . وقرىء : « يبسا » بسكون الباء . على أنه مخفف من يبسا المحرك ، أو جمع يابس كصحب في صاحب . وجملة { لاَّ تَخَافُ دَرَكاً } في محل نصب على الحال ، أي آمنا من أن يدرككم العدوّ ، أو صفة أخرى لطريق ، والدرك اللحاق بهم من فرعون وجنوده . وقرأ حمزة : « لا تخف » على أنه جواب الأمر ، والتقدير : إن تضرب لا تخف ، و { لا تخشى } على هذه القراءة مستأنف ، أي ولا أنت تخشى من فرعون أو من البحر . وقرأ الجمهور : { لا تخاف } وهي أرجح لعدم الجزم في : { تخشى } ويجوز أن تكون هذه الجملة على قراءة الجمهور صفة أخرى لطريق ، أي لا تخاف منه ولا تخشى منه . { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ } أتبع هنا مطاوع تبع ، يقال : أتبعتهم : إذا تبعتهم ، وذلك إذا سبقوك فلحقتهم ، فالمعنى : تبعهم فرعون ومعه جنوده . وقيل : الباء زائدة والأصل أتبعهم جنوده ، أي أمرهم أن يتبعوا موسى وقومه ، وقرىء « فاتبعهم » بالتشديد أي لحقهم بجنوده وهو معهم كما يقال : ركب الأمير بسيفه ، أي معه سيفه ، ومحل بجنوده النصب على الحال ، أي : سائقاً جنوده معه { فَغَشِيَهُمْ مّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } أي علاهم وأصابهم ما علاهم وأصابهم ، والتكرير للتعظيم والتهويل كما في قوله : { الحاقة * مَا الحاقة } [ الحاقة : 1 2 ] . وقيل : غشيهم ما سمعت قصته . وقال ابن الأنباري : غشيهم البعض الذي غشيهم؛ لأنه لم يغشهم كل ماء البحر ، بل الذي غشيهم بعضه . فهذه العبارة للدلالة على أن الذي غرقهم بعض الماء ، والأوّل أولى لما يدل عليه من التهويل والتعظيم . وقرىء : « فغشاهم من اليمّ ما غشاهم » أي : غطاهم ما غطاهم .
{ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى } أي أضلهم عن الرشد ، وما هداهم إلى طريق النجاة ، لأنه قدّر أن موسى ومن معه لا يفوتونه لكونهم بين يديه يمشون في طريق يابسة ، وبين أيديهم البحر ، وفي قوله : { وَمَا هدى } تأكيد لإضلاله؛ لأن المضل قد يرشد من يضله في بعض الأمور .
{ هدى يابنى إسراءيل قَدْ أنجيناكم مّنْ عَدُوّكُمْ } ذكر سبحانه ما أنعم به على بني إسرائيل بعد إنجائهم ، والتقدير قلنا لهم بعد إنجائهم : { يا بني إسرائيل } ويجوز أن يكون خطاباً لليهود المعاصرين لنبينا صلى الله عليه وسلم ؛ لأن النعمة على الآباء معدودة من النعم على الأبناء .
والمراد بعدوّهم هنا : فرعون وجنوده ، وذلك بإغراقه وإغراق قومه في البحر بمرأى من بني إسرائيل . { وواعدناكم جَانِبَ الطور الأيمن } انتصاب { جانب } على أنه مفعول به ، لا على الظرفية؛ لأنه مكان معين غير مبهم ، وإنما تنتصب الأمكنة على الظرفية إذا كانت مبهمة . قال مكي : وهذا أصل لا خلاف فيه . قال النحاس : والمعنى أمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه لنكلمه بحضرتكم فتسمعوا الكلام . وقيل : وعد موسى بعد إغراق فرعون أن يأتي جانب الطور ، فالوعد كان لموسى ، وإنما خوطبوا به؛ لأن الوعد كان لأجلهم . وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب : « ووعدناكم » بغير ألف ، واختاره أبو عبيدة؛ لأن الوعد إنما هو من الله لموسى خاصة والمواعدة لا تكون إلا من اثنين ، وقد قدّمنا في البقرة هذا المعنى . و { الأيمن } منصوب على أنه صفة للجانب ، والمراد : يمين الشخص؛ لأن الجبل ليس له يمين ولا شمال ، فإذا قيل : خذ عن يمين الجبل فمعناه : عن يمينك من الجبل . وقرىء بجرّ الأيمن على أنه صفة للمضاف إليه { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } قد تقدّم تفسير المنّ بالترنجبين والسلوى بالسماني وأوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه ، وإنزال ذلك عليهم كان في التيه .
{ كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم } أي وقلنا لهم : كلوا والمراد بالطيبات : المستلذات . وقيل : الحلال ، على الخلاف المشهور في ذلك . وقرأ حمزة والكسائي والأعمش : « قد أنجيتكم من عدوّكم ووعدتكم جانب الطور كلوا من طيبات ما رزقتكم » بتاء المتكلم في الثلاثة . وقرأ الباقون بنون العظمة فيها . { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ } الطغيان : التجاوز ، أي لا تتجاوزوا ما هو جائز إلى ما لا يجوز . وقيل : المعنى : لا تجحدوا نعمة الله فتكونوا طاغين . وقيل : لا تكفروا النعمة ولا تنسوا شكرها ، وقيل : لا تعصوا المنعم ، أي لا تحملنكم السعة والعافية على المعصية ، ولا مانع من حمل الطغيان على جميع هذه المعاني ، فإن كل واحد منها يصدق عليه أنه طغيان { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي } هذا جواب النهي ، أي يلزمكم غضبي وينزل بكم ، وهو مأخوذ من حلول الدّين ، أي حضور وقت أدائه { وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى } قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والكسائي : « فيحل » بضم الحاء ، وكذلك قرؤوا « يحلل » بضم اللام الأولى ، وقرأ الباقون بالكسر فيهما وهما لغتان . قال الفراء : والكسر أحبّ إليّ من الضم؛ لأن الضم من الحلول بمعنى الوقوع . ويحل بالكسر : يجب ، وجاء التفسير بالوجوب لا بالوقوع ، وذكر نحو هذا أبو عبيدة وغيره .
ومعنى { فَقَدْ هوى } : فقد هلك . قال الزجاج : { فَقَدْ هوى } أي صار إلى الهاوية ، وهي قعر النار من هوى يهوي هوياً ، أي سقط من علو إلى سفل ، وهوى فلان ، أي مات .
{ وَإِنّي لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالحا } أي لمن تاب من الذنوب التي أعظمها الشرك بالله ، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وعمل عملاً صالحاً مما ندب إليه الشرع وحسنه { ثُمَّ اهتدى } أي استقام على ذلك حتى يموت كذا قال الزجاج وغيره . وقيل : لم يشكّ في إيمانه . وقيل : أقام على السنّة والجماعة ، وقيل : تعلم العلم ليهتدي به . وقيل : علم أن لذلك ثواباً وعلى تركه عقاباً ، والأوّل أرجح مما بعده .
{ وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى } هذا حكاية لما جرى بين الله سبحانه وبين موسى عند موافاته الميقات . قال المفسرون : وكانت المواعدة أن يوافي موسى وجماعة من وجوه قومه . فسار موسى بهم ، ثم عجل من بينهم شوقاً إلى ربه ، فقال الله له : ما أعجلك؟ أي ما الذي حملك على العجلة ، حتى تركت قومك وخرجت من بينهم ، فأجاب موسى عن ذلك : { قَالَ هُمْ أُوْلاء على أَثَرِي } أي هم بالقرب مني ، تابعون لأثرى واصلون بعدي . وقيل : لم يرد أنهم يسيرون خلفه ، بل أراد أنهم بالقرب منه ينتظرون عوده إليهم . ثم قال مصرحاً بسبب ما سأله الله عنه فقال : { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لترضى } أي لترضى عني بمسارعتي إلى امتثال أمرك أو لتزداد رضا عني بذلك . قال أبو حاتم : قال عيسى بن عمر : بنو تميم يقولون : « أولى » مقصورة ، وأهل الحجاز يقولون : « أولاء » ممدودة . وقرأ ابن أبي إسحاق ونصر ، ورويس عن يعقوب : « على إثري » بكسر الهمزة وإسكان الثاء ، وقرأ الباقون بفتحها وهما لغتان . ومعنى { عجلت إليك } : عجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني . يقال : رجل عجل وعجول وعجلان : بين العجلة . والعجلة خلاف البطء .
وجملة : { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل فماذا قال الله له؟ فقيل : قال : إنا قد فتنا قومك من بعدك ، أي ابتليناهم واختبرناهم وألقيناهم في فتنة ومحنة . قال ابن الأنباري : صيرناهم مفتونين أشقياء بعبادة العجل من بعد انطلاقك من بينهم ، وهم الذين خلفهم مع هارون { وَأَضَلَّهُمُ السامري } أي دعاهم إلى الضلالة ، وكان من قوم يعبدون البقر ، فدخل في دين بني إسرائيل في الظاهر وفي قلبه ما فيه من عبادة البقر ، وكان من قبيلة تعرف بالسامرة ، وقال لمن معه من بني إسرائيل : إنما تخلف موسى عن الميعاد الذي بينكم وبينه لما صار معكم من الحليّ ، وهي حرام عليكم وأمرهم بإلقائها في النار ، فكان من أمر العجل ما كان .
{ فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غضبان أَسِفاً } قيل : وكان الرجوع إلى قومه بعد ما استوفى أربعين يوماً : ذا القعدة ، وعشر ذي الحجة ، والأسف : الشديد الغضب .
وقيل : الحزين ، وقد مضى في الأعراف بيان هذا مستوفى . { قَالَ يَا قَوْم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } الاستفهام للإنكار التوبيخي ، والوعد الحسن : وعدهم بالجنة إذا أقاموا على طاعته ، ووعدهم أن يسمعهم كلامه في التوراة على لسان موسى ليعملوا بما فيها ، فيستحقوا ثواب عملهم ، وقيل : وعدهم النصر والظفر . وقيل هو قوله : { وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ } الآية . { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد } الفاء للعطف على مقدّر ، أي أوعدكم ذلك ، فطال عليكم الزمان فنسيتم { أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ } أي يلزمكم وينزل بكم ، والغضب : العقوبة والنقمة . والمعنى : أم أردتم أن تفعلوا فعلاً يكون سبب حلول غضب الله عليكم { فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى } أي : موعدكم إياي ، فالمصدر مضاف إلى المفعول؛ لأنهم وعدوه أن يقيموا على طاعة الله عزّ وجلّ إلى أن يرجع إليهم من الطور . وقيل : وعدوه أن يأتوا على أثره إلى الميقات ، فتوقفوا فأجابوه ، و { قَالُواْ مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ } الذي وعدناك { بِمَلْكِنَا } بفتح الميم ، وهي قراءة نافع وأبي جعفر وعاصم وعيسى بن عمر ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بكسر الميم ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنها على اللغة العالية الفصيحة ، وهو مصدر ملكت الشيء أملكه ملكاً ، والمصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف ، أي بملكنا أمورنا ، أو بملكنا الصواب ، بل أخطأنا ولم نملك أنفسنا وكنا مضطرين إلى الخطأ ، وقرأ حمزة والكسائي : « بملكنا » بضمّ الميم ، والمعنى بسلطاننا ، أي لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك . وقيل : إنّ الفتح والكسر والضم في : « بملكنا » كلها لغات في مصدر ملكت الشيء .
{ ولكنا حُمّلْنَا أَوْزَاراً مّن زِينَةِ القوم } قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص وأبو جعفر ورويسك : « حملنا » بضم الحاء وتشديد الميم ، وقرأ الباقون بفتح الحاء والميم مخففة ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنهم حملوا حلية القوم معهم باختيارهم ، وما حملوها كرهاً ، فإنهم كانوا استعاروها منهم حين أرادوا الخروج مع موسى ، وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم أو وليمة . وقيل : هو ما أخذوه من آل فرعون لما قذفهم البحر إلى الساحل ، وسميت أوزاراً ، أي آثاماً؛ لأنه لا يحلّ لهم أخذها ، ولا تحل لهم الغنائم في شريعتهم والأوزار في الأصل : الأثقال ، كما صرح به أهل اللغة ، والمراد بالزينة هنا : الحليّ { فَقَذَفْنَاهَا } أي : طرحناها في النار طلباً للخلاص من إثمها . وقيل : المعنى طرحناها إلى السامريّ لتبقى لديه حتى يرجع موسى فيرى فيها رأيه { فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري } أي فمثل ذلك القذف ألقاها السامريّ . قيل : إن السامريّ قال لهم حين استبطأ القوم رجوع موسى : إنما احتبس عنكم لأجل ما عندكم من الحليّ ، فجمعوه ودفعوه إليه ، فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلاً ، ثم ألقى عليه قبضة من أثر الرسول وهو جبريل ، فصار { عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } أي يخور كما يخور الحيّ من العجول ، والخوار : صوت البقر .
وقيل : خواره كان بالريح؛ لأنه كان عمل فيه خروقاً . فإذا دخلت الريح في جوفه خار ولم يكن فيه حياة { فَقَالُواْ هذا إلهكم وإله موسى } أي قال السامريّ ومن وافقه هذه المقالة { فَنَسِيَ } أي فضلّ موسى ولم يعلم مكان إلهه هذا ، وذهب يطلبه في الطور . وقيل : المعنى : فنسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم . وقيل : الناسي هو السامريّ ، أي ترك السامريّ ما أمر به موسى من الإيمان وضلّ ، كذا قال ابن الأعرابي .
{ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً } أي أفلا يعتبرون ويتفكرون في أن هذا العجل لا يرجع إليهم قولاً ، أي لا يردّ عليهم جواباً ، ولا يكلمهم إذا كلموه ، فكيف يتوهمون أنه إله وهو عاجز عن المكالمة ، فأن في : « ألا يرجع » هي المخففة من الثقيلة ، وفيها ضمير مقدّر يرجع إلى العجل ، ولهذا ارتفع الفعل بعدها ، ومنه قول الشاعر :
في فتية من سيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يَحْفَى ويَنْتَعِلُ
أي أنه هالك . وقرىء بنصب الفعل على أنها الناصبة ، وجملة : { وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } معطوفة على جملة : { لا يرجع } أي أفلا يرون أنه لا يقدر على أن يدفع عنهم ضرّاً ولا يجلب إليهم نفعاً .
{ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هارون مِن قَبْلُ } اللام هي الموطئة للقسم ، والجملة مؤكدة لما تضمنته الجملة التي قبلها من الإنكار عليهم والتوبيخ ، لهم أي ولقد قال لهم هارون من قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم { ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ } أي وقعتم في الفتنة بسبب العجل ، وابتليتم به وضللتم عن طريق الحق لأجله . قيل : ومعنى القصر المستفاد من إنما هو : أن العجل صار سبباً لفتنتهم لا لرشادهم وليس معناه : أنهم فتنوا بالعجل لا بغيره { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن فاتبعوني وَأَطِيعُواْ أَمْرِي } أي ربكم الرحمن لا العجل ، فاتبعوني في أمري لكم بعبادة الله ، ولا تتبعوا السامريّ في أمره لكم بعبادة العجل ، وأطيعوا أمري لا أمره .
{ قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عاكفين حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى } أجابوا هارون عن قوله المتقدّم بهذا الجواب المتضمن لعصيانه ، وعدم قبول ما دعاهم إليه من الخير وحذرهم عنه من الشرّ ، أي لن نزال مقيمين على عبادة هذا العجل ، حتى يرجع إلينا موسى ، فينظر : هل يقرّرنا على عبادته أو ينهانا عنها؟ فعند ذلك اعتزلهم هارون في اثني عشر ألفاً من المنكرين لما فعله السامريّ .
وقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب في قوله : { يَبَساً } قال : يابساً ليس فيه ماء ولا طين .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { لاَ تخاف دَرَكاً } من آل فرعون { وَلاَ تخشى } من البحر غرقاً . وأخرجا عنه أيضاً في قوله : { فَقَدْ هوى } شقي . وأخرجا عنه أيضاً : { وَإِنّي لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ } قال : من الشرك { وَآمَنَ } قال : وحد الله { وَعَمِلَ صالحا } قال : أدّى الفرائض { ثُمَّ اهتدى } قال : لم يشك . وأخرج سعيد بن منصور والفريابي عنه أيضاً : { وَإِنّي لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ } قال : من تاب من الذنب ، وآمن من الشرك ، وعمل صالحاً فيما بينه وبين ربه { ثُمَّ اهتدى } علم أن لعمله ثواباً يجزى عليه . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير : { ثُمَّ اهتدى } قال : ثم استقام ، لزم السنّة والجماعة .
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة ، والبيهقي في الشعب من طريق عمرو بن ميمون عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : تعجل موسى إلى ربه ، فقال الله : { وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى } الآية ، قال : فرأى في ظلّ العرش رجلاً فعجب له ، فقال : من هذا يا ربّ؟ قال : لا أحدثك من هو ، لكن سأخبرك بثلاث فيه : كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله ، ولا يعقّ والديه ، ولا يمشي بالنميمة . وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن عليّ قال : لما تعجل موسى إلى ربه عمد السامريّ فجمع ما قدر عليه من حليّ بني إسرائيل فضربه عجلاً ، ثم ألقى القبضة في جوفه فإذا هو عجل جسد له خوار ، فقال لهم السامريّ : { هذا إلهكم وإله موسى } ، فقال لهم هارون : { يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً } فلما أن رجع موسى أخذ برأس أخيه ، فقال له هارون ما قال ، فقال موسى للسامريّ : ما خطبك؟ قال : { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول فَنَبَذْتُهَا وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } فعمد موسى إلى العجل ، فوضع موسى عليه المبارد فبرده بها وهو على شط نهر فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد ذلك العجل إلا اصفرّ وجهه مثل الذهب ، فقالوا لموسى : ما توبتنا؟ قال : يقتل بعضكم بعضاً ، فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه ولا يبالي بمن قتل حتى قتل منهم سبعون ألفاً ، فأوحى الله إلى موسى مرهم فليرفعوا أيديهم ، فقد غفرت لمن قتل وتبت على من بقي . والحكايات لهذه القصة كثيرة جدّاً .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { بِمَلْكِنَا } قال : بأمرنا . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة : { بِمَلْكِنَا } قال : بطاقتنا . وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ مثله . وأخرج أيضاً عن الحسن قال : بسلطاننا . وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { هذا إلهكم وإله موسى فَنَسِيَ } قال : فنسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه .
قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)
جملة : { قَالَ يَا هارون } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، والمعنى : أن موسى لما وصل إليهم أخذ بشعور رأس أخيه هارون وبلحيته وقال : { مَا مَنَعَكَ } من اتباعي واللحوق بي عند أن وقعوا في هذه الضلالة ودخلوا في الفتنة . وقيل : معنى { مَا مَنَعَكَ . . . ألا تتبعن } : ما منعك من اتباعي في الإنكار عليهم . وقيل : معناه هلا قاتلتهم إذ قد علمت أني لو كنت بينهم لقاتلتهم . وقيل : معناه : هلا فارقتهم . و « لا » في { ألا تتبعن } زائدة ، وهو في محل نصب على أنه مفعول ثانٍ لمنع ، أي أيّ شيء منعك حين رؤيتك لضلالهم من اتباعي ، والاستفهام في : { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } للإنكار والتوبيخ ، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره ، والمعنى : كيف خالفت أمري لك بالقيام لله ومنابذة من خالف دينه وأقمت بين هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلها؟ وقيل : المراد بقوله : { أمري } هو قوله الذي حكى الله عنه : { وَقَالَ موسى لأخِيهِ هارون اخلفنى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين } [ الأعراف : 142 ] فلما أقام معهم ولم يبالغ في الإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه .
{ قَالَ يَا ابن أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } قرىء بالفتح والكسر للميم ، وقد تقدّم الكلام على هذا في سورة الأعراف . ونسبه إلى الأمّ مع كونه أخاه لأبيه وأمه ، عند الجمهور؛ استعطافاً له وترقيقاً لقلبه ، ومعنى { وَلاَ بِرَأْسِي } : ولا بشعر رأسي ، أي لا تفعل هذا بي عقوبة منك لي ، فإن لي عذراً هو { إِنّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءيلَ } أي خشيت إن خرجت عنهم وتركتهم أن يتفرقوا فتقول : إني فرقت جماعتهم وذلك لأن هارون لو خرج لتبعه جماعة منهم وتخلف مع السامريّ عند العجل آخرون ، وربما أفضى ذلك إلى القتال بينهم ، ومعنى { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } : ولم تعمل بوصيتي لك فيهم ، إني خشيت أن تقول : فرّقت بينهم ، وتقول لم تعمل بوصيتي لك فيهم وتحفظها ، ومراده بوصية موسى له هو قوله : { اخلفنى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ } [ الأعراف : 142 ] . قال أبو عبيد : معنى { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } : ولم تنتظر عهدي وقدومي لأنك أمرتني أن أكون معهم ، فاعتذر هارون إلى موسى ها هنا بهذا ، واعتذر إليه في الأعراف بما حكاه الله عنه هنالك حيث قال : { إِنَّ القوم استضعفونى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى } [ الأعراف : 150 ] . ثم ترك موسى الكلام مع أخيه وخاطب السامريّ فقَال : { فَمَا خَطْبُكَ ياسامري } أي ما شأنك وما الذي حملك على ما صنعت { قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } أي قال السامريّ مجيباً على موسى : رأيت ما لم يروا أو علمت بما لم يعلموا وفطنت لما لم يفطنوا له ، وأراد بذلك : أنه رأى جبريل على فرس الحياة فألقى في ذهنه أن يقبض قبضة من أثر الرسول ، وأن ذلك الأثر لا يقع على جماد إلا صار حياً .
وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وخلف : « ما لم تبصروا به » بالمثناة من فوق على الخطاب ، وقرأ الباقون بالتحتية ، وهي أولى؛ لأنه يبعد كلّ البعد أن يخاطب موسى بذلك ويدّعي لنفسه أنه علم ما لم يعلم به موسى ، وقرىء بضم الصاد فيهما وبكسرها في الأوّل وفتحها في الثاني ، وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود والحسن وقتادة : « فقبضت قبصة » بالصاد المهملة فيهما ، وقرأ الباقون بالضاد المعجمة فيهما ، والفرق بينهما أن القبض بالمعجمة : هو الأخذ بجميع الكف ، وبالمهملة بأطراف الأصابع . والقبضة بضم القاف : القدر المقبوض . قال الجوهري : هي ما قبضت عليه من شيء ، قال : وربما جاء بالفتح ، وقد قرىء : « قبضة » بضم القاف وفتحها ، ومعنى الفتح : المرّة من القبض ، ثم أطلقت على المقبوض وهو معنى القبضة بضم القاف ، ومعنى { مِّنْ أَثَرِ الرسول } : من المحل الذي وقع عليه حافر فرس جبريل ، ومعنى { فَنَبَذْتُهَا } : فطرحتها في الحليّ المذابة المسبوكة على صورة العجل { وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } قال الأخفش : أي زينت ، أي ومثل ذلك التسويل : سوّلت لي نفسي . وقيل : معنى { سوّلت لي نفسي } : حدّثتني نفسي .
فلما سمع موسى منه قال : { فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِى الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ } أي : فاذهب من بيننا واخرج عنا فإن لك في الحياة ، أي ما دمت حياً ، وطول حياتك أن تقول : لا مساس . المساس مأخوذ من المماسة ، أي لا يمسك أحد ولا تمسّ أحداً ، لكن لا بحسب الاختيار منك ، بل بموجب الاضطرار الملجىء إلى ذلك؛ لأن الله سبحانه أمر موسى أن ينفي السامريّ عن قومه ، وأمر بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له . قيل : إنه لما قال له موسى ذلك هرب ، فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحش لا يجد أحداً من الناس يمسه ، حتى صار كمن يقول : لا مساس ، لبعده عن الناس وبعد الناس عنه ، كما قال الشاعر :
حمال رايات بها قناعسا ... حتى تقول الأزد لا مسايسا
قال سيبويه : وهو مبني على الكسر . قال الزجاج : كسرت السين؛ لأن الكسرة من علامة التأنيث . قال الجوهري في الصحاح : وأما قول العرب : لا مساس ، مثل قطام ، فإنما بني على الكسر؛ لأنه معدول عن المصدر ، وهو المس . قال النحاس : وسمعت عليّ بن سليمان يقول : سمعت محمد بن يزيد المبرد يقول : إذا اعتلّ الشيء من ثلاث جهات وجب أن يبنى ، وإذا اعتل من جهتين وجب ألا ينصرف ، لأنه ليس بعد الصرف إلا البناء ، فمساس ، دراك اعتل من ثلاث جهات : منها أنه معدول ، ومنها أنه مؤنث ، ومنها أنه معرفة ، فلما وجب البناء فيه وكانت الألف قبل السين ساكنة كسرت السين لالتقاء الساكنين .
وقد رأيت أبا إسحاق ، يعني الزجاج ، ذهب إلى أن هذا القول خطأ وألزم أبا العباس إذا سميت امرأة بفرعون أن يبنيه وهذا لا يقوله أحد . وقد قرأ بفتح الميم أبو حيوة والباقون بكسرها . وحاصل ما قيل في معنى { لا مساس } ثلاثة أوجه : الأوّل : أنه حرّم عليه مماسة الناس ، وكان إذا ماسه أحد حمّ الماس والممسوس ، فلذلك كان يصيح إذا رأى أحداً : لا مساس . والثاني : أن المراد منع الناس من مخالطته؛ واعترض بأن الرجل إذا صار مهجوراً فلا يقول هو : لا مساس ، وإنما يقال له . وأجيب بأن المراد الحكاية ، أي أجعلك يا سامريّ بحيث إذا أخبرت عن حالك قلت : لا مساس . والقول الثالث : أن المراد انقطاع نسله ، وأن يخبر بأنه لا يتمكن من مماسة المرأة ، قاله أبو مسلم وهو ضعيف جداً .
ثم ذكر حاله في الآخرة فقال : { وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ } أي لن يخلفك الله ذلك الموعد ، وهو يوم القيامة ، والموعد مصدر ، أي إن لك وعداً لعذابك ، وهو كائن لا محالة ، قال الزجاج : أي يكافئك الله على ما فعلت في القيامة والله لا يخلف الميعاد . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصن واليزيدي والحسن : « لن تخلفه بكسر » اللام ، وله على هذه القراءة معنيان : أحدهما : ستأتيه ولن تجده مخلفاً كما تقول أحمدته ، أي وجدته محموداً . والثاني : على التهديد ، أي لا بدّ لك من أن تصير إليه . وقرأ ابن مسعود : « لن نخلفه » بالنون ، أي لن يخلفه الله . وقرأ الباقون بفتح اللام ، وبالفوقية مبنياً للمفعول ، معناه ما قدّمناه .
{ وانظر إلى إلهك الذى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً } ظلت أصله : ظللت فحذفت اللام الأولى تخفيفاً ، والعرب تفعل ذلك كثيراً . وقرأ الأعمش بلامين على الأصل . وفي قراءة ابن مسعود : « ظلت » بكسر الظاء . والمعنى : انظر إلى إلهك الذي دمت وأقمت على عبادته ، والعاكف : الملازم . { لَّنُحَرّقَنَّهُ } قرأ الجمهور بضم النون وتشديد الراء من حرّقه يحرّقه . وقرأ الحسن بضم النون وسكون الحاء وتخفيف الراء من أحرقه يحرقه . وقرأ عليّ وابن عباس وأبو جعفر وابن محيصن وأشهب والعقيلي : « لنحرقنه » بفتح النون وضم الراء مخففة ، من حرقت الشيء أحرقه حرقاً : إذا بردته وحككت بعضه ببعض أي : لنبردنه بالمبارد ، ويقال للمبرد : المحرق . والقراءة الأولى أولى ، ومعناها : الإحراق بالنار ، وكذا معنى القراءة الثانية ، وقد جمع بين هذه الثلاث القراءات بأنه أحرق ، ثم برد بالمبرد ، وفي قراءة ابن مسعود : « لنذبحنه ثم لنحرقنه » واللام هي الموطئة للقسم . { ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِى اليم نَسْفاً } النسف : نفض الشيء ليذهب به الريح . قرأ أبو رجاء : « لننسفنه » بضم السين ، وقرأ الباقون بكسرها ، وهما لغتان . والمنسف : ما ينسف به الطعام ، وهو شيء منصوب الصدر أعلاه مرتفع ، والنسافة : ما يسقط منه .
{ إِنَّمَا إلهكم الله الذي لا إله إِلاَّ هُوَ } لا هذا العجل الذي فتنتم به السامريّ { وَسِعَ كُلَّ شَيْء عِلْماً } قرأ الجمهور : { وسع } بكسر السين مخففة . وهو متعدّ إلى مفعول واحد ، وهو { كل شيء } . وانتصاب { علماً } على التمييز المحوّل عن الفاعل ، أي وسع علمه كل شيء . وقرأ مجاهد وقتادة : « وسع » بتشديد السين وفتحها فيتعدى إلى مفعولين ، ويكون انتصاب { علماً } على أنه المفعول الأوّل وإن كان متأخراً؛ لأنه في الأصل فاعل ، والتقدير : وسع علمه كل شيء ، وقد مرّ نحو هذا في الأعراف .
{ كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ } الكاف في محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف ، أي كما قصصنا عليك خبر موسى كذلك نقصّ عليك { مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ } أي من أخبار الحوادث الماضية في الأمم الخالية لتكون تسلية لك ودلالة على صدقك ، و « من » للتبعيض ، أي بعض أخبار ذلك { وَقَدْ آتيناك مِن لَّدُنَّا ذِكْراً } المراد بالذكر : القرآن ، وسمي ذكراً؛ لما فيه من الموجبات للتذكر والاعتبار . وقيل : المراد بالذكر : الشرف كقوله : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] .
ثم توعد سبحانه المعرضين على هذا الذكر فقال : { مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً } أي أعرض عنه فلم يؤمن به ولا عمل بما فيه وقيل : أعرض عن الله سبحانه ، فإن المعرض عنه يحمل يوم القيامة وزراً ، أي إثماً عظيماً وعقوبة ثقيلة بسبب إعراضه { خالدين فِيهِ } في الوزر ، والمعنى : أنهم يقيمون في جزائه . وانتصاب : { خالدين } على الحال { وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً } أي بئس الحمل يوم القيامة ، والمخصوص بالذمّ محذوف ، أي ساء لهم حملاً وزرهم ، واللام للبيان ، كما في : { هيت لك } [ يوسف : 23 ] .
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : { ياهارون مَا مَنَعَكَ } إلى قوله : { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } قال : أمره موسى أن يصلح ولا يتبع سبيل المفسدين ، فكان من إصلاحه أن ينكر العجل . وأخرج عنه أيضاً في قوله : { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى } قال : لم تنتظر قولي ما أنا صانع ، وقال ابن عباس : { لم ترقب } : لم تحفظ قولي . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أن تقول مساس } قال : عقوبة له { وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ } قال : لن تغيب عنه . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وانظر إلى إلهك الذى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً } قال : أقمت { لَّنُحَرّقَنَّهُ } قال : بالنار { ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم } قال : لنذرينه في البحر . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان يقرأ : « لَّنُحَرّقَنَّهُ » خفيفة ، ويقول : إن الذهب والفضة لا تحرق بالنار ، بل تسحل بالمبرد ثم تلقى على النار فتصير رماداً . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : { اليم } : البحر . وأخرج أيضاً عن عليّ قال : { اليم } النهر . وأخرج أيضاً عن قتادة في قوله : { وَسِعَ كُلَّ شَىْء عِلْماً } قال : ملأ . وأخرج أيضاً عن ابن زيد في قوله : { مِن لَّدُنَّا ذِكْراً } قال : القرآن . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد : { وِزْراً } قال : إثماً . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً } يقول : بئس ما حملوا .
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
الظرف وهو : { يَوْمَ يُنفَخُ } متعلق بمقدّر هو اذكر . وقيل : هو بدل من يوم القيامة ، والأوّل أولى . قرأ الجمهور : { ينفخ } بضم الياء التحتية مبنياً للمفعول ، وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق بالنون مبنياً للفاعل ، واستدلّ أبو عمرو على قراءته هذه بقوله : { ونحشر } فإنه بالنون ، وقرأ ابن هرمز : « ينفخ » بالتحتية مبنياً للفاعل على أن الفاعل هو الله سبحانه أو إسرافيل ، وقرأ أبو عياض : « في الصور » بفتح الواو جمع صورة ، وقرأ الباقون بسكون الواو . وقرأ طلحة بن مصرف والحسن : « يُحْشَرُ » بالياء التحتية مبنياً للمفعول ورفع { المجرمين } وهو خلاف رسم المصحف ، وقرأ الباقون بالنون . وقد سبق تفسير هذا في الأنعام . والمراد بالمجرمين : المشركون والعصاة المأخوذون بذنوبهم التي لم يغفرها الله لهم ، والمراد ب { يَوْمَئِذٍ } : يوم النفخ في الصور . وانتصاب { زرقاً } على الحال من المجرمين ، أي زرق العيون ، والزرقة الخضرة في العين كعين السنور والعرب تتشاءم بزرقة العين ، وقال الفراء : { زرقاً } أي عميا . وقال الأزهري : عطاشاً ، وهو قول الزجاج ، لأن سواد العين يتغير بالعطش إلى الزرقة . وقيل : إنه كني بقوله : { زرقاً } عن الطمع الكاذب إذا تعقبته الخيبة . وقيل : هو كناية عن شخوص البصر من شدّة الخوف ، ومنه قول الشاعر :
لقد زرقت عيناك يا بن معكبر ... كما كل ضبي من اللؤم أزرق
والقول الأوّل أولى ، والجمع بين هذه الآية وبين قوله : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا } [ الإسراء : 97 ] .
ما قيل من أن ليوم القيامة حالات ومواطن تختلف فيها صفاتهم ويتنوع عندها عذابهم ، وجملة { يتخافتون بَيْنَهُمْ } في محل نصب على الحال ، أو مستأنفة لبيان ما هم فيه في ذلك اليوم ، والخفت في اللغة السكون ، ثم قيل لمن خفض صوته : خفته . والمعنى يتساررون ، أي يقول بعضهم لبعض سرّاً : { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } أي ما لبثتم في الدنيا إلا عشر ليالِ . وقيل : في القبور . وقيل : بين النفختين ، والمعنى : أنهم يستقصرون مدة مقامهم في الدنيا ، أو في القبور ، أو بين النفختين لشدّة ما يرون من أهوال القيامة . وقيل : المراد بالعشر : عشر ساعات . ثم لما قالوا هذا القول قال الله سبحانه : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً } أي أعدلهم قولاً وأكملهم رأياً وأعلمهم عند نفسه : { إن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } أي ما لبثتم إلا يوماً واحداً ، ونسبة هذا القول إلى أمثلهم؛ لكونه أدلّ على شدّة الهول ، لا لكونه أقرب إلى الصدق .
{ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال } أي عن حال الجبال يوم القيامة ، وقد كانوا سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال : { فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّي نَسْفاً } قال ابن الأعرابي وغيره : يقلعها قلعاً من أصولها ، ثم يصيرها رملاً يسيل سيلاً ، ثم يصيرها كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا ، ثم كالهباء المنثور .
والفاء في قوله : { فَقُلْ } جواب شرط مقدّر ، والتقدير : إن سألوك فقل ، أو للمسارعة إلى إلزام السائلين . والضمير في قوله : { فَيَذَرُهَا } راجع إلى الجبال باعتبار مواضعها ، أي فيذر مواضعها بعد نسف ما كان عليها من الجبال { قَاعاً صَفْصَفاً } قال ابن الأعرابي : القاع الصفصف : الأرض الملساء بلا نبات ولا بناء ، وقال الفراء : القاع : مستنقع الماء ، والصفصف : القرعاء الملساء التي لا نبات فيها . وقال الجوهري : القاع : المستوي من الأرض ، والجمع أقوع وأقواع وقيعان . والظاهر من لغة العرب أن القاع : الموضع المنكشف ، والصفصف : المستويّ الأملس ، وأنشد سيبويه :
وكم دون بيتك من صفصف ... ودكداك رمل وأعقادها
وانتصاب : { قاعاً } على أنه مفعول ثانٍ ليذر على تضمينه معنى التصيير ، أو على الحال والصفصف صفة له . ومحل : { لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً } النصب على أنه صفة ثانية ل { قاعاً } ، والضمير راجع إلى الجبال بذلك الاعتبار . والعوج بكسر العين : التعوّج ، قاله ابن الأعرابي . والأمت : التلال الصغار . والأمت في اللغة : المكان المرتفع . وقيل : العوج : الميل ، والأمت : الأثر مثل الشراك . وقيل : العوج : الوادي ، والأمت : الرابية . وقيل : هما الارتفاع . وقيل : العوج : الصدوع ، والأمت : الأكمة . وقيل : الأمت : الشقوق في الأرض . وقيل : الأمت : أن يغلظ في مكان ويدق في مكان . ووصف مواضع الجبال بالعوج بكسر العين ها هنا يدفع ما يقال : إن العوج بكسر العين في المعاني وبفتحها في الأعيان ، وقد تكلف لذلك صاحب الكشاف في هذا الموضع بما عنه غني ، وفي غيره سعة .
{ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى لاَ عِوَجَ لَهُ } أي يوم نسف الجبال يتبع الناس داعي الله إلى المحشر . وقال الفراء : يعني صوت الحشر ، وقيل : الداعي هو إسرافيل إذا نفخ في الصور لا عوج له ، أي لا معدل لهم عن دعائه فلا يقدرون على أن يزيغوا عنه ، أو ينحرفوا منه بل يسرعون إليه كذا قال أكثر المفسرين . وقيل لا عوج لدعائه { وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن } أي خضعت لهيبته ، وقيل : ذلت . وقيل : سكتت ، ومنه قول الشاعر :
لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع
{ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } الهمس : الصوت الخفي . قال أكثر المفسرين : هو صوت نقل الأقدام إلى المحشر ، ومنه قول الشاعر :
وهنّ يمشين بنا هميسا ... يعني صوت أخفاف الإبل .
وقال رؤبة يصف نفسه :
ليث يدق الأسد الهموسا ... ولا يهاب الفيل والجاموسا
يقال للأسد : الهموس؛ لأنه يهمس في الظلمة ، أي يطأ وطئاً خفياً . والظاهر أن المراد هنا : كل صوت خفيّ سواء كان بالقدم ، أو من الفم ، أو غير ذلك ، ويؤيده قراءة أبيّ بن كعب : « فلا ينطقون إلا همساً » .
{ يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة } أي يوم يقع ما ذكر لا تنفع الشفاعة من شافع كائناً من كان { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } أي إلا شفاعة من أذن له الرحمن أن يشفع له { وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً } أي : رضي قوله في الشفاعة أو رضي لأجله قول الشافع . والمعنى : إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له ، وكان له قول يرضى ، ومثل هذه الآية قوله : { لا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] ، وقوله : { لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } [ مريم : 87 ] ، وقوله : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعة الشافعين } [ المدثر : 48 ] .
{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي ما بين أيديهم من أمر الساعة ، وما خلفهم من أمر الدنيا ، والمراد هنا : جميع الخلق . وقيل : المراد بهم : الذين يتبعون الداعي ، وقال ابن جرير : الضمير يرجع إلى الملائكة ، أعلم الله من يعبدها أنها لا تعلم ما بين أيديها وما خلفها { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } أي بالله سبحانه ، لا تحيط علومهم بذاته ، ولا بصفاته ، ولا بمعلوماته . وقيل : الضمير راجع إلى ما في الموضعين فإنهم لا يعلمون جميع ذلك { وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيّ القيوم } أي ذلت وخضعت ، قاله ابن الأعرابي . قال الزجاج : معنى عنت في اللغة : خضعت ، يقال : عنى يعنو عنواً إذا خضع ، ومنه قيل للأسير : عان ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
مليك على عرش السماء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوه وتسجد
وقيل : هو من العناء ، بمعنى التعب { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } أي خسر من حمل شيئاً من الظلم . وقيل : هو الشرك . { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات } أي الأعمال الصالحة { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } بالله؛ لأن العمل لا يقبل من غير إيمان ، بل هو شرط في القبول { فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً } يصاب به من نقص ثواب في الآخرة { وَلاَ هَضْماً } الهضم : النقص والكسر ، يقال : هضمت لك من حقي ، أي حططته وتركته . وهذا يهضم الطعام ، أي : ينقص ثقله . وامرأة هضيم الكشح ، أي ضامرة البطن . وقرأ ابن كثير ومجاهد : « لا يخف » بالجزم جواباً لقوله : { ومن يعمل من الصالحات } وقرأ الباقون : { يخاف } على الخبر .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن رجلاً أتاه ، فقال : رأيت قوله : { وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً } وأخرى عمياً قال : إن يوم القيامة فيه حالات يكونون في حال زرقاً ، وفي حال عمياً . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { يتخافتون بَيْنَهُمْ } قال : يتساررون . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : { أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً } قال : أوفاهم عقلاً ، وفي لفظ قال : أعلمهم في نفسه .
وأخرج ابن المنذر وابن جريج قال : قالت قريش : كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال } الآية .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً } قال : لا نبات فيه { لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً } قال : وادياً { وَلا أَمْتاً } قال : رابية . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة أنه سئل عن قوله : { قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً } قال : كان ابن عباس يقول : هي الأرض الملساء التي ليس فيها رابية مرتفعة ولا انخفاض . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { عِوَجَا } قال : ميلاً { وَلا أَمْتاً } قال : الأمت : الأثر مثل الشراك .
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال : يحشر الناس يوم القيامة في ظلمة تطوي السماء وتتناثر النجوم ، وتذهب الشمس والقمر ، وينادي منادٍ فيتبع الناس الصوت يؤمونه . فذلك قول الله : { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي لاَ عِوَجَ لَهُ } . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح في الآية : قال لا عوج عنه . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَخَشَعَتِ الأصوات } قال : سكتت { فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } قال : الصوت الخفيّ . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { إِلاَّ هَمْساً } قال : صوت وطء الأقدام . وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن مثله . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد قال : الصوت الخفيّ . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : سر الحديث وصوت الأقدام .
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { وَعَنَتِ الوجوه } قال : ذلت . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة مثله . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : خشعت . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : خضعت . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : { وَعَنَتِ الوجوه } : الركوع والسجود . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج : { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } قال : شركاً . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة : { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } قال : شركاً { فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } قال : ظلماً أن يزاد في سيئاته { وَلاَ هَضْماً } قال : ينقص من حسناته . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : لا يخاف أن يظلم في سيئاته ، ولا يهضم في حسناته . وأخرج الفريابي وعبد ابن حميد وابن أبي حاتم عنه { وَلاَ هَضْماً } قال : غصباً .
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
قوله : { وكذلك أنزلناه } معطوف على قوله : { كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ } أي مثل ذلك الإنزال أنزلناه ، أي القرآن حال كونه { قُرْءَاناً عَرَبِيّاً } أي بلغة العرب ليفهموه { وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد } بينا فيه ضروباً من الوعيد تخويفاً وتهديداً أو كررنا فيه بعضاً منه { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي كي يخافوا الله فيتجنبوا معاصيه ويحذروا عقابه { أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } أي اعتباراً واتعاظاً . وقيل : ورعاً . وقيل : شرفاً . وقيل : طاعة وعبادة؛ لأن الذكر يطلق عليها . وقرأ الحسن : « أو نحدث » بالنون .
{ فتعالى الله الملك الحق } لما بين للعباد عظيم نعمته عليهم بإنزال القرآن نزّه نفسه عن مماثلة مخلوقاته في شيء من الأشياء ، أي جلّ الله عن إلحاد الملحدين وعما يقول المشركون في صفاته فإنه الملك الذي بيده الثواب والعقاب ، وأنه الحق أي ذو الحق { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } أي يتمّ إليك وحيه . قال المفسرون : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصاً منه على ما كان ينزل عليه منه فنهاه الله عن ذلك ، ومثله قوله : { لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } [ القيامة : 16 ] . على ما يأتي إن شاء الله . وقيل : المعنى : ولا تلقه إلى الناس قبل أن يأتيك بيان تأويله ، وقرأ ابن مسعود ويعقوب والحسن والأعمش : « من قبل أن نقضي » بالنون ونصب : « وحيه » . { وَقُل رَّبّ زِدْنِي عِلْماً } أي سل ربك زيادة العلم بكتابه .
{ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى ءَادَمَ } اللام هي الموطئة للقسم ، والجملة مستأنفة مقرّرة لما قبلها من تصريف الوعيد ، أي لقد أمرناه ووصيناه ، والمعهود محذوف ، وهو ما سيأتي من نهيه عن الأكل من الشجرة ، ومعنى { مِن قَبْلُ } أي من قبل هذا الزمان { فَنَسِيَ } قرأ الأعمش بإسكان الياء ، والمراد بالنسيان هنا : ترك العمل بما وقع به العهد إليه فيه ، وبه قال أكثر المفسرين . وقيل : النسيان على حقيقته ، وأنه نسي ما عهد الله به إليه وينتهي عنه ، وكان آدم مأخوذاً بالنسيان في ذلك الوقت ، وإن كان النسيان مرفوعاً عن هذه الأمة . والمراد من الآية تسلية النبيّ صلى الله عليه وسلم على القول الأوّل ، أي أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم ، وأن هؤلاء المعاصرين له إن نقضوا العهد فقد نقض أبوهم آدم ، كذا قال ابن جرير والقشيري . واعترضه ابن عطية قائلاً بأن كون آدم مماثلاً للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء ، وقرىء : « فنسي » بضم النون وتشديد السين مكسورة مبنياً للمفعول ، أي فنساه إبليس { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } العزم في اللغة : توطين النفس على الفعل والتصميم عليه ، والمضيّ على المعتقد في أيّ شيء كان ، وقد كان آدم عليه السلام قد وطن نفسه على أن لا يأكل من الشجرة وصمم على ذلك ، فلما وسوس إليه إبليس لانت عريكته وفتر عزمه وأدركه ضعف البشر .
وقيل : العزم : الصبر ، أي لم نجد له صبراً عن أكل الشجرة . قال النحاس : وهو كذلك في اللغة ، يقال : لفلان عزم ، أي صبر وثبات على التحفظ عن المعاصي حتى يسلم منها ، ومنه { كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل } [ الأحقاف : 35 ] . وقيل : المعنى : ولم نجد له عزماً على الذنب ، وبه قال ابن كيسان . وقيل : ولم نجد له رأياً معزوماً عليه ، وبه قال ابن قتيبة .
ثم شرع سبحانه في كيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه ، والعامل في إذ مقدّر ، أي : واذكر { إِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ } وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود ذكر ما فيه من الحوادث للمبالغة؛ لأنه إذا وقع الأمر بذكر الوقت كان ذكر ما فيه من الحوادث لازماً بطريق الأولى وقد تقدم تفسير هذه القصة في البقرة مستوفى ، ومعنى { فتشقى } : فتتعب في تحصيل ما لا بدّ منه في المعاش كالحرث والزرع ، ولم يقل : « فتشقيا »؛ لأن الكلام من أوّل القصة مع آدم وحده .
ثم علل ما يوجبه ذلك النهي بما فيه الراحة الكاملة عن التعب والاهتمام ، فقال : { إِنَّ لَكَ أَن لا تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى } أي في الجنة . والمعنى : إن لك فيها تمتعاً بأنواع المعايش وتنعماً بأصناف النعم من المآكل الشهية والملابس البهية ، فإنه لما نفى عنه الجوع والعري أفاد ثبوت الشبع والاكتساء له ، وهكذا قوله : { وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تضحى } فإن نفي الظمأ يستلزم حصول الريّ ووجود المسكن الذي يدفع عنه مشقة الضحو ، يقال : ضحي الرجل يضحى ضحواً : إذا برز للشمس فأصابه حرّها ، فذكر سبحانه ها هنا أنه قد كفاه الاشتغال بأمر المعاش وتعب الكدّ في تحصيله ، ولا ريب أن أصول المتاعب في الدنيا هي تحصيل الشبع والريّ والكسوة والكنّ ، وما عدا هذه ففضلات يمكن البقاء بدونها ، وهو إعلام من الله سبحانه لآدم أنه إن أطاعه فله في الجنة هذا كله ، وإن ضيع وصيته ولم يحفظ عهده أخرجه من الجنة إلى الدنيا فيحلّ به التعب والنصب بما يدفع الجوع والعري والظمأ والضحو . فالمراد بالشقاء شقاء الدنيا ، كما قاله كثير من المفسرين ، لا شقاء الأخرى . قال الفراء : هو أن يأكل من كدّ يديه ، وقرأ أبو عمرو والكوفيون إلا عاصماً : « وأنك لتظمأ » بفتح أن ، وقرأ الباقون بكسرها على العطف على إن لك .
{ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان } قد تقدّم تفسيره في الأعراف في قوله : { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان } [ الأعراف : 20 ] أي أنهى إليه وسوسته ، وجملة { قَالَ يَاءادَمُ } إلى آخره إما بدل من وسوس أو مستأنفة بتقدير سؤال ، كأنه قيل : فماذا قال له في وسوسته؟ و { شَجَرَةِ الخلد } هي الشجرة التي من أكل منها لم يمت أصلاً { وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } أي لا يزول ولا ينقضي { فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سوآتهما } قد تقدّم تفسير هذا وما بعده في الأعراف .
قال الفراء : ومعنى طفقا في العربية : أقبلا ، وقيل : جعلا يلصقان عليهما من ورق التين { وعصى ءادَمُ رَبَّهُ فغوى } أي عصاه بالأكل من الشجرة فغوى فضلّ عن الصواب أو عن مطلوبه ، وهو الخلود بأكل تلك الشجرة . وقيل : فسد عليه عيشه بنزوله إلى الدنيا . وقيل : جهل موضع رشده . وقيل : بشم من كثرة الأكل . قال ابن قتيبة : أكل آدم من الشجرة التي نهي عنها باستزلال إبليس وخدائعه إياه ، والقسم له بالله إنه له لمن الناصحين حتى دلاه بغرور ، ولم يكن ذنبه عن اعتقاد متقدّم ونية صحيحة ، فنحن نقول : عصى آدم ربه فغوى . انتهى . قال القاضي أبو بكر بن العربي : لا يجوز لأحد أن يخبر اليوم بذلك عن آدم . قلت : لا مانع من هذا بعد أن أخبرنا الله في كتابه بأنه عصاه ، وكما يقال : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، ومما قلته في هذا المعنى :
عصى أبو العالم وهو الذي ... من طينة صوّره الله
وأسجد الأملاك من أجله ... وصير الجنة مأواه
أغواه إبليس فمن ذا أنا المس ... كين إن إبليس أغواه
{ ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ } أي : اصطفاه وقرّبه . قال ابن فورك : كانت المعصية من آدم قبل النبوّة بدليل ما في هذه الآية ، فإنه ذكر الاجتباء والهداية بعد ذكر المعصية ، وإذا كانت المعصية قبل النبوّة فجائز عليهم الذنوب وجهاً واحداً { فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى } أي تاب عليه من معصيته ، وهداه إلى الثبات على التوبة . قيل : وكانت توبة الله عليه قبل أن يتوب هو وحواء بقولهما : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } [ الأعراف : 23 ] . وقد مرّ وجه تخصيص آدم بالذكر دون حواء .
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ } أي القرآن { ذِكْراً } قال : حذراً وورعاً . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان } يقول : لا تعجل حتى نبينه لك . وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن قال : لطم رجل امرأته ، فجاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم تطلب قصاصاً ، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص ، فأنزل الله { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان } الآية ، فوقف النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى نزلت : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء } [ النساء : 34 ] الآية . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وَلاَ تَعْجَلْ } الآية قال : لا تتله على أحد حتى نتمه لك .
وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وابن منده في التوحيد ، والطبراني في الصغير وصححه عن ابن عباس قال : إنما سمي الإنسان؛ لأنه عهد إليه فنسي . وأخرج عبد الغني ، وابن سعد عن ابن عباس : { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى ءادَمَ } أن لا تقرب الشجرة { فَنَسِيَ } فترك عهدي { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } قال : حفظاً . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً { فَنَسِيَ } فترك { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } يقول : لم نجعل له عزماً .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { إِنَّكَ لاَ وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا ولا تضحى } قال : لا يصيبك فيها عطش ولا حرّ . وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ، وهي شجرة الخلد » وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « حاجّ آدم موسى قال له : أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم بمعصيتك ، قال آدم : يا موسى ، أنت الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه ، أتلومني على أمر كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني ، أو قدّره عليّ قبل أن يخلقني » ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فحج آدم موسى » .
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
قوله : { قَالَ اهبطا } قد مرّ تفسيره في البقرة ، أي انزلا من الجنة إلى الأرض ، خصهما الله سبحانه بالهبوط؛ لأنهما أصل البشر ، ثم عمم الخطاب لهما ولذرّيتهما فقال : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } والجملة في محل نصب على الحال ، ويجوز أن يقال : خاطبهما في هذا وما بعده خطاب الجمع؛ لأنهما منشأ الأولاد . ومعنى { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } : تعاديهم في أمر المعاش ونحوه ، فيحدث بسبب ذلك القتال والخصام { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى } بإرسال الرسل وإنزال الكتب { فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى } أي لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة .
{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى } أي عن ديني ، وتلاوة كتابي ، والعمل بما فيه ، ولم يتبع هداي { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } أي فإن له في هذه الدنيا معيشة ضنكاً ، أي عيشاً ضيقاً . يقال : منزل ضنك وعيش ضنك ، مصدر يستوي فيه الواحد وما فوقه والمذكر والمؤنث ، قال عنترة :
إن المنية لو تمثل مثلت ... مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل
وقرىء { ضُنكى } بضم الضاد على فُعلى ، ومعنى الآية : أن الله عزّ وجلّ جعل لمن اتبع هداه وتمسك بدينه أن يعيش في الدنيا عيشاً هنياً غير مهموم ولا مغموم ولا متعب نفسه ، كما قال سبحانه : { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً } [ النحل : 97 ] . وجعل لمن لم يتبع هداه وأعرض عن دينه أن يعيش عيشاً ضيقاً وفي تعب ونصب ، ومع ما يصيبه في هذه الدنيا من المتاعب ، فهو في الأخرى أشدّ تعباً وأعظم ضيقاً وأكثر نصباً ، وذلك معنى : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى } أي مسلوب البصر . وقيل : المراد : العمى عن الحجة . وقيل : أعمى عن جهات الخير لا يهتدي إلى شيء منها . وقد قيل : إن المراد بالمعيشة الضنك : عذاب القبر ، وسيأتي ما يرجح هذا ويقوّيه .
{ قَالَ رَبّى لِمَ حَشَرْتَنِي أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } في الدنيا { قَالَ كذلك } أي مثل ذلك فعلت أنت ، ثم فسره بقوله : { أَتَتْكَ آياتنا فَنَسِيتَهَا } أي أعرضت عنها وتركتها ولم تنظر فيها { وكذلك اليوم تنسى } أي مثل ذلك النسيان الذي كنت فعلته في الدنيا تنسى ، أي : تترك في العمى والعذاب في النار . قال الفراء : يقال : إنه يخرج بصيراً من قبره فيعمى في حشره .
{ وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ } أي مثل ذلك الجزاء نجزيه . والإسراف : الانهماك في الشهوات . وقيل : الشرك . { وَلَمْ يُؤْمِن بئايات رَبّهِ } بل كذب بها { وَلَعَذَابُ الاخرة أَشَدُّ } أي أفظع من المعيشة الضنك { وأبقى } أي أدوم وأثبت لأنه لا ينقطع .
وقد أخرج ابن أبي شيبة والطبراني وأبو نعيم في الحلية ، وابن مردويه عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة في الدنيا ، ووقاه سوء الحساب يوم القيامة ، وذلك أن الله يقول : { فَمَنِ اتبع هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى } » وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس قال : أجار الله تابع القرآن من أن يضلّ في الدنيا أو يشقى في الآخرة ، ثم قرأ : { فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى } قال : لا يضلّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة .
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور ، ومسدد في مسنده ، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً في قوله : { مَعِيشَةً ضَنكاً } قال : عذاب القبر . ولفظ عبد الرزاق قال : يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه . ولفظ ابن أبي حاتم قال : ضمة القبر . وفي إسناده ابن لهيعة ، وفيه مقال معروف . وقد روي موقوفاً . قال ابن كثير : الموقوف أصح . وأخرج البزار وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : « { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } قال : » المعيشة الضنكى أن يسلط عليه تسعة وتسعون حية ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة « وأخرج ابن أبي الدنيا والحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه بأطول منه . قال ابن كثير : رفعه منكر جداً . وأخرج ابن أبي شيبة والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : » { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } قال : عذاب القبر « قال ابن كثير بعد إخراجه : إسناد جيد . وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني والبيهقي عن ابن مسعود في قوله : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } قال : عذاب القبر ، ومجموع ما ذكرنا هنا يرجح تفسير المعيشة الضنك بعذاب القبر . وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني ، والبيهقي في كتاب عذاب القبر عن ابن مسعود؛ أنه فسر المعيشة الضنكى بالشقاء .
وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى } قال : عمي عليه كل شيء إلا جهنم ، وفي لفظ : لا يبصر إلا النار . وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان في قوله : { وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ } قال : من أشرك بالله .
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
قوله : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والفاء للعطف على مقدّر ، كما مرّ غير مرّة ، والجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها وفاعل يهد هو الجملة المذكورة بعدها ، والمفعول محذوف ، وأنكر البصريون مثل هذا لأن الجمل لا تقع فاعلاً ، وجوّزه غيرهم . قال القفال : جعل كثرة ما أهلك من القرون مبيناً لهم . قال النحاس : وهذا خطأ؛ لأن « كم » استفهام ، فلا يعمل فيها ما قبلها . وقال الزجاج : المعنى : أو لم يهد لهم الأمر بإهلاكنا من أهلكناه ، وحقيقته تدل على الهدى ، فالفاعل هو الهدى ، وقال : « كَمْ » في موضع نصب ب { أهلكنا } . وقيل : إن فاعل { يهد } ضمير للّه أو للرسول ، والجملة بعده تفسره ، ومعنى الآية على ما هو الظاهر : أفلم يتبين لأهل مكة خبر من { أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون } حال كون القرون { يَمْشُونَ فِي مساكنهم } ويتقلبون في ديارهم ، أو حال كون هؤلاء يمشون من مساكن القرون الذين أهلكناهم عند خروجهم للتجارة وطلب المعيشة ، فيرون بلاد الأمم الماضية ، والقرون الخالية خاوية خاربة من أصحاب الحجر وثمود وقرى قوم لوط ، فإن ذلك مما يوجب اعتبارهم ، لئلا يحل بهم مثل ما حل بأولئك ، وقرأ ابن عباس والسلمي : « نهد » بالنون ، والمعنى على هذه القراءة واضح ، وجملة : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لأوْلِي النهى } تعليل للإنكار وتقرير للهداية ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى مضمون { كم أهلكنا } إلى آخره . والنهى : جمع نهية ، وهي العقل ، أي لذوي العقول التي تنهى أربابها عن القبيح .
{ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } أي ولولا الكلمة السابقة ، وهي وعد الله سبحانه بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الدار الآخرة { لَكَانَ } عقاب ذنوبهم { إلزاماً } أي لازماً لهم ، لا ينفك عنهم بحال ولا يتأخر . وقوله : { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } معطوف على { كلمة } قاله الزجاج وغيره؛ والأجل المسمى هو : يوم القيامة ، أو يوم بدر ، واللزام مصدر لازم . قيل : ويجوز عطف { وأجل مسمى } على الضمير المستتر في كان العائد إلى الأخذ العاجل المفهوم من السياق؛ تنزيلاً للفصل بالخبر منزلة التأكيد ، أي لكان الأخذ العاجل { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود ، وفيه تعسف ظاهر .
ثم لما بين الله سبحانه أنه لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أمره بالصبر ، فقال : { فاصبر على مَا يَقُولُونَ } من أنك ساحر كذاب ، ونحو ذلك أن مطاعنهم الباطلة ، والمعنى : لا تحتفل بهم ، فإن لعذابهم وقتاً مضروباً لا يتقدّم ولا يتأخر . وقيل : هذا منسوخ بآية القتال { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ } أي متلبساً بحمده . قال أكثر المفسرين : والمراد : الصلوات الخمس كما يفيد قوله : { قَبْلَ طُلُوعِ الشمس } فإنه إشارة إلى صلاة الفجر { وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } فإنه إشارة إلى صلاة العصر { وَمِنْ ءَانَاء اليل } العتمة ، والمراد بالآناء : الساعات ، وهي جمع إني بالكسر والقصر ، وهو الساعة ، ومعنى { فَسَبّحْ } أي فصلّ { وَأَطْرَافَ النهار } أي المغرب والظهر لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول ، وأوّل طرف النهار الآخر .
وقيل : إن الإشارة إلى صلاة الظهر هي بقوله : { وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } لأنها هي وصلاة العصر قبل غروب الشمس . وقيل : المراد بالآية صلاة التطوّع . ولو قيل ليس في الآية إشارة إلى الصلاة بل المراد التسبيح في هذه الأوقات أي : قول القائل سبحان الله ، لم يكن ذلك بعيداً من الصواب . والتسبيح وإن كان يطلق على الصلاة ولكنه مجاز ، والحقيقة أولى إلا لقرينة تصرف ذلك إلى المعنى المجازي ، وجملة : { لَعَلَّكَ ترضى } متعلقة بقوله : { فسبح } أي سبح في هذه الأوقات رجاء أن تنال عند الله سبحانه ما ترضى به نفسك ، هذا على قراءة الجمهور . وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم : « ترضى » بضم التاء مبنياً للمفعول ، أي يرتضيك ربك .
{ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أزواجا مّنْهُمْ } قد تقدّم تفسير هذه الآية في الحجر . والمعنى : لا تطل نظر عينيك ، و { أزواجاً } مفعول { متعنا } . و { زهرة } منصوبة على الحال ، أو بفعل محذوف ، أي جعلنا أو أعطينا ، ذكر معنى هذا الزجاج . وقيل : هي بدل من الهاء في : { به } باعتبار محله ، وهو النصب لا باعتبار لفظه ، فإنه مجرور كما تقول : مررت به أخاك . ورجح الفراء النصب على الحال ، يجوز أن تكون بدلاً ، ويجوز أن تكون منتصبة على المصدر مثل صبغة الله ووعد الله و { زَهْرَةَ الحياة الدنيا } : زينتها وبهجتها بالنبات وغيره . وقرأ عيسى بن عمر : « زهرة » بفتح الهاء ، وهي نور النبات ، واللام في : { لِنَفْتِنَهُمْ فيه } متعلق ب { متعنا } أي لنجعل ذلك فتنة لهم وضلالة ، ابتلاءً منا لهم ، كقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الارض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ } [ الكهف : 7 ] وقيل : لنعذبنهم . وقيل : لنشدد عليهم في التكليف { وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وأبقى } أي ثواب الله ، وما ادّخر لصالح عباده في الآخرة خير مما رزقهم في الدنيا على كل حال ، وأيضاً فإن ذلك لا ينقطع ، وهذا ينقطع ، وهو معنى { وأبقى } . وقيل : المراد بهذا الرزق : ما يفتح الله على المؤمنين من الغنائم ونحوها ، والأوّل أولى؛ لأن الخيرية المحققة والدوام الذي لا ينقطع إنما يتحققان في الرزق الأخروي لا الدنيوي ، وإن كان حلالاً طيباً : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ } [ النحل : 96 ] . { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة } أمره الله سبحانه بأن يأمر أهله بالصلاة . والمراد بهم : أهل بيته . وقيل : جميع أمته ، ولم يذكر ها هنا الأمر من الله له بالصلاة ، بل قصر الأمر على أهله ، إما لكون إقامته لها أمراً معلوماً ، أو لكون أمره بها قد تقدّم في قوله : { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ } إلى آخر الآية ، أو لكون أمره بالأمر لأهله أمراً له ، ولهذا قال : { واصطبر عَلَيْهَا } أي اصبر على الصلاة ، ولا تشتغل عنها بشيء من أمور الدنيا { لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً } أي لا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك ، وتشتغل بذلك عن الصلاة { نَّحْنُ نَرْزُقُكَ } ونرزقهم ولا نكلفك ذلك { والعاقبة للتقوى } أي العاقبة المحمودة ، وهي الجنة لأهل التقوى على حذف المضاف كما قال الأخفش .
وفيه دليل على أن التقوى هي ملاك الأمر وعليها تدور دوائر الخير .
{ وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَةٍ مّن رَّبّهِ } أي قال كفار مكة : هلا يأتينا محمد بآية من آيات ربه كما كان يأتي بها من قبله من الأنبياء؟ وذلك كالناقة والعصا ، أو هلا يأتينا بآية من الآيات التي قد اقترحناها عليه؟ فأجاب الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله : { أَوَ لَمْ يَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا فِي الصحف الاولى } يريد بالصحف الأولى : التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب المنزلة ، وفيها التصريح بنبوّته والتبشير به ، وذلك يكفي ، فإن هذه الكتب المنزلة هم معترفون بصدقها وصحتها ، وفيها ما يدفع إنكارهم لنبوّته ، ويبطل تعنتاتهم وتعسفاتهم . وقيل : المعنى : أو لم يأتهم إهلاكنا للأمم الذين كفروا واقترحوا الآيات ، فما يؤمنهم إن أتتهم الآيات التي اقترحوها أن يكون حالهم كحالهم . وقيل : المراد : أو لم تأتهم آية هي أمّ الآيات وأعظمها في باب الإعجاز يعني القرآن ، فإنه برهان : لما في سائر الكتب المنزلة . وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو ويعقوب وابن أبي إسحاق وحفص : { أو لم تأتهم } بالتاء الفوقية ، وقرأ الباقون بالتحتية؛ لأن معنى البينة : البيان والبرهان ، فذكروا الفعل اعتباراً بمعنى البينة ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم . قال الكسائي : ويجوز : « بينة » بالتنوين . قال النحاس : إذا نوّنت بينة ورفعت جعلت « ما » بدلاً منها ، وإذا نصبت فعلى الحال . والمعنى : أو لم يأتهم ما في الصحف الأولى مبيناً ، وهذا على ما يقتضيه الجواز النحوي وإن لم تقع القراءة به .
{ وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ } أي من قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم أو من قبل إتيان البينة لنزول القرآن { لَقَالُواْ } يوم القيامة { رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } أي هلا أرسلت إلينا رسولاً في الدنيا { فَنَتَّبِعَ ءاياتك } التي يأتي بها الرسول { مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ } بالعذاب في الدنيا { ونخزى } بدخول النار ، وقرىء : « نذلّ ونخزى » على البناء للمفعول . وقد قطع الله معذرة هؤلاء الكفرة بإرسال الرسول إليهم قبل إهلاكهم؛ ولهذا حكى الله عنهم أنهم : { قَالُواْ بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَىْء } [ الملك : 9 ] .
{ قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبّصٌ فَتَرَبَّصُواْ } أي قل لهم يا محمد كل واحد منا ومنكم متربص ، أي منتظر لما يؤول إليه الأمر فتربصوا أنتم { فَسَتَعْلَمُونَ } عن قريب { مَنْ أصحاب الصراط السوي } أي فستعلمون بالنصر والعاقبة من هو من أصحاب الصراط المستقيم { وَمَنِ اهتدى } من الضلالة ونزع عن الغواية ، و « من » في الموضعين في محل رفع بالابتداء .
قال النحاس : والفراء يذهب إلى أن معنى { مَنْ أصحاب الصراط السوي } : من لم يضلّ ، وإلى أن معنى { مَّنِ اهتدى } : من ضلّ ثم اهتدى وقيل : " من " في الموضعين في محل نصب ، وكذا قال الفراء . وحكي عن الزجاج أنه قال : هذا خطأ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله . وقرأ أبو رافع : " فسوف تعلمون " وقرأ يحيى بن يعمر وعاصم الجحدري : " السوى " على فعلى ، وردت هذه القراءة بأن تأنيث الصراط شاذ وقيل : هي بمعنى الوسط والعدل .
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } : ألم نبين لهم . { كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مساكنهم } نحو عاد وثمود ومن أهلك من الأمم . وفي قوله : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } يقول : هذا من مقاديم الكلام ، يقول : لولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاماً . وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ نحوه . وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال : الأجل المسمى : الكلمة التي سبقت من ربك . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { لَكَانَ لِزَاماً } قال : موتاً .
وأخرج الفريابي وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ } الآية قال : هي الصلاة المكتوبة . وأخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن جرير عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس } قال : " قبل طلوع الشمس صلاة الصبح ، { وقبل غروبها } صلاة العصر " وفي الصحيحين وغيرهما من حديث جرير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم ألا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا " ، وقرأ { فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ * قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } . وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي عن عمارة بن رؤبة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " وأخرج ابن أبي شيبة وابن راهويه والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والخرائطي وأبو نعيم عن أبي رافع قال : «أضاف النبيّ صلى الله عليه وسلم ضيفاً . ولم يكن عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يصلحه ، فأرسلني إلى رجل من اليهود : أن بعنا أو أسلفنا دقيقاً إلى هلال رجب ، فقال : لا إلا برهن ، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال :
" أما والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض ، ولئن أسلفني أو باعني لأدّيت إليه ، اذهب بدرعي الحديد " ، فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } . كأنه يعزيه عن الدنيا . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا " ، قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟ قال : " بركات الأرض " وأخرج ابن مردويه وابن عساكر وابن النجار عن أبي سعيد الخدريّ قال : لما نزلت : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة } كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يجيء إلى باب عليّ صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول : " الصلاة رحمكم الله { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً } " [ الأحزاب : 33 ] . وأخرج ابن مردويه عن أبي الحمراء نحوه . وأخرج أحمد في الزهد ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عن ثابت ، قال : «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله : " يا أهلاه صلوا صلوا " ، قال ثابت : وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة . وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن المنذر ، والطبراني في الأوسط ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الشعب بإسناد . قال السيوطي : صحيح ، عن عبد الله بن سلام قال : " كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا نزلت بأهله شدّة أو ضيق أمرهم بالصلاة ، وقرأ { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة } الآية . "
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
يقال : قرب الشيء واقترب وقد اقترب الحساب ، أي قرب الوقت الذي يحاسبون فيه . قال الزجاج : المعنى : { اقترب لِلنَّاسِ } وقت { حِسَابَهُمْ } أي القيامة كما في قوله : { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] . واللام في { للناس } متعلقة بالفعل ، وتقديمها هي ومجرورها على الفاعل لإدخال الروعة ، ومعنى اقتراب وقت الحساب : دنّوه منهم ، لأنه في كل ساعة أقرب إليهم من الساعة التي قبلها . وقيل : لأن كل ما هو آتٍ قريب ، وموت كل إنسان قيام ساعته . والقيامة أيضاً قريبة بالإضافة إلى ما مضى من الزمان ، فما بقي من الدنيا أقل مما مضى ، والمراد بالناس : العموم . وقيل : المشركون مطلقاً . وقيل : كفار مكة ، وعلى هذا الوجه قيل : المراد بالحساب : عذابهم يوم بدر ، وجملة : { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } في محل نصب على الحال ، أي هم في غفلة بالدنيا معرضون عن الآخرة ، غير متأهبين بما يجب عليهم من الإيمان بالله . والقيام بفرائضه ، والانزجار عن مناهيه .
{ مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ } : « من » لابتداء الغاية . وقد استدلّ بوصف الذكر لكونه محدثاً على أن القرآن محدث ، لأن الذكر هنا هو : القرآن . وأجيب بأنه : لا نزاع في حدوث المركب من الأصوات والحروف ، لأنه متجدد في النزول . فالمعنى محدث تنزيله ، وإنما النزاع في الكلام النفسي .
وهذه المسألة أعني قدم القرآن وحدوثه ، قد ابتلي بها كثير من أهل العلم والفضل في الدولة المأمونية والمعتصمية والواثقية ، وجرى للإمام أحمد بن حنبل ما جرى من الضرب الشديد والحبس الطويل وضرب بسببها عنق محمد بن نصر الخزاعي ، وصارت فتنة عظيمة في ذلك الوقت وما بعده . والقصة أشهر من أن تذكر ، ومن أحبّ الوقوف على حقيقتها طالع ترجمة الإمام أحمد بن حنبل في كتاب النبلاء لمؤرخ الإسلام الذهبي . ولقد أصاب أئمة السنّة بامتناعهم من الإجابة إلى القول بخلق القرآن وحدوثه وحفظ الله بهم أمة نبيه عن الابتداع ، ولكنهم رحمهم الله جاوزوا ذلك إلى الجزم بقدمه ولم يقتصروا على ذلك حتى كفروا من قال بالحدوث ، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من قال : لفظي بالقرآن مخلوق ، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من وقف ، وليتهم لم يجاوزوا حد الوقف وإرجاع العلم إلى علام الغيوب ، فإنه لم يسمع من السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى وقت قيام المحنة وظهور القول في هذه المسألة شيء من الكلام ، ولا نقل عنهم كلمة في ذلك ، فكان الامتناع من الإجابة إلى ما دعوا إليه ، والتمسك بأذيال الوقف ، وإرجاع علم ذلك إلى عالمه هو الطريقة المثلى ، وفيه السلامة والخلوص من تكفير طوائف من عباد الله ، والأمر لله سبحانه .
وقوله : { إِلاَّ استمعوه } استثناء مفرغ في محل نصب على الحال .
وجملة : { وَهُمْ يَلْعَبُونَ } في محل نصب على الحال أيضاً ، من فاعل استمعوه ، و { لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ } حال أيضاً والمعنى : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال إلا في الاستماع مع اللعب والاستهزاء ولهوة القلوب ، وقرىء : « لاهية » بالرفع كما قرىء : « محدث » بالرفع { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } النجوى : اسم من التناجي ، والتناجي لا يكون إلا سرّاً ، فمعنى إسرار النجوى : المبالغة في الإخفاء . وقد اختلف في محل الموصول على أقوال ، فقيل : إنه في محل رفع بدل من الواو في { أسرّوا } ، قاله المبرد وغيره . وقيل : هو في محل رفع على الذمّ . وقيل : هو فاعل لفعل محذوف ، والتقدير : يقول الذين ظلموا ، واختار هذا النحاس ، وقيل : في محل نصب بتقدير أعني . وقيل : في محل خفض على أنه بدل من الناس ذكر ذلك المبرد . وقيل : هو في محل رفع على أنه فاعل { أسرّوا } على لغة من يجوّز الجمع بين فاعلين ، كقولهم : أكلوني البراغيث ، ذكر ذلك الأخفش ، ومثله { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ } [ المائدة : 71 ] ومنه قول الشاعر :
فاهتدين البغال للأغراض ... وقول الآخر :
ولكن دنا بي أبوه وأمه ... بحوران يعصرن السليط أقاربه
وقال الكسائي : فيه تقديم وتأخير ، أي والذين ظلموا أسرّوا النجوى . قال أبو عبيدة : أسرّوا هنا من الأضداد ، يحتمل أن يكون بمعنى : أخفوا كلامهم ، ويحتمل أن يكون بمعنى : أظهروه وأعلنوه { هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } هذه الجملة بتقدير القول قبلها ، أي قالوا : هل هذا الرسول إلا بشر مثلكم لا يتميز عنكم بشيء؟ ويجوز أن تكون هذه الجملة بدلاً من النجوى ، وهل بمعنى النفي أي : وأسرّوا هذا الحديث ، والهمزة في { أَفَتَأْتُونَ السحر } للإنكار ، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره ، وجملة : { وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } في محل نصب على الحال ، والمعنى : إذا كان بشراً مثلكم ، وكان الذي جاء به سحراً ، فكيف تجيبونه إليه وتتبعونه .
فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما تناجوا به ، وأمره الله سبحانه أن يجيب عليهم فقال : { قُل رَّبّي يَعْلَمُ القول فِى السماء والأرض } أي لا يخفى عليه شيء مما يقال فيهما ، وفي مصاحف أهل الكوفة : { قال ربي } أي قال محمد : ربي يعلم القول ، فهو عالم بما تناجيتم به . قيل : القراءة الأولى أولى ، لأنهم أسرّوا هذا القول ، فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك وأمره أن يقول لهم هذا . قال النحاس : والقراءتان صحيحتان ، وهما بمنزلة آيتين { وَهُوَ السميع } لكل ما يسمع { العليم } بكل معلوم ، فيدخل في ذلك ما أسرّوا دخولاً أولياً .
{ بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ } قال الزجاج : أي قالوا : الذي تأتي به أضغاث أحلام . قال القتيبي : أضغاث الأحلام الرؤيا الكاذبة . وقال اليزيدي : الأضغاث ما لم يكن له تأويل ، وهذا إضراب من جهة الله سبحانه حكاية لما وقع منهم ، وانتقال من حكاية قولهم السابق إلى حكاية هذا القول .
ثم حكى سبحانه إضرابهم عن قولهم : أضغاث أحلام ، قال : { بَلِ افتراه } أي بل قالوا : افتراه من تلقاء نفسه من غير أن يكون له أصل . ثم حكى سبحانه عنهم أنهم أضربوا عن هذا وقالوا : { بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } وما أتى به من جنس الشعر ، وفي هذا الاضطراب منهم ، والتلوّن والتردّد أعظم دليل على أنهم جاهلون بحقيقة ما جاء به ، لا يدرون ما هو ولا يعرفون كنهه؟ أو كانوا قد علموا أنه حق ، وأنه من عند الله ، ولكن أرادوا أن يدفعوه بالصدر ويرموه بكل حجر ومدر ، وهذا شأن من غلبته الحجة وقهره البرهان . ثم بعد هذا كله ، قالوا : { فليأتنا بآية } وهذا جواب شرط محذوف أي : إن لم يكن كما قلنا : فليأتنا بآية { كَمَا أُرْسِلَ الأولون } أي كما أرسل موسى بالعصا وغيرها ، وصالح بالناقة ، ومحل الكاف الجرّ صفة لآية ، ويجوز أن يكون نعت مصدر محذوف ، وكان سؤالهم هذا سؤال تعنت ، لأن الله سبحانه قد أعطاهم من الآيات ما يكفي ، ولو علم الله سبحانه أنهم يؤمنون إذا أعطاهم ما يقترحوه لأعطاهم ذلك ، كما قال : { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] قال الزجاج : اقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهال ، فقال الله مجيباً لهم : { مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ } أي قبل مشركي مكة ، ومعنى { من قرية } : من أهل قرية ، ووصف القرية بقوله : { أهلكناها } أي أهلكنا أهلها ، أو أهلكناها بإهلاك أهلها . وفيه بيان أن سنّة الله في الأمم السالفة أن المقترحين إذا أعطوا ما اقترحوه ثم لم يؤمنوا نزل بهم عذاب الاستئصال لا محالة ، و « من » في { من قرية } مزيدة للتأكيد ، والمعنى : ما آمنت قرية من القرى التي أهلكناها بسبب اقتراحهم قبل هؤلاء ، فكيف نعطيهم ما يقترحون ، وهم أسوة من قبلهم ، والهمزة في { أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ } للتقريع والتوبيخ ، والمعنى : إن لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوا ، فكيف يؤمن هؤلاء لو أعطوا ما اقترحوا .
ثم أجاب سبحانه عن قولهم : هل هذا إلا بشر مثلكم بقوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمُ } أي لم نرسل قبلك إلى الأمم السابقة إلا رجالاً من البشر ، ولم نرسل إليهم ملائكة كما قال سبحانه : { قُل لَوْ كَانَ فِى الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] . وجملة { نوحي إليهم } مستأنفة لبيان كيفية الإرسال ، ويجوز أن تكون صفة ل { رجالاً } أي متصفين بصفة الإيحاء إليهم . قرأ حفص وحمزة والكسائي : { نوحي } بالنون ، وقرأ الباقون بالياء : « يوحي » . ثم أمرهم الله بأن يسألوا أهل الذكر إن كانوا يجهلون هذا فقال : { فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } وأهل الذكر : هم أهل الكتابين : اليهود والنصارى ، ومعنى { إن كنتم لا تعلمون } : إن كنتم لا تعلمون أن رسل الله من البشر ، كذا قال أكثر المفسرين .
وقد كان اليهود والنصارى لا يجهلون ذلك ولا ينكرونه ، وتقدير الكلام : إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أهل الذكر . وقد استدل بالآية على أن التقليد جائز وهو خطأ ، ولو سلم لكان المعنى سؤالهم عن النصوص من الكتاب والسنّة ، لا عن الرأي البحت ، وليس التقليد إلا قبول قول الغير دون حجته . وقد أوضحنا هذا في رسالة بسيطة : سميناها «القول المفيد في حكم التقليد» .
ثم لما فرغ سبحانه من الجواب عن شبهتهم أكد كون الرسل من جنس البشر فقال : { وَمَا جعلناهم جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام } أي أن الرسل أسوة لسائر أفراد بني آدم في حكم الطبيعة يأكلون كما يأكلون ويشربون كما يشربون ، والجسد جسم الإنسان . قال الزجاج : هو واحد ، يعني الجسد ينبىء عن جماعة ، أي وما جعلناهم ذوي أجساد لا يأكلون الطعام فجملة : { لا يأكلون الطعام } صفة ل { جسداً } أي وما جعلناهم جسداً مستغنياً عن الأكل ، بل هو محتاج إلى ذلك { وَمَا كَانُواْ خالدين } بل يموتون كما يموت غيرهم من البشر ، وقد كانوا يعتقدون أن الرسل لا يموتون ، فأجاب الله عليهم بهذا .
وجملة : { ثُمَّ صدقناهم الوعد } معطوفة على جملة يدلّ عليها السياق ، والتقدير : أوحينا إليهم ما أوحينا . { ثم صدقناهم الوعد } أي أنجزنا وعدهم الذي وعدناهم بإنجائهم وإهلاك من كذبهم ، ولهذا قال سبحانه : { فأنجيناهم وَمَن نَّشَاء } من عبادنا المؤمنين ، والمراد : إنجاؤهم من العذاب وإهلاك من كفر بالعذاب الدنيوي ، والمراد ب { المسرفين } : المجاوزون للحدّ في الكفر والمعاصي ، وهم المشركون .
وقد أخرج النسائي عن أبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } قال : " في الدنيا " وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال : " من أمر الدنيا " وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ } أي فعل الأحلام إنما هي رؤيا رآها { بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } كل هذا قد كان منه { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } كما جاء عيسى وموسى بالبينات والرسل { مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ أهلكناها } أي أن الرسل كانوا إذا جاؤوا قومهم بالبينات فلم يؤمنوا لم ينظروا . وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : قال أهل مكة للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إذا كان ما تقوله حقاً ويسرّك أن نؤمن فحوّل لنا الصفا ذهبا ، فأتاه جبريل فقال : إن شئت كان الذي سألك قومك ، ولكنه إن كان ، ثم لم يؤمنوا لم يُنْظروا ، وإن شئت استأنيت بقومك ، قال : " بل أستأني بقومي " ، فأنزل الله : { مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ } الآية . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَمَا جعلناهم جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام } يقول : لم نجعلهم جسداً ليس يأكلون الطعام ، إنما جعلناهم جسداً يأكلون الطعام .
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
نبه عباده على عظيم نعمته عليهم بقوله : { لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كتابا } يعني القرآن { فِيهِ ذِكْرُكُمْ } صفة ل { كتاباً } ، والمراد بالذكر هنا : الشرف ، أي فيه شرفكم كقوله : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] وقيل : { فيه ذكركم } أي ذكر أمر دينكم ، وأحكام شرعكم وما تصيرون إليه من ثواب أو عقاب . وقيل : فيه حديثكم ، قاله مجاهد . وقيل : مكارم أخلاقكم ومحاسن أعمالكم . وقيل : فيه العمل بما فيه حياتكم . قاله سهل بن عبد الله . وقيل : فيه موعظتكم ، والاستفهام في : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } للتوبيخ والتقريع ، أي : أفلا تعقلون أن الأمر كذلك ، أو لا تعقلون شيئاً من الأشياء التي من جملتها ما ذكر .
ثم أوعدهم وحذرهم ما جرى على الأمم المكذبة ، فقال : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظالمة } : « كم » في محل نصب على أنها مفعول { قصمنا } وهي الخبرية المفيدة للتكثير . والقصم : كسر الشيء ودقه ، يقال : قصمت ظهر فلان : إذا كسرته ، واقتصمت سنه : إذا انكسرت ، والمعنى هنا : الإهلاك والعذاب . وأما الفصم بالفاء فهو الصدع في الشيء من غير بينونة ، وجملة : { كَانَتْ ظالمة } في محل جرّ صفة لقرية ، وفي الكلام مضاف محذوف ، أي وكم قصمنا من أهل قرية كانوا ظالمين ، أي كافرين بالله مكذبين بآياته ، والظلم في الأصل : وضع الشيء في غير موضعه ، وهم وضعوا الكفر في موضع الإيمان { وأنشأنا بعدها قوماً آخرين } أي أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاك أهلها قوماً ليسوا منهم .
{ فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا } أي أدركوا أو رأوا عذابنا ، وقال الأخفش : خافوا وتوقعوا ، أو البأس : العذاب الشديد { إِذَا هُمْ مّنْهَا يَرْكُضُونَ } الركض : الفرار والهرب والانهزام ، وأصله : من ركض الرجل الدابة برجليه ، يقال : ركض الفرس : إذا كدّه بساقيه ، ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا ، ومنه : « اركض بِرِجْلِكَ » [ ص : 42 ] والمعنى : أنهم يهربون منها راكضين دوابهم . فقيل لهم : { لاَ تَرْكُضُواْ } أي لا تهربوا . قيل : إن الملائكة نادتهم بذلك عند فرارهم . وقيل : إن القائل لهم ذلك هم من هنالك من المؤمنين استهزاء بهم وسخرية منهم { وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ } أي إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم وكفركم ، والمترف المنعم ، يقال : أترف فلان ، أي وسع عليه في معاشه { ومساكنكم } أي وارجعوا إلى مساكنكم التي كنتم تسكنونها وتفتخرون بها { لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } أي : تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات ، وهذا على طريقة التهكم بهم والتوبيخ لهم . وقيل : المعنى : لعلكم تسألون عما نزل بكم من العقوبة فتخبرون به؛ وقيل : لعلكم تسألون أن تؤمنوا كما كنتم تسألون ذلك قبل نزول العذاب بكم . قال المفسرون وأهل الأخبار : إن المراد بهذه الآية : أهل حضور من اليمن ، وكان الله سبحانه قد بعث إليهم نبياً اسمه شعيب بن مهدم ، وقبره بجبل من جبال اليمن يقال له ضنن ، وبينه وبين حضور نحو بريد ، قالوا : وليس هو شعيباً صاحب مدين .
قلت : وآثار القبر بجبل ضين موجودة ، والعامة من أهل تلك الناحية يزعمون أنه قبر قدم بن قادم .
{ قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظالمين } أي قالوا لما قالت لهم الملائكة { لا تركضوا } يا ويلنا ، أي : ياهلاكنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا مستوجبين العذاب بما قدّمنا . فاعترفوا على أنفسهم بالظلم الموجب للعذاب . { فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ } أي ما زالت هذه الكلمة دعواهم أي : دعوتهم ، والكلمة هي قولهم : { يا ويلنا } أي يدعون بها ويردّدونها { حتى جعلناهم حَصِيداً } أي بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل ، والحصيد هنا بمعنى المحصود ، ومعنى { خامدين } أنهم ميتون من خمدت النار إذا طفئت ، فشبه خمود الحياة بخمود النار ، كما يقال لمن مات : قد طفىء .
{ وَمَا خَلَقْنَا السماء والارض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } أي لم نخلقهما عبثاً ولا باطلاً ، بل للتنبيه على أن لهما خالقاً قادراً يجب امتثال أمره . وفيه إشارة إجمالية إلى تكوين العالم ، والمراد بما بينهما سائر المخلوقات الكائنة بين السماء والأرض على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها { لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً } اللهو : ما يتلهى به . قيل : اللهو : الزوجة والولد . وقيل : الزوجة فقط . وقيل : الولد فقط . قال الجوهري : قد يكفي باللهو عن الجماع ، يدل على ما قاله قول امرىء القيس :
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي
ومنه قول الآخر :
وفيهنّ ملهى للصديق ومنظر ... والجملة مستأنفة لتقرير مضمون ما قبلها ، وجواب لقوله : { لاتخذناه مِن لَّدُنَّا } أي من عندنا ومن جهة قدرتنا لا من عندكم . قال المفسرون أي من الحور العين ، وفي هذا رد على من قال بإضافة الصاحبة والولد إلى الله ، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً . وقيل : أراد الردّ على من قال : الأصنام أو الملائكة بنات الله . وقال ابن قتيبة : الآية ردٌّ على النصارى . { إِن كُنَّا فاعلين } قال الواحدي : قال المفسرون : ما كنا فاعلين . قال الفراء والمبرد والزجاج : يجوز « أن » تكون إن للنفي كما ذكره المفسرون ، أي ما فعلنا ذلك ولم نتخذ صاحبة ولا ولداً؛ ويجوز أن تكون للشرط ، أي إن كنا ممن يفعل ذلك لاتخذناه من لدنا . قال الفراء : وهذا أشبه الوجهين بمذهب العربية .
{ بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل } هذا إضراب عن اتخاذ اللهو ، أي دع ذلك الذي قالوا فإنه كذب وباطل ، بل شأننا أن نرمي بالحق على الباطل { فَيَدْمَغُهُ } أي يقهره ، وأصل الدمغ : شج الرأس حتى يبلغ الدماغ ، ومنه الدامغة . قال الزجاج : المعنى : نذهبه ذهاب الصغار والإذلال ، وذلك أن أصله إصابة الدماغ بالضرب . قيل أراد بالحق : الحجة ، وبالباطل : شبههم .
وقيل : الحق المواعظ ، والباطل المعاصي . وقيل : الباطل : الشيطان . وقيل : كذبهم ووصفهم الله سبحانه بغير صفاته { فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } أي : زائل ذاهب ، وقيل : هالك تالف ، والمعنى متقارب ، و « إذا » هي الفجائية { وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ } أي العذاب في الآخرة بسبب وصفكم لله بما لا يجوز عليه ، وقيل : الويل : وادٍ في جهنم ، وهو وعيد لقريش بأن لهم من العذاب مثل الذي لأولئك؛ ومن : هي التعليلية .
{ وَلَهُ مَن فِي السموات والأرض } عبيداً وملكاً ، وهو خالقهم ورازقهم ومالكهم ، فكيف يجوز أن يكون له بعض مخلوقاته شريكاً يعبد كما يعبد ، وهذه الجملة مقررة لما قبلها { وَمَنْ عِندَهُ } يعني : الملائكة ، وفيه ردّ على القائلين بأن الملائكة بنات الله ، وفي التعبير عنهم بكونهم { عنده } إشارة إلى تشريفهم وكرامتهم ، وأنهم بمنزلة المقربين عند الملوك ، ثم وصفهم بقوله : { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } أي لا يتعاظمون ولا يأنفون عن عبادة الله سبحانه والتذلل له { وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } أي لا يعيون ، مأخوذ من الحسير ، وهو البعير المنقطع بالإعياء والتعب ، يقال : حسر البعير يحسر حسوراً : أعيا وكلّ ، واستحسر وتحسر : مثله وحسرته أنا حسراً ، يتعدى ولا يتعدى . قال أبو زيد : لا يكلون ، وقال ابن الأعرابي : لا يفشلون . قال الزجاج : معنى الآية أن هؤلاء الذين ذكرتم أنهم أولاد الله ، عباد الله لا يأنفون عن عبادته ولا يتعظمون عنها كقوله : { إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } [ الأعراف : 206 ] . وقيل : المعنى لا ينقطعون عن عبادته . وهذه المعاني متقاربة .
{ يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } أي ينزهون الله سبحانه دائماً لا يضعفون عن ذلك ولا يسأمون . وقيل : يصلون الليل والنهار . قال الزجاج : مجرى التسبيح منهم كمجرى النفس منا لا يشغلنا عن النفس شيء ، فكذلك تسبيحهم دائم ، وهذه الجملة إما مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، أو في محل نصب على الحال { أَمِ اتخذوا الِهَةً مّنَ الأرض } قال المفضل : مقصود هذا الاستفهام : الجحد ، أي لم يتخذوا آلهة تقدر على الإحياء ، و « أم » : هي المنقطعة ، والهمزة لإنكار الوقوع . قال المبرد : إن « أم » هنا بمعنى هل ، أي هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض يحيون الموتى ، ولا تكون « أم » هنا بمعنى بل ، لأن ذلك يوجب لهم إنشاء الموتى إلا أن تقدّر « أم » مع الاستفهام ، فتكون « أم » المنقطعة ، فيصح المعنى ، و { من الأرض } متعلق باتخذوا ، أو بمحذوف هو صفة لآلهة ، ومعنى { هُمْ يُنشِرُونَ } : هم يبعثون الموتى ، والجملة صفة لآلهة ، وهذه الجملة هي التي يدور عليها الإنكار والتجهيل ، لا نفس الاتخاذ ، فإنه واقع منهم لا محالة . والمعنى : بل اتخذوا آلهة من الأرض هم خاصة مع حقارتهم ينشرون الموتى ، وليس الأمر كذلك ، فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل عن ذلك .
قرأ الجمهور : { ينشرون } بضم الياء وكسر الشين من أنشره أي : أحياه ، وقرأ الحسن بفتح الياء ، أي يحيون ولا يموتون .
ثم إنه سبحانه أقام البرهان على بطلان تعدّد الآلهة ، فقال : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } أي : لو كان في السموات والأرض آلهة معبودون غير الله لفسدتا ، أي لبطلتا ، يعني السموات والأرض بما فيهما من المخلوقات ، قال الكسائي وسيبويه والأخفش والزجاج وجمهور النحاة : إن « إلا » هنا ليست للاستثناء بل بمعنى غير صفة لآلهة ، ولذلك ارتفع الاسم الذي بعدها وظهر فيه إعراب غير التي جاءت « إلا » بمعناها ، ومنه قول الشاعر :
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
وقال الفراء : إن « إلا » هنا بمعنى سوى ، والمعنى : لو كان فيهما آلهة سوى الله لفسدتا ، ووجه الفساد أن كون مع الله إلها آخر يستلزم أن يكون كل واحد منهما قادراً على الاستبداد بالتصرف ، فيقع عند ذلك التنازع والاختلاف ويحدث بسببه الفساد { فسبحان الله رَبّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالبرهان ، أي تنزّه عزّ وجلّ عما لا يليق به من ثبوت الشريك له ، وفيه إرشاد للعباد أن ينزّهوا الربّ سبحانه عما لا يليق به . { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } هذه الجملة مستأنفة مبينة أنه سبحانه لقوّة سلطانه وعظيم جلاله لا يسأله أحد من خلقه عن شيء من قضائه وقدره { وَهُمْ } أي : العباد { يُسْئَلُونَ } عما يفعلون أي : يسألهم الله عن ذلك لأنهم عبيده . وقيل : إن المعنى : أنه سبحانه لا يؤاخذ على أفعاله وهم يؤاخذون . قيل : والمراد بذلك أنه سبحانه بين لعباده أن من يسأل عن أعماله كالمسيح والملائكة لا يصلح لأن يكون إلها .
{ أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً } أي بل اتخذوا ، وفيه إضراب وانتقال من إظهار بطلان كونها آلهة بالبرهان السابق ، إلى إظهار بطلان اتخاذها آلهة مع توبيخهم بطلب البرهان منهم ، ولهذا قال : { قُلْ هَاتُواْ برهانكم } على دعوى أنها آلهة ، أو على جواز اتخاذ آلهة سوى الله ، ولا سبيل لهم إلى شيء من ذلك ، لا من عقل ولا نقل ، لأن دليل العقل قد مرّ بيانه ، وأما دليل النقل فقد أشار إليه بقوله : { هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي } أي هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع ذكر أمتي وذكر الأمم السالفة وقد أقمته عليكم وأوضحته لكم ، فأقيموا أنتم برهانكم . وقيل : المعنى هذا القرآن وهذه الكتب التي أنزلت قبلي فانظروا : هل في واحد منها أن الله أمر باتخاذ إله سواه . قال الزجاج : قيل لهم : هاتوا برهانكم بأن رسولاً من الرسل أنبأ أمته بأن لهم إلها غير الله ، فهل في ذكر من معي وذكر من قبلي إلا توحيد الله؟ وقيل معنى الكلام : الوعيد والتهديد ، أي افعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف الغطاء .
وحكى أبو حاتم : أن يحيى بن يعمر وطلحة بن مصرف قرآ : « هذا ذكر من معي وذكر من قبلي » بالتنوين وكسر الميم ، وزعم أنه لا وجه لهذه القراءة . وقال الزجاج في توجيه هذه القراءة : إن المعنى : هذا ذكر مما أنزل إليّ ومما هو معي وذكر من قبلي . وقيل : ذكر كائن من قبلي ، أي جئت بما جاءت به الأنبياء من قبلي . ثم لما توجهت الحجة عليهم ذمهم بالجهل بمواضع الحق فقال : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق } وهذا إضراب من جهته سبحانه وانتقال من تبكيتهم بمطالبتهم بالبرهان إلى بيان أنه لا يؤثر فيهم إقامة البرهان ، لكونهم جاهلين للحق لا يميزون بينه وبين الباطل . وقرأ ابن محيصن والحسن : « الحق » بالرفع على معنى هذا الحق ، أو هو الحق ، وجملة : { فَهُمْ مُّعْرِضُونَ } تعليل لما قبله من كون أكثرهم لا يعلمون أي فهم لأجل هذا الجهل المستولي على أكثرهم معرضون عن قبول الحق مستمرّون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول ، فلا يتأملون حجة ، ولا يتدبرون في برهان ، ولا يتفكرون في دليل .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ يُوحَى إِلَيْهِ } قرأ حفص وحمزة والكسائي : { نوحي } بالنون ، وقرأ الباقون بالياء أي : نوحي إليه { أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ } وفي هذا تقرير لأمر التوحيد وتأكيد لما تقدّم من قوله : { هذا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ } وختم الآية بالأمر لعباده بعبادته ، فقال : { فاعبدون } فقد اتضح لكم دليل العقل ، ودليل النقل وقامت عليكم حجة الله .
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كتابا فِيهِ ذِكْرُكُمْ } قال : شرفكم . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال : فيه حديثكم . وفي رواية عنه قال : فيه دينكم . وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : بعث الله نبياً من حمير يقال له : شعيب ، فوثب إليه عبد فضربه بعصا ، فسار إليهم بختنصر فقاتلتهم فقتلهم حتى لم يبق منهم شيء ، وفيهم أنزل الله : { وَكَمْ قَصَمْنَا } إلى قوله : { خامدين } . وأخرج عبد الرزاق وعبد ابن حميد ، وابن المنذر عن الكلبي في قوله : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ } قال : هي حضور بني أزد ، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : { وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ } قال : ارجعوا إلى دوركم وأموالكم .
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ } قال : هم أهل حضور كانوا قتلوا نبيهم ، فأرسل الله عليهم بختنصر فقتلهم ، وفي قوله : { فجعلناهم حَصِيداً خامدين } قال : بالسيف ضرب الملائكة وجوههم حتى رجعوا إلى مساكنهم .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن وهب قال : حدّثني رجل من الجزريين قال : كان اليمن قريتان ، يقال لإحداهما : حضور ، وللأخرى قلابة ، فبطروا وأترفوا حتى ما كانوا يغلقون أبوابهم ، فلما أترفوا بعث الله إليهم نبياً فدعاهم فقتلوه ، فألقى الله في قلب بختنصر أن يغزوهم ، فجهز لهم جيشاً ، فقاتلوهم فهزموا جيشه فرجعوا منهزمين إليه ، فجهز إليهم جيشاً آخر أكثف من الأوّل ، فهزموهم أيضاً؛ فلما رأى بختنصر ذلك غزاهم هو بنفسه ، فقاتلوهم فهزمهم حتى خرجوا منها يركضون ، فسمعوا منادياً يقول : { لاَ تَرْكُضُواْ وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ومساكنكم } فرجعوا فسمعوا صوتاً منادياً يقول : يا لثارات النبي فقتلوا بالسيف ، فهي التي قال الله : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ } إلى قوله : { خامدين } قلت : وقرى حضور معروفة الآن بينها وبين مدينة صنعاء نحو بريد في جهة الغرب منها . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { حَصِيداً خامدين } . قال : كخمود النار إذا طفئت .
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : { لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً } قال : اللهو : الولد . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن في قوله : { لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً } قال : النساء . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } يقول : لا يرجعون . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } قال : بعباده { وَهُمْ يُسْئَلُونَ } قال : عن أعمالهم . وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك نحوه . وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عباس قال : ما في الأرض قوم أبغض إليّ من القدرية ، وما ذاك إلا أنهم لا يعلمون قدرة الله ، قال الله : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } .
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
قوله : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً } هؤلاء القائلون هم خزاعة ، فإنهم قالوا : الملائكة بنات الله ، وقيل : هم اليهود ، ويصح حمل الآية على كل من جعل لله ولدا . وقد قالت اليهود : عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، وقالت طائفة من العرب : الملائكة بنات الله . ثم نزه عزّ وجلّ نفسه . فقال : { سبحانه } أي تنزيهاً له عن ذلك ، وهو مقول على ألسنة العباد . ثم أضرب عن قولهم وأبطله فقال : { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } أي ليسوا كما قالوا ، بل هم عباد لله سبحانه مكرمون بكرامته لهم ، مقرّبون عنده . وقرىء : « مكرمون » بالتشديد ، وأجاز الزجاج والفراء نصب عباد على معنى : بل اتخذ عباداً ، ثم وصفهم بصفة أخرى فقال : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول } أي لا يقولون شيئاً حتى يقوله أو يأمرهم به . كذا قال ابن قتيبة وغيره ، وفي هذا دليل على كمال طاعتهم وانقيادهم . وقرىء : « لا يسبقونه » بضم الباء من سبقته أسبقه { وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } أي هم العاملون بما يأمرهم الله به ، التابعون له المطيعون لربهم .
{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } هذه الجملة تعليل لما قبلها ، أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون ، أو يعلم ما بين أيديهم وهو الآخرة ، وما خلفهم وهو الدنيا ، ووجه التعليل أنهم إذا علموا بأنه عالم بما قدّموا وأخروا ، لم يعملوا عملاً ولم يقولوا قولاً إلا بأمره { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } أي : يشفع الشافعون له ، وهو من رضي عنه ، وقيل : هم أهل لا إله إلا الله ، وقد ثبت في الصحيح أن الملائكة يشفعون في الدار الآخرة { وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } أي من خشيتهم منه فالمصدر مضاف إلى المفعول ، والخشية : الخوف مع التعظيم ، والإشفاق : الخوف مع التوقع والحذر ، أي لا يأمنون مكر الله .
{ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّي إله مّن دُونِهِ } أي من يقل من الملائكة إني إله من دون الله . قال المفسرون : عني بهذا إبليس؛ لأنه لم يقل أحد من الملائكة إني إله إلا إبليس؛ وقيل : الإشارة إلى جميع الملائكة { فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } أي فذلك القائل على سبيل الفرض ، والتقدير : نجزيه جهنم بسبب هذا القول الذي قاله ، كما نجزي غيره من المجرمين { كذلك نَجْزِي الظالمين } أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الظالمين ، أو مثل ما جعلنا جزاء هذا القائل جهنم ، فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الألوهية والعبادة في غير موضعها ، والمراد بالظالمين : المشركون .
{ أَوَ لَمْ يَرَ الذين كَفَرُواْ } الهمزة للإنكار ، والواو للعطف على مقدّر ، والرؤية هي القلبية ، أي ألم يتفكروا أو لم يعلموا { أن السموات والأرض * كَانَتَا رَتْقاً } قال الأخفش : إنما قال : { كانتا } ، لأنهما صنفان أي جماعتا السموات والأرضين كما قال سبحانه :
{ إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ } [ فاطر : 41 ] وقال الزجاج : إنما قال { كانتا } لأنه يعبر عن السموات بلفظ الواحد ، لأن السموات كانت سماء واحدة ، وكذلك الأرضون . والرتق . السد ضدّ الفتق ، يقال : رتقت الفتق أرتقه فارتتق ، أي التأم ، ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج ، يعني : أنهما كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله بينهما ، وقال { رتقاً } ولم يقل « رتقين » لأنه مصدر ، والتقدير : كانتا ذواتي رتق ، ومعنى { ففتقناهما } ففصلناهما ، أي فصلنا بعضهما من بعض ، فرفعنا السماء ، وأبقينا الأرض مكانها { وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْء حَيّ } أي أحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كل شيء ، فيشمل الحيوان والنبات ، والمعنى : أن الماء سبب حياة كل شيء . وقيل : المراد بالماء هنا : النطفة ، وبه قال أكثر المفسرين ، وهذا احتجاج على المشركين بقدرة الله سبحانه وبديع صنعه ، وقد تقدم تفسير هذه الآية ، والهمزة في { أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } للإنكار عليهم ، حيث لم يؤمنوا مع وجود ما يقتضيه من الآيات الربانية .
{ وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ } أي جبالاً ثوابت { أَن تَمِيدَ بِهِمْ } الميد التحرّك والدوران ، أي لئلا تتحرك وتدور بهم ، أو كراهة ذلك ، وقد تقدم تفسير ذلك في النحل مستوفى { وَجَعَلْنَا فِيهَا } أي في الرواسي ، أو في الأرض { فِجَاجاً } قال أبو عبيدة : هي المسالك . وقال الزجاج : كل مخترق بين جبلين فهو فج و { سُبُلاً } تفسير للفجاج ، لأن الفج قد لا يكون طريقاً نافذاً مسلوكاً { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } إلى مصالح معاشهم ، وما تدعو إليه حاجاتهم { وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً } عن أن يقع ويسقط على الأرض كقوله : { وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض } [ الحج : 65 ] . وقال الفراء : محفوظاً بالنجوم من الشيطان كقوله : { وحفظناها مِن كُلّ شيطان رَّجِيمٍ } [ الحجر : 17 ] . وقيل : محفوظاً : لا يحتاج إلى عماد ، وقيل : المراد بالمحفوظ هنا : المرفوع . وقيل : محفوظاً عن الشرك والمعاصي . وقيل : محفوظاً عن الهدم والنقض { وَهُمْ عَنْ ءاياتها مُعْرِضُونَ } أضاف الآيات إلى السماء ، لأنها مجعولة فيها ، وذلك كالشمس والقمر ونحوهما ، ومعنى الإعراض : أنهم لا يتدبرون فيها ، ولا يتفكرون فيما توجبه من الإيمان .
{ وَهُوَ الذي خَلَقَ اليل والنهار والشمس والقمر } هذا تذكير لهم بنعمة أخرى مما أنعم به عليهم ، وذلك بأنه خلق لهم الليل ليسكنوا فيه ، والنهار ليتصرفوا فيه في معايشهم ، وخلق الشمس والقمر أي جعل الشمس آية النهار ، والقمر آية الليل ، ليعلموا عدد الشهور والحساب كما تقدّم بيانه في سبحان { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } أي كل واحد من الشمس والقمر والنجوم في فلك يسبحون ، أي يجرون في وسط الفلك ، ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء ، والجمع في الفعل باعتبار المطالع ، قال سيبويه : إنه لما أخبر عنهنّ بفعل من يعقل ، وجعلهنّ في الطاعة بمنزلة من يعقل ، جعل الضمير عنهنّ ضمير العقلاء ، ولم يقل يسبحن أو تسبح ، وكذا قال الفراء .
وقال الكسائي : إنما قال : { يسبحون } لأنه رأس آية . والفلك واحد أفلاك النجوم . وأصل الكلمة من الدوران ، ومنه فلكة المغزل لاستدارتها . { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد } أي دوام البقاء في الدنيا { أَفَإِيْن مّتَّ } بأجلك المحتوم { فَهُمُ الخالدون } أي أفهم الخالدون؟ قال الفراء : جاء بالفاء لتدل على الشرط لأنه جواب قولهم سيموت . قال : ويجوز حذف الفاء وإضمارها ، والمعنى : إن متّ فهم يموتون أيضاً ، فلا شماتة في الموت . وقرىء : « مت » بكسر الميم وضمها لغتان : وكان سبب نزول هذه الآية قول المشركين فيما حكاه الله عنهم : { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون } [ الطور : 30 ] . { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت } أي ذائقة مفارقة جسدها ، فلا يبقى أحد من ذوات الأنفس المخلوقة كائناً ما كان . { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } أي نختبركم بالشدّة والرخاء ، لننظر كيف شكركم وصبركم . والمراد : أنه سبحانه يعاملهم معاملة من يبلوهم ، و { فتنة } مصدر { لنبلوكم } من غير لفظه { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } لا إلى غيرنا فنجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير ، وإن شراً فشرّ .
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : قالت اليهود : إن الله عزّ وجلّ صاهر الجنّ فكانت بنيهم الملائكة ، فقال الله تكذيباً لهم { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } أي الملائكة ليس كما قالوا ، بل عباد أكرمهم بعبادته . { لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول } يثني عليهم { وَلاَ يَشْفَعُونَ } قال : لا تشفع الملائكة يوم القيامة { إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } قال : لأهل التوحيد وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } قال : لأهل التوحيد لمن رضي عنه . وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في الآية قال : قول لا إله إلا الله . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في الآية قال : الذين ارتضاهم لشهادة أن لا إله إلا الله .
وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في البعث عن جابر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } قال : « إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي » وأخرج الفريابي وعبد بن حميد ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الأسماء و الصفات عن ابن عباس في قوله : { كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما } قال : فتقت السماء بالغيث ، وفتقت الأرض بالنبات . وأخرج ابن أبي حاتم عنه { كَانَتَا رَتْقاً } قال : لا يخرج منهما شيء ، وذكر مثل ما تقدم . وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية عنه أيضاً من طريق أخرى . وأخرج ابن جرير عنه { كَانَتَا رَتْقاً } قال : ملتصقتين .
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي العالية في قوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْء حَيّ } قال : نطفة الرجل .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً } قال : بين الجبال . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ } قال : دوران { يَسْبَحُونَ } قال : يجرون . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عنه : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ } قال : فلك كفلكة المغزل { يَسْبَحُونَ } قال : يدورون في أبواب السماء ، كما تدور الفلكة في المغزل . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : هو فلك السماء .
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن عائشة قال : دخل أبو بكر على النبيّ صلى الله عليه وسلم وقد مات فقبّله وقال : وانبياه واخليلاه واصفياه ، ثم تلا : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد } الآية ، وقوله : { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ } [ الزمر : 30 ] . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } قال : نبتليكم بالشدة والرخاء ، والصحة والسقم ، والغنى والفقر ، والحلال والحرام ، والطاعة والمعصية ، والهدى والضلالة .
وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
قوله : { وَإِذَا رَاكَ الذين كَفَرُواْ } يعني المستهزئين من المشركين { إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هزواً } أي ما يتخذونك إلا مهزوءاً بك ، والهزؤ : السخرية ، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم : { المشركين إِنَّا كفيناك المستهزءين } [ الحجر : 95 ] والمعنى : ما يفعلون بك إلا اتخذوك هزؤاً { أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ } هو على تقدير القول ، أي يقولون : أهذا الذي ، فعلى هذا هو جواب إذا ، ويكون قوله : { إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هزواً } اعتراضاً بين الشرط وجوابه ، ومعنى يذكرها : يعيبها . قال الزجاج : يقال فلان يذكر الناس ، أي يغتابهم ، ويذكرهم بالعيوب ، وفلان يذكر الله ، أي يصفه بالتعظيم ويثني عليه ، وإنما يحذف مع الذكر ما عقل معناه ، وعلى ما قالوا لا يكون الذكر في كلام العرب العيب ، وحيث يراد به العيب يحذف منه السوء ، قيل : ومن هذا قول عنترة :
لا تذكري مهري وما أطعمته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
أي لا تعيبي مهري ، وجملة { وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كافرون } في محل نصب على الحال ، أي وهم بالقرآن كافرون ، أو هم بذكر الرحمن الذي خلقهم كافرون ، والمعنى : أنهم يعيبون على النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يذكر آلهتهم التي لا تضرّ ولا تنفع بالسوء ، والحال أنهم بذكر الله سبحانه بما يليق به من التوحيد ، أو القرآن كافرون ، فهم أحق بالعيب لهم والإنكار عليهم ، فالضمير الأوّل مبتدأ خبره كافرون ، وبذكر متعلق بالخبر ، والضمير الثاني تأكيد .
{ خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } أي جعل لفرط استعجاله كأنه مخلوق من العجل . قال الفراء : كأنه يقول : بنيته وخلقته من العجلة وعلى العجلة . وقال الزجاج : خوطبت العرب بما تعقل ، والعرب تقول للذي يكثر منه الشيء : خلقت منه كما تقول : أنت من لعب ، وخلقت من لعب ، تريد المبالغة في وصفه بذلك . ويدل على هذا المعنى قوله : { وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } [ الإسراء : 11 ] . والمراد بالإنسان : الجنس . وقيل : المراد بالإنسان : آدم ، فإنه لما خلقه الله ونفخ فيه الروح صار الروح في رأسه ، فذهب لينهض قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه فوقع ، فقيل : خلق الإنسان من عجل ، كذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والسديّ والكلبي ومجاهد وقال أبو عبيدة وكثير من أهل المعاني : العجل : الطين بلغة حمير . وأنشدوا :
والنخل تنبت بين الماء والعجل ... وقيل : إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث ، وهو القائل : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ } [ الأنفال : 32 ] . وقيل : نزلت في قريش لأنهم استعجلوا العذاب . وقال الأخفش : معنى خلق الإنسان من عجل أنه قيل له كن فكان . وقيل : إن هذه الآية من المقلوب ، أي خلق العجل من الإنسان وقد حكي هذا عن أبي عبيدة والنحاس ، والقول الأوّل أولى { سأريكم آياتي } أي : سأريكم نقماتي منكم بعذاب النار { فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } أي لا تستعجلوني بالإتيان به ، فإنه نازل بكم لا محالة ، وقيل : المراد بالآيات ما دل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم من المعجزات وما جعله الله له من العاقبة المحمودة ، والأوّل أولى ، ويدل عليه قولهم : { متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين } أي متى حصول هذا الوعد ، الذي تعدنا به من العذاب ، قالوا ذلك على جهة الاستهزاء والسخرية .
وقيل : المراد بالوعد هنا : القيامة ، ومعنى { إِن كُنتُمْ صادقين } : إن كنتم يا معشر المسلمين صادقين في وعدكم ، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين الذين يتلون الآيات القرآنية المنذرة بمجيء الساعة وقرب حضور العذاب .
وجملة : { لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ } وما بعدها مقرّرة لما قبلها ، أي لو عرفوا ذلك الوقت ، وجواب لو محذوف ، والتقدير : لو علموا الوقت الذي { لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } لما استعجلوا الوعيد . وقال الزجاج : في تقدير الجواب لعلموا صدق الوعد . وقيل : لو علموه ما أقاموا على الكفر . وقال الكسائي : هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة ، أي لو علموه علم يقين لعلموا أن الساعة آتية ، ويدلّ عليه قوله : { بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً } وتخصيص الوجوه والظهور بالذكر بمعنى الأمام والخلف لكونهما أشهر الجوانب الجوانب في استلزام الإحاطة بها للإحاطة بالكلّ ، بحيث لا يقدرون على دفعها من جانب من جوانبهم ، ومحل { حين لا يكفون } النصب على أنه مفعول العلم ، وهو عبارة عن الوقت الموعود الذي كانوا يستعجلونه ، ومعنى { ولا هم ينصرون } : ولا ينصرهم أحد من العباد فيدفع ذلك عنهم ، وجملة { بل تأتيهم بغتة } معطوفة على { يكفون } أي لا يكفونها بل تأتيهم العدّة أو النار أو الساعة بغتة ، أي فجأة { فَتَبْهَتُهُمْ } قال الجوهري : بهته بهتاً أخذه بغتة ، وقال الفراء : فتبهتهم ، أي تحيرهم . وقيل : فتفجؤهم { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا } أي صرفها عن وجوههم ولا عن ظهورهم ، فالضمير راجع إلى النار . وقيل : راجع إلى الوعد بتأويله بالعدة . وقيل : راجع إلى الحين بتأويله بالساعة { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي يمهلون ويؤخرون لتوبة واعتذار .
وجملة { وَلَقَدِ استهزيء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ } مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزيته ، كأنه قال : إن استهزأ بك هؤلاء فقد فعل ذلك بمن قبلك من الرسل على كثرة عددهم وخطر شأنهم { فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ } أي أحاط ودار بسبب ذلك بالذين سخروا من أولئك الرسل وهزئوا بهم { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } : « ما » موصولة ، أو مصدرية ، أي فأحاط بهم الأمر الذي كانوا يستهزئون به ، أو فأحاط بهم استهزاؤهم ، أي جزاؤه على وضع السبب موضع المسبب ، أو نفس الاستهزاء ، إن أريد به العذاب الأخروي . { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم باليل والنهار مِنَ الرحمن } أي يحرسكم ويحفظكم .
والكلاءة : الحراسة والحفظ ، يقال : كلأه الله كلاء بالكسر ، أي حفظه وحرسه . قال ابن هرمة :
إن سليمى والله يكلؤها ... ضنت بشيء ما كان يرزؤها
أي قل يا محمد لأولئك المستهزئين بطريق التقريع والتوبيخ : من يحرسكم ويحفظكم بالليل والنهار من بأس الرحمن وعذابه الذي تستحقون حلوله بكم ونزوله عليكم؟ وقال الزجاج : معناه : من يحفظكم من بأس الرحمن . وقال الفراء : المعنى : من يحفظكم مما يريد الرحمن إنزاله بكم من عقوبات الدنيا والآخرة . وحكى الكسائي والفراء : من يكلوكم بفتح اللام وإسكان الواو { بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ } أي عن ذكره سبحانه فلا يذكرونه ولا يخطرونه ببالهم ، بل يعرضون عنه ، أو عن القرآن ، أو عن مواعظ الله ، أو عن معرفته .
{ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا } : « أم » هي المنقطعة التي بمعنى بل ، والهمزة للإضراب والانتقال عن الكلام السابق المشتمل على بيان جهلهم بحفظه سبحانه إياهم إلى توبيخهم وتقريعهم باعتمادهم على من هو عاجز عن نفع نفسه ، والدفع عنها . والمعنى : بل لهم آلهة تمنعهم من عذابنا . وقيل : فيه تقديم وتأخير ، والتقدير : أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم . ثم وصف آلهتهم هذه التي زعموا أنها تنصرهم بما يدلّ على الضعف والعجز فقال : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ } أي هم عاجزون عن نصر أنفسهم فكيف يستطيعون أن ينصروا غيرهم { ولا هم منا يصحبون } أي ولا هم يجارون من عذابنا . قال ابن قتيبة : أي لا يجيرهم منا أحد ، لأن المجير صاحب الجار ، والعرب تقول : صحبك الله ، أي حفظك وأجارك ، ومنه قول الشاعر :
ينادي بأعلى صوته متعوّذا ... ليصحب منا والرماح دواني
تقول العرب : أنا لك جار وصاحب من فلان ، أي مجير منه . قال المازني : هو من أصحبت الرجل : إذا منعته .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السديّ قال : « مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان وأبي جهل وهما يتحدثان ، فلما رآه أبو جهل ضحك وقال لأبي سفيان : هذا نبيّ بني عبد مناف ، فغضب أبو سفيان فقال : ما تنكرون أن يكون لبني عبد مناف نبيّ ، فسمعها النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فرجع إلى أبي جهل فوقع به وخوّفه وقال : ما أراك منتهياً حتى يصيبك ما أصاب عمك ، وقال لأبي سفيان : أما إنك لم تقل ما قلت إلا حمية » ، فنزلت هذه الآية : { وَإِذَا رَآكَ الذين كَفَرُواْ } . قلت : ينظر من الذي روى عنه السديّ؟ .
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال : لما نفخ في آدم الروح صار في رأسه فعطس فقال : الحمد لله ، فقالت الملائكة : يرحمك الله ، فذهب لينهض قبل أن تمور في رجليه فوقع ، فقال الله : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } .
وقد أخرج نحو هذا ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير . وأخرج نحوه أيضاً ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عن مجاهد ، وكذا أخرج ابن المنذر عن ابن جريج . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم } قال : يحرسكم ، وفي قوله : { وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ } قال : لا ينصرون . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ } قال : لا يجارون . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في الآية : قال لا يمنعون .
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
لما أبطل كون الأصنام نافعة أضرب عن ذلك منتقلاً إلى بيان أن ما هم فيه من الخير والتمتع بالحياة العاجلة هو من الله ، لا من مانع يمنعهم من الهلاك ، ولا من ناصر ينصرهم على أسباب التمتع فقال : { بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَءَابَاءهُمْ } يعني : أهل مكة متعهّم الله بما أنعم عليهم { حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر } فاغترّوا بذلك وظنوا أنهم لا يزالون كذلك ، فرد سبحانه عليهم قائلاً : { أَفَلاَ يَرَوْنَ } أي أفلا ينظرون فيرون { أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } أي أرض الكفر ننقصها بالظهور عليها من أطرافها فنفتحها بلداً بعد بلد وأرضاً بعد أرض ، وقيل : ننقصها بالقتل والسبي ، وقد مضى في الرعد الكلام على هذا مستوفى ، والاستفهام في قوله : { أَفَهُمُ الغالبون } للإنكار ، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره ، أي كيف يكونون غالبين بعد نقصنا لأرضهم من أطرافها؟ وفي هذا إشارة إلى أن الغالبين هم المسلمون .
{ قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بالوحي } أي أخوّفكم وأحذركم بالقرآن ، وذلك شأني وما أمرني الله به ، وقوله : { وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعاء } إما من تتمة الكلام الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم ، أو من جهة الله تعالى . والمعنى : أن من أصمّ الله سمعه وختم على قلبه وجعل على بصره غشاوة لا يسمع الدعاء . قرأ أبو عبد الرحمن السلمي ومحمد بن السميفع « ولا يسمع » بضم الياء وفتح الميم على ما لم يسم فاعله . وقرأ ابن عامر وأبو حيوة ويحيى بن الحارث بالتاء الفوقية مضمومة وكسر الميم ، أي إنك يا محمد لا تسمع هؤلاء . قال أبو علي الفارسي : ولو كان كما قال ابن عامر لكان : إذا ما تنذرهم ، فيحسن نظم الكلام ، فأما { إِذَا مَا يُنذَرُونَ } فحسن أن يتبع قراءة العامة . وقرأ الباقون بفتح الياء وفتح الميم ورفع الصم على أنه الفاعل . { وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مّنْ عَذَابِ رَبّكَ } المراد بالنفحة : القليل ، مأخوذ من نفح المسك قاله ابن كيسان ، ومنه قول الشاعر :
وعمرة من سروات النساء ... تنفَّحُ بالمسك أردانها
وقال المبرد : النفحة : الدفعة من الشيء التي دون معظمه ، يقال : نفحه نفحة بالسيف إذا ضربه ضربة خفيفة . وقيل : هي النصيب ، وقيل هي الطرف . والمعنى متقارب ، أي ولئن مسهم أقلّ شيء من العذاب { لَيَقُولُنَّ ياويلنا إِنَّا كُنَّا ظالمين } أي ليدعون على أنفسهم بالويل والهلاك ويعترفون عليها بالظلم .
{ وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة } الموازين جمع ميزان ، وهو يدل على أن هناك موازين ، ويمكن أن يراد ميزان واحد ، عبر عنه بلفظ الجمع ، وقد ورد في السنة في صفة الميزان ما فيه كفاية ، وقد مضى في الأعراف ، وفي الكهف في هذا ما يغني عن الإعادة .
والقسط : صفة للموازين . قال الزجاج : قسط : مصدر يوصف به ، تقول : ميزان قسط وموازين قسط ، والمعنى : ذوات قسط ، والقسط : العدل . وقرىء « القصط » بالصاد والطاء ، ومعنى { لِيَوْمِ القيامة } لأهل يوم القيامة . وقيل : اللام بمعنى في ، أي في يوم القيامة { فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } أي لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيء { وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ } قرأ نافع وشيبة وأبو جعفر برفع مثقال على أن كان تامة ، أي إن وقع أو وجد مثقال حبة . وقرأ الباقون بنصب المثقال على تقدير : وإن كان العمل المدلول عليه بوضع الموازين مثقال حبة ، كذا قال الزجاج . وقال أبو عليّ الفارسي : وإن كان الظلامة مثقال حبة . قال الواحدي : وهذا أحسن لتقدّم قوله : { فلا تظلم نفس شيئاً } ، ومثقال الشيء ميزانه ، أي وإن كان في غاية الخفة والحقارة ، فإن حبة الخردل مثل في الصغر { أَتَيْنَا بِهَا } قرأ الجمهور بالقصر ، أي أحضرناها وجئنا بها للمجازاة عليها ، و { بها } أي بحبة الخردل . وقرأ مجاهد وعكرمة : « آتينا » بالمدّ على معنى : جازينا بها ، يقال : آتى يؤاتي مؤاتاة جازى { وكفى بِنَا حاسبين } أي كفى بنا محصين . والحسب في الأصل معناه : العدّ؛ وقيل : كفى بنا عالمين ، لأن من حسب شيئاً علمه وحفظه ، وقيل : كفى بنا مجازين على ما قدّموه من خير وشرّ . ثم شرع سبحانه في تفصيل ما أجمله سابقاً بقوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمُ } [ الأنبياء : 7 ] فقال : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ } المراد بالفرقان : هنا : التوراة ، لأن فيها الفرق بين الحلال والحرام ، وقيل : الفرقان هنا هو : النصر على الأعداء كما في قوله : { وَمَا أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان } [ الأنفال : 41 ] . قال الثعلبي : وهذا القول أشبه بظاهر الآية ، ومعنى { وضياء } : أنهم استضاؤوا بها في ظلمات الجهل والغواية ، ومعنى { وذكرا } الموعظة ، أي أنهم يتعظون بما فيها ، وخصّ المتقين لأنهم الذين ينتفعون بذلك ، ووصفهم بقوله : { الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب } لأن هذه الخشية تلازم التقوى . ويجوز أن يكون الموصول بدلاً من المتقين أو بياناً له ، ومحل { بالغيب } النصب على الحال ، أي يخشون عذابه وهو غائب عنهم ، أو هم غائبون عنه لأنهم في الدنيا ، والعذاب في الآخرة . وقرأ ابن عباس وعكرمة : { ضياء } بغير واو . قال الفراء : حذف الواو والمجيء بها واحد ، واعترضه الزجاج بأن الواو تجيء لمعنى فلا تزاد { وَهُمْ مّنَ الساعة مُشْفِقُونَ } أي وهم من القيامة خائفون وجلون ، والإشارة بقوله : { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ } إلى القرآن . قال الزجاج : المعنى : وهذا القرآن ذكر لمن تذكر به وموعظة لمن اتعظ به ، والمبارك كثير البركة والخير . وقوله : { أنزلناه } صفة ثانية للذكر ، أو خبر بعد خبر ، والاستفهام في قوله : { أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } للإنكار لما وقع منهم من الإنكار ، أي كيف تنكرون كونه منزلاً من عند الله مع اعترافكم بأن التوراة منزلة من عنده .
{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ } أي الرشد اللائق به وأمثاله من الرسل ، ومعنى { مِن قَبْلُ } : أنه أعطى رشده قبل إيتاء موسى وهارون التوراة . وقال الفراء : المعنى : أعطيناه هداه من قبل النبوّة ، أي وفقناه للنظر والاستدلال لما جنّ عليه الليل فرأى الشمس والقمر والنجم ، وعلى هذا أكثر المفسرين ، وبالأوّل قال أقلهم { وَكُنَّا بِهِ عالمين } أنه موضع لإيتاء الرشد ، وأنه يصلح لذلك ، والظرف في قوله : { إِذْ قَالَ لأبِيهِ } متعلق بآتينا أو بمحذوف ، أي اذكر حين قال ، وأبوه هو آزر { وَقَوْمِهِ } نمروذ ومن اتبعه ، والتماثيل : الأصنام . وأصل التمثال : الشيء المصنوع مشابهاً لشيء من مخلوقات الله سبحانه ، يقال : مثلت الشيء بالشيء : إذا جعلته مشابهاً له ، واسم ذلك الممثل تمثال ، أنكر عليهم عبادتها بقوله : { مَا هذه التماثيل التى أَنتُمْ لَهَا عاكفون } والعكوف عبارة عن اللزوم والاستمرار على الشيء ، واللام في { لها } للاختصاص ، ولو كانت للتعدية لجيء بكلمة على ، أي ما هذه الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها؟ وقيل : إن العكوف مضمن معنى العبادة .
{ قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عابدين } أجابوه بهذا الجواب الذي هو العصا التي يتوكأ عليها كل عاجز ، والحبل الذي يتشبث به كل غريق ، وهو التمسك بمجرد تقليد الآباء ، أي وجدنا آباءنا يعبدونها فعبدناها اقتداء بهم ومشياً على طريقتهم ، وهكذا يجيب هؤلاء المقلدة من أهل هذه الملة الإسلامية ، وإن العالم بالكتاب والسنّة إذا أنكر عليهم العمل بمحض الرأي المدفوع بالدليل قالوا : هذا قد قال به إمامنا الذي وجدنا آباءنا له مقلدين وبرأيه آخذين ، وجوابهم : هو ما أجاب به الخليل ها هنا { قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ فِي ضلال مُّبِينٍ } أي في خسران واضح ظاهر لا يخفى على أحد ولا يلتبس على ذي عقل ، فإن قوم إبراهيم عبدوا الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر ، وليس بعد هذا الضلال ضلال ، ولا يساوي هذا الخسران خسران ، وهؤلاء المقلدة من أهل الإسلام استبدلوا بكتاب الله وبسنّة رسوله كتاباً قد دوّنت فيه اجتهادات عالم من علماء الإسلام زعم أنه لم يقف على دليل يخالفها ، إما لقصور منه أو لتقصير في البحث فوجد ذلك الدليل من وجده وأبرزه واضح المنار :
كأنه علم في رأسه نار ... وقال : هذا كتاب الله أو هذه سنّة رسوله ، وأنشدهم :
دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر
فقالوا كما قال الأوّل :
ما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وأن ترشد غزية أرشد
وقد أحسن من قال :
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحقّ له واضح
ثم لما سمع أولئك مقالة الخليل قالوا : { أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين } أي أجادّ أنت فيما تقول أم أنت لاعب مازح؟ قال : مضرباً عما بنوا عليه مقالتهم من التقليد : { بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السموات والأرض *الذى فطَرَهُنَّ } أي خلقهنّ وأبدعهنّ { وَأَنَاْ على ذلكم } الذي ذكرته لكم من كون ربكم هو ربّ السموات والأرض دون ما عداه { مّنَ الشاهدين } أي العالمين به المبرهنين عليه ، فإن الشاهد على الشيء هو من كان عالماً به مبرهناً عليه مبيناً له .
وقد أخرج أحمد والترمذي ، وابن جرير في تهذيبه ، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن عائشة أن رجلاً قال : يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم ، فإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك ، وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا عليك ولا لك ، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتصّ لهم منك الفضل » ، فجعل الرجل يبكي ويهنف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أما تقرأ كتاب الله : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حاسبين } » فقال له الرجل : يا رسول الله ، ما أجد لي ولهم خيراً من مفارقتهم أشهدك أنهم أحرار . رواه أحمد هكذا : حدّثنا أبو نوح قراد ، أخبرنا ليث بن سعد عن مالك بن أنس عن الزهري عن عروة ، عن عائشة فذكره ، وفي معناه أحاديث . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان يقرأ : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء } .
وأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان } قال : التوراة . وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه . وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : { الفرقان } : الحقّ . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة : { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ } أي القرآن . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ } قال : هديناه صغيراً ، وفي قوله : { مَا هذه التماثيل } قال : الأصنام .
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
قوله : { وتالله لأكِيدَنَّ أصنامكم } أخبرهم أنه سينتقل من المحاجة باللسان إلى تغيير المنكر بالفعل ثقة بالله سبحانه ومحاماة على دينه . والكيد : المكر ، يقال : كاده يكيده كيداً ومكيدة ، والمراد هنا الاجتهاد في كسر الأصنام . قيل : إنه عليه الصلاة والسلام قال ذلك سرّاً . وقيل : سمعه رجل منهم { بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } أي بعد أن ترجعوا من عبادتها ذاهبين منطلقين . قال المفسرون : كان لهم عيد في كل سنة يجتمعون فيه ، فقالوا لإبراهيم : لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا ، فقال إبراهيم هذه المقالة . والفاء في قوله : { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً } فصيحة ، أي فولوا ، فجعلهم جذاذاً ، الجذّ : القطع والكسر ، يقال : جذذت الشيء قطعته وكسرته ، والواحد : جذاذة ، والجذاذ ما كسر منه . قاله الجوهري . قال الكسائي : ويقال لحجارة الذهب : الجذاذ؛ لأنها تكسر . قرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن : « جذاذاً » بكسر الجيم ، أي كسراً وقطعاً ، جمع جذيذ ، وهو الهشيم ، مثل خفيف وخفاف ، وظريف وظراف . قال الشاعر :
جذذ الأصنام في محرابها ... ذاك في الله العليّ المقتدر
وقرأ الباقون بالضم ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم ، أي الحطام والرفات ، فعال بمعنى مفعول ، وهذا هو الكيد الذي وعدهم به . وقرأ ابن عباس وأبو السماك « جذاذاً » بفتح الجيم { إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ } أي للأصنام { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ } أي إلى إبراهيم { يَرْجِعُونَ } فيحاجهم بما سيأتي فيحجهم؛ وقيل : لعلهم إلى الصنم الكبير يرجعون فيسألونه عن الكاسر ، لأن من شأن المعبود أن يرجع إليه في المهمات ، فإذا رجعوا إليه لم يجدوا عنده خبراً ، فيعلمون حينئذٍ أنها لا تجلب نفعاً ولا تدفع ضرراً ، ولا تعلم بخير ولا شرّ ، ولا تخبر عن الذي ينوبها؛ من الأمر ، وقيل : لعلهم إلى الله يرجعون ، وهو بعيد جدّاً .
{ قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين } في الكلام حذف ، والتقدير : فلما رجعوا من عيدهم ورأوا ما حدث بآلهتهم قالوا هذه المقالة ، والاستفهام للتوبيخ . وقيل : إن « من » ليست استفهامية ، بل هي مبتدأ وخبرها { إنه لمن الظالمين } أي فاعل هذا ظالم ، والأوّل أولى لقولهم : { سَمِعْنَا فَتًى } إلخ ، فإنه قال بهذا بعضهم مجيباً للمستفهمين لهم ، وهذا القائل هو الذي سمع إبراهيم يقول : { تالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم } ومعنى { يَذْكُرُهُمْ } : يعيبهم ، وقد سبق تحقيق مثل هذه العبارة ، وجملة : { يُقَالُ لَهُ إبراهيم } صفة ثانية لفتى . قال الزجاج : وارتفع إبراهيم على معنى : يقال له هو إبراهيم ، فهو على هذا خبر مبتدأ محذوف ، وقيل : ارتفاعه على أنه مفعول ما لم يسمّ فاعله ، وقيل : مرتفع على النداء .
ومن غرائب التدقيقات النحوية ، وعجائب التوجيهات الإعرابية ، أن الأعلم الشنتمري الأشبيلي قال : إنه مرتفع على الإهمال .
قال ابن عطية : ذهب إلى رفعه بغير شيء . والفتى : هو الشاب ، والفتاة الشابة .
{ قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس } القائلون هم السائلون ، أمروا بعضهم أن يأتي به ظاهراً بمرأى من الناس . قيل : إنه لما بلغ الخبر نمروذ وأشراف قومه كرهوا أن يأخذوه بغير بينة ، فقالوا هذه المقالة ، ليكون ذلك حجة عليه يستحلون بها منه ما قد عزموا على أن يفعلوه به . ومعنى { لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } : لعلهم يحضرون عقابه حتى ينزجر غيره عن الاقتداء به في مثل هذا . وقيل : لعلهم يشهدون عليه بأنهم رأوه يكسر الأصنام ، أو لعلهم يشهدون طعنه على أصنامهم . وجملة : { قَالُواْ ءَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِئَالِهَتِنَا يإبراهيم } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، وفي الكلام حذف تقديره : فجاء إبراهيم حين أتوا به فاستفهموه هل فعل ذلك لإقامة الحجة عليه في زعمهم .
{ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } أي قال إبراهيم مقيماً للحجة عليهم مبكتاً لهم ، بل فعله كبيرهم هذا مشيراً إلى الصنم الذي تركه ولم يكسره { فاسألوهم إن كانوا ينطقون } أي إن كانوا ممن يمكنه النطق ويقدر على الكلام ويفهم ما يقال له ، فيجيب عنه بما يطابقه . أراد عليه الصلاة والسلام أن يبين لهم أن من لا يتكلم ولا يعلم ليس بمستحق للعبادة ، ولا يصح في العقل أن يطلق عليه أنه إله . فأخرج الكلام مخرج التعريض لهم بما يوقعهم في الاعتراف بأن الجمادات التي عبدوها ليست بآلهة ، لأنهم إذا قالوا : إنهم لا ينطقون ، قال لم : فكيف تعبدون من يعجز عن النطق ، ويقصر عن أن يعلم بما يقع عنده في المكان الذي هو فيه؟ فهذا الكلام من باب فرض الباطل مع الخصم حتى تلزمه الحجة ويعترف بالحق ، فإن ذلك أقطع لشبهته وأدفع لمكابرته . وقيل : أراد إبراهيم عليه السلام بنسبة الفعل إلى ذلك الكبير من الأصنام أنه فعل ذلك لأنه غار وغضب من أن يعبد وتعبد الصغار معه إرشاداً لهم إلى أن عبادة هذه الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تدفع لا تستحسن في العقل مع وجود خالقها وخالقهم ، والأوّل أولى . وقرأ ابن السميفع : « بل فعله » بتشديد اللام على معنى بل فلعل الفاعل كبيرهم .
{ فَرَجَعُواْ إلى أَنفُسِهِمْ } أي : رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته المتفطن لصحة حجة خصمه المراجع لعقله ، وذلك أنهم تنبهوا وفهموا عند هذه المقاولة بينهم وبين إبراهيم أن من لا يقدر على دفع المضرّة عن نفسه ولا على الإضرار بمن فعل به ما فعله إبراهيم بتلك الأصنام ، يستحيل أن يكون مستحقاً للعبادة ، ولهذا { قَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون } أي قال بعضهم لبعض : أنتم الظالمون لأنفسكم بعبادة هذه الجمادات ، وليس الظالم من نسبتم الظلم إليه بقولكم : إنه لمن الظالمين { ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ } أي رجعوا إلى جهلهم وعنادهم ، شبه سبحانه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء أعلاه .
وقيل : المعنى : أنهم طأطئوا رؤوسهم خجلاً من إبراهيم ، وهو ضعيف؛ لأنه لم يقل : نكسوا رؤوسهم بفتح الكاف وإسناد الفعل إليهم حتى يصح هذا التفسير ، بل قال : نكسوا على رؤوسهم ، وقرىء « نكسوا » بالتشديد ، ثم قالوا بعد أن نكسوا مخاطبين لإبراهيم { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ } أي : قائلين لإبراهيم لقد علمت أن النطق ليس من شأن هذه الأصنام ، فقال إبراهيم مبكتاً لهم ومزرياً عليهم : { أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً } من النفع { وَلاَ يَضُرُّكُمْ } بنوع من أنواع الضرر ، ثم تضجر عليه السلام منهم ، فقال : { أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } وفي هذا تحقير لهم ولمعبوداتهم ، واللام في { لكم } لبيان المتأفف به ، أي لكم ولآلهتكم ، والتأفف : صوت يدلّ على التضجر { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي ليس لكم عقول تتفكرون بها ، فتعلمون هذا الصنع القبيح الذي صنعتموه .
{ قَالُواْ حَرّقُوهُ } أي قال بعضهم لبعض لما أعيتهم الحيلة في دفع إبراهيم ، وعجزوا عن مجادلته ، وضاقت عليهم مسالك المناظرة ، حرّقوا إبراهيم . انصرافاً منهم إلى طريق الظلم والغشم ، وميلاً منهم إلى إظهار الغلبة بأي وجه كان ، وعلى أيّ أمر اتفق ، ولهذا قالوا : { وانصروا ءَالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فاعلين } أي انصروها بالانتقام من هذا الذي فعل بها ما فعل إن كنتم فاعلين للنصر . وقيل : هذا القائل هو نمروذ؛ وقيل : رجل من الأكراد . { قُلْنَا يا نار كُونِي بَرْداً وسلاما على إبراهيم } في الكلام حذف تقديره : فأضرموا النار ، وذهبوا بإبراهيم إليها ، فعند ذلك قلنا : يا نار كوني ذات بردٍ وسلامٍ . وقيل : إن انتصاب { سلاماً } على أنه مصدر لفعل محذوف ، أي وسلمنا سلاماً عليه { وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً } أي مكراً { فجعلناهم الاخسرين } أي أخسر من كل خاسر؛ ورددنا مكرهم عليهم؛ فجعلنا لهم عاقبة السوء؛ كما جعلنا لإبراهيم عاقبة الخير .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مرّوا عليه ، فقالوا : يا إبراهيم ألا تخرج معنا؟ قال : إني سقيم ، وقد كان بالأمس ، قال : { تالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } فسمعه ناس منهم . فلما خرجوا انطلق إلى أهله ، فأخذ طعاماً ثم انطلق إلى آلهتهم فقرّبه إليهم ، فقال : ألا تأكلون؟ فكسرها إلا كبيرهم ، ثم ربط في يده الذي كسر به آلهتهم ، فلما رجع القوم من عيدهم دخلوا ، فإذا هم بآلهتهم قد كسرت ، وإذا كبيرهم في يده الذي كسر به الأصنام ، قالوا : من فعل هذا بآلهتنا؟ فقال الذين سمعوا إبراهيم يقول : { تالله * لاكِيدَنَّ أصنامكم } : { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ } فجادلهم عند ذلك إبراهيم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { جُذَاذاً } قال : حطاماً .
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : فتاتاً .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } قال : عظيم آلهتهم . وأخرج أبو داود والترمذي [ وابن المنذر ] وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لم يكذب إبراهيم في شيء قط إلا في ثلاث كلهنّ في الله : قوله : { إِنّي سَقِيمٌ } ولم يكن سقيماً ، وقوله لسارة : أختي ، وقوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } » وهذا الحديث هو في الصحيحين من حديث أبي هريرة بأطول من هذا . وقد روى نحو هذا أبو يعلى من حديث أبي سعيد .
وأخرح ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لما جمع لإبراهيم ما جمع ، وألقي في النار جعل خازن المطر يقول : متى أومر بالمطر فأرسله؟ فكان أمر الله أسرع ، قال الله : { كُونِي بَرْداً وسلاما } فلم يبق في الأرض نار إلا طفئت . وأخرج أحمد وابن ماجه وابن حبان وأبو يعلى وابن أبي حاتم والطبراني عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن إبراهيم حين ألقي في النار لم تكن دابة إلا تطفىء عنه النار غير الوزغ فإنه كان ينفخ على إبراهيم » « فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وابن المنذر عن ابن عمر ، قال : أوّل كلمة قالها إبراهيم حين ألقي في النار { حسبنا الله ونعم الوكيل } [ آل عمران : 173 ] . وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في قوله : { قُلْنَا يانار كُونِي } قال : كان جبريل هو الذي ناداها . وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لو لم يتبع بردها سلاماً لمات إبراهيم من بردها . وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد ، وعبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عليّ نحوه . وأخرج ابن جرير عن معتمر بن سليمان التيمي عن بعض أصحابه قال : جاء جبريل إلى إبراهيم وهو يوثق ليلقى في النار ، فقال : يا إبراهيم ، ألك حاجة؟ قال : أما إليك فلا . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن كعب قال : ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن المنهال بن عمرو قال : أخبرت أن إبراهيم ألقي في النار ، فكان فيها إما خمسين وإما أربعين ، قال : ما كنت أياماً وليالي قط أطيب عيشاً إذ كنت فيها ، وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها .
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
قد تقدّم أن لوطاً هو ابن أخي إبراهيم ، فحكى الله سبحانه ها هنا أنه نجى إبراهيم ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين . قال المفسرون : وهي أرض الشام ، وكانا بالعراق وسماها سبحانه مباركة لكثرة خصبها وثمارها وأنهارها ، ولأنها معادن الأنبياء؛ وأصل البركة : ثبوت الخير ، ومنه برك البعير إذا لزم مكانه فلم يبرح . وقيل : الأرض المباركة : مكة ، وقيل : بيت المقدس ، لأن منها بعث الله أكثر الأنبياء ، وهي أيضاً كثيرة الخصب ، وقد تقدّم تفسير العالمين . ثم قال سبحانه ممتناً على إبراهيم { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } النافلة : الزيادة ، وكان إبراهيم قد سأل الله سبحانه أن يهب له ولداً ، فوهب له إسحاق ، ثم وهب لإسحاق يعقوب من غير دعاء ، فكان ذلك نافلة ، أي زيادة؛ وقيل : المراد بالنافلة هنا : العطية ، قاله الزجاج . وقيل : النافلة هنا : ولد الولد ، لأنه زيادة على الولد ، وانتصاب { نافلة } على الحال . قال الفراء : النافلة : يعقوب خاصة ، لأنه ولد الولد { وَكُلاًّ جَعَلْنَا صالحين } [ الأنبياء : 72 ] أي وكل واحد من هؤلاء الأربعة : إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب ، لا بعضهم دون بعض جعلناه صالحاً عاملاً بطاعة الله تاركاً لمعاصيه . وقيل : المراد بالصلاح هنا : النبوّة .
{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } أي رؤساء يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات ، ومعنى { بأمرنا } بأمرنا لهم بذلك ، أي بما أنزلنا عليهم من الوحي { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات } أي أن يفعلوا الطاعات . وقيل : المراد بالخيرات : شرائع النبوّات { وَكَانُواْ لَنَا عابدين } أي كانوا لنا خاصة دون غيرنا مطيعين ، فاعلين لما نأمرهم به ، تاركين ما ننهاهم عنه . { وَلُوطاً آتيناه حُكْماً وَعِلْماً } انتصاب { لوطاً } بفعل مضمر دلّ عليه قوله : { آتيناه } أي وآتينا لوطاً آتيناه . وقيل : بنفس الفعل المذكور بعده . وقيل : بمحذوف هو : اذكر ، والحكم : النبوّة . والعلم : المعرفة بأمر الدين . وقيل : الحكم : هو فصل الخصومات بالحق . وقيل : هو الفهم . { ونجيناه مِنَ القرية التي كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث } القرية هي سدوم كما تقدّم ، ومعنى { تعمل الخبائث } : يعمل أهلها الخبائث ، فوصفت القرية بوصف أهلها ، والخبائث التي كانوا يعملونها هي اللواطة والضراط وخذف الحصى كما سيأتي ، ثم علل سبحانه ذلك بقوله : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء فاسقين } أي خارجين عن طاعة الله . والفسوق : الخروج كما تقدّم .
{ وأدخلناه فِي رَحْمَتِنَا } بإنجائنا إياه من القوم المذكورين ، ومعنى في { رحمتنا } : في أهل رحمتنا . وقيل : في النبوّة . وقيل : في الإسلام . وقيل : في الجنة { إِنَّهُ مِنَ الصالحين } الذين سبقت لهم منّا الحسنى . { وَنُوحاً إِذْ نادى } أي واذكر نوحاً إذ نادى ربه { مِن قَبْلُ } أي : من قبل هؤلاء الأنبياء المذكورين { فاستجبنا لَهُ } دعاءه { فنجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم } أي من الغرق بالطوفان ، والكرب : الغمّ الشديد ، والمراد بأهله : المؤمنون منهم .
{ ونصرناه مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } أي نصرناه نصراً مستتبعاً للانتقام من القوم المذكورين . وقيل : المعنى منعناه من القوم . وقال أبو عبيدة : من بمعنى على ، ثم علل سبحانه ذلك بقوله : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء فأغرقناهم أَجْمَعِينَ } أي لم نترك منهم أحداً ، بل أغرقنا كبيرهم وصغيرهم بسبب إصرارهم على الذنب .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبيّ بن كعب في قوله : { إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا } قال : الشام . وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي مالك نحوه . وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال : لوط كان ابن أخي إبراهيم . وأخرج ابن جرير عنه { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق } قال : ولداً { وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } قال : ابن الابن . وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحكم نحوه أيضاً . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق } قال : أعطيناه { وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } قال : عطية .
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
قوله : { *وداود } معطوف على { نوحاً } ومعمول لعامله المذكور ، أو المقدّر كما مرّ { وسليمان } معطوف على داود ، والظرف في { إِذْ يَحْكُمَانِ } متعلق بما عمل في داود ، أي واذكرهما وقت حكمهما . والمراد من ذكرهما ذكر خبرهما . ومعنى { فِي الحرث } : في شأن الحرث . قيل : كان زرعاً . وقيل : كرماً ، واسم الحرث يطلق عليهما { إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ } أي : تفرقت وانتشرت فيه { غَنَمُ القوم } قال ابن السكيت : النفش بالتحريك أن تنتشر الغنم بالليل من غير راعِ { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهدين } أي لحكم الحاكمين ، وفيه جواز إطلاق الجمع على الاثنين ، وهو مذهب طائفة من أهل العربية كالزمخشري والرضيّ ، وتقدّمهما إلى القول به الفراء . وقيل : المراد : الحاكمان والمحكوم عليه . ومعنى { شاهدين } : حاضرين ، والجملة اعتراضية . وجملة { ففهمناها سليمان } معطوفة على { إذ يحكمان } لأنه في حكم الماضي ، والضمير في { ففهمناها } ، يعود إلى القضية المفهومة من الكلام ، أو الحكومة المدلول عليها بذكر الحكم . قال المفسرون : دخل رجلان على داود ، وعنده ابنه سليمان ، أحدهما : صاحب حرث ، والآخر صاحب غنم ، فقال صاحب الحرث : إن هذا انفلتت غنمه ليلاً فوقعت في حرثي فلم تبق منه شيئاً ، فقال : لك رقاب الغنم ، فقال سليمان : أو غير ذلك ، ينطلق أصحاب الكرم بالغنم فيصيبون من ألبانها ومنافعها ويقوم أصحاب الغنم على الكرم حتى إذا كان كليلة نفشت فيه دفع هؤلاء إلى هؤلاء غنمهم ، ودفع هؤلاء إلى هؤلاء كرمهم ، فقال داود : القضاء ما قضيت ، وحكم بذلك . قال النحاس : إنما قضى داود بالغنم لصاحب الحرث لأن ثمنها كانا قريباً منه ، وأما في حكم سليمان فقد قيل : كانت قيمة ما نال من الغنم ، وقيمة ما أفسدت الغنم سواء . قال جماعة من العلماء : إن داود حكم بوحي ، وحكم سليمان بوحي نسخ الله به حكم داود ، فيكون التفهيم على هذا بطريق الوحي . وقال الجمهور : إن حكمهما كان باجتهاد ، وكلام أهل العلم في حكم اجتهاد الأنبياء معروف ، وهكذا ما ذكره أهل العلم في اختلاف المجتهدين ، وهل كل مجتهد مصيب ، أو الحق مع واحد؟ وقد استدل المستدلون بهذه الآية على أن كل مجتهد مصيب ، ولا شك أنها تدل على رفع الإثم عن المخطىء ، وأما كون كل واحد منهما مصيباً ، فلا تدلّ عليه هذه الآية ولا غيرها ، بل صرّح الحديث المتفق عليه في الصحيحين وغيرهما أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران ، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر ، فسماه النبيّ صلى الله عليه وسلم مخطئاً ، فكيف يقال إنه مصيب لحكم الله موافق له ، فإن حكم الله سبحانه واحد لا يختلف باختلاف المجتهدين ، وإلا لزم توقف حكمه عزّ وجلّ على اجتهادات المجتهدين ، واللازم باطل فالملزوم مثله .
وأيضاً يستلزم أن تكون العين التي اختلف اجتهاد المجتهدين فيها بالحلّ والحرمة حلالاً حراماً في حكم الله سبحانه . وهذا اللازم باطل بالإجماع ، فالملزوم مثله . وأيضاً يلزم أن حكم الله سبحانه لا يزال يتجدد عند وجود كل مجتهد له اجتهاد في تلك الحادثة ، ولا ينقطع ما يريده الله سبحانه فيها إلا بانقطاع المجتهدين واللازم باطل فالملزوم مثله . وقد أوضحنا هذه المسألة بما لا مزيد عليه في المؤلف الذي سميناه «القول المفيد في حكم التقليد» وفي «أدب الطلب ومنتهى الأرب» فمن أحبّ الوقوف على تحقيق الحق فليرجع إليهما .
فإن قلت : فما حكم هذه الحادثة التي حكم فيها داود وسليمان في هذه الشريعة المحمدية ، والملة الإسلامية؟ قلت : قد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث البراء أنه شرع لأمته أن على أهل الماشية حفظها بالليل ، وعلى أصحاب الحوائط حفظها بالنهار ، وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أهلها ، وهذا الضمان هو مقدار الذاهب عيناً أو قيمة . وقد ذهب جمهور العلماء إلى العمل بما تضمنه هذا الحديث . وذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين إلى أن هذا الحكم منسوخ ، وأن البهائم إذا أفسدت زرعاً في ليل أو نهار أنه لا يلزم صاحبها شيء ، وأدخلوا فسادها في عموم قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : " جرح العجماء جبار " قياساً لجميع أفعالها على جرحها . ويجاب عنه بأن هذا القياس فاسد الاعتبار ، لأنه في مقابلة النص ، ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه يضمن ربّ الماشية ما أفسدته من غير فرق بين الليل والنهار . ويجاب عنه بحديث البراء .
ومما يدل على أن هذين الحكمين من داود وسليمان كانا بوحي من الله سبحانه لا باجتهاد . قوله : { وَكُلاًّ ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } فإن الله سبحانه أخبرنا بأنه أعطى كل واحد منهما هذين الأمرين ، وهما إن كانا خاصين فصدقهما على هذه القضية التي حكاها الله سبحانه عنهما مقدّم على صدقهما على غيرها ، وإن كانا عامين فهذا الفرد من الحكم والعلم ، وهو ما وقع من كل واحد منهما في هذه القضية أحق أفراد ذلك العام بدخوله تحته ودلالته عليه ، ومما يستفاد من ذلك دفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان بالتفهيم ، من عدم كون حكم داود حكماً شرعياً ، أي وكل واحد منهما أعطيناه حكماً وعلماً كثيراً ، لا سليمان وحده . ولما مدح داود وسليمان على سبيل الاشتراك ، ذكر ما يختص بكل واحد منهما ، فبدأ بداود فقال : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدُ الجبال يُسَبّحْنَ } التسبيح إما حقيقة أو مجاز ، وقد قال بالأوّل جماعة وهو الظاهر . وذلك أن داود كان إذا سبح سبحت الجبال معه . وقيل : إنها كانت تصلي معه إذا صلى ، وهو معنى التسبيح . وقال بالمجاز جماعة آخرون وحملوا التسبيح على تسبيح من رآها تعجباً من عظيم خلقها وقدرة خالقها .
وقيل : كانت الجبال تسير مع داود ، فكان من رآها سائرة معه سبح { والطير } معطوف على الجبال ، وقرىء بالرفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف ، أي والطير مسخرات ، ولا يصح العطف على الضمير في { يسبحن } لعدم التأكيد والفصل { وَكُنَّا فاعلين } يعني ما ذكر من التفهيم ، وإيتاء الحكم والتسخير { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ } اللبوس عند العرب : السلاح كله درعاً كان أو جوشناً ، أو سيفاً ، أو رمحاً . قال الهذلي :
وعندي لبوس في اللباس كأنه ... والمراد في الآية الدروع خاصة ، وهو بمعنى الملبوس ، كالركوب والحلوب ، والجار والمجرور أعني لكم متعلق بعلمنا { لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ } قرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر وحفص وروح { لتحصنكم } بالتاء الفوقية ، بإرجاع الضمير إلى الصنعة ، أو إلى اللبوس بتأويل الدرع . وقرأ شيبة وأبو بكر والمفضل وابن أبي إسحاق « لنحصنكم » بالنون بإرجاع الضمير إليه سبحانه . وقرأ الباقون بالياء بإرجاع الضمير إلى اللبوس ، أو إلى داود ، أو إلى الله سبحانه . ومعنى { مّن بَأْسِكُمْ } : من حربكم ، أو من وقع السلاح فيكم { فَهَلْ أَنتُمْ شاكرون } لهذه النعمة التي أنعمنا بها عليكم ، والاستفهام في معنى الأمر .
ثم ذكر سبحانه ما خص به سليمان . فقال : { ولسليمان الريح } أي وسخرنا له الريح { عَاصِفَةً } أي شديدة الهبوب . يقال : عصفت الريح ، أي اشتدت ، فهي ريح عاصف وعصوف ، وانتصاب { الريح } على الحال . وقرأ عبد الرحمن الأعرج والسلمي وأبو بكر { ولسليمان الريح } برفع الريح على القطع مما قبله ، ويكون مبتدأ وخبره تجري ، وأما على قراءة النصب فيكون محل { تَجْرِي بِأَمْرِهِ } النصب أيضاً على الحالية ، أو على البدلية { إِلَى الأرض التى بَارَكْنَا فِيهَا } وهي أرض الشام كما تقدّم { وَكُنَّا بِكُلّ شَيْء عالمين } أي بتدبير كلّ شيء { وَمِنَ الشياطين } أي وسخرنا من الشياطين { مَن يَغُوصُونَ لَهُ } في البحار ويستخرجون منها ما يطلبه منهم . وقيل : إن « من » مبتدأ وخبره ما قبله ، والغوص : النزول تحت الماء ، يقال : غاص في الماء ، والغوّاص : الذي يغوص في البحر على اللؤلؤ { وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك } قال الفراء : أي سوى ذلك ، وقيل : يراد بذلك المحاريب والتماثيل وغير ذلك مما يسخرهم فيه { وَكُنَّا لَهُمْ حافظين } أي لأعمالهم . وقال الفراء : حافظين لهم من أن يهربوا أو يتمنعوا ، أو حفظناهم من أن يخرجوا عن أمره . قال الزجاج : كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوا ، وكان دأبهم أن يفسدوا بالليل ما عملوا بالنهار .
{ وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ } معطوف على ما قبله ، والعامل فيه : إما المذكور أو المقدّر كما مرّ ، والعامل في الظرف وهو { إذ نادى ربه } هو العامل في أيوب { أَنّي مَسَّنِيَ الضر } أي بأني مسني الضرّ .
وقرىء بكسر « إني » .
واختلف في الضرّ الذي نزل به ماذا هو؟ فقيل : إنه قام ليصلي فلم يقدر على النهوض . وقيل : إنه أقرّ بالعجز ، فلا يكون ذلك منافياً للصبر . وقيل : انقطع الوحي عنه أربعين يوماً . وقيل : إن دودة سقطت من لحمه ، فأخذها وردّها في موضعها فأكلت منه ، فصاح : مسني الضرّ؛ وقيل : كان الدود تناول بدنه فيصبر حتى تناولت دودة قلبه . وقيل : إن ضرّه قول إبليس لزوجته : اسجدي لي ، فخاف ذهاب إيمانها ، وقيل : إنه تقذره قومه . وقيل : أراد بالضرّ الشماتة ، وقيل : غير ذلك . ولما نادى ربه متضرّعاً إليه وصفه بغاية الرحمة فقال : { وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين } فأخبر الله سبحانه باستجابته لدعائه ، فقال : { فاستجبنا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ } أي شفاه الله مما كان به وأعاضه بما ذهب عليه ، ولهذا قال سبحانه : { وآتيناه أهله ومثلهم معهم } قيل : تركهم الله عزّ وجلّ له ، وأعطاه مثلهم في الدنيا . قال النحاس : والإسناد بذلك صحيح ، وقد كان مات أهله جميعاً إلا امرأته ، فأحياهم الله في أقلّ من طرف البصر ، وآتاه مثلهم معهم . وقيل : كان ذلك بأن ولد له ضعف الذين أماتهم الله ، فيكون معنى الآية على هذا : آتيناه مثل أهله ومثلهم معهم ، وانتصاب { رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا } على العلة أي آتيناه ذلك لرحمتنا له { وذكرى للعابدين } أي وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر .
واختلف في مدّة إقامته على البلاء : فقيل : سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ليال . وقيل : ثلاثين سنة . وقيل : ثماني عشرة سنة .
{ وإسماعيل وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل } أي واذكر هؤلاء ، وإدريس هو أخنوخ ، وذا الكفل : إلياس . وقيل : يوشع بن نون . وقيل : زكريا . والصحيح أنه رجل من بني إسرائيل كان لا يتورّع عن شيء من المعاصي ، فتاب فغفر الله له . وقيل : إن اليسع لما كبر قال : من يتكفل لي بكذا وكذا من خصال الخير حتى أستخلفه؟ فقال رجل : أنا ، فاستخلفه وسمي ذا الكفل . وقيل : كان رجلاً يتكفل بشأن كل إنسان إذا وقع في شيء من المهمات ، وقيل غير ذلك . وقد ذهب الجمهور إلى أنه ليس بنبيّ . وقال جماعة : هو نبيّ . ثم وصف الله سبحانه هؤلاء بالصبر فقال : { كُلٌّ مّنَ الصابرين } أي كل واحد من هؤلاء من الصابرين على القيام بما كلفهم الله به . { وأدخلناهم فِى رَحْمَتِنَا } أي في الجنة ، أو في النبوّة ، أو في الخير على عمومه ، ثم علل ذلك بقوله : { إِنَّهُمْ مّنَ الصالحين } أي : الكاملين في الصلاح { وَذَا النون } أي واذكر ذا النون ، وهو يونس بن متى ، ولقب ذا النون لابتلاع الحوت له . فإن النون من أسماء الحوت ، وقيل : سمي ذا النون لأنه رأى صبياً مليحاً فقال : دسموا نونته ، لئلا تصيبه العين .
وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي أن نونة الصبيّ هي الثقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير ، ومعنى دسموا سوّدوا { إِذ ذَّهَبَ مغاضبا } أي اذكر ذا النون وقت ذهابه مغاضباً ، أي مراغماً . قال الحسن والشعبي وسعيد بن جبير : ذهب مغاضباً لربه ، واختاره ابن جرير والقتيبي والمهدوي . وحكى عن ابن مسعود : قال النحاس : وربما أنكر هذا من لا يعرف اللغة ، وهو قول صحيح . والمعنى : مغاضباً من أجل ربه ، كما تقول غضبت لك ، أي من أجلك . وقال الضحاك : ذهب مغاضباً لقومه ، وحكي عن ابن عباس . وقالت فرقة منهم الأخفش : إنما خرج مغاضباً للملك الذي كان في وقته واسمه حزقيا وقيل : لم يغاضب ربه ولا قومه ولا الملك ، ولكنه مأخوذ من غضب إذا أنف ، وذلك أنه لما وعد قومه بالعذاب وخرج عنهم تابوا وكشف الله عنهم العذاب فلما رجع وعلم أنهم لم يهلكوا أنف من ذلك فخرج عنهم ، ومن استعمال الغضب في هذا المعنى قول الشاعر :
وأغضب أن تهجى تميم بعامر ... أي آنف { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } قرأ الجمهور { نقدر } بفتح النون وكسر الدال .
واختلف في معنى الآية على هذه القراءة . فقيل : معناها : أنه وقع في ظنه أن الله تعالى لا يقدر على معاقبته . وقد حكي هذا القول عن الحسن وسعيد بن جبير ، وهو قول مردود ، فإن هذا الظنّ بالله كفر؛ ومثل ذلك لا يقع من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . وذهب جمهور العلماء أن معناها : فظنّ أن لن نضيق عليه ، كقوله : { يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ } [ الشورى : 12 ] ، أي يضيق ، ومنه قوله : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] . يقال : وقَدَر وقُدِر وقَتَر وقُتِر ، أي ضيق . وقيل : هو من القدر الذي هو القضاء والحكم ، أي فظنّ أن لن نقضي عليه العقوبة ، قاله قتادة ومجاهد ، واختاره الفراء والزجاج ، مأخوذ من القدر وهو الحكم دون القدرة والاستطاعة . قال أحمد بن يحيى ثعلب : هو من التقدير ليس من القدرة ، يقال منه : قدّر الله لك الخير يقدره قدراً ، وأنشد ثعلب :
فليست عشيات اللوى برواجع ... لنا أبداً ما أروق السلم النضر
ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى ... تباركت ما تقدر مع ذلك الشكر
أي ما تقدره وتقضي به ، ومما يؤيد ما قاله هؤلاء قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري : « فظنّ أن لن نقدّر » بضم النون وتشديد الدال من التقدير . وحكى هذه القراءة الماوردي عن ابن عباس ، ويؤيد ذلك أيضاً قراءة عبيد بن عمير وقتادة والأعرج : « أن لن يقدّر » بضم الياء والتشديد مبنياً للمفعول ، وقرأ يعقوب وعبد الله بن أبي إسحاق والحسن : « يقدر » بضم الياء وفتح الدال مخففاً مبنياً للمفعول .
وقد اختلف العلماء في تأويل الحديث الصحيح في قول الرجل الذي لم يعمل خيراً قط لأهله أن يحرقوه إذا مات ، ثم قال : فوالله لئن قدّر الله عليّ .