كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني
قال الواحدي حاكياً عن المفسرين : إن هذا تهديد منه سبحانه لعباده ، ومن هذا قول القائل لمن يريد تهديده : إذن أتفرغ لك ، أي : أقصد قصدك ، وفرغ يجيء بمعنى قصد ، وأنشد ابن الأنباري قول الشاعر :
الآن وَقَدْ فَرَغْتُ إلى نُميَرٍ ... فهذا حينَ كُنْتُ له عَذَاباً
يريد : وقد قصدت ، وأنشد النحاس قول الشاعر :
فرغت إلى العبد المقيد في الحجل ... أي : قصدت ، وقيل : إن الله سبحانه وعد على التقوى ، وأوعد على المعصية ، ثم قال : سنفرغ لكم مما وعدناكم ، ونوصل كلاً إلى ما وعدناه ، وبه قال الحسن ، ومقاتل ، وابن زيد ، ويكون الكلام على طريق التمثيل . قرأ الجمهور : { سنفرغ } بالنون وضمّ الراء ، وقرأ حمزة والكسائي بالتحتية مفتوحة مع ضم الرّاء ، أي : سيفرغ الله ، وقرأ الأعرج بالنون مع فتح الراء . قال الكسائي : هي لغة تميم ، وقرأ عيسى الثقفي بكسر النون وفتح الراء ، وقرأ الأعمش وإبراهيم بضمّ الياء وفتح الراء على البناء للمفعول ، وسمي الجنّ والإنس ثقلين لعظم شأنهما بالنسبة إلى غيرهما من حيوانات الأرض ، وقيل : سموا بذلك لأنهم ثقل على الأرض أحياءً ، وأمواتاً كما في قوله : { وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا } [ الزلزلة : 2 ] وقال جعفر الصادق : سميا ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب ، وجمع في قوله : { لَكُمْ } ثم قال : { أَيُّهَ الثقلان } ؛ لأنهما فريقان ، وكل فريق جمع . قرأ الجمهور : { أيه الثقلان } بفتح الهاء ، وقرأ أهل الشام بضمها . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن من جملتها ما في هذا التهديد من النعم ، فمن ذلك أنه ينزجر به المسيء عن إساءته ، ويزداد به المحسن إحساناً ، فيكون ذلك سبباً للفوز بنعيم الدار الآخرة الذي هو النعيم في الحقيقة { يا معشر الجن والإنس } قدّم الجنّ هنا لكون خلق أبيهم متقدّماً على خلق آدم ، ولوجود جنسهم قبل جنس الإنس { إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السموات والأرض } أي : إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض ، ونواحيهما هرباً من قضاء الله وقدره { فانفذوا } منها ، وخلصوا أنفسكم ، يقال : نفذ الشيء من الشيء : إذا خلص منه ، كما يخلص السهم { لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بسلطان } أي : لا تقدرون على النفوذ إلاّ بقوّة وقهر ، ولا قوّة لكم على ذلك ولا قدرة ، والسلطان : القوّة التي يتسلط بها صاحبها على الأمر ، والأمر بالنفوذ : أمر تعجيز . قال الضحاك : بينما الناس في أسواقهم إذ انفتحت السماء ، ونزلت الملائكة فهرب الجنّ ، والإنس ، فتحدق بهم الملائكة ، فذلك قوله : { لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بسلطان } . قال ابن المبارك : إن ذلك يكون في الآخرة . وقال الضحاك أيضاً : معنى الآية : إن استطعتم أن تهربوا من الموت ، فاهربوا . وقيل : إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض ، فاعلموه ولن تعلموه إلاّ بسلطان ، أي : ببينة من الله .
وقال قتادة : معناها لا تنفذوا إلاّ بملك ، وليس لكم ملك . وقيل : « الباء » بمعنى « إلى » أي : لا تنفذون إلاّ إلى سلطان { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } ومن جملتها هذه النعمة الحاصلة بالتحذير والتهديد ، فإنها تزيد المحسن إحساناً ، وتكفّ المسيء عن إساءته ، مع أن من حذّركم وأنذركم قادر على الإيقاع بكم من دون مهلة . { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مّن نَّارٍ } قرأ الجمهور : { يرسل } بالتحتية مبنياً للمفعول ، وقرأ زيد بن عليّ بالنون ونصب ( شواظ ) والشواظ : اللهب الذي لا دخان معه . وقال مجاهد : الشواظ اللهب الأخضر المتقطع من النار . وقال الضحاك : هو الدخان الذي يخرج من اللهب ليس بدخان الحطب . وقال الأخفش ، وأبو عمرو : هو النار ، والدخان جميعاً . قرأ الجمهور : { شواظ } بضم الشين ، وقرأ ابن كثير بكسرها وهما لغتان ، وقرأ الجمهور : { ونحاس } بالرفع عطفاً على شواظ ، وقرأ ابن كثير ، وابن محيصن ، ومجاهد ، وأبو عمرو بخفضه عطفاً على نار ، وقرأ الجمهور { نحاس } بضمّ النون ، وقرأ مجاهد ، وعكرمة ، وحميد ، وأبو العالية بكسرها . وقرأ مسلم بن جندب ، والحسن : ( ونحس ) ، والنحاس : الصفر المذاب يصبّ على رؤوسهم ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما . وقال سعيد بن جبير : هو الدخان الذي لا لهب له ، وبه قال الخليل . وقال الضحاك : هو درديّ الزيت المغلي . وقال الكسائي هو النار التي لها ريح شديدة ، وقيل : هو المهل { فَلاَ تَنتَصِرَانِ } أي : لا تقدران على الامتناع من عذاب الله { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن من جملتها هذا الوعيد الذي يكون به الانزجار عن الشرّ ، والرغوب في الخير . { فَإِذَا انشقت السماء } أي : انصدعت بنزول الملائكة يوم القيامة { فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان } أي : كوردة حمراء . قال : سعيد بن جبير ، وقتادة : المعنى فكانت حمراء ، وقيل : فكانت كلون الفرس الورد ، وهو الأبيض الذي يضرب إلى الحمرة أو الصفرة . قال الفراء ، وأبو عبيدة : تصير السماء كالأديم لشدّة حرّ النار . وقال الفراء أيضاً : شبه تلوّن السماء بتلوّن الورد من الخيل ، وشبّه الورد في ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه ، والدهان جمع دهن ، وقيل : المعنى : تصير السماء في حمرة الورد ، وجريان الدهن ، أي : تذوب مع الانشقاق حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم ، وتصير مثل الدهن لذوبانها ، وقيل : الدهان الجلد الأحمر . وقال الحسن { كالدهان } ، أي : كصبيب الدهن ، فإنك إذا صببته ترى فيه ألواناً . وقال زيد بن أسلم : إنها تصير كعصير الزيت . قال الزجاج : إنها اليوم خضراء ، وسيكون لها لون أحمر . قال الماوردي : وزعم المتقدّمون أن أصل لون السماء الحمرة ، وأنها لكثرة الحوائل وبعد المسافة ترى بهذا اللون الأزرق . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } ، فإن من جملتها ما في هذا التهديد ، والتخويف من حسن العاقبة بالإقبال على الخير والإعراض عن الشرّ . { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ } أي : يوم تنشقّ السماء لا يسأل أحد من الإنس ولا من الجنّ عن ذنبه؛ لأنهم يعرفون بسيماهم عند خروجهم من قبورهم ، والجمع بين هذه الآية ، وبين مثل قوله :
{ فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] أن ما هنا يكون في موقف ، والسؤال في موقف آخر من مواقف القيامة ، وقيل : إنهم لا يسألون هنا سؤال استفهام عن ذنوبهم؛ لأن الله سبحانه قد أحصى الأعمال ، وحفظها على العباد ، ولكن يسألون سؤال توبيخ وتقريع ، ومثل هذه الآية قوله : { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون } [ القصص : 78 ] قال أبو العالية : المعنى : لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم . وقيل : إن عدم السؤال هو عند البعث ، والسؤال هو في موقف الحساب { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن من جملتها هذا الوعيد الشديد؛ لكثرة ما يترتب عليه من الفوائد . { يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم } هذه الجملة جارية مجرى التعليل لعدم السؤال . السيما : العلامة . قال الحسن : سيماهم سواد الوجوه وزرقة الأعين ، كما في قوله : { وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً } [ طه : 102 ] وقال : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 106 ] وقيل : سيماهم ما يعلوهم من الحزن والكآبة { فَيُؤْخَذُ بالنواصى والأقدام } الجار والمجرور في محل رفع على أنه النائب ، والنواصي : شعور مقدم الرؤوس ، والمعنى : أنها تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي ، وتلقيهم الملائكة في النار . قال الضحاك : يجمع بين ناصيته ، وقدمه في سلسلة من وراء ظهره ، وقيل : تسحبهم الملائكة إلى النار ، تارة تأخذ بنواصيهم وتجرّهم على وجوههم ، وتارة تأخذ بأقدامهم ، وتجرّهم على رؤوسهم { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن من جملتها هذا الترهيب الشديد ، والوعيد البالغ الذي ترجف له القلوب ، وتضطرب لهوله الأحشاء . { هذه جَهَنَّمُ التى يُكَذّبُ بِهَا المجرمون } أي : يقال لهم عند ذلك : هذه جهنم التي تشاهدونها ، وتنظرون إليها مع أنكم كنتم تكذبون بها وتقولون إنها لا تكون ، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا يقال لهم عند الأخذ بالنواصي والأقدام؟ فقيل : يقال لهم : هذه جهنم تقريعاً لهم وتوبيخاً . { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا } أي : بين جهنم فتحرقهم { وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ } فتصبّ على وجوههم ، والحميم : الماء الحارّ ، والآن : الذي قد انتهى حرّه وبلغ غايته ، كذا قال الفراء ، قال الزجاج : أَنَى يأنَى أنَّى ، فهو آنٍ : إذا انتهى في النضج والحرارة ، ومنه قول النابغة الذبياني :
وتخضب لحية غدرت وخانت ... بأحمر من نجيع الجوف آن
وقيل : هو واد من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار ، فيغمسون فيه . قال قتادة : يطوفون مرّة في الحميم ، ومرّة بين الجحيم { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن من جملتها النعمة الحاصلة بهذا التخويف ، وما يحصل به من الترغيب في الخير والترهيب عن الشرّ .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { ذُو الجلال والإكرام } قال : ذو الكبرياء والعظمة .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه { يَسْأَلُهُ مَن فِى السموات } قال : مسألة عباده إياه الرزق والموت والحياة كل يوم هو في ذلك . وأخرج الحسن بن سفيان في مسنده ، والبزار ، وابن جرير ، والطبراني ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن منده ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، وابن عساكر عن عبد الله بن منيب قال : تلا علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } فقلنا : يا رسول الله ، وما ذلك الشأن؟ قال : " أن يغفر ذنباً ، ويفرّج كرباً ، ويرفع قوماً ، ويضع آخرين " وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن ماجه ، وابن أبي عاصم ، والبزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والطبراني ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الآية قال : " من شأنه أن يغفر ذنباً ، ويفرج كرباً ، ويرفع قوماً ، ويضع آخرين " ، زاد البزار : «ويجيب داعياً» وقد رواه البخاري تعليقاً ، وجعله من كلام أبي الدرداء . وأخرج البزار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال : " يغفر ذنبا ويفرج كربا " . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان } قال : هذا وعيد من الله لعباده ، وليس بالله شغل ، وفي قوله : { لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بسلطان } يقول : لا تخرجون من سلطاني . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مّن نَّارٍ } قال : لهب النار { وَنُحَاسٌ } قال : دخان النار . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً ، ونحاس : قال الصفر يعذبون به . وأخرج ابن أبي حاتم عنه { فَكَانَتْ وَرْدَةً } يقول : حمراء { كالدهان } قال : هو الأديم الأحمر . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً { فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان } قال : مثل لون الفرس الورد . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ } قال : لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم ، ولكن يقول لهم : لم عملتم كذا وكذا؟ وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث والنشور عنه أيضاً في قوله : { فَيُؤْخَذُ بالنواصى والأقدام } قال : تأخذ الزبانية بناصيته وقدميه ، ويجمع فيكسر ، كما يكسر الحطب في التنور . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ } قال : هو الذي انتهى حرّه .
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
لما فرغ سبحانه من تعداد النعم الدنيوية على الثقلين ذكر نعمه الأخروية التي أنعم بها عليهم ، فقال : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } مقامه سبحانه هو الموقف الذي يقف فيه العباد للحساب ، كما في قوله : { يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين } [ المطففين : 6 ] فالمقام مصدر بمعنى القيام ، وقيل : المعنى خاف قيام ربه عليه ، وهو إشرافه على أحواله ، واطلاعه على أفعاله وأقواله ، كما في قوله : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ] قال مجاهد ، والنخعي : هو الرجل يهمّ بالمعصية فيذكر الله ، فيدعها من خوفه .
واختلف في الجنتين ، فقال مقاتل : يعني : جنة عدن ، وجنة النعيم ، وقيل : إحداهما التي خلقت له والأخرى ورثها . وقيل : إحداهما منزله والأخرى منزل أزواجه . وقيل : إحداهما أسافل القصور والأخرى أعاليها . وقيل : جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجنيّ ، وقيل : جنة لفعل الطاعة وأخرى لترك المعصية ، وقيل : جنة للعقيدة التي يعتقدها وأخرى للعمل الذي يعمله ، وقيل : جنة بالعمل وجنة بالتفضل ، وقيل : جنة روحانية وجنة جسمانية ، وقيل : جنة لخوفه من ربه وجنة لتركه شهوته ، وقال الفرّاء : إنما هي جنة واحدة ، والتثنية لأجل موافقة الآي . قال النحاس : وهذا القول من أعظم الغلط على كتاب الله ، فإن الله يقول : { جَنَّتَانِ } ويصفهما بقوله : { فيهما } إلخ . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن من جملتها من هذه النعم العظيمة ، وهي إعطاء الخائف من مقام ربه جنتين متصفتين بالصفات الجليلة العظيمة { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } هذه صفة للجنتين ، وما بينهما اعتراض ، والأفنان : الأغصان ، واحدها : فنن ، وهو الغصن المستقيم طولاً ، وبهذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وعطية ، وغيرهم . وقال الزجاج : الأفنان : الألوان واحدها فنّ ، وهو الضرب من كل شيء ، وبه قال عطاء ، وسعيد بن جبير ، وجمع عطاء بين القولين ، فقال : في كلّ غصن فنون من الفاكهة ، ومن إطلاق الفنن على الغصن قول النابغة :
دعاء حمامةٍ تَدعْو هَدِيلا ... مُفَجعَّةٍ على فَنَنٍ تُغَني
وقول الآخر :
ما هاجَ شُوْقُك من هَديل حَمامةٍ ... تَدْعو على فَنَنٍ الغُصون حَمامَا
وقيل : معنى { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } : ذواتا فضل وسعة على ما سواهما ، قاله قتادة ، وقيل : الأفنان : ظلّ الأغصان على الحيطان ، روي هذا عن مجاهد ، وعكرمة . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن كل واحد منها ليس بمحل للتكذيب ، ولا بموضع للإنكار . { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } هذا أيضاً صفة أخرى لجنتان ، أي : في كل واحدة منهما عين جارية . قال الحسن : إحداهما السلسبيل والأخرى التسنيم . وقال عطية : إحداهما من ماء غير آسن والأخرى من خمر لذة للشاربين ، قيل : كلّ واحدة منهما مثل الدنيا أضعافاً مضاعفة . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن من جملتها هذه النعمة الكائنة في الجنة لأهل السعادة . { فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ } هذا صفة ثالثة لجنتان ، والزوجان : الصنفان والنوعان ، والمعنى : أن في الجنتين من كلّ نوع يتفكه به ضربين يستلذ بكلّ نوع من أنواعه ، قيل : أحد الصنفين رطب ، والآخر يابس لا يقصر أحدهما عن الآخر في الفضل والطيب { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن في مجرّد تعداد هذه النعم ، ووصفها في هذا الكتاب العزيز من الترغيب إلى فعل الخير ، والترهيب عن فعل الشرّ ما لا يخفى على من يفهم ، وذلك نعمة عظمى ، ومنّة كبرى ، فكيف بالتنعم به عند الوصول إليه؟! { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } انتصاب { متكئين } على الحال من فاعل قوله : { وَلِمَنْ خَافَ } وإنما جمع ، حملاً على معنى من ، وقيل : عاملها محذوف ، والتقدير : يتنعمون متكئين ، وقيل : منصوب على المدح ، والفرش جمع فرش ، والبطائن : هي التي تحت الظهائر ، وهي جمع بطانة .
قال الزجاج : هي ما يلي الأرض ، والإستبرق : ما غلظ من الديباج ، وإذا كانت البطائن من استبرق ، فكيف تكون الظهائر؟ قيل لسعيد بن جبير : البطائن من استبرق فما الظواهر؟ قال : هذا بما قال الله فيه : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] قيل : إنما اقتصر على ذكر البطائن لأنه لم يكن أحد في الأرض يعرف ما في الظهائر . وقال الحسن : بطائنها من استبرق ، وظهائرها من نور جامد . وقال الحسن : البطائن هي الظهائر ، وبه قال الفراء : وقال : قد تكون البطانة الظهارة ، والظهارة البطانة لأن كلّ واحد منهما يكون وجهاً ، والعرب تقول : هذا ظهر السماء ، وهذا بطن السماء لظاهرها الذي نراه ، وأنكر ابن قتيبة هذا ، وقال : لا يكون هذا إلاّ في الوجهين المتساويين { وَجَنَى الجنتين دَانٍ } مبتدأ وخبر ، والجنى : ما يجتنى من الثمار ، قيل : إن الشجرة تدنو حتى يجنيها من يريد جناها ، ومنه قول الشاعر :
هذا جَناي وخِيَاره فيه ... إِذْ كلُّ جانٍ يَدُهُ إلى فيه
قرأ الجمهور { فرش } بضمتين ، وقرأ أبو حيوة بضمة وسكون ، وقرأ الجمهور { جنى } بفتح الجيم ، وقرأ عيسى بن عمر بكسرها ، وقرأ عيسى أيضاً بكسر النون على الإمالة . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإنها كلها بموضع لا يتيسر لمكذب أن يكذب بشيء منها لما تشتمل عليه من الفوائد العاجلة والآجلة . { فِيهِنَّ قاصرات الطرف } أي : في الجنتين المذكورتين . قال الزجاج : وإنما قال : { فيهنّ } لأنه عنى الجنتين ، وما أعدّ لصاحبهما فيهما من النعيم ، وقيل : فيهنّ أي : في الفرش التي بطائنها من استبرق ، ومعنى { قاصرات الطرف } : أنهنّ يقصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ لا ينظرن إلى غيرهم ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة الصافات . { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ } قال الفراء : الطمث : الافتضاض وهو النكاح بالتدمية ، يقال : طمث الجارية : إذا افترعها . قال الواحدي : قال المفسرون : لم يطأهن ولم يغشهنّ ولم يجامعهنّ قبلهم أحد .
قال مقاتل : لأنهن خلقن في الجنة ، والضمير في { قبلهم } يعود إلى الأزواج المدلول عليه بقاصرات الطرف ، وقيل : يعود إلى متكئين ، والجملة في محل رفع صفة لقاصرات ، لأن إضافتها لفظية ، وقيل : الطمث : المسّ ، أي : لم يمسسهنّ ، قاله أبو عمرو . وقال المبرد : أي : لم يذللهنّ ، والطمث : التذليل ، ومن استعمال الطمث فيما ذكره الفراء قول الفرزدق :
دفعن إليَّ لم يُطْمَثْن قَبْلِي ... وهنّ أصَحّ مِنْ بيض النَّعام
وقرأ الجمهور : { يطمثهنّ } بكسر الميم ، وقرأ الكسائي بضمها ، وقرأ الجحدري ، وطلحة بن مصرف بفتحها ، وفي هذه الآية بل في كثير من آيات هذه السورة دليل أن الجنّ يدخلون الجنة إذا آمنوا بالله سبحانه ، وعملوا بفرائضه ، وانتهوا عن مناهيه . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن في مجرّد هذا الترغيب في هذه النعم نعمة جليلة ، ومنة عظيمة ، لأن به يحصل الحرص على الأعمال الصالحة ، والفرار من الأعمال الطالحة ، فكيف بالوصول إلى هذه النعم ، والتنعم بها في جنات النعيم بلا انقطاع ، ولا زوال . { كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان } هذا صفة لقاصرات ، أو حال منهنّ ، شبههنّ سبحانه في صفاء اللون مع حمرته بالياقوت والمرجان ، والياقوت : هو الحجر المعروف ، والمرجان قد قدّمنا الكلام فيه في هذه السورة على الخلاف في كونه صغار الدرّ ، أو الأحمر المعروف . قال الحسن : هنّ في صفاء الياقوت ، وبياض المرجان ، وإنما خصّ المرجان على القول بأنه صغار الدرّ؛ لأن صفاءها أشدّ من صفاء كبار الدرّ { فَبِأَىّ الاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن نعمه كلها لا يتيسر تكذيب شيء منها كائنة ما كانت ، فكيف بهذه النعم الجليلة والمنن الجزيلة؟ { هَلْ جَزَاء الإحسان إِلاَّ الإحسان } هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها ، والمعنى : ما جزاء من أحسن العمل في الدنيا إلاّ الإحسان إليه في الآخرة ، كذا قال ابن زيد ، وغيره . قال عكرمة : هل جزاء من قال : لا إله إلاّ الله إلاّ الجنة؟ وقال الصادق : هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل إلاّ حفظ الإحسان عليه في الأبد؟ قال الرازي : في هذه الآية وجوه كثيرة حتى قيل : إن في القرآن ثلاث آيات في كل واحدة منها مائة قول : إحداها قوله تعالى : { فاذكرونى أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 152 ] وثانيها : { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } [ الإسراء : 8 ] وثالثها : { هَلْ جَزَاء الإحسان إِلاَّ الإحسان } . قال محمد بن الحنفية : هي للبرّ والفاجر : البرّ في الآخرة ، والفاجر في الدنيا . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن من جملتها الإحسان إليكم في الدنيا ، والآخرة بالخلق والرزق والإرشاد إلى العمل الصالح ، والزجر عن العمل الذي لا يرضاه . { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } أي : ومن دون تينك الجنتين الموصوفتين بالصفات المتقدّمة جنتان أخريان ، لمن دون أصحاب الجنتين السابقتين من أهل الجنة ، ومعنى { من دونهما } أي : من أمامهما ، ومن قبلهما ، أي : هما أقرب منهما ، وأدنى إلى العرش ، وقيل : الجنتان الأوليان جنة عدن وجنة النعيم ، والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى .
قال ابن جريج : هي أربع جنات : جنتان : منهما للسابقين المقرّبين { فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ } و { عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } ، وجنتان لأصحاب اليمين { فِيهِمَا فاكهة وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } و { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } قال ابن زيد : إن الأوليين من ذهب للمقرّبين ، والأخريين من ورق لأصحاب اليمين . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإنها كلها حقّ ، ونعم لا يمكن جحدها ، ثم وصف سبحانه هاتين الجنتين الأخريين ، فقال : { مُدْهَامَّتَانِ } وما بينهما اعتراض . قال أبو عبيدة والزجاج : من خضرتهما قد اسودّتا من الزي ، وكل ما علاه السواد رياً فهو مدهم . قال مجاهد : مسودّتان ، والدهمة في اللغة : السواد ، يقال : فرس أدهم ، وبعير أدهم : إذا اشتدّت ورقته حتى ذهب البياض الذي فيه . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن جميعها نعم ظاهرة واضحة لا تجحد ولا تنكر . { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } النضخ : فوران الماء من العين ، والمعنى : أن في الجنتين المذكورتين عينين فوّارتين . قال أهل اللغة : والنضخ بالخاء المعجمة أكثر من النضح بالحاء المهملة . قال الحسن ، ومجاهد : تنضخ على أولياء الله بالمسك ، والعنبر ، والكافور في دور أهل الجنة ، كما ينضخ رشّ المطر . وقال سعيد بن جبير : إنها تنضخ بأنواع الفواكه ، والماء . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإنها ليست بموضع للتكذيب ، ولا بمكان للجحد . { فِيهِمَا فاكهة وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } هذا من صفات الجنتين المذكورتين قريباً ، والنخل والرمان وإن كانا من الفاكهة لكنهما خصصا بالذكر لمزيد حسنهما ، وكثرة نفعهما بالنسبة إلى سائر الفواكه ، كما حكاه الزجاج ، والأزهري ، وغيرهما . وقيل : إنما خصهما لكثرتهما في أرض العرب ، وقيل : خصهما لأن النخل فاكهة وطعام ، والرمان فاكهة ودواء . وقد ذهب إلى أنهما من جملة الفاكهة جمهور أهل العلم ، ولم يخالف في ذلك إلاّ أبو حنيفة ، وقد خالفه صاحباه أبو يوسف ، ومحمد . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن من جملتها هذه النعم التي في جنات النعيم ، ومجرّد الحكاية لها تأثر في نفوس السامعين ، وتجذبهم إلى طاعة ربّ العالمين { فِيهِنَّ خيرات حِسَانٌ } قرأ الجمهور { خيرات } بالتخفيف ، وقرأ قتادة ، وابن السميفع ، وأبو رجاء العطاردي ، وبكر بن حبيب السهمي ، وابن مقسم ، والنهدي بالتشديد ، فعلى القراءة الأولى هي جمع خيرة بزنة فعلة بسكون العين ، يقال : امرأة خيرة وأخرى شرّة ، أو جمع خيرة مخفف خيرة ، وعلى القراءة الثانية جمع خيرة بالتشديد . قال الواحدي : قال المفسرون : الخيرات : النساء خيرات الأخلاق حسان الوجوه . قيل : وهذه الصفة عائدة إلى الجنان الأربع ، ولا وجه لهذا ، فإنه قد وصف نساء الجنتين الأوليين بأنهنّ قاصرات الطرف . { كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان } وبين الصفتين بون بعيد . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن شيئًا منها كائناً ما كان لا يقبل التكذيب . { حُورٌ مقصورات فِى الخيام } أي : محبوسات ، ومنه القصر لأنه يحبس من فيه ، والحور : جمع حوراء وهي شديدة بياض العين شديدة سوادها ، وقد تقدّم بيان معنى الحوراء ، والخلاف فيه .
وقيل : معنى { مقصورات } : أنهنّ قصرن على أزواجهنّ ، فلا يردن غيرهم ، وحكاه الواحدي عن المفسرين . والأوّل أولى ، وبه قال أبو عبيدة ، ومقاتل ، وغيرهما . قال في الصحاح : قصرت الشيء أقصره قصراً : حبسته ، والمعنى : أنهنّ خدّرن في الخيام ، والخيام : جمع خيمة ، وقيل : جمع خيم ، والخيم جمع خيمة ، وهي أعواد تنصب وتظلّل بالثياب ، فتكون أبرد من الأخبية ، قيل : الخيمة من خيام الجنة درّة مجوّفة ، فرسخ في فرسخ ، وارتفاع { حور } على البدلية من خيرات { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ } قد تقدّم تفسيره في صفة الجنتين الأوليين { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإنها كلها نعم لا تكفر ، ومنن لا تجحد . { مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ } انتصاب { متكئين } على الحال ، أو المدح كما سبق ، قال أبو عبيدة : الرّفارف : البسط ، وبه قال الحسن ، ومقاتل ، والضحاك ، وغيرهم . وقال ابن عيينة : هي الزرابي . وقال ابن كيسان : هي المرافق . وروي عن أبي عبيدة أنه قال : هي حاشية الثوب . وقال الليث : ضرب من الثياب الخضر ، وقيل : الفرش المرتفعة ، وقيل : كل ثوب عريض . قال في الصحاح : والرّفرف : ثياب خضر يتخذ منها المحابس ، الواحدة رفرفة . وقال الزجاج : قالوا الرّفرف هنا : رياض الجنة ، وقالوا : الرّفرف : الوسائد ، وقالوا : الرّفرف : المحابس ا ه . ومن القائلين بأنها رياض الجنة سعيد بن جبير ، واشتقاق الرّفرف من رفّ يرفّ : إذا ارتفع ، ومنه رفرفة الطائر ، وهي تحريك جناحيه في الهواء . قرأ الجمهور { رفرف } على الإفراد . وقرأ عثمان بن عفان ، والحسن ، والجحدري : ( رفارف ) على الجمع { وَعَبْقَرِىّ حِسَانٍ } العبقريّ : الزرابي ، والطنافس الموشية . قال أبو عبيدة : كل وشي من البسط عبقريّ ، وهو منسوب إلى أرض يعمل فيها الوشي . قال الفراء : العبقريّ . الطنافس الثمان ، وقيل : الزرابي ، وقيل : البسط ، وقيل : الديباج . قال ابن الأنباري : الأصل فيه أن عبقر قرية تسكنها الجنّ ينسب إليها كل فائق . قال الخليل : العبقريّ عند العرب : كل جليل فاضل فاخر من الرجال والنساء ، ومنه قول زهير :
بَخَيْل عليها جِنَّةٌ عَبْقَرَيَّةٌ ... جَديرون يوماً أنْ يَنَالوُا فَيَسْتَعلُوا
قال الجوهريّ : العبقر موضع تزعم العرب أنه من أرض الجنّ . قال لبيد :
كهول وشبان كجنة عبقر ... ثم نسبوا إليه كل شيء تعجبوا من حذقه وجودة صنعته وقوّته ، فقالوا : عبقريّ ، وهو واحد وجمع . قرأ الجمهور : { عبقريّ } وقرأ عثمان بن عفان ، والحسن ، والجحدري ( عباقريّ ) وقرىء : ( عباقر ) وهما نسبة إلى عباقر اسم بلد . وقال قطرب : ليس بمنسوب ، وهو مثل كرسيّ وكراسي ، وبختي وبخاتي . قرأ الجمهور : { خضر } بضم الخاء وسكون الضاد ، وقرىء بضمهما ، وهي لغة قليلة . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن كل واحد منها أجلّ من أن يتطرّق إليه التكذيب ، وأعظم من أن يجحده جاحد ، أو ينكره منكر ، وقد قدّمنا في أوّل هذه السورة وجه تكرير هذه الآية فلا نعيده .
{ تبارك اسم رَبّكَ ذِى الجلال والإكرام } تبارك . تفاعل من البركة . قال الرّازي : وأصل التبارك من التبرّك ، وهو الدوام والثبات ، ومنه برك البعير ، وبركه الماء فإن الماء يكون دائماً ، والمعنى : دام اسمه وثبت أو دام الخير عنده؛ لأن البركة وإن كانت من الثبات لكنها تستعمل في الخير ، أو يكون معناه علا وارتفع شأنه . وقيل معناه : تنزيه الله سبحانه وتقديسه ، وإذا كان هذا التبارك منسوباً إلى اسمه عزّ وجلّ ، فما ظنك بذاته سبحانه؟ وقيل : الاسم بمعنى الصفة ، وقيل : هو مقحم كما في قول الشاعر :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
وقد تقدّم تفسير { ذي الجلال والإكرام } في هذه السورة . قرأ الجمهور : { ذي الجلال } على أنه صفة للربّ سبحانه . وقرأ ابن عامر ( ذو الجلال ) على أنه صفة لاسم .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } قال : وعد الله المؤمنين الذين خافوا مقامه ، فأدّوا فرائضه الجنة . وأخرج ابن جرير عنه في الآية يقول : خاف ثم اتقى ، والخائف : من ركب طاعة الله وترك معصيته . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عن عطاء أنها نزلت في أبي بكر . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب مثله . وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود في الآية قال : لمن خافه في الدنيا . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وابن منيع ، والحاكم ، والترمذي ، والنسائي ، والبزار ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن أبي الدّرداء « أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } فقلت : وإن زنى ، وإن سرق يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم . الثانية : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } فقلت : وإن زنى ، وإن سرق؟ فقال الثالثة : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } فقلت : وإن زنى ، وإن سرق؟ قال : نعم ، وإن رغم أنف أبي الدّرداء » وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } فقال أبو الدّرداء : وإن زنى ، وإن سرق يا رسول الله؟ قال : « وإن زنى وإن سرق ، وإن رغم أنف أبي الدّرداء » وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن يسار مولى لآل معاوية عن أبي الدّرداء في قوله : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } قال : قيل : لأبي الدّرداء : وإن زنى وإن سرق؟ قال : من خاف مقام ربه لم يزن ، ولم يسرق . وأخرج ابن مردويه عن ابن شهاب قال : كنت عند هشام بن عبد الملك ، فقال : قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } قال أبو هريرة : وإن زنى ، وإن سرق؟ فقلت : إنما كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض ، فلما نزلت الفرائض ذهب هذا .
وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « جنان الفردوس أربع جنات : جنتان من ذهب حليتهما وأبنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة حليتهما وأبنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلاّ رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن » وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي موسى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } وفي قوله : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } قال : « جنتان من ذهب للمقرّبين ، وجنتان من وَرِق لأصحاب اليمين » وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن أبي موسى في قوله : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } قال : جنتان من ذهب للسابقين ، وجنتان من فضة للتابعين . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } قال : ذواتا ألوان . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه قال : فن غصونها يمسّ بعضها بعضاً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه أيضاً قال : الفنّ : الغصن . وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن ابن مسعود في قوله : { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } قال : أخبرتم بالبطائن ، فكيف بالظهائر . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس أنه قيل : له بطائنها من استبرق ، فما الظواهر؟ قال : ذلك مما قال الله { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقيّ في البعث عنه في قوله : { وَجَنَى الجنتين دَانٍ } قال : جناها ثمرها ، والداني : القريب منك يناله القائم والقاعد . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقيّ في البعث عنه أيضاً في قوله : { فِيهِنَّ قاصرات الطرف } يقول : عن غير أزواجهنّ { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ } يقول : لم يدن منهنّ ، أو لم يدمهنّ . وأخرج أحمد ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان } قال : « تنظر إلى وجهها في خدرها أصفى من المرآة ، وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب ، وإنه يكون عليها سبعون ثوباً ، وينفذها بصره حتى يرى مخّ ساقها من وراء ذلك »
وأخرج ابن أبي شيبة ، وهناد بن السريّ ، والترمذيّ ، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها ، وذلك أن الله يقول : { كأنهنّ الياقوت والمرجان } ، فأما الياقوت ، فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكاً ثم استصفيته لرأيته من ورائه " ، وقد رواه الترمذي موقوفاً وقال : هو أصحّ . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقيّ في الشعب وضعفه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : في قوله : { هَلْ جَزَاء الإحسان إِلاَّ الإحسان } قال : " ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلاّ الجنة " وأخرج الحكيم الترمذيّ في نوادر الأصول ، والبغويّ في تفسيره ، والديلمي في مسند الفردوس ، وابن النجار في تاريخه عن أنس مرفوعاً مثله . وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعاً في الآية قال : " هل جزاء من أنعمنا عليه بالإسلام إلاّ أن أدخله الجنة " وأخرج ابن النجار في تاريخه عن عليّ بن أبي طالب مرفوعاً مثل حديث ابن عمر . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { هَلْ جَزَاء الإحسان إِلاَّ الإحسان } قال : هل جزاء من قال لا إله إلاّ الله في الدنيا إلاّ الجنة في الآخرة . وأخرج ابن عديّ ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والديلمي ، والبيهقيّ في الشعب ، وضعفه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنزل الله عليّ هذه الآية في سورة الرحمن للكافر والمسلم : { هَلْ جَزَاء الإحسان إِلاَّ الإحسان } " وأخرجه ابن مردويه موقوفاً على ابن عباس . وأخرج هناد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { مُدْهَامَّتَانِ } قال : هما خضروان . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال : قد اسودّتا من الخضرة من الرّيّ من الماء . وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وهناد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن ابن عبد الله بن الزبير نحوه . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري قال : سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قوله : « { مُدْهَامَّتَانِ } قال : " خضراوان " . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { نَضَّاخَتَانِ } قال : فائضتان . وأخرج عبد بن حميد عنه قال : ينضخان بالماء . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : { خيرات حِسَانٌ } قال : لكل مسلم خيرة ، ولكل خيرة خيمة ، ولكل خيمة أربعة أبواب يدخل عليها من الله كل يوم تحفة وكرامة وهدية لم تكن قبل ذلك ، لا مراحات ولا طماحات ، ولا بخرات ولا دفرات ، حور عين كأنهن بيض مكنون .
وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عنه مرفوعاً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { حُورٌ } قال : بيض { مقصورات } قال : محبوسات { فِى الخيام } قال : في بيوت اللؤلؤ . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم قال : الحور سود الحدق . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الخيام درّ مجوّف » وأخرج البخاريّ ، ومسلم ، وغيرهما عن أبي موسى الأشعري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : « الخيمة درّة مجوّفة طولها في السماء ستون ميلاً ، في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون يطوف عليهم المؤمن » وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ } قال : فضول المحابس والفرش والبسط . وأخرج عبد بن حميد عن عليّ بن أبي طالب قال : هي فضول المحابس . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، والبيهقي في البعث من طرق عن ابن عباس { رَفْرَفٍ خُضْرٍ } قال : المحابس { وَعَبْقَرِىّ حِسَانٍ } قال : الزرابي . وأخرج عبد بن حميد عنه في الآية قال : الرّفرف : الرّياض ، والعبقريّ : الزرابي .
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
قوله : { إِذَا وَقَعَتِ الواقعة } الواقعة اسم للقيامة كالآزفة وغيرها ، وسميت واقعة لأنها كائنة لا محالة ، أو لقرب وقوعها ، أو لكثرة ما يقع فيها من الشدائد ، وانتصاب إذا بمضمر ، أي : اذكر وقت وقوع الواقعة ، أو بالنفي المفهوم من قوله : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } أي : لا يكون عند وقوعها تكذيب ، والكاذبة مصدر كالعاقبة أي : ليس لمجيئها وظهورها كذب أصلاً ، وقيل : إذا شرطية ، وجوابها مقدّر ، أي : إذا وقعت كان كيت وكيت ، والجواب هذا هو العامل فيها ، وقيل : إنها شرطية ، والعامل فيها الفعل الذي بعدها ، واختار هذا أبو حيان ، وقد سبقه إلى هذا مكيّ فقال : والعامل وقعت . قال المفسرون : والواقعة هنا : هي النفخة الآخرة ، ومعنى الآية : أنها إذا وقعت النفخة الآخرة عند البعث لم يكن هناك تكذيب بها أصلاً ، أو لا يكون هناك نفس تكذب على الله ، وتكذب بما أخبر عنه من أمور الآخرة . قال الزجاج : ليس لوقعتها كاذبة ، أي : لا يردّها شيء ، وبه قال الحسن ، وقتادة . وقال الثوري : ليس لوقعتها أحد يكذب بها . وقال الكسائي : ليس لها تكذيب ، أي : لا ينبغي أن يكذب بها أحد . { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } قرأ الجمهور برفعهما على إضمار مبتدأ ، أي : هي خافضة رافعة . وقرأ الحسن وعيسى الثقفي بنصبهما على الحال . قال عكرمة ، والسديّ ، ومقاتل : خفضت الصوت فأسمعت من دنا ، ورفعت الصوت فأسمعت من نأى ، أي : أسمعت القريب والبعيد . وقال قتادة : خفضت أقواماً في عذاب الله ، ورفعت أقواماً إلى طاعة الله . وقال : محمد بن كعب : خفضت أقواماً كانوا في الدنيا مرفوعين ، ورفعت أقواماً كانوا في الدنيا مخفوضين ، والعرب تستعمل الخفض والرفع في المكان والمكانة ، والعزّ والإهانة ، ونسبة الخفض والرفع إليها على طريق المجاز ، والخافض والرّافع في الحقيقة ، هو الله سبحانه . { إِذَا رُجَّتِ الارض رَجّاً } أي : إذا حرّكت حركة شديدة ، يقال رجّه يرجّه رجًّا إذا حرّكه ، والرّجة : الاضطراب ، وارتجّ البحر اضطرب . قال المفسرون : ترتجّ ، كما يرتجّ الصبيّ في المهد حتى ينهدم كل ما عليها ، وينكسر كل شيء من الجبال وغيرها . قال قتادة ، ومقاتل ، ومجاهد : معنى رجت : زلزلت ، والظرف متعلق بقوله : { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } أي : تخفض وترفع وقت رجّ الأرض وبس الجبال؛ لأنه عند ذلك يرتفع ما هو منخفض ، وينخفض ما هو مرتفع . وقيل : إنه بدل من الظرف الأوّل ذكره الزجاج ، فيكون معنى وقوع الواقعة هو رجّ الأرض ، وبس الجبال { وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً } البس : الفت ، يقال : بس الشيء إذا فته حتى يصير فتاتاً ، ويقال بس السويق : إذا لته بالسمن ، أو بالزيت . قال مجاهد ، ومقاتل : المعنى أن الجبال فتت فتاً . وقال السديّ : كسرت كسراً . وقال الحسن : قلعت من أصلها . وقال مجاهد أيضاً : بست كما يبس الدقيق بالسمن ، أو بالزيت ، والمعنى : أنها خلطت فصارت كالدقيق الملتوت .
وقال أبو زيد : البسّ : السوق ، والمعنى على هذا : سيقت الجبال سوقاً ، قال أبو عبيد : بسّ الإبل ، وأبسها لغتان : إذا زجرها . وقال عكرمة : المعنى هدّت هدًّا { فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً } أي : غباراً متفرّقاً منتشراً . قال مجاهد : الهباء : الشعاع الذي يكون في الكوّة كهيئة الغبار ، وقيل : هو الرّهج الذي يسطع من حوافر الدّواب ، ثم يذهب ، وقيل : ما تطاير من النار إذا اضطرمت على سورة الشرر ، فإذا وقع لم يكن شيئًا ، وقد تقدّم بيانه في الفرقان عند تفسير قوله : { فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] قرأ الجمهور { منبثًّا } بالمثلثة . وقرأ مسروق ، والنخعي ، وأبو حيوة بالتاء المثناة من فوق أي : منقطعاً ، من قولهم بتّه الله ، أي : قطعه . ثم ذكر سبحانه أحوال الناس واختلافهم فقال : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثلاثة } والخطاب لجميع الناس ، أو للأمة الحاضرة ، والأزواج : الأصناف ، والمعنى : وكنتم في ذلك اليوم أصنافاً ثلاثة . ثم فسّر سبحانه هذه الأصناف فقال : { فأصحاب الميمنة مَا أصحاب الميمنة } أي : أصحاب اليمين ، وهم الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم ، أو الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ، { أصحاب الميمنة } مبتدأ ، وخبره : { ما أصحاب الميمنة } أي : أي شيء هم في حالهم ، وصفتهم ، والاستفهام للتعظيم والتفخيم ، وتكرير المبتدأ هنا بلفظه مغن عن الضمير الرّابط ، كما في قوله : { الحاقة * مَا الحاقة } [ الحاقة : 1 ، 2 ] و { القارعة * مَا القارعة } [ القارعة : 1 ، 2 ] ولا يجوز مثل هذا إلاّ في مواضع التفخيم ، والتعظيم والكلام في { أصحاب المشئمة مَا أصحاب المشئمة } كالكلام في أصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ، والمراد : الذي يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ، أو يأخذون صحائف أعمالهم بشمالهم ، والمراد : تعجيب السامع من حال الفريقين في الفخامة والفظاعة؛ كأنه قيل : فأصحاب الميمنة في نهاية السعادة وحسن الحال ، وأصحاب المشأمة في نهاية الشقاوة وسوء الحال . وقال السديّ : أصحاب الميمنة : هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه ، وأصحاب المشأمة : هم الذين كانوا عن شماله . وقال زيد بن أسلم : أصحاب الميمنة : هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن ، وأصحاب المشأمة هم الذين أخذوا من شقه الأيسر . وقال ابن جريج : أصحاب الميمنة : هم أهل الحسنات ، وأصحاب المشأمة : هم أهل السيئات . وقال الحسن ، والربيع : أصحاب الميمنة هم الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة ، وأصحاب المشأمة هم المشائيم على أنفسهم بالأعمال القبيحة . وقال المبرد : أصحاب الميمنة : أصحاب التقدّم ، وأصحاب المشأمة : أصحاب التأخر ، والعرب تقول : اجعلني في يمينك ، ولا تجعلني في شمالك ، أي : اجعلني من المتقدّمين ، ولا تجعلني من المتأخرين ، ومنه قول ابن الدمينة :
أبنيتي أفي يمنى يديك جعلتني ... فأفرح أم صيرتني في شمالك
ثم ذكر سبحانه الصنف الثالث ، فقال : { والسابقون السابقون } والتكرير فيه للتفخيم والتعظيم ، كما مرّ في القسمين الأوّلين ، كما تقول أنت أنت ، وزيد زيد ، والسابقون مبتدأ ، وخبره السابقون .
وفيه تأويلان أحدهما : أنه بمعنى السابقون هم الذين اشتهرت حالهم بذلك . والثاني : أن متعلق السابقين مختلف ، والتقدير : والسابقون إلى الإيمان السابقون إلى الجنة . والأوّل أولى لما فيه من الدلالة على التفخيم والتعظيم قال الحسن ، وقتادة : هم السابقون إلى الإيمان من كلامه . وقال محمد بن كعب : إنهم الأنبياء . وقال ابن سيرين : هم الذين صلوا إلى القبلتين . وقال مجاهد : هم الذين سبقوا إلى الجهاد ، وبه قال الضحاك . وقال سعيد بن جبير : هم السابقون إلى التوبة وأعمال البرّ . وقال الزجاج : المعنى : والسابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله . قيل : ووجه تأخير هذا الصنف الثالث مع كونه أشرف من الصنفين الأوّلين هو أن يقترن به ما بعده ، وهو قوله : { أُوْلَئِكَ المقربون * فِي جنات النعيم } فالإشارة هي إليهم ، أي : المقرّبون إلى جزيل ثواب الله ، وعظيم كرامته ، أو الذين قربت درجاتهم ، وأعليت مراتبهم عند الله . وقوله : { فِي جنات النعيم } متعلق بالمقربون ، أي : مقرّبون عند الله في جنات النعيم . ويجوز أن يكون خبراً ثانياً لأولئك ، وأن يكون حالاً من الضمير في { المقربون } أي كائنين فيها . قرأ الجمهور : { في جنات } بالجمع ، وقرأ طلحة بن مصرف : ( في جنة ) بالإفراد ، وإضافة الجنات إلى النعيم من إضافة المكان إلى ما يكون فيه ، كما يقال : دار الضيافة ، ودار الدعوة ، ودار العدل وارتفاع { ثُلَّةٌ مّنَ الأولين } على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم ثلة ، والثلة : الجماعة التي لا يحصر عددها . قال الزجاج : معنى ثلة معنى فرقة ، ومن ثللت الشيء : إذا قطعته ، والمراد بالأوّلين : هم الأمم السابقة من لدن آدم إلى نبينا صلى الله عليه وسلم { وَقَلِيلٌ مّنَ الآخرين } أي : من هذه الأمة ، وسموا قليلاً بالنسبة إلى من كان قبلهم ، وهم كثيرون لكثرة الأنبياء فيهم ، وكثرة من أجابهم . قال الحسن : سابقو من مضى أكثر من سابقينا . قال الزجاج : الذين عاينوا جميع الأنبياء وصدّقوا بهم أكثر ممن عاين النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولا يخالف هذا ما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم : « إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، ثم قال : ثلث أهل الجنة ، ثم قال : نصف أهل الجنة » ، لأن قوله : { ثُلَّةٌ مّنَ الأولين * وَقَلِيلٌ مّنَ الاخرين } إنما هو تفصيل للسابقين فقط ، كما سيأتي في ذكر أصحاب اليمين أنهم ثلة من الأولين ، وثلة من الآخرين ، فلا يمتنع أن يكون في أصحاب اليمين من هذه الأمة من هو أكثر من أصحاب اليمين من غيرهم ، فيجتمع من قليل سابقي هذه الأمة ، ومن ثلة أصحاب اليمين منها من يكون نصف أهل الجنة ، والمقابلة بين الثلتين في أصحاب اليمين لا تستلزم استواءهما لجواز أن يقال : هذه الثلة أكثر من هذه الثلة ، كما يقال : هذه الجماعة أكثر من هذه الجماعة ، وهذه الفرقة أكثر من هذه الفرقة ، وهذه القطعة أكثر من هذه القطعة .
وبهذا تعرف أنه لم يصب من قال : إن هذه الآية منسوخة بالحديث المذكور . ثم ذكر سبحانه حالة أخرى للسابقين المقربين ، فقال : { على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ } قرأ الجمهور { سرر } بضم السين والراء الأولى ، وقرأ أبو السماك ، وزيد بن عليّ بفتح الراء ، وهي لغة كما تقدّم ، والموضونة : المنسوجة ، والوضن : النسج المضاعف . قال الواحدي : قال المفسرون : منسوجة بقضبان الذهب ، وقيل : مشبكة بالدرّ ، والياقوت ، والزبرجد ، وقيل : إن الموضونة المصفوفة . وقال مجاهد : الموضونة : المرمولة بالذهب ، وانتصاب { مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا } على الحال ، وكذا انتصاب { متقابلين } والمعنى : مستقرّين على سرر متكئين عليها متقابلين لا ينظر بعضهم قفا بعض { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ } الجملة في محل نصب على الحال من المقربين ، أو مستأنفة لبيان بعض ما أعدّ الله لهم من النعيم ، والمعنى : يدور حولهم للخدمة غلمان لا يهرمون ، ولا يتغيرون ، بل شكلهم شكل الولدان دائماً . قال مجاهد : المعنى لا يموتون . وقال الحسن ، والكلبي : لا يهرمون ، ولا يتغيرون . قال الفراء : والعرب تقول للرجل إذا كبر ولم يشمط : إنه لمخلد . وقال سعيد بن جبير : مخلدون : مقرطون . قال الفراء : ويقال : مخلدون : مقرطون ، يقال : خلد جاريته : إذا حلاها بالخلدة ، وهي القرطة . وقال عكرمة : مخلدون : منعمون ، ومنه قول امرىء القيس :
وهل ينعمن إلاّ سعيد مخلد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال
وقيل : مستورون بالحلية ، وروي نحوه عن الفراء ، ومنه قول الشاعر :
ومخلدات باللجين كأنما ... أعجازهنّ أقاوز الكثبان
وقيل : مخلدون : ممنطقون ، قيل : وهم ولدان المسلمين الذين يموتون صغاراً ولا حسنة لهم ولا سيئة ، وقيل : هم أطفال المشركين ، ولا يبعد أن يكونوا مخلوقين في الجنة للقيام بهذه الخدمة ، والأكواب : هي الأقداح المستديرة الأفواه التي لا آذان لها ولا عرى ، وقد مضى بيان معناها في سورة الزخرف ، والأباريق : هي ذات العرى والخراطيم ، واحدها إبريق ، وهو الذي يبرق لونه من صفائه ، { وَكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ } أي : من خمر جارية ، أو من ماء جار ، والمراد به ها هنا : الخمر الجارية من العيون ، وقد تقدّم بيان معنى الكأس في سورة الصافات { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } أي : لا تتصدّع رؤوسهم من شربها ، كما تتصدّع من شرب خمر الدنيا . والصداع : هو الداء المعروف الذي يلحق الإنسان في رأسه ، وقيل : معنى لا يصدعون لا يتفرقون كما يتفرق الشرّاب ، ويقوّي هذا المعنى قراءة مجاهد : ( يصدعون ) بفتح الياء وتشديد الصاد ، والأصل يتصدعون ، أي : يتفرقون ، والجملة مستأنفة لبيان ما أعد الله لهم من النعيم ، أو في محل نصب على الحال ، وجملة : { وَلاَ يُنزِفُونَ } معطوفة على الجملة التي قبلها ، وقد تقدم اختلاف القراء في هذا الحرف في سورة الصافات ، وكذلك تقدّم تفسيره ، أي : لا يسكرون فتذهب عقولهم ، من أنزف الشارب : إذا نفد عقله ، أو شرابه ، ومنه قول الشاعر :
لَعْمري لئن أنزفتم أو صَحَوتُمُ ... لبئس الندامى كنتم آل أبْجَرَا
{ وفاكهة مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ } أي : يختارونه ، يقال : تخيرت الشيء : إذا أخذت خيره . قرأ الجمهور : { وفاكهة } بالجر كذا { لَحْم } عطفاً على { أكواب } أي : يطوفون عليهم بهذه الأشياء المأكول والمشروب والمتفكه به . وقرأ زيد بن عليّ ، وأبو عبد الرحمن برفعهما على الابتداء ، والخبر مقدّر ، أي : ولهم فاكهة ولحم ، ومعنى : { مّمَّا يَشْتَهُونَ } : مما يتمنونه وتشتهيه أنفسهم . { وَحُورٌ عِينٌ * كأمثال اللؤلؤ المكنون } قرأ الجمهور { حور عين } برفعهما عطفاً على ولدان أو على تقدير مبتدأ ، أي : نساؤهم حور عين ، أو على تقدير خبر ، أي : ولهم حور عين ، وقرأ حمزة ، والكسائي بجرّهما عطفاً على أكواب . قال الزجاج : وجائز أن يكون معطوفاً على جنات ، أي : هم في جنات وفي حور ، على تقدير مضاف محذوف ، أي : وفي معاشرة حور . قال الفراء : في توجيه العطف على أكواب إنه يجوز الجرّ على الاتباع في اللفظ ، وإن اختلفا في المعنى؛ لأن الحور لا يطاف بهنّ ، كما في قول الشاعر :
إذا مَا الغانياتُ بَرزنَ يَوْمْاً ... وَزَججَّن الحَواجبَ والعُيُونا
والعين لا تزجج ، وإنما تكحل ، ومن هذا قول الشاعر :
علفتها تبناً وماء بارداً ... وقول الآخر :
متقلداً سيفاً ورمحاً ... قال قطرب : هو معطوف على الأكواب والأباريق من غير حمل على المعنى . قال : ولا ينكر أن يطاف عليهم بالحور : ويكون لهم في ذلك لذة . وقرأ الأشهب العقيلي ، والنخعي ، وعيسى بن عمر بنصبهما على تقدير إضمار فعل ، كأنه قيل : ويزوّجون حوراً عيناً ، أو ويعطون ، ورجح أبو عبيد ، وأبو حاتم قراءة الجمهور . ثم شبههنّ سبحانه باللؤلؤ المكنون ، وهو الذي لم تمسه الأيدي ، ولا وقع عليه الغبار ، فهو أشد ما يكون صفاء ، وانتصاب { جزاءً } في قوله : { جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } على أنه مفعول له ، أي : يفعل بهم ذلك كله للجزاء بأعمالهم . ويجوز أن يكون مصدراً مؤكداً لفعل محذوف أي : يجزون جزاءً ، وقد تقدّم تفسير الحور العين في سورة الطور وغيره : { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } اللغو : الباطل من الكلام ، والتأثيم : النسبة إلى الإثم . قال محمد بن كعب : لا يؤثم بعضهم بعضاً ، وقال مجاهد : لا يسمعون شتماً ، ولا مأثماً ، والمعنى : أنه لا يقول بعضهم لبعضهم أثمت؛ لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم . { إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما } القيل القول ، والاستثناء منقطع ، أي : لكن يقولون قيلاً ، أو يسمعون قيلاً ، وانتصاب { سلاماً سلاماً } على أنه بدل من { قيلاً } ، أو صفة له ، أو هو مفعول به { قيلاً } أي : إلاّ أن يقولوا : سلاماً سلاماً ، واختار هذا الزجاج ، أو على أنه منصوب بفعل هو محكي ب { قيلاً } أي : إلاّ قيلاً سلموا سلاماً سلاماً ، والمعنى في الآية : أنهم لا يسمعون إلاّ تحية بعضهم لبعض .
قال عطاء : يحيي بعضهم بعضاً بالسلام ، وقيل : إن الاستثناء متصل وهو بعيد؛ لأن التحتية ليست مما يندرج تحت اللغو والتأثيم ، قرىء ( سلام سلام ) بالرفع . قال مكي : ويجوز الرفع على معنى سلام عليكم ، مبتدأ وخبر .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { إِذَا وَقَعَتِ الواقعة } قال : يوم القيامة { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } قال : ليس لها مردّ يردّ { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } قال : تخفض ناساً وترفع آخرين . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عنه { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } قال : أسمعت القريب والبعيد . وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } قال : الساعة خفضت أعداء الله إلى النار ، ورفعت أولياء الله إلى الجنة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً } قال : زلزلت { وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً } قال : فتتت { فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً } قال : شعاع الشمس . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه { فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً } قال : الهباء الذي يطير من النار إذا أضرمت يطير منها الشرر ، فإذا وقع لم يكن شيئًا . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال : الهباء ما يثور مع شعاع الشمس ، وانبثاثه : تفرقه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب قال : الهباء المنبث : رهج الدواب ، والهباء المنثور : غبار الشمس الذي تراه في شعاع الكوّة . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً } قال : أصنافاً . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثلاثة } قال : هي التي في سورة الملائكة : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات } [ فاطر : 32 ] . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه أيضاً في قوله : { والسابقون السابقون } قال : يوشع بن نون سبق إلى موسى ، ومؤمن آل ياسين سبق إلى عيسى ، وعليّ بن أبي طالب سبق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال : نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون؛ وحبيب النجار الذي ذكر في يس ، وعليّ بن أبي طالب ، وكل رجل منهم سابق أمته ، وعليّ أفضلهم سبقاً . وأخرج أحمد عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية : { وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال } فقبض بيديه قبضتين ، فقال : « هذه في الجنة ولا أبالي ، وهذه في النار ولا أبالي » وأخرج أحمد أيضاً عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
« أتدرون من السابقون إلى ظلّ الله يوم القيامة » ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : « الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوا بذلوا ، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم » وأخرج أحمد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال : لما نزلت : { ثُلَّةٌ مّنَ الأولين * وَقَلِيلٌ مّنَ الآخرين } شقّ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { ثُلَّةٌ مّنَ الأولين * وَثُلَّةٌ مّنَ الآخرين } فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، ثلث الجنة ، بل أنتم نصف أهل الجنة ، أو شطر أهل الجنة ، وتقاسموهم النصف الثاني » وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس { على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ } قال : مصفوفة . وأخرج سعيد بن منصور ، وهناد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث عنه . قال : مرمولة بالذهب . وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة ، والبزار ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن عبد الله بن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنك لتنظر إلى الطير في الجنة ، فتشتهيه فيخرّ بين يديك مشوياً » وأخرج أحمد ، والترمذي ، والضياء عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن طير الجنة كأمثال البخت ترعى في شجر الجنة » فقال أبو بكر : يا رسول الله إن هذه الطير لناعمة ، قال : « آكلها أنعم منها ، وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها » وفي الباب أحاديث . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { كأمثال اللؤلؤ المكنون } قال : الذي في الصدف . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } قال : باطلاً { وَلاَ تَأْثِيماً } قال : كذباً .
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
لما فرغ سبحانه من ذكر أحوال السابقين ، وما أعدّه لهم من النعيم المقيم ، ذكر أحوال أصحاب اليمين ، فقال : { وأصحاب اليمين مَا أصحاب اليمين } قد قدّمنا وجه إعراب هذا الكلام ، وما في هذه الجملة الاستفهامية من التفخيم والتعظيم ، وهي خبر المبتدأ ، وهو أصحاب اليمن ، وقوله : { فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } خبر ثان ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم في سدر مخضود ، والسدر : نوع من الشجر ، والمخضود : الذي خضد شوكه ، أي : قطع فلا شوك فيه . قال أمية بن أبي الصلت يصف الجنة :
إن الحدائق في الجنان ظليلة ... فيها الكواعب سدرها مخضود
وقال الضحاك ، ومجاهد ، ومقاتل بن حيان : إن السدر المخضود : الموقر حملاً { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } قال أكثر المفسرين : إن الطلح في الآية هو شجر الموز . وقال جماعة : ليس هو شجر الموز ، ولكنه الطلح المعروف وهو أعظم أشجار العرب . قال الفراء ، وأبو عبيدة : هو شجر عظام لها شوك . قال الزجاج : الطلح هو أمّ غيلان ، ولها نور طيب ، فخوطبوا ووعدوا ما يحبون ، إلاّ أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا . قال : ويجوز أن يكون في الجنة ، وقد أزيل شوكه . قال السدي : طلح الجنة يشبه طلح الدنيا لكن له ثمر أحلى من العسل ، والمنضود : المتراكب الذي قد نضد أوله وآخره بالحمل ليس له سوق بارزة . قال مسروق : أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيد ثمر كله ، كلما أخذت ثمرة عاد مكانها أحسن منها { وَظِلّ مَّمْدُودٍ } أي : دائم باق لا يزول ، ولا تنسخه الشمس . قال أبو عبيدة : والعرب تقول لكل شيء طويل لا ينقطع : ممدود ، ومنه قوله : { أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل } [ الفرقان؛ 45 ] والجنة كلها ضلّ لا شمس معه . قال الربيع بن أنس : يعني ظلّ العرش ، ومن استعمال العرب للممدود في الدائم الذي لا ينقطع قول لبيد :
غلب العزاء وكان غير مغلب ... دهر طويل دائم ممدود
{ وَمَاء مَّسْكُوبٍ } أي : منصبّ يجري بالليل والنهار أينما شاءوا لا ينقطع عنهم ، فهو مسكوب يسكبه الله في مجاريه ، وأصل السكب . الصبّ ، يقال : سكبه سكباً ، أي : صبه { وفاكهة كَثِيرَةٍ } أي : ألوان متنوعة متكثرة { لاَّ مَقْطُوعَةٍ } في وقت من الأوقات ، كما تنقطع فواكه الدنيا في بعض الأوقات { وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } أي : لا تمتنع على من أرادها في أي وقت على أيّ صفة ، بل هي معدّة لمن أرادها لا يحول بينه وبينها حائل . قال ابن قتيبة : يعني : أنها غير محظورة عليها كما يحظر على بساتين الدنيا . { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } أي : مرفوع بعضها فوق بعض ، أو مرفوعة على الأسرّة .
وقيل : إن الفرش هنا كناية عن النساء اللواتي في الجنة ، وارتفاعها كونها على الأرائك ، أو كونها مرتفعات الأقدار في الحسن والكمال . { إِنَّا أنشأناهن إِنشَاء } أي : خلقناهنّ خلقاً جديداً من غير توالد ، وقيل : المراد نساء بني آدم . والمعنى : أن الله سبحانه أعادهنّ بعد الموت إلى حال الشباب ، والنساء وإن لم يتقدّم لهنّ ذكر لكنهن قد دخلن في أصحاب اليمين ، وأما على قول من قال : إن الفرش المرفوعة عين النساء ، فمرجع الضمير ظاهر . { فجعلناهن أبكارا } { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ } [ الرحمن : 56 ] { عُرُباً أَتْرَاباً } العرب جمع عروب ، وهي المتحببة إلى زوجها . قال المبرد : هي العاشقة لزوجها ، ومنه قول لبيد :
وفي الخباء عروب غير فاحشة ... ريا الروادف يعشي ضوؤها البصرا
وقال زيد بن أسلم : هي الحسنة الكلام . قرأ الجمهور بضم العين والراء . وقرأ حمزة ، وأبو بكر عن عاصم بإسكان الراء ، وهما لغتان في جمع فعول ، والأتراب : هنّ اللواتي على ميلاد واحد ، وسنّ واحد . وقال مجاهد : أتراباً أمثالاً وأشكالاً . وقال السديّ : أتراباً في الأخلاق لا تباغض بينهن ولا تحاسد . قوله : { لأصحاب اليمين } متعلق ب { أنشأناهنّ } ، أو بجعلنا ، أو ب { أتراباً } ، والمعنى : أن الله أنشأهنّ لأجلهم ، أو خلقهنّ لأجلهم ، أو هنّ مساويات لأصحاب اليمين في السنّ ، أو هو خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هنّ لأصحاب اليمين { ثُلَّةٌ مّنَ الأولين * وَثُلَّةٌ مّنَ الآخرين } هذا راجع إلى قوله : { وأصحاب اليمين مَا أصحاب اليمين } أي : هم ثلة من الأوّلين ، وثلة من الآخرين ، وقد تقدم تفسير الثلة عند ذكر السابقين ، والمعنى : أنهم جماعة ، أو أمة ، أو فرقة ، أو قطعة من الأوّلين ، وهم من لدن آدم إلى نبينا صلى الله عليه وسلم ، وجماعة ، أو أمة ، أو فرقة ، أو قطعة من الآخرين ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقال أبو العالية ، ومجاهد ، وعطاء بن أبي رباح ، والضحاك : { ثلة من الأوّلين } يعني : من سابقي هذه الأمة ، { وثلة من الآخرين } من هذه الأمة من آخرها . ثم لما فرغ سبحانه مما أعدّه لأصحاب اليمين شرع في ذكر أصحاب الشمال ، وما أعدّه لهم ، فقال : { وأصحاب الشمال مَا أصحاب الشمال } الكلام في إعراب هذا وما فيه من التفخيم ، كما سبق في أصحاب اليمين ، وقوله : { فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ } إما خبر ثان لأصحاب الشمال ، أو خبر مبتدأ محذوف ، والسموم : حرّ النار ، والحميم : الماء الحارّ الشديد الحرارة ، وقد سبق بيان معناه . وقيل : السموم : الريح الحارة التي تدخل في مسامّ البدن . { وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ } اليحموم يفعول من الأحم : وهو الأسود؛ والعرب تقول : أسود يحموم : إذا كان شديد السواد ، والمعنى : أنهم يفزعون إلى الظلّ ، فيجدونه ظلاً من دخان جهنم شديد السواد . وقيل : وهو مأخوذ من الحم ، وهو الشحم المسودّ باحتراق النار . وقيل : مأخوذ من الحمم ، وهو : الفحم .
قال الضحاك : النار سوداء ، وأهلها سود ، وكل ما فيها أسود . ثم وصف هذا الظلّ بقوله : { لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } ليس كغيره من الظلال التي تكون باردة ، بل هو حار لأنه من دخان نار جهنم . قال سعيد بن المسيب : { ولا كريم } أي : ليس فيه حسن منظر ، وكلّ ما لا خير فيه ، فليس بكريم ، وقال الضحاك : { ولا كريم } ، ولا عذب . قال الفراء : العرب تجعل الكريم تابعاً لكلّ شيء نفت عنه وصفاً تنوي به الذم ، تقول : ما هو بسمين ولا بكريم ، وما هذه الدار بواسعة ولا كريمة . ثم ذكر سبحانه أعمالهم التي استحقوا بها هذا العذاب فقال : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } وهذه الجملة تعليل لما قبلها ، أي : إنهم كانوا قبل هذا العذاب النازل بهم مترفين في الدنيا ، أي : منعمين بما لا يحل لهم ، والمترف : المتنعم . وقال السدي : مشركين ، وقيل : متكبرين ، والأوّل أولى . { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم } الحنث : الذنب ، أي : يصرون على الذنب العظيم . قال الواحدي : قال أهل التفسير : عني به الشرك أي : كانوا لا يتوبون عن الشرك . وبه قال الحسن ، والضحاك ، وابن زيد . وقال قتادة ، ومجاهد : هو الذنب العظيم الذي لا يتوبون عنه . وقال الشعبي : هو اليمين الغموس ، { وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ } الهمزة في الموضعين للإنكار والاستبعاد ، وقد تقدّم الكلام على هذا في الصافات ، وفي سورة الرعد . والمعنى : أنهم أنكروا واستبعدوا أن يبعثوا بعد الموت ، وقد صاروا عظاماً وتراباً ، والمراد : أنه صار لحمهم وجلودهم تراباً ، وصارت عظامهم نخرة بالية ، والعامل في الظرف ما يدلّ عليه مبعوثون؛ لأن ما بعد الاستفهام لا يعمل فيما قبله ، أي : أنبعث إذا متنا؟ إلخ { أَوَ ءابَاؤُنَا الأولون } معطوف على الضمير في { لمبعوثون } ؛ لوقوع الفصل بينهما بالهمزة . والمعنى : أن بعث آبائهم الأوّلين أبعد؛ لتقدّم موتهم ، وقرىء ، ( وآباؤنا ) . ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عليهم ويردّ استبعادهم فقال : { قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين * لَمَجْمُوعُونَ } أي : قل لهم يا محمد : إن الأوّلين من الأمم ، والآخرين منهم الذين أنتم من جملتهم لمجموعون بعد البعث { إلى ميقات يوم مَّعْلُوم } وهو يوم القيامة . { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون المكذبون } هذا وما بعده من جملة ما هو داخل تحت القول ، وهو معطوف على { إِنَّ الاولين } ، ووصفهم سبحانه بوصفين قبيحين ، وهما الضلال عن الحقّ والتكذيب له { لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ } أي : لآكلون في الآخرة من شجر كريه المنظر كريه الطعم . وقد تقدّم تفسيره في سورة الصافات ، و « من » الأولى لابتداء الغاية والثانية بيانية ، ويجوز أن تكون الأولى مزيدة والثانية بيانية ، وأن تكون الثانية مزيدة والأولى للابتداء . { فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون } أي : مالئون من شجر الزقوم بطونكم؛ لما يلحقكم من شدّة الجوع .
{ فشاربون عَلَيْهِ مِنَ الحميم } الضمير في { عليه } عائد إلى الزقوم ، والحميم : الماء الذي قد بلغ حرّه إلى الغاية ، والمعنى : فشاربون على الزقوم عقب أكله من الماء الحارّ ، ويجوز أن يعود الضمير إلى شجر؛ لأنه يذكر ويؤنث . ويجوز أن يعود إلى الأكل المدلول عليه بقوله : { لآكِلُونَ } . وقرىء : ( من شجرة ) بالإفراد . { فشاربون شُرْبَ الهيم } قرأ الجمهور : ( شرب الهيم ) بفتح الشين ، وقرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة بضمها . وقرأ مجاهد ، وأبو عثمان النهدي بكسرها ، وهي لغات . قال أبو زيد : سمعت العرب تقول بضم الشين وفتحها وكسرها . قال المبرد : الفتح على أصل المصدر ، والضم اسم المصدر ، والهيم : الإبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها . وهذه الجملة بيان لما قبلها ، أي : لا يكون شربكم شرباً معتاداً بل يكون مثل شرب الهيم التي تعطش ولا تروى بشرب الماء ، ومفرد الهيم أهيم ، والأنثى هيماء . قال قيس بن الملوّح :
يقال به داء الهُيَامِ أصابه ... وقد علمت نفسي مكان شفائيا
وقال الضحاك ، وابن عيينة ، والأخفش ، وابن كيسان : الهيم : الأرض السهلة ذات الرمل ، والمعنى : أنهم يشربون ، كما تشرب هذه الأرض الماء ، ولا يظهر له فيها أثره . قال في الصحاح : الهيام بالضم : أشد العطش ، والهيام كالجنون من العشق ، والهيام : داء يأخذ الإبل تهيم في الأرض لا ترعى ، يقال : ناقة هيماء ، والهيماء أيضاً : المفازة لا ماء بها ، والهيام بالفتح : الرمل الذي لا يتماسك في اليد للينه ، والجمع هيم مثل قذال وقذل ، والهيام بالكسر الإبل العطاش . { هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدين } قرأ الجمهور : { نزلهم } بضمتين ، وروي عن أبي عمرو ، وابن محيصن بضمة وسكون ، وقد تقدم أن النزل ما يعدّ للضيف ، ويكون أوّل ما يأكله ، ويوم الدين : يوم الجزاء ، وهو يوم القيامة ، والمعنى : أن ما ذكر من شجر الزقوم ، وشراب الحميم هو الذي يعدّ لهم ويأكلونه يوم القيامة ، وفي هذا تهكم بهم؛ لأن النزل هو ما يعدّ للأضياف تكرمة لهم ، ومثل هذا قوله : { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنشقاق : 24 ] .
وقد أخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي عن أبي أمامة قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : إن الله ينفعنا بالأعراب ومسائلهم ، أقبل أعرابيّ يوماً فقال : يا رسول الله ذكر في القرآن شجرة مؤذية ، وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذي صاحبها قال : « وما هي » ؟ قال : السدر ، فإن لها شوكاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أليس الله يقول : { فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } ؟ يخضد الله شوكه ، فيجعل مكان كل شوكة ثمرة ، فإنها تنبت ثمراً يتفتق الثمر منها عن اثنين وسبعين لوناً من الطعام ما منها لون يشبه الآخر » وأخرج ابن أبي داود ، والطبراني ، وأبو نعيم في الحلية ، وابن مردويه عن عيينة بن عبد السلمي قال : كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء أعرابي فقال : يا رسول الله أسمعك تذكر في الجنة شجرة لا أعلم شجرة أكثر شوكاً منها : يعني الطلح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« إن الله يجعل مكان كل شوكة منها ثمرة مثل خصية التيس الملبود - يعني : الخصيّ منها - فيها سبعون لوناً من الطعام لا يشبه لون آخر » وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } قال : خضده وقره من الحمل . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر من طرق عنه قال : المخضود الذي لا شوك فيه . وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً قال : المخضود الموقر الذي لا شوك فيه . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وهناد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب في قوله : { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } قال : هو الموز . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وهناد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر من طرق عن ابن عباس مثله . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر عن أبي هريرة مثله . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري مثله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب أنه قرأ ( وطلع منضود ) . وأخرج ابن جرير ، وابن الأنباري في المصاحف عن قيس بن عباد قال : قرأت على عليّ بن أبي طالب { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } فقال عليّ : ما بال الطلح ، أما تقرأ وطلع؟ ثم قال : { وطَلْعٌ نَّضِيدٌ } [ ق : 10 ] ، فقيل له : يا أمير المؤمنين أنحكها في المصحف؟ قال : لا يهاج القرآن اليوم . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { مَّنْضُودٍ } قال : بعضه على بعض . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ، اقرءوا إن شئتم { وَظِلّ مَّمْدُودٍ } » وأخرج البخاري ، وغيره نحوه من حديث أنس . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما نحوه من حديث أبي سعيد . وأخرج أحمد ، والترمذي وحسنه ، والنسائي ، وغيرهم عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ في قوله : { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } قال : « ارتفاعها ، كما بين السماء والأرض ، ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام » قال الترمذي بعد إخراجه : هذا حديث غريب لا نعرفة إلاّ من حديث رشدين بن سعد انتهى ، ورشدين ضعيف . وأخرج الفريابي ، وهناد ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { إِنَّا أنشأناهن إِنشَاء } قال : « إن المنشئات التي كنّ في الدنيا عجائز عمشاً رمصاً »
قال الترمذي بعد إخراجه : غريب ، وموسى ويزيد ضعيفان . وأخرج الطيالسي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، وابن قانع ، والبيهقي في البعث عن سلمة بن يزيد الجعفي سمعت النبيّ يقول في قوله : { إِنَّا أنشأناهن إِنشَاء } قال : « الثيب والأبكار اللاتي كنّ في الدنيا » وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال : خلقهنّ غير خلقهنّ الأوّل . وأخرج ابن أبي حاتم عنه : { أبكارا } قال : عذارى . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في البعث من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { عُرُباً } قال : عواشق { أَتْرَاباً } يقول : مستويات . وأخرج ابن أبي حاتم عنه : { عُرُباً } قال : عواشق لأزواجهنّ وأزواجهنّ لهنّ عاشقون { أَتْرَاباً } قال : في سنّ واحد ، ثلاثاً وثلاثين سنة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : العروب : المَلِقَة لزوجها . وأخرج مسدد في مسنده ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه بسند حسن عن أبي بكرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { ثُلَّةٌ مّنَ الأولين * وَثُلَّةٌ مّنَ الآخرين } قال : « جميعهما من هذه الأمة » وأخرج أبو داود الطيالسي ، ومسدّد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن أبي بكرة في قوله : { ثُلَّةٌ مّنَ الأولين * وَثُلَّةٌ مّنَ الآخرين } قال : هما جميعاً من هذه الأمة . وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن عدي ، وابن مردويه . قال السيوطي : بسند ضعيف عن ابن عباس في قوله : { ثُلَّةٌ مّنَ الأولين * وَثُلَّةٌ مّنَ الآخرين } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هما جميعاً من أمتي » وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : الثلتان جميعاً من هذه الأمة . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ } قال : من دخان أسود ، وفي لفظ : من دخان جهنم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { شُرْبَ الهيم } قال : الإبل العطاش .
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
قوله : { نَحْنُ خلقناكم فَلَوْلاَ تُصَدّقُونَ } التفت سبحانه إلى خطاب الكفرة تبكيتاً لهم ، وإلزاماً للحجة ، أي : فهلا تصدّقون بالبعث ، أو بالخلق . قال مقاتل : خلقناكم ولم تكونوا شيئًا ، وأنتم تعلمون ذلك ، فهلا تصدّقون بالبعث؟ { أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ } أي : ما تقذفون وتصبون في أرحام النساء من النطف ، ومعنى { أَفَرَءيْتُم } : أخبروني ، ومفعولها الأوّل { ما تمنون } ، والثاني الجملة الاستفهامية ، وهي { ءأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون } أي : تقدّرونه وتصوّرونه بشراً سوياً أم نحن المقدرون المصوّرون له ، و « أم » هي المتصلة ، وقيل : هي المنقطعة ، والأوّل أولى . قرأ الجمهور ( تمنون ) بضم الفوقية من أمنى يمني . وقرأ ابن عباس ، وأبو السماك ، ومحمد بن السميفع ، والأشهب العقيلي بفتحها من منى يمني ، وهما لغتان ، وقيل : معناهما مختلف ، يقال : أمنى إذا أنزل عن جماع ، ومنى إذا أنزل عن احتلام ، وسمي المنيّ منياً؛ لأنه يمني ، أي : يراق . { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } قرأ الجمهور { قدّرنا } بالتشديد ، وقرأ مجاهد ، وحميد ، وابن محيصن ، وابن كثير بالتخفيف ، وهما لغتان ، يقال : قدرت الشيء وقدّرته ، أي : قسمناه عليكم ، ووقتناه لكل فرد من أفرادكم ، وقيل : قضينا ، وقيل : كتبنا ، والمعنى متقارب . قال مقاتل : فمنكم من يموت كبيراً ، ومنكم من يموت صغيراً . وقال الضحاك : معناه أنه جعل أهل السماء وأهل الأرض فيه سواء { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } بمغلوبين ، بل قادرين . { على أَن نُّبَدّلَ أمثالكم } أي : نأتي بخلق مثلكم . قال الزجاج : إن أردنا أن نخلق خلقاً غيركم لم يسبقنا سابق ولا يفوتنا . قال ابن جرير : المعنى نحن قدّرنا بينكم الموت على أن نبدّل أمثالكم بعد موتكم بآخرين من جنسكم ، وما نحن بمسبوقين في آجالكم ، أي : لا يتقدّم متأخر ، ولا يتأخر متقدّم { وَنُنشِئَكُمْ فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ } من الصور والهيئات . قال الحسن أي : نجعلكم قردة وخنازير ، كما فعلنا بأقوام قبلكم ، وقيل المعنى : ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا . وقال سعيد بن المسيب : { فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ } يعني : في حواصل طيور سود تكون ببرهوت كأنها الخطاطيف ، وبرهوت واد باليمن . وقال مجاهد : { فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ } يعني : في أيّ خلق شئنا ، ومن كان قادراً على هذا فهو قادر على البعث { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى } وهي ابتداء الخلق من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة ، ولم تكونوا قبل ذلك شيئًا . وقال قتادة ، والضحاك : يعني : خلق آدم من تراب { فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } أي : فهلا تذكرون قدرة الله سبحانه على النشأة الأخيرة ، وتقيسونها على النشأة الأولى . قرأ الجمهور { النشأة } بالقصر ، وقرأ مجاهد ، والحسن ، وابن كثير ، وأبو عمرو بالمد ، وقد مضى تفسير هذا في سورة العنكبوت . { أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } أي : أخبروني ما تحرثون من أرضكم ، فتطرحون فيه البذر { ءأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ } أي : تنبتونه وتجعلونه زرعاً ، فيكون فيه السنبل والحبّ { أَمْ نَحْنُ الزرعون } أي : المنبتون له الجاعلون له زرعاً لا أنتم .
قال المبرد : يقال زرعه الله أي : أنماه ، فإذا أقررتم بهذا ، فكيف تنكرون البعث { لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حطاما } أي : لو نشاء لجعلنا ما تحرثون حطاماً ، أي : متحطماً متكسراً ، والحطام : الهشم الذي لا ينتفع به ، ولا يحصل منه حبّ ، ولا شيء مما يطلب من الحرث { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } أي : صرتم تعجبون . قال الفرّاء : تفكهون تتعجبون فيما نزل بكم في زرعكم . قال في الصحاح : وتفكه : تعجب ، ويقال : تندّم . قال الحسن ، وقتادة ، وغيرهما : معنى الآية : تعجبون من ذهابها ، وتندمون مما حلّ بكم . وقال عكرمة : تلاومون وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله . وقال أبو عمرو ، والكسائي : هو التلهف على ما فات . قرأ الجمهور { فظلتم } بفتح الظاء مع لام واحدة . وقرأ أبو حيوة ، وأبو بكر في رواية عنه بكسر الظاء . وقرأ ابن عباس ، والجحدري { فظللتم } بلامين : أولاهما مكسورة على الأصل ، وروي عن الجحدري فتحها ، وهي لغة . وقرأ الجمهور ( تفكهون ) وقرأ أبو حزام العكلي ( تفكنون ) بالنون مكان الهاء أي : تندمون . قال ابن خالويه : تفكه : تعجب ، وتفكن : تندم . وفي الصحاح التفكن : التندم { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } قرأ الجمهور بهمزة واحدة على الخبر ، وقرأ أبو بكر ، والمفضل ، وزرّ بن حبيش بهمزتين على الاستفهام ، والجملة بتقدير القول أي : تقولون إنا لمغرمون ، أي : ملزمون غرماً بما هلك من زرعنا ، والمغرم : الذي ذهب ماله بغير عوض ، قاله الضحاك ، وابن كيسان . وقيل المعنى : إنا لمعذبون ، قاله قتادة ، وغيره . وقال مجاهد ، وعكرمة : لمولع بنا ، ومنه قول النمر بن تولب :
سَلاَ عن تَذكَّره تكتما ... وكان رَهيناً بها مُغْرَمَاً
يقال : أغرم فلان بفلان ، أي : أولع . وقال مقاتل : مهلكون . قال النحاس : مأخوذ من الغرام ، وهو الهلاك ، ومنه قول الشاعر :
ويوم النسِّارِ ويومُ الجبار ... كان عليكم عذاباً مقيماً
والظاهر من السياق المعنى الأول ، أي : إنا لمغرمون بذهاب ما حرثناه ، ومصيره حطاماً ، ثم أضربوا عن قولهم هذا ، وانتقلوا فقالوا : { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي : حرمنا رزقنا بهلاك زرعنا ، والمحروم : الممنوع من الرزق الذي لا حظ له فيه ، وهو المحارف . { أَفَرَءيْتُمُ الماء الذى تَشْرَبُونَ } ، فتسكنون به ما يلحقكم من العطش ، وتدفعون به ما ينزل بكم من الظمأ . واقتصر سبحانه على ذكر الشرب مع كثرة فوائد الماء ومنافعه؛ لأنه أعظم فوائده ، وأجلّ منافعه { ءأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن } أي : السحاب . قال في الصحاح : قال أبو زيد : المزنة : السحابة البيضاء ، والجمع مزن ، والمزنة : المطر . قال الشاعر :
ألَمْ تَر أنَّ الله أنْزَلَ مُزْنَة ... وعُفُرُ الظِّبَاءِ في الكِنَاس تَقَمَّعُ
ومما يدل على أنه السحاب قول الشاعر :
فنحنُ كماءِ المزْنِ مافي نصابنا ... كَهَام ولا فينا يُعدّ بَخيلُ
وقول الآخر :
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها
{ أَمْ نَحْنُ المنزلون } له بقدرتنا دون غيرنا ، فإذا عرفتم ذلك ، فكيف لا تقرّون بالتوحيد ، وتصدّقون بالبعث . ثم بيّن لهم سبحانه أنه لو يشاء لسلبهم هذه النعمة فقال : { لَوْ نَشَاء جعلناه أُجَاجاً } الأجاج : الماء الشديد الملوحة الذي لا يمكن شربه ، وقال الحسن : هو الماء المرّ الذي لا ينتفعون به في شرب ، ولا زرع ، ولا غيرهما { فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } أي : فهلا تشكرون نعمة الله الذي خلق لكم ماءً عذباً تشربون منه وتنتفعون به { أَفَرَءيْتُمُ النار التى تُورُونَ } أي : أخبروني عنها ، ومعنى { تورون } : تستخرجونها بالقدح من الشجر الرطب ، يقال : أوريت النار إذا قدحتها { ءأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا } التي يكون منها الزنود ، وهي المرخ والعفار ، تقول العرب : في كل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار { أَمْ نَحْنُ المنشئون } لها بقدرتنا دونكم ، ومعنى الإنشاء : الخلق ، وعبر عنه بالإنشاء للدلالة على ما في ذلك من بديع الصنعة ، وعجيب القدرة . { نَحْنُ جعلناها تَذْكِرَةً } أي : جعلنا هذه النار التي في الدنيا تذكرة لنار جهنم الكبرى . قال مجاهد ، وقتادة : تبصرة للناس في الظلام ، وقال عطاء : موعظة ليتعظ بها المؤمن { ومتاعا لّلْمُقْوِينَ } أي : منفعة للذين ينزلون بالقواء ، وهي الأرض القفر كالمسافرين ، وأهل البوادي النازلين في الأراضي المقفرة ، يقال : أرض قواء بالمد والقصر ، أي : مقفرة ، ومنه قول النابغة :
يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقال عنترة :
حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم
وقول الآخر :
ألم تسأل الربع القواء فينطق ... وهل يخبرنك اليوم بيداء سملق
ويقال : أقوى إذا سافر ، أي : نزل القوى . وقال مجاهد : المقوين : المستمتعين بها من الناس أجمعين في الطبخ ، والخبز ، والاصطلاء ، والاستضاءة ، وتذكر نار جهنم . وقال ابن زيد : للجائعين في إصلاح طعامهم ، يقال : أقويت منذ كذا وكذا ، أي : ما أكلت شيئًا ، وبات فلان القوى ، أي : بات جائعاً ، ومنه قول الشاعر :
وإني لأختار القوى طاوي الحشا ... محافظة من أن يقال لئيم
وقال قطرب : القوى من الأضداد يكون بمعنى الفقر ، ويكون بمعنى الغنى؛ يقال : أقوى الرجل إذا لم يكن معه زاد ، وأقوى : إذا قويت دوابه وكثر ماله . وحكى الثعلبي عن أكثر المفسرين القول الأوّل ، وهو الظاهر { فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم } الفاء لترتيب ما بعدها من ذكر الله سبحانه ، وتنزيهه على ما قبلها مما عدّده من النعم التي أنعم بها على عباده ، وجحود المشركين لها ، وتكذيبهم بها .
وقد أخرج البزار ، وابن جرير ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي في الشعب ، وضعفه عن أبي هريرة . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يقولنّ أحدكم زرعت ، ولكن يقول حرثت » قال أبو هريرة : ألم تسمعوا الله يقول : { أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ . ءأَنتُمْ * تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزرعون } . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { تَفَكَّهُونَ } قال : تعجبون . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس . قال : { المزن } . السحاب . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس { نَحْنُ جعلناها تَذْكِرَةً } قال : تذكرة للنار الكبرى { ومتاعا لّلْمُقْوِينَ } قال : للمسافرين .
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ } ذهب جمهور المفسرين إلى أن « لا » مزيدة للتوكيد ، والمعنى : فأقسم ، ويؤيد هذا قوله بعد : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ } وقال جماعة من المفسرين : إنها للنفي ، وإن المنفيّ بها محذوف ، وهو كلام الكفار الجاحدين . قال الفراء : هي نفي ، والمعنى : ليس الأمر كما تقولون . ثم استأنف ، فقال : أقسم ، وضعف هذا بأن حذف اسم لا وخبرها غير جائز ، كما قال أبو حيان ، وغيره . وقيل : إنها لام الابتداء ، والأصل : فلا أقسم ، فأشبعت الفتحة ، فتولد منها ألف ، كقول الشاعر :
أعوذ بالله من العقراب . ... وقد قرأ هكذا : ( فلأقسم ) بدون ألف الحسن ، وحميد ، وعيسى بن عمر ، وعلى هذا القول ، وهذه القراءة يقدّر مبتدأ محذوف ، والتقدير : فلأنا أقسم بذلك . وقيل : إن لا هنا بمعنى ألا التي للتنبيه ، وهو بعيد . وقيل : لا هنا على ظاهرها ، وإنها لنفي القسم ، أي : فلا أقسم على هذا؛ لأن الأمر أوضح من ذلك ، وهذا مدفوع بقوله : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } مع تعيين المقسم به ، والمقسم عليه ، ومعنى قوله : { بمواقع النجوم } مساقطها ، وهي مغاربها كذا قال قتادة ، وغيره . وقال عطاء بن أبي رباح : منازلها . وقال الحسن : انكدارها وانتثارها يوم القيامة ، وقال الضحاك : هي الأنواء التي كان أهل الجاهلية يقولون مطرنا بنوء كذا . وقيل : المراد بمواقع النجوم : نزول القرآن نجوماً من اللوح المحفوظ ، وبه قال السديّ ، وغيره ، وحكى الفراء عن ابن مسعود أن مواقع النجوم هو محكم القرآن . قرأ الجمهور : { مواقع } على الجمع ، وقرأ ابن مسعود ، والنخعي ، وحمزة ، والكسائي ، وابن محيصن وورش عن يعقوب « بموقع » على الإفراد . قال المبرد : موقع هاهنا مصدر ، فهو يصلح للواحد والجمع . ثم أخبر سبحانه عن تعظيم هذا القسم وتفخيمه ، فقال : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } هذه الجملة معترضة بين المقسم به ، والمقسم عليه ، وقوله : { لَّوْ تَعْلَمُونَ } جملة معترضة بين جزأي الجملة المعترضة ، فهو اعتراض في اعتراض . قال الفراء ، والزجاج : هذا يدل على أن المراد بمواقع النجوم نزول القرآن ، والضمير في { إنه } على القسم الذي يدل عليه أقسم ، والمعنى أن القسم بمواقع النجوم لقسم عظيم لو تعلمون . ثم ذكر سبحانه المقسم عليه فقال : { إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ } أي : كرّمه الله وأعزّه ، ورفع قدره على جميع الكتب ، وكرّمه عن أن يكون سحراً أو كهانة أو كذباً ، وقيل : إنه كريم لما فيه من كرم الأخلاق ومعالي الأمور ، وقيل : لأنه يكرم حافظه ، ويعظم قارئه . وحكى الواحدي عن أهل المعاني أن وصف القرآن بالكريم لأن من شأنه أن يعطي الخير الكثير بالدلائل التي تؤدّي إلى الحق في الدين . قال الأزهري : الكريم اسم جامع لما يحمد ، والقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة .
{ فِى كتاب مَّكْنُونٍ } أي : مستور مصون ، وقيل : محفوظ عن الباطل ، وهو اللوح المحفوظ قاله جماعة ، وقيل : هو كتاب . وقال عكرمة : هو التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن ، ومن ينزل عليه ، وقال السديّ : هو الزبور . وقال مجاهد ، وقتادة : هو المصحف الذي في أيدينا . { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } قال الواحدي : أكثر المفسرين على أن الضمير عائد إلى الكتاب المكنون ، أي : لا يمس الكتاب المكنون إلاّ المطهرون ، وهم الملائكة وقيل : هم الملائكة والرسل من بني آدم ، ومعنى { لاَّ يَمَسُّهُ } : المسّ الحقيقي ، وقيل : معناه لا ينزل به إلاّ المطهرون ، وقيل : معناه لا يقرؤه ، وعلى كون المراد بالكتاب المكنون هو القرآن ، فقيل : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } من الأحداث والأنجاس . كذا قال قتادة ، وغيره : وقال الكلبي : المطهرون من الشرك . وقال الربيع بن أنس : المطهرون من الذنوب والخطايا . وقال محمد بن الفضل وغيره : معنى { لاَّ يَمَسُّهُ } : لا يقرؤه إلاّ المطهرون ، أي : إلاّ الموحدون . وقال الفراء : لا يجد نفعه وبركته إلاّ المطهرون ، أي : المؤمنون . وقال الحسين بن الفضل : لا يعرف تفسيره وتأويله إلاّ من طهره الله من الشرك والنفاق . وقد ذهب الجمهور إلى منع المحدث من مسّ المصحف ، وبه قال عليّ ، وابن مسعود ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، وعطاء ، والزهري ، والنخعي ، والحكم ، وحماد وجماعة من الفقهاء منهم مالك ، والشافعي . وروي عن ابن عباس ، والشعبي ، وجماعة منهم أبو حنيفة ، أنه يجوز للمحدث مسه ، وقد أوضحنا ما هو الحق في هذا في شرحنا للمنتقي ، فليرجع إليه . قرأ الجمهور : { المطهرون } بتخفيف الطاء وتشديد الهاء مفتوحة اسم مفعول . وقرأ سلمان الفارسي بكسر الهاء على أنه اسم فاعل ، أي : المطهرون أنفسهم . وقرأ نافع ، وابن عمر في رواية عنهما ، عيسى بن عمر بسكون الطاء وفتح الهاء خفيفة ، اسم مفعول من أطهر ، وقرأ الحسن ، وزيد بن عليّ ، وعبد الله بن عوف بتشديد الطاء وكسر الهاء ، وأصله المتطهرون { تَنزِيلٌ مّن رَّبّ العالمين } قرأ الجمهور بالرفع ، وقرىء بالنصب ، فالرفع على أنه صفة أخرى لقرآن ، أو خبر مبتدأ محذوف ، والنصب على الحال . { أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } الإشارة إلى القرآن المنعوت بالنعوت السابقة ، والمدهن والمداهن : المنافق . كذا قال الزجاج وغيره . وقال عطاء وغيره : هو الكذاب . وقال مقاتل بن سليمان ، وقتادة : مدهنون : كافرون ، كما في قوله : { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [ القلم : 9 ] وقال الضحاك : مدهنون . معرضون ، وقال مجاهد : ممالئون للكفار على الكفر ، وقال أبو كيسان : المدهن : الذي لا يعقل حق الله عليه ، ويدفعه بالعلل . والأوّل أولى؛ لأن أصل المدهن الذي ظاهره خلاف باطنه؛ كأنه يشبه الدهن في سهولته . قال المؤرج : المدهن المنافق الذي يلين جانبه؛ ليخفي كفره ، والإدهان والمداهنة : التكذيب ، والكفر ، والنفاق ، وأصله اللين ، وأن يسر خلاف ما يظهر ، وقال في الكشاف : مدهنون : أي : متهاونون به كمن يدهن في الأمر ، أي : يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاوناً به انتهى .
قال الراغب : والإدهان في الأصل مثل التدهين؛ لكن جعل عبارة عن المداراة والملاينة ، وترك الجدّ : كما جعل التقريد : وهو نزع القراد عبارة عن ذلك ، ويؤيد ما ذكره قول أبي قيس بن الأسلت :
الَحزْمُ والقُوّة خُيرٌ مِنَ ال ... إدهان والفهَّة والهَاعِ
{ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ } في الكلام مضاف محذوف ، كما حكاه الواحدي عن المفسرين ، أي : تجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون بنعمة الله ، فتضعون التكذيب موضع الشكر . وقال الهيثم : إن أزدشنوءة يقولون : ما رزق فلان ، أي : ما شكر؛ وعلى هذه اللغة لا يكون في الآية مضاف محذوف بل معنى الرزق الشكر . ووجه التعبير بالرزق عن الشكر أن الشكر يفيض زيادة الرزق ، فيكون الشكر رزقاً تعبيراً بالسبب عن المسبب ، ومما يدخل تحت هذه الآية قول الكفار إذا سقاهم الله ، وأنزل عليهم المطر : سقينا بنوء كذا ، ومطرنا بنوء كذا . قال الأزهري : معنى الآية : وتجعلون بدل شكركم رزقكم الذي رزقكم الله التكذيب بأنه من عند الله الرّزاق . وقرأ عليّ وابن عباس : ( وتجعلون شكركم ) وقرأ الجمهور { أنكم تكذبون } بالتشديد من التكذيب ، وقرأ عليّ ، وعاصم في رواية عنه بالتخفيف من الكذب { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم } أي : فهلا إذا بلغت الروح ، أو النفس الحلقوم عند الموت ، ولم يتقدّم لها ذكر؛ لأن المعنى مفهوم عندهم إذا جاءوا بمثل هذه العبارة ، ومنه قول حاتم طي :
أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
{ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } إلى ما هو فيه ذلك الذي بلغت نفسه أو روحه الحلقوم . قال الزجاج : وأنتم يا أهل الميت في تلك الحال ترون الميت قد صار إلى أن تخرج نفسه ، والمعنى : أنهم في تلك الحال لا يمكنهم الدفع عنه ، ولا يستطيعون شيئًا ينفعه ، أو يخفف عنه ما هو فيه { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } أي : بالعلم ، والقدرة ، والرؤية ، وقيل : أراد ورسلنا الذين يتولون قبضه أقرب إليه منكم { ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ } أي : لا تدركون ذلك؛ لجهلكم بأن الله أقرب إلى عبده من حبل الوريد ، أو لا تبصرون ملائكة الموت الذين يحضرون الميت ويتولون قبضه { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ . تَرْجِعُونَهَا } يقال : دان السلطان رعيته : إذا ساسهم واستعبدهم . قال الفراء : دنته : ملكته ، وأنشد للحطيئة :
لقد دنت أمر بنيك حتى ... تركتهم أدق من الطحين
أي : ملكت ، ويقال : دانه إذا أذله واستعبده ، وقيل : معنى { مدينين } : محاسبين ، وقيل : مجزيين ، ومنه قول الشاعر :
ولم يبق سوى العدوا ... ن دناهم كما دانوا
والمعنى الأوّل ألصق بمعنى الآية ، أي : فهلا إن كنتم غير مربوبين ومملوكين ترجعونها ، أي : النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مقرّها الذي كانت فيه { إِن كُنتُمْ صادقين } ولن ترجعوها ، فبطل زعمكم إنكم غير مربوبين ولا مملوكين ، والعامل في قوله : { إِذَا بَلَغَتِ } هو قوله : { تَرْجِعُونَهَا } ، و « لولا » الثانية تأكيد للأولى قال الفراء : وربما أعادت العرب الحرفين ومعناهما واحد .
ثم ذكر سبحانه طبقات الخلق عند الموت وبعده فقال : { فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين } أي : السابقين من الثلاثة الأصناف المتقدّم تفصيل أحوالهم { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّة وَنَعِيم } قرأ الجمهور { روح } بفتح الراء ، ومعناه : الراحة من الدنيا ، والاستراحة من أحوالها . وقال الحسن : الروح : الرحمة . وقال مجاهد : الروح : الفرح . وقرأ ابن عباس ، وعائشة ، والحسن ، وقتادة ، ونصر بن عاصم ، والجحدري : ( فروح ) بضم الراء ، ورويت هذه القراءة عن يعقوب ، قيل : ومعنى هذه القراءة : الرحمة لأنها كالحياة للمرحوم ، والريحان : الرزق في الجنة ، قاله مجاهد ، وسعيد بن جبير ، ومقاتل . قال مقاتل : هو الرزق بلغة حمير ، يقال : خرجت أطلب ريحان الله أي : رزقه ، ومنه قول النمر بن تولب :
سلام الإله وريحانه ... ورحمته وسماء درر
وقال قتادة : إنه الجنة . وقال الضحاك : هو الرحمة . وقال الحسن : هو الريحان المعروف الذي يشمّ . قال قتادة ، والربيع بن خيثم : هذا عند الموت ، والجنة مخبوءة له إلى أن يبعث ، وكذا قال أبو الجوزاء ، وأبو العالية ، ومعنى { وجنة نعيم } أنها ذات تنعم ، وارتفاع روح ، وما بعده على الابتداء ، والخبر محذوف أي : فله روح . { وَأَمَّا إِن كَانَ } ذلك المتوفى { مِنْ أصحاب اليمين } وقد تقدّم ذكرهم ، وتفصيل أحوالهم ، وما أعدّه الله لهم من الجزاء { فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين } أي : لست ترى فيهم إلاّ ما تحبّ من السلامة ، فلا تهتم بهم ، فإنه يسلمون من عذاب الله ، وقيل : المعنى : سلام لك منهم أي : أنت سالم من الاغتمام بهم ، وقيل المعنى : إنهم يدعون لك ، ويسلمون عليك ، وقيل : إنه صلى الله عليه وسلم يحيى بالسلام إكراماً ، وقيل : هو إخبار من الله سبحانه بتسليم بعضهم على بعض ، وقيل المعنى : سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين . { وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضالين } أي : المكذبين بالبعث الضالين عن الهدى ، وهم أصحاب الشمال المتقدّم ذكرهم ، وتفصيل أحوالهم . { فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ } أي : فله نزل يعدّ لنزوله من حميم ، وهو الماء الذي قد تناهت حرارته ، وذلك بعد أن يأكل من الزقوم كما تقدم بيانه : { وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } يقال : أصلاه النار وصلاه ، أي : إذا جعله في النار ، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول ، أو إلى المكان . قال المبرد : وجواب الشرط في هذه الثلاثة المواضع محذوف ، والتقدير : مهما يكن من شيء فروح . . . إلخ ، وقال الأخفش : إن الفاء في المواضع الثلاثة هي جواب أما ، وجواب حرف الشرط .
قرأ الجمهور : { وتصلية } بالرفع عطفاً على { فنزل } . وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بالجر عطفاً على { حميم } أي : فنزل من حميم ، ومن تصلية جحيم { إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين } الإشارة إلى ما ذكر في هذه السورة ، أو إلى المذكور قريباً من أحوال المتفرّقين لهو حق اليقين ، أي : محض اليقين وخالصه ، وإضافة حق إلى اليقين من باب إضافة الشيء إلى نفسه . قال المبرد : هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين ، هذا عند الكوفيين وجوّزوا ذلك؛ لاختلاف اللفظ؛ وأما البصريون ، فيجعلون المضاف إليه محذوفاً ، والتقدير : حق الأمر اليقين ، أو الخبر اليقين ، والفاء في : { فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم } لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : نزهه عما لا يليق بشأنه ، والباء متعلقة بمحذوف ، أي : فسبح ملتبساً باسم ربك للتبرك به ، وقيل المعنى : فصلّ بذكر ربك ، وقيل : الباء زائدة ، والاسم بمعنى الذات . وقيل : هي للتعدية؛ لأن سبح يتعدّى بنفسه تارة ، ويتعدّى بالحرف أخرى ، والأوّل أولى .
وقد أخرج النسائي ، وابن جرير ، ومحمد بن نصر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ، ثم فرّق في السنين ، وفي لفظ : ثم نزل من السماء الدنيا إلى الأرض نجوماً ، ثم قرأ : { فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، ومحمد بن نصر ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عنه { فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم } قال : القرآن { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } قال : القرآن . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال : نجوم القرآن حين ينزل . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في المعرفة من طرق عن ابن عباس أيضاً { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } قال : الكتاب المنزل في السماء لا يمسه إلاّ الملائكة . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر عن أنس { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } قال : الملائكة . وأخرج عبد الرّزاق ، وابن المنذر عن علقمة قال : أتينا سلمان الفارسي ، فخرج علينا من كنيف ، فقلنا له : لو توضأت يا أبا عبد الله ، ثم قرأت علينا سورة كذا ، وكذا ، قال : إنما قال الله : { فِى كتاب مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } وهو الذي في السماء لا يمسه إلاّ الملائكة ، ثم قرأ علينا من القرآن ما شئنا . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي داود ، وابن المنذر ، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه قال : في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم : « لا تمس القرآن إلاّ على طهر » وأخرجه مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر . وأخرجه أبو داود في المراسيل من حديث الزهري قال : قرأت في صحيفة عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" لا يمس القرآن إلاّ طاهر " وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم ، وعبد الله بن عمر ، وعثمان بن أبي العاص ، وفي أسانيدها نظر . وأخرج ابن المنذر عن ابن عمر أنه كان لا يمس المصحف إلاّ متوضئاً . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة في المصنف ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن زيد قال : كنا مع سلمان فانطلق إلى حاجة ، فتوارى عنا ، ثم خرج إلينا ، فقلنا : لو توضأت ، فسألناك عن أشياء من القرآن ، فقال : سلوني ، فإني لست أمسه إنما يمسه المطهرون ، ثم تلا : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يمس القرآن إلاّ طاهر " وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن كتب له في عهده : " أن لا يمس القرآن إلاّ طاهر " وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } قال : مكذبون . وأخرج مسلم ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر " ، قالوا : هذه رحمة وضعها الله . وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا ، وكذا ، فنزلت هذه الآية : { فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم } حتى بلغ { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ } وأصل الحديث بدون ذكر أنه سبب نزول الآية ثابت في الصحيحين من حديث زيد بن خالد الجهني ، ومن حديث أبي سعيد الخدري ، وفي الباب أحاديث . وأخرج أحمد ، وابن منيع ، وعبد بن حميد ، والترمذي وحسنه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة عن عليّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ } قال : شكركم ، تقولون : " مطرنا بنوء كذا ، وكذا ، وبنجم كذا وكذا " وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن عائشة قالت : ما فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن إلاّ آيات يسيرة . قوله { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ } قال : «شكركم» . وأخرج ابن مردويه عن عليّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : " وتجعلون شكركم " . وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يقرأ : ( وتجعلون شكركم ) قال : يعني : الأنواء ، وما مطر قوم إلاّ أصبح بعضهم كافراً كانوا ، يقولون مطرنا بنوء كذا ، وكذا ، فأنزل الله : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ } .
وأخرج ابن مردويه عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عليّ أنه قرأ : ( وتجعلون شكركم ) وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كذلك . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله . { غَيْرَ مَدِينِينَ } قال : غير محاسبين . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن الربيع بن خيثم { فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين } الآية قال : هذا له عند الموت { وَجَنَّة نَعِيم } تخبأ له الجنة إلى يوم يبعث { وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضالين * فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ } قال : هذا عند الموت { وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } قال : تخبأ له الجحيم إلى يوم يبعث . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { فَرَوْحٌ } قال : رائحة { وَرَيْحَانٌ } قال : استراحة . وأخرج ابن جرير عنه قال : يعني بالريحان : المستريح من الدنيا { وَجَنَّة نَعِيم } يقول : مغفرة ورحمة . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال : الريحان : الرزق . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً في قوله { فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين } قال : تأتيه الملائكة بالسلام من قبل الله تسلم عليه ، وتخبره أنه من أصحاب اليمين . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً { إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين } قال : ما قصصنا عليك في هذه السورة . وأخرج عنه أيضاً { فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم } قال : فصلّ لربك . وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، وأبو داود ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن عقبة بن عامر الجهني قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم } قال : « اجعلوها في ركوعكم » ، فلما نزلت { سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى } [ الأعلى : 1 ] قال : « اجعلوها في سجودكم » .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
قوله : { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السموات والأرض } أي : نزّهه ومجده . قال المقاتلان : يعني كل شيء من ذي روح وغيره ، وقد تقدّم الكلام في تسبيح الجمادات عند تفسير قوله : { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] والمراد بالتسبيح المسند إلى ما في السموات والأرض من العقلاء وغيرهم ، والحيوانات والجمادات هو ما يعم التسبيح بلسان المقال كتسبيح الملائكة والإنس والجنّ ، وبلسان الحال كتسبيح غيرهم ، فإن كل موجود يدل على الصانع . وقد أنكر الزجاج أن يكون تسبيح غير العقلاء هو تسبيح الدلالة وقال : لو كان هذا تسبيح الدلالة ، وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة ، فلم قال : { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } وإنما هو تسبيح مقال ، واستدل بقوله : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الجبال يُسَبّحْنَ } [ الأنبياء : 79 ] فلو كان هذا التسبيح من الجبال تسبيح دلالة لم يكن لتخصيص داود فائدة ، وفعل التسبيح قد يتعدّى بنفسه تارة ، كما في قوله : { وَسَبّحُوهُ } [ الأحزاب : 42 ] وباللام أخرى كهذه الآية ، وأصله أن يكون متعدياً بنفسه؛ لأن معنى سبحته : بعدته عن السوء ، فإذا استعمل باللام ، فهي إما مزيدة للتأكيد ، كما في شكرته ، وشكرت له ، أو هي للتعليل ، أي : افعل التسبيح؛ لأجل الله سبحانه خالصاً له ، وجاء هذا الفعل في بعض الفواتح ماضياً كهذه الفاتحة ، وفي بعضها مضارعاً ، وفي بعضها أمراً للإشارة إلى أن هذه الأشياء مسبحة في كل الأوقات لا يختصّ تسبيحها بوقت دون وقت ، بل هي مسبحة أبداً في الماضي ، وستكون مسبحة أبداً في المستقبل ، { وَهُوَ العزيز } أي : القادر الغالب الذي لا ينازعه أحد ، ولا يمانعه ممانع كائناً ما كان { الحكيم } الذي يفعل أفعال الحكمة والصواب . { لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض } يتصرّف فيه وحده ، ولا ينفذ غير تصرّفه وأمره ، وقيل : أراد خزائن المطر والنبات ، وسائر الأرزاق { يحيى ويميت } الفعلان في محل رفع على أنهما خبر لمبتدأ محذوف ، أو في محل نصب على الحال من ضمير له ، أو كلام مستأنف ، لبيان بعض أحكام الملك ، والمعنى : أنه يحيي في الدنيا ويميت الأحياء ، وقيل : يحيي النطف وهي موات ، ويميت الأحياء ، وقيل : يحيي الأموات للبعث { وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } لا يعجزه شيء كائناً ما كان . { هُوَ الاول } قبل كل شيء { والآخر } بعد كل شيء ، أي : الباقي بعد فناء خلقه { والظاهر } العالي الغالب على كل شيء ، أو الظاهر وجوده بالأدلة الواضحة { والباطن } أي : العالم بما بطن ، من قولهم : فلان يبطن أمر فلان ، أي : يعلم داخلة أمره ، ويجوز أن يكون المعنى المحتجب عن الأبصار ، والعقول ، وقد فسّر هذه الأسماء الأربعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما سيأتي ، فيتعين المصير إلى ذلك { وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } لا يعزب عن علمه شيء من المعلومات .
{ هُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } هذا بيان لبعض ملكه للسموات والأرض . وقد تقدّم تفسيره في سورة الأعراف وفي غيرها مستوفي { يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الارض } أي : يدخل فيها من مطر وغيره { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من نبات وغيره { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء } من مطر وغيره { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } أي : يصعد إليها من الملائكة ، وأعمال العباد ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة سبأ { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ } أي : بقدرته ، وسلطانه ، وعلمه ، وهذا تمثيل للإحاطة بما يصدر منهم أينما داروا في الأرض من برّ وبحر { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } لا يخفى عليه من أعمالكم شيء { لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض } هذا التكرير للتأكيد { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } لا إلى غيره . قرأ الجمهور { ترجع } مبنياً للمفعول . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وابن عامر على البناء للفاعل . { يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل } قد تقدّم تفسير هذا في سورة آل عمران ، وفي مواضع { وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي : بضمائر الصدور ومكنوناتها ، لا يخفى عليه من ذلك خافية .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، ومسلم ، والترمذي ، والبيهقي ، عن أبي هريرة قال : جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً ، فقال : قولي : « اللَّهمّ ربّ السموات السبع ، ورب العرش العظيم ، وربنا وربّ كل شيء ، منزل التوراة والإنجيل والفرقان ، فالق الحبّ والنوى ، أعوذ بك من شرّ كل شيء أنت آخذ بناصيته ، أنت الأول ، فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر ، فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر ، فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن ، فليس دونك شيء ، اقض عنا الدين ، وأغننا من الفقر » وأخرج أحمد ، ومسلم ، وغيرهما من حديث أبي هريرة من وجه آخر مرفوعاً مثل هذا في الأربعة الأسماء المذكورة ، وتفسيرها . وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر وأبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يزال الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا : هذا الله كان قبل كل شيء ، فماذا كان قبل الله؟ فإن قالوا لكم ذلك ، فقولوا : هو الأوّل قبل كل شيء ، والآخر فليس بعده شيء ، وهو الظاهر فوق كل شيء ، وهو الباطن دون كل شيء ، وهو بكل شيء عليم » وأخرج أبو داود عن أبي زميل قال : سألت ابن عباس ، فقلت : ما شيء أجده في صدري ، قال ما هو؟ قلت : والله لا أتكلم به ، قال : فقال لي : أشيء من شك؟ قال ، وضحك ، قال : ما نجا من ذلك أحد ، قال : حتى أنزل الله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ } الآية [ يونس : 94 ] قال : وقال لي : إذا وجدت في نفسك شيئًا فقل : { هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن ، وهو بكل شيء عليم } . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ } قال : عالم بكم أينما كنتم .
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
قوله : { آمنوا بالله وَرَسُولِهِ } أي : صدقوا بالتوحيد ، وبصحة الرسالة ، وهذا خطاب لكفار العرب . ويجوز أن يكون خطاباً للجميع ، ويكون المراد بالأمر بالإيمان في حق المسلمين الاستمرار عليه ، أو الازدياد منه . ثم لما أمرهم بالإيمان أمرهم بالإنفاق في سبيل الله ، فقال : { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } أي : جعلكم خلفاء في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة ، فإن المال مال الله ، والعباد خلفاء الله في أمواله ، فعليهم أن يصرفوها فيما يرضيه ، وقيل : جعلكم خلفاء من كان قبلكم ممن ترثونه ، وسينتقل إلى غيركم ممن يرثكم ، فلا تبخلوا به . كذا قال الحسن وغيره . وفيه الترغيب إلى الإنفاق في سبيل الخير قبل أن ينتقل عنهم ، ويصير إلى غيرهم . والظاهر أن معنى الآية الترغيب في الإنفاق في الخير ، وما يرضاه الله على العموم ، وقيل : هو خاص بالزكاة المفروضة ، ولا وجه لهذا التخصيص . ثم ذكر سبحانه ثواب من أنفق في سبيل الله فقال : { فالذين ءامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } أي : الذين جمعوا بين الإيمان بالله ورسوله ، وبين الإنفاق في سبيل الله لهم أجر كبير ، وهو الجنة . { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله } هذا الاستفهام ، للتوبيخ والتقريع ، أي : أيّ عذر لكم ، وأيّ مانع من الإيمان ، وقد أزيحت عنكم العلل ، و { ما } مبتدأ ، و { لكم } خبره ، و { لا تؤمنون } في محل نصب على الحال من الضمير في { لكم } ، والعامل ما فيه من معنى الاستقرار ، وقيل : المعنى : أي شيء لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا؟ وجملة : { والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ } في محل نصب على الحال من ضمير لا تؤمنون على التداخل ، ولتؤمنوا متعلق بيدعوكم ، أي : يدعوكم للإيمان ، والمعنى : أيّ عذر لكم في ترك الإيمان ، والرسول يدعوكم إليه ، وينبهكم عليه؟ وجملة : { وَقَدْ أَخَذَ ميثاقكم } في محل نصب على الحال من فاعل يدعوكم على التداخل أيضاً ، أي : والحال أن قد أخذ الله ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر أبيكم آدم ، أو بما نصب لكم من الأدلة الدالة على التوحيد ، ووجوب الإيمان . قرأ الجمهور : { وقد أخذ } مبنياً للفاعل ، وهو الله سبحانه لتقدم ذكره . وقرأ أبو عمرو على البناء للمفعول . { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } بما أخذ عليكم من الميثاق ، أو بالحجج والدلائل ، أو إن كنتم مؤمنين بسبب من الأسباب ، فهذا من أعظم أسبابه وأوضح موجباته . { هُوَ الذى يُنَزّلُ على عَبْدِهِ ءايات بينات } أي : واضحات ظاهرات ، وهي الآيات القرآنية ، وقيل : المعجزات والقرآن أعظمها { لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظلمات إِلَى النور } أي : ليخرجكم الله بتلك الآيات من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان ، أو ليخرجكم الرسول بتلك الآيات ، أو بالدعوة { وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } أي : لكثير الرأفة والرحمة بليغهما حيث أنزل كتبه ، وبعث رسله لهداية عباده ، فلا رأفة ولا رحمة أبلغ من هذه ، والاستفهام في قوله : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله } .
للتقريع والتوبيخ ، والكلام في إعراب هذا كالكلام في إعراب قوله { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله } وفي هذه الآية دليل على أن الإنفاق المأمور به في قوله { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } هو الإنفاق في سبيل الله ، كما بينا ذلك ، والمعنى : أيّ عذر لكم ، وأيّ شيء يمنعكم من ذلك ، والأصل في أن لا تنفقوا ، وقيل : إن « أن » زائدة ، وجملة { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض } في محل نصب على الحال من فاعل { أَلاَّ تُنفِقُواْ } أو من مفعوله ، والمعنى : أيّ شيء يمنعكم من الإنفاق في ذلك الوجه ، والحال أن كل ما في السموات والأرض راجع إلى الله سبحانه بانقراض العالم كرجوع الميراث إلى الوارث ، ولا يبقى لهم منه شيء ، وهذا أدخل في التوبيخ ، وأكمل في التقريع ، فإن كون تلك الأموال تخرج عن أهلها ، وتصير لله سبحانه ، ولا يبقى أحد من مالكيها أقوى في إيجاب الإنفاق عليهم من كونها لله في الحقيقة ، وهم : خلفاؤه في التصرّف فيها . ثم بيّن سبحانه فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله ، فقال : { لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح } قيل : المراد بالفتح : فتح مكة ، وبه قال أكثر المفسرين . وقال الشعبي ، والزهري : فتح الحديبية ، قال قتادة : كان قتالان ، أحدهما أفضل من الآخر ، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى ، كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك ، وكذا قال مقاتل وغيره ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : لا يستوي من أنفق من قبل الفتح { وقاتل } ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل ، فحذف لظهوره ، ولدلالة ما سيأتي عليه ، وإنما كانت النفقة والقتال قبل الفتح أفضل من النفقة والقتال بعد الفتح؛ لأن حاجة الناس كانت إذ ذاك أكثر ، وهم أقلّ وأضعف ، وتقديم الإنفاق على القتال للإيذان بفضيلة الإنفاق لما كانوا عليه من الحاجة ، فإنهم كانوا يجودون بأنفسهم ، ولا يجدون ما يجودون به من الأموال .
والجود بالنفس أقصى غاية الجود ... والإشارة بقوله : { أولئك } إلى « من » باعتبار معناها ، وهو مبتدأ وخبره { أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وقاتلوا } أي : أرفع منزلة وأعلا رتبة من الذين أنفقوا أموالهم في سبيل الله من بعد الفتح ، وقاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عطاء : درجات الجنة تتفاضل ، فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها . قال الزجاج : لأن المتقدّمين نالهم من المشقة أكثر مما نال من بعدهم ، وكانت بصائرهم أيضاً أنفذ .
وقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى هذه الفضيلة بقوله فيما صحّ عنه :
« لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه » وهذا خطاب منه صلى الله عليه وسلم للمتأخرين وصحبه ، كما يرشد إلى ذلك السبب الذي ورد فيه هذا الحديث { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } أي : وكل واحد من الفريقين وعد الله المثوبة الحسنى ، وهي الجنة مع تفاوت درجاتهم فيها . قرأ الجمهور { وكلاً } بالنصب على أنه مفعول به للفعل المتأخر . وقرأ ابن عامر بالرفع على الابتداء ، والجملة بعده خبره ، والعائد محذوف ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، ومثل هذا قول الشاعر :
قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي ... عليّ ذنباً كله لم أصنع
{ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } لا يخفى عليه من ذلك شيء . ثم رغب سبحانه في الصدقة فقال : { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا } أي : من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله ، فإنه كمن يقرضه ، والعرب تقول لكل من فعل فعلاً حسناً قد أقرض ، ومنه قول الشاعر :
وإذا جوزيت قرضاً فأجزه ... إنما يجزى الفتى ليس الجمل
قال : الكلبي { قَرْضًا } أي : صدقة { حَسَنًا } أي : محتسباً من قلبه بلا منّ ولا أذى . قال مقاتل : حسناً ، طيبة به نفسه ، وقد تقدّم تفسير الآية في سورة البقرة { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } قرأ ابن عامر ، وابن كثير : ( فيضعفه ) بإسقاط الألف إلاّ أن ابن عامر ويعقوب نصبوا الفاء ، وقرأ نافع ، وأهل الكوفة ، والبصرة ، { فيضاعفه } بالألف وتخفيف العين إلاّ أن عاصماً نصب الفاء ، ورفع الباقون . قال ابن عطية : الرفع على العطف على { يقرض } ، أو الاستئناف والنصب لكون الفاء في جواب الاستفهام . وضعف النصب أبو عليّ الفارسي قال؛ لأن السؤال لم يقع عن القرض ، وإنما وقع عن فاعل القرض ، وإنما تنصب الفاء فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه ، لكن هذه الفرقة حملت ذلك على المعنى؛ كأن قوله : { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله } بمنزلة قوله أيقرض الله أحد { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } وهو الجنة ، والمضاعفة هنا هي كون الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف على اختلاف الأحوال والأشخاص والأوقات .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حتى إذا كنا بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يوشك أن يأتي قوم يحقرون أعمالكم مع أعمالهم » ، قلنا من هم يا رسول الله؟ أقريش؟ قال : « لا ، ولكنهم أهل اليمن ، هم : أرقّ أفئدة ، وألين قلوباً » فقلنا : أهم خير منا يا رسول الله؟ قال : « لو كان لأحدهم جبل من ذهب ما أدرك مدّ أحدكم ، ولا نصيفه ، إلاّ أن هذا فصل ما بيننا وبين الناس : { لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل } »
الآية وهذا الحديث قال ابن كثير : هو غريب بهذا الإسناد ، وقد رواه ابن جرير ، ولم يذكر فيه الحديبية . وأخرج أحمد عن أنس قال : كان بين خالد بن الوليد ، وبين عبد الرحمن بن عوف كلام ، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها؟ فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : « دعوا لي أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهباً ما بلغتم أعمالهم » والذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ « لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه » وفي لفظ « ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه » أخرج هذا الحديث البخاري ، ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري . وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال : لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره .
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
قوله : { يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات } العامل في الظرف مضمر وهو اذكر ، أو كريم ، أو فيضاعفه ، أو العامل في لهم ، وهو الاستقرار ، والخطاب لكل من يصلح له ، وقوله { يسعى نُورُهُم } في محل نصب على الحال من مفعول ترى ، والنور هو الضياء الذي يرى { بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم } وذلك على الصراط يوم القيامة ، وهو دليلهم إلى الجنة . قال قتادة : إن المؤمن يضيء له نور كما بين عدن إلى صنعاء ، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء له نوره إلاّ موضع قدميه . وقال الضحاك ، ومقاتل : وبأيمانهم : كتبهم التي أعطوها ، فكتبهم بأيمانهم ، ونورهم بين أيديهم ، قال الفراء : الباء بمعنى « في » : أي في أيمانهم ، أو بمعنى « عن » ، قال الضحاك أيضاً : نورهم : هداهم ، وبأيمانهم : كتبهم ، واختار هذا ابن جرير الطبري ، أي : يسعى أيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم ، وفي أيمانهم كتب أعمالهم . قرأ الجمهور : { بأيمانهم } جمع يمين . وقرأ سهل بن سعد الساعديّ ، وأبو حيوة : ( بإيمانهم ) بكسر الهمزة على أن المراد بالإيمان ضدّ الكفر ، وقيل : هو القرآن ، والجار والمجرور في الموضعين في محل نصب على الحال من نورهم ، أي : كائناً بين أيديهم وبأيمانهم { بُشْرَاكُمُ اليوم جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا } بشراكم مبتدأ ، وخبره جنات على تقدير مضاف ، أي : دخول جنات ، والجملة مقول قول مقدّر ، أي : يقال لهم هذا ، والقائل لهم هم الملائكة . قال مكيّ : وأجاز الفراء نصب جنات على الحال ، ويكون اليوم خبر بشراكم ، وهذا بعيد جداً { خالدين فِيهَا } حال مقدّرة ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى النور والبشرى ، وهو مبتدأ ، وخبره { هُوَ الفوز العظيم } أي : لا يقادر قدره حتى كأنه لا فوز غيره ، ولا اعتداد بما سواه . { يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات } { يوم } بدل من { يوم } الأوّل ، ويجوز أن يكون العامل فيه : { الفوز العظيم } ، ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مقدّر ، أي : اذكر { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } اللام للتبليغ كنظائرها . قرأ الجمهور { انظرونا } أمراً بوصل الهمزة وضم الظاء من النظر بمعنى الانتظار ، أيّ : انتظرونا . يقولون ذلك لما رأوا المؤمنين يسرع بهم إلى الجنة . وقرأ الأعمش ، وحمزة ، ويحيى بن وثاب بقطع الهمزة وكسر الظاء من الإنظار ، أي : أمهلونا ، وأخرونا ، يقال : أنظرته واستنظرته ، أي : أمهلته واستمهلته . قال الفراء : تقول العرب أنظرني ، أي : انتظرني ، وأنشد قول عمرو بن كلثوم :
أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا
وقيل : معنى انظرونا : انظروا إلينا؛ لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم ، فيستضيئون بنورهم { نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } أي : نستضيء منه ، والقبس : الشعلة من النار والسراج ، فلما قالوا ذلك { قِيلَ ارجعوا وَرَاءكُمْ } أي : قال لهم المؤمنون ، أو الملائكة زجراً لهم ، وتهكماً بهم ، أي : ارجعوا وراءكم إلى الموضع الذي أخذنا منه النور { فالتمسوا نُوراً } أي : اطلبوا هنالك نوراً لأنفسكم ، فإنه من هنالك يقتبس ، وقيل : المعنى : ارجعوا إلى الدنيا ، فالتمسوا النور بما التمسناه به من الإيمان ، والأعمال الصالحة ، وقيل : أرادوا بالنور ما وراءهم من الظلمة تهكماً بهم : { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ } السور : هو الحاجز بين الشيئين ، والمراد به هنا الحاجز بين الجنة والنار ، أو بين أهل الجنة وأهل النار .
قال الكسائي : والباء في بسور زائدة . ثم وصف سبحانه السور المذكور فقال : { لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة } أي : باطن ذلك السور؛ وهو الجانب الذي يلي أهل الجنة فيه الرّحمة : وهي الجنة { وظاهره } وهو الجانب الذي يلي أهل النار { مِن قِبَلِهِ العذاب } أي : من جهته عذاب جهنم ، وقيل : إن المؤمنين يسبقونهم فيدخلون الجنة ، والمنافقون يحصلون في العذاب وبينهم السور ، وقيل : إن الرّحمة التي في باطنه : نور المؤمنين ، والعذاب الذي في ظاهره : ظلمة المنافقين . ولما ضرب بالسور بين المؤمنين والمنافقين أخبر الله سبحانه عما قاله المنافقون إذ ذاك ، فقال : { ينادونهم أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } أي : موافقين لكم في الظاهر نصلي بصلاتكم في مساجدكم ، ونعمل بأعمال الإسلام مثلكم ، والجملة مستأنفة كأنه قيل : فماذا قال المنافقون بعد ضرب السور بينهم وبين المؤمنين؟ فقال : { ينادونهم } ، ثم أخبر سبحانه عما أجابهم به المؤمنون فقال : { قَالُواْ بلى } أي : كنتم معنا في الظاهر { ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } بالنفاق وإبطان الكفر ، قال مجاهد : أهلكتموها بالنفاق ، وقيل : بالشهوات واللذات { وَتَرَبَّصْتُمْ } بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبمن معه من المؤمنين حوادث الدّهر ، وقيل : تربصتم بالتوبة ، والأوّل أولى { وارتبتم } أي : شككتم في أمر الدين ولم تصدّقوا ما نزل من القرآن ، ولا بالمعجزات الظاهرة { وَغرَّتْكُمُ الأمانى } الباطلة التي من جملتها ما كنتم فيه من التربص ، وقيل : هو طول الأمل ، وقيل : ما كانوا يتمنونه من ضعف المؤمنين ، وقال قتادة : الأمانيّ هنا : غرور الشيطان ، وقيل : الدنيا ، وقيل : هو طمعهم في المغفرة ، وكل هذه الأشياء تدخل في مسمى الأمانيّ { حتى جَاء أَمْرُ الله } وهو الموت ، وقيل : نصره سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم . وقال قتادة : هو إلقاؤهم في النار { وَغَرَّكُم بالله الغرور } قرأ الجمهور { الغرور } بفتح الغين ، وهو صفة على فعول ، والمراد به : الشيطان : أي خدعكم بحلم الله ، وإمهاله الشيطان . وقرأ أبو حيوة ، ومحمد بن السميفع ، وسماك بن حرب بضمها ، وهو مصدر . { فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ } تفدون بها أنفسكم من النار أيها المنافقون { وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ } بالله ظاهراً وباطناً { مَأْوَاكُمُ النار } أي : منزلكم الذي تأوون إليه النار { هِىَ مولاكم } أي : هي أولى بكم ، والمولى في الأصل من يتولى مصالح الإنسان ، ثم استعمل فيمن يلازمه ، وقيل : معنى { مولاكم } : مكانكم عن قرب ، من الولي ، وهو القرب .
وقيل : إن الله يركب في النار الحياة والعقل ، فهي تتميز غيظاً على الكفار ، وقيل المعنى : هي ناصركم على طريقة قول الشاعر :
تحية بينهم ضرب وجيع ... { وَبِئْسَ المصير } الذي تصيرون إليه وهو النار .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود { يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } قال : يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرّون على الصراط ، منهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من نوره مثل النخلة ، وأدناهم نوراً من نوره على إبهامه يطفأ مرّة ، ويوقد أخرى . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال : بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نوراً ، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه ، وكان النور دليلهم من الله إلى الجنة ، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا إلى النور تبعوهم ، فأظلم الله على المنافقين ، فقالوا حينئذ : { انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } فإنا كنا معكم في الدنيا ، قال المؤمنون : { ارجعوا وَرَاءكُمْ } من حيث جئتم من الظلمة { فالتمسوا } هنالك النور . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم ستراً منه على عباده ، وأما عند الصراط ، فإن الله يعطى كل مؤمن نوراً ، وكل منافق نوراً ، فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات ، فقال المنافقون : { انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } وقال المؤمنون : { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } [ التحريم : 8 ] فلا يذكر عند ذلك أحد أحداً » وفي الباب أحاديث وآثار . وأخرج عبد بن حميد عن عبادة بن الصامت : أنه كان على سور بيت المقدس ، فبكى ، فقيل له : ما يبكيك؟ فقال : هاهنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : إن السور الذي ذكره الله في القرآن { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ } هو : السور الذي ببيت المقدس الشرقي { بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة } المسجد { وظاهره مِن قِبَلِهِ العذاب } يعني : وادي جهنم ، وما يليه .
ولا يخفاك أن تفسير السور المذكور في القرآن في هذه الآية بهذا السور الكائن ببيت المقدس فيه من الإشكال ما لا يدفعه مقال ، ولا سيما بعد زيادة قوله : { باطنة فيه الرّحمة } المسجد ، فإن هذا غير ما سيقت له الآية ، وغير ما دلت عليه ، وأين يقع بيت المقدس أو سوره بالنسبة إلى السور الحاجز بين فريقي المؤمنين والمنافقين ، وأيّ معنى لذكر مسجد بيت المقدس هاهنا ، فإن كان المراد أن الله سبحانه ينزع سور بيت المقدس ، ويجعله في الدار الآخرة سوراً مضروباً بين المؤمنين والمنافقين ، فما معنى تفسير باطن السور ، وما فيه من الرّحمة بالمسجد ، وإن كان المراد : أن الله يسوق فريقي المؤمنين والمنافقين إلى بيت المقدس ، فيجعل المؤمنين داخل السور في المسجد ، ويجعل المنافقين خارجه ، فهم إذ ذاك على الصراط وفي طريق الجنة ، وليسوا ببيت المقدس ، فإن كان مثل هذا التفسير ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلناه ، وآمنا به ، وإلاّ فلا كرامة ولا قبول .
وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } قال : بالشهوات واللذات { وَتَرَبَّصْتُمْ } قال : بالتوبة { وَغرَّتْكُمُ الأمانى حتى جَاء أَمْرُ الله } قال : الموت { وَغَرَّكُم بالله الغرور } قال : الشيطان .
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
قوله : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } يقال : أنى لك يأني أنى : إذا حان . قرأ الجمهور { ألم يأن } وقرأ الحسن ، وأبو السماك : ( ألما يأن ) ، وأنشد ابن السكيت :
ألما يأن لي أن تجلى عمايتي ... وأقصر عن ليلى؟ بلى قد أنى ليا
و { أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ } فاعل يأن ، أي : ألم يحضر خشوع قلوبهم ويجيء وقته ، ومنه قول الشاعر :
ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا ... وأن يحدث الشيب المنير لنا عقلا؟
هذه الآية نزلت في المؤمنين . قال الحسن : يستبطئهم ، وهم أحبّ خلقه إليه . وقيل : إن الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد . قال الزجاج : نزلت في طائفة من المؤمنين ، حثوا على الرّقة والخشوع ، فأما من وصفهم الله بالرّقة والخشوع ، فطبقة فوق هؤلاء . وقال السديّ وغيره : المعنى : ألم يأن للذين آمنوا في الظاهر ، وأسرّوا الكفر أن تخشع قلوبهم { لِذِكْرِ الله } ، وسيأتي في آخر البحث ما يقوّي قول من قال إنها نزلت في المسلمين ، والخشوع : لين القلب ورقته . والمعنى : أنه ينبغي أن يورثهم الذكر خشوعاً ورقة ، ولا يكونوا كمن لا يلين قلبه للذكر ولا يخضع له { وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق } معطوف على ذكر الله ، والمراد بما نزل من الحقّ : القرآن ، فيحمل الذكر المعطوف عليه على ما عداه مما فيه ذكر الله سبحانه باللسان ، أو خطور بالقلب ، وقيل : المراد بالذكر هو القرآن ، فيكون هذا العطف من باب عطف التفسير ، أو باعتبار تغاير المفهومين . قرأ الجمهور : { نزل } مشدّداً مبنياً للفاعل . وقرأ نافع ، وحفص بالتخفيف مبنياً للفاعل . وقرأ الجحدري ، وأبو جعفر ، والأعمش ، وأبو عمرو في رواية عنه مشدّداً مبنياً للمفعول . وقرأ ابن مسعود : ( أنزل ) مبنياً للفاعل { وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ } قرأ الجمهور بالتحتية على الغيبة جرياً على ما تقدّم . وقرأ أبو حيوة ، وابن أبي عبلة بالفوقية على الخطاب التفاتاً ، وبها قرأ عيسى ، وابن إسحاق ، والجملة معطوفة على تخشع أي : ألم يأن لهم أن تخشع ، قلوبهم ، ولا يكونوا؟ والمعنى : النهي لهم عن أن يسلكوا سبيل اليهود والنصارى الذين أوتوا التوراة والإنجيل من قبل نزول القرآن { فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد } أي : طال عليهم الزمان بينهم وبين أنبيائهم . قرأ الجمهور : { الأمد } بتخفيف الدال ، وقرأ ابن كثير في رواية عنه بتشديدها ، أي : الزّمن الطويل ، وقيل : المراد بالأمد على القراءة الأولى : الأجل والغاية ، يقال أمد فلان كذا ، أي : غايته { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } بذلك السبب ، فلذلك حرّفوا وبدّلوا ، فنهى الله سبحانه أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يكونوا مثلهم { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون } أي : خارجون عن طاعة الله؛ لأنهم تركوا العمل بما أنزل إليهم ، وحرّفوا وبدّلوا ، ولم يؤمنوا بما نزل على محمد ، وقيل : هم الذين تركوا الإيمان بعيسى ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : هم الذين ابتدعوا الرهبانية ، وهم أصحاب الصوامع .
{ اعلموا أَنَّ الله يُحْىِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } فهو قادر على أن يبعث الأجسام بعد موتها ، ويلين القلوب بعد قسوتها { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات } التي من جملتها هذه الآيات { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي : كي تعقلوا ما تضمنته من المواعظ ، وتعملوا بموجب ذلك . { إِنَّ المصدقين والمصدقات } قرأ الجمهور بتشديد الصاد في الموضعين من الصدقة ، وأصله المتصدّقين والمتصدّقات ، فأدغمت التاء في الصاد . وقرأ أبيّ ( المتصدّقين والمتصدّقات ) بإثبات التاء على الأصل . وقرأ ابن كثير بتخفيف الصاد فيهما من التصديق ، أي : صدّقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به { وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً } معطوف على اسم الفاعل في المصدّقين؛ لأنه لما وقع صلة للألف واللام الموصولة حلّ محلّ الفعل ، فكأنه قال : إن الذين تصدّقوا وأقرضوا ، كذا قال أبو علي الفارسي وغيره . وقيل : جملة : { وأقرضوا } معترضة بين اسم إن وخبرها ، وهو { يضاعف } وقيل : هي صلة لموصول محذوف ، أي : والذين أقرضوا ، والقرض الحسن عبارة عن التصدق والإنفاق في سبيل الله مع خلوص نية ، وصحة قصد ، واحتساب أجر . قرأ الجمهور : { يضاعف لهم } بفتح العين على البناء للمفعول ، والقائم مقام الفاعل إما الجار والمجرور ، أو ضمير يرجع إلى المصدّقين على حذف مضاف أي : ثوابهم ، وقرأ الأعمش : ( يضاعفه ) بكسر العين وزيادة الهاء . وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، ويعقوب : ( يضعف ) بتشديد العين وفتحها { وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } وهو الجنة ، والمضاعفة هنا أن الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف . { والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } جميعاً ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الموصول ، وخبره قوله : { هُمُ الصديقون والشهداء } الجملة خبر الموصول . قال مجاهد : كل من آمن بالله ورسله فهو صدّيق . قال المقاتلان : هم الذين لم يشكوا في الرسل حين أخبروهم ولم يكذّبوهم . وقال مجاهد : هذه الآية للشهداء خاصة ، وهم الأنبياء الذين يشهدون للأمم وعليهم ، واختار هذا الفراء ، والزجاج . وقال مقاتل بن سليمان : هم الذين استشهدوا في سبيل الله ، وكذا قال ابن جرير ، وقيل : هم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة لأنبيائهم بالتبليغ ، والظاهر أن معنى الآية : إن الذين آمنوا بالله ورسله جميعاً بمنزلة الصدّيقين والشهداء المشهورين بعلوّ الدرجة عند الله ، وقيل : إن الصدّيقين هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا بالله ، وصدّقوا جميع رسله ، والقائمون لله سبحانه بالتوحيد . ثم بيّن سبحانه ما لهم من الخير بسبب ما اتصفوا به من الإيمان بالله ورسله فقال : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } والضمير الأوّل راجع إلى الموصول ، والضميران الأخيران راجعان إلى الصدّيقين والشهداء ، أي : لهم مثل أجرهم ونورهم ، وأما على قول من قال : إن الذين آمنوا بالله ورسله هم نفس الصديقين والشهداء ، فالضمائر الثلاثة كلها راجعة إلى شيء واحد ، والمعنى : لهم الأجر والنور الموعودان لهم .
ثم لما ذكر حال المؤمنين وثوابهم ، ذكر حال الكافرين وعقابهم ، فقال : { والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا } أي : جمعوا بين الكفر وتكذيب الآيات ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الموصول باعتبار ما في صلته من اتصافهم بالكفر والتكذيب ، وهذا مبتدأ ، وخبره { أصحاب الجحيم } يعذبون بها ، ولا أجر لهم ولا نور ، بل عذاب مقيم وظلمة دائمة .
وقد أخرج ابن مردويه عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « استبطأ الله قلوب المهاجرين بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن ، فأنزل الله { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } . . . » الآية . وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من أصحابه في المسجد ، وهم يضحكون ، فسحب رداءه محمراً وجهه فقال : « أتضحكون ، ولم يأتكم أمان من ربكم بأنه قد غفر لكم ، ولقد أنزل عليّ في ضحككم آية : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله } » قالوا : يا رسول الله ، فما كفارة ذلك؟ قال : « تبكون بقدر ما ضحكتم » وأخرج مسلم ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن مسعود قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } إلاّ أربع سنين . وأخرج نحوه عنه ابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه من طريق أخرى . وأخرج أبو يعلى ، وابن مردويه عنه أيضاً قال : لما نزلت هذه الآية أقبل بعضنا على بعض : أيّ شيء أحدثنا : أيّ شيء صنعنا؟ . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : إن الله استبطأ قلوب المهاجرين ، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } . . . الآية . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عبد العزيز بن أبي روّاد أن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ظهر فيهم المزاح والضحك ، فنزلت هذه الآية { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } . وأخرج ابن المبارك عن ابن عباس { اعلموا أَنَّ الله يُحْىِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } قال : يعني : أنه يلين القلوب بعد قسوتها . وأخرج ابن جرير عن البراء بن عازب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « مؤمنو أمتي شهداء » ثم تلا النبيّ صلى الله عليه وسلم { والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون والشهداء عِندَ رَبّهِمْ } . وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود قال : كل مؤمن صديق وشهيد . وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : إن الرجل ليموت على فراشه ، وهو شهيد ، ثم تلا هذه الآية : وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة نحوه . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون } قال : هذه مفصولة { والشهداء عِندَ رَبّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } . وأخرج ابن حبان عن عمرو بن مرة الجهني قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلاّ الله ، وأنك رسول الله ، وصليت الصلوات الخمس ، وأدّيت الزكاة ، وصمت رمضان ، وقمته فممن أنا؟ قال : « من الصدّيقين والشهداء » .
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
قوله : { اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } لما ذكر سبحانه حال الفريق الثاني ، وما وقع منهم من الكفر والتكذيب ، وذلك بسبب ميلهم إلى الدنيا وتأثيرها ، بيّن لهم حقارتها وأنها أحقر من أن تؤثر على الدار الآخرة ، واللعب : هو الباطل ، واللهو : كل شيء يتلهى به ثم يذهب . قال قتادة : لعب ولهو : أكل وشرب . قال مجاهد : كلّ لعب لهو ، وقيل : اللعب ما رغب في الدنيا ، واللهو : ما ألهى عن الآخرة وشغل عنها ، وقيل : اللعب : الاقتناء ، واللهو : النساء ، وقد تقدّم تحقيق هذا في سورة الأنعام ، والزينة : التزين بمتاع الدنيا من دون عمل للآخرة { وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } قرأ الجمهور بتنوين { تفاخر } والظرف صفة له ، أو معمول له ، وقرأ السلمي بالإضافة ، أي : يفتخر به بعضكم على بعض ، وقيل : يتفاخرون بالخلقة والقوّة ، وقيل : بالأنساب والأحساب ، كما كانت عليه العرب { وَتَكَاثُرٌ فِى الأموال والأولاد } أي : يتكاثرون بأموالهم وأولادهم ، ويتطاولون بذلك على الفقراء . ثم بيّن سبحانه لهذه الحياة شبهاً ، وضرب لها مثلاً فقال : { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ } أي : كمثل مطر أعجب الزراع نباته ، والمراد بالكفار هنا : الزراع لأنهم يكفرون البذر ، أي : يغطونه بالتراب ، ومعنى نَبَاتُهُ : النبات الحاصل به { ثُمَّ يَهِيجُ } أي : يجفّ بعد خضرته وييبس { فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً } أي : متغيراً عما كان عليه من الخضرة والرّونق إلى لون الصفرة والذبول { ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً } أي : فتاتاً هشيماً متكسراً متحطماً بعد يبسه ، وقد تقدّم تفسير هذا المثل في سورة يونس والكهف ، والمعنى : أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إليه ، لخضرته وكثرة نضارته . ثم لا يلبث أن يصير هشيماً تبناً كأن لم يكن . وقرىء : ( مصفارّاً ) والكاف في محل نصب على الحال ، أو في محل رفع على أنها خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف . ثم لما ذكر سبحانه حقارة الدنيا ، وسرعة زوالها ، ذكر ما أعدّه للعصاة في الدار الآخرة فقال : { وَفِى الأخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ } وأتبعه بما أعدّه لأهل الطاعة ، فقال : { وَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله ورضوان } ، والتنكير فيهما للتعظيم . قال قتادة : عذاب شديد لأعداء الله ، ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته . قال الفراء : التقدير في الآية إما عذاب شديد وإما مغفرة ، قلا يوقف على شديد . ثم ذكر سبحانه بعد الترهيب والترغيب حقارة الدنيا ، فقال : { وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور } لمن اغترّ بها ولم يعمل لآخرته . قال سعيد بن جبير : متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة ، ومن اشتغل بطلبها فله متاع بلاغ إلى ما هو خير منه . وهذه الجملة مقرّرة للمثل المتقدّم ومؤكدة له . ثم ندب عباده إلى المسابقة إلى ما يوجب المغفرة من التوبة والعمل الصالح ، فإن ذلك سبب إلى الجنة ، فقال : { سَابِقُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ } أي : سارعوا مسارعة السابقين بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم ، وتوبوا مما وقع منكم من المعاصي ، وقيل : المراد بالآية التكبيرة الأولى مع الإمام ، قاله مكحول ، وقيل : المراد الصفّ الأوّل ، ولا وجه لتخصيص ما في الآية بمثل هذا ، بل هو من جملة ما تصدّق عليه صدقاً شمولياً أو بدلياً { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض } أي : كعرضهما ، وإذا كان هذا قدر عرضها ، فما ظنك بطولها .
قال الحسن : يعني جميع السموات والأرضين مبسوطات كل واحدة إلى صاحبتها ، وقيل : المراد بالجنة التي عرضها هذا العرض هي جنة كل واحد من أهل الجنة . وقال ابن كيسان : عنى به جنة واحدة من الجنات ، والعرض أقل من الطول ، ومن عادة العرب أنها تعبر عن الشيء بعرضه دون طوله ، ومن ذلك قول الشاعر :
كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل
وقد مضى تفسير هذا في سورة آل عمران . ثم وصف سبحانه تلك الجنة بصفة أخرى ، فقال : { سَابِقُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ } ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة . وفي هذا دليل على أن استحقاق الجنة يكون بمجرّد الإيمان بالله ورسله ، ولكن هذا مقيد بالأدلة الدالة على أنه لا يستحقها إلاّ من عمل بما فرض الله عليه ، واجتنب ما نهاه الله عنه ، وهي أدلة كثيرة في الكتاب والسنة ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما وعد به سبحانه من المغفرة والجنة ، وهو مبتدأ وخبره { فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } أي : يعطيه من يشاء إعطاءه إياه تفضلاً وإحساناً { والله ذُو الفضل العظيم } فهو يتفضل على من يشاء بما يشاء ، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ، والخير كله بيده ، وهو الكريم المطلق ، والجواد الذي لا يبخل . ثم بيّن سبحانه أن ما يصاب به العباد من المصائب قد سبق بذلك قضاؤه وقدره ، وثبت في أمّ الكتاب ، فقال : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأرض } من قحط مطر ، وضعف نبات ، ونقص ثمار . قال مقاتل : القحط وقلة النبات والثمار ، وقيل : الجوائح في الزرع { وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ } قال قتادة : بالأوصاب والأسقام . وقال مقاتل : إقامة الحدود . وقال ابن جريج : ضيق المعاش { إِلاَّ فِى كتاب } في محل نصب على الحال من مصيبة ، أي : إلاّ حال كونها مكتوبة في كتاب ، وهو اللوح المحفوظ ، وجملة : { مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا } في محل جر صفة لكتاب ، والضمير في نبرأها عائد إلى المصيبة ، أو إلى الأنفس ، أو إلى الأرض ، أو إلى جميع ذلك ، ومعنى { نَّبْرَأَهَا } : نخلقها { إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ } أي : أن إثباتها في الكتاب على كثرته على الله يسير غير عسير .
{ لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ } أي : اختبرناكم بذلك ، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا { وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم } منها أي : أعطاكم منها ، فإن ذلك يزول عن قريب ، وكلّ زائل عن قريب لا يستحق أن يفرح بحصوله ، ولا يحزن على فواته ، ومع أن الكل بقضاء الله وقدره ، فلن يعدو امرأ ما كتب له ، وما كان حصوله كائناً لا محالة ، فليس بمستحقّ للفرح بحصوله ، ولا للحزن على فوته ، قيل : والحزن والفرح المنهيّ عنهما هما اللذان يتعدّى فيهما إلى ما لا يجوز ، وإلاّ فليس من أحد إلاّ وهو يحزن ويفرح . قرأ الجمهور : { بما آتاكم } بالمدّ ، أي : أعطاكم ، وقرأ أبو العالية ، ونصر بن عاصم ، وأبو عمرو بالقصر ، أي : جاءكم ، واختار القراءة الأولى أبو حاتم ، واختار القراءة الثانية أبو عبيد { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي : لا يحبّ من اتصف بهاتين الصفتين ، وهما الاختيال والافتخار ، قيل : هو ذمّ للفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر ، وقيل : إن من فرح بالحظوظ الدنيوية ، وعظمت في نفسه اختال وافتخر بها ، وقيل : المختال الذي ينظر إلى نفسه ، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاستحقار . والأولى تفسير هاتين الصفتين بمعناهما الشرعي ثم اللغوي ، فمن حصلتا فيه فهو الذي لا يحبه الله . { الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل } الموصول في محل رفع بالابتداء ، وهو كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله ، والخبر مقدّر ، أي : الذين يبخلون فالله غنيّ عنهم ، ويدل على ذلك قوله : { وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد } . وقيل : الموصول في محل جرّ بدل من مختال ، وهو بعيد ، فإن هذا البخل بما في اليد ، وأمر الناس بالبخل ليس هو معنى المختال الفخور ، لا لغة ولا شرعاً . وقيل : هو في محل جرّ نعت له ، وهو أيضاً بعيد . قال سعيد بن جبير : الذين يبخلون بالعلم ، ويأمرون الناس بالبخل به لئلا يعلموا الناس شيئًا . وقال زيد بن أسلم : إنه البخل بأداء حق الله ، وقيل : إنه البخل بالصدقة ، وقال طاووس : إنه البخل بما في يديه ، وقيل : أراد رؤساء اليهود الذين بخلوا ببيان صفة محمد في كتبهم لئلا يؤمن به الناس ، فتذهب مآكلهم ، قاله السدّي والكلبي ، قرأ الجمهور : { بالبخل } بضم الباء وسكون الخاء . وقرأ أنس ، وعبيد بن عمير ، ويحيى بن يعمر ، ومجاهد ، وحميد ، وابن محيصن ، وحمزة ، والكسائي بفتحتين ، وهي لغة الأنصار . وقرأ أبو العالية ، وابن السميفع بفتح الباء وإسكان الخاء . وقرأ نصر بن عاصم بضمهما ، وكلها لغات { وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد } أي : ومن يعرض عن الإنفاق ، فإن الله غنيّ عنه محمود عند خلقه لا يضره ذلك . قرأ الجمهور { هو الغني } بإثبات ضمير الفصل . وقرأ نافع ، وابن عامر : ( فإن الله الغني الحميد ) بحذف الضمير .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأرض وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ } يقول : في الدين والدنيا { إِلاَّ فِى كتاب مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا } قال : نخلقها { لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ } من الدنيا { وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم } منها .
وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : هو شيء قد فرغ منه من قبل أن تبرأ الأنفس . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عنه أيضاً في قوله : { لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ } الآية قال : ليس أحد إلاّ وهو يحزن ويفرح ، ولكن من أصابته مصيبة جعلها صبراً ، ومن أصابه خير جعله شكراً . وأخرج ابن المنذر عنه في الآية قال : يريد مصائب المعاش ، ولا يريد مصائب الدين ، إنه قال : { لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم } وليس هذا من مصائب الدين ، أمرهم أن يأسوا على السيئة ويفرحوا بالحسنة .
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
قوله : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات } أي : بالمعجزات البينة ، والشرائع الظاهرة { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب } المراد الجنس ، فيدخل فيه كتاب كلّ رسول { والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط } قال قتادة ، ومقاتل بن حيان : الميزان : العدل : أمرناهم بالعدل ، كما في قوله : { والسماء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان } [ الرحمن : 7 ] وقوله : { الله الذى أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان } [ الشورى : 17 ] وقال ابن زيد : هو ما يوزن به ويتعامل به ، ومعنى : { لِيَقُومَ الناس بالقسط } ؛ ليتبعوا ما أمروا به من العدل ، فيتعاملوا فيما بينهم بالنصفة ، والقسط : العدل ، وهو يدل على أن المراد بالميزان العدل ، ومعنى إنزاله : إنزال أسبابه وموجباته . وعلى القول بأن المراد به الآلة التي يوزن بها ، فيكون إنزاله بمعنى : إرشاد الناس إليه ، وإلهامهم الوزن به ، ويكون الكلام من باب :
علفتها تبناً وماء بارداً ... { وَأَنزْلْنَا الحديد } أي : خلقناه ، كما في قوله : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعام ثمانية أزواج } [ الزمر : 6 ] والمعنى : أنه خلقه من المعادن ، وعلم الناس صنعته ، وقيل : إنه نزل مع آدم { فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } لأنه تتخذ منه آلات الحرب . قال الزجاج : يمتنع به ويحارب ، والمعنى : أنه تتخذ منه آلة للدفع ، وآلة للضرب . قال مجاهد : فيه جنة وسلاح ، ومعنى { ومنافع لِلنَّاسِ } : أنهم ينتفعون به في كثير مما يحتاجون إليه مثل السكين ، والفأس ، والإبرة ، وآلات الزراعة ، والنجارة ، والعمارة { وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب } معطوف على قوله : { ليقوم الناس } أي : لقد أرسلنا رسلنا ، وفعلنا كيت وكيت ، ليقوم الناس وليعلم ، وقيل : معطوف على علة مقدّرة ، كأنه قيل : ليستعملوه وليعلم الله ، والأوّل أولى . والمعنى : أن الله أمر في الكتاب الذي أنزل بنصره دينه ورسله ، فمن نصر دينه ورسله علمه ناصراً ، ومن عصى علمه بخلاف ذلك ، و { بالغيب } في محلّ نصب على الحال من فاعل ينصره ، أو من مفعوله أي : غائباً عنهم ، أو غائبين عنه { إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ } أي : قادر على كل شيء غالب لكل شيء ، وليس له حاجة في أن ينصره أحد من عباده وينصر رسله ، بل كلفهم بذلك؛ لينتفعوا به إذا امتثلوا ، ويحصل لهم ما وعد به عباده المطيعين . { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وإبراهيم } لما ذكر سبحانه إرسال الرسل إجمالاً أشار هنا إلى نوع تفصيل ، فذكر رسالته لنوح وإبراهيم ، وكرّر القسم للتوكيد { وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب } أي : جعلنا فيهم النبوّة والكتب المنزلة على الأنبياء منهم ، وقيل : جعل بعضهم أنبياء ، وبعضهم يتلون الكتاب { فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ } أي : فمن الذرية من اهتدى بهدي نوح وإبراهيم ، وقيل : المعنى فمن المرسل إليهم من قوم الأنبياء مهتد بما جاء به الأنبياء من الهدى { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون } خارجون عن الطاعة . { ثُمَّ قَفَّيْنَا على ءاثارهم بِرُسُلِنَا } أي : اتبعنا على آثار الذرية ، أو على آثار نوح وإبراهيم برسلنا الذين أرسلناهم إلى الأمم كموسى ، وإلياس ، وداود ، وسليمان ، وغيرهم { وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ } أي : أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم ، وهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه { وآتيناه الإنجيل } وهو الكتاب الذي أنزله الله عليه ، وقد تقدّم ذكر اشتقاقه في سورة آل عمران .
قرأ الجمهور { الإنجيل } بكسر الهمزة ، وقرأ الحسن بفتحها { وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً } الذين اتبعوه هم الحواريون جعل الله في قلوبهم مودّة لبعضهم البعض ، ورحمة يتراحمون بها ، بخلاف اليهود ، فإنهم ليسوا كذلك ، وأصل الرأفة : اللين ، والرحمة : الشفقة ، وقيل : الرأفة : أشدّ الرحمة { وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها } انتصاب { رهبانية } على الاشتغال ، أي : وابتدعوا رهبانية ابتدعوها ، وليس بمعطوفة على ما قبلها ، وقيل : معطوفة على ما قبلها ، أي : وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ، ورهبانية مبتدعة من عند أنفسهم . والأوّل أولى ، ورجحه أبو علي الفارسي وغيره ، وجملة : { مَا كتبناها عَلَيْهِمْ } صفة ثانية لرهبانية ، أو مستأنفة مقرّرة؛ لكونها مبتدعة من جهة أنفسهم ، والمعنى : ما فرضناها عليهم ، والرهبانية بفتح الراء وضمها ، وقد قرىء بهما ، وهي بالفتح : الخوف من الرهب ، وبالضم منسوبة إلى الرهبان ، وذلك لأنهم غلوا في العبادة ، وحملوا على أنفسهم المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والمنكح ، وتعلقوا بالكهوف والصوامع؛ لأن ملوكهم غيروا وبدلوا ، وبقي منهم نفر قليل ، فترهبوا وتبتلوا ، ذكر معناه الضحاك ، وقتادة ، وغيرهما { إِلاَّ ابتغاء رضوان الله } الاستثناء منقطع ، أي : ما كتبناها نحن عليهم رأساً ، ولكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله . وقال الزجاج : ما كتبناها عليهم معناه لم نكتب عليهم شيئًا ألبتة ، قال : ويكون { إِلاَّ ابتغاء رضوان الله } بدلاً من الهاء والألف في كتبناها ، والمعنى : ما كتبنا عليهم إلاّ ابتغاء رضوان الله { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي : لم يرعوا هذه الرهبانية التي ابتدعوها من جهة أنفسهم ، بل صنعوها وكفروا بدين عيسى ، ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا وبدّلوا ، وتركوا الترهب ، ولم يبق على دين عيسى إلاّ قليل منهم ، وهم المرادون بقوله : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } الذي يستحقونه بالإيمان ، وذلك لأنهم آمنوا بعيسى ، وثبتوا على دينه حتى آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون } : خارجون عن الإيمان بما أمروا أن يؤمنوا به ، ووجه الذمّ لهم على تقدير أن الاستثناء منقطع أنهم قد كانوا ألزموا أنفسهم الرهبانية معتقدين أنها طاعة ، وأن الله يرضاها ، فكان تركها وعدم رعايتها حق الرعاية يدل على عدم مبالاتهم بما يعتقدونه ديناً . وأما على القول بأن الاستثناء متصل ، وأن التقدير : ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلاّ ليبتغوا بها رضوان الله بعد أن وفقناهم لابتداعها ، فوجه الذم ظاهر .
ثم أمر سبحانه المؤمنين بالرسل المتقدّمين بالتقوى والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : { ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله } بترك ما نهاكم عنه { وآمنوا برسوله } محمد صلى الله عليه وسلم { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } أي : نصيبين من رحمته بسبب إيمانكم برسوله بعد إيمانكم بمن قبله من الرسل ، وأصل الكفل : الحظ والنصيب ، وقد تقدّم الكلام على تفسيره في سورة النساء { وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } يعني : على الصراط كما قال : { نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } [ التحريم : 8 ] وقيل : المعنى ويجعل لكم سبيلاً واضحاً في الدين تهتدون به { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ما سلف من ذنوبكم { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : بليغ المغفرة والرحمة { لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } اللام متعلقة بما تقدّم من الأمر بالإيمان والتقوى ، والتقدير : اتقوا وآمنوا يؤتكم كذا وكذا؛ ليعلم الذين لم يتقوا ولا آمنوا من أهل الكتاب { أَن لا يَقْدِرُونَ على شَىْء مّن فَضْلِ الله } و " لا " في قوله : { لّئَلاَّ } زائدة للتوكيد ، قاله الفراء ، والأخفش ، وغيرهما ، و " أن " في قوله : { أَن لا يَقْدِرُونَ } هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، وخبرها ما بعدها ، والجملة في محل نصب على أنها مفعول يعلم ، والمعنى : ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على أن ينالوا شيئًا من فضل الله الذي تفضل به على من آمن بمحمد ، ولا يقدرون على دفع ذلك الفضل الذي تفضل الله به على المستحقين له ، وجملة : { وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله } معطوفة على الجملة التي قبلها ، أي : ليعلموا أنهم لا يقدرون ، وليعلموا أن الفضل بيد الله سبحانه ، وقوله : { يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } خبر ثان لأنّ ، أو هو الخبر ، والجارّ والمجرور في محل نصب على الحال { والله ذُو الفضل العظيم } هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها ، والمراد بالفضل هنا : ما تفضل به على الذين اتقوا وآمنوا برسوله من الأجر المضاعف . وقال الكلبي : هو رزق الله ، وقيل : نعم الله التي لا تحصى ، وقيل : هو الإسلام ، وقد قيل : إن «لا» في { لئلا } غير مزيدة ، وضمير { لا يقدرون } للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه . والمعنى : لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبيّ والمؤمنون على شيء من فضل الله الذي هو عبارة عما أوتوه ، والأوّل أولى . وقرأ ابن مسعود : ( لكيلا يعلم ) وقرأ خطاب بن عبد الله : ( لأن يعلم ) وقرأ عكرمة : ( ليعلم ) وقرىء : ( ليلا ) بقلب الهمزة ياء ، وقرىء بفتح اللام .
وقد أخرج عبد بن حميد ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب من طرق [ عن ] ابن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عبد الله "
، قلت : لبيك يا رسول الله ثلاث مرات ، قال : " هل تدري أيّ عرى الإسلام أوثق؟ " قلت : الله ، ورسوله أعلم ، قال : " أفضل الناس أفضلهم عملاً إذ فقهوا في دينهم؛ يا عبد الله هل تدري أيّ الناس أعلم؟ " قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس ، وإن كان مقصراً بالعمل ، وإن كان يزحف على استه ، واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها : فرقة وازرت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك ، فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ، فقتلهم الملوك ونشرتهم بالمناشير ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك ولا بالمقام معهم ، فساحوا في الجبال وترهبوا فيها ، وهم الذين قال الله : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغاء رضوان الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَئَاتَيْنَا الذين ءامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } هم الذين آمنوا بي وصدقوني { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون } الذين جحدوني وكفروا بي» . وأخرج النسائي ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : كانت ملوك بعد عيسى بدلت التوراة والإنجيل ، فكان منهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ، فقيل لملوكهم : ما نجد شيئًا أشدّ من شتم يشتمناه هؤلاء ، إنهم يقرءون { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون } [ المائدة : 44 ] { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } [ المائدة : 45 ] { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون } [ المائدة : 47 ] مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم ، فادعوهم فليقرؤوا كما نقرأ ، وليؤمنوا كما آمنا ، فدعاهم فجمعهم ، وعرض عليهم القتل ، أو ليتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلاّ ما بدلوا منهما ، فقالوا : ما تريدون إلى ذلك؟ دعونا ، فقالت طائفة منهم : ابنوا لنا أسطوانة ، ثم ارفعونا إليها ، ثم أعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا ، ولا نرد عليكم ، وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونأكل مما تأكل منه الوحوش ، ونشرب مما تشرب ، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا ، وقالت طائفة : ابنوا لنا دوراً في الفيافي ، ونحتفر الآبار ، ونحرث البقول ، فلا نرد عليكم ولا نمرّ بكم ، وليس أحد من القبائل إلاّ له حميم فيهم ، ففعلوا ذلك ، فأنزل الله { وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغاء رضوان الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } وقال الآخرون ممن تعبد من أهل الشرك ، وفني من فني منهم قالوا : نتعبد كما تعبد فلان ، ونسيح كما ساح فلان ، ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم ، فلما بعث النبي ، ولم يبق منهم إلاّ القليل انحط صاحب الصومعة من صومعته ، وجاء السياح من سياحته ، وصاحب الدير من ديره ، فآمنوا به وصدّقوه ، فقال الله : { ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } أجرين : بإيمانهم بعيسى وتصديقهم والتوراة والإنجيل ، وبإيمانهم بمحمد وتصديقهم به { وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } القرآن واتباعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم .
وأخرج أحمد ، والحكيم الترمذي ، وأبو يعلى ، والبيهقي في الشعب عن أنس أن النبيّ قال : « إن لكل أمة رهبانية ، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله » وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعريّ في قوله : { كِفْلَيْنِ } قال : ضعفين وهي بلسان الحبشة . وأخرج الفريابي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عمر في قوله : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } قال : الكفل ثلثمائة جزء وخمسون جزءاً من رحمة الله .
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
قوله : { قَدْ سَمِعَ الله } قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي بإدغام الدال في السين ، وقرأ الباقون بالإظهار . قال الكسائي : من بيَّن الدال عند السين ، فلسانه أعجميّ وليس بعربيّ { قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا } أي : تراجعك الكلام في شأنه { وَتَشْتَكِى إِلَى الله } معطوف على تجادلك . والمجادلة هذه الكائنة منها مع رسول الله أنه كان كلما قال لها : « قد حرمت عليه » ، قالت : والله ما ذكر طلاقاً ، ثم تقول : أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ، وإن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا ، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء ، وتقول : اللَّهم إني أشكو إليك ، فهذا معنى قوله : { وَتَشْتَكِى إِلَى الله } قال الواحدي : قال المفسرون : نزلت هذه الآية في خولة بنت ثعلبة ، وزوجها أوس بن الصامت ، وكان به لمم ، فاشتد به لممه ذات يوم ، فظاهر منها ، ثم ندم على ذلك ، وكان الظهار طلاقاً في الجاهلية ، وقيل : هي خولة بنت حكيم ، وقيل : اسمها جميلة ، والأوّل أصح ، وقيل : هي بنت خويلد ، وقال الماوردي : إنها نسبت تارة إلى أبيها ، وتارة إلى جدّها ، وأحدهما أبوها ، والآخر جدّها ، فهي : خولة بنت ثعلبة بن خويلد ، وجملة { والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما } في محل نصب على الحال ، أو مستأنفة جارية مجرى التعليل لما قبلها أي : والله يعلم تراجعكما في الكلام { إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } يسمع كل مسموع ، ويبصر كل مبصر ، ومن جملة ذلك ما جادلتك به هذه المرأة . ثم بيّن سبحانه شأن الظهار في نفسه ، وذكر حكمه ، فقال : { الذين يظاهرون مِنكُمْ مّن نّسَائِهِمْ } قرأ الجمهور : { يظهرون } بالتشديد مع فتح حرف المضارعة . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : ( يظاهرون ) بفتح الياء ، وتشديد الظاء ، وزيادة ألف ، وقرأ أبو العالية ، وعاصم ، وزرّ بن حبيش : ( يظاهرون ) بفك الإدغام ، ومعنى الظهار : أن يقول لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي ، ولا خلاف في كون هذا ظهاراً . واختلفوا إذا قال : أنت عليّ كظهر ابنتي ، أو أختي ، أو غير ذلك من ذوات المحارم ، فذهب جماعة منهم أبو حنيفة ومالك إلى أنه ظهار ، وبه قال الحسن ، والنخعي ، والزهري ، والأوزاعي ، والثوري . وقال جماعة منهم قتادة والشعبي : إنه لا يكون ظهاراً بل يختصّ الظهار بالأمّ وحدها . واختلفت الرواية عن الشافعي ، فروي عنه كالقول الأوّل ، وروي عنه كالقول الثاني ، وأصل الظهار مشتق من الظهر .
واختلفوا إذا قال لامرأته : أنت عليّ كرأس أمي ، أو يدها ، أو رجلها ، أو نحو ذلك؟ هل يكون ظهاراً أم لا وهكذا إذا قال : أنت عليّ كأمي ولم يذكر الظهر ، والظاهر أنه إذا قصد بذلك الظهار كان ظهاراً . وروي عن أبي حنيفة أنه إذا شبهها بعضو من أمه يحلّ له النظر إليه لم يكن ظهاراً ، وروي عن الشافعي أنه لا يكون الظهار إلاّ في الظهر وحده .
واختلفوا إذا شبّه امرأته بأجنبية فقيل : يكون ظهاراً وقيل : لا ، والكلام في هذا مبسوط في كتب الفروع . وجملة : { مَّا هُنَّ أمهاتهم } في محل رفع على أنها خبر الموصول ، أي : ما نساؤهم بأمهاتهم ، فذلك كذب منهم ، وفي هذا توبيخ للمظاهرين وتبكيت لهم . قرأ الجمهور { أمهاتهم } بالنصب على اللغة الحجازية في إعمال «ما» عمل ليس . وقرأ أبو عمرو ، والسلمي بالرّفع على عدم الإعمال ، وهي لغة نجد ، وبني أسد . ثم بيّن سبحانه لهم أمهاتهم على الحقيقة فقال : { إِنْ أمهاتهم إِلاَّ اللائى وَلَدْنَهُمْ } أي : ما أمهاتهم إلاّ النساء اللائي ولدنهم ، ثم زاد سبحانه في توبيخهم وتقريعهم ، فقال : { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ القول وَزُوراً } أي : وإن المظاهرين ليقولون بقولهم هذا منكراً من القول ، أي : فظيعاً من القول ينكره الشرع ، والزور : الكذب ، وانتصاب { منكراً } ، و { زوراً } على أنهما صفة لمصدر محذوف ، أي : قولاً منكراً وزوراً { وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } أي : بليغ العفو والمغفرة إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم عن هذا القول المنكر . { والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } لما ذكر سبحانه الظهار إجمالاً ووبخ فاعليه شرع في تفصيل أحكامه ، والمعنى : والذين يقولون ذلك القول المنكر الزور ، ثم يعودون لما قالوا ، أي : إلى ما قالوا بالتدارك والتلافي ، كما في قوله : { أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ } [ النور : 17 ] أي : إلى مثله ، قال الأخفش : { لِمَا قَالُواْ } وإلى ما قالوا يتعاقبان . قال : { وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا } [ الأعراف : 43 ] وقال : { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } [ الصافات : 23 ] وقال : { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } [ الزلزلة : 5 ] وقال : { وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ } [ هود : 36 ] وقال الفرّاء : اللام بمعنى عن ، والمعنى : ثم يرجعون عما قالوا ، ويريدون الوطء . وقال الزجاج : المعنى : ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا . قال الأخفش أيضاً : الآية فيها تقديم وتأخير ، والمعنى : والذين يظهرون من نسائهم ، ثم يعودون لما كانوا عليه من الجماع { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } لما قالوا ، أي : فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا . فالجار في قوله : { لِمَا قَالُواْ } متعلق بالمحذوف الذي هو خبر المبتدأ ، وهو فعليهم .
واختلف أهل العلم في تفسير العود المذكور على أقوال : الأوّل : أنه العزم على الوطء ، وبه قال العراقيون أبو حنيفة وأصحابه ، وروي عن مالك . وقيل : هو الوطء نفسه ، وبه قال الحسن ، وروي أيضاً عن مالك . وقيل : هو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق ، وبه قال الشافعي . وقيل : هو الكفارة ، والمعنى : أنه لا يستبيح وطأها إلاّ بكفارة ، وبه قال الليث بن سعد ، وروي عن أبي حنيفة . وقيل : هو تكرير الظهار بلفظه ، وبه قال أهل الظاهر . وروي عن بكير بن الأشبح ، وأبي العالية ، والفراء .
والمعنى : ثم يعودون إلى قول ما قالوا . والموصول مبتدأ ، وخبره : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } على تقدير ، فعليهم تحرير رقبة ، كما تقدّم ، أو قالوا وجب عليهم إعتاق رقبة ، يقال : حررته ، أي : جعلته حرّاً ، والظاهر أنها تجزىء أيّ رقبة كانت ، وقيل : يشترط أن تكون مؤمنة كالرقبة في كفارة القتل؛ وبالأول : قال أبو حنيفة وأصحابه ، وبالثاني : قال مالك ، والشافعي ، واشترطا أيضاً سلامتها من كل عيب { مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } المراد بالتماس هنا : الجماع ، وبه قال الجمهور ، فلا يجوز للمظاهر الوطء حتى يُكَفّر ، وقيل : إن المراد به الاستمتاع بالجماع ، أو اللمس ، أو النظر إلى الفرج بشهوة ، وبه قال مالك ، وهو أحد قولي الشافعي ، والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى الحكم المذكور وهو مبتدأ ، وخبره : { تُوعَظُونَ بِهِ } أي : تؤمرون به ، أو تزجرون به عن ارتكاب الظهار ، وفيه بيان لما هو المقصود من شرع الكفارة . قال الزجاج : معنى الآية ذلكم التغليظ في الكفارة توعظون به أي : إن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، فهو مجازيكم عليها . ثم ذكر سبحانه حكم العاجز عن الكفارة ، فقال : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } أي : فمن لم يجد الرّقبة في ملكه ، ولا تمكن من قيمتها ، فعليه صيام شهرين متتابعين متواليين لا يفطر فيهما ، فإن أفطر استأنف إن كان الإفطار لغير عذر ، وإن كان لعذر من سفر أو مرض ، فقال سعيد بن المسيب ، والحسن ، وعطاء بن أبي رباح ، وعمرو بن دينار ، والشعبي ، والشافعي ، ومالك : إنه يبني ، ولا يستأنف . وقال أبو حنيفة : إنه يستأنف ، وهو مرويّ عن الشافعي؛ ومعنى { مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } : هو ما تقدّم قريباً ، فلو وطىء ليلاً أو نهاراً عمداً أو خطأ استأنف ، وبه قال أبو حنيفة ، ومالك . وقال الشافعي : لا يستأنف إذا وطىء ليلاً؛ لأنه ليس محلاً للصوم ، والأول أولى { فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ } يعني : صيام شهرين متتابعين { فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً } أي : فعليه أن يطعم ستين مسكيناً ، لكل مسكين مدّان ، وهما نصف صاع ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه . وقال الشافعي وغيره : لكل مسكين مدّ واحد ، والظاهر من الآية أن يطعمهم حتى يشبعوا مرّة واحدة ، أو يدفع إليهم ما يشبعهم ، ولا يلزمه أن يجمعهم مرّة واحدة ، بل يجوز له أن يطعم بعض الستين في يوم ، وبعضهم في يوم آخر ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدّم ذكره من الأحكام ، وهو مبتدأ ، وخبره مقدّر ، أي : ذلك واقع { لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } ويجوز أن يكون اسم الإشارة في محل نصب ، والتقدير : فعلنا ذلك لتؤمنوا ، أي : لتصدّقوا أن الله أمر به وشرعه ، أو لتطيعوا الله ورسوله في الأوامر والنواهي ، وتقفوا عند حدود الشرع ولا تتعدّوها ، ولا تعودوا إلى الظهار الذي هو منكر من القول وزور ، والإشارة بقوله : { وَتِلْكَ } إلى الأحكام المذكورة ، وهو مبتدأ ، وخبره : { حُدُود الله } فلا تجاوزوا حدوده التي حدّها لكم ، فإنه قد بيّن لكم أن الظهار معصية ، وأن كفارته المذكورة توجب العفو والمغفرة { وللكافرين } الذين لا يقفون عند حدود الله ، ولا يعملون بما حدّه الله لعباده { عَذَابٌ أَلِيمٌ } وهو عذاب جهنم ، وسماه كفراً تغليظاً وتشديداً .
وقد أخرج ابن ماجه ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن عائشة قالت : تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ، ويخفى عليّ بعضه ، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي تقول : يا رسول الله أكل شبابي ، ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني ، اللَّهمّ إني أشكو إليك ، قالت : فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات : { َقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا } وهو أوس بن الصامت . وأخرج النحاس ، وابن مردويه ، والبيهقي عن ابن عباس قال : كان أوّل من ظاهر في الإسلام أوس ، وكانت تحته ابنة عمّ له يقال لها : خولة بنت خويلد ، فظاهر منها ، فأسقط في يده وقال : ما أراك إلاّ قد حرمت عليّ ، فانطلقي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فاسأليه ، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه ، فأخبرته ، فقال : " يا خولة ما أمرنا في أمرك بشيء " ، فأنزل الله على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : " يا خولة أبشري " قالت : خيراً . قال : " خيراً " ، فقرأ عليها { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا } الآيات . وأخرج أحمد ، وأبو داود ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقيّ من طريق يوسف بن عبد الله بن سلام قال : حدّثتني خولة بنت ثعلبة قالت : فيّ ، والله ، وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة ، قالت : كنت عنده ، وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه ، فدخل عليّ يوماً فراجعته بشيء ، فغضب فقال : أنت عليّ كظهر أمي ، ثم رجع ، فجلس في نادي قومه ساعة ، ثم دخل عليّ ، فإذا هو يريدني عن نفسي ، قلت : كلا والذي نفس خولة بيده لا تصل إليّ ، وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا ، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرت ذلك له ، فما برحت حتى نزل القرآن ، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه ، ثم سري عنه ، فقال لي : " يا خولة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك " ، ثم قرأ عليّ : { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ } إلى قوله : { عَذَابٌ أَلِيمٌ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مريه ، فليعتق رقبة» ، قلت : يا رسول الله ما عنده ما يعتق ، قال :
« فليصم شهرين متتابعين » ، قلت : والله إنه لشيخ كبير ما به من صيام ، قال : « فليطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر » ، قلت : والله ما ذاك عنده ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فأنا سأعينه بعرق من تمر » ، فقلت : وأنا يا رسول الله سأعينه بعرق آخر ، فقال : « قد أصبت ، وأحسنت ، فاذهبي ، فتصدّقي به عنه ، ثم استوصي بابن عمك خيراً ، » قالت ، ففعلت وفي الباب أحاديث . وأخرج ابن المنذر ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } قال : هو الرجل يقول لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي ، فإذا قال ذلك فليس يحلّ له أن يقربها بنكاح ، ولا غيره حتى يُكَفر بعتق رقبة { فَمَنْ } فإن { لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } والمسّ : النكاح { فَمَنْ } فإن { لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً } وإن هو قال لها : أنت عليّ كظهر أمي إن فعلت كذا ، فليس يقع في ذلك ظهار حتى يحنث ، فإن حنث ، فلا يقربها حتى يُكَفّر ، ولا يقع في الظهار طلاق . وأخرج ابن المنذر عن أبي هريرة قال : ثلاث فيه مدّ : كفارة اليمين ، وكفارة الظهار ، وكفارة الصيام . وأخرج البزار ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي عن ابن عباس قال : أتى رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إني ظاهرت من امرأتي ، فرأيت بياض خلخالها في ضوء القمر ، فوقعت عليها قبل أن أُكفر ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « ألم يقل الله : { مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } » ، قال : قد فعلت يا رسول الله ، قال : « أمسك عنها حتى تُكَفر » وأخرج عبد الرزاق ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، والحاكم ، والبيهقيّ عن ابن عباس أن رجلاً قال : يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي ، فوقعت عليها من قبل أن أُكفر ، فقال : « وما حملك على ذلك » ؟ قال : رأيت خلخالها في ضوء القمر ، قال : « فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله » وأخرج عبد الرّزاق ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، وأبو داود ، والترمذيّ وحسنه ، وابن ماجه ، والطبراني ، والبغوي في معجمه ، والحاكم وصححه عن سلمة بن صخر الأنصاريّ قال : كنت رجلاً قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري ، فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان ، فرقا من أن أصيب منها في ليلي ، فأتتابع في ذلك ، ولا أستطيع أن أنزع حتى يدركني الصبح ، فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء ، فوثبت عليها ، فلما أصبحت غدوت على قومي ، فأخبرتهم خبري ، فقلت : انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره بأمري ، فقالوا : لا ، والله لا نفعل نتخوّف أن ينزل فينا القرآن ، أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة يبقى علينا عارها؛ ولكن اذهب أنت ، فاصنع ما بدا لك قال : فخرجت ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته خبري ، فقال :
« أنت بذاك؟ » قلت : أنا بذاك ، قال : « أنت بذاك؟ » قلت : أنا بذاك ، قال : « أنت بذاك؟ » قلت : أنا بذاك ، وها أنا ذا ، فأمض فيّ حكم الله ، فإني صابر لذلك ، قال : « أعتق رقبة » ، فضربت عنقي بيدي ، فقلت : لا والذي بعثك بالحقّ ما أصبحت أملك غيرها ، قال : « فصم شهرين متتابعين » ، فقلت : هل أصابني ما أصابني إلاّ في الصيام؟ قال : « فأطعم ستين مسكيناً » ، قلت : والذي بعثك بالحقّ لقد بتنا ليلتنا هذه وحشاً ما لنا عشاء ، قال : « اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق ، فقل له ، فليدفعها إليك ، فأطعم عنك منها وسقاً ستين مسكيناً ، ثم استعن بسائرها عليك ، وعلى عيالك » فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق ، وسوء الرأي ، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة والبركة ، أمر لي بصدقتكم ، فادفعوها إليّ ، فدفعوها إليه .
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
قوله : { إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ } لما ذكر سبحانه المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادّين ، والمحادّة : المشاقة ، والمعاداة ، والمخالفة ، ومثله قوله : { إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ } [ المجادلة : 20 ] قال الزجاج : المحادّة أن تكون في حدّ يخالف صاحبك ، وأصلها الممانعة ، ومنه الحديد ، ومنه الحدّاد للبوّاب { كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي : أذلوا وأخزوا ، يقال : كبت الله فلاناً : إذا أذله ، والمردود بالذلّ يقال له : مكبوت . قال المقاتلان : أخزوا ، كما أخزي الذين من قبلهم من أهل الشرك ، وكذا قال قتادة ، وقال أبو عبيدة ، والأخفش : أهلكوا . وقال ابن زيد : عذبوا . وقال السديّ : لعنوا . وقال الفرّاء : أغيظوا ، والمراد بمن قبلهم : كفار الأمم الماضية المعادين لرسل الله ، وعبّر عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه ، وقيل المعنى : على المضيّ ، وذلك ما وقع للمشركين يوم بدر ، فإن الله كبتهم بالقتل والأسر ، والقهر ، وجملة { وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايات بينات } في محل نصب على الحال من الواو في كبتوا ، أي : والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حادّ الله ورسله من الأمم المتقدّمة ، وقيل : المراد الفرائض التي أنزلها الله سبحانه ، وقيل : هي المعجزات { وللكافرين عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي : للكافرين بكل ما يجب الإيمان به . فتدخل الآيات المذكورة هنا دخولاً أوّلياً ، والعذاب المهين : الذي يهين صاحبه ، ويذله ، ويذهب بعزّه { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً } الظرف منتصب بإضمار اذكر ، أو بمهين ، أو بما تعلق به اللام من الاستقرار ، أو بأحصاه المذكور بعده ، وانتصاب { جميعاً } على الحال ، أي : مجتمعين في حالة واحدة ، أو يبعثهم كلهم لا يبقي منهم أحد غير مبعوث { فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ } أي : يخبرهم بما عملوه في الدنيا من الأعمال القبيحة توبيخاً لهم وتبكيتاً ، ولتكميل الحجة عليهم ، وجملة { أحصاه الله وَنَسُوهُ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل كيف ينبئهم بذلك على كثرته واختلاف أنواعه ، فقيل : أحصاه الله جميعاً ، ولم يفته منه شيء ، والحال أنهم قد نسوه ولم يحفظوه ، بل وجدوه حاضراً مكتوباً في صحائفهم { والله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } لا يخفى عليه شيء من الأشياء ، بل هو مطلع وناظر . ثم أكّد سبحانه بيان كونه عالماً بكل شيء ، فقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } أي : ألم تعلم أن علمه محيط بما فيهما بحيث لا يخفى عليه شيء مما فيهما ، وجملة : { مَا يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة } إلخ مستأنفة؛ لتقرير شمول علمه وإحاطته بكل المعلومات . قرأ الجمهور : { يكون } بالتحتية . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، والأعرج ، وأبو حيوة بالفوقية ، وكان على القراءتين تامة ، و « من » مزيدة للتأكيد ، ونجوى فاعل كان ، والنجوى : السرار ، يقال : قوم نجوى ، أي : ذو نجوى ، وهي مصدر .
والمعنى : ما يوجد من تناجي ثلاثة ، أو من ذوي نجوى ، ويجوز أن تطلق النجوى على الأشخاص المتناجين ، فعلى الوجه الأوّل انخفاض ثلاثة بإضافة نجوى إليه ، وعلى الوجهين الآخرين يكون انخفاضها على البدل من نجوى ، أو الصفة لها . قال الفرّاء : ثلاثة نعت للنجوى ، فانخفضت ، وإن شئت أضفت نجوى إليها ، ولو نصبت على إضمار فعل جاز ، وهي قراءة ابن أبي عبلة ، ويجوز رفع ثلاثة على البدل من موضع نجوى { إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } هذه الجملة في موضع نصب على الحال ، وكذا قوله : { إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ } { إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ } أي : ما يوجد شيء من هذه الأشياء إلاّ في حال من هذه الأحوال ، فالاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال ، ومعنى رابعهم جاعلهم أربعة ، وكذا سادسهم : جاعلهم ستة من حيث إنه يشاركهم في الاطلاع على تلك النجوى { وَلاَ خَمْسَةٍ } أي : ولا نجوى خمسة ، وتخصيص العددين بالذكر؛ لأن أغلب عادات المتناجين أن يكونوا ثلاثة ، أو خمسة؛ أو كانت الواقعة التي هي سبب النزول في متناجين كانوا ثلاثة في موضع ، وخمسة في موضع . قال الفراء : العدد غير مقصود؛ لأنه سبحانه مع كل عدد قلّ أو كثر ، يعلم السر والجهر ، لا تخفى عليه خافية { وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ } أي : ولا أقلّ من العدد المذكور : كالواحد والاثنين ، ولا أكثر منه كالستة والسبعة إلاّ هو معهم يعلم ما يتناجون به لا يخفى عليه منه شيء . قرأ الجمهور : { ولا أكثر } بالجرّ بالفتحة عطفاً على لفظ نجوى . وقرأ الحسن ، والأعمش ، وابن أبي إسحاق ، وأبو حيوة ، ويعقوب ، وأبو العالية ، ونصر ، وعيسى بن عمر ، وسلام بالرفع عطفاً على محل نجوى . وقرأ الجمهور : { ولا أكثر } بالمثلثة . وقرأ الزهري ، وعكرمة بالموحدة . قال الواحدي : قال المفسرون : إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم ، ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم ، فيحزنون لذلك ، فلما طال ذلك وكثر شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين ، فلم ينتهوا عن ذلك ، وعادوا إلى مناجاتهم ، فأنزل الله هذه الآيات ، ومعنى { أَيْنَمَا كَانُواْ } إحاطة علمه بكل تناج يكون منهم في أيّ مكان من الأمكنة { ثُمَّ يُنَبّئُهُم } أي : يخبرهم { بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة } توبيخاً لهم ، وتبكيتاً ، وإلزاماً للحجة { أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } لا يخفى عليه شيء كائناً ما كان . { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } هؤلاء الذين نهوا ، ثم عادوا لما نهوا عنه ، هم من تقدّم ذكره من المنافقين واليهود . قال مقاتل : كان بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين اليهود مواعدة ، فإذا مرّ بهم الرجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظنّ المؤمن شرّاً ، فنهاهم الله ، فلم ينتهوا ، فنزلت .
وقال ابن زيد : كان الرجل يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فيسأله الحاجة ، ويناجيه ، والأرض يومئذٍ حرب ، فيتوهمون أنه يناجيه في حرب ، أو بلية ، أو أمر مهمّ ، فيفزعون لذلك { ويتناجون بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول } قرأ الجمهور : { يتناجون } بوزن يتفاعلون ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم ، لقوله فيما بعد : { إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تتناجوا } . وقرأ حمزة ، وخلف ، وورش عن يعقوب : ( وينتجون ) بوزن يفتعلون ، وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه ، وحكى سيبويه أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد نحو تخاصموا واختصموا ، وتقاتلوا واقتتلوا ، ومعنى الإثم : ما هو إثم في نفسه كالكذب والظلم ، والعدوان : ما فيه عدوان على المؤمنين ، ومعصية الرسول : مخالفته . قرأ الجمهور : { ومعصية } بالإفراد . وقرأ الضحاك ، وحميد ، ومجاهد : ( ومعصيات ) بالجمع { وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله } قال القرطبي : إن المراد بها اليهود كانوا يأتون النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فيقولون : السام عليك يريدون بذلك السلام ظاهراً ، وهم يعنون الموت باطناً ، فيقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : « عليكم » وفي رواية أخرى : « وعليكم » { وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ } أي : فيما بينهم { لَوْلاَ يُعَذّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ } أي : هلا يعذبنا بذلك ، ولو كان محمد نبياً لعذبنا بما يتضمنه قولنا من الاستخفاف به . وقيل المعنى : لو كان نبياً لاستجيب له فينا حيث يقول : وعليكم ، ووقع علينا الموت عند ذلك { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ } عذاباً { يَصْلَوْنَهَا } يدخلونها { فَبِئْسَ المصير } أي : المرجع ، وهو جهنم . { ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تتناجوا بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول } لما فرغ سبحانه عن نهي اليهود والمنافقين عن النجوى أرشد المؤمنين إذا تناجوا فيما بينهم أن لا يتناجوا بما فيه إثم وعدوان ، ومعصية لرسول الله ، كما يفعله اليهود والمنافقون . ثم بيّن لهم ما يتناجون به في أنديتهم وخلواتهم ، فقال : { وتناجوا بالبر والتقوى } أي : بالطاعة وترك المعصية ، وقيل : الخطاب للمنافقين ، والمعنى : يا أيها الذين آمنوا ظاهراً ، أو بزعمهم ، واختار هذا الزجاج . وقيل : الخطاب لليهود . والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بموسى ، والأوّل أولى ، ثم خوفهم سبحانه ، فقال : { واتقوا الله الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } ، فيجزيكم بأعمالكم . ثم بيّن سبحانه أن ما يفعله اليهود والمنافقون من التناجي هو من جهة الشيطان ، فقال : { إِنَّمَا النجوى } يعني : بالإثم والعدوان ، ومعصية الرسول { مِنَ الشيطان } لا من غيره ، أي : من تزيينه وتسويله { لِيَحْزُنَ الذين ءامَنُواْ } أي : لأجل أن يوقعهم في الحزن بما يحصل لهم من التوهم أنها في مكيدة يكادون بها { وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ شَيْئاً } أو ، وليس الشيطان ، أو التناجي الذي يزينه الشيطان بضارّ المؤمنين شيئًا من الضرر { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي : بمشيئته ، وقيل : بعلمه { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أي : يكلون أمرهم إليه ، ويفوّضونه في جميع شؤونهم ، ويستعيذون بالله من الشيطان ، ولا يبالون بما يزينه من النجوى .
وقد أخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والبزار ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب . قال السيوطي بسندٍ جيد عن ابن عمر : إن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : السام عليك ، يريدون بذلك شتمه ، ثم يقولون في أنفسهم : { لولا يعذبنا الله بما نقول } ، فنزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله } . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، والترمذي وصححه عن أنس : أن يهودياً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال : السام عليكم ، فردّ عليه القوم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « هل تدرون ما قال هذا » ؟ قالوا : الله أعلم ، سلم يا نبيّ الله ، قال : « لا ، ولكنه قال كذا ، وكذا ، ردّوه عليّ » فردّوه ، قال : « قلت : السام عليكم؟ » قال : نعم ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم عند ذلك : « إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب ، فقولوا : عليك ، ما قلت » قال : { وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله } . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن عائشة قالت : دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود ، فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم ، فقالت عائشة : عليكم السام واللعنة ، فقال : « يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا المتفحش » ، قلت : ألا تسمعهم يقولون السام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أو ما سمعتني أقول : وعليكم » فأنزل الله : { وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله } . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال : كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حيوه : سام عليك ، فنزلت . وأخرج ابن مردويه عنه قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية وأغزاها ، التقى المنافقون ، فأنغضوا رءوسهم إلى المسلمين ، ويقولون : قتل القوم ، وإذا رأوا رسول الله تناجوا وأظهروا الحزن ، فبلغ ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن المسلمين ، فأنزل الله : { ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تتناجوا بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول } الآية . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا كنتم ثلاثة ، فلا يتناجى اثنان دون الثالث ، فإن ذلك يحزنه » وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي سعيد قال : كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرقه أمر ، أو يأمر بشيء ، فكثر أهل النوب والمحتسبون ليلة حتى إذا كنا أنداء نتحدّث ، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فقال : « ما هذه النجوى؟ ألم تنهوا عن النجوى » ؟ قلنا : يا رسول الله إنا كنا في ذكر المسيح فرقاً منه ، فقال : « ألا أخبركم مما هو أخوف عليكم عندي منه » ؟ قلنا : بلى يا رسول الله . قال : « الشرك الخفيّ أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل » قال ابن كثير : هذا إسناد غريب ، وفيه بعض الضعفاء .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
قوله : { ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى المجالس } يقال : فسح له يفسح فسحاً أي : وسع له ، ومنه قولهم بلد فسيح . أمر الله سبحانه بحسن الأدب مع بعضهم بعضاً بالتوسعة في المجلس ، وعدم التضايق فيه . قال قتادة ، ومجاهد ، والضحاك : كانوا يتنافسون في مجلس النبيّ ، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض . وقال الحسن ، ويزيد بن أبي حبيب : هو مجلس القتال إذا اصطفوا للحرب كانوا يتشاحون على الصفّ الأوّل ، فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال؛ لتحصيل الشهادة { فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ } أي : فوسعوا يوسع الله لكم في الجنة ، أو في كلّ ما تريدون التفسح فيه من المكان والرزق وغيرهما . قرأ الجمهور : { تفسحوا في المجلس } وقرأ السلمي ، وزرّ بن حبيش ، وعاصم : ( في المجالس ) على الجمع؛ لأن لكلّ واحد منهم مجلساً ، وقرأ قتادة ، والحسن ، وداود بن أبي هند ، وعيسى بن عمر : ( تفاسحوا ) قال الواحدي : والوجه التوحيد في المجلس؛ لأنه يعني به مجلس النبيّ . وقال القرطبي : الصحيح في الآية أنها عامة في كلّ مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر ، سواء كان مجلس حرب ، أو ذكر ، أو يوم الجمعة ، وأن كلّ واحد أحقّ بمكانه الذي سبق إليه ، ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذّ بذلك ، فيخرجه الضيق عن موضعه ، ويؤيد هذا حديث ابن عمر عند البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ، ثم يجلس فيه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا » { وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ } قرأ الجمهور بكسر الشين فيها ، وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم بضمها فيهما ، وهما لغتان بمعنى واحد ، يقال : نشز ، أي : ارتفع ، ينشز وينشز كعكف يعكف ويعكف ، والمعنى : إذا قيل لكم : انهضوا ، فانهضوا . قال جمهور المفسرين : أي انهضوا إلى الصلاة ، والجهاد ، وعمل الخير . وقال مجاهد ، والضحاك ، وعكرمة : كان رجال يتثاقلون عن الصلاة ، فقيل لهم : إذا نودي للصلاة ، فانهضوا . وقال الحسن : انهضوا إلى الحرب . وقال ابن زيد : هذا في بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال الله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ انشزوا } عن النبيّ { فَانشُزُواْ } فإن له حوائج ، فلا تمكثوا . وقال قتادة : المعنى أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف ، والظاهر حمل الآية على العموم؛ والمعنى : إذا قيل لكم : انهضوا إلى أمر من الأمور الدينية ، فانهضوا ولا تتثاقلوا ، ولا يمنع من حملها على العموم كون السبب خاصاً ، فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، كما هو الحق ، ويندرج ما هو سبب النزول فيها اندراجاً أوّلياً ، وهكذا يندرج ما فيه السياق ، وهو التفسيح في المجلس اندراجاً أوّلياً ، وقد قدّمنا أن معنى نشز : ارتفع ، وهكذا يقال : نشز ينشز : إذا تنحى عن موضعه ، ومنه امرأة ناشز ، أي : متنحية عن زوجها ، وأصله مأخوذ من النشز ، وهو ما ارتفع من الأرض وتنحى ، ذكر معناه النحاس { يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ } في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيهما { والذين أُوتُواْ العلم درجات } أي : ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات عالية في الكرامة في الدنيا ، والثواب في الآخرة ، ومعنى الآية : أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمن درجات ، ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات ، فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات ، ثم رفعه بعلمه درجات ، وقيل : المراد بالذين آمنوا من الصحابة ، وكذلك الذين أوتوا العلم ، وقيل : المراد بالذين أوتوا العلم الذين قرءوا القرآن .
والأولى حمل الآية على العموم في كل مؤمن ، وكل صاحب علم من علوم الدين من جميع أهل هذه الملة ، ولا دليل يدلّ على تخصيص الآية بالبعض دون البعض ، وفي هذه الآية فضيلة عظيمة للعلم وأهله ، وقد دلّ على فضله وفضلهم آيات قرآنية وأحاديث نبوية { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } لا يخفى عليه شيء من أعمالكم من خير وشرّ ، فهو مجازيكم بالخير خيراً وبالشرّ شراً . { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً } المناجاة المساررة ، والمعنى : إذا أردتم مساررة الرسول في أمر من أموركم ، فقدّموا بين يدي مساررتكم له صدقة . قال الحسن : نزلت بسبب أن قوماً من المسلمين كانوا يستخلون النبيّ صلى الله عليه وسلم يناجونه ، فظنّ بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى ، فشقّ عليهم ذلك ، فأمرهم الله بالصدقة عند النجوى؛ لتقطعهم عن استخلائه . وقال زيد بن أسلم : نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ويقولون : إنه أذن يسمع كل ما قيل له ، وكان لا يمنع أحداً من مناجاته ، وكان ذلك يشقّ على المسلمين؛ لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعاً اجتمعت لقتاله ، فأنزل الله : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول } ، فلم ينتهوا ، فأنزل الله هذه الآية ، فانتهى أهل الباطل عن النجوى؛ لأنهم لم يقدّموا بين يدي نجواهم صدقة ، وشقّ ذلك على أهل الإيمان ، وامتنعوا عن النجوى لضعف كثير منهم عن الصدقة ، فخفف الله عنهم بالآية التي بعد هذه ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدّم من تقديم الصدقة بين يدي النجوى ، وهو مبتدأ وخبره : { خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ } لما فيه من طاعة الله ، وتقييد الأمر بكون امتثاله خيراً لهم من عدم الامتثال ، وأطهر لنفوسهم يدل على أنه أمر ندب لا أمر وجوب { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يعني : من كان منهم لا يجد تلك الصدقة المأمور بها بين يدي النجوى ، فلا حرج عليه في النجوى بدون صدقة .
{ أَءشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات } أي : أخفتم الفقر والعيلة؛ لأن تقدّموا ذلك ، والإشفاق : الخوف من المكروه ، والاستفهام للتقرير . وقيل المعنى : أبخلتم ، وجمع الصدقات هنا باعتبار المخاطبين . قال مقاتل بن حيان : إنما كان ذلك عشر ليالٍ ، ثم نسخ . وقال الكلبي : ما كان ذلك إلاّ ليلة واحدة . وقال قتادة : ما كان إلاّ ساعة من النهار { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } ما أمرتم به من الصدقة بين يدي النجوى ، وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به ، ولم يفعل ، وأما من لم يجد ، فقد تقدّم الترخيص له بقوله : { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } { وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ } بأن رخص لكم في الترك ، «وإذ» على بابها في الدلالة على المضيّ ، وقيل : هي بمعنى إذا ، وقيل : بمعنى إن ، وتاب معطوف على لم تفعلوا ، أي : وإذا لم تفعلوا ، وإذ تاب عليكم { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } والمعنى : إذا وقع منكم التثاقل عن امتثال الأمر بتقديم الصدقة بين يدي النجوى ، فاثبتوا على إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة الله ورسوله ، فيما تؤمرون به وتنهون عنه { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } لا يخفى عليه من ذلك شيء ، فهو مجازيكم ، وليس في الآية ما يدلّ على تقصير المؤمنين في امتثال هذا الأمر ، أما الفقراء منهم ، فالأمر واضح ، وأما من عداهم من المؤمنين ، فإنهم لم يكلفوا بالمناجاة حتى تجب عليهم الصدقة بل أمروا بالصدقة إذا أرادوا المناجاة فمن ترك المناجاة ، فلا يكون مقصراً في امتثال الأمر بالصدقة ، على أن في الآية ما يدل على أن الأمر للندب ، كما قدّمنا . وقد استدلّ بهذه الآية من قال بأنه يجوز النسخ قبل إمكان الفعل ، وليس هذا الاستدلال بصحيح ، فإن النسخ لم يقع إلاّ بعد إمكان الفعل ، وأيضاً قد فعل ذلك البعض ، فتصدّق بين يدي نجواه ، كما سيأتي .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال : أنزلت هذه الآية { إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى المجالس } يوم جمعة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ في الصفة ، وفي المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر ، وقد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته ، فردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهم ، ثم سلموا على القوم بعد ذلك ، فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف النبيّ ما يحملهم على القيام ، فلم يفسح لهم ، فشق ذلك عليه ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : «قم يا فلان ، وأنت يا فلان» ، فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام من أهل بدر ، فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه ، فنزلت هذه الآية .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : ذلك في مجلس القتال { وَإِذَا قِيلَ انشزوا } قال : إلى الخير والصلاة . وأخرج ابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في المدخل عن ابن عباس في قوله : { يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم درجات } قال : يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤمنوا درجات . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في تفسير هذه الآية قال : يرفع الله الذين آمنوا منكم ، وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات . وأخرج ابن المنذر عنه قال : ما خصّ الله العلماء في شيء من القرآن ما خصهم في هذه الآية ، فضل الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { إِذَا ناجيتم الرسول } الآية ، قال : إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه ، فأراد الله أن يخفف عن نبيه ، فلما قال ذلك ظنّ كثير من الناس ، وكفوا عن المسئلة ، فأنزل الله بعد هذا : { أَءشْفَقْتُمْ } الآية ، فوسع الله عليهم ولم يضيق . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والترمذي وحسنه ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والنحاس ، وابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال : لما نزلت : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً } قال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم : « ما ترى ، دينار؟ » قلت : لا يطيقونه . قال : « فنصف دينار؟ » قلت لا يطيقونه ، قال ، « فكم؟ » قلت : شعيرة ، قال : « إنك لزهيد » ، قال : فنزلت { أأشفقتم أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات } الآية ، فبي خفف الله عن هذه الآمة ، والمراد بالشعيرة هنا : وزن شعيرة من ذهب ، وليس المراد : واحدة من حبّ الشعير . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه قال : ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت ، وما كانت إلاّ ساعة ، يعني : آية النجوى . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن راهويه ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عنه أيضاً قال : إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي ، آية النجوى { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً } كان عندي دينار ، فبعته بعشرة دراهم ، فكنت كلما ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّمت بين يدي نجواي درهماً ، ثم نسخت ، فلم يعمل بها أحد ، فنزلت : { أأشفقتم أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات } الآية . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه . قال السيوطي : بسندٍ ضعيف عن سعد بن أبي وقاص قال : نزلت { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً } ، فقدمت شعيرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنك لزهيد » ، فنزلت الآية الأخرى : { أأشفقتم أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات } .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً } أي : والوهم . قال قتادة : هم المنافقون تولوا اليهود . وقال السديّ ، ومقاتل : هم اليهود تولوا المنافقين ، ويدلّ على الأوّل قوله : { غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ } فإن المغضوب عليهم هم اليهود ، ويدلّ على الثاني قوله : { مَّا هُم مّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } فإن هذه صفة المنافقين ، كما قال الله فيهم : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء } [ النساء : 143 ] وجملة : { مَّا هُم مّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } في محل نصب على الحال ، أو هي مستأنفة { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب } أي : يحلفون أنهم مسلمون ، أو يحلفون أنهم ما نقلوا الأخبار إلى اليهود ، والجملة عطف على تولوا داخلة في حكم التعجيب من فعلهم ، وجملة : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } في محل نصب على الحال ، أي : والحال أنهم يعلمون بطلان ما حلفوا عليه ، وأنه كذب لا حقيقة له . { أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } بسبب هذا التولي والحلف على الباطل { إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من الأعمال القبيحة { اتخذوا أيمانهم جُنَّةً } قرأ الجمهور : { أيمانهم } بفتح الهمزة جمع يمين ، وهي ما كانوا يحلفون عليه من الكذب بأنهم من المسلمين توقياً من القتل ، فجعلوا هذه الأيمان وقاية وسترة دون دمائهم ، كما يجعل المقاتل الجنة وقاية له من أن يصاب بسيف أو رمح أو سهم . وقرأ الحسن ، وأبو العالية ( إيمانهم ) بكسر الهمزة أي : جعلوها تصديقهم جنة من القتل ، فآمنت ألسنتهم من خوف القتل ، ولم تؤمن قلوبهم { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } أي : منعوا الناس عن الإسلام بسبب ما يصدر عنهم من التثبيط ، وتهوين أمر المسلمين ، وتضعيف شوكتهم ، وقيل المعنى : فصدّوا المسلمين عن قتالهم بسبب إظهارهم للإسلام { فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي : يهينهم ويخزيهم ، قيل : هو تكرير لقوله : { أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } للتأكيد ، وقيل : الأوّل عذاب القبر ، وهذا عذاب الآخرة ، ولا وجه للقول بالتكرار ، فإن العذاب الموصوف بالشدّة غير العذاب الموصوف بالإهانة . { لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله شَيْئًا } أي : لن تغني عنهم من عذابه شيئًا من الإغناء . قال مقاتل : قال المنافقون : إن محمداً يزعم أنه ينصر يوم القيامة لقد شقينا إذن ، فوالله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا ، وأموالنا ، وأولادنا إن كان قيامة ، فنزلت الآية { أولئك } الموصوفون بما ذكر { أصحاب النار } لا يفارقونها { هُمْ فِيهَا خالدون } لا يخرجون منها { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً } الظرف منصوب بقوله : { مُّهِينٌ } ، أو بمقدّر ، أي : اذكر { فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } أي : يحلفون لله يوم القيامة على الكذب كما يحلفون لكم في الدنيا ، وهذا من شدّة شقاوتهم ومزيد الطبع على قلوبهم ، فإن يوم القيامة قد انكشفت الحقائق وصارت الأمور معلومة بضرورة المشاهدة ، فكيف يجترئون على أن يكذبوا في ذلك الموقف ويحلفون على الكذب { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَىْء } أي : يحسبون في الآخرة أنهم بتلك الأيمان الكاذبة على شيء مما يجلب نفعاً ، أو يدفع ضرراً ، كما كانوا يحسبون ذلك في الدنيا { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون } أي : الكاملون في الكذب المتهالكون عليه البالغون فيه إلى حدّ لم يبلغ غيرهم إليه بإقدامهم عليه ، وعلى الأيمان الفاجرة في موقف القيامة بين يدي الرحمن .
{ استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان } أي : غلب عليهم واستعلى واستولى . قال المبرّد : استحوذ على الشيء : حواه وأحاط به ، وقيل : قوي عليهم ، وقيل : جمعهم ، يقال : أحوذ الشيء ، أي : جمعه وضمّ بعضه إلى بعض ، والمعاني متقاربة؛ لأنه إذا جمعهم فقد قوي عليهم وغلبهم واستعلى عليهم واستولى ، وأحاط بهم { فأنساهم ذِكْرَ الله } أي : أوامره والعمل بطاعاته ، فلم يذكروا شيئًا من ذلك ، وقيل : زواجره في النهي عن معاصيه ، وقيل : لم يذكروه بقلوبهم ولا بألسنتهم ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى المذكورين الموصوفين بتلك الصفات ، وهو مبتدأ ، وخبره { حِزْبُ الشيطان } أي : جنوده ، وأتباعه ، ورهطه { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخاسرون } أي : الكاملون في الخسران حتى كأن خسران غيرهم بالنسبة إلى خسرانهم ليس بخسران لأنهم باعوا الجنة والهدى بالضلالة ، وكذبوا على الله وعلى نبيه ، وحلفوا الأيمان الفاجرة في الدنيا والآخرة { إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ } تقدّم معنى المحادّة لله ولرسوله في أوّل هذه السورة ، والجملة تعليل لما قبلها { أُوْلَئِكَ فِى الأذلين } أي : أولئك المحادّون لله ورسوله ، المتصفون بتلك الصفات المتقدّمة من جملة من أذله الله من الأمم السابقة واللاحقة؛ لأنهم لما حادّوا الله ورسوله صاروا من الذلّ بهذا المكان . قال عطاء : يريد الذلّ في الدنيا ، والخزي في الآخرة . { كَتَبَ الله لأغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها مع كونهم في الأذلين ، أي : كتب في اللوح المحفوظ ، وقضى في سابق علمه : لأغلبنّ أنا ورسلي بالحجة والسيف . قال الزجاج : معنى غلبة الرسل على نوعين : من بعث منهم بالحرب ، فهو غالب في الحرب ، ومن بعث منهم بغير الحرب ، فهو غالب بالحجة . قال الفراء : كتب بمعنى قال ، وقوله : { أَنَاْ } توكيد ، ثم ذكر مثل قول الزجاج . { إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ } فهو قويّ على نصر أوليائه غالب لأعدائه لا يغلبه أحد . { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يصلح له أي : يحبون ويوالون من عادى الله ورسوله وشاقهما ، وجملة : { يُوَادُّونَ } في محل نصب على أنها المفعول الثاني لتجد إن كان متعدّياً إلى مفعولين ، أو في محل نصب على الحال إن كان متعدّياً إلى مفعول واحد ، أو صفة أخرى ل { قوماً } ، أي : جامعون بين الإيمان والموادّة لمن حادّ الله ورسوله { وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخوانهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } أي : ولو كان المحادّون لله ورسوله آباء الموادّين ، إلخ ، فإن الإيمان يزجر عن ذلك ، ويمنع منه ، ورعايته أقوى من رعاية الأبوّة والبنوّة والأخوّة والعشيرة { أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان } يعني : الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله ، ومعنى { كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان } : خلقه ، وقيل : أثبته ، وقيل : جعله ، وقيل : جمعه ، والمعاني متقاربة { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ } قوّاهم بنصر منه على عدوّهم في الدنيا ، وسمى نصره لهم روحاً لأن به يحيا أمرهم ، وقيل : هو نور القلب .
وقال الربيع بن أنس : بالقرآن والحجة ، وقيل : بجبريل ، وقيل : بالإيمان ، وقيل : برحمة . قرأ الجمهور : { كتب } مبنياً للفاعل ، ونصب الإيمان على المفعولية . وقرأ زرّ بن حبيش ، والمفضل عن عاصم على البناء للمفعول ، ورفع الإيمان على النيابة . وقرأ زرّ بن حبيش : ( عشيراتهم ) بالجمع ، ورويت هذه القراءة عن عاصم { وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا } على الأبد { رَّضِىَ الله عَنْهُمْ } أي : قبل أعمالهم ، وأفاض عليهم آثار رحمته العاجلة والآجلة { وَرَضُواْ عَنْهُ } أي : فرحوا بما أعطاهم عاجلاً وآجلاً { أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله } أي : جنده الذين يمتثلون أوامره ، ويقاتلون أعداءه ، وينصرون أولياءه ، وفي إضافتهم إلى الله سبحانه تشريف لهم عظيم ، وتكريم فخيم { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } أي : الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة ، الكاملون في الفلاح الذين صار فلاحهم هو الفرد الكامل ، حتى كان فلاح غيرهم بالنسبة إلى فلاحهم كلا فلاح .
وقد أخرج أحمد ، والبزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في ظلّ حجرة من حجره ، وعنده نفر من المسلمين ، فقال : « إنه سيأتيكم إنسان ، فينظر إليكم بعين شيطان ، فإذا جاءكم ، فلا تكلموه » ، فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق ، فقال حين رآه : « علام تشتمني أنت وأصحابك » ؟ فقال : ذرني آتيك بهم ، فحلفوا ، واعتذروا ، فأنزل الله : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } الآية والتي بعدها . وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في سننه عن عبد الله بن شوذب قال : جعل والد أبي عبيدة بن الجرّاح يتقصد لأبي عبيدة يوم بدر ، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه ، فلما أكثر قصده أبو عبيدة ، فقتله ، فنزلت : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله } الآية .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
قوله : { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } قد تقدّم تفسير هذا في سورة الحديد . { هُوَ الذى أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم لأوَّلِ الحشر } هم بنو النضير ، وهم . رهط من اليهود من ذرية هارون ، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظاراً منهم لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فغدروا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن عاهدوه ، وصاروا عليه مع المشركين ، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضوا بالجلاء . قال الكلبي : كانوا أوّل من أجلي من أهل الذمّة من جزيرة العرب ، ثم أجلي آخرهم في زمن عمر بن الخطاب ، فكان جلاؤهم أوّل حشر من المدينة ، وآخر حشر إجلاء عمر لهم . وقيل : إن أوّل الحشر إخراجهم من حصونهم إلى خيبر ، وآخر الحشر إخراجهم من خيبر إلى الشام ، وقيل : آخر الحشر هو حشر جميع الناس إلى أرض المحشر ، وهي الشام . قال عكرمة : من شك أن المحشر يوم القيامة في الشام ، فليقرأ هذه الآية ، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لهم : « اخرجوا » ، قالوا : إلى أين؟ قال : « إلى أرض المحشر » قال ابن العربي : الحشر أوّل وأوسط وآخر ، فالأوّل إجلاء بني النضير ، والأوسط إجلاء أهل خيبر ، والآخر يوم القيامة .
وقد أجمع المفسرون على أن هؤلاء المذكورين في الآية هم بنو النضير ، ولم يخالف في ذلك إلاّ الحسن البصري فقال : هم بنو قريظة ، وهو غلط ، فإن بني قريظة ما حشروا ، بل قتلوا بحكم سعد بن معاذ لما رضوا بحكمه ، فحكم عليهم بأن تقتل مقاتلتهم ، وتسبي ذراريهم ، وتغنم أموالهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد : « لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة » واللام في { لأوّل الحشر } متعلقة ب { أخرج } ، وهي لام التوقيت كقوله : { لِدُلُوكِ الشمس } [ الإسراء : 78 ] . { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } هذا خطاب للمسلمين ، أي : ما ظننتم أيها المسلمون أن بني النضير يخرجون من ديارهم؛ لعزتهم ، ومنعتهم ، وذلك أنهم كانوا أهل حصون مانعة ، وعقار ، ونخيل واسعة ، وأهل عدد وعدّة { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ الله } أي : وظنّ بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من بأس الله ، وقوله : { مَّانِعَتُهُمْ } خبر مقدّم ، و { حصونهم } مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر { أنهم } ، ويجوز أن يكون { مانعتهم } خبر { أنهم } ، و { حصونهم } فاعل { مانعتهم } ، ورجح الثاني أبو حيان ، والأوّل أولى { فأتاهم الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } أي : أتاهم أمر الله من حيث لم يخطر ببالهم أنه يأتيهم أمره من تلك الجهة ، وهو أنه سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك ، وقيل : هو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف ، قاله ابن جريج ، والسديّ ، وأبو صالح ، فإنّ قتله أضعف شوكتهم .
وقيل : إن الضمير في { أتاهم } ، و { لم يحتسبوا } للمؤمنين ، أي : فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا ، والأوّل أولى لقوله : { وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب } فإن قذف الرعب كان في قلوب بني النضير ، لا في قلوب المسلمين . قال أهل اللغة : الرعب : الخوف الذي يرعب الصدر ، أي : يملؤه ، وقذفه : إثباته فيه . وقيل : كان قذف الرعب في قلوبهم بقتل سيدهم كعب بن الأشرف ، والأولى عدم تقييده بذلك ، وتفسيره به ، بل المراد بالرعب الذي قذفه الله في قلوبهم هو الذي ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم : « نصرت بالرعب مسيرة شهر » { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى المؤمنين } وذلك أنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم ، فجعلوا يخربونها من داخل ، والمسلمون من خارج . قال قتادة والضحاك : كان المؤمنون يخربون من خارج ، ليدخلوا ، واليهود من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم . قال الزجاج : معنى تخريبها بأيدي المؤمنين : أنهم عرضوها لذلك . قرأ الجمهور : { يخربون } بالتخفيف ، وقرأ الحسن ، والسلمي ، ونصر بن عاصم ، وأبو العالية ، وأبو عمرو بالتشديد . قال أبو عمرو : إنما اخترت القراءة بالتشديد ، لأن الإخراب ترك الشيء خراباً ، وإنما خربوها بالهدم . وليس ما قاله بمسلم ، فإن التخريب والإخراب عند أهل اللغة بمعنى واحد . قال سيبويه : إن معنى فعلت وأفعلت يتعاقبان نحو أخربته وخربته ، وأفرحته وفرحته . واختار القراءة الأولى أبو عبيد ، وأبو حاتم . قال الزهري ، وابن زيد ، وعروة بن الزبير : لما صالحهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما أقلت الإبل ، كانوا يستحسنون الخشبة ، أو العمود ، فيهدمون بيوتهم ، ويحملون ذلك على إبلهم ، ويخرب المؤمنون باقيها . وقال الزهري أيضاً : { يخربون بيوتهم } بنقض المعاهدة ، و { أيدي المؤمنين } بالمقاتلة ، وقال أبو عمرو : بأيديهم في تركهم لها ، وب { أيدي المؤمنين } في إجلائهم عنها ، والجملة إما مستأنفة لبيان ما فعلوه ، أو في محل نصب على الحال { فاعتبروا ياأولى الأبصار } أي : اتعظوا وتدبروا ، وانظروا فيما نزل بهم يا أهل العقول والبصائر . قال الواحدي : ومعنى الاعتبار : النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها . { وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء لَعَذَّبَهُمْ فِى الدنيا } أي : لولا أن كتب الله عليهم الخروج من أوطانهم على ذلك الوجه ، وقضى به عليهم لعذبهم بالقتل والسبي في الدنيا ، كما فعل ببني قريظة . والجلاء : مفارقة الوطن ، يقال : جلا بنفسه جلاء ، وأجلاه غيره إجلاءً . والفرق بين الجلاء والإخراج ، وإن كان معناهما في الإبعاد واحداً من جهتين : إحداهما : أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد ، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد . الثاني : أن الجلاء لا يكون إلاّ لجماعة ، والإخراج يكون لجماعة ولواحد ، كذا قال الماوردي .
{ وَلَهُمْ فِى الآخرة عَذَابُ النار } هذه الجملة مستأنفة غير متعلقة بجواب لولا متضمنة لبيان ما يحصل لهم في الآخرة من العذاب ، وإن نجوا من عذاب الدنيا ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدّم ذكره من الجلاء في الدنيا ، والعذاب في الآخرة { بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ } أي : بسبب المشاقة منهم لله ولرسوله بعدم الطاعة ، والميل مع الكفار ، ونقض العهد { وَمَن يُشَاقّ الله فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } اقتصر هاهنا على مشاقة الله؛ لأن مشاقته مشاقة لرسوله . قرأ الجمهور : { يشاق } بالإدغام ، وقرأ طلحة بن مصرف ، ومحمد بن السميفع : ( يشاقق ) بالفك . { مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله } قال مجاهد : إن بعض المهاجرين وقعوا في قطع النخل ، فنهاهم بعضهم ، وقالوا : إنما هي مغانم للمسلمين ، وقال الذين قطعوا : بل هو غيظ للعدوّ؛ فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطع النخل ، وتحليل من قطعه من الإثم فقال : { مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ } قال قتادة ، والضحاك : إنهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ست نخلات . وقال محمد بن إسحاق : إنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة ، فقال بنو النضير ، وهم أهل كتاب : يا محمد ألست تزعم أنك نبيّ تريد الصلاح ، أفمن الصلاح قطع النخل ، وحرق الشجر؟ ، وهل وجدت ، فيما أنزل عليك إباحة الفساد في الأرض ، فشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووجد المسلمون في أنفسهم ، فنزلت الآية ، ومعنى الآية : أيُّ شيء قطعتم من ذلك أو تركتم فبإذن الله ، والضمير في { تركتموها } عائد إلى «ما» لتفسيرها باللينة ، وكذا في قوله : { قَائِمَةً على أُصُولِهَا } ، ومعنى { على أُصُولِهَا } : أنها باقية على ما هي عليه .
واختلف المفسرون في تفسير اللينة ، فقال الزهري ، ومالك ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، والخليل : إنها النخل كله إلاّ العجوة . وقال مجاهد : إنها النخل كله ، ولم يستثن عجوة ولا غيرها . وقال الثوري : هي كرام النخل . وقال أبو عبيدة : إنها جميع أنواع التمر سوى العجوة والبرني . وقال جعفر بن محمد : إنها العجوة خاصة ، وقيل : هي ضرب من النخل ، يقال لتمره : اللون ، تمره أجود التمر . وقال الأصمعي : هي الدقل . وأصل اللينة . لونة ، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، وجمع اللينة لين ، وقيل : ليان . وقرأ ابن مسعود ( ما قطعتم من لينة ولا تركتم قوماً على أصولها ) أي : قائمة على سوقها ، وقرىء : ( على أصلها ) ، وقرىء : ( قائماً على أصوله ) { وَلِيُخْزِىَ الفاسقين } أي : ليذلّ الخارجين عن الطاعة ، وهم اليهود ، ويغيظهم في قطعها وتركها ، لأنهم إذا رأوا المؤمنين يتحكمون في أموالهم كيف شاءوا من القطع والترك ازدادوا غيظاً . قال الزجاج : { وليخزي الفاسقين } بأن يريهم أموالهم يتحكم فيها المؤمنون كيف أحبوا من قطع وترك ، والتقدير : وليخزي الفاسقين أذن في ذلك ، يدل على المحذوف قوله : { فَبِإِذْنِ الله } ، وقد استدلّ بهذه الآية على جواز الاجتهاد ، وعلى تصويب المجتهدين ، والبحث مستوفى في كتب الأصول .
{ وَمَا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ } أي : ما ردّه عليه من أموال الكفار ، يقال : فاء يفيء ، إذا رجع ، والضمير في { منهم } عائد إلى بني النضير { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ } يقال : وجف الفرس والبعير يجف وجفاً ، وهو سرعة السير ، وأوجفه صاحبه : إذا حمله على السير السريع ، ومنه قول تميم بن مقبل :
مذ أوبد بالبيض الحديد صقالها ... عن الركب أحياناً إذا الركب أوجفوا
وقال نصيب :
ألا رُبَّ ركب قد قطعت وجيفهم ... إليك ولولا أنت لم يوجف الركب
و«ما» في { فَمَا أَوْجَفْتُمْ } نافية ، والفاء جواب الشرط إن كانت «ما» في قوله : { مَّا أَفَاء الله } شرطية ، وإن موصولة ، فالفاء زائدة ، «ومن» في قوله : { مِنْ خَيْلٍ } زائدة للتأكيد ، والركاب . ما يركب من الإبل خاصة ، والمعنى : أن ما ردّ الله على رسوله من أموال بني النضير لم تركبوا لتحصيله خيلاً ، ولا إبلاً ، ولا تجشمتم لها شقة ، ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة ، وإنما كانت من المدينة على ميلين ، فجعل الله سبحانه أموال بني النضير لرسوله صلى الله عليه وسلم ، خاصة لهذا السبب ، فإنه افتتحها صلحاً ، وأخذ أموالها ، وقد كان سأله المسلمون أن يقسم لهم ، فنزلت الآية : { ولكن الله يُسَلّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَاء } من أعدائه ، وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، دون أصحابه لكونهم لم يوجفوا عليها بخيل ، ولا ركاب ، بل مشوا إليها مشياً ، ولم يقاسوا فيها شيئًا من شدائد الحروب ، { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } يسلط من يشاء على من أراد ، ويعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] . { مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى } هذا بيان لمصارف الفيء بعد بيان أنه لرسول الله خاصة ، والتكرير لقصد التقرير والتأكيد ، ووضع { أهل القرى } موضع قوله : { مِنْهُمْ } أي : من بني النضير للإشعار بأن هذا الحكم لا يختصّ ببني النضير وحدهم ، بل هو حكم على كل قرية يفتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلحاً ، ولم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب . قيل : والمراد بالقرى : بنو النضير ، وقريظة ، وفدك ، وخيبر . وقد تكلم أهل العلم في هذه الآية والتي قبلها ، هل معناهما متفق ، أو مختلف؟ فقيل : معناهما متفق كما ذكرنا ، وقيل : مختلف وفي ذلك كلام لأهل العلم طويل . قال ابن العربي : لا إشكال أنها ثلاثة معانٍ في ثلاث آيات . أما الآية الأولى ، وهي قوله : { وَمَا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ } فهي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة له ، وهي أموال بني النضير وما كان مثلها .
وأما الآية الثانية ، وهي قوله : { مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى } فهذا كلام مبتدأ غير الأوّل بمستحق غير الأول ، وإن اشتركت هي والأولى في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئًا أفاءه الله على رسوله ، واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال ، واقتضت آية الأنفال ، وهي الآية الثالثة أنه حاصل بقتال ، وعريت الآية الثانية ، وهي قوله : { مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى } عن ذكر حصوله بقتال ، أو بغير قتال ، فنشأ الخلاف من ها هنا؛ فطائفة قالت : هي ملحقة بالأولى ، وهي مال الصلح ، وطائفة قالت : هي ملحقة بالثالثة ، وهي آية الأنفال . والذين قالوا : إنها ملحقة بآية الأنفال اختلفوا هل هي منسوخة ، أو محكمة؟ هذا معنى حاصل كلامه . وقال مالك : إن الآية الأولى من هذه السورة خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والآية الثانية : هي في بني قريظة ، ويعني : أن معناها يعود إلى آية الأنفال . ومذهب الشافعي أن سبيل خمس الفيء سبيل خمس الغنيمة ، وأنّ أربعة أخماسه كانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم وهي بعده لمصالح المسلمين { فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } المراد بقوله : { لِلَّهِ } أنه { يحكم فيه بما يشاء } { وَلِلرَّسُولِ } يكون ملكاً له { وَلِذِى القربى } وهم بنو هاشم ، وبنو المطلب ، لأنهم قد منعوا من الصدقة ، فجعل لهم حقاً في الفيء . قيل : تكون القسمة في هذا المال على أن يكون أربعة أخماسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخمسه يقسم أخماساً . للرّسول خمس ، ولكل صنف من الأصناف الأربعة المذكورة خمس ، وقيل : يقسم أسداساً . السادس : سهم الله سبحانه ، ويصرف إلى وجوه القرب ، كعمارة المساجد ، ونحو ذلك { كيلاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنياء مِنكُمْ } أي : كيلا يكون الفيء دولة بين الأغنياء دون الفقراء ، والدولة : اسم للشيء يتداوله القوم بينهم ، يكون لهذا مرّة ولهذا مرّة . قال مقاتل : المعنى : أنه يغلب الأغنياء الفقراء ، فيقسمونه بينهم . قرأ الجمهور : { يكون } بالتحتية { دولة } بالنصب أي : كيلا يكون الفيء دولة . وقرأ أبو جعفر ، والأعرج ، وهشام ، وأبو حيان : ( تكون ) بالفوقية « دولة » بالرفع ، أي : كيلا تقع ، أو توجد دولة ، وكان تامة . وقرأ الجمهور : « دولة » بضم الدال . وقرأ أبو حيوة ، والسلمي بفتحها . قال عيسى بن عمر ، ويونس ، والأصمعي : هما لغتان بمعنى واحد . وقال أبو عمرو بن العلاء : الدولة بالفتح الذي يتداول من الأموال ، وبالضم الفعل ، وكذا قال أبو عبيدة . ثم لما بيّن لهم سبحانه مصارف هذا المال أمرهم بالاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { وَمَا ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا } أي : ما أعطاكم من مال الغنيمة فخذوه ، وما نهاكم عن أخذه فانتهوا عنه ، ولا تأخذوه . قال الحسن ، والسديّ : ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه ، وما منعكم منه فلا تطلبوه .
وقال ابن جريج : ما آتاكم من طاعتي فافعلوا ، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه . والحقّ أن هذه الآية عامة في كل شيء يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر أو نهي ، أو قول أو فعل ، وإن كان السبب خاصاً ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وكل شيء أتانا به من الشرع ، فقد أعطانا إياه ، وأوصله إلينا ، وما أنفع هذه الآية وأكثر فائدتها . ثم لما أمرهم بأخذ ما أمرهم به الرّسول ، وترك ما نهاهم عنه أمرهم بتقواه ، وخوفهم شدّة عقوبته ، فقال : { واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ } فهو معاقب من لم يأخذه ما آتاه الرّسول ، ولم يترك ما نهاه عنه .
وقد أخرج الحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن عائشة قالت : كانت غزوة بني النضير ، - وهم طائفة من اليهود - على رأس ستة أشهر من وقعة بدر ، وكان منزلهم ، ونخلهم في ناحية المدينة ، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء ، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة ، والأموال إلاّ الحلقة ، يعني : السلاح ، فأنزل الله فيهم { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } إلى قوله : { لأوَّلِ الحشر مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } فقاتلهم النبيّ حتى صالحهم على الإجلاء ، وجلاهم إلى الشام ، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا ، وكان الله قد كتب عليهم ذلك ، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي ، وأما قوله : { لأوَّلِ الحشر } فكان إجلاؤهم ذلك أوّل حشر في الدنيا إلى الشام . وأخرج البزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقيّ في البعث عن ابن عباس قال : من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية : { هُوَ الذى أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم لأوَّلِ الحشر } قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ : « اخرجوا » ، قالوا : « إلى أين؟ قال : إلى أرض المحشر » . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، والبيهقيّ في الدلائل ، وابن عساكر عن ابن عباس قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ ، فأعطوه ما أراد منهم ، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم ، وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم ، وأن يسيروا إلى أذرعات الشام ، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيراً وسقاء . وفي البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير ، وقطع وهي البويرة ، ولها يقول حسان :
لهان على سراة بني لؤيّ ... حريق بالبويرة مستطير
فأنزل الله : { مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله وَلِيُخْزِىَ الفاسقين } . وأخرج الترمذي وحسنه ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : اللينة : النخلة { وَلِيُخْزِىَ الفاسقين } قال : استنزلوهم من حصونهم ، وأمروا بقطع النخل ، فحكّ في صدورهم ، فقال المسلمون : قد قطعنا بعضاً وتركنا بعضاً ، فلنسألنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لنا فيما قطعنا من أجر ، وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله : { مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ } الآية ، وفي الباب أحاديث ، والكلام في صلح بني النضير مبسوط في كتب السير .
وأخرج البخاريّ ، ومسلم ، وغيرهما عن عمر بن الخطاب قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله ، ومما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدّة في سبيل الله . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ } فجعل ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكم فيه ما أراد ، ولم يكن يومئذٍ خيل ولا ركاب يوجف بها . قال : والإيجاف أن يوضعوا السير ، وهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان من ذلك خيبر ، وفدك ، وقرى عرينة . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعمد لينبع ، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاحتواها كلها ، فقال ناس : هلا قسمها الله ، فأنزل الله عذره فقال : { مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى } الآية . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال : كان ما أفاء الله على رسوله من خيبر نصف لله ورسوله ، والنصف الآخر للمسلمين ، فكان الذي لله ورسوله من ذلك الكثيبة ، والوطيح ، وسلالم ، ووحدوه ، وكان الذي للمسلمين الشقّ : ثلاثة عشر سهماً ، ونطاة خمسة أسهم ، ولم يقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر لأحد من المسلمين إلاّ لمن شهد الحديبية ، ولم يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين تخلف عنه عند مخرجه إلى الحديبية أن يشهد معه خيبر إلاّ جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ . وأخرج أبو داود ، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صفايا في النضير ، وخيبر ، وفدك ، فأما بنو النضير فكانت حبساً لنوائبه ، وأما فدك فكانت لابن السبيل ، وأما خيبر فجزأها ثلاثة أجزاء : قسم منها جزءين بين المسلمين ، وحبس جزءاً لنفسه ولنفقة أهله ، فما فضل عن نفقة أهله ردّها على فقراء المهاجرين . وأخرج عبد الرزاق ، وابن سعد ، وابن أبي شيبة ، وابن زنجويه في الأموال ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن عمر بن الخطاب قال : ما على وجه الأرض مسلم إلاّ وله في هذا الفيء حقّ إلاّ ما ملكت أيمانكم . وأخرج البخاريّ ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن مسعود قال : « لعن الله الواشمات والمستوشمات ، والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيرات لخلق الله » ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها : أمّ يعقوب ، فجاءت ابن مسعود ، فقالت : بلغني أنك لعنت كيت وكيت ، قال : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في كتاب الله؟ قالت : لقد قرأت ما بين الدّفتين ، فما وجدت فيه شيئًا من هذا ، قال : لئن كنت قرأته لقد وجدته ، أما قرأت { ومَا آتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا } قالت : بلى ، قال : فإنه قد نهى عنه .
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
قوله : { لِلْفُقَرَاء } قيل : هو بدل من { لذى القربى } وما عطف عليه ، ولا يصح أن يكون بدلاً من الرسول ، وما بعده لئلا يستلزم وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر ، وقيل التقدير : { كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً } ولكن يكون للفقراء ، وقيل : التقدير : اعجبوا للفقراء ، وقيل : التقدير : والله شديد العقاب للفقراء أي : شديد العقاب للكفار بسبب الفقراء ، وقيل : هو عطف على ما مضى بتقدير الواو ، كما تقول : المال لزيد لعمرو لبكر ، والمراد ب { المهاجرين } : الذين هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة في الدين ونصرة له . قال قتادة : هؤلاء المهاجرون هم الذين تركوا الديار ، والأموال ، والأهلين ، ومعنى { أُخْرِجُواْ مِن ديارهم } : أن كفار مكة أخرجوهم منها ، واضطروهم إلى الخروج ، وكانوا مائة رجل { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً } أي : يطلبون منه أن يتفضل عليهم بالرزق في الدنيا ، وبالرضوان في الآخرة { وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ } بالجهاد للكفار ، وهذه الجملة معطوفة على { يبتغون } ، ومحل الجملتين النصب على الحال ، الأولى مقارنة ، والثانية مقدّرة ، أي : ناوين لذلك ، ويجوز أن تكون حالاً مقارنة؛ لأن خروجهم على تلك الصفة نصرة لله ورسوله ، والإشارة بقوله : { أولئك } إليهم من حيث اتصافهم بتلك الصفات ، وهو مبتدأ ، وخبره : { هُمُ الصادقون } أي : الكاملون في الصدق الراسخون فيه . ثم لما فرغ من مدح المهاجرين مدح الأنصار فقال : { والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ } المراد بالدار : المدينة ، وهي دار الهجرة ، ومعنى تبوّئهم الدار والإيمان : أنهم اتخذوها مباءة ، أي : تمكنوا منهما تمكناً شديداً ، والتبوّأ في الأصل إنما يكون للمكان ، ولكنه جعل الإيمان مثله لتمكنهم فيه تنزيلاً للحال منزلة المحل ، وقيل : إن الإيمان منصوب بفعل غير الفعل المذكور ، والتقدير : واعتقدوا الإيمان ، أو وأخلصوا الإيمان كذا قال أبو علي الفارسي . ويجوز أن يكون على حذف مضاف ، أي : تبوءوا الدار وموضع الإيمان ، ويجوز أن يكون تبوّءوا مضمناً لمعنى لزموا ، والتقدير : لزموا الدار والإيمان ، ومعنى { مِن قَبْلِهِم } : من قبل هجرة المهاجرين ، فلا بدّ من تقدير مضاف ، لأن الأنصار إنما آمنوا بعد إيمان المهاجرين ، والموصول مبتدأ ، وخبره : { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } وذلك لأنهم أحسنوا إلى المهاجرين ، وأشركوهم في أموالهم ومساكنهم { وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً } أي : لا يجد الأنصار في صدورهم حسداً ، وغيظاً ، وحزازة { مّمَّا أُوتُواْ } أي : مما أوتي المهاجرون دونهم من الفيء ، بل طابت أنفسهم بذلك . وفي الكلام مضاف محذوف ، أي : لا يجدون في صدورهم مسّ حاجة ، أو أثر حاجة ، وكلّ ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة . وكان المهاجرون في دور الأنصار فلما غنم النبيّ صلى الله عليه وسلم بني النضير دعا الأنصار ، وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين من إنزالهم إياهم في منازلهم ، وإشراكهم في أموالهم ، ثم قال :
" إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبين المهاجرين - وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم ، والمشاركة لكم في أموالكم - وإن أحببتم أعطيتهم ذلك ، وخرجوا من دياركم " ، فرضوا بقسمة ذلك في المهاجرين ، وطابت أنفسهم { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } الإيثار : تقديم الغير على النفس في حظوظ الدنيا رغبة في حظوظ الآخرة ، يقال : آثرته بكذا ، أي : خصصته به ، والمعنى : ويقدّمون المهاجرين على أنفسهم في حظوظ الدنيا { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي : حاجة وفقر ، والخصاصة مأخوذة من خصاص البيت ، وهي الفرج التي تكون فيه ، وجملة : { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } في محل نصب على الحال ، وقيل : إن الخصاصة مأخوذة من الاختصاص ، وهو الانفراد بالأمر ، فالخصاصة الانفراد بالحاجة ، ومنه قول الشاعر :
إن الربيع إذا يكون خصاصة ... عاش السقيم به وأثرى المقتر
{ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } قرأ الجمهور : { يوق } بسكون الواو ، وتخفيف القاف من الوقاية ، وقرأ ابن أبي عبلة ، وأبو حيوة بفتح الواو ، وتشديد القاف . وقرأ الجمهور : { شحّ نفسه } بضم الشين . وقرأ ابن عمر ، وابن أبي عبلة بكسرها . والشحّ : البخل مع حرص ، كذا في الصحاح ، وقيل : الشحّ أشدّ من البخل . قال مقاتل : شحّ نفسه : حرص نفسه . قال سعيد بن جبير : شحّ النفس هو أخذ الحرام ، ومنع الزكاة . قال ابن زيد : من لم يأخذ شيئًا نهاه الله عنه ، ولم يمنع شيئًا أمره الله بأدائه ، فقد وقى شحّ نفسه . قال طاووس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشحّ أن يشحّ بما في أيدي الناس ، يحبّ أن يكون له ما في أيديهم بالحلال والحرام لا يقنع . وقال ابن عيينة : الشحّ : الظلم . وقال الليث : ترك الفرائض وانتهاك المحارم . والظاهر من الآية أن الفلاح مترتب على عدم شحّ النفس بشيء من الأشياء التي يقبح الشحّ بها شرعاً من زكاة ، أو صدقة ، أو صلة رحم ، أو نحو ذلك ، كما تفيده إضافة الشحّ إلى النفس ، والإشارة بقوله : { فَأُوْلَئِكَ } إلى «من» باعتبار معناها ، وهو مبتدأ ، وخبره { هُمُ المفلحون } والفلاح الفوز والظفر بكل مطلوب . ثم لما فرغ سبحانه من الثناء على المهاجرين والأنصار ، ذكر ما ينبغي أن يقوله من جاء بعدهم ، فقال : { والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ } وهم التابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة ، وقيل : هم الذين هاجروا بعد ما قوي الإسلام ، والظاهر شمول الآية لمن جاء بعد السابقين من الصحابة المتأخر إسلامهم في عصر النبوّة ، ومن تبعهم من المسلمين بعد عصر النبوّة إلى يوم القيامة؛ لأنه يصدق على الكلّ أنهم جاءوا بعد المهاجرين الأوّلين والأنصار ، والموصول مبتدأ ، وخبره { يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سَبَقُونَا بالإيمان } ويجوز أن يكون الموصول معطوفاً على قوله : { والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان } ، فيكون { يقولون } في محل نصب على الحال ، أو مستأنف لا محل له ، والمراد بالأخوّة هنا : أخوة الدّين ، أمرهم الله أن يستغفروا لأنفسهم ، ولمن تقدّمهم من المهاجرين والأنصار { وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ } أي : غشاً وبغضاً وحسداً .
أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغلّ للذين آمنوا على الإطلاق ، فيدخل في ذلك الصحابة دخولاً أوّلياً لكونهم أشرف المؤمنين ، ولكون السياق فيهم ، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم ، ويطلب رضوان الله لهم ، فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية ، فإن وجد في قلبه غلاً لهم ، فقد أصابه نزغ من الشيطان ، وحلّ به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه ، وخير أمة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجأ إلى الله سبحانه ، والاستغاثة به ، بأن ينزع عن قلبه ما طرقه من الغلّ لخير القرون ، وأشرف هذه الأمة ، فإن جاوز ما يجده من الغلّ إلى شتم أحد منهم ، فقد انقاد للشيطان بزمام ، ووقع في غضب الله وسخطه ، وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلي بمعلم من الرافضة ، أو صاحب من أعداء خير الأمة الذين تلاعب بهم الشيطان ، وزين لهم الأكاذيب المختلفة ، والأقاصيص المفتراة ، والخرافات الموضوعة ، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، وعن سنة رسول الله ، المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور ، فاشتروا الضلالة بالهدى ، واستبدلوا الخسران العظيم بالربح الوافر ، ومازال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة ، ومن رتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداء كتاب الله وسنة رسوله ، وخير أمته وصالحي عباده وسائر المؤمنين ، وأهملوا فرائض الله وهجروا شعائر الدين ، وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي ، ورموا الدين وأهله بكلّ حجر ومدر ، والله من ورائهم محيط . { رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ } أي : كثير الرأفة والرحمة بليغهما لمن يستحق ذلك من عبادك .
وقد أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال : أوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأوّلين أن يعرف لهم حقهم ، ويحفظ لهم حرمتهم ، وأوصيه بالأنصار الذين تبوّءوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أبي هريرة قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أصابني الجهد ، فأرسل إلى نسائه ، فلم يجد عندهنّ شيئًا فقال : « ألا رجل يضيف هذه الليلة رحمه الله »
، فقال رجل من الأنصار ، وفي رواية ، فقال أبو طلحة الأنصاري : أنا يا رسول الله ، فذهب به إلى أهله ، فقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدّخريه شيئًا ، قالت : والله ما عندي إلاّ قوت الصبية ، قال : فإذا أراد الصبية العشاء ، فنوّميهم وتعالي فأطفئي السراج ، ونطوي بطوننا الليلة لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففعلت ، ثم غدا الضيف على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة ، وأنزل فيهما { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } » . وأخرج الحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال : أهدي إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال : إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا ، فبعث به إليه ، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأوّل ، فنزلت فيهم : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أن رجلاً قال : إني أخاف أن أكون قد هلكت ، قال : وما ذاك؟ قال : إني سمعت الله يقول : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء ، فقال له ابن مسعود : ليس ذاك بالشحّ ، ولكنه البخل ، ولا خير في البخل ، وإن الشحّ الذي ذكره الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً . وأخرج ابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عمر في الآية قال : ليس الشحّ أن يمنع الرجل ماله ، ولكنه البخل ، وإنه لشرّ ، إنما الشحّ أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له . وأخرج ابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب قال : من أدّى زكاة ماله ، فقد وقى شحّ نفسه . وأخرج الحكيم الترمذي ، وأبو يعلى ، وابن مردويه عن أنس قال : قال رسول الله : " ما محق الإسلام محق الشحّ شيء قط " وأخرج أحمد ، والبخاري في الأدب ، ومسلم ، والبيهقي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله قال : " اتقوا الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشحّ ، فإن الشحّ أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلوا محارمهم " وقد وردت أحاديث كثيرة في ذمّ الشحّ . وأخرج الحاكم وصححه ، وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال : الناس على ثلاث منازل ، قد مضت منزلتان ، وبقيت منزلة ، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت ، ثم قرأ : { والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ } الآية . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في المصاحف ، وابن مردويه عن عائشة قالت : أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبيّ ، فسبوهم ، ثم قرأت هذه الآية : { والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ } . وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر أنه سمع رجلاً ، وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه { لِلْفُقَرَاء المهاجرين } الآية ، ثم قال : هؤلاء المهاجرون ، أفمنهم أنت؟ قال : لا ، ثم قرأ عليه { والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان } الآية . ثم قال : هؤلاء الأنصار ، أفأنت منهم؟ قال : لا ، ثم قرأ عليه { والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ } الآية ، ثم قال : أفمن هؤلاء أنت؟ قال : أرجو ، قال : ليس من هؤلاء من سبّ هؤلاء .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
لما فرغ سبحانه من ذكر الطبقات الثلاث من المؤمنين ، ذكر ما جرى بين المنافقين واليهود من المقاولة؛ لتعجيب المؤمنين من حالهم ، فقال : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نافقوا } والخطاب لرسول الله ، أو لكل من يصلح له ، والذين نافقوا هم : عبد الله بن أبيّ ، وأصحابه ، وجملة { يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب } مستأنفة؛ لبيان المتعجب منه ، والتعبير بالمضارع؛ لاستحضار الصورة ، أو للدلالة على الاستمرار ، وجعلهم إخواناً لهم لكون الكفر قد جمعهم ، وإن اختلف نوع كفرهم ، فهم إخوان في الكفر ، واللام في { لإخوانهم } هي لام التبليغ ، وقيل : هو من قول بني النضير لبني قريظة ، والأوّل أولى؛ لأن بني النضير ، وبني قريظة هم يهود ، والمنافقون غيرهم ، واللام في قوله : { لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ } هي الموطئة للقسم ، أي : والله لئن أخرجتم من دياركم { لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ } هذا جواب القسم ، أي : لنخرجن من ديارنا في صحبتكم { وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ } أي : في شأنكم ، ومن أجلكم { أَحَدًا } ممن يريد أن يمنعنا من الخروج معكم ، وإن طال الزمان ، وهو معنى قوله : { أَبَدًا } . ثم لما وعدوهم بالخروج معهم ، وعدوهم بالنصرة لهم ، فقالوا : { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ لا ينصرونهم } على عدوّكم . ثم كذبهم سبحانه فقال : { والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون } فيما وعدوهم به من الخروج معهم والنصرة لهم . ثم لما أجمل كذبهم فيما وعدوا به فصّل ما كذبوا فيه فقال : { لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ } وقد كان الأمر كذلك ، فإن المنافقين لم يخرجوا مع من أخرج من اليهود ، وهم بنو النضير ومن معهم ، ولم ينصروا من قوتل من اليهود ، وهم بنو قريظة وأهل خيبر { وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ } أي : لو قدِّر وجود نصرهم إياهم؛ لأن ما نفاه الله لا يجوز وجوده . قال الزجاج : معناه : لو قصدوا نصر اليهود { لَيُوَلُّنَّ الادبار } منهزمين { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } يعني : اليهود لا يصيرون منصورين إذا انهزم ناصرهم ، وهم المنافقون ، وقيل : يعني لا يصير المنافقون منصورين بعد ذلك ، بل يذلهم الله ، ولا ينفعهم نفاقهم ، وقيل معنى الآية : لا ينصرونهم طائعين ، ولئن نصروهم مكرهين ليولنّ الأدبار ، وقيل : معنى { لاَ يَنصُرُونَهُمْ } لا يدومون على نصرهم ، والأوّل أولى ، ويكون من باب قوله : { وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] . { لاَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِمْ مّنَ الله } أي : لأنتم يا معاشر المسلمين أشدّ خوفاً وخشية في صدور المنافقين ، أو صدور اليهود ، أو صدور الجميع من الله ، أي : من رهبة الله ، والرهبة هنا بمعنى : المرهوبية؛ لأنها مصدر من المبني للمفعول ، وانتصابها على التمييز { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } أي : ما ذكر من الرهبة الموصوفة بسبب عدم فقههم لشيء من الأشياء ، ولو كان لهم فقه لعلموا أن الله سبحانه هو الذي سلطكم عليهم ، فهو أحقّ بالرهبة منه دونكم .
ثم أخبر سبحانه بمزيد فشلهم ، وضعف نكايتهم فقال : { لاَ يقاتلونكم جَمِيعاً } يعني : لا يبرز اليهود والمنافقون مجتمعين لقتالكم ولا يقدرون على ذلك { إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ } بالدروب والدور { أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ } أي : من خلف الحيطان التي يستترون بها لجبنهم ورهبتهم . قرأ الجمهور : { جدر } بالجمع ، وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وابن محيصن ، وابن كثير ، وأبو عمرو : { جدار } بالإفراد . واختار القراءة الأولى أبو عبيد ، وأبو حاتم؛ لأنها موافقة لقوله : { قُرًى مُّحَصَّنَةٍ } . وقرأ بعض المكيين : { جدر } بفتح الجيم ، وإسكان الدال ، وهي لغة في الجدار { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } أي : بعضهم غليظ فظ على بعض ، وقلوبهم مختلفة ، ونياتهم متباينة . قال السديّ : المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد . وقال مجاهد : { بأسهم بينهم شديد } بالكلام والوعيد ليفعلن كذا ، والمعنى : أنهم إذا انفردوا نسبوا أنفسهم إلى الشدّة والبأس ، وإذا لاقوا عدوّاً ذلوا وخضعوا ، وانهزموا ، وقيل : المعنى أن بأسهم بالنسبة إلى أقرانهم شديد ، وإنما ضعفهم بالنسبة إليكم لما قذف الله في قلوبهم من الرعب ، والأوّل أولى لقوله : { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى } فإنه يدلّ على أن اجتماعهم إنما هو في الظاهر مع تخالف قلوبهم في الباطن ، وهذا التخالف هو البأس الذي بينهم الموصوف بالشدّة ، ومعنى { شتى } : متفرقة ، قال مجاهد : يعني اليهود والمنافقين تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى . وروي عنه أيضاً أنه قال : المراد : المنافقون . وقال الثوري : هم المشركون ، وأهل الكتاب . قال قتادة : { تحسبهم جميعاً } ، أي : مجتمعين على أمر ورأي ، { وقلوبهم شتى } متفرقة ، فأهل الباطل مختلفة آراؤهم مختلفة شهادتهم ، مختلفة أهواؤهم ، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحقّ . وقرأ ابن مسعود : ( وقلوبهم أشت ) أي : أشد اختلافاً { ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } أي : ذلك الاختلاف والتشتت بسبب أنهم قوم لا يعقلون شيئًا ، ولو عقلوا؛ لعرفوا الحقّ واتبعوه . { كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي : مثلهم كمثل الذين من قبلهم ، والمعنى : أن مثل المنافقين واليهود كمثل الذين من قبلهم من كفار المشركين { قَرِيبًا } يعني : في زمان قريب ، وانتصاب { قريباً } على الظرفية أي : يشبهونهم في زمن قريب ، وقيل : العامل فيه { ذاقوا } ، أي : ذاقوا في زمن قريب ، ومعنى { ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } أي : سوء عاقبة كفرهم في الدنيا بقتلهم يوم بدر ، وكان ذلك قبل غزوة بني النضير بستة أشهر ، قاله مجاهد ، وغيره ، وقيل : المراد بنو النضير حيث أمكن الله منهم ، قاله قتادة . وقيل : قتل بني قريظة ، قاله الضحاك . وقيل : هو عامّ في كل من انتقم الله منه بسبب كفره ، والأوّل أولى { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : في الآخرة . ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلاً آخر فقال : { كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ للإنسان اكفر } أي : مثلهم في تخاذلهم وعدم تناصرهم ، فهو إما خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر آخر للمبتدأ المقدّر قبل قوله : { كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ } على تقدير حذف حرف العطف ، كما تقول : أنت عاقل ، أنت عالم ، أنت كريم .
وقيل : المثل الأوّل خاص باليهود ، والثاني خاص بالمنافقين ، وقيل : المثل الثاني بيان للمثل الأوّل ، ثم بيّن سبحانه وجه الشبه فقال : { إِذْ قَالَ للإنسان اكفر } أي : أغراه بالكفر ، وزينه له ، وحمله عليه ، والمراد بالإنسان هنا : جنس من أطاع الشيطان من نوع الإنسان ، وقيل : هو عابد كان في بني إسرائيل حمله الشيطان على الكفر ، فأطاعه { فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء مّنكَ } أي : فلما كفر الإنسان مطاوعة للشيطان ، وقبولاً لتزيينه قال الشيطان : إني برىء منك ، وهذا يكون منه يوم القيامة ، وجملة : { إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين } تعليل لبراءته من الإنسان بعد كفره ، وقيل : المراد بالإنسان هنا : أبو جهل ، والأوّل أولى . قال مجاهد : المراد بالإنسان هنا : جميع الناس في غرور الشيطان إياهم ، قيل : وليس قول الشيطان : { إِنّى أَخَافُ الله } على حقيقته ، إنما هو على وجه التبرّي من الإنسان ، فهو تأكيد لقوله : { إِنّى بَرِىء مّنكَ } قرأ الجمهور : { إني } بإسكان الياء . وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو بفتحها { فَكَانَ عاقبتهما أَنَّهُمَا فِى النار } قرأ الجمهور { عاقبتهما } بالنصب على أنه خبر كان ، واسمها { أنهما في النار } . وقرأ الحسن ، وعمرو بن عبيد بالرفع على أنها اسم كان ، والخبر ما بعده؛ والمعنى : فكان عاقبة الشيطان ، وذلك الإنسان الذي كفر أنهما صائران إلى النار { خالدين فِيهَا } قرأ الجمهور : { خالدين } بالنصب على الحال ، وقرأ ابن مسعود ، والأعمش ، وزيد بن عليّ ، وابن أبي عبلة : { خالدان } على أنه خبر « أنّ » ، والظرف متعلق به { وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين } أي : الخلود في النار جزاء الظالمين ، ويدخل هؤلاء فيهم دخولاً أوّلياً . ثم رجع سبحانه إلى خطاب المؤمنين بالموعظة الحسنة فقال : { ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله } أي : اتقوا عقابه بفعل ما أمركم به ، وترك ما نهاكم عنه { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } أي : لتنظر أيّ شيء قدّمت من الأعمال ليوم القيامة ، والعرب تكني عن المستقبل بالغد ، وقيل : ذكر الغد تنبيهاً على قرب الساعة { واتقوا الله } كرّر الأمر بالتقوى للتأكيد { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } لا تخفى عليه من ذلك خافية ، فهو مجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشرّ ، { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله } أي : تركوا أمره ، أو ما قدّروه حق قدره ، أو لم يخافوه ، أو جميع ذلك { فأنساهم أَنفُسَهُمْ } أي : جعلهم ناسين لها بسبب نسيانهم له ، فلم يشتغلوا بالأعمال التي تنجيهم من العذاب ، ولم يكفوا عن المعاصي التي توقعهم فيه ، ففي الكلام مضاف محذوف ، أي : أنساهم حظوظ أنفسهم .
قال سفيان : نسوا حقّ الله ، فأنساهم حق أنفسهم ، وقيل : نسوا الله في الرخاء ، فأنساهم أنفسهم في الشدائد { أُولَئِكَ هُمُ الفاسقون } أي : الكاملون في الخروج عن طاعة الله . { لاَ يَسْتَوِى أصحاب النار وأصحاب الجنة } في الفضل ، والرتبة ، والمراد الفريقان على العموم ، فيدخل في فريق أهل النار من نسي الله منهم دخولاً أوّلياً ، ويدخل في فريق أهل الجنة الذين اتقوا دخولاً أوّلياً؛ لأن السياق فيهم ، وقد تقدّم الكلام في معنى مثل هذه الآية في سورة المائدة ، وفي سورة السجدة ، وفي سورة ص . ثم أخبر سبحانه وتعالى عن أصحاب الجنة بعد نفي التساوي بينهم ، وبين أهل النار فقال : { أصحاب الجنة هُمُ الفائزون } أي : الظافرون بكلّ مطلوب الناجون من كلّ مكروه .
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نافقوا } قال : عبد الله بن أبيّ بن سلول ، ورفاعة بن تابوت ، وعبد الله بن نبتل ، وأوس بن قيظي ، وإخوانهم بنو النضير . وأخرج ابن إسحاق ، وابن المنذر ، وأبو نعيم في الدلائل عنه أن رهطاً من بني عوف بن الحارث منهم عبد الله بن أبيّ بن سلول ، ووديعة بن مالك ، وسويد وداعس ، بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا ، وتمنعوا ، فإننا لا نسلمكم ، وإن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم ، فتربصوا ذلك من نصرهم ، فلم يفعلوا ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ، ويكفّ عن دمائهم ، على أن لهم ما حملت الإبل إلاّ الحلقة ، ففعل ، فكان الرجل منهم يهدم بيته ، فيضعه على ظهر بعير ، فينطلق به ، فخرجوا إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في قوله : { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى } قال : هم المشركون . وأخرج عبد الرزاق ، وابن راهويه ، وأحمد في الزهد ، وعبد بن حميد ، والبخاري في تاريخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن عليّ بن أبي طالب أن رجلاً كان يتعبد في صومعة ، وأن امرأة كان لها إخوة ، فعرض لها شيء ، فأتوه بها فزينت له نفسه فوقع عليها ، فحملت ، فجاءه الشيطان ، فقال : اقتلها ، فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت ، فقتلها ، ودفنها ، فجاءوه ، فأخذوه ، فذهبوا به ، فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال : إني أنا الذي زينت لك ، فاسجد لي سجدة أنجيك ، فسجد له ، فذلك قوله : { كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ للإنسان اكفر } الآية . قلت : وهذا لا يدلّ على أن هذا الإنسان هو المقصود بالآية ، بل يدلّ على أنه من جملة من تصدق عليه . وقد أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس بأطول من هذا ، وليس فيه ما يدلّ على أنه المقصود بالآية . وأخرجه بنحوه ابن جرير عن ابن مسعود . وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : { كَمَثَلِ الشيطان } قال : ضرب الله مثل الكفار والمنافقين الذين كانوا على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر } .
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
لما فرغ سبحانه من ذكر أهل الجنة وأهل النار ، وبيّن عدم استوائهم في شيء من الأشياء ذكر تعظيم كتابه الكريم ، وأخبر عن جلالته ، وأنه حقيق بأن تخشع له القلوب ، وترقّ له الأفئدة ، فقال : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ الله } أي : من شأنه ، وعظمته ، وجودة ألفاظه ، وقوّة مبانيه ، وبلاغته ، واشتماله على المواعظ التي تلين لها القلوب أنه لو أنزل على جبل من الجبال الكائنة في الأرض لرأيته مع كونه في غاية القسوة ، وشدّة الصلابة ، وضخامة الجرم خاشعاً متصدعاً ، أي : متشققاً من خشية الله سبحانه ، حذراً من عقابه ، وخوفاً من أن لا يؤدي ما يجب عليه من تعظيم كلام الله ، وهذا تمثيل وتخييل يقتضي علوّ شأن القرآن وقوّة تأثيره في القلوب ، ويدلّ على هذا قوله : { وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فيما يجب عليهم التفكر فيه؛ ليتعظوا بالمواعظ ، وينزجروا بالزواجر ، وفيه توبيخ ، وتقريع للكفار حيث لم يخشعوا للقرآن ، ولا اتعظوا بمواعظه ، ولا انزجروا بزواجره ، والخاشع : الذليل المتواضع . وقيل : الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، أي : لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت ، ولتصدّع من نزوله عليه ، وقد أنزلناه عليك ، وثبتناك له ، وقوّيناك عليه ، فيكون على هذا من باب الامتنان على النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله سبحانه ثبته لما لا تثبت له الجبال الرواسي . ثم أخبر سبحانه بربوبيته وعظمته ، فقال : { هُوَ الله الذى لاَ إله إِلاَّ هُوَ } وفي هذا تقرير للتوحيد ودفع للشرك { عالم الغيب والشهادة } أي : عالم ما غاب من الإحساس وما حضر ، وقيل : عالم السرّ والعلانية ، وقيل : ما كان وما يكون ، وقيل : الآخرة والدنيا ، وقدّم الغيب على الشهادة لكونه متقدّماً وجوداً { هُوَ الرحمن الرحيم } قد تقدّم تفسير هذين الاسمين { هُوَ الله الذى لاَ إله إِلاَّ هُوَ } كرره للتأكيد والتقرير لكون التوحيد حقيقاً بذلك { الملك القدوس } أي : الطاهر من كل عيب ، المنزّه عن كل نقص ، والقدس بالتحريك في لغة أهل الحجاز : السطل؛ لأنه يتطهر به ، ومنه القادوس لواحد الأواني التي يستخرج بها الماء . قرأ الجمهور : { القدّوس } بضم القاف . وقرأ أبو ذرّ ، وأبو السماك بفتحها ، وكان سيبويه يقول : سبوح قدّوس بفتح أوّلهما ، وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه سمع عند الكسائي أعرابياً فصيحاً يقرأ : { القدّوس } بفتح القاف . قال ثعلب : كل اسم على فعول فهو مفتوح الأوّل إلاّ السبوح والقدّوس ، فإن الضم فيهما أكثر ، وقد يفتحان { السلام } أي : الذي سلم من كل نقص وعيب ، وقيل : المسلم على عباده في الجنة ، كما قال : { سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ } [ ياس : 58 ] وقيل : الذي سلم الخلق من ظلمه ، وبه قال الأكثر ، وقيل : المسلم لعباده ، وهو مصدر وصف به للمبالغة { المؤمن } أي : الذي وهب لعباده الأمن من عذابه ، وقيل : المصدّق لرسله بإظهار المعجزات ، وقيل : المصدّق للمؤمنين بما وعدهم به من الثواب ، والمصدّق للكافرين بما أوعدهم به من العذاب ، يقال : أمنه من الأمن وهو ضدّ الخوف ، ومنه قول النابغة :
والمؤمن العائذات الطير يمسحها ... ركبان مكة بين الغيل والسند
وقال مجاهد : المؤمن الذي وحد نفسه بقوله : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ } [ آل عمران : 18 ] . قرأ الجمهور : { المؤمن } بكسر الميم ، اسم فاعل من آمن بمعنى : أمن . وقرأ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بفتحها بمعنى : المؤمن به على الحذف كقوله : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] وقال أبو حاتم : لا تجوز هذه القراءة؛ لأن معناه : أنه كان خائفاً فأمنه غيره { المهيمن } أي : الشهيد على عباده بأعمالهم الرقيب عليهم . كذا قال مجاهد ، وقتادة ، ومقاتل . يقال : هيمن يهيمن فهو مهيمن : إذا كان رقيباً على الشيء . قال الواحدي : وذهب كثير من المفسرين إلى أن أصله مؤيمن من آمن يؤمن ، فيكون بمعنى المؤمن ، والأوّل أولى ، وقد قدّمنا الكلام على المهيمن في سورة المائدة { العزيز } الذي لا يوجد له نظير ، وقيل : القاهر ، وقيل : الغالب غير المغلوب ، وقيل : القويّ { الجبار } جبروت الله : عظمته ، والعرب تسمي الملك الجبار ، ويجوز أن يكون من جبر : إذا أغنى الفقير وأصلح الكسير ، ويجوز أن يكون من جبره على كذا : إذا أكرهه على ما أراد ، فهو الذي جبر خلقه على ما أراد منهم ، وبه قال السديّ ، ومقاتل ، واختاره الزجاج ، والفراء ، قال : هو من أجبره على الأمر ، أي : قهره . قال : ولم أسمع فعالاً من أفعل إلاّ في جبار من أجبر ، ودرّاك من أدرك ، وقيل : الجبار : الذي لا تطاق سطوته { المتكبر } أي : الذي تكبر عن كل نقص ، وتعظم عما لا يليق به ، وأصل التكبر : الامتناع وعدم الانقياد ، ومنه قول حميد بن ثور :
عفت مثل ما يعفو الفصيل فأصبحت ... بها كبرياء الصعب وهي ذلول
والكبر في صفات الله مدح ، وفي صفات المخلوقين ذمّ . قال قتادة : هو الذي تكبر عن كل سوء . قال ابن الأنباري : المتكبر ذو الكبرياء ، وهو الملك ، ثم نزه سبحانه نفسه عن شرك المشركين ، فقال : { سبحان الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : عما يشركونه ، أو عن إشراكهم به { هُوَ الله الخالق } أي : المقدّر للأشياء على مقتضى إرادته ومشيئته { البارىء } أي : المنشىء المخترع للأشياء الموجد لها . وقيل : المميز لبعضها من بعض { المصور } أي : الموجد للصور المركب لها على هيئات مختلفة ، فالتصوير مترتب على الخلق والبراية وتابع لهما ، ومعنى التصوير : التخطيط والتشكيل ، قال النابغة :
الخالق البارىء المصور في ال ... أرحام ماء حتى يصير دما
وقرأ حاطب بن أبي بلتعة الصحابي : { المصوّر } بفتح الواو ونصب الراء على أنه مفعول به للبارىء أي : الذي برأ المصوّر ، أي : ميزه { لَهُ الأسماء الحسنى } قد تقدّم بيانها ، والكلام فيها عند تفسير قوله : { وَللَّهِ الاسماء الحسنى فادعوه بِهَا } [ الأعراف 180 ] { يُسَبّحُ لَهُ مَا فِى السموات والأرض } أي : ينطق بتنزيهه بلسان الحال أو المقال كل ما فيهما { وَهُوَ العزيز الحكيم } أي : الغالب لغيره الذي لا يغالبه مغالب ، الحكيم في كل الأمور التي يقضي بها .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس ، في قوله : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ } قال : يقول : لو إني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته إياه تصدّع ، وخشع من ثقله ومن خشية الله ، فأمر الله الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع . قال : كذلك يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون . وأخرج الديلمي عن ابن مسعود وعليّ مرفوعاً في قوله : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ } إلى آخر السورة قال : هي رقية الصداع . رواه الديلمي بإسنادين لا ندري كيف حال رجالهما . وأخرج الخطيب في تاريخه بإسناده إلى إدريس بن عبد الكريم الحداد قال : قرأت على خلف ، فلما بلغت هذه الآية قال : ضع يدك على رأسك ، فإني قرأت على حمزة ، فلما بلغت هذه الآية قال : ضع يدك على رأسك ، فإني قرأت على الأعمش ، ثم ساق الإسناد مسلسلاً هكذا إلى ابن مسعود فقال : فإني قرأت على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلما بلغت هذه الآية قال لي : « ضع يدك على رأسك ، فإن جبريل لما نزل بها قال لي : ضع يدك على رأسك ، فإنها شفاء من كلّ داء إلاّ السام » ، والسام : الموت . قال الذهبي : هو باطل . وأخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة ، وابن مردويه عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً إذا آوى إلى فراشه أن يقرأ آخر سورة الحشر وقال : « إن متّ متّ شهيداً » وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من تعوّذ بالله من الشيطان ثلاث مرات ، ثم قرأ آخر سورة الحشر بعث الله سبعين ملكاً يطردون عنه شياطين الإنس والجنّ إن كان ليلاً حتى يصبح ، وإن كان نهاراً حتى يمسي » وأخرج أحمد ، والدارمي ، والترمذي وحسنه ، والطبراني ، وابن الضريس ، والبيهقي في الشعب عن معقل بن يسار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من قال حين يصبح ثلاث مرّات : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر ، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي ، وإن مات ذلك اليوم مات شهيداً ، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة » قال الترمذي بعد إخراجه : غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه . وأخرج ابن عديّ ، وابن مردويه ، والخطيب ، والبيهقي في الشعب عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ خواتيم الحشر في ليل أو نهار ، فمات من يومه أو ليلته أوجب الله له الجنة » وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { عالم الغيب والشهادة } قال : السرّ والعلانية . وفي قوله : { المؤمن } قال : المؤمِّن خلقه من أن يظلمهم ، وفي قوله : { المهيمن } قال : الشاهد .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
قال المفسرون : نزلت { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى مشركي قريش يخبرهم بمسير النبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم ، وسيأتي ذكر القصة آخر البحث إن شاء الله ، وقوله : { عَدُوّى } هو المفعول الأوّل { وَعَدُوَّكُمْ } معطوف عليه ، والمفعول الثاني أولياء ، وأضاف سبحانه العدوّ إلى نفسه تعظيماً لجرمهم ، والعدوُّ مصدر يطلق على الواحد ، والاثنين ، والجماعة ، والآية تدلّ على النهي عن موالاة الكفار بوجه من الوجوه { تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } أي : توصلون إليهم المودّة على أن الباء زائدة ، أو هي سببية . والمعنى : تلقون إليهم أخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم بسبب المودّة التي بينكم وبينهم . قال الزجاج : تلقون إليهم أخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم وسرّه بالمودّة التي بينكم وبينهم ، والجملة في محل نصب على الحال من ضمير تتخذوا؛ ويجوز أن تكون مستأنفة؛ لقصد الإخبار بما تضمنته ، أو لتفسير موالاتهم إياهم ، ويجوز أن تكون في محل نصب صفة لأولياء ، وجملة { وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الحق } في محل نصب على الحال من فاعل تلقون ، أو من فاعل لا تتخذوا ، ويجوز أن تكون مستأنفة؛ لبيان حال الكفار . قرأ الجمهور : { بما جاءكم } بالباء الموحدة . وقرأ الجحدري ، وعاصم في رواية عنه : ( لما جاءكم ) باللام ، أي : لأجل ما جاءكم من الحق على حذف المكفور به ، أي : كفروا بالله والرسول لأجل ما جاءكم من الحق ، أو على جعل ما هو سبب للإيمان سبباً للكفر توبيخاً لهم { يُخْرِجُونَ الرسول وإياكم } الجملة مستأنفة لبيان كفرهم ، أو في محل نصب على الحال ، وقوله : { أَن تُؤْمِنُواْ بالله رَبّكُمْ } تعليل للإخراج ، أي : يخرجونكم لأجل إيمانكم ، أو كراهة أن تؤمنوا { إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وابتغاء مَرْضَاتِى } جواب الشرط محذوف ، أي : إن كنتم كذلك ، فلا تلقوا إليهم بالمودّة ، أو إن كنتم كذلك ، فلا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء ، وانتصاب { جهاداً } { وابتغاء } على العلة ، أي : إن كنتم خرجتم لأجل الجهاد في سبيلي؛ ولأجل ابتغاء مرضاتي ، وجملة : { تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } مستأنفة للتقريع والتوبيخ ، أي : تسرّون إليهم الأخبار بسبب المودّة ، وقيل : هي بدل من قوله : { تُلْقُونَ } . ثم أخبر سبحانه بأنه لا يخفى عليه من أحوالهم شيء ، فقال : { وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ } والجملة في محل نصب على الحال ، أي : بما أضمرتم وما أظهرتم ، والباء في { بما } زائدة ، يقال : علمت كذا ، وعلمت بكذا ، هذا على أن أعلم مضارع ، وقيل : هو أفعل تفضيل ، أي : أعلم من كل أحد بما تخفون وما تعلنون { وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل } أي : من يفعل ذلك الاتخاذ لعدوّي وعدوّكم أولياء ، ويلقي إليهم بالمودّة ، فقد أخطأ طريق الحق والصواب ، وضلّ عن قصد السبيل .
{ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء } أي : إن يلقوكم ويصادفوكم يظهروا لكم ما في قلوبهم من العداوة ، ومنه المثاقفة ، وهي طلب مصادفة الغرّة في المسابقة ، وقيل المعنى : إن يظفروا بكم ، ويتمكنوا منكم ، والمعنيان متقاربان { وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسوء } أي : يبسطوا إليكم أيديهم بالضرب ونحوه ، وألسنتهم بالشتم ونحوه { وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } هذا معطوف على جواب الشرط أو على جملة الشرط والجزاء ، ورجح هذا أبو حيان ، والمعنى : أنهم تمنوا ارتدادهم ، وودّوا رجوعهم إلى الكفر . { لَن تَنفَعَكُمْ أرحامكم وَلاَ أولادكم } أي : لا تنفعكم القرابات على عمومها ، ولا الأولاد ، وخصهم بالذكر مع دخولهم في الأرحام لمزيد المحبة لهم ، والحنوّ عليهم ، والمعنى : أن هؤلاء لا ينفعونكم حتى توالوا الكفار لأجلهم ، كما وقع في قصة حاطب بن أبي بلتعة ، بل الذي ينفعكم هو ما أمركم الله به من معاداة الكفار ، وترك موالاتهم ، وجملة : { يَوْمَ القيامة يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } مستأنفة لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد في ذلك اليوم ومعنى { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } : يفرّق بينكم ، فيدخل أهل طاعته الجنة ، وأهل معصيته النار . وقيل : المراد بالفصل بينهم أنه يفرّ كلّ منهم من الآخر من شدّة الهول ، كما في قوله : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ } الآية [ عبس : 34 ] الآية . قيل : ويجوز أن يتعلق يوم القيامة بما قبله ، أي : لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة فيوقف عليه . ويبتدأ بقوله : { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } والأولى أن يتعلق بما بعده ، كما ذكرنا { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم ، فهو مجازيكم على ذلك . قرأ الجمهور : { يفصل } بضم الياء ، وتخفيف الفاء ، وفتح الصاد مبنياً للمفعول ، واختار هذه القراءة أبو عبيدة . وقرأ عاصم بفتح الياء ، وكسر الصاد مبنياً للفاعل . وقرأ حمزة ، والكسائي بضم الياء ، وفتح الفاء ، وكسر الصاد مشدّدة . وقرأ علقمة بالنون . وقرأ قتادة ، وأبو حيوة بضم الياء ، وكسر الصاد مخففة .
وقد أخرج البخاريّ ، ومسلم ، وغيرهما عن عليّ بن أبي طالب قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ، والزبير ، والمقداد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظعينة معها كتاب ، فخذوه منها فأتوني به » ، فخرجنا حتى أتينا الرّوضة ، فإذا نحن بالظعينة ، فقلنا أخرجي الكتاب ، قالت : ما معي من كتاب ، فقلنا : لتخرجنّ الكتاب ، أو لتلقينَّ الثياب ، فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبيّ ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « ما هذا يا حاطب » ؟ قال : لا تعجل عليّ يا رسول الله ، إني كنت امرأ ملصقاً في قريش ، ولم أكن من أنفسها ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم ، وأموالهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يداً يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفراً ، ولا ارتداداً عن ديني ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :
« صدق » ، فقال عمر : دعني أضرب عنقه . فقال : « إنه شهد بدراً ، وما يدريك لعلّ الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم » ونزلت { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } . وفي الباب أحاديث مسندة ومرسلة متضمنة لبيان هذه القصة ، وأن هذه الآيات إلى قوله : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إبراهيم } نازلة في ذلك .
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
لما فرغ سبحانه من النهي عن موالاة المشركين ، والذمّ لمن وقع منه ذلك ضرب لهم إبراهيم مثلاً حين تبرأ من قومه ، فقال : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي : خصلة حميدة تقتدون بها ، يقال : لي به أسوة في هذا الأمر ، أي : اقتداء ، فأرشدهم سبحانه إلى الاقتداء به في ذلك إلاّ في استغفاره لأبيه . قرأ الجمهور : { إسوة } بكسر الهمزة : وقرأ عاصم بضمها وهما لغتان ، وأصل الأسوة بالضم والكسر : القدوة ، ويقال : هو أسوتك ، أي : مثلك ، وأنت مثله ، وقوله : { فِى إبراهيم والذين مَعَهُ } متعلق بأسوة ، أو بحسنة ، أو هو نعت لأسوة ، أو حال من الضمير المستتر من حسنة ، أو خبر « كان » ، و « لكم » للبيان ، و { الذين معه } هم أصحابه المؤمنون . وقال ابن زيد : هم الأنبياء . قال الفرّاء : يقول : أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم ، فتتبرأ من أهلك ، كما تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه ، والظرف في قوله : { إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ } هو خبر كان ، أو متعلق به ، أي : وقت قولهم لقومهم الكفار : { بَرَآء مّنكُمْ } جمع بريء ، مثل شركاء وشريك ، وظرفاء وظريف . قرأ الجمهور : { برآء } بضم الباء وفتح الراء وألف بين همزتين ، ككرماء في كريم . وقرأ عيسى بن عمر ، وابن أبي إسحاق بكسر الباء وهمزة واحدة بعد ألف ، ككرام في جمع كريم . وقرأ أبو جعفر بضم الباء وهمزة بعد ألف { وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } وهي الأصنام { كَفَرْنَا بِكُمْ } أي : بما آمنتم به من الأوثان أو بدينكم أو بأفعالكم . { وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء أَبَداً } أي : هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم { حتى تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ } وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك ، فإذا فعلتم ذلك صارت تلك العداوة موالاة ، والبغضاء محبة { إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لاِبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } هو استثناء متصل من قوله : { فِى إبراهيم } بتقدير مضاف محذوف؛ ليصح الاستثناء ، أي : قد كانت لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم إلاّ قوله لأبيه ، أو من أسوة حسنة ، وصح ذلك؛ لأن القول من جملة الأسوة ، كأنه قيل : قد كانت أسوة حسنة في إبراهيم في جميع أقواله ، وأفعاله إلاّ قوله لأبيه ، أو من التبرّي والقطيعة التي ذكرت ، أي : لم يواصله إلاّ قوله ، ذكر هذا ابن عطية ، أو هو منقطع ، أي : لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ، فلا تأتسوا به ، فتستغفرون للمشركين ، فإنه كان عن موعدة وعدها إياه ، أو أن ذلك إنما وقع منه؛ لأنه ظنّ أنه قد أسلم { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } [ التوبة : 114 ] وقد تقدّم تحقيق هذا في سورة براءة { وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَىْء } هذا من تمام القول المستثنى ، يعني : ما أغني عنك ، وما أدفع عنك من عذاب الله شيئًا ، والجملة في محل نصب على الحال من فاعل لأستغفرنّ ، فالاستثناء متوجه إلى الاستغفار لا إلى هذا القيد ، فإنه إظهار للعجز ، وتفويض للأمر إلى الله ، وذلك من خصال الخير { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير } هذا من دعاء إبراهيم وأصحابه ، ومما فيه أسوة حسنة يقتدى به فيها ، وقيل : هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا هذا القول ، والتوكل هو تفويض الأمور إلى الله ، والإنابة : الرجوع ، والمصير : المرجع ، وتقديم الجارّ والمجرور لقصر التوكل والإنابة ، والمصير على الله .
{ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } قال الزجاج : لا تظهرهم علينا ، فيظنوا أنهم على حقّ ، فيفتنوا بذلك . وقال مجاهد : لا تعذبنا بأيديهم ، ولا بعذاب من عندك ، فيقولوا : لو كان هؤلاء على حقّ ما أصابهم هذا { واغفر لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ العزيز } أي : الغالب الذي لا يغالب { الحكيم } ذو الحكمة البالغة . { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي : لقد كان لكم في إبراهيم والذين معه قدوة حسنة ، وكرّر هذا للمبالغة والتأكيد ، وقيل : إن هذا نزل بعد الأوّل بمدّة { لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر } بدل من قوله : { لَكُمْ } بدل بعض من كلّ ، والمعنى : أن هذه الأسوة إنما تكون لمن يخاف الله ، ويخاف عقاب الآخرة ، أو يطمع في الخير من الله في الدنيا وفي الآخرة { وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد } أي : يعرض عن ذلك ، فإن الله هو الغنيّ عن خلقه الحميد إلى أوليائه . { عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم مَّوَدَّةً } وذلك بأن يسلموا ، فيصيروا من أهل دينكم ، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة وحسن إسلامهم ، ووقعت بينهم وبين من تقدّمهم في الإسلام مودّة ، وجاهدوا ، وفعلوا الأفعال المقرّبة إلى الله . وقيل : المراد بالمودّة هنا : تزويج النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمّ حبيبة بنت أبي سفيان . ولا وجه لهذا التخصيص ، وإن كان من جملة ما صار سبباً إلى المودّة ، فإن أبا سفيان بعد ذلك ترك ما كان عليه من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنها لم تحصل المودّة إلاّ بإسلامه يوم الفتح وما بعده { والله قَدِيرٌ } أي : بليغ القدرة كثيرها { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : بليغهما كثيرهما . ثم لما ذكر سبحانه ما ينبغي للمؤمنين من معاداة الكفار وترك موادّتهم ، فصل القول فيمن يجوز برّه منهم ومن لا يجوز ، فقال : { لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم فِى الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دياركم } أي : لا ينهاكم عن هؤلاء { أَن تَبَرُّوهُمْ } هذا بدل من الموصول بدل اشتمال ، وكذا قوله : { وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ } يقال : أقسطت إلى الرّجل : إذا عاملته بالعدل .
قال الزجاج : المعنى ، وتعدلوا فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } أي : العادلين؛ ومعنى الآية : أن الله سبحانه لا ينهى عن برّ أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال ، وعلى أن لا يظاهروا الكفار عليهم ، ولا ينهى عن معاملتهم بالعدل . قال ابن زيد : كان هذا في أوّل الإسلام عند الموادعة؛ وترك الأمر بالقتال ، ثم نسخ . قال قتادة : نسختها { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] وقيل : هذا الحكم كان ثابتاً في الصلح بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين قريش ، فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم . وقيل : هي خاصة في حلفاء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ومن بينه وبينه عهد ، قاله الحسن . وقال الكلبي : هم خزاعة ، وبنو الحارث بن عبد مناف . وقال مجاهد : هي خاصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا ، وقيل : هي خاصة بالنساء والصبيان . وحكى القرطبي عن أكثر أهل التأويل أنها محكمة . ثم بيّن سبحانه من لا يحلّ برّه ، ولا العدل في معاملته فقال : { إِنَّمَا ينهاكم الله عَنِ الذين قاتلوكم فِى الدين وَأَخْرَجُوكُم مّن دياركم } وهم صناديد الكفر من قريش { وظاهروا على إخراجكم } أي : عاونوا الذين قاتلوكم على ذلك ، وهم سائر أهل مكة ، ومن دخل معهم في عهدهم ، وقوله : { أَن تَوَلَّوْهُمْ } بدل اشتمال من الموصول ، كما سلف { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } أي : الكاملون في الظلم؛ لأنهم تولوا من يستحق العداوة لكونه عدوّاً لله ولرسوله ولكتابه ، وجعلوهم أولياء لهم .
وقد أخرج ابن المنذر ، والحاكم وصححه عن ابن عباس { إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأبِيهِ } قال : نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم لأبيه ، وقوله : { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } لا تعذبنا بأيديهم ، ولا بعذاب من عندكم ، فيقولون لو كان هؤلاء على الحقّ ما أصابهم هذا . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عنه : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } قال : في صنيع إبراهيم كله إلاّ في الاستغفار لأبيه ، وهو مشرك . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } قال : لا تسلطهم علينا ، فيفتنونا . وأخرج ابن مردويه عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : أوّل من قاتل أهل الردّة على إقامة دين الله أبو سفيان بن حرب ، وفيه نزلت هذه الآية : { عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم مَّوَدَّةً } . وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان بن حرب على بعض اليمن ، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ، فلقي « ذا الخمار » مرتدّاً ، فكان أوّل من قاتل في الردّة ، وجاهد عن الدّين .
قال : وهو فيمن قال الله فيه : { عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم مَّوَدَّةً } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن عديّ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس في الآية قال : كانت المودّة التي جعل بينهم تزويج النبيّ صلى الله عليه وسلم أمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، فصارت أمّ المؤمنين ، فصار معاوية خال المؤمنين . وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن أبا سفيان قال : يا رسول الله ثلاث أعطنيهنّ ، قال : « نعم » ، قال : تؤمرني حتى أقاتل الكفار ، كما كنت أقاتل المسلمين ، قال : « نعم » ، قال : ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك ، قال : « نعم » ، قال : وعندي أحسن العرب وأجمله أمّ حبيبة بنت أبي سفيان أزوّجكها الحديث . وأخرج الطيالسي ، وأحمد ، والبزار ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والنحاس في ناسخه ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال : قدمت قتيلة بنت عبد العزّى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا : ضباب ، وأقط ، وسمن ، وهي مشركة ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها ، أو تدخلها بيتها حتى أرسلت إلى عائشة أن سلي عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألته ، فأنزل الله { لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم فِى الدين } الآية ، فأمرها أن تقبل هديتها ، وتدخلها بيتها ، وزاد ابن أبي حاتم في المدّة التي كانت بين قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي البخاري وغيره ، عن أسماء بنت أبي بكر قالت : أتتني أمي راغبة ، وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم : أأصلها؟ فأنزل الله : { لاَّ ينهاكم الله } الآية ، فقال : « نعم صلي أمك » .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
لما ذكر سبحانه حكم فريقي الكافرين في جواز البرّ ، والإقساط للفريق الأوّل دون الفريق الثاني ذكر حكم من يظهر الإيمان ، فقال : { ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات مهاجرات } من بين الكفار ، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما صالح قريشاً يوم الحديبية على أن يردّ عليهم من جاءهم من المسلمين ، فلما هاجر إليه النساء أبى الله أن يرددن إلى المشركين ، وأمر بامتحانهنّ فقال : { فامتحنوهن } أي : فاختبروهنّ . وقد اختلف فيما كان يمتحنّ به ، فقيل : كان يستحلفهن بالله ما خرجن من بغض زوج ، ولا رغبة من أرض إلى أرض ، ولا لالتماس دنيا بل حباً لله ولرسوله ، ورغبة في دينه ، فإذا حلفت كذلك أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها ، وما أنفق عليها ، ولم يردّها إليه ، وقيل : الامتحان هو أن تشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأن محمداً رسول الله ، وقيل : ما كان الامتحان إلاّ بأن يتلو عليهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية ، وهي { يأَيُّهَا النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات } إلى آخرها .
واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عهد الهدنة أم لا؟ على قولين ، فعلى القول بالدخول تكون هذه الآية مخصصة لذلك العهد ، وبه قال الأكثر . وعلى القول بعدمه لا نسخ ، ولا تخصيص . { الله أَعْلَمُ بإيمانهن } هذه الجملة معترضة لبيان أن حقيقة حالهنّ لا يعلمها إلاّ الله سبحانه ، ولم يتعبدكم بذلك ، وإنما تعبدكم بامتحانهنّ حتى يظهر لكم ما يدلّ على صدق دعواهنّ في الرغوب في الإسلام { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات } أي : علمتم ذلك بحسب الظاهر بعد الامتحان الذي أمرتم به { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } أي : إلى أزواجهنّ الكافرين ، وجملة { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } تعليل للنهي عن إرجاعهنّ . وفيه دليل على أن المؤمنة لا تحلّ لكافر ، وأن إسلام المرأة يوجب فرقتها من زوجها لا مجرّد هجرتها ، والتكرير لتأكيد الحرمة ، أو الأوّل لبيان زوال النكاح ، والثاني لامتناع النكاح الجديد { وآتوهم ما أنفقوا } أي : وأعطوا أزواج هؤلاء اللاتي هاجرن وأسلمن مثل ما أنفقوا عليهنّ من المهور . قال الشافعي : وإذا طلبها غير الزوج من قراباتها منع منها بلا عوض . { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ } لأنهنّ قد صرن من أهل دينكم { إذا آتيتموهنّ أجورهنّ } أي : مهورهنّ ، وذلك بعد انقضاء عدّتهنّ ، كما تدلّ عليه أدلة وجوب العدة { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } قرأ الجمهور : { تمسكوا } بالتخفيف من الإمساك ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، لقوله : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [ البقرة : 231 ] ، وقرأ الحسن ، وأبو العالية ، وأبو عمرو بالتشديد من التمسك ، والعصم جمع عصمة ، وهي ما يعتصم به ، والمراد هنا عصمة عقد النكاح .
والمعنى أن من كانت له امرأة كافرة ، فليست له بامرأة لانقطاع عصمتها باختلاف الدين . قال النخعي : هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر ، وكان الكفار يزوّجون المسلمين ، والمسلمون يتزوّجون المشركات ، ثم نسخ ذلك بهذه الآية ، وهذا خاص بالكوافر المشركات دون الكوافر من أهل الكتاب . وقيل : عامة في جميع الكوافر مخصصة بإخراج الكتابيات منها . وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه إذا أسلم وثنيّ أو كتابيّ لا يفرق بينهما إلاّ بعد انقضاء العدّة . وقال بعض أهل العلم : يفرق بينهما بمجرّد إسلام الزوج ، وهذا إنما هو إذا كانت المرأة مدخولاً بها ، وأما إذا كانت غير مدخول بها ، فلا خلاف بين أهل العلم في انقطاع العصمة بينهما بالإسلام إذ لا عدّة عليها { واسألوا ما أنفقتم } أي : اطلبوا مهور نسائكم اللاحقات بالكفار { وليسألوا ما أنفقوا } قال المفسرون : كان من ذهب من المسلمات مرتدّة إلى الكفار من أهل العهد ، يقال للكفار : هاتوا مهرها ، ويقال للمسلمين إذا جاءت امرأة من الكفار إلى المسلمين ، وأسلمت : ردّوا مهرها على زوجها الكافر { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله } أي : ذلكم المذكور من إرجاع المهور من الجهتين حكم الله ، وقوله : { يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } في محل نصب على الحال . أو مستأنفة { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : بليغ العلم لا تخفى عليه خافية ، بليغ الحكمة في أقواله وأفعاله ، قال القرطبي : وكان هذا مخصوصاً بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع المسلمين { وَإِن فَاتَكُمْ شَىْء مّنْ أزواجكم إِلَى الكفار } لما نزلت الآية المتقدّمة ، قال المسلمون : رضينا بحكم الله ، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا ، فنزل قوله : { وَإِن فَاتَكُمْ شَىْء مّنْ أزواجكم إِلَى الكفار } مما دفعتم إليهم من مهور النساء المسلمات ، وقيل المعنى : وإن انفلت منكم أحد من نسائكم إلى الكفار بأن ارتدت المسلمة { فعاقبتم } قال الواحدي : قال المفسرون : { فعاقبتم } فغنمتم . قال الزجاج : تأويله ، وكانت العقبى لكم ، أي : كانت الغنيمة لكم حتى غنمتم { فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ } من مهر المهاجرة التي تزوّجوها ، ودفعوه إلى الكفار ، ولا تؤتوه زوجها الكافر . قال قتادة ، ومجاهد : إنما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة ، وهذه الآية منسوخة قد انقطع حكمها بعد الفتح . وحاصل معناها : أن { مّنْ أزواجكم } يجوز أن يتعلق بفاتكم ، أي : من جهة أزواجكم ، ويراد بالشيء : المهر الذي غرمه الزوج ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لشيء . ثم يجوز في شيء أن يراد به المهر ، ولكن لا بدّ على هذا من مضاف محذوف ، أي : من مهر أزواجكم؛ ليتطابق الموصوف وصفته ، ويجوز أن يراد بشيء : النساء أي نوع وصنف منهنّ ، وهو ظاهر قوله : { مّنْ أزواجكم } وقوله : { فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم } والمعنى : أنهم يعطون من ذهبت زوجته إلى المشركين ، فكفرت ، ولم يردّ عليه المشركون مهرها ، كما حكم الله مثل ذلك المهر الذي أنفقه عليها من الغنيمة { واتقوا الله الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } أي : احذروا أن تتعرضوا لشيء مما يوجب العقوبة عليكم ، فإن الإيمان الذي أنتم متصفون به يوجب على صاحبه ذلك { يأَيُّهَا النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ } أي : قاصدات لمبايعتك على الإسلام ، و { على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً } من الأشياء كائناً ما كان ، هذا كان يوم فتح مكة ، فإن نساء أهل مكة أتين رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعنه ، فأمره الله أن يأخذ عليهنّ { أَن لاَّ يُشْرِكْنَ وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن } وهو ما كانت تفعله الجاهلية من وأد البنات { وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } أي : لا يلحقن بأزواجهنّ ولداً ليس منهم .
قال الفراء : كانت المرأة تلتقط المولود ، فتقول لزوجها : هذا ولدي منك ، فذلك البهتان المفترى بين أيديهنّ وأرجلهنّ ، وذلك أن الولد إذا وضعته الأمّ سقط بين يديها ورجليها ، وليس المراد هنا أنها تنسب ولدها من الزنا إلى زوجها ، لأن ذلك قد دخل تحت النهي عن الزنا { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ } أي : في كل أمر هو طاعة لله . قال عطاء : في كل برّ وتقوى ، وقال المقاتلان : عنى بالمعروف : النهي عن النوح وتمزيق الثياب ، وجزّ الشعر ، وشقّ الجيب ، وخمش الوجوه ، والدعاء بالويل ، وكذا قال قتادة ، وسعيد بن المسيب ، ومحمد بن السائب ، وزيد بن أسلم ، ومعنى القرآن أوسع مما قالوه . قيل : ووجه التقييد بالمعروف ، مع كونه صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلاّ به التنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق { فَبَايِعْهُنَّ } هذا جواب «إذا» ، والمعنى : إذا بايعنك على هذه الأمور ، فبايعهنّ ، ولم يذكر في بيعتهنّ الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج لوضوح كون هذه الأمور ، ونحوها من أركان الدين ، وشعائر الإسلام ، وإنما خصّ الأمور المذكورة لكثرة وقوعها من النساء { واستغفر لَهُنَّ الله } أي : اطلب من الله المغفرة لهنّ بعد هذه المبايعة لهنّ منك { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : بليغ المغفرة والرحمة لعباده . { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ } هم جميع طوائف الكفر ، وقيل : اليهود خاصة ، وقيل : المنافقون خاصة وقال الحسن : اليهود والنصارى . والأوّل أولى؛ لأن جميع طوائف الكفر تتصف بأن الله سبحانه غضب عليها { قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة } «من» لابتداء الغاية ، أي : أنهم لا يوقنون بالآخرة ألبتة بسبب كفرهم { كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أصحاب القبور } أي : كيأسهم من بعث موتاهم لاعتقادهم عدم البعث ، وقيل : كما يئس الكفار الذين قد ماتوا منهم من الآخرة ، لأنه قد وقفوا على الحقيقة ، وعلموا أنه لا نصيب لهم في الآخرة ، فتكون «من» على الوجه الأوّل ابتدائية ، وعلى الثاني بيانية ، والأوّل أولى .