كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني
وقال المهدوي : لمراد ثم لغطفان؛ وأما يعوق فكان لهمدان في قول قتادة ، وعكرمة ، وعطاء . وقال الثعلبي : كان لكهلان بن سبأ ، ثم توارثوه حتى صار في همدان ، وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني :
يريش الله في الدنيا ويبري ... ولا يبري يعوق ولا يريش
وأما نسر فكان لذي الكلاع من حمير في قول قتادة ، ومقاتل . قرأ الجمهور : { ودّاً } بفتح الواو . وقرأ نافع بضمها . قال الليث : ودّ بضم الواو صنم لقريش ، وبفتحها صنم كان لقوم نوح ، وبه سمي عمرو بن ودّ . قال في الصحاح . والودّ بالفتح : الوتد في لغة أهل نجد كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال . وقرأ الجمهور : { ولا يغوث ويعقوق } بغير تنوين ، فإن كانا عربيين ، فالمنع من الصرف للعلمية ووزن الفعل ، وإن كانا عجميين ، فللعجمة والعلمية . وقرأ الأعمش : { ولا يغوثا ويعوقا } بالصرف . قال ابن عطية : وذلك وهم . ووجه تخصيص هذه الأصنام بالذكر مع دخولها تحت الإلهة؛ لأنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها { وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً } أي : أضلّ كبراؤهم ورؤساؤهم كثيراً من الناس . وقيل : الضمير راجع إلى الأصنام : أي : ضلّ بسببها كثير من الناس كقول إبراهيم : { رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس } [ إبراهيم : 36 ] وأجرى عليهم ضمير من يعقل لاعتقاد الكفار الذين يعبدونها أنها تعقل . { وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً } معطوف على { رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى } ووضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم . وقال أبو حيان : إنه معطوف على قد أضلوا ، ومعنى : { إِلاَّ ضَلاَلاً } إلاّ عذاباً : كذا قال ابن بحر ، واستدلّ على ذلك بقوله : { إِنَّ المجرمين فِى ضلال وَسُعُرٍ } [ القمر : 47 ] . وقيل : إلاّ خسراناً . وقيل : إلاّ فتنة بالمال والولد . وقيل : الضياع . وقيل : ضلالاً في مكرهم .
{ مّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ } «ما» مزيدة للتأكيد ، والمعنى : من خطيئاتهم ، أي من أجلها وبسببها أغرقوا بالطوفان { فَأُدْخِلُواْ نَاراً } عقب ذلك ، وهي نار الآخرة . وقيل : عذاب القبر . قرأ الجمهور : { خطيئاتهم } على جمع السلامة ، وقرأ أبو عمرو : «خطاياهم» على جمع التكسير ، وقرأ الجحدري ، وعمرو بن عبيد ، والأعمش ، وأبو حيوة ، وأشهب العقيلي : " خطيئتهم " على الإفراد ، قال الضحاك عذبوا بالنار في الدنيا مع الغرق في حالة واحدة كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في جانب . قرأ الجمهور : { أغرقوا } من أغرق ، وقرأ زيد بن عليّ : " غرقوا " بالتشديد . { فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ الله أَنصَاراً } أي : لم يجدوا أحداً يمنعهم من عذاب الله ويدفعه عنهم .
{ وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الارض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } معطوف على { قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى } لما أيس نوح عليه السلام من إيمانهم وإقلاعهم عن الكفر دعا عليهم بالهلاك . قال قتادة : دعا عليهم بعد أن أوحي إليه :
{ إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } [ هود : 36 ] فأجاب الله دعوته وأغرقهم . وقال محمد بن كعب ، ومقاتل ، والربيع بن أنس ، وابن زيد ، وعطية : إنما قال هذا حين أخرج الله كلّ مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم ، وأعقم أرحام النساء وأصلاب الآباء قبل العذاب بسبعين سنة . وقيل : بأربعين . قال قتادة : لم يكن فيهم صبيّ وقت العذاب . وقال الحسن ، وأبو العالية : لو أهلك الله أطفالهم معهم كان عذاباً من الله لهم ، وعدلاً فيهم ، ولكن أهلك ذرّيتهم وأطفالهم بغير عذاب ، ثم أهلكهم بالعذاب ، ومعنى { دَيَّاراً } : من يسكن الديار ، وأصله ديوار على فيعال ، من دار يدور ، فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى ، مثل القيام أصله قيوام ، وقال القتيبي : أصله من الدار أي : نازل بالدار . يقال : ما بالدار ديار أي : أحد . وقيل الديار : صاحب الديار ، والمعنى : لا تدع أحداً منهم إلاّ أهلكته { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ } أي : إن تتركهم على الأرض يضلوا عبادك عن طريق الحقّ { وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } أي : إلاّ فاجراً بترك طاعتك كفاراً لنعمتك أي : كثير الكفران لها ، والمعنى : إلاّ من سيفجر ويكفر .
ثم لما دعا على الكافرين أتبعه بالدعاء لنفسه ووالديه والمؤمنين ، فقال : { رَّبّ اغفر لِى ولوالدى } وكانا مؤمنين ، وأبوه لامك بن متوشلخ ، كما تقدّم ، وأمه سمحاء بنت أنوش ، وقيل : أراد آدم وحواء . وقال سعيد بن جبير : أراد بوالديه أباه وجدّه . وقرأ سعيد بن جبير : « ولوالدي » بكسر الدال على الإِفراد . { وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ } قال الضحاك ، والكلبي : يعني مسجده ، وقيل : منزله الذي هو ساكن فيه ، وقيل : سفينته . وقيل : لمن دخل في دينه ، وانتصاب { مُؤْمِناً } على الحال ، أي : لمن دخل بيتي متصفاً بصفة الإيمان ، فيخرج من دخله غير متصف بهذه الصفة كامرأته وولده الذي قال : { سَآوِى إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الماء } [ هود : 43 ] ثم عمم الدعوة ، فقال : { وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات } أي : واغفر لكل متصف بالإيمان من الذكور والإناث . ثم عاد إلى الدعاء على الكافرين ، فقال : { وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً } أي : لا تزد المتصفين بالظلم إلاّ هلاكاً ، وخسراناً ودماراً وقد شمل دعاؤه هذا كل ظالم إلى يوم القيامة ، كما شمل دعاؤه للمؤمنين والمؤمنات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } قال : هذه الأصنام كانت تعبد في زمن نوح . وأخرج البخاري ، وابن المنذر ، وابن مردويه عنه قال : صارت الأوثان التي كانت تعبد في قوم نوح في العرب : أما ودّ فكانت لكلب بدومة الجندل ، وأما سواع فكانت لهذيل ، وأما يغوث فكانت لمراد ، ثم لبني غطيف ، وأما يعوق فكانت لهمدان ، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع ، أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجلسهم الذي كانوا يجلسون فيه أنصاباً ، وسموها بأسمائهم ففعلوا ، فلم تعبد حتى هلك أولئك ونسخ العلم فعبدت .
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)
قوله : { قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ } قرأ الجمهور : { أوحى } رباعياً . وقرأ ابن أبي عبلة ، وأبو إياس ، والعتكي عن أبي عمرو : « وحي » ثلاثياً ، وهما لغتان . واختلف هل رآهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أم لم يرهم؟ فظاهر القرآن أنه لم يرهم؛ لأن المعنى : قل يا محمد لأمتك : أوحي إليّ على لسان جبريل { أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن } ومثله قوله : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرءان } [ الأحقاف : 29 ] ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنّ وما رآهم . قال عكرمة : والسورة التي كان يقرؤها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي { اقرأ باسم رَبّكَ الذى خَلَقَ } [ العلق : 1 ] وقد تقدّم في سورة الأحقاف ذكر ما يفيد زيادة في هذا . قوله : { أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن } هذا هو القائم مقام الفاعل ، ولهذا فتحت أنّ ، والضمير للشأن ، وعند الكوفيين والأخفش يجوز أن يكون القائم مقام الفاعل الجارّ والمجرور ، والنفر اسم للجماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة . قال الضحاك : والجنّ ولد الجانّ وليسوا شياطين . وقال الحسن : إنهم ولد إبليس . قيل : هم أجسام عاقلة خفية تغلب عليهم النارية والهوائية . وقيل : نوع من الأرواح المجرّدة . وقيل : هي النفوس البشرية المفارقة لأبدانها .
وقد اختلف أهل العلم في دخول مؤمني الجنّ الجنة ، كما يدخل عصاتهم النار لقوله في سورة تبارك : { وجعلناها رُجُوماً للشياطين وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير } [ الملك : 5 ] وقول الجنّ فيما سيأتي في هذه السورة : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] وغير ذلك من الآيات ، فقال الحسن : يدخلون الجنة ، وقال مجاهد : لا يدخلونها ، وإن صرفوا عن النار . والأوّل أولى لقوله في سورة الرحمن : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ } [ الرحمن : 56 ] وفي سورة الرحمن آيات غير هذه تدل على ذلك فراجعها ، وقد قدّمنا أن الحق أنه لم يرسل الله إليهم رسلاً منهم ، بل الرسل جميعاً من الإنس ، وإن أشعر قوله : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ } [ الزمر : 71 ] بخلاف هذا ، فهو مدفوع الظاهر بآيات كثيرة في الكتاب العزيز دالة على أن الله سبحانه لم يرسل الرسل إلاّ من بني آدم ، وهذه الأبحاث الكلام فيها يطول ، والمراد الإشارة بأخصر عبارة .
{ فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً } أي : قالوا لقومهم لما رجعوا إليهم ، أي : سمعنا كلاماً مقروءاً عجباً في فصاحته وبلاغته . وقيل : عجباً في مواعظه . وقيل : في بركته ، وعجباً مصدر وصف به للمبالغة ، أو على حذف المضاف ، أي : ذا عجب ، أو المصدر بمعنى اسم الفاعل أي : معجباً { يَهْدِى إِلَى الرشد } أي : إلى مراشد الأمور ، وهي الحقّ والصواب ، وقيل : إلى معرفة الله ، والجملة صفة أخرى للقرآن { فآمنا به } أي : صدّقنا به بأنه من عند الله { وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً } من خلقه ، ولا نتخذ معه إلها آخر؛ لأنه المتفرّد بالربوبية ، وفي هذا توبيخ للكفار من بني آدم حيث آمنت الجنّ بسماع القرآن مرّة واحدة ، وانتفعوا بسماع آيات يسيرة منه ، وأدركوا بعقولهم أنه كلام الله وآمنوا به ، ولم ينتفع كفار الإنس لا سيما رؤساؤهم وعظماؤهم بسماعه مرّات متعدّدة ، وتلاوته عليهم في أوقات مختلفة مع كون الرسول منهم يتلوه عليهم بلسانهم لا جرم صرعهم الله أذلّ مصرع ، وقتلهم أقبح مقتل ، ولعذاب الآخرة أشدّ لو كانوا يعلمون .
{ وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا } قرأه حمزة ، والكسائي ، وابن عامر ، وحفص ، وعلقمة ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش ، وخلف ، والسلمي : { وأنه تعالى } بفتح أنّ ، وكذا قرءوا فيما بعدها مما هو معطوف عليها ، وذلك أحد عشر موضعاً إلى قوله : { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله } [ الجن : 19 ] ، وقرأ الباقون بالكسر في هذه المواضع كلها إلاّ في قوله : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } [ الجن : 18 ] فإنهم اتفقوا على الفتح ، أما من قرأ بالفتح في هذه المواضع ، فعلى العطف على محل الجار ، والمجرور في { فآمنا به } كأنه قيل : فصدّقناه ، وصدّقنا أنه تعالى جدّ ربنا إلخ ، وأما من قرأ بالكسر في هذه المواضع ، فعلى العطف على { إنا سمعنا } ، أي : فقالوا : إنا سمعنا قرآناً ، وقالوا : إنه تعالى جدّ ربنا إلى آخره . واختار أبو حاتم ، وأبو عبيد قراءة الكسر؛ لأنه كله من كلام الجنّ ومما هو محكيّ عنهم بقوله : { فقالوا إنا سمعنا } . وقرأ أبو جعفر ، وشعبة بالفتح في ثلاثة مواضع ، وهي : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا } { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس } قالا : لأنه من الوحي ، وكسرا ما بقي لأنه من كلام الجنّ . وقرأ الجمهور : { وأنه لما قام عبد الله } [ الجن : 19 ] بالفتح؛ لأنه معطوف على قوله : { أَنَّهُ استمع } . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وشيبة ، وزرّ بن حبيش ، وأبو بكر ، والمفضل عن عاصم بالكسر في هذا الموضع عطفاً على فآمنا به بذلك التقدير السابق ، واتفقوا على الفتح في { أَنَّهُ استمع } ، كما اتفقوا على الفتح في { أن المساجد } [ الجن : 18 ] وفي { وَإِنَّ استقاموا } [ الجن : 16 ] واتفقوا على الكسر في : { فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا } و { قُلْ إِنَّمَا ادعوا رَبّى } [ الجن : 20 ] و : { قُلْ إِنْ أَدْرِى } [ الجن : 25 ] و : { قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ } [ الجن : 21 ] . والجدّ عند أهل اللغة العظمة والجلال ، يقال : جدّ في عيني أي : عظم ، فالمعنى : ارتفع عظمة ربنا وجلاله ، وبه قال عكرمة ، ومجاهد ، وقال الحسن : المراد تعالى غناه ، ومنه قيل للحظ ، جدّ : ورجل مجدود أي : محظوظ ، وفي الحديث : «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» قال أبو عبيد ، والخليل أي : لا ينفع ذا الغنى منك الغنى أي : إنما تنفعه الطاعة ، وقال القرطبي ، والضحاك : جدّه آلاؤه ، ونعمه على خلقه .
وقال أبو عبيدة ، والأخفش : ملكه وسلطانه . وقال السديّ : أمره . وقال سعيد بن جبير : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا } أي : تعالى ربنا وقيل : جدّه قدرته . وقال محمد بن عليّ بن الحسين ، وابنه جعفر الصادق ، والربيع بن أنس : ليس لله جدّ ، وإنما قالته الجنّ للجهالة . قرأ الجمهور : « جدّ » بفتح الجيم ، وقرأ عكرمة ، وأبو حيوة ، ومحمد بن السميفع بكسر الجيم ، وهو ضدّ الهزل ، وقرأ أبو الأشهب : « جدي ربنا » أي : جدواه ومنفعته . وروي عن عكرمة أيضاً أنه قرأ بتنوين ( جدّ ) ورفع ( ربنا ) على أنه بدل من جدّ { مَا اتخذ صاحبة وَلاَ وَلَداً } هذا بيان لتعالى جدّه سبحانه . قال الزجاج : تعالى جلال ربنا وعظمته عن أن يتخذ صاحبة أو ولداً ، وكأن الجن نبهوا بهذا على خطأ الكفار الذين ينسبون إلى الله الصاحبة والولد ، ونزّهوا الله سبحانه عنهما .
{ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطاً } الضمير في { أنه } للحديث ، أو الأمر ، { وسفيهنا } يجوز أن يكون اسم كان ، و { يقول } الخبر ، ويجوز أن يكون سفيهنا فاعل يقول ، والجملة خبر كان ، واسمها ضمير يرجع إلى الحديث ، أو الأمر ، ويجوز أن تكون كان زائدة ، ومرادهم بسفيههم عصاتهم ومشركوهم . وقال مجاهد ، وابن جريج ، وقتادة : أرادوا به إبليس ، والشطط : الغلوّ في الكفر . وقال أبو مالك : الجور ، وقال الكلبي : الكذب ، وأصله البعد عن القصد ومجاوزة الحدّ ، ومنه قول الشاعر :
بأية حال حكموا فيك فاشتطوا ... وما ذاك إلاّ حيث يممك الوخط
{ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً } أي : إنا حسبنا أن الإنس والجنّ كانوا لا يكذبون على الله بأن له شريكاً وصاحبة وولداً ، فلذلك صدّقناهم في ذلك حتى سمعنا القرآن ، فعلمنا بطلان قولهم ، وبطلان ما كنا نظنه بهم من الصدق ، وانتصاب كذباً على أنه مصدر مؤكد ليقول؛ لأن الكذب نوع من القول ، أو صفة لمصدر محذوف ، أي : قولاً كذباً . وقرأ يعقوب ، والجحدري ، وابن أبي إسحاق : « أن لن تقوّل » من التقوّل ، فيكون على هذه القراءة كذباً مفعول به { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن } قال الحسن ، وابن زيد ، وغيرهما : كان العرب إذا نزل الرجل بوادٍ قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه ، فيبيت في جواره حتى يصبح ، فنزلت هذه الآية . قال مقاتل : كان أوّل من تعوّذ بالجنّ قوم من أهل اليمن ، ثم من بني حنيفة ، ثم فشا ذلك في العرب ، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم { فَزَادوهُمْ رَهَقاً } أي : زاد رجال الجنّ من تعوذ بهم من رجال الإنس رهقاً أي : سفهاً وطغياناً ، أو تكبراً وعتوّاً ، أو زاد المستعيذون من رجال الإنس من استعاذوا بهم من رجال الجنّ رهقاً؛ لأن المستعاذ بهم كانوا يقولون : سدنا الجنّ والإنس .
وبالأوّل قال مجاهد ، وقتادة ، وبالثاني قال أبو العالية ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وابن زيد . والرهق في كلام العرب : الإثم وغشيان المحارم ، ورجل رهق : إذا كان كذلك ، ومنه قوله : { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } [ المعارج : 44 ] أي : تغشاهم ، ومنه قول الأعشى :
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ... هل يشتفي عاشق ما لم يصب رهقا
يعني : إثماً . وقيل : الرهق : الخوف ، أي : أن الجنّ زادت الإنس بهذا التعوّذ بهم خوفاً منهم . وقيل : كان الرجل من الإنس يقول : أعوذ بفلان من سادات العرب من جنّ هذا الوادي ، ويؤيد هذا ما قيل من أن لفظ رجال لا يطلق على الجنّ ، فيكون قوله : { بِرِجَالٍ } وصفاً لمن يستعيذون به من رجال الإنس ، أي : يعوذون بهم من شرّ الجن ، وهذا فيه بعد ، وإطلاق لفظ رجال على الجنّ على تسليم عدم صحته لغة لا مانع من إطلاقه عليهم هنا من باب المشاركة . { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً } هذا من قول الجنّ للإنس ، أي : وإن الجنّ ظنوا كما ظننتم أيها الإنس أنه لا بعث . وقيل المعنى : وإن الإنس ظنوا ، كما ظننتم أيها الجنّ ، والمعنى : أنهم لا يؤمنون بالبعث كما أنكم لا تؤمنون . { وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء } هذا من قول الجنّ أيضاً ، أي : طلبنا خبرها ، كما به جرت عادتنا { فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً } من الملائكة يحرسونها عن استراق السمع ، والحرس جمع حارس ، و { شَدِيداً } صفة ل { حرساً } أي : قوياً { وَشُهُباً } جمع شهاب ، وهو الشعلة المقتبسة من نار الكوكب ، كما تقدّم بيانه في تفسير قوله : { وجعلناها رُجُوماً للشياطين } [ الملك : 5 ] ومحل قوله : { مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً } النصب على أنه ثاني مفعولي وجدنا؛ لأنه يتعدّى إلى مفعولين ، ويجوز أن يكون متعدّياً إلى مفعول واحد ، فيكون محل الجملة النصب على الحال بتقدير قد ، وحرساً منصوب على التمييز ، ووصفه بالمفرد اعتباراً باللفظ ، كما يقال : السلف الصالح ، أي : الصالحين .
{ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ } أي : وأنا كنا معشر الجنّ قبل هذا نقعد من السماء مقاعد للسمع ، أي : مواضع نقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء ، وللسمع متعلق ، ب { نقعد } أي : لأجل السمع ، أو بمضمر هو صفة لمقاعد ، أي : مقاعد كائنة للسمع ، والمقاعد جمع مقعد اسم مكان ، وذلك أن مردة الجنّ كانوا يفعلون ذلك؛ ليسمعوا من الملائكة أخبار السماء؛ فيلقونها إلى الكهنة ، فحرسها الله سبحانه ببعثه رسوله صلى الله عليه وسلم بالشهب المحرقة ، وهو معنى قوله : { فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } أي : أرصد له ليرمى به ، أو لأجله لمنعه من السماع ، وقوله : { الئان } هو ظرف للحال ، واستعير للاستقبال ، وانتصاب { رصداً } على أنه صفة ل { شهاباً } ، أو مفعول له ، وهو مفرد ويجوز أن يكون اسم جمع كالحرس .
وقد اختلفوا هل كانت الشياطين ترمى بالشهب قبل المبعث أم لا؟ فقال قوم : لم يكن ذلك . وحكى الواحدي عن معمر قال : قلت للزهري : أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال : نعم ، قلت : أفرأيت قوله : { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا } الآية ، قال : غلظت وشدد أمرها حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم . قال ابن قتيبة : إن الرجم قد كان قبل مبعثه ، ولكنه لم يكن مثله في شدّة الحراسة بعد مبعثه ، وكانوا يسترقون في بعض الأحوال ، فلما بعث منعوا من ذلك أصلاً . وقال عبد الملك بن سابور : لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرست السماء ورميت الشياطين بالشهب ، ومنعت من الدنوّ إلى السماء . وقال نافع بن جبير : كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا ترمى ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رميت بالشهب ، وقد تقدّم البحث عن هذا { وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } أي : لا ندري أشرّ أريد بأهل الأرض بسبب هذه الحراسة للسماء ، أم أراد بهم ربهم رشداً ، أي : خيراً . قال ابن زيد : قال إبليس : لا ندري أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عذاباً ، أو يرسل إليهم رسولاً ، وارتفاع { أَشِرٌ } على الاشتغال ، أو على الابتداء ، وخبره ما بعده ، والأوّل أولى ، والجملة سادّة مسدّ مفعولي ندري ، والأولى أن هذا من قول الجنّ فيما بينهم ، وليس من قول إبليس كما قال ابن زيد { وَأَنَّا مِنَّا الصالحون } أي : قال بعض لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد : وأنا كنا قبل استماع القرآن منا الموصوفون بالصلاح { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } أي : قوم دون ذلك ، أي : دون الموصوفين بالصلاح . وقيل : أراد بالصالحون المؤمنين ، وبمن هم دون ذلك الكافرين ، والأوّل أولى ، ومعنى { كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً } أي : جماعات متفرقة وأصنافاً مختلفة ، والقدة : القطعة من الشيء ، وصار القوم قدداً : إذا تفرقت أحوالهم ، ومنه قول الشاعر :
القابض الباسط الهادي لطاعته ... في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد
والمعنى : كنا ذوي طرائق قدداً ، أو كانت طرائقنا طرائق قدداً ، أو كنا مثل طرائق قدداً ومن هذا قول لبيد :
لم تبلغ العين كل نهمتها ... يوم تمشي الجياد بالقدد
وقوله أيضاً :
ولقد قلت وزيد حاسر ... يوم ولت خيل عمرو قدداً
قال السديّ ، والضحاك : أدياناً مختلفة ، وقال قتادة : أهواء متباينة . وقال سعيد بن المسيب : كانوا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس وكذا قال مجاهد . قال الحسن : الجنّ أمثالكم قدرية ، ومرجئة ، ورافضة ، وشيعة ، وكذا قال السديّ : { وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِى الأرض } الظنّ هنا بمعنى العلم واليقين ، أي : وإنا علمنا أن الشأن لن نعجز الله في الأرض أينما كنا فيها ، ولن نفوته إن أراد بنا أمراً { وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } أي : هاربين منها ، فهو مصدر في موضع الحال .
{ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى } يعنون القرآن { آمنا به } وصدّقنا أنه من عبد الله ولم نكذب به ، كما كذبت به كفرة الإنس { فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } أي : لا يخاف نقصاً في عمله وثوابه ، ولا ظلماً ومكروهاً يغشاه ، والبخس النقصان ، والرهق العدوان والطغيان ، والمعنى : لا يخاف أن ينقص من حسناته ، ولا أن يزاد في سيئاته ، وقد تقدّم تحقيق الرهق قريباً . قرأ الجمهور : { بخساً } بسكون الخاء . وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها . وقرأ يحيى بن وثاب ، والأعمش : « فلا يخف » جزماً على جواب الشرط ، ولا وجه لهذا بعد دخول الفاء ، والتقدير : فهو لا يخاف ، والأمر ظاهر .
وقد أخرج أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وغيرهم عن ابن عباس قال : انطلق النبيّ صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلاّ شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها؛ لتعرفوا ما هذا الأمر الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له قالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهناك حين رجعوا إلى قومهم { فَقَالُواْ } يا قومنا { قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ يَهْدِى إِلَى الرشد فَئَامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً } فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم { قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن } وإنما أوحي إليه قول الجنّ .
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : { قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن } قال : كانوا من جنّ نصيبين .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا } قال : آلاؤه وعظمته . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : أمره وقدرته . وأخرج ابن مردويه ، والديلمي ، قال السيوطي بسندٍ واهٍ عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً في قوله : { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } قال : إبليس . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والعقيلي في الضعفاء ، والطبراني ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن عكرمة بن أبي السائب الأنصاري قال : خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة ، وذلك أوّل ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف الليل جاء ذئب ، فأخذ حملاً من الغنم ، فوثب الراعي فقال : يا عامر الوادي أنا جارك ، فنادى منادٍ يا سرحان أرسله ، فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم وأنزل الله على رسوله بمكة { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن } الآية .
وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { فَزَادوهُمْ رَهَقاً } قال : إثماً . وأخرج ابن مردويه عنه قال : كان القوم في الجاهلية إذا نزلوا بالوادي قالوا : نعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ ما فيه ، فلا يكون بشيء أشدّ ولعاً منهم بهم ، فذلك قوله : { فَزَادوهُمْ رَهَقاً } .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن جرير ، والطبراني ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن ابن عباس قال : كانت الشياطين لهم مقاعد في السماء يسمعون فيها الوحي ، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعاً ، فأما الكلمة فتكون حقاً ، وأما ما زادوا فيكون باطلاً ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم ، فذكروا ذلك لإبليس ، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك . فقال لهم : ما هذا إلاّ من أمر قد حدث في الأرض ، فبعث جنوده ، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يصلي بين جبلين بمكة ، فأتوه فأخبروه ، فقال : هذا الحدث الذي حدث في الأرض . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } يقول : منا المسلم ومنا المشرك ، و { كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً } أهواء شتى . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً { فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } قال : لا يخاف نقصاً من حسناته ولا زيادة في سيئاته .
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
قوله : { وَأَنَّا مِنَّا المسلمون } هم الذين آمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم . { وَمِنَّا القاسطون } أي : الجائرون الظالمون الذين حادوا عن طريق الحق ومالوا إلى طريق الباطل ، يقال : قسط إذا جار ، وأقسط : إذا عدل { فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً } أي : قصدوا طريق الحق . قال الفراء : أمَّوا الهدى . { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } أي : وقوداً للنار توقد بهم ، كما توقد بكفرة الإنس { وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة } هذا ليس من قول الجنّ بل هو معطوف على { أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن } [ الجن : 1 ] والمعنى : وأوحي إليّ أن الشأن لو استقام الجنّ أو الإنس ، أو كلاهما على الطريقة ، وهي طريقة الإسلام ، وقد قدّمنا أن القراء اتفقوا على فتح أن هاهنا . قال ابن الأنباري : والفتح هنا على إضمار يمين تأويلها والله أن لو استقاموا على الطريقة كما فعل ، يقال في الكلام : والله لو قمت لقمت ، كما في قول الشاعر :
أما والله أن لو كنت حرّا ... ولا بالحرّ أنت ولا العتيق
قال : أو على { أوحي إليّ أنه استمع } ، { وأن لو استقاموا } ، أو على { آمنا به } أي : آمنا به ، وبأن لو استقاموا . قرأ الجمهور بكسر الواو من ( لو ) لالتقاء الساكنين . وقرأ ابن وثاب ، والأعمش بضمها { لأسقيناهم مَّاء غَدَقاً } أي : كثيراً واسعاً . قال مقاتل : ماء كثيراً من السماء ، وذلك بعد ما رفع عنهم المطر سبع سنين . وقال ابن قتيبة : المعنى لو آمنوا جميعاً لوسعنا عليهم في الدنيا ، وضرب الماء الغدق مثلاً؛ لأن الخير كله والرزق بالمطر ، وهذا كقوله : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب ءامَنُواْ واتقوا } [ المائدة : 65 ] الآية ، وقوله : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 3 ] وقوله : { فقلت استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ } [ نوح : 10 12 ] الآية . وقيل : المعنى : وأن لو استقام أبوهم على عبادته ، وسجد لآدم ولم يكفر ، وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم ، واختار هذا الزجاج . والماء الغدق : هو الكثير في لغة العرب .
{ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي : لنختبرهم ، فنعلم كيف شكرهم على تلك النعم . وقال الكلبي : المعنى وأن لو استقاموا على الطريقة التي هم عليها من الكفر ، فكانوا كلهم كفاراً ، لأوسعنا أرزاقهم مكراً بهم واستدراجاً حتى يفتنوا بها ، فنعذبهم في الدنيا والآخرة . وبه قال الربيع بن أنس ، وزيد بن أسلم ، وابنه عبد الرحمن ، والثمالي ، ويمان بن زيان ، وابن كيسان ، وأبو مجلز ، واستدلوا بقوله : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء } [ الأنعام : 44 ] ، وقوله : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ } [ الزخرف : 33 ] الآية ، والأوّل أولى { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } أي : ومن يعرض عن القرآن ، أو عن العبادة ، أو عن الموعظة ، أو عن جميع ذلك يسلكه أي : يدخله عذاباً صعداً أي : شاقاً صعباً .
قرأ الجمهور : " نسلكه " بالنون مفتوحة . وقرأ الكوفيون ، وأبو عمرو في رواية عنه بالياء التحتية ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم لقوله : { عَن ذِكْرِ رَبّهِ } ولم يقل " عن ذكرنا " . وقرأ مسلم بن جندب ، وطلحة بن مصرّف ، والأعرج بضم النون وكسر اللام من أسلكه ، وقراءة الجمهور من سلكه . والصعد في اللغة المشقة ، تقول تصعد بي الأمر : إذا شقّ عليك ، وهو مصدر صعد ، يقال : صعد صعداً وصعوداً ، فوصف به العذاب مبالغة؛ لأنه يتصعد المعذب أي : يعلوه ويغلبه فلا يطيقه . قال أبو عبيد : الصعد مصدر ، أي : عذاباً ذا صعد . وقال عكرمة : الصعد هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها ، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم ، كما في قوله : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } [ المدثر : 17 ] والصعود : العقبة الكئود .
{ وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } قد قدّمنا اتفاق القراء هنا على الفتح ، فهو معطوف على أنه استمع ، أي : وأوحي إليّ أن المساجد مختصة بالله . وقال الخليل : التقدير ولأن المساجد . والمساجد : المواضع التي بنيت للصلاة فيها . قال سعيد بن جبير : قالت الجنّ : كيف لنا أن نأتي المساجد ، ونشهد معك الصلاة ، ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت . وقال الحسن : أراد بها كل البقاع؛ لأن الأرض كلها مسجد . وقال سعيد بن المسيب ، وطلق بن حبيب : أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها العبد ، وهي القدمان والركبتان واليدان والجبهة ، يقول : هذه أعضاء أنعم الله بها عليك ، فلا تسجد بها لغيره فتجحد نعمة الله ، وكذا قال عطاء . وقيل : المساجد هي الصلاة؛ لأن السجود من جملة أركانها ، قاله الحسن : { فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } من خلقه كائناً ما كان .
{ وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله } قد قدّمنا أن الجمهور قرءوا هنا بفتح «أن» ، عطفاً على أنه استمع ، أي : وأوحي إليّ أنّ الشأن لما قام عبد الله ، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم { يَدْعُوهُ } أي : يدعوا الله ويعبده ، وذلك ببطن نخلة ، كما تقدّم حين قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويتلو القرآن ، وقد قدّمنا أيضاً قراءة من قرأ بكسر «إن» هنا ، وفيها غموض وبعد عن المعنى المراد { كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } أي : كاد الجنّ يكونون على رسول الله صلى الله عليه وسلم لبداً أي : متراكمين من ازدحامهم عليه لسماع القرآن منه . قال الزجاج : ومعنى { لِبَداً } : يركب بعضهم بعضاً ، ومن هذا اشتقاق هذه اللبود التي تفرش . قرأ الجمهور : { لبداً } بكسر اللام وفتح الباء . وقرأ مجاهد ، وابن محيصن ، وهشام بضم اللام وفتح الباء ، وقرأ أبو حيوة ، ومحمد بن السميفع ، والعقيلي ، والجحدري بضم الباء واللام .
وقرأ الحسن ، وأبو العالية ، والأعرج بضم اللام وتشديد الباء مفتوحة . فعلى القراءة الأولى المعنى ما ذكرناه ، وعلى قراءة ضم اللام يكون المعنى كثيراً ، كما في قوله : { أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } [ البلد : 6 ] وقيل المعنى : كاد المشركون يركب بعضهم بعضاً حرداً على النبيّ صلى الله عليه وسلم . وقال الحسن ، وقتادة ، وابن زيد : لما قام عبد الله محمد بالدعوة ، تلبدت الإنس والجنّ على هذا الأمر ليطفئوه ، فأبى الله إلاّ أن ينصره ويتم نوره . واختار هذا ابن جرير . قال مجاهد : { لِبَداً } أي : جماعات ، وهو من تلبد الشيء على الشيء ، أي : اجتمع ، ومنه اللبد الذي يفرش لتراكم صوفه ، وكل شيء ألصقته إلصاقاً شديداً ، فقد لبدته ، ويقال للشعر الذي على ظهر الأسد : لبدة ، وجمعها لبد ، ويقال للجراد الكثير : لبد؛ ويطلق اللبد بضم اللام وفتح الباء على الشيء الدائم ، ومنه قيل لنسر لقمان : لبد لطول بقائه ، وهو المقصود بقول النابغة :
أخنى عليها الذي أخنى على لبد ... { قَالَ إِنَّمَا ادعو رَبّى } أي : قال عبد الله إنما أدعو ربي وأعبده { وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً } من خلقه . قرأ الجمهور : { قال } وقرأ عاصم ، وحمزة : « قل » على الأمر . وسبب نزولها أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إنك جئت بأمر عظيم ، وقد عاديت الناس كلهم ، فارجع عن هذا فنحن نجيرك . { قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً } أي : لا أقدر أن أدفع عنك ضرّاً ولا أسوق إليكم خيراً . وقيل : الضرّ الكفر ، والرشد الهدى ، والأوّل أولى لوقوع النكرتين في سياق النفي ، فهما يعمان كل ضرر وكل رشد في الدنيا والدين . { قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ الله أَحَدٌ } أي : لا يدفع عني أحد عذابه إن أنزله بي { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } أي : ملجأ ومعدلاً وحرزاً ، والملتحد معناه في اللغة الممال أي : موضعاً أميل إليه . قال قتادة : مولى . وقال السديّ : حرزاً ، وقال الكلبي : مدخلاً في الأرض مثل السرب . وقيل : مذهباً ومسلكاً ، والمعنى متقارب ، ومنه قول الشاعر :
يا لهف نفسي ولهفاً غير مجدية ... عني وما من قضاء الله ملتحد
والاستثناء في قوله : { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله } هو من قوله { لا أملك } أي : لا أملك ضرّاً ولا رشداً إلاّ التبليغ من الله ، فإن فيه أعظم الرشد ، أو من ملتحداً ، أي : لن أجد من دونه ملجأ إلاّ التبليغ . قال مقاتل : ذلك الذي يجيرني من عذابه . وقال قتادة : إلاّ بلاغاً من الله ، فذلك الذي أملكه بتوفيق الله ، فأما الكفر والإيمان فلا أملكهما . قال الفراء : لكن أبلغكم ما أرسلت به ، فهو على هذا منقطع . وقال الزجاج : هو منصوب على البدل من قوله : { مُلْتَحَدًا } أي : ولن أجد من دونه ملتحداً إلاّ أن أبلغ ما يأتي من الله ، وقوله : { ورسالاته } معطوف على { بلاغاً } أي : إلاّ بلاغاً من الله ، وإلاّ رسالاته التي أرسلني بها إليكم ، أو إلاّ أن أبلغ عن الله ، وأعمل برسالاته ، فآخذ نفسي بما آمر به غيري .
وقيل : الرسالات معطوفة على الاسم الشريف ، أي : إلاّ بلاغاً عن الله وعن رسالاته ، كذا قال أبو حيان ورجحه { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ } في الأمر بالتوحيد لأن السياق فيه { فإن لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } قرأ الجمهور بكسر إن على أنها جملة مستأنفة . وقرىء بفتح الهمزة؛ لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء ، والتقدير : فجزاؤه أن له نار جهنم . أو فحكمه أن له نار جهنم ، وانتصاب { خالدين فِيهَا } على الحال ، أي : في النار ، أو في جهنم ، والجمع باعتبار معنى مَن كما أن التوحيد في قوله : { فَإِنَّ لَهُ } باعتبار لفظها ، وقوله : { أَبَدًا } تأكيد لمعنى الخلود ، أي : خالدين فيها بلا نهاية { حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } يعني : من العذاب في الدنيا أو في الآخرة . والمعنى لا يزالون على ما هم عليه من الإصرار على الكفر وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حتى إذا رأوا الذي يوعدون به { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً } أي : من هو أضعف جنداً ينتصر به ، وأقلّ عدداً أهم أم المؤمنون؟
{ قُلْ إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } أي : ما أدري أقريب حصول ما توعدون من العذاب { أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَداً } أي : غاية ومدّة . أمره الله سبحانه أن يقول لهم هذا القول لما قالوا له : متى يكون هذا الذي توعدنا به؟ قال عطاء : يريد أنه لا يعرف يوم القيامة إلاّ الله وحده ، والمعنى أن علم وقت العذاب علم غيب لا يعلمه إلاّ الله . قرأ الجمهور : { ربي } بإسكان الياء . وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو بفتحها ، « وَمِنْ » في : { مَنْ أَضْعَفُ } موصولة ، وأضعف خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو أضعف ، والجملة صلة الموصول ، ويجوز أن تكون استفهامية مرتفعة على الابتداء ، وأضعف خبرها ، والجملة في محل نصب سادة مسدّ مفعولي أدري ، وقوله : { أَقَرِيبٌ } خبر مقدّم { وَمَا تُوعَدُونَ } مبتدأ مؤخر .
{ عالم الغيب } قرأ الجمهور بالرفع على أنه بدل من ربي ، أو بيان له ، أو خبر مبتدأ محذوف ، والجملة مستأنفة مقرّرة لما قبلها من عدم الدراية . وقرىء بالنصب على المدح . وقرأ السدي علم الغيب بصيغة الفعل ونصب الغيب ، والفاء في : { فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً } لترتيب عدم الإظهار على تفرّده بعلم الغيب ، أي : لا يطلع على الغيب الذي يعلمه ، وهو ما غاب عن العباد أحداً منهم ، ثم استثنى فقال : { إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } أي : إلاّ من اصطفاه من الرسل ، أو من ارتضاه منهم لإظهاره على بعض غيبه؛ ليكون ذلك دالاً على نبوّته .
قال القرطبي : قال العلماء : لما تمدح سبحانه بعلم الغيب ، واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ، ثم استثنى من ارتضى من الرسل ، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم ، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوّتهم ، وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى ، وينظر في الكف ، ويزجر بالطين ممن ارتضاه من رسول ، فيطلعه على ما يشاء من غيبه ، فهو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه . وقال سعيد بن جبير : إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ هو جبريل ، وفيه بعد . وقيل : المراد بقوله : { إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } فإنه يطلعه على بعض غيبه ، وهو ما يتعلق برسالته كالمعجزة ، وأحكام التكاليف ، وجزاء الأعمال ، وما يبينه من أحوال الآخرة ، لا ما لا يتعلق برسالته من الغيوب ، كوقت قيام الساعة ونحوه . قال الواحدي : وفي هذا دليل على أن من ادّعى أن النجوم تدله على ما يكون من حادث فقد كفر بما في القرآن . قال في الكشاف : وفي هذا إبطال للكرامات ، لأن الذين تضاف إليهم ، وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل ، وقد خصّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب ، وإبطال للكهانة والتنجيم؛ لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء ، وأدخله في السخط .
قال الرازي : وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه إذ لا صيغة عموم في غيبه ، فتحمل على غيب واحد ، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله : { أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } الآية . فإن قيل : فما معنى الاستثناء حينئذٍ؟ قلنا : لعله إذا قربت القيامة يظهره ، وكيف لا؟ وقد قال : { ويَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] فتعلم الملائكة حينئذٍ قيام القيامة ، أو هو استثناء منقطع أي : من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شرّ مردة الجنّ والإنس . ويدلّ على أنه ليس المراد به لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات أنه ثبت ، كما يقارب التواتر أن شقاً وسطيحاً كانا كاهنين وقد عرّفا بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره ، وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى . فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات ، وأيضاً أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا يخبر عن أمور مستقبلة ، ويكون صادقاً فيها ، وأيضاً قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان ، وسألها عن أمور مستقبلة ، فأخبرته بها ، فوقعت على وفق كلامها . قال : وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل ، فكانت على وفق خبرها . وبالغ أبو البركات في كتاب التعبير في شرح حالها وقال : فحصت عن حالها ثلاثين سنة ، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً .
وأيضاً فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة ، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً ، وقد نرى الأحكام النجومية مطابقة ، وإن كانت قد تتخلف ، ولو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرّق الطعن إلى القرآن ، فيكون التأويل ما ذكرنا ، انتهى كلامه .
قلت : أما قوله إذ لا صيغة عموم في غيبه ، فباطل ، فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم ، كما صرّح به أئمة الأصول وغيرهم . وأما قوله : أو هو استثناء منقطع ، فمجرّد دعوى يأباه النظم القرآني . وأما قوله : إن شقاً وسطيحاً إلخ ، فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع ، ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان ، فيخلطون الصدق بالكذب ، كما ثبت في الحديث الصحيح . وفي قوله : { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة } [ الصافات : 10 ] ونحوها من الآيات ، فباب الكهانة قد ورد بيانه في هذه الشريعة ، وأنه كان طريقاً لبعض الغيب بواسطة استراق الشياطين حتى منعوا ذلك بالبعثة المحمدية . وقالوا : { وأَنَاْ لَمَسْنَا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } [ الجن : 8 9 ] فباب الكهانة في الوقت الذي كانت فيه مخصوص بأدلته ، فهو من جملة ما يخصص به هذا العموم ، فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية . وأما حديث المرأة الذي أورده فحديث خرافة ، ولو سلم وقوع شيء مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث « إن في هذه الأمة محدّثين ، وإن منهم عمر » فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا انقضاء لها ، وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله في آخر كلامه . فلو قلنا : إن القرآن يدلّ على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن ، فيقال له : ما هذه بأوّل زلة من زلاتك ، وسقطة من سقطاتك ، وكم لها لديك من أشباه ونظائر نبض بها عرق فلسفتك ، وركض بها الشيطان الذي صار يتخبطك في مباحث تفسيرك ، يا عجباً لك أيكون ما بلغك من خبر هذه المرأة ونحوه موجباً لتطرّق الطعن إلى القرآن ، وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا :
وإذا رامت الذبابة للشم ... س غطاء مدّت عليها جناحا
وقلت من أبيات :
مهب رياح سدّه بجناح ... وقابل بالمصباح ضوء صباح
فإن قلت : إذن قد تقرّر بهذا الدليل القرآني أن الله يظهر من ارتضى من رسله على ما شاء من غيبه ، فهل للرسول الذي أظهره الله على ما شاء من غيبه أن يخبر به بعض أمته؟ قلت : نعم ، ولا مانع من ذلك . وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا ما لا يخفى على عارف بالسنة المطهرة ، فمن ذلك ما صحّ أنه قام مقاماً أخبر فيه بما سيكون إلى يوم القيامة ، وما ترك شيئًا مما يتعلق بالفتن ونحوها ، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه ، وكذلك ما ثبت من أن حذيفة بن اليمان كان قد أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحدث من الفتن بعده ، حتى سأله عن ذلك أكابر الصحابة ورجعوا إليه .
وثبت في الصحيح وغيره «أن عمر بن الخطاب سأله عن الفتنة التي تموج كموج البحر ، فقال : إن بينك وبينها باباً ، فقال عمر : هل يفتح أو يكسر؟ فقال : بل يكسر ، فعلم عمر أنه الباب ، وأن كسره قتله» ، كما في الحديث الصحيح المعروف أنه قيل لحذيفة : هل كان عمر يعلم ذلك؟ فقال : نعم كان يعلم أن دون غد الليلة . وكذلك ما ثبت من إخباره لأبي ذرّ بما يحدث له ، وإخباره لعليّ بن أبي طالب بخبر ذي الثدية ، ونحو هذا مما يكثر تعدده ، ولو جمع لجاء منه مصنف مستقلّ . وإذا تقرّر هذا فلا مانع من أن يختصّ بعض صلحاء هذه الأمة بشيء من أخبار الغيب التي أظهرها الله لرسوله ، وأظهرها رسوله لبعض أمته ، وأظهرها هذا البعض من الأمة لمن بعدهم ، فتكون كرامات الصالحين من هذا القبيل ، والكل من الفيض الرّباني بواسطة الجناب النبويّ .
ثم ذكر سبحانه أنه يحفظ ذلك الغيب الذي يطلع عليه الرسول فقال : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } والجملة تقرير للإظهار المستفاد من الاستثناء ، والمعنى : أنه يجعل سبحانه بين يدي الرسول ومن خلفه حرساً من الملائكة يحرسونه من تعرّض الشياطين لما أظهره عليه من الغيب ، أو يجعل بين يدي الوحي وخلفه حرساً من الملائكة يحوطونه من أن تسترقه الشياطين ، فتلقيه إلى الكهنة ، والمراد من جميع الجوانب . قال الضحاك : ما بعث الله نبياً إلاّ ومعه ملائكة يحفظونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك ، فإذا جاءه شيطان في صورة الملك قالوا : هذا شيطان فاحذره ، وإن جاءه الملك قالوا : هذا رسول ربك . قال ابن زيد : { رَّصَداً } ، أي : حفظة يحفظون النبيّ صلى الله عليه وسلم من أمامه وورائه من الجنّ والشياطين . قال قتادة ، وسعيد بن المسيب : هم أربعة من الملائكة حفظة . وقال الفراء : المراد جبريل . قال في الصحاح : الرصد القوم يرصدون كالحرس يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث ، والرصد للشيء الراقب له ، يقال : رصده يرصده رصداً ورصداً ، والترصد الترقب ، والمرصد موضع الرصد .
{ لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ } اللام متعلق ب { يسلك } ، والمراد به : العلم المتعلق بالإبلاغ الموجود بالفعل ، وأن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن ، والخبر الجملة ، والرسالات عبارة عن الغيب الذي أريد إظهاره لمن ارتضاه الله من رسول ، وضمير أبلغوا يعود إلى الرصد . وقال قتادة ، ومقاتل : ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو الرسالة ، وفيه حذف تتعلق به اللام ، أي : أخبرناه بحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على حالته من التبليغ .
وقيل : ليعلم محمد أن جبريل ومن معه قد أبلغوا إليه رسالات ربه ، قاله سعيد بن جبير . وقيل : ليعلم الرسل أن الملائكة قد بلغوا رسالات ربهم . وقيل : ليعلم إبليس أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم من غير تخليط . وقال ابن قتيبة ، أي : ليعلم الجنّ أن الرسل قد أبلغوا ما أنزل إليهم ، ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم . وقال مجاهد : ليعلم من كذب الرسل أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم . قرأ الجمهور : { ليعلم } بفتح التحتية على البناء للفاعل . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وحميد ، ويعقوب ، وزيد بن علي بضمها على البناء للمفعول ، أي : ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا . وقال الزجاج : ليعلم الله أن رسله قد أبلغوا رسالاته ، أي : ليعلم ذلك عن مشاهدة كما علمه غيباً . وقرأ ابن أبي عبلة ، والزهري بضم الياء وكسر اللام { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ } أي : بما عنده الرصد من الملائكة ، أو بما عند الرسل المبلغين لرسالاته ، والجملة في محل نصب على الحال من فاعل يسلك بإضمار قد ، أي : والحال أنه تعالى قد أحاط بما لديهم من الأحوال . قال سعيد بن جبير : ليعلم أن ربهم قد أحاط بما لديهم فبلغوا رسالاته ، { وأحصى كُلَّ شَىْء عَدَداً } من جميع الأشياء التي كانت والتي ستكون ، وهو معطوف على أحاط ، وعدداً يجوز أن يكون منتصباً على التمييز محوّلاً من المفعول به ، أي : وأحصى عدد كل شيء ، كما في قوله : { وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } [ القمر : 12 ] ويجوز أن يكون منصوباً على المصدرية ، أو في موضع الحال : معدوداً ، والمعنى : أن علمه سبحانه بالأشياء ليس على وجه الإجمال ، بل على وجه التفصيل ، أي : أحصى كل فرد من مخلوقاته على حدة .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال { القاسطون } العادلون عن الحقّ . وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة } قال : أقاموا ما أمروا به { لأسقيناهم مَّاء غَدَقاً } قال : معيناً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن السديّ قال : قال عمر : { وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة لأسقيناهم مَّاء غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } قال : حيثما كان الماء كان المال ، وحيثما كان المال كانت الفتنة . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس : { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } قال : لنبتليهم به . وفي قوله : { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } قال : شقة من العذاب يصعد فيها . وأخرج هناد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه عنه في قوله : { يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } قال : حبلاً في جهنم . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً { عَذَاباً صَعَداً } قال : لا راحة فيه . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } قال : لم يكن يوم نزلت هذه الآية في الأرض مسجد إلاّ مسجد الحرام ومسجد إيلياء ببيت المقدس .
وأخرج ابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود قال : «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى نواحي مكة ، فخط لي خطاً ، وقال : «لا تحدثن شيئًا حتى آتيك ، ثم قال : لا يهولنك شيئًا تراه» ، فتقدم شيئًا؛ ثم جلس ، فإذا رجال سود كأنهم رجال الزطّ ، وكانوا كما قال الله تعالى : { كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } .
وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه ، ودنوا منه ، فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول ، فجعل يقرئه : { قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن } . وأخرج عبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، وابن جرير ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة عنه أيضاً في الآية قال : «لما أتى الجنّ إلى رسول الله ، وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه ، ويسجدون بسجوده ، فعجبوا من طواعية أصحابه ، فقالوا لقومهم : لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً» . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً : { لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ } أي : يدعو الله . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه { كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } قال : أعواناً .
وأخرج ابن المنذر ، وابن مردويه عنه أيضاً : { فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } قال : أعلم الله الرسول من الغيب الوحي ، وأظهره عليه مما أوحي إليه من غيبه ، وما يحكم الله ، فإنه لا يعلم ذلك غيره . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه أيضاً : { رَّصَداً } قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون رسول الله من الشياطين حتى تبين الذي أرسل إليهم به ، وذلك حتى يقول أهل الشرك : قد أبلغوا رسالات ربهم . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال : ما أنزل الله على نبيه آية من القرآن إلاّ ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها ، حتى يؤدّوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قرأ : { عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } يعني : الملائكة الأربعة { لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ } .
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
قوله : { يأَيُّهَا المزمل } أصله المتزمل ، فأدغمت التاء في الزاي ، والتزمل : التلفف في الثوب . قرأ الجمهور : { المزمل } بالإدغام . وقرأ أبيّ : « المتزمل » على الأصل . وقرأ عكرمة بتخفيف الزاي ، ومثل هذه القراءة قول امرىء القيس :
كأن ثبيرا في أفانين وبله ... كبير أناس في لحاد مزّمل
وهذا الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقد اختلف في معناه ، فقال جماعة : إنه كان يتزمل صلى الله عليه وسلم بثيابه في أوّل ما جاءه جبريل بالوحي فرقاً منه حتى أنس به . وقيل المعنى : يا أيها المزمل بالنبوّة ، والملتزم للرسالة . وبهذا قال عكرمة وكان يقرأ : « يا أيها المزمل » بتخفيف الزاي وفتح الميم مشدّدة اسم مفعول . وقيل المعنى : يا أيها المزمل بالقرآن . وقال الضحاك : تزمل بثيابه لمنامه . وقيل : بلغه من المشركين سوء قول ، فتزمل في ثيابه وتدثر ، فنزلت : { يأَيُّهَا المزمل } و { يأَيُّهَا المدثر } [ المدثر : 1 ] . وقد ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما سمع صوت الملك ، ونظر إليه أخذته الرعدة ، فأتى أهله ، وقال : « زملوني دثروني » وكان خطابه صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب في أول نزول الوحي .
ثم بعد ذلك خوطب بالنبوّة والرسالة { قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً } أي : قم للصلاة في الليل . قرأ الجمهور : { قم } بكسر الميم لالتقاء الساكنين . وقرأ أبو السماك بضمها اتباعاً لضمة القاف . قال عثمان بن جني : الغرض بهذه الحركة الهرب من التقاء الساكنين فبأيّ حركة تحرك فقد وقع الغرض . وانتصاب الليل على الظرفية . وقيل : إن معنى { قم } صلّ ، عبر به عنه واستعير له . واختلف هل كان هذا القيام الذي أمر به فرضاً عليه أو نفلاً؟ وسيأتي إن شاء الله ما روي في ذلك . وقوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } استثناء من الليل أي : صلّ الليل كله إلاّ يسيراً منه ، والقليل من الشيء هو ما دون النصف . وقيل : ما دون السدس . وقيل : ما دون العشر . وقال مقاتل ، والكلبي : المراد بالقليل هنا الثلث ، وقد أغنانا عن هذا الاختلاف قوله { نّصْفَهُ } إلخ ، وانتصاب { نصفه } على أنه بدل من الليل . قال الزجاج : نصفه بدل من الليل ، وإلاّ قليلاً استثناء من النصف ، والضمير في منه وعليه عائد إلى النصف . والمعنى : قم نصف الليل ، أو انقص من النصف قليلاً إلى الثلث ، أو زد عليه قليلاً إلى الثلثين ، فكأنه قال : قم ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه . وقيل : إن نصفه بدل من قوله { قليلاً } فيكون المعنى : قم الليل إلاّ نصفه ، أو أقلّ من نصفه ، أو أكثر من نصفه ، قال الأخفش : نصفه أي : أو نصفه ، كما يقال : أعطه درهماً درهمين ثلاثة ، يريد ، أو درهمين ، أو ثلاثة .
قال الواحدي : قال المفسرون : أو انقص من النصف قليلاً إلى الثلث ، أو زد على النصف إلى الثلثين ، جعل له سعة في مدة قيامه في الليل ، وخيره في هذه الساعات للقيام ، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم وطائفة معه يقومون على هذه المقادير ، وشقّ ذلك عليهم ، فكان الرجل لا يدري كم صلّى ، أو كم بقي من الليل ، فكان يقوم الليل كله حتى خفف الله عنهم ، وقيل : الضميران في منه وعليه راجعان للأقل من النصف ، كأنه قال : قم أقل من نصفه ، أو قم أنقص من ذلك الأقلّ ، أو أزيد منه قليلاً ، وهو بعيد جداً ، والظاهر أن نصفه بدل من قليلاً ، والضميران راجعان إلى النصف المبدل من { قليلاً } .
واختلف في الناسخ لهذا الأمر . وقيل : هو قوله : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَىِ اليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } [ المزمل : 20 ] إلى آخر السورة . وقيل : هو قوله : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } وقيل : هو قوله : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى } . وقيل : هو منسوخ بالصلوات الخمس ، وبهذا قال مقاتل ، والشافعي ، وابن كيسان . وقيل : هو قوله : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } [ المزمل : 20 ] وذهب الحسن ، وابن سيرين إلى أن صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو قدر حلب شاة { وَرَتّلِ القرءان تَرْتِيلاً } أي : اقرأه على مهل مع تدبر . قال الضحاك : اقرأه حرفاً حرفاً . قال الزجاج : هو أن يبيّن جميع الحروف ، ويوفي حقها من الإشباع . وأصل الترتيل التنضيد ، والتنسيق ، وحسن النظام ، وتأكيد الفعل بالمصدر يدلّ على المبالغة على وجه لا يلتبس فيه بعض الحروف ببعض ، ولا ينقص من النطق بالحرف من مخرجه المعلوم مع استيفاء حركته المعتبرة .
{ إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } أي : سنوحي إليك القرآن ، وهو قول ثقيل . قال قتادة : ثقيل ، والله فرائضه وحدوده . قال مجاهد : حلاله وحرامه . قال الحسن : العمل به . قال أبو العالية : ثقيلاً بالوعدوالوعيد ، والحلال والحرام . وقال محمد بن كعب : ثقيل على المنافقين والكفار لما فيه من الاحتجاج عليهم والبيان لضلالهم ، وسبّ إلهتهم . وقال السديّ : ثقيل بمعنى كريم من قولهم فلان ثقيل عليّ ، أي : يكرم عليّ . قال الفراء : ثقيلاً رزيناً ليس بالخفيف السفساف . لأنه كلام ربنا . وقال الحسين بن الفضل : ثقيلاً لا يحمله إلاّ قلب مؤيد بالتوفيق ونفس مزينة بالتوحيد . وقيل : وصفه بكونه ثقيلاً حقيقة لما ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها على الأرض ، فما تستطيع أن تتحرّك حتى يسري عنه .
{ إِنَّ نَاشِئَةَ اليل } أي : ساعاته وأوقاته؛ لأنها تنشأ أوّلاً فأوّلاً ، يقال : نشأ الشيء ينشأ : إذا ابتدأ وأقبل شيئًا بعد شيء ، فهو ناشىء ، وأنشأه الله فنشأ ، ومنه نشأت السحاب : إذا بدأت ، فناشئة فاعلة من نشأ ينشأ ، فهي ناشئة . قال الزجاج : ناشئة الليل كل ما نشأ منه ، أي : حدث ، فهو ناشئة ، قال الواحدي : قال المفسرون : الليل كله ناشئة ، والمراد أن ساعات الليل الناشئة ، فاكتفى بالوصف عن الاسم الموصوف .
وقيل : إن ناشئة الليل هي النفس التي تنشأ من مضجعها للعبادة أي : تنهض ، من نشأ من مكانه : إذا نهض . وقيل : الناشئة بالحبشية قيام الليل ، وقيل : إنما يقال لقيام الليل ناشئة : إذا كان بعد نوم . قال ابن الأعرابي : إذا نمت من أوّل الليل ثم قمت فتلك المنشأة والنشأة ، ومنه ناشئة الليل . قيل : وناشئة الليل هي ما بين المغرب والعشاء ، لأن معنى نشأ ابتدأ ، ومنه قول نصيب :
ولولا أن يقال صبا نصيب ... لقلت بنفسي النشأ الصغار
قال عكرمة ، وعطاء : إن ناشئة الليل بدوّ الليل . وقال مجاهد وغيره : هي في الليل كله؛ لأنه ينشأ بعد النهار ، واختار هذا مالك . وقال ابن كيسان : هي القيام من آخر الليل . قال في الصحاح : ناشئة الليل أوّل ساعاته . وقال الحسن : هي ما بعد العشاء الآخرة إلى الصبح { هِىَ أَشَدُّ وَطْأً } قرأ الجمهور : { وطأ } بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة ، واختار هذه القراءة أبو حاتم . وقرأ أبو العالية ، وابن أبي إسحاق ، ومجاهد ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحميد ، وابن محيصن ، والمغيرة ، وأبو حيوة بكسر الواو وفتح الطاء ممدودة ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، فالمعنى على القراءة الأولى أن الصلاة في ناشئة الليل أثقل على المصلي من صلاة النهار؛ لأن الليل للنوم . قال ابن قتيبة : المعنى أنها أثقل على المصلي من ساعات النهار ، من قول العرب : اشتدّت على القوم وطأة السلطان : إذا ثقل عليهم ما يلزمهم منه ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : { اللَّهمّ اشدد وطأتك على مضر } والمعنى على القراءة الثانية أنها أشدّ مواطأة ، أي : موافقة ، من قولهم : واطأت فلاناً على كذا مواطأة ووطاء : إذا وافقته عليه . قال مجاهد ، وابن أبي مليكة : أي أشد موافقة بين السمع والبصر ، والقلب واللسان لانقطاع الأصوات والحركات فيها ، ومنه { لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله } [ التوبة : 37 ] أي : ليوافقوا . وقال الأخفش : أشدّ قياماً . وقال الفرّاء أي : أثبت للعمل ، وأدوم لمن أراد الاستكثار من العبادة ، والليل وقت الفراغ عن الاشتغال بالمعاش ، فعبادته تدوم ولا تنقطع . وقال الكلبي : أشدّ نشاطاً { وَأَقْوَمُ قِيلاً } أي : وأشدّ مقالاً ، وأثبت قراءة لحضور القلب فيها وهدوء الأصوات ، وأشدّ استقامة واستمراراً على الصواب؛ لأن الأصوات فيها هادئة والدنيا ساكنة ، فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه . قال قتادة ، ومجاهد : أي أصوب للقراءة ، وأثبت للقول؛ لأنه زمان التفهم . قال أبو عليّ الفارسي : أقوم قليلاً ، أي : أشدّ استقامة لفراغ البال بالليل . قال الكلبي : أي أبين قولاً بالقرآن . وقال عكرمة : أي أتمّ نشاطاً وإخلاصاً وأكثر بركة . وقال ابن زيد : أجدر أن يتفقه في القرآن . وقيل : أعجل إجابة للدعاء .
{ إِنَّ لَكَ فِى النهار سَبْحَاً طَوِيلاً } قرأ الجمهور : { سبحاً } بالحاء المهملة أي : تصرفاً في حوائجك ، وإقبالاً وإدباراً ، وذهاباً ومجيئاً .
والسبح : الجري والدوران ، ومنه السباحة في الماء لتقلبه ببدنه ورجليه ، وفرس سابح ، أي : شديد الجري . وقيل : السبح الفراغ أي : إن لك فراغاً بالنهار للحاجات ، فصلّ بالليل . قال ابن قتيبة : أي تصرّفاً ، وإقبالاً وإدباراً في حوائجك وأشغالك . وقال الخليل : إن لك في النهار سبحاً ، أي : نوماً ، والتسبح التمدّد . قال الزجاج : المعنى إن فاتك في الليل شيء فلك في النهار فراغ للاستدراك . وقرأ يحيى بن يعمر ، وأبو وائل ، وابن أبي عبلة : « سبخاً » بالخاء المعجمة . قيل : ومعنى هذه القراءة : الخفة والسعة والاستراحة . قال الأصمعي : يقال : سبخ الله عنك الحمى ، أي : خففها ، وسبخ الحرّ فتر وخفّ ، ومنه قول الشاعر :
فسبخ عليك الهمّ واعلم بأنه ... إذا قدّر الرحمن شيئًا فكائن
أي : خفف عنك الهمّ . والتسبيخ من القطن : ما ينسج بعد الندف ، ومنه قول الأخطل :
فأرسلوهنّ يذرين التراب كما ... تذري سبائخ قطن ندف أوتار
قال ثعلب : السبخ بالخاء المعجمة التردّد والاضطراب ، والسبخ السكون . وقال أبو عمرو : السبخ النوم والفراغ . { واذكر اسم رَبّكَ } أي : ادعه بأسمائه الحسنى . وقيل : اقرأ باسم ربك في ابتداء صلاتك ، وقيل : اذكر اسم ربك في وعده ووعيده لتوفر على طاعته ، وتبعد عن معصيته . وقيل المعنى : دم على ذكر ربك ليلاً ونهاراً ، واستكثر من ذلك . وقال الكلبي : المعنى صلّ لربك { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } أي : انقطع إليه انقطاعاً بالاشتغال بعبادته ، والتبتل : الانقطاع ، يقال : بتلت الشيء أي : قطعته وميزته من غيره ، وصدقة بتلة ، أي : منقطعة من مال صاحبها ، ويقال للراهب متبتل : لانقطاعه عن الناس ، ومنه قول الشاعر :
تضيء الظلام بالعشاء كأنها ... منارة ممسى راهب متبتل
ووضع { تبتيلاً } مكان تبتلاً لرعاية الفواصل . قال الواحدي : والتبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله . { رَّبُّ المشرق والمغرب } قرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، وابن عامر بجرّ ربّ على النعت لربك ، أو البدل منه ، أو البيان له . وقرأ الباقون برفعه على أنه مبتدأ ، وخبره { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو ربّ المشرق ، وقرأ زيد بن عليّ بنصبه على المدح . وقرأ الجمهور : { المشرق والمغرب } مفردين . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس « المشارق والمغارب » على الجمع . وقد قدّمنا تفسير المشرق والمغرب ، والمشرقين والمغربين ، والمشارق والمغارب { فاتخذه وَكِيلاً } أي : إذا عرفت أنه المختص بالربوبية ، فاتخذه وكيلاً ، أي : قائماً بأمورك ، وعوّل عليه في جميعها . وقيل : كفيلاً بما وعدك من الجزاء والنصر { واصبر على مَا يَقُولُونَ } من الأذى والسب والاستهزاء ، ولا تجزع من ذلك { واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً } أي : لا تتعرّض لهم ، ولا تشتغل بمكافأتهم . وقيل : الهجر الجميل الذي لا جزع فيه .
وهذا كان قبل الأمر بالقتال .
{ وَذَرْنِى والمكذبين } أي : دعني وإياهم ، ولا تهتم بهم فإني أكفيك أمرهم وأنتقم لك منهم . قيل : نزلت في المطعمين يوم بدر ، وهم عشرة وقد تقدّم ذكرهم . وقال يحيى بن سلام : هم بنو المغيرة . وقال سعيد بن جبير : أخبرت أنهم اثنا عشر { أُوْلِى النعمة } أي : أرباب الغنى والسعة والترفه واللذة في الدنيا { وَمَهّلْهُمْ قَلِيلاً } أي : تمهيلاً قليلاً على أنه نعت لمصدر محذوف ، أو زماناً قليلاً على أنه صفة لزمان محذوف ، والمعنى أمهلهم إلى انقضاء آجالهم . وقيل : إلى نزول عقوبة الدنيا بهم كيوم بدر ، والأول أولى لقوله : { إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً } وما بعده ، فإنه وعيد لهم بعذاب الآخرة ، والأنكال جمع نكل ، وهو القيد ، كذا قال الحسن ، ومجاهد ، وغيرهما . وقال الكلبي : الأنكال : الأغلال ، والأوّل أعرف في اللغة ، ومنه قول الخنساء :
أتوك فقطعت أنكالهم ... وقد كنّ قبلك لا تقطع
وقال مقاتل : هي أنواع العذاب الشديد . وقال أبو عمران الجوني : هي قيود لا تحلّ { وَجَحِيماً } أي : ناراً مؤججة { وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ } أي : لا يسوغ في الحلق بل ينشب فيه ، فلا ينزل ، ولا يخرج . قال مجاهد : هو الزقوم . وقال الزجاج : هو الضريع ، كما قال : { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } [ الغاشية : 6 ] قال : وهو شوك العوسج ، قال عكرمة : هو شوك يأخذ بالحلق لا يدخل ولا يخرج ، والغصة : الشجا في الحلق ، وهو ما ينشب فيه من عظم أو غيره ، وجمعها غصص { وَعَذَاباً أَلِيماً } أي : ونوعاً آخر من العذاب غير ما ذكر . { يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال } انتصاب الظرف إما بذرني ، أو بالاستقرار المتعلق به لدينا ، أو هو صفة لعذاب ، فيتعلق بمحذوف أي : عذاباً واقعاً يوم ترجف ، أو متعلق ب { أليماً } . قرأ الجمهور : { ترجف } بفتح التاء وضم الجيم مبنياً للفاعل ، وقرأ زيد بن عليّ على البناء للمفعول . مأخوذ من أرجفها ، والمعنى : تتحرك وتضطرب بمن عليها ، والرجفة : الزلزلة والرعدة الشديدة { وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً } أي : وتكون الجبال ، وإنما عبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه ، والكثيب الرمل المجتمع ، والمهيل الذي يمرّ تحت الأرجل . قال الواحدي : أي رملاً سائلاً يقال لكل شيء أرسلته إرسالاً من تراب ، أو طعام : أهلته هيلاً . قال الضحاك ، والكلبي : المهيل الذي إذا وطئته بالقدم زلّ من تحتها ، وإذا أخذت أسفله انهال . ومنه قول حسان :
عرفت ديار زينب بالكثيب ... كخط الوحي في الورق القشيب
{ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهدا عَلَيْكُمْ } الخطاب لأهل مكة أو لكفار العرب أو لجميع الكفار . والرسول محمد ، والمعنى : يشهد عليكم يوم القيامة بأعمالكم { كَمَا أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً } يعني : موسى . { فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } الذي أرسلناه إليه وكذبه ، ولم يؤمن بما جاء به ، ومحل الكاف النصب على أنها نعت لمصدر محذوف ، والمعنى : إنا أرسلنا إليكم رسولاً فعصيتموه ، كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصاه { فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً } أي : شديداً ثقيلاً غليظاً ، والمعنى : عاقبنا فرعون عقوبة شديدة غليظة بالغرق؛ وفيه تخويف لأهل مكة أنه سينزل بهم من العقوبة مثل ما نزل به ، وإن اختلف نوع العقوبة .
قال الزجاج أي : ثقيلاً غليظاً ، ومنه قيل للمطر : وابل . وقال الأخفش : شديداً ، والمعنى متقارب ، ومنه طعام وبيل : إذا كان لا يستمرأ ، ومنه قول الخنساء :
لقد أكلت بجيلة يوم لاقت ... فوارس مالك أكلاً وبيلا
{ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ } أي : كيف تقون أنفسكم { إِن كَفَرْتُمْ } أي : إن بقيتم على كفركم { يَوْماً } أي : عذاب يوم { يَجْعَلُ الولدان شِيباً } لشدّة هوله ، أي : يصير الولدان شيوخاً ، والشيب جمع أشيب ، وهذا يجوز أن يكون حقيقة ، وأنهم يصيرون كذلك ، أو تمثيلاً؛ لأن من شاهد الهول العظيم تقاصرت قواه وضعفت أعضاؤه ، وصار كالشيخ في الضعف وسقوط القوّة ، وفي هذا تقريع لهم شديد وتوبيخ عظيم . قال الحسن : أي كيف تتقون يوماً يجعل الولدان شيباً إن كفرتم ، وكذا قرأ ابن مسعود ، وعطية ، ويوماً مفعول به لتتقون . قال ابن الأنباري : ومنهم من نصب اليوم بكفرتم ، وهذا قبيح ، والولدان الصبيان ، ثم زاد في وصف ذلك اليوم بالشدّة ، فقال : { السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ } أي : متشققة به لشدّته وعظيم هوله ، والجملة صفة أخرى ليوم ، والباء سببية ، وقيل : هي بمعنى في أي : منفطر فيه ، وقيل : بمعنى اللام أي : منفطر له ، وإنما قال : { منفطر } ولم يقل : « منفطرة » لتنزيل السماء منزلة شيء لكونها قد تغيرت ، ولم يبق منها إلاّ ما يعبر عنه بالشيء . وقال أبو عمرو بن العلاء : لم يقل : « منفطرة »؛ لأن مجازها السقف ، كما قال الشاعر :
فلو رفع السماء إليه قوما ... لحقنا بالسماء وبالسحاب
فيكون هذا ، كما في قوله : { وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً } [ الأنبياء : 32 ] . وقال الفرّاء : السماء تذكر وتؤنث . وقال أبو عليّ الفارسي : هو من باب الجراد المنتشر ، والشجر الأخضر ، و { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] قال أيضاً : أي السماء ذات انفطار . كقولهم : امرأة مرضع ، أي : ذات إرضاع على طريق النسب ، وانفطارها لنزول الملائكة ، كما قال : { إِذَا السماء انفطرت } [ الانفطار : 1 ] وقوله : { السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } [ الشورى : 5 ] . وقيل : منفطر به ، أي : بالله ، والمراد : بأمره ، والأوّل أولى { كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } أي : وكان وعد الله بما وعد به من البعث والحساب وغير ذلك كائناً لا محالة ، والمصدر مضاف إلى فاعله ، أو وكان وعد اليوم مفعولاً ، فالمصدر مضاف إلى مفعوله . وقال مقاتل : كان وعده أن يظهر دينه على الدين كله .
وقد أخرج أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة ، والبيهقي في سننه عن سعد بن هشام قال : قلت لعائشة : أنبئيني عن قيام رسول الله ، قالت : ألست تقرأ هذه السورة { يأَيُّهَا المزمل } ؟ قلت : بلى ، قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أولّ هذه السورة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم ، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهراً ، ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوّعاً من بعد فرضه ، وقد روي هذا الحديث عنها من طرق .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، ومحمد بن نصر ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : لما نزلت أوّل المزمل كانوا يقومون نحواً من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها ، وكان بين أوّلها وآخرها نحو من سنة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن نصر عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : لما نزلت يا أيها المزمل قاموا حولاً حتى ورمت أقدامهم وسوقهم حتى نزلت { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } [ المزمل : 20 ] فاستراح الناس .
وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن نصر ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : في المزمل : { قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً نّصْفَهُ } نسختها الآية التي فيها : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان } [ المزمل : 20 ] وناشئة الليل أوّله كان صلاتهم أوّل الليل ، يقول : هذا أجدر أن تحصوا ما فرض الله عليكم من قيام الليل ، وذلك أن الإنسان إذا نام لم يدر متى يستيقظ ، وقوله : { أَقْوَمُ قِيلاً } هو أجدر أن يفقه قراءة القرآن ، وقوله : { إِنَّ لَكَ فِى النهار سَبْحَاً طَوِيلاً } يقول : فراغاً طويلاً . وأخرج الحاكم وصححه عنه في قوله : { يأَيُّهَا المزمل } قال : زملت هذا الأمر فقم به . وأخرج ابن المنذر عنه في الآية أيضاً قال : يتزمل بالثياب . وأخرج الفريابي ، عن أبي صالح عنه أيضاً : { وَرَتّلِ القرءان تَرْتِيلاً } قال : تقرأ آيتين ثلاثاً ثم تقطع لا تهدر . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن منيع في مسنده ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، ومحمد بن نصر عنه أيضاً : { وَرَتّلِ القرءان تَرْتِيلاً } قال : بيّنه تبييناً . وأخرج العسكري في المواعظ عن عليّ بن أبي طالب مرفوعاً نحوه .
وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن نصر ، والحاكم وصححه عن عائشة : « أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه ، وهو على ناقته وضعت جرانها ، فما تستطيع أن تتحرّك حتى يسرّي عنه ، وتلت { إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } » . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن نصر ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ نَاشِئَةَ اليل } قال : قيام الليل بلسان الحبشة إذا قام الرجل قالوا : نشأ . وأخرج البيهقي عنه قال : { نَاشِئَةَ اليل } أوّله .
وأخرج ابن المنذر ، وابن نصر عنه أيضاً قال : الليل كله ناشئة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : { نَاشِئَةَ اليل } بالحبشة قيام الليل . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وابن نصر ، والبيهقي في سننه عن أنس بن مالك قال : { نَاشِئَةَ اليل } ما بين المغرب والعشاء .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن نصر ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم في الكنى عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ لَكَ فِى النهار سَبْحَاً طَوِيلاً } قال : السبح الفراغ للحاجة والنوم . وأخرج أبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الدلائل عن عائشة قالت : لما نزلت : { وَذَرْنِى والمكذبين أُوْلِى النعمة وَمَهّلْهُمْ قَلِيلاً } لم يكن إلاّ يسيراً حتى كانت وقعة بدر . وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود { إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً } قال : قيوداً . وأخرج عبد بن حميد ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي عن ابن عباس : { وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ } قال : شجرة الزقوم . وأخرج الحاكم وصححه عنه في قوله : { كَثِيباً مَّهِيلاً } قال : المهيل الذي إذا أخذت منه شيئًا تبعك آخره . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً { كَثِيباً مَّهِيلاً } قال : الرمل السائل ، وفي قوله : { أَخْذاً وَبِيلاً } قال : شديداً .
وأخرج الطبراني ، وابن مردويه عنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ { يَجْعَلُ الولدان شِيباً } قال : « ذلك يوم القيامة ، وذلك يوم يقول الله لآدم : قم ، فابعث من ذريتك بعثاً إلى النار ، قال : من كم يا ربّ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ، وينجو واحد ، فاشتدّ ذلك على المسلمين ، فقال حين أبصر ذلك في وجوههم : إن بني آدم كثير ، وإن يأجوج ، ومأجوج من ولد آدم ، إنه لا يموت رجل منهم حتى يرثه لصلبه ألف رجل ، ففيهم وفي أشباههم جنة لكم » وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود نحوه بأخصر منه . وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله : { السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ } قال : ممتلئة بلسان الحبشة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : مثقلة موقرة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال : يعني : تشقق السماء .
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
الإشارة بقوله : { إِنَّ هذه } إلى ما تقدّم من الآيات ، والتذكرة الموعظة ، والإشارة إلى جميع آيات القرآن ، لا إلى ما في هذه السورة فقط { فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً } أي : اتخذ بالطاعة التي أهم أنواعها التوحيد إلى ربه طريقاً توصله إلى الجنة . { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَىِ اليل } معنى { أدنى } : أقلّ ، استعير له الأدنى؛ لأن المسافة بين السنين إذا دنت قلّ ما بينهما { وَنِصْفَهُ } معطوف على أدنى { وَثُلُثَهُ } معطوف على نصفه ، والمعنى : أن الله يعلم أن رسوله صلى الله عليه وسلم يقوم أقلّ من ثلثي الليل ، ويقوم نصفه ، ويقوم ثلثه ، وبالنصب قرأ ابن كثير ، والكوفيون ، وقرأ الجمهور : « ونصفه وثلثه » بالجر عطفاً على ثلثي الليل ، والمعنى : أن الله يعلم أن رسوله يقوم أقلّ من ثلثي الليل ، وأقلّ من نصفه ، وأقلّ من ثلثه ، واختار قراءة الجمهور أبو عبيد وأبو حاتم لقوله : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } فكيف يقومون نصفه وثلثه وهم لا يحصونه . وقال الفرّاء : القراءة الأولى أشبه بالصواب؛ لأنه قال : أقلّ من ثلثي الليل ، ثم فسر نفس القلة { وَطَائِفَةٌ مّنَ الذين مَعَكَ } معطوف على الضمير في تقوم : أي : وتقوم ذلك القدر معك طائفة من أصحابك .
{ والله يُقَدّرُ اليل والنهار } أي : يعلم مقادير الليل والنهار على حقائقها ، ويختص بذلك دون غيره ، وأنتم لا تعلمون ذلك على الحقيقة . قال عطاء : يريد لا يفوته علم ما تفعلون . أي : أنه يعلم مقادير الليل والنهار ، فيعلم قدر الذي تقومونه من الليل { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } أن لن تطيقوا علم مقادير الليل والنهار على الحقيقة ، وفي أن ضمير شأن محذوف . وقيل المعنى : لن تطيقوا قيام الليل . قال القرطبي : والأوّل أصحّ ، فإن قيام الليل ما فرض كله قط ، قال مقاتل وغيره : لما نزل { قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً * نّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } [ المزمل : 2 4 ] شقّ ذلك عليهم ، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه ، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطىء ، فانتفخت أقدامهم ، وانتقعت ألوانهم ، فرحمهم الله ، وخفف عنهم فقال : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } أي : علم أن لن تحصوه؛ لأنكم إن زدتم ثقل عليكم واحتجتم إلى تكلف ما ليس فرضاً ، وإن نقصتم شق ذلك عليكم . { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } أي : فعاد عليكم بالعفو ، ورخص لكم في ترك القيام . وقيل : فتاب عليكم من فرض القيام إذا عجزتم ، وأصل التوبة الرجوع ، كما تقدّم؛ فالمعنى : رجع بكم من التثقيل إلى التخفيف ، ومن العسر إلى اليسر .
{ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان } أي فاقرءوا في الصلاة بالليل ما خف عليكم ، وتيسّر لكم منه من غير أن ترقبوا وقتاً .
قال الحسن : هو ما نقرأ في صلاة المغرب والعشاء . قال السديّ : ما تيسّر منه هو مائة آية . قال الحسن : أيضاً من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن . وقال كعب : من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين . وقال سعيد : خمسون آية . وقيل : معنى { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } : فصلوا ما تيسّر لكم من صلاة الليل ، والصلاة تسمى قرآناً ، كقوله : و { أَقِمِ الصلاة } [ الإسراء : 78 ] . قيل : إن هذه الآية نسخت قيام الليل ونصفه ، والنقصان من النصف والزيادة عليه ، فيحتمل أن يكون ما تضمنته هذه الآية فرضاً ثابتاً ، ويحتمل أن يكون منسوخاً لقوله : { وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } [ الإسراء : 79 ] . قال الشافعي : الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين . فوجدنا سنة رسول الله تدلّ على أن لا واجب من الصلاة إلاّ الخمس . وقد ذهب قوم إلى أن قيام الليل نسخ في حقه وفي حق أمته . وقيل : نسخ التقدير بمقدار وبقي أصل الوجوب . وقيل : إنه نسخ في حق الأمة ، وبقي فرضاً في حقه ، والأولى القول بنسخ قيام الليل على العموم في حقه وفي حق أمته ، وليس في قوله : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } ما يدل على بقاء شيء من الوجوب؛ لأنه إن كان المراد به القراءة من القرآن ، فقد وجدت في صلاة المغرب والعشاء وما يتبعهما من النوافل المؤكدة ، وإن كان المراد به الصلاة من الليل ، فقد وجدت صلاة الليل بصلاة المغرب والعشاء وما يتبعهما من التطوّع . وأيضاً الأحاديث الصحيحة المصرّحة بقول السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل عليّ غيرها ، يعني : الصلوات الخمس؟ فقال : « لا ، إلاّ أن تطوّع » تدل على عدم وجوب غيرها . فارتفع بهذا وجوب قيام الليل ، وصلاته على الأمة ، كما ارتفع وجوب ذلك على النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله : { وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } ، قال الواحدي : قال المفسرون في قوله : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } كان هذا في صدر الإسلام ، ثم نسخ بالصلوات الخمس عن المؤمنين ، وثبت على النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة ، وذلك قوله : { وأقيموا الصلاة } .
ثم ذكر سبحانه عذرهم فقال : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى } فلا يطيقون قيام الليل { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } أي : يسافرون فيها للتجارة والأرباح يطلبون من رزق الله ما يحتاجون إليه في معاشهم فلا يطيقون قيام الليل { وآخرون يقاتلون في سبيل الله } يعني : المجاهدين ، فلا يطيقون قيام الليل . ذكر سبحانه ها هنا ثلاثة أسباب مقتضية للترخيص ، ورفع وجوب قيام الليل ، فرفعه عن جميع الأمة لأجل هذه الأعذار التي تنوب بعضهم . ثم ذكر ما يفعلونه بعد هذا الترخيص فقال : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } وقد سبق تفسيره قريباً ، والتكرير للتأكيد { وأقيموا الصلاة } يعني : المفروضة ، وهي الخمس لوقتها { وآتوا الزكاة } يعني : الواجبة في الأموال .
وقال الحارث العكلي : هي صدقة الفطر؛ لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك . وقيل : صدقة التطوّع . وقيل : كل أفعال الخير { وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً } أي : أنفقوا في سبيل الخير من أموالكم إنفاقاً حسناً ، وقد مضى تفسيره في سورة الحديد . قال زيد بن أسلم : القرض الحسن النفقة على الأهل . وقيل : النفقة في الجهاد ، وقيل : هو إخراج الزكاة المفترضة على وجه حسن ، فيكون تفسيراً لقوله { وآتوا الزكاة } والأوّل أولى لقوله : { وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله } فإن ظاهره العموم ، أي : أيّ خير كان مما ذكر ومما لم يذكر { هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } مما تؤخرونه إلى عند الموت ، أو توصون به ليخرج بعد موتكم ، وانتصاب { خيراً } على أنه ثاني مفعولي تجدوه ، وضمير هو ضمير فصل ، وبالنصب قرأ الجمهور ، وقرأ أبو السماك ، وابن السميفع بالرفع على أن يكون هو مبتدأ ، وخير خبره ، والجملة في محل نصب على أنها ثاني مفعولي تجدوه . قال أبو زيد : وهي لغة تميم يرفعون ما بعد ضمير الفصل ، وأنشد سيبويه :
تحنّ إلى ليلى وأنت تركتها ... وكنت عليها بالملاء أنت أقدر
وقرأ الجمهور أيضاً : { وأعظم } بالنصب عطفاً على { خيراً } ، وقرأ أبو السماك ، وابن السميفع بالرفع ، كما قرأ برفع " خير " ، وانتصاب { أجراً } على التمييز { واستغفروا الله } أي : اطلبوا منه المغفرة لذنوبكم ، فإنكم لا تخلون من ذنوب تقترفونها { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : كثير المغفرة لمن استغفره ، كثير الرحمة لمن استرحمه .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والطبراني عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } . قال : «مائة آية» . وأخرج الدراقطني ، والبيهقي في سننه ، وحسناه عن قيس بن أبي حازم قال : صليت خلف ابن عباس ، فقرأ في أوّل ركعة بالحمد لله ربّ العالمين ، وأوّل آية من البقرة ، ثم ركع ، فلما انصرفنا أقبل علينا ، فقال : إن الله يقول : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } قال ابن كثير : وهذا حديث غريب جداً لم أره إلاّ في معجم الطبراني . وأخرج أحمد ، والبيهقي في سننه عن أبي سعيد قال : «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسّر» . وقد قدّمنا في البحث الأوّل من هذه السورة ما روي أن هذه الآيات المذكورة هنا هي الناسخة لوجوب قيام الليل ، فارجع إليه .
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
قال الواحدي : قال المفسرون : لما بدىء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي أتاه جبريل ، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرير بين السماء والأرض كالنور المتلأليء ، ففزع ووقع مغشياً عليه ، فلما أفاق دخل على خديجة ، ودعا بماء ، فصبه عليه ، وقال : «دثروني دثروني» ، فدثروه بقطيفة ، فقال : { يأَيُّهَا المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ } ومعنى { يأَيُّهَا المدثر } : يا أيها الذي قد تدثر بثيابه ، أي : تغشى بها ، وأصله المتدثر ، فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما . وقد قرأ الجمهور بالإدغام ، وقرأ أبي : " المتدثر " على الأصل ، والدثار : هو ما يلبس فوق الشعار ، والشعار : هو الذي يلي الجسد ، وقال عكرمة : المعنى : يا أيها المدثر بالنبوّة وأثقالها . قال ابن العربي : وهذا مجاز بعيد لأنه لم يكن نبياً إذ ذاك { قُمْ فَأَنذِرْ } أي : انهض فخوّف أهل مكة وحذرهم العذاب إن لم يسلموا ، أو قم من مضجعك ، أو قم قيام عزم وتصميم . وقيل : الإنذار هنا هو إعلامهم بنبوّته . وقيل : إعلامهم بالتوحيد . وقال الفراء : المعنى قم فصلّ ، وأمر بالصلاة { وَرَبَّكَ فَكَبّرْ } أي : واختص سيدك ومالكك ومصلح أمورك بالتكبير ، وهو وصفه سبحانه بالكبرياء والعظمة ، وأنه أكبر من أن يكون له شريك كما يعتقده الكفار ، وأعظم من أن يكون له صاحبة أو ولد . قال ابن العربي : المراد به تكبير التقديس والتنزيه بخلع الأضداد والأنداد والأصنام ، ولا يتخذ ولياً غيره ولا يعبد سواه ، ولا يرى لغيره فعلاً إلاّ له ولا نعمة إلاّ منه . قال الزجاج : إن الفاء في : { فكبر } دخلت على معنى الجزاء ، كما دخلت في : { فأنذر } . وقال ابن جني : هو كقولك : زيداً فاضرب أي : زيداً اضرب ، فالفاء زائدة . { وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ } المراد بها الثياب الملبوسة على ما هو المعنى اللغوي ، أمره الله سبحانه بتطهير ثيابه ، وحفظها عن النجاسات ، وإزالة ما وقع فيها منها . وقيل : المراد بالثياب العمل . وقيل : القلب . وقيل : النفس . وقيل : الجسم . وقيل : الأهل . وقيل : الدين . وقيل : الأخلاق . قال مجاهد ، وابن زيد ، وأبو رزين ، أي : عملك فأصلح . وقال قتادة : نفسك فطهّر من الذنب ، والثياب عبارة عن النفس . وقال سعيد بن جبير : قلبك فطهّر ، ومن هذا قول امرىء القيس :
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل ... وقال عكرمة : المعنى البسها على غير غدر وغير فجرة . وقال : أما سمعت قول الشاعر :
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع
والشاعر هو غيلان بن سلمة الثقفي ، ومن إطلاق الثياب على النفس قول عنترة :
فشككت بالرمح الطويل ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
وقول الآخر :
ثياب بني عوف طهارى نقية ... وقال الحسن ، والقرظي : إن المعنى ، وأخلاقك فطهّر؛ لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه ، ومنه قول الشاعر :
ويحيى لا يلام بسوء خلق ... ويحيى طاهر الأثواب حر
وقال الزجاج : المعنى ، وثيابك فقصر؛ لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسات إذا انجرّ على الأرض ، وبه قال طاوس ، والأوّل أولى؛ لأنه المعنى الحقيقي . وليس في استعمال الثياب مجاز عن غيرها لعلاقة مع قرينة ما يدلّ على أنه المراد عند الإطلاق ، وليس في مثل هذا الأصل : أعني الحمل على الحقيقة عند الإطلاق خلاف ، وفي الآية دليل على وجوب طهارة الثياب في الصلاة . { والرجز فاهجر } الرجز : معناه في اللغة : العذاب ، وفيه لغتان : كسر الراء وضمها ، وسمي الشرك وعبادة الأوثان رجزاً؛ لأنها سبب الرجز . قرأ الجمهور : { الرجز } بكسر الراء . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وحفص ، وابن محيصن بضمها . وقال مجاهد ، وعكرمة : الرجز : الأوثان ، كما في قوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] وبه قال ابن زيد . وقال إبراهيم النخعي : الرجز المأثم ، والهجر الترك . وقال قتادة : الرجز إساف ونائلة ، وهما صنمان كانا عند البيت . وقال أبو العالية ، والربيع ، والكسائي : الرجز بالضم الوثن ، وبالكسر العذاب . وقال السديّ : الرجز بضم الراء الوعيد ، والأوّل أولى { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } قرأ الجمهور : { ولا تمنن } بفك الإدغام ، وقرأ الحسن ، وأبو اليمان ، والأشهب العقيلي بالإدغام ، وقرأ الجمهور : { تستكثر } بالرفع على أنه حال ، أي : ولا تمنن حال كونك مستكثراً . وقيل : على حذف أن ، والأصل ولا تمنن أن تستكثر ، فلما حذفت رفع . قال الكسائي : فإذا حذف أن رفع الفعل . وقرأ يحيى بن وثاب ، والأعمش : « تستكثر » بالنصب على تقدير أن ، وبقاء عملها ، ويؤيد هذه القراءة قراءة ابن مسعود : « ولا تمنن أن تستكثر » بزيادة أن . وقرأ الحسن أيضاً ، وابن أبي عبلة : « تستكثر » بالجزم على أنه بدل من تمنن ، كما في قوله : { يَلْقَ أَثَاماً * يضاعف لَهُ } [ الفرقان : 68 ، 69 ] ، وقول الشاعر :
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا
أو الجزم لإجراء الوصل مجرى الوقف ، كما في قول امرىء القيس :
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثماً من الله ولا واغل
بتسكين أشرب . وقد اعترض على هذه القراءة؛ لأن قوله : { تستكثر } لا يصح أن يكون بدلاً من تمنن؛ لأن المنّ غير الاستكثار ، ولا يصح أن يكون جواباً للنهي .
واختلف السلف في معنى الآية . فقيل المعنى : لا تمنن على ربك بما تتحمله من أعباء النبوّة كالذي يستكثر ما يتحمله بسبب الغير . وقيل : لا تعط عطية تلتمس فيها أفضل منها ، قاله عكرمة ، وقتادة . قال الضحاك : هذا حرّمه الله على رسوله؛ لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجلّ الأخلاق ، وأباحه لأمته . وقال مجاهد : لا تضعف أن تستكثر من الخير ، من قولك حبل متين : إذا كان ضعيفاً . وقال الربيع بن أنس : لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير .
وقال ابن كيسان : لا تستكثر عملاً فتراه من نفسك ، إنما عملك منة من الله عليك إذ جعل لك سبيلاً إلى عبادته . وقيل : لا تمنن بالنبوّة ، والقرآن على الناس ، فتأخذ منهم أجراً تستكثره . وقال محمد بن كعب : لا تعط مالك مصانعة . وقال زيد بن أسلم : إذا أعطيت عطية فأعطها لربك .
{ وَلِرَبّكَ فاصبر } أي : لوجه ربك ، فاصبر على طاعته وفرائضه ، والمعنى : لأجل ربك وثوابه . وقال مقاتل ، ومجاهد : اصبر على الأذى والتكذيب . وقال ابن زيد : حملت أمراً عظيماً ، فحاربتك العرب والعجم ، فاصبر عليه لله . وقيل : اصبر تحت موارد القضاء لله . وقيل : فاصبر على البلوى . وقيل : على الأوامر والنواهي . { فَإِذَا نُقِرَ فِى الناقور } الناقور : فاعول من النقر ، كأنه من شأنه أن ينقر فيه للتصويت ، والنقر في كلام العرب الصوت ، ومنه قول امرىء القيس :
أخفضه بالنقر لما علوته ... ويقولون : نقر باسم الرجل : إذا دعاه ، والمراد هنا النفخ في الصور ، والمراد : النفخة الثانية . وقيل : الأولى ، وقد تقدّم الكلام في هذا في سورة الأنعام وسورة النحل ، والفاء للسببية ، كأنه قيل : اصبر على أذاهم ، فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أمرهم ، والعامل في إذا ما دلّ عليه قوله : { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الكافرين } فإن معناه : عسر الأمر عليهم . وقيل : العامل فيه ما دل عليه { فَذَلِكَ } لأنه إشارة إلى النقر ، ويومئذٍ بدل من إذا ، أو مبتدأ ، وخبره يوم عسير ، والجملة خبر { فذلك } ، وقيل : هو ظرف للخبر؛ لأن التقدير وقوع يوم عسير ، وقوله : { غَيْرُ يَسِيرٍ } تأكيد لعسره عليهم؛ لأن كونه غير يسير ، قد فهم من قوله : { يَوْمٌ عَسِيرٌ } . { ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } أي : دعني ، وهي كلمة تهديد ووعيد ، والمعنى : دعني والذي خلقته حال كونه وحيداً في بطن أمه لا مال له ولا ولد ، هذا على أن وحيداً منتصب على الحال من الموصول ، أو من الضمير العائد إليه المحذوف ، ويجوز أن يكون حالاً من الياء في ذرني ، أي : دعني وحدي معه ، فإني أكفيك في الانتقام منه ، والأوّل أولى . قال المفسرون : وهو الوليد بن المغيرة . قال مقاتل : يقول : خلّ بيني وبينه ، فأنا أنفرد بهلكته ، وإنما خص بالذكر لمزيد كفره ، وعظيم جحوده لنعم الله عليه . وقيل : أراد بالوحيد الذي لا يعرف أبوه ، وكان يقال في الوليد بن المغيرة : إنه دعيّ .
{ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } أي : كثيراً ، أو يمدّ بالزيادة والنماء شيئًا بعد شيء . قال الزجاج : مالاً غير منقطع عنه ، وقد كان الوليد بن المغيرة مشهوراً بكثرة المال على اختلاف أنواعه . قيل : كان يحصل له من غلة أمواله ألف ألف دينار . وقيل : أربعة آلاف دينار . وقيل : ألف دينار . { وَبَنِينَ شُهُوداً } أي : وجعلت له بنين حضوراً بمكة معه لا يسافرون ، ولا يحتاجون إلى التفرّق في طلب الرزق لكثرة مال أبيهم .
قال الضحاك : كانوا سبعة ولدوا بمكة ، وخمسة ولدوا بالطائف . وقال سعيد بن جبير : كانوا ثلاثة عشر ولداً . وقال مقاتل : كانوا سبعة كلهم رجال ، أسلم منهم ثلاثة خالد وهشام والوليد بن الوليد ، فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك . وقيل : معنى { شهوداً } أنه إذا ذكر ذكروا معه ، وقيل : كانوا يشهدون معه ما كان يشهده ، ويقومون بما كان يباشره { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } أي : بسطت له في العيش وطول العمر والرياسة في قريش ، والتمهيد عند العرب التوطئة ، ومنه مهد الصبيّ . وقال مجاهد : إنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش . { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } أي : يطمع بعد هذا كله في الزيادة لكثرة حرصه وشدة طمعه مع كفرانه للنعم ، وإشراكه بالله . قال الحسن : لم يطمع أن أدخله الجنة ، وكان يقول : إن كان محمد صادقاً ، فما خلقت الجنة إلاّ لي . ثم ردعه الله سبحانه وزجره فقال : { كَلاَّ } أي : لست أزيده . ثم علل ذلك بقوله : { إِنَّهُ كان لأياتنا عَنِيداً } أي : معانداً لها كافراً بما أنزلناه منها على رسولنا ، يقال : عند يعند بالكسر إذا خالف الحق وردّه ، وهو يعرفه ، فهو عنيد وعاند ، والعاند الذي يجوز عن الطريق ، ويعدل عن القصد ، ومنه قول الحارثي :
إذا ركبت فاجعلاني وسطا ... إني كبير لا أطيق العندا
قال أبو صالح : عنيداً معناه مباعداً . وقال قتادة : جاحداً . وقال مقاتل : معرضاً { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } أي : سأكلفه مشقة من العذاب ، وهو مثل لما يلقاه من العذاب الصعب الذي لا يطاق . وقيل المعنى : إنه يكلف أن يصعد جبلاً من نار ، والإرهاق في كلام العرب : أن يحمل الإنسان الشيء الثقيل ، وجملة : { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } تعليل لما تقدّم من الوعيد ، أي : إنه فكر في شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن ، وقدّر في نفسه ، أي : هيأ الكلام في نفسه ، والعرب تقول : هيأت الشيء إذا قدّرته ، وقدرت الشيء إذا هيأته ، وذلك أنه لما سمع القرآن لم يزل يفكر ماذا يقول فيه ، وقدّر في نفسه ما يقول ، فذمه الله ، وقال : { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } أي : لعن وعذب كيف قدر ، أي : على أيّ حال قدر ما قدر من الكلام ، كما يقال في الكلام : لأضربنه كيف صنع ، أي : على أيّ حال كانت منه . وقيل المعنى : قهر وغلب كيف قدر ، ومنه قول الشاعر :
وما ذرفت عيناك إلاّ لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
وقال الزهري : عذب ، وهو من باب الدعاء عليه ، والتكرير في قوله : { ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } للمبالغة والتأكيد . { ثُمَّ نَظَرَ } أي : بأيّ شيء يدفع القرآن ويقدح فيه ، أو فكر في القرآن وتدبر ما هو .
{ ثُمَّ عَبَسَ } أي : قطب وجهه لما لم يجد مطعناً يطعن به في القرآن ، والعبس مصدر عبس مخففاً ، يعبس عبساً وعبوساً إذا قطب . وقيل : عبس في وجوه المؤمنين . وقيل : عبس في وجه النبيّ صلى الله عليه وسلم { وَبَسَرَ } أي : كلح وجهه وتغير ، ومنه قول الشاعر :
صبحنا تميماً غداة الحفار ... بشهباء ملموسة باسره
وقول الآخر :
وقد رابني منها صدود رأيته ... وإعراضها عن حاجتي وبسورها
وقيل : إن ظهور العبوس في الوجه يكون بعد المحاورة ، وظهور البسور في الوجه قبلها ، والعرب تقول : وجه باسر إذا تغير واسودّ . وقال الراغب : البسر استعجال الشرّ قبل أوانه نحو بسر الرجل حاجته ، أي : طلبها في غير أوانها . قال : ومنه قوله : { عَبَسَ وَبَسَرَ } أي : أظهر العبوس قبل أوانه وقبل وقته ، وأهل اليمن يقولون : بسر المركب وأبسر أي : وقف لا يتقدّم ولا يتأخر ، وقد أبسرنا أي : صرنا إلى البسور . { ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر } أي : أعرض عن الحقّ ، وذهب إلى أهله ، وتعظم عن أن يؤمن { فَقَالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } أي : يأثره عن غيره ويرويه عنه . والسحر : إظهار الباطل في صورة الحقّ ، أو الخديعة على ما تقدّم بيانه في سورة البقرة ، يقال : أثرت الحديث بأثره إذا ذكرته عن غيرك ، ومنه قول الأعشى :
إن الذي فيه تحاربتما ... بين للسامع والآثر
{ إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ البشر } يعني : أنه كلام الإنس ، وليس بكلام الله ، وهو تأكيد لما قبله ، وسيأتي أن الوليد بن المغيرة إنما قال هذا القول إرضاء لقومه بعد اعترافه أن له حلاوة ، وأن عليه طلاوة إلى آخر كلامه . ولما قال هذا القول الذي حكاه الله عنه ، قال الله عزّ وجلّ : { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } أي : سأدخله النار ، وسقر من أسماء النار ، ومن دركات جهنم . وقيل : إن هذه الجملة بدل من قوله : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } ثم بالغ سبحانه في وصف النار وشدة أمرها فقال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } أي : وما أعلمك أيّ شيء هي ، والعرب تقول : وما أدراك ما كذا : إذا أرادوا المبالغة في أمره ، وتعظيم شأنه وتهويل خطبه ، وما الأولى مبتدأ ، وجملة { مَا سَقَرُ } خبر المبتدأ . ثم فسر حالها ، فقال : { لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ } والجملة مستأنفة لبيان حال سقر ، والكشف عن وصفها . وقيل : هي في محل نصب على الحال ، والعامل فيها معنى التعظيم؛ لأن قوله : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } يدل على التعظيم ، فكأنه قال : استعظموا سقر في هذه الحال ، والأوّل أولى ، ومفعول الفعلين محذوف . قال السديّ : لا تبقي لهم لحماً ولا تذر لهم عظماً . وقال عطاء : لا تبقي من فيها حياً ولا تذره ميتاً . وقيل : هما لفظان بمعنى واحد ، كررا للتأكيد كقولك : صدّ عني وأعرض عني { لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ } قرأ الجمهور : { لوّاحة } بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف .
وقيل : على أنه نعت لسقر ، والأوّل أولى . وقرأ الحسن ، وعطية العوفي ، ونصر بن عاصم ، وعيسى بن عمر ، وابن أبي عبلة ، وزيد بن عليّ بالنصب على الحال أو الاختصاص للتهويل ، يقال : لاح يلوح ، أي : ظهر ، والمعنى : أنها تظهر للبشر . قال الحسن : تلوح لهم جهنم حتى يرونها عياناً كقوله : { وَبُرّزَتِ الجحيم لِمَن يرى } [ النازعات : 36 ] . وقيل : معنى { لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ } أي : مغيرة لهم ومسوّدة . قال مجاهد : والعرب تقول : لاحه الحر والبرد والسقم والحزن : إذا غيره ، وهذا أرجح من الأوّل ، وإليه ذهب جمهور المفسرين ، ومنه قول الشاعر :
وتعجب هند أن رأتني شاحبا ... تقول لشيء لوحته السمائم
أي : غيرته ، ومنه قول رؤبة بن العجاج :
لوّح منه بعد بدن وشبق ... تلويحك الضامر يطوى للسبق
وقال الأخفش : المعنى أنها معطشة للبشر ، وأنشد :
سقتني على لوح من الماء شربة ... سقاها به الله الرهام الغواديا
والمراد بالبشر : إما جلدة الإنسان الظاهرة ، كما قاله الأكثر ، أو المراد به أهل النار من الإنس ، كما قال الأخفش . { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } قال المفسرون : يقول على النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها . وقيل : تسعة عشر صنفاً من أصناف الملائكة . وقيل : تسعة عشر صفاً من صفوفهم . وقيل : تسعة عشر نقيباً مع كل نقيب جماعة من الملائكة ، والأوّل أولى . قال الثعلبي : ولا ينكر هذا ، فإذا كان ملك واحدة يقبض أرواح جميع الخلائق كان أحرى أن يكونوا تسعة عشر على عذاب بعض الخلق . قرأ الجمهور : { تسعة عشر } بفتح الشين من عشر ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، وطلحة بن سليمان بإسكانها .
وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن جابر بن عبد الله أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال : إن أوّل ما نزل من القرآن : { يأَيُّهَا المدثر } فقال له يحيى بن أبي كثير : يقولون إن أوّل ما نزل { اقرأ باسم رَبّكَ الذى خَلَقَ } [ العلق : 1 ] فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك ، قلت له مثل ما قلت ، فقال جابر : لا أحدّثنك إلاّ ما حدّثنا رسول الله قال : « جاورت بحراء ، فلما قضيت جواري هبطت ، فنوديت ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا ، ونظرت عن شمالي ، فلم أر شيئًا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا ، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فحثيت منه رعباً ، فرجعت ، فقلت : دثروني فدثروني ، فنزلت : { رَّحِيمٌ يأَيُّهَا المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ } إلى قوله : { والرجز فاهجر } » وسيأتي في سورة اقرأ ما يدل على أنها أوّل سورة أنزلت ، والجمع ممكن .
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس : { يأَيُّهَا المدثر } فقال : دثر هذا الأمر ، فقم به .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه { يأَيُّهَا المدثر } قال : النائم { وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ } قال : لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب باطل { والرجز فاهجر } قال : الأصنام { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } قال : لا تعط تلتمس بها أفضل منها . وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عنه أيضاً . { وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ } قال : من الإثم . قال : وهي في كلام العرب نقيّ الثياب . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً : { وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ } قال : من الغدر ، لا تكن غدّاراً . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري ، وابن مردويه عن عكرمة عنه أيضاً أنه سئل عن قوله : { وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ } قال : لا تلبسها على غدرة ، ثم قال : ألا تسمعون قول غيلان بن سلمة :
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع
وأخرج الطبراني ، والبيهقي في سننه عنه أيضاً : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } قال : لا تعط الرجل عطاء رجاء أن يعطيك أكثر منه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عنه أيضاً : { فَإِذَا نُقِرَ فِى الناقور } قال : الصور { يَوْمٌ عَسِيرٌ } قال : شديد . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً : { ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } قال : الوليد بن المغيرة . وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الدلائل عنه أيضاً : أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رقّ له ، فبلغ ذلك أبا جهل ، فأتاه فقال : يا عمّ إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه ، فإنك أتيت محمداً لتعرض لما قبله ، قال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً ، قال : فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له ، وأنك كاره له ، قال : وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجنّ ، والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئًا من هذا ، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه ليعلو وما يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته؛ قال : والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه ، قال : فدعني حتى أفكر ، فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر ، يأثره عن غيره ، فنزلت : { ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } . وقد أخرج هذا عبد الرزاق عن عكرمة مرسلاً ، وكذا أخرجه ابن جرير ، وابن إسحاق ، وابن المنذر ، وغير واحد .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن قوله : { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } قال : غلة شهر بشهر . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس : { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } قال : ألف دينار .
وأخرج هناد عن أبي سعيد الخدري في قوله : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } قال : هو جبل في النار يكلفون أن يصعدوا فيه ، فكلما وضعوا أيديهم عليه ذابت ، فإذا رفعوها عادت كما كانت . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس : { عَنِيداً } قال : جحوداً . وأخرج أحمد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي سعيد ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الصعود جبل في النار يصعد فيه الكافر سبعين خريفاً ، ثم يهوي وهو كذلك فيه أبداً » قال الترمذي بعد إخراجه : غريب لا نعرفه إلاّ من حديث ابن لهيعة عن درّاج . قال ابن كثير : وفيه غرابة ونكارة انتهى ، وقد أخرجه جماعة من قول أبي سعيد .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : { صَعُوداً } صخرة في جهنم يسحب عليها الكافر على وجهه . وأخرج ابن المنذر عنه قال : جبل في النار . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله : { لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ } قال : لا تبقي منهم شيئًا ، وإذا بدّلوا خلقاً آخر لم تذر أن تعاودهم سبيل العذاب الأوّل . وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً { لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ } قال : تلوح الجلد فتحرقه وتغير لونه ، فيصير أسود من الليل . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { لَوَّاحَةٌ } قال : محرقة . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن البراء : أن رهطاً من اليهود سألوا بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم ، فقال : الله ورسوله أعلم ، فجاء جبريل ، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فنزلت عليه ساعتئذٍ { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } .
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
لما نزل قوله سبحانه : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } [ المدثر : 30 ] قال أبو جهل : أما لمحمد من الأعوان إلاّ تسعة عشر يخوّفكم محمد بتسعة عشر ، وأنتم الدهم ، أفيعجز كل مائة رجل منكم أن يبطشوا بواحد منهم ، ثم يخرجون من النار؟ فقال أبو الأشدّ ، وهو رجل من بني جمح : يا معشر قريش إذا كان يوم القيامة ، فأنا أمشي بين أيديكم ، فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن ، وتسعة بمنكبي الأيسر ، ونمضي ندخل الجنة ، فأنزل الله : { وَمَا جَعَلْنَا أصحاب النار إِلاَّ مَلَئِكَةً } يعني : ما جعلنا المدبرين لأمر النار القائمين بعذاب من فيها إلاّ ملائكة ، فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم ، فكيف تتعاطون أيها الكفار مغالبتهم . وقيل : جعلهم ملائكة؛ لأنهم خلاف جنس المخلوقين من الجنّ والإنس ، فلا يأخذهم ما يأخذ المجالس من الرقة والرأفة . وقيل : لأنهم أقوم خلق الله بحقه والغضب له ، وأشدهم بأساً وأقواهم بطشاً { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً } أي : ضلالة لِلَّذِينَ استقلوا عددهم ، ومحنة لهم ، والمعنى : ما جعلناهم عددهم هذا العدد المذكور في القرآن إلاّ ضلالة ومحنة لهم ، حتى قالوا ما قالوا ، ليتضاعف عذابهم ويكثر غضب الله عليهم . وقيل : معنى { إِلاَّ فِتْنَةً } إلاّ عذاباً ، كما في قوله : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } [ الذاريات : 13 ] أي : يعذبون ، واللام في قوله : { لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } متعلق ب { جعلنا } ، والمراد بأهل الكتاب : اليهود والنصارى لموافقة ما نزل من القرآن بأن عدّة خزنة جهنم تسعة عشر لما عندهم . قاله قتادة ، والضحاك ، ومجاهد ، وغيرهم ، والمعنى : أن الله جعل عدّة الخزنة هذه العدّة؛ ليحصل اليقين لليهود والنصارى بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم لموافقة ما في القرآن لما في كتبهم .
{ وَيَزْدَادَ الذين ءامَنُواْ إيمانا } وقيل : المراد الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام . وقيل : أراد الذين آمنوا المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : ليزدادوا يقيناً إلى يقينهم لما رأوا من موافقة أهل الكتاب لهم ، وجملة { وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون } مقرّرة لما تقدّم من الاستيقان وازدياد الإيمان ، والمعنى : نفي الارتياب عنهم في الدّين ، أو في أن عدّة خزنة جهنم تسعة عشر ، ولا ارتياب في الحقيقة من المؤمنين ، ولكنه من باب التعريض لغيرهم ممن في قلبه شك { وَلِيَقُولَ الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } المراد بالذين في قلوبهم مرض : هم المنافقون؛ والسورة وإن كانت مكية ، ولم يكن إذ ذاك نفاق ، فهو إخبار بما سيكون في المدينة ، أو المراد بالمرض مجرّد حصول الشكّ والريب ، وهو كائن في الكفار . قال الحسين بن الفضل : السورة مكية ، ولم يكن بمكة نفاق ، فالمرض في هذه الآية الخلاف ، والمراد بقوله : { والكافرون } كفار العرب من أهل مكة ، وغيرهم ، ومعنى { مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } : أيّ شيء أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل .
قال الليث : المثل الحديث ، ومنه قوله : { مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون } [ الرعد : 35 ] أي : حديثها ، والخبر عنها { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَاء } أي : مثل ذلك الإضلال المتقدّم ذكره ، وهو قوله : { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } . { يُضِلُّ الله مَن يَشَاء } من عباده ، والكاف نعت مصدر محذوف { وَيَهْدِى مَن يَشَاء } من عباده ، والمعنى : مثل ذلك الإضلال للكافرين والهداية للمؤمنين ، يضلّ الله من يشاء إضلاله ويهدي من يشاء هدايته . وقيل المعنى : كذلك يضلّ الله عن الجنة من يشاء ، ويهدي إليها من يشاء .
{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ } أي : ما يعلم عدد خلقه ، ومقدار جموعه من الملائكة ، وغيرهم إلاّ هو وحده لا يقدر على علم ذلك أحد . وقال عطاء : يعني من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار لا يعلم عدّتهم إلاّ الله ، والمعنى : أن خزنة النار ، وإن كانوا تسعة عشر ، فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلاّ الله سبحانه . ثم رجع سبحانه إلى ذكر سقر فقال : { وَمَا هِىَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ } أي : وما سقر ، وما ذكر من عدد خزنتها إلاّ تذكرة وموعظة للعالم . وقيل : { وَمَا هِىَ } أي : الدلائل والحجج والقرآن إلاّ تذكرة للبشر . وقال الزجاج : نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة ، وهو بعيد . وقيل : { مَا هِىَ } أي : عدّة خزنة جهنم إلاّ تذكرة للبشر؛ ليعلموا كمال قدرة الله ، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار . وقيل : الضمير في { وَمَا هِىَ } يرجع إلى الجنود .
ثم ردع سبحانه المكذبين وزجرهم فقال : { كَلاَّ والقمر } قال الفراء : { كلا } صلة للقسم ، التقدير ، أي : والقمر . وقيل المعنى : حقاً والقمر . قال ابن جرير : المعنى ردّ زعم من زعم أنه يقاوم خزنة جهنم أي : ليس الأمر كما يقول ، ثم أقسم على ذلك بالقمر وبما بعده ، وهذا هو الظاهر من معنى الآية . { واليل إِذْ أَدْبَرَ } أي : ولى . قرأ الجمهور : « إذا » بزيادة الألف ، دبر بزنة ضرب على أنه ظرف لما يستقبل من الزمان ، وقرأ نافع ، وحفص ، وحمزة : { إذ } بدون ألف ، أدبر بزنة أكرم ظرف لما مضى من الزمان ودبر ، وأدبر لغتان ، كما يقال : أقبل الزمان وقبل الزمان ، يقال : دبر الليل وأدبر : إذا تولى ذاهباً . { والصبح إِذَا أَسْفَرَ } أي : أضاء وتبين { إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر } هذا جواب القسم ، والضمير راجع إلى سقر ، أي : إنّ سقر لإحدى الدواهي ، أو البلايا الكبر ، والكبر جمع كبرى ، وقال مقاتل : إن الكبر اسم من أسماء النار . وقيل : إنها أي : تكذبيهم لمحمد لإحدى الكبر . وقيل : إن قيام الساعة لإحدى الكبر ، ومنه قول الشاعر :
يابن المعلى نزلت إحدى الكبر ... داهية الدهر وصماء الغير
قرأ الجمهور : { لإحدى } بالهمزة ، وقرأ نصر بن عاصم ، وابن محيصن ، وابن كثير في رواية عنه : « إنها لحدى » بدون همزة . وقال الكلبي : أراد بالكبر دركات جهنم وأبوابها . { نَذِيراً لّلْبَشَرِ } انتصاب { نذيراً } على الحال من الضمير في { إنها } ، قاله الزجاج . وروي عنه ، وعن الكسائي ، وأبي عليّ الفارسي أنه حال من قوله : { قُمْ فَأَنذِرْ } [ المدثر : 2 ] أي : قم يا محمد فأنذر حال كونك نذيراً للبشر . وقال الفراء : هو مصدر بمعنى الإنذار منصوب بفعل مقدّر . وقيل : إنه منتصب على التمييز لإحدى لتضمنها معنى التنظيم كأنه قيل : أعظم الكبر إنذاراً ، وقيل : إنه مصدر منصوب بأنذر المذكور في أوّل السورة . وقيل : منصوب بإضمار أعني ، وقيل : منصوب بتقدير ادع . وقيل : منصوب بتقدير ناد أو بلغ . وقيل : إنه مفعول لأجله ، والتقدير : وإنها لإحدى الكبر؛ لأجل إنذار البشر . قرأ الجمهور بالنصب ، وقرأ أبيّ بن كعب ، وابن أبي عبلة بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي نذير ، أو هو نذير .
وقد اختلف في النذير ، فقال الحسن : هي النار . وقيل : محمد صلى الله عليه وسلم . وقال أبو رزين : المعنى أنا نذير لكم منها ، وقيل : القرآن نذير للبشر لما تضمنه من الوعد والوعيد { لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } هو بدل من قوله : { لّلْبَشَرِ } أي : نذيراً لمن شاء منكم أن يتقدّم إلى الطاعة أو يتأخر عنها ، والمعنى : أن الإنذار قد حصل لكل من آمن وكفر ، وقيل : فاعل المشيئة هو الله سبحانه ، أي : لمن شاء الله أن يتقدّم منكم بالإيمان أو يتأخر بالكفر ، والأوّل أولى . وقال السديّ : لمن شاء منكم أن يتقدّم إلى النار المتقدم ذكرها ، أو يتأخر إلى الجنة .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : لما سمع أبو جهل { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } . قال لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر وأنتم الدّهم ، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطش برجل من خزنة جهنم؟ وأخرج ابن مردويه عنه في قوله : { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } قال : قال أبو الأشدّ : خلوا بيني وبين خزنة جهنم أنا أكفيكم مؤنتهم ، قال : وحدّثت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وصف خزّان جهنم فقال : « كأن أعينهم البرق ، وكأن أفواههم الصياصي يجرّون أشعارهم ، لهم مثل قوّة الثقلين ، يقبل أحدهم بالأمة من الناس يسوقهم على رقبته جبل حتى يرمي بهم في النار فيرمي بالجبل عليهم » وأخرج الطبراني في الأوسط ، وأبو الشيخ عن أبي سعيد الخدري : « أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثهم عن ليلة أسري به قال : فصعدت أنا وجبريل إلى السماء الدنيا ، فإذا أنا بملك يقال له : إسماعيل ، وهو صاحب سماء الدنيا ، وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف ، وتلا هذه الآية { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ } »
وأخرج أحمد عن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أطت السماء ، وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أصبع إلاّ عليه ملك ساجد » وأخرجه الترمذي ، وابن ماجه . قال الترمذي : حسن غريب ، ويروى عن أبي ذرّ موقوفاً .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : { إِذْ أَدْبَرَ } قال : دبور ظلامه . وأخرج مسدّد في مسنده ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : سألت ابن عباس عن قوله : { واليل إِذْ أَدْبَرَ } فسكت عني حتى إذا كان من آخر الليل وسمع الأذان ، ناداني يا مجاهد هذا حين دبر الليل . وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } قال : من شاء اتبع طاعة الله ومن شاء تأخر عنها .
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
قوله : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } أي : مأخوذة بعملها ومرتهنة به ، إما خلصها وإما أوبقها ، والرهينة اسم بمعنى الرهن ، كالشيمة بمعنى الشيم ، وليست صفة ، ولو كانت صفة لقيل : رهين؛ لأن فعيلاً يستوي فيه المذكر والمؤنث ، والمعنى : كل نفس رهن بكسبها غير مفكوكة . { إِلاَّ أصحاب اليمين } فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم ، بل يفكون بما أحسنوا من أعمالهم .
واختلف في تعيينهم . فقيل : هم الملائكة . وقيل : المؤمنون . وقيل : أولاد المسلمين . وقيل : الذين كانوا عن يمين آدم . وقيل : أصحاب الحقّ . وقيل : هم المعتمدون على الفضل دون العمل . وقيل : هم الذين اختارهم الله لخدمته { فِي جنات } هو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، والجملة استئناف جواباً عن سؤال نشأ مما قبله ، ويجوز أن يكون { في جنات } حالاً من { أصحاب اليمين } ، وأن يكون حالاً من فاعل { يتساءلون } ، وأن يكون ظرفاً ل { يتساءلون } ، وقوله : { يَتَسَاءلُونَ } يجوز أن يكون على بابه ، أي : يسأل بعضهم بعضاً ، ويجوز أن يكون بمعنى يسألون أي : يسألون غيرهم ، نحو دعيته وتداعيته ، فعلى الوجه الأوّل يكون { عَنِ المجرمين } متعلقاً ب { يتساءلون } أي : يسأل بعضهم بعضاً عن أحوال المجرمين ، وعلى الوجه الثاني تكون « عن » زائدة ، أي : يسألون المجرمين .
وقوله : { مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ } هو على تقدير القول ، أي : يتساءلون عن المجرمين يقولون لهم : ما سلككم في سقر ، أو يسألونهم قائلين لهم : ما سلككم في سقر ، والجملة على كلا التقديرين في محل نصب على الحال ، والمعنى : ما أدخلكم في سقر ، تقول سلكت الخيط في كذا : إذا دخلته فيه . قال الكلبي : يسأل الرجل من أهل الجنة الرجل من أهل النار باسمه ، فيقول له : يا فلان ما سلكك في النار . وقيل : إن الملائكة يسألون الملائكة عن أقربائهم ، فتسأل الملائكة المشركين يقولون لهم : ما سلككم في سقر . قال الفراء : في هذا ما يقوّي أن أصحاب اليمين هم الولدان؛ لأنهم لا يعرفون الذنوب . ثم ذكر سبحانه ما أجاب به أهل النار عليهم فقال : { قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين } أي : من المؤمنين الذين يصلون لله في الدنيا . { وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين } أي : لم نتصدق على المساكين . قيل : وهذان محمولان على الصلاة الواجبة والصدقة الواجبة؛ لأنه لا تعذيب على غير الواجب ، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالشرعيات . { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين } أي : نخالط أهل الباطل في باطلهم . قال قتادة : كلما غوى غاوٍ غوينا معه . وقال السديّ : كنا نكذب مع المكذبين . وقال ابن زيد : نخوض مع الخائضين في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو قولهم : كاذب مجنون ساحر شاعر . { وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدين } أي : بيوم الجزاء والحساب { حتى أتانا اليقين } وهو : الموت ، كما في قوله :
{ واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين } [ الحجر : 99 ] .
{ فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعة الشافعين } أي : شفاعة الملائكة والنبيين ، كما تنفع الصالحين . { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } التذكرة التذكير بمواعظ القرآن ، والفاء لترتيب إنكار إعراضهم عن التذكرة على ما قبله من موجبات الإقبال عليها ، وانتصاب { معرضين } على الحال من الضمير في متعلق الجارّ والمجرور ، أي : أيّ شيء حصل لهم حال كونهم معرضين عن القرآن الذي هو مشتمل على التذكرة الكبرى والموعظة العظمى . ثم شبههم في نفورهم عن القرآن بالحمر فقال : { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ } والجملة حال من الضمير في معرضين على التداخل ، ومعنى مُّسْتَنفِرَةٌ : نافرة ، يقال : نفر واستنفر ، مثل عجب واستعجب ، والمراد الحمر الوحشية . قرأ الجمهور : { مستنفرة } بكسر الفاء ، أي : نافرة ، وقرأ نافع ، وابن عامر بفتحها ، أي : منفرة مذعورة ، واختار القراءة الثانية أبو حاتم ، وأبو عبيد . قال في الكشاف : المستنفرة الشديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها في جمعها له ، وحملها عليه ، { فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } أي : من رماة يرمونها ، والقسور الرامي ، وجمعه قسورة ، قاله سعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن كيسان . وقيل : هو الأسد ، قاله عطاء والكلبي . قال ابن عرفة : من القسر بمعنى القهر؛ لأنه يقهر السباع . وقيل : القسورة أصوات الناس . وقيل : القسورة بلسان العرب الأسد ، وبلسان الحبشة الرماة . وقال ابن الأعرابي : القسورة أوّل الليل ، أي : فرت من ظلمة الليل ، وبه قال عكرمة ، والأوّل أولى ، وكلّ شديد عند العرب فهو : قسورة ، ومنه قول الشاعر :
يا بنت كوني خيرة لخيره ... أخوالها الحيّ وأهل القسورة
ومنه قول لبيد :
إذا ما هتفنا هتفة في ندينا ... أتانا الرجال العابدون القساور
ومن إطلاقه على الأسد قول الشاعر :
مضمر تحذره الأبطال ... كأنه القسوّر الرهال
{ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } عطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل : لا يكتفون بتلك التذكرة بل يريد . قال المفسرون : إن كفار قريش قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم : ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك رسول الله . والصحف الكتب واحدتها صحيفة ، والمنشرة المنشورة المفتوحة ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه : { حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ } [ الإسراء : 93 ] قرأ الجمهور : { منشرة } بالتشديد . وقرأ سعيد بن جبير بالتخفيف . وقرأ الجمهور أيضاً : بضم الحاء من صحف . وقرأ سعيد بن جبير بإسكانها . ثم ردعهم الله سبحانه عن هذه المقالة وزجرهم فقال : { كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخرة } يعني : عذاب الآخرة؛ لأنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات . وقيل : كلا بمعنى حقاً . ثم كرّر الردع والزجر لهم فقال : { كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ } يعني : القرآن ، أو حقاً إنه تذكرة ، والمعنى : أنه يتذكر به ويتعظ بمواعظه .
{ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ } أي : فمن شاء أن يتعظ به اتعظ . ثم ردّ سبحانه المشيئة إلى نفسه فقال : { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله } قرأ الجمهور : { يذكرون } بالياء التحتية . وقرأ نافع ، ويعقوب بالفوقية ، واتفقوا على التخفيف ، وقوله : { إلاّ أن يشاء الله } استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال . قال مقاتل : إلاّ أن يشاء الله لهم الهدى { هُوَ أَهْلُ التقوى } أي : هو الحقيق بأن يتقيه المتقون بترك معاصيه والعمل بطاعاته { وَأَهْلُ المغفرة } أي : هو الحقيق بأن يغفر للمؤمنين ما فرط منهم من الذنوب ، والحقيق بأن يقبل توبة التائبين من العصاة ، فيغفر ذنوبهم .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } قال : مأخوذة بعملها . وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { إِلاَّ أصحاب اليمين } قال : هم المسلمون . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن عليّ بن أبي طالب : { إِلاَّ أصحاب اليمين } قال : هم أطفال المسلمين . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : { حتى أتانا اليقين } قال : الموت . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن أبي موسى الأشعري في قوله : { فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } قال : هم الرماة رجال القسيّ . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن ابن عباس قال : القسورة الرجال الرماة القنص . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي جمرة قال : قلت لابن عباس : القسورة الأسد ، فقال : ما أعلمه بلغة أحد من العرب الأسد هم عصبة الرجال . وأخرج سفيان بن عيينة ، وعبد الرزاق ، وابن المنذر عن ابن عباس { مِن قَسْوَرَةٍ } قال : هو ركز الناس يعني : أصواتهم . وأخرج أحمد ، والدارمي ، والترمذي وحسنه ، والنسائي ، وابن ماجه ، والبزار ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن عديّ وصححه ، وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية { هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة } فقال : قال ربكم : « أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله ، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها ، فأنا أهل أن أغفر له » وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة ، وابن عمر ، وابن عباس مرفوعاً نحوه .
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
قوله : { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة } قال أبو عبيدة ، وجماعة المفسرين : إن «لا» زائدة ، والتقدير : أقسم . قال السمرقندي : أجمع المفسرون أن معنى { لا أقسم } : أقسم ، واختلفوا في تفسير " لا " ، فقال بعضهم : هي زائدة ، وزيادتها جارية في كلام العرب ، كما في قوله : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] يعني : أن تسجد ، و : { لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] ومن هذا قول الشاعر :
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة ... وكاد صميم القلب لا يتقطع
وقال بعضهم : هي ردّ لكلامهم حيث أنكروا البعث كأنه قال : ليس الأمر كما ذكرتم ، أقسم بيوم القيامة ، وهذا قول الفرّاء ، وكثير من النحويين ، كقول القائل : لا والله ، فلا ردّ لكلام قد تقدّمها ، ومنه قول الشاعر :
فلا وأبيك ابنة العامري ... لا يدّعى القوم أني أفر
وقيل : هي للنفي ، لكن لا لنفي الإقسام ، بل لنفي ما ينبيء عنه من إعظام المقسم به وتفخيمه ، كأن معنى لا أقسم بكذا : لا أعظمه بإقسامي به حقّ إعظامه ، فإنه حقيق بأكثر من ذلك . وقيل : إنها لنفي الإقسام لوضوح الأمر ، وقد تقدّم الكلام على هذا في تفسير قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم } [ الواقعة : 75 ] . وقرأ الحسن ، وابن كثير في رواية عنه ، والزهري ، وابن هرمز : " لأقسم " بدون ألف على أن اللام لام الابتداء ، والقول الأوّل هو أرجح هذه الأقوال ، وقد اعترض عليه الرازي بما لا يقدح في قوّته ، ولا يفتّ في عضد رجحانه ، وإقسامه سبحانه بيوم القيامة لتعظيمه وتفخيمه ، ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته .
{ وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة } ذهب قوم إلى أنه سبحانه أقسم بالنفس اللوّامة ، كما أقسم بيوم القيامة ، فيكون الكلام في " لا " هذه كالكلام في الأولى ، وهذا قول الجمهور . وقال الحسن : أقسم بيوم القيامة ، ولم يقسم بالنفس اللوّامة . قال الثعلبي : والصحيح أنه أقسم بهما جميعاً ، ومعنى النفس اللوامة : النفس التي تلوم صاحبها على تقصيره ، أو تلوم جميع النفوس على تقصيرها . قال الحسن : هي والله نفس المؤمن ، لا يرى المؤمن إلاّ يلوم نفسه ما أردت بكذا ما أردت بكذا ، والفاجر لا يعاتب نفسه . قال مجاهد : هي التي تلوم على ما فات وتندم ، فتلوم نفسها على الشرّ لم تعمله؟ وعلى الخير لم لم تستكثر منه؟ قال الفرّاء : ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلاّ وهي تلوم نفسها ، إن كانت عملت خيراً قالت : هلا ازددت ، وإن كانت عملت سوءاً قالت : ليتني لم أفعل . وعلى هذا فالكلام خارج مخرج المدح للنفس ، فيكون الإقسام بها حسناً سائغاً . وقيل : اللوّامة هي الملومة المذمومة ، فهي صفة ذمّ ، وبهذا احتج من نفى أن يكون قسماً ، إذ ليس لنفس العاصي خطر يقسم به .
قال مقاتل : هي نفس الكافر يلوم نفسه ويتحسر في الآخرة على ما فرط في جنب الله . والأوّل أولى .
{ أَيَحْسَبُ الإنسان أَن لَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } المراد بالإنسان الجنس . وقيل : الإنسان الكافر ، والهمزة للإنكار ، وأن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، والمعنى : أيحسب الإنسان أن الشأن أن لن نجمع عظامه بعد أن صارت رفاتاً ، فنعيدها خلقاً جديداً ، وذلك حسبان باطل ، فإنا نجمعها ، وما يدلّ عليه هذا الكلام هو جواب القسم . قال الزجاج : أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوّامة ليجمعنّ العظام للبعث ، فهذا جواب القسم . وقال النحاس : جواب القسم محذوف ، أي : ليبعثنّ ، والمعنى : أن الله سبحانه يبعث جميع أجزاء الإنسان ، وإنما خصّ العظام لأنها قالب الخلق . { بلى قادرين على أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ } بلى إيجاب لما بعد النفي المنسحب إليه الاستفهام ، والوقف على هذا اللفظ وقف حسن ، ثم يبتدىء الكلام بقوله : { قادرين } وانتصاب { قادرين } على الحال ، أي : بلى نجمعها قادرين ، فالحال من ضمير الفعل المقدّر . وقيل المعنى : بل نجمعها نقدر قادرين . قال الفراء : أي نقدر ونقوى قادرين على أكثر من ذلك . وقال أيضاً : إنه يصلح نصبه على التكرير ، أي : بلى فليحسبنا قادرين . وقيل التقدير : بلى كنا قادرين . وقرأ ابن أبي عبلة ، وابن السميفع ( بلى قادرون ) على تقدير مبتدأ ، أي : بلى نحن قادرون ، ومعنى : { على أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ } : على أن نجمع بعضها إلى بعض ، فنردّها كما كانت مع لطافتها وصغرها ، فكيف بكبار الأعضاء ، فنبه سبحانه بالبنان ، وهي الأصابع على بقية الأعضاء ، وأن الاقتدار على بعثها وإرجاعها كما كانت أولى في القدرة من إرجاع الأصابع الصغيرة اللطيفة المشتملة على المفاصل والأظافر والعروق اللطاف والعظام الدقاق ، فهذا وجه تخصيصها بالذكر ، وبهذا قال الزجاج ، وابن قتيبة . وقال جمهور المفسرين : إن معنى الآية : أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئًا واحداً ، كخف البعير وحافر الحمار صفيحة واحدة لا شقوق فيها ، فلا يقدر على أن ينتفع بها في الأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة ونحوهما ، ولكنا فرقنا أصابعه لينتفع بها . وقيل المعنى : بل نقدر على أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم ، فكيف في صورته التي كان عليها ، والأوّل أولى ، ومنه قول عنترة :
وإن الموت طوع يدي إذا ما ... وصلت بنانها بالهندوان
فنبه بالبنان على بقية الأعضاء . { بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } هو عطف على { أيحسب } ، إما على أنه استفهام مثله ، وأضرب عن التوبيخ بذلك إلى التوبيخ بهذا ، أو على أنه إيجاب انتقل إليه من الاستفهام . والمعنى : بل يريد الإنسان أن يقدم فجوره فيما بين يديه من الأوقات ، وما يستقبله من الزمان ، فيقدم الذنب ويؤخر التوبة . قال ابن الأنباري : يريد أن يفجر ما امتدّ عمره ، وليس في نيته أن يرجع عن ذنب يرتكبه .
قال مجاهد ، والحسن ، وعكرمة ، والسديّ ، وسعيد بن جبير : يقول سوف أتوب ، ولا يتوب حتى يأتيه الموت . وهو على أشرّ أحواله . قال الضحاك : هو الأمل ، يقول سوف أعيش وأصيب من الدنيا ، ولا يذكر الموت ، والفجور أصله : الميل عن الحقّ ، فيصدق على كل من مال عن الحق بقول أو فعل ، ومنه قول الشاعر :
أقسم بالله أبو حفص عمر ... ما مسها من نقب ولا دبر
اغفر له اللَّهم إن كان فجر ... وجملة { يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة } مستأنفة لبيان معنى يفجر ، والمعنى : يسأل متى يوم القيامة سؤال استبعاد واستهزاء : { فَإِذَا بَرِقَ البصر } أي : فزع وتحير ، من برق الرجل : إذا نظر إلى البرق فدهش بصره . قرأ الجمهور : { برق } بكسر الراء . قال أبو عمرو بن العلاء ، والزجاج وغيرهما : المعنى تحير فلم يطرف ، ومنه قول ذي الرّمة :
ولو أن لقمان الحكيم تعرّضت ... لعينيه ميّ سافرا كاد يبرق
وقال الخليل ، والفراء : { برق } بالكسر : فزع وبهت وتحير ، والعرب تقول للإنسان المبهوت : قد برق ، فهو بارق ، وأنشد الفرّاء :
ونفسك فانع ولا تنعني ... وداو الكلوم ولا تبرق
أي : لا تفزع من كثرة الكلوم التي بك . وقرأ نافع ، وأبان عن عاصم : « برق » بفتح الراء ، أي : لمع بصره من شدة شخوصه للموت . قال مجاهد وغيره : هذا عند الموت ، وقيل : برق يبرق شق عينيه وفتحهما . وقال أبو عبيدة : فتح الراء وكسرها لغتان بمعنى { وَخَسَفَ القمر } قرأ الجمهور : { خسف } بفتح الخاء والسين مبنياً للفاعل . وقرأ ابن أبي إسحاق ، وعيسى ، والأعرج ، وابن أبي عبلة ، وأبو حيوة بضم الخاء وكسر السين مبنياً للمفعول ، ومعنى { وخسف القمر } : ذهب ضوؤه ، ولا يعود كما يعود إذا خسف في الدنيا ، ويقال : خسف : إذا ذهب جميع ضوئه ، وكسف : إذا ذهب بعض ضوئه . { وَجُمِعَ الشمس والقمر } أي : ذهب ضوؤهما جميعاً ، ولم يقل « جمعت » لأن التأنيث مجازيّ . قاله المبرد . وقال أبو عبيدة : هو لتغليب المذكر على المؤنث . وقال الكسائي : حمل على معنى جمع النيران . وقال الزجاج ، والفراء : ولم يقل « جمعت » لأن المعنى جمع بينهما في ذهاب نورهما . وقيل : جمع بينهما في طلوعهما من الغرب أسودين مكوّرين مظلمين . قال عطاء : يجمع بينهما يوم القيامة ، ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى . وقيل : تجمع الشمس والقمر فلا يكون هناك تعاقب ليل ونهار . وقرأ ابن مسعود : « وجمع بين الشمس والقمر » . { يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر } أي : يقول عند وقوع هذه الأمور : أين المفرّ؟ أي : الفرار ، والمفرّ مصدر بمعنى الفرار . قال الفراء : يجوز أن يكون موضع الفرار ، ومنه قول الشاعر :
أين المفرّ والكباش تنتطح ... وكل كبش فرّ منها يفتضح
قال الماوردي : يحتمل وجهين : أحدهما ابن المفرّ من الله سبحانه استحياء منه .
والثاني أين المفرّ من جهنم حذراً منها . وقرأ الجمهور : { أين المفرّ } بفتح الميم والفاء مصدراً ، كما تقدّم . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة بفتح الميم وكسر الفاء على أنه اسم مكان ، أي : أين مكان الفرار . وقال الكسائي : هما لغتان مثل مدب ومدب ، ومصح ومصح ، وقرأ الزهري بكسر الميم وفتح الفاء على أن المراد به الإنسان الجيد الفرار ، ومنه قول امرىء القيس :
مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
أي : جيد الفرّ والكرّ . { كَلاَّ لاَ وَزَرَ } أي : لا جبل ولا حصن ولا ملجأ من الله . وقال ابن جبير : لا محيص ولا منعة . والوزر في اللغة : ما يلجأ إليه الإنسان من حصن أو جبل أو غيرهما ، ومنه قول طرفة :
ولقد تعلم بكر أننا ... فاضلوا الرأي وفي الروع وزر
وقال آخر :
لعمري ما للفتى من وزر ... من الموت يدركه والكبر
قال السديّ : كانوا إذا فزعوا في الدنيا تحصنوا بالجبال ، فقال لهم الله : لا وزر يعصمكم مني يومئذٍ ، وكلاّ للردع أو لنفي ما قبلها ، أو بمعنى حقاً { إلى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر } أي : المرجع والمنتهى والمصير لا إلى غيره . وقيل : إليه الحكم بين العباد لا إلى غيره . وقيل المستقر : الاستقرار حيث يقرّه الله { يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } أي : يخبر يوم القيامة بما عمل من خير وشرّ . وقال قتادة : بما عمل من طاعة وما أخر من طاعة فلم يعمل بها . وقال زيد بن أسلم : بما قدّم من أمواله وما خلف للورثة . وقال مجاهد : بأوّل عمله وآخره . وقال الضحاك : بما قدّم من فرض وأخر من فرض . قال القشيري : هذا الإنباء يكون يوم القيامة عند وزن الأعمال ، ويجوز أن يكون عند الموت . قال القرطبي : والأوّل أظهر { بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } ارتفاع بصيرة على أنها خبر الإنسان ، على نفسه متعلق ببصيرة . قال الأخفش : جعله هو البصيرة ، كما تقول للرجل : أنت حجة على نفسك . وقيل المعنى : إن جوارحه تشهد عليه بما عمل ، كما في قوله : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] وأنشد الفرّاء :
كأن على ذي العقل عينا بصيرة ... بمقعده أو منظر هو ناظر
فيكون المعنى : بل جوارح الإنسان عليه شاهدة . قال أبو عبيدة ، والقتيبي : إن هذه الهاء في بصيرة هي التي يسميها أهل الإعراب هاء المبالغة ، كما في قولهم : علامة . وقيل : المراد بالبصيرة الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير وشرّ ، والتاء على هذا للتأنيث . وقال الحسن : أي : بصير بعيوب نفسه { وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ } أي : ولو اعتذر وجادل عن نفسه لم ينفعه ذلك . يقال : معذرة ومعاذير . قال الفرّاء : أي وإن اعتذر فعليه من يكذب عذره . وقال الزجاج : المعاذير الستور ، والواحد معذار ، أي : وإن أرخى الستور يريد أن يخفي نفسه فنفسه شاهدة عليه ، كذا قال الضحاك ، والسديّ .
والستر بلغة اليمن يقال له : معذار ، كذا قال المبرد ، ومنه قول الشاعر :
ولكنها ضنت بمنزل ساعة ... علينا وأطت يومها بالمعاذر
والأوّل أولى ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، وسعيد بن جبير ، وابن زيد ، وأبو العالية ، ومقاتل ، ومثله قوله : { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ } [ غافر : 52 ] . وقوله : { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 36 ] . وقول الشاعر :
فما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر
{ لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرّك شفتيه ولسانه بالقرآن إذا أنزل عليه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي حرصاً على أن يحفظه صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، أي : لا تحرّك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي لتأخذه على عجل مخافة أن يتفلت منك ، ومثل هذا قوله : { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [ طه : 114 ] الآية ، { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } في صدرك حتى لا يذهب عليك منه شيء { وَقُرْءانَهُ } أي : إثبات قراءته في لسانك . قال الفرّاء : القراءة والقرآن مصدران . وقال قتادة : { فاتبع قُرْءانَهُ } أي : شرائعه وأحكامه . { فَإِذَا قرأناه } أي : أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل { فاتبع قُرْءانَهُ } أي : قراءته . { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أي : تفسير ما فيه من الحلال والحرام ، وبيان ما أشكل منه . قال الزجاج : المعنى علينا أن ننزله عليك قرآناً عربياً فيه بيان للناس . وقيل المعنى : إن علينا أن نبينه بلسانك .
{ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة } كلا للردع عن العجلة ، والترغيب في الأناة . وقيل : هي ردع لمن لا يؤمن بالقرآن وبكونه بيناً من الكفار . قال عطاء : أي : لا يؤمن أبو جهل بالقرآن وبيانه . قرأ أهل المدينة ، والكوفيون : { بل تحبون } { وتذرون } بالفوقية في الفعلين جميعاً . وقرأ الباقون بالتحتية فيهما ، فعلى القراءة الأولى يكون الخطاب لهم تقريعاً وتوبيخاً ، وعلى القراءة الثانية يكون الكلام عائداً إلى الإنسان لأنه بمعنى الناس ، والمعنى : تحبون الدنيا ، وتتركون { الأخرة } فلا تعملون لها . { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } أي : ناعمة غضة حسنة ، يقال : شجر ناضر ، وروض ناضر ، أي : حسن ناعم ، ونضارة العيش حسنه وبهجته . قال الواحدي ، والمفسرون : يقولون مضيئة مسفرة مشرقة { إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ } هذا من النظر ، أي : إلى خالقها ومالك أمرها ناظرة ، أي : تنظر إليه ، هكذا قال جمهور أهل العلم ، والمراد به ما تواترت به الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرون ربهم يوم القيامة ، كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر . قال ابن كثير : وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة ، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهداة الأنام . وقال مجاهد : إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب ، وروي نحوه عن عكرمة .
وقيل : لا يصح هذا إلاّ عن مجاهد وحده . قال الأزهري : وقول مجاهد خطأ؛ لأنه لا يقال : نظر إلى كذا بمعنى الانتظار ، وإن قول القائل : نظرت إلى فلان ليس إلاّ رؤية عين ، إذا أرادوا الانتظار قالوا : نظرته ، كما في قول الشاعر :
فإنكما إن تنظراني ساعة ... من الدهر تنفعني لدى أمّ جندب
فإذا أرادوا نظر العين قالوا : نظرت إليه ، كما قال الشاعر :
نظرت إليها والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان تشب لفعال
وقال الآخر :
إني إليك لما وعدت لناظر ... نظر الفقير إلى الغنيّ الموسر
أي : انظر إليك نظر ذلّ كما ينظر الفقير إلى الغنيّ ، وأشعار العرب وكلماتهم في هذا كثيرة جدّاً . و { وجوه } مبتدأ ، وجاز الابتداء به مع كونه نكرة؛ لأن المقام مقام تفصيل ، وناضرة صفة لوجوه ، ويومئذٍ ظرف لناضرة ، ولو لم يكن المقام مقام تفصيل لكان وصف النكرة بقوله : { نَّاضِرَةٌ } مسوّغاً للابتداء بها ، ولكن مقام التفصيل بمجرّده مسوّغ للابتداء بالنكرة . { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } أي : كالحة عابسة كئيبة . قال في الصحاح : بسر الرجل وجهه بسوراً ، أي : كلح . قال السديّ : باسرة أي : متغيرة . وقيل : مصفرّة ، والمراد بالوجوه هنا وجوه الكفار { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } الفاقرة : الداهية العظيمة ، يقال : فقرته الفاقرة ، أي : كسرت فقار ظهره . قال قتادة : الفاقرة الشرّ ، وقال السديّ : الهلاك ، وقال ابن زيد : دخول النار . وأصل الفاقرة : الوسم على أنف البعير بحديدة ، أو نار حتى تخلص إلى العظم ، كذا قال الأصمعي ، ومن هذا قولهم : قد عمل به الفاقرة . قال النابغة :
أبا لي قبر لا يزال مقابلي ... وضربة فأس فوق رأسي فاقره
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه عن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عباس عن قوله : { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة } قال : يقسم ربك بما شاء من خلقه ، قلت : { وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة } قال : النفس اللؤوم . قلت : { أَيَحْسَبُ الإنسان أَن لَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بلى قادرين على أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ } قال : لو شاء لجعله خفاً أو حافراً . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه . { اللوامة } قال : المذمومة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه أيضاً قال : التي تلوم على الخير والشرّ تقول : لو فعلت كذا وكذا . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال : تندم على ما فات وتلوم عليه . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً : { بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } قال : يمضي قدماً . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : هو الكافر الذي يكذب بالحساب . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في الآية قال : يعني الأمل ، يقول : أعمل ثم أتوب . وأخرج ابن أبي الدنيا في ذمّ الأمل ، والبيهقي في الشعب عنه أيضاً في الآية قال : يقدّم الذنب ويؤخر التوبة .
وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عنه أيضاً : { بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } يقول : سوف أتوب { يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة } قال : يقول متى يوم القيامة؟ قال : فبين له { إِذَا بَرِقَ البصر } . وأخرج ابن جرير عنه قال : { إِذَا بَرِقَ البصر } يعني : الموت .
وأخرج عبد ابن حميد ، وابن أبي الدنيا ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله : { لاَ وَزَرَ } قال : لا حصن . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : { لاَ وَزَرَ } قال : لا حصن ولا ملجأ ، وفي لفظ : لا حرز ، وفي لفظ : لا جبل . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله : { يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } قال : بما قدّم من عمل ، وأخر من سنة عمل بها من بعده من خير أو شرّ . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : بما قدّم من المعصية وأخر من الطاعة فينبؤ بذلك . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر من طرق عنه في قوله : { بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } قال : شهد على نفسه وحده { وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ } قال : ولو اعتذر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه : { بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } قال : سمعه وبصره ويديه ورجليه وجوارحه { وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ } قال : ولو تجرّد من ثيابه .
وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة ، فكان يحرّك به لسانه وشفتيه مخافة أن يتفلت منه يريد أن يحفظه ، فأنزل الله : { لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءانَهُ } قال : يقول إنّ علينا أن نجمعه في صدرك ثم تقرأه { فَإِذَا قرأناه } يقول : إذا أنزلناه عليك { فاتبع قُرْءانَهُ } فاستمع له وأنصت { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أن نبينه بلسانك ، وفي لفظ : علينا أن نقرأه ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق . وفي لفظ : استمع ، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه { فَإِذَا قرأناه } قال : بيناه { فاتبع قُرْءانَهُ } يقول : اعمل به . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن مسعود في قوله : { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة } قال : عجلت لهم الدنيا شرّها وخيرها ، وغيبت الآخرة .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } قال : ناعمة .
وأخرج ابن المنذر ، والآجري في الشريعة ، واللالكائي في السنة ، والبيهقي في الرؤية عنه : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } قال : يعني : حسنها { إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ } قال : نظرت إلى الخالق . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً : { إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ } قال : تنظر إلى وجه ربها . وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ } قال : « ينظرون إلى ربهم بلا كيفية ، ولا حدّ محدود ، ولا صفة معلومة » وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال الناس : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال : « هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب » قالوا : لا يا رسول الله ، قال : « فهل تضارّون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب » قالوا : لا يا رسول الله ، قال : « فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك » وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما من حديث أبي هريرة نحوه . وقد قدّمنا أن أحاديث الرؤية متواترة فلا نطيل بذكرها ، وهي تأتي في مصنف مستقلّ ، ولم يتمسك من نفاها واستبعدها بشيء يصلح للتمسك به لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والدارقطني ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه ، وسرره مسيرة ألف سنة ، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة ، وعشية » ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ } . وأخرجه أحمد في المسند من حديثه بلفظ : « إن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله كل يوم مرّتين » وأخرج النسائي ، والدارقطني وصححه ، وأبو نعيم عن أبي هريرة قال : قلنا : يا رسول الله هل نرى ربنا؟ قال : « هل ترون الشمس في يوم لا غيم فيه ، وترون القمر في ليلة لا غيم فيها؟ » قلنا : نعم ، قال : « فإنكم سترون ربكم عزّ وجلّ ، حتى إن أحدكم ليحاضر ربه محاضرة ، فيقول : عبدي هل تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول : ألم تغفر لي؟ فيقول : بمغفرتي صرت إلى هذا » .
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
قوله : { كَلاَّ } ردع وزجر ، أي : بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة ، ثم استأنف ، فقال : { إِذَا بَلَغَتِ التراقى } أي : بلغت النفس أو الروح التراقي ، وهي جمع ترقوة ، وهي عظم بين ثغرة النحر والعاتق ، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت ، ومثله قوله : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم } [ الواقعة : 83 ] وقيل : معنى { كَلاَّ } : حقاً ، أي : حقاً أن المساق إلى الله إذا بلغت التراقي ، والمقصود : تذكيرهم شدّة الحال عند نزول الموت . قال دريد بن الصمة :
وربّ كريهة دافعت عنها ... وقد بلغت نفوسهم التراقي
{ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } أي : قال من حضر صاحبها : من يرقيه ويشتفي برقيته؟ . قال قتادة : التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئًا ، وبه قال أبو قلابة ، ومنه قول الشاعر :
هل للفتى من بنات الموت من واقي ... أم هل له من حمام الموت من راقي
وقال أبو الجوزاء : هو من رقى يرقى إذا صعد ، والمعنى : من يرقى بروحه إلى السماء أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وقيل : إنه يقول ذلك ملك الموت ، وذلك أن نفس الكافر تكره الملائكة قربها { وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق } أي : وأيقن الذي بلغت روحه التراقي أنه الفراق من الدنيا ومن الأهل والمال والولد . { والتفت الساق بالساق } أي : التفت ساقه بساقه عند نزول الموت به . وقال جمهور المفسرين : المعنى تتابعت عليه الشدائد . وقال الحسن : هما ساقاه إذا التفتا في الكفن . وقال زيد بن أسلم : التفت ساق الكفن بساق الميت . وقيل : ماتت رجلاه ويبست ساقاه ولم تحملاه ، وقد كان جوّالاً عليهما . وقال الضحاك : اجتمع عليه أمران شديدان : الناس يجهزون جسده ، والملائكة يجهزون روحه . وبه قال ابن زيد . والعرب لا تذكر الساق إلاّ في الشدائد الكبار والمحن العظام ، ومنه قولهم : قامت الحرب على ساق . وقيل : الساق الأوّل تعذيب روحه عند خروج نفسه ، والساق الآخر شدّة البعث وما بعده . { إلى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ المساق } أي : إلى خالقك يوم القيامة المرجع ، وذلك جمع العباد إلى الله يساقون إليه . { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى } أي : لم يصدّقَ بالرسالة ولا بالقرآن ، ولا صلى لربه ، والضمير يرجع إلى الإنسان المذكور في أوّل هذه السورة . قال قتادة : فلا صدّق بكتاب الله ولا صلى لله . وقيل : فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه . قال الكسائي : لا بمعنى لم ، وكذا قال الأخفش : والعرب تقول : لا ذهب ، أي : لم يذهب ، وهذا مستفيض في كلام العرب ، ومنه :
إن تغفر اللَّهم تغفر جما ... وأيّ عبد لك لا ألما
{ ولكن كَذَّبَ وتولى } أي : كذّب بالرسول وبما جاء به ، وتولى عن الطاعة والإيمان . { ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى } أي : يتبختر ويختال في مشيته افتخاراً بذلك .
وقيل : هو مأخوذ من المطي ، وهو الظهر ، والمعنى : يلوي مطاه . وقيل : أصله يتمطط ، وهو التمدّد والتثاقل ، أي : يتثاقل ويتكاسل عن الداعي إلى الحق { أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى } أي : وليك الويل ، وأصله : أولاك الله ما تكرهه ، واللام مزيدة ، كما في { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] . وهذا تهديد شديد ، والتكرير للتأكيد ، أي : يتكرر عليك ذلك مرة بعد مرة . قال الواحدي : قال المفسرون : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد أبي جهل ، ثم قال : { أولى لَكَ فأولى } فقال أبو جهل : بأيّ شيء تهدّدني ، لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئًا ، وإني لأعزّ أهل هذا الوادي ، فنزلت هذه الآية . وقيل معناه : الويل لك ، ومنه قول الخنساء :
هممت بنفسي بعض الهمو ... م فأولى لنفسي أولى لها
وعلى القول بأنه الويل . قيل : هو من المقلوب كأنه قيل : أويل لك ، ثم أخر الحرف المعتل . قيل : ومعنى التكرير لهذا اللفظ أربع مرات ، والويل لك حياً ، والويل لك ميتاً ، والويل لك يوم البعث ، والويل لك يوم تدخل النار . وقيل المعنى : إن الذمّ لك أولى لك من تركه . وقيل المعنى : أنت أولى وأجدر بهذا العذاب ، قاله ثعلب . وقال الأصمعي : أولى في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك . قال المبرّد : كأنه يقول : قد وليت الهلاك وقد دانيته ، وأصله من الولي ، وهو القرب ، وأنشد الفراء :
فأولى أن يكون لك الولاء ... أي : قارب أن يكون لك ، وأنشد أيضاً :
أولى لمن هاجت له أن يكمدا ... { أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى } أي : هملاً لا يؤمر ولا ينهى ، ولا يحاسب ولا يعاقب . وقال السدي : معناه المهمل ، ومنه إبل سدى ، أي : ترعى بلا راع . وقيل المعنى : أيحسب أن يترك في قبره كذلك أبداً لا يبعث ، وجملة : { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىّ يمنى } مستأنفة : أي : ألم يك ذلك الإنسان قطرة من منيّ يراق في الرحم ، وسمي المنيّ منياً لإراقته ، والنطفة : الماء القليل ، يقال نطف الماء إذا قطر . قرأ الجمهور : { ألم يك } بالتحتية على إرجاع الضمير إلى الإنسان . وقرأ الحسن بالفوقية على الالتفات إليه توبيخاً له . وقرأ الجمهور أيضاً : { تمنى } بالفوقية على أن الضمير للنطفة . وقرأ حفص ، وابن محيصن ، ومجاهد ، ويعقوب بالتحتية على أن الضمير للمنى ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو ، واختارها أبو حاتم { ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً } أي : كان بعد النطفة علقة ، أي : دماً { فَخَلَقَ } أي : فقدّر بأن جعلها مضغة مخلقة { فسوى } ، أي : فعدّله وكمل نشأته ، ونفخ فيه الروح . { فَجَعَلَ مِنْهُ } أي : حصل من الإنسان . وقيل : من المنيّ { الزوجين } أي : الصنفين من نوع الإنسان . ثم بين ذلك فقال : { الذكر والأنثى } أي : الرجل والمرأة . { أَلَيْسَ ذَلِكَ } أي : ليس ذلك الذي أنشأ هذا الخلق البديع وقدر عليه { بِقَادِرٍ على أَن يُحْىِ الموتى } أي : يعيد الأجسام بالبعث كما كانت عليه في الدنيا ، فإن الإعادة أهون من الابتداء ، وأيسر مؤنة منه .
قرأ الجمهور : { بقادر } وقرأ زيد بن عليّ : « يقدر » فعلاً مضارعاً ، وقرأ الجمهور : { يحيي } بنصبه بأن . وقرأ طلحة بن سليمان ، والفياض بن غزوان بسكونها تخفيفاً ، أو على إجراء الوصل مجرى الوقف ، كما مرّ في مواضع .
وقد أخرج ابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } قال : تنتزع نفسه حتى إذا كانت في تراقيه . قيل : من يرقى بروحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب . { والتفت الساق بالساق } قال : التفت عليه الدنيا والآخرة ، وملائكة العذاب أيهم يرقى به . وأخرج عبد بن حميد عنه : { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } قل : من راق يرقى . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { والتفت الساق بالساق } يقول : آخر يوم من أيام الدنيا وأوّل يوم من أيام الآخرة ، فتلقى الشدّة بالشدّة إلاّ من رحم الله . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً { يتمطى } قال : يختال . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عباس عن قوله : { أولى لَكَ فأولى } أشيء قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل من قبل نفسه ، أم أمره الله به؟ قال : بل قاله من قبل نفسه ، ثم أنزله الله .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { أَن يُتْرَكَ سُدًى } قال : هملاً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن الأنباري عن صالح أبي الخليل قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية { أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر على أَن يُحْيِىَ الموتى } قال : « سبحانك اللَّهم ، وبلى » وأخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال : لما نزلت هذه الآية : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر على أَن يُحْيِىَ الموتى } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سبحانك ربي ، وبلى » وأخرج ابن النجار في تاريخه عن أبي أمامة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند قراءته لهذه الآية : « بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين » وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ منكم : { والتين والزيتون } [ التين : 1 ] ، فانتهى إلى آخرها : { أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين } [ التين : 8 ] فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين . ومن قرأ { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة } [ القيامة : 1 ] ، فانتهى إلى قوله : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر على أَن يُحْيِىَ الموتى } فليقل : بلى ، ومن قرأ : { والمرسلات عُرْفاً } [ المرسلات : 1 ] فبلغ : { فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 85 ] فليقل : آمنا بالله » وفي إسناده رجل مجهول . وأخرج ابن المنذر ، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا قرأت { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة } فبلغت : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر على أَن يُحْيِىَ الموتى } فقل : بلى » .
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)
حكى الواحدي عن المفسرين ، وأهل المعاني أن { هَلُ } هنا بمعنى قد ، وليس باستفهام ، وقد قال بهذا سيبويه ، والكسائي ، والفراء ، وأبو عبيدة . قال الفراء : هل تكون جحداً ، وتكون خبراً ، فهذا من الخبر؛ لأنك تقول : هل أعطيتك تقرّره بأنك أعطيته ، والجحد أن تقول : هل يقدر أحد على مثل هذا وقيل : هي وإن كانت بمعنى قد ، ففيها معنى الاستفهام ، والأصل : أهل أتى ، فالمعنى : أقد أتى ، والاستفهام للتقرير والتقريب ، والمراد بالإنسان هنا آدم ، قاله قتادة ، والثوري ، وعكرمة ، والسديّ وغيرهم { حِينٌ مّنَ الدهر } قيل : أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح . وقيل : إنه خلق من طين أربعين سنة ، ثم من حمأ مسنون أربعين سنة ، ثم من صلصال أربعين سنة ، فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة . وقيل : الحين المذكور هنا لا يعرف مقداره . وقيل المراد بالإنسان بنو آدم ، والحين مدّة الحمل ، وجملة : { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } في محل نصب على الحال من الإنسان ، أو في محل رفع صفة لحين . قال الفراء ، وقطرب ، وثعلب : المعنى أنه كان جسداً مصوّراً تراباً وطيناً لا يذكر ، ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ، ولا ما يراد به ، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكوراً . وقال يحيى بن سلام : لم يكن شيئًا مذكوراً في الخلق ، وإن كان عند الله شيئًا مذكوراً . وقيل : ليس المراد بالذكر هنا الإخبار ، فإن إخبار الربّ عن الكائنات قديم ، بل هو الذكر بمعنى الخطر والشرف ، كما في قوله : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] . قال القشيري : ما كان مذكوراً للخلق وإن كان مذكوراً لله سبحانه . قال الفراء : كان شيئًا ولم يكن مذكوراً . فجعل النفي متوجهاً إلى القيد . وقيل المعنى : قد مضت أزمنة وما كان آدم شيئًا ، ولا مخلوقاً ولا مذكوراً لأحد من الخليقة . وقال مقاتل : في الكلام تقديم وتأخير ، وتقديره : هل أتى حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكوراً؛ لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ، ولم يخلق بعده حيوان .
{ إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ } المراد بالإنسان هنا : ابن آدم . قال القرطبي : من غير خلاف ، والنطفة : الماء الذي يقطر ، وهو المنيّ ، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة ، وجمعها نطف ، و { أَمْشَاجٍ } صفة لنطفة ، وهي جمع مشج أو مشيج ، وهي الأخلاط ، والمراد : نطفة الرجل ونطفة المرأة واختلاطهما . يقال : مشج هذا بهذا ، فهو ممشوج ، أي : خلط هذا بهذا فهو مخلوط . قال المبرد : مشج يمشج إذا اختلط ، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم . قال رؤبة بن العجاج :
يطرحن كل معجل مشاج ... لم يكس جلداً من دم أمشاج
قال الفراء : أمشاج : اختلاط ماء الرجل وماء المرأة ، والدم والعلقة ، ويقال مشج هذا : إذا خلط .
وقيل الأمشاج : الحمرة في البياض والبياض في الحمرة . قال القرطبي : وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة . قال الهذلي :
كأن الريش والفوقين منه ... حلاف النصل نيط به مشيج
وذلك لأن ماء الرجل أبيض غليظ ، وماء المرأة أصفر رقيق ، فيخلق منهما الولد . قال ابن السكيت : الأمشاج : الأخلاط لأنها ممتزجة من أنواع يخلق الإنسان منها وطباع مختلفة . وقيل : الأمشاج لفظ مفرد كبرمة أعشار ، ويؤيد هذا وقوعه نعتاً لنطفة ، وجملة : { نَّبْتَلِيهِ } في محل نصب على الحال من فاعل خلقنا ، أي : مريدين ابتلاءه ، ويجوز أن يكون حالاً من الإنسان ، والمعنى : نبتليه بالخير والشرّ وبالتكاليف . قال الفراء : معناه والله أعلم { جعلناه سَمِيعاً بَصِيراً } نبتليه ، وهي : مقدّمة معناها التأخير؛ لأن الابتلاء لا يقع إلاّ بعد تمام الخلقة ، وعلى هذا تكون هذه الحال مقدّرة . وقيل : مقارنة . وقيل : معنى الابتلاء : نقله من حال إلى حال على طريقة الاستعارة ، والأوّل أولى .
ثم ذكر سبحانه أنه أعطاه ما يصحّ معه الابتلاء ، فقال : { إِنَّا هديناه السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } أي : بينا له ، وعرّفناه طريق الهدى والضلال ، والخير والشرّ ، كما في قوله : { وهديناه النجدين } [ البلد : 10 ] قال مجاهد : أي بينا السبيل إلى الشقاء والسعادة . وقال الضحاك ، والسديّ ، وأبو صالح : السبيل هنا خروجه من الرحم . وقيل : منافعه ومضارّه التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله ، وانتصاب { شاكراً } و { كفوراً } على الحال من مفعول ، { هديناه } أي : مكناه من سلوك الطريق في حالتيه جميعاً . وقيل : على الحال من سبيل على المجاز ، أي : عرّفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً . وحكى مكيّ عن الكوفيين أن قوله : { إمّا } هي إن شرطية زيدت بعدها ما ، أي : بينا له الطريق إن شكر وإن كفر . واختار هذا الفرّاء ، ولا يجيزه البصريون؛ لأن إن الشرطية لا تدخل على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل ، ولا يصح هنا إضمار الفعل؛ لأنه كان يلزم رفع { شاكراً } و { كفوراً } . ويمكن أن يضمر فعل ينصب شاكراً وكفوراً ، وتقديره : إن خلقناه شاكراً فشكور ، وإن خلقناه كافراً فكفور ، وهذا على قراءة الجمهور : { إما شاكراً وإما كفوراً } بكسر همزة إما . وقرأ أبو السماك ، وأبو العجاج بفتحها ، وهي على الفتح إما العاطفة في لغة بعض العرب ، أو هي التفصيلية ، وجوابها مقدّر . وقيل : انتصب شاكراً وكفوراً بإضمار كان ، والتقدير : سواء كان شاكراً أو كان كفوراً .
ثم بيّن سبحانه ما أعدّ للكافرين فقال : { إِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سلاسل وأغلالا وَسَعِيراً } قرأ نافع ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وهشام عن ابن عامر : « سلاسلاً » بالتنوين ، ووقف قنبل عن ابن كثير ، وحمزة بغير ألف ، والباقون وقفوا بالألف . ووجه من قرأ بالتنوين في سلاسل مع كون فيه صيغة منتهى الجموع أنه قصد بذلك التناسب؛ لأن ما قبله وهو : { إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } ، وما بعده وهو : { أغلالا وَسَعِيراً } منوّن ، أو على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف ، كما حكاه الكسائي ، وغيره من الكوفيين عن بعض العرب .
قال الأخفش : سمعنا من العرب من يصرف كل ما لا ينصرف؛ لأن الأصل في الأسماء الصرف ، وترك الصرف لعارض فيها . قال الفراء : هو على لغة من يجرّ الأسماء كلها إلاّ قولهم : هو أظرف منك ، فإنهم لا يجرّونه ، وأنشد ابن الأنباري في ذلك قول عمرو بن كلثوم :
كأن سيوفنا فينا وفيهم ... مخاريق بأيدي لاعبينا
ومن ذلك قول الشاعر :
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأبصار
بكسر السين من نواكس ، وقول لبيد :
وحسور أستار دعوني لحتفها ... بمعالق متشابه أعلاقها
وقوله أيضاً :
فضلاً وذو كرم يعين على الندى ... سمح لشوب رغائب غنامها
وقيل : إن التنوين لموافقة رسم المصاحف المكية والمدنية والكوفية فإنها فيها بالألف . وقيل : إن هذا التنوين بدل من حرف الإطلاق ، ويجري الوصل مجرى الوقف ، والسلاسل قد تقدّم تفسيرها ، والخلاف فيها هل هي القيود ، أو ما يجعل في الأعناق ، كما في قول الشاعر :
. . . . . . . . ولكن ... أحاطت بالرقاب السلاسل والأغلال
جمع غلّ تغلّ به الأيدي إلى الأعناق . والسعير : الوقود الشديد ، وقد تقدّم تفسير السعير ، ثم ذكر سبحانه ما أعدّه للشاكرين ، فقال : { إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ } الأبرار : أهل الطاعة والإخلاص ، والصدق ، جمع برّ أو بارّ . قال في الصحاح : جمع البرّ الأبرار ، وجمع البارّ البررة ، وفلان يبرّ خالقه ويبرره ، أي : يطيعه . وقال الحسن : البرّ الذي لا يؤذي الذر . وقال قتادة : الأبرار الذين يؤدون حق الله ويوفون بالنذر . والكأس في اللغة هو الإناء الذي فيه الشراب ، وإذا لم يكن فيه الشراب لم يسمّ كأساً ، ولا وجه لتخصيصه بالزجاجة ، بل يكون من الزجاج ومن الذهب والفضة والصيني وغير ذلك ، وقد كانت كاسات العرب من أجناس مختلفة ، وقد يطلق الكأس على نفس الخمر ، كما في قول الشاعر :
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
{ كَانَ مِزَاجُهَا كافورا } أي : يخالطها ، وتمزج به ، يقال : مزجه يمزجه مزجاً ، أي : خلطه يخلطه خلطاً ، ومنه قول الشاعر :
كأن سبية من بيت رأس ... كان مزاجها عسل وماء
ومنه قول عمرو بن كلثوم :
صددت الكأس عنا أمّ عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا
معتقة كأن الخصّ فيها ... إذا ما الماء خالطها سخينا
ومنه مزاج البدن ، وهو ما يمازجه من الأخلاط ، والكافور قيل : هو اسم عين في الجنة يقال لها : الكافوري تمزج خمر الجنة بماء هذه العين . وقال قتادة ، ومجاهد : تمزج لهم بالكافور وتختم لهم بالمسك . وقال عكرمة : مزاجها طعمها . وقيل : إنما الكافور في ريحها لا في طعمها . وقيل : إنما أراد الكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده ، لأن الكافور لا يشرب ، كما في قوله :
{ حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً } [ الكهف : 96 ] أي : كنار . وقال ابن كيسان : طيبها المسك والكافور والزنجبيل . وقال مقاتل : ليس هو كافور الدنيا ، وإنما سمى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي له القلوب ، والجملة في محل جرّ صفة لكأس . وقيل : إن كان هنا زائدة أي : من كأس مزاجها كافوراً .
{ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله } انتصاب { عيناً } على أنها بدل من { كافوراً } ؛ لأن ماءها في بياض الكافور . وقال مكي : إنها بدل من محل { مِن كَأْسٍ } على حذف مضاف كأنه قيل : يشربون خمراً خمر عين . وقيل : إنها منتصبة على أنها مفعول يشربون أي : عيناً من كأس ، وقيل : هي منتصبة على الاختصاص ، قاله الأخفش . وقيل : منتصبة بإضمار فعل يفسره ما بعده ، أي : يشربون عيناً يشرب بها عباد الله ، والأوّل أولى ، وتكون جملة { يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله } صفة ل { عيناً } . وقيل : إن الباء في { يَشْرَبُ بِهَا } زائدة . وقيل : بمعنى من قاله الزجاج ، ويعضده قراءة ابن أبي عبلة يشربها عباد الله . وقيل : إن يشرب مضمن معنى يلتذّ . وقيل : هي متعلقة ب { يشرب } ، والضمير يعود إلى الكأس . وقال الفراء : يشربها ويشرب بها سواء في المعنى ، وكأنّ يشرب بها يروى بها ، وينتفع بها وأنشد قول الهذلي :
شربن بماء البحر ثم ترفعت ... قال : ومثله تكلم بكلام حسن ، وتكلم كلاماً حسناً { يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً } أي : يجرونها إلى حيث يريدون ، وينتفعون بها كما يشاءون ، ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان يريدون وصوله إليه ، فهم يشقونها شقاً ، كما يشقّ النهر ويفجر إلى هنا وهنا . قال مجاهد : يقودونها حيث شاءوا ، وتتبعهم حيث مالوا مالت معهم ، والجملة صفة أخرى ل { عيناً } ، وجملة { يُوفُونَ بالنذر } مستأنفة مسوقة لبيان ما لأجله رزقوا ما ذكر ، وكذا ما عطف عليها ، ومعنى النذر في اللغة : الإيجاب ، والمعنى : يوفون بما أوجبه الله عليهم من الطاعات . قال قتادة ، ومجاهد : يوفون بطاعة الله من الصلاة والحج ونحوهما . وقال عكرمة : يوفون إذا نذروا في حق الله سبحانه ، والنذر في الشرع ما أوجبه المكلف على نفسه ، فالمعنى : يوفون بما أوجبوه على أنفسهم . قال الفراء : في الكلام إضمار ، أي : كانوا يوفون بالنذر في الدنيا . وقال الكلبي : يوفون بالعهد ، أي : يتممون العهد . والأولى حمل النذر هنا على ما أوجبه العبد على نفسه من غير تخصيص { ويخافون يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } المراد يوم القيامة ، ومعنى استطارة شرّه : فشوّه وانتشاره ، يقال : استطار يستطير استطارة ، فهو مستطير ، وهو استفعل من الطيران ، ومنه قول الأعشى :
فباتت وقد أثارت في الفؤا ... د صدعاً على نأيها مستطيرا
والعرب تقول : استطار الصدع في القارورة والزجاجة : إذا امتدّ ، ويقال استطار الحريق : إذا انتشر . قال الفراء : المستطير المستطيل . قال قتادة : استطار شرّ ذلك اليوم حتى ملأ السماوات ، والأرض .
قال مقاتل : كان شرّه فاشياً في السموات ، فانشقت وتناثرت الكواكب وفزعت الملائكة ، وفي الأرض نسفت الجبال وغارت المياه . { وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } أي : يطعمون هؤلاء الثلاثة الأصناف الطعام على حبه لديهم وقلته عندهم . قال مجاهد : على قلته ، وحبهم إياه وشهوتهم له؛ فقوله : { على حبه } في محل نصب على الحال ، أي : كائنين على حبه ، ومثله قوله : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] وقيل : على حبّ الإطعام لرغبتهم في الخير . قال الفضيل بن عياض : على حب إطعام الطعام . وقيل : الضمير في حبه يرجع إلى الله أي : يطعمون الطعام على حبّ الله ، أي : يطعمون إطعاماً كائناً على حبّ الله ، ويؤيد هذا قوله : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله } والمسكين ذو المسكنة ، وهو الفقير ، أو من هو أفقر من الفقير ، والمراد باليتيم يتامى المسلمين ، والأسير الذي يؤسر فيحبس . قال قتادة ، ومجاهد : الأسير المحبوس . وقال عكرمة : الأسير العبد . وقال أبو حمزة الثمالي : الأسير المرأة . قال سعيد بن جبير : نسخ هذا الإطعام آية الصدقات ، وآية السيف في حق الأسير الكافر . وقال غيره : بل هي محكمة ، وإطعام المسكين واليتيم على التطوّع ، وإطعام الأسير لحفظ نفسه إلى أن يتخير فيه الإمام .
وجملة : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله } في محل نصب على الحال بتقدير القول ، أي : يقولون إنما نطعمكم ، أو قائلين إنما نطعمكم يعني : أنهم لا يتوقعون المكافأة ولا يريدون ثناء الناس عليهم بذلك . قال الواحدي : قال المفسرون : لم يستكملوا بهذا ، ولكن علمه الله من قلوبهم فأثنى عليهم ، وعلم من ثنائه أنهم فعلوا ذلك خوفاً من الله ورجاء ثوابه { لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً } أي : لا نطلب منكم المجازاة على هذا الإطعام ، ولا نريد منكم الشكر لنا ، بل هو خالص لوجه الله ، وهذه الجملة مقرّرة لما قبلها؛ لأن من أطعم لوجه الله لا يريد المكافأة ، ولا يطلب الشكر له ممن أطعمه . { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } أي : نخاف عذاب يوم متصف بهاتين الصفتين ، ومعنى { عَبُوساً } : أنه يوم تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته ، فالمعنى : أنه ذو عبوس . قال الفراء ، وأبو عبيدة ، والمبرد : يوم قمطرير وقماطر : إذا كان صعباً شديداً ، وأنشد الفراء :
بني عمنا هل تذكرون بلاءنا ... عليكم إذا ما كان يوم قماطر
قال الأخفش : القمطرير أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء ، ومنه قول الشاعر :
ففرّوا إذا ما الحرب ثار غبارها ... ولج بها اليوم العبوس القماطر
قال الكسائي : اقمطرّ اليوم وازمهرّ : إذا كان صعباً شديداً ، ومنه قول الشاعر :
بنو الحرب أوصينا لهم بقمطرة ... ومن يلق منا ذلك اليوم يهرب
وقال مجاهد : إن العبوس بالشفتين ، والقمطير بالجبهة والحاجبين ، فجعلهما من صفات المتغير في ذلك اليوم لما يراه من الشدائد ، وأنشد ابن الأعرابي :
يقدر على الصيد بعود منكسر ... ويقمطر ساعة ويكفهر
قال أبو عبيدة : يقال : قمطرير ، أي : منقبض ما بين العينين والحاجبين . قال الزجاج : يقال اقمطرت الناقة : إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها ورمت بأنفها ما يسبقها من القطر ، وجعل الميم مزيدة . { فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم } أي : دفع عنهم شرّه بسبب خوفهم منه وإطعامهم لوجهه { ولقاهم نَضْرَةً وَسُرُوراً } أي : أعطاهم بدل العبوس في الكفار نضرة في الوجود وسروراً في القلوب . قال الضحاك : والنضرة البياض والنقاء في وجوههم . وقال سعيد بن جبير : والحسن والبهاء . وقيل : النضرة أثر النعمة . { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ } أي : بسبب صبرهم على التكاليف . وقيل : على الفقر . وقيل : على الجوع . وقيل : على الصوم . والأولى حمل الآية على الصبر على كل شيء يكون الصبر عليه طاعة لله سبحانه ، و « ما » مصدرية ، والتقدير : بصبرهم { جَنَّةً وَحَرِيراً } أي : أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير ، وهو لباس أهل الجنة عوضاً عن تركه في الدنيا امتثالاً لما ورد في الشرع من تحريمه ، وظاهر هذه الآيات العموم في كلّ من خاف من يوم القيامة وأطعم لوجه الله وخاف من عذابه ، والسبب وإن كان خاصاً ، كما سيأتي ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ويدخل سبب التنزيل تحت عمومها دخولاً أوّلياً .
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان } قال : كل إنسان . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله : { أَمْشَاجٍ } قال : أمشاجها عروقها . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي حاتم { أَمْشَاجٍ } قال : العروق . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } قال : ماء الرجل وماء المرأة حين يختلطان . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال : { أَمْشَاجٍ } ألوان : نطفة الرجل بيضاء وحمراء ، ونطفة المرأة خضراء وحمراء . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : الأمشاج الذي يخرج على أثر البول كقطع الأوتار ، ومنه يكون الولد . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً { كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } قال : فاشياً . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر عنه أيضاً في قوله : { وَأَسِيراً } قال : هو المشرك .
وأخرج ابن مردويه ، وأبو نعيم عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { مِسْكِيناً } قال : « فقيراً » { وَيَتِيماً } قال « لا أب له » { وَأَسِيراً } قال : « المملوك والمسجون » . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وَيُطْعِمُونَ الطعام } الآية قال : نزلت هذه الآية في عليّ بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { يَوْماً عَبُوساً } قال : ضيقاً { قَمْطَرِيراً } قال : طويلاً . وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } قال : « يقبض ما بين الأبصار » وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر من طرق عن ابن عباس قال : القمطرير الرجل المنقبض ما بين عينيه ووجهه . وأخرج ابن المنذر عنه { ولقاهم نَضْرَةً وَسُرُوراً } قال : نضرة في وجوههم ، وسروراً في صدورهم .
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
قوله : { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك } منصوب على الحال من مفعول جزاهم ، والعامل فيها جزى ، ولا يعمل فيها صبروا؛ لأن الصبر إنما كان في الدنيا ، وجوّز أبو البقاء أن يكون صفة لجنة . قال الفرّاء : وإن شئت جعلت متكئين تابعاً ، كأنه قال : جزاهم جنة { متكئين } فيها . وقال الأخفش : يجوز أن يكون منصوباً على المدح ، والضمير من { فيها } يعود إلى الجنة ، والأرائك : السرر في الحجال ، وقد تقدّم تفسيرها في سورة الكهف { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } الجملة في محل نصب على الحال من مفعول جزاهم ، فتكون من الحال المترادفة ، أو من الضمير في متكئين ، فتكون من الحال المتداخلة ، أو صفة أخرى لجنة ، والزمهرير : أشدّ البرد ، والمعنى : أنهم لا يرون في الجنة حرّ الشمس ولا برد الزمهرير ، ومنه قول الأعشى :
منعمة طفلة كالمها ... لم تر شمساً ولا زمهريراً
وقال ثعلب : الزمهرير القمر بلغة طيّ ، وأنشد لشاعرهم :
وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر
ويروى . ما ظهر ، أي : لم يطلع القمر ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة مريم . { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظلالها } قرأ الجمهور : { دانية } بالنصب عطفاً على محل لا يرون ، أو على متكئين ، أو صفة لمحذوف ، أي : وجنة دانية ، كأنه قال : وجزاهم جنة دانية . وقال الزجاج : هو صفة لجنة المتقدم ذكرها . وقال الفرّاء : هو منصوب على المدح . وقرأ أبو حيوة : ( ودانية ) بالرفع على أنه خبر مقدّم ، وظلالها مبتدأ مؤخر ، والجملة في موضع النصب على الحال ، والمعنى : أن ظلال الأشجار قريبة منهم مظلة عليهم زيادة في نعيمهم ، وإن كان لا شمس هنالك . قال مقاتل : يعني : شجرها قريب منهم . وقرأ ابن مسعود : ( ودانياً عليهم ) . { وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } معطوف على دانية كأنه قال : ومذللة . ويجوز أن تكون الجملة في محل نصب على الحال من الضمير في عليهم ، ويجوز أن تكون مستأنفة ، والقطوف الثمار ، والمعنى : أنها سخرت ثمارها لمتناوليها تسخيراً كثيراً بحيث يتناولها القائم والقاعد والمضطجع لا يردّ أيديهم عنها بعد ولا شوك . قال النحاس : المذلل القريب المتناول ، ومنه قولهم حائط ذليل ، أي : قصير . قال ابن قتيبة : ذللت أدنيت ، من قولهم حائط ذليل أي : كان قصير السمك . وقيل : ذللت ، أي : جعلت منقادة لا تمتنع على قطافها كيف شاءوا . { وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ } أي : تدور عليهم الخدم إذا أرادوا الشراب بآنية الفضة ، والأكواب جمع ركوب ، وهو : الكوز العظيم الذي لا أذن له ولا عروة ، ومنه قول عديّ :
متكىء تقرع أبوابه ... يسعى عليه العبد بالكوب
وقد مضى تفسيره في سورة الزخرف { كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ } أي : في وصف القوارير في الصفاء وفي بياض الفضة ، فصفاؤها صفاء الزجاج ، ولونها لون الفضة .
قرأ نافع ، والكسائي ، وأبو بكر : ( قوارير قوارير ) بالتنوين فيهما مع الوصل ، وبالوقف عليهما بالألف ، وقد تقدّم وجه هذه القراءة في تفسير قوله : { سلاسل } [ الإِنسان : 4 ] من هذه السورة ، وبيّنا هنالك وجه صرف ما فيه صيغة منتهى الجموع فارجع إليه . وقرأ حمزة بعدم التنوين فيهما ، وعدم الوقف بالألف ، ووجه هذه القراءة ظاهر لأنهما ممتنعان لصيغة منتهى الجموع . وقرأ هشام بعدم التنوين فيهما مع الوقف عليهما بالألف ، وقرأ ابن كثير بتنوين الأوّل دون الثاني ، والوقف على الأوّل بالألف دون الثاني . وقرأ أبو عمرو ، وحفص ، وابن ذكوان بعدم التنوين فيهما ، والوقف على الأوّل بالألف دون الثاني ، والجملة في محل جرّ صفة لأكواب . قال أبو البقاء : وحسن التكرير لما اتصل به من بيان أصلها . قال الواحدي : قال المفسرون : جعل الله قوارير أهل الجنة من فضة ، فاجتمع لها بياض الفضة وصفاء القوارير . قال الزجاج : القوارير التي في الدنيا من الرمل ، فأعلم الله فضل تلك القوارير أن أصلها من فضة يرى من خارجها ما في داخلها ، وجملة { قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } صفة لقوارير . قرأ الجمهور : { قدّروها } بفتح القاف على البناء للفاعل ، أي : قدّرها السقاة من الخدم الذين يطوفون عليهم على قدر ما يحتاج إليه الشاربون من أهل الجنة من دون زياد ولا نقصان . قال مجاهد وغيره : أتوا بها على قدر ريهم بغير زيادة ولا نقصان . قال الكلبي : وذلك ألذّ وأشهى . وقيل : قدّرها الملائكة . وقيل : قدّرها أهل الجنة الشاربون على مقدار شهواتهم وحاجتهم ، فجاءت كما يريدون في الشكل لا تزيد ولا تنقص . وقرأ عليّ ، وابن عباس ، والسلمي ، والشعبي ، وزيد بن عليّ ، وعبيد بن عمير ، وأبو عمرو في رواية عنه : « قدّروها » بضم القاف ، وكسر الدال مبنياً للمفعول ، أي : جعلت لهم على قدر إرادتهم . قال أبو علي الفارسي : هو من باب القلب ، قال : لأن حقيقة المعنى أن يقال : قدّرت عليهم لا قدّروها؛ لأنه في معنى قدروا عليها . وقال أبو حاتم : التقدير قدّرت الأواني على قدر ريهم ، فمفعول ما لم يسمّ فاعله محذوف . قال أبو حيان : والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يقال : قدّر ريهم منها تقديراً ، فحذف المضاف ، فصار قدّروها . وقال المهدوي : إن القراءة الأخيرة يرجع معناها إلى معنى القراءة الأولى ، وكأن الأصل قدّروا عليها فحذف حرف الجرّ ، كما أنشد سيبويه :
آليت حبّ العراق الدهر آكله ... والحب يأكله في القرية السوس
أي : آليت على حبّ العراق . { وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً } قد تقدّم أن الكأس هو الإناء فيه الخمر ، وإذا كان خالياً عن الخمر ، فلا يقال له كأس ، والمعنى : أن أهل الجنة يسقون في الجنة كأساً من الخمر ، ممزوجة بالزنجبيل وقد كانت العرب تستلذّ مزج الشراب بالزنجبيل لطيب رائحته .
وقال مجاهد ، وقتادة : الزنجبيل اسم للعين التي يشرب بها المقرّبون . وقال مقاتل : هو زنجبيل لا يشبه زنجبيل الدنيا . { عَيْناً فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً } انتصاب { عيناً } على أنها بدل من { كأساً } . ويجوز أن تكون منصوبة بفعل مقدّر ، أي : يسقون عيناً ، ويجوز أن تكون منصوبة بنزع الخافض ، أي : من عين ، والسلسبيل : الشراب اللذيذ ، مأخوذ من السلاسة ، تقول العرب : هذا شراب سلس ، وسلسال ، وسلسبيل ، أي : طيب لذيذ . قال الزجاج : السلسبيل في اللغة اسم لماء في غاية السلاسة حديد الجرية يسوغ في حلوقهم ، ومنه قول حسان بن ثابت :
يسقون من ورد البريص عليهم ... كأساً يصفق بالرحيق السلسل
{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ } لما فرغ سبحانه من وصف شرابهم ووصف آنيتهم ، ووصف السقاة الذين يسقونهم ذلك الشراب ، ومعنى { مُّخَلَّدُونَ } : باقون على ما هم عليه من الشباب ، والطراوة ، والنضارة ، لا يهرمون ، ولا يتغيرون . وقيل معنى { مُّخَلَّدُونَ } : لا يموتون . وقيل : التخليد التحلية ، أي : محلون { إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } : إذا نظرت إليهم ظننتهم لمزيد حسنهم ، وصفاء ألوانهم ، ونضارة وجوههم لؤلؤاً مفرّقاً . قال عطاء : يريد في بياض اللون وحسنه ، واللؤلؤ إذا نثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظوماً . قال أهل المعاني : إنما شبّهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة ، ولو كانوا صفاً لشبهوا بالمنظوم . وقيل : إنما شبههم بالمنثور؛ لأنهم سراع في الخدمة ، بخلاف الحور العين . فإنه شبههنّ باللؤلؤ المكنون؛ لأنهنّ لا يمتهنّ بالخدمة . { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } أي : وإذا رميت ببصرك هناك ، يعني : في الجنة رأيت نعيماً لا يوصف ، وملكاً كبيراً لا يقادر قدره ، وثم ظرف مكان ، والعامل فيها رأيت . قال الفرّاء : في الكلام ما مضمرة ، أي : وإذا رأيت ما ثم ، كقوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] أي : ما بينكم . قال الزجاج معترضاً على الفراء : إنه لا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة ، ولكن رأيت يتعدّى في المعنى إلى ثم . والمعنى : إذا رأيت ببصرك ثم ، ويعني بثمّ : الجنة . قال السديّ : النعيم ما يتنعم به ، والملك الكبير : استئذان الملائكة عليهم ، وكذا قال مقاتل ، والكلبي . وقيل : إن رأيت ليس له مفعول ملفوظ ، ولا مقدّر ولا منويّ ، بل معناه : أن بصرك أينما وقع في الجنة رأيت نعيماً وملكاً كبيراً .
{ عاليهم ثِيَابُ سُندُسٍ } قرأ نافع ، وحمزة ، وابن محيصن : ( عاليهم ) بسكون الياء وكسر الهاء على أنه خبر مقدّم ، وثياب مبتدأ مؤخر ، أو على أن عاليهم مبتدأ ، وثياب مرتفع بالفاعلية ، وإن لم يعتمد الوصف ، كما هو مذهب الأخفش . وقال الفراء : هو مرفوع بالابتداء ، وخبره : ثياب سندس ، واسم الفاعل مراد به الجمع . وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الهاء على أنه ظرف في محلّ رفع على أنه خبر مقدّم ، وثياب مبتدأ مؤخر ، كأنه قيل فوقهم ثياب .
قال الفرّاء : إن عاليهم بمعنى فوقهم ، وكذا قال ابن عطية . قال أبو حيان : عال وعالية اسم فاعل ، فيحتاج في كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولاً من كلام العرب ، وقد تقدّمه إلى هذا الزجاج وقال : هذا مما لا نعرفه في الظروف ولو كان ظرفاً لم يجز إسكان الياء ، ولكنه نصب على الحال من شيئين : أحدهما الهاء والميم في قوله : { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ } أي : على الأبرار { ولدان } عالياً الأبرار { ثِيَابُ سُندُسٍ } أي : يطوف عليهم في هذه الحال . والثاني أن يكون حالاً من الولدان ، أي : إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً في حال علوّ الثياب أبدانهم . وقال أبو عليّ الفارسي : العامل في الحال إما لقاهم نضرة وسروراً ، وإما جزاهم بما صبروا . قال : ويجوز أن يكون ظرفاً . وقرأ ابن سيرين ، ومجاهد ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : ( عليهم ) ، وهي قراءة واضحة المعنى ظاهرة الدلالة . واختار أبو عبيد القراءة الأولى لقراءة ابن مسعود : ( عاليتهم ) . وقرأ الجمهور بإضافة ثياب إلى سندس . وقرأ أبو حيوة ، وابن أبي عبلة بتنوين ثياب ، وقطعها عن الإضافة ، ورفع سندس ، و { خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } على أن السندس نعت للثياب؛ لأن السندس نوع من الثياب ، وعلى أن { خضر } نعت لسندس؛ لأنه يكون أخضر وغير أخضر ، وعلى أن إستبرق معطوف على سندس ، أي : وثياب إستبرق ، والجمهور من القرّاء اختلفوا في خضر وإستبرق مع اتفاقهم على جرّ سندس بإضافة ثياب إليه؛ فقرأ ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم ، وابن محيصن بجرّ خضر نعتاً لسندس ، ورفع إستبرق عطفاً على ثياب أي : عليهم ثياب سندس وعليهم إستبرق . وقرأ أبو عمرو ، وابن عامر برفع خضر نعتاً لثياب ، وجرّ إستبرق نعت لسندس . واختار هذه القراءة أبو حاتم ، وأبو عبيد؛ لأن الخضر أحسن ما كانت نعتاً للثياب فهي مرفوعة ، والإستبرق من جنس السندس . وقرأ نافع ، وحفص برفع { خضر وإستبرق } لأن { خضر } نعت للثياب ، وإستبرق عطف على الثياب . وقرأ الأعمش ، وحمزة ، والكسائي بجرّ ( خضر وإستبرق ) على أن { خضر } نعت للسندس ، وإستبرق معطوف على سندس . وقرءوا كلهم بصرف إستبرق إلاّ ابن محيصن ، فإنه لم يصرفه ، قال : لأنه أعجمي ، ولا وجه لهذا؛ لأنه نكرة إلاّ أن يقول إنه علم لهذا الجنس من الثياب . والسندس : ما رقّ من الديباج . والإستبرق : ما غلظ منه ، وقد تقدّم تفسيرهما في سورة الكهف .
{ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } عطف على { يطوف عليهم } . ذكر سبحانه هنا أنهم يحلون بأساور الفضّة ، وفي سورة فاطر : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } [ فاطر : 33 ] وفي سورة الحج : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً } [ الحج : 23 ] ولا تعارض بين هذه الآيات لإمكان الجمع بأن يجعل لهم سوارات من ذهب وفضة ولؤلؤ ، أو بأن المراد أنهم يلبسون سوارات الذهب تارة ، وسوارات الفضة تارة ، وسوارات اللؤلؤ تارة ، أو أنه يلبس كل أحد منه ما تميل إليه نفسه من ذلك ، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محلّ نصب على الحال من ضمير عاليهم بتقدير قد { وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } هذا نوع آخر من الشراب الذي يمنّ الله عليهم به .
قال الفرّاء : يقول هو طهور ليس بنجس ، كما كان في الدنيا موصوفاً بالنجاسة . والمعنى : أن ذلك الشراب طاهر ليس كخمر الدنيا . قال مقاتل : هو عين ماء على باب الجنة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غشّ ، وغلّ ، وحسد . قال أبو قلابة ، وإبراهيم النخعي : يؤتون بالطعام ، فإذا كان آخره أتوا بالشراب الطهور ، فيشربون فتضمر بطونهم من ذلك ، ويفيض عرق من أبدانهم مثل ريح المسك { إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَاء } أي : يقال لهم : إن هذا الذي ذكر من أنواع النعم كان لكم جزاء بأعمالكم أي : ثواباً لها { وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } أي : كان عملكم في الدنيا بطاعة الله مرضياً مقبولاً ، وشكر الله سبحانه لعمل عبده هو قبوله لطاعته .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : الزمهرير هو البرد الشديد . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اشتكت النار إلى ربها فقالت : ربّ أكل بعضي بعضاً ، فجعل لها نفسين : نفساً في الصيف ، ونفساً في الشتاء ، فشدّة ما تجدون من البرد من زمهريرها ، وشدّة ما تجدون في الصيف من الحرّ من سمومها » وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وهناد بن السريّ ، وعبد بن حميد ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن البراء بن عازب في قوله : { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظلالها } قال : قريبة { وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } قال : إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياماً وقعوداً ، ومضطجعين وعلى أيّ حال شاءوا .
وفي لفظ قال : ذللت فيتناولون منها كيف شاءوا . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال : { ءانِيَةٍ مِن فِضَّةٍ } وصفاؤها كصفاء القوارير { قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } قال : قدّرت للكف . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، والبيهقي عنه قال : لو أخذت فضة من فضة الدنيا ، فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم ير الماء من ورائها ، ولكن قوارير الجنة بياض الفضة في صفاء القوارير . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : ليس في الجنة شيء إلاّ وقد أعطيتم في الدنيا شبهه إلاّ قوارير من فضة . وأخرج الفريابي عنه أيضاً في قوله : { قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } قال : أتوا بها على قدر الفم لا يفضلون شيئًا ، ولا يشتهون بعدها شيئًا . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه أيضاً : { قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } قال : قدّرتها السقاة . وأخرج ابن المبارك ، وهناد ، وعبد بن حميد ، والبيهقي في البعث عن ابن عمرو قال : إن أدنى أهل الجنة منزلاً من يسعى عليه ألف خادم كل خادم على عمل ليس عليه صاحبه ، وتلا هذه الآية : { إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } .
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
قوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرءان تَنزِيلاً } أي : فرّقناه في الإنزال ، ولم ننزله جملة واحدة . وقيل المعنى : نزلناه عليك ، ولم تأت به من عندك ، كما يدّعيه المشركون . { فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ } أي : لقضائه ، ومن حكمه ، وقضائه تأخير نصرك إلى أجل اقتضته حكمته . قيل : وهذا منسوخ بآية السيف { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً } أي : لا تطع كل واحد من مرتكب لإثم وغال في كفر ، فنهاه الله سبحانه عن ذلك . قال الزجاج : إن الألف هنا آكد من الواو وحدها؛ لأنك إذا قلت : لا تطع زيداً ، وعمراً ، فأطاع أحدهما كان غير عاص؛ لأنه أمره أن لا يطيع الاثنين ، فإذا قال : لا تطع منهم آثماً أو كفوراً دلّ ذلك على أن كل واحد منهما أهل أن يعصى ، كما أنك إذا قلت : لا تخالف الحسن أو ابن سيرين ، فقد قلت إنهما أهل أن يتبعا ، وكل واحد منهما أهل أن يتبع . وقال الفرّاء : «أو» هنا بمنزلة لا ، كأنه قال : ولا كفوراً . وقيل المراد بقوله : { ءاثِماً } عتبة بن ربيعة ، وبقوله : { أَوْ كَفُوراً } الوليد بن المغيرة؛ لأنهما قالا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : ارجع عن هذا الأمر ، ونحن نرضيك بالمال والتزويج . { واذكر اسم رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي : دم على ذكره في جميع الأوقات . وقيل المعنى : صلّ لربك أوّل النهار وآخره ، فأوّل النهار صلاة الصبح ، وآخره صلاة العصر . { وَمِنَ اليل فاسجد لَهُ } أي : صلّ المغرب والعشاء . وقيل : المراد الصلاة في بعضه من غير تعيين ، ومن للتبعيض على كل تقدير { وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } أي : نزّهه عما لا يليق به ، فيكون المراد : الذكر بالتسبيح سواء كان في الصلاة ، أو في غيرها . وقيل : المراد التطوّع في الليل . قال ابن زيد ، وغيره : إن هذه الآية منسوخة بالصلوات الخمس . وقيل : الأمر للندب . وقيل : هو مخصوص بالنبيّ صلى الله عليه وسلم .
{ إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة } يعني : كفار مكة ومن هو موافق لهم . والمعنى : أنهم يحبون الدار العاجلة ، وهي دار الدنيا ، { وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } أي : يتركون ، ويدعون وراءهم ، أي : خلفهم ، أو بين أيديهم وأمامهم يوماً شديداً عسيراً ، وهو يوم القيامة ، وسمي ثقيلاً لما فيه من الشدائد والأهوال . ومعنى كونه يذرونه وراءهم : أنهم لا يستعدّون له ، ولا يعبئون به ، فهم كمن ينبذ الشيء وراء ظهره تهاوناً به ، واستخفافاً بشأنه ، وإن كانوا في الحقيقة مستقبلين له وهو أمامهم . { نَّحْنُ خلقناهم } أي : ابتدأنا خلقهم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة إلى أن كمل خلقهم ، ولم يكن لغيرنا في ذلك عمل ولا سعي لا اشتراكاً ولا استقلالاً { وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ } الأسر : شدّة الخلق ، يقال شدّ الله أسر فلان ، أي : قوّى خلقه .
قال مجاهد ، وقتادة ، ومقاتل ، وغيرهم : شددنا خلقهم . قال الحسن : شددنا أوصالهم بعضاً إلى بعض بالعروق ، والعصب . قال أبو عبيد : يقال فرس شديد الأسر ، أي : الخلق . قال لبيد :
ساهم الوجه شديد أسره ... مشرف الحارك محبوك القتد
وقال الأخطل :
من كل مجتنب شديد أسره ... سلس القياد تخاله مختالا
وقال ابن زيد : الأسر القوّة ، واشتقاقه من الإسار ، وهو القدّ الذي تشدّ به الأقتاب ، ومنه قول ابن أحمر يصف فرساً :
يمشي بأوطفة شداد أسرها ... شمّ السبائك لا تفي بالجدجد
{ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أمثالهم تَبْدِيلاً } أي : لو شئنا لأهلكناهم ، وجئنا بأطوع لله منهم . وقيل المعنى : مسخناهم إلى أسمج صورة ، وأقبح خلقة . { إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ } يعني : إن هذه السورة تذكير وموعظة { فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً } أي : طريقاً يتوسل به إليه ، وذلك بالإيمان ، والطاعة . والمراد إلى ثوابه ، أو إلى جنته . { وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله } أي : وما تشاءون أن تتخذوا إلى الله سبيلاً إلاّ أن يشاء الله ، فالأمر إليه سبحانه ليس إليهم . والخير والشرّ بيده ، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ، فمشيئة العبد مجرّدة لا تأتي بخير ولا تدفع شرّاً ، وإن كان يثاب على المشيئة الصالحة ، ويؤجر على قصد الخير ، كما في حديث : « إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرىء ما نوى » قال الزجاج أي : لستم تشاءون إلاّ بمشيئة الله { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } في أمره ونهيه ، أي : بليغ العلم والحكمة . { يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ } أي : يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها ، أو يدخل في جنته من يشاء من عباده ، قال عطاء : من صدقت نيته أدخله جنته { والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } انتصاب الظالمين بفعل مقدّر يدل عليه ما قبله ، أي : يعذب الظالمين ، نصب الظالمين؛ لأن ما قبله منصوب ، أي : يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين ، أي : المشركين ، ويكون أعدّ لهم تفسيراً لهذا المضمر ، والاختيار النصب ، وإن جاز الرفع ، وبالنصب قرأ الجمهور ، وقرأ أبان بن عثمان بالرفع على الابتداء ، ووجهه أنه لم يكن بعده فعل يقع عليه .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس : { وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ } قال : خلقهم . وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة { وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ } قال : هي المفاصل .
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
قوله : { والمرسلات عُرْفاً } قال جمهور المفسرين : هي الرياح . وقيل : هي الملائكة ، وبه قال مقاتل ، وأبو صالح ، والكلبي . وقيل : هم الأنبياء ، فعلى الأوّل أقسم سبحانه بالرياح المرسلة لما يأمرها به ، كما في قوله : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } [ الحجر : 23 ] وقوله : { يُرْسِلُ الرياح } [ الروم : 48 ] وغير ذلك . وعلى الثاني أقسم سبحانه بالملائكة المرسلة بوحيه وأمره ونهيه . وعلى الثالث أقسم سبحانه برسله المرسلة إلى عباده لتبليغ شرائعه ، وانتصاب { عُرْفاً } إما على أنه مفعول لأجله ، أي : المرسلات لأجل العرف ، وهو ضدّ النكر ، ومنه قول الشاعر :
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
أو على أنه حال بمعنى متتابعة يتبع بعضها بعضاً كعرف الفرس ، تقول العرب : سار الناس إلى فلان عرفاً واحداً : إذا توجهوا إليه ، وهم على فلان كعرف الضبع : إذا تألبوا عليه ، أو على أنه مصدر كأنه قال : والمرسلات إرسالاً ، أي : متتابعة ، أو على أنه منصوب بنزع الخافض ، أي : والمرسلات بالعرف . قرأ الجمهور : { عرفاً } بسكون الراء . وقرأ عيسى بن عمر بضمها . وقيل : المراد بالمرسلات السحاب لما فيها من نعمة ونقمة : { فالعاصفات عَصْفاً } وهي الرياح الشديدة الهبوب . قال القرطبي بغير اختلاف : يقال عصف بالشيء : إذا أباده وأهلكه ، وناقة عصوف ، أي : تعصف براكبها ، فتمضي كأنها ريح في السرعة ، ويقال عصفت الحرب بالقوم إذا ذهبت بهم . وقيل : هي الملائكة الموكلون بالرياح يعصفون بها ، وقيل : يعصفون بروح الكافر . وقيل : هي الآيات المهلكة كالزلازل ، ونحوها { والناشرات نَشْراً } يعني : الرياح تأتي بالمطر ، وهي تنشر السحاب نشراً ، أو الملائكة الموكلون بالسحاب ينشرونها ، أو ينشرون أجنحتهم في الجوّ عند النزول بالوحي ، أو هي الأمطار لأنها تنشر النبات . وقال الضحاك : يريد ما ينشر من الكتب وأعمال بني آدم . وقال الربيع : إنه البعث للقيامة بنشر الأرواح ، وجاء بالواو هنا لأنه استئناف قسم آخر : { فالفارقات فَرْقاً } يعني : الملائكة تأتي بما يفرّق بين الحق والباطل . والحلال والحرام . وقال مجاهد : هي الريح تفرق بين السحاب فتبدّده . وروي عنه أنها آيات القرآن تفرق بين الحق والباطل ، وقيل : هي الرسل فرقوا ما بين ما أمر الله به ونهى عنه ، وبه قال الحسن : { فالملقيات ذِكْراً } هي الملائكة . قال القرطبي بإجماع ، أي : تلقي الوحي إلى الأنبياء . وقيل : هو جبريل ، وسمي باسم الجمع تعظيماً له . وقيل : هي الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل الله عليهم ، قاله قطرب . قرأ الجمهور : { فالملقيات } بسكون اللام ، وتخفيف القاف اسم فاعل ، وقرأ ابن عباس بفتح اللام ، وتشديد القاف من التلقية وهي إيصال الكلام إلى المخاطب ، والراجح أن الثلاثة الأول للرياح ، والرابع والخامس للملائكة ، وهو الذي اختاره الزجاج ، والقاضي ، وغيرهما .
{ عُذْراً أَوْ نُذْراً } انتصابهما على البدل من { ذكراً } ، أو على المفعولية ، والعامل فيهما المصدر المنوّن ، كما في قوله :
{ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ، 15 ] أو على المفعول لأجله ، أي : للإعذار والإنذار ، أو على الحال بالتأويل المعروف ، أي : معذرين أو منذرين . قرأ الجمهور بإسكان الذال فيهما . وقرأ زيد بن ثابت ، وابنه خارجة بن زيد ، وطلحة بضمهما . وقرأ الحرميان ، وابن عامر ، وأبو بكر بسكونها في عذراً وضمها في نذراً . وقرأ الجمهور : { عذراً أو نذراً } على العطف ب « أو » . وقرأ إبراهيم التيمي ، وقتادة على العطف بالواو بدون ألف ، والمعنى : أن الملائكة تلقي الوحي إعذاراً من الله إلى خلقه ، وإنذاراً من عذابه ، كذا قال الفرّاء . وقيل : عذراً للمحقين ونذراً للمبطلين . قال أبو عليّ الفارسي : يجوز أن يكون العذر والنذر بالتثقيل جمع عاذر وناذر كقوله : { هذا نَذِيرٌ مّنَ النذر الأولى } [ النجم : 56 ] فيكون نصباً على الحال من الإِلقاء ، أي : يلقون الذكر في حال العذر والإنذار ، أو مفعولان لذكراً ، أي : تذكر عذراً أو نذراً . قال المبرد : هما بالتثقيل جمع ، والواحد عذير ونذير .
ثم ذكر سبحانه جواب القسم فقال : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لواقع } أي : إن الذي توعدونه من مجيء الساعة والبعث كائن لا محالة . ثم بيّن سبحانه متى يقع ذلك ، فقال : { فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ } أي : محي نورها ، وذهب ضوؤها ، يقال طمس الشيء : إذا درس وذهب أثره { وَإِذَا السماء فُرِجَتْ } أي : فتحت وشقت ، ومثله قوله : { وَفُتِحَتِ السماء فَكَانَتْ أبوابا } [ النبأ : 19 ] { وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ } أي : قلعت من مكانها بسرعة ، يقال : نسفت الشيء وأنسفته : إذا أخذته بسرعة . وقال الكلبي : سوّيت بالأرض ، والعرب تقول : نسفت الناقة الكلأ : إذا رعته . وقيل : جعلت كالحبّ الذي ينسف بالمنسف ، ومنه قوله : { وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً } [ الواقعة : 5 ] والأوّل أولى . قال المبرد : نسفت قلعت من مواضعها . { وَإِذَا الرسل أُقّتَتْ } الهمزة في { أقتت } بدل من الواو المضمومة ، وكل واو انضمت ، وكانت ضمتها لازمة يجوز إبدالها بالهمزة ، وقد قرأ بالواو أبو عمرو ، وشيبة ، والأعرج ، وقرأ الباقون بالهمزة ، والوقت : الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه ، والمعنى : جعل لها وقت للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم ، كما في قوله سبحانه : { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل } [ المائدة : 109 ] وقيل : هذا في الدنيا ، أي : جمعت الرسل لميقاتها الذي ضرب لها في إنزال العذاب بمن كذبها ، والأوّل أولى . قال أبو عليّ الفارسي ، أي : جعل يوم الدين والفصل لها وقتاً . وقيل { أقتت } : أرسلت لأوقات معلومة على ما علم الله به { لأَيّ يَوْمٍ أُجّلَتْ } هذا الاستفهام للتعظيم والتعجيب ، أي : لأيّ يوم عظيم يعجب العباد منه لشدّته ومزيد أهواله ضرب لهم الأجل لجمعهم ، والجملة مقول قول مقدر هو جواب ل « إذا » ، أو في محل نصب على الحال من الضمير في { أقتت } . قال الزجاج : المراد بهذا التأقيت تبيين الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم .
ثم بيّن هذا اليوم فقال : { لِيَوْمِ الفصل } قال قتادة : يفصل فيه بين الناس بأعمالهم إلى الجنة والنار ، ثم عظم ذلك اليوم فقال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل } أي : وما أعلمك بيوم الفصل ، يعني : أنه أمر بديع هائل لا يقادر قدره ، و « ما » مبتدأ وأدراك خبره ، أو العكس كما اختاره سيبويه . ثم ذكر حال الذين كذبوا بذلك اليوم فقال : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } أي : ويل لهم في ذلك اليوم الهائل ، وويل أصل مصدر سادّ مسد فعله ، وعدل به إلى الرفع للدلالة على الثبات ، والويل الهلاك ، أو هو اسم واد في جهنم ، وكرّر هذه الآية في هذه السورة؛ لأنه قسم الويل بينهم على قدر تكذيبهم ، فإن لكل مكذب بشيء عذاباً سوى تكذيبه بشيء آخر ، وربّ شيء كذب به هو أعظم جرماً من التكذيب بغيره ، فيقسم له من الويل على قدر ذلك التكذيب .
ثم ذكر سبحانه ما فعل بالكفار من الأمم الخالية فقال : { أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين } أخبر سبحانه بإهلاك الكفار من الأمم الماضية من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم . قال مقاتل : يعني : بالعذاب في الدنيا حين كذبوا رسلهم .
{ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الأخرين } يعني : كفار مكة ، ومن وافقهم حين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم قرأ الجمهور : { نتبعهم } بالرفع على الاستئناف ، أي : ثم نحن نتبعهم . قال أبو البقاء : ليس بمعطوف؛ لأن العطف يوجب أن يكون المعنى : أهلكنا الأولين ثم أتبعناهم الآخرين في الإهلاك . وليس كذلك؛ لأن إهلاك الآخرين لم يقع بعد . ويدل على الرفع قراءة ابن مسعود : ( ثم سنتبعهم الآخرين ) وقرأ الأعرج ، والعباس عن أبي عمرو ونتبعهم بالجزم عطفاً على { نهلك } . قال شهاب الدين : على جعل الفعل معطوفاً على مجموع الجملة من قوله : { أَلَمْ نُهْلِكِ } . { كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين } أي : مثل ذلك الفعل الفظيع نفعل بهم ، يريد من يهلكه فيما بعد ، والكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف ، أي : مثل ذلك الإهلاك نفعل بكل مشرك إما في الدنيا أو في الآخرة : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } أي : ويل يوم ذلك الإهلاك للمكذبين بكتب الله ورسله . قيل : الويل الأوّل لعذاب الآخرة ، وهذا لعذاب الدنيا .
{ أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ } أي : ضعيف حقير ، وهو النطفة { فجعلناه فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ } أي : مكان حريز ، وهو الرحم : { إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ } أي : إلى مقدار معلوم وهو مدّة الحمل . وقيل : إلى أن يصوّر { فَقَدَرْنَا } قرأ الجمهور : { فقدرنا } بالتخفيف . وقرأ نافع ، والكسائي بالتشديد من التقدير . قال الكسائي ، والفرّاء : وهما لغتان بمعنى تقول : قدّرت كذا وقدرته { فَنِعْمَ القادرون } أي : نعم المقدّرون نحن . قيل المعنى : قدّرناه قصيراً أو طويلاً .
وقيل : معنى { قدّرنا } ملكنا { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } بقدرتنا على ذلك . ثم بيّن لهم بديع صنعه ، وعظيم قدرته ليعتبروا فقال : { أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً } معنى الكفت في اللغة : الضم والجمع ، يقال كفت الشيء : إذا ضمه وجمعه ، ومن هذا يقال : للجراب والقدر كفت ، والمعنى : ألم نجعل الأرض ضامة للأحياء على ظهرها ، والأموات في باطنها تضمهم وتجمعهم . قال الفرّاء : يريد تكفتهم أحياء على ظهرها في دورهم ومنازلهم وتكفتهم أمواتاً في بطنها ، أي : تحوزهم وهو معنى قوله : { أَحْيَاء وأمواتا } وأنشد سيبويه :
كرام حين تنكفت الأفاعي ... إلى أجحارهنّ من الصقيع
قال أبو عبيدة : كفاتاً أوعية ، ومنه قول الشاعر :
فأنت اليوم فوق الأرض حي ... وأنت غداً تضمن في كفات
أي : في قبر ، وقيل : معنى جعلها كفاتاً : أنه يدفن فيها ما يخرج من الإنسان من الفضلات . وقال الأخفش ، وأبو عبيدة : الأحياء والأموات وصفان للأرض ، أي : الأرض منقسمة إلى حيّ وهو الذي ينبت ، وإلى ميت وهو الذي لا ينبت . قال الفرّاء : انتصاب أحياء ، وأمواتاً بوقوع الكفات عليه ، أي : ألم نجعل الأرض كفات أحياء وأموات ، فإذا نوّن نصب ما بعده . وقيل : نصباً على الحال من الأرض ، أي : منها كذا ومنها كذا . وقيل : هو مصدر نعت به للمبالغة . وقال الأخفش : كفاتاً جمع كافتة ، والأرض يراد بها الجمع ، فنعتت بالجمع . وقال الخليل : التكفت تقليب الشيء ظهراً لبطن ، أو بطناً لظهر ، ويقال انكفت القوم إلى منازلهم ، أي : ذهبوا . { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شامخات } أي : جبالاً طوالاً ، والرواسي الثوابت ، والشامخات الطوال ، وكل عال فهو شامخ { وأسقيناكم مَّاء فُرَاتاً } أي : عذباً ، والفرات الماء العذب يشرب منه ويسقى به . قال مقاتل : وهذا كله أعجب من البعث . { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } بما أنعمنا عليهم من نعمنا التي هي من جملتها .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن أبي هريرة : { والمرسلات عُرْفاً } قال : هي الملائكة أرسلت بالعرف . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود : { والمرسلات عُرْفاً } قال : الريح { فالعاصفات عَصْفاً } قال : الريح { والناشرات نَشْراً } قال : الريح . وأخرج ابن راهويه ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب أنه جاء رجل إلى عليّ بن أبي طالب ، فقال : ما العاصفات عصفاً؟ قال الرياح . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس : { والمرسلات عُرْفاً } قال : الريح { فالعاصفات عَصْفاً } قال : الريح { فالفارقات فَرْقاً } قال : الملائكة { فالملقيات ذِكْراً } قال : الملائكة . وأخرج ابن المنذر عنه : { والمرسلات عُرْفاً } قال : الملائكة { فالفارقات فَرْقاً } قال : الملائكة ، فرقت بين الحق والباطل { فالملقيات ذِكْراً } قال : بالتنزيل . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر عن ابن مسعود قال : ويل واد في جهنم يسيل فيه صديد أهل النار ، فجعل للمكذبين . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس : { مّن مَّاء مَّهِينٍ } قال : ضعيف . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه { كِفَاتاً } قال : كنا . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { رَوَاسِىَ شامخات } قال : جبالاً مشرفات ، وفي قوله : { فُرَاتاً } قال : عذباً .
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
{ انطلقوا إلى مَا كُنتُمْ } هو بتقدير القول ، أي : يقال لهم توبيخاً وتقريعاً : { انطلقوا إلى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ } في الدنيا ، تقول لهم ذلك خزنة جهنم ، أي : سيروا إلى ما كنتم تكذبون به من العذاب ، وهو عذاب النار { انطلقوا إلى ظِلّ ذِى ثلاث شُعَبٍ } أي : إلى ظل من دخان جهنم قد سطع ، ثم افترق ثلاث فرق تكونون فيه حتى يفرغ الحساب . وهذا شأن الدخان العظيم إذا ارتفع تشعب شعباً . قرأ الجمهور : { انطلقوا } في الموضعين على صيغة الأمر على التأكيد ، وقرأ رويس عن يعقوب بصيغة الماضي في الثاني ، أي : لما أمروا بالانطلاق امتثلوا ذلك ، فانطلقوا . وقيل : المراد بالظل هنا هو السرادق ، وهو لسان من النار يحيط بهم . ثم يتشعب ثلاث شعب ، فيظلهم حتى يفرغ من حسابهم ، ثم يصيرون إلى النار . وقيل : هو الظلّ من يحموم ، كما في قوله : { فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ } [ الواقعة : 42 ، 43 ] على ما تقدم . ثم وصف سبحانه هذا الظلّ تهكماً بهم فقال : { لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللهب } أي : لا يظل من الحرّ ، ولا يغني من اللهب . قال الكلبي : لا يردّ حرّ جهنم عنكم .
ثم وصف سبحانه النار فقال : { إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كالقصر } أي : كل شررة من شررها التي ترمي بها كالقصر من القصور في عظمها ، والشرر : ما تطاير من النار متفرّقاً ، والقصر : البناء العظيم . وقيل : القصر جمع قصرة ساكنة الصاد مثل حمر وحمرة ، وتمر وتمرة ، وهي الواحدة من جزل الحطب الغليظ . قال سعيد بن جبير ، والضحاك : وهي أصول الشجر العظام . وقيل : أعناقه . قرأ الجمهور : { كالقصر } بإسكان الصاد ، وهو واحد القصور ، كما تقدّم . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وحميد ، والسلمي بفتح الصاد ، أي : أعناق النخل ، والقصرة العنق جمعه قصر وقصرات . وقال قتادة : أعناق الإبل . وقرأ سعيد بن جبير بكسر القاف ، وفتح الصاد ، وهي أيضاً جمع قصرة مثل بدر وبدرة ، وقصع وقصعة . وقرأ الجمهور : { بشرر } بفتح الشين . وقرأ ابن عباس ، وابن مقسم بكسرها مع ألف بين الراءين . وقرأ عيسى كذلك إلاّ أنه يفتح الشين ، وهي لغات ، ثم شبه الشرر باعتبار لونه فقال : { كَأَنَّهُ جمالة صُفْرٌ } وهي جمع جمال ، وهي الإبل ، أو جمع جمالة . قرأ الجمهور : « جمالات » بكسر الجيم . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص : { جمالة } جمع جمل . وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وابن جبير ، وقتادة ، وأبو رجاء : ( جمالات ) بضم الجيم ، وهي حبال السفن . قال الواحدي : والصفر معناها السود في قول المفسرين . قال الفرّاء : الصفر سواد الإبل لا يرى أسود من الإبل إلاّ وهو مشرب صفرة ، لذلك سمت العرب سود الإبل صفراً . قيل : والشرر إذا تطاير وسقط وفيه بقية من لون النار أشبه شيء بالإبل السود ، ومنه قول الشاعر :
تلك خيلي وتلك ركابي ... هنّ صفر أولادها كالزبيب
أي : هنّ سود . قيل : وهذا القول محال في اللغة أن يكون شيء يشوبه شيء قليل ، فينسب كله إلى ذلك الشائب ، فالعجب لمن قال بهذا ، وقد قال تعالى : { جمالة صُفْرٌ } . وأجيب بأن وجهه أن النار خلقت من النور ، فهي مضيئة ، فلما خلق الله جهنم ، وهي موضع النار حشى ذلك الموضع بتلك النار ، وبعث إليها سلطانه وغضبه ، فاسودّت من سلطانه وازدادت سواداً ، وصارت أشدّ سواداً من كل شيء ، فيكون شررها أسود لأنه من نار سوداء .
قلت : وهذا الجواب لا يدفع ما قاله القائل؛ لأن كلامه باعتبار ما وقع في الكتاب العزيز هنا من وصفها بكونها صفراء ، فلو كان الأمر ، كما ذكره المجيب من اسوداد النار ، واسوداد شررها ، لقال الله : كأنها جمالات سود ، ولكن إذا كانت العرب تسمي الأسود أصفر لم يبق إشكال؛ لأن القرآن نزل بلغتهم ، وقد نقل الثقات عنهم ذلك ، فكان ما في القرآن هنا وارداً على هذا الاستعمال العربي .
{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } لرسل الله وآياته { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } أي : لا يتكلمون : قال الواحدي : قال المفسرون : في يوم القيامة مواقف ، ففي بعضها يتكلمون ، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا يتكلمون ، وقد قدّمنا الجمع بهذا في غير موضع . وقيل : إن هذا إشارة إلى وقت دخولهم النار وهم عند ذلك لا ينطقون؛ لأن مواقف السؤال والحساب قد انقضت . وقال الحسن : لا ينطقون بحجة ، وإن كانوا ينطقون . قرأ الجمهور : برفع { يوم } على أنه خبر لإسم الإشارة . وقرأ زيد بن عليّ ، والأعرج ، والأعمش ، وأبو حيوة ، وعاصم في رواية عنه بالفتح على البناء لإضافته إلى الفعل ، ومحله الرفع على الخبرية . وقيل : هو منصوب على الظرفية ، والإشارة بهذا إلى ما تقدّم من الوعيد؛ كأنه قيل : هذا العقاب المذكور كائن يوم لا ينطقون { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } قرأ الجمهور : { يؤذن } على البناء للمفعول ، وقرأ زيد بن عليّ : ( ولا يأذن ) على البناء للفاعل ، أي : لا يأذن الله لهم ، أي : لا يكون لهم إذن من الله فيكون لهم اعتذار من غير أن يجعل الاعتذار مسبباً عن الإذن كما لو نصب . قال الفرّاء : الفاء في فيعتذرون نسق على يؤذن ، وأجيز ذلك؛ لأن أواخر الكلام بالنون ، ولو قال فيعتذروا لم يوافق الآيات ، وقد قال : { لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ } [ فاطر : 36 ] بالنصب ، والكل صواب . { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } بما دعتهم إليه الرسل ، وأنذرتهم عاقبته .
{ هذا يَوْمُ الفصل جمعناكم والاولين } أي : ويقال لهم : هذا يوم الفصل الذي يفصل فيه بين الخلائق ، ويتميز فيه الحق من الباطل ، والخطاب في جمعناكم للكفار في زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، والمراد بالأوّلين كفار الأمم الماضية .
{ فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ } أي : إن قدرتم على كيد الآن { فَكِيدُونِ } وهذا تقريع وتوبيخ لهم . قال مقاتل : يقول إن كان لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم . وقيل المعنى : فإن قدرتم على حرب فحاربون . وقيل : إن هذا من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فيكون كقول هود : { فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } [ هود : 55 ] { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } لأنه قد ظهر لهم عجزهم ، وبطلان ما كانوا عليه في الدنيا .
ثم ذكر سبحانه المؤمنين فقال : { إِنَّ المتقين فِى ظلال وَعُيُونٍ } أي : في ظلال الأشجار وظلال القصور ، لا كالظلّ الذي للكفار من الدخان ، أو من النار كما تقدّم . قال مقاتل ، والكلبي : المراد بالمتقين الذين يتقون الشرك بالله؛ لأن السورة من أوّلها إلى آخرها في تقريع الكفار على كفرهم . قال الرازي : فيجب أن تكون هذه الآية مذكورة لهذا الغرض ، وإلاّ لتفككت السورة في نظمها وترتيبها ، وإنما يتمّ النظم بأن يكون الوعد للمؤمنين بسبب إيمانهم ، فأما جعله سبباً للطاعة فلا يليق بالنظم كذا قال والمراد بالعيون الأنهار ، وبالفواكه ما يتفكه به مما تطلبه أنفسهم وتستدعيه شهواتهم . { كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : يقال لهم ذلك ، فالجملة مقدّرة بالقول ، وهي في محل نصب على الحال من ضمير المتقين ، والباء للسببية ، أي : بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة . { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } أي : مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي المحسنين في أعمالهم ، قرأ الجمهور . { في ظلال } . وقرأ الأعمش ، والزهري ، وطلحة ، والأعرج : ( في ظلل ) جمع ظلة { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } حيث صاروا في شقاء عظيم ، وصار المؤمنون في نعيم مقيم .
{ كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ } الجملة بتقدير القول في محل نصب على الحال من المكذبين ، أي : الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك تذكير لهم بحالهم في الدنيا ، أو يقال لهم هذا في الدنيا ، والمجرمون المشركون بالله ، وهذا وإن كان في اللفظ أمراً فهو في المعنى تهديد وزجر عظيم . { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } كرّره لزيادة التوبيخ والتقريع . { وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَ } أي : وإذا أمروا بالصلاة لا يصلون . قال مقاتل : نزلت في ثقيف امتنعوا من الصلاة بعد أن أمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بها فقالوا : لا ننحني ، فإنها مسبة علينا ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود » وقيل : إنما يقال لهم ذلك في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون . وقيل : المعنى بالركوع : الطاعة والخشوع . { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } بأوامر الله سبحانه ونواهيه { فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } أي : فبأيّ حديث بعد القرآن يصدّقون إذا لم يؤمنوا به . قرأ الجمهور : { يؤمنون } بالتحتية على الغيبة .
وقرأ ابن عامر في رواية عنه ، ويعقوب بالفوقية على الخطاب .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { بِشَرَرٍ كالقصر } قال : كالقصر العظيم ، وقوله : { جمالة صُفْرٌ } قال : قطع النحاس . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وهناد ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، وابن مردويه من طريق عبد الرحمن بن عابس قال : سمعت ابن عباس يسأل عن قوله : { إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كالقصر } قال : كنا نرفع الخشب بقدر ثلاثة أذرع أو أقلّ ، فنرفعه للشتاء ، فنسميه القصر . قال : وسمعته يسأل عن قوله : { جمالة صُفْرٌ } قال : حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى يكون كأوساط الرجال . ولفظ البخاري : كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك فنرفعه للشتاء فنسميه القصر . { كَأَنَّهُ جمالة صُفْرٌ } حبال السفن تجمع حتى تكون كأوساط الرجال . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه أنه قرأ : ( كالقصر ) بفتح القاف والصاد . وقال قصر النخل يعني : الأعناق . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال : كانت العرب في الجاهلية تقول : أقصروا لنا الحطب ، فيقطع على قدر الذراع والذراعين . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط عن ابن مسعود في قوله : { تَرْمِى بِشَرَرٍ كالقصر } قال : إنها ليست كالشجر والجبال ، ولكنها مثل المدائن والحصون . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { كالقصر } قال : هو القصر ، وفي قوله : { جمالة صُفْرٌ } قال : الإبل .
وأخرج الحاكم وصححه من طريق عكرمة قال : سأل نافع ابن الأزرق ابن عباس عن قوله : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } و { لا تُسْمِعُ إِلاَّ هَمْساً } [ طه : 108 ] { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } [ الطور : 25 ] و { هَاؤُمُ اقرؤا كتابيه } [ الحاقة : 19 ] فقال له : ويحك هل سألت عن هذا أحداً قبلي؟ قال : لا ، قال : أما أنك لو كنت سألت هلكت ، أليس قال الله : { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ } [ الحج : 47 ] قال بلى ، قال : فإن لكل مقدار يوم من هذه الأيام لوناً من الألوان . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس : { وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَ } يقول : يدعون يوم القيامة إلى السجود ، فلا يستطيعون من أجل أنهم لم يكونوا يسجدون لله في الدنيا .
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
قوله : { عَمَّ يَتَسَاءلُونَ } أصله : عن ما ، فأدغمت النون في الميم؛ لأن الميم تشاركها في الغنة ، كذا قال الزجاج ، وحذفت الألف؛ ليتميز الخبر عن الاستفهام ، وكذلك فيم وممّ ونحو ذلك ، والمعنى : عن أيّ شيء يسأل بعضهم بعضاً . قرأ الجمهور : { عمّ } بحذف الألف لما ذكرنا ، وقرأ أبيّ ، وابن مسعود ، وعكرمة ، وعيسى بإثباتها ، ومنه قول الشاعر :
علاما قام يشتمني لئيم ... كخنزير تمرغ في دمان
ولكنه قليل لا يجوز إلاّ للضرورة ، وقرأ البزي بهاء السكت عوضاً عن الألف ، وروى ذلك عن ابن كثير . قال الزجاج : اللفظ لفظ استفهام ، والمعنى : تفخيم القصة كما تقول : أيّ شيء تريد : إذا عظمت شأنه . قال الواحدي : قال المفسرون : لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبرهم بتوحيد الله ، والبعث بعد الموت ، وتلا عليهم القرآن ، جعلوا يتساءلون بينهم يقولون : ماذا جاء به محمد ، وما الذي أتى به؟ فأنزل الله : { عَمَّ يَتَسَاءلُونَ } قال الفرّاء : التساؤل هو أن يسأل بعضهم بعضاً كالتقابل ، وقد يستمعل أيضاً في أن يتحدّثوا به ، وإن لم يكن بينهم سؤال . قال الله تعالى : { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } [ الطور : 25 ] { قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ } [ الصافات : 51 ] الآية ، وهذا يدل على أنه التحدّث ، ولفظ « ما » موضوع لطلب حقائق الأشياء ، وذلك يقتضي كون المطلوب مجهولاً ، فجعل الشيء العظيم الذي يعجز العقل عن أن يحيط بكنهه كأنه مجهول ، ولهذا جاء سبحانه بلفظ « ما » .
ثم ذكر سبحانه تساؤلهم عن ماذا ، وبينه فقال : { عَنِ النبإ العظيم } فأورده سبحانه أوّلاً على طريقة الاستفهام مبهماً؛ لتتوجه إليه أذهانهم ، وتلتفت إليه أفهامهم ، ثم بينه بما يفيد تعظيمه ، وتفخيمه كأنه قيل : عن أيّ شيء يتساءلون هل أخبركم به؟ ثم قيل بطريق الجواب : { عَنِ النبإ العظيم } على منهاج قوله : { لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] فالجارّ والمجرور متعلق بالفعل الذي قبله ، أو بما يدلّ عليه . قال ابن عطية : قال أكثر النحاة : عن النبأ العظيم متعلق ب { يتساءلون } الظاهر ، كأنه قال : لم يتساءلون عن النبأ العظيم ، وقيل : ليس بمتعلق بالفعل المذكور؛ لأنه كان يلزم دخول حرف الاستفهام ، فيكون التقدير أعن النبأ العظيم؟ فلزم أن يتعلق ب { يتساءلون } آخر مقدّر ، وإنما كان ذلك النبأ ، أي : القرآن عظيماً؛ لأنه ينبىء عن التوحيد ، وتصديق الرسول ، ووقوع البعث والنشور . قال الضحاك : يعني : نبأ يوم القيامة ، وكذا قال قتادة .
وقد استدلّ على أن النبأ العظيم هو القرآن بقوله : { الذى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } فإنهم اختلفوا في القرآن ، فجعله بعضهم سحراً ، وبعضهم شعراً ، وبعضهم كهانة ، وبعضهم قال : هو أساطير الأوّلين . وأما البعث فقد اتفق الكفار إذ ذاك على إنكاره .
ويمكن أن يقال : إنه قد وقع الاختلاف في البعث في الجملة ، فصدّق به المؤمنون ، وكذب به الكافرون ، فقد وقع الاختلاف فيه من هذه الحيثية ، وإن لم يقع الاختلاف فيه بين الكفار أنفسهم على التسليم والتنزل ، ومما يدلّ على أنه القرآن قوله سبحانه : { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } [ ص : 67 ، 68 ] ومما يدلّ على أنه البعث أنه أكثر ما كان يستنكره المشركون وتأباه عقولهم السخيفة . وأيضاً ، فطوائف الكفار قد وقع الاختلاف بينهم في البعث؛ فأثبت النصارى المعاد الروحاني ، وأثبتت طائفة من اليهود المعاد الجسماني ، وفي التوراة التصريح بلفظ الجنة باللغة العبرانية بلفظ « جنعيذا » بجيم مفتوحة ، ثم نون ساكنة ، ثم عين مكسورة مهملة ، ثم تحتية ساكنة ، ثم ذال معجمة بعدها ألف . وفي الإنجيل في مواضع كثيرة التصريح بالمعاد ، وأنه يكون فيه النعيم للمطيعين ، والعذاب للعاصين ، وقد كان بعض طوائف كفار العرب ينكر المعاد كما حكى الله عنهم بقوله : { إن هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نحن بمبعوثين } [ المؤمنون : 37 ] وكانت طائفة منهم غير جازمة بنفيه بل شاكة فيه ، كما حكى الله عنهم بقوله : { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } [ الجاثية : 32 ] وما حكاه عنهم بقوله : { وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] فقد حصل الاختلاف بين طوائف الكفر على هذه الصفة . وقد قيل : إن الضمير في قوله : { يتساءلون } يرجع إلى المؤمنين والكفار؛ لأنهم جميعاً كانوا يتساءلون عنه ، فأما المسلم ، فيزداد يقيناً واستعداداً ، وبصيرة في دينه ، وأما الكافر فاستهزاء وسخرية . قال الرازي : ويحتمل أنهم يسألون الرسول ، ويقولون : ما هذا الذي يعدنا به من أمر الآخرة ، والموصول في محل جرّ صفة للنبأ بعد وصفه بكونه عظيماً فهو متصف بالعظم ومتصف بوقوع الاختلاف فيه .
{ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } ردع لهم وزجر ، وهذا يدل على أن المختلفين فيه هم : الكفار ، وبه يندفع ما قيل : إن الخلاف بينهم وبين المؤمنين فإنه إنما يتوجه الردع والوعيد إلى الكفار فقط ، وقيل : كلاَّ بمعنى حقاً ، ثم كرّر الردع والزجر فقال : { ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } للمبالغة في التأكيد والتشديد في الوعيد . قرأ الجمهور بالياء التحتية في الفعلين على الغيبة . وقرأ الحسن ، وأبو العالية ، وابن دينار ، وابن عامر في رواية عنه بالفوقية على الخطاب . وقرأ الضحاك الأوّل بالفوقية والثاني بالتحتية . قال الضحاك أيضاً . { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } يعني : الكافرين عاقبة تكذيبهم { ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } يعني : المؤمنين عاقبة تصديقهم ، وقيل : بالعكس ، وقيل : هو وعيد بعده وعيد ، وقيل المعنى : { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } عند النزع { ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } عند البعث .
ثم ذكر سبحانه بديع صنعه ، وعظيم قدرته؛ ليعرفوا توحيده ، ويؤمنوا بما جاء به رسوله فقال : { أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا والجبال أَوْتَاداً } أي : قدرتنا على هذه الأمور المذكورة أعظم من قدرتنا على الإعادة بالبعث ، والمهاد الوطاء ، والفراش ، كما في قوله :
{ الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً } [ البقرة : 22 ] قرأ الجمهور : ( مهاداً ) وقرأ مجاهد ، وعيسى ، وبعض الكوفيين : ( مهداً ) والمعنى : أنها كالمهد للصبيّ وهو ما يمهد له فينوّم عليه . والأوتاد جمع وتد : أي : جعلنا الجبال أوتاداً للأرض؛ لتسكن ولا تتحرّك ، كما يرس الخيام بالأوتاد ، وفي هذا دليل على أن التاؤل الكائن بينهم هو عن أمر البعث ، لا عن القرآن ، ولا عن نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، كما قيل؛ لأن هذا الدليل إنما يصلح للاستدلال به على البعث { وخلقناكم أزواجا } معطوف على المضارع المنفي داخل في حكمه ، فهو في قوّة أما خلقناكم ، والمراد بالأزواج هنا الأصناف أي : الذكور والإناث ، وقيل : المراد بالأزواج الألوان ، وقيل : يدخل في هذا كلّ زوج من المخلوقات عن قبيح وحسن وطويل وقصير : { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } أي : راحة لأبدانكم . قال الزجاج : السبات أن ينقطع عن الحركة والروح في بدنه : أي : جعلنا نومكم راحة لكم . قال ابن الأنباري : جعلنا نومكم قطعاً لأعمالكم؛ لأن أصل السبت القطع ، وقيل : أصله التمدّد ، يقال سبتت المرأة شعرها : إذا حلته وأرسلته ، ورجل مسبوت الخلق : أي : ممدوده ، والرجل إذا أراد أن يستريح تمدّد ، فسمي النوم سباتاً ، وقيل المعنى : وجعلنا نومكم موتاً ، والنوم أحد الموتتين ، فالمسبوت يشبه الميت ، ولكنه لم تفارقه الروح ، ومنه قول الشاعر :
ومطوية الأقراب أما نهارها ... فسبت وأما ليلها فذميل
ومن هذا قوله : { الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا } [ الزمر : 42 ] الآية ، وقوله : { وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل } [ الأنعام : 60 ] { وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً } أي : نلبسكم ظلمته ونغشيكم بها كما يغشيكم اللباس . وقال سعيد بن جبير والسديّ : أي سكناً لكم ، وقيل : المراد به ما يستره عند النوم من اللحاف ونحوه ، وهو بعيد؛ لأن الجعل وقع على الليل ، لا على ما يستتر به النائم عند نومه { وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً } أي : وقت معاش ، والمعاش العيش ، وكلّ شيء يعاش به فهو معاش ، والمعنى : أن الله جعل لهم النهار مضيئاً؛ ليسعوا فيما يقوم به معاشهم ، وما قسمه الله لهم من الرزق { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } يريد سبع سماوات قوية الخلق محكمة البناء ، ولهذا وصفها بالشدّة ، وغلظ كلّ واحدة منها مسيرة خمسمائة عام ، كما ورد ذلك . { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } المراد به : الشمس ، وجعل هنا بمعنى : خلق ، وهكذا قوله : { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } وما بعده؛ لأن هذه الأفعال قد تعدّت إلى مفعولين ، فلا بدّ من تضمينها معنى فعل يتعدّى إليهما كالخلق أو التصيير ونحو ذلك . وقيل : إن الجعل بمعنى الإنشاء والإبداع في جميع هذه المواضع ، والمراد به الإنشاء التكويني الذي بمعنى التقدير والتسوية . قال الزجاج : الوهاج : الوقاد ، وهو الذي وهج ، يقال وهجت النار تهيج وهجاً ووهجاناً .
قال مقاتل : جعل فيه نوراً وحرّاً ، والوهج يجمع النور والحرارة .
{ وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَاء ثَجَّاجاً } المعصرات هي : السحاب التي تنعصر بالماء ولم تمطر بعد ، كالمرأة المعتصرة التي قد دنا حيضها ، كذا قال سفيان والربيع ، وأبو العالية ، والضحاك . وقال مجاهد ، ومقاتل ، وقتادة ، والكلبي : هي الرياح ، والرياح تسمى معصرات ، يقال أعصرت الريح تعصر إعصاراً : إذا أثارت العجاج . قال الأزهري : هي الرياح ذوات الأعاصير ، وذلك أن الرياح تستدرّ المطر . وقال الفرّاء : المعصرات السحاب التي يتحلب منها المطر . قال النحاس : وهذه الأقوال صحاح ، يقال للريح التي تأتي بالمطر معصرات ، والرياح تلقح السحاب فيكون المطر . ويجوز أن تكون هذه الأقوال قولاً واحداً ، ويكون المعنى : وأنزلنا من ذوات المعصرات ماء ثجاجاً . قال في الصحاح والمعصرات السحاب تعتصر بالمطر ، وعصر القوم أي : مطروا . قال المبرد : يقال سحاب معصر ، أي : ممسك للماء يعتصر منه شيء بعد شيء . وقال أبيّ بن كعب ، والحسن ، وابن جبير ، وزيد بن أسلم ، ومقاتل بن حيان : المعصرات : السماوات . والثجاج : المنصبّ بكثرة على جهة التتابع ، يقال ثجّ الماء أي : سال بكثرة ، وثجه أي : أساله . قال الزجاج : الثجاج : الصباب . قال ابن زيد : ثجاجاً كثيراً . { لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً } أي : لنخرج بذلك الماء حباً يقتات ، كالحنطة والشعير ونحوهما ، والنبات ما تأكله الدوّاب من الحشيش وسائر النبات { وجنات أَلْفَافاً } أي : بساتين ملتفّ بعضها ببعض لتشعب أغصانها ، ولا واحد للألفاف : كالأوزاع والأخياف . وقيل : واحدها لف بكسر اللام وضمها ، ذكره الكسائي . وقال أبو عبيدة : واحدها لفيف كشريف وأشراف ، روي عن الكسائي أنها جمع الجمع يقال جنة لفاء ، ونبت لف ، والجمع لف بضم اللام مثل حمر ، ثم يجمع هذا الجمع على ألفاف ، وقيل : هو جمع ملتفة بحذف الزوائد . قال الفراء : الجنة ما فيه النخيل ، والفردوس ما فيه الكرم .
{ إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ ميقاتا } أي : وقتاً ، ومجمعاً ، وميعاداً للأوّلين والآخرين يصلون فيه إلى ما وعدوا به من الثواب والعقاب ، وسمي يوم الفصل لأن الله يفصل فيه بين خلقه ، وهذا شروع في بيان ما يتساءلون عنه من البعث ، وقيل : معنى { ميقاتاً } : أنه حدّ توقت به الدنيا وتنتهي عنده ، وقيل : حدّ للخلائق ينتهون إليه { يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } أي : يوم ينفخ في الصور ، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل ، والمراد هنا النفخة الثانية التي تكون للبعث { فَتَأْتُونَ } أي : إلى موضع العرض { أَفْوَاجاً } أي : زمراً زمراً ، وجماعات جماعات ، وهي جمع فوج ، وانتصاب { يَوْمَ يُنفَخُ } على أنه بدل من يوم الفصل ، أو بيان له مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله ، وإن كان الفصل متأخراً عن النفخ ، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار أعني ، وانتصاب { أفواجاً } على الحال من فاعل تأتون ، والفاء في { فتأتون } فصيحة تدلّ على محذوف أي : فتأتون إلى موضع العرض عقيب ذلك أفواجاً .
{ وَفُتِحَتِ السماء فَكَانَتْ أبوابا } معطوف على ينفخ ، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع أي : فتحت لنزول الملائكة { فَكَانَتْ أبوابا } كما في قوله : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] وقيل معنى { فتحت } قطعت فصارت قطعاً كالأبواب ، وقيل : أبوابها طرقها ، وقيل : تنحل وتتناثر حتى تصير فيها أبواب ، وقيل : إن لكل عبد بابين في السماء : باب لرزقه ، وباب لعمله ، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب ، وظاهر قوله : { فَكَانَتْ أبوابا } أنها صارت كلها أبواباً ، وليس المراد ذلك ، بل المراد أنها صارت ذات أبواب كثيرة . قرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي { فتحت } مخففاً . وقرأ الباقون بالتشديد { وَسُيّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً } أي : سيرت عن أماكنها في الهواء ، وقلعت عن مقارّها ، فكانت هباء منبثاً يظنّ الناظر أنها سراب ، والمعنى : أن الجبال صارت كلا شيء ، كما أن السراب يظنّ الناظر أنه ماء ، وليس بماء ، وقيل معنى سيرت : أنها نسفت من أصولها ، ومثل هذا قوله : { وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب } [ النمل : 88 ] .
وقد ذكر سبحانه أحوال الجبال بوجوه مختلفة ، ولكن الجمع بينها أن نقول : أوّل أحوالها الاندكاك ، وهو قوله : { وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة } [ الحاقة : 14 ] وثاني أحوالها أن تصير كالعهن المنفوش كما في قوله : { وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش } [ القارعة : 5 ] وثالث أحوالها أن تصير كالهباء ، وهو قوله : { وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً } [ الواقعة : 5 ، 6 ] ورابع أحوالها : أن تنسف وتحملها الرياح ، كما في قوله : { وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب } [ النمل : 88 ] . وخامس أحوالها أن تصير سراباً أي : لا شيء ، كما في هذه الآية .
ثم شرع سبحانه في تفصيل أحكام الفصل فقال : { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } قال الأزهري : المرصاد المكان الذي يرصد الراصد فيه العدوّ . قال المبرد : مرصاداً يرصدون به أي : هو معدّ لهم يرصد به خزنتها الكفار . قال الحسن : إن على الباب رصداً لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليهم ، فمن جاء بجواز جاز ، ومن لم يجيء بجواز حبس . وقال مقاتل : محبساً ، وقيل : طريقاً وممرّاً . قال في الصحاح : الراصد للشيء الراقب له يقال رصده يرصده رصداً ، والرصد الترقب ، والمرصد موضع الرصد . قال الأصمعي : رصدته أرصده ترقبته ، ومعنى الآية : أن جهنم كانت في حكم الله ، وقضائه موضع رصد يرصد فيه خزنة النار الكفار؛ ليعذبوهم فيها ، أو هي في نفسها متطلعة لمن يأتي إليها من الكفار ، كما يتطلع الرصد لمن يمرّ به ويأتي إليهم ، والمرصاد مفعال من أبنية المبالغة كالمعطار والمعمار ، فكأنه يكثر من جهنم انتظار الكفار . ثم ذكر من هي مرصد له فقال : { للطاغين مَئَاباً } أي : مرجعاً يرجعون إليه ، والمآب المرجع ، يقال آب يئوب : إذا رجع ، والطاغي هو من طغى بالكفر ، و { للطاغين } نعت ل { مرصاداً } متعلق بمحذوف ، و { مآباً } بدل من { مرصاداً } ، ويجوز أن يكون للطاغين في محل نصب على الحال من { مآباً } قدّمت عليه لكونه نكرة ، وانتصاب { لابثين فِيهَا } على الحال المقدّرة من الضمير المستكنّ في الطاغين .
قرأ الجمهور { لابثين } بالألف . وقرأ حمزة ، والكسائي ( لبثين ) بدون ألف ، وانتصاب { أَحْقَاباً } على الظرفية أي : ماكثين في النار ما دامت الأحقاب ، وهي لا تنقطع ، وكلما مضى حقب جاء حقب ، وهي جمع حقب بضمتين ، وهو الدهر ، والأحقاب الدهور ، والحقب بضم الحاء ، وسكون القاف ، قيل : هو ثمانون سنة ، وحكى الواحدي عن المفسرين أنه بضع وثمانون سنة ، السنة ثلثمائة وستون يوماً ، اليوم ألف سنة من أيام الدنيا . وقيل : الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق ، فإذا انقضت ، فيكون لهم نوع آخر من العذاب . وقال السديّ : الحقب سبعون سنة . وقال بشير بن كعب : ثلثمائة سنة . وقال ابن عمر أربعون سنة ، وقيل : ثلاثون ألف سنة . قال الحسن : الأحقاب لا يدري أحد كم هي ، ولكن ذكروا أنها مائة حقب ، والحقب الواحد منها سبعون ألف سنة ، اليوم منها كألف سنة . وقيل : الآية محمولة على العصاة الذين يخرجون من النار ، والأولى ما ذكرناه أوّلاً من أن المقصود بالآية التأبيد لا التقييد . وحكى الواحدي : عن الحسن أنه قال : والله ما هي إلاّ أنه إذا مضى حقب دخل آخر ، ثم آخر ، ثم كذلك إلى الأبد .
وجملة : { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً } مستأنفة لبيان ما اشتملت عليه من أنهم لا يذوقون في جهنم ، أو في الأحقاب برداً ينفعهم من حرّها ، ولا شراباً ينفعهم من عطشها إلاّ حميماً ، وهو الماء الحارّ ، وغساقاً وهو صديد أهل النار ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير الطاغين ، أو صفة للأحقاب ، والاستثناء منقطع عند من جعل البرد النوم ، ويجوز أن يكون متصلاً من قوله : { شَرَاباً } وقال مجاهد ، والسديّ وأبو عبيدة ، والكسائي ، والفضل بن خالد ، وأبو معاذ النحوي : البرد المذكور في هذه الآية هو : النوم ، ومنه قول الكندي :
بردت مراشفها عليّ فصدّني ... عنها وعن تقبيلها البرد
أي : النوم . قال الزجاج : أي : لا يذوقون فيها برد ريح ولا ظل ولا نوم فجعل البرد يشمل هذه الأمور . وقال الحسن ، وعطاء ، وابن زيد : برداً أي : روحاً وراحة . قرأ الجمهور ( غساقاً ) بالتخفيف . وقرأ حمزة ، والكسائي بتشديد السين ، وقد تقدّم تفسيره ، وتفسير الحميم ، والخلاف فيهما في سورة ص . { جَزَاء وفاقا } أي : موافقاً لأعمالهم ، وجزاء منتصب على المصدر ، ووفاقاً نعت له . قال الفرّاء ، والأخفش : جازيناهم جزاء وافق أعمالهم ، قال الزجاج : جوزوا جزاء وافق أعمالهم . قال الفرّاء : الوفاق جمع الوفق ، والوفق والموافق واحد . قال مقاتل : وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب أعظم من النار .
وقال الحسن ، وعكرمة : كانت أعمالهم سيئة ، فأتاهم الله بما يسوؤهم { إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً } أي : لا يرجون ثواب حساب . قال الزجاج : كانوا لا يؤمنون بالبعث ، فيرجون حسابهم ، والجملة تعليل لاستحقاقهم الجزاء المذكور { وَكَذَّبُواْ بئاياتنا كِذَّاباً } أي : كذبوا بالآيات القرآنية ، أو كذبوا بما هو أعم منها تكذيباً شديداً ، وفعال من مصادر التفعل . قال الفرّاء : هي لغة فصيحة يمانية ، تقول كذبت كذاباً ، وخرقت القميص خراقاً . قال في الصحاح : وكذبوا بآياتنا كذاباً هو أحد مصادر المشدّد؛ لأن مصدره قد يجيء على تفعيل مثل التكليم ، وعلى فعال مثل كذاب ، وعلى تفعلة مثل توصية ، وعلى مفعل مثل : { ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 19 ] قرأ الجمهور { كذاباً } بالتشديد . وقرأ عليّ بن أبي طالب بالتخفيف . وقال أبو عليّ الفارسي التخفيف والتشديد جميعاً مصدر المكاذبة . وقرأ ابن عمر : ( كذاباً ) بضم الكاف والتشديد ، جمع كاذب . قال أبو حاتم ونصبه على الحال . قال الزمخشري : وقد يكون يعني : على هذه القراءة بمعنى الواحد البليغ في الكذب ، تقول : رجل كذاب كقولك حسان وبخال .
{ وَكُلَّ شَىْء أحصيناه كتابا } قرأ الجمهور : { وكل } بالنصب على الاشتغال أي : وأحصينا كل شيء أحصيناه . وقرأ أبو السماك برفعه على الابتداء ، وما بعده خبره ، وهذه الجملة معترضة بين السبب والمسبب ، وانتصاب { كتاباً } على المصدرية لأحصيناه؛ لأن أحصيناه في معنى كتبناه ، وقيل : هو منتصب على الحال أي : مكتوباً ، قيل : المراد كتبناه في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة ، وقيل : أراد ما كتبه الحفظة على العباد من أعمالهم ، وقيل : المراد به العلم لأن ما كتب كان أبعد من النسيان ، والأوّل أولى لقوله : { وَكُلَّ شىْء أحصيناه فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ } [ ياس : 12 ] { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } هذه الجملة مسببة عن كفرهم ، وتكذيبهم بالآيات . قال الرّازي : هذه الفاء للجزاء ، فنبه على أن الأمر بالذوق معلل بما تقدّم شرحه من قبائح أفعالهم؛ ومن الزيادة في عذابهم أنها كلما نضجت جلودهم بدّلهم جلوداً غيرها ، وكلما خبت النار زادهم الله سعيراً .
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس : { عَنِ النبإ العظيم } قال : القرآن : وهذا مرويّ عن جماعة من التابعين . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } قال : مضيئاً { وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات } قال : السحاب { مَاء ثَجَّاجاً } قال : منصباً . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً { ثَجَّاجاً } قال : منصباً . وأخرج الشافعي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : { وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَاء ثَجَّاجاً } قال : يبعث الله الريح ، فتحمل الماء ، فيمرّ به السحاب ، فتدرّ كما تدرّ اللقحة ، والثجاج ينزل من السماء أمثال العزالي فتصرّفه الرياح فينزل متفرّقاً . وأخرج ابن جرير ، وابن الأنباري في المصاحف عن قتادة قال : في قراءة ابن عباس { وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات } بالرياح .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وجنات أَلْفَافاً } قال : ملتفة . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في الآية قال : يقول : التفّ بعضها ببعض . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله : { وَسُيّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً } قال : سراب الشمس الآل . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً : { لابثين فِيهَا أَحْقَاباً } قال : سنين .
وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وهناد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن سالم بن أبي الجعد قال : سأل عليّ بن أبي طالب هلال الهجري ما تجدون الحقب في كتاب الله؟ قال : نجده ثمانين سنة كل سنة منها اثنا عشر شهراً كل شهر ثلاثون يوماً كل يوم ألف سنة . وأخرج سعيد بن منصور ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود في الآية قال : الحقب الواحد ثمانون سنة . وأخرج البزار عن أبي هريرة رفعه قال : الحقب ثمانون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوماً ، واليوم كألف سنة مما تعدّون . وأخرج عبد بن حميد عنه قال : الحقب ثمانون عاماً اليوم منها كسدس الدنيا . وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه . قال السيوطي : بسند ضعيف عن أبي أمامة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : { لابثين فِيهَا أَحْقَاباً } قال : « الحقب ألف شهر ، والشهر ثلاثون يوماً ، والسنة اثنا عشر شهراً ثلاثمائة وستون يوماً كل يوم منها ألف سنة مما تعدون ، فالحقب ثلاثون ألف سنة » وأخرج البزار ، وابن مردويه ، والديلمي عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث فيها أحقاباً ، والحقب بضع وثمانون سنة ، كل سنة ثلثمائة وستون يوماً ، واليوم ألف سنة مما تعدّون » قال ابن عمر : فلا يتكلنّ أحد أنه يخرج من النار . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر عن عبد الله ابن عمرو قال : الحقب الواحد ثمانون سنة . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله . وأخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الحقب أربعون سنة » وأخرج ابن جرير عن خالد بن معدان في قوله : { لابثين فِيهَا أَحْقَاباً } وقوله : { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } [ هود : 108 ] إنهما في أهل التوحيد من أهل القبلة .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : زمهرير جهنم يكون لهم من العذاب لأن الله يقول : { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً } . وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي قوله : { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً } قال : « قد انتهى حرّه { وَغَسَّاقاً } قد انتهى حرّه ، وإن الرجل إذا أدنى الإناء من فيه سقط فروة وجهه ، حتى يبقى عظاماً تقعقع » وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { جَزَاء وفاقا } قال : وافق أعمالهم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن عبد الله بن عمرو قال : ما أنزلت على أهل النار آية قط أشدّ منها { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } فهم في مزيد من عذاب الله أبداً .
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
قوله : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } هذا شروع في بيان حال المؤمنين ، وما أعدّ الله لهم من الخير بعد بيان حال الكافرين ، وما أعدّ الله لهم من الشرّ ، والمفاز مصدر بمعنى الفوز ، والظفر بالنعمة ، والمطلوب ، والنجاة من النار ، ومنه قيل : للفلاة مفازة تفاؤلاً بالخلاص منها . ثم فسّر سبحانه هذا المفاز فقال : { حَدَائِقَ وأعنابا } وانتصابهما على أنهما بدل من مفازاً بدل اشتمال ، أو بدل كلّ من كل على طريق المبالغة بجعل نفس هذه الأشياء مفازة ، ويجوز أن يكون النصب بإضمار أعني ، وإذا كان مفازاً بمعنى الفوز ، فيقدر مضاف محذوف أي : فوز حدائق ، وهي جمع حديقة : وهي : البستان المحوّط عليه ، والأعناب جمع عنب أي : كروم أعناب { وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً } الكواعب جمع كاعبة : وهي الناهدة ، يقال : كعبت الجارية تكعب تكعيباً وكعوباً ، ونهدت تنهد نهوداً ، والمراد أنهم نساء كواعب تكعبت ثديهن وتفلكت أي : صارت ثديهنّ كالكعب في صدورهنّ . قال الضحاك : الكواعب العذارى . قال قيس بن عاصم :
وكم من حصان قد حوينا كريمة ... وكم كاعب لم تدر ما البؤس معصر
وقال عمر بن أبي ربيعة :
وكان مجنى دون ما كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبات ومعصر
والأتراب : الأقران في السنّ ، وقد تقدّم تحقيقه في سورة البقرة { وَكَأْساً دِهَاقاً } أي : ممتلئة . قال الحسن ، وقتادة ، وابن زيد : أي : مترعة مملوءة ، يقال أدهقت الكأس أي : ملأتها ، ومنه قول الشاعر :
ألا أسقني صرفا سقاك الساقي ... من مائها بكأسك الدهاق
وقال سعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد : { دِهَاقاً } متتابعة يتبع بعضها بعضاً . وقال زيد بن أسلم : { دِهَاقاً } صافية ، والمراد بالكأس الإناء المعروف ، ولا يقال له الكأس إلاّ إذا كان فيه الشراب { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذباً } أي : لا يسمعون في الجنة لغواً ، وهو الباطل من الكلام ، ولا كذاباً أي : ولا يكذب بعضهم بعضاً . قرأ الجمهور { كذاباً } بالتشديد ، وقرأ الكسائي هنا بالتخفيف ، ووافق الجماعة على التشديد في قوله : { وكذبوا بآياتنا كذاباً } المتقدم في هذه السورة للتصريح بفعله هناك ، وقد قدّمنا الخلاف في { كذاباً } هل هو من مصادر التفعيل ، أو من مصادر المفاعلة؟ { جَزَاء مّن رَّبّكَ } أي : جازاهم بما تقدّم ذكره جزاء . قال الزجاج : المعنى جزاهم جزاء ، وكذا { عَطَاء } أي : وأعطاهم عطاء { حِسَاباً } قال أبو عبيدة : كافياً . وقال ابن قتيبة : كثيراً ، يقال أحسبت فلاناً أي : أكثرت له العطاء ، ومنه قول الشاعر :
ونعطي وليد الحي إن كان جائعا ... ونحسبه إن كان ليس بجائع
قال ابن قتيبة : أي : نعطيه حتى يقول حسبي . قال الزجاج : حساباً أي : ما يكفيهم . قال الأخفش : يقال أحسبني كذا أي : كفاني . قال الكلبي : حاسبهم ، فأعطاهم بالحسنة عشراً .
وقال مجاهد : حساباً لما عملوه ، فالحساب بمعنى القدر أي : يقدّر ما وجب له في وعد الربّ سبحانه ، فإنه وعد للحسنة عشراً ، ووعد لقوم سبعمائة ضعف ، وقد وعد لقوم جزاء لا نهاية له ولا مقدار كقوله : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] وقرأ أبو هاشم ( حساباً ) بفتح الحاء ، وتشديد السين أي : كفافاً . قال الأصمعي : تقول العرب : حسبت الرجل بالتشديد : إذا أكرمته ، ومنه قول الشاعر :
إذا أتاه ضيفه يحسبه ... وقرأ ابن عباس ( حساناً ) بالنون { رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا الرحمن } . قرأ ابن مسعود ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، وزيد عن يعقوب ، والمفضل عن عاصم برفع ( ربّ ) و ( الرحمن ) على أن ربّ مبتدأ ، والرحمن خبره ، أو على أن ربّ خبر مبتدأ مقدّر أي : هو ربّ ، والرحمن صفته ، و { لا يملكون } خبر ربّ ، أو على أن ربّ مبتدأ ، والرحمن مبتدأ ثان ، ولا يملكون خبر المبتدأ الثاني ، والجملة خبر المبتدأ الأوّل . وقرأ يعقوب في رواية عنه ، وابن عامر ، وعاصم في رواية عنه بخفضهما على أن ربّ بدل من ربك ، والرحمن صفة له . وقرأ ابن عباس ، وحمزة ، والكسائي بخفض الأوّل على البدل ، ورفع الثاني على أنه خبر متبدأ محذوف أي : هو الرحمن ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وقال هذه القراءة أعدلها ، فخفض ربّ لقربه من ربك ، فيكون نعتاً له ، ورفع الرحمن لبعده منه على الاستئناف ، وخبره { لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً } أي : لا يملكون أن يسألوا إلاّ فيما أذن لهم فيه . وقال الكسائي : لا يملكون منه خطاباً بالشفاعة إلاّ بإذنه ، وقيل : الخطاب الكلام أي : لا يملكون أن يخاطبوا الربّ سبحانه إلاّ بإذنه ، دليله : { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ هود : 105 ] وقيل : أراد الكفار ، وأما المؤمنون فيشفعون . ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال على ما تقدّم بيانه ، ويجوز أن تكون مستأنفة مقرّرة لما تفيده الربوبية من العظمة والكبرياء .
{ يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً } الظرف منتصب بلا يتكلمون ، أو بلا يملكون ، وصفّاً منتصب على الحال أي : مصطفين ، أو على المصدرية أي : يصفون صفاً ، وقوله : { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ } في محل نصب على الحال ، أو مستأنف لتقرير ما قبله .
واختلف في الروح؛ فقيل : إنه ملك من الملائكة أعظم من السماوات السبع ، ومن الأرضين السبع ، ومن الجبال ، وقيل : هو جبريل قاله الشعبي ، والضحاك ، وسعيد بن جبير . وقيل : الروح جند من جنود الله ليسوا ملائكة قاله أبو صالح ، ومجاهد ، وقيل : هم أشراف الملائكة قاله مقاتل بن حيان . وقيل : هم حفظة على الملائكة قاله ابن أبي نجيح . وقيل : هم بنو آدم قاله الحسن ، وقتادة . وقيل : هم أرواح بني آدم تقوم صفاً وتقوم الملائكة صفاً ، وذلك بين النفختين قبل أن تردّ إلى الأجسام قاله عطية العوفي .
وقيل : إنه القرآن قاله زيد بن أسلم .
وقوله : { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } يجوز أن يكون بدلاً من ضمير يتكلمون ، وأن يكون منصوباً على أصل الاستثناء ، والمعنى : لا يشفعون لأحد إلاّ من أذن له الرحمن بالشفاعة أو لا يتكلمون إلاّ في حقّ من أذن له الرحمن وكان ذلك الشخص ممن { قال صَوَاباً } قال الضحاك ، ومجاهد : { صواباً } يعني : حقاً . وقال أبو صالح : لا إله إلاّ الله . وأصل الصواب السداد من القول والفعل . قيل { لا يتكلمون } يعني : الملائكة والروح الذين قاموا صفاً هيبة وإجلالاً إلاّ من أذن له الرحمن منهم في الشفاعة ، وهم قد قالوا صواباً . قال الحسن : إن الروح تقوم يوم القيامة لا يدخل أحد الجنة إلاّ بالروح ، ولا النار إلاّ بالعمل . قال الواحدي : فهم لا يتكلمون يعني : الخلق كلهم إلاّ من أذن له الرحمن ، وهم المؤمنون والملائكة ، وقال في الدنيا صواباً أي : شهد بالتوحيد ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى يوم قيامهم على تلك الصفة ، وهو مبتدأ وخبره { اليوم الحق } أي : الكائن الواقع المتحقق { فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ مَئَاباً } أي : مرجعاً يرجع إليه بالعمل الصالح؛ لأنه إذا عمل خيراً قرّبه إلى الله ، وإذا عمل شرّاً باعده منه ، ومعنى : { إلى رَبّهِ } إلى ثواب ربه ، قال قتادة : مآباً : سبيلاً .
ثم زاد سبحانه في تخويف الكفار فقال : { إِنَّا أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً } يعني : العذاب في الآخرة ، وكلّ ما هو آت ، فهو قريب ، ومثله قوله : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها } [ النازعات : 46 ] كذا قال الكلبي ، وغيره . وقال قتادة : هو عذاب الدنيا؛ لأنه أقرب العذابين . قال مقاتل : هو قتل قريش ببدر ، والأوّل أولى لقوله : { يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } فإن الظرف إما بدل من عذاب ، أو ظرف لمضمر هو صفة له أي : عذاباً كائناً { يَوْمَ يَنظُرُ المرء } أي : يشاهد ما قدّمه من خير أو شرّ ، وما موصولة أو استفهامية . قال الحسن : والمرء هنا هو المؤمن أي : يجد لنفسه عملاً ، فأما الكافر ، فلا يجد لنفسه عملاً ، فيتمنى أن يكون تراباً ، وقيل : المراد به الكافر على العموم ، وقيل : أبيّ بن خلف ، وعقبة بن أبي معيط ، والأوّل أولى لقوله : { وَيَقُولُ الكافر الكافر ياليتنى كُنتُ ترابا } فإن الكافر واقع في مقابلة المرء ، والمراد جنس الكافر يتمنى أن يكون تراباً لما يشاهده مما قد أعدّه الله له من أنواع العذاب ، والمعنى : أنه يتمنى أنه كان تراباً في الدنيا فلم يخلق ، أو تراباً يوم القيامة . وقيل : المراد بالكافر أبو جهل ، وقيل : أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، وقيل : إبليس ، والأوّل أولى اعتباراً بعموم اللفظ ، ولا ينافيه خصوص السبب ، كما تقدّم غير مرّة .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } قال : منتزهاً { وَكَوَاعِبَ } قال : نواهد { أَتْرَاباً } قال : مستويات { وَكَأْساً دِهَاقاً } قال : ممتلئاً .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله : { وَكَأْساً دِهَاقاً } قال : هي الممتلئة المترعة المتتابعة ، وربما سمعت العباس يقول : يا غلام اسقنا ، وادهق لنا . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عنه دهاقاً ، قال دراكاً . وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً قال : إذا كان فيها خمر فهي : كأس ، وإذا لم يكن فيها خمر ، فليس بكأس . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه عنه أيضاً أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الروح جند من جنود الله ليسوا بملائكة لهم رؤوس ، وأيد ، وأرجل » ثم قرأ : { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً } قال « هؤلاء جند ، وهؤلاء جند » وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس { يَوْمَ يَقُومُ الروح } قال : هو ملك من أعظم الملائكة خلقاً . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال : الروح في السماء الرابعة ، وهو أعظم من السموات والجبال ومن الملائكة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة يخلق الله من كل تسبيحة ملكاً من الملائكة يجيء يوم القيامة صفاً واحداً . وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : إن جبريل يوم القيامة لقائم بين يدي الجبار ترعد فرائصه فرقاً من عذاب الله ، يقول : سبحانك لا إله إلاّ أنت ما عبدناك حق عبادتك ، ما بين منكبيه ، كما بين المشرق والمغرب ، أما سمعت قول الله : { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً } . وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه في قوله : { يَوْمَ يَقُومُ الروح } قال : يعني : حين تقوم أرواح الناس مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن تردّ الروح إلى الأجساد . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضاً { وَقَالَ صَوَاباً } قال : لا إله إلاّ الله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث والنشور عن أبي هريرة قال : يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم ، والدواب ، والطير وكلّ شيء ، فيبلغ من عذاب الله أن يؤخذ للجماء من القرناء ، ثم يقول : كوني تراباً ، فذلك حين يقول الكافر { الكافر ياليتنى كُنتُ ترابا } .
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
أقسم سبحانه بهذه الأشياء التي ذكرها ، وهي الملائكة التي تنزع أرواح العباد عن أجسادهم ، كما ينزع النازع في القوس ، فيبلغ بها غاية المدّ ، وكذا المراد : بالناشطات ، والسابحات ، والسابقات ، والمدبرات : يعني : الملائكة ، والعطف مع اتحاد الكلّ؛ لتنزيل التغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي ، كما في قول الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
وهذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم . وقال السديّ : { النازعات } هي النفوس حين تغرق في الصدور . وقال مجاهد : هي الموت ينزع النفس . وقال قتادة : هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق ، من قولهم : نزع إليه إذا ذهب ، أو من قولهم : نزعت بالحبل أي : إنها تغرب وتغيب وتطلع من أفق آخر . وبه قال أبو عبيدة ، والأخفش ، وابن كيسان . وقال عطاء ، وعكرمة : النازعات القسي تنزع بالسهام ، وإغراق النازع في القوس أن يمدّه غاية المدّ حتى ينتهي به إلى النصل . وقال يحيى بن سلام : تنزع بين الكلأ وتنفر ، وقيل : أراد بالنازعات الغزاة الرماة ، وانتصاب { غَرْقاً } على أنه مصدر بحذف الزوائد أي : إغراقاً ، والناصب له ما قبله لملاقاته له في المعنى أي : إغراقاً في النزع حيث تنزعها من أقاصي الأجساد ، أو على الحال أي : ذوات إغراق ، يقال أغرق في الشيء يغرق فيه : إذا أوغل فيه وبلغ غايته ومعنى { الناشطات } : أنها تنشط النفوس أي : تخرجها من الأجساد ، كما ينشط العقال من يد البعير ، إذا حلّ عنه ، ونشط الرجل الدلو من البئر : إذا أخرجها ، والنشاط : الجذب بسرعة ، ومنه الأنشوطة للعقدة التي يسهل حلها . قال أبو زيد : نشطت الحبل أنشطه نشطاً عقدته ، وأنشطته ، أي : حللته ، وأنشطت الحبل ، أي : مددته . قال الفراء : أنشط العقال أي : حلّ ، ونشط أي : ربط الحبل في يديه . قال الأصمعي : بئر أنشاط أي : قريبة القعر يخرج الدلو منها بجذبة واحدة ، وبئر نشوط ، وهي التي لا يخرج منها الدلو حتى ينشط كثيراً . وقال مجاهد : هو الموت ينشط نفس الإنسان . وقال السديّ : هي النفوس حين تنشط من القدمين . وقال عكرمة ، وعطاء : هي الأوهاق التي تنشط السهام ، وقال قتادة ، والحسن ، والأخفش : هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق أي : تذهب . قال في الصحاح : والناشطات نشطاً : يعني : النجوم من برج إلى برج كالثور الناشط من بلد إلى بلد ، والهموم تنشط بصاحبها . وقال أبو عبيدة ، وقتادة : هي الوحوش حين تنشط من بلد إلى بلد . وقيل : الناشطات لأرواح المؤمنين ، والنازعات لأرواح الكافرين؛ لأنها تجذب روح المؤمن برفق ، وتجذب روح الكافر بعنف ، وقوله : { نَشْطاً } مصدر ، وكذا سبحاً وسبقاً { والسابحات } الملائكة تسبح في الأبدان لإخراج الروح كما يسبح الغوّاص في البحر لإخراج شيء منه ، وقال مجاهد ، وأبو صالح : هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين لأمر الله ، كما يقال للفرس الجواد : سابح إذا أسرع في جريه .
وقال مجاهد أيضاً : السابحات الموت يسبح في نفوس بني آدم . وقيل : هي الخيل السابحة في الغزو ، ومنه قول عنترة :
والخيل تعلم حين تس ... بح في حياض الموت سبحا
وقال قتادة ، والحسن : هي النجوم تسبح في أفلاكها ، كما في قوله : { وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ ياس : 40 ] وقال عطاء : هي السفن تسبح في الماء ، وقيل : هي أرواح المؤمنين تسبح شوقاً إلى الله { فالسابقات سَبْقاً } هم : الملائكة على قول الجمهور كما سلف . قال مسروق ، ومجاهد : تسبق الملائكة الشياطين بالوحي إلى الأنبياء . وقال أبو روق : هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير ، والعمل الصالح ، وروي نحوه عن مجاهد . وقال مقاتل : هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة . وقال الربيع : هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة شوقاً إلى الله . وقال مجاهد أيضاً : هو الموت يسبق الإنسان . وقال قتادة ، والحسن ، ومعمر : هي النجوم يسبق بعضها في السير بعضاً . وقال عطاء : هي الخيل التي تسبق إلى الجهاد . وقيل : هي الأرواح التي تسبق الأجساد إلى الجنة أو النار . قال الجرجاني : عطف السابقات بالفاء ، لأنها مسببة من التي قبلها ، أي : واللاتي يسبحن فيسبقن . تقول قام فذهب ، فهذا يوجب أن يكون القيام سبباً للذهاب ، ولو قلت قام وذهب بالواو لم يكن القيام سبباً للذهاب . قال الواحدي : وهذا غير مطرد في قوله : { فالمدبرات أَمْراً } لأنه يبعد أن يجعل السبق سبباً للتدبر . قال الرازي : ويمكن الجواب عما قاله الواحدي : بأنها لما أمرت سبحت فسبقت فدبرت ما أمرت بتدبيره ، فتكون هذه أفعالاً يتصل بعضها ببعض كقوله : قام زيد فذهب ، ولما سبقوا في الطاعات وسارعوا إليها ظهرت أمانتهم ، ففوّض إليهم التدبير . ويجاب عنه بأن السبق لا يكون سبباً للتدبير كسببية السبح للسبق ، والقيام للذهاب ، ومجرد الاتصال لا يوجب السببية والمسببية ، والأولى أن يقال : العطف بالفاء في المدبرات طوبق به ما قبله من عطف السابقات بالفاء ، ولا يحتاج إلى نكتة ، كما احتاج إليها ما قبله؛ لأن النكتة إنما تطلب لمخالفة اللاحق للسابق لا لمطابقته وموافقته .
{ فالمدبرات أَمْراً } قال القشيري : أجمعوا على أن المراد هنا : الملائكة . وقال الماوردي : فيه قولان : أحدهما الملائكة وهو قول الجمهور . والثاني أنها الكواكب السبع ، حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل ، وفي تدبيرها الأمر وجهان : أحدهما تدبر طلوعها ، وأفولها . الثاني : تدبر ما قضاه الله فيها من الأحوال . ومعنى تدبير الملائكة للأمر نزولها بالحلال والحرام ، وتفصيلهما ، والفاعل للتدبير في الحقيقة ، وإن كان هو الله عزّ وجلّ ، لكن لما نزلت الملائكة به وصفت به . وقيل : إن الملائكة لما أمرت بتدبير أهل الأرض في الرياح والأمطار وغير ذلك قيل لها : مدبرات .
قال عبد الرحمن بن ساباط : تدبير أمر الدنيا إلى أربعة من الملائكة : جبريل ، وميكائيل ، وعزرائيل ، وإسرافيل ، فأما جبريل ، فموكل بالرياح والجنود ، وأما ميكائيل ، فموكل بالقطر والنبات ، وأما عزرائيل ، فموكل بقبض الأنفس ، وأما إسرافيل ، فهو ينزل بالأمر عليهم ، وجواب القسم بهذه الأمور التي أقسم الله بها محذوف أي : والنازعات ، وكذا ، وكذا لتبعثنّ . قال الفرّاء : وحذف لمعرفة السامعين به ، ويدل عليه قوله : { أإِذَا كُنَّا عظاما نَّخِرَةً } . وقيل : إن جواب القسم قوله : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يخشى } أي : إن في يوم القيامة ، وذكر موسى وفرعون لعبرة لمن يخشى . قال ابن الأنباري : وهذا قبيح؛ لأن الكلام قد طال بينهما ، وقيل : جواب القسم { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى } لأن المعنى : قد أتاك ، وهذا ضعيف جداً ، وقيل الجواب : { يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة } على تقدير ليوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة . وقال السجستاني : يجوز أن يكون هذا من التقديم والتأخير ، كأنه قال : فإذا هم بالساهرة والنازعات . قال ابن الأنباري : وهذا خطأ ، لأن الفاء لا يفتتح بها الكلام ، والأوّل أولى .
{ يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة } انتصاب هذا الظرف بالجواب المقدّر للقسم ، أو بإضمار اذكر ، والراجفة المضطربة ، يقال رجف يرجف : إذا اضطرب ، والمراد هنا الصيحة العظيمة التي فيها تردّد واضطراب كالرعد ، وهي النفخة الأولى التي يموت بها جميع الخلائق ، والرادفة : النفخة الثانية التي تكون عند البعث ، وسميت رادفة؛ لأنها ردفت النفخة الأولى ، كذا قال جمهور المفسرين . وقال ابن زيد : الراجفة : الأرض ، والرادفة : الساعة . وقال مجاهد : الرادفة : الزلزلة { تتبعها الرادفة } الصيحة ، وقيل : الراجفة اضطراب الأرض ، والرادفة الزلزلة ، وأصل الرجفة الحركة ، وليس المراد : التحرك هنا فقط ، بل الراجفة هنا مأخوذة من قولهم : رجف الرعد يرجف رجفاً ورجيفاً : إذا ظهر صوته ، ومنه سميت الأراجيف لاضطراب الأصوات بها ، وظهور الأصوات فيها ، ومنه قول الشاعر :
أبا لأراجيف يا ابن اللؤم توعدني ... وفي الأراجيف خلت اللؤم والخورا
ومحل { تَتْبَعُهَا الرادفة } : النصب على الحال من الراجفة ، والمعنى : لتبعثنّ يوم النفخة الأولى حال كون النفخة الثانية تابعة لها . { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } قلوب مبتدأ ، ويومئذ منصوب بواجفة ، وواجفة صفة قلوب ، وجملة { أبصارها خاشعة } خبر قلوب ، والراجفة : المضطربة القلقة لما عاينت من أهوال يوم القيامة . قال جمهور المفسرين أي : خائفة وجلة . وقال السديّ : زائلة عن أماكنها ، نظيره : { إِذِ القلوب لَدَى الحناجر } [ غافر : 18 ] وقال المؤرج : قلقة مستوفزة . وقال المبرد : مضطربة ، يقال وجف القلب يجف وجيفاً : إذا خفق ، كما يقال وجب يجب وجيباً ، والإيجاف : السير السريع ، فأصل الوجيف اضطراب القلب ، ومنه قول قيس بن الخطيم :
إن بني جحجبي وقومهم ... أكبادنا من ورائهم تجف
{ أبصارها خاشعة } أي : أبصار أصحابها ، فحذف المضاف ، والخاشعة : الذليلة ، والمراد : أنها تظهر عليهم الذلة والخضوع عند معاينة أهوال يوم القيامة ، كقوله : { خاشعين مِنَ الذل }
[ الشورى : 45 ] قال عطاء : يريد أبصار من مات على غير الإسلام ، ويدلّ على هذا أن السياق في منكري البعث { يَقُولُونَ أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الحافرة } هذا حكاية لما يقوله المنكرون للبعث إذا قيل لهم إنكم تبعثون أي : أنردّ إلى أوّل حالنا ، وابتداء أمرنا ، فنصير أحياء بعد موتنا ، يقال : رجع فلان في حافرته ، أي : رجع من حيث جاء ، والحافرة عند العرب اسم لأوّل الشيء ، وابتداء الأمر ، ومنه قولهم رجع فلان على حافرته : أي على الطريق الذي جاء منه ، ويقال اقتتل القوم عند الحافرة أي : عند أوّل ما التقوا ، وسميت الطريق التي جاء منها حافرة لتأثيره فيها بمشيه فيها فهي حافرة بمعنى محفورة ، ومن هذا قول الشاعر :
أحافرة على صلع وشيب ... معاذ الله من سفه وعار
أي أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل بعد الشيب والصلع؟! وقيل الحافرة : العاجلة ، والمعنى : إنا لمردودون إلى الدنيا . وقيل : الحافرة : الأرض التي تحفر فيها قبورهم ، ومنه قول الشاعر :
آليت لا أنساكم فاعلموا ... حتى يردّ الناس في الحافرة
والمعنى : إنا لمردودون في قبورنا أحياء ، كذا قال الخليل ، والفراء ، وبه قال مجاهد . وقال ابن زيد : الحافرة : النار ، واستدلّ بقوله : { تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسرة } . قرأ الجمهور { في الحافرة } وقرأ أبو حيوة « في الحفرة » . { أإِذَا كُنَّا عظاما نَّخِرَةً } أي : بالية متفتتة . يقال : نخر العظم بالكسر : إذا بلي وهذا تأكيد لإنكار البعث أي : كيف نردّ أحياء ، ونبعث إذا كنا عظاماً نخرة؟ والعامل في إذا مضمر يدلّ عليه مردودون أي : أئذا كنا عظاماً بالية نردّ ونبعث مع كونها أبعد شيء من الحياة . قرأ الجمهور : { نخرة } وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر « ناخرة » ، واختار القراءة الأولى أبو عبيد ، وأبو حاتم ، واختار القراءة الثانية الفراء ، وابن جرير ، وأبو معاذ النحوي . قال أبو عمرو بن العلاء : الناخرة التي لم تنخر بعد ، أي : لم تبل ولا بدّ أن تنخر . وقيل : هما بمعنى ، تقول العرب : نخر الشيء ، فهو ناخر ونخر ، وطمع ، فهو طامع وطمع ونحو ذلك . قال الأخفش : هما جميعاً لغتان أيهما قرأت فحسن . قال الشاعر :
يظلّ بها الشيخ الذي كان بادنا ... يدبّ على عوج له نخرات
يعني : على قوائم عوج . وقيل : الناخرة التي أكلت أطرافها وبقيت أوساطها ، والنخرة التي فسدت كلها . وقال مجاهد نخرة أي : مرفوتة ، كما في قوله : { رفاتاً } [ الإسراء : 49 ] . وقد قرىء : « إذا كنا » و { أئذا كنا } بالاستفهام ، وبعدمه . ثم ذكر سبحانه عنهم قولاً آخر قالوه فقال : { قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسرة } أي رجعة ذات خسران لما يقع على أصحابها من الخسران ، والمعنى : أنهم قالوا إن رددنا بعد الموت لنخسرنّ بما يصيبنا بعد الموت مما يقوله محمد . وقيل : معنى خاسرة كاذبة أي : ليست بكائنة ، كذا قال الحسن وغيره .
وقال الربيع بن أنس : خاسرة على من كذب بها . وقال قتادة ، ومحمد بن كعب أي : لئن رجعنا بعد الموت لنخسرنّ بالنار ، وإنما قالوا هذا لأنهم أوعدوا بالنار ، والكرّة : الرجعة ، والجمع كرّات . وقوله : { فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحدة } تعليل لما يدل عليه ما تقدّم من استبعادهم لبعث العظام النخرة ، وإحياء الأموات ، والمعنى : لا تستبعدوا ذلك فإنما هي زجرة واحدة ، وكان ذلك الإحياء ، والبعث ، والمراد بالزجرة الصيحة وهي النفخة الثانية التي يكون البعث بها . وقيل : إن الضمير في قوله : { إِنَّمَا هِىَ } . راجع إلى الرادفة المتقدّم ذكرها . { فَإِذَا هُم بالساهرة } أي : فإذا الخلائق الذين قد ماتوا ودفنوا أحياء على وجه الأرض ، قال الواحدي : المراد بالساهرة وجه الأرض ، وظاهرها في قول الجميع . قال الفرّاء : سميت بهذا الاسم؛ لأن فيها نوم الحيوان ، وسهرهم . وقيل : لأنه يسهر في فلاتها خوفاً منها ، فسميت بذلك ، ومنه قول أبي كثير الهذلي :
يردون ساهرة كأنّ حميمها ... وغميمها أسداف ليل مظلم
وقول أمية بن أبي الصلت :
وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهوا به لهم مقيم
يريد لحم حيوان أرض ساهرة . قال في الصحاح : الساهرة وجه الأرض ، ومنه قوله : { فَإِذَا هُم بالساهرة } . وقال : الساهرة أرض بيضاء ، وقيل : أرض من فضة لم يعص الله سبحانه فيها . وقيل : الساهرة الأرض السابعة يأتي بها الله سبحانه فيحاسب عليها الخلائق . وقال سفيان الثوري : الساهرة أرض الشام . وقال قتادة : هي جهنم ، أي : فإذا هؤلاء الكفار في جهنم ، وإنما قيل لها ساهرة؛ لأنهم لا ينامون فيها لاستمرار عذابهم ، وجملة : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى } مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيب قومه ، وأنه يصيبهم مثل ما أصاب من كان قبلهم ممن هو أقوى منهم ، ومعنى { هل أتاك } : قد جاءك وبلغك ، هذا على تقدير أن قد سمع من قصص فرعون وموسى ما يعرف به حديثهما ، وعلى تقدير أن هذا أوّل ما نزل عليه في شأنهما ، فيكون المعنى على الاستفهام أي : هل أتاك حديثه أنا أخبرك به .
{ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالواد المقدس طُوًى } الظرف متعلق ب { حديث } لا ب { أتاك } لاختلاف وقتيهما ، وقد مضى من خبر موسى وفرعون في غير موضع ما فيه كفاية ، وقد تقدّم الاختلاف بين القرّاء في { طوى } في سورة طه . والواد المقدّس : المبارك المطهر . قال الفراء : { طوى } واد بين المدينة ومصر . قال : وهو معدول من طاو كما عدل عمر من عامر . قال : والصرف أحبّ إليّ إذ لم أجد في المعدول نظيراً له . وقيل : طوى معناه يا رجل بالعبرانية ، فكأنه قيل يا رجل اذهب ، وقيل المعنى : إن الوادي المقدّس بورك فيه مرتين ، والأوّل أولى . وقد مضى تحقيق القول فيه . { اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى } قيل : هو على تقدير القول ، وقيل : هو تفسير للنداء أي : ناداه نداء هو قوله اذهب .
وقيل : هو على حذف أن المفسرة ، ويؤيده قراءة ابن مسعود أن اذهب؛ لأن في النداء معنى القول ، وجملة : { إِنَّهُ طغى } تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال أي : جاوز الحدّ في العصيان ، والتكبر ، والكفر بالله { فَقُلْ } له { هَل لَّكَ إلى أَن تزكى } أي : قوله بعد وصولك إليه هل لك رغبة إلى التزكي وهو التطهر من الشرك ، وأصله تتزكى فحذفت إحدى التاءين . قرأ الجمهور : { تزكى } بالتخفيف . وقرأ نافع ، وابن كثير بتشديد الزاي على إدغام التاء في الزاي . قال أبو عمرو بن العلاء معنى قراءة التخفيف تكون زكياً مؤمناً ومعنى قراءة التشديد الصدقة ، وفي الكلام مبتدأ مقدّر يتعلق به إليه ، والتقدير : هل لك رغبة ، أو هل لك توجه ، أو هل لك سبيل إلى التزكي ، ومثل هذا قولهم هل لك في الخير؟ يريدون هل لك رغبة في الخير ، ومن هذا قول الشاعر :
فهل لكم فيها إليّ فإنني ... بصير بما أعيا النطاسي جذيما
{ وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ فتخشى } أي : أرشدك إلى عبادته وتوحيده ، فتخشى عقابه ، والفاء لترتيب الخشية على الهداية؛ لأن الخشية لا تكون إلاّ من مهتد راشد { فَأَرَاهُ الآية الكبرى } هذه الفاء هي الفصيحة لإفصاحها عن كلام محذوف ، يعني : فذهب فقال له ما قال مما حكاه الله في غير موضع ، وأجاب عليه بما أجاب إلى أن قال : { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَةٍ فَأْتِ } [ الأعراف : 106 ] فعند ذلك أراه الآية الكبرى .
واختلف في الآية الكبرى ما هي؟ فقيل : العصا ، وقيل : يده . وقيل : فلق البحر . وقيل : هي جميع ما جاء به من الآيات التسع { فَكَذَّبَ وعصى } أي : فلما أراه الآية الكبرى كذّب بموسى ، وبما جاء به ، وعصى الله عزّ وجلّ ، فلم يطعه { ثُمَّ أَدْبَرَ } أي : تولى ، وأعرض عن الإيمان { يسعى } أي : يعمل بالفساد في الأرض ، ويجتهد في معارضة ما جاء به موسى ، وقيل : أدبر هارباً من الحية يسعى خوفاً منها . وقال الرازي : معنى : { أَدْبَرَ يسعى } أقبل يسعى ، كما يقال أقبل يفعل كذا أي : أنشأ يفعل كذا ، فوضع أدبر موضع أقبل؛ لئلا يوصف بالإقبال . { فَحَشَرَ } أي : فجمع جنوده للقتال والمحاربة ، أو جمع السحرة للمعارضة ، أو جمع الناس للحضور؛ ليشاهدوا ما يقع ، أو جمعهم ليمنعوه من الحية { فنادى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } أي : قال لهم بصوت عال ، أو أمر من ينادي بهذا القول . ومعنى : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى } أنه لا ربّ فوقي . قال عطاء : كان صنع لهم أصناماً صغاراً وأمرهم بعبادتها ، وقال : أنا ربّ أصنامكم ، وقيل : أراد بكونه ربهم أنه قائدهم وسائدهم . والأوّل أولى لقوله في آية أخرى : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى }
[ القصص : 38 ] . { فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الأخرة والأولى } النكال نعت مصدر محذوف ، أي : أخذه أخذ نكال ، أو هو مصدر لفعل محذوف ، أي : أخذه الله ، فنكله نكال الآخرة ، والأولى ، أو مصدر مؤكد لمضمون الجملة ، والمراد بنكال الآخرة عذاب النار ، ونكال الأولى عذاب الدنيا بالغرق . وقال مجاهد : عذاب أوّل عمره وآخره . وقال قتادة : الآخرة . قوله : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } والأولى : تكذيبه لموسى . وقيل : الآخرة . قوله : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى } والأولى : قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى } [ القصص : 38 ] وكان بين الكلمتين أربعون سنة ، ويجوز أن يكون انتصاب نكال على أنه مفعول له أي : أخذه الله لأجل نكال ، ويجوز أن ينتصب بنزع الخافض أي : بنكال . ورجح الزجاج أنه مصدر مؤكد ، قال : لأن معنى أخذه الله : نكل الله به ، فأخرج من معناه لا من لفظه . وقال الفرّاء أي : أخذه الله أخذاً نكالاً أي : للنكال ، والنكال اسم لما جعل نكالاً للغير أي : عقوبة له ، يقال : نكل فلان بفلان إذا عاقبه ، وأصل الكلمة من الامتناع ، ومنه النكول عن اليمين ، والنكل القيد . { إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يخشى } أي : فيما ذكر من قصة فرعون ، وما فعل به عبرة عظيمة لمن شأنه أن يخشى الله ويتقيه ، ويخاف عقوبته ، ويحاذر غضبه .
وقد أخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب في قوله : { والنازعات غَرْقاً } قال : هي الملائكة تنزع روح الكفار { والناشطات نَشْطاً } قال : هي الملائكة تنشط أرواح الكفار ما بين الأظفار والجلد حتى تخرجها { والسابحات سَبْحاً } هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين بين السماء والأرض { فالسابقات سَبْقاً } هي الملائكة يسبق بعضها بعضاً بأرواح المؤمنين إلى الله { فالمدبرات أَمْراً } هي الملائكة تدبر أمر العباد من السنة إلى السنة . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : { والنازعات غَرْقاً } قال : هي أنفس الكفار تنزع ، ثم تنشط ، ثم تغرق في النار . وأخرج الحاكم وصححه عنه : { والنازعات غَرْقاً * والناشطات نَشْطاً } قال : الموت . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود : { والنازعات غَرْقاً } قال : الملائكة الذين يلون أنفس الكفار إلى قوله : { والسابحات سَبْحاً } قال : الملائكة . وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تمزّق الناس ، فتمزقك كلاب النار ، قال الله : { والناشطات نَشْطاً } أتدري ما هو؟ » قلت : يا نبيّ الله ما هو؟ قال : « كلاب في النار تنشط اللحم والعظم » وأخرج ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب أن ابن الكوّاء سأله عن : { المدبرات أمْراً } قال : هي الملائكة يدبرون ذكر الرحمن وأمره . وأخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت عن ابن عباس قال : { لَكَ أمْراً } ملائكة يكونون مع ملك الموت يحضرون الموتى عند قبض أرواحهم ، فمنهم من يعرج بالروح ، ومنهم من يؤمِّن على الدّعاء ، ومنهم من يستغفر للميت حتى يُصلى عليه ويدلى في حفرته .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه { يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة } قال : النفخة الأولى { تَتْبَعُهَا الرادفة } قال : النفخة الثانية { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } قال : خائفة { أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الحافرة } قال : الحياة . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وحسنه ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أبيّ بن كعب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام فقال : « أيها الناس اذكروا الله ، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه » وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، والديلمي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ترجف الأرض رجفاً وتزلزل بأهلها وهي : التي يقول الله { يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة } » يقول : « مثل السفينة في البحر تكفأ بأهلها مثل القنديل المعلق بأرجائه » وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس : { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } قال : وجلة متحركة . وأخرج عبد بن حميد عنه : { أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الحافرة } قال : خلقاً جديداً . وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وابن الأنباري في الوقف والابتداء ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً أنه سئل عن قوله : { فَإِذَا هُم بالساهرة } فقال : الساهرة وجه الأرض ، وفي لفظ قال : الأرض كلها ساهرة ، ألا ترى قول الشاعر :
صيد بحر وصيد ساهرة ... وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضاً : { هَل لَّكَ إلى أَن تزكى } قال : هل لك أن تقول : لا إله إلاّ الله؟ وأخرج ابن جرير عنه أيضاً : { فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الأخرة } قال : قوله : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } { والأولى } قال : قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى } [ القصص : 38 ] . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال : كان بين كلمتيه أربعون سنة .
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
قوله : { أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السماء بناها } أي أخلقكم بعد الموت ، وبعثكم أشدّ عندكم ، وفي تقديركم أم خلق السماء؟ والخطاب لكفار مكة ، والمقصود به : التوبيخ لهم والتبكيت؛ لأن من قدر على خلق السماء؟ التي لها هذا الجرم العظيم وفيها من عجائب الصنع وبدائع القدرة ما هو بين للناظرين كيف يعجز عن إعادة الأجسام التي أماتها بعد أن خلقها أوّل مرّة؟ ومثل هذا قوله سبحانه : { لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } [ غافر : 57 ] وقوله : { أَوَ لَيْسَ
1649;لَّذِى خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } [ ياس : 81 ] ثم بيّن سبحانه كيفية خلق السماء فقال : { بناها * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } أي : جعلها كالبناء المرتفع فوق الأرض ، ورفع سمكها أي : أعلاه في الهواء ، فقوله : { رَفَعَ سَمْكَهَا } بيان للبناء ، يقال سمكت الشيء أي : رفعته في الهواء ، وسمك الشيء سموكاً : ارتفع . قال الفرّاء كل شيء حمل شيئًا من البناء أو غيره فهو سمك ، وبناء مسموك ، وسنام سامك أي : عال ، والسموكات : السموات : ومنه قول الفرزدق :
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعزّ وأطول
قال البغوي : رفع سمكها ، أي : سقفها . قال الكسائي ، والفراء ، والزجاج : تمّ الكلام عند قوله : { أَمِ السماء بناها } لأنه من صلة السماء ، والتقدير : أم السماء التي بناها ، فحذف التي ، ومثل هذا الحذف جائز . ومعنى { فَسَوَّاهَا } : فجعلها مستوية الخلق معدّلة الشكل لا تفاوت فيها ، ولا اعوجاج ، ولا فطور ، ولا شقوق . { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا } الغطش : الظلمة أي : جعله مظلماً ، يقال غطش الليل وأغطشه الله ، كما يقال أظلم الليل وأظلمه الله ، ورجل أغطش ، وامرأة غطشى لا يهتديان . قال الراغب : وأصله من الأغطش ، وهو الذي في عينه عمش ، ومنه فلاة غطشى : لا يهتدى فيها ، والتغاطش التعامي . قال الأعشى :
ودهماء بالليل غطشى الفلا ... ة يؤنسني صوت قيادها
وقوله :
وغامرهم مدلهم غطش ... يعني : غمرهم سواد الليل ، وأضاف الليل إلى السماء؛ لأن الليل يكون بغروب الشمس ، والشمس مضافة إلى السماء . { وَأَخْرَجَ ضحاها } أي : أبرز نهارها المضيء بإضاءة الشمس ، وعبر عن النهار بالضحى؛ لأنه أشرف أوقاته وأطيبها ، وأضافه إلى السماء؛ لأنه يظهر بظهور الشمس ، وهي : منسوبة إلى السماء . { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها } أي : بعد خلق السماء ، ومعنى { دحاها } بسطها ، وهذا يدلّ على أن خلق الأرض بعد خلق السماء ، ولا معارضة بين هذه الآية ، وبين ما تقدّم في سورة فصلت من قوله : { ثُمَّ استوى إِلَى السماء } [ فصلت : 11 ] بل الجمع بأنه سبحانه خلق الأرض أوّلاً غير مدحوّة ، ثم خلق السماء ، ثم دحا الأرض ، وقد قدّمنا الكلام على هذا مستوفى هنالك ، وقدّمنا أيضاً بحثاً في هذا في أوّل سورة البقرة عند قوله :
{ هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض جَمِيعاً } [ البقرة : 29 ] وذكر بعض أهل العلم أن بعد بمعنى مع ، كما في قوله : { عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } [ القلم : 13 ] ، وقيل : بعد بمعنى قبل ، كقوله : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور مِن بَعْدِ الذكر } [ الأنبياء : 105 ] أي : من قبل الذكر ، والجمع الذي ذكرناه أولى ، وهو قول ابن عباس وغير واحد ، واختاره ابن جرير . يقال : دحوت الشيء أدحوه : إذا بسطته ، ويقال : لعشّ النعامة أدحى؛ لأنه مبسوط على الأرض . وأنشد المبرد :
دحاها فلما رآها استوت ... على الماء أرسى عليها الجبالا
وقال أمية بن أبي الصلت :
وبثّ الخلق فيها إذا دحاها ... فهم قطانها حتى التنادي
وقال زيد بن عمرو بن نفيل :
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخراً ثقالاً
دحاها فلما استوت شدّها ... بأيد وأرسى عليها الجبالا
قرأ الجمهور بنصب الأرض على الاشتغال . وقرأ الحسن ، وعمرو بن ميمون ، وابن أبي عبلة ، وأبو حيوة ، وأبو السماك ، وعمرو بن عبيد ، ونصر بن عاصم بالرفع على الابتداء . { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا ومرعاها } أي : فجر من الأرض الأنهار والبحار والعيون . وأخرج منها مرعاها . أي : النبات الذي يرعى ، ومرعاها مصدر ميميّ أي : رعيها ، وهو في الأصل موضع الرعي ، والجملة إما بيان وتفسير لدحاها؛ لأن السكنى لا تتأتى بمجرِّد البسط بل لا بد من تسوية أمر المعاش من المأكل والمشرب . وإما في محل نصب على الحال .
{ والجبال أرساها } أي : أثبتها في الأرض ، وجعلها كالأوتاد للأرض لتثبت وتستقرّ ، وأن لا تميد بأهلها . قرأ الجمهور بنصب الجبال على الاشتغال . وقرأ الحسن ، وعمرو بن ميمون ، وأبو حيوة ، وأبو السماك ، وعمرو بن عبيد ، ونصر بن عاصم بالرفع على الابتداء ، قيل : ولعل وجه تقديم ذكر إخراج الماء ، والمرعى على إرساء الجبال مع تقدم الإرساء عليه للاهتمام بأمر المأكل والمشرب { متاعا لَّكُمْ ولأعامكم } أي منفعة لكم ولأنعامكم من البقر ، والإبل ، والغنم ، وانتصاب متاعاً على المصدرية أي : متعكم بذلك متاعاً أو هو مصدر من غير لفظه؛ لأن قوله : { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا ومرعاها } بمعنى متع بذلك ، أو على أنه مفعول له أي : فعل ذلك لأجل التمتيع ، وإنما قال : { لَّكُمْ ولانعامكم } لأن فائدة ما ذكر من الدحوّ ، وإخراج الماء ، والمرعى كائنة لهم ولأنعامهم ، والمرعى يعمّ ما يأكله الناس والدواب .
{ فَإِذَا جَاءتِ الطامة الكبرى } أي : الداهية العظمى التي تطمّ على سائر الطامات . قال الحسن ، وغيره : وهي النفخة الثانية . وقال الضحاك ، وغيره : هي القيامة سميت بذلك ، لأنها تطمّ على كل شيء لعظم هولها . قال المبرد : الطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع ، وإنما أخذت فيما أحسب من قولهم : طمّ الفرس طميماً : إذا استفرغ جهده في الجري ، وطمّ الماء : إذا ملأ النهر كله . وقال غيره : هو من طمّ السيل الركية أي دفنها ، والطمّ الدفن .
قال مجاهد ، وغيره : الطامة الكبرى هي التي تسلم أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار ، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها ، وجواب إذا قيل : هو قوله : { فَأَمَّا مَن طغى } . وقيل : محذوف أي : فإن الأمر كذلك ، أو عاينوا أو علموا ، أو أدخل أهل النار النار ، وأهل الجنة الجنة . وقال أبو البقاء : العامل فيها جوابها وهو معنى : { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان } [ الفجر : 23 ] فإنه منصوب بفعل مضمر ، أي : أعني يوم يتذكر ، أو يوم يتذكر يكون كيت ، وكيت . وقيل : إن الظرف بدل من إذا ، وقيل : هو بدل من الطامة الكبرى؛ ومعنى تذكر الإنسان ما سعى : أنه يتذكر ما عمله من خيرّ ، أو شرّ؛ لأنه يشاهده مدوّناً في صحائف عمله ، و«ما» مصدرية ، أو موصولة { وَبُرّزَتِ الجحيم لِمَن يرى } معطوف على جاءت ، ومعنى برّزت : أظهرت إظهاراً لا يخفى على أحد . قال مقاتل : يكشف عنها الغطاء ، فينظر إليها الخلق ، وقيل : { لِمَن يرى } من الكفار ، لا من المؤمنين؛ والظاهر أن تبرز لكلّ راء ، فأما المؤمن فيعرف برؤيتها قدر نعمة الله عليه بالسلامة منها ، وأما الكافر فيزداد غماً إلى غمه ، وحسرة إلى حسرته . قرأ الجمهور { لمن يرى } بالتحتية . وقرأت عائشة ، ومالك ابن دينار ، وعكرمة ، وزيد بن عليّ بالفوقية ، أي : لمن تراه الجحيم ، أو لمن تراه أنت يا محمد . وقرأ ابن مسعود " لمن رأى " على صيغة الفعل الماضي .
{ فَأَمَّا مَن طغى } أي : جاوز الحد في الكفر والمعاصي . { وَءاثَرَ الحياة الدنيا } أي : قدّمها عن الآخرة ، ولم يستعدّ لها ، ولا عمل عملها . { فَإِنَّ الجحيم هِىَ المأوى } أي : مأواه ، والألف واللام عوض عن المضاف إليه ، والمعنى : أنها منزله الذي ينزله ، ومأواه الذي يأوي إليه لا غيرها . ثم ذكر القسم الثاني من القسمين فقال : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ } أي : حذر مقامه بين يدي ربه يوم القيامة . قال الربيع : مقامه يوم الحساب . قال قتادة : يقول إن لله عزّ وجلّ مقاماً قد خافه المؤمنون . وقال مجاهد : هو خوفه في الدنيا من الله عزّ وجلّ عند مواقعة الذنب فيقلع عنه ، نظيره قوله : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] والأوّل أولى . { وَنَهَى النفس عَنِ الهوى } أي : زجرها عن الميل إلى المعاصي والمحارم التي تشتهيها . قال مقاتل : هو الرجل يهمّ بالمعصية ، فيذكر مقامه للحساب ، فيتركها { فَإِنَّ الجنة هِىَ المأوى } أي : المنزل الذي ينزله ، والمكان الذي يأوي إليه لا غيرها .
{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها } أي : متى وقوعها وقيامها . قال الفراء : أي : منتهى قيامها كرسوّ السفينة . قال أبو عبيدة : ومرسى السفينة حين تنتهي ، والمعنى : يسألونك عن الساعة متى يقيمها الله ، وقد مضى بيان هذا في سورة الأعراف { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا } أي : في أيّ شيء أنت يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها ، والمعنى : لست في شيء من علمها ، وذكراها إنما يعلمها الله سبحانه ، وهو إنكار وردّ لسؤال المشركين عنها أي : فيم أنت من ذلك حتى يسألونك عنه ولست تعلمه؟ { إلى رَبّكَ منتهاها } أي : منتهى علمها ، فلا يوجد علمها عند غيره ، وهذا كقوله :
{ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي } [ الأعراف : 187 ] ، وقوله : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } [ لقمان : 34 ] فكيف يسألونك عنها ، ويطلبون منك بيان وقت قيامها؟ { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها } أي : مخوّف لمن يخشى قيام الساعة ، وذلك وظيفتك ليس عليك غيره من الإخبار بوقت قيام الساعة ، ونحوه مما استأثر الله بعلمه ، وخصّ الإنذار بمن يخشى؛ لأنهم المنتفعون بالإنذار ، وإن كان منذراً لكلّ مكلف من مسلم وكافر . قرأ الجمهور بإضافة : { منذر } إلى ما بعده . وقرأ عمر بن عبد العزيز ، وأبو جعفر ، وطلحة ، وابن محيصن ، وشيبة ، والأعرج ، وحميد بالتنوين ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو . قال الفراء : والتنوين ، وتركه في منذر صواب كقوله : { بالغ أَمْرِهِ } [ الطلاق : 3 ] و { مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين } [ الأنفال : 18 ] . قال أبو عليّ الفارسي : يجوز أن تكون الإضافة للماضي ، نحو ضارب زيد أمس . { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها } أي : إلاّ قدر آخر نهار أو أوّله ، أو قدر الضحى الذي يلي تلك العشية ، والمراد تقليل مدّة الدنيا ، كما قال : { لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّن نَّهَارٍ } [ الأحقاف : 35 ] . وقيل : لم يلبثوا في قبورهم إلاّ عشية أو ضحاها . قال الفراء ، والزجاج : المراد بإضافة الضحى إلى العشية إضافته إلى يوم العشية على عادة العرب ، يقولون : آتيك الغداة أو عشيتها ، وآتيك العشية أو غداتها ، فتكون العشية في معنى آخر النهار ، والغداة في معنى أوّل النهار . ومنه قول الشاعر :
نحن صبحنا عامراً في دارها ... جرداً تعادى طرفي نهارها
عشية الهلال أو سرارها ... والجملة تقرير لما يدل عليه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به .
وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { رَفَعَ سَمْكَهَا } قال : بناها { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا } قال : أظلم ليلها . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه . { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا } قال : وأظلم ليلها { وَأَخْرَجَ ضحاها } قال : أخرج نهارها . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها } قال : مع ذلك . وأخرج عبد ابن حميد ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً أن رجلاً قال له : آيتان في كتاب الله تخالف إحداهما الأخرى ، فقال : إنما أتيت من قبل رأيك ، قال : اقرأ : { قُلْ أَءنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ } حتى بلغ : { ثُمَّ استوى إِلَى السماء } [ فصلت : 9 - 11 ] وقوله : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها } قال : خلق الله الأرض قبل أن يخلق السماء ، ثم خلق السماء ، ثم دحى الأرض بعد ما خلق السماء ، وإنما قوله : { دحاها } : بسطها .
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : { دحاها } أن أخرج منها الماء والمرعى ، وشقق فيها الأنهار ، وجعل فيها الجبال ، والرمال ، والسبل ، والآكام وما بينهما في يومين . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : الطامة من أسماء يوم القيامة .
وأخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب : «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة فنزلت : { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا } » . وأخرج البزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن عائشة قالت : «ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله : { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إلى رَبّكَ منتهاها } فانتهى ، فلم يسأل عنها» . وأخرج عبد بن حميد ، والنسائي ، وابن جرير ، والطبراني ، وابن مردويه عن طارق بن شهاب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت : { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إلى رَبّكَ منتهاها } فكفّ عنها . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس . قال السيوطي بسند ضعيف : إن مشركي مكة سألوا النبيّ فقالوا : متى الساعة استهزاء منهم؟ فأنزل الله : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها } يعني : مجيئها { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا } يعني : ما أنت من علمها يا محمد { إلى رَبّكَ منتهاها } يعني : منتهى علمها . وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : كانت الأعراب إذا قدموا على النبيّ سألوه عن الساعة ، فينظر إلى أحدث إنسان منهم ، فيقول : " إن يعش هذا قامت عليكم ساعتكم " .
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
قوله : { عَبَسَ وتولى } أي : كلح بوجهه وأعرض . وقرىء « عبس » بالتشديد . { أَن جَاءهُ الأعمى } مفعول لأجله ، أي لأن جاءه الأعمى ، والعامل فيه إما { عبس } ، أو { تولى } على الاختلاف بين البصريين والكوفيين في التنازع هل المختار إعمال الأوّل أو الثاني؟
وقد أجمع المفسرون على أن سبب نزول الآية : أن قوماً من أشراف قريش كانوا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقد طمع في إسلامهم ، فأقبل عبد الله بن أمّ مكتوم ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع عليه ابن أمّ مكتوم كلامه ، فأعرض عنه فنزلت ، وسيأتي في آخر البحث بيان هذا إن شاء الله .
{ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى } التفت سبحانه إلى خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ لأن المشافهة أدخل في العتاب : أي أيّ شيء يجعلك دارياً بحاله حتى تعرض عنه ، وجملة : { لَعَلَّهُ يزكى } مستأنفة لبيان أن له شأناً ينافي الإعراض عنه أي : لعله يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح بسبب ما يتعلمه منك ، فالضمير في { لعله } راجع إلى { الأعمى } ، وقيل : هو راجع إلى الكافر أي : وما يدريك أن ما طمعت فيه ممن اشتغلت بالكلام معه عن الأعمى أنه يزكى ، أو يذكر ، والأوّل أولى . وكلمة الترجي باعتبار من وجه إليه الخطاب للتنبيه على أن الإعراض عنه مع كونه مرجوّ التزكي مما لا يجوز . قرأ الجمهور { أن جاءه الأعمى } على الخبر بدون استفهام ، ووجهه ما تقدّم . وقرأ الحسن : « آن جاءه » بالمدّ على الاستفهام ، فهو على هذه القراءة متعلق بفعل محذوف دلّ عليه { عبس } و { تولى } ، والتقدير أن جاءه الأعمى تولى وأعرض ، ومثل هذه الآية قوله في سورة الأنعام : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى } [ الأنعام : 52 ] وكذلك قوله في سورة الكهف : { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا } [ الكهف : 28 ] وقوله : { أَوْ يَذَّكَّرُ } عطف على { يزكى } داخل معه في حكم الترجي أي : أو يتذكر ، فيتعظ بما تعلمه من المواعظ { فَتَنفَعَهُ الذكرى } أي : الموعظة . قرأ الجمهور : { فتنفعه } بالرفع ، وقرأ عاصم وابن أبي إسحاق ، وعيسى ، والسلمي ، وزرّ بن حبيش بالنصب على جواب الترجي { أَمَّا مَنِ استغنى } أي : كان ذا ثروة وغنى ، أو استغنى عن الإيمان ، وعما عندك من العلم { فَأَنتَ لَهُ تصدى } أي : تصغي لكلامه ، والتصدّي الإصغاء . قرأ الجمهور { تصدّى } بالتخفيف على طرح إحدى التاءين تخفيفاً ، وقرأ نافع ، وابن محيصن بالتشديد على الإدغام ، وفي هذا مزيد تنفير له صلى الله عليه وسلم عن الإقبال عليهم ، والإصغاء إلى كلامهم . { وَمَا عَلَيْكَ أَن لا يزكى } أي : أيّ شيء عليك في أن لا يسلم ، ولا يهتدي ، فإنه ليس عليك إلاّ البلاغ ، فلا تهتم بأمر من كان هكذا من الكفار ، ويجوز أن تكون « ما » نافية ، أي : ليس عليك بأس في أن لا يتزكى من تصدّيت له ، وأقبلت عليه ، وتكون الجملة في محل نصب على الحال من ضمير تصدّى .
ثم زاد سبحانه في معاتبة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { وَأَمَّا مَن جَاءكَ يسعى } أي : وصل إليك حال كونه مسرعاً في المجيء إليك طالباً منك أن ترشده إلى الخير ، وتعظه بمواعظ الله ، وجملة : { وَهُوَ يخشى } حال من فاعل يسعى على التداخل ، أو من فاعل جاءك على الترادف . { فَأَنتَ عَنْهُ تلهى } أي : تتشاغل عنه ، وتعرض عن الإقبال عليه ، والتلهي : التشاغل ، والتغافل ، يقال : لهيت عن الأمر ألهي أي : تشاغلت عنه ، وكذا تلهيت ، وقوله : { كَلاَّ } ردع له صلى الله عليه وسلم عما عوتب عليه ، أي : لا تفعل بعد هذا الواقع منك مثله من الإعراض عن الفقير ، والتصدّي للغني ، والتشاغل به ، مع كونه ليس ممن يتزكى عن إرشاد من جاءك من أهل التزكي ، والقبول للموعظة ، وهذا الواقع من النبيّ صلى الله عليه وسلم هو من باب ترك الأولى ، فأرشده الله سبحانه إلى ما هو الأولى به { إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } أي أن هذه الآيات ، أو السورة موعظة حقها أن تتعظ بها ، وتقبلها وتعمل بموجبها ، ويعمل بها كل أمتك . { فَمَن شَاء ذَكَرَهُ } أي : فمن رغب فيها اتعظ بها ، وحفظها ، وعمل بموجبها ، ومن رغب عنها ، كما فعله من استغنى ، فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره . وقيل : الضميران في « إنها » ، وفي { ذكره } للقرآن ، وتأنيث الأوّل لتأنيث خبره . وقيل : الأوّل للسورة ، أو للآيات السابقة . والثاني للتذكرة؛ لأنها في معنى الذكر . وقيل : إن معنى : { فَمَن شَاء ذَكَرَهُ } : فمن شاء الله ألهمه ، وفهمه القرآن حتى يذكره ، ويتعظ به ، والأوّل أولى .
ثم أخبر سبحانه عن عظم هذه التذكرة ، وجلالتها فقال : { فَى صُحُفٍ } أي : إنها تذكرة كائنة في صحف ، فالجار ، والمجرور صفة ل { تذكرة } ، وما بينهما اعتراض ، والصحف جمع صحيفة ، ومعنى { مُّكَرَّمَةٍ } : أنها مكرمة عند الله لما فيها من العلم والحكمة ، أو لأنها نازلة من اللوح المحفوظ ، وقيل : المراد بالصحف : كتب الأنبياء ، كما في قوله : { إِنَّ هذا لَفِى الصحف الأولى صُحُفِ إبراهيم وموسى } [ الأعلى : 18 ، 19 ] ومعنى { مَّرْفُوعَةٍ } أنها رفيعة القدر عند الله . وقيل : مرفوعة في السماء السابعة . قال الواحدي : قال المفسرون : مكرمة يعني : اللوح المحفوظ { مَّرْفُوعَةٍ } يعني : في السماء السابعة . قال ابن جرير : مرفوعة القدر ، والذكر ، وقيل : مرفوعة عن الشبه ، والتناقض { مُّطَهَّرَةٍ } أي : منزهة لا يمسها إلاَّ المطهرون . قال الحسن : مطهرة من كل دنس . قال السديّ : مصانة عن الكفار لا ينالونها { بِأَيْدِى سَفَرَةٍ } السفرة جمع سافر ككتبة وكاتب ، والمعنى : أنها بأيدي كتبة من الملائكة ينسخون الكتب من اللوح المحفوظ .