كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
لما فرغ سبحانه من ذكر جهالة الجاهلين وضلالتهم أتبعه بذكر طرف من دلائل التوحيد مع ما فيها من عظيم الإنعام ، فأوّلها الاستدلال بأحوال الظل ، فقال : { أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل } هذه الرؤية إما بصرية ، والمراد بها : ألم تبصر إلى صنع ربك ، أو ألم تبصر إلى الظل كيف مدّه ربك؟ وإما قلبية بمعنى : العلم ، فإن الظل متغير ، وكل متغير حادث ، ولكل حادث موجد . قال الزجاج { أَلَمْ تَرَ } ألم تعلم ، وهذا من رؤية القلب . قال : وهذا الكلام على القلب ، والتقدير : ألم تر إلى الظلّ كيف مدّه ربك؟ يعني : الظل من وقت الإسفار إلى طلوع الشمس ، وهو ظل لا شمس معه ، وبه قال الحسن وقتادة . وقيل : هو من غيبوبة الشمس إلى طلوعها . قال أبو عبيدة : الظل بالغداة ، والفيء بالعشي ، لأنه يرجع بعد زوال الشمس ، سمي فيئاً لأنه فاء من المشرق إلى جانب المغرب . قال حميد بن ثور يصف سرحة ، وكنى بها عن امرأة :
فلا الظلّ من برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشي تذوق
وقال ابن السكيت : الظل : ما نسخته الشمس ، والفيء : ما نسخ الشمس . وحكى أبو عبيدة عن رؤبة قال : كل ما كانت عليه الشمس ، فزالت عنه ، فهو فيء وظلّ ، وما لم تكن عليه الشمس ، فهو ظلّ . انتهى . وحقيقة الظلّ : أنه أمر متوسط بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة ، وهذا التوسط هو أعدل من الطرفين ، لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع ، وينفر عنها الحسّ ، والضوء الكامل لقوّته يبهر الحسّ البصري ، ويؤذي بالتسخين ، ولذلك وصفت الجنة به بقوله : { وَظِلّ مَّمْدُودٍ } [ الواقعة : 30 ] ، وجملة : { وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً } معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه أي : لو شاء الله سبحانه سكونه لجعله ساكناً ثابتاً دائماً مستقراً لا تنسخه الشمس . وقيل : المعنى : لو شاء لمنع الشمس الطلوع ، والأول أولى . والتعبير بالسكون عن الإقامة ، والاستقرار سائغ ، ومنه قولهم : سكن فلان بلد كذا : إذا أقام به ، واستقرّ فيه . وقوله : { ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً } معطوف على قوله : { مَدَّ الظل } داخل في حكمه أي : جعلناها علامة يستدل بها بأحوالها على أحواله ، وذلك لأن الظل يتبعها كما يتبع الدليل في الطريق من جهة أنه يزيد بها وينقص ، ويمتد ويتقلص .
وقوله { ثُمَّ قبضناه } معطوف أيضاً على مَدَّ داخل في حكمه . والمعنى : ثم قبضنا ذلك الظلّ المدود ، ومحوناه عند إيقاع شعاع الشمس موقعه بالتدريج حتى انتهى ذلك الإظلال إلى العدم والإضمحلال . وقيل : المراد في الآية قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه ، وهي الأجرام النيرة . والأوّل أولى . والمعنى : أن الظلّ يبقى في هذا الجوّ من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، فإذا طلعت الشمس صار الظل مقبوضاً ، وخلفه في هذا الجوّ شعاع الشمس ، فأشرقت على الأرض ، وعلى الأشياء إلى وقت غروبها ، فإذا غربت ، فليس هناك ظلّ ، إنما فيه بقية نور النهار وقال قوم : قبضه بغروب الشمس ، لأنها إذا لم تغرب ، فالظلّ فيه بقية ، وإنما يتمّ زواله بمجيء الليل ، ودخول الظلمة عليه .
وقيل : المعنى : ثم قبضنا ضياء الشمس بالفيء { قَبْضاً يَسِيراً } ومعنى { إِلَيْنَا } : أن مرجعه إليه سبحانه كما أن حدوثه منه قبضاً يسيراً أي : على تدريج قليلاً قليلاً بقدر ارتفاع الشمس ، وقيل : يسيراً سريعاً ، وقيل : المعنى يسيراً علينا أي : يسيراً قبضه علينا ليس بعسير .
{ وَهُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً } شبه سبحانه ما يستر من ظلام الليل باللباس الساتر . قال ابن جرير : وصف الليل باللباس تشبيهاً من حيث أنه يستر الأشياء ، ويغشاها ، واللام متعلقة بجعل { والنوم سُبَاتاً } أي : وجعل النوم سباتاً أي : راحة لكم ، لأنكم تنقطعون عن الاشتغال ، وأصل السبات : التمدد ، يقال : سبتت المرأة شعرها أي : نقضته وأرسلته ، ورجل مسبوت أي : ممدود الخلقة . وقيل : للنوم سبات ، لأنه بالتمدد يكون ، وفي التمدد معنى الراحة . وقيل : السبت القطع ، فالنوم انقطاع عن الاشتغال ، ومنه سبت اليهود لانقطاعهم عن الاشتغال . قال الزجاج : السبات النوم ، وهو أن ينقطع عن الحركة ، والروح في بدنه أي : جعلنا نومكم راحة لكم . وقال الخليل : السبات نوم ثقيل أي : جعلنا نومكم ثقيلاً ليكمل الإجمام والراحة { وَجَعَلَ النهار نُشُوراً } أي : زمان بعث من ذلك السبات ، شبه اليقظة بالحياة كما شبه النوم بالسبات الشبيه بالممات . وقال في الكشاف : إن السبات الموت ، واستدل على ذلك بكون النشور في مقابلته .
{ وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } قرىء : « الريح » ، وقرىء : « بشراً » بالباء الموحدة ، وبالنون . وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في الأعراف { وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء طَهُوراً } أي : يتطهر به كما يقال : وضوء للماء الذي يتوضأ به . قال الأزهري : الطهور في اللغة الطاهر المطهر ، والطهور ما يتطهر به . قال ابن الأنباري : الطهور بفتح الطاء الاسم ، وكذلك الوضوء ، والوقود ، وبالضم المصدر ، هذا هو المعروف في اللغة؛ وقد ذهب الجمهور إلى أن الطهور هو الطاهر المطهر ، ويؤيد ذلك كونه بناء مبالغة . وروي عن أبي حنيفة أنه قال : الطهور هو الطاهر ، واستدل لذلك بقوله تعالى : { وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [ الإنسان : 21 ] يعني : طاهراً ، ومنه قول الشاعر :
خليليّ هل في نظرة بعد توبة ... أداوي بها قلبي عليّ فجور
إلى رجح الأكفال غيد من الظبي ... عذاب الثنايا ريقهنّ طهور
فوصف الريق بأنه طهور ، وليس بمطهر ، ورجح القول الأوّل ثعلب ، وهو راجح لما تقدّم من حكاية الأزهري لذلك عن أهل اللغة . وأما وصف الشاعر للريق بأنه طهور ، فهو على طريق المبالغة ، وعلى كل حال ، فقد ورد الشرع بأن الماء طاهر في نفسه مطهر لغيره ، قال الله تعالى :
{ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ } [ الأنفال : 11 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " خلق الماء طهوراً " ثم ذكر سبحانه علة الإنزال ، فقال : { لّنُحْيِيَ بِهِ } أي : بالماء المنزل من السماء { بَلْدَةً مَّيْتاً } وصف البلدة ب { ميتاً } ، وهي صفة للمذكر؛ لأنها بمعنى البلد . وقال الزجاج : أراد بالبلد : المكان ، والمراد بالإحياء هنا : إخراج النبات من المكان الذي لا نبات فيه { وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أنعاما وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً } أي : نسقي ذلك الماء ، قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية عنهما ، وأبو حيان وابن أبي عبلة بفتح النون من : " نسقيه " وقرأ الباقون بضمها ، و«من» في : { مِمَّا خَلَقْنَا } للإبتداء ، وهي متعلقة ب { نسقيه } ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنه حال ، والأنعام قد تقدّم الكلام عليها ، والأناسيّ جمع إنسان على ما ذهب إليه سيبويه . وقال الفراء والمبرّد والزجاج : إنه جمع إنسيّ ، وللفراء قول آخر : إنه جمع إنسان ، والأصل : أناسين مثل سرحان وسراحين وبستان وبساتين ، فجعلوا الباء عوضاً من النون .
{ وَلَقَدْ صرفناه بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ } ضمير { صرفناه } ذهب الجمهور إلى أنه راجع إلى ما ذكر من الدلائل أي : كرّرنا أحوال الإظلال ، وذكر إنشاء السحاب ، وإنزال المطر في القرآن ، وفي سائر الكتب السماوية ، ليتفكروا ويعتبروا { فأبى أَكْثَرُ } هم إلاّ كفران النعمة وجحدها . وقال آخرون : إنه يرجع إلى أقرب المذكورات وهو المطر أي : صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة ، فنزيد منه في بعض البلدان ، وننقص في بعض آخر منها ، وقيل : الضمير راجع إلى القرآن ، وقد جرى ذكره في أوّل السورة حيث قال : { تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ } [ الفرقان : 1 ] ، وقوله : { لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذكر بَعْدَ إِذْ جَاءنِي } [ الفرقان : 29 ] ، وقوله : { اتخذوا هذا القرءان مَهْجُوراً } [ الفرقان : 30 ] والمعنى : ولقد كرّرنا هذا القرآن بإنزال آياته بين الناس؛ ليذكروا به ، ويعتبروا بما فيه ، فأبى أكثرهم { إِلاَّ كُفُورًا } به ، وقيل : هو راجع إلى الريح ، وعلى رجوع الضمير إلى المطر؛ فقد اختلف في معناه ، فقيل : ما ذكرناه . وقيل : صرفناه بينهم وابلاً وطشاً وطلاً ورذاذاً ، وقيل : تصريفه تنويع الانتفاع به في الشرب ، والسقي والزراعات به والطهارات . قال عكرمة : إن المراد بقوله { فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا } هو قولهم : في الأنواء مطرنا بنوء كذا . قال النحاس : ولا نعلم بين أهل التفسير اختلافاً أن الكفر هنا قولهم : مطرنا بنوء كذا . وقرأ عكرمة " صرفناه " مخففاً ، وقرأ الباقون بالتثقيل . وقرأ حمزة ، والكسائي : " ليذكروا " مخففة الذال من الذكر ، وقرأ الباقون بالتثقيل من التذكر .
{ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } أي : رسولاً ينذرهم كما قسمنا المطر بينهم ، ولكنا لم نفعل ذلك بل جعلنا نذيراً واحداً ، وهو أنت يا محمد ، فقابل ذلك بشكر النعمة { فَلاَ تُطِعِ الكافرين } فيما يدعونك إليه من اتباع آلهتهم ، بل اجتهد في الدعوة ، واثبت فيها ، والضمير في قوله : { وجاهدهم بِهِ جِهَاداً كَبيراً } راجع إلى القرآن أي : جاهدهم بالقرآن ، واتل عليهم ما فيه من القوارع والزواجر والأوامر والنواهي .
وقيل : الضمير يرجع إلى الإسلام ، وقيل : بالسيف ، والأوّل أولى . وهذه السورة مكية ، والأمر بالقتال إنما كان بعد الهجرة . وقيل : الضمير راجع إلى ترك الطاعة المفهوم من قوله : { فَلاَ تُطِعِ الكافرين } . وقيل : الضمير يرجع إلى ما دل عليه قوله : { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } ؛ لأنه سبحانه لو بعث في كل قرية نذيراً لم يكن على كل نذير إلا مجاهدة القرية التي أرسل إليها ، وحين اقتصر على نذير واحد لكل القرى ، وهو محمد ، فلا جرم اجتمع عليه كل المجاهدات ، فكبر جهاده وعظم ، وصار جامعاً لكل مجاهدة ، ولا يخفى ما في هذين الوجهين من البعد .
ثم ذكر سبحانه دليلاً رابعاً على التوحيد ، فقال : { وَهُوَ الذى مَرَجَ البحرين } مرج : خلّى ، وخلط ، وأرسل ، يقال : مرجت الدابة ، وأمرجتها : إذا أرسلتها في المرعى ، وخليتها تذهب حيث تشاء . قال مجاهد : أرسلهما ، وأفاض أحدهما إلى الآخر . وقال ابن عرفة : خلطهما ، فهما يلتقيان ، يقال : مرجته : إذا خلطته ، ومرج الدين والأمر : اختلط واضطرب ، ومنه قوله : { فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ } [ ق : 5 ] وقال الأزهري : { مَرَجَ البحرين } خلى بينهما ، يقال : مرجت الدابة : إذا خليتها ترعى . وقال ثعلب : المرج الإجراء ، فقوله : { مَرَجَ البحرين } أي : أجراهما . قال الأخفش : ويقول قوم : أمرج البحرين مثل مرج ، فعل وأفعل بمعنى : { هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ } الفرات : البليغ العذوبة ، وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : كيف مرجهما؟ فقيل : هذا عذب ، وهذا ملح ، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال . قيل : سمى الماء الحلو فراتاً ، لأنه يفرت العطش أي : يقطعه ، ويكسره { وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي : بليغ الملوحة ، هذا معنى الأجاج . وقيل : الأجاج البليغ في الحرارة ، وقيل : البليغ في المرارة ، وقرأ طلحة « ملح » بفتح الميم ، وكسر اللام { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً } البرزخ : الحاجز ، والحائل الذي جعله الله بينهما من قدرته يفصل بينهما ، ويمنعهما التمازج ، ومعنى { حِجْراً مَّحْجُوراً } : ستراً مستوراً يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر ، فالبرزخ الحاجز ، والحجز : المانع . وقيل : معنى { حِجْراً مَّحْجُوراً } : هو ما تقدّم من أنها كلمة يقولها المتعوّذ ، كأن كل واحد من البحرين يتعوّذ من صاحبه ، ويقول له هذا القول ، وقيل : حدًّا محدوداً . وقيل : المراد من البحر العذب : الأنهار العظام كالنيل والفرات وجيحون ، ومن البحر الأجاج : البحار المشهورة ، والبرزخ بينهما الحائل من الأرض . وقيل : معنى { حِجْراً مَّحْجُوراً } : حراماً محرماً أن يعذب هذا المالح بالعذب ، أو يملح هذا العذب بالمالح ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه في سورة الرحمن :
{ مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } [ الرحمن : 19 ، 20 ] .
ثم ذكر سبحانه حالة من أحوال خلق الإنسان والماء ، فقال : { وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ الماء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً } ، والمراد بالماء هنا : ماء النطفة أي : خلق من ماء النطفة إنساناً ، فجعله نسباً وصهراً ، وقيل : المراد بالماء : الماء المطلق الذي يراد في قوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْء حَيّ } [ الأنبياء : 30 ] ، والمراد بالنسب : هو الذي لا يحلّ نكاحه . قال الفراء ، والزجاج : واشتقاق الصهر من صهرت الشيء : إذا خلطته ، وسميت المناكح صهراً لاختلاط الناس بها . وقيل : الصهر : قرابة النكاح؛ فقرابة الزوجة هم الأختان ، وقرابة الزوج هم الأحماء ، والأصهار تعمهما ، قاله الأصمعي . قال الواحدي : قال المفسرون : النسب سبعة أصناف من القرابة يجمعها قوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم } إلى قوله : { وأمهات نِسَائِكُمْ } [ النساء : 23 ] ومن هنا إلى قوله : { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين } [ النساء : 23 ] تحريم بالصهر ، وهو الخلطة التي تشبه القرابة ، حرم الله سبعة أصناف من النسب ، وسبعة من جهة الصهر ، قد اشتملت الآية المذكورة على ستة منها ، والسابعة قوله : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُمْ مّنَ النساء } [ النساء : 22 ] ، وقد جعل ابن عطية ، والزجاج ، وغيرهما الرضاع من جملة النسب ، ويؤيده قوله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » { وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } أي : بليغ القدرة عظيمها ، ومن جملة قدرته الباهرة خلق الإنسان ، وتقسيمه إلى القسمين المذكورين .
وقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل } قال : بعد الفجر قبل أن تطلع الشمس . وأخرج ابن أبي حاتم عنه بلفظ : أَلَمْ تَرَ أنك إذا صليت الفجر كان بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلاً ، ثم بعث الله عليه الشمس دليلاً ، فقبض الظلّ . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال : مدّ الظلّ ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس { وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً } قال : دائماً { ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً } يقول : طلوع الشمس { ثُمَّ قبضناه إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } قال : سريعاً . وأخرج أهل السنن ، وأحمد ، وغيرهم من حديث أبي سعيد قال : قيل : يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي : بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن ، فقال : « إن الماء طهور لا ينجسه شيء » وفي إسناد هذا الحديث كلام طويل قد استوفيناه في شرحنا على المنتقى .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : ما من عام بأقلّ مطراً من عام ، ولكن الله يصرفه حيث يشاء ، ثم قرأ هذه الآية : { وَلَقَدْ صرفناه بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { وجاهدهم بِهِ } قال : بالقرآن . وأخرج ابن جرير عنه : { هُوَ الذي مَرَجَ البحرين } يعني : خلط أحدهما على الآخر ، فليس يفسد العذب المالح ، وليس يفسد المالح العذب . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { وَحِجْراً مَّحْجُوراً } يقول : حجر أحدهما عن الآخر بأمره وقضائه . وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن المغيرة قال : سئل عمر بن الخطاب عن { نَسَباً وَصِهْراً } ، فقال : ما أراكم إلا وقد عرفتم النسب ، وأما الصهر : فالأختان والصحابة .
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
لما ذكر سبحانه دلائل التوحيد عاد إلى ذكر قبائح الكفار ، وفضائح سيرتهم ، فقال { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ } إن عبدوه { وَلاَ يَضُرُّهُمْ } إن تركوه { وَكَانَ الكافر على رَبّهِ ظَهِيراً } الظهير المظاهر أي : المعاون على ربه بالشرك والعداوة ، والمظاهرة على الربّ هي المظاهرة على رسوله ، أو على دينه . قال الزجاج : لأنه يتابع الشيطان ، ويعاونه على معصية الله ، لأن عبادتهم للأصنام معاونة للشيطان . وقال أبو عبيدة : المعنى : وكان الكافر على ربه هيناً ذليلاً ، من قول العرب ظهرت به أي : جعلته خلف ظهرك لم تلتفت إليه ، ومنه قوله : { واتخذتموه وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً } [ هود : 92 ] أي : هيناً ، ومنه أيضاً قول الفرزدق :
تميم بن بدر لا تكوننّ حاجتي ... بظهر فلا يعيا عليّ جوابها
وقيل : إن المعنى : وكان الكافر على ربه الذي يعبده ، وهو الصنم قوياً غالباً يعمل به ما يشاء ، لأن الجماد لا قدرة له على دفع ونفع ، ويجوز أن يكون الظهير جمعاً كقوله : { وَالْمَلاَئِكَة بَعْدَ ذلك ظَهِيرٌ } [ التحريم : 4 ] ، والمعنى : أن بعض الكفرة مظاهر لبعض على رسول الله ، أو على دين ، والمراد بالكافر هنا الجنس ، ولا ينافيه كون سبب النزول هو كافر معين كما قيل : إنه أبو جهل . { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا } أي : مبشراً للمؤمنين بالجنة ، ومنذراً للكافرين بالنار .
{ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } أي : قل لهم يا محمد : ما أسألكم على القرآن من أجر ، أو على تبليغ الرسالة المدلول عليه بالإرسال ، والاستثناء في قوله : { إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبّهِ سَبِيلاً } منقطع أي : لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً فليفعل ، وقيل : هو متصل . والمعنى : إلاّ من شاء أن يتقرّب إليه سبحانه بالطاعة ، وصور ذلك بصورة الأجر من حيث أنه مقصود الحصول . ولما بين سبحانه أن الكفار متظاهرون على رسول الله ، وأمره أن لا يطلب منهم أجراً ألبتة ، أمره أن يتوكل عليه في دفع المضارّ ، وجلب المنافع ، فقال : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ } وخصّ صفة الحياة إشارة إلى أن الحيّ هو الذي يوثق به في المصالح ، ولا حياة على الدوام إلاّ لله سبحانه دون الأحياء المنقطعة حياتهم ، فإنهم إذا ماتوا ضاع من يتوكل عليهم ، والتوكل : اعتماد العبد على الله في كلّ الأمور { وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ } أي : نزّهه عن صفات النقصان ، وقيل : معنى { سبح } : صلّ ، والصلاة تسمى تسبيحاً { وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً } أي : حسبك ، وهذه كلمة يراد بها المبالغة كقولك : كفى بالله رباً ، والخبير : المطلع على الأمور بحيث لا يخفى عليه منها شيء ، ثم زاد في المبالغة ، فقال : { الذى خَلَقَ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش } قد تقدّم تفسير هذا في الأعراف ، والموصول في محل جرّ على أنه صفة للحيّ ، وقال : { بينهما } ، ولم يقل : بينهنّ؛ لأنه أراد النوعين ، كما قال القطامي :
ألم يحزنك أن جبال قيس ... وتغلب قد تباتتا انقطاعاً
فإن قيل : يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السماوات ، والأرض كما تفيده ثم ، فيقال : إن كلمة ثم لم تدخل على خلق العرش بل على رفعه على السموات ، والأرض ، والرحمن مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وهو صفة أخرى للحيّ ، وقد قرأه الجمهور بالرفع ، وقيل : يجوز أن يكون بدلاً من الضمير في { استوى } ، أو يكون مبتدأ وخبره الجملة أي : فاسأل على رأي الأخفش ، كما في قول الشاعر :
وقائلة خولان فانكح فتاتهم ... وقرأ زيد بن علي : « الرحمن » بالجرّ على أنه نعت للحيّ ، أو للموصول { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } الضمير في به يعود إلى ما ذكر من خلق السماوات والأرض ، والاستواء على العرش . والمعنى : فاسأل بتفاصيل ما ذكر إجمالاً من هذه الأمور . وقال الزجاج والأخفش : الباء بمعنى عن أي : فاسأل عنه ، كقوله { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } [ المعارج : 1 ] وقول عنترة بن شداد :
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك ... إن كنت جاهلة بما لم تعلم
وقال علقمة بن عبده :
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب
والمراد بالخبير : الله سبحانه؛ لأنه لا يعلم تفاصيل تلك المخلوقات إلاّ هو ، ومن هذا قول العرب : لو لقيت فلاناً للقيك به الأسد أي : للقيك بلقائك إياه الأسد ، فخبيراً منتصب على المفعولية ، أو على الحال المؤكدة ، واستضعف الحالية أبو البقاء ، فقال : يضعف أن يكون { خبيراً } حالاً من فاعل اسأل ، لأن الخبير لا يسأل إلاّ على جهة التوكيد ، كقوله : { وَهُوَ الحق مُصَدّقًا } [ البقرة : 91 ] قال : ويجوز أن يكون حالاً من الرحمن إذا رفعته باستوى . وقال ابن جرير : يجوز أن تكون الباء في به زائدة . والمعنى : فاسأله حال كونه خبيراً . وقيل : قوله : « به » يجري مجرى القسم كقوله : { واتقوا الله الذي تَسَاءلُونَ بِهِ } [ النساء : 1 ] ، والوجه الأوّل أقرب هذه الوجوه .
ثم أخبر سبحانه عنهم بأنهم جهلوا معنى الرحمن فقال : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن قَالُواْ وَمَا الرحمن } قال المفسرون : إنهم قالوا ما نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة ، يعنون مسيلمة . قال الزجاج : الرحمن : اسم من أسماء الله ، فلما سمعوه أنكروا ، فقالوا : وما الرحمن { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } ، والاستفهام للإنكار أي : لا نسجد للرحمن الذي تأمرنا بالسجود له ، ومن قرأ بالتحتية ، فالمعنى : أنسجد لما يأمرنا محمد بالسجود له . وقد قرأ المدنيون ، والبصريون : { لِمَا تَأْمُرُنَا } بالفوقية ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم ، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي بالتحتية . قال أبو عبيد : يعنون الرحمن . قال النحاس : وليس يجب أن يتأوّل على الكوفيين في قراءتهم هذا التأويل البعيد ، ولكن الأولى : أن يكون التأويل لهم اسجدوا لما يأمرنا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فتصح القراءة على هذا ، وإن كانت الأولى أبين .
{ وَزَادَهُمْ نُفُوراً } أي : زادهم الأمر بالسجود نفوراً عن الدين ، وبعداً عنه ، وقيل : زادهم ذكر الرحمن تباعداً من الإيمان ، كذا قال مقاتل ، والأوّل أولى .
ثم ذكر سبحانه ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود للرحمن ، فقال : { تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السماء بُرُوجاً } المراد بالبروج بروج النجوم أي : منازلها الإثنا عشر ، وقيل : هي النجوم الكبار ، والأوّل أولى . وسميت بروجاً ، وهي القصور العالية؛ لأنها للكواكب كالمنازل الرفيعة لمن يسكنها ، واشتقاق البرج من التبرج ، وهو الظهور . { وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً } أي : شمساً ، ومثله قوله تعالى : { وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } [ نوح : 16 ] قرأ الجمهور : { سراجاً } بالإفراد . وقرأ حمزة ، والكسائي { سرجاً } بالجمع أي : النجوم العظام الوقادة ، ورجح القراءة الأولى أبو عبيد . قال الزجاج : في تأويل قراءة حمزة والكسائي أراد الشمس والكواكب { وَقَمَراً مُّنِيراً } أي : ينير الأرض إذا طلع ، وقرأ الأعمش « قمراً » بضم القاف ، وإسكان الميم ، وهي قراءة ضعيفة شاذة . { وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً } قال أبو عبيدة : الخلفة : كلّ شيء بعد شيء : الليل خلفة للنهار ، والنهار خلفة لليل ، لأن أحدهما يخلف الآخر ، ويأتي بعده؛ ومنه خلفة النبات ، وهو : ورق يخرج بعد الورق الأول في الصيف ، ومنه قول زهير بن أبي سلمى :
بها العين والآرام يمشين خلفة ... وأطلاؤها ينهضن من كلّ مجثم
قال الفراء في تفسير الآية : يقول : يذهب هذا ، ويجيء هذا ، وقال مجاهد : خلفة من الخلاف ، هذا أبيض ، وهذا أسود . وقيل : يتعاقبان في الضياء والظلام ، والزيادة والنقصان . وقيل : هو من باب حذف المضاف أي : جعل الليل ، والنهار ذوي خلفة أي : اختلاف { لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } قرأ حمزة مخففاً ، وقرأ الجمهور بالتشديد ، فالقراءة الأولى من الذكر لله ، والقراءة الثانية من التذكر له . وقرأ أبيّ بن كعب : « يتذكر » ، ومعنى الآية : أن المتذكر المعتبر إذا نظر في اختلاف الليل والنهار علم أنه لا بدّ في انتقالهما من حال إلى حال من ناقل { أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } أي : أراد أن يشكر الله على ما أودعه في الليل والنهار من النعم العظيمة ، والألطاف الكثيرة . قال الفراء : ويذكر ويتذكر يأتيان بمعنى واحد . قال الله تعالى : { واذكروا مَا فِيهِ } [ الأعراف : 171 ] ، وفي حرف عبد الله « ويذكروا ما فيه » .
{ وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً } هذا كلام مستأنف مسوق لبيان صالحي عباد الله سبحانه ، و { عباد الرحمن } مبتدأ وخبره الموصول مع صلته ، والهون مصدر ، وهو السكينة والوقار . وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن الهون متعلق ب { يمشون } أي : يمشون على الأرض مشياً هوناً .
قال ابن عطية : ويشبه أن يتأوّل هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي هوناً مناسبة لمشيه ، وأما أن يكون المراد صفة المشيء وحده ، فباطل ، لأنه ربّ ماش هوناً رويداً ، وهو ذئب أطلس ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفأ في مشيه كأنما يمشي في صيب . { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً } ذكر سبحانه أنهم يتحملون ما يرد عليهم من أذى أهل الجهل والسفه ، فلا يجهلون مع من يجهل ، ولا يسافهون أهل السفه . قال النحاس : ليس هذا السلام من التسليم إنما هو من التسلم ، تقول العرب : سلاماً أي : تسلماً منك أي : براءة منك ، منصوب على أحد أمرين : إما على أنه مصدر لفعل محذوف أي : قالوا : سلمنا سلاماً ، وهذا على قول سيبويه ، أو على أنه مفعول به أي : قالوا : هذا اللفظ ، ورجحه ابن عطية . وقال مجاهد : معنى { سلاماً } : سداداً ، أي : يقول للجاهل كلاماً يدفعه به برفق ولين . قال سيبويه : لم يؤمر المسلمون يومئذٍ أن يسلموا على المشركين لكنه على قوله تسليماً منكم ، ولا خير ، ولا شرّ بيننا وبينكم . قال المبرد : كان ينبغي أن يقال : لم يؤمر المسلمون يومئذٍ بحربهم ، ثم أمروا بحربهم . وقال محمد بن يزيد : أخطأ سيبويه في هذا وأساء العبارة . قال النحاس : ولا نعلم لسيبويه كلاماً في معنى الناسخ ، والمنسوخ إلاّ في هذه الآية ، لأنه قال في آخر كلامه : فنسختها آية السيف . وأقول : هكذا يكون كلام الرجل إذا تكلم في غير علمه ، ومشى في غير طريقته ، ولم يؤمر المسلمون بالسلام على المشركين ، ولا نهوا عنه . بل أمروا بالصفح ، والهجر الجميل ، فلا حاجة إلى دعوى النسخ . قال النضر بن شميل : حدّثني الخليل قال : أتيت أبا ربيعة الأعرابي ، وكان من أعلم من رأيت . فإذا هو على سطح ، فسلمنا ، فردّ علينا السلام ، وقال لنا : استووا ، فبقينا متحيرين ، ولم ندر ما قال ، فقال لنا أعرابيّ إلى جنبه : أمركم أن ترتفعوا . قال الخليل : هو من قول الله : { ثُمَّ استوى إِلَى السماء } [ البقرة : 29 ] قال : فصعدنا إليه ، فقال : هل لكم في خبز فطير ، ولبن هجير؟ فقلنا : الساعة فارقناه ، فقال : سلاماً ، فلم ندر ما قال ، فقال الأعرابيّ : إنه سالمكم متاركة لا خير فيها ولا شرّ . قال الخليل : هو من قول الله { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً } .
{ وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وقياما } البيتوتة : هي أن يدركك الليل نمت أو لم تنم . قال الزجاج : من أدركه الليل ، فقد بات ، نام أو لم ينم ، كما يقال : بات فلان قلقاً ، والمعنى يبيتون لربهم سجداً على وجوههم ، وقياماً على أقدامهم ، ومنه قول امرىء القيس :
فبتنا قياماً عند رأس جوادنا ... يزاولنا عن نفسه ونزاوله
{ والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } أي : هم مع طاعتهم مشفقون وجلون خائفون من عذابه ، والغرام : اللازم الدائم ، ومنه سمي الغريم لملازمته ، ويقال : فلان مغرم بكذا أي : ملازم له مولع به ، هذا معناه في كلام العرب ، كما ذكره ابن الأعرابي وابن عرفة وغيرهما ، ومنه قول الأعشى :
إن يعاقب يكن غراما ... وإن يعط جزيلاً فإنه لا يبالي
وقال الزجاج : الغرام أشدّ العذاب . وقال أبو عبيدة : هو الهلاك . وقال ابن زيد : الشرّ ، وجملة : { إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } تعليل لما قبلها ، والمخصوص محذوف : أي : هي ، وانتصاب { مستقرًّا } على الحال ، أو التمييز ، وكذا { مقاماً } ، قيل : هما مترادفان ، وإنما عطف أحدهما على الآخر لاختلاف لفظيهما ، وقيل : بل هما مختلفان معنى : فالمستقرّ للعصاة ، فإنهم يخرجون ، والمقام للكفار ، فإنهم يخلدون ، وساءت من أفعال الذم كبئست ، ويجوز أن يكون هذا من كلام الله سبحانه ، ويجوز أن يكون حكاية لكلامهم .
ثم وصفهم سبحانه بالتوسط في الإنفاق ، فقال : { والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } قرأ حمزة والكسائي والأعمش وعاصم ويحيى بن وثاب : { يقتروا } بفتح التحتية ، وضم الفوقية ، من قتر يقتر ، كقعد يقعد ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بفتح التحتية ، وكسر التاء الفوقية ، وهي لغة معروفة حسنة ، وقرأ أهل المدينة وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم التحتية وكسر الفوقية . قال أبو عبيدة : يقال : قتر الرجل على عياله يقتر ، ويقتر قتراً ، وأقتر يقتر إقتاراً ، ومعنى الجميع : التضييق في الإنفاق . قال النحاس : ومن أحسن ما قيل في معنى الآية : أن من أنفق في غير طاعة الله ، فهو الإسراف ، ومن أمسك عن طاعة الله ، فهو الإقتار ، ومن أنفق في طاعة الله ، فهو القوام . وقال إبراهيم النخعي : هو الذي لا يجيع ولا يعرى ، ولا ينفق نفقة ، يقول الناس قد أسرف . وقال يزيد بن أبي حبيب : أولئك أصحاب محمد كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ولا يلبسون ثوباً للجمال ، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسدّ عنهم الجوع ، ويقوّيهم على عبادة الله ، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ، ويقيهم الحرّ والبرد . وقال أبو عبيدة : لم يزيدوا على المعروف ، ولم يبخلوا كقوله : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } [ الإسراء : 29 ] قرأ حسان بن عبد الرحمن : « وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً » بكسر القاف ، وقرأ الباقون بفتحها ، فقيل : هما بمعنى ، وقيل : القوام بالكسر : ما يدوم عليه الشيء ويستقرّ ، وبالفتح : العدل ، والإستقامة ، قاله ثعلب . وقيل : بالفتح : العدل بين الشيئين ، وبالكسر : ما يقام به الشيء لا يفضل عنه ولا ينقص . وقيل : بالكسر : السداد والمبلغ ، واسم كان مقدّر فيها أي : كان إنفاقهم بين ذلك قواماً ، وخبرها { قواماً } ، قاله الفراء . وروي عن الفراء قول آخر ، وهو أن اسم كان { بين ذلك } ، وتبنى بين على الفتح؛ لأنها من الظروف المفتوحة . وقال النحاس : ما أدري ما وجه هذا ، لأن بين إذا كانت في موضع رفع رفعت .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وَكَانَ الكافر على رَبّهِ ظَهِيراً } يعني : أبا الحكم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل بن هشام . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } قال : قل لهم يا محمد : لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من أجر ، يقول : عرض من عرض الدنيا . وأخرج الخطيب في كتاب النجوم عنه أيضاً في قوله : { تَبَارَكَ الذى جَعَلَ فِى السماء بُرُوجاً } قال : هي هذه الإثنا عشر برجاً أولها : الحمل ، ثم الثور ، ثم الجوزاء ، ثم السرطان ، ثم الأسد ، ثم السنبلة ، ثم الميزان ، ثم العقرب ، ثم القوس ، ثم الجدي ، ثم الدلو ، ثم الحوت . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً : { وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً } قال : أبيض وأسود . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً يقول : من فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار ، ومن النهار أدركه بالليل . وأخرج الطيالسي وابن أبي حاتم عن الحسن : أن عمر أطال صلاة الضحى ، فقيل له : صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه ، فقال : إنه بقي عليّ من وردى شيء ، فأحببت أن أتمه ، أو قال : أقضيه ، وتلا هذه الآية : { وَهُوَ الذى جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً } الآية .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَعِبَادُ الرحمن } قال : هم : المؤمنون { الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً } قال : بالطاعة والعفاف والتواضع . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : { هَوْناً } : علماً وحلماً . وأخرج عبد بن حميد عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } قال : « الدائم » . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } قال : هم المؤمنون لا يسرفون فينفقوا في معصية الله ، ولا يقترون فيمنعوا حقوق الله .
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
قوله { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ } : لما فرغ من ذكر إتيانهم بالطاعات شرع في بيان اجتنابهم للمعاصي ، فقال : والذي لا يدعون مع الله سبحانه رباً من الأرباب . والمعنى : لا يشركون به شيئاً ، بل يوحدونه ، ويخلصون له العبادة والدعوة { وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التى حَرَّمَ الله } أي : حرّم قتلها { إِلاَّ بالحق } أي : يحقّ أن تقتل به النفوس من كفر بعد إيمان ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير نفس { وَلاَ يَزْنُونَ } أي : يستحلون الفروج المحرّمة بغير نكاح ، ولا ملك يمين { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } أي : شيئاً مما ذكر { يَلْقَ } في الآخرة { أَثَاماً } ، والأثام في كلام العرب : العقاب . قال الفراء : آثمه الله يؤثمه أثاماً وآثاماً ، أي : جازاه جزاء الإثم . وقال عكرمة ، ومجاهد : إن أثاماً وادٍ في جهنم جعله الله عقاباً للكفرة . وقال السديّ : جبل فيها . وقرىء « يلق » بضم الياء ، وتشديد القاف . قال أبو مسلم : والأثام والإثم واحد ، والمراد هنا جزاء الآثام ، فأطلق اسم الشيء على جزائه . وقرأ الحسن « يلق أياماً » جمع يوم يعني : شدائد ، والعرب تعبر عن ذلك بالأيام ، وما أظنّ هذه القراءة تصح عنه :
{ يضاعف لَهُ العذاب } : قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي : « يضاعف ، ويخلد » بالجزم ، وقرأ ابن كثير « يضعف » بتشديد العين وطرح الألف والجزم ، وقرأ طلحة بن سليمان : « نضعف » بضم النون ، وكسر العين المشدّدة والجزم ، وهي : قراءة أبي جعفر وشيبة . وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بالرفع في الفعلين على الإستئناف . وقرأ طلحة بن سليمان : « وتخلد » بالفوقية خطاباً للكافر . وروي عن أبي عمرو أنه قرأ « ويخلد » بضم الياء التحتية ، وفتح اللام . قال أبو عليّ الفارسي : وهي غلط من جهة الرواية ، ووجه الجزم في يضاعف : أنه بدل من يلق لاتحادهما في المعنى ، ومثله قول الشاعر :
إن على الله أن تبايعا ... تؤخذ كرهاً أو تجيء طائعاً
والضمير في قوله : { وَيَخْلُدْ فِيهِ } راجع إلى العذاب المضاعف ، أي : يخلد في العذاب المضاعف { مُهَاناً } ذليلاً حقيراً . { إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالحا } قيل : هو استثناء متصل ، وقيل : منقطع . قال أبو حيان : لا يظهر الاتصال؛ لأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب ، فيصير التقدير : إلاّ من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً ، فلا يضاعف له العذاب ، ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف . قال : والأولى عندي : أن تكون منقطعاً أي : لكن من تاب . قال القرطبي : لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عام في الكافر والزاني . واختلفوا في القاتل من المسلمين .
وقد تقدّم بيانه في النساء والمائدة ، والإشارة بقوله : { فأولئك يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات } إلى المذكورين سابقاً ، ومعنى : تبديل السيئات حسنات : أنه يمحو عنهم المعاصي ، ويثبت لهم مكانها طاعات . قال النحاس : من أحسن ما قيل في ذلك : أنه يكتب موضع كافر مؤمن ، وموضع عاص مطيع . قال الحسن : قوم يقولون التبديل في الآخرة ، وليس كذلك إنما التبديل في الدنيا يبدل الله لهم إيماناً مكان الشرك ، وإخلاصاً من الشك ، وإحصاناً من الفجور . قال الزجاج : ليس يجعل مكان السيئة الحسنة ، ولكن يجعل مكان السيئة التوبة ، والحسنة مع التوبة . وقيل : إن السيئات تبدّل بحسنات ، وبه قال جماعة من الصحابة ، ومن بعدهم . وقيل : التبديل عبارة عن الغفران أي : يغفر الله لهم تلك السيئات ، لا أن يبدلها حسنات . وقيل : المراد بالتبديل : أن يوفقه لأضداد ما سلف منه { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } هذه الجملة مقرّرة لما قبلها من التبديل .
{ وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صالحا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً } أي : من تاب عما اقترف ، وعمل عملاً صالحاً بعد ذلك ، فإنه يتوب بذلك إلى الله متاباً أي : يرجع إليه رجوعاً صحيحاً قوياً . قال القفال : يحتمل أن تكون الآية الأولى فيمن تاب من المشركين ، ولهذا قال { إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ } ، ثم عطف عليه من تاب من المسلمين ، وأتبع توبته عملاً صالحاً ، فله حكم التائبين أيضاً . وقيل : أي : من تاب بلسانه ، ولم يحقق التوبة بفعله ، فليست تلك التوبة نافعة ، بل من تاب وعمل صالحاً ، فحقق توبته بالأعمال الصالحة ، فهو الذي تاب إلى الله متاباً أي : تاب حقّ التوبة ، وهي النصوح ، ولذلك أكد بالمصدر ، ومعنى الآية : من أراد التوبة ، وعزم عليها ، فليتب إلى الله ، فالخبر في معنى الأمر كذا قيل لئلا يتحد الشرط والجزاء ، فإنه لا يقال : من تاب ، فإنه يتوب .
ثم وصف سبحانه هؤلاء التائبين العاملين للصالحات ، فقال : { والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } أي : لا يشهدون الشهادة الكاذبة ، أو لا يحضرون الزور ، والزور : هو الكذب والباطل ولا يشاهدونه ، وإلى الثاني ذهب جمهور المفسرين . قال الزجاج : الزور في اللغة الكذب ، ولا كذب فوق الشرك بالله . قال الواحدي : أكثر المفسرين على أن الزور ها هنا بمعنى الشرك . والحاصل أن { يشهدون } إن كان من الشهادة ففي الكلام مضاف محذوف أي : لا يشهدون شهادة الزور ، وإن كان من الشهود والحضور كما ذهب إليه الجمهور ، فقد اختلفوا في معناه ، فقال قتادة : لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم ، وقال محمد بن الحنفية : لا يحضرون اللهو والغناء ، وقال ابن جريج : الكذب . وروي عن مجاهد أيضاً ، والأولى عدم التخصيص بنوع من أنواع الزور ، بل المراد الذين لا يحضرون ما يصدق عليه اسم الزور كائناً ما كان { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً } أي : معرضين عنه غير ملتفتين إليه ، واللغو : كل ساقط من قول أو فعل .
قال الحسن : اللغو : المعاصي كلها ، وقيل : المراد : مرّوا بذوي اللغو ، يقال : فلان يكرم عما يشينه أي : يتنزّه ، ويكرم نفسه عن الدخول في اللغو ، والاختلاط بأهله .
{ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بئايات رَبّهِمْ } أي : بالقرآن ، أو بما فيه موعظة وعبرة { لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } أي : لم يقعوا عليها حال كونهم صماً وعمياناً ، ولكنهم أكبوا عليها سامعين مبصرين ، وانتفعوا بها . قال ابن قتيبة : المعنى : لم يتغافلوا عنها ، كأنهم صمّ لم يسمعوها ، وعمي لم يبصروها . قال ابن جرير : ليس ثم خرور ، بل كما يقال : قعد يبكي ، وإن كان غير قاعد . قال ابن عطية : كأن المستمع للذكر قائم ، فإذا أعرض عنه كان ذلك خروراً ، وهو السقوط على غير نظام . قيل : المعنى : إذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم ، فخروا سجداً وبكياً ، ولم يخرّوا عليها صماً وعمياناً . قال الفراء : أي : لم يقعدوا على حالهم الأول كأن لم يسمعوا . قال في الكشاف : ليس بنفي للخرور ، وإنما هو إثبات له ، ونفي للصمم والعمى ، وأراد أن النفي متوجه إلى القيد لا إلى المقيد .
{ والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أزواجنا وذرياتنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } من ابتدائية ، أو بيانية . قرأ نافع وابن كثير وابن عباس والحسن : { وذرّياتنا } بالجمع ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى : « وذرّيتنا » بالإفراد ، والذرّية تقع على الجمع ، كما في قوله : { ذُرّيَّةً ضعافا } [ النساء : 9 ] ، وتقع على الفرد كما في قوله : { ذُرّيَّةً طَيّبَةً } [ آل عمران : 38 ] ، وانتصاب { قرّة أعين } على المفعولية ، يقال : قرّت عينه قرة . قال الزجاج : يقال : أقرّ الله عينك أي : صادف فؤادك ما يحبه ، وقال المفضل : في قرّة العين ثلاثة أقوال : أحدها برد دمعها ، لأنه دليل السرور والضحك ، كما أن حرّه دليل الحزن والغمّ . والثاني : نومها ، لأنه يكون مع فراغ الخاطر ، وذهاب الحزن ، والثالث : حصول الرضا { واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } أي : قدوة يقتدى بنا في الخير ، وإنما قال : { إماماً } ، ولم يقل : أئمة ، لأنه أريد به الجنس ، كقوله : { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [ الحج : 5 ] قال الفراء : قال : { إماماً } ، ولم يقل أئمة؛ كما قال للاثنين : { إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين } [ الشعراء : 16 ] يعني : أنه من الواحد الذي أريد به الجمع . وقال الأخفش : الإمام جمع أمّ من أمّ يأمّ ، جمع على فعال ، نحو صاحب وصحاب ، وقائم وقيام . وقيل : إن إماماً مصدر ، يقال : أمّ فلان فلاناً إماماً ، مثل الصيام والقيام . وقيل : أرادوا : اجعل كل واحد منا إماماً ، وقيل : أرادوا : اجعلنا إماماً واحداً لاتحاد كلمتنا ، وقيل : إنه من الكلام المقلوب ، وأن المعنى : واجعل المتقين لنا إماماً ، وبه قال مجاهد . وقيل : إن هذا الدعاء صادر عنهم بطريق الانفراد ، وأن عبارة كل واحد منهم عند الدعاء : واجعلني للمتقين إماماً ، ولكنها حكيت عبارات الكل بصيغة المتكلم مع الغير لقصد الإيجاز كقوله :
{ ياأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا } [ المؤمنون : 51 ] ، وفي هذا إبقاء { إماماً } على حاله ، ومثل ما في الآية قول الشاعر :
يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي ... إن العواذل ليس لي بأمين
أي : أمناء . قال القفال : وعندي أن الإمام إذا ذهب به مذهب الاسم وحد كأنه قيل : اجعلنا حجة للمتقين ، ومثله البينة : يقال : هؤلاء بينة فلان . قال النيسابوري : قيل : في الآية دلالة على أن الرياسة الدينية مما يجب أن تطلب ، ويرغب فيها ، والأقرب : أنهم سألوا الله أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي يشار إليهم ويقتدى بهم ، والإشارة بقوله : { أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُواْ } إلى المتصفين بتلك الصفات ، وهو مبتدأ وخبره ما بعده ، والجمل مستأنفة . وقيل : إن { أولئك } وما بعده خبر لقوله : { وَعِبَادُ الرحمن } كذا قال الزجاج ، والغرفة : الدرجة الرفيعة ، وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها ، وهي في الأصل لكلّ بناء مرتفع ، والجمع غرف . وقال الضحاك : الغرفة الجنة ، والباء في { بِمَا صَبَرُواْ } سببية ، وما مصدرية أي : يجزون الغرفة بسبب صبرهم على مشاق التكليف { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وسلاما } قرأ أبو بكر والمفضل والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف : " يلقون " بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف ، واختار هذه القراءة الفراء ، قال : لأن العرب تقول : فلان يلقي بالسلام والتحية والخير ، وقلّ ما يقولون : يلقى . وقرأ الباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله : { ولقاهم نَضْرَةً وَسُرُوراً } [ الإنسان : 11 ] ، والمعنى : أنه يحيي بعضهم بعضاً ، ويرسل إليهم الربّ سبحانه بالسلام ، قيل : التحية البقاء الدائم والملك العظيم ، وقيل : هي بمعنى السلام ، وقيل : إن الملائكة تحييهم وتسلم عليهم ، والظاهر : أن هذه التحية والسلام هي من الله سبحانه لهم ، ومن ذلك قوله سبحانه : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام } [ الأحزاب : 44 ] ، وقيل : معنى التحية : الدعاء لهم بطول الحياة . ومعنى السلام : الدعاء لهم بالسلامة من الآفات ، وانتصاب { خالدين فِيهَا } على الحال أي : مقيمين فيها من غير موت { حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } أي : حسنت الغرفة مستقرًّا يستقرّون فيه ، ومقاماً يقيمون به ، وهذا في مقابل ما تقدّم من قوله : { سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } .
{ قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ } بيّن سبحانه أنه غنيّ عن طاعة الكلّ ، وإنما كلفهم لينتفعوا بالتكليف ، يقال : ما عبأت بفلان : أيّ : ما باليت به ، ولا له عندي قدر ، وأصل يعبأ من العبء ، وهو الثقل . قال الخليل : ما أعبأ بفلان أي : ما أصنع به كأنه يستقله ويستحقره ، ويدّعي أن وجوده وعدمه سواء ، وكذا قال أبو عبيدة . قال الزجاج : { مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّي } يريد : أيّ وزن يكون لكم عنده؟ والعبء : الثقل ، وما استفهامية ، أو نافية ، وصرح الفراء : بأنها استفهامية . قال ابن الشجري : وحقيقة القول عندي : أن موضع «ما» نصب ، والتقدير : أي عبء يعبأ بكم؟ أي : أيّ مبالاة يبالي بكم؟ { لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ } : أي : لولا دعاؤكم إياه ، لتعبدوه ، وعلى هذا ، فالمصدر الذي هو الدعاء مضاف إلى مفعوله ، وهو اختيار الفراء ، وفاعله محذوف ، وجواب لولا محذوف : تقديره : لولا دعاؤكم لم يعبأ بكم ، ويؤيد هذا قوله :
{ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، والخطاب لجميع الناس ، ثم خصّ الكفار منهم ، فقال : { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } . وقرأ ابن الزبير « فقد كذب الكافرون » ، وفي هذه القراءة دليل بين على أن الخطاب لجميع الناس . وقيل : إن المصدر مضاف إلى الفاعل أي : لولا استغاثتكم إليه في الشدائد . وقيل : المعنى : ما يعبأ بكم أي : بمغفرة ذنوبكم لولا دعاؤكم الآلهة معه . وحكى ابن جني : أن ابن عباس قرأ كقراءة ابن الزبير . وحكى الزهراوي ، والنحاس : أن ابن مسعود قرأ كقراءتهما ، وممن قال : بأن الدعاء مضاف إلى الفاعل القتيبي ، والفارسي قالا : والأصل لولا دعاؤكم آلهة من دونه ، وجواب لولا محذوف تقديره على هذا الوجه : لولا دعاؤكم لم يعذبكم ، ويكون معنى { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } على الوجه الأوّل : فقد كذبتم بما دعيتم إليه ، وعلى الوجه الثاني : فقد كذبتم بالتوحيد . ثم قال سبحانه : { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } أي : فسوف يكون جزاء التكذيب لازماً لكم ، وجمهور المفسرين على أن المراد باللزام هنا : ما لزم المشركين يوم بدر ، وقالت طائفة : هو عذاب الآخرة . قال أبو عبيدة : لزاماً : فيصلاً ، أي : فسوف يكون فيصلاً بينكم وبين المؤمنين . قال الزجاج : فسوف يكون تكذيبكم لزاماً يلزمكم ، فلا تعطون التوبة ، وجمهور القراء على كسر اللام من لزاماً ، وأنشد أبو عبيدة لصخر :
فإما ينجو من خسف أرض ... فقد لقيا حتوفهما لزاما
قال ابن جرير : { لزاماً } : عذاباً دائماً ، وهلاكاً مفنياً يلحق بعضكم ببعض ، كقول أبي ذؤيب :
ففأجأه بعادية لزام ... كما يتفجر الحوض اللفيف
يعني : باللزام الذي يتبع بعضه بعضاً ، وباللفيف : المتساقط من الحجارة المنهدمة . وحكى أبو حاتم عن أبي زيد قال : سمعت أبا السماك يقرأ : « لزاماً » بفتح اللام . قال أبو جعفر : يكون مصدر لزم ، والكسر أولى .
وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن مسعود قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيّ الذنب أكبر؟ قال : « أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك » قلت : ثم أيّ؟ قال : « أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك » ، قلت : ثم أيّ؟ قال : « أن تزاني حليلة جارك » ، فأنزل الله تصديق ذلك : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ } . وأخرجا ، وغيرهما أيضاً عن ابن عباس : أن ناساً من أهل الشرك قد قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إن الذي تقول ، وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزلت { والذين لاَ يَدْعُونَ } الآية ، ونزلت
{ قُلْ ياعِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 53 ] الآية . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو في قوله : { يَلْقَ أَثَاماً } قال : وادٍ في جهنم . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ } الآية . اشتدّ ذلك على المسلمين ، فقالوا : ما منا أحد إلاّ أشرك وقتل وزنى ، فأنزل الله : { ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } الآية [ الزمر : 53 ] ، يقول لهؤلاء الذين أصابوا هذا في الشرك ، ثم نزلت هذه الآية : { إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالحا فأولئك يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات } فأبدلهم الله بالكفر الإسلام ، وبالمعصية الطاعة ، وبالإنكار المعرفة ، وبالجهالة العلم . وأخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنين : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاما } ، ثم نزلت : { إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ } ، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح بشيء قط فرحه بها ، وفرحه ب { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } [ الفتح : 1 ] ، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { فأولئك يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات } قال : هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات ، فرغب الله بهم عن ذلك ، فحوّلهم إلى الحسنات ، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات . وأخرج أحمد وهناد والترمذي وابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يؤتى بالرجل يوم القيامة ، فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه ، فيعرض عليه صغارها ، وينحى عنه كبارها ، فيقال : عملت يوم كذا كذا ، وهو يقرّ ، ليس ينكر ، وهو مشفق من الكبائر أن تجيء ، فيقال : أعطوه بكل سيئة عملها حسنة » والأحاديث في تكفير السيئات ، وتبديلها بالحسنات كثيرة .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله { والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } قال : إن الزور كان صنماً بالمدينة يلعبون حوله كل سبعة أيام ، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرّوا به مرّوا كراماً لا ينظرون إليه . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أزواجنا وذرياتنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } قال : يعنون : من يعمل بالطاعة ، فتقرّ به أعيننا في الدنيا والآخرة { واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } قال : أئمة هدى يهتدى بنا ، ولا تجعلنا أئمة ضلالة ، لأنه قال لأهل السعادة : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [ الأنبياء : 73 ] ، ولأهل الشقاوة : { وجعلناهم أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار } [ القصص : 41 ] .
وأخرج الحكيم الترمذي عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة } قال :
« الغرفة من ياقوتة حمراء ، أو زبرجدة خضراء ، أو درّة بيضاء ليس فيها فصم ولا وصم » وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ } يقول : لولا إيمانكم ، فأخبر الله أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين ، ولو كانت له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } قال : موتاً . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري عنه : أنه كان يقرأ « فَقَدْ كَذَّبَ الكافرون * فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً » . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن الزبير أنه قرأها كذلك . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه [ عن ابن مسعود ] في قوله : { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } قال : القتل يوم بدر ، وفي الصحيحين عنه قال : « خمس قد مضين : الدخان والقمر واللزوم والبطشة واللزام » .
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
قوله { طسم } قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وأبو بكر والمفضل وحمزة والكسائي ، وخلف بإمالة الطاء ، وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة والزهري بين اللفظين ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم ، وقرأ الباقون بالفتح مشبعاً . وقرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم والكسائي بإدغام النون من «طسن» في الميم وقرأ الأعمش وحمزة بإظهارها . قال الثعلبي : الإدغام اختيار أبي عبيد ، وأبي حاتم . قال النحاس : وحكى الزجاج في كتابه : " فيما يجري وما لا يجري " أنه يجوز أن يقال : «طاسين ميم» بفتح النون وضم الميم كما يقال : هذا معدى كرب . وقرأ عيسى ويروى عن نافع بكسر الميم على البناء . وفي مصحف عبد الله بن مسعود " ط س م " هكذا حروفاً مقطعة ، فيوقف على كل حرف وقفة يتميز بها عن غيره ، وكذلك قرأ أبو جعفر ، ومحله الرفع على الابتداء إن كان اسماً للسورة كما ذهب إليه الأكثر ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، ويجوز أن يكون في محل نصب بتقدير : اذكر ، أو اقرأ . وأما إذا كان مسروداً على نمط التعديد كما تقدّم في غير موضع من هذا التفسير ، فلا محلّ له من الإعراب . وقد قيل : إنه اسم من أسماء الله سبحانه ، وقيل : اسم من أسماء القرآن ، والإشارة بقوله : { تِلْكَ ءَايَاتُ الكتاب المبين } إلى السورة ، ومحلها الرفع على أنها وما بعدها خبر للمبتدأ إن جعلنا { طسم } مبتدأ ، وإن جعلناه خبراً لمبتدأ محذوف ، فمحلها الرفع على أنه مبتدأ خبره ما بعده ، أو خبر مبتدأ محذوف أو بدل من { طسما } والمراد بالكتاب هنا : القرآن ، والمبين : المبين المظهر ، أو البين الظاهر إن كان من أبان بمعنى بان .
{ لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ } أي قاتل نفسك ومهلكها { أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } أي : لعدم إيمانهم بما جئت به والبخع في الأصل : أن يبلغ بالذبح النخاع بالنون : قاموس ، وهو عرق في القفا ، وقد مضى تحقيق هذا في سورة الكهف ، وقرأ قتادة : " باخع نفسك " بالإضافة . قرأ الباقون بالقطع قال : الفراء : " أن " في قوله : { أن لاَ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } في موضع نصب : لأنها جزاء قال النحاس : وإنما يقال : " إن " مكسورة لأنها جزء هكذا التعارف ، والقول في هذا ما قاله الزجاج في كتابه في القرآن إنها في موضع نصب مفعول لأجله ، والمعنى : لعلك قاتل نفسك لتركهم الإيمان ، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه كان حريصاً على إيمان قومه شديد الأسف لما يراه من إعراضهم ، وجملة : { إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السماء ءايَةً } مستأنفة مسوقة لتعليل ما سبق من التسلية ، والمعنى : إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية تلجئهم إلى الإيمان ، ولكن قد سبق القضاء بأنا لا ننزل ذلك ، ومعنى { فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين } : أنهم صاروا منقادين لها أي : فتظلّ أعناقهم إلخ ، قيل : وأصله ، فظلوا لها خاضعين ، فأقحمت الأعناق لزيادة التقرير والتصوير ، لأن الأعناق موضع الخضوع .
وقيل : إنها لما وضعت الأعناق بصفات العقلاء أجريت مجراهم ، ووصفت بما يوصفون به . قال عيسى بن عمر : خاضعين ، وخاضعة هنا سواء ، واختاره المبرد ، والمعنى : أنها إذا ذلت رقابهم ذلوا ، فالإخبار عن الرقاب إخبار عن أصحابها ، ويسوغ في كلام العرب أن يترك الخبر عن الأوّل ، ويخبر عن الثاني ، ومنه قول الراجز :
طول الليالي أسرعت في نقضي ... طوين طولي وطوين عرضي
فأخبر عن الليالي ، وترك الطول ، ومنه قول جرير :
أرى مرّ السنين أخذن مني ... كما أخذ السرار من الهلال
وقال أبو عبيد والكسائي : إن المعنى : خاضعيها هم ، وضعفه النحاس ، وقال مجاهد : أعناقهم : كبراؤهم ، قال النحاس : وهذا معروف في اللغة ، يقال : جاءني عنق من الناس أي : رؤساء منهم . وقال أبو زيد والأخفش : أعناقهم : جماعاتهم ، يقال : جاءني عنق من الناس أي : جماعة .
{ وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرحمن مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ } بيّن سبحانه أنه مع اقتداره على أن يجعلهم ملجئين إلى الإيمان يأتيهم بالقرآن حالاً بعد حال ، وأن لا يجدّد لهم موعظة وتذكيراً إلاّ جدّدوا ما هو نقيض المقصود ، وهو الإعراض والتكذيب والاستهزاء ، و «من» في : { مّن ذِكْرِ } مزيدة لتأكيد العموم ، و " من " في { مّن رَّبّهِمُ } لابتداء الغاية ، والاستثناء مفرغ من أعمّ العامّ محله النصب على الحالية من مفعول يأتيهم ، وقد تقدّم تفسير مثل هذه الآية في سورة الأنبياء { فَقَدْ كَذَّبُواْ } أي : بالذكر الذي يأتيهم تكذيباً صريحاً ، ولم يكتفوا بمجرّد الإعراض ، وقيل : إن الإعراض بمعنى التكذيب ، لأن من أعرض عن شيء ولم يقبله ، فقد كذّبه ، وعلى هذا فيكون ذكر التكذيب للدلالة على صدور ذلك منهم على وجه التصريح ، والأوّل أولى ، فالإعراض عن الشيء : عدم الالتفات إليه . ثم انتقلوا عن هذا إلى ما هو أشدّ منه ، وهو التصريح بالتكذيب ، ثم انتقلوا عن التكذيب إلى ما هو أشدّ منه ، وهو الاستهزاء كما يدلّ عليه قوله : { فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أنباؤا مَا كَانُواْ بِه يَسْتَهْزِءونَ } ، والأنباء هي : ما يستحقونه من العقوبة آجلاً وعاجلاً . وسمّيت أنباء لكونها مما أنبأ عنه القرآن ، وقال : { مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } ، ولم يقل : ما كانوا عنه معرضين ، أو ما كانوا به يكذّبون ، لأن الاستهزاء أشدّ منهما ، ومستلزم لهما ، وفي هذا وعيد شديد ، وقد مرّ تفسير مثل هذا في سورة الأنعام .
ثم ذكر سبحانه ما يدلّ على كمال قدرته من الأمور الحسية التي يحصل بها للمتأمل فيها ، والناظر إليها ، والمستدلّ بها أعظم دليل ، وأوضح برهان ، فقال : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } الهمزة للتوبيخ ، والواو للعطف على مقدّر كما في نظائره ، فنبّه سبحانه على عظمته وقدرته ، وأن هؤلاء المكذبين المستهزئين لو نظروا حق النظر لعلموا أنه سبحانه الذي يستحق أن يعبد ، والمراد بالزوج هنا : الصنف .
وقال الفراء : هو اللون ، وقال الزجاج : معنى زوج نوع ، وكريم : محمود ، والمعنى : من كل زوج نافع لا يقدر على إنباته إلاّ ربّ العالمين ، والكريم في الأصل : الحسن الشريف ، يقال : نخلة كريمة : أي كثيرة الثمرة ، ورجل كريم : شريف فاضل ، وكتاب كريم : إذا كان مرضياً في معانيه ، والنبات الكريم هو المرضي في منافعه ، قال الشعبي : الناس مثل نبات الأرض ، فمن صار منهم إلى الجنة ، فهو كريم ، ومن صار منهم إلى النار ، فهو لئيم ، والإشارة بقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } إلى المذكور قبله أي : إن فيما ذكر من الإنبات في الأرض لدلالة بينة ، وعلامة واضحة على كمال قدرة الله سبحانه ، وبديع صنعته ، ثم أخبر سبحانه : بأن أكثر هؤلاء مستمرّ على ضلالته مصمم على جحوده ، وتكذيبه ، واستهزائه ، فقال : { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي : سبق علمي فيهم أنهم سيكونون هكذا ، وقال سيبويه : إن { كان } هنا صلة { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } أي : الغالب القاهر لهؤلاء بالانتقام منهم مع كونه كثير الرحمة ، ولذلك أمهلهم ، ولم يعاجلهم بالعقوبة ، أو المعنى : أنه منتقم من أعدائه رحيم بأوليائه .
وجملة { وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى } إلخ ، مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها من الإعراض ، والتكذيب ، والاستهزاء ، والعامل في الظرف محذوف تقديره : واتل إذ نادى أو اذكر ، والنداء : الدعاء ، و «أن» في قوله : { أَنِ ائت القوم الظالمين } يجوز أن تكون مفسرة ، وأن تكون مصدرية ، ووصفهم بالظلم . لأنهم جمعوا بين الكفر الذي ظلموا به أنفسهم وبين المعاصي التي ظلموا بها غيرهم كاستعباد بني إسرائيل ، وذبح أبنائهم . وانتصاب { قَوْمِ فِرْعَونَ } على أنه بدل ، أو عطف بيان من القوم الظالمين ، ومعنى { أَلا يَتَّقُونَ } : ألا يخافون عقاب الله سبحانه ، فيصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته وقيل المعنى : قل لهم : ألا تتقون؟ وجاء بالياء التحتية لأنهم غيب وقت الخطاب ، وقرأ عبيد بن عمير ، وأبو حازم : " ألا تتقون " بالفوقية : أي : قل لهم ذلك ، ومثله : { قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ } [ آل عمران : 12 ] بالتحتية والفوقية .
{ قَالَ رَبّ إِنّي أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ } أي قال موسى هذه المقالة ، والمعنى : أخاف أن يكذبوني في الرسالة { وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي } معطوفان على { أخاف } أي يضيق صدري لتكذيبهم إياي ، ولا ينطلق لساني بتأدية الرسالة ، قرأ الجمهور برفع { يَضِيقُ } ، { ولا ينطلق } بالعطف على { أخاف } كما ذكرنا ، أو على الاستئناف ، وقرأ يعقوب وعيسى بن عمر وأبو حيوة بنصبهما عطفاً على { يكذبون } .
قال الفراء : كلا القراءتين له وجه ، قال النحاس الوجه . الرفع ، لأن النصب عطف على { يكذبون } وهذا بعيد { فَأَرْسِلْ إلى هارون } أي : أرسل إليه جبريل بالوحي ليكون معي رسولاً موازراً مظاهراً معاوناً ، ولم يذكر الموازرة هنا ، لأنها معلومة من غير هذا الموضع ، كقوله في طه : { واجعل لّي وَزِيراً } [ طه : 29 ] ، وفي القصص { أُرْسِلَهُ مَعِىَ رِدْءاً يُصَدّقُنِي } [ القصص : 34 ] . وهذا من موسى عليه السلام من باب طلب المعاونة له بإرسال أخيه ، لا من باب الاستعفاء من الرسالة ، ولا من التوقف عن المسارعة بالامتثال : { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } الذنب هو قتله للقبطي ، وسماه ذنباً بحسب زعمهم ، فخاف موسى أن يقتلوه به . وفيه دليل على أن الخوف قد يحصل مع الأنبياء فضلاً عن الفضلاء .
ثم أجابه سبحانه بما يشتمل على نوع من الردع وطرف من الزجر { قَالَ كَلاَّ فاذهبا بئاياتنا } وفي ضمن هذا الجواب إجابة موسى إلى ما طلبه من ضم أخيه إليه كما يدلّ عليه توجيه الخطاب إليهما كأنه قال : ارتدع يا موسى عن ذلك ، واذهب أنت ومن استدعيته ، ولا تخف من القبط { إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ } ، وفي هذا تعليل للردع عن الخوف ، وهو كقوله سبحانه : { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وأرى } [ طه : 46 ] ، وأراد بذلك سبحانه تقوية قلوبهما ، وأنه متولّ لحفظهما ، وكلاءتهما ، وأجراهما مجرى الجمع فقال : { مَّعَكُمْ } لكون الاثنين أقلّ الجمع على ما ذهب إليه بعض الأئمة ، أو لكونه أراد موسى وهارون ومن أرسلا إليه ، ويجوز أن يكون المراد : هما مع بني إسرائيل ، و { معكم } ، و { مستمعون } خبران لأنّ ، أو الخبر { مستمعون } ، و { معكم } متعلق به ، ولا يخفى ما في المعية من المجاز ، لأن المصاحبة من صفات الأجسام ، فالمراد : معية النصرة والمعونة { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، ووحد الرسول هنا ، ولم يثنه كما في قوله : { إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ } [ طه : 47 ] ؛ لأنه مصدر بمعنى : رسالة ، والمصدر يوحد ، وأما إذا كان بمعنى المرسل ، فإنه يثنى مع المثنى ، ويجمع مع الجمع ، قال أبو عبيدة : رسول بمعنى رسالة ، والتقدير على هذا : إنا ذوا رسالة ربّ العالمين ، ومنه قول الشاعر :
ألا أبلغ أبا عمرو رسولا ... فإني عن فتاحتكم غنى
أي : رسالة . وقال العباس بن مرداس :
ألا من مبلغ عني خفافا ... رسولا بيت أهلك منتهاها
أي : رسالة . قال أبو عبيدة أيضاً ، ويجوز أن يكون الرسول بمعنى الاثنين والجمع ، تقول العرب : هذا رسولي ووكيلي ، وهذان : رسولي ووكيلي ، وهؤلاء رسولي ووكيلي ، ومنه قوله تعالى : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي } [ الشعراء : 77 ] وقيل معناه : إن كل واحد منا رسول رب العالمين ، وقيل : إنهما لما كانا متعاضدين متساندين في الرسالة كانا بمنزلة رسول واحد ، و «أن» في قوله : { أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسراءيل } مفسرة لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول ، معنى القول : { قَالَ أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً } أي قال فرعون لموسى بعد أن أتياه ، وقالا له ما أمرهما الله به ، ومعنى { فينا } : أي في حجرنا ومنازلنا ، أراد بذلك المنّ عليه ، والاحتقار له أي ربيناك لدينا صغيراً ، ولم نقتلك فيمن قتلنا من الأطفال .
{ وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } فمتى كان هذا الذي تدّعيه؟ قيل : لبث فيهم ثماني عشرة سنة ، وقيل : ثلاثين سنة . وقيل : أربعين سنة . ثم قرّرت بقتل القبطي ، فقال : { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ } الفعلة بفتح الفاء : المرّة من الفعل ، وقرأ الشعبي : « فعلتك » بكسر الفاء ، والفتح أولى؛ لأنها للمرّة الواحدة لا للنوع ، والمعنى : أنه لما عدّد عليه النعم ذكر له ذنوبه ، وأراد بالفعل قتل القبطي ، ثم قال : { وَأَنتَ مِنَ الكافرين } أي من الكافرين للنعمة حيث قتلت رجلاً من أصحابي ، وقيل : المعنى : من الكافرين بأن فرعون إله ، وقيل : من الكافرين بالله في زعمه؛ لأنه كان معهم على دينهم ، والجملة في محل نصب على الحال .
{ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين } أي قال موسى مجيباً لفرعون : فعلت هذه الفعلة التي ذكرت ، وهي قتل القبطي ، وأنا إذ ذاك من الضالين أي : الجاهلين . فنفى عليه السلام عن نفسه الكفر ، وأخبر أنه فعل ذلك على الجهل قبل أن يأتيه العلم الذي علمه الله ، وقيل : المعنى : من الجاهلين أن تلك الوكزة تبلغ القتل ، وقال أبو عبيدة : من الناسين { فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ } أي : خرجت من بينكم إلى مدين كما في سورة القصص { فَوَهَبَ لِي رَبّي حُكْماً } أي نبوّة أو علماً وفهماً . وقال الزّجاج : المراد بالحكم تعليمه التوراة التي فيها حكم الله { وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إسراءيل } قيل : هذا الكلام من موسى على جهة الإقرار بالنعمة ، كأنه قال : نعم تلك التربية نعمة تمنّ بها عليّ ، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي ، وبهذا قال الفراء وابن جرير . وقيل : هو من موسى على جهة الإنكار : أي : أتمنّ عليّ بأن ربيتني وليداً ، وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم ، وهم قومي؟ قال الزجاج : المفسّرون أخرجوا هذا على جهة الإنكار : بأن يكون ما ذكر فرعون نعمة على موسى ، واللفظ لفظ خبر ، وفيه تبكيت للمخاطب على معنى : أنك لو كنت لا تقتل أبناء بني إسرائيل لكانت أمي مستغنية عن قذفي في اليمّ ، فكأنك تمنّ عليّ ما كان بلاؤك سبباً له ، وذكر نحوه الأزهري بأبسط منه ، وقال المبرد : يقول التربية كانت بالسبب الذي ذكرت من التعبيد أي تربيتك إياي كانت لأجل التملك ، والقهر لقومي ، وقيل : إن في الكلام تقدير الاستفهام أي أو تلك نعمة؟ قاله الأخفش ، وأنكره النحاس . قال الفراء : ومن قال : إن الكلام إنكار قال معناه : أو تلك نعمة؟ ومعنى { أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إسراءيل } : أن اتخذتهم عبيداً ، يقال : عبدته وأعبدته بمعنى ، كذا قال الفراء ، ومحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف بدل من نعمة ، والجر بإضمار الباء ، والنصب بحذفها .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس { فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين } قال : ذليلين . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة : { وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ } قال : قتل النفس . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الكافرين } قال : للنعمة ، وإن فرعون لم يكن ليعلم ما الكفر؟ وفي قوله : { فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين } قال : من الجاهلين . وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد : { أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إسراءيل } قال : قهرتهم واستعملتهم .
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
لما سمع فرعون قول موسى وهارون : { إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين } قال مستفسراً لهما عن ذلك عازماً على الاعتراض لما قالاه فقال : { وَمَا رَبُّ العالمين } أيّ شيء هو؟ جاء في الاستفهام بما التي يستفهم بها عن المجهول ، ويطلب بها تعيين الجنس ، فلما قال فرعون ذلك قَالَ موسى { رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } ، فعين له ما أراد بالعالمين ، وترك جواب ما سأل عنه فرعون؛ لأنه سأله عن جنس ربّ العالمين ، ولا جنس له ، فأجابه موسى بما يدلّ على عظيم القدرة الإلهية التي تتضح لكل سامع أنه سبحانه الربّ ، ولا ربّ غيره { إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } أي إن كنتم موقنين بشيء من الأشياء ، فهذا أولى بالإيقان . { قَالَ } فرعون { لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ } أي لمن حوله من الأشراف ألا تستمعون ما قاله؟ يعني : موسى معجباً لهم من ضعف المقالة كأنه قال : أتسمعون وتعجبون؟ وهذا من اللعين مغالطة ، لما لم يجد جواباً عن الحجة التي أوردها عليه موسى .
فلما سمع موسى ما قال فرعون ، أورد عليه حجة أخرى هي مندرجة تحت الحجة الأولى ، ولكنها أقرب إلى فهم السامعين له ففال : { رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الأولين } ، فأوضح لهم أن فرعون مربوب لا ربّ كما يدّعيه ، والمعنى : أن هذا الربّ الذي أدعوكم إليه هو الذي خلق آباءكم الأوّلين ، وخلقكم ، فكيف تعبدون من هو واحد منكم مخلوق كخلقكم ، وله آباء قد فنوا كآبائكم؟ فلم يجبه فرعون عند ذلك بشيء يعتدّ به ، بل جاء بما يشكك قومه ، ويخيل إليهم أن هذا الذي قاله موسى مما لا يقوله العقلاء ، فقال { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } قاصداً بذلك المغالطة ، وإيقاعهم في الحيرة ، مظهراً أنه مستخفّ بما قاله موسى مستهزىء به ، فأجابه موسى عند ذلك بما هو تكميل لجوابه الأوّل ، فقال { رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَا } ولم يشتغل موسى بدفع ما نسبه إليه من الجنون ، بل بين لفرعون شمول ربوبية الله سبحانه للمشرق والمغرب وما بينهما ، وإن كان ذلك داخلاً تحت ربوبيته سبحانه للسماوات والأرض وما بينهما ، لكن فيه تصريح بإسناد حركات السماوات وما فيها ، وتغيير أحوالها وأوضاعها ، تارة بالنور وتارة بالظلمة إلى الله سبحانه ، وتثنية الضمير في : { وَمَا بَيْنَهُمَا } الأوّل لجنسي السموات والأرض كما في قول الشاعر :
تنقلت في أشرف التنقل ... بين رماحي مالك ونهشل
{ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } أي شيئاً من الأشياء ، أو إن كنتم من أهل العقل أي إن كنت يا فرعون ، ومن معك من العقلاء عرفت ، وعرفوا أنه لا جواب لسؤالك إلاّ ما ذكرت لك . ثم إن اللعين لما انقطع عن الحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب ، فقال : { لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين } أي لأجعلنك من أهل السجن ، وكان سجن فرعون أشدّ من القتل؛ لأنه إذا سجن أحداً لم يخرجه حتى يموت ، فلما سمع موسى عليه السلام ذلك لاطفه طمعاً في إجابته وإرخاء لعنان المناظرة معه ، مريداً لقهره بالحجة المعتبرة في باب النبوّة ، وهي إظهار المعجزة ، فعرض له على وجه يلجئه إلى طلب المعجزة فقال { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيء مُّبِينٍ } أي أتجعلني من المسجونين ، ولو جئتك بشيء يتبين به صدقي ويظهر عنده صحة دعواي؟ والهمزة هنا للاستفهام ، والواو للعطف على مقدّر كما مرّ مراراً ، فلما سمع فرعون ذلك طلب ما عرضه عليه موسى فقال : { فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } في دعواك ، وهذا الشرط جوابه محذوف ، لأنه قد تقدّم ما يدلّ عليه ، فعند ذلك أبرز موسى المعجزة .
{ فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } وقد تقدّم تفسير هذا وما بعده في سورة الأعراف ، واشتقاق الثعبان من ثعبت الماء في الأرض ، فانثعب أي : فجرته ، فانفجر ، وقد عبّر سبحانه في موضع آخر مكان الثعبان بالحية بقوله : { فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى } [ طه : 21 ] ، وفي موضع بالجانّ ، فقال : { كَأَنَّهَا جَانٌّ } [ النمل : 10 ] ، والجانّ هو المائل إلى الصغر ، والثعبان هو المائل إلى الكبر ، والحية جنس يشمل الكبير والصغير ، ومعنى { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } : ما رأيكم فيه ، وما مشورتكم في مثله؟ فأظهر لهم الميل إلى ما يقولونه تألفاً لهم ، واستجلاباً لمودّتهم ، لأنه قد أشرف ما كان فيه من دعوى الربوبية على الزوال ، وقارب ما كان يغرّر به عليهم الاضمحلال ، وإلاّ ، فهو أكبر تيها ، وأعظم كبراً من أن يخاطبهم مثل هذه المخاطبة المشعرة بأنه فرد من أفرادهم ، وواحد منهم ، مع كونه قبل هذا الوقت يدّعي أنه إلههم ويذعنون له بذلك ويصدّقونه في دعواه ، ومعنى { أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } : أخر أمرهما ، من أرجأته إذا أخرته ، وقيل : المعنى : احبسهما { وابعث فِي المدائن حاشرين } ، وهم الشرط الذين يحشرون الناس أي يجمعونهم { يَأْتُوكَ بِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } هذا ما أشاروا به عليه ، والمراد بالسحار العليم : الفائق في معرفة السحر وصنعته .
{ فَجُمِعَ السحرة لميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } هو يوم الزينة كما في قوله : { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } [ طه : 59 ] { وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ } حثاً لهم على الاجتماع ليشاهدوا ما يكون من موسى والسحرة ، ولمن تكون الغلبة ، وكان ذلك ثقة من فرعون بالظهور ، وطلباً أن يكون بمجمع من الناس حتى لا يؤمن بموسى أحد منهم ، فوقع ذلك من موسى الموقع الذي يريده؛ لأنه يعلم أن حجة الله هي الغالبة ، وحجة الكافرين هي الداحضة ، وفي ظهور حجة الله بمجمع من الناس زيادة في الاستظهار للمحقين ، والانقهار للمبطلين ، ومعنى { لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة } : نتبعهم في دينهم { إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين } ، والمراد باتباع السحرة في دينهم هو : البقاء على ما كانوا عليه؛ لأنه دين السحرة إذ ذاك ، والمقصود المخالفة لما دعاهم إليه موسى ، فعند ذلك طلب السحرة من فرعون الجزاء على ما سيفعلونه فقالوا لفرعون : { إِنَّ لَنَا لأَجْرًا } أي لجزاء تجزينا به من مال أو جاه ، وقيل : أرادوا إن لنا ثواباً عظيماً ، ثم قيّدوا ذلك بظهور غلبتهم لموسى ، فقالوا : { إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين } ، فوافقهم فرعون على ذلك ، { نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ المقربين } أي نعم لكم ذلك عندي مع زيادة عليه ، وهي كونكم من المقرّبين لديّ .
{ قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ } ، وفي آية أخرى : { قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين } [ الأعراف : 115 ] ، فيحمل ما هنا على أنه قال لهم : ألقوا بعد أن قالوا هذا القول ، ولم يكن ذلك من موسى عليه السلام أمراً لهم بفعل السحر ، بل أراد أن يقهرهم بالحجة ، ويظهر لهم أن الذي جاء به ليس هو من الجنس الذي أرادوا معارضته به { فَأَلْقَوْاْ حبالهم وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ } عند الإلقاء { بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون } يحتمل قولهم : { بعزّة فرعون } وجهين : الأوّل : أنه قسم ، وجوابه إنا لنحن الغالبون ، والثاني : متعلق بمحذوف ، والباء للسببية أي : نغلب بسبب عزّته ، والمراد بالعزّة : العظمة { فألقى موسى عصاه فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } قد تقدّم تفسير هذا مستوفًى . والمعنى : أنها تلقف ما صدر منهم من الإفك بإخراج الشيء عن صورته الحقيقية { فَأُلْقِىَ السحرة ساجدين } أي لما شاهدوا ذلك ، وعلموا أنه صنع صانع حكيم ليس من صنيع البشر ، ولا من تمويه السحرة ، آمنوا بالله ، وسجدوا له ، وأجابوا دعوة موسى ، وقبلوا نبوّته ، وقد تقدّم بيان معنى { ألقى } ، ومن فاعله لوقوع التصريح به ، وعند سجودهم { قَالُواْ ءَامَنَّا بِرَبّ العالمين * رَبّ موسى وهارون } ربّ موسى عطف بيان لربّ العالمين ، وأضافوه سبحانه إليهما؛ لأنهما القائمان بالدعوة في تلك الحال . وفيه تبكيت لفرعون بأنه ليس بربّ ، وأن الربّ في الحقيقة هو هذا .
فلما سمع فرعون ذلك منهم ، ورأى سجودهم لله قال : { ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ } أي : بغير إذن مني ، ثم قال مغالطاً للسحرة الذين آمنوا ، وموهماً للناس أن فعل موسى سحر من جنس ذلك السحر : { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر } وإنما اعترف له بكونه كبيرهم مع كونه لا يحبّ الاعتراف بشيء يرتفع به شأن موسى؛ لأنه قد علم كل من حضر أن ما جاء به موسى أبهر مما جاء به السحرة ، فأراد أن يشكك على الناس بأن هذا الذي شاهدتم ، وإن كان قد فاق على ما فعله هؤلاء السحرة ، فهو فعل كبيرهم ، ومن هو أستاذهم الذي أخذوا عنه هذه الصناعة ، فلا تظنوا أنه فعل لا يقدر عليه البشر ، وأنه من فعل الربّ الذي يدعو إليه موسى .
ثم توعد أولئك السحرة الذين آمنوا بالله لما قهرتهم حجة الله ، فقال : { فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أجمل التهديد أوّلاً للتهويل ، ثم فصله ، فقال : { لأقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلأَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } ، فلما سمعوا ذلك من قوله قالوا : { لاَ ضَيْرَ إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ } أي لا ضرر علينا فيما يلحقنا من عقاب الدنيا؛ فإن ذلك يزول وننقلب بعده إلى ربنا فيعطينا من النعيم الدائم ما لا يحدّ ولا يوصف . قال الهروي : لا ضير ، ولا ضرر ، ولا ضرّ بمعنى واحد ، وأنشد أبو عبيدة :
فإنك لا يضرك بعد حول ... أظبي كان أمك أم حمار
قال الجوهري : ضاره يضوره ، ويضيره ضيراً ، وضوراً أي ضرّه . قال الكسائي : سمعت بعضهم يقول : لا ينفعني ذلك ولا يضورني : { إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خطايانا } ، ثم عللوا هذا بقولهم : { أَن كُنَّا أَوَّلَ المؤمنين } بنصب أن أي لأن كنا أوّل المؤمنين . وأجاز الفراء ، والكسائي كسرها على أن يكون مجازاة ، ومعنى { أَوَّلُ المؤمنين } : أنهم أوّل من آمن من قوم فرعون بعد ظهور الآية . وقال الفراء : أول مؤمني زمانهم ، وأنكره الزجاج ، وقال : قد روي أنه آمن معهم ستمائة ألف وسبعون ألفاً ، وهم الشرذمة القليلون الذين عناهم فرعون بقوله : { إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } يقول : مبين : له خلق حية { وَنَزَعَ يَدَهُ } يقول ، وأخرج موسى يده من جيبه { فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء } تلمع { للناظرين } : لمن ينظر إليها ويراها . وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : { وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ } قال : كانوا بالإسكندرية . قال : ويقال : بلغ ذنب الحية من وراء البحيرة يومئذٍ . قال : وهربوا ، وأسلموا فرعون ، وهمت به فقال : خذها يا موسى ، وكان مما بلى الناس به منه أنه كان لا يضع على الأرض شيئاً أي يوهمهم أنه لا يحدث فأحدث يومئذٍ تحته . وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : { لاَ ضَيْرَ } قال : يقولون : لا يضيرنا الذي تقول وإن صنعت بنا وصلبتنا { إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ } يقولون : إنا إلى ربنا راجعون ، وهو مجازينا بصبرنا على عقوبتك إيانا وثباتنا على توحيده والبراءة من الكفر وفي قوله : { أَن كُنَّا أَوَّلَ المؤمنين } قالوا : كانوا كذلك يومئذٍ أوّل من آمن بآياته حين رأوها .
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
قوله { أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي } أمر الله سبحانه موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً ، وسماهم عباده؛ لأنهم آمنوا بموسى وبما جاء به ، وقد تقدّم تفسير مثل هذا في سورة الأعراف ، وجملة { إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ } تعليل للأمر المتقدّم أي : يتبعكم فرعون وقومه ليردّوكم ، و { فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي المدائن حاشرين } ، وذلك حين بلغه مسيرهم ، والمراد بالحاشرين : الجامعون للجيش من الأمكنة التي فيها أتباع فرعون ، ثم قال فرعون لقومه بعد اجتماعهم لديه : { إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } يريد : بني إسرائيل . والشرذمة الجمع الحقير القليل ، والجمع شراذم . قال الجوهري : الشرذمة الطائفة من الناس ، والقطعة من الشيء ، وثوب شراذم أي قطع ، ومنه قول الشاعر :
جاء الشتاء وقميصي أخلاق ... شراذم يضحك منها الخلاق
قال الفراء : يقال : عصبة قليلة وقليلون وكثيرة وكثيرون . قال المبرّد : الشرذمة القطعة من الناس غير الكثير ، وجمعها الشراذم ، قال الواحدي : قال المفسرون : وكان الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف ، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } يقال : غاظني كذا وأغاظني . والغيظ : الغضب ، ومنه التغيظ ، والاغتياظ أي غاظونا بخروجهم من غير إذن مني { وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذرون } قرىء : { حذرون } ، و { حاذرون } و « حذرون » بضم الذال ، حكى ذلك الأخفش . قال الفراء : الحاذر : الذي يحذرك الآن ، والحذر : المخلوق كذلك لا تلقاه إلاّ حذراً . وقال الزجاج : الحاذر : المستعد ، والحذر : المتيقظ ، وبه قال الكسائي ومحمد بن يزيد ، قال النحاس : { حذرون } قراءة المدنيين ، وأبي عمرو ، و { حاذرون } قراءة أهل الكوفة . قال : وأبو عبيدة يذهب إلى أن معنى حذرون ، وحاذرون واحد ، وهو قول سيبويه ، وأنشد سيبويه :
حذر أموراً لا تضير وحاذر ... ما ليس ينجيه من الأقدار
{ فأخرجناهم مّن جنات وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } يعني : فرعون وقومه أخرجهم الله من أرض مصر وفيها الجنات والعيون والكنوز وهي جمع جنة وعين ، وكنز ، والمراد بالكنوز : الخزائن . وقيل : الدفائن ، وقيل : الأنهار ، وفيه نظر؛ لأن العيون المراد بها عند جمهور المفسرين : عيون الماء ، فيدخل تحتها الأنهار . واختلف في المقام الكريم؛ فقيل : المنازل الحسان . وقيل : المنابر ، وقيل : مجالس الرؤساء والأمراء . وقيل : مرابط الخيل . والأوّل أظهر ، ومن ذلك قول الشاعر :
وفيهم مقامات حسان وجوهها ... وأندية ينتابها القول والفعل
{ كَذَلِكَ وأورثناها بَنِي إسراءيل } يحتمل أن يكون { كذلك } في محل نصب أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا ، ويحتمل أن يكون في محل جرّ على الوصفية أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم ، ويحتمل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي الأمر كذلك . ومعنى { وأورثناها بَنِي إسراءيل } : جعلناها ملكاً لهم ، وهو معطوف على { فأخرجناهم } { فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ } قراءة الجمهور بقطع الهمزة ، وقرأ الحسن والحارث الديناري بوصلها ، وتشديد التاء ، أي فلحقوهم حال كونهم مشرقين أي داخلين في وقت الشروق ، يقال : شرقت الشمس شروقاً إذا طلعت كأصبح وأمسى أي دخل في هذين الوقتين .
وقيل : داخلين نحو المشرق كأنجد وأتهم . وقيل : معنى { مُشْرِقِينَ } : مضيئين . قال الزجاج : يقال : شرقت الشمس : إذا طلعت ، وأشرقت إذا أضاءت .
{ فَلَمَّا تَرَاءا الجمعان } قرأ الجمهور : { تراءى } بتخفيف الهمزة ، وقرأ ابن وثاب والأعمش من غير همز ، والمعنى : تقابلا بحيث يرى كلّ فريق صاحبه ، وهو تفاعل من الرؤية ، وقرىء : " تراءت الفئتان " { قَالَ أصحاب موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } أي سيدركنا جمع فرعون ولا طاقة لنا بهم . قرأ الجمهور : { إنا لمدركون } اسم مفعول من أدرك ، ومنه { حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الغرق } [ يونس : 90 ] . وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير بفتح الدال مشدّدة وكسر الراء . قال الفراء : هما بمعنى واحد . قال النحاس : ليس كذلك يقول النحويون الحذاق ، إنما يقولون : مدركون بالتخفيف ملحقون وبالتشديد مجتهدون في لحاقهم . قال : وهذا معنى قول سيبويه . وقال الزمخشري : إن معنى هذه القراءة : إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد .
{ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ } قال موسى هذه المقالة زجراً لهم وردعاً ، والمعنى : أنهم لا يدركونكم ، وذكرهم وعد الله بالهداية والظفر ، والمعنى : إن معي ربي بالنصر والهداية ، سيهدين أي : يدلني على طريق النجاة ، فلما عظم البلاء على بني إسرائيل ، ورأوا من الجيوش ما لا طاقة لهم به ، أمر الله سبحانه موسى أن يضرب البحر بعصاه ، وذلك قوله : { فَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر } لما قال موسى : { إِنَّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ } بيّن الله سبحانه له طريق الهداية ، فأمره بضرب البحر ، وبه نجا بنو إسرائيل ، وهلك عدوّهم ، والفاء في { فانفلق } فصيحة : أي فضرب فانفلق فصار اثني عشر فلقاً بعدد الأسباط ، وقام الماء عن يمين الطريق وعن يساره كالجبل العظيم ، وهو معنى قوله : { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم } ، والفرق : القطعة من البحر ، وقرىء : " فلق " بلام بدل الراء ، والطود : الجبل قال امرؤ القيس :
فبينا المرء في الأحياء طود ... رماه الناس عن كثب فمالا
وقال الأسود بن يعفر :
حلوا بأنقرة يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد
{ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين } أي قرّبناهم إلى البحر يعني : فرعون وقومه . قال الشاعر :
وكلّ يوم مضى أو ليلة سلفت ... فيها النفوس إلى الآجال تزدلف
قال أبو عبيدة : { أزلفنا } : جمعنا ، ومنه قيل لليلة المزدلفة : ليلة جمع ، و «ثم» ظرف مكان للبعيد . وقيل : إن المعنى : { وأزلفنا } قربنا من النجاة ، والمراد بالآخرين : موسى وأصحابه ، والأوّل أولى ، وقرأ الحسن وأبو حيوة : " وزلفنا " ثلاثياً ، وقرأ أبيّ ، وابن عباس وعبد الله بن الحارث : " وأزلقنا " بالقاف أي أزللنا وأهلكنا من قولهم : أزلقت الفرس : إذا ألقت ولدها .
{ وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ } بمرورهم في البحر بعد أن جعله الله طرقاً يمشون فيها { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين } يعني : فرعون وقومه أغرقهم الله باطباق البحر عليهم بعد أن دخلوا فيه متبعين موسى وقومه ، والإشارة بقوله : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } إلى ما تقدّم ذكره مما صدر بين موسى وفرعون إلى هذه الغاية ، ففي ذلك آية عظيمة وقدرة باهرة من أدلّ العلامات على قدرة الله سبحانه ، وعظيم سلطانه { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي ما كان أكثر هؤلاء الذين مع فرعون مؤمنين ، فإنه لم يؤمن منهم فيما بعد إلاّ القليل كحزقيل وابنته ، وآسية امرأة فرعون ، والعجوز التي دلت على قبر يوسف ، وليس المراد أكثر من كان مع فرعون عند لحاقه بموسى ، فإنهم هلكوا في البحر جميعاً بل المراد : من كان معه من الأصل ، ومن كان متابعاً له ومنتسباً إليه ، هذا غاية ما يمكن أن يقال ، وقال سيبويه وغيره : إنَّ «كان» زائدة ، وأن المراد الإخبار عن المشركين بعد ما سمعوا الموعظة { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } ، أي : المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه .
وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله : { إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } قال : ستمائة ألف وسبعون ألفاً . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كانوا ستمائة ألف . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان أصحاب موسى الذين جازوا البحر اثني عشر سبطاً ، فكان في كلّ طريق اثنا عشر ألفاً كلهم ولد يعقوب " وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً بسندٍ . قال السيوطي : واه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان فرعون عدوّ الله حيث أغرقه الله هو وأصحابه في سبعين قائداً مع كل قائد سبعون ألفاً ، وكان موسى مع سبعين ألفاً حيث عبروا البحر " وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : كان طلائع فرعون الذين بعثهم في أثرهم ستمائة ألف ليس فيها أحد إلاّ على بهيم . وأقول : هذه الروايات المضطربة قد روي عن كثير من السلف ما يماثلها في الاضطراب والاختلاف ، ولا يصحّ منها شيء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : { وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } قال : المنابر . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : { كالطود } قال : كالجبل . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن مسعود مثله ، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس : { وَأَزْلَفْنَا } قال : قربنا . وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
« إن موسى لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضلّ الطريق ، فقال لبني إسرائيل : ما هذا؟ فقال له علماء بني إسرائيل : إن يوسف لما حضره الموت أخذ علينا موثقاً أن لا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا ، فقال لهم موسى : أيكم يدري أين قبره؟ فقالوا : ما يعلم أحد مكان قبره إلاّ عجوز لبني إسرائيل ، فأرسل إليها موسى فقال : دلينا على قبر يوسف؟ فقالت : لا والله حتى تعطيني حكمي ، قال : وما حكمك؟ قالت : أن أكون معك في الجنة ، فكأنه ثقل عليه ذلك ، فقيل له : أعطها حكمها ، فأعطاها حكمها ، فانطلقت بهم إلى بحيرة مستنقعة ماء ، فقالت لهم : انضبوا عنها الماء ، ففعلوا ، قالت : احفروا فحفروا ، فاستخرجوا قبر يوسف ، فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار » .
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
قوله { واتل عَلَيْهِمْ } معطوف على العامل في قوله : { وَإِذَا نادى رَبُّكَ موسى } [ الشعراء : 10 ] ، وقد تقدّم ، والمراد بنبأ إبراهيم خبره أي اقصص عليهم يا محمد خبر إبراهيم وحديثه ، و { إِذْ قَالَ } منصوب بنبأ إبراهيم أي : وقت قوله { لأِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ } ، وقيل : « إذ » بدل من نبأ بدل اشتمال ، فيكون العامل فيه : اتل ، والأوّل أولى . ومعنى { مَا تَعْبُدُونَ } : أيّ شيء تعبدون؟ وهو يعلم أنهم يعبدون الأصنام ، ولكنه أراد إلزامهم الحجة { قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عاكفين } أي فنقيم على عبادتها مستمراً لا في وقت معين ، يقال : ظلّ يفعل كذا : إذا فعله نهاراً ، وبات يفعل كذا : إذا فعله ليلاً ، فظاهره : أنهم يستمرّون على عبادتها نهاراً لا ليلاً ، والمراد من العكوف لها الإقامة على عبادتها ، وإنما قال : { لها } لإفادة أن ذلك العكوف لأجلها ، فلما قالوا هذه المقالة قال إبراهيم منبهاً على فساد مذهبهم { هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ } قال الأخفش : فيه حذف ، والمعنى : هل يسمعون منكم؟ أو هل يسمعون دعاءكم؟ وقرأ قتادة : « هل يسمعونكم » بضم الياء أي هل يسمعونكم أصواتهم وقت دعائكم لهم { أَوْ يَنفَعُونَكُمْ } بوجه من وجوه النفع { أَوْ يَضُرُّونَ } أي : يضرّونكم إذا تركتم عبادتهم ، وهذا الاستفهام للتقرير ، فإنها إذا كانت لا تسمع ، ولا تنفع ، ولا تضرّ ، فلا وجه لعبادتها ، فإذا قالوا : نعم هي كذلك ، أقرّوا بأن عبادتهم لها من باب اللعب والعبث ، وعند ذلك تقوم الحجة عليهم ، فلما أورد عليهم الخليل هذه الحجة الباهرة لم يجدوا لها جواباً إلاّ رجوعهم إلى التقليد البحت ، وهو أنهم وجدوا آباءهم كذلك يفعلون أي : يفعلون لهذه العبادة لهذه الأصنام مع كونها بهذه الصفة التي هي سلب السمع والنفع والضر عنها .
وهذا الجواب هو العصى التي يتوكأ عليها كلّ عاجز ، ويمشي بها كلّ أعرج ، ويغترّ بها كل مغرور ، وينخدع لها كل مخدوع؛ فإنك لو سألت الآن هذه المقلدة للرجال التي طبقت الأرض بطولها والعرض ، وقلت لهم : ما الحجة لهم على تقليد فرد من أفراد العلماء ، والأخذ بكل ما يقوله في الدين ، ويبتدعه من الرأي المخالف للدليل لم يجدوا غير هذا الجواب ، ولا فاهوا بسواه ، وأخذوا يعدّدون عليك من سبقهم إلى تقليد هذا من سلفهم ، واقتداء بأقواله وأفعاله ، وهم قد ملؤوا صدورهم هيبة ، وضاقت أذهانهم عن تصوّرهم ، وظنوا أنهم خير أهل الأرض ، وأعلمهم ، وأورعهم ، فلم يسمعوا لناصح نصحاً ، ولا لداع إلى الحق دعاء ، ولو فطنوا لوجدوا أنفسهم في غرور عظيم وجهل شنيع وإنهم كالبهيمة العمياء ، وأولئك الأسلاف كالعمي الذين يقودون البهائم العمي ، كما قال الشاعر :
كبهيمة عمياء قاد زمامها ... أعمى على عوج الطريق الحائر
فعليك أيها العامل بالكتاب والسنة المبرأ من التعصب والتعسف : أن تورد عليهم حجج الله ، وتقيم عليهم براهينه ، فإنه ربما انقاد لك منهم من لم يستحكم داء التقليد في قلبه ، وأما من قد استحكم في قلبه هذا الداء ، فلو أوردت عليه كلّ حجة ، وأقمت عليه كلّ برهان لما أعارك إلاّ أذنا صماء ، وعيناً عمياء ، ولكنك قد قمت بواجب البيان الذي أوجبه عليك القرآن ، والهداية بيد الخلاق العليم { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَاء } [ القصص : 56 ] .
ولما قال هؤلاء المقلدة هذه المقالة { قَالَ } الخليل { قَالَ أَفَرَءيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُون أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُمُ الأقدمون } أي : فهل أبصرتم ، وتفكرتم ما كنتم تعبدون من هذه الأصنام التي لا تسمع ، ولا تنفع ، ولا تضرّ حتى تعلموا أنكم على ضلالة وجهالة؟ ثم أخبرهم بالبراءة من هذه الأصنام التي يعبدونها . فقال : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي } ، ومعنى كونهم عدوًّا له مع كونهم جماداً : أنه إن عبدهم كانوا له عدوًّا يوم القيامة . قال الفراء : هذا من المقلوب أي : فإني عدوّ لهم؛ لأن من عاديته عاداك ، والعدوّ كالصديق يطلق على الواحد والمثنى والجماعة والمذكر والمؤنث كذا قال الفراء . قال عليّ بن سليمان : من قال : عدوّة الله ، فأثبت الهاء ، قال : هي بمعنى المعادية ، ومن قال : عدوّ للمؤنث والجمع جعله بمعنى النسب . وقيل : المراد بقوله : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى } آباؤهم الأقدمون لأجل عبادتهم الأصنام ، وردّ بأن الكلام مسوق فيما عبدوه لا في العابدين ، والاستثناء في قوله : { إِلاَّ رَبَّ العالمين } منقطع أي لكن ربّ العالمين ليس كذلك ، بل هو وليي في الدنيا والآخرة . قال الزجاج : قال النحويون : هو استثناء ليس من الأوّل ، وأجاز الزجاج أيضاً أن يكون من الأوّل على أنهم كانوا يعبدون الله عزّ وجلّ ، ويعبدون معه الأصنام ، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلاّ الله . قال الجرجاني : تقديره : أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلاّ رب العالمين ، فإنهم عدوّ لي ، فجعله من باب التقديم والتأخير ، وجعل إلاّ بمعنى دون وسوى كقوله : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى } [ الدخان : 56 ] أي دون الموتة الأولى . وقال الحسن بن الفضل : إن المعنى : إلاّ من عبد ربّ العالمين .
ثم وصف ربّ العالمين بقوله : { الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } أي : فهو يرشدني إلى مصالح الدين والدنيا . وقيل : إن الموصول مبتدأ ، وما بعده خبره ، والأوّل أولى . ويجوز أن يكون الموصول بدلاً من ربّ ، وأن يكون عطف بيان له ، وأن يكون منصوباً على المدح بتقدير : أعني ، أو أمدح ، وقد وصف الخليل ربه بما يستحق العبادة لأجله ، فإن الخلق ، والهداية ، والرزق يدلّ عليه قوله : { والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } ، ودفع ضرّ المرض ، وجلب نفع الشفاء ، والإماتة ، والإحياء ، والمغفرة للذنب ، كلها نعم يجب على المنعم عليه ببعضها فضلاً عن كلها أن يشكر المنعم بجميع أنواع الشكر التي أعلاها ، وأولاها العبادة ، ودخول هذه الضمائر في صدور هذه الجمل للدلالة على أنه الفاعل لذلك دون غيره ، وأسند المرض إلى نفسه دون غيره من هذه الأفعال المذكورة رعاية للأدب مع الربّ ، وإلاّ فالمرض وغيره من الله سبحانه ، ومراده بقوله : { ثُمَّ يُحْيِينِ } البعث ، وحذف الياء من هذه الأفعال لكونها رؤوس الآي .
وقرأ ابن أبي إسحاق هذه الأفعال كلها بإثبات الياء ، وإنما قال عليه الصلاة والسلام : { والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين } هضماً لنفسه ، وقيل : إن الطمع هنا بمعنى اليقين في حقه ، وبمعنى الرجاء في حق سواه . وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق « خطاياي » قالا : ليست خطيئته واحدة . قال النحاس : خطيئة بمعنى خطايا في كلام العرب . قال مجاهد : يعني بخطيئته قوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } [ الأنبياء : 63 ] ، وقوله : { إِنّى سَقِيمٌ } [ الصافات : 89 ] ، وقوله : إن سارة أخته ، زاد الحسن : وقوله للكوكب : { هذا رَبّي } [ الأنعام : 86 ] ، وحكى الواحدي عن المفسرين : أنهم فسروا الخطايا بما فسرها به مجاهد . قال الزجاج : الأنبياء بشر ، ويجوز أن تقع عليهم الخطيئة إلاّ أنهم لا تكون منهم الكبيرة؛ لأنهم معصومون ، والمراد بيوم الدين : يوم الجزاء للعباد بأعمالهم ، ولا يخفى أن تفسير الخطايا بما ذكره مجاهد ، ومن معه ضعيف ، فإن تلك معاريض ، وهي أيضاً إنما صدرت عنه بعد هذه المقاولة الجارية بينه وبين قومه .
ثم لما فرغ الخليل من الثناء على ربه ، والاعتراف بنعمه عقبه بالدعاء ليقتدي به غيره في ذلك ، فقال : { رَبّ هَبْ لِي حُكْماً } ، والمراد بالحكم العلم والفهم ، وقيل : النبوّة والرسالة ، وقيل : المعرفة بحدود الله ، وأحكامه إلى آخره { وَأَلْحِقْنِي بالصالحين } يعني : بالنبيين من قبلي . وقيل : بأهل الجنة { واجعل لّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين } أي : اجعل لي ثناء حسناً في الآخرين الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة . قال القتيبي : وضع اللسان موضع القول على الاستعارة ، لأن القول يكون به ، وقد تكنى العرب بها عن الكلمة ، ومنه قول الأعشى :
إني أتتني لسان لا أسرّ بها ... وقد أعطى الله سبحانه إبراهيم ذلك بقوله : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين } [ الصافات : 108 ] فإن كل أمة تتمسك به وتعظمه . وقال مكي : قيل : معنى سؤاله : أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق ، فأجيبت دعوته في محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا وجه لهذا التخصيص . وقال القشيري : أراد الدعاء الحسن إلى قيام الساعة ، ولا وجه لهذا أيضاً ، فإن لسان الصدق أعم من ذلك { واجعلني مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم } : { من ورثة } يحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً ، وأن يكون صفة لمحذوف هو المفعول الثاني أي وارثاً من ورثة جنة النعيم ، لما طلب عليه السلام بالدعوة الأولى سعادة الدنيا طلب بهذه الدعوة سعادة الآخرة ، وهي جنة النعيم ، وجعلها مما يورث تشبيهاً لغنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا ، وقد تقدّم تفسير معنى الوراثة في سورة مريم : { واغفر لأِبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين } كان أبوه قد وعده أنه يؤمن به ، فاستغفر له ، فلما تبين له أنه عدوّ الله تبرأ منه ، وقد تقدّم تفسير هذا مستوفى في سورة التوبة وسورة مريم ، ومعنى { مِنَ الضالين } : من المشركين الضالين عن طريق الهداية .
و { كان } زائدة على مذهب سيبويه كما تقدّم في غير موضع .
{ وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } أي : لا تفضحني على رؤوس الأشهاد بمعاتبتي ، أو لا تعذبني يوم القيامة ، أو لا تخزني بتعذيب أبي أو ببعثه في جملة الضالين ، والإخزاء يطلق على الخزي ، وهو الهوان ، وعلى الخزاية وهي الحياء ، و { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ } بدل من يبعثون ، أي يوم لا ينفع فيه المال والبنون أحداً من الناس ، والابن هو أخصّ القرابة ، وأولاهم بالحماية ، والدفع ، والنفع ، فإذا لم ينفع ، فغيره من القرابة ، والأعوان بالأولى . وقال ابن عطية : إن هذا وما بعده من كلام الله ، وهو ضعيف ، والاستثناء بقوله : { إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } قيل : هو منقطع ، أي : لكن من أتى الله بقلب سليم . قال في الكشاف : إلا حال من أتى الله بقلب سليم ، فقدّر مضافاً محذوفاً . قال أبو حيان : ولا ضرورة تدعو إلى ذلك . وقيل : إن هذا الاستثناء بدل من المفعول المحذوف ، أو مستثنى منه ، إذ التقدير لا ينفع مال ولا بنون أحداً من الناس إلاّ من كانت هذه صفته ، ويحتمل أن يكون بدلاً من فاعل { ينفع } ، فيكون مرفوعاً . قال أبو البقاء : فيكون التقدير : إلاّ مال من أو بنو من ، فإنه ينفع . واختلف في معنى القلب السليم ، فقيل : السليم من الشرك ، فأما الذنوب ، فليس يسلم منها أحد ، قاله أكثر المفسرين . وقال سعيد بن المسيب : القلب السليم الصحيح ، وهو قلب المؤمن ، لأن قلب الكافر والمنافق مريض ، وقيل : هو القلب الخالي عن البدعة المطمئن إلى السنة ، وقيل : السالم من آفة المال والبنين . وقال الضحاك : السليم الخالص . وقال الجنيد : السليم في اللغة : اللديغ ، فمعناه : أنه قلب كاللديغ من خوف الله تعالى ، وهذا تحريف وتعكيس لمعنى القرآن . قال الرازي : أصح الأقوال أن المراد منه سلامة النفس عن الجهل والأخلاق الرذيلة .
{ وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ } أي : قربت ، وأدنيت لهم؛ ليدخلوها . وقال الزجاج : قرب دخولهم إياها ، ونظرهم إليها { وَبُرّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ } أي جعلت بارزة لهم ، والمراد بالغاوين : الكافرون ، والمعنى : أنها أظهرت قبل أن يدخلها المؤمنون ، ليشتدّ حزن الكافرين ، ويكثر سرور المؤمنين { وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ الله } من الأصنام والأنداد { هَلْ يَنصُرُونَكُمْ } فيدفعون عنكم العذاب { أَوْ يَنتَصِرُونَ } بدفعه عن أنفسهم . وهذا كله توبيخ وتقريع لهم ، وقرأ مالك بن دينار : « وبرّزت » بفتح الباء والراء مبنياً للفاعل .
{ فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون } أي ألقوا في جهنم " هم " يعني : المعبودين ، و { الغاوون } يعني : العابدين لهم . وقيل : معنى كبكبوا : قلبوا على رؤوسهم ، وقيل : ألقى بعضهم على بعض ، وقيل : جمعوا ، مأخذوا من الكبكبة ، وهي الجماعة قاله الهروي . وقال النحاس : هو مشتق من كوكب الشيء أي معظمه ، والجماعة من الخيل كوكب ، وكبكبة ، وقيل : دهدهوا ، وهذه المعاني متقاربة ، وأصله كببوا بباءين الأولى مشدّدة من حرفين ، فأبدل من الباء الوسطى الكاف . وقد رجح الزجاج أن المعنى : طرح بعضهم على بعض . ورجح ابن قتيبة أن المعنى : ألقوا على رؤوسهم . وقيل : الضمير في كبكبوا لقريش ، والغاوون الآلهة ، والمراد بجنود إبليس : شياطينه الذين يغوون العباد ، وقيل : ذريته ، وقيل : كل من يدعو إلى عبادة الأصنام ، و { أَجْمَعُونَ } تأكيد للضمير في كبكبوا ، وما عطف عليه .
وجملة : { قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : ماذا قالوا حين فعل بهم ما فعل؟ ومقول القول : { تالله إِن كُنَّا لَفِي ضلال مُّبِينٍ } وجملة : { وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ } في محل نصب على الحال أي قالوا هذه المقالة حال كونهم في جهنم مختصمين ، و«إن» في { إِن كُنَّا } هي المخففة من الثقيلة ، واللام فارقة بينها وبين النافية أي قالوا تالله إن الشأن كوننا في ضلال واضح ظاهر ، والمراد بالضلال هنا : الخسار ، والتبار ، والحيرة عن الحق ، والعامل في الظرف ، أعني : { إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العالمين } هو كونهم في الضلال المبين . وقيل : العامل هو الضلال ، وقيل : ما يدل عليه الكلام ، كأنه قيل : ضللنا وقت تسويتنا لكم بربّ العالمين . وقال الكوفيون : إنّ «إن» في { أَن كُنَّا } نافية ، واللام بمعنى إلاّ أي ما كنا إلا في ضلال مبين . والأوّل أولى ، وهو مذهب البصريين .
{ فَمَا لَنَا مِن شافعين } يشفعون لنا من العذاب كما للمؤمنين { وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } أي : ذي قرابة ، والحميم القريب الذي تودّه ، ويودّك ، ووحد الصديق لما تقدّم غير مرة أنه يطلق على الواحد والإثنين والجماعة والمذكر والمؤنث ، والحميم مأخوذ من حامة الرجل أي : أقربائه ، ويقال : حمّ الشيء وأحمّ إذا قرب منه ، ومنه الحمى؛ لأنه يقرّب من الأجل . وقال علي بن عيسى : إنما سمي القريب حميماً؛ لأنه يحمى لغضب صاحبه ، فجعله مأخوذاً من الحمية . { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } هذا منهم على طريق التمني الدالّ على كمال التحسر كأنهم قالوا : فليت لنا كرّة أي رجعة إلى الدنيا ، وجواب التمني : { فنكون من المؤمنين } أي نصير من جملتهم ، والإشارة بقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } إلى ما تقدّم ذكره من نبأ إبراهيم ، والآية : العبرة والعلامة ، والتنوين يدل على التعظيم والتفخيم { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي أكثر هؤلاء الذين يتلو عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبأ إبراهيم ، وهم قريش ومن دان بدينهم .
وقيل : وما كان أكثر قوم إبراهيم بمؤمنين ، وهو ضعيف؛ لأنهم كلهم غير مؤمنين { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } أي هو القاهر لأعدائه الرحيم بأوليائه ، أو الرحيم للأعداء بتأخير عقوبتهم وترك معاجلتهم .
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وَأَلْحِقْنِي بالصالحين } يعني : بأهل الجنة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { واجعل لّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين } قال : اجتماع أهل الملل على إبراهيم . وأخرج عنه أيضاً : { واغفر لأَبِى } قال : امنن عليه بتوبة يستحق بها مغفرتك . وأخرج البخاري ، وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة ، وعلى وجه آزر قترة وغبرة ، فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصني ، فيقول أبوه : فاليوم لا أعصيك ، فيقول إبراهيم : ربّ إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون ، فأيّ خزي أخزى من أبي؟ الأبعد فيقول الله : إني حرّمت الجنة على الكافرين ، ثم يقول : يا إبراهيم ما تحت رجليك؟ فإذا هو بذيخ متلطخ ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار » ، والذيخ هو الذكر من الضباع ، فكأنه حوّل آزر إلى صورة ذيخ . وقد أخرجه النسائي بأطول من هذا . وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } قال : شهادة أن لا إله إلاّ الله . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه : { فَكُبْكِبُواْ فِيهَا } قال : جمعوا فيها { هُمْ والغاوون } قال : مشركو العرب والآلهة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً : { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } قال : رجعة إلى الدنيا { فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } حتى تحلّ لنا الشفاعة كما حلت لهؤلاء .
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
قوله : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين } أنث الفعل لكونه مسنداً إلى قوم ، وهو في معنى الجماعة ، أو الأمة ، أو القبيلة ، وأوقع التكذيب على المرسلين ، وهم لم يكذبوا إلاّ الرسول المرسل إليهم ، لأن من كذب رسولاً فقد كذب الرسل ، لأن كلّ رسول يأمر بتصديق غيره من الرسل . وقيل : كذبوا نوحاً في الرسالة ، وكذبوه فيما أخبرهم به من مجيء المرسلين بعده . { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ } أي : أخوهم من أبيهم ، لا أخوهم في الدين . وقيل : هي أخوة المجانسة ، وقيل : هو من قول العرب : يا أخا بني تميم ، يريدون واحداً منهم { أَلاَ تَتَّقُونَ } أي : ألا تتقون الله بترك عبادة الأصنام ، وتجيبون رسوله الذي أرسله إليكم؟ { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } أي إني لكم رسول من الله أمين فيما أبلغكم عنه ، وقيل : أمين فيما بينكم ، فإنهم كانوا قد عرفوا أمانته وصدقه { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } أي اجعلوا طاعة الله وقاية لكم من عذابه ، وأطيعون فيما آمركم به عن الله من الإيمان به وترك الشرك ، والقيام بفرائض الدين { وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } أي ما أطلب منكم أجراًعلى تبليغ الرسالة ، ولا أطمع في ذلك منكم { إِنْ أَجْرِيَ } الذي أطلبه وأريده { إِلاَّ على رَبّ العالمين } أي ما أجري إلاّ عليه ، وكرّر قوله : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } للتأكيد والتقرير في النفوس مع كونه علق كل واحد منهم بسبب ، وهو الأمانة في الأوّل ، وقطع الطمع في الثاني ، ونظيره قولك : ألاّ تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيراً؟ ألاّ تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيراً؟ وقدّم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته؛ لأن تقوى الله علة لطاعته .
{ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } الاستفهام للإنكار أي كيف نتبعك ونؤمن لك ، والحال أن قد اتبعك الأرذلون؟ وهم جمع أرذل ، وجمع التكسير أرذال ، والأنثى : رذلى ، وهم الأقلون جاهاً ومالا ، والرذالة الخسة والذلة ، استرذلوهم لقلة أموالهم وجاههم ، أو لاتضاع أنسابهم . وقيل : كانوا من أهل الصناعات الخسيسة ، وقد تقدم تفسير هذه الآيات في هود . وقرأ ابن مسعود ، والضحاك ، ويعقوب الحضرمي : « وأتباعك الأرذلون » قال النحاس : وهي قراءة حسنة ، لأن هذه الواو تتبعها الأسماء كثيراً ، وأتباع جمع تابع ، فأجابهم نوح بقوله : { وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } كان زائدة ، والمعنى : وما علمي بعملهم أي لم أكلف العلم بأعمالهم . إنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان والإعتبار به ، لا بالحرف والصنائع والفقر والغنى ، وكأنهم أشاروا بقولهم : { واتبعك الأرذلون } إلى أن إيمانهم لم يكن عن نظر صحيح ، فأجابهم بهذا . وقيل : المعنى : إني لم أعلم أن الله سيهديهم ويضلكم .
{ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّي لَوْ تَشْعُرُونَ } أي ما حسابهم ، والتفتيش عن ضمائرهم وأعمالهم إلاّ على الله لو كنتم من أهل الشعور والفهم ، قرأ الجمهور : { تشعرون } بالفوقية ، وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميفع والأعرج وأبو زرعة بالتحتية ، كأنه ترك الخطاب للكفار ، والتفت إلى الإخبار عنهم .
قال الزجاج : والصناعات لا تضرّ في باب الديانات ، وما أحسن ما قال : { وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين } هذا جواب من نوح على ما ظهر من كلامهم من طلب الطرد لهم : { إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي ما أنا إلا نذير موضح لما أمرني الله سبحانه بإبلاغه إليكم ، وهذه الجملة كالعلة لما قبلها . { قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين } أي إن لم تترك عيب ديننا وسبّ آلهتنا لتكونن من المرجومين بالحجارة . وقيل : من المشتومين ، وقيل : من المقتولين ، فعدلوا بعد تلك المحاورة بينهم وبين نوح إلى التجبر والتوعد ، فلما سمع نوح قولهم هذا ، قال { رَبّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ } أي أصرّوا على تكذيبي ، ولم يسمعوا قولي ، ولا أجابوا دعائي { فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً } الفتح : الحكم أي احكم بيني وبينهم حكماً ، وقد تقدّم تحقيق معنى الفتح { وَنَجّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ المؤمنين } .
فلما دعا ربه بهذا الدعاء استجاب له ، فقال : { فأنجيناه وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك المشحون } أي السفينة المملوءة ، والشحن ملء السفينة بالناس ، والدوابّ ، والمتاع { ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين } أي ثم أغرقنا بعد إنجائهم الباقين من قومه { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } أي : علامة وعبرة عظيمة { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } كان زائدة عند سيبويه ، وغيره على ما تقدّم تحقيقه { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } أي القاهر لأعدائه ، الرحيم بأوليائه .
{ كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين } أنث الفعل باعتبار إسناده إلى القبيلة ، لأن عاداً اسم أبيهم الأعلى . ومعنى تكذيبهم المرسلين مع كونهم لم يكذبوا إلا رسولاً واحداً قد تقدّم وجهه في قصة نوح قريباً { إِذ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } الكلام فيه كالكلام في قول نوح المتقدم قريباً ، وكذا قوله : { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين } الكلام فيه كالذي قبله سواء { أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءايَةً تَعْبَثُونَ } الريع : المكان المرتفع من الأرض جمع ريعة ، يقال : كم ريع أرضك؟ أي كم ارتفاعها . قال أبو عبيدة : الريع : الارتفاع جمع ريعة . وقال قتادة ، والضحاك ، والكلبي : الريع الطريق ، وبه قال مقاتل والسديّ . وإطلاق الريع على ما ارتفع من الأرض معروف عند أهل اللغة ، ومنه قول ذي الرمة :
طراق الخوافِي مشرف فوق ريعة ... بذي ليله في ريشه يترقرقُ
وقيل : الريع الجبل ، واحده ريعة ، والجمع أرياع . وقال مجاهد : هو الفجّ بين الجبلين ، وروي عنه أنه الثنية الصغيرة ، وروي عنه : أيضاً أنه المنظرة .
ومعنى الآية : أنكم تبنون بكل مكان مرتفع علماً تعبثون ببنيانه ، وتلعبون بالمارة ، وتسخرون منهم ، لأنكم تشرفون من ذلك البناء المرتفع على الطريق ، فتؤذون المارة ، وتسخرون منهم . وقال الكلبي : إنه عبث العشارين بأموال من يمرّ بهم حكاه الماوردي . قال ابن الأعرابي : الريع الصومعة ، والريع : البرج يكون في الصحراء ، والريع : التلّ العالي ، وفي الريع لغتان كسر الراء وفتحها . { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ } المصانع : هي الأبنية التي يتخذها الناس منازل . قال أبو عبيدة : كل بناء مصنعة منه ، وبه قال الكلبي وغيره ، ومنه قول الشاعر :
تركن دارهم منهم قفارا ... وهدّمنا المصانع والبروجا
وقيل : هي الحصون المشيدة ، قاله مجاهد ، وغيره ، وقال الزجاج : إنها مصانع الماء التي تجعل تحت الأرض واحدتها : مصنعة ومصنع ، ومنه قول لبيد :
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع ... وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
وليس في هذا البيت ما يدلّ صريحاً على ما قاله الزجاج ، ولكنه قال الجوهري : المصنعة بضم النون : الحوض يجمع فيه ماء المطر ، والمصانع : الحصون . وقال عبد الرزاق : المصانع عندنا بلغة اليمن القصور العالية . ومعنى { لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } : راجين أن تخلدوا ، وقيل : إن لعل هنا للاستفهام التوبيخي أي هل تخلدون ، كقولهم : لعلك تشتمني أي هل تشتمني؟ وقال الفراء : كي تخلدوا ، لا تتفكرون في الموت . وقيل : المعنى : كأنكم باقون مخلدون . قرأ الجمهور : { تخلدون } مخففاً . وقرأ قتادة بالتشديد . وحكى النحاس أن في بعض القراءات : { كأنكم مخلدون } ، وقرأ ابن مسعود : " كي تخلدوا " .
{ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } البطش : السطوة والأخذ بالعنف . قال مجاهد وغيره : البطش العسف قتلاً بالسيف ، وضرباً بالسوط . والمعنى : فعلتم ذلك ظلماً ، وقيل : هو القتل على الغضب قاله الحسن ، والكلبي . قيل : والتقدير : وإذا أردتم البطش ، لئلا يتحد الشرط ، والجزاء ، وانتصاب { جبارين } على الحال . قال الزجاج : إنما أنكر عليهم ذلك لأنه ظلم ، وأما في الحق ، فالبطش بالسوط والسيف جائز . ثم لما وصفهم بهذه الأوصاف القبيحة الدالة على الظلم والعتوّ والتمرّد والتجبر أمرهم بالتقوى ، فقال : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } أجمل التقوى ثم فصلها بقوله : { واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بأنعام وَبَنِينَ } ، وأعاد الفعل للتقرير والتأكيد { وجنات وَعُيُونٍ } أي بساتين ، وأنهار وأبيار . ثم وعظهم وحذرهم فقال : { إِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } إن كفرتم ، وأصررتم على ما أنتم فيه ولم تشكروا هذه النعم ، والمراد بالعذاب العظيم : الدنيوي والأخروي .
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس { قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ } أي : أنصدّقك؟ . وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد { واتبعك الأرذلون } قال : الحوّاكون . وأخرج أيضاً عن قتادة قال : سفلة الناس ، وأراذلهم . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { الفلك المشحون } قال : الممتلىء . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، أنه قال : «أتدرون ما المشحون؟ قلنا : لا ، قال : هو الموقر» . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال : هو المثقل . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً : { بِكُلّ رِيعٍ } قال : طريق { ءَايَةً } قال : علماً { تَعْبَثُونَ } قال : تلعبون . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { بِكُلّ رِيعٍ } قال : شرف . وأخرجوا أيضاً عنه : { لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } قال : كأنكم تخلدون . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً : { جَبَّارِينَ } قال : أقوياء .
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
أي وعظك ، وعدمه { سَوَآء } عندنا لا نبالي بشيء منه ، ولا نلتفت إلى ما تقوله . وقد روى العباس عن أبي عمرو ، وروى بشر عن الكسائي { أَوَعَظْتَ } بإدغام الظاء في التاء ، وهو بعيد ، لأن حرف الظاء حرف إطباق إنما يدغم فيما قرب منه جدًّا ، وروى ذلك عن عاصم والأعمش وابن محيصن . وقرأ الباقون بإظهار الظاء { إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين } أي : ما هذا الذي جئتنا به ، ودعوتنا إليه من الدين إلاّ خلق الأوّلين أي عادتهم التي كانوا عليها . وقيل : المعنى : ما هذا الذي نحن عليه إلاّ خلق الأوّلين وعادتهم ، وهذا بناء على ما قاله الفراء ، وغيره : إن معنى : { خُلُقُ الأولين } : عادة الأوّلين . قال النحاس : خلق الأوّلين عند الفراء بمعنى عادة الأوّلين . وحكى لنا محمد بن الوليد عن محمد بن يزيد قال { خُلُقُ الأولين } : مذهبهم ، وما جرى عليه أمرهم . والقولان متقاربان . قال : وحكى لنا محمد بن يزيد أن معنى { خُلُقُ الأولين } : تكذيبهم . قال مقاتل : قالوا : ما هذا الذي تدعونا إليه إلاّ كذب الأوّلين . قال الواحدي : وهو قول ابن مسعود ومجاهد . قال : والخلق والاختلاق الكذب ، ومنه قوله : { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } [ العنكبوت : 17 ] . قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب : « خلق الأوّلين » بفتح الخاء ، وسكون اللام . وقرأ الباقون بضم الخاء ، واللام . قال الهروي : معناه على القراءة الأولى : اختلاقهم ، وكذبهم . وعلى القراءة الثانية : عادتهم ، وهذا التفصيل لا بدّ منه . قال ابن الأعرابي : الخلق : الدين ، والخلق : الطبع ، والخلق : المروءة . وقرأ أبو قلابة بضم الخاء ، وسكون اللام ، وهي تخفيف لقراءة الضم لهما ، والظاهر : أن المراد بالآية هو قول من قال : ما هذا الذي نحن عليه إلا عادة الأوّلين وفعلهم ، ويؤيده قولهم : { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } أي على ما نفعل من البطش ، ونحوه مما نحن عليه الآن . { فَكَذَّبُوهُ فأهلكناهم } أي بالريح كما صرح القرآن في غير هذا الموضع بذلك { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } تقدّم تفسير هذا قريباً في هذه السورة .
ثم لما فرغ سبحانه من ذكر قصة هود وقومه ، ذكر قصة صالح وقومه ، وكانوا يسكنون الحجر ، فقال : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ } إلى قوله : { إِلاَّ على رَبّ العالمين } قد تقدّم تفسيره في قصة هود المذكورة قبل هذه القصة . { أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا ءامِنِينَ } الاستفهام للإنكار . أي : أتتركون في هذه النعم التي أعطاكم الله آمنين من الموت والعذاب باقين في الدنيا . ولما أبهم النعم في هذا فسرها بقوله : { فِي جنات وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ } ، والهضيم : النضيح الرخص اللين اللطيف ، والطلع : ما يطلع من الثمر ، وذكر النخل مع دخوله تحت الجنات لفضله على سائر الأشجار ، وكثيراً ما يذكرون الشيء الواحد بلفظ يعمه وغيره كما يذكرون النعم ولا يقصدون إلاّ الإبل ، وهكذا يذكرون الجنة ، ولا يريدون إلاّ النخل .
قال زهير :
كأن عيني في غربي مقبلة ... من النواضح تسقي جنة سحقاً
وسحقاً جمع سحوق ، ولا يوصف به إلاّ النخل . وقيل : المراد بالجنات غير النخل من الشجر ، والأوّل أولى . وحكى الماوردي في معنى { هضيم } اثني عشر قولاً ، أحسنها وأوفقها للغة ما ذكرناه . { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فارهين } النحت : النجر ، والبري ، نحته ينحته بالكسر : براه . والنحاتة : البراية ، وكانوا ينحتون بيوتهم من الجبال لما طالت أعمارهم وتهدّم بناؤهم من المدر . قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن ذكوان : { فرهين } بغير ألف . وقرأ الباقون : { فارهين } بالألف . قال أبو عبيدة وغيره : وهما بمعنى واحد . والفره : النشاط ، وفرّق بينهما أبو عبيد وغيره فقالوا : { فارهين } حاذقين بنحتها ، وقيل : متجبرين ، و « فرهين » بطرين أشرين ، وبه قال مجاهد ، وغيره . وقيل : شرهين . وقال الضحاك : كيسين . وقال قتادة : معجبين ناعمين آمنين ، وبه قال الحسن . وقيل : فرحين ، قاله الأخفش . وقال ابن زيد : أقوياء { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ المسرفين } أي المشركين ، وقيل : الذين عقروا الناقة ، ثم وصف هؤلاء المسرفين بقوله . { الذين يُفْسِدُونَ فِى الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ } أي ذلك دأبهم يفعلون الفساد في الأرض ، ولا يصدر منهم الصلاح ألبتة { قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين } أي الذين أصيبوا بالسحر قاله مجاهد ، وقتادة . وقيل : المسحر هو : المعلل بالطعام والشراب قاله الكلبي ، وغيره ، فيكون المسحر الذي له سحر ، وهو الرئة ، فكأنهم قالوا : إنما أنت بشر مثلنا تأكل وتشرب . قال الفراء : أي : إنك تأكل الطعام والشراب ، وتسحر به ، ومنه قول امرىء القيس أو لبيد :
فإن تسألينا : فيم نحن؟ فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحر
وقال امرؤ القيس أيضاً :
أرانا موضعين لحتم غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب
قال المؤرّج : المسحر المخلوق بلغة ربيعة . { مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ بِئَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } في قولك ، ودعواك { قَالَ هذه نَاقَةٌ } الله { لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } أي لها نصيب من الماء ، ولكم نصيب منه معلوم ، ليس لكم أن تشربوا في اليوم الذي هو نصيبها ، ولا هي تشرب في اليوم الذي هو نصيبكم . قال الفراء : الشرب الحظ من الماء . قال النحاس : فأما المصدر ، فيقال : فيه شرب شِرباً ، وشُرباً ، وأكثرها المضموم ، والشرب بفتح الشين جمع شارب ، والمراد هنا : الشرب بالكسر ، وبه قرأ الجمهور فيهما ، وقرأ ابن أبي عبلة بالضم فيهما { وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي لا تمسوها بعقر ، أو ضرب ، أو شيء مما يسوؤها ، وجواب النهي فيأخذكم { فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نادمين } على عقرها ، لما عرفوا أن العذاب نازل بهم ، وذلك أنه أنظرهم ثلاثاً ، فظهرت عليهم العلامة في كلّ يوم ، وندموا حيث لا ينفع الندم ، لأن ذلك لا يجدي عند معاينة العذاب وظهور آثاره .
{ فَأَخَذَهُمُ العذاب } الذي وعدهم به . وقد تقدّم تفسير قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } في هذه السورة ، وتقدّم أيضاً تفسير قصة صالح وقومه في غير هذه السورة .
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ } قال : معشب . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : أينع وبلغ . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : أرطب واسترخى . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { فَرِهِينَ } قال : حاذقين . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال { فَرِهِينَ } أشرين . وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : شرهين . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والخطيب وابن عساكر من طرق عن ابن عباس في قوله : { إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين } قال : من المخلوقين ، وأنشد قول لبيد بن ربيعة :
فإن تسألينا فيم نحن . . ... . . . . . . . . البيت
وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً في قوله : { لَّهَا شِرْبٌ } قال : إذا كان يومها أصدر لها لبناً ما شاؤوا .
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
ذكر سبحانه القصة السادسة من قصص الأنبياء مع قومهم ، وهي قصة لوط . وقد تقدّم تفسير قوله : { إِذْ قَالَ لَهُمْ } إلى قوله : { إِلاَّ على رَبّ العالمين } في هذه السورة ، وتقدّم أيضاً تفسير قصة لوط مستوفى في الأعراف قوله : { أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين } الذكران : جمع الذكر ضدّ الأنثى ، ومعنى { تأتون } : تنكحون الذكران من العالمين ، وهم بنو آدم ، أو كل حيوان ، وقد كانوا يفعلون ذلك بالغرباء على ما تقدّم في الأعراف . { وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أزواجكم } أي : وتتركون ما خلقه الله لأجل استمتاعكم به من النساء ، وأراد بالأزواج : جنس الإناث { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } أي مجاوزون للحدّ في جميع المعاصي ، ومن جملتها هذه المعصية التي ترتكبونها من الذكران { قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط } عن الإنكار علينا ، وتقبيح أمرنا { لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين } من بلدنا المنفيين عنها { قَالَ إِنّي لِعَمَلِكُمْ } ، وهو ما أنتم فيه من إتيان الذكران { مّنَ القالين } المبغضين له ، والقلي : البغض ، قليته أقليه قلا ، وقلاء ، ومنه قول الشاعر :
فلست بمقلي الخلال ولا قالي ... وقال الآخر :
ومالك عندي إن نأيت قلاء ... ثم رغب عليه الصلاة والسلام عن محاورتهم ، وطلب من الله عزّ وجلّ أن ينجيه ، فقال : { رَبّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ } أي من عملهم الخبيث ، أو من عقوبته التي ستصيبهم ، فأجاب الله سبحانه دعاءه ، وقال : { فنجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ } أي أهل بيته ، ومن تابعه على دينه ، وأجاب دعوته { إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين } هي امرأة لوط ، ومعنى { فِي الغابرين } : من الباقين في العذاب . وقال أبو عبيدة : من الباقين في الهرم أي بقيت حتى هرمت . قال النحاس : يقال للذاهب غابر ، وللباقي غابر . قال الشاعر :
لا تكسع الشول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج
والأغبار : بقية الألبان ، وتقول العرب : ما مضى ، وما غبر أي : ما مضى ، وما بقي { ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين } أي أهلكناهم بالخسف ، والحصب . { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا } يعني : الحجارة { فَسَاء مَطَرُ المنذرين } المخصوص بالذمّ محذوف ، والتقدير : مطرهم ، وقد تقدّم تفسير : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } في هذه السورة .
{ كَذَّبَ أصحاب لْئَيْكَةِ المرسلين } قرأ نافع وابن كثير وابن عامر « ليكة » بلام واحدة وفتح التاء جعلوه اسماً غير معرّف بأل مضافاً إليه أصحاب ، وقرأ الباقون . { الأيكة } معرفاً ، و { الأيكة } : الشجر الملتف ، وهي الغيضة ، وليكة اسم للقرية ، وقيل : هما بمعنى واحد اسم للغيضة . قال القرطبي : فأما ما حكاه أبو عبيد من : أن ليكة اسم القرية التي كانوا فيها ، وأن الأيكة اسم البلد كله ، فشيء لا يثبت ، ولا يعرف من قاله ولو عرف لكان فيه نظر؛ لأن أهل العلم جميعاً على خلافه .
قال أبو عليّ الفارسي : الأيكة تعريف أيكة ، فإذا حذفت الهمزة تخفيفاً ألقيت حركتها على اللام . قال الخليل : الأيكة غيضة تنبت السدر والأراك ونحوهما من ناعم الشجر { إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } لم يقل : أخوهم كما قال في الأنبياء قبله؛ لأنه لم يكن من أصحاب الأيكة في النسب ، فلما ذكر مدين قال أخاهم شعيباً؛ لأنه كان منهم ، وقد مضى تحقيق نسبه في الأعراف ، وقد تقدم تفسير قوله : { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } إلى قوله تعالى : { إِلاَّ على رَبّ العالمين } في هذه السورة .
قوله : { أَوْفُواْ الكيل وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين } أي أتموا الكيل لمن أراده ، وعامل به ، ولا تكونوا من المخسرين : الناقصين للكيل والوزن ، يقال : أخسرت الكيل والوزن : أي نقصته ، ومنه قوله تعالى : { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [ المطففين : 3 ] ، ثم زاد سبحانه في البيان ، فقال { وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم } أي أعطوا الحقّ بالميزان السويّ ، وقد مرّ بيان تفسير هذا في سورة سبحان ، وقد قرىء : { بالقسطاس } مضموماً ، ومكسوراً { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ } البخس النقص ، يقال : بخسه حقه : إذا نقصه ، أي لا تنقصوا الناس حقوقهم التي لهم ، وهذا تعميم بعد التخصيص ، وقد تقدّم تفسيره في سورة هود ، وتقدّم أيضاً تفسير { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ } فيها ، وفي غيرها { واتقوا الذى خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين } قرأ الجمهور بكسر الجيم والباء وتشديد اللام ، وقرأ أبو حصين والأعمش والحسن والأعرج وشيبة بضمهما وتشديد اللام ، وقرأ السلمي بفتح الجيم مع سكون الباء . والجبلة : الخليقة قاله مجاهد ، وغيره يعني : الأمم المتقدّمة ، يقال : جبل فلان على كذا أي خلق . قال النحاس : الخلق يقال له جبلة بكسر الحرفين الأوّلين وبضمهما مع تشديد اللام فيهما ، وبضم الجيم وفتحها وسكون الباء ، قال الهروي : الجِبِلَّة والجُبْلَة والجِبِلّ والجُبُلّ لغات ، وهو الجمع ذو العدد الكثير من الناس ، ومنه قوله تعالى : { جِبِلاًّ كَثِيراً } [ ياس : 62 ] أي : خلقاً كثيراً ، ومن ذلك قول الشاعر :
والموت أعظم حادث ... فيما يمرّ على الجبلة
{ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين * وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } قد تقدّم تفسيره مستوفى في هذه السورة . { وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين } : « إن » هي المخففة من الثقيلة عملت في ضمير شأن مقدّر ، واللام هي الفارقة أي فيما تدّعيه علينا من الرسالة ، وقيل : هي النافية ، واللام بمعنى إلاّ أي ما نظنك إلاّ من الكاذبين ، والأوّل أولى . { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السماء } كان شعيب يتوعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا ، فقالوا له هذا القول نعتاً واستبعاداً وتعجيزاً . والكسف : القطعة . قال أبو عبيدة : الكسف : جمع كسفة مثل سدر وسدرة . قال الجوهري : الكسفة القطعة من الشيء ، يقال : أعطني كسفة من ثوبك ، والجمع كسف ، وقد مضى تحقيق هذا في سورة سبحان .
{ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } في دعواك { قَالَ رَبّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } من الشرك ، والمعاصي ، فهو مجازيكم على ذلك إن شاء ، وفي هذا تهديد شديد { فَكَذَّبُوهُ } ، فاستمروا على تكذيبه ، وأصرّوا على ذلك { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة } ، والظلة : السحاب ، أقامها الله فوق رؤوسهم ، فأمطرت عليهم ناراً ، فهلكوا ، وقد أصابهم الله بما اقترحوا؛ لأنهم إن أرادوا بالكسف القطعة من السحاب فظاهر ، وإن أرادوا بها القطعة من السماء ، فقد نزل عليهم العذاب من جهتها ، وأضاف العذاب إلى يوم الظلة لا إلى الظلة تنبيهاً على أن لهم في ذلك اليوم عذاباً غير عذاب الظلة ، كذا قيل . ثم وصف سبحانه هذا العذاب الذي أصابهم بقوله : { إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } لما فيه من الشدّة عليهم التي لا يقادر قدرها ، وقد تقدّم تفسير قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } في هذه السورة مستوفى ، فلا نعيده ، وفي هذا التكرير لهذه الكلمات في آخر هذه القصص من التهديد والزجر والتقرير والتأكيد ما لا يخفى على من يفهم مواقع الكلام ويعرف أساليبه .
وقد أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أزواجكم } قال : تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال وأدبار النساء . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة نحوه . وأخرجا أيضاً عن قتادة : { إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين } قال : هي امرأة لوط غبرت في عذاب الله .
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد « ليكة » قال : هي الأيكة . وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس في قوله : { كَذَّبَ أصحاب لْئَيْكَةِ المرسلين } قال : كانوا أصحاب غيضة من ساحل البحر إلى مدين { إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ } ، ولم يقل : أخوهم شعيب . لأنه لم يكن من جنسهم { أَلاَ تَتَّقُونَ } : كيف لا تتقون وقد علمتم أني رسول أمين ، لا تعتبرون من هلاك مدين ، وقد أهلكوا فيما يأتون؟ وكان أصحاب الأيكة مع ما كانوا فيه من الشرك استنوا بسنة أصحاب مدين ، فقال لهم شعيب : { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْئَلُكُمْ } على ما أدعوكم إليه { مِنْ أَجْرٍ } في العاجل من أموالكم إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبّ العالمين . { واتقوا الذي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين } يعني : القرون الأوّلين الذي أهلكوا بالمعاصي ، ولا تهلكوا مثلهم . { قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين } يعني من المخلوقين . { وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السماء } يعني : قطعاً من السماء { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة } أرسل الله إليهم سموماً من جهنم ، فأطاف بهم سبعة أيام حتى أنضجهم الحر ، فحميت بيوتهم ، وغلت مياههم في الآبار ، والعيون ، فخرجوا من منازلهم ومحلتهم هاربين ، والسموم معهم ، فسلّط الله عليهم الشمس من فوق رؤوسهم ، فغشيتهم حتى تقلقلت فيها جماجمهم ، وسلّط الله عليهم الرمضاء من تحت أرجلهم حتى تساقطت لحوم أرجلهم ثم نشأت لهم ظلة كالسحابة السوداء ، فلما رأوها ابتدروها يستغيثون بظلها حتى إذا كانوا جميعاً أطبقت عليهم فهلكوا ونجى الله شعيباً والذين آمنوا معه .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : { والجبلة الأولين } : الخلق الأوّلين .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عنه أيضاً أنه سئل عن قوله : { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة } قال : بعث الله عليهم حرًّا شديداً ، فأخذ بأنفاسهم ، فدخلوا أجواف البيوت ، فدخل عليهم أجوافها فأخذ بأنفسهم ، فخرجوا من البيوت هرباً إلى البرية ، فبعث الله عليهم سحابة ، فأظلتهم من الشمس فوجدوا لها برداً ولذة ، فنادى بعضهم بعضاً حتى إذا اجتمعوا تحتها أسقط الله عليهم ناراً ، فذلك عذاب يوم الظلة . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عنه أيضاً قال : من حدّثك من العلماء عذاب يوم الظلة ، فكذبه . أقول : فما نقول له رضي الله عنه فيما حدّثنا به من ذلك مما نقلناه عنه ها هنا؟ ويمكن أن يقال : إنه لما كان هو البحر الذي علّمه الله تأويل كتابه بدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم كان مختصاً بمعرفة هذا الحديث دون غيره من أهل العلم ، فمن حدّث بحديث عذاب الظلة على وجه غير هذا الوجه الذي حدّثنا به ، فقد وصانا بتكذيبه ، لأنه قد علمه ، ولم يعلمه غيره .
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
قوله : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ العالمين } الضمير يرجع إلى ما نزله عليه من الأخبار أي وإن هذه الأخبار أو وإن القرآن ، وإن لم يجر له ذكر للعلم به ، قيل : وهو على تقدير مضاف محذوف أي : ذو تنزيل ، وأما إذا كان تنزيل بمعنى منزل فلا حاجة إلى تقدير مضاف قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم : { نَزَّلَ } مخففاً ، وقرأه الباقون مشدّداً ، و { والروح الأمين } على القراءة الثانية منصوب على أنه مفعول به ، وقد اختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد ، والروح الأمين جبريل ، كما في قوله : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ } [ البقرة : 97 ] ، ومعنى { على قَلْبِكَ } : أنه تلاه على قلبه ، ووجه تخصيص القلب ، لأنه أوّل مدرك من الحواس الباطنة . قال أبو حيان : إن { على قلبك } ، ولتكون متعلقان بنزل ، وقيل : يجوز أن يتعلقا بتنزيل ، والأوّل أولى ، وقرىء : « نزّل » مشدّداً مبنياً للمفعول ، والفاعل هو الله تعالى ، ويكون الروح على هذه القراءة مرفوعاً على النيابة { لِتَكُونَ مِنَ المنذرين } علة للإنزال أي أنزله لتنذرهم بما تضمنه من التحذيرات والإنذارات والعقوبات . { بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ } متعلق بالمنذرين أي لتكون من المنذرين بهذا اللسان ، وجوّز أبو البقاء أن يكون بدلاً من { به } ، وقيل : متعلق بنزل ، وإنما أخر للاعتناء بذكر الإنذار ، وإنما جعل الله سبحانه القرآن عربياً بلسان الرسول العربي لئلا يقول مشركو العرب : لسنا نفهم ما تقوله بغير لساننا فقطع بذلك حجتهم وأزاح علتهم ودفع معذرتهم .
{ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين } أي إن هذا القرآن باعتبار أحكامه التي أجمعت عليها الشرائع في كتب الأوّلين من الأنبياء ، والزبر : الكتب ، الواحد زبور ، وقد تقدّم الكلام على تفسير مثل هذا . وقيل : الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : المراد بكون القرآن في زبر الأوّلين : أنه مذكور فيها هو نفسه ، لا ما اشتمل عليه من الأحكام ، والأوّل أولى . { أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إسراءيل } الهمزة للإنكار ، والواو للعطف على مقدّر كما تقدّم مراراً ، والآية العلامة والدلالة أي ألم يكن لهؤلاء علامة دالة على أن القرآن حق ، وأنه تنزيل ربّ العالمين . وأنه في زبر الأوّلين ، { أن يعلمه علماء بني إسرائيل } على العموم ، أو من آمن منهم كعبد الله بن سلام ، وإنما صارت شهادة أهل الكتاب حجة على المشركين؛ لأنهم كانوا يرجعون إليهم ويصدّقونهم . قرأ ابن عامر « تكن » بالفوقية ، « وآية » بالرفع على أنها اسم كان ، وخبرها أن يعلمه إلخ ، ويجوز أن تكون تامة ، وقرأ الباقون : « يكن » بالتحتية ، و { آية } بالنصب على أنها خبر { يكن } ، واسمها { أن يعلمه } الخ ، قال الزجاج : { أن يعلمه } اسم { يكن } ، و { آية } خبره .
والمعنى : أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل أن محمداً نبيّ حقّ علامة ودلالة على نبوّته؛ لأن العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل كانوا يخبرون بوجود ذكره في كتبهم ، وكذا قال الفراء ، ووجها قراءة الرفع بما ذكرنا . وفي قراءة ابن عامر نظر ، لأن جعل النكرة اسماً ، والمعرفة خبراً غير سائغ ، وإن ورد شاذاً في مثل قول الشاعر :
فلا يك موقف منك الوداعا ... وقول الآخر :
وكان مزاجها عسل وماء ... ولا وجه لما قيل : إن النكرة قد تخصصت بقولهم : { لَهُمْ } لأنه في محل نصب على الحال والحال صفة في المعنى؛ فأحسن ما يقال في التوجيه : ما قدّمنا ذكره من أن { يكن } تامة { وَلَوْ نزلناه على بَعْضِ الأعجمين } أي لو نزلنا القرآن على الصفة التي هو عليها على رجل من الأعجمين الذي لا يقدرون على التكلم بالعربية . { فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم } قراءة صحيحة { مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } مع انضمام إعجاز القراءة من الرجل الأعجميّ للكلام العربيّ إلى إعجاز القرآن . وقيل : المعنى : ولو نزّلناه على بعض الأعجمين بلغة العجم ، فقرأه عليهم بلغته لم يؤمنوا به ، وقالوا : ما نفقه هذا ، ولا نفهمه ، ومثل هذا قوله : { وَلَوْ جعلناه قُرْءَاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ ءاياته } [ فصلت : 44 ] يقال : رجل أعجم ، وأعجميّ : إذا كان غير فصيح اللسان ، وإن كان عربياً ، ورجل عجمي : إذا كان أصله من العجم ، وإن كان فصيحاً ، إلاّ أن الفراء أجاز أن يقال : رجل عجميّ بمعنى أعجميّ ، وقرأ الحسن : « على بعض الأعجميين » ، وكذلك قرأ الجحدري . قال أبو الفتح بن جني : أصل الأعجمين : الأعجميين ، ثم حذفت ياء النسب ، وجعل جمعه بالياء والنون دليلاً عليها .
{ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ المجرمين } أي مثل ذلك السلك سلكناه أي أدخلناه في قلوبهم : يعني : القرآن حتى فهموا معانيه وعرفوا فصاحته وأنه معجز . وقال الحسن وغيره : سلكنا الشرك والتكذيب في قلوب المجرمين . وقال عكرمة : سلكنا القسوة ، والأوّل أولى ، لأن السياق في القرآن ، وجملة : { لاَ يُؤْمِنُونَ } تحتمل وجهين : الأوّل : الاستئناف على جهة البيان والإيضاح لما قبلها . والثاني : أنها في محل نصب على الحال من الضمير في { سلكناه } ، ويجوز أن يكون حالاً من { المجرمين } . وأجاز الفراء الجزم في { لا يؤمنون } ، لأن فيه معنى الشرط ، والمجازاة ، وزعم أن من شأن العرب إذا وضعت « لا » موضع « كيلا » مثل هذا ربما جزمت ما بعدها ، وربما رفعت ، فتقول : ربطت الفرس لا ينفلت بالرفع والجزم؛ لأن معناه : إن لم أربطه ينفلت ، وأنشد لبعض بني عقيل :
وحتى رأينا أحسن الفعل بيننا ... مساكنه لا يقرف الشر قارف
بالرفع ، ومن الجزم قول الآخر :
لطال ما حللتماها لا ترد ... فخلياها والسجال تبترد
قال النحاس : وهذا كله في { لا يؤمنون } خطأ عند البصريين ، ولا يجوز الجزم بلا جازم { حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } أي لا يؤمنون إلى هذه الغاية ، وهي مشاهدتهم للعذاب الأليم : { فَيَأْتِيَهُم } العذاب { بَغْتَةً } أي : فجأة والحال أنهم { لاَ يَشْعُرُونَ } بإتيانه ، وقرأ الحسن : " فتأتيهم " بالفوقية : أي الساعة ، وإن لم يتقدّم لها ذكر ، لكنه قد دلّ العذاب عليها . { فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ } أي مؤخرون ، وممهلون ، قالوا هذا تحسراً على ما فات من الإيمان ، وتمنيا للرجعة إلى الدنيا ، لاستدراك ما فرط منهم . وقيل : إن المراد بقولهم : { هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ } : الاستعجال للعذاب على طريقة الاستهزاء لقوله : { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } ، ولا يخفى ما في هذا من البعد والمخالفة للمعنى الظاهر ، فإن معنى { هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ } : طلب النظرة والإمهال ، وأما قوله : { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } فالمراد به : الردّ عليهم ، والإنكار لما وقع منهم من قولهم : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ، وقولهم : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } [ الأعراف : 70 ] { أَفَرَأَيْتَ إِن متعناهم سِنِينَ } الاستفهام للإنكار ، والفاء للعطف على مقدّر يناسب المقام كما مرّ في غير موضع ، ومعنى أرأيت : أخبرني ، والخطاب لكل من يصلح له أي أخبرني إن متعناهم سنين في الدنيا متطاولة ، وطوّلنا لهم الأعمار { ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ } من العذاب ، والهلاك { مَا أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ } : " ما " هي الاستفهامية ، والمعنى أي شيء أغنى عنهم كونهم ممتعين ذلك التمتع الطويل ، و «ما» في { مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ } يجوز أن تكون المصدرية ، ويجوز أن تكون الموصولة ، والاستفهام للإنكار التقريري ، ويجوز أن تكون " ما " الأولى نافية ، والمفعول محذوف أي لم يغن عنهم تمتيعهم شيئاً ، وقرىء : " يمتعون " بإسكان الميم ، وتخفيف التاء من أمتع الله زيداً بكذا { وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } : " من " مزيدة للتأكيد أي وما أهلكنا قرية من القرى إلاّ لها منذرون . وجملة { إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } يجوز أن تكون صفة لقرية ، ويجوز أن تكون حالاً منها ، وسوّغ ذلك سبق النفي ، والمعنى : ما أهلكنا قرية من القرى إلاّ بعد الإنذار إليهم ، والإعذار بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وقوله { ذِكْرِى } بمعنى تذكرة ، وهي في محل نصب على العلة أو المصدرية . وقال الكسائي : { ذكرى } في موضع نصب على الحال . وقال الفراء ، والزجاج : إنها في موضع نصب على المصدرية أي : يذكرون ذكرى . قال النحاس : وهذا قول صحيح ، لأن معنى { إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } : إلا لها مذكرون . قال الزجاج : ويجوز أن يكون ذكرى في موضع رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أي إنذارنا ذكرى ، أو ذلك ذكرى . قال ابن الأنباري : المعنى : هي ذكرى ، أو يذكرهم ذكرى ، وقد رجح الأخفش أنها خبر مبتدأ محذوف { وَمَا كُنَّا ظالمين } في تعذيبهم ، فقد قدّمنا الحجة إليهم وأنذرناهم وأعذرنا إليهم .
{ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين } أي : بالقرآن ، وهذا ردّ لما زعمه الكفرة في القرآن أنه من قبيل ما يلقيه الشياطين على الكهنة { وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ } ذلك ، ولا يصح منهم { وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } ما نسبه الكفار إليهم أصلاً { إِنَّهُمْ عَنِ السمع } للقرآن ، أو لكلام الملائكة { لَمَعْزُولُونَ } محجوبون مرجومون بالشهب . وقرأ الحسن وابن السميفع والأعمش : « وما تنزلت به الشياطون » بالواو والنون إجراء له مجرى جمع السلامة . قال النحاس : وهذا غلط عند جميع النحويين . قال : وسمعت علي بن سليمان يقول : سمعت محمد بن يزيد يقول : هذا من غلط العلماء ، وإنما يكون بشبهة لما رأى الحسن في آخره ياء ونوناً ، وهو في موضع رفع؛ اشتبه عليه بالجمع السالم ، فغلط . قال الفراء : غلط الشيخ يعني : الحسن ، فقيل : ذلك للنضر بن شميل ، فقال : إن جاز أن يحتجّ بقول رؤبة والعجاج وذويهما جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه يعني محمد بن السميفع مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ بذلك إلاّ وقد سمعا فيه شيئاً . وقال المؤرّج : إن كان الشيطان من شاط يشيط كان لقراءتهما وجه . قال يونس بن حبيب : سمعت أعرابياً يقول : دخلنا بساتين من ورائها بساتون .
ثم لما قرّر سبحانه حقية القرآن ، وأنه منزّل من عنده أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بدعاء الله وحده فقال : { فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المعذبين } ، وخطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا مع كونه منزّهاً عنه معصوماً منه لحثّ العباد على التوحيد ، ونهيهم عن شوائب الشرك ، وكأنه قال : أنت أكرم الخلق عليّ ، وأعزّهم عندي ، ولو اتخذت معي إلها لعذبتك ، فكيف بغيرك من العباد { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } خص الأقربين؛ لأن الاهتمام بشأنهم أولى ، وهدايتهم إلى الحق أقدم . قيل : هم قريش ، وقيل : بنو عبد مناف ، وقيل : بنو هاشم . وقد ثبت في الصحيح : أن هذه الآية لما نزلت دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم قريشاً ، فاجتمعوا فعمّ وخص ، فذلك منه صلى الله عليه وسلم بيان للعشيرة الأقربين ، وسيأتي بيان ذلك . { واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } يقال : خفض جناحه إذا ألانه ، وفيه استعارة حسنة . والمعنى : ألن جناحك وتواضع لمن اتبعك من المؤمنين ، وأظهر لهم المحبة والكرامة وتجاوز عنهم . { فَإِنْ عَصَوْكَ } أي خالفوا أمرك ، ولم يتبعوك { فَقُلْ إِنّي بَرِيء مّمَّا تَعْمَلُونَ } أي من عملكم ، أو من الذي تعملونه ، وهذا يدلّ على أن المراد بالمؤمنين المشارفون للإيمان المصدّقون باللسان ، لأن المؤمنين الخلص لا يعصونه ، ولا يخالفونه .
ثم بيّن له ما يعتمد عليه عند عصيانهم له فقال : { فَتَوَكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم } أي : فوّض أمورك إليه ، فإنه القادر على قهر الأعداء ، وهو : الرحيم للأولياء ، قرأ نافع ، وابن عامر : « فتوكل » بالفاء .
وقرأ الباقون { وتوكل } بالواو ، فعلى القراءة الأولى يكون ما بعد الفاء كالجزء مما قبلها مترتباً عليه ، وعلى القراءة الثانية يكون ما بعد الواو معطوفاً على ما قبلها عطف جملة على جملة من غير ترتيب . { الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } أي : حين تقوم إلى الصلاة وحدك في قول أكثر المفسرين ، وقال مجاهد : حين تقوم حيثما كنت { وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين } أي ويراك إن صليت في الجماعة راكعاً وساجداً وقائماً ، كذا قال أكثر المفسرين . وقيل : يراك في الموحدين من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجك في هذه الأمة . وقيل : المراد بقوله : { يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } قيامه إلى التهجد ، وقوله : { وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين } يريد : تردّدك في تصفح أحوال المجتهدين في العبادة ، وتقلب بصرك فيهم ، كذا قال مجاهد . { إِنَّهُ هُوَ السميع } لما تقوله { العليم } به .
ثم أكّد سبحانه معنى قوله { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين } ، وبينه ، فقال : { هَلْ أُنَبّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين } أي على من تتنزّل ، فحذف إحدى التاءين ، وفيه بيان استحالة تنزّل الشياطين على رسول الله صلى الله عليه وسلم . { تَنَزَّلُ على كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } . والأفاك : الكثير الإفك ، والأثيم : كثير الإثم ، والمراد بهم : كل من كان كاهناً ، فإن الشياطين كانت تسترق السمع ، ثم يأتون إليهم ، فيلقونه إليهم ، وهو معنى قوله : { يُلْقُونَ السمع } أي : ما يسمعونه مما يسترقونه ، فتكون جملة : { يُلْقُونَ السمع } على هذا راجعة إلى الشياطين في محل نصب على الحال أي : حال كون الشياطين ملقين السمع أي ما يسمعونه من الملأ الأعلى إلى الكهان . ويجوز أن يكون المعنى : إن الشياطين يلقون السمع أي : ينصتون إلى الملأ الأعلى؛ ليسترقوا منهم شيئاً ، ويكون المراد بالسمع على الوجه الأوّل المسموع ، وعلى الوجه الثاني : نفس حاسة السمع . ويجوز أن تكون جملة : { يُلْقُونَ السمع } راجعة إلى كل أفاك أثيم على أنها صفة ، أو مستأنفة ، ومعنى الإلقاء : أنهم يسمعون ما تلقيه إليهم الشياطين من الكلمات التي تصدق الواحدة منها ، وتكذب المائة الكلمة كما ورد في الحديث ، وجملة : { وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون } راجعة إلى كل أفاك أثيم أي وأكثر هؤلاء الكهنة كاذبون فيما يتلقونه من الشياطين ، لأنهم يضمون إلى ما يسمعونه كثيراً من أكاذيبهم المختلقة ، أو أكثرهم كاذبون فيما يلقونه من السمع أي المسموع من الشياطين إلى الناس ، ويجوز أن تكون جملة : { وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون } راجعة إلى الشياطين أي : وأكثر الشياطين كاذبون فيما يلقونه إلى الكهنة مما يسمعونه؛ فإنهم يضمون إلى ذلك من عند أنفسهم كثيراً من الكذب ، وقد قيل : كيف يصح على الوجه الأوّل وصف الأفاكين بأن أكثرهم كاذبون بعد ما وصفوا جميعاً بالإفك .
وأجيب بأن المراد بالأفاك الذي يكثر الكذب لا الذي لا ينطلق إلاّ بالكذب . فالمراد بقوله : { وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون } أنه قلّ من يصدق منهم فيما يحكي عن الشياطين ، والغرض الذي سيق لأجله هذا الكلام ردّ ما كان يزعمه المشركون من كون النبيّ صلى الله عليه وسلم من جملة من يلقي إليه الشيطان السمع من الكهنة ببيان أن الأغلب على الكهنة الكذب ، ولم يظهر من أحوال محمد صلى الله عليه وسلم إلاّ الصدق ، فكيف يكون كما زعموا؟ ثم إن هؤلاء الكهنة يعظمون الشياطين ، وهذا النبيّ المرسل من عند الله برسالته إلى الناس يذمهم ويلعنهم ويأمر بالتعوّذ منهم .
ثم لما كان قد قال قائل من المشركين : إن النبيّ صلى الله عليه وسلم شاعر ، بيّن سبحانه حال الشعراء ، ومنافاة ما هم عليه لما عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال { والشعراء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون } والمعنى : أن الشعراء يتبعهم ، أي يجاريهم ويسلك مسلكهم ويكون من جملتهم الغاوون أي الضالون عن الحق ، والشعراء : جمع شاعر ، والغاوون : جمع غاوٍ ، وهم ضُلال الجن والإنس . وقيل : الزائلون عن الحق . وقيل : الذين يروون الشعر المشتمل على الهجاء وما لا يجوز ، وقيل : المراد شعراء الكفار خاصة . قرأ الجمهور : { والشعراء } بالرفع على أنه مبتدأ وخبره ما بعده ، وقرأ عيسى بن عمر : « الشعراء » بالنصب على الاشتغال ، وقرأ نافع وشيبة ، والحسن والسلمي : « يتبعهم » بالتخفيف ، وقرأ الباقون بالتشديد . ثم بيّن سبحانه قبائح شعراء الباطل ، فقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ } ، والجملة مقرّرة لما قبلها ، والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية ، يقال : هام يهيم هيماً ، وهيماناً : إذا ذهب على وجهه أي ألم تر أنهم في كل فنّ من فنون الكذب يخوضون ، وفي كل شعب من شعاب الزور يتكلمون؟ فتارة يمزّقون الأعراض بالهجاء ، وتارة يأتون من المجون بكل ما يمجه السمع ، ويستقبحه العقل ، وتارة يخوضون في بحر السفاهة والوقاحة ، ويذمون الحق ، ويمدحون الباطل ، ويرغبون في فعل المحرّمات ، ويدعون الناس إلى فعل المنكرات كما تسمعه في أشعارهم من مدح الخمر والزنا واللواط ونحو هذه الرذائل الملعونة ، ثم قال سبحانه : { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } أي يقولون فعلنا وفعلنا وهم كذبة في ذلك ، فقد يدلون بكلامهم على الكرم والخير ، ولا يفعلونه ، وقد ينسبون إلى أنفسهم من أفعال الشرّ ما لا يقدرون على فعله كما تجده في كثير من أشعارهم من الدعاوى الكاذبة والزور الخالص المتضمن لقذف المحصنات ، وأنهم فعلوا بهنّ كذا وكذا ، وذلك كذب محض ، وافتراء بحت .
ثم استثنى سبحانه الشعراء المؤمنين الصالحين الذين أغلب أحوالهم تحرّي الحق والصدق ، فقال : { إِلاَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي دخلوا في حزب المؤمنين ، وعملوا بأعمالهم الصالحة ، { وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً } في أشعارهم { وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } كمن يهجو منهم من هجاء ، أو ينتصر لعالم أو فاضل كما كان يقع من شعراء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإنهم كانوا يهجون من يهجوه ، ويحمون عنه ويذبون عن عرضه ، ويكافحون شعراء المشركين وينافحونهم ، ويدخل في هذا من انتصر بشعره لأهل السنة وكافح أهل البدعة ، وزيف ما يقوله شعراؤهم من مدح بدعتهم وهجو السنة المطهرة ، كما يقع ذلك كثيراً من شعراء الرافضة ونحوهم ، فإن الانتصار للحق بالشعر وتزييف الباطل به من أعظم المجاهدة ، وفاعله من المجاهدين في سبيل الله ، المنتصرين لدينه ، القائمين بما أمر الله بالقيام به .
واعلم أن الشعر في نفسه ينقسم إلى أقسام ، فقد يبلغ ما لا خير فيه منه إلى قسم الحرام ، وقد يبلغ ما فيه خير منه إلى قسم الواجب . وقد وردت أحاديث في ذمه وذمّ الاستكثار منه ، ووردت أحاديث أخر في إباحته ، وتجويزه ، والكلام في تحقيق ذلك يطول ، وسنذكر في آخر البحث ما ورد في ذلك من الأحاديث .
ثم ختم سبحانه هذه السورة بآية جامعة للوعيد كله ، فقال : { وَسَيَعْلَمْ الذين ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } ، فإن في قوله : { سيعلم } تهويلاً عظيماً ، وتهديداً شديداً ، وكذا في إطلاق { الذين ظلموا } وإبهام { أيّ منقلب ينقلبون } ، وخصص هذه الآية بعضهم بالشعراء ، ولا وجه لذلك ، فإن الاعتبار بعموم اللفظ ، وقوله : { أَيَّ مُنقَلَبٍ } صفة لمصدر محذوف أي ينقلبون منقلباً أيّ منقلب ، وقدّم لتضمنه معنى الاستفهام ، ولا يعمل فيه { سيعلم } ؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، بل هو معلق عن العمل فيه . وقرأ ابن عباس والحسن : « أيّ منفلت ينفلتون » بالفاء مكان القاف ، والتاء مكان الباء من الانفلات بالنون والفاء الفوقية ، وقرأ الباقون بالقاف ، والباء من الانقلاب بالنون والقاف والموحدة ، والمعنى على قراءة ابن عباس والحسن : أن الظالمين يطمعون في الانفلات من عذاب الله ، والانفكاك منه ، ولا يقدرون على ذلك .
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ العالمين } قال : هذا القرآن { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } قال : جبريل . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } قال : جبريل . وأخرج أبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { الروح الأمين } قال : « الروح الأمين : جبريل ، رأيت له ستمائة جناح من لؤلؤ قد نشرها فيها مثل ريش الطواويس » وأخرج ابن النجار في تاريخه عن ابن عباس في قوله : { بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مُّبِينٍ } قال : بلسان قريش ولو كان غير عربيّ ما فهموه . وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن بريدة في قوله : { بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مُّبِينٍ } قال : بلسان جرهم . وأخرج مثله أيضاً عنه ابن المنذر ، وابن أبي حاتم .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان عبد الله بن سلام من علماء بني إسرائيل ، وكان من خيارهم فآمن بكتاب محمد ، فقال لهم الله : { أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إسراءيل } . وأخرج البخاري ، مسلم ، وغيرهما عن أبي هريرة قال : لما نزلت هذه الآية : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً وعمّ وخص فقال : « يا معشر قريش ، أنقذوا أنفسكم من النار ، فإني لا أملك لكم ضرًّا ولا نفعاً ، يا معشر بني كعب بن لؤيّ أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرًّا ولا نفعاً ، يا معشر بني كعب بن لؤيّ أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرًّا ولا نفعاً ، يا معشر بني قصيّ أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرًّا ولا نفعاً ، يا معشر بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً ، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ، فإني لا أملك لكم ضرّاً ولا نفعاً ، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضرًّا ولا نفعاً إلاّ أن لكم رحماً وسأبلها ببلالها » وفي الباب أحاديث من طريق جماعة من الصحابة .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } قال : للصلاة . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عنه { الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين } يقول : قيامك ، وركوعك ، وسجودك . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً : { وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين } قال : يراك وأنت مع الساجدين تقوم وتقعد معهم . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في قوله : { وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين } قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يرى من خلفه كما يرى من بين يديه . ومنه الحديث في الصحيحين ، وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هل ترون قبلتي ها هنا؟ فوالله ما يخفى عليّ خشوعكم ، ولا ركوعكم ، وإني لأراكم من وراء ظهري » وأخرج ابن أبي عمر العدني في مسنده والبزار وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين } قال : من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجت نبياً . وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم عنه في الآية نحوه .
وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن عائشة قالت : سأل أناس النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الكهان قال : « إنهم ليسوا بشيء » ، قالوا : يا رسول الله إنهم يحدّثون أحياناً بالشيء يكون حقاً؟ قال : « تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه ، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة »
، وفي لفظ للبخاري : « فيزيدون معها مائة كذبة » وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين ، وكان مع كلّ واحد منهما غواة من قومه وهم السفهاء ، فأنزل الله : { والشعراء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون } الآيات . وأخرج ابن سعد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن عساكر عن عروة قال : لما نزلت { والشعراء } إلى قوله : { مَا لاَ يَفْعَلُونَ } قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله قد علم الله أني منهم ، فأنزل الله : { إِلاَّ الذين ءَامَنُواْ } إلى قوله : { يَنقَلِبُونَ } ، وروي نحو هذا من طرق . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس { يَتَّبِعُهُمُ الغاوون } قال : هم الكفار يتبعون ضلال الجنّ والإنس { فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ } قال : في كلّ لغو يخوضون { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } أكثر قولهم يكذبون ، ثم استثنى منهم فقال : { إِلاَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } قال : ردّوا على الكفار كانوا يهجون المؤمنين . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً : { والشعراء } قال : المشركون منهم الذين كانوا يهجون النبيّ صلى الله عليه وسلم { يَتَّبِعُهُمُ الغاوون } قال : غواة الجنّ في كلّ واد يهيمون في كلّ فنّ من الكلام يأخذون . ثم استثنى فقال : { إِلاَّ الذين ءامَنُواْ } الآية ، يعني : حسان بن ثابت وعبد الله ابن رواحة وكعب بن مالك كانوا يذبون عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهجاء المشركين . وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم عنه : { الغاوون } قال : هم الرواة . وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عنه أيضاً : { إِلاَّ الذين ءَامَنُواْ } الآية قال : أبو بكر وعمر وعليّ وعبد الله بن رواحة .
وأخرج أحمد ، والبخاري في تاريخه ، وأبو يعلى وابن مردويه عن كعب بن مالك؛ أنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أنزل في الشعراء ما أنزل فكيف ترى فيه؟ فقال : « إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النبل » وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن أبي سعيد قال : بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عرض شاعر ينشد ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلىء شعراً » وأخرج الديلمي عن ابن مسعود مرفوعاً :
« الشعراء الذين يموتون في الإسلام يأمرهم الله أن يقولوا شعراً يتغنى به الحور العين لأزواجهنّ في الجنة ، والذين ماتوا في الشرك يدعون بالويل والثبور في النار » وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن من الشعر لحكمة » قال : وأتاه قريظة بن كعب وعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت فقالوا : إنا نقول الشعر ، وقد نزلت هذه الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اقرؤوا » ، فقرؤوا : { والشعراء } إلى قوله : { إِلاَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } فقال : « أنتم هم » { وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً } فقال : « أنتم هم » { وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } فقال : « أنتم هم » وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت : « اهج المشركين ، فإن جبريل معك » وأخرج ابن سعد عن البراء بن عازب قال : قيل : يا رسول الله ، إن أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يهجوك ، فقام ابن رواحة فقال : يا رسول الله ، ائذن لي فيه ، فقال : « أنت الذي تقول ثبت الله؟ » فقال : نعم يا رسول ، قلت :
ثبت الله ما أعطاك من حسن ... تثبيت موسى ونصراً مثل ما نصرا
قال : « وأنت ، ففعل الله بك مثل ذلك » ، ثم وثب كعب فقال : يا رسول الله ائذن لي فيه؟ فقال : « أنت الذي تقول همت؟ » قال : نعم يا رسول الله ، قلت :
همت سخينة أن تغالب ربها ... فلتغلبنّ مغالب الغلاب
فقال : « أما إن الله لم ينس ذلك لك » ، ثم قام حسان ، فقال : يا رسول الله ائذن لي فيه ، وأخرج لساناً له أسود ، فقال : يا رسول الله لو شئت لفريت به المراد ، ائذن لي فيه ، فقال : « اذهب إلى أبي بكر فليحدّثك حديث القوم وأيامهم وأحسابهم واهجهم وجبريل معك » وأخرج أحمد وابن سعد عن أبي هريرة قال : مرّ عمر بحسان وهو ينشد في المسجد فلحظ إليه فنظر إليه ، فقال : قد كنت أنشد فيه ، وفيه من هو خير منك ، فسكت ، ثم التفت حسان إلى أبي هريرة فقال : أنشدك بالله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « أجب عني ، اللهم أيده بروح القدس؟ » قال : نعم . وأخرج ابن سعد من حديث جابر مرفوعاً نحوه .
وأخرج ابن أبي شيبة عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن من الشعر حكماً » وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إن من الشعر حكماً ، ومن البيان سحراً »
وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً يريه ، خير من أن يمتلىء شعراً » وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلىء شعراً » قال في الصحاح : وروى القيح جوفه يريه ، وريا : إذا أكله ، قال القرطبي : روى إسماعيل بن عَيَّاش عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « حسن الشعر كحسن الكلام ، وقبيح الشعر كقبيح الكلام » قال القرطبي : رواه إسماعيل عن عبد الله بن عون الشامي وحديثه عن أهل الشام صحيح ، فيما قال يحيى بن معين ، وغيره . قال : وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام ، وقبيحه كقبيح الكلام » وأخرج مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال : ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت؟ » قلت : نعم . قال : « هيه » ، فأنشدته بيتاً ، فقال : « هيه » ، ثم أنشدته بيتاً ، فقال : « هيه » حتى أنشدته مائة بيت . وأخرج ابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد في قوله : { وَسَيَعْلَمْ الذين ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } قال : هؤلاء الذين يخربون البيت .
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
قوله : { طس } قد مرّ الكلام مفصلاً في فواتح السور ، وهذه الحروف إن كانت اسماً للسورة ، فمحلها الرفع على الابتداء ، وما بعده خبره ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذا اسم هذه السورة ، وإن لم تكن هذه الحروف اسماً للسورة ، بل مسرودة على نمط التعديد ، فلا محل لها ، والإشارة بقوله : { تِلْكَ } إلى نفس السورة؛ لأنها قد ذكرت إجمالاً بذكر اسمها ، واسم الإشارة مبتدأ ، وخبره : { آيَاتُ القرآن } والجملة خبر المبتدأ الأوّل على تقدير أنه مرتفع بالإبتداء { وكتاب مُّبِين } قرأ الجمهور بجرّ كتاب عطفاً على القرآن أي تلك آيات القرآن وآيات كتاب مبين ، ويحتمل أن يكون المراد بقوله : { وكتاب } القرآن نفسه ، فيكون من عطف بعض الصفات على بعض مع اتحاد المدلول ، وأن يكون المراد بالكتاب : اللوح المحفوظ ، أو نفس السورة ، وقرأ ابن أبي عبلة « وكتاب مبين » برفعهما عطفاً على آيات . وقيل : هو على هذه القراءة على تقدير مضاف محذوف ، وإقامة المضاف إليه مقامه أي وآيات كتاب مبين ، فقد وصف الآيات بالوصفين : القرآنية الدالة على كونه مقروءاً مع الإشارة إلى كونه قرآناً عربياً معجزاً ، والكتابية الدالة على كونه مكتوباً مع الإشارة إلى كونه متصفاً بصفة الكتب المنزلة ، فلا يكون على هذا من باب عطف صفة على صفة مع اتحاد المدلول ، ثم ضم إلى الوصفين وصفاً ثالثاً ، وهي : الإبانة لمعانيه لمن يقرؤه ، أو هو من أبان بمعنى : بان ، معناه واتضح إعجازه بما اشتمل عليه من البلاغة . وقدّم وصف القرآنية هنا نظراً إلى تقدّم حال القرآنية على حال الكتابة ، وأخَّره في سورة الحجر ، فقال : { الرَ تِلْكَ ءايات الكتاب وَقُرْءانٍ مُّبِينٍ } [ الحجر : 1 ] . نظراً إلى حالته التي قد صار عليها ، فإنه مكتوب . والكتابة سبب القراءة ، والله أعلم . وأما تعريف القرآن هنا ، وتنكير الكتاب ، وتعريف الكتاب في سورة الحجر ، وتنكير القرآن فلصلاحية كلّ واحد منهما للتعريف ، والتنكير .
{ هُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ } في موضع نصب على الحال من الآيات أو من الكتاب أي تلك آيات هادية ومبشرة ، ويجوز أن يكون في محل رفع على الإبتداء ، أي هو هدى ، أو هما خبران آخران لتلك ، أو هما مصدران منصوبان بفعل مقدّر ، أي : يهدي هدى ، ويبشر بشرى . ثم وصف المؤمنين الذي لهم الهدى والبشرى ، فقال : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكواة } ، والموصول في محل جرّ ، أو يكون بدلاً أو بياناً ، أو منصوباً على المدح ، أو مرفوعاً على تقدير مبتدأ . والمراد بالصلاة : الصلوات الخمس ، والمراد بالزكاة : الزكاة المفروضة ، وجملة : { وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ } في محل نصب على الحال ، وكرّر الضمير للدلالة على الحصر ، أي لا يوقن بالآخرة حقّ الإيقان إلاّ هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح ، وجعل الخبر مضارعاً للدلالة على التجدد في كلّ وقت ، وعدم الانقطاع .
ثم لما ذكر سبحانه أهل السعادة ذكر بعدهم أهل الشقاوة ، فقال : { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } ، وهم الكفار ، أي لا يصدّقون بالبعث { زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم } قيل : المراد : زين الله لهم أعمالهم السيئة حتى رأوها حسنة . وقيل : المراد : أن الله زين لهم الأعمال الحسنة ، وذكر لهم ما فيها من خيري الدنيا والآخرة ، فلم يقبلوا ذلك . قال الزجاج : معنى الآية : أنا جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه { فَهُمْ يَعْمَهُونَ } أي يتردّدون فيها متحيرين على الاستمرار لا يهتدون إلى طريقة ، ولا يقفون على حقيقة . وقيل : معنى { يعمهون } : يتمادون . وقال قتادة : يلعبون ، وفي معنى التحير قال الشاعر :
ومهمه أطرافه في مهمه ... أعمى الهدى الحائرين العمه
والإشارة بقوله : { أولئك } إلى المذكورين قبله ، وهو مبتدأ خبره { لَهُمْ سُوء العذاب } قيل : في الدنيا كالقتل والأسر ووجه تخصيصه بعذاب الدنيا قوله بعده : { وَهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون } أي هم أشدّ الناس خسراناً ، وأعظمهم خيبة ثم مهد سبحانه مقدّمة نافعة لما سيذكره بعد ذلك من الأخبار العجيبة ، فقال : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } أي يلقى عليك فتلقاه وتأخذه من لدن كثير الحكمة والعلم قيل : إن لدن هاهنا بمعنى عند . وفيها لغات كما تقدّم في سورة الكهف .
{ إِذْ قَالَ موسى لأِهْلِهِ } الظرف منصوب بمضمر ، وهو اذكر . قال الزجاج : موضع «إذ» نصب ، المعنى : اذكر إذ قال موسى ، أي : اذكر قصته إذ قال لأهله ، والمراد بأهله : امرأته في مسيره من مدين إلى مصر ، ولم يكن معه إذ ذاك إلاّ زوجته بنت شعيب ، فكنى عنها بلفظ الأهل الدالّ على الكثرة ، ومثله قوله : { امكثوا } [ طه : 10 ] ، ومعنى { إِنّي آنَسْتُ نَاراً } : أبصرتها { سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَر } السين تدلّ على بعد مسافة النار { ءاتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ } قرأ عاصم وحمزة والكسائي بتنوين { شهاب } ، وقرأ الباقون بإضافته إلى قبس ، فعلى القراءة الأولى يكون قبس بدلاً من شهاب ، أو صفة له لأنه بمعنى مقبوس ، وعلى القراءة الثانية الإضافة للبيان ، والمعنى على القراءتين : آتيكم بشعلة نار مقبوسة أي مأخوذة من أصلها . قال الزجاج : من نوّن جعل { قبس } من صفة شهاب ، وقال الفراء : هذه الإضافة كالإضافة في قولهم : مسجد الجامع ، وصلاة الأولى ، أضاف الشيء إلى نفسه لاختلاف أسمائه . وقال النحاس : هي إضافة النوع إلى الجنس كما تقول : ثوب خز ، وخاتم حديد . قال : ويجوز في غير القرآن بشهاب قبساً على أنه مصدر ، أو بيان ، أو حال { لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } أي رجاء أن تستدفئوا بها . أو لكي تستدفئوا بها من البرد ، يقال : صلى بالنار ، واصطلى بها : إذا استدفأ بها . قال الزجاج : كلّ أبيض ذي نور فهو : شهاب .
وقال أبو عبيدة : الشهاب : النار ، ومنه قول أبي النجم :
كأنما كان شهاباً واقدا ... أضاء ضوءاً ثم صار خامداً
وقال ثعلب : أصل الشهاب عود في أحد طرفيه جمرة ، والآخر لا نار فيه ، والشهاب : الشعاع المضيء ، وقيل : للكوكب : شهاب ، ومنه قول الشاعر :
في كفه صعدة مثقفة ... فيها سنان كشعلة القبس
{ فَلَمَّا جَاءهَا } أي : جاء النار موسى { نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا } : « أن » هي المفسرة لما في النداء من معنى القول ، أو هي المصدرية أي بأن بورك ، وقيل : هي المخففة من الثقيلة . قال الزجاج : « أن » في موضع نصب أي بأن قال ، ويجوز أن يكون في موضع رفع اسم ما لم يسم فاعله . والأولى أن النائب ضمير يعود إلى موسى . وقرأ أبيّ ، وابن عباس ، ومجاهد : « أن بوركت النار ومن حولها » حكى ذلك أبو حاتم . وحكى الكسائي عن العرب : باركك الله ، وبارك فيك ، وبارك عليك ، وبارك لك ، وكذلك حكى هذا الفراء . قال ابن جرير : قال : { بورك من في النار } ، ولم يقل : بورك على النار على لغة من يقول : باركك الله أي : بورك على من في النار ، وهو موسى ، أو على من في قرب النار لا أنه كان في وسطها . وقال السديّ : كان في النار ملائكة ، والنار هنا هي مجرّد نور ، ولكنه ظن موسى أنها نار ، فلما وصل إليها وجدها نوراً . وحكي عن الحسن وسعيد بن جبير : أن المراد بمن في النار : هو الله سبحانه أي نوره . وقيل : بورك ما في النار من أمر الله سبحانه الذي جعلها على تلك الصفة . قال الواحدي : ومذهب المفسرين : أن المراد بالنار : النور ، ثم نزّه سبحانه نفسه ، فقال : { وسبحان الله رَبّ العالمين } ، وفيه تعجيب لموسى من ذلك .
{ ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم } الضمير للشأن ، أنا الله العزيز الغالب القاهر الحكيم في أمره وفعله . وقيل : إن موسى قال : يا ربّ من الذي ناداني؟ فأجابه الله سبحانه بقوله : { إنه أنا الله } ثم أمره سبحانه بأن يلقي عصاه؛ ليعرف ما أجراه الله سبحانه على يده من المعجزة الخارقة ، وجملة : { وَأَلْقِ عَصَاكَ } معطوفة على { بورك } ، وفي الكلام حذف ، والتقدير ، فألقاها من يده ، فصارت حية { فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ } قال الزجاج : صارت العصا تتحرك كما يتحرّك الجانّ ، وهي الحية البيضاء ، وإنما شبهها بالجانّ في خفة حركتها ، وشبهها في موضع آخر بالثعبان لعظمها ، وجمع الجانّ : جنان ، وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم . وقال الكلبي : لا صغيرة ولا كبيرة { ولى مُدْبِراً } من الخوف { وَلَمْ يُعَقّبْ } أي لم يرجع ، يقال : عقب فلان إذا رجع ، وكل راجع معقب ، وقيل : لم يقف ، ولم يلتفت . والأوّل أولى؛ لأن التعقيب هو : الكرّ بعد الفرّ .
فلما وقع منه ذلك قال الله سبحانه : { ياموسى لاَ تَخَفْ } أي من الحية وضررها { إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون } أي لا يخاف عندي من أرسلته برسالتي فلا تخف أنت . قيل : ونفى الخوف عن المرسلين ليس في جميع الأوقات ، بل في وقت الخطاب لهم؛ لأنهم إذ ذاك مستغرقون . ثم استثنى استثناء منقطعاً ، فقال { إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء فَإِنّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : لكن من أذنب في ظلم نفسه بالمعصية { ثم بدل حسناً } أي : توبة وندماً { بعد سوء } أي بعد عمل سوء { فإني غفور رحيم } وقيل : الاستثناء من مقدّر محذوف أي لا يخاف لديّ المرسلون ، وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم إلاّ من ظلم ثم بدل إلخ ، كذا قال الفراء . قال النحاس : الاستثناء من محذوف محال ، لأنه استثناء من شيء لم يذكر . وروي عن الفراء أنه قال : إلاّ بمعنى الواو . وقيل : إن الاستثناء متصل من المذكور لا من المحذوف . والمعنى : إلاّ من ظلم من المرسلين بإتيان الصغائر التي لا يسلم منها أحد ، واختار هذا النحاس ، وقال : علم من عصى منهم ، فاستثناه فقال : { إلا من ظلم } وإن كنت قد غفرت له كآدم ، وداود وإخوة يوسف وموسى بقتله القبطيّ . ولا مانع من الخوف بعد المغفرة ، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، كان يقول : « وددت أني شجرة تعضد » { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ } المراد بالجيب هو المعروف ، وفي القصص { اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ } [ القصص : 32 ] . وفي { أدخل } من المبالغة ما لم يكن في { اسلك } . { تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء } أي من غير برص ، أو نحوه من الآفات ، فهو احتراس . وقوله : { تخْرجُ } جواب : { أدخل يدك } . وقيل : في الكلام حذف تقديره : أدخل يدك تدخل ، وأخرجها تخرج ، ولا حاجة لهذا الحذف ، ولا ملجىء إليه . قال المفسرون : كانت على موسى مدرعة من صوف لا كمّ لها ولا إزار ، فأدخل يده في جيبه وأخرجها ، فإذا هي تبرق كالبرق ، وقوله : { فِي تِسْعِ آيَاتٍ } قال أبو البقاء : هو في محل نصب على الحال من فاعل تخرج ، وفيه بعد . وقيل : متعلق بمحذوف أي اذهب في تسع آيات . وقيل : متعلق بقوله : { أَلْقِ عَصَاكَ } و { أدخل يدك } في جملة تسع آيات أو مع تسع آيات . وقيل : المعنى : فهما آيتان من تسع يعني : العصا واليد ، فتكون الآيات إحدى عشرة : هاتان ، والفلق ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والطمسة ، والجدب في بواديهم ، والنقصان في مزارعهم . قال النحاس : أحسن ما قيل فيه أن هذه الآية يعني : اليد داخلة في تسع آيات ، وكذا قال المهدوي ، والقشيري . قال القشيري : تقول خرجت في عشرة نفر ، وأنت أحدهم أي خرجت عاشر عشرة ، ففي بمعنى : من لقربها منها ، كما تقول : خذ لي عشراً من الإبل فيها فحلان أي منها .
قال الأصمعي في قول امرىء القيس :
وهل ينعمن من كان آخر عهده ... ثلاثون شهراً في ثلاثة أحوال
في بمعنى من ، وقيل : في بمعنى مع { إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ } قال الفراء : في الكلام إضمار ، أي إنك مبعوث ، أو مرسل إلى فرعون وقومه ، وكذا قال الزجاج : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين } الجملة تعليل لما قبلها { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءاياتنا مُبْصِرَةً } أي جاءتهم آياتنا التي على يد موسى حال كونها مبصرة أي واضحة بينة كأنها لفرط وضوحها تبصر نفسها كقوله : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً } [ الإسراء : 59 ] . قال الأخفش : ويجوز أن تكون بمعنى مبصرة على أن اسم الفاعل بمعنى اسم المفعول ، وقد تقدّم تحقيق الكلام في هذا . وقرأ عليّ بن الحسين ، وقتادة : « مبصرة » بفتح الميم ، والصاد أي مكاناً يكثر فيه التبصر ، كما يقال : الولد مجبنة ومبخلة { قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي : لما جاءتهم قالوا هذا القول أي سحر واضح .
{ وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ } أي كذبوا بها حال كون أنفسهم مستيقنة لها ، فالواو للحال ، وانتصاب { ظُلْماً وَعُلُوّاً } على الحال أي ظالمين عالين ، ويجوز أن ينتصبا على العلة أي الحامل لهم على ذلك الظلم والعلوّ ، ويجوز أن يكونا نعت مصدر محذوف أي جحدوا بها جحوداً ظلماً وعلوًّا . قال أبو عبيدة : والباء في { وجحدوا بها } زائدة ، أي وجحدوها . قال الزجاج : التقدير : وجحدوا بها ظلماً وعلوًّا ، أي شركاً ، وتكبراً عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى ، وهم يعلمون أنها من عند الله { فانظر } يا محمد { كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين } أي تفكر في ذلك ، فإن فيه معتبراً للمعتبرين . وقد كان عاقبة أمرهم الإغراق لهم في البحر على تلك الصفة الهائلة .
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار } يعني تبارك وتعالى نفسه كان نور ربّ العالمين في الشجرة { وَمَنْ حَوْلَهَا } يعني : الملائكة . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : كان الله في النور نودي من النور { وَمَنْ حَوْلَهَا } قال : الملائكة . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً قال : ناداه الله ، وهو في النور . وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عنه أيضاً : { أَن بُورِكَ مَن فِي النار } قال : بوركت النار . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : في مصحف أبيّ بن كعب : « بوركت النار ومن حولها » ، أما النار ، فيزعمون : أنها نور ربّ العالمين .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : { أَن بُورِكَ } قال : قدّس .
وأخرج عبد بن حميد وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة ، والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق أبي عبيدة عن أبي موسى الأشعري قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام . يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل ، حجابه النور لو رفع لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره » ثم قرأ أبو عبيدة { أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا وسبحان الله رَبّ العالمين } . والحديث أصله مخرّج في صحيح مسلم من حديث عمرو بن مرّة . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كانت على موسى جبة من صوف لا تبلغ مرفقيه ، فقال له : أدخل يدك في جيبك ، فأدخلها . وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } قال : تكبروا ، وقد استيقنتها أنفسهم ، وهذا من التقديم والتأخير .
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
لما فرغ سبحانه من قصة موسى شرع في قصة داود ، وابنه سليمان ، وهذه القصص وما قبلها وما بعدها هي كالبيان ، والتقرير لقوله : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيم } ، والتنوين في { عِلْمًا } إما للنوع أي طائفة من العلم ، أو للتعظيم أي علماً كثيراً ، والواو في قوله : { وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ } للعطف على محذوف؛ لأن هذا المقام مقام الفاء؛ فالتقدير : ولقد آتيناهما علماً فعملا به ، وقالا الحمد لله ، ويؤيده أن الشكر باللسان إنما يحسن إذا كان مسبوقاً بعمل القلب ، وهو العزم على فعل الطاعة ، وترك المعصية { الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ المؤمنين } أي فضلنا بالعلم والنبوّة وتسخير الطير والجنّ والإنس ، ولم يفضلوا أنفسهم على الكلّ تواضعاً منهم . وفي الآية دليل على شرف العلم ، وارتفاع محله ، وأن نعمة العلم من أجلّ النعم التي ينعم الله بها على عباده ، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلاً على كثير من العباد ، ومنح شرفاً جليلاً .
{ وَوَرِثَ سليمان دَاوُودُ } أي ورثه العلم والنبوّة . قال قتادة والكلبي : كان لداود تسعة عشر ولداً ذكراً ، فورث سليمان من بينهم نبوّته ، ولو كان المراد : وراثة المال لم يخصّ سليمان بالذكر؛ لأن جميع أولاده في ذلك سواء ، وكذا قال جمهور المفسرين ، فهذه الوراثة هي وراثة مجازية كما في قوله صلى الله عليه وسلم : « العلماء ورثة الأنبياء » { وَقَالَ ياأَيُّهَا الناس عُلّمْنَا مَنطِقَ الطير } قال سليمان : هذه المقالة مخاطباً للناس تحدّثاً بما أنعم الله به عليه ، وشكر النعمة التي خصه بها . وقدّم منطق الطير؛ لأنها نعمة خاصة به لا يشاركه فيها غيره . قال الفراء : منطق الطير كلام الطير ، فجعل كمنطق الرجل ، وأنشد قول حميد بن ثور :
عجيب لها أن يكون غناؤها ... فصيحاً ولم يغفر بمنطقها فماً
ومعنى الآية : فهمنا ما يقول الطير . قال جماعة من المفسرين : إنه علم منطق جميع الحيوانات ، وإنما ذكر الطير؛ لأنه كان جنداً من جنده يسير معه لتظليله من الشمس . وقال قتادة والشعبي : إنما علم منطق الطير خاصة ولا يعترض ذلك بالنملة ، فإنها من جملة الطير ، وكثيراً ما تخرج لها أجنحة ، فتطير ، وكذلك كانت هذه النملة التي سمع كلامها وفهمه ، ومعنى { وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَيْء } : كلّ شيء تدعو إليه الحاجة كالعلم والنبوّة والحكمة والمال وتسخير الجن والإنس والطير والرياح والوحش والدواب وكل ما بين السماء والأرض . وجاء سليمان بنون العظمة ، والمراد : نفسه بياناً لحاله من كونه مطاعاً لا يخالف ، لا تكبراً وتعظيماً لنفسه ، والإشارة بقوله : { إِنَّ هَذَا } إلى ما تقدّم ذكره من التعليم ، والإيتاء { لَهُوَ الفضل المبين } أي الظاهر الواضح الذي لا يخفى على أحد ، أو المظهر لفضيلتنا .
{ وَحُشِرَ لسليمان جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير } الحشر : الجمع أي جمع له جنوده من هذه الأجناس . وقد أطال المفسرون في ذكر مقدار جنده ، وبالغ كثير منهم مبالغة تستبعدها العقول ، ولا تصحّ من جهة النقل ، ولو صحت لكان في القدرة الربانية ما هو أعظم من ذلك وأكثر { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي لكلّ طائفة منهم وزعة تردّ ، أولهم على آخرهم فيقفون على مراتبهم ، يقال : وزعه يزعه وزعاً : كفه ، والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدّم منهم ، أي يردّه ، ومنه قول النابغة :
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألما أصح والشيب وازع
وقول الآخر :
ومن لم يزعه لبه وحياؤه ... فليس له من شيب فوديه وازع
وقول الآخر :
ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى ... من الناس إلاّ وافر العقل كامله
وقيل : من التوزيع بمعنى التفريق ، يقال : القوم أوزاع أي : طوائف . { حتى إِذَا أَتَوْا على وَادِي النمل } حتى هي التي يبتدأ بعدها الكلام ، ويكون غاية لما قبلها ، والمعنى : فهم يوزعون إلى حصول هذه الغاية وهو إتيانهم على واد النمل ، أي فهم يسيرون ممنوعاً بعضهم من مفارقة بعض حتى إذا أتوا إلخ ، و { على واد النمل } متعلق ب { أتوا } ، وعدّي بعلى؛ لأنهم كانوا محمولين على الريح فهم مستعلون . والمعنى : أنهم قطعوا الوادي وبلغوا آخره ، ووقف القراء جميعهم على واد بدون ياء اتباعاً للرسم حيث لم تحذف لالتقاء الساكنين كقوله : { الذين جَابُواْ الصخر بالواد } [ الفجر : 9 ] إلاّ الكسائي ، فإنه وقف بالياء ، قال : لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء الساكنين بالوصل . قال كعب : واد النمل بالطائف . وقال قتادة ومقاتل : هو بالشام { قَالَتْ نَمْلَةٌ } هذا جواب إذا ، كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت ونبهت سائر النمل منادية لها قائلة : { ياأَيُّهَا النمل ادخلوا مساكنكم } جعل خطاب النمل كخطاب العقلاء لفهمها لذلك الخطاب ، والمساكن هي الأمكنة التي يسكن النمل فيها . قيل : وهذه النملة التي سمعها سليمان هي أنثى بدليل تأنيث الفعل المسند إليها . وردّ هذا أبو حيان ، فقال : لحاق التاء في قالت لا يدلّ على أن النملة مؤنثة ، بل يصحّ أن يقال في المذكر : قالت ، لأن نملة وإن كانت بالتاء فهي مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث بتذكير الفعل ولا بتأنيثه ، بل يتميز بالإخبار عنه بأنه ذكر ، أو أنثى ، ولا يتعلق بمثل هذا كثير فائدة ، ولا بالتعرّض لاسم النملة ، ولما ذكر من القصص الموضوعة ، والأحاديث المكذوبة . قرأ الحسن وطلحة ومعمر بن سليمان : «نملة» والنمل بضم الميم وفتح النون بزنة رجل وسمرة . وقرأ سليمان التيمي بضمتين فيهما .
{ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان وَجُنُودُهُ } الحطم : الكسر ، يقال : حطمته حطماً أي كسرته كسراً ، وتحطم : تكسر ، وهذا النهي هو في الظاهر للنمل ، وفي الحقيقة لسليمان ، فهو من باب : لا أرينك هاهنا ، ويجوز أن يكون بدلاً من الأمر ، ويحتمل أن يكون جواباً للأمر .
قال أبو حيان : أما تخريجه على جواب الأمر ، فلا يكون إلاّ على قراءة الأعمش ، فإنه قرأ : « لا يحطمكم » بالجزم بدون نون التوكيد ، وأما مع وجود نون التوكيد ، فلا يجوز ذلك إلاّ في الشعر . قال سيبويه : وهو قليل في الشعر ، شبهوه بالنهي حيث كان مجزوماً . وقرأ أبيّ : « ادخلوا مساكنكنّ » وقرأ شهر بن حوشب : « مسكنكم » وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني : « لا يحطمنكم » بضمّ الياء وفتح الحاء وتشديد الطاء . وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب وأبو عمرو في رواية بسكون نون التوكيد وجملة : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } في محل نصب على الحال من فاعل { يحطمنكم } أي لا يشعرون بحطمكم ولا يعلمون بمكانكم ، وقيل : إن المعنى : والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم مقالتها ، وهو بعيد .
{ فَتَبَسَّمَ ضاحكا مّن قَوْلِهَا } قرأ ابن السميفع : « ضحكاً » وعلى قراءة الجمهور يكون { ضاحكاً } حالاً مؤكدة لأنه قد فهم الضحك من التبسم . وقيل : هي حال مقدّرة لأن التبسم أوّل الضحك . وقيل : لما كان التبسم قد يكون للغضب كان الضحك مبيناً له ، وقيل : إن ضحك الأنبياء هو التبسم لا غير ، وعلى قراءة ابن السميفع يكون « ضحكاً » مصدراً منصوباً بفعل محذوف أو في موضع الحال ، وكان ضحك سليمان تعجباً من قولها وفهمها واهتدائها إلى تحذير النمل { وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ } قد تقدّم بيان معنى أوزعني قريباً في قوله : { فَهُمْ يُوزَعُونَ } قال في الكشاف : وحقيقة أوزعني : اجعلني أزع شكر نعمك عندي وأكفه وارتبطه لا ينفلت عني حتى لا أنفك شاكراً لك . انتهى . قال الواحدي : أوزعني ، أي ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ ، يقال : فلان موزع بكذا أي مولع به . انتهى . قال القرطبي : وأصله من وزع ، فكأنه قال : كفني عما يسخطك . انتهى . والمفعول الثاني لأوزعني هو : أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وقال الزجاج : إن معنى { أوزعني } : امنعني أن أكفر نعمتك ، وهو تفسير باللازم ، ومعنى { وعلى وَالِدَيَّ } : الدعاء منه بأن يوزعه الله شكر نعمته على والديه كما أوزعه شكر نعمته عليه ، فإن الإنعام عليهما إنعام عليه ، وذلك يستوجب الشكر منه لله سبحانه ، ثم طلب أن يضيف الله له لواحق نعمه إلى سوابقها ، ولا سيما النعم الدينية ، فقال : { وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه } أي عملاً صالحاً ترضاه مني ، ثم دعا أن يجعله الله سبحانه في الآخرة داخلاً في زمرة الصالحين فإن ذلك هو الغاية التي يتعلق الطلب بها ، فقال : { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين } ، والمعنى : أدخلني في جملتهم ، وأثبت اسمي في أسمائهم ، واحشرني في زمرتهم إلى دار الصالحين ، وهي الجنة .
اللهم وإني أدعوك بما دعاك به هذا النبيّ الكريم ، فتقبل ذلك مني ، وتفضل عليّ به ، فإني وإن كنت مقصراً في العمل ، ففضلك هو سبب الفوز بالخير ، فهذه الآية منادية بأعلى صوت ، وأوضح بيان بأن دخول الجنة التي هي دار المؤمنين بالتفضل منك لا بالعمل منهم كما قال رسولك الصادق المصدوق فيما ثبت عنه في الصحيح : « سدّدوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله برحمته » فإذا لم يكن إلاّ تفضلك الواسع ، فترك طلبه منك عجز ، والتفريط في التوسل إليك بالإيصال إليه تضييع .
ثم شرع سبحانه في ذكر قصة بلقيس ، وما جرى بينها وبين سليمان ، وذلك بدلالة الهدهد ، فقال : { وَتَفَقَّدَ الطير } التفقد : تطلب ما غاب عنك ، وتعرّف أحواله ، والطير : اسم جنس لكلّ ما يطير ، والمعنى : أنه تطلب ما فقد من الطير ، وتعرف حال ما غاب منها ، وكانت الطير تصحبه في سفره ، وتظله بأجنحتها { فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين } أي : ما للهدهد لا أراه؟ فهذا الكلام من الكلام المقلوب الذي تستعمله العرب كثيراً ، وقيل : لا حاجة إلى ادّعاء القلب ، بل هو استفهام عن المانع له من رؤية الهدهد ، كأنه قال : مالي لا أراه؟ هل ذلك لساتر يستره عني ، أو لشيء آخر؟ ثم ظهر له أنه غائب ، فقال : { أم كان من الغائبين } و « أم » هي المنقطعة التي بمعنى الإضراب قرأ ابن كثير وابن محيصن وهشام وأيوب « مالي » بفتح الياء ، وكذلك قرؤوا في يس : { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي } [ ياس : 22 ] بفتح الياء ، وقرأ بإسكانها في الموضعين حمزة والكسائي ، ويعقوب ، وقرأ الباقون بفتح التي في يس وإسكان التي هنا . قال أبو عمرو : لأن هذه التي هنا استفهام ، والتي في يس نفي ، واختار أبو حاتم وأبو عبيد الإسكان . { لأعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ } .
اختلفوا في هذا العذاب الشديد ما هو؟ فقال مجاهد وابن جريج : هو أن ينتف ريشه جميعاً . وقال يزيد بن رومان : هو أن ينتف ريش جناحيه . وقيل : هو أن يحبسه مع أضداده ، وقيل : أن يمنعه من خدمته ، وفي هذا دليل على أن العقوبة على قدر الذنب لا على قدر الجسد . وقوله : { عَذَاباً } اسم مصدر على حذف الزوائد كقوله : { أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] . { أَوْ لَيَأْتِيَنّى بسلطان مُّبِينٍ } قرأ ابن كثير وحده بنون التأكيد المشدّدة بعدها نون الوقاية ، وقرأ الباقون بنون مشدّدة فقط ، وهي نون التوكيد ، وقرأ عيسى بن عمر بنون مشدّدة مفتوحة غير موصولة بالياء ، والسلطان المبين هو : الحجة البينة في غيبته .
{ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ } أي الهدهد مكث زماناً غير بعيد . قرأ الجمهور « مكث » بضم الكاف ، وقرأ عاصم وحده بفتحها ، ومعناه في القراءتين : أقام زماناً غير بعيد . قال سيبويه : مكث يمكث مكوثاً كقعد يقعد قعوداً . وقيل : إن الضمير في مكث لسليمان . والمعنى : بقي سليمان بعد التفقد والتوعد زماناً غير طويل ، والأوّل أولى { فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } أي علمت ما لم تعلمه من الأمر ، والإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته ، ولعلّ في الكلام حذفاً ، والتقدير : فمكث الهدهد غير بعيد ، فجاء ، فعوتب على مغيبه ، فقال معتذراً عن ذلك : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } . قال الفراء : ويجوز إدغام التاء في الطاء ، فيقال : أحطّ ، وإدغام الطاء في التاء ، فيقال : أحتّ { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } قرأ الجمهور من سبأ بالصرف على أنه اسم رجل ، نسب إليه قوم ، ومنه قول الشاعر :
الواردون وتيم في ذرى سبأ ... قد غضّ أعناقهم جلد الجواميس
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بفتح الهمزة ، وترك الصرف على أنه اسم مدينة ، وأنكر الزجاج أن يكون اسم رجل ، وقال : سبأ اسم مدينة تعرف بمأرب اليمن بينها وبين صنعاء ثلاثة أيام . وقيل : هو اسم امرأة سميت بها المدينة . قال القرطبي : والصحيح أنه اسم رجل كما في كتاب الترمذي من حديث فروة ابن مسيك المرادي . قال ابن عطية : وخفي هذا على الزجاج ، فخبط خبط عشواء . وزعم الفراء : أن الرؤاسي سأل أبا عمرو بن العلاء عن سبأ ، فقال : ما أدري ما هو؟ قال النحاس : وأبو عمرو أجلّ من أن يقول هذا ، قال : والقول في سبأ ما جاء التوقيف فيه أنه في الأصل اسم رجل ، فإن صرفته ، فلأنه قد صار اسماً للحيّ ، وإن لم تصرفه جعلته اسماً للقبيلة مثل ثمود ، إلاّ أن الاختيار عند سيبويه الصرف . انتهى . وأقول : لا شك أن سبأ اسم لمدينة باليمن كانت فيها بلقيس ، وهو أيضاً اسم رجل من قحطان ، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود ، ولكن المراد هنا أن الهدهد جاء إلى سليمان بخبر ما عاينه في مدينة سبأ مما وصفه ، وسيأتي في آخر هذا البحث من المأثور ما يوضح هذا ، ويؤيده ، ومعنى الآية : أن الهدهد جاء سليمان من هذه المدينة بخبر يقين ، والنبأ هو : الخبر الخطير الشأن .
فلما قال الهدهد لسليمان ما قال ، قال له سليمان : وما ذاك؟ فقال : { إِنّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ } ، وهي بلقيس بنت شرحبيل ، وجدها الهدهد تملك أهل سبأ ، والجملة هذه كالبيان ، والتفسير للجملة التي قبلها أي ذلك النبأ اليقين هو كون هذه المرأة تملك هؤلاء { وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَيْء } فيه مبالغة ، والمراد : أنها أوتيت من كلّ شيء من الأشياء التي تحتاجها .
وقيل : المعنى : أوتيت من كلّ شيء في زمانها شيئاً ، فحذف شيئاً؛ لأن الكلام قد دلّ عليه { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } أي سرير عظيم ، ووصفه بالعظم؛ لأنه - كما قيل - كان من ذهب طوله ثمانون ذراعاً ، وعرضه أربعون ذراعاً ، وارتفاعه في السماء ثلاثون ذراعاً مكلل بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر . وقيل : المراد بالعرش هنا : الملك ، والأوّل أولى لقوله : { أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا } قال ابن عطية : واللازم من الآية أنها امرأة ، ملكة على مدائن اليمن ذات ملك عظيم وسرير عظيم ، وكانت كافرة من قوم كفار { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله } أي يعبدونها متجاوزين عبادة الله سبحانه ، قيل : كانوا مجوساً ، وقيل : زنادقة { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم } التي يعملونها ، وهي عبادة الشمس ، وسائر أعمال الكفر { فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل } أي صدّهم الشيطان بسبب ذلك التزيين عن الطريق الواضح ، وهو الإيمان بالله وتوحيده { فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ } إلى ذلك .
{ أَلاَّ يَسْجُدُواْ } قرأ الجمهور بتشديد { ألا } . قال ابن الأنباري : الوقف على فهم لا يهتدون غير تامّ عند من شدّد ألا ، لأن المعنى : وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا . قال النحاس : هي أن دخلت عليها لا ، وهي في موضع نصب . قال الأخفش : أي زين لهم أن لا يسجدوا لله بمعنى : لئلا يسجدوا لله . وقال الكسائي : هي في موضع نصب بصدّهم أي فصدّهم ألا يسجدوا بمعنى لئلا يسجدوا ، فهو على الوجهين مفعول له . وقال اليزيدي : إنه بدل من أعمالهم في موضع نصب . وقال أبو عمرو : في موضع خفض على البدل من السبيل . وقيل : العامل فيها { لا يهتدون } أي فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله ، وتكون لا على هذا زائدة كقوله : { وَمَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] . وعلى قراءة الجمهور ليس هذه الآية موضع سجدة؛ لأن ذلك إخبار عنهم بترك السجود : إما بالتزيين أو بالصدّ ، أو بمنع الاهتداء ، وقد رجح كونه علة للصدّ الزجاج ، ورجح الفراء كونه علة لزين ، قال : زين لهم أعمالهم لئلا يسجدوا ، ثم حذفت اللام . وقرأ الزهري والكسائي بتخفيف " ألا " قال الكسائي : ما كنت أسمع الأشياخ يقرؤونها إلاّ بالتخفيف على نية الأمر ، فتكون «ألاّ» على هذه القراءة حرف تنبيه واستفتاح ، وما بعدها حرف نداء ، واسجدوا فعل أمر ، وكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون هكذا ألا يا اسجدوا ، ولكن الصحابة رضي الله عنهم أسقطوا الألف من يا وهمزة الوصل من اسجدوا خطأ ووصلوا الياء بسين اسجدوا ، فصارت صورة الخط ألاّ يسجدوا ، والمنادى محذوف ، وتقديره : ألاّ يا هؤلاء اسجدوا . وقد حذفت العرب المنادى كثيراً في كلامها ، ومنه قول الشاعر :
ألاّ يا اسلمي يا دار ميّ على البلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
وقول الآخر :
ألاّ يا اسلمى ثم اسلمي ثمت اسلمى ... ثلاث تحيات وإن لم تكلم
وقول الآخر أيضاً :
ألاّ يا اسلمي يا هند هند بني بكر ... وهو كثير في أشعارهم . قال الزجاج : وقراءة التخفيف تقتضي وجوب السجود دون قراءة التشديد ، واختار أبو حاتم وأبو عبيد قراءة التشديد . قال الزجاج : ولقراءة التخفيف وجه حسن إلاّ أن فيها انقطاع الخبر عن أمر سبأ ثم الرجوع بعد ذلك إلى ذكرهم . والقراءة بالتشديد خبر يتبع بعضه بعضاً لا انقطاع في وسطه ، وكذا قال النحاس ، وعلى هذه القراءة تكون جملة { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } معترضة من كلام الهدهد ، أو من كلام سليمان ، أو من كلام الله سبحانه . وفي قراءة عبد الله بن مسعود : " هل لا تسجدوا " بالفوقية ، وفي قراءة أبيّ : { أَلا تَسْجُدُواْ } بالفوقية أيضاً { الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السموات والأرض } أي يظهر ما هو مخبوء ومخفيّ فيهما ، يقال : خبأت الشيء أخبؤه خبأ والخبء ما خبأته . قال الزجاج : جاء في التفسير أن الخبء هاهنا بمعنى : القطر من السماء والنبات من الأرض . وقيل : خبء الأرض : كنوزها ونباتها . وقال قتادة : الخبء : السرّ . قال النحاس : أي : ما غاب في السماوات والأرض . وقرأ أبيّ وعيسى بن عمر : " الخب " بفتح الباء من غير همز تخفيفاً ، وقرأ عبد الله وعكرمة ومالك بن دينار : " الخبا " بالألف . قال أبو حاتم : وهذا لا يجوز في العربية . وردّ عليه بأن سيبويه حكى عن العرب : أن الألف تبدل من الهمزة إذا كان قبلها ساكن . وفي قراءة عبد الله : «يخرج الخب من السموات والأرض» . قال الفراء : ومن وفى يتعاقبان ، والموصول يجوز أن يكون في محل جرّ نعتاً لله سبحانه ، أو بدلاً منه ، أو بياناً له ، ويجوز أن يكون في محل نصب على المدح ، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف . وجملة : { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } معطوفة على يخرج ، قرأ الجمهور بالتحتية في الفعلين ، وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وحفص والكسائي بالفوقية للخطاب ، أما القراءة الأولى فلكون الضمائر المتقدّمة ضمائر غيبة ، وأما القراءة الثانية : فلكون قراءة الزهري والكسائي فيها الأمر بالسجود والخطاب لهم بذلك ، فهذا عندهم من تمام ذلك الخطاب . والمعنى : أن الله سبحانه يخرج ما في هذا العالم الإنساني من الخفاء بعلمه له كما يخرج ما خفي في السماوات والأرض .
ثم بعد ما وصف الربّ سبحانه بما تقدّم مما يدلّ على عظيم قدرته وجليل سلطانه ووجوب توحيده ، وتخصيصه بالعبادة قال : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم } قرأ الجمهور { العظيم } : بالجرّ نعتاً للعرش ، وقرأ ابن محيصن بالرفع نعتاً للربّ ، وخصّ العرش بالذكر؛ لأنه أعظم المخلوقات كما ثبت ذلك في المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن عبد العزيز؛ أنه كتب : إن الله لم ينعم على عبد نعمة ، فحمد الله عليها إلاّ كان حمده أفضل من نعمته لو كنت لا تعرف ذلك إلاّ في كتاب الله المنزل .
قال الله عزّ وجلّ : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودَ وسليمان عِلْماً وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ المؤمنين } وأي نعمة أفضل مما أعطى داود وسليمان؟ أقول : ليس في الآية ما يدلّ على ما فهمه رحمه الله ، والذي تدلّ عليه أنهما حمدا الله سبحانه على ما فضلهما به من النعم ، فمن أين تدلّ على أن حمده أفضل من نعمته؟ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَوَرِثَ سليمان دَاوُود } قال : ورثه نبوّته ، وملكه وعلمه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد ، وابن أبي حاتم عن أبي الصديق الناجي قال : «خرج سليمان بن داود يستسقي بالناس ، فمرّ على نملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها إلى السماء ، وهي تقول : اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن رزقك ، فإما أن تسقينا وإما أن تهلكنا ، فقال سليمان للناس : ارجعوا ، فقد سقيتم بدعوة غيركم» . وأخرج الحاكم في المستدرك عن جعفر بن محمد قال : أعطي سليمان ملك مشارق الأرض ومغاربها ، فملك سليمان سبعمائة سنة وستة أشهر ، ملك أهل الدنيا كلهم من الجن والإنس والدواب والطير والسباع ، وأعطي كل شيء ، ومنطق كل شيء ، وفي زمانه صنعت الصنائع المعجبة ، حتى إذا أراد الله أن يقبضه إليه أوحى إليه أن يستودع علم الله وحكمته أخاه ، وولد داود كانوا أربعمائة وثمانين رجلاً أنبياء بلا رسالة . قال الذهبي : هذا باطل ، وقد رويت قصص في عظم ملك سليمان لا تطيب النفس بذكر شيء منها ، فالإمساك عن ذكرها أولى .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فَهُمْ يُوزَعُونَ } قال : يدفعون . وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { فَهُمْ يُوزَعُونَ } قال : جعل لكل صنف وزعة تردّ أولاها على أخراها لئلا تتقدّمه في السير كما تصنع الملوك . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { أَوْزِعْنِي } قال : ألهمني . وأخرج عبد بن حميد عن الحسن مثله . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس؛ أنه سئل : كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير؟ قال : إن سليمان نزل منزلاً ، فلم يدر ما بعد الماء ، وكان الهدهد يدلّ سليمان على الماء ، فأراد أن يسأله عنه ، ففقده ، قيل : كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ يلقى عليه التراب ، ويضع له الصبي الحبالة ، فيغيبها ، فيصيده؟ فقال : إذا جاء القضاء ذهب البصر . وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { لأعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً } قال : أنتف ريشه كله ، وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين ، وروى ابن أبي حاتم عن الحسن قال : كان اسم هدهد سليمان : غبر .
وأقول : من أين جاء علم هذا للحسن رحمه الله ، وهكذا ما رواه عنه ابن عساكر أن اسم النملة : حرس ، وأنها من قبيلة يقال لها : بنو الشيصان ، وأنها كانت عرجاء ، وكانت بقدر الذئب ، وهو رحمه الله أورع الناس عن نقل الكذب ، ونحن نعلم أنه لم يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء ، ونعلم أنه ليس للحسن إسناد متصل بسليمان ، أو بأحد من أصحابه ، فهذا العلم مأخوذ من أهل الكتاب ، وقد أمرنا : «أن لا نصدّقهم ، ولا نكذبهم» ، فإن ترخص مترخص بالرواية عنهم لمثل ما روى : " حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " فليس ذلك فيما يتعلق بتفسير كتاب الله سبحانه بلا شك ، بل فيما يذكر عنهم من القصص الواقعة لهم . وقد كرّرنا التنبيه على مثل هذا عند عروض ذكر التفاسير الغريبة .
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أَوْ لَيَأْتِيَنّي بسلطان مُّبِينٍ } قال : خبر الحقّ الصدق البين . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة قال : قال ابن عباس : كلّ سلطان في القرآن حجة ، وذكر هذه الآية ، ثم قال : وأيّ سلطان كان للهدهد؟ يعني : أن المراد بالسلطان : الحجة لا السلطان الذي هو الملك . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } قال : اطلعت على ما لم تطلع عليه . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { وَجِئْتُكَ مِن سَبَأٍ } قال : سبأ بأرض اليمن ، يقال لها : مأرب بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليالٍ { بِنَبَإٍ يَقِينٍ } قال : بخبر حقّ .
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عنه أيضاً : { إِنّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ } قال : كان اسمها بلقيس بنت ذي شيرة ، وكانت صلباء شعراء . وروى عن الحسن وقتادة وزهير بن محمد أنها بلقيس بنت شراحيل ، وعن ابن جريج بنت ذي شرح . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه وابن عساكر عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إحدى أبوي بلقيس كان جنياً " وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } قال : سرير كريم من ذهب وقوائمه من جوهر ولؤلؤ حسن الصنعة غالي الثمن . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { يُخْرِجُ الخبء } قال : يعلم كلّ خبيئة في السماء والأرض .
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
جملة { قَالَ سَنَنظُرُ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر أي قال سليمان للهدهد : سننظر فيما أخبرتنا به من هذه القصة { أَصَدَقْتَ } فيما قلت { أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين } هذه الجملة الاستفهامية في محل نصب على أنها مفعول { سننظر } ، وأم هي المتصلة ، وقوله : { أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين } أبلغ من قوله : أم كذبت؛ لأن المعنى : من الذين اتصفوا بالكذب ، وصار خلقاً لهم . والنظر : هو التأمل والتصفح ، وفيه إرشاد إلى البحث عن الأخبار ، والكشف عن الحقائق ، وعدم قبول خبر المخبرين تقليداً لهم واعتماداً عليهم إذا تمكن من ذلك بوجه من الوجوه . ثم بيّن سليمان هذا النظر الذي وعد به فقال : { اذهب بّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ } أي إلى أهل سبأ . قال الزجاج : في « ألقه » خمسة أوجه : إثبات الياء في اللفظ وحذفها ، وإثبات الكسرة للدلالة عليها ، وبضم الهاء وإثبات الواو ، وبحذف الواو وإثبات الضمة للدلالة عليها ، وبإسكان الهاء . وقرأ بهذه اللغة الخامسة أبو عمرو وحمزة وأبو بكر . وقرأ قالون بكسر الهاء فقط من غير ياء . وروي عن هشام وجهان : إثبات الياء لفظاً ، وحذفها مع كسر الهاء . وقرأ الباقون بإثبات الياء في اللفظ . وقوله { بّكِتَابِي هذا } يحتمل أن يكون اسم الإشارة صفة للكتاب ، وأن يكون بدلاً منه ، وأن يكون بياناً له ، وخصّ الهدهد بإرساله بالكتاب؛ لأنه المخبر بالقصة ، ولكونه رأى منه من مخايل الفهم والعلم ما يقتضي كونه أهلاً للرسالة { ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } أي تنحّ عنهم ، أمره بذلك لكون التنحي بعد دفع الكتاب من أحسن الآداب التي يتأدب بها رسول الملوك ، والمراد : التنحي إلى مكان يسمع فيه حديثهم حتى يخبر سليمان بما سمع ، وقيل : معنى التولي : الرجوع إليه ، والأوّل أولى لقوله : { فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ } أي تأمل وتفكر فيما يرجع بعضهم إلى بعض من القول وما يتراجعونه بينهم من الكلام .
{ قَالَتْ } أي : بلقيس { ياأيها الملأ إِنّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } في الكلام حذف ، والتقدير : فذهب الهدهد ، فألقاه إليهم ، فسمعها تقول : يا أيها الملأ إلخ ، ووصفت الكتاب بالكريم لكونه من عند عظيم في نفسها ، فعظمته إجلالاً لسليمان ، وقيل : وصفته بذلك لاشتماله على كلام حسن ، وقيل : وصفته بذلك لكونه وصل إليها مختوماً بخاتم سليمان ، وكرامة الكتاب ختمه كما روي ذلك مرفوعاً .
ثم بينت ما تضمنه هذا الكتاب ، فقالت : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } أي : وإن ما اشتمل عليه من الكلام ، وتضمنه من القول مفتتح بالتسمية ، وبعد التسمية { أَن لا تَعْلُواْ عَلَيَّ } أي لا تتكبروا كما يفعله جبابرة الملوك ، و « أن » هي المفسرة ، وقيل : مصدرية ، ولا ناهية ، وقيل : نافية ، ومحل الجملة الرفع على أنها بدل من كتاب ، أو خبر مبتدأ محذوف أي هو أن لا تعلوا .
قرأ الجمهور : { إنه من سليمان وإنه } بكسرهما على الاستئناف ، وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة بفتحهما على إسقاط حرف الجرّ ، وقرأ أبيّ : " إن من سليمان وإن بسم الله " بحذف الضميرين ، وإسكان النونين على أنهما مفسرتان ، وقرأ عبد الله بن مسعود : " وإنه من سليمان " بزيادة الواو ، وروي ذلك أيضاً عن أبيّ ، وقرأ أشهب العقيلي وابن السميفع : " أن لا تغلوا " بالغين المعجمة من الغلوّ ، وهو تجاوز الحدّ في الكبر { وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } أي منقادين للدين مؤمنين بما جئت به .
{ قَالَتْ ياأيها الملأ أَفْتُونِي فِى أَمْرِي } الملأ : أشراف القوم ، والمعنى : يا أيها الأشراف أشيروا علي ، وبيّنوا لي الصواب في هذا الأمر ، وأجيبوني بما يقتضيه الحزم ، وعبرت عن المشورة بالفتوى لكون في ذلك حلّ لما أشكل من الأمر عليها ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : فلما قرأت بلقيس الكتاب جمعت أشراف قومها ، وقالت لهم : يا أيها الملأ إني ألقي إليّ ، يا أيها الملأ أفتوني ، وكرّر «قالت» لمزيد العناية بما قالته لهم ، ثم زادت في التأدب ، واستجلاب خواطرهم ، ليمحضوها النصح ، ويشيروا عليها بالصواب ، فقالت : { مَا كُنتُ قاطعة أَمْراً حتى تَشْهَدُونِ } أي ما كنت مبرمة أمراً من الأمور حتى تحضروا عندي ، وتشيروا عليّ . فقولوا مجيبين لها { نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ } في العدد والعدّة { وَأُوْلُواْ بَأْسٍ شَدِيدٍ } عند الحرب ، واللقاء لنا من الشجاعة والنجدة ما نمنع به أنفسنا وبلدنا ومملكتنا . ثم فوّضوا الأمر إليها لعلمهم بصحة رأيها ، وقوّة عقلها فقالوا : { والأمر إِلَيْكِ } أي موكول إلى رأيك ونظرك { فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ } أي تأملي ماذا تأمرينا به فنحن سامعون لأمرك مطيعون له فلما سمعت تفويضهم الأمر إليها { قَالَتْ إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا } أي إذا دخلوا قرية من القرى خرّبوا مبانيها ، وغيروا معانيها ، وأتلفوا أموالها ، وفرّقوا شمل أهلها { وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً } أي أهانوا أشرافها ، وحطوا مراتبهم ، فصاروا عند ذلك أذلة ، وإنما يفعلون ذلك لأجل أن يتمّ لهم الملك ، وتستحكم لهم الوطأة ، وتتقرّر لهم في قلوبهم المهابة . قال الزجاج : أي إذا دخلوها عنوة عن قتال وغلبة ، والمقصود من قولها هذا تحذير قومها من مسير سليمان إليهم ، ودخوله بلادهم ، وقد صدقها الله سبحانه فيما قالت ، فقال سبحانه : { وكذلك يَفْعَلُونَ } أي مثل ذلك الفعل يفعلون . قال ابن الأنباري : الوقف على قوله : { وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً } وقف تام ، فقال الله عزّ وجلّ تحقيقاً لقولها { وكذلك يَفْعَلُونَ } ، وقيل : هذه الجملة من تمام كلامها ، فتكون من جملة مقول قولها ، وعلى القول الأوّل تكون هذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب .
ثم لما قدّمت لهم هذه المقدّمة ، وبيّنت لهم ما في دخول الملوك إلى أرضهم من المفسدة ، أوضحت لهم وجه الرأي عندها ، وصرحت لهم بصوابه ، فقالت : { وَإِنّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ } أي إني أجرّب هذا الرجل بإرسال رسلي إليه بهدية مشتملة على نفائس الأموال ، فإن كان ملكاً أرضيناه بذلك وكفينا أمره ، وإن كان نبياً لم يرضه ذلك ، لأن غاية مطلبه ومنتهى أربه هو الدعاء إلى الدين ، فلا ينجينا منه إلاّ إجابته ومتابعته والتدين بدينه وسلوك طريقته؛ ولهذا قالت : { فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون } الفاء للعطف على مرسلة ، و { بم } متعلق ب { يرجع } ، والمعنى : إني ناظرة فيما يرجع به رسلي المرسلون بالهدية من قبول أو ردّ فعاملة بما يقتضيه ذلك ، وقد طوّل المفسرون في ذكر هذه الهدية ، وسيأتي في آخر البحث بيان ما هو أقرب ما قيل إلى الصواب والصحة .
{ فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ } أي فلما جاء رسولها المرسل بالهدية سليمان ، والمراد بهذا المضمر : الجنس ، فلا ينافي كونهم جماعة كما يدل عليه قولها : { بم يرجع المرسلون } وقرأ عبد الله « فلما جاؤوا سليمان » أي الرسل ، وجملة { قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، والاستفهام للاستنكار أي قال منكراً لإمدادهم له بالمال مع علوّ سلطانه وكثرة ماله . وقرأ حمزة بإدغام نون الإعراب في نون الوقاية ، والباقون بنونين من غير إدغام ، وأما الياء ، فإن نافعاً وأبا عمرو وحمزة يثبتونها وصلاً ويحذفونها وقفاً ، وابن كثير يثبتها في الحالين ، والباقون يحذفونها في الحالين . وروي عن نافع أنه يقرأ بنون واحدة { فَمَا ءاتاني الله خَيْرٌ مّمَّا ءاتاكم } أي ما آتاني من النبوّة والملك العظيم والأموال الكثيرة خير مما آتاكم من المال الذي هذه الهدية من جملته . قرأ أبو عمرو ونافع وحفص { آتاني الله } بياء مفتوحة وقرأ يعقوب بإثباتها في الوقف وحذفها في الوصل ، وقرأ الباقون بغير ياء في الوصل والوقف . ثم إنه أضرب عن الإنكار المتقدّم ، فقال : { بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } توبيخاً لهم بفرحهم بهذه الهدية فرح فخر وخيلاء ، وأما أنا فلا أفرح بها ، وليست الدنيا من حاجتي ، لأن الله سبحانه قد أعطاني منها ما لم يعطه أحداً من العالمين ، ومع ذلك أكرمني بالنبوّة . والمراد بهذا الإضراب من سليمان بيان السبب الحامل لهم على الهدية مع الإزراء بهم ، والحط عليهم .
{ ارجع إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا } أي قال سليمان للرسول : ارجع إليهم أي إلى بلقيس وقومها ، خاطب المفرد ها هنا بعد خطابه للجماعة فيما قبل ، إما لأن الذي سيرجع هو الرسول فقط ، أو خص أمير الرسل بالخطاب هنا وخاطبهم معه فيما سبق افتناناً في الكلام . وقرأ عبد الله بن عباس : « ارجعوا » ، وقيل : إن الضمير يرجع إلى الهدهد ، واللام في « لنأتيهم » جواب قسم محذوف .
قال النحاس : وسمعت ابن كيسان يقول : هي لام توكيد ولام أمر ولام خفض ، وهذا قول الحذاق من النحويين؛ لأنهم يردّون الشيء إلى أصله ، وهذا لا يتهيأ إلاّ لمن درب في العربية ، ومعنى { لاَّ قِبَلَ لَهُمْ } : لا طاقة لهم بها ، والجملة في محل جرّ صفة لجنود { وَلَنُخْرِجَنَّهُم } معطوف على جواب القسم ، أي لنخرجنهم من أرضهم التي هم فيها { أَذِلَّةٍ } أي حال كونهم أذلة بعد ما كانوا أعزّة ، وجملة : { وَهُمْ صاغرون } في محل نصب على الحال ، قيل : وهي حال مؤكدة؛ لأن الصغار هو الذلة ، وقيل : إن المراد بالصغار هنا : الأسر ، والاستعباد ، وقيل : إن الصغار الإهانة التي تسبب عنها الذلة .
ولما رجع الرسول إلى بلقيس تجهزت للمسير إلى سليمان ، وأخبر جبريل سليمان بذلك ، فقال سليمان : { ياأَيُّهَا الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا } أي عرش بلقيس الذي تقدّم وصفه بالعظم { قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } أي قبل أن تأتيني هي وقومها مسلمين . قيل : إنما أراد سليمان أخذ عرشها قبل أن يصلوا إليه ويسلموا؛ لأنها إذا أسلمت وأسلم قومها لم يحلّ أخذ أموالهم بغير رضاهم . قال ابن عطية : وظاهر الروايات أن هذه المقالة من سليمان هي بعد مجيء هديتها وردّه إياها وبعثه الهدهد بالكتاب ، وعلى هذا جمهور المتأوّلين . وقيل : استدعاء العرش قبل وصولها؛ ليريها القدرة التي هي من عند الله ويجعله دليلاً على نبوّته ، وقيل : أراد أن يختبر عقلها ، ولهذا قَال : { نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا } . . . . إلخ ، وقيل : أراد أن يختبر صدق الهدهد في وصفه للعرش بالعظم ، والقول الأوّل هو الذي عليه الأكثر .
{ قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الجن أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ } قرأ الجمهور بكسر العين وسكون الفاء وكسر الراء وسكون المثناة التحتية وبالتاء ، وقرأ أبو رجاء وعيسى الثقفي وابن السميفع ، وأبو السمال : « عفريه » بفتح التحتية بعدها تاء تأنيث منقلبة هاء رويت هذه القراءة عن أبي بكر الصديق . وقرأ أبو حيان بفتح العين . والعفريت : المارد الغليظ الشديد . قال النحاس : يقال للشديد إذا كان معه خبث ودهاء : عفر وعفريه وعفريت . وقال قتادة : هو الداهية ، وقيل : هو رئيس الجنّ . قال ابن عطية : وقرأت فرقة : « عفر » بكسر العين جمعه على عفار ، ومما ورد من أشعار العرب مطابقاً لقراءة الجمهور ما أنشده الكسائي :
فقال شيطان لهم عفريت ... ما لكم مكث ولا تبييت
ومما ورد على القراءة الثانية قول ذي الرمة :
كأنه كوكب في إثر عفرية ... مصوّب في سواد الليل منقضب
ومعنى قول العفريت : أنه سيأتي بالعرش إلى سليمان قبل أن يقوم من مجلسه الذي يجلس فيه للحكومة بين الناس { وَإِنّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ } إني لقويّ على حمله أمين على ما فيه .
قيل : اسم هذا العفريت : كودن ذكره النحاس عن وهب بن منبه ، وقال السهيلي : ذكوان . وقيل : اسمه دعوان . وقيل : صخر . وقوله : { ءَاتِيكَ } فعل مضارع ، وأصله ءَأتيك بهمزتين ، فأبدلت الثانية ألفاً . وقيل : هو اسم فاعل .
{ قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } قال أكثر المفسرين : اسم هذا الذي عنده علم من الكتاب آصف بن برخيا ، وهو من بني إسرائيل ، وكان وزيراً لسليمان ، وكان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى . قال ابن عطية ، وقالت فرقة : هو سليمان نفسه ، ويكون الخطاب على هذا للعفريت : كأن سليمان استبطأ ما قاله العفريت ، فقال له تحقيراً له : { أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } ، وقيل : هو جبريل ، وقيل : الخضر . والأوّل أولى . وقد قيل : غير ذلك بما لا أصل له . والمراد بالطرف : تحريك الأجفان ، وفتحها للنظر وارتداده انضمامها . وقيل : هو بمعنى المطروف ، أي الشيء الذي ينظره ، وقيل : هو نفس الجفن عبر به عن سرعة الأمر كما تقول لصاحبك : افعل ذلك في لحظة . قاله مجاهد . وقال سعيد بن جبير : إنه قال لسليمان : انظر إلى السماء فما طرف حتى جاء به ، فوضعه بين يديه ، والمعنى : حتى يعود إليك طرفك بعد مدّه إلى السماء ، والأول أولى هذه الأقوال . ثم الثالث { فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } قيل : في الآية حذف ، والتقدير : فأذن له سليمان ، فدعا الله ، فأتى به ، فلما رآه سليمان مستقرًّا عنده أي رأى العرش حاضراً لديه { هذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلونيا أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } الإشارة بقوله : { هذا } إلى حضور العرش ، { ليبلوني } أي ليختبرني أشكره بذلك ، وأعترف أنه من فضله من غير حول مني ولا قوّة ، أم أكفر بترك الشكر وعدم القيام به . قال الأخفش : المعنى : لينظر أأشكر أم أكفر ، وقال غيره : معنى { لِيَبْلُوَنِي } : ليتعبدني ، وهو مجاز ، والأصل في الابتلاء الاختبار . { وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } ؛ لأنه استحق بالشكر تمام النعمة ودوامها ، والمعنى : أنه لا يرجع نفع ذلك إلاّ إلى الشاكر { وَمَن كَفَرَ } بترك الشكر { فَإِنَّ رَبّي غَنِيٌّ } عن شكره { كَرِيمٌ } في ترك المعاجلة بالعقوبة بنزع نعمه عنه ، وسلبه ما أعطاه منها ، و " أم " في { أَمْ أَكْفُرُ } هي متصلة .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { اذهب بّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } يقول : كن قريباً منهم { فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ } فانطلق بالكتاب حتى إذا توسط عرشها ألقى الكتاب إليها ، فقرىء عليها ، فإذا فيه : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } ، وأخرج ابن مردويه عنه : { كِتَابٌ كَرِيمٌ } قال : مختوم ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب : «باسمك اللهم» حتى نزلت { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } .
وأخرج أبو داود في مراسيله عن أبي مالك مرفوعاً مثله . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أَفْتُونِي فِي أَمْرِي } قال : جمعت رؤوس مملكتها فشاورتهم في رأيها ، فأجمع رأيهم ورأيها على أن يغزوه ، فسارت حتى إذا كانت قريبة قالت : أرسل إليهم بهدية ، فإن قبلها ، فهو ملك أقاتله ، وإن ردّها تابعته ، فهو نبيّ ، فلما دنت رسلها من سليمان علم خبرهم ، فأمر الشياطين ، فموّهوا ألف قصر من ذهب وفضة ، فلما رأت رسلها قصور الذهب قالوا : ما يصنع هذا بهديتنا ، وقصوره ذهب وفضة ، فلما دخلوا عليه بهديتها قال : { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } ، ثم قال سليمان : { أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } فقال كاتب سليمان : ارفع بصرك ، فرفع بصره ، فلما رجع إليه طرفه فإذا هو بسرير { قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا } فنزع منه فصوصه ، ومرافقه ، وما كان عليه من شيء ف قيل لها : { أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ } وأمر الشياطين فجعلوا لها صرحاً ممرّداً من قوارير ، وجعل فيها تماثيل السمك ، فقيل لها : { ادخلي الصرح } فكشفت عن ساقيها فإذا فيها شعر ، فعند ذلك أمر بصنعة النورة فصنعت . فقيل لها : { إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مّن قَوارِيرَ قَالَتْ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان لِلَّهِ رَبّ العالمين } . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا } قال : إذا أخذوها عنوة أخربوها . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : يقول الربّ تبارك وتعالى : { وكذلك يَفْعَلُونَ } . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { وَإِنّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ } قال : أرسلت بلبنة من ذهب ، فلما قدموا إذا حيطان المدينة من ذهب فذلك قوله : { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } الآية . وقال ثابت البناني : أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج . وقال مجاهد : جواري لباسهن لباس الغلمان ، وغلمان لباسهم لباس الجواري . وقال عكرمة : أهدت مائتي فرس على كلّ فرس غلام وجارية ، وعلى كلّ فرس لون ليس على الآخر . وقال سعيد بن جبير : كانت الهدية جواهر ، وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره .
وأخرج ابن المنذر من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } قال : طائعين . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عنه قال : اسم العفريت : صخر . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ } قال : من مجلسك . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً : { قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب } قال : هو آصف بن برخيا ، وكان صديقاً يعلم الاسم الأعظم .
وأخرج أبو عبيد ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : في قراءة ابن مسعود : « قال الذي عنده علم من الكتاب أنا أنظر في كتاب ربي ، ثم آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك » قال : فتكلم ذلك العالم بكلام دخل العرش في نفق تحت الأرض حتى خرج إليهم . وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله : { قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } قال : قال لسليمان : انظر إلى السماء ، قال : فما أطرف حتى جاءه به فوضعه بين يديه . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن عساكر ، عن ابن عباس قال : لم يجر عرش صاحبة سبأ بين الأرض والسماء ، ولكن انشقت به الأرض ، فجرى تحت الأرض حتى ظهر بين يدي سليمان .
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
قوله : { نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا } التنكير التغيير ، يقول : غيروا سريرها إلى حال تنكره إذا رأته . قيل : جعل أعلاه أسفله ، وأسفله أعلاه ، وقيل : غير بزيادة ونقصان . قال الفراء ، وغيره : إنما أمر بتنكيره؛ لأن الشياطين قالوا له : إن في عقلها شيئاً ، فأراد أن يمتحنها ، وقيل : خافت الجنّ أن يتزوّج بها سليمان ، فيولد له منها ولد فيبقون مسخرين لآل سليمان أبداً ، فقالوا لسليمان : إنها ضعيفة العقل ، ورجلها كرجل الحمار ، وقوله : { نَنظُرْ } بالجزم على أنه جواب الأمر ، وبالجزم قرأ الجمهور ، وقرأ أبو حيان بالرفع على الاستئناف { أَتَهْتَدِى } إلى معرفته ، أو إلى الإيمان بالله { أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ } إلى ذلك .
{ فَلَمَّا جَاءتْ } أي : بلقيس إلى سليمان { قِيلَ } لها ، والقائل هو سليمان ، أو غيره بأمره : { أَهَكَذَا عَرْشُكِ } لم يقل : هذا عرشك لئلا يكون ذلك تلقيناً لها فلا يتمّ الاختبار لعقلها { قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ } قال مجاهد : جعلت تعرف ، وتنكر ، وتعجب من حضوره عند سليمان ، فقالت : كأنه هو . وقال مقاتل : عرفته ، ولكنه شبهت عليهم كما شبّهوا عليها ، ولو قيل لها : أهذا عرشك لقالت : نعم . وقال عكرمة : كانت حكيمة ، قالت : إن قلت : هو هو خشيت أن أكذب ، وإن قلت : لا ، خشيت أن أكذب ، فقالت : كأنه هو ، وقيل : أراد سليمان أن يظهر لها أن الجنّ مسخرون له { وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } قيل : هو من كلام بلقيس ، أي أوتينا العلم بصحة نبوّة سليمان من قبل هذه الآية في العرش { وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } منقادين لأمره . وقيل : هو من قول سليمان أي أوتينا العلم بقدرة الله من قبل بلقيس ، وقيل : أوتينا العلم بإسلامها ، ومجيئها طائعة من قبلها أي من قبل مجيئها . وقيل : هو من كلام قوم سليمان . والقول الثاني أرجح من سائر الأقوال .
{ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله } هذا من كلام الله سبحانه بيان لما كان يمنعها من إظهار ما ادّعته من الإسلام ، ففاعل صدّ هو ما كانت تعبد أي منعها من إظهار الإيمان ما كانت تعبده ، وهي الشمس ، قال النحاس : أي صدّها عبادتها من دون الله ، وقيل : فاعل صدّ هو الله أي منعها الله ما كانت تعبد من دونه فتكون «ما» في محل نصب ، وقيل : الفاعل سليمان أي ومنعها سليمان ما كانت تعبد ، والأوّل أولى ، والجملة مستأنفة للبيان كما ذكرنا ، وجملة { إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كافرين } تعليل للجملة الأولى أي سبب تأخرها عن عبادة الله ، ومنع ما كانت تعبده عن ذلك أنها كانت من قوم متصفين بالكفر . قرأ الجمهور : { إنها } بالكسر . وقرأ أبو حيان بالفتح . وفي هذه القراءة وجهان : أحدهما : أن الجملة بدل مما كانت تعبد .
والثاني أن التقدير : لأنها كانت تعبد ، فسقط حرف التعليل .
{ قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح } . قال أبو عبيدة : الصرح : القصر . وقال الزجاج : الصرح : الصحن . يقال : هذه صرحة الدار وقاعتها . قال ابن قتيبة : الصرح : بلاط اتخذ لها من قوارير ، وجعل تحته ماء وسمك . وحكى أبو عبيد في الغريب أن الصرح كل بناء عالٍ مرتفع ، وأن الممرّد : الطويل { فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا } أي فلما رأت الصرح بين يديها حسبت أنه لجة ، واللجة : معظم الماء ، فلذلك كشفت عن ساقيها لتخوض الماء ، فلما فعلت ذلك { قَالَ } سليمان : { إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مّن قَوارِيرَ } الممرّد : المحكوك المملس ، ومنه الأمرد ، وتمرّد الرجل إذا لم تخرج لحيته ، قاله الفراء . ومنه الشجرة المرداء : التي لا ورق لها . والممرّد أيضاً : المطوّل ، ومنه قيل : للحصن ما رد ، ومنه قول الشاعر :
غدوت صباحاً باكراً فوجدتهم ... قبيل الضحى في السابري الممرّد
أي الدروع الواسعة الطويلة ، فلما سمعت بلقيس ذلك أذعنت ، واستسلمت ، و { قَالَتْ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِى } أي بما كنت عليه من عبادة غيرك ، وقيل : بالظنّ الذي توهمته في سليمان؛ لأنها توهمت أنه أراد تغريقها في اللجة ، والأوّل أولى { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان } متابعة له داخلة في دينه { للَّهِ رَبّ العالمين } التفتت من الخطاب إلى الغيبة ، قيل : لإظهار معرفتها بالله ، والأولى أنها التفتت لما في هذا الاسم الشريف من الدلالة على جميع الأسماء ، ولكونه علماً للذات . وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا } قال : زيد فيه ونقص { نَنظُرْ أَتَهْتَدِي } قال : لننظر إلى عقلها فوجدت ثابتة العقل .
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا } قال : من قول سليمان . وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد نحوه . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً } قال : بحراً . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في أثر طويل؛ أن سليمان تزوّجها بعد ذلك . قال أبو بكر بن أبي شيبة : ما أحسنه من حديث . قال ابن كثير في تفسيره بعد حكايته لقول أبي بكر بن أبي شيبة : بل هو منكر جداً ، ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس ، والله أعلم . والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب بما يوجد في صحفهم كروايات كعب ووهب سامحهما الله فيما نقلا إلى هذه الأمة من بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان ومما لم يكن ومما حرّف وبدّل ونسخ . انتهى . وكلامه هذا هو شعبة مما قد كررناه في هذا التفسير ، ونبهنا عليه في عدّة مواضع ، وكنت أظنّ أنه لم ينبّه على ذلك غيري . فالحمد لله على الموافقة لمثل هذا الحافظ المنصف .
وأخرج البخاري في تاريخه ، والعقيلي عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أوّل من صنعت له الحمامات سليمان » وروي عنه مرفوعاً من طريق أخرى رواها الطبراني ، وابن عديّ في الكامل ، والبيهقي في الشعب بلفظ : « أوّل من دخل الحمام سليمان فلما وجد حرّه قال : أوّه من عذاب الله » .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
قوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَا } معطوف على قوله : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودُ } واللام هي الموطئة للقسم ، وهذه القصة من جملة بيان قوله : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } و { صالحا } عطف بيان ، و { أَنِ اعبدوا الله } تفسير للرسالة ، وأن هي المفسرة ، ويجوز أن تكون مصدرية أي بأن اعبدوا الله ، و « إذا » في { فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ } هي الفجائية أي ففاجئوا التفرق ، والاختصام ، والمراد ب { الفريقان } : المؤمنون منهم والكافرون . ومعنى الاختصام : أن كلّ فريق يخاصم على ما هو فيه ، ويزعم أن الحقّ معه ، وقيل : إن الخصومة بينهم في صالح هل هو مرسل أم لا؟ وقيل : أحد الفريقين صالح ، والفريق الآخر جميع قومه ، وهو ضعيف .
{ قَالَ ياقوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة } أي قال صالح للفريق الكافر منهم منكراً عليهم : لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة؟ قال مجاهد : بالعذاب قبل الرحمة . والمعنى : لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب وتقدّمون الكفر الذي يجلب إليكم العقوبة؟ وقد كانوا لفرط كفرهم يقولون : ائتنا يا صالح بالعذاب { لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله } هلا تستغفرون الله وتتوبون إليه من الشرك { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } رجاء أن ترحموا أو كي ترحموا فلا تعذبوا ، فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشرّ ، ووصف العذاب بأنه سيئة مجازاً ، إما لأن العقاب من لوازمه ، أو لأنه يشبهه في كونه مكروهاً ، فكان جوابهم عليه بعد هذا الإرشاد الصحيح ، والكلام اللين أنهم { قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ } أصله تطيرنا ، وقد قرىء بذلك ، والتطير : التشاؤم أي تشاءمنا منك وبمن معك ممن أجابك ودخل في دينك ، وذلك لأنه أصابهم قحط فتشاءموا بصالح ، وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة وأشقاهم بها ، وكانوا إذا أرادوا سفراً أو أمراً من الأمور نفروا طائراً من وكره فإن طار يمنة ساروا ، وفعلوا ما عزموا عليه ، وإن طار يسرة تركوا ذلك فلما قالوا ذلك قَال لهم صالح : { طَائِرُكُمْ عِندَ الله } أي ليس ذلك بسبب الطير الذي تتشاءمون به ، بل سبب ذلك عند الله ، وهو ما يقدّره عليكم ، والمعنى : أن الشؤم الذي أصابكم هو من عند الله بسبب كفركم ، وهذا كقوله تعالى : { يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله } [ الأعراف : 131 ] . ثم أوضح لهم سبب ما هم فيه بأوضح بيان ، فقال : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } أي تمتحنون ، وتختبرون وقيل : تعذبون بذنوبكم ، وقيل : يفتنكم غيركم ، وقيل : يفتنكم الشيطان بما تقعون فيه من الطيرة ، أو بما لأجله تطيرون ، فأضرب عن ذكر الطائر إلى ما هو السبب الداعي إليه .
{ وَكَانَ فِي المدينة } التي فيها صالح ، وهو الحجر { تِسْعَةُ رَهْطٍ } أي تسعة رجال من أبناء الأشراف ، والرهط : اسم للجماعة ، فكأنهم كانوا رؤساء يتبع كلّ واحد منهم جماعة ، والجمع أرهط وأراهط ، وهؤلاء التسعة هم أصحاب قدار عاقر الناقة ، ثم وصف هؤلاء بقوله : { يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ } أي شأنهم وعملهم الفساد في الأرض الذي لا يخالطه صلاح ، وقد اختلف في أسماء هؤلاء التسعة اختلافاً كثيراً لا حاجة إلى التطويل بذكره .
{ قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله } أي قال بعضهم لبعض : احلفوا بالله ، هذا على أن { تقاسموا } فعل أمر ، ويجوز أن يكون فعلاً ماضياً مفسراً لقالوا ، كأنه قيل : ما قالوا؟ فقال : تقاسموا ، أو يكون حالاً على إضمار قد أي قالوا ذلك متقاسمين ، وقرأ ابن مسعود : « يفسدون في الأرض ولا يصلحون تقاسموا بالله » وليس فيها قالوا ، واللام في { لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } جواب القسم أي لنأتينه بغتة في وقت البيات ، فنقتله وأهله { ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ } قرأ الجمهور بالنون للمتكلم في { لنبيتنه } ، وفي { لنقولن } ، واختار هذه القراءة أبو حاتم . وقرأ حمزة والكسائي بالفوقية فيهما على خطاب بعضهم لبعضهم ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وقرأ مجاهد وحميد بالتحتية فيهما ، والمراد بوليّ صالح : رهطه { مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ } أي ما حضرنا قتلهم ، ولا ندري من قتله ، وقتل أهله ، ونفيهم لشهودهم لمكان الهلاك يدلّ على نفي شهودهم لنفس القتل بالأولى ، وقيل : إن المهلك بمعنى الإهلاك ، وقرأ حفص والسلمي مهلك بفتح الميم واللام ، وقرأ أبو بكر ، والمفضل بفتح الميم ، وكسرها { وِإِنَّا لصادقون } فيما قلناه . قال الزجاج : وكان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيتوا صالحاً وأهله ، ثم ينكروا عند أوليائه أنهم ما فعلوا ذلك ، ولا رأوه ، وكان هذا مكراً منهم ، ولهذا قال الله سبحانه : { وَمَكَرُواْ مَكْراً } أي بهذه المحالفة { وَمَكَرْنَا مَكْراً } جازيناهم بفعلهم فأهلكناهم { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } بمكر الله بهم .
{ فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة مَكْرِهِمْ } أي انظر ما انتهى إليه أمرهم الذي بنوه على المكر ، وما أصابهم بسببه { أَنَّا دمرناهم وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ } قرأ الجمهور بكسر همزة أنا ، وقرأ حمزة والكسائي والأعمش والحسن وابن أبي إسحاق وعاصم بفتحها ، فمن كسر جعله استئنافاً . قال الفراء ، والزجاج : من كسر استأنف ، وهو يفسر به ما كان قبله . كأنه جعله تابعاً للعاقبة ، كأنه قال : العاقبة إنا دمرناهم ، وعلى قراءة الفتح يكون التقدير : بأنا دمرناهم أو لأنا دمرناهم ، وكان تامة وعاقبة فاعل لها ، أو يكون بدلاً من عاقبة ، أو يكون خبر مبتدأ محذوف أي هي أنا دمرناهم ، ويجوز أن تكون كان ناقصة ، وكيف خبرها ، ويجوز أن يكون خبرها أنا دمرنا . قال أبو حاتم : وفي حرف أبيّ : « أن دمرناهم » . والمعنى في الآية : أن الله دمّر التسعة الرهط المذكورين ، ودمر قومهم الذين لم يكونوا معهم عند مباشرتهم لذلك ، ومعنى التأكيد بأجمعين : أنه لم يشذ منهم أحد ولا سلم من العقوبة فرد من أفرادهم .
وجملة : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } مقرّرة لما قبلها . قرأ الجمهور : { خاوية } بالنصب على الحال . قال الزجاج : المعنى : فانظر إلى بيوتهم حال كونها خاوية ، وكذا قال الفراء ، والنحاس : أي خالية عن أهلها خراباً ليس بها ساكن . وقال الكسائي وأبو عبيدة : نصب خاوية على القطع . والأصل فتلك بيوتهم الخاوية ، فلما قطع منها الألف ، واللام نصبت كقوله : { وَلَهُ الدين وَاصِبًا } [ النحل : 52 ] . وقرأ عاصم بن عمر ونصر بن عاصم والجحدري وعيسى بن عمر برفع { خاوية } على أنه خبر اسم الإشارة ، وبيوتهم بدل ، أو عطف بيان ، أو خبر لاسم الإشارة ، وخاوية خبر آخر ، والباء في : { بِمَا ظَلَمُواْ } للسببية أي بسبب ظلمهم { إِنَّ فِي ذَلِكَ } التدمير ، والإهلاك { لآيَةً } عظيمة { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي يتصفون بالعلم بالأشياء . { وَأَنجَيْنَا الذين ءَامَنُواْ } وهم صالح ومن آمن به { وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } الله ويخافون عذابه .
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { طَائِرُكُمْ } قال : مصائبكم . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَكَانَ فِي المدينة تِسْعَةُ رَهْطٍ } قال : هم الذين عقروا الناقة ، وقالوا حين عقروها : نبيت صالحاً وأهله فنقتلهم ، ثم نقول لأولياء صالح : ما شهدنا من هذا شيئاً ، وما لنا به علم فدمرهم الله أجمعين .
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
انتصاب { لوطاً } بفعل مضمر معطوف على أرسلنا ، أي وأرسلنا لوطاً ، و { إِذْ قَالَ } ظرف للفعل المقدر ، ويجوز أن يقدر : اذكر؛ والمعنى : وأرسلنا لوطاً وقت قوله لقومه { أَتَأْتُونَ الفاحشة } أي الفعلة المتناهية في القبح والشناعة ، وهم أهل سدوم ، وجملة { وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } في محل نصب على الحال متضمنة لتأكيد الإنكار أي وأنتم تعلمون أنها فاحشة . وذلك أعظم لذنوبكم ، على أن { تبصرون } من بصر القلب ، وهو العلم ، أو بمعنى النظر ، لأنهم كانوا لا يستترون حال فعل الفاحشة عتوًّا وتمرّداً ، وقد تقدّم تفسير هذه القصة في الأعراف مستوفى . { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً } فيه تكرير للتوبيخ مع التصريح بأن تلك الفاحشة هي اللواطة ، وانتصاب { شهوة } على العلة أي للشهوة ، أو على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي : إتياناً شهوة ، أو أنه بمعنى الحال ، أي مشتهين لهم { مّن دُونِ النساء } أي متجاوزين النساء اللاتي هنّ محل لذلك { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } التحريم ، أو العقوبة على هذه المعصية ، واختار الخليل وسيبويه تخفيف الهمزة من أئنكم .
{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءَالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } قرأ الجمهور بنصب { جواب } على أنه خبر كان ، واسمها { إلاّ أن قالوا } : أي إلاّ قولهم . وقرأ ابن أبي إسحاق برفع جواب على أنه اسم كان ، وخبرها ما بعده ، ثم علّلوا ما أمروا به بعضهم بعضاً من الإخراج بقولهم : إنهم أناس يتطهرون أي يتنزهون عن أدبار الرجال! قالوا ذلك استهزاء منهم بهم . { فأنجيناه وَأَهْلَهُ } من العذاب { إِلاَّ امرأته قدرناها مِنَ الغابرين } أي قدّرنا أنها من الباقين في العذاب ، ومعنى { قدرنا } : قضينا ، قرأ الجمهور قدّرنا بالتشديد ، وقرأ عاصم بالتخفيف . والمعنى واحد مع دلالة زيادة البناء على زيادة المعنى { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا } هذا التأكيد يدل على شدّة المطر ، وأنه غير معهود { فَسَاء مَطَرُ المنذرين } المخصوص بالذم محذوف أي ساء مطر المنذرين مطرهم ، والمراد بالمنذرين : الذين أنذروا ، فلم يقبلوا ، وقد مضى بيان هذا كله في الأعراف والشعراء .
{ قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ } قال الفراء : قال أهل المعاني : قيل للوط : قل : الحمد لله على هلاكهم ، وخالفه جماعة فقالوا : إن هذا خطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم ، أي قيل : الحمد لله على هلاك كفار الأمم الخالية ، وسلام على عباده { الذين اصطفى } قال النحاس : وهذا أولى؛ لأن القرآن منزل على النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلّ ما فيه فهو مخاطب به إلاّ ما لم يصحّ معناه إلا لغيره . قيل : والمراد بعباده الذين اصطفى : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والأولى حمله على العموم ، فيدخل في ذلك الأنبياء وأتباعهم { ءَآللَّهِ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } أي آلله الذي ذكرت أفعاله وصفاته الدالة على عظيم قدرته خير أما يشركون به من الأصنام؟ وهذه الخيرية ليست بمعناها الأصلي ، بل هي كقول الشاعر :
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
فيكون ما في الآية من باب التهكم بهم ، إذ لا خير فيهم أصلاً . وقد حكى سيبويه أن العرب تقول : السعادة أحبّ إليك أم الشقاوة ، ولا خير في الشقاوة أصلاً . وقيل : المعنى : أثواب الله خير ، أم عقاب ما تشركون به؟ وقيل : قال لهم ذلك جرياً على اعتقادهم ، لأنهم كانوا يعتقدون أن في عبادة الأصنام خيراً . وقيل : المراد من هذا الاستفهام : الخبر . قرأ الجمهور : " تشركون " بالفوقية على الخطاب ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم . وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب : { يشركون } بالتحتية ، و«أم» في { أَمَّا يُشْرِكُونَ } هي المتصلة ، وأما في قوله : { أَمَّنْ خَلَقَ السموات والأرض } فهي المنقطعة . وقال أبو حاتم : تقديره ءآلهتكم خير أم من خلق السماوات والأرض وقدر على خلقهنّ؟ وقيل : المعنى : أعبادة ما تعبدون من أوثانكم خير ، أم عبادة من خلق السماوات والأرض؟ فتكون " أم " على هذا متصلة ، وفيها معنى التوبيخ ، والتهكم كما في الجملة الأولى . وقرأ الأعمش : " أمن " بتخفيف الميم { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاء } أي نوعاً من الماء ، وهو المطر { فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ } جمع حديقة . قال الفراء : الحديقة البستان الذي عليه حائط ، فإن لم يكن عليه حائط ، فهو البستان ، وليس بحديقة . وقال قتادة ، وعكرمة : الحدائق : النخل { ذَاتَ بَهْجَةٍ } أي ذات حسن ، ورونق . والبهجة : هي الحسن الذي يبتهج به من رآه ، ولم يقل : ذوات بهجة على الجمع؛ لأن المعنى : جماعة حدائق { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } أي ما صح لكم أن تفعلوا ذلك ، ومعنى هذا النفي : الحظر ، والمنع من فعل هذا أي ما كان للبشر ، ولا يتهيأ لهم ذلك ، ولا يدخل تحت مقدرتهم لعجزهم عن إخراج الشيء من العدم إلى الوجود . ثم قال سبحانه موبخاً لهم ، ومقرّعاً { أإله مَعَ الله } أي هل معبود مع الله الذي تقدّم ذكر بعض أفعاله حتى يقرن به ويجعل شريكاً له في العبادة ، وقرىء : " ءإلها مع الله " بالنصب على تقدير : أتدعون إلها . ثم أضرب عن تقريعهم وتوبيخهم بما تقدّم ، وانتقل إلى بيان سوء حالهم مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، فقال : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } أي يعدلون بالله غيره ، أو يعدلون عن الحق إلى الباطل .
ثم شرع في الاستدلال بأحوال الأرض وما عليها ، فقال : { أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً } القرار : المستقرّ أي دحاها ، وسوّاها بحيث يمكن الإستقرار عليها . وقيل : هذه الجملة وما بعدها من الجمل الثلاث بدل من قوله : { أَمَّنْ خَلَقَ السموات والأرض } ، ولا ملجىء لذلك ، بل هي وما بعدها إضراب وانتقال من التوبيخ والتقريع بما قبلها إلى التوبيخ والتقريع بشيء آخر { وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً } الخلال : الوسط .
وقد تقدّم تحقيقه في قوله : { وَفَجَّرْنَا خلالهما نَهَراً } [ الكهف : 33 ] { وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ } أي جبالاً ثوابت تمسكها ، وتمنعها من الحركة { وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً } الحاجز : المانع ، أي جعل بين البحرين من قدرته حاجزاً . والبحران هما : العذب والمالح ، فلا يختلط أحدهما بالآخر فلا هذا يغير ذاك ولا ذاك يدخل في هذا ، وقد مرّ بيانه في سورة الفرقان { أإله مَعَ الله } أي إذا ثبت أنه لا يقدر على ذلك إلاّ الله فهل إله في الوجود يصنع صنعه ، ويخلق خلقه؟ فكيف يشركون به ما لا يضرّ ولا ينفع { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } توحيد ربهم ، وسلطان قدرته .
{ أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ } هذا استدلال منه سبحانه بحاجة الإنسان إليه على العموم ، والمضطر اسم مفعول من الاضطرار وهو المكروب المجهود الذي لا حول له ولا قوة . وقيل : هو المذنب ، وقيل : هو الذي عراه ضرّ من فقر أو مرض ، فألجأه إلى التضرّع إلى الله . واللام في { المضطر } لجنس لا للاستغراق ، فقد لا يجاب دعاء بعض المضطرين لمانع يمنع من ذلك بسبب يحدثه العبد يحول بينه وبين إجابة دعائه ، وإلاّ فقد ضمن الله سبحانه إجابة دعاء المضطرّ إذا دعاه ، وأخبر بذلك عن نفسه ، والوجه في إجابة دعاء المضطرّ أن ذلك الاضطرار الحاصل له يتسبب عنه الإخلاص ، وقطع النظر عما سوى الله ، وقد أخبر الله سبحانه بأنه يجيب دعاء المخلصين له الدين ، وإن كانوا كافرين ، فقال : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الموج مِن كُلّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } [ يونس : 22 ] ، وقال : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [ العنكبوت : 65 ] فأجابهم عند ضرورتهم ، وإخلاصهم مع علمه بأنهم سيعودون إلى شركهم { وَيَكْشِفُ السوء } أي الذي يسوء العبد من غير تعيين ، وقيل : هو الضرّ ، وقيل : هو الجور { وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الأرض } أي يخلف كل قرن منكم القرن الذي قبله بعد انقراضهم ، والمعنى : يهلك قرناً وينشىء آخرين ، وقيل : يجعل أولادكم خلفاً منكم ، وقيل : يجعل المسلمين خلفاً من الكفار ينزلون أرضهم ، وديارهم { أإله مَعَ الله } الذي يوليكم هذه النعم الجسام { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } أي تذكرا قليلاً ما تذكرون . قرأ الجمهور بالفوقية على الخطاب . وقرأ أبو عمرو وهشام ويعقوب بالتحتية على الخبر ردًّا على قوله : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } واختار هذه القراءة أبو حاتم .
{ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظلمات البر والبحر } أي يرشدكم في الليالي المظلمات إذا سافرتم في البرّ أو البحر .
وقيل : المراد : مفاوز البرّ التي لا أعلام لها ، ولجج البحار ، وشبهها بالظلمات لعدم ما يهتدون به فيها { وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } والمراد بالرحمة هنا المطر أي : يرسل الرياح بين يدي المطر ، وقبل نزوله { أإله مَعَ الله } يفعل ذلك ، ويوجده { تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تنزه ، وتقدّس عن وجود ما يجعلونه شريكاً له { أَم مَّنْ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } كانوا يقرّون بأن لله سبحانه هو الخالق ، فألزمهم الإعادة أي إذا قدر على الإبتداء قدر على الإعادة { وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض } بالمطر والنبات أي هو خير أم ما تجعلونه شريكاً له مما لا يقدر على شيء من ذلك { أإله مَعَ الله } حتى تجعلونه شريكاً له { قُلْ هَاتُواْ برهانكم إِن كُنتُمْ صادقين } أي حجتكم على أن الله سبحانه شريكاً ، أو هاتوا حجتكم أن ثمّ صانعاً يصنع كصنعه ، وفي هذا تبكيت لهم ، وتهكم بهم { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السموات والأرض الغيب إِلاَّ الله } أي لا يعلم أحد من المخلوقات الكائنة في السموات والأرض الغيب الذي استأثر الله بعلمه ، والاستثناء في قوله إِلاَّ الله منقطع ، أي لكن الله يعلم ذلك ، ورفع ما بعد إلاّ مع كون الاستثناء منقطعاً هو على اللغة التميمية كما في قولهم :
إلاّ اليعافير وإلاّ العيس ... وقيل : إن فاعل { يعلم } هو ما بعد إلاّ ، و { من في السماوات } مفعوله ، و { الغيب } بدل من " من " أي لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلاّ الله ، وقيل : هو استثناء متصل من «من» . وقال الزجاج : { إلاّ الله } بدل من «من» . قال الفراء : وإنما رفع ما بعد إلاّ لأن ما بعدها خبر كقولهم : ما ذهب أحد إلاّ أبوك ، وهو كقول الزجاج . قال الزجاج : ومن نصب نصب على الاستثناء { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي لا يشعرون متى ينشرون من القبور ، وأيان مركبة من أي ، وإن . وقد تقدّم تحقيقه ، والضمير للكفرة . وقرأ السلمي : " إيان " بكسر الهمزة ، وهي لغة بني سليم ، وهي منصوبة ب " يبعثون " ، ومعلقة ل " يشعرون " ، فتكون هي وما بعدها في محل نصب بنزع الخافض ، أي وما يشعرون بوقت بعثهم ، ومعنى أَيَّانَ معنى متى .
{ بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة } . قرأ الجمهور : { ادّارك } . وأصل ادارّك : تدارك ، أدغمت التاء في الدال ، وجيء بهمزة الوصل ليمكن الابتداء بالساكن . وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمر وحميد : " بل أدرك " من الإدراك . وقرأ عطاء بن يسار وسليمان بن يسار والأعمش : " بل ادّرك " بفتح لام بل ، وتشديد الدال . وقرأ ابن محيصن : " بل أدرك " على الاستفهام .
وقرأ ابن عباس وأبو رجاء وشيبة والأعمش والأعرج : « بلى أدّارك » بإثبات الياء في بل وبهمزة قطع وتشديد الدال . وقرأ أبيّ « بل تدارك » ، ومعنى الآية : بل تكامل علمهم في الآخرة؛ لأنهم رأوا كل ما وعدوا به ، وعاينوه . وقيل : معناه : تتابع علمهم في الآخرة ، والقراءة الثانية معناها : كمل علمهم في الآخرة مع المعاينة ، وذلك حين لا ينفعهم العلم؛ لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين . وقال الزجاج : إنه على معنى الإنكار ، واستدلّ على ذلك بقوله فيما بعد : { بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ } أي لم يدرك علمهم علم الآخرة ، وقيل : المعنى : بل ضلّ ، وغاب علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم ، ومعنى القراءة الثالثة كمعنى القراءة الأولى ، فافتعل ، وتفاعل قد يجيئان لمعنى ، والقراءة الرابعة هي بمعنى الإنكار . قال الفراء : وهو وجه حسن كأنه وجهه إلى المكذبين على طريق الاستهزاء بهم ، وفي الآية قراءات أخر لا ينبغي الاشتغال بذكرها وتوجيهها . { بَلْ هُمْ فِي شَكّ مّنْهَا } أي بل هم اليوم في الدنيا في شك من الآخرة ، ثم أضرب عن ذلك إلى ما هو أشدّ منه ، فقال : { بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ } فلا يدركون شيئاً من دلائلها لاختلال بصائرهم التي يكون بها الإدراك ، وعمون جمع عم : وهو من كان أعمى القلب ، والمراد بيان جهلهم بها على وجه لا يهتدون إلى شيء مما يوصل إلى العلم بها ، فمن قال : إن معنى الآية الأولى أعني { بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة } أنه كمل علمهم ، وتمّ مع المعاينة فلا بدّ من حمل قوله : { بْل هُمْ فَي شَكّ } إلخ على ما كانوا عليه في الدنيا ، ومن قال : إن معنى الآية الأولى : الاستهزاء بهم ، والتبكيت لهم لم يحتج إلى تقييد قوله : { بْل هُمْ فَي شَكّ } إلخ بما كانوا عليه في الدنيا . وبهذا يتضح معنى هذه الآيات ، ويظهر ظهوراً بينا .
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى } . قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اصطفاهم الله لنبيه ، وروي مثله عن سفيان الثوري . والأولى ما قدمناه من التعميم فيدخل في ذلك أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم دخولاً أولياً . وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والطبراني ، عن رجل من بلهجيم قال : قلت : يا رسول الله إلى ما تدعو؟ قال : « أدعو الله وحده الذي إن مسك ضرّ فدعوته كشفه عنك » ، هذا طرف من حديث طويل . وقد رواه أحمد من وجه آخر فبين اسم الصحابي فقال : حدّثنا عفان ، حدّثنا حماد بن سلمة ، حدّثنا يونس ، حدّثنا عبيد بن عبيدة الهجيمي عن أبيه عن أبي تميمة الهجيمي عن جابر بن سليم الهجيمي .
ولهذا الحديث طرق عند أبي داود والنسائي .
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة قالت : ثلاث من تكلم بواحدة منهن ، فقد أعظم على الله الفرية وقالت في آخره : ومن زعم أنه يخبر الناس بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية ، والله تعالى يقول { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السموات والأرض الغيب إِلاَّ الله } . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة } قال : حين لا ينفع العلم . وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أنه قرأ : « بل أدرك علمهم في الآخرة » قال : لم يدرك علمهم . قال أبو عبيد : يعني : أنه قرأها بالاستفهام . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً : « بَلِ ادرك عِلْمُهُمْ فِى الآخرة » يقول : غاب علمهم .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
لما ذكر سبحانه أن المشركين في شكّ من البعث ، وأنهم عمون عن النظر في دلائله أراد أن يبين غاية شبههم ، وهي مجرّد استبعاد إحياء الأموات بعد صيرورتهم تراباً ، فقال : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً وَءَابَاؤُنَا أَءِنَّا لَمُخْرَجُونَ } . والعامل في « إذا » محذوف دلّ عليه { مخرجون } تقديره : أنبعث ، أو نخرج إذا كنا ، وإنما لم يعمل فيه مخرجون لتوسط همزة الاستفهام ، وإنّ ولام الابتداء بينهما . قرأ أبو عمرو باستفهامين إلاّ أنه خفف الهمزة . وقرأ عاصم ، وحمزة باستفهامين ، إلاّ أنهما حققا الهمزتين . وقرأ نافع بهمزة . وقرأ ابن عامر وورش ويعقوب { أإذا } بهمزتين و { إننا } بنونين على الخبر ، ورجح أبو عبيد قراءة نافع ، وردّ على من جمع بين استفهامين؛ ومعنى الآية : أنهم استنكروا واستبعدوا أن يخرجوا من قبورهم أحياء بعد أن قد صاروا تراباً ، ثم أكدوا ذلك الاستبعاد بما هو تكذيب للبعث ، فقالوا : { لَقَدْ وُعِدْنَا هذا } يعنون : البعث { نَحْنُ وَءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ } أي من قبل وعد محمد لنا ، والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير الإنكار مصدّرة بالقسم لزيادة التقرير { إِنَّ هَذَا } الوعد بالبعث { إِلاَّ أساطير الأولين } أحاديثهم وأكاذيبهم الملفقة ، وقد تقدّم تحقيق معنى الأساطير في سورة المؤمنون .
ثم أوعدهم سبحانه على عدم قبول ما جاءت به الأنبياء من الإخبار بالبعث . فأمرهم بالنظر في أحوال الأمم السابقة المكذبة للأنبياء وما عوقبوا به ، وكيف كانت عاقبتهم ، فقال : { قُلْ سِيرُواْ فِي الارض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين } بما جاءت به الأنبياء من الإخبار بالبعث ، ومعنى النظر هو : مشاهدة آثارهم بالبصر فإن في المشاهدة زيادة اعتبار . وقيل : المعنى : فانظروا بقلوبكم ، وبصائركم كيف كان عاقبة المكذبين لرسلهم ، والأوّل أولى لأمرهم بالسير في الأرض { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } لما وقع منهم من الإصرار على الكفر { وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ } الضيق : الحرج ، يقال : ضاق الشيء ضيقاً بالفتح ، وضيقاً بالكسر قرىء بهما ، وهما لغتان . قال ابن السكيت : يقال : في صدر فلان ضيق وضيق ، وهو ما تضيق عنه الصدور . وقد تقدّم تفسير هذه الآية في آخر سورة النحل { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد } أي بالعذاب الذي تعدنا به { إِن كُنتُمْ صادقين } في ذلك .
{ قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } يقال : ردفت الرجل ، وأردفته : إذا ركبت خلفه ، وردفه : إذا أتبعه ، وجاء في أثره ، والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء الكفار عسى أن يكون هذا العذاب الذي به توعدون تبعكم ، ولحقكم ، فتكون اللام زائدة للتأكيد ، أو بمعنى : اقترب لكم ، ودنا لكم ، فتكون غير زائدة . قال ابن شجرة : معنى ردف لكم : تبعكم ، قال : ومنه ردف المرأة؛ لأنه تبع لها من خلفها ، ومنه قول أبي ذؤيب :
عاد السواد بياضاً في مفارقه ... لا مرحباً ببياض الشيب إذ ردفا
قال الجوهري : وأردفه لغة في ردفه مثل تبعه وأتبعه بمعنى . قال خزيمة بن مالك بن نهد :
إذا الجوزاء أردفت الثريا ... ظننت بآل فاطمة الظنونا
قال الفراء : ردف لكم دنا لكم ، ولهذا قيل : لكم . وقرأ الأعرج : « ردف لكم » بفتح الدال ، وهي لغة ، والكسر أشهر . وقرأ ابن عباس « أزف لكم » وارتفاع { بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ } أي على أنه فاعل ردف ، والمراد : بعض الذي تستعجلونه من العذاب أي عسى أن يكون قد قرب ودنا وأزف بعض ذلك ، قيل : هو عذابهم بالقتل يوم بدر ، وقيل : هو عذاب القبر . ثم ذكر سبحانه فضله في تأخير العذاب ، فقال : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } في تأخير العقوبة ، والأولى أن تحمل الآية على العموم ، ويكون تأخير العقوبة من جملة أفضاله سبحانه وإنعامه { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } فضله وإنعامه ولا يعرفون حق إحسانه .
ثم بين أنه مطلع على ما في صدورهم ، فقال : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } أي ما تخفيه . قرأ الجمهور : { تكن } بضم التاء من أكنّ . وقرأ ابن محيصن وابن السميفع وحميد بفتح التاء وضم الكاف ، يقال : كننته بمعنى سترته وخفيت أثره { وَمَا يُعْلِنُونَ } وما يظهرون من أقوالهم وأفعالهم . { وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السماء والأرض إِلاَّ فِي كتاب مُّبِينٍ } قال المفسرون : ما من شيء غائب ، وأمر يغيب عن الخلق في السماء والأرض إلاّ في كتاب مبين إلاّ هو مبين في اللوح المحفوظ ، وغائبة هي من الصفات الغالبة والتاء للمبالغة . قال الحسن : الغائبة هنا هي : القيامة . وقال مقاتل : علم ما تستعجلون من العذاب هو مبين عند الله وإن غاب عن الخلق . وقال ابن شجرة : الغائبة هنا جميع ما أخفى الله عن خلقه ، وغيبه عنهم مبين في أمّ الكتاب ، فكيف يخفى عليه شيء من ذلك؟ ومن جملة ذلك ما يستعجلونه من العذاب فإنه موقت بوقت ، ومؤجل بأجل علمه عند الله فكيف يستعجلونه قبل أجله المضروب له؟
{ إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِي إسراءيل أَكْثَرَ الذي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } وذلك لأن أهل الكتاب تفرّقوا فرقاً ، وتحزّبوا أحزاباً يطعن بعضهم على بعض ، ويتبرأ بعضهم من بعض ، فنزل القرآن مبيناً لما اختلفوا فيه من الحق ، فلو أخذوا به لوجدوا فيه ما يرفع اختلافهم ويدفع تفرّقهم . { وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤمِنِينَ } أي وإنّ القرآن لهدى ورحمة لمن آمن بالله ، وتابع رسوله ، وخصّ المؤمنين؛ لأنهم المنتفعون به ، ومن جملتهم من آمن من بني إسرائيل . { إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ } أي يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل بما يحكم به من الحق ، فيجازي المحق ويعاقب المبطل ، وقيل : يقضي بينهم في الدنيا ، فيظهر ما حرّفوه .
قرأ الجمهور : { بحكمه } بضم الحاء وسكون الكاف . وقرأ جناح بكسرها وفتح الكاف جمع حكمة { وَهُوَ العزيز العليم } العزيز : الذي لا يغالب ، والعليم بما يحكم به ، أو الكثير العلم .
ثم أمره سبحانه بالتوكل وقلة المبالاة ، فقال : { فَتَوَكَّلْ عَلَى الله } والفاء لترتيب الأمر على ما تقدّم ذكره ، والمعنى : فوّض إليه أمرك ، واعتمد عليه فإنه ناصرك . ثم علل ذلك بعلتين : الأولى : قوله { إِنَّكَ عَلَى الحق المبين } أي الظاهر ، وقيل : المظهر . والعلة الثانية : قوله : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } لأنه إذا علم أن حالهم كحال الموتى في انتفاء الجدوى بالسماع ، أو كحال الصمّ الذين لا يسمعون ، ولا يفهمون ، ولا يهتدون صار ذلك سبباً قوياً في عدم الاعتداد بهم ، شبه الكفار بالموتى الذين لا حسّ لهم ولا عقل ، وبالصمّ الذين لا يسمعون المواعظ ، ولا يجيبون الدعاء إلى الله . ثم ذكر جملة لتكميل التشبيه وتأكيده ، فقال : { إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } أي إذا أعرضوا عن الحق إعراضاً تاماً ، فإن الأصمّ لا يسمع الدعاء إذا كان مقبلاً فكيف إذا كان معرضاً عنه مولياً مدبراً . وظاهر نفي إسماع الموتى العموم ، فلا يخصّ منه إلاّ ما ورد بدليل كما ثبت في الصحيح : أنه صلى الله عليه وسلم خاطب القتلى في قليب بدر ، فقيل له : يا رسول الله إنما تكلم أجساداً لا أرواح لها ، وكذلك ما ورد من أن الميت يسمع خفق نعال المشيعين له إذا انصرفوا . وقرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وابن أبي إسحاق : « لا يسمع » بالتحتية مفتوحة ، وفتح الميم ، وفاعله الصمّ . وقرأ الباقون : { تسمع } بضم الفوقية ، وكسر الميم من أسمع . قال قتادة : الأصمّ إذا ولى مدبراً ، ثم ناديته لم يسمع ، كذلك الكافر لا يسمع ما يدعى إليه من الإيمان .
ثم ضرب العمى مثلاً لهم ، فقال : { وَمَا أَنتَ بِهَادِي العمي عَن ضلالتهم } أي ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الحق إرشاداً يوصله إلى المطلوب منه وهو الإيمان ، وليس في وسعك ذلك ، ومثله قوله : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] قرأ الجمهور بإضافة هادي إلى العمي . وقرأ يحيى بن الحارث ، وأبو حيان : « بهاد العمي » بتنوين هادٍ . وقرأ حمزة : « تهدي » فعلاً مضارعاً ، وفي حرف عبد الله : « وما أن تهدي العمي » . { إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا } أي ما تسمع إلاّ من يؤمن لا من يكفر ، والمراد بمن يؤمن بالآيات : من يصدّق القرآن ، وجملة : { فَهُم مُّسْلِمُونَ } تعليل للإيمان ، أي فهم منقادون مخلصون .
ثم هدّد العباد بذكر طرف من أشراط الساعة وأهوالها : فقال : { وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم } .
واختلف في معنى وقوع القول عليهم ، فقال قتادة : وجب الغضب عليهم .
وقال مجاهد : حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون ، وقيل : حق العذاب عليهم ، وقيل : وجب السخط ، والمعاني متقاربة . وقيل : المراد بالقول ما نطق به القرآن من مجيء الساعة وما فيها من فنون الأهوال التي كانوا يستعجلونها ، وقيل : وقع القول بموت العلماء ، وذهاب العلم . وقيل : إذا لم يأمروا بالمعروف ، وينهوا عن المنكر . والحاصل أن المراد بوقع : وجب ، والمراد بالقول : مضمونه ، أو أطلق المصدر على المفعول أي القول ، وجواب الشرط : { أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مّنَ الأرض تُكَلّمُهُمْ } .
واختلف في هذه الدابة على أقوال ، فقيل : إنها فصيل ناقة صالح يخرج عند اقتراب القيامة ويكون من أشراط الساعة . وقيل : هي دابة ذات شعر ، وقوائم طوال يقال لها : الجساسة . وقيل : هي دابة على خلقة بني آدم ، وهي في السحاب ، وقوائمها في الأرض . وقيل : رأسها رأس ثور ، وعينها عين خنزير ، وأذنها أذن فيل ، وقرنها قرن إيَّل ، وعنقها عنق نعامة ، وصدرها صدر أسد ، ولونها لون نمر ، وخاصرتها خاصرة هرّ ، وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير ، بين كل مفصل ومفصل اثنا عشر ذراعاً . وقيل : هي الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة ، والمراد : أنها هي التي تخرج في آخر الزمان ، وقيل : هي دابة ما لها ذنب ولها لحية ، وقيل : هي إنسان ناطق متكلم يناظر أهل البدع ويراجع الكفار . وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره ، وقد رجح القول الأوّل القرطبي في تفسيره .
واختلف من أيّ موضع تخرج؟ فقيل : من جبل الصفا بمكة ، وقيل : تخرج من جبل أبي قبيس . وقيل : لها ثلاث خرجات : خرجة في بعض البوادي حتى يتقاتل عليها الناس ، وتكثر الدماء ثم تكمن ، وتخرج في القرى ثم تخرج من أعظم المساجد وأكرمها وأشرفها . وقيل : تخرج من بين الركن والمقام . وقيل : تخرج في تهامة . وقيل : من مسجد الكوفة من حيث فار التنور . وقيل من أرض الطائف . وقيل : من صخرة من شعب أجياد . وقيل : من صدع في الكعبة . واختلف في معنى قوله : { تكلمهم } فقيل : تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام . وقيل : تكلمهم بما يسوؤهم . وقيل : تكلمهم بقوله تعالى : { أَنَّ الناس كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ } أي بخروجها؛ لأن خروجها من الآيات . قرأ الجمهور : { تكلمهم } من التكليم ، ويدلّ عليه قراءة أبيّ : " تنبئهم " ، وقرأ ابن عباس وأبو زرعة وأبو رجاء والحسن : " تكلمهم " بفتح الفوقية ، وسكون الكاف من الكلم ، وهو الجرح . قال عكرمة : أي تسمهم وسماً ، وقيل : تجرحهم . وقيل : إن قراءة الجمهور مأخوذة من الكلم بفتح الكاف ، وسكون اللام ، وهو الجرح ، والتشديد للتكثير ، قاله أبو حاتم . قرأ الجمهور : " إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون " بكسر إن على الاستئناف ، وقرأ الكوفيون وابن أبي إسحاق بفتح «أن» . قال الأخفش : المعنى على قراءة الفتح : " بأن الناس " .
وكذا قرأ ابن مسعود : " بأن الناس " بالباء . وقال أبو عبيد : موضعها نصب بوقوع الفعل عليها أي : تخبرهم أن الناس ، وعلى هذه القراءة فالذي تكلم الناس به هو قوله : { أَنَّ الناس كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ } كما قدّمنا الإشارة إلى ذلك . وأما على قراءة الكسر فالجملة مستأنفة كما قدّمنا ، ولا تكون من كلام الدابة . وقد صرّح بذلك جماعة من المفسرين ، وجزم به الكسائي والفراء . وقال الأخفش : إن كسر «إن» هو على تقدير القول أي تقول لهم : " إِنَّ الناس " إلخ ، فيرجع معنى القراءة الأولى على هذا إلى معنى القراءة الثانية ، والمراد بالناس في الآية : هم الناس على العموم ، فيدخل في ذلك كل مكلف ، وقيل : المراد الكفار خاصة ، وقيل : كفار مكة ، والأوّل أولى .
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } قال : اقترب لكم . وأخرج ابن أبي حاتم عنه : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } قال : يعلم ما عملوا بالليل والنهار . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ } الآية يقول : ما من شيء في السماء والأرض سرًّا ولا علانية إلا يعلمه . وأخرج ابن المبارك في الزهد ، وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة ، ونعيم بن حماد وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر في قوله : { وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم } الآية قال : إذا لم يأمروا بمعروف ، ولم ينهوا عن منكر . وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعاً . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي العالية : أنه فسر { وَقَعَ القول عَلَيْهِم } بما أوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { دَابَّةً مّنَ الأرض تُكَلّمُهُمْ } قال : تحدّثهم . وأخرج ابن جرير عنه قال : كلامها : تنبئهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي داود نفيع الأعمى قال : سألت ابن عباس عن قوله : { تُكَلّمُهُمْ } يعني : هل هو من التكليم باللسان ، أو من الكلم ، وهو الجرح؟ فقال : كل ذلك ، والله تفعل ، تكلم المؤمن وتكلم الكافر أي تجرحه . وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن ابن عمر في الآية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس ذلك حديثاً ، ولا كلاماً ، ولكنها سمة تسم من أمرها الله به ، فيكون خروجها من الصفا ليلة منى ، فيصبحون بين رأسها وذنبها لا يدحض داحض ، ولا يجرح جارح ، حتى إذا فرغت مما أمرها الله به فهلك من هلك ، ونجا من نجا ، كان أوّل خطوة تضعها بإنطاكية "
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال : الدابة ذات وبر وريش ، مؤلفة فيها من كل لون ، لها أربع قوائم تخرج بعقب من الحاج . وأخرج أحمد وابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « تخرج الدابة فتسم على خراطيمهم ، ثم يعمرون فيكم حتى يشتري الرجل الدابة ، فيقال له : ممن اشتريتها؟ فيقول : من الرجل المخطم » وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس : « إن للدابة ثلاث خرجات » ؛ وذكر نحو ما قدّمنا . وأخرج ابن مردويه عن حذيفة بن أسيد رفعه قال : « تخرج الدابة من أعظم المساجد حرمة » وأخرج سعيد بن منصور ونعيم بن حماد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : تخرج من بعض أودية تهامة .
وأخرج الطيالسي وأحمد ونعيم بن حماد والترمذي وحسنه ، وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسى ، وخاتم سليمان ، فتجلو وجه المؤمن بالخاتم ، وتخطم أنف الكافر بالعصا ، حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر » ، وأخرج الطيالسي ونعيم بن حماد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، والبيهقي في البعث عن حذيفة بن أسيد الغفاريّ قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة ، فقال : « لها ثلاث خرجات من الدهر » وذكر نحو ما قدّمنا في حديث طويل . وفي صفتها ومكان خروجها وما تصنعه ومتى تخرج أحاديث كثيرة بعضها صحيح ، وبعضها حسن ، وبعضها ضعيف . وأما كونها تخرج ، وكونها من علامات الساعة ، فالأحاديث الواردة في ذلك صحيحة . ومنها ما هو ثابت في الصحيح كحديث حذيفة مرفوعاً : « لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات » وذكر منها الدابة فإنه في صحيح مسلم وفي السنن الأربعة ، وكحديث : « بادروا بالأعمال قبل طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، والدابة » فإنه في صحيح مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة مرفوعاً ، وكحديث ابن عمر مرفوعاً : « إن أوّل الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى » فإنه في صحيح مسلم أيضاً .
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
ثم ذكر سبحانه طرفاً مجملاً من أهوال يوم القيامة . فقال : { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّةٍ فَوْجاً } العامل في الظرف فعل محذوف خوطب به النبيّ صلى الله عليه وسلم ، والحشر الجمع . قيل : والمراد بهذا الحشر هو حشر العذاب بعد الحشر الكلي الشامل لجميع الخلق ، و " من " لابتداء الغاية ، والفوج : الجماعة كالزمرة ، و «من» في { مّمَّن يُكَذّبُ بئاياتنا } بيانية { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي يحبس أوّلهم على آخرهم ، وقد تقدّم تحقيقه في هذه السورة مستوفى ، وقيل معناه : يدفعون ، ومنه قول الشماخ :
وسمه وزعنا من خميس جحفل ... ومعنى الآية : واذكر يا محمد يوم نجمع من كل أمة من الأمم جماعة مكذّبين بآياتنا فهم عند ذلك الحشر يرد أوّلهم على آخرهم ، أو يدفعون أي اذكر لهم هذا ، أو بينه تحذيراً لهم ، وترهيباً . { حتى إِذَا جَاءُوا } إلى موقف الحساب قال الله لهم توبيخاً ، وتقريعاً : { أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي } التي أنزلتها على رسلي ، وأمرتهم بإبلاغها إليكم والحال أنكم { لَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً } بل كذبتم بها بادىء بدء جاهلين لها غير ناظرين فيها ، ولا مستدلين على صحتها ، أو بطلانها تمرّداً ، وعناداً ، وجرأة على الله وعلى رسله ، وفي هذا مزيد تقريع وتوبيخ؛ لأن من كذب بشيء ، ولم يحط به علماً فقد كذب في تكذيبه ، ونادى على نفسه بالجهل وعدم الإنصاف ، وسوء الفهم ، وقصور الإدراك ، ومن هذا القبيل من تصدّى لذمّ علم من العلوم الشرعية ، أو لذمّ علم هو مقدّمة من مقدّماتها ، ووسيلة يتوسل بها إليها ، ويفيد زيادة بصيرة في معرفتها ، وتعقل معانيها كعلوم اللغة العربية بأسرها ، وهي اثنا عشر علماً ، وعلم أصول الفقه فإنه يتوصل به إلى استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية مع اشتماله على بيان قواعد اللغة الكلية ، وهكذا كل علم من العلوم التي لها مزيد نفع في فهم كتاب الله ، وسنة رسوله ، فإنه قد نادى على نفسه بأرفع صوت بأنه جاهل مجادل بالباطل طاعن على العلوم الشرعية ، مستحق لأن تنزل به قارعة من قوارع العقوبة التي تزجره عن جهله وضلاله وطعنه على ما لا يعرفه ، ولا يعلم به ، ولا يحيط بكنهه حتى يصير عبرة لغيره ، وموعظة يتعظ بها أمثاله من ضعاف العقول ، وركاك الأديان ، ورعاع المتلبسين بالعلم زوراً وكذباً .
و " أم " في قوله : { أمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } هي المنقطعة ، والمعنى : أم أيّ شيء كنتم تعملون حتى شغلكم ذلك عن النظر فيها ، والتفكر في معانيها؟ وهذا الاستفهام على طريق التبكيت لهم . { وَوَقَعَ القول عَلَيْهِم } قد تقدّم تفسيره قريباً ، والباء في { بِمَا ظَلَمُواْ } للسببية أي وجب القول عليهم بسبب الظلم الذي أعظم أنواعه الشرك بالله { فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ } عند وقوع القول عليهم ، أي ليس لهم عذر ينطقون به ، أو لا يقدرون على القول لما يرونه من الهول العظيم .
وقال أكثر المفسرين : يختم على أفواههم فلا ينطقون .
ثم بعد أن خوّفهم بأهوال القيامة ذكر سبحانه ما يصلح أن يكون دليلاً على التوحيد ، وعلى الحشر ، وعلى النبوّة مبالغة في الإرشاد وإبلاء للمعذرة ، فقال : { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا اليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً } أي جعلنا الليل للسكون والاستقرار والنوم ، وذلك بسبب ما فيه من الظلمة فإنهم لا يسعون فيه للمعاش ، والنهار مبصراً ، ليبصروا فيه ما يسعون له من المعاش الذي لا بدّ له منهم ، ووصف النهار بالإبصار ، وهو وصف للناس مبالغة في إضاءته كأنه يبصر ما فيه . قيل : في الكلام حذف ، والتقدير : وجعلنا الليل مظلماً ليسكنوا ، وحذف مظلماً لدلالة مبصراً عليه ، وقد تقدّم تحقيقه في الإسراء وفي يونس { إِنَّ فِى ذَلِكَ } المذكور { لآيَاتٍ } أي علامات ودلالات { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } بالله سبحانه .
ثم ذكر سبحانه علامة أخرى للقيامة فقال : { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور } هو معطوف على { وَيَوْمَ نَحْشُرُ } منصوب بناصبه المتقدّم . قال الفراء : إن المعنى : وذلكم يوم ينفخ في الصور ، والأوّل أولى . والصور : قرن ينفخ فيه إسرافيل ، وقد تقدّم في الأنعام استيفاء الكلام عليه . والنفخات في الصور ثلاث : الأولى : نفخة الفزع ، والثانية : نفخة الصعق ، والثالثة : نفخة البعث . وقيل : إنها نفختان ، وإن نفخة الفزع إما أن تكون راجعة إلى نفخة الصعق ، أو إلى نفخة البعث ، واختار هذا القشيري ، والقرطبي ، وغيرهما . وقال الماوردي : هذه النفخة المذكورة هنا يوم النشور من القبور { فَفَزِعَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الأرض } أي خافوا وانزعجوا لشدّة ما سمعوا ، وقيل : المراد بالفزع هنا : الإسراع والإجابة إلى النداء من قولهم : فزعت إليك في كذا : إذا أسرعت إلى إجابتك ، والأوّل أولى بمعنى الآية . وإنما عبر بالماضي مع كونه معطوفاً على مضارع : للدلالة على تحقق الوقوع حسبما ذكره علماء البيان . وقال الفراء : هو محمول على المعنى؛ لأن المعنى إذا نفخ { إِلاَّ مَن شَاء الله } أي إلا من شاء الله أن لا يفزع عند تلك النفخة .
واختلف في تعيين من وقع الاستثناء له ، فقيل : هم الشهداء والأنبياء . وقيل : الملائكة ، وقيل : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وقيل : الحور العين . وقيل : هم المؤمنون كافة بدليل قوله فيما بعد : { مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ } ويمكن أن يكون الاستثناء شاملاً لجميع المذكورين فلا مانع من ذلك { وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين } قرأ الجمهور : « آتوه » على صيغة اسم الفاعل مضافاً إلى الضمير الراجع إلى الله سبحانه . وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة وحفص عن عاصم : « أتوه » فعلاً ماضياً ، وكذا قرأ ابن مسعود .
وقرأ قتادة : « وكل أتاه » . قال الزجاج : إن من قرأ على الفعل الماضي فقد وحد على لفظ كل ، ومن قرأ على اسم الفاعل فقد جمع على معناه ، وهو غلط ظاهر ، فإن كلا القراءتين لا توحيد فيها ، بل التوحيد في قراءة قتادة فقط ، ومعنى { داخرين } : صاغرين ذليلين ، وهو منصوب على الحال ، قرأ الجمهور : { داخرين } ، وقرأ الأعرج : « دخرين » بغير ألف ، وقد مضى تفسير هذا في سورة النحل .
{ وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } معطوف على { ينفخ } . والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكلّ من يصلح للرؤية ، و { تحسبها جامدة } في محل نصب على الحال من ضمير ترى أو من مفعوله؛ لأن الرؤية بصرية . وقيل : هي بدل من الجملة الأولى ، وفيه ضعف ، وهذه هي العلامة الثالثة لقيام الساعة ، ومعنى { تحسبها جامدة } أي قائمة ساكنة ، وجملة : { وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب } في محل نصب على الحال ، أي وهي تسير سيراً حثيثاً كسير السحاب التي تسيرها الرياح . قال القتيبي : وذلك أن الجبال تجمع وتسير وهي في رؤية العين كالقائمة وهي تسير . قال القشيري : وهذا يوم القيامة ، ومثله قوله تعالى : { وَسُيّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً } [ النبأ : 20 ] . قرأ أهل الكوفة تحسبها بفتح السين ، وقرأ الباقون بكسرها { صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء } انتصاب { صنع } على المصدرية عند الخليل وسيبويه وغيرهما ، أي صنع الله ذلك صنعاً ، وقيل : هو مصدر مؤكد لقوله : { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور } . وقيل : منصوب على الإغراء ، أي انظروا صنع الله ، ومعنى { الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء } : الذي أحكمه ، يقال : رجل تقن أي حاذق بالأشياء ، وجملة : { إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } تعليل لما قبلها من كونه سبحانه صنع ما صنع ، وأتقن كل شيء ، والخبير : المطلع على الظواهر والضمائر . قرأ الجمهور بالتاء الفوقية على الخطاب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالتحتية على الخبر .
{ مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا } الألف واللام للجنس ، أي من جاء بجنس الحسنة فله من الجزاء والثواب عند الله خير منها أي أفضل منها ، وأكثر . وقيل : خير حاصل من جهتها ، والأول أولى . وقيل : المراد بالحسنة هنا : لا إله إلاّ الله . وقيل : هي الإخلاص . وقيل : أداء الفرائض ، والتعميم أولى ولا وجه للتخصيص وإن قال به بعض السلف . قيل : وهذه الجملة بيان لقوله : { إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } ، وقيل : بيان لقوله : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين } . قرأ عاصم وحمزة والكسائي : { وهم من فزع } بالتنوين وفتح ميم { يومئذٍ } . وقرأ نافع بفتحها من غير تنوين ، وقرأ الباقون بإضافة فزع إلى يومئذٍ . قال أبو عبيد : وهذا أعجب إليّ لأنه أعم التأويلين؛ لأن معناه : الأمن من فزع جميع ذلك اليوم ، ومع التنوين يكون الأمن من فزع دون فزع .
وقيل : إنه مصدر يتناول الكثير فلا يتم الترجيح بما ذكر ، فتكون القراءتان بمعنى واحد . وقيل : المراد بالفزع ها هنا هو : الفزع الأكبر المذكور في قوله : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] . ووجه قراءة نافع أنه نصب يوم على الظرفية لكون الإعراب فيه غير متمكن ، ولما كانت إضافة الفزع إلى ظرف غير متمكن بني ، وقد تقدّم في سورة هود كلام في هذا مستوفى { وَمَن جَاء بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار } . قال جماعة من الصحابة ، ومن بعدهم حتى قيل : إنه مجمع عليه بين أهل التأويل : إن المراد بالسيئة هنا : الشرك ، ووجه التخصيص قوله : { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار } ، فهذا الجزاء لا يكون إلاّ بمثل سيئة الشرك ، ومعنى { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار } : أنهم كبوا فيها على وجوههم وألقوا فيها وطرحوا عليها ، يقال : كببت الرجل : إذا ألقيته لوجهه فانكبّ وأكبّ ، وجملة { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } بتقدير القول ، أي يقال ذلك ، والقائل خزنة جهنم ، أي : ما تجزون إلاّ جزاء عملكم .
{ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ البلدة الذي حَرَّمَهَا } لما فرغ سبحانه من بيان أحوال المبدأ ، والمعاد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذه المقالة ، أي قل يا محمد : إنما أمرت أن أخص الله بالعبادة وحده لا شريك له ، والمراد بالبلدة : مكة ، وإنما خصها من بين سائر البلاد لكون فيها بيت الله الحرام ، ولكونها أحبّ البلاد إلى رسوله ، والموصول صفة للربّ ، وهكذا قرأ الجمهور . وقرأ ابن عباس وابن مسعود : « التي حرّمها » على أن الموصول صفة للبلدة ، ومعنى { حَرَّمَهَا } : جعلها حرماً آمناً لا يسفك فيها دم ، ولا يظلم فيها أحد ، ولا يصطاد صيدها ، ولا يختلى خلالها { وَلَهُ كُلُّ شَيء } من الأشياء خلقاً وملكاً وتصرّفاً ، أي ولله كل شيء { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } أي المنقادين لأمر الله المستسلمين له بالطاعة ، وامتثال أمره ، واجتناب نهيه . والمراد بقوله : { أَنْ أَكُونَ } : أن أثبت على ما أنا عليه { وَأَنْ أَتْلُوَ القرءان } أي أداوم تلاوته ، وأواظب على ذلك . قيل : وليس المراد من تلاوة القرآن هنا إلاّ تلاوة الدعوة إلى الإيمان ، والأول أولى { فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ } لأن نفع ذلك راجع إليه ، أي فمن اهتدى على العموم ، أو فمن اهتدى بما أتلوه عليه ، فعمل بما فيه من الإيمان بالله ، والعمل بشرائعه . قرأ الجمهور : { وأن أتلو } بإثبات الواو بعد اللام على أنه من التلاوة ، وهي القراءة ، أو من التلوّ ، وهو الاتباع . وقرأ عبد الله : « وأن اتل » بحذف الواو أمراً له صلى الله عليه وسلم وكذا وجهه الفراء . قال النحاس : ولا نعرف أحداً قرأ هذه القراءة ، وهي مخالفة لجميع المصاحف { وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَاْ مِنَ المنذرين } أي ومن ضلّ بالكفر وأعرض عن الهداية ، فقل له : إنما أنا من المنذرين ، وقد فعلت بإبلاغ ذلك إليكم ، وليس عليّ غير ذلك .
وقيل : الجواب محذوف ، أي فوبال ضلاله عليه ، وأقيم { إنما أنا من المنذرين } مقامه لكونه كالعلة له .
{ وَقُلِ الحمد لِلَّهِ } على نعمه التي أنعم بها عليّ من النبوّة والعلم ، وغير ذلك ، وقوله : { سَيُرِيكُمْ ءاياته } هو من جملة ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله ، أي سيريكم الله آياته في أنفسكم ، وفي غيركم { فَتَعْرِفُونَهَا } أي تعرفون آياته ، ودلائل قدرته ووحدانيته ، وهذه المعرفة لا تنفع الكفار؛ لأنهم عرفوها حين لا يقبل منهم الإيمان ، وذلك عند حضور الموت . ثم ختم السورة بقوله : { وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } ، وهو كلام من جهته سبحانه غير داخل تحت الكلام الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله ، وفيه ترهيب شديد وتهديد عظيم . قرأ أهل المدينة والشام وحفص عن عاصم : { تعملون } بالفوقية على الخطاب ، وقرأ الباقون بالتحتية .
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { داخرين } قال : صاغرين . وأخرج هؤلاء عنه في قوله : { وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } قال : قائمة { صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء } قال : أحكم . وأخرج ابن أبي جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء } قال : أحسن كل شيء خلقه ، وأوثقه .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : { مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا } قال : « هي : لا إله إلاّ الله » { وَمَن جَاء بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار } قال : « هي : الشرك » ، وإذا صحّ هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمصير إليه في تفسير كلام الله سبحانه متعين ، ويحمل على أن المراد قال : لا إله إلاّ الله بحقها ، وما يجب لها ، فيدخل تحت ذلك كل طاعة ، ويشهد له ما أخرجه الحاكم في الكنى عن صفوان بن عسال قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا كان يوم القيامة : جاء الإيمان والشرك يجثوان بين يدي الله سبحانه ، فيقول الله للإيمان : انطلق أنت وأهلك إلى الجنة ، ويقول للشرك : انطلق أنت وأهلك إلى النار » ، ثم تلا رسولا الله صلى الله عليه وسلم : { مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا } ، يعني : قول : لا إله إلاّ الله { وَمَن جَاء بالسيئة } يعني : الشرك { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار } . وأخرج ابن مردويه من حديث أبي هريرة وأنس نحوه مرفوعاً . وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : { مَن جَاء بالحسنة } يعني : « شهادة أن لا إله إلاّ الله » { فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا } يعني بالخير : « الجنة » { وَمَن جَاء بالسيئة } يعني : « الشرك » { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار } ، وقال :