كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني
وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تعذراً ، فبعث الله نبيه ، وأنزل كتابه ، وأحلّ حلاله وحرّم حرامه ، فما أحلّ فهو حلال ، وما حرّم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، ثم تلا هذه الآية : { قُل لا أَجِدُ } إلى آخرها . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، عنه أنه تلا هذه الآية فقال : ما خلا هذا حلال . وأخرج البخاري ، وأبو داود ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن عمرو بن دينار قال : قلت لجابر بن زيد : إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر ، فقال قد كان يقول ذلك الحكم ابن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس ، وقرأ { قُل لا أَجِدُ } الآية . وأقول : وإن أبى ذلك البحر ، فقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتمسك بقول صحابي في مقابلة قول النبي صلى الله عليه وسلم ، من سوء الاختيار ، وعدم الإنصاف .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : ليس شيء من الدوابّ حرام إلا ما حرّم الله في كتابه : { قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا } الآية . وأخرج سعيد بن منصور ، وأبو داود ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عمر : أنه سئل عن أكل القنفد ، فقرأ : { قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا } الآية ، فقال شيخ عنده : سمعت أبا هريرة يقول : ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « خبيثة من الخبائث » ، فقال ابن عمر : إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله ، فهو كما قال . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والنحاس ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن عائشة : أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ، ومخلب من الطير ، تلت { قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا } الآية .
وأخرج أحمد ، والبخاري ، والنسائي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، عن ابن عباس أن شاة لسودة بنت زمعة ماتت فقالت : يا رسول الله ماتت فلانة : تعني الشاة ، قال : « فلولا أخذتم مسكها؟ » قالت : يا رسول الله أنأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : « { قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً } وأنتم لا تطعمونه ، وإنما تدبغونه حتى تستنفعوا به » ، فأرسلت إليها فسلختها ثم دبغته ، فاتخذت منه قربة حتى تخرّقت عندها .
ومثل هذا حديث شاة ميمونة ، وهو في الصحيح . ومثله حديث « إنما حرم من الميتة أكلها » وهو أيضاً في الصحيح .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا } قال : مهراقاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه قال : كان أهل الجاهلية إذا ذبحوا أودجوا الدابة وأخذوا الدم فأكلوه ، قال : هو دم مسفوح . وأخرج أبو الشيخ عن الشعبي : أنه سئل عن لحم الفيل والأسد فتلا : { قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَمَاً } الآية . والأحاديث الواردة بتحريم كل ذي ناب من السباع ، ومخلب من الطير ، والحمر الأهلية ، ونحوها مستوفاة في كتب الحديث .
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
قدّم { عَلَى الذين هَادُواْ } على الفعل للدلالة على أن هذا التحريم مختص بهم لا يجاوزهم إلى غيرهم . والذين هادوا : اليهود ، ذكر الله ما حرّمه عليهم عقب ذكر ما حرّمه على المسلمين . والظفر : واحد الأظفار ، ويجمع أيضاً على أظافير ، وزاد الفراء في جموع ظفر : أظافر وأظافرة ، وذو الظفر : ما له أصبع من دابة أو طائر ، ويدخل فيه الحافر والخف والمخلب ، فيتناول الإبل والبقر ، والغنم والنعام ، والأوز والبط ، وكل ما له مخلب من الطير ، وتسمية الحافر والخف ظفراً مجاز . والأولى حمل الظفر على ما يصدق عليه اسم الظفر في لغة العرب ، لأن هذا التعميم يأباه ما سيأتي من قوله : { وَمِنَ البقر والغنم } فإن كان في لغة العرب بحيث يقال على البقر والغنم كان ذكرهما من بعد تخصيصاً حرّم الله ذلك عليهم عقوبة لهم على ما وقعوا فيه من الظلم كما قال تعالى : { فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ] .
قوله : { وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } لا غير هذه المذكورات كلحمهما ، والشحوم يدخل فيها الثروب وشحم الكلية . وقيل الثروب جمع ثرب ، وهو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش ، ثم استثنى الله سبحانه من الشحوم ما حملت ظهورهما من الشحم ، فإنه لم يحرمه الله عليهم ، و " مَا " في موضع نصب على الاستثناء { أَوِ الحوايا } معطوف على ظهورهما ، أي إلا ما حملت ظهورهما أو حملت الحوايا ، وهي المباعر التي يجتمع البعر فيها ، فما حملته من الشحم غير حرام عليهم ، وواحدها حاوية ، مثل ضاربة وضوارب . وقيل : واحدها حاوياء مثل قاصعاء وقواصع ، وقيل حوية : كسفينة وسفائن . وقال أبو عبيدة : الحوايا ما تحوّى من البطن : أي استدار ، وهي متحوية : أي مستديرة . وقيل الحوايا : خزائن اللبن ، وهي تتصل بالمباعر . وقيل الحوايا : الأمعاء التي عليها الشحوم .
قوله : { أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ } معطوف على «ما» في { مَا حَمَلَتْ } كذا قال الكسائي والفراء وثعلب . وقيل : إن الحوايا وما اختلط بعظم معطوفة على الشحوم . والمعنى : حرّمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ، إلا ما حملت ظهورهما فإنه غير محرّم ، ولا وجه لهذا التكلف ، ولا موجب له ، لأنه يكون المعنى إن الله حرّم عليهم إحدى هذه المذكورات . والمراد بما اختلط بعظم : ما لصق بالعظام من الشحوم في جميع مواضع الحيوان ، ومنه الإلية فإنها لاصقة بعجب الذنب ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى التحريم المدلول عليه بحرّمنا ، أي ذلك التحريم جزيناهم به بسبب بغيهم . وقيل : إن الإشارة إلى الجزاء المدلول عليه بقوله : { جزيناهم } أي ذلك الجزاء جزيناهم ، وهو تحريم ما حرّمه الله عليهم { وِإِنَّا لصادقون } في كل ما نخبر به ، ومن جملة ذلك هذا الخبر ، وهو موجود عندهم في التوراة ، ونصها «حرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وكل دابة ليست مشقوقة الحافر ، وكل حوت ليس فيه سفاسف» أي بياض انتهى .
والضمير في { كَذَّبُوكَ } لليهود أي فإن كذبك اليهود فيما وصفت من تحريم الله عليهم تلك الأشياء { فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسعة } ومن رحمته حلمه عنكم ، وعدم معاجلته لكم بالعقوبة في الدنيا ، وهو وإن أمهلكم ورحمكم ف { لا يرد بأسه عن القوم المجرمين } إذا أنزله بهم واستحقوا المعاجلة بالعقوبة . وقيل المراد : لا يردّ بأسه في الآخرة عن القوم المجرمين ، والأوّل أولى ، فإنه سبحانه قد عاجلهم بعقوبات منها تحريم الطيبات عليهم في الدنيا . وقيل الضمير يعود إلى المشركين الذين قسموا الأنعام إلى تلك الأقسام ، وحللوا بعضها وحرّموا بعضها . وقيل المراد : أنه ذو رحمة للمطيعين { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين } ولا مُلجىء لهذا .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { كُلَّ ذِى ظُفُرٍ } قال : هو الذي ليس بمنفرج الأصابع ، يعني ليس بمشقوق الأصابع . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عنه { كُلَّ ذِى ظُفُرٍ } قال : البعير والنعامة . وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد قال : هو كل شيء لم تنفرج قوائمه من البهائم ، وما انفرج أكلته اليهود ، قال : انفرجت قوائم الدجاج ، والعصافير ، فيهود تأكله ، ولم ينفرج خفّ البعير ولا النعامة ، ولا قائمة الوزينة ، فلا تأكل اليهود الإبل ولا النعام ولا الوزينة ، ولا كل شيء لم تنفرج قائمته كذلك ، ولا تأكل حمار الوحش .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } يعني : ما علق بالظهر من الشحم { أَوِ الحوايا } هي المبعر . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن أبي صالح ، في قوله : { إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } قال : الإلية { أَوِ الحوايا } قال : المبعر { أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ } قال : الشحم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله : { أَوِ الحوايا } قال : المباعر . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم ، عن الضحاك { أَوِ الحوايا } قال : المرائض والمباعر . وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس { أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ } قال : الإلية اختلط شحم الإلية بالعصعص ، فهو حلال ، وكل شحم القوائم ، والجنب ، والرأس ، والعين ، والأذن ، يقولون قد اختلط ذلك بعظم فهو حلال لهم ، إنما حرّم عليهم الثرب وشحم الكلية ، وكل شيء كان كذلك ليس في عظم .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { فَإِن كَذَّبُوكَ } قال : اليهود . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السديّ قال : كانت اليهود يقولون : إن ما حرّمه إسرائيل فنحن نحرّمه ، فلذلك قوله : { فَإِن كَذَّبُوكَ } الآية .
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
أخبر الله عن المشركين أنهم سيقولون هذه المقالة ، وهم كفار قريش أو جميع المشركين ، يريدون أنه لو شاء الله عدم شركهم ما أشركوا هم ولا آباؤهم ، ولا حرّموا شيئاً من الأنعام ، كالبحيرة ونحوها ، وظنوا أن هذا القول يخلصهم عن الحجة التي ألزمهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ما فعلوه حق ، ولو لم يكن حقاً لأرسل الله إلى آبائهم الذين ماتوا على الشرك ، وعلى تحريم ما لم يحرمه الله رسلاً يأمرونهم بترك الشرك ، وبترك التحريم لما لم يحرمه الله ، والتحليل لما لم يحلله : { كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي مثل ما كذب هؤلاء كذب من قبلهم من المشركين أنبياء الله { حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا } أي استمروا على التكذيب حتى ذاقوا بأسنا الذي أنزلناه بهم ، ثم أمره الله أن يقول لهم : { هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } أي هل عندكم دليل صحيح بعد من العلم النافع ، فتخرجوه إلينا لننظر فيه ونتدبره ، والمقصود من هذا التبكيت لهم ، لأنه قد علم أنه لا علم عندهم يصلح للحجة ، ويقوم به البرهان ، ثم أوضح لهم أنهم ليسوا على شيء من العلم ، وأنهم إنما يتبعون الظنون ، أي ما يتبعون إلا الظنّ الذي هو محل الخطأ ، ومكان الجهل { وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ } أي تتوهمون مجرّد توهم فقط كما يتوهم الخارص ، وقد سبق تحقيقه ، ثم أمره الله سبحانه بأن يخبرهم أن لله الحجة البالغة على الناس ، أي التي تنقطع عندها معاذيرهم ، وتبطل شبههم ، وظنونهم وتوهماتهم . والمراد بها الكتب المنزلة ، والرسل المرسلة ، وما جاءوا به من المعجزات { فَلَوْ شَاء } هدايتكم جميعاً { لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } ولكنه لم يشأ ذلك ، ومثله قوله تعالى : { وَلَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكُواْ } [ الأنعام : 107 ] و { مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء الله } [ الأنعام : 111 ] ومثله كثير . ثم أمره الله أن يقول لهؤلاء المشركين { هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ } أي هاتوهم وأحضرهم ، وهو اسم فعل يستوي فيه المذكر والمؤنث ، والمفرد ، والمثنى ، والمجموع عند أهل الحجاز ، وأهل نجد يقولون : هلما هلمي هلموا ، فينطقون به كما ينطقون بسائر الأفعال ، وبلغة أهل الحجاز نزل القرآن ، ومنه قوله تعالى : { والقائلين لإخوانهم هَلُمَّ إِلَيْنَا } [ الأحزاب : 18 ] والأصل عند الخليل « ها » ضُمَّت إليها « لم » ، وقال غيره : أصلها « هل » زيدت عليها الميم ، وفي كتاب العين للخليل : أن أصلها هل أؤم ، أي هل أقصدك ، ثم كثر استعمالهم لها ، وهذا أيضاً من باب التبكيت لهم ، حيث يأمرهم بإحضار الشهود على أن الله حرّم تلك الأشياء ، مع علمه أن لا شهود لهم { فَإِن شَهِدُواْ } لهم بغير علم ، بل مجازفة وتعصب { فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ } أي فلا تصدقهم ولا تسلم لهم ، فإنهم كاذبون جاهلون ، وشهادتهم باطلة { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين كَذَّبُواْ بآياتنا } أي ولا تتبع أهواءهم ، فإنهم رأس المكذبين بآياتنا .
قوله : { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } معطوف على الموصول ، أي لا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا ، وأهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة { وَهُم بِرَبِهِمْ يَعْدِلُونَ } أي يجعلون له عدلاً من مخلوقاته كالأوثان ، والجملة إما في محل نصب على الحال ، أو معطوفة على لا يؤمنون .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن مجاهد ، في قوله : { سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ } قال : هذا قول قريش إن الله حرم هذا ، أي البحيرة والسائبة ، والوصيلة والحام .
وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة : { قُل فلِلَّهِ الحجة البالغة } قال : السلطان . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن عباس أنه قيل له إن ناساً يقولون ليس الشرّ بقدر ، فقال ابن عباس : بيننا وبين أهل القدر هذه الآية { سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ } إلى قوله : { فَلِلَّهِ الحجة البالغة فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } قال ابن عباس : والعجز والكيس من القدر . وأخرج أبو الشيخ ، عن عليّ بن زيد ، قال : انقطعت حجة القدرية عند هذه الآية { قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن السديّ ، في قوله : { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ } قال : أروني شهداءكم .
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
قوله : { قُلْ تَعَالَوْاْ } أي تقدّموا . قال ابن الشجري : إن المأمور بالتقدّم في أصل وضع هذا الفعل كأنه كان قاعداً ، فقيل له تعال ، أي ارفع شخصك بالقيام وتقدّم ، واتسعوا فيه حتى جعلوه للواقف والماشي . وهكذا قال الزمخشري في الكشاف : إنه من الخاص الذي صار عاماً ، وأصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ، ثم كثروا واتسع فيه حتى عمّ .
قوله : { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ } { أتل } جواب الأمر ، و « ما » موصولة في محل نصب به ، أي أتل الذين حرّمه ربكم عليكم . والمراد من تلاوة ما حرّم الله تلاوة الآيات المشتملة عليه ، ويجوز أن تكون « ما » مصدرية ، أي أتل تحريم ربكم . والمعنى : ما اشتمل على التحريم . قيل ويجوز أن تكون ما استفهامية أي أتل أي شيء حرّم ربكم ، على جعل التلاوة بمعنى القول ، وهو ضعيف جداً ، و { عليكم } أن تعلق ب { أتل } ، فالمعنى : أتل عليكم الذي حرّم ربكم ، وإن تعلق ب { حرّم } ، فالمعنى أتل الذي حرّم ربكم عليكم ، وهذا أولى ، لأن المقام مقام بيان ما هو محرّم عليكم لا مقام بيان ما هو محرّم مطلقاً وقيل : إن عليكم للإغراء ولا تعلق لها بما قبلها . والمعنى عليكم أن لا تشركوا إلى آخره ، أي الزموا ذلك كقوله تعالى : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } [ المائدة : 105 ] وهو أضعف مما قبله ، وأن في { أَن لا تُشْرِكُواْ } مفسرة لفعل التلاوة ، وقال النحاس : يجوز أن تكون في موضع نصب بدلاً من « ما » ، أي أتل عليكم تحريم الإشراك . وقيل : يجوز أن يكون في محل رفع بتقدير مبتدأ ، أي المتلوّ أن لا تشركوا ، و { شيئاً } مفعول أو مصدر أي لا تشركوا به شيئاً من الأشياء ، أو شيئاً من الإشراك . قوله : { وبالوالدين إحسانا } أي أحسنوا بهما إحساناً ، والإحسان إليهما البرّ بهما ، وامتثال أمرهما ونهيهما . وقد تقدّم الكلام على هذا .
قوله : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أولادكم مّنْ إملاق } لما ذكر حق الوالدين على الأولاد ، ذكر حق الأولاد على الوالدين ، وهو أن لا يقتلوهم من أجل إملاق . والإملاق الفقر ، فقد كانت الجاهلية تفعل ذلك بالذكر والإناث خشية الإملاق ، وتفعله بالإناث خاصة خشية العار ، وحكى النقاش عن مؤرّج أن الإملاق الجوع بلغة لخم ، وذكر منذر بن سعيد البلوطي : أن الإملاق الإنفاق . يقال أملق ماله : بمعنى أنفقه . والمعنى الأوّل هو الذي أطبق عليه أئمة اللغة ، وأئمة التفسير ها هنا . { وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش } أي المعاصي ، ومنه { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ الإسراء : 32 ] وما في { مَا ظَهَرَ } بدل من الفواحش ، وكذا ما بطن . والمراد ب { ما ظهر } : ما أعلن به منها ، و { ما بطن } : ما أسرّ .
وقد تقدّم { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس } اللام في النفس للجنس ، و { التى حَرَّمَ الله } صفة للنفس ، أي لا تقتلوا شيئاً من الأنفس التي حرّمها الله { إِلاَّ بالحق } أي إلا بما يوجبه الحق ، والاستثناء مفرّغ ، أي لا تقتلوه في حال من الأحوال إلا في حال الحق ، أو لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق ، ومن الحق قتلها قصاصاً ، وقتلها بسبب زنا المحصن ، وقتلها بسبب الردّة ، ونحو ذلك من الأسباب التي ورد الشرع بها ، والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى ما تقدّم مما تلاه عليهم ، وهو مبتدأ { وَوَصَاكم بِهِ } خبره : أي أمركم به ، وأوجبه عليكم { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم } أي لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه إلا بالخصلة { التى هِىَ أَحْسَنُ } من غيرها ، وهي ما فيه صلاحه وحفظه وتنميته ، فيشمل كل وجه من الوجوه التي فيها نفع لليتيم وزيادة في ماله وقيل : المراد بالتي هي أحسن التجارة { حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } أي إلى غاية هي أن يبلغ اليتيم أشدّه ، فإن بلغ ذلك فادفعوا إليه ماله ، كما قال تعالى : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم } [ النساء : 6 ] .
واختلف أهل العلم في الأشد ، فقال أهل المدينة : بلوغه وإيناس رشده . وقال أبو حنيفة : خمس وعشرون سنة . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو البلوغ . وقيل : إنه انتهاء الكهولة ، ومنه قول سحيم الرباحي :
أخو الخمسين مجتمع أشدي ... ويحديني مداورة الشؤون
والأولى في تحقيق بلوغ الأشد أنه البلوغ إلى سن التكليف مع إيناس الرشد ، وهو أن يكون في تصرفاته بماله سالكاً مسلك العقلاء ، لا مسلك أهل السفه والتبذير ، ويدل على هذا قوله تعالى في سورة النساء : { وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم } [ النساء : 6 ] فجعل بلوغ النكاح ، وهو بلوغ سنّ التكليف مقيداً بإيناس الرشد ، ولعله قد سبق هنالك كلام في هذا ، والأشد واحد لا جمع له ، وقيل : واحده شدّ كفلس وأفلس ، وأصله من شدّ النهار ، أي ارتفع . وقال سيبويه : واحده شدة . قال الجوهري : وهو حسن في المعنى ، لأنه يقال بلغ الكلام شدته ، ولكن لا تجمع فعلة على أفعل .
قوله : { وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط } أي بالعدل في الأخذ والإعطاء عند البيع والشراء { لاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } أي إلا طاقتها في كل تكليف من التكاليف ، ومنه التكليف بإيفاء الكيل والوزن ، فلا يخاطب المتولي لهما بما لا يمكن الاحتراز عنه في الزيادة والنقصان { وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا } أي إذا قلتم بقول في خير أو شهادة ، أو جرح أو تعديل ، فاعدلوا فيه ، وتحرّوا الصواب ، ولا تتعصبوا في ذلك لقريب ولا على بعيد ، ولا تميلوا إلى صديق ، ولا على عدو ، بل سوّوا بين الناس ، فإن ذلك من العدل الذي أمر الله به ، والضمير في { وَلَوْ كَانَ } راجع إلى ما يفيده { وإذا قلتم } فإنه لا بد للقول من مقول فيه ، أو مقول له ، أي ولو كان المقول فيه ، أو المقول له { ذَا قربى } أي صاحب قرابة لكم .
وقيل إن المعنى : ولو كان الحق على مثل قراباتكم والأوّل أولى ، ومثل هذه الآية قوله : { وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين } [ النساء : 135 ] .
قوله : { وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ } أي أوفوا بكل عهد عهده الله إليكم ، ومن جملة ما عهده إليكم ، ما تلاه عليكم رسوله بأمره في هذا المقام ، ويجوز أن يراد به كل عهد ، ولو كان بين المخلوقين ، لأن الله سبحانه لما أمر بالوفاء به في كثير من الآيات القرآنية كان ذلك مسوّغاً لإضافته إليه . والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى ما تقدّم ذكره { وصاكم بِهِ } أمركم به أمراً مؤكداً { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } فتتعظون بذلك .
قوله : { وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا } أن في موضع نصب ، أي واتل أن هذا صراطي ، قاله الفراء والكسائي . قال الفراء : ويجوز أن يكون خفضاً ، أي وصاكم به ، وبأن هذا . وقال الخليل وسيبويه : إن التقدير ولأن هذا صراطي مستقيماً ، كما في قوله سبحانه : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } [ الجن : 18 ] وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي « وَإِنَّ هذا » بكسر الهمزة على الاستئناف ، والتقدير : الذي ذكر في هذه الآيات صراطي . وقرأ ابن أبي إسحاق ، ويعقوب « وَإِن هذا صراطي » بالتخفيف على تقدير ضمير الشأن . وقرأ الأعمش « وهذا صراطي » وفي مصحف عبد الله بن مسعود « وهذا صراط رَبُّكُمْ » وفي مصحف أبيّ « وهذا صراط رَبّكَ » والصراط : الطريق ، وهو طريق الإسلام ، ونصب مستقيماً على الحال ، والمستقيم المستوي الذي لا اعوجاج فيه ، ثم أمرهم باتباعه ونهاهم عن اتباع سائر السبل ، أي الأديان المتباينة طرقها { فَتَفَرَّقَ بِكُمْ } أي تميل بكم { عَن سَبِيلِهِ } أي عن سبيل الله المستقيم الذي هو دين الإسلام . قال ابن عطية : وهذه السبل تعمّ اليهودية والنصرانية والمجوسية ، وسائر أهل الملل ، وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع ، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام ، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد . والإشارة ب { ذلكم } إلى ما تقدّم وهو مبتدأ وخبره { وصاكم بِهِ } أي أكد عليكم الوصية به { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ما نهاكم عنه .
وقد أخرج الترمذي وحسنه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن عبادة بن الصامت ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ » ثم تلا : { قُلْ تَعَالَوْاْ } إلى ثلاث آيات ، ثم قال : « فمن وفَّى بهنّ فأجره على الله ومن انتقص منهنّ شيئاً فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته ، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه »
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن الضريس ، وابن المنذر ، عن كعب الأحبار قال : أوّل ما أنزل في التوراة عشر آيات ، وهي العشر التي أنزلت من آخر الأنعام { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } إلى آخرها . وأخرج أبو الشيخ ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عدي بن الخيار قال : سمع كعب رجلاً يقرأ { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } فقال كعب : والذي نفس كعب بيده إنها لأول آية في التوراة :
بسم الله الرحمن الرحيم { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } إلى آخر الآيات انتهى .
قلت : هي الوصايا العشر التي في التوراة ، وأوّلها أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية ، لا يكن لك إله غيري . ومنها : أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك ، لا تقتل ، لا تزن ، لا تسرق ، لا تشهد على قريبك شهادة زور ، لا تشته بنت قريبك ، ولا تشته امرأة قريبك ، ولا عبده ، ولا أمته ، ولا ثوره ، ولا حماره ، ولا شيئاً مما لقريبك ، فلعل مراد كعب الأحبار هذا ، ولليهود بهذه الوصايا عناية عظيمة وقد كتبها أهل الزبور في آخر زبورهم . وأهل الإنجيل في أوّل إنجيلهم ، وهي مكتوبة في لوحين ، وقد تركنا منها ما يتعلق بالسبت .
وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ ، عن قتادة { وَلاَ تَقْتُلُواْ أولادكم مّنْ إملاق } قال : من خشية الفاقة ، قال : وكان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته مخافة الفاقة عليها والسبي { وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } قال : سرّها وعلانيتها . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس { وَلاَ تَقْتُلُواْ أولادكم مّنْ إملاق } قال : خشية الفقر { وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } قال : كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنا بأساً في السرّ ، ويستقبحونه في العلانية ، فحرّم الله الزنا في السر والعلانية .
وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : { وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا } قال : اعلموا أن السبيل سبيل واحد ، جماعه الهدى ومصيره الجنة ، وأن إبليس اشترع سبلاً متفرقة ، جماعه الضلالة ومصيرها النار . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والبزار ، والنسائي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن ابن مسعود ، قال : خط رسول الله خطاً بيده ثم قال : « هذا سبيل الله مستقيماً » ، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط ، وعن شماله ، ثم قال : « وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه »
، ثم قرأ : { وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } وأخرج أحمد ، وابن ماجه ، وابن مردويه ، من حديث جابر نحوه . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن مردويه ، عن ابن مسعود أن رجلاً سأله : ما الصراط المستقيم؟ قال : تركنا محمداً صلى الله عليه وسلم ، في أدناه وطرفه الجنة ، وعن يمينه جواد وعن شماله جواد ، وثم رجال يدعون من مرّ بهم ، فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النار ، ومن أخذ على الصراط المستقيم انتهى به إلى الجنة ، ثم قرأ ابن مسعود : { وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس { وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل } قال : الضلالات .
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
هذا الكلام مسوق لتقرير التوصية التي وصى الله عباده بها ، وقد استشكل العطف بِثُمَّ مع كون قصة موسى وإيتائه الكتاب قبل المعطوف عليه . وهو ما تقدم من قوله : { ذلكم وصاكم بِهِ } فقيل : إن ثم ها هنا بمعنى الواو وقيل : تقدير الكلام ، ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل المعنى : قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم ، ثم أتل إيتاء موسى الكتاب وقيل : إن التوصية المعطوف عليها قديمة لم يزل كل نبيّ يوصي بها أمته وقيل : إن ثم للتراخي في الإخبار كما تقول : بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت بالأمس أعجب .
قوله : { تَمَامًا } مفعول لأجله أو مصدر ، و { عَلَى الذى أَحْسَنَ } قرىء بالرفع ، وهي قراءة يحيى بن يعمر ، وابن أبي إسحاق ، فيكون رفع أحسن على تقدير مبتدأ ، أي على الذي هو أحسن ، ومنه ما حكى سيبويه عن الخليل أنه سمع : ما أنا بالذي قائل لك شيئاً . وقرأ الباقون بالنصب على أنه فعل ماض عند البصريين ، وأجاز الفراء والكسائي أن يكون اسماً نعتاً للذي ، وهذا محال عند البصريين لأنه نعت للاسم قبل أن يتمّ ، والمعنى عندهم تماماً على من أحسن قبوله والقيام به كائناً من كان ، ويؤيد هذا أن ابن مسعود قرأ : { تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَوا } وقال الحسن : كان فيهم محسن وغير محسن ، فأنزل الله الكتاب تماماً على المحسنين . وقيل المعنى : أعطينا موسى التوراة زيادة على ما كان يحسنه موسى مما علمه الله قبل نزول التوراة عليه . وقيل المعنى : تماماً على الذي أحسن به الله عزّ وجلّ إلى موسى من الرسالة وغيرها . وقيل : تماماً على إحسان موسى بطاعة الله عزّ وجلّ قاله الفراء . قوله : { وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء } معطوف على تماماً ، أي ولأجل تفصيل كل شيء ، وكذا { هُدًى وَرَحْمَةً } معطوفتان ، عليه أي وللهدى والرحمة ، والضمير في لعلهم راجع إلى بني إسرائيل ، المدلول عليه بذكر موسى ، والباء في { بِلِقَاء } متعلقة ب { يؤمنون } .
قوله : { وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ } الإشارة إلى القرآن ، واسم الإشارة مبتدأ وخبره كتاب ، وأنزلناه صفة لكتاب ، ومبارك صفة أخرى له ، وتقديم صفة الإنزال لكون الإنكار متعلقاً بها ، والمبارك كثير البركة لما هو مشتمل عليه من المنافع الدنيوية والدينية { فاتبعوه } فإنه لما كان من عند الله ، وكان مشتملاً على البركة ، كان اتباعه متحتماً عليكم { واتقوا } مخالفته ، والتكذيب بما فيه { لَعَلَّكُمْ } إن قبلتموه ولم تخالفوه { تُرْحَمُونَ } برحمة الله سبحانه ، و « أن » في { أَن تَقُولُواْ } في موضع نصب . قال الكوفيون : لئلا تقولوا . وقال البصريون : كراهة أن تقولوا .
وقال الفراء والكسائي : المعنى فاتقوا أن تقولوا يا أهل مكة { إِنَّمَا أُنزِلَ الكتاب } أي التوراة والإنجيل { على طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا } وهم اليهود والنصارى ولم ينزل علينا كتاب { وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ } أي عن تلاوة كتبهم بلغاتهم { لغافلين } أي لا ندري ما فيها ، ومرادهم إثبات نزول الكتابين مع الاعتذار عن اتباع ما فيهما بعدم الدراية منهم ، والغفلة عن معناهما .
قوله : { أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب } معطوف على { تَقُولُواْ } أي أو أن تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب كما أنزل على الطائفتين من قبلنا { لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ } إلى الحق الذي طلبه الله ، فإن هذه المقالة والمعذرة منهم مندفعة بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ، وإنزال القرآن عليه ، ولهذا قال : { فَقَدْ جَاءكُمْ بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ } أي كتاب أنزله الله على نبيكم ، وهو منكم يا معشر العرب ، فلا تعتذروا بالأعذار الباطلة وتعللوا أنفسكم بالعلل الساقطة ، فقد أسفر الصبح لذي عينين { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } معطوف على { بَيّنَةً } أي جاءكم البينة الواضحة ، والهدى الذي يهتدي به كل من له رغبة في الاهتداء ، ورحمة من الله يدخل فيها كل من يطلبها ويريد حصولها ، ولكنكم ظلمتم أنفسكم بالتكذيب بآيات الله ، والصدوف عنها ، أي الانصراف عنها . وصرف من أراد الإقبال إليها { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ الله } التي هي رحمة وهدى للناس { وَصَدَفَ عَنْهَا } فضلّ بانصرافه عنها ، وأضلّ بصرف غيره عن الإقبال إليها { سَنَجْزِى الذين يَصْدِفُونَ عَنْ آياتنا سُوء العذاب } أي العذاب السيء بسبب { مَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ } وقيل معنى صدف : أعرض ، ويصدفون يعرضون ، وهو مقارب لمعنى الصرف ، وقد تقدّم تحقيق معنى هذا اللفظ ، والاستفهام في { فمن أظلم } للإنكار ، أي إنكار أن يكون أحد أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها ، مع ما يفيده ذلك من التبكيت لهم .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد { تَمَامًا عَلَى الذى أَحْسَنَ } قال : على المؤمنين المحسنين . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي صخر { تَمَامًا عَلَى الذى أَحْسَنَ } قال : تماماً لما كان قد أحسن الله . وأخرج أيضاً عن ابن زيد قال : تماماً لنعمته عليهم وإحسانه إليهم .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : { وهذا كتاب } قال : هو القرآن الذي أنزل الله على محمد { فاتبعوه واتقوا } يقول : فاتبعوا ما أحلّ الله فيه ، واتقوا ما حرّم . وأخرج هؤلاء عن مجاهد في قوله : { على طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا } قال : اليهود والنصارى ، خاف أن تقوله قريش . وأخرج ابن المنذر ، وابن حاتم ، عن ابن عباس ، قال : هم اليهود والنصارى ، { وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ } قال : تلاوتهم .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : { لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ } قال : هذا قول كفار العرب . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السدي ، في قوله : { فَقَدْ جَاءكُمْ بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ } يقول : قد جاءتكم بينة لسان عربي مبين حين لم يعرفوا دراسة الطائفتين . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { صَدَفَ عَنْهَا } قال : أعرض عنها . وأخرج عبد بن حميد ، عن الضحاك ، في قوله : { يَصْدِفُونَ } قال : يعرضون .
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
أي لما أقمنا عليهم الحجة ، وأنزلنا الكتاب على رسولنا المرسل إليهم ، فلم ينفعهم ذلك ولم يرجعوا به عن غوايتهم ، فما بقي بعد هذا إلا أنهم { يُنظَرُونَ } أي ينتظرون { أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة } أي ملائكة الموت لقبض أرواحهم ، وعند ذلك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل { أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ } يا محمد كما اقترحوه بقولهم : { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة أَوْ نرى رَبَّنَا } [ الفرقان : 21 ] وقيل معناه : أو يأتي أمر ربك بإهلاكهم . وقيل المعنى : أو يأتي كل آيات ربك بدليل قوله : { أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّك } وقيل : هو من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله ، وقد جاء في القرآن حذف المضاف كثيراً ، كقوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] وقوله : { وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ العجل } [ البقرة : 93 ] أي حب العجل . وقيل إتيان الله مجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه ، كقوله : { وَجَاء رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ] .
قوله : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّك } قرأ ابن عمر وابن الزبير « يَوْمَ تَأْتِي » بالفوقية ، وقرأ الباقون بالتحتية ، قال المبرد : التأنيث على المجاورة لمؤنث ، لا على الأصل ، ومنه قول جرير :
لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع
وقرأ ابن سيرين : « لا تنفع » بالفوقية . قال أبو حاتم : إن هذا غلط عن ابن سيرين . وقد قال الناس في هذا شيء دقيق من النحو ذكره نفطويه ، وذلك أن الإيمان والنفس كل واحد منهما مشتمل على الآخر ، فأنث الإيمان إذ هو من النفس . قال النحاس ، وفيه وجه آخر ، وهو أن يؤنث الإيمان ، لأنه مصدر كما يذكر المصدر المؤنث مثل { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ } [ البقرة : 275 ] . ومعنى { يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايات رَبّكَ } يوم يأتي الآيات التي اقترحوها ، وهي التي تضطرهم إلى الإيمان { لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا } أو ما هو أعمّ من ذلك ، فيدخل فيه ما ينتظرونه . وقيل : هي الآيات التي هي علامات القيامة المذكورة في الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهي التي إذا جاءت لا ينفع نفساً إيمانها .
قوله : { لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ } أي من قبل إتيان بعض الآيات ، فأما التي قد كانت آمنت من قبل مجيء بعض الآيات فإيمانها ينفعها ، وجملة : { لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ } في محل نصب على أنها صفة { نفساً } . قوله : { أَوْ كَسَبَتْ فِى إيمانها خَيْرًا } معطوف على { ءامَنتُ } والمعنى : أنه لا ينفع نفساً إيمانها عند حضور الآيات متصفة بأنها لم تكن آمنت من قبل ، أو آمنت من قبل ولكن لم تكسب في إيمانها خيراً ، فحصل من هذا أنه لا ينفع إلا الجمع بين الإيمان من قبل مجيء بعض الآيات مع كسب الخير في الإيمان ، فمن آمن من قبل فقط ، ولم يكسب خيراً في إيمانه ، أو كسب خيراً ولم يؤمن ، فإن ذلك غير نافعه ، وهذا التركيب هو كقولك : لا أعطي رجلاً اليوم أتاني لم يأتني بالأمس ، أو لم يمدحني في إتيانه إليّ بالأمس ، فإن المستفاد من هذا أنه لا يستحق العطاء إلا رجل أتاه بالأمس ومدحه في إتيانه إليه بالأمس ، ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم : { انتظروا } ما تريدون إتيانه { إنا منتظرون } له ، وهذا تهديد شديد ووعيد عظيم ، وهو يقوّي ما قيل في تفسير : { يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايات رَبّكَ } إنها الآيات التي اقترحوها من إتيان الملائكة ، وإتيان العذاب لهم من قبل الله كما تقدّم بيانه .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن مسعود { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة } قال : عند الموت { أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ } قال : يوم القيامة . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في تفسير الآية مثله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مقاتل { أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ } قال : يوم القيامة في ظلل من الغمام . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، في مسنده ، والترمذي وأبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، في قوله : { يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايات رَبّكَ } قال : « طلوع الشمس من مغربها » ، قال الترمذي غريب . ورواه ابن أبي شيبة ، وعبد ابن حميد ، عن أبي سعيد موقوفاً . وأخرجه الطبراني ، وابن عدي ، وابن مردويه من حديث أبي هريرة مرفوعاً . وأخرجه سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، ونعيم بن حماد ، والطبراني عن ابن مسعود موقوفاً . فإذا ثبت رفع هذا التفسير النبوي من وجه صحيح لا قادح فيه ، فهو واجب التقديم له ، متحتم الأخذ به ، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها » ، ثم قرأ الآية . وأخرج مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم ، عن أبي ذر مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، مرفوعاً نحوه أيضاً .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السدي ، في قوله : { أَوْ كَسَبَتْ فِى إيمانها خَيْرًا } يقول : كسبت في تصديقها عملاً صالحاً ، هؤلاء أهل القبلة ، وإن كانت مصدقة لم تعمل قبل ذلك خيراً فعملت بعد أن رأت الآية لم يقبل منها ، وإن عملت قبل الآية خيراً ، ثم عملت بعد الآية خيراً قبل . منها وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مقاتل ، في قوله : { أَوْ كَسَبَتْ فِى إيمانها خَيْرًا } قال : يعني : المسلم الذي لم يعمل في إيمانه خيراً ، وكان قبل الآية مقيماً على الكبائر . والآيات التي هي علامات القيامة ، قد وردت الأحاديث المتكاثرة في بيانها وتعدادها ، وهي مذكورة في كتب السنة .
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
قرأ حمزة والكسائي «فارقوا دينهم» وهي قراءة عليّ بن أبي طالب أي تركوا دينهم وخرجوا عنه . وقرأ الباقون { فرّقوا } بالتشديد إلا النخعي فإنه بالتخفيف . والمعنى : أنهم جعلوا دينهم متفرّقاً فأخذوا ببعضه ، وتركوا بعضه . قيل المراد بهم : اليهود والنصارى . وقد رود في معنى هذا في اليهود قوله تعالى : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة } [ البينة : 4 ] . وقيل المراد بهم : المشركون ، عبد بعضهم الصنم ، وبعضهم الملائكة . وقيل الآية عامة في جميع الكفار ، وكل من ابتدع وجاء بما لم يأمر به الله ، وهذا هو الصواب ، لأن اللفظ يفيد العموم ، فيدخل فيه طوائف أهل الكتاب ، طوائف المشركين ، وغيرهم ممن ابتدع من أهل الإسلام ، ومعنى { شيعاً } فرقاً وأحزاباً ، فتصدق على كل قوم كان أمرهم في الدين واحداً مجتمعاً ، ثم اتبع كل جماعة منهم رأى كبير من كبرائهم ، يخالف الصواب ويباين الحق { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء } أي لست من تفرّقهم ، أو من السؤال عن سبب تفرّقهم والبحث عن موجب تحزبهم في شيء من الأشياء ، فلا يلزمك من ذلك شيء ، ولا تخاطب به ، إنما عليك البلاغ ، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم : " من غشنا فليس منا " أي نحن برآء منه ، وموضع : { فِي شَىْء } نصب على الحال . قال الفراء : هو على حذف مضاف ، أي لست من عقابهم في شيء ، وإنما عليك الإنذار ، ثم سلاه الله تعالى بقوله : { إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله } فهو مجاز لهم بما تقتضيه مشيئته والحصر ، بإنما هو في حكم التعليل لما قبله ، والتأكيد له " ثُمَّ " هو يوم القيامة { يُنَبّئُهُمُ } أي يخبرهم بما ينزله بهم من المجازاة { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من الأعمال التي تخالف ما شرعه الله لهم ، وأوجبه عليهم ، وهذه الآية من جملة ما هو منسوخ بآية السيف .
قوله : { مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } لما توعد سبحانه المخالفين له بما توعد ، بين عقب ذلك مقدار جزاء العاملين بما أمرهم به الممتثلين لما شرعه لهم ، بأن من جاء بحسنة واحدة من الحسنات فله من الجزاء عشر حسنات ، والتقدير : فله عشر حسنات أمثالها ، فأقيمت الصفة مقام الموصوف . قال أبو علي الفارسي : حسن التأنيث في عشر أمثالها ، لما كان الأمثال مضافاً إلى مؤنث ، نحو ذهبت بعض أصابعه . وقرأ الحسن وسعيد بن جبير والأعمش " فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا " برفعهما .
وقد ثبت هذا التضعيف في السنة بأحاديث كثيرة ، وهذا التضعيف هو أقلّ ما يستحقه عامل الحسنة . وقد وردت الزيادة على هذا عموماً وخصوصاً ، ففي القرآن كقوله : { كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } [ البقرة : 261 ] . وورد في بعض الحسنات ، أن فاعلها يجازى عليها بغير حساب ، وورد في السنة المطهرة تضعيف الجزاء إلى ألوف مؤلفة .
وقد قدمنا تحقيق هذا في موضعين من هذا التفسير ، فليرجع إليهما .
{ وَمَن جَاء بالسيئة } من الأعمال السيئة { فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَهَا } من دون زيادة عليها على قدرها في الخفة والعظم ، فالمشرك يجازى على سيئة الشرك بخلوده في النار ، وفاعل المعصية من المسلمين يجازى عليها بمثلها ، مما ورد تقديره من العقوبات ، كما ورد بذلك كثير من الأحاديث المصرّحة بأن من عمل كذا فعليه كذا ، وما لم يرد لعقوبته تقدير من الذنوب ، فعلينا أن نقول يجازيه الله بمثله ، وإن لم نقف على حقيقة ما يجازى به ، وهذا إن لم يتب ، أما إذا تاب و غلبت حسناته سيئاته ، أو تغمده الله برحمته ، وتفضل عليه بمغفرته ، فلا مجازاة ، وأدلة الكتاب والسنة مصرّحة بهذا تصريحاً لا يبقى بعده ريب لمرتاب ، { وَهُمْ } أي من جاء بالحسنة ومن جاء بالسيئة { لاَ يُظْلَمُونَ } بنقص ثواب حسنات المحسنين ، ولا بزيادة عقوبات المسيئين .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، قال : اختلفت اليهود والنصارى قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم فتفرقوا ، فلما بعث محمد أنزل عليه : { إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } الآية . وأخرج النحاس ، عنه في ناسخه { إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } قال : اليهود والنصارى ، تركوا الإسلام والدين الذي أمروا به { وَكَانُواْ شِيَعاً } فرقاً أحزاباً مختلفة { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء } نزلت بمكة ثم نسخها { وَقاتلوا المشركين } [ التوبة : 36 ] . وأخرج أبو الشيخ عنه { وَكَانُواْ شِيَعاً } قال : مللاً شتى . وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن أبي هريرة ، في قوله : { إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } الآية قال : هم في هذه الأمة .
وأخرج الحكيم الترمذي وابن جرير ، والطبراني ، والشيرازي في الألقاب ، وابن مردويه ، عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال : « هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة » ، وفي إسناده عبد بن كثير ، وهو متروك الحديث ، ولم يرفعه غيره ، ومن عداه وقفوه على أبي هريرة . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن أبي أمامة في الآية قال : هم الحرورية ، وقد رواه ابن أبي حاتم ، والنحاس ، وابن مردويه ، عن أبي غالب عن أبي أمامة مرفوعاً ولا يصح رفعه . وأخرج الحكيم الترمذي ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن شاهين ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، وأبو نصر السجزي في الإبانة ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : « يا عائشة { إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً } هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ليست لهم توبة ، يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ليس لهم توبة وهم مني برآء »
قال ابن كثير : هو غريب ولا يصح رفعه .
وأخرج عبد بن حميد ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما نزلت { مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } قال رجل من المسلمين : يا رسول الله ، لا إله إلا الله حسنة؟ قال : « نعم ، أفضل الحسنات » ، وهذا مرسل ولا ندري كيف إسناده إلى سعيد؟ وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم ، في الحلية ، عن ابن مسعود { مَن جَاء بالحسنة } . قال : لا إله إلا الله . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس ، مثله . وأخرج أبو الشيخ ، عن أبي هريرة ، مثله أيضاً . وقد قدّمنا الإشارة إلى أنها قد ثبتت الأحاديث الصحيحة بمضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها ، فلا نطيل بذكرها ، ووردت أحاديث كثيرة في الزيادة على هذا المقدار ، وفضل الله واسع ، وعطاؤه جمّ .
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
لما بيّن سبحانه أن الكفار تفرقوا فرقاً ، وتحزبوا أحزاباً ، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : { إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى } أي أرشدني بما أوحاه إليّ { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } وهو ملة إبراهيم عليه السلام ، و { دِينًا } منتصب على الحال كما قال قطرب ، أو على أنه مفعول { هداني } كما قال الأخفش . وقيل منتصب بفعل يدل عليه { هداني } ؛ لأن معناه عرّفني ، أي عرفني ديناً . وقيل : إنه بدل من محل { إلى صراط } ، لأن معناه هداني صراطاً مستقيماً كقوله تعالى : { وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مُّسْتَقِيماً } [ الفتح : 2 ] وقيل منصوب بإضمار فعل ، كأنه قيل : اتبعوا ديناً .
قوله { قَيِّماً } قرأه الكوفيون ، وابن عامر بكسر القاف ، والتخفيف وفتح الياء . وقرأه الباقون بفتح القاف وكسر الياء المشدّدة ، وهما لغتان : ومعناه الدين المستقيم الذي لا عوج فيه ، وهو صفة ل { ديناً } ، وصف به مع كونه مصدراً مبالغة ، وانتصاب { مِلَّةِ إبراهيم } على أنها عطف بيان ل { دينا } ، ويجوز نصبها بتقدير أعني ، و { حَنِيفاً } منتصب على أنه حال من إبراهيم ، قاله الزجاج . وقال علي بن سليمان : هو منصوب بإضمار أعني . والحنيف المائل إلى الحق ، وقد تقدّم تحقيقه { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } في محل نصب معطوف على { حنيفاً } ، أو جملة معترضة مقررة لما قبلها .
قوله : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِى } أمره الله سبحانه أن يقول لهم بهذه المقالة ، عقب أمره بأن يقول لهم بالمقالة السابقة . قيل : ووجه ذلك أن ما تضمنه القول الأوّل إشارة إلى أصول الدين ، وهذا إلى فروعها . والمراد بالصلاة : جنسها ، فيدخل فيه جميع أنواعها . وقيل المراد بها هنا : صلاة الليل ، وقيل صلاة العيد . والنسك : جمع نسيكة ، وهي الذبيحة كذا قال مجاهد والضحاك ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم ، أي ذبيحتي في الحج والعمرة . وقال الحسن : ديني . وقال الزجاج : عبادتي من قولهم : نسك فلان هو ناسك ، إذا تعبد ، وبه قال جماعة من أهل العلم { وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى } أي ما أعمله في حياتي ، ومماتي من أعمال الخير ، ومن أعمال الخير في الممات الوصية بالصدقات ، وأنواع القربات . وقيل : نفس الحياة ونفس الموت { لِلَّهِ } قرأ الحسن « نُسْكي » بسكون السين . وقرأ الباقون بضمها . وقرأ أهل المدينة « محياي » بسكون الياء . وقرأ الباقون بفتحها لئلا يجتمع ساكنان قال النحاس : لم يجزه ، أي السكون ، أحد من النحويين إلا يونس ، وإنما أجازه لأن المدّة التي في الألف تقوم مقام الحركة . وقرأ ابن أبي إسحاق ، وعيسى بن عمرو ، عاصم الجحدري ، « محيي » ، من غير ألف وهي لغة عليا مضر ، ومنه قول الشاعر :
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم ... فتخرموا ولكل جنب مصرع
{ للَّهِ رَبّ العالمين } أي خالصاً له لا شريك له فيه ، والإشارة { بذلك } إلى ما أفاده { للَّهِ رَبّ العالمين لاَ شَرِيكَ لَهُ } من الإخلاص في الطاعة وجعلها لله وحده .
قوله : { وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين } أي أوّل مسلمي أمته . وقيل : أوّل المسلمين أجمعين ، لأنه وإن كان متأخراً في الرسالة ، فهو أولهم في الخلق ، ومنه قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 7 ] الآية ، والأوّل : أولى .
قال ابن جرير الطبري : استدل بهذه الآية الشافعي على مشروعية افتتاح الصلاة بهذا الذكر ، فإن الله أمر به نبيه وأنزله في كتابه ، ثم ذكر حديثاً على ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال : { وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين } [ الأنعام : 79 ] إلى قوله { وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين } قلت هذا هو في صحيح مسلم مطوّلاً ، وهو أحد التوجهات الواردة ، ولكنه مفيد بصلاة الليل كما في الروايات الصحيحة ، وأصح التوجهات الذي كان يلازمه النبي صلى الله عليه وسلم ويرشد إليه هو « اللهم باعد بيني وبين خطاياي » إلى آخره ، وقد أوضحنا هذا في شرحنا للمنتقى بما لا يحتاج إلى زيادة عليه هنا .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن مقاتل ، في قوله : { وإِنَّ صَلاَتِى } قال : يعني : المفروضة { وَنُسُكِى } يعني : الحج . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ ، عن سعيد بن جبير { وَنُسُكِى } قال : ذبيحتي . وأخرجا أيضاً عن قتادة { إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى } قال : حجي وذبيحتي . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { وَنُسُكِى } قال : ذبيحتي في الحج والعمرة . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : { وَنُسُكِى } قال : ضحيتي . وفي قوله : { وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين } قال : من هذه الأمة . وأخرج الحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي ، عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك ، فإنه يغفر لك بأوّل قطرة تقطر من دمها كل ذنب عملتيه ، وقولي { إن صلاتي } إلى { وأنا أوّل المسلمين } » ، قلت يا رسول الله هذا لك ولأهل بيتك خاصة ، فأهل ذلك أنتم أم للمسلمين عامة؟ قال : « لا بل للمسلمين عامة » .
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
الاستفهام في { أَغَيْرَ الله أَبْغِى رَبّا } للإنكار ، وهو جواب على المشركين لما دعوه إلى عبادة غير الله ، أي كيف أبغي غير الله رباً مستقلاً وأترك عبادة الله ، أو شريكاً لله فأعبدهما معاً ، والحال أنه ربّ كل شيء ، والذي تدعونني إلى عبادته هو من جملة من هو مربوب له ، مخلوق مثلي لا يقدر على نفع ولا ضرّ ، وفي هذا الكلام من التقريع والتوبيخ لهم ما لا يقادر قدره ، و { غير } منصوب بالفعل الذي بعده ، و { ربا } تمييز أو مفعول ثان على جعل الفعل ناصباً لمفعولين . قوله : { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } أي لا يؤاخذ مما أتت من الذنب وارتكبت من المعصية سواها ، فكل كسبها للشرّ عليها لا يتعداها إلى غيرها ، وهو مثل قوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } [ البقرة : 286 ] وقوله : { لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى } [ طه : 15 ] . قوله : { وَلاَ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى } أصل الوزر الثقل ، ومنه قوله تعالى : { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ } [ الشرح : 2 ] وهو هنا الذنب { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ } [ الأنعام : 31 ] قال الأخفش ، يقال وزر يَوزر ، ووزر يزر وزراً ، ويجوز إزراً ، وفيه ردّ لما كانت عليه الجاهلية من مؤاخذة القريب بذنب قريبه ، والواحد من القبيلة بذنب الآخر . وقد قيل : إن المراد بهذه الآية في الآخرة ، وكذلك التي قبلها لقوله تعالى : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } [ الأنفال : 25 ] ، ومثله قول زينب بنت جحش : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : « نعم إذا كثر الخبث » ، والأولى حمل الآية على ظاهرها : أعني العموم ، وما ورد من المؤاخذة بذنب الغير كالدية التي تحملها العاقلة ونحو ذلك ، فيكون في حكم المخصص بهذا العموم ، ويقرّ في موضعه ولا يعارض هذه الآية قوله تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] فإن المراد بالأثقال التي مع أثقالهم هي : أثقال الذين يضلونهم كما في الآية الأخرى : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ النحل : 25 ] { ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ } يوم القيامة { فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } في الدنيا ، وعند ذلك يظهر حق المحقين وباطل المبطلين .
قوله : { وَهُوَ الذى جَعَلَكُمْ خلائف الأرض } خلائف جمع خليفة : أي جعلكم خلفاء الأمم الماضية والقرون السالفة ، قال الشماخ :
أصيبهم وتخطئني المنايا ... وأخلف في ربوع عن ربوع
أو المراد أنه يخلف بعضهم بعضاً ، أو أن هذا النوع الإنساني خلفاء الله في أرضه : { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات } في الخلق ، والرزق ، والقوة ، والفضل ، والعلم ، و { درجات } منصوب بنزع الخافض ، أي إلى درجات { لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتاكم } أي ليختبركم فيما آتاكم من تلك الأمور ، أو ليبتلي بعضكم ببعض كقوله تعالى :
{ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } [ الفرقان : 20 ] ثم خوّفهم فقال : { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب } فإنه وإن كان في الآخرة فكل آت قريب كما قال : { وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [ النحل : 77 ] ثم رغب من يستحق الترغيب من المسلمين ، فقال : { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي كثير الغفران والرحمة .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ } قال : لا يؤاخذ أحد بذنب غيره . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ في قوله : { وَهُوَ الذى جَعَلَكُمْ خلائف الأرض } قال : أهلك القرون الأولى ، فاستخلفنا فيها بعدهم { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات } قال : في الرزق .
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)
قوله : { المص } قد تقدّم في فاتحة سورة البقرة ما يغني عن الإعادة ، وهو إما مبتدأ وخبره { كتاب } ، أي { المص } حروف { كتاب أُنزِلَ إِلَيْكَ } أو هو خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا «المص» أي المسمى به ، وأما إذا كانت هذه الفواتح مسرودة على نمط التعديد فلا محل له ، و { كتاب } خبر المبتدأ على الوجه الأوّل ، أو خبر مبتدأ محذوف على الثاني ، أي هو كتاب . قال الكسائي : أي هذا كتاب ، و { أنزل إليك } صفة له . { فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ } الحرج : الضيق ، أي لا يكن في صدرك ضيق منه ، من إبلاغه إلى الناس مخافة أن يكذبوك ويؤذوك ، فإن الله حافظك وناصرك . وقيل : المراد لا يضق صدرك حيث لم يؤمنوا به ولم يستجيبوا لك { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } ، وقال مجاهد وقتادة : الحرج هنا الشك ، لأن الشاك ضيق الصدر ، أي لا تشك في أنه منزل من عند الله ، وعلى هذا يكون النهي له صلى الله عليه وسلم من باب التعريض ، والمراد أمته ، أي لا يشك أحد منهم في ذلك ، والضمير في { منه } راجع إلى الكتاب ، فعلى الوجه الأوّل : يكون على تقدير مضاف ، أي من إبلاغه ، وعلى الثاني : يكون التقدير من إنزاله ، والضمير في { لِتُنذِرَ بِهِ } راجع إلى الكتاب ، أي لتنذر الناس بالكتاب الذي أنزلناه إليك ، وهو متعلق بأنزل ، أي أنزل إليك لإنذارك للناس به ، أو متعلق بالنهي ، لأن انتفاء الشك في كونه منزلاً من عند الله ، أو انتفاء الخوف من قومه يقوّيه على الانذار ويشجعه ، لأن المتيقن يقدم على بصيرة ، ويباشر بقوّة نفس .
قوله : { وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ } الذكرى التذكير . قال البصريون : الذكرى في محل رفع على إضمار مبتدأ . وقال الكسائي : هي في محل رفع عطفاً على كتاب ، ويجوز النصب على المصدر ، أي وذكر به ذكرى قاله البصريون . ويجوز الجر حملاً على موضع { لتنذر } أي للإنذار والذكرى ، وتخصيص الذكرى بالمؤمنين ، لأنهم الذين ينجع فيهم ذلك ، وفيه إشارة إلى تخصيص الإنذار بالكافرين .
قوله : { اتبعوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ } يعني : الكتاب ، ومثله السنة لقوله : { وَمَا ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ] ونحوها من الآيات ، وهو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته . وقيل : هو أمر للأمة بعد أمره صلى الله عليه وسلم بالتبليغ ، وهو منزل إليهم بواسطة إنزاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم { وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } نهي للأمة عن أن يتبعوا أولياء من دون الله يعبدونهم ويجعلونهم شركاء لله ، فالضمير على هذا في { مِن دُونِهِ } يرجع إلى ربّ ، ويجوز أن يرجع إلى «ما» في { ما أنزل إليكم } أي لا تتبعوا من دون كتاب الله أولياء تقلدونهم في دينكم ، كما كان يفعله أهل الجاهلية من طاعة الرؤساء فيما يحللونه لهم ويحرمونه عليهم .
قوله : { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } انتصاب { قليلاً } على أنه صفة لمصدر محذوف للفعل المتأخر ، أي تذكراً قليلاً ، و « ما » مزيدة للتوكيد أو هو منتصب على الحال من فاعل { لا تتبعوا } ، و « ما » مصدرية ، أي لا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً تذكرهم ، قرىء « تَذَكرُونَ » بالتخفيف بحذف إحدى التاءين ، وقرىء بالتشديد على الإدغام .
قوله : { وَكَم مّن قَرْيَةٍ أهلكناها } « كم » هي الخبرية المفيدة للتكثير ، وهي في موضع رفع على الابتداء و { أهلكناها } الخبر ، { من } قرية تمييز ، ويجوز أن تكون في محل نصب بإضمار فعل بعدها لا قبلها ، لأن لها صدر الكلام ، ولولا اشتغال { أهلكناها } بالضمير لجاز انتصاب « كم » به ، والقرية موضع اجتماع الناس ، أي كم من قرية من القرى الكبيرة أهلكناها نفسها بإهلاك أهلها ، أو أهلكنا أهلها ، والمراد أردنا إهلاكها .
قوله : { فَجَاءهَا بَأْسُنَا } معطوف على أهلكنا بتقدير الإرادة كما مرّ؛ لأن ترتيب مجيء البأس على الإهلاك لا يصح إلا بهذا التقدير ، إذ الإهلاك هو نفس مجيء البأس . وقال الفراء : إن الفاء بمعنى الواو فلا يلزم التقدير ، والمعنى : أهلكناها وجاءها بأسنا ، والواو لمطلق الجمع لا ترتيب فيها . وقيل : إن الإهلاك واقع لبعض أهل القرية؛ فيكون المعنى : وكم من قرية أهلكنا بعض أهلها فجاءها بأسنا فأهلكنا الجميع . وقيل المعنى : وكم من قرية حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا . وقيل : أهلكناها بإرسال ملائكة العذاب إليها فجاءها بأسنا ، والبأس : هو العذاب . وحكي عن الفراء أنه إذا كان معنى الفعلين واحداً أو كالواحد قدمت أيهما شئت فيكون المعنى : وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها ، مثل دنا فقرب ، وقرب فدنا . { بَيَاتًا } أي ليلاً ، لأنه يبات فيه ، يقال بات يبيت بيتاً وبياتاً ، وهو مصدر واقع موقع الحال ، أي بائتين .
قوله : { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } معطوف على { بياتاً } أي بائتين أو قائلين ، وجاءت الجملة الحالية بدون واو استثقالاً لاجتماع الواوين واو العطف وواو الحال ، هكذا قال الفراء . واعترضه الزجاج فقال : هذا خطأ بل لا يحتاج إلى الواو ، تقول : جاءني زيد راكباً ، أو هو ماش ، لأن في الجملة ضميراً قد عاد إلى الأوّل ، و « أو » في هذا الموضع للتفصيل لا للشك . والقيلولة هي نوم نصف النهار . وقيل : هي مجرد الاستراحة في ذلك الوقت لشدّة الحرّ من دون نوم ، وخص الوقتين لأنهما وقت السكون والدعة ، فمجيء العذاب فيهما أشدّ وأفظع .
قوله : { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُم بَأْسُنَا إِلا أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظالمين } الدعوى : الدعاء ، أي فما كان دعاؤهم ربهم عند نزول العذاب ، إلا اعترافهم بالظلم على أنفسهم ، ومثله
{ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ } [ يونس : 10 ] أي آخر دعائهم . وقيل : الدعوى هنا بمعنى الادّعاء ، والمعنى : ما كان ما يدّعونه لدينهم وينتحلونه إلا اعترافهم ببطلانه وفساده ، واسم كان { إِلاَّ أَن قَالُواْ } وخبرها ( دعواهم ) ويجوز العكس ، والمعنى : ما كان دعواهم إلا قولهم إنا كنا ظالمين .
قوله : { فَلَنَسْئَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } هذا وعيد شديد ، والسؤال للقوم الذين أرسل الله إليهم الرسل من الأمم السالفة للتقريع والتوبيخ ، واللام لام القسم ، أي لنسألنهم عما أجابوا به رسلهم عند دعوتهم ، والفاء لترتيب الأحوال الأخروية على الأحوال الدنيوية { وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين } أي الأنبياء الذين بعثهم الله ، أي نسألهم عما أجاب به أممهم عليهم ، ومن أطاع منهم ومن عصى . وقيل المعنى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ، يعني الأنبياء ، ولنسألن المرسلين ، يعني الملائكة ، ولا يعارض هذا قول الله سبحانه : { وَلاَ يسأَل عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون } [ القصص : 78 ] لما قدّمنا غير مرة أن الآخرة مواطن ، ففي موطن يسألون ، وفي موطن لا يسألون ، وهكذا سائر ما ورد مما ظاهره التعارض بأن أثبت تارة ونفى أخرى ، بالنسبة إلى يوم القيامة ، فإنه محمول على تعدّد المواقف مع طول ذلك اليوم طولاً عظيماً { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ } أي على الرسل والمرسل إليهم ، ما وقع بينهم عند الدعوة منهم بعلم لا بجهل ، أي عالمين بما يسرون وما يعلنون { وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } عنهم في حال من الأحوال حتى يخفى علينا شيء مما وقع بينهم .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، وابن النجار في تاريخه ، عن ابن عباس ، في قوله : { المص } قال : أنا الله أفصل . وأخرج ابن جرير ، عن سعيد بن جبير ، مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، أن هذا ونحوه من فواتح السور قسم أقسم الله به ، وهي من أسماء الله . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { المص } قال : هو المصوّر . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن محمد بن كعب القرظي في قوله : { المص } قال : الألف من الله والميم من الرحمن والصاد من الصمد . وأخرج أبو الشيخ ، عن الضحاك ، قال معناه : أنا الله الصادق ، ولا يخفى عليك أن هذا كله قول بالظن ، وتفسير بالحدس ، ولا حجة في شيء من ذلك ، والحق ما قدّمنا في فاتحة سورة البقرة .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس : { فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ } قال : الشك ، وقال الأعرابيّ : ما الحرج فيكم؟ قال : اللبس . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد ، نحوه . وأخرج أبو الشيخ ، عن الضحاك ، قال : ضيق . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن مسعود : ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم ، ثم قرأ { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ } الآية . وأخرجه ابن جرير عنه مرفوعاً .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي ، عن ابن عباس { فَلَنَسْئَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ المرسلين } قال : نسأل الناس عما أجابوا المرسلين ، ونسأل المرسلين عما بلغوا ، { فلنقصنّ عليهم بعلم } ، قال : بوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون . وأخرج عبد بن حميد ، عن فرقد ، في الآية قال : أحدهما الأنبياء ، وأحدهما الملائكة . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، في الآية قال : نسأل الناس عن قول لا إله إلا الله ، ونسأل جبريل .
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
قوله : { والوزن يَوْمَئِذٍ الحق } الوزن مبتدأ وخبره الحق ، أي الوزن في هذا اليوم العدل الذي لا جور فيه ، أو الخبر يومئذ ، والحق وصف للمبتدأ ، أي الوزن العدل كائن في هذا اليوم وقيل : إن الحق خبر مبتدأ محذوف .
واختلف أهل العلم في كيفية هذا الوزن الكائن في هذا اليوم ، فقيل : المراد به وزن صحائف أعمال العباد بالميزان وزناً حقيقياً ، وهذا هو الصحيح ، وهو الذي قامت عليه الأدلة وقيل : توزن نفس الأعمال ، وإن كانت أعراضاً فإن الله يقلبها يوم القيامة أجساماً كما جاء في الخبر الصحيح : « إن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فِرْقان من طير صوافّ » وكذلك ثبت في الصحيح أنه يأتي القرآن في صورة شاب شاحب اللون ونحو ذلك . وقيل : الميزان الكتاب الذي فيه أعمال الخلق . وقيل : الوزن والميزان بمعنى العدل والقضاء ، وذكرهما من باب ضرب المثل ، كما تقول هذا الكلام في وزن هذا . قال الزجاج : هذا سائغ من جهة اللسان ، والأولى أن نتبع ما جاء في الأسانيد الصحاح من ذكر الميزان . قال القشيري : وقد أحسن الزجاج فيما قال ، إذ لو حمل [ الميزان على هذا ، فليحمل ] الصراط على الدين الحق ، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد ، والشياطين والجنّ على الأخلاق المذمومة ، والملائكة على القوى المحمودة ، ثم قال : وقد أجمعت الأمة في الصدر الأوّل على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل ، وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر ، وصارت هذه الظواهر نصوصاً انتهى . والحق هو : القول الأوّل .
وأما المستبعدون لحمل هذه الظواهر على حقائقها فما يأتون في استبعادهم بشيء من الشرع يرجع إليه ، بل غاية ما تشبثوا به مجرد الاستبعادات العقلية ، وليس في ذلك حجة على أحد ، فهذا إذا لم تقبله عقولهم ، فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، حتى جاءت البدع كالليل المظلم وقال كل ما شاء ، وتركوا الشرع خلف ظهورهم وليتهم جاءوا بأحكام عقلية يتفق العقلاء عليها ، ويتحد قبولهم لها ، بل كل فريق يدعى على العقل ما يطابق هواه ، ويوافق ما يذهب إليه هو أو من هو تابع له ، فتتناقض عقولهم على حسب ما تناقضت مذاهبهم ، يعرف هذا كل منصف ، ومن أنكره فليصفّ فهمه وعقله عن شوائب التعصب والتمذهب ، فإنه إن فعل ذلك أسفر الصبح لعينيه .
وقد ورد ذكر الوزن والموازين في مواضع من القرآن كقوله : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } [ الأنبياء : 47 ] ، وقوله : { فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] ، وقوله : { فَمَن ثَقُلَتْ موازينه فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون وَمَنْ خَفَّتْ موازينه فأُوْلَئِكَ الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خالدون }
[ المؤمنون : 102 ، 103 ] ، وقوله : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] ، وقوله : { فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ موازينه فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ موازينه فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } [ القارعة : 6-9 ] .
والفاء في { فَمَن ثَقُلَتْ موازينه } للتفصيل . والموازين : جمع ميزان ، وأصله موزان قلبت الواو ياء لكسر ما قبلها ، وثقل الموازين هذا يكون بثقل ما وضع فيها من صحائف الأعمال . وقيل : إن الموازين جمع موزون ، أي فمن رجحت أعماله الموزونة ، والأوّل : أولى . وظاهر جمع الموازين المضافة إلى العامل أن لكل واحد من العاملين موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله . وقيل : وهو ميزان واحد عبر عنه بلفظ الجمع كما يقال : خرج فلان إلى مكة على البغال ، والإشارة بقوله : { فَأُوْلَئِكَ } إلى " من " ، والجمع باعتبار معناه كما رجع إليه ضمير { موازينه } باعتبار لفظه هو مبتدأ خبره { هُمْ المفلحون } والكلام في قوله : { وَمَنْ خَفَّتْ موازينه فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } مثله ، والباء في { بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ } سببية ، و " ما " مصدرية . ومعنى { يَظْلِمُونَ } يكذبون .
قوله : { وَلَقَدْ مكناكم فِى الأرض } أي جعلنا لكم فيها مكاناً وهيأنا لكم فيها أسباب المعايش . والمعايش جمع معيشة ، أي ما يتعايش به من المطعوم والمشروب ، وما تكون به الحياة ، يقال عاش يعيش عيشاً ومعاشاً ومعيشاً . قال الزجاج : المعيشة ما يتوصلون به إلى العيش ، والمعيشة عند الأخفش وكثير من النحويين مفعلة . وقرأ الأعرج «معائش» بالهمز ، وكذا روى خارجة بن مصعب ، عن نافع . قال النحاس : والهمز لحن لا يجوز ، لأن الواحدة معيشة والياء أصلية ، كمدينة ومداين ، وصحيفة وصحايف . قوله : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } الكلام فيه كالكلام فيما تقدّم قريباً من قوله تعالى : { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 3 ] .
قوله : { وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم } هذا ذكر نعمة أخرى من نعم الله على عبيده . والمعنى : خلقناكم نطفاً ثم صوّرناكم بعد ذلك ، وقيل المعنى : خلقنا آدم من تراب ، ثم صورناكم في ظهره . وقيل : { وَلَقَدْ خلقناكم } يعني : آدم ذكر بلفظ الجمع؛ لأنه أبو البشر ، { ثُمَّ صورناكم } راجع إليه ، ويدلّ عليه : { ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ } فإن ترتيب هذا القول على الخلق والتصوير يفيد أن المخلوق المصوّر آدم عليه السلام . وقال الأخفش : إن " ثم " في { ثُمَّ صورناكم } بمعنى الواو . وقيل المعنى : خلقناكم من ظهر آدم ، ثم صوّرناكم حين أخذنا عليكم الميثاق . قال النحاس : وهذا أحسن الأقوال وقيل المعنى : ولقد خلقنا الأرواح أوّلاً ، ثم صوّرنا الأشباح ، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ، أي أمرناهم بذلك فامتثلوا الأمر ، وفعلوا السجود بعد الأمر { إِلاَّ إِبْلِيسَ } قيل : الاستثناء متصل بتغليب الملائكة على إبليس؛ لأنه كان منفرداً بينهم ، أو كما قيل : لأن من الملائكة جنساً يقال لهم الجنّ .
وقيل : غير ذلك . وقد تقدّم تحقيقه في البقرة . قوله : { لَمْ يَكُن مّنَ الساجدين } .
جملة مبينة لما فهم من معنى الاستثناء ، ومن جعل الاستثناء منقطعاً قال معناه : لكن إبليس لم يكن من الساجدين ، وجملة : { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا قال له الله؟ و«لا» في { أَلا تَسْجُدَ } زائدة للتوكيد بدليل قوله تعالى في سورة ص : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } [ ص : 75 ] ؛ وقيل إن " منع " بمعنى قال ، والتقدير : من قال لك أن لا تسجد؛ وقيل " منع " بمعنى دعا ، أي ما دعاك إلى أن لا تسجد . وقيل : في الكلام حذف ، والتقدير : ما منعك من الطاعة وأحوجك إلى أن لا تسجد { إِذْ أَمَرْتُكَ } أي وقت أمرتك ، وقد استدل به على أن الأمر للفور ، والبحث مقرر في علم الأصول ، والاستفهام في { مَا مَنَعَكَ } للتقريع والتوبيخ ، وإلا فهو سبحانه عالم بذلك ، وجملة : { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل : فما قال إبليس؟ وإنما قال في الجواب { أنا خير منه } ، ولم يقل : منعني كذا ، لأن في هذه الجملة التي جاء بها مستأنفة ما يدل على المانع ، وهو اعتقاده أنه أفضل منه . والفاضل لا يفعل مثل ذلك للمفضول مع ما تفيده هذه الجملة من إنكار أن يؤمر مثله بالسجود لمثله . ثم علل ما ادّعاه من الخيرية بقوله : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } اعتقاداً منه أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين . وقد أخطأ عدوّ الله ، فإن عنصر الطين أفضل من عنصر النار من جهة رزانته وسكونه ، وطول بقائه ، وهي حقيقة مضطربة سريعة النفاد ، ومع هذا فهو موجود في الجنة دونها ، وهي عذاب دونه ، وهي محتاجة إليه لتتحيز فيه ، وهو مسجد وطهور ، ولولا سبق شقاوته ، وصدق كلمة الله عليه ، لكان له بالملائكة المطيعين لهذا الأمر أسوة وقدوة ، فعنصرهم النوري أشرف من عنصره الناري .
وجملة { قَالَ فاهبط } استئنافية كالتي قبلها ، والفاء لترتيب الأمر بالهبوط على مخالفته للأمر ، أي اهبط من السماء التي هي محل المطيعين من الملائكة الذين لا يعصون الله فيما أمرهم ، إلى الأرض التي هي مقرّ من يعصي ويطيع ، فإن السماء لا تصلح لمن يتكبر ، ويعصى أمر ربه مثلك ، ولهذا قال { فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا } . ومن التفاسير الباطلة ما قيل إن معنى { اهبط مِنْهَا } أي أخرج من صورتك النارية التي افتخرت بها صورة مشوّهة مظلمة؛ وقيل المراد هبوطه من الجنة . وقيل من زمرة الملائكة ، وجملة { فاخرج } لتأكيد الأمر بالهبوط ، وجملة { إنك من الصاغرين } تعليل للأمر ، أي إنك من أهل الصغار ، والهوان على الله ، وعلى صالحي عباده ، وهكذا كل من تردّى برداء الاستكبار ، عوقب بلبس رداء الهوان والصغار .
ومن ليس رداء التواضع ألبسه الله رداء الترفع .
وجملة : { قَالَ أَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } استئنافية كما تقدّم في الجمل السابقة ، أي أمهلني إلى يوم البعث ، وكأنه طلب أن لا يموت ، لأن يوم البعث لا موت بعده ، والضمير في { يُبْعَثُونَ } لآدم وذريته ، فأجابه الله بقوله : { إِنَّكَ مِنَ المنظرين } أي الممهلين إلى ذلك اليوم ، ثم تعاقب بما قضاه الله لك ، وأنزله بك في دركات النار . قيل : الحكمة في إنظاره ابتلاء العباد ، ليعرف من يطيعه ممن يعصيه .
وجملة : { قَالَ فبِمَا أَغْوَيْتَنِى } مستأنفة كالجمل السابقة ، واردة جواباً لسؤال مقدّر ، والباء في { فبِمَا } للسببية ، والفاء لترتيب الجملة على ما قبلها . وقيل : الباء للقسم كقوله : { فَبِعِزَّتِكَ لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] أي فباغوائك إياي { لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم } ، والإغواء : الإيقاع في الغيّ . وقيل : الباء بمعنى اللام ، وقيل : بمعنى مع . والمعنى : فمع إغوائك إياي . وقيل : « مَا » في { فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى } للاستفهام . والمعنى : فبأي شيء أغويتني؟ والأوّل : أولى . ومراده بهذا الإغواء الذي جعله سبباً لما سيفعله مع العباد هو ترك السجود منه ، وأن ذلك كان بإغواء الله له ، حتى اختار الضلالة على الهدى . وقيل : أراد به اللعنة التي لعنه الله ، أي فبما لعنتني فأهلكتني ، لأقعدنّ لهم ومنه : { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } [ مريم : 59 ] أي هلاكاً . وقال ابن الأعرابي : يقال : غوى الرجل يغوي غياً ، إذا فسد عليه أمره أو فسد هو في نفسه ، ومنه : { وعصى ءادَمَ رَبَّهُ فغوى } [ طه : 121 ] أي فسد عيشه في الجنة { لأقْعُدَنَّ لَهُمْ } أي لأجهدنّ في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسبب تركي السجود لأبيهم . والصراط المستقيم هو الطريق الموصل إلى الجنة . وانتصابه على الظرفية ، أي في صراطك المستقيم كما حكى سيبويه ضرب زيد الظهر والبطن ، واللام في ( لأقعدنّ ) لام القسم ، والباء في { فبِمَآ أَغْوَيْتَنِى } متعلقة بفعل القسم المحذوف ، أي فبما أغويتني أقسم لأقعدنّ .
قوله : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ } ذكر الجهات الأربع؛ لأنها هي التي يأتي منها العدو عدوّه ، ولهذا ترك ذكر جهة الفوق والتحت ، وعدى الفعل إلى الجهتين الأوليين « بمن » ، وإلى الآخريين « بعن » ، لأن الغالب فيمن يأتي من قدام وخلف أن يكون متوجهاً إلى ما يأتيه بكلية بدنه ، والغالب فيمن يأتي من جهة اليمين والشمال أن يكون منحرفاً ، فناسب في الأوليين التعدية بحرف الابتداء ، وفي الأخريين التعدية بحرف المجاوزة ، وهو تمثيل لوسوسته وتسويله بمن يأتي حقيقة . وقيل المراد : { مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } من دنياهم { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } من آخرتهم { وَعَنْ أيمانهم } من جهة حسناتهم { وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } من جهة سيئاتهم ، واستحسنه النحاس . قوله : { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين } أي وعند أن أفعل ذلك لا تجد أكثرهم شاكرين ، لتأثير وسوستي فيهم وإغوائي لهم ، وهذا قاله على الظنّ ، ومنه قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } [ سبأ : 20 ] . وقيل : إنه سمع ذلك من الملائكة فقاله ، وعبر بالشكر عن الطاعة أو هو على حقيقته وأنهم لم يشكروا الله بسبب الإغواء .
وجملة { قَالَ اخرج مِنْهَا } استئناف ، كالجمل التي قبلها ، أي من السماء أو الجنة أو من بين الملائكة كما تقدّم { مَذْءومًا } أي مذموماً من ذأمه إذا ذمَّه ، يقال : ذأمته وذممته بمعنى . وقرأ الأعمش «مذموماً» . وقرأ الزهريّ «مذوماً» بغير همزة؛ وقيل المذءوم : المنفي ، والمدحور : المطرود . قوله : { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } قرأ الجمهور بفتح اللام على أنها لام القسم ، وجوابه : { لأَمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } وقيل : اللام في { لَّمَن تَبِعَكَ } للتوكيد ، وفي { لأَمْلاَنَّ } لام القسم . والأوّل : أولى ، وجواب القسم سدّ مسدّ جواب الشرط ، لأن مَنْ شرطية ، وفي هذا الجواب من التهديد ما لا يقادر قدره . وقرأ عاصم في رواية عنه " لَّمَن تَبِعَكَ " بكسر اللام ، وأنكره بعض النحويين . قال النحاس : وتقديره والله أعلم ، من أجل من اتبعك كما يقال : أكرمت فلاناً لك . وقيل : هو علة لا خرج ، وضمير { مّنكُمْ } له ولمن اتبعه ، وغلب ضمير الخطاب على ضمير الغيبة ، والأصل منك ومنهم .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { والوزن يَوْمَئِذٍ الحق } قال : العدل { فَمَن ثَقُلَتْ موازينه } قال : حسناته { وَمَنْ خَفَّتْ موازينه } قال : حسناته . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السدي ، توزن الأعمال . وقد ورد في كيفية الميزان والوزن والموزون أحاديث كثيرة .
وأخرج أحمد ، والترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مدّ البصر ، فيقول : أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول : لا يا ربّ ، فيقول : أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول : لا يا ربّ ، فيقول : بلى إن لك عندنا حسنة ، وإنّه لا ظلم عليك اليوم ، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، فيقول : يا ربّ ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال : إنك لا تظلم ، فتوضع السجلات في كفة ، والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة " وقد صححه أيضاً الترمذي ، وإسناده أحمد حسن .
وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم } قال : خلقوا في أصلاب الرجال ، وصوّروا في أرحام النساء .
وأخرج الفريابي عنه أنه قال : خلقوا في ظهر آدم ، ثم صوّروا في الأرحام . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه أيضاً قال : أما { خلقناكم } فآدم ، وأما { ثم صوّرناكم } فذريته .
وأخرج أبو الشيخ ، عن عكرمة ، في الآية قال : خلق إبليس من نار العزة . وقد ثبت في الصحيح من حديث عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خلقت الملائكة من نور ، وخلق إبليس من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم » وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : أوّل من قاس إبليس في قوله : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } وإسناده صحيح إلى الحسن . وأخرج أبو نعيم في الحلية ، والديلمي ، عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جدّه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أوّل من قاس أمر الدين برأيه إبليس قال الله له اسجد لآدم ، فقال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين » قال جعفر : فمن قاس أمر الدين برأيه ، قرنه الله يوم القيامة بإبليس ، لأنه اتبعه بالقياس ، وينبغي أن ينظر في إسناد هذا الحديث ، فما أظنه يصح رفعه وهو لا يشبه كلام النبوّة .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، قال : { فبِمَا أَغْوَيْتَنِى } أضللتني . وأخرج عبد بن حميد ، عنه ، في قوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم } قال : طريق مكة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن مسعود مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } قال : أشككهم في آخرتهم { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } قال : أرغبهم في دنياهم { وَعَنْ أيمانهم } أشبه عليهم أمر دينهم { وَعَن شَمَائِلِهِمْ } قال : أسنّ لهم المعاصي وأحق عليهم الباطل { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين } قال : موحدين .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } يقول : من حيث يبصرن { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } من حيث لا يبصرون { وَعَنْ أيمانهم } من حيث يبصرون { وَعَن شَمَائِلِهِمْ } من حيث لا يبصرون . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عنه ، أيضاً في الآية قال : لم يستطع أن يقول من فوقهم . وفي لفظ علم أن الرحمة تنزل من فوقهم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه ، في قوله : { مَذْءومًا } قال : ملوماً ، مدحوراً : قال مقيتاً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد { مَذْءومًا } قال : منفياً { مَّدْحُورًا } قال : مطروداً .
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
قوله : { ويا ءادَمَ } هو على تقدير القول ، أي وقلنا يا آدم . قال له هذا القول ، بعد إخراج إبليس من الجنة ، أو من السماء ، أو من بين الملائكة كما تقدّم . وقد تقدّم معنى الإسكان ، ومعنى : { ولا تَقْرَبَا هذه الشجرة } في البقرة . ومعنى : { مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا } من أيّ نوع من أنواع الجنة شئتما أكله ، ومثله ما تقدّم من قوله تعالى : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا } [ البقرة : 35 ] وحذف النون من { فَتَكُونَا } لكونه معطوفاً على المجزوم ، أو منصوباً على أنه جواب النهي .
قوله : { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان } الوسوسة : الصوت الخفي ، والوسوسة : حديث النفس ، يقال وسوست إليه نفسه وسوسة ووسواساً بكسر الواو ، والوسوسة بالفتح الاسم : مثل الزلزلة والزلزال ، ويقال لهمس الصائد والكلاب ، وأصوات الحلي : وسواس . قال الأعشى :
تسمع للحليّ وسواساً إذا انصرفت ... والوسواس : اسم الشيطان . ومعنى وسوس له : وسوس إليه ، أو فعل الوسوسة لأجله . قوله : { لِيُبْدِيَ لَهُمَا } أي ليظهر لهما ، واللام للعاقبة ، كما في قوله : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] . وقيل هي لام كي ، أي فعل ذلك ليتعقبه الإيذاء ، أو لكي يقع الإيذاء . قوله : { مَا وُورِيَ } أي ما ستر وغطي { عَنْهُمَا مِنَ سَوآتِهِما } سمي الفرج سوءة ، لأن ظهوره يسوء صاحبه ، أراد الشيطان أن يسوءهما بظهور ما كان مستوراً عنهما من عوراتهما ، فإنهما كانا لا يريان عورة أنفسهما ، ولا يراها أحدهما من الآخر ، وإنما لم تقلب الواو في { مَا وُورِيَ } همزة ، لأن الثانية مدة . قيل : إنما بدت عورتهما لهما لا لغيرهما ، وكان عليهما نور يمنع من رؤيتها { وَقَالَ } أي الشيطان لهما { مَا نهاكما رَبُّكُمَا عَنْ } أكل هذه الشجرة { إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } " أن " في موضع نصب ، وفي الكلام مضاف محذوف تقديره : ولا كراهة أن تكونا ملكين ، هكذا قال البصريون . وقال الكوفيون : التقدير لئلا تكونا ملكين { أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين } في الجنة ، أو من الذين لا يموتون . قال النحاس : فضل الله الملائكة على جميع الخلق في غير موضع في القرآن ، فمنها هذا ، ومنها : { وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ } [ هود : 31 ] ، ومنها { وَلاَ الملئكة المقربون } [ النساء : 172 ] . قال ابن فورك : لا حجة في هذه الآية ، لأنه يحتمل أن يريد ملكين في أن لا يكون لهما شهوة في الطعام .
وقد اختلف الناس في هذه المسألة اختلافاً كثيراً ، وأطالوا الكلام في غير طائل ، وليست هذه المسألة مما كلفنا الله بعلمه ، فالكلام فيها لا يعنينا . وقرأ ابن عباس ، ويحيى بن أبي كثير ، والضحاك «ملكين» بكسر اللام ، وأنكر أبو عمرو بن العلاء هذه القراءة وقال : لم يكن قبل آدم ملك فيصيرا ملكين . وقد احتج من قرأ بالكسر بقوله تعالى :
{ هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } [ طه : 120 ] . قال أبو عبيد : هذه حجة بينة لقراءة الكسر ، ولكنّ الناس على تركها فلهذا تركناها . قال النحاس : هي قراءة شاذة ، وأنكر على أبي عبيد ، هذا الكلام وجعله من الخطأ الفاحش . قال وهل يجوز أن يتوهم على آدم عليه السلام أن يصل إلى أكثر من ملك الجنة وهي غاية الطالبين؟ وإنما معنى { وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } المقام في ملك الجنة والخلود فيه .
قوله : { وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } أي حلف لهما فقال : أقسم قساماً أي حلف ، ومنه قول الشاعر :
وقاسمهما بالله جهداً لأنتما ... ألذّ من السلوى إذا ما نشورها
وصيغة المفاعلة وإن كانت في الأصل تدلّ على المشاركة ، فقد جاءت كثيراً لغير ذلك . وقد قدّمنا تحقيق هذا في المائدة ، والمراد بها هنا المبالغة في صدور الأقسام لهما من إبليس . وقيل : إنهما أقسما له بالقبول ، كما أقسم لهما على المناصحة ، قوله : { فدلاهما بِغُرُورٍ } التدلية والإدلاء : إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل ، يقال أدلى دلوه : أرسلها ، والمعنى : أنه أهبطهما بذلك من الرتبة العلية إلى الأكل من الشجرة . وقيل معناه : أوقعهما في الهلاك . وقيل : خدعهما ، وأنشد نفطويه :
إن الكريم إذا تشاء خدعته ... وترى اللئيم مجرباً لا يخدع
وقيل معنى : { دلاهما } دللهما من الدالة ، وهي الجرأة ، أي جرأهما على المعصية ، فخرجا من الجنة . قوله : { فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سوآتِهِما } أي لما طعماها ظهرت لهما عوراتهما ، بسبب زوال ما كان ساتراً لهما ، وهو تقلص النور الذي كان عليها . وقد تقدّم في البقرة ، قوله : { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة } طفق يفعل كذا ، بمعنى شرع يفعل كذا . وحكى الأخفش : طفق يطفق مثل ضرب يضرب أي شرعا أو جعلا يخصفان عليهما . قرأ الحسن «يخصفان» بكسر الخاء وتشديد الصاد ، والأصل يختصفان ، فأدغم وكسرت الخاء لالتقاء الساكنين . وقرأ ابن بريدة ويعقوب بفتح الخاء . وقرأ الزهري «يخصفان» من أخصف . وقرأ الجمهور { يخصفان } من خصف . والمعنى : أنهما أخذا يقطعان الورق ويلزقانه بعورتهما ليستراها ، من خصف النعل : إذا جعله طبقة فوق طبقة { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا } قائلاً لهما : { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة } التي نهيتكما عن أكلها ، وهذا عتاب من الله لهما وتوبيخ ، حيث لم يحذرا ما حذرهما منه { وَأَقُل لَّكُمَا } معطوف على { أنهكما } { إِنَّ الشيطان لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ } أي مظهر للعداوة .
قوله : { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } جملة استئنافية مبنية على تقدير سؤال كأنه قيل فماذا قالا؟ وهذا منهما اعتراف بالذنب ، وأنهما ظلما أنفسهما مما وقع منهما من المخالفة ، ثم قالا : { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } .
وجملة { قَالَ اهبطوا } استئناف كالتي قبلها ، والخطاب لآدم وحواء وذريتهما ، أو لهما ولإبليس ، وجملة { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } في محل نصب على الحال { وَلَكُمْ فِى الأرض مُسْتَقَرٌّ } أي موضع استقرار و لكم { متاع } تتمتعون به في الدنيا ، وتنتفعون به من المطعم والمشرب ونحوهما { إلى حِينٍ } أي إلى وقت ، وهو وقت موتكم .
وجملة { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } استئنافية كالتي قبلها ، أي في الأرض تحيون ، وفيها يأتيكم الموت ، ومنها تخرجون إلى دار الآخرة ، ومثله قوله تعالى : { مِنْهَا خلقناكم وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى } [ طه : 55 ] واعلم أنه قد سبق شرح هذه القصة مستوفى في البقرة فارجع إليه .
وقد أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن عساكر ، عن وهب بن منبه في قوله : { لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا } قال : كان على كل واحد منهما نور لا يبصر كل واحد منهما سوءة صاحبه ، فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، قال : أتاهما إبليس فقال : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكون ملكين مثله ، يعني مثل الله عزّ وجلّ ، فلم يصدّقاه حتى دخل في جوف الحية فكلمهما . وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في الآية { إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } فإن أخطأكما أن تكونا ملكين لم يخطئكما أن تكونا خالدين فلا تموتان فيها أبداً { وَقَاسَمَهُمَا } قال : حلف لهما { إِنّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن محمد بن كعب ، في قوله : { فدلاهما بِغُرُورٍ } قال : مناهما بغرور . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي شيبة ، عن عكرمة قال : لباس كل دابة منها ، ولباس الإنسان الظفر ، فأدركت آدم التوبة عند ظفره . وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ وابن مردويه ، والبيهقي ، وابن عساكر ، عن ابن عباس ، قال : كان لباس آدم وحواء كالظفر ، فلما أكلا من الشجرة لم يبق عليهما إلا مثل الظفر { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة } قال : ينزعان ورق التين ، فيجعلانه على سوآتهما . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : لما أسكن الله آدم الجنة كساه سربالاً من الظفر ، فلما أصاب الخطيئة سلبه السربال ، فبقي في أطراف أصابعه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عنه ، نحوه من طريق أخرى . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أنس بن مالك ، قال : كان لباس آدم في الجنة الياقوت ، فلما عصى قلص فصار الظفر .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ } قال : يرقعان كهيئة الثوب . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السديّ { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة } قال آدم : ربّ إنه حلف لي بك ، ولم أكن أعلم أن أحداً من خلقك يحلف بك إلا صادقاً ، وأخرج عبد بن حميد ، عن الحسن { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } الآية قال : هي الكلمات التي تلقى آدم من ربه . وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك مثله .
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
عبّر سبحانه بالإنزال عن الخلق ، أي خلقنا لكم لباساً يواري سوآتكم التي أظهرها إبليس من أبويكم ، والسوأة العورة كما سلف ، والكلام في قدرها وما يجب ستره منها مبين في كتب الفروع . قوله : { وَرِيشًا } قرأ الحسن وعاصم ، من رواية المفضل الضبي ، وأبو عمرو ، من رواية الحسن بن عليّ الجعفي «ورياشاً» وقرأ الباقون { وريشاً } والرياش جمع ريش : وهو اللباس . قال الفراء : ريش ورياش كما يقال لبس ولباس ، وريش الطائر ما ستره الله به . وقيل المراد بالريش هنا : الخصب ورفاهية العيش . قال القرطبي : والذي عليه أكثر أهل اللغة : أن الريش ما ستر من لباس أو معيشة . وحكى أبو حاتم عن أبي عبيدة : وهبت له دابة وريشها ، أي وما عليها من اللباس . وقيل : المراد بالريش هنا لباس الزينة لذكره بعد قوله : { قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا } وعطفه عليه .
قوله : { وَلِبَاسُ التقوى } قرأ أهل المدينة وابن عامر والكسائي بنصب لباس . وقرأ الباقون بالرفع؛ فالنصب على أنه معطوف على لباس الأوّل ، والرفع على أنه مبتدأ ، وجملة { ذلك خَيْرٌ } خبره ، والمراد بلباس التقوى : لباس الورع ، واتقاء معاصي الله ، وهو الورع نفسه والخشية من الله ، فذلك خير لباس وأجمل زينة . وقيل : لباس التقوى الحياء . وقيل : العمل الصالح ، وقيل : هو لباس الصوف والخشن من الثياب لما فيه من التواضع لله . وقيل : هو الدرع والمغفر الذي يلبسه من يجاهد في سبيل الله ، والأوّل أولى . وهو يصدق على كل ما فيه تقوى لله فيندرج تحته جميع ما ذكر من الأقوال ، ومثل هذه الاستعارة كثيرة الوقوع في كلام العرب ، ومنه :
إذ المرء لم يلبس ثياباً من التقى ... تقلب عرياناً وإن كان كاسيا
ومثله :
تغطّ بأثواب السخاء فإنني ... أرى كل عيب والسخاء غطاؤه
والإشارة بقوله : { ذلك } إلى لباس التقوى ، أي هو خير لباس ، وقرأ الأعمش : " وَلِبَاسُ التقوى خَيْرٌ " والإشارة بقوله { ذلك مِنْ آيات الله } إلى الإنزال المدلول عليه بأنزلنا ، أي ذلك الإنزال من آيات الله الدالة على أن له خالقاً . ثم كرّر الله سبحانه النداء لبني آدم تحذيراً لهم من الشيطان ، فقال : { يابنى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان } أي لا يوقعنكم في الفتنة ، فالنهي وإن كان للشيطان ، فهو في الحقيقة لبني آدم بأن لا يفتتنوا بفتنته ويتأثروا لذلك ، والكاف في { كَمَا أَخْرَجَ } نعت مصدر محذوف ، أي لا يفتننكم فتنة مثل إخراج أبويكم من الجنة ، وجملة : { يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا } في محل نصب على الحال ، وقد تقدّم تفسيره ، واللام في { لِيُرِيَهُمَا سوآتهِما } لام كي ، أي لكي يريهما ، وقد تقدّم تفسيره أيضاً . قوله : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } هذه الجملة تعليل لما قبلها ، مع ما تتضمنه من المبالغة في تحذريهم منه ، لأن من كان بهذه المثابة يرى بني آدم من حيث لا يرونه ، كان عظيم الكيد ، وكان حقيقاً بأن يحترس منه أبلغ احتراس { وَقَبِيلُهُ } أعوانه من الشياطين وجنوده .
وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على أن رؤية الشياطين غير ممكنة ، وليس في الآية ما يدل على ذلك ، وغاية ما فيها أنه يرانا من حيث لا نراه ، وليس فيها أنا لا نراه أبداً ، فإن انتفاء الرؤية منا له في وقت رؤيته لنا لا يستلزم انتفاءها مطلقاً ، ثم أخبر الله سبحانه بأنه جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون من عباده وهم الكفار .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم } قال : كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراة ، وفي قوله : { وَرِيشًا } قال : المال . وأخرج ابن جرير ، عن عروة بن الزبير ، في قوله : { لِبَاسًا يوارى سوآتكم } قال : الثياب { وَرِيشًا } قال : المال { وَلِبَاسُ التقوى } قال : خشية الله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن زيد بن عليّ ، في قوله : { لِبَاسًا يوارى سواتِكم } قال : لباس العامة { وَرِيشًا } قال : لباس الزينة { وَلِبَاسُ التقوى } قال : الإسلام . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، من طرق عن ابن عباس ، في قوله : { وَرِيشًا } قال : المال واللباس والعيش والنعيم ، وفي قوله : { وَلِبَاسُ التقوى } قال : الإيمان والعمل الصالح { ذلك خَيْرٌ } قال : الإيمان والعمل خير من الريش واللباس ، وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه ، في قوله : « ورياشاً } يقول : المال . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا } قال : التقوى ، وفي قوله : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ } قال : الجن والشياطين .
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
الفاحشة : ما تبالغ في فحشه وقبحه من الذنوب . قال أكثر المفسرين : هي طواف المشركين بالبيت عراة . وقيل هي الشرك ، والظاهر أنها تصدق على ما هو أعم من الأمرين جميعاً ، والمعنى : أنهم إذا فعلوا ذنباً قبيحاً متبالغاً في القبح ، اعتذروا عن ذلك بعذرين : الأوّل : أنهم فعلوا ذلك اقتداء بآبائهم لما وجدوهم مستمرين على فعل تلك الفاحشة ، والثاني : أنهم مأمورون بذلك من جهة الله سبحانه . وكلا العذرين في غاية البطلان والفساد ، لأن وجود آبائهم على القبح لا يسوّغ لهم فعله ، والأمر من الله سبحانه لهم لم يكن بالفحشاء ، بل أمرهم باتباع الأنبياء والعمل بالكتب المنزلة ونهاهم عن مخالفتهما ، ومما نهاهم عنه فعل الفواحش ، ولهذا ردّ الله سبحانه عليهم بأن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : { إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء } فكيف تدّعون ذلك عليه سبحانه ، ثم أنكر عليهم ما أضافوه إليه ، فقال : { أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وهو من تمام ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم ، وفيه من التقريع والتوبيخ أمر عظيم ، فإن القول بالجهل إذا كان قبيحاً في كل شيء ، فكيف إذا كان في التقوّل على الله؟
وإن في هذه الآية الشريفة لأعظم زاجر ، وأبلغ واعظ ، للمقلدة الذين يتبعون آباءهم في المذاهب المخالفة للحق ، فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر لا بأهل الحق ، فإنهم القائلون : { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] والقائلون { وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا والله أَمَرَنَا بِهَا } والمقلد لولا اغتراره بكونه وجد أباه على ذلك المذهب ، مع اعتقاده بأنه الذي أمر الله به ، وأنه الحق لم يبق عليه ، وهذه الخصلة هي التي بقي بها اليهودي على اليهودية ، والنصراني على النصرانية ، والمبتدع على بدعته ، فما أبقاهم على هذه الضلالات إلا كونهم وجدوا آباءهم في اليهودية ، والنصرانية ، أو البدعية ، وأحسنوا الظنّ بهم ، بأن ما هم عليه هو الحق الذي أمر الله به ، ولم ينظروا لأنفسهم ، ولا طلبوا الحق كما يجب ، وبحثوا عن دين الله كما ينبغي ، وهذا هو التقليد البحت والقصور الخالص ، فيا من نشأ على مذهب من هذه المذاهب الإسلامية أنا لك النذير المبالغ في التحذير ، من أن تقول هذه المقالة وتستمر على الضلالة ، فقد اختلط الشرّ بالخير ، والصحيح بالسقيم ، وفاسد الرأي بصحيح الرواية ، ولم يبعث الله إلى هذه الأمة إلا نبياً واحداً أمرهم باتباعه ونهى عن مخالفته فقال : { وَمَا آتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ] ولو كان محض رأى أئمة المذاهب وأتباعهم حجة على العباد ، لكان لهذه الأمة رسل كثيرون متعدّدون بعدد أهل الرأي المكلفين للناس بما لم يكلفهم الله به .
وإن من أعجب الغفلة ، وأعظم الذهول عن الحق ، اختيار المقلدة لآراء الرجال مع وجود كتاب الله ، ووجود سنة رسوله ، ووجود من يأخذونهما عنه ، ووجود آلة الفهم لديهم ، وملكة العقل عندهم .
قوله : { قُلْ أَمَرَ رَبّي بالقسط } القسط : العدل ، وفيه أن الله سبحانه يأمر بالعدل ، لا كما زعموه من أن الله أمرهم بالفحشاء . وقيل القسط هنا هو : لا إله إلا الله ، وفي الكلام حذف ، أي قل أمر ربي بالقسط فأطيعوه . قوله : { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } معطوف على المحذوف المقدّر ، أي توجهوا إليه في صلاتكم إلى القبلة في أي مسجد كنتم ، أو في كل وقت سجود ، أو في كل مكان سجود ، على أن المراد بالسجود : الصلاة { وادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } أي ادعوه أو اعبدوه حال كونكم مخلصين الدعاء ، أو العبادة له . وقيل : وحدوه ولا تشركوا به . قوله : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } الكاف : نعت مصدر محذوف . وقال الزجاج : هو متعلق بما قبله . والمعنى : كما أنشأكم في ابتداء الخلق يعيدكم ، فيكون المقصود الاحتجاج على منكري البعث ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته . وقيل : كما أخرجكم من بطون أمهاتكم تعودون إليه كذلك ليس معكم شيء ، فيكون مثل قوله تعالى : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 94 ] . وقيل : كما بدأكم من تراب تعودون إلى التراب { فَرِيقًا هدى } منتصب بفعل يفسره ما بعده . وقيل : منتصب على الحال من المضمر في تعودون ، أي تعودون فريقين : سعداء وأشقياء ، ويقويه قراءة أبيّ «فريقين فريقا هدى» ، والفريق الذي هداه الله هم : المؤمنون بالله المتبعون لأنبيائه ، والفريق الذي حقت عليه الضلالة : هم الكفار .
قوله : { إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَاء مِن دُونِ الله } تعليل لقوله : { وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة } أي ذلك بسبب أنهم أطاعوا الشياطين في معصية الله ، ومع هذا فإنهم { يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُّهْتَدُونَ } ، ولم يعترفوا على أنفسهم بالضلالة ، وهذا أشدّ في تمرّدهم وعنادهم .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { إِذَا فَعَلُواْ فاحشة } قال : كانوا يطوفون بالبيت عراة ، فنهوا عن ذلك . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي مثله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن محمد بن كعب نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة في الآية قال : والله ما أكرم الله عبداً قط على معصيته ، ولا رضيها له ولا أمر بها ، ولكن رضي لكم بطاعته ، ونهاكم عن معصيته ، وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد ، في قوله : { أَمَرَ رَبّي بالقسط } قال : بالعدل { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } قال : إلى الكعبة حيثت صليتم في كنيسة أو غيرها { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } قال : شقي وسعيد .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } الآية قال : إن الله بدأ خلق بني آدم مؤمناً وكافراً كما قال : { هُوَ الذى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِن } [ التغابن : 2 ] ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمناً وكافراً . وأخرج ابن جرير ، عن جابر في الآية قال : يبعثون على ما كانوا عليه المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، عنه أنه ذكر القدرية فقال : قاتلهم الله ، أليس قد قال الله تعالى : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هدى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة } . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه ، أيضاً في الآية : يقول كما خلقناكم أوّل مرّة كذلك تعودون .
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
هذا خطاب لجميع بني آدم ، وإن كان وارداً على سبب خاص ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والزينة ما يتزين به الناس من الملبوس ، أمروا بالتزين عند الحضور إلى المساجد للصلاة والطواف . وقد استدلّ بالآية على وجوب ستر العورة في الصلاة ، وإليه ذهب جمهور أهل العلم ، بل سترها واجب في كل حال من الأحوال ، وإن كان الرجل خالياً كما دلّت عليه الأحاديث الصحيحة ، والكلام على العورة وما يجب ستره منها مفصل في كتب الفروع . قوله : { كُلُواْ واشربوا * وَلاَ تُسْرِفُواْ } أمر الله سبحانه عباده بالأكل والشرب ، ونهاهم عن الإسراف ، فلا زهد في ترك مطعم ولا مشرب ، وتاركه بالمرّة قاتل لنفسه ، وهو من أهل النار ، كما صح في الأحاديث الصحيحة ، والمقلل منه على وجه يضعف به بدنه ويعجز عن القيام بما يجب عليه القيام به من طاعة أو سعي على نفسه ، وعلى من يعول مخالفاً لما أمر الله به وأرشد إليه ، والمسرف في إنفاقه على وجه لا يفعله إلا أهل السفه ، والتبذير مخالف لما شرعه الله لعباده واقع في النهي القرآني؛ وهكذا من حرّم حلالاً أو حلل حراماً ، فإنه يدخل في المسرفين ويخرج عن المقتصدين . ومن الإسراف الأكل لا لحاجة ، وفي وقت شبع . قوله : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } الزينة : ما يتزين به الإنسان ، من ملبوس أو غيره من الأشياء المباحة ، كالمعادن التي لم يرد نهي عن التزين بها ، والجواهر ونحوها؛ وقيل الملبوس خاصة ، ولا وجه له ، بل هو من جملة ما تشمله الآية ، فلا حرج على من لبس الثياب الجيدة الغالية القيمة إذا لم يكن مما حرّمه الله ، ولا حرج على من تزين بشيء من الأشياء التي لها مدخل في الزينة ، ولم يمنع منها مانع شرعي ، ومن زعم أن ذلك يخالف الزهد فقد غلط غلطاً بيناً . وقد قدّمنا في هذا ما يكفي ، وهكذا الطيبات من المطاعم والمشارب ونحوهما ، مما يأكله الناس ، فإنه لا زهد في ترك الطيب منها ، ولهذا جاءت الآية هذه معنونة بالاستفهام المتضمن للإنكار على من حرّم ذلك على نفسه ، أو حرّمه على غيره . وما أحسن ما قال ابن جرير الطبري : ولقد أخطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان ، مع وجود السبيل إليه من حله ، ومن أكل البقول والعدس ، واختاره على خبز البرّ ، ومن ترك أكل اللحم خوفاً من عارض الشهوة . وقد قدّمنا نقل مثل هذا عنه مطوّلاً . والطيبات المستلذات من الطعام؛ وقيل هو اسم عام لما طاب كسباً ومطعماً . قوله : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التى أَخْرَجَ } أي : أنها لهم بالأصالة ، وإن شاركهم الكفار فيها ما داموا في الحياة { خَالِصَةً يَوْمَ القيامة } أي : مختصة بهم يوم القيامة ، لا يشاركهم فيها الكفار .
وقرأ نافع «خالصة» بالرفع ، وهي قراءة ابن عباس ، على أنها خبر بعد خبر . وقرأ الباقون بالنصب على الحال . قال أبو علي الفارسي : ولا يجوز الوقف على الدنيا؛ لأن ما بعدها متعلق بقوله : { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } حال منه بتقدير : قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها لهم يوم القيامة ، قوله : { كَذَلِكَ نُفَصِلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : مثل هذا التفصيل نفصل الآيات المشتملة على التحليل والتحريم . قوله : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الفواحش } جمع فاحشة . وقد تقدّم تفسيرها { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } أي : ما أعلن منها وما أسرّ ، وقيل : هي خاصة بفواحش الزنا ، ولا وجه لذلك؛ والإثم يتناول كل معصية يتسبب عنها الإثم؛ وقيل : هو الخمر خاصة؛ ومنه قول الشاعر :
شربت الإثم حتى ضلّ عقلي ... كذاك الإثم تذهب بالعقول
ومثله قول الآخر :
يشرب الإثم بالصواع جهارا ... وقد أنكر جماعة من أهل العلم على من جعل الإثم خاصاً بالخمر . قال النحاس : فأما أن يكون الإثم الخمر فلا يعرف ذلك ، وحقيقته أنه جميع المعاصي ، كما قال الشاعر :
إني وجدت الأمر أرشده ... تقوى الإله وشرّه الإثم
قال الفراء : الإثم ما دون الحق والاستطالة على الناس انتهى . وليس في إطلاق الإثم على الخمر ما يدل على اختصاصه به ، فهو أحد المعاصي التي يصدق عليها . قال في الصحاح : وقد يسمى الخمر إثماً ، وأنشد :
شربت الإثم ... البيت ، وكذا أنشده الهروي قبله في غريبته . قوله : { والبغى بِغَيْرِ الحق } أي : الظلم المجاوز للحد ، وأفرده بالذكر بعد دخوله فيما قبله لكونه ذنباً عظيماً كقوله : { وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغى } [ النحل : 90 ] { وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا } أي : وأن تجعلوا لله شريكاً لم ينزل عليكم به حجة . والمراد التهكم بالمشركين ، لأن الله لا ينزل برهاناً بأن يكون غيره شريكاً له : { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } بحقيقته وأن الله قاله ، وهذا مثل ما كانوا ينسبون إلى الله سبحانه من التحليلات والتحريمات التي لم يأذن بها .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، ومسلم ، والنسائي ، وغيرهم ، عن ابن عباس ، أن النساء كنّ يطفن عراة إلا أن تجعل المرأة على فرجها خرقة وتقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله
فنزلت : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عنه ، في الآية قال : كان الرجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة . والزينة : اللباس وما يواري السوءة ، وما سوى ذلك من جيد البرّ والمتاع . وأخرج ابن عدي ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« خذوا زينة الصلاة ، قالوا : وما زينة الصلاة؟ قال : البسوا نعالكم فصلوا فيها » وأخرج العقيلي ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، عن أنس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قول الله : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } قال : صلوا في نعالكم . والأحاديث في مشروعية الصلاة في النعل كثيرة جداً ، وأما كون ذلك هو تفسير الآية كما روي في هذين الحديثين فلا أدري كيف إسنادهما . وقد ورد النهي عن أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء ، وهو في الصحيحين وغيرهما ، من حديث أبي هريرة . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس ، قال : أحلّ الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفاً أو مخيلة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه ، في قوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } قال : في الطعام والشراب . وأخرج عبد بن حميد ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، من طريق عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير مخيلة ولا سرف ، فإن الله سبحانه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده » وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، قال : كانت قريش تطوف بالبيت ، وهم عراة يصفرون ويصفقون ، فأنزل الله : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله } فأمروا بالثياب أن يلبسوها . { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ والطيبات مِنَ } قال : ينتفعون بها في الدنيا لا يتبعهم فيها مأثم يوم القيامة . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ ، عن الضحاك { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التى أَخْرَجَ } قال : المشركون يشاركون المؤمنين في زهرة الدنيا ، وهي خالصة يوم القيامة للمؤمنين دون المشركين . وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس { والطيبات مِنَ الرزق } قال : الودك ، واللحم ، والسمن . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه ، قال : كان أهل الجاهلية يحرمون أشياء أحلها الله من الثياب وغيرها ، وهو قول الله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً } [ يونس : 59 ] وهذا هذا ، فأنزل الله : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ والطيبات مِنَ الرزق قُلْ هِى لِلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى الحياة الدنيا } يعني : شارك المسلمون الكفار في الطيبات في الحياة الدنيا ، فأكلوا من طيبات طعامها ، ولبسوا من جياد ثيابها ونكحوا من صالحي نسائها ، ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا ، وليس للمشركين فيها شيء . وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس ، قال : ما ظهر منها العرية ، وما بطن الزنا ، وكانوا يطوفون بالبيت عراة . وأخرج ابن جرير ، عن مجاهد ، في الآية قال : ما ظهر منها طواف الجاهلية عراة ، وما بطن الزنا . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ ، في قوله : { والإثم } قال المعصية { والبغى } قال : أن يبغي على الناس بغير حق .
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
قوله : { وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } أي وقت معين محدود ينزل فيه عذابهم من الله أو يميتهم فيه ، ويجوز أن تحمل الآية على ما هو أعم من الأمرين جميعاً . والضمير في { أَجَلُهُمْ } لكل أمة أي إذا جاء أجل كل أمة من الأمم كان ما قدّره عليهم واقعاً في ذلك الأجل ، لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون عنه ساعة . قال أبو السعود ما معناه : إن قوله : { وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } عطف على { يستأخرون } لكن « لا » لبيان انتفاء التقدّم ، مع إمكانه في نفسه كالتأخر ، بل للمبالغة في انتفاء التأخر بنظمه في سلك المستحيل عقلاً . وقيل المراد بالمجيء الدنوّ بحيث يمكن التقدّم في الجملة كمجيء اليوم الذي ضرب لهلاكهم ساعة منه وليس بذاك . وقرأ ابن سيرين « آجالهم » بالجمع ، وخصّ الساعة بالذكر لأنها أقل أسماء الأوقات . وقد استدل بالآية الجمهور على أن كل ميت يموت بأجله ، وإن كان موته بالقتل أو التردي أو نحو ذلك ، والبحث في ذلك طويل جدّاً ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتأخِرُونَ } [ الحجر : 5 ، المؤمنون : 43 ] . قوله : { يابنى آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ } الآية : « إن » هي الشرطية ، و « ما » زائدة للتوكيد ، ولهذا لزمت الفعل النون المؤكدة . والقصص قد تقدّم معناه ، والمعنى : إن أتاكم رسل كائنون منكم يخبرونكم بأحكامي ويبينونها لكم ، { فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ } أي اتقى معاصي الله ، وأصلح حال نفسه باتباع الرسل وإجابتهم { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } وهذه الجملة الشرطية هي الجواب للشرط الأوّل . وقيل جوابه ما دلّ عليه الكلام ، أي إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ، فأطيعوهم . والأوّل أولى ، وبه قال الزجاج . { والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } التي يقصها عليهم رسلنا { واستكبروا } عن إجابتها ، والعمل بما فيها { فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } لا يخرجون منها ، بسبب كفرهم بتكذيب الآيات والرسل . { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بئاياته } أي لا أحد أظلم منه . وقد تقدّم تحقيقه . والإشارة بقوله : { أولئك } إلى المكذبين المستكبرين { يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الكتاب } أي مما كتب الله لهم من خير وشرّ . وقيل : ينالهم من العذاب بقدر كفرهم . وقيل : الكتاب هنا القرآن لأن عذاب الكفار مذكور فيه . وقيل هو اللوح المحفوظ .
قوله : { حتى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا } أي إلى غاية هي هذه . وجملة { يَتَوَفَّوْنَهُمْ } في محل نصب على الحال . والمراد بالرسل هنا : ملك الموت وأعوانه . وقيل : { حتى } هنا هي التي للابتداء . ولكن لا يخفى أن كونها لابتداء الكلام بعدها لا ينافي كونها غاية لما قبلها . والاستفهام في قوله { أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } للتقريع والتوبيخ ، أي أين الآلهة التي كنتم تدعونها من دون الله وتعبدونها؟ وجملة { قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا } استئنافية بتقدير سؤال وقعت هي جواباً عنه ، أي ذهبوا عنا وغابوا فلا ندري أي هم؟ { وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كافرين } أي أقرّوا بالكفر على أنفسهم .
قوله : { قَالَ ادخلوا فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم } القائل : هو الله عزّ وجلّ ، «وفي» بمعنى " مع " ، أي مع أمم . وقيل : هي على بابها . والمعنى : ادخلوا في جملتهم . وقيل : هو قول مالك خازن النار . والمراد بالأمم التي قد خلت من قبلهم من الجن والإنس : هم الكفار من الطائفتين من الأمم الماضية { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ } من الأمم الماضية { لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } أي الأمة الأخرى التي سبقتها إلى النار ، وجعلت أختاً لها باعتبار الدين ، أو الضلالة ، أو الكون في النار { حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا } أي تداركوا . والتدارك : التلاحق والتتابع ، والاجتماع في النار . وقرأ الأعمش «تداركوا» على الأصل من دون إدغام . وقرأ ابن مسعود " حتى إِذَا ادركوا " أي : أدرك بعضهم بعضاً . وروي عن أبي عمرو أنه قرأ بقطع ألف الوصل ، فكأنه سكت على " إذا " للتذكر ، فلما طال سكوته ، قطع ألف الوصل كالمبتدىء بها . وهو مثل قول الشاعر :
يا نفس صبراً كل حيّ لاقى ... وكل اثنين إلى افتراق
{ قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهم } أي أخراهم دخولاً لأولاهم دخولاً . وقيل { أخراهم } : أي سفلتهم وأتباعهم { لأولاهم } لرؤسائهم وكبارهم . وهذا أولى كما يدل عليه { رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا } فإن المضلين هم الرؤساء . ويجوز أن يراد أنهم أضلوهم لأنهم تبعوهم واقتدوا بدينهم من بعدهم ، فيصح الوجه الأوّل ، لأن أخراهم تبعت دين أولاهم .
قوله : { فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار } الضعف الزائد على مثله مرة أو مرات . ومثله قوله تعالى : { رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْناً كبيرا } [ الأحزاب : 68 ] وقيل : الضعف هنا الأفاعي والحيات ، وجملة { قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ } استئنافية جواباً لسؤال مقدّر ، والمعنى لكل طائفة منكم ضعف من العذاب ، أي الطائفة الأولى والطائفة الأخرى { ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ } بما لكل نوع من العذاب { وَقَالَتْ أولاهم لأخْرَاهُمْ } أي قال السابقون للاحقين ، أو المَّتَبعُونَ للتابعين { فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } بل نحن سواء في الكفر بالله واستحقاق عذابه . { فَذُوقُواْ } عذاب النار ، كما ذقناه { بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } من معاصي الله والكفر به .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والخطيب ، وابن النجار ، عن أبي الدرداء قال : تذاكرنا زيادة العمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا من وصل رحمه أنسىء في أجله فقال : " إنه ليس بزائد في عمره ، قال الله تعالى : { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } ولكن الرجل يكون له الذرية الصالحة ، فيدعون الله من بعده ، فيبلغه ذلك ، فذلك الذي ينسأ في أجله "
وفي لفظ : « فيلحقه دعاؤهم في قبره ، فذلك زيادة العمر » وهذا الحديث ينبغي أن يكشف عن إسناده ، ففيه نكارة ، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما بخلافه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن أبي عروبة ، قال : كان الحسن يقول : ما أحمق هؤلاء القوم يقولون اللهم أطل عمره ، والله يقول : { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، من طريق الزهري ، عن ابن المسيب قال : لما طعن عمر قال كعب : لو دعا الله لأخر في أجله ، فقيل له : أليس قد قال الله : { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } فقال كعب : وقد قال الله : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كتاب } [ فاطر : 11 ] .
وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الكتاب } قال : ما قدر لهم من خير وشرّ . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه ، في الآية قال : من الأعمال ، من عمل خيراً جزى به ، ومن عمل شرّاً جزى به . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عنه ، أيضاً قال : نصيبهم من الشقاوة والسعادة . وأخرج عبد ابن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، في الآية قال : ما سبق من الكتاب . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب في الآية قال : رزقه وأجله وعمله . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن أبي صالح ، في الآية قال : من العذاب . وأخرج عبد بن حميد عن الحسن مثله .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ ، في قوله : { قَدْ خَلَتْ } قال : قد مضت { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } قال : كلما دخلت أهل ملة لعنوا أصحابهم على ذلك ، يلعن المشركون المشركين ، واليهود اليهود ، والنصارى النصارى ، والصابئون الصابئين ، والمجوس المجوس ، تلعن الآخرة الأولى { حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ } الذين كانوا في آخر الزمان { لأولاهم } الذين شرعوا لهم ذلك الدين { رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مّنَ النار قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ } الأولى والآخرة { وَقَالَتْ أولاهم لأخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } وقد ضللتم كما ضللنا . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { عَذَاباً ضِعْفاً } قال : مضاعفاً { قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ } قال : مضاعف ، وفي قوله : { فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } قال : تخفيف من العذاب .
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
قوله : { لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أبواب السماء } قرأ ابن عباس ، وحمزة ، والكسائي بفتح التحتية ، لكون تأنيث الجمع غير حقيقي فجاز تذكيره . وقرأ الباقون بالفوقية على التأنيث . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، " تفتح " بالتخفيف . وقرأ الباقون بالتشديد ، والمعنى : أنها لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا . وقد دلّ على هذا المعنى ، وأنه المراد من الآية ما جاء في الأحاديث الصحيحة ، أن الملائكة إذا انتهوا بروح الكافر إلى السماء الدنيا يستفتحون فلا تفتح لهم أبواب السماء . وقيل : لا تفتح أبواب السماء لأدعيتهم إذا دعوا ، قاله مجاهد والنخعي . وقيل لأعمالهم ، أي لا تقبل ، بل تردّ عليهم فيضرب بها في وجوههم . وقيل المعنى : أنها لا تفتح لهم أبواب الجنة يدخلونها ، لأن الجنة في السماء ، فيكون على هذا القول العطف لجملة { وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة } من عطف التفسير ، ولا مانع من حمل الآية على ما يعم الأرواح والدعاء والأعمال ، ولا ينافيه ورود ما ورد من أنها لا تفتح أبواب السماء لواحد من هذه ، فإن ذلك لا يدل على فتحها لغيره ، مما يدخل تحت عموم الآية .
قوله : { وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط } أي أن هؤلاء الكفار المكذبين المستكبرين ، لا يدخلون الجنة بحال من الأحوال ، ولهذا علقه بالمستحيل ، فقال : { حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط } وهو لا يلج أبداً ، وخص الجمل بالذكر ، لكونه يضرب به المثل في كبر الذات ، وخص سمّ الخياط ، وهو ثقب الإبرة بالذكر ، لكونه غاية في الضيق . والجمل : الذكر من الإبل ، والجمع جمال وأجمال وجمالات . وإنما يسمى جملاً إذا أربع . وقرأ ابن عباس «الجُمَّل» بضم الجيم وفتح الميم مشدّدة . وهو حبل السفينة الذي يقال له القلس . وهو حبال مجموعة قاله ثعلب . وقيل الحبل الغليظ من القنب . وقيل الحبل الذي يصعد به في النخل . وقرأ سعيد بن جبير «الجُمَل» بضم الجيم وتخفيف الميم : وهو القلس أيضاً . وقرأ أبو السماك «الجُمْل» بضم الجيم وسكون الميم . وقرىء أيضاً بضمهما . وقرأ عبد الله بن مسعود «حتى يلج الجمل الأصغر في سم الخياط» وقرىء " فِى سَمّ " بالحركات الثلاث . والسم : كل ثقب لطيف ، ومنه ثقب الإبرة . والخياط ما يخاط به يقال خياط ومخيط . { وكذلك نَجْزِى المجرمين } أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي المجرمين ، أي جنس من أجرم وقد تقدّم تحقيقه . والمهاد : الفراش ، والغواش جمع غاشية ، أي نيران تغشاهم من فوقهم كالأغطية { وكذلك نَجْزِى الظالمين } أي مثل ذلك الجزاء العظيم نجزى من اتصف بصفة الظلم .
قوله : { لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } أي لا نكلف العباد إلا بما يدخل تحت وسعهم ويقدرون عليه .
ولا نكلفهم ما لا يدخل تحت وسعهم . وهذه الجملة معترضة بين المبتدأ والخبر . ومثله : { لاَ يُكَلّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَا ءاتَاهَا } [ الطلاق : 7 ] وقرأ الأعمش « تكلف » بالفوقية ورفع « نفس » ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الموصول ، وخبره { أصحاب الجنة } والجملة خبر الموصول . وجملة { هُمْ فِيهَا خالدون } في محل نصب على الحال .
قوله : { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ } هذا من جملة ما ينعم الله به على أهل الجنة ، أن ينزع الله ما في قلوبهم من الغلّ على بعضهم بعضاً ، حتى تصفو قلوبهم ويودّ بعضهم بعضاً ، فإن الغلّ لو بقي في صدورهم كما كان في الدنيا ، لكان في ذلك تنغيص لنعيم الجنة ، لأن المتشاحنين لا يطيب لأحدهم عيش مع وجود الآخر . والغلّ : الحقد الكامن في الصدور . وقيل : نزع الغلّ في الجنة ، أن لا يحسد بعضهم بعضاً في تفاضل المنازل { وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا } أي لهذا الجزاء العظيم ، وهو الخلود في الجنة ، ونزع الغلّ من صدورهم ، والهداية هذه { لهذا } هي الهداية لسببه من الإيمان والعمل الصالح في الدنيا { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ } قرأ ابن عامر بإسقاط الواو ، وقرأ الباقون بإثباتها ، وما كنا نطيق أن نهتدي بهذا الأمر لولا هداية الله لنا ، والجملة مستأنفة أو حالية ، وجواب { لولا } محذوف يدل عليه ما قبله ، أي لولا هداية الله لنا ما كنا لنهتدي .
قوله : { لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق } اللام لام القسم ، قالوا هذا لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الجزاء العظيم ، اغتباطاً بما صاروا فيه بسبب ما تقدّم منهم من تصديق الرسل وظهور صدق ما أخبروهم به في الدنيا من أن جزاء الإيمان والعمل الصالح هو هذا الذي صاروا فيه .
قوله : { وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي وقع النداء لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فقيل لهم تلكم الجنة أورثتموها ، أي ورثتم منازلها بعملكم . قال في الكشاف : بسبب أعمالكم لا بالتفضل كما تقوله المبطلة انتهى .
أقول : يا مسكين هذا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه « سدّدوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله » ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : « ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته » والتصريح بسبب لا يستلزم نفي سبب آخر . ولولا التفضل من الله سبحانه وتعالى على العامل باقداره على العمل ، لم يكن عمل أصلاً ، فلو لم يكن التفضل إلا بهذا الإقدار ، لكان القائلون به محقة لا مبطلة ، وفي التنزيل : { ذلك الفضل مِنَ الله } [ النساء : 70 ] وفيه : { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ } [ النساء : 175 ] .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أبواب السماء } يعني : لا يصعد إلى الله من عملهم شيء .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عنه ، قال : لا تفتح لهم لعمل ولا لدعاء . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عنه ، أيضاً في الآية قال : لا تفتح لأرواحهم ، وهي تفتح لأرواح المؤمنين .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عنه أيضاً { حتى يَلِجَ الجمل } قال : ذو القوائم { فِى سَمّ الخياط } قال : في خرت الإبرة . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني في الكبير ، وأبو الشيخ ، عن ابن مسعود ، في قوله : { حتى يَلِجَ الجمل } قال : زوج الناقة . وأخرج أبو عبيد ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، من طرق عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ « الجُمّل » بضم الجيم وتشديد الميم . وقال : هو الحبل الغليظ أو هو من حبال السفن . وأخرج عبد بن حميد ، عن ابن عمر ، أنه سئل عن سم الخياط فقال : الجمل في ثقب الإبرة .
وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس قال : المهاد الفراش ، والغواش اللحف . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن محمد بن كعب مثله .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن علي بن أبي طالب ، قال : فينا والله أهل بدر نزلت هذه الآية { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ } . وأخرج النسائي ، وابن جرير ، وابن مردويه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كل أهل النار يرى منزله من الجنة يقول لو هدانا الله . فيكون حسرة عليهم ، وكل أهل الجنة يرى منزله من النار ، فيقول لولا أن هدانا الله . فهذا شكرهم » وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد وعبد بن حميد ، والدارمي ، ومسلم ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن أبي سعيد ، وأبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : { وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } قال : « نودوا أن صحوا فلا تسقموا ، وانعموا فلا تبأسوا ، وشبوا فلا تهرموا ، واخلدوا فلا تموتوا » .
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
مناداة أصحاب الجنة لأصحاب النار لم تكن لقصد الإخبار لهم بما نادوهم به ، بل لقصد تبكيتهم وإيقاع الحسرة في قلوبهم ، و { أَن قَدْ وَجَدْنَا } هو نفس النداء ، أي إنا قد وصلنا إلى ما وعدنا الله به من النعيم ، فهل وصلتم إلى ما وعدكم الله به من العذاب الأليم؟ والاستفهام هو للتقريع والتوبيخ . وحذف مفعول وعد الثاني لكون الوعد لم يكن لهم بخصوصهم ، بل لكل الناس كالبعث والحساب والعقاب . وقيل حذف لإسقاط الكفار عن رتبة التشريف بالخطاب عند الوعد : { قَالُواْ نَعَمْ } أي وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً . وقرأ الأعمش والكسائي «نعم» بكسر العين . قال مكي : من قال " نعم " بكسر العين فكأنه أراد أن يفرّق بين نعم التي جواب وبين نعم التي هي اسم للبقر والغنم والإبل . والمؤذن : المنادي ، أي فنادي مناد بينهم أي بين الفريقين؛ قيل : هو من الملائكة { أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } قرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، والبزي ، بتشديد " أن " وهو الأصل . وقرأ الباقون بالتخفيف على أنها المخففة من الثقيلة أو المفسرة . وقرأ الأعمش بكسر همزة " إن " على إضمار القول ، وجملة : { الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } صفة للظالمين ، ويجوز الرفع والنصب على إضمارهم ، أو أعني . والصدّ : المنع ، أي يمنعون الناس عن سلوك سبيل الحق { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } أي يطلبون اعوجاجها ، أي ينفرون الناس عنها ويقدحون في استقامتها ، بقولهم إنها غير حق وإن الحق ما هم فيه ، والعوج بالكسر في المعاني والأعيان ، ما لم يكن منتصباً ، وبالفتح ما كان في المنتصب كالرمح ، وجملة : { وَهُم بالآخرة كافرون } في محل نصب على الحال . قوله : { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } أي بين الفريقين ، أو بين الجنة والنار . والحجاب هو السور المذكور في قوله تعالى : { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ } [ الحديد : 13 ] .
قوله : { وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ } الأعراف : جمع عرف ، وهي شرفات السور المضروب بينهم ، ومنه عرف الفرس وعرف الديك والأعراف في اللغة : المكان المرتفع ، وهذا الكلام خارج مخرج المدح كما في قوله : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } [ النور : 37 ] .
وقد اختلف العلماء في أصحاب الأعراف من هم؟ فقيل هم الشهداء ، ذكره القشيري وشرحبيل بن سعد . وقيل : هم فضلاء المؤمنين ، فرغوا من شغل أنفسهم وتفرّغوا لمطالعة أحوال الناس ذكره مجاهد . وقيل : هم قوم أنبياء ، ذكره الزجاج . وقيل : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، قاله ابن مسعود وحذيفة بن اليمان ، وابن عباس والشعبي ، والضحاك وسعيد بن جبير . وقيل هم العباس وحمزة وعلي وجعفر الطيار ، يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ، ومبغضيهم بسوادها ، حكي ذلك عن ابن عباس؛ وقيل : هم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم وهم في كل أمة ، واختار هذا القول النحاس .
وقيل هم أولاد الزنا ، روي ذلك عن ابن عباس . وقيل : هم ملائكة موكلون بهذا السور ، يميزون الكافرين من المؤمنين قبل إدخالهم الجنة والنار ، ذكره أبو مجلز .
وجملة : { يَعْرِفُونَ كُلاًّ بسيماهم } صفة لرجال والسيما العلامة ، أي يعرفون كلاً من أهل الجنة والنار بعلاماتهم كبياض الوجوه وسوادها ، أو مواضع الوضوء من المؤمنين ، أو علامة يجعلها الله لكل فريق في ذلك الموقف ، يعرف رجال الأعراف بها السعداء من الأشقياء .
{ وَنَادَوْاْ أصحاب الجنة } أي نادى رجال الأعراف أصحاب الجنة حين رأوهم { أَن سلام عَلَيْكُمْ } أي نادوهم بقولهم سلام عليكم ، تحية لهم وإكراماً وتبشيراً ، أو أخبروهم بسلامتهم من العذاب .
قوله : { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } أي لم يدخل الجنة أصحاب الأعراف ، والحال أنهم يطمعون في دخولها . وقيل معنى : { يَطْمَعُونَ } يعلمون أنهم يدخلونها ، وذلك معروف عند أهل اللغة ، أي طمع بمعنى علم . ذكره النحاس . وهذا القول أعني كونهم أهل الأعراف مرويّ عن جماعة منهم ابن عباس وابن مسعود . وقال أبو مجلز : هم أهل الجنة ، أي أن أهل الأعراف قالوا لهم { سلام عليكم } ، حال كون أهل الجنة لم يدخلوها والحال أنهم يطمعون في دخولها .
قوله : { وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم تِلْقَاء أصحاب النار } أي إذا صرفت أبصار أهل الأعراف تلقاء أصحاب النار أي جهة أصحاب ، وأصل معنى { تِلْقَاء } جهة اللقاء ، وهي جهة المقابلة ، ولم يأت مصدر على تفعال بكسر أوّله غير مصدرين ، أحدهما هذا ، والآخر تبيان . وما عداهما بالفتح { قَالُواْ } أي قال أهل الأعراف { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين } سألوا الله أن لا يجعلهم منهم { ونادى أصحاب الأعراف رِجَالاً } من الكفار { يَعْرِفُونَهُمْ بسيماهم } أي بعلاماتهم { قَالُواْ } بدل من نادى { مَا أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ } الذي كنتم تجمعون للصدّ عن سبيل الله ، والاستفهام للتقريع والتوبيخ .
قوله : { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } . «ما» مصدرية ، أي وما أغنى عنكم استكباركم { أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ } هذا من كلام أصحاب الأعراف ، أي قالوا للكفار مشيرين إلى المسلمين الذين صاروا إلى الجنة هذه المقالة . وقد كان الكفار يقسمون في الدنيا عند رؤيتهم لضعفاء المسلمين بهذا القسم . وهذا تبكيت للكفار وتحسير لهم .
قوله : { ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } هذا تمام كلام أصحاب الأعراف ، أي قالوا للمسلمين ادخلوا الجنة ، فقد انتفى عنكم الخوف والحزن بعد الدخول . وقرأ طلحة بن مصرف «أدخلوا» بكسر الخاء .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا } قال : من النعيم والكرامة { فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا } قال : من الخزي والهوان والعذاب .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف على قليب بدر تلا هذه الآية .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن السديّ ، في قوله : { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } قال : هو السور ، وهو الأعراف ، وإنما سمي الأعراف لأن أصحابه يعرفون الناس . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، عن حذيفة قال : الأعراف سور بين الجنة والنار . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في البعث والنشور ، عن ابن عباس قال : الأعراف هو الشيء المشرف . وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، عنه ، قال : الأعراف سور له عرف كعرف الديك . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن سعيد بن جبير ، قال : الأعراف جبال بين الجنة والنار ، فهم على أعرافها ، يقول على ذراها . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس ، أنها تلّ بين الجنة والنار حبس عليه ناس من أهل الذنوب وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن جرير ، قال : زعموا أنه الصراط . وأخرج ابن جرير ، عن حذيفة قال : أصحاب الأعراف قوم كانت لهم أعمال أنجاهم الله بها من النار ، وهم آخر من يدخل الجنة ، قد عرفوا أهل الجنة وأهل النار . وأخرج ابن جرير ، عن ابن مسعود : أنهم من استوت حسناتهم وسيئاتهم يقفون على الصراط . وأخرج ابن جرير عن حذيفة نحوه . وكذا أخرج نحوه عنه عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ . وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، عن جابر بن عبد الله نحوه .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف؟ فقال : « هم آخر من يفصل بينهم من العباد ، فإذا فرغ ربّ العالمين من الفصل بين العباد ، قال : أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ، ولم تدخلوا الجنة فأنتم عتقائي ، فارعوا من الجنة حيث شئتم » قال ابن كثير : وهذا مرسل حسن . وأخرج البيهقي في البعث عن حذيفة أراه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يجمع الناس يوم القيامة ، فيؤمر بأهل الجنة إلى الجنة ، ويؤمر بأهل النار إلى النار ، ثم يقال لأصحاب الأعراف ما تنتظرون؟ قالوا : ننتظر أمرك ، فيقال لهم : إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها ، وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم ، فادخلوا بمغفرتي ورحمتي » وأخرج سعيد بن منصور ، وابن منيع ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ وابن مردويه ، والبيهقي في البعث ، عن عبد الرحمن المزني قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف؟ فقال :
« هم قوم قتلوا في سبيل الله في معصية آبائهم ، فمنعهم من النار قتلهم في سبيل الله ، ومنعهم من الجنة معصيتهم آباءهم » وأخرج الطبراني ، وابن مردويه بسند ضعيف عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن مردويه ، والبيهقي في البعث ، عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه أيضاً . وأخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده ، وابن جرير ، وابن مردويه ، عن عبد الله بن مالك الهلالي ، عن أبيه مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس مرفوعاً نحوه .
وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن رجل من مزينة مرفوعاً نحوه . وأخرج أبو الشيخ ، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار ، أنه سئل عن قوله : { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } قال : سلمت عليهم الملائكة وهم لم يدخلوها وهم يطمعون أن يدخلوها حين سلمت . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن السديّ قال : أصحاب الأعراف يعرفون الناس بسيماهم ، أهل النار بسواد وجوههم ، وأهل الجنة ببياض وجوههم ، فإذا مرّوا بزمرة يذهب بهم إلى الجنة ، قالوا سلام عليكم ، وإذا مرّوا بزمرة يذهب بها إلى النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس { ونادى أصحاب الأعراف رِجَالاً } قال : في النار { يَعْرِفُونَهُمْ بسيماهم قَالُواْ مَا أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } قال الله لأهل التكبر { أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ } ؟ يعني أصحاب الأعراف { ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } .
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
قوله : { أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الماء } الإفاضة : التوسعة ، يقال أفاض عليه نعمه ، طلبوا منهم أن يواسوهم بشيء من الماء ، أو بشيء مما رزقهم الله من غيره من الأشربة أو الأطعمة ، فأجابوا بقولهم : { إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا } أي الماء وما رزقهم الله من غيره { عَلَى الكافرين } فلا نواسيكم بشيء مما حرّمه الله عليكم . وقيل : إن هذا النداء من أهل النار كان بعد دخول أهل الأعراف الجنة ، وجملة { الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا } في محل جر صفة الكافرين ، وقد تقدّم تفسير اللهو واللعب والغرر .
قوله : { فاليوم ننساهم } أي نتركهم في النار { كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هذا } " الكاف " نعت مصدر محذوف ، و " ما " مصدرية ، أي نسياناً كنسيانهم لقاء يومهم هذا .
قوله : { وَمَا كَانُواْ بئاياتنا يَجْحَدُونَ } معطوف على ما نسوا ، أي كما نسوا ، وكما كانوا بآياتنا يجحدون ، أي ينكرونها . واللام في { وَلَقَدْ جئناهم } جواب القسم . والمراد بالكتاب الجنس ، إن كان الضمير للكفار جميعاً ، وإن كان للمعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ، فالمراد بالكتاب : القرآن ، والتفصيل التبيين ، و { على عِلْمٍ } في محل نصب على الحال ، أي عالمين حال كونه { هُدًى } للمؤمنين { وَرَحْمَةً } لهم . قال الكسائي والفراء : ويجوز «هدى ورحمة» بالخفض على النعت لكتاب .
قوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } بالهمز من آل ، وأهل المدينة يخفون الهمزة . والنظر الانتظار ، أي هل ينتظرون إلا ما وعدوا به في الكتاب من العقاب الذي يؤول الأمر إليه . وقيل : تأويله جزاؤه . وقيل عاقبته . والمعنى متقارب . و { يوم } ظرف ل { يقول } أي يوم يأتي تأويله ، وهو يوم القيامة { يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ } أي تركوه من قبل أن يأتي تأويله { قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق } الذي أرسلهم الله به إلينا ، { فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء } استفهام منهم ، ومعناه التمني { فَيَشْفَعُواْ لَنَا } منصوب لكونه جواباً للاستفهام .
قوله : { أَوْ نُرَدُّ } قال الفراء : المعنى أو هل نردّ { فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ } وقال الزجاج : { نردّ } عطف على المعنى ، أي هل يشفع لنا أحد ، أو نردّ . وقرأ ابن أبي إسحاق «أو نردّ فنعمل» بنصبهما ، كقول امرىء القيس :
فقلت له لا تبك عيناً إنما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
وقرأ الحسن برفعهما . ومعنى الآية : هل لنا شفعاء يخلصونا مما نحن فيه من العذاب ، أو هل نُردُّ إلى الدنيا فنعمل صالحاً غير ما كنا نعمل من المعاصي { قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } أي لم ينتفعوا بها ، فكانت أنفسهم بلاء عليهم ومحنة لهم ، فكأنهم خسروها كما يخسر التاجر رأس ماله . وقيل خسروا النعيم وحظ الأنفس { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي افتراؤهم أو الذي كانوا يفترونه .
والمعنى أنه بطل كذبهم الذي كانوا يقولونه في الدنيا ، أو غاب عنهم ما كانوا يجعلونه شريكاً لله ، فلم ينفعهم ولا حضر معهم .
قوله : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } هذا نوع من بديع صنع الله وجليل قدرته ، وتفرّده بالإيجاد ، الذي يوجب على العباد توحيده وعبادته . وأصل ستة سدسة ، أبدلت التاء من أحد السينين ، وأدغم فيها الدال ، والدليل على هذا أنك تقول في التصغير سديسة ، وفي الجمع أسداس ، وتقول جاء فلان سادساً . واليوم من طلوع الشمس إلى غروبها ، قيل : هذه الأيام من أيام الدنيا . وقيل : من أيام الآخرة ، وهذه الأيام الست أولها الأحد وآخرها الجمعة ، وهو سبحانه قادر على خلقها في لحظة واحدة ، يقول لها كوني فتكون ، ولكنه أراد أن يعلم عباده الرفق والتأني في الأمور ، أو خلقها في ستة أيام لكون لكل شيء عنده أجلاً ، وفي آية أخرى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [ ق : 38 ] .
قوله : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش }
قد اختلف العلماء في معنى هذا على أربعة عشر قولاً ، وأحقها وأولاها بالصواب مذهب السلف الصالح أنه : استوى سبحانه عليه بلا كيف ، بل على الوجه الذي يليق به مع تنزهه عما لا يجوز عليه ، والاستواء في لغة العرب هو العلوّ والاستقرار . قال الجوهري : استوى على ظهر دابته ، أي استقرّ . واستوى إلى السماء : أي صعد . واستوى : أي استولى وظهر ، ومنه قول الشاعر :
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
واستوى الرجل : أي انتهى شبابه . واستوى : أي انتسق واعتدل . وحكي عن أبي عبيدة أن معنى { استوى } هنا : علا ، ومثله قول الشاعر :
فأورد بهم ماء ثقيفاً بقفرة ... وقد حلق النجم اليماني فاستوى
أي علا وارتفع . { والعرش } . قال الجوهري : هو سرير الملك . ويطلق العرش على معان أخر ، منها عرش البيت : سقفه ، وعرش البئر : طيها بالخشب ، وعرش السماك : أربعة كواكب صغار . ويطلق على الملك والسلطان والعزّ ، ومنه قول زهير :
تداركتما عبساً وقد ثلّ عرشها ... وذبيان إذ زلت بأقدامها النعل
وقول الآخر :
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهاب
وقول الآخر :
رأوا عرشي تثلم جانباه ... فلما أن تثلم أفردوني
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة صفة عرش الرحمن ، وإحاطته بالسموات والأرض وما بينهما وما عليهما ، وهو المراد هنا .
قوله : { يُغْشِي الليل النهار } أي يجعل الليل كالغشاء للنهار ، فيغطى بظلمته ضياءه . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «يغشي» بالتشديد ، وقرأ الباقون بالتخفيف وهما لغتان ، يقال أغشى يغشي ، وغشي يغشي ، والتغشية في الأصل : إلباس الشيء الشيء . ولم يذكر في هذه الآية يغشي الليل بالنهار اكتفاء بأحد الأمرين عن الآخركقوله تعالى :
{ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 8 ] . وقرأ حميد بن قيس «يغشي الليل النهار» على إسناد الفعل إلى الليل ، ومحل هذه الجملة النصب على الحال ، والتقدير : استوى على العرش مغشياً الليل والنهار ، وهكذا قوله : { يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } حال من الليل ، أي حال كون الليل طالباً للنهار طلباً حثيثاً لا يفتر عنه بحال ، وحثيثاً صفة مصدر محذوف ، أي يطلبه طلباً حثيثاً ، أو حال من فاعل يطلب . والحث : الاستعجال والسرعة ، يقال ولى حثيثاً : أي مسرعاً .
قوله : { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ } قال الأخفش : معطوف على السموات ، وقرأ ابن عامر برفعها كلها على الابتداء والخبر . والمعنى على الأوّل : وخلق الشمس والقمر والنجوم حال كونها مسخرات ، وعلى الثاني : الإخبار عن هذه بالتسخير .
قوله : { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر } إخبار منه سبحانه لعباده بأنهما له ، والخلق : المخلوق ، والأمر : كلامه ، وهو " كن " في قوله : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] ، أو المراد بالأمر ما يأمر به على التفصيل ، أو التصرّف في مخلوقاته . ولما ذكر سبحانه في هذه الآية خلق السموات والأرض في ذلك الأمد اليسير ، ثم ذكر استواءه على عرشه وتسخير الشمس والقمر والنجوم ، وأن له الخلق والأمر . قال : { تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } أي كثرت بركته واتسعت ، ومنه بورك الشيء وبورك فيه ، كذا قال ابن عرفة . وقال الأزهري في { تبارك } معناه تعالى وتعاظم . وقد تقدم تفسير { رَبّ العالمين } في الفاتحة مستكملاً .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة } الآية قال : ينادي الرجل أخاه فيقول : يا أخي أغثني ، فإني قد احترقت ، فأفض عليّ من الماء ، فيقال أجبه ، فيقول : { إن الله حرّمهما على الكافرين } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ في قوله : { أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الماء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } قال : من الطعام . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن زيد ، في الآية قال : يستسقونهم ويستطعمونهم . وفي قوله : { إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين } قال : طعام الجنة وشرابها .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن عباس ، في قوله : { فاليوم ننساهم كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هذا } يقول : نتركهم في النار كما تركوا لقاء يومهم هذا . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، في قوله : { فاليوم ننساهم } قال : نؤخرهم .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } قال : عاقبته . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، قال : { يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ } جزاؤه .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس : { يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ } قال : يوم القيامة . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } قال : ما كانوا يكذبون في الدنيا .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، في قوله : { خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } قال : كل يوم مقداره ألف سنة . وأخرج ابن مردويه ، عن أم سلمة ، قالت في قوله : { استوى عَلَى العرش } الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإقرار به إيمان ، والجحود كفر . وأخرج اللالكائي عن مالك أن رجلاً سأله كيف استوى على العرش؟ فقال : الكيف غير معقول والاستواء منه غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة . وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الدعاء والخطيب في تاريخه ، عن الحسن بن عليّ ، قال : أنا ضامن لمن قرأ هذه العشرين آية في كل ليلة أن يعصمه الله من كل سلطان ظالم ، ومن كل شيطان مريد ، ومن كل سبع ضاري ، ومن كل لص عادي : آية الكرسي ، وثلاث آيات من الأعراف { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خَلَقَ السموات والأرض } [ الأعراف : 54 ] وعشراً من أوّل سورة الصافات ، وثلاث آيات من الرحمن . أوّلها { يامعشر الجن والإنس } [ الرحمن : 33 ] ، وخاتمة الحشر . وأخرج أبو الشيخ عن عبيد بن أبي مرزوق قال : من قرأ عند نومه { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خَلَقَ السموات والأرض } الآية ، بسط عليه ملك جناحه حتى يصبح ، وعوفي من السرق . وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن قيس صاحب عمر بن عبد العزيز قال : مرض رجل من أهل المدينة فجاءه زمرة من أصحابه يعودونه ، فقرأ رجل منهم : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خَلَقَ السموات والأرض } الآية كلها ، وقد أصمت الرجل فتحرّك ثم استوى جالساً ، ثم سجد يومه وليلته حتى كان من الغد من الساعة التي سجد فيها ، قال له أهله ، الحمد لله الذي عافاك ، قال : بعث إلى نفسي ملك يتوفاها ، فلما قرأ صاحبكم الآية التي قرأ ، سجد الملك وسجدت بسجوده ، فهذا حين رفع رأسه ، ثم مال فقضى .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن السديّ ، في قوله : { يُغْشِي الليل النهار } قال : يغشى الليل النهار فيذهب بضوئه ، ويطلبه سريعاً حتى يدركه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة ، قال : يلبس الليل النهار . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { حَثِيثًا } قال : سريعاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سفيان بن عيينة ، في قوله : { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر } قال : الخلق ما دون العرش ، والأمر ما فوق ذلك . وأخرج ابن أبي حاتم ، والبيهقي ، عنه ، قال : الخلق هو الخلق ، والأمر هو الكلام .
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
أمرهم الله سبحانه بالدعاء ، وقيد ذلك بكون الداعي متضرّعاً بدعائه مخفياً له . وانتصاب { تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } على الحال ، أي متضرّعين بالدعاء مخفين له ، أو صفة مصدر محذوف ، أي ادعوه دعاء تضرّع ودعاء خفية . والتضرّع من الضراعة ، وهي الذلة والخشوع والاستكانة . والخفية : الإسرار به ، فإن ذلك أقطع لعرق الرياء ، وأحسم لباب ما يخالف الإخلاص . ثم علل ذلك بقوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين } أي المجاوزين لما أمروا به في الدعاء وفي كل شيء . فمن جاوز ما أمره الله به في شيء من الأشياء فقد اعتدى ، والله لا يحب المعتدين . وتدخل المجاوزة في الدعاء في هذا العموم دخولاً أولياً . ومن الاعتداء في الدعاء أن يسأل الداعي ما ليس له ، كالخلود في الدنيا ، أو إدراك ما هو محال في نفسه ، أو يطلب الوصول إلى منازل الأنبياء في الآخرة ، أو يرفع صوته بالدعاء صارخاً به .
قوله : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض بَعْدَ إصلاحها } نهاهم الله سبحانه عن الفساد في الأرض بوجه من الوجوه ، قليلاً كان أو كثيراً ، ومنه قتل الناس ، وتخريب منازلهم ، وقطع أشجارهم ، وتغوير أنهارهم . ومن الفساد في الأرض : الكفر بالله ، والوقوع في معاصيه ، ومعنى { بَعْدَ إصلاحها } : بعد أن أصلحها الله بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وتقرير الشرائع .
قوله : { وادعوه خَوْفًا وَطَمَعًا } إعرابهما يحتمل الوجهين المتقدمين في { تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } . وفيه أنه يشرع للداعي أن يكون عند دعائه خائفاً وجلاً طامعاً في إجابة الله لدعائه . فإنه إذا كان عند الدعاء جامعاً بين الخوف والرجاء ، ظفر بمطلوبه . والخوف : الانزعاج من المضارّ التي لا يؤمن من وقوعها . والطمع : توقع حصول الأمور المحبوبة .
قوله : { إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مّنَ المحسنين } هذا إخبار من الله سبحانه بأن رحمته قريبة من عباده المحسنين ، بأيّ نوع من الأنواع كان إحسانهم . وفي هذا ترغيب للعباد إلى الخير وتنشيط لهم ، فإن قرب هذه الرحمة التي يكون بها الفوز بكل مطلب مقصود لكل عبد من عباد الله .
وقد اختلف أئمة اللغة والإعراب في وجه تذكير خبر رحمة الله ، حيث قال { قريب } ولم يقل قريبة ، فقال الزجاج : إن الرحمة مؤولة بالرحم ، لكونها بمعنى العفو والغفران . ورجح هذا التأويل النحاس . وقال النضر بن شميل : الرحمة مصدر بمعنى الترحم ، وحق المصدر التذكير . وقال الأخفش سعيد : أراد بالرحمة هنا المطر ، وتذكير بعض المؤنث جائز ، وأنشد :
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل أبقالها
وقال أبو عبيدة : تذكير قريب على تذكير المكان : أي مكان قريب . قال علي بن سليمان الأخفش : وهذا خطأ ، ولو كان كما قال لكان قريب منصوباً كما تقول : إن زيداً قريباً منك . وقال الفراء : إن القريب إذا كان بمعنى المسافة ، فيذكر ويؤنث ، وإن كان بمعنى النسب فيؤنث بلا اختلاف بينهم .
وروي عن الفراء أنه قال : يقال في النسب قريبة فلان ، وفي غير النسب يجوز التذكير والتأنيث فيقال : دارك عنا قريب ، وفلانة منا قريب قال الله تعالى : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً } [ الأحزاب : 63 ] ومنه قول امرىء القيس :
لك الويل أن أمسني ولا أمّ هاشم ... قريب ولا البسباسة ابنة يشكر
وروي عن الزجاج أنه خطأ الفراء فيما قاله وقال : إن سبيل المذكر والمؤنث ، أن يجريا على أفعالهما . وقيل : إنه لما كان تأنيث الرحمة غير حقيقي ، جاز في خبرها التذكير ، ذكر معناه الجوهري .
قوله : { وَهُوَ الذى يُرْسِلُ الرياح بشرا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ } عطف على قوله : { يُغْشِي الليل النهار } يتضمن ذكر نعمة من النعم التي أنعم بها على عباده ، مع ما في ذلك من الدلالة على وحدانيته وثبوت إلهيته . ورياح جمع ريح ، وأصل ريح روح ، وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو «نشراً» بضم النون والشين ، جمع ناشر على معنى النسب . أي ذات نشر . وقرأ الحسن وقتادة ، وابن عامر «نُشْراً» بضم النون وإسكان الشين من نُشْر . وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي «نشراً» بفتح النون ، وإسكان الشين على المصدر ، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال . ومعنى هذه القراءات يرجع إلى النشر ، الذي هو خلاف الطيّ ، فكأن الريح مع سكونها كانت مطوية ، ثم ترسل من طيها فتصير كالمنفتحة . وقال أبو عبيدة : معناه متفرقة في وجوهها ، على معنى ننشرها هاهنا وهاهنا . وقرأ عاصم { بَشَرًا } بالباء الموحدة ، وإسكان الشين جمع بشير ، أي الرياح تبشر بالمطر ، ومثله قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلُ الرياح مبشرات } [ الروم : 46 ] .
قوله : { بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ } أراد بالرحمة هنا المطر ، أي قدّام رحمته ، والمعنى : أنه سبحانه يرسل الرياح ناشرات أو مبشرات بين يدي المطر .
قوله : { حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً } أقلّ فلان الشيء : حمله ورفعه . والسحاب يذكر ويؤنث ، والمعنى : حتى إذا حملت الرياح سحاباً ثقالاً بالماء الذي صارت تحمله { سقناه } أي السحاب { لِبَلَدٍ مَّيّتٍ } أي مجدب ليس فيه نبات . يقال سقته لبلد كذا ، وإلى بلد كذا . وقيل اللام هنا لام العلة ، أي لأجل بلد ميت . والبلد : هو الموضع العامر من الأرض { فَأَنزَلْنَا بِهِ الماء } أي بالبلد الذي سقناه لأجله ، أو بالسحاب أي أنزلنا بالسحاب الماء الذي تحمله ، أو بالريح أي فأنزلنا بالريح المرسلة بين يدي المطر الماء . وقيل إن " الباء " هنا بمعنى " من " أي فأنزلنا معه الماء { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } أي بالماء { مِن كُلّ الثمرات } أي من جميع أنواعها .
قوله : { كذلك نُخْرِجُ الموتى } أي مثل ذلك الإخراج ، وهو إخراج الثمرات نخرج الموتى من القبور يوم حشرهم { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي تتذكرون ، فتعلمون بعظيم قدرة الله وبديع صنعته ، وأنه قادر على بعثكم كما قدر على إخراج الثمرات التي تشاهدونها .
قوله : { والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ } أي التربة الطيبة يخرج نباتها بإذن الله وتيسيره إخراجاً حسناً تاماً وافياً { والذى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا } أي والتربة الخبيثة لا يخرج نباتها إلا نكداً أي لا خير فيه . وقرأ طلحة بن مصرف «نكداً» بسكون الكاف . وقرأ ابن القعقاع «نكداً» بفتح الكاف أي ذا نكد . وقرأ الباقون «نكداً» بفتح النون وكسر الكاف . وقرىء " يَخْرُج " أي يخرجه البلد؛ قيل : ومعنى الآية التشبيه ، شبه تعالى السريع الفهم بالبلد الطيب ، والبليد بالبلد الخبيث ، ذكره النحاس؛ وقيل هذا مثل للقلوب ، فشبه القلب القابل للوعظ بالبلد الطيب ، والنائي عنه بالبلد الخبيث ، قاله الحسن . وقيل : هو مثل لقلب المؤمن والمنافق قاله قتادة . وقيل هو مثل للطيب والخبيث من بني آدم ، قاله مجاهد ، { كذلك نُصَرّفُ الآيات } أي : مثل ذلك التصريف { لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } الله ، ويعترفون بنعمته .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس { ادعوا ربكم تضرّعاً وخفية } قال : السرّ { إنه لا يحبّ المعتدين } في الدعاء ولا في غيره . وأخرج أبو الشيخ عن قتادة ، قال : التضرّع علانية . والخفية سرّ . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : { ادعوا ربكم تضرّعاً وخفية } يعني : مستكيناً . وخفية : يعني في خفض وسكون في حاجاتكم من أمر الدنيا والآخرة ، { إنه لا يحب المعتدين } يقول : لا تدعوا على المؤمن والمؤمنة بالشرّ : اللهم اخزه والعنه ونحو ذلك ، فإن ذلك عدوان . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي مجلز ، في قوله : { إنه لا يحب المعتدين } قال : لا تسألوا منازل الأنبياء . وأخرج ابن المبارك ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن الحسن قال : لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ، وما يسمع لهم صوت ، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم ، وذلك أن الله يقول { ادعوا ربكم تضرّعاً وخفية } وذلك أن الله ذكر عبداً صالحاً فرضي قوله فقال : { إذ نادى ربه نداء خفياً } [ مريم : 3 ] .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي صالح ، في قوله : { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } قال : بعدما أصلحها الأنبياء وأصحابهم . وأخرج أبو الشيخ ، عن أبي سنان ، في الآية قال : أحللت حلالي ، وحرّمت حرامي ، وحدّدت حدودي ، فلا تفسدوها . وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { ادعوه خوفاً وطمعاً } قال : خوفاً منه ، وطمعاً لما عنده { إن رحمة الله قريب من المحسنين } يعني المؤمنين ، ومن لم يؤمن بالله فهو من المفسدين .
وأخرج ابن جريج ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السدي في قوله : { وهو الذي يرسل الرياح } قال : إن الله يرسل الريح ، فيأتي بالسحاب من بين الخافقين طرف السماء والأرض ، من حيث يلتقيان ، فيخرجه من ثم ، ثم ينشره فيبسطه في السماء كيف يشاء ، ثم يفتح أبواب السماء ، فيسيل الماء على السحاب ، ثم يمطر السحاب بعد ذلك .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { بشرا بين يدي رحمته } قال : يستبشر بها الناس . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السديّ في قوله : { بين دي رحمته } قال : هو المطر ، وفي قوله : { كذلك نخرج الموتى } قال : كذلك تخرجون ، وكذلك النشور ، كما يخرج الزرع بالماء . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد ابن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { كذلك نخرج الموتى } قال : إذا أراد الله أن يخرج الموتى أمطر السماء حتى يشقق عنهم الأرض ، ثم يرسل الأرواح فيهوي كل روح إلى جسده ، فكذلك يحيي الله الموتى بالمطر ، كإحيائه الأرض .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { والبلد الطيب } الآية قال : هو مثل ضربه الله للمؤمن ، يقول هو طيب وعمله طيب ، كما أن البلد الطيب ثمرها طيب { والذي خبث } ضرب مثلاً للكافر ، كالبلد السبخة المالحة التي لا تخرج منها البركة ، فالكافر هو الخبيث وعمله خبيث ، وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين .
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
لما بيّن سبحانه كمال قدرته ، وبديع صنعته في الآيات السابقة ، ذكر هنا أقاصيص الأمم وما فيها من تحذير الكفار ووعيدهم ، لتنبيه هذه الأمة على الصواب ، وأن لا يقتدوا بمن خالف الحق من الأمم السالفة . واللام جواب قسم محذوف . وهو أول الرسل إلى أهل الأرض بعد آدم . وقد تقدّم ذكر نوح في آل عمران ، فأغني عن الإعادة هنا . وما قيل من أن إدريس قبل نوح ، فقال ابن العربي : إنه وهم . قال المازري : فإن صح ما ذكره المؤرخون كان محمولاً على أن إدريس كان نبياً غير مرسل . وجملة : { فقال يا قوم اعبدوا الله } استئنافية جواب سؤال مقدر .
قوله : { ما لكم من إله غيره } هذه الجملة في حكم العلة ، لقوله : { اعبدوا } أي اعبدوه ، لأنه لم يكن لكم إله غيره ، حتى يستحق منكم أن يكون معبوداً . قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، وابن كثير ، وابن عامر برفع { غيره } على أنه نعت لإله على الموضع . وقرأ الكسائي بالخفض في جميع القرآن ، على أنه نعت على اللفظ . وأجاز الفراء والكسائي النصب على الاستثناء . يعني ما لكم من إله إلا إياه . وقال أبو عمرو : ما أعرف الجرّ ولا النصب . ويردّه أن بعض بني أسد ينصبون «غير» في جميع الأحوال ، ومنه قول الشاعر :
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ... حمامة في غصون ذات أو قال
وجملة : { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } جملة متضمنة لتعليل الأمر بالعبادة ، أي إن لم تعبدوه ، فإني أخاف عليكم عذاب يوم القيامة ، أو عذاب يوم الطوفان .
قوله : { قال الملأ من قومه } جملة استئنافية جواب سؤال مقدّر . والملأ أشراف القوم ورؤساؤهم . وقيل : هم الرجال ، وقد تقدّم بيانه في البقرة . والضلال : العدول عن طريق الحق والذهاب عنه ، أي إنا لنراك في دعائك إلى عبادة الله وحده في ضلال عن طريق الحق .
وجملة { قال يا قوم } استئنافية أيضاً ، جواب سؤال مقدّر . { ليس بي ضلالة } كما تزعمون { ولكني رسول من رب العالمين } أرسلني إليكم لسوق الخير إليكم ، ودفع الشرّ عنكم ، نفي عن نفسه الضلالة ، وأثبت لها ما هو أعلى منصباً وأشرف رفعة ، وهو أنه رسول الله إليهم .
وجملة { أبلغكم رسالات ربي } في محل رفع ، على أنها صفة لرسول ، أو هي مستأنفة مبينة لحال الرسول . والرسالات : ما أرسله الله به إليهم مما أوحاه إليه { وأنصح لكم } عطف على { أبلغكم } يقال : نصحته ونصحت له ، وفي زيادة اللام دلالة على المبالغة في إمحاض النصح . قال الأصمعي : الناصح : الخالص من الغلّ ، وكل شيء خلص فقد نصح ، فمعنى أنصح هنا : أخلص النية لكم عن شوائب الفساد ، والاسم النصيحة . وجملة : { وأعلم من الله ما لا تعلمون } معطوفة على الجملة التي قبلها ، مقررة لرسالته ، ومبينة لمزيد علمه ، وأنه يختص بعلم الأشياء التي لا يعلمونها بإخبار الله له بذلك .
قوله : { أو عجبتم } فتحت الواو لكونها العاطفة ، ودخلت عليها همزة الاستفهام للإنكار عليهم . والمعطوف عليه مقدّر ، كأنه قيل : استبعدتم وعجبتم ، أو أكذبتم وعجبتم ، أو أنكرتم وعجبتم { أن جاءكم ذكر من ربكم } أي وحي وموعظة { على رجل منكم } أي على لسان رجل منكم تعرفونه . ولم يكن ذلك على لسان من لا تعرفونه ، أو لا تعرفون لغته . وقيل « على » بمعنى « مع » : أي مع رجل منكم لأجل ينذركم به . { ولتتقوا } ما يخالفه { ولعلكم ترحمون } بسبب ما يفيده الإنذار لكم ، والتقوى منكم من التعرّض لرحمة الله سبحانه لكم ورضوانه عنكم . { فكذبوه } أي فبعد ذلك كذبوه ، ولم يعملوا بما جاء به من الإنذار { فأنجيناه والذين معه } من المؤمنين به المستقرّين معه { في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا } واستمرّوا على ذلك ، ولم يرجعوا إلى التوبة . وجملة { إنهم كانوا قوماً عمين } علة لقوله : { وأغرقنا } أي أغرقنا المكذبين ، لكونهم عمي القلوب ، لا تنجع فيهم الموعظة ، ولا يفيدهم التذكير .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أول نبيّ أرسل نوح » وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وأبو نعيم ، وابن عساكر ، عن يزيد الرقاشي قال : إنما سمي نوح عليه السلام نوحاً لطول ما ناح على نفسه . وأخرج ابن المنذر عن عكرمة نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، عن ابن عباس قال : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي مالك قال : الملأ يعني الأشراف من قومه . وأخرج أبو الشيخ ، عن السديّ { أن جاءكم ذكر من ربكم } يقول : بيان من ربكم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { إنهم كانوا قوماً عمين } قال : كفاراً . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد { إنهم كانوا قوماً عمين } قال : عن الحق .
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
قوله : { وإلى عاد أخاهم هوداً } أي وأرسلنا إلى قوم عاد أخاهم أي واحداً من قبيلتهم أو صاحبهم ، أو سماه أخاً لكونه ابن آدم مثلهم . وعاد من هو ولد سام بن نوح . قيل هو عاد بن عوص بن إرم بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح ، وهود هو ابن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عوص بن إرم بن شالخ ابن أرفخشذ بن سام بن نوح . و { هوداً } عطف بيان { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } . قد تقدّم تفسير هذا قريبا . والاستفهام في { أفلا تتقون } للإنكار . وقد تقدّم أيضاً تفسير الملأ ، والسفاهة الخفة والحمق ، وقد تقدّم بيان ذلك في البقرة . نسبوه إلى الخفة والطيش ولم يكتفوا بذلك حتى قالوا : { إنا لنظنك من الكاذبين } مؤكدين لظنهم كذبه فيما ادعاه من الرسالة ، ثم أجاب عليهم بنفي السفاهة عنه . واستدرك من ذلك بأنه رسول ربّ العالمين ، وقد تقدّم بيان معنى هذا قريباً ، وكذلك سبق تفسير { أبلغكم رسالات ربي } وتقدّم معنى الناصح . والأمين المعروف بالأمانة . وسبق أيضاً تفسير { أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم } في قصة نوح التي قبل هذه القصة .
قوله : { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } أذكرهم نعمة من نعم الله عليهم ، وهي أنه جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح أي ، جعلهم سكان الأرض التي كانوا فيها ، أو جعلهم ملوكاً . و « إذ » منصوب ب { اذكر } ، وجعل الذكر للوقت . والمراد ما كان فيه من الاستخلاف على الأرض لقصد المبالغة ، لأن الشيء إذا كان وقته مستحقاً للذكر ، فهو مستحق له بالأولى { وزادكم في الخلق بسطة } أي طولاً في الخلق وعظم جسم ، زيادة على ما كان عليه آباؤهم في الأبدان . وقد ورد عن السلف حكايات عن عظم أجرام قوم عاد .
قوله : { فاذكروا آلاء الله } الآلاء : جمع إِلَى ومن جملتها نعمة الاستخلاف في الأرض ، والبسطة في الخلق وغير ذلك مما أنعم به عليهم ، وكرر التذكير لزيادة التقرير ، والآلاء النعم { لعلكم تفلحون } إن تذكرتم ذلك ، لأن الذكر للنعمة سبب باعث على شكرها ، ومن شكر فقد أفلح .
قوله : { قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده } هذا استنكار منهم لدعائه إلى عبادة الله وحده ، دون معبوداتهم التي جعلوها شركاء لله ، وإنما كان هذا مستنكراً عندهم لأنهم وجدوا آباءهم على خلاف ما دعاهم إليه . { ونذر ما كان يعبد آباؤنا } أي نترك الذي كانوا يعبدونه ، وهذا داخل في جملة ما استنكروه .
قوله : { فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين } هذا استعجال منهم للعذاب الذي كان هود يعدهم به ، لشدّة تمرّدهم على الله ، ونكوصهم عن طريق الحق ، وبعدهم عن اتباع الصواب ، فأجابهم بقوله : { قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب } جعل ما هو متوقع كالواقع ، تنبيهاً على تحقق وقوعه ، كما ذكره أئمة المعاني والبيان .
وقيل معنى وقع : وجب . والرجس : العذاب . وقيل : هو هنا الرين على القلب بزيادة الكفر . ثم استنكر عليهم ما وقع منهم من المجادلة ، فقال : { أتجادلونني في أسماء } يعني أسماء الأصنام التي كانوا يعبدونها ، جعلها أسماء ، لأن مسمياتها لا حقيقة لها ، بل تسميتها بالآلهة باطلة ، فكأنها معدومة لم توجد ، بل الموجود أسماؤها فقط { سميتموها أنتم وآباؤكم } أي سميتم بها معبوداتكم من جهة أنفسكم أنتم وآباؤكم ، ولا حقيقة لذلك . { وما نزل الله بها من سلطان } أي من حجة تحتجون بها على ما تدّعونه لها من الدعاوي الباطلة ، ثم توعدهم بأشد وعيد فقال : { فانتظروا إني معكم من المنتظرين } أي فانتظروا ما طلبتموه من العذاب ، فإني معكم من المنتظرين له ، وهو واقع بكم لا محالة ، ونازل عليكم بلا شك . ثم أخبر الله سبحانه أنه نجى هوداً ومن معه من المؤمنين به من العذاب النازل بمن كفر به ، ولم تقبل رسالته ، وأنه قطع دابر القوم المكذبين ، أي استأصلهم جميعاً . وقد تقدّم تحقيق معناه ، وجملة : { وما كانوا مؤمنين } معطوفة على { كذبوا } أي استأصلنا هؤلاء القوم الجامعين بين التكذبين بآياتنا وعدم الإيمان .
وقد أخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس ، في قوله : { وإلى عاد أخاهم هوداً } قال : ليس بأخيهم في الدين ، ولكنه أخوهم في النسب؛ لأنه منهم ، فلذلك جعل أخاهم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الربيع بن خيثم قال : كانت عاد ما بين اليمن إلى الشام مثل الذرّ . وأخرج ابن عساكر عن وهب قال : كان الرجل من عاد ستين ذراعاً بذراعهم ، وكان هامة الرجل مثل القبة العظيمة ، وكان عين الرجل لتفرخ فيها السباع ، وكذلك مناخرهم . وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر ذراعاً طولاً . وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، عن ابن عباس قال : كان الرجل منهم ثمانين باعاً ، وكانت البرّة فيهم ككلية البقرة ، والرمانة الواحدة يقعد في قشرها عشرة نفر .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عنه { وزادكم في الخلق بسطة } قال شدة . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن أبي حاتم ، عن أبي هريرة ، قال : إن كان الرجل من قوم عاد ليتخذ المصراع من الحجارة ، لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يقلوه ، وإن كان أحدهم ليدخل قدمه في الأرض فتدخل فيها . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { آلاء الله } قال : نعم الله ، وفي قوله : { رجس } قال : سخط . وأخرج ابن عساكر قال : لما أرسل الله الريح على عاد ، اعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين عليه الجلود وتلتذ به الأنفس ، وإنها لتمر بالعادي فتحمله بين السماء والأرض ، وتدمغه بالحجارة .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن زيد ، في قوله : { وقطعنا دابر الذين كذبوا } قال : استأصلناهم .
وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن جرير ، وابن عساكر ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال : قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه سدرة . وأخرج ابن عساكر ، عن عثمان بن أبي العاتكة ، قال : قبلة مسجد دمشق قبر هود . وأخرج أبو الشيخ ، عن أبي هريرة ، قال : كان عمر هود أربعمائة سنة واثنتين وسبعين سنة .
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
قوله : { وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا } معطوف على ما تقدّم ، أي وأرسلنا إلى ثمود أخاهم ، وثمود قبيلة سموا باسم أبيهم ، وهو ثمود بن عاد بن إرم بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح . وصالح عطف بيان ، وهو صالح بن عبيد بن أسف بن ماشح بن عبيد بن حاذر بن ثمود ، وامتناع ثمود من الصرف لأنه جعل اسماً للقبيلة . وقال أبو حاتم : لم ينصرف لأنه أعجميّ . قال النحاس : وهو غلط لأنه من الثمد ، وهو الماء القليل ، وقد قرأ القراء { أَلا إِنَ ثموداً كفروا ربهم } [ هود : 68 ] على أنه اسم للحيّ ، وكانت مساكن ثمود الحجر ، بين الحجاز والشام إلى وادي القرى .
قوله : { قَالَ يَاقَوْم اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ } قد تقدّم تفسيره في قصة نوح . { قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ } أي معجزة ظاهرة ، وهي إخراج الناقة من الحجر الصلد . وجملة { هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً } مشتملة على بيان البينة المذكورة ، وانتصاب { آية } على الحال . والعامل فيها معنى الإشارة ، وفي إضافة الناقة إلى الله تشريف لها وتكريم .
قوله : { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ الله } أي دعوها تأكل في أرض الله ، فهي ناقة الله ، والأرض أرضه فلا تمنعوها مما ليس لكم ، ولا تملكونه ، { وَلاَ تَمَسُّوهَا } بشيء من السوء ، أي لا تتعرّضوا لها بوجه من الوجوه التي تسوءها . قوله : { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } هو جواب النهي ، أي إذا لم تتركوا مسها بشيء من السوء أخذكم عذاب أليم : أي شديد الألم .
قوله : { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ } أي استخلفكم في الأرض أو جعلكم ملوكاً فيها ، كما تقدّم في قصة هود . { وَبَوَّأَكُمْ فِى الأرض } أي جعل لكم فيها مباءة ، وهي المنزل الذي تسكنونه { تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا } أي : تتخذون من سهولة الأرض قصوراً ، أو هذه الجملة مبينة لجملة : { وبوّأكم في الأرض } ، وسهول الأرض ترابها ، يتخذون منه اللبن والآجر ، ونحو ذلك ، فيبنون به القصور . { وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتًا } أي تتخذون في الجبال التي هي صخور بيوتاً تسكنون فيها ، وقد كانوا لقوّتهم وصلابة أبدانهم ينحتون الجبال فيتخذون فيها ، كهوفاً يسكنون فيها ، لأن الأبنية والسقوف كانت تفنى قبل فناء أعمارهم . وانتصاب { بيوتاً } على أنها حال مقدّرة ، أو على أنها مفعول ثان ل { تنحتون } على تضمينه معنى { تتخذون } . قوله : { فاذكروا ءالآء الله } تقدّم تفسيره في القصة التي قبل هذه .
قوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ } العثي والعثو لغتان ، وقد تقدم تحقيقه في البقرة بما يغني عن الإعادة . { قَالَ الملا الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ } أي قال الرؤساء المستكبرون من قوم صالح للمستضعفين ، الذين استضعفهم المستكبرون ، و { لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ } بدل من الذين { استضعفوا } ، بإعادة حرف الجر ، بدل البعض من الكل ، لأن في المستضعفين من ليس بمؤمن ، هذا على عود ضمير { منهم } إلى الذين استضعفوا ، فإن عاد إلى قومه كان بدل كل من المستضعفين ، ومقول القول : { أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالحا مُّرْسَلٌ مّن رَّبّهِ } قالوا هذا على طريق الاستهزاء والسخرية .
قوله : { قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } أجابوهم بأنهم مؤمنون برسالته ، مع كون سؤال المستكبرين لهم إنما هو عن العلم منهم هل تعلمون برسالته أم لا؟ مسارعة إلى إظهار ما لهم من الإيمان ، وتنبيهاً على أن كونه مرسلاً أمر واضح مكشوف ، لا يحتاج إلى السؤال عنه ، فأجابوا تمرداً وعناداً بقولهم : { إِنَّا بالذى آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } وهذه الجمل المعنوية ، يقال مستأنفة لأنها جوابات عن سؤالات مقدّرة كما سبق بيانه .
قوله : { فَعَقَرُواْ الناقة } العقر : الجرح . وقيل : قطع عضو يؤثر في تلف النفس . يقال عقرت الفرس : إذا ضربت قوائمه بالسيف . وقيل أصل العقر : كسر عرقوب البعير ، ثم قيل للنحر عقر ، لأن العقر سبب النحر في الغالب ، وأسند العقر إلى الجميع ، مع كون العاقر واحداً منهم ، لأنهم راضون بذلك موافقون عليه . وقد اختلف في عاقر الناقة ما كان اسمه؟ فقيل قدار بن سالف ، وقيل غير ذلك { وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ } أي استكبروا ، يقال عتا يعتو عتوّاً : استكبر ، وتعتي فلان : إذا لم يطع ، والليل العاتي : الشديد الظلمة { وَقَالُواْ ياصَالِح ائتنا بِمَا تَعِدُنَا } من العذاب { إِن كُنتَ مِنَ المرسلين } هذا استعجال منهم للنقمة ، وطلب منهم لنزول العذاب ، وحلول البلية بهم . { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } أي الزلزلة . يقال رجف الشيء يرجف رجفاناً ، وأصله حركة مع صوت ، ومنه : { يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة } [ النازعات : 6 ] . وقيل : كانت صيحة شديدة ، خلعت قلوبهم { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ } أي : بلدهم { جاثمين } لاصقين بالأرض على ركبهم ووجوههم ، كما يجثم الطائر . وأصل الجثوم للأرنب وشبهها . وقيل للناس والطير ، والمراد أنهم أصبحوا في دورهم ميتين لا حراك بهم { فتولى عَنْهُمْ } صالح عند اليأس من إجابتهم { وَقَالَ } لهم هذه المقالة { لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين } ويحتمل أنه قال لهم هذه المقالة بعد موتهم على طريق الحكاية لحالهم الماضية . كما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم من التكليم لأهل قليب بدر بعد موتهم ، أو قالها لهم عند نزول العذاب بهم ، وكأنه كان مشاهداً لذلك ، فنحسر على ما فاتهم من الإيمان والسلامة من العذاب ، ثم أبان عن نفسه أنه لم يأل جهداً في إبلاغهم الرسالة ومحض النصح ، لكن أبوا ذلك فلم يقبلوا منه ، فحق عليهم العذاب ، ونزل بهم ما كذبوا به واستعجلوه .
وقد أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي الطفيل قال : قالت ثمود لصالح
{ ائتنا بآية إن كنت من الصادقين } [ الشعراء : 154 ] ، قال : اخرجوا ، فخرجوا إلى هضبة من الأرض ، فإذا هي تمخض كما تمخض الحامل ، ثم إنها انفرجت ، فخرجت الناقة من وسطها ، فقال لهم صالح : { هذه ناقة الله لكم آية } [ هود : 64 ] ، فلما ملوها عقروها : { فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثلاثة أَيَّامٍ } [ هود : 65 ] . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة : أن صالحاً قال لهم حين عقروا الناقة : تمتعوا ثلاثة أيام ، ثم قال لهم : آية هلاككم أن تصبح وجوهكم غداً مصفرّة ، وتصبح اليوم الثاني محمرّة ، ثم تصبح اليوم الثالث مسودّة . فأصبحت كذلك . فلما كان اليوم الثالث أيقنوا بالهلاك ، فتكفنوا وتحنطوا . ثم أخذتهم الصيحة فأهمدتهم . وقال عاقر الناقة : لا أقتلها حتى ترضوا أجمعين ، فجعلوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون أترضين؟ فتقول نعم ، والصبيّ حتى رضوا أجمعون ، فعقرها .
وأخرج أحمد ، والبزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر قام فخطب فقال : « يا أيها الناس ، لا تسألوا نبيكم عن الآيات ، فإن قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث إليهم آية ، فبعث الله لهم الناقة ، فكانت ترد من هذا الفجّ ، فتشرب ماءهم يوم وردها ، ويحتلبون من لبنها مثل الذي كانوا يأخذون من مائها يوم غبها ، وتصدر من هذا الفج ، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها . فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة أيام ، وكان وعد من الله غير مكذوب ، ثم جاءتهم الصيحة فأهلك الله من كان منهم تحت مشارق الأرض ومغاربها ، إلا رجلاً كان في حرم الله ، فمنعه حرم الله من عذاب الله » ، فقيل يا رسول الله من هو؟ فقال : « أبو رغال . فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه » قال ابن كثير : هذا الحديث على شرط مسلم . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، من حديث أبي الطفيل مرفوعاً مثله .
وأخرج أحمد من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر : « لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم » ، وأصل الحديث في الصحيحين من غير وجه . وفي لفظ لأحمد من هذا الحديث قال : لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود . وأخرج أحمد ، وابن المنذر ، نحوه مرفوعاً من حديث أبي كبشة الأنماري .
وأخرج ابن المنذر ، عن ابن جريج ، في قوله : { وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء } قال : لا تعقروها .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السديّ ، في قوله : { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً } قال : كانوا ينقبون في الجبال البيوت . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : { وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ } قال : غلوا في الباطل { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } قال : الصيحة . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن زيد { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين } قال : ميتين . وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة مثله .
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
قوله : { وَلُوطاً } معطوف على ما سبق ، أي وأرسلنا لوطاً ، أو منصوب بفعل مقدّر ، أي واذكر لوطاً وقت قال لقومه . قال الفراء : لوط مشتق من قولهم : هذا أليط بقلبي ، أي ألصق . قال الزجاج : زعم بعض النحويين أن لوطاً يجوز أن يكون مشتقاً من لطت الحوض إذا ملسته بالطين ، وهذا غلط . لأن الأسماء الأعجمية لا تشتق . وقال سيبويه نوح ولوط أسماء أعجمية إلا أنها خفيفة ، فلذلك صرفت . ولوط هو ابن هاران بن تارخ ، فهو ابن أخي إبراهيم ، بعثه الله إلى أمة تسمى سدوم . { أَتَأْتُونَ الفاحشة } أي الخصلة الفاحشة المتمادية في الفحش والقبح . قال ذلك إنكاراً عليهم وتوبيخاً لهم { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن العالمين } أي لم يفعلها أحد قبلكم . فإن اللواط لم يكن في أمة من الأمم قبل هذه الأمة ، و «من» مزيدة للتوكيد للعموم في النفي ، وإنه مستغرق لما دخل عليه ، والجملة مسوقة لتأكيد النكير عليهم والتوبيخ لهم .
قوله : { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً } قرأ نافع وحفص على الخبر بهمزة واحدة مكسورة . وقرأ الباقون بهمزتين على الاستفهام المقتضي للتوبيخ والتقريع ، واختار القراءة الأولى أبو عبيد والكسائي وغيرهما ، واختار الخليل وسيبويه القراءة الثانية ، فعلى القراءة الأولى تكون هذه الجملة مبينة لقوله : { أَتَأْتُونَ الفاحشة } وكذلك على القراءة الثانية ، مع مزيد الاستفهام وتكريره المفيد للمبالغة في التقريع والتوبيخ ، وانتصاب { شهوة } على المصدرية ، أي تشتهونهم شهوة ، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال ، أي مشتهين . ويجوز أن يكون مفعولاً له ، أي لأجل الشهوة ، وفيه أنه لا غرض لهم بإتيان هذه الفاحشة إلا مجرد قضاء الشهوة من غير أن يكون لهم في ذلك غرض يوافق العقل ، فهم في هذا كالبهائم التي ينزو بعضها على بعض ، لما يتقاضاها من الشهوة { مّن دُونِ النساء } أي متجاوزين في فعلكم هذا للنساء ، اللاتي هنّ محل لقضاء الشهوة ، وموضع لطلب اللذة ، ثم أضرب عن الإنكار المتقدّم إلى الإخبار بما هم عليه من الإسراف الذي تسبب عنه إتيان هذه الفاحشة الفظيعة .
قوله : { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } الواقعين في هذه الفاحشة على ما أنكره عليهم منها { إِلا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم } أي لوطاً وأتباعه { مّن قَرْيَتِكُمْ } أي ما كان لهم جواب إلا هذا القول المباين للإنصاف ، المخالف لما طلبه منهم وأنكره عليهم ، وجملة : { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } تعليل لما أمروا به من الإخراج ، ووصفهم بالتطهر ، يمكن أن يكون على حقيقته ، وأنهم أرادوا أن هؤلاء يتنزهون عن الوقوع في هذه الفاحشة ، فلا يساكنونا في قريتنا ، ويحتمل أنهم قالوا ذلك على طريق السخرية والاستهزاء ، ثم أخبر الله سبحانه أنه أنجى لوطاً وأهله المؤمنين به ، واستثنى امرأته من الأهل ، لكونها لم تؤمن به ، ومعنى : { كَانَتْ مِنَ الغابرين } أنها كانت من الباقين في عذاب الله ، يقال غبر الشيء إذا مضى ، وغبر إذا بقي فهو من الأضداد .
وحكى ابن فارس في المجمل عن قوم أنهم قالوا : الماضي عابر بالعين المهملة ، والباقي غابر بالمعجمة . وقال الزجاج : { مِنَ الغابرين } أي من الغائبين عن النجاة . وقال أبو عبيد : المعنى { مِنَ الغابرين } أي من المعمرين ، وكانت قد هرمت ، وأكثر أهل اللغة على أن الغابر الباقي .
قوله : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا } قيل : أمطر بمعنى إرسال المطر . وقال أبو عبيدة : مطر في الرحمة وأمطر في العذاب ، والمعنى هنا : أن الله أمطر عليهم مطراً غير ما يعتادونه ، وهو رميهم بالحجارة كما في قوله : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ } [ الحجر : 74 ] { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين } هذا خطاب لكل من يصلح له ، أو لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وسيأتي في هود قصة لوط بأبين مما هنا .
وقد أخرج ابن أبي الدنيا ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في شعب الإيمان ، وابن عساكر ، عن ابن عباس في قوله : { أَتَأْتُونَ الفاحشة } قال : أدبار الرجال . وأخرج ابن عساكر ، عن ابن عباس ، قال : إنما كان بدء عمل قوم لوط : أن إبليس جاءهم في هيئة صبيّ ، أجمل صبيّ رآه الناس ، فدعاهم إلى نفسه ، فنكحوه ثم جسروا على ذلك .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عنه ، في قوله : { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } قال : من أدبار الرجال ، ومن أدبار النساء . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : { إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين } قال : من الباقين في عذاب الله . وأخرج أبو الشيخ ، عن سعيد بن أبي عروبة ، قال : كان قوم لوط أربعة آلاف ألف .
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
قوله : { وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً } معطوف على ما تقدّم ، أي وأرسلنا . ومدين : اسم قبيلة ، وقيل : اسم بلد والأوّل أولى . وسميت القبيلة باسم أبيهم ، وهو مدين بن إبراهيم كما يقال بكر وتميم . قوله : { أخاهم شُعَيْباً } شعيب عطف بيان ، وهو شعيب بن ميكائيل بن يشجب بن مدين بن إبراهيم ، قاله عطاء وابن إسحاق وغيرهما . وقال الشرقي بن القطامي : إنه شعيب بن عيفاء بن ثويب بن مدين بن إبراهيم . وزعم ابن سمعان أنه شعيب بن حرّة بن يشجب بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم . وقال قتادة : هو شعيب بن صفوان بن عيفاء بن ثابت بن مدين بن إبراهيم . قوله : { قَالَ ياقوم } إلى قوله : { بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ } قد سبق شرحه في قصة نوح .
قوله : { فَأَوْفُواْ الكيل والميزان } أمرهم بإيفاء الكيل والميزان ، لأنهم كانوا أهل معاملة بالكيل والوزن ، وكانوا لا يوفونهما ، وذكر الكيل الذي هو المصدر ، وعطف عليه الميزان الذي هو اسم للآلة .
واختلف في توجيه ذلك ، فقيل المراد بالكيل : المكيال ، فتناسب عطف الميزان عليه . وقيل المراد بالميزان : الوزن فيناسب الكيل ، والفاء في { فأوفوا } للعطف على اعبدوا .
قوله : { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ } البخس النقص ، وهو يكون بالتعييب للسلعة أو التزهيد فيها ، أو المخادعة لصاحبها والاحتيال عليه ، وكل ذلك من أكل أموال الناس بالباطل ، وظاهر قوله : { أَشْيَاءهُمْ } أنهم كانوا يبخسون الناس في كل الأشياء . وقيل : كانوا مكاسين ، يمكسون كل ما دخل إلى أسواقهم ، ومنه قول زهير :
أفي كل أسواق العراق إتاوة ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم
قوله : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض بَعْدَ إصلاحها } قد تقدّم تفسيره قريباً ، ويدخل تحته قليل الفساد وكثيره ، ودقيقه وجليله ، والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى العمل بما أمرهم به ، وترك ما نهاهم عنه ، والمراد بالخيرية هنا : الزيادة المطلقة ، لأنه لا خير في عدم إيفاء الكيل والوزن ، وفي بخس الناس ، وفي الفساد في الأرض أصلاً .
قوله : { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ } الصراط : الطريق ، أي لا تقعدوا بكل طريق توعدون الناس بالعذاب . قيل : كانوا يقعدون في الطرقات المفضية إلى شعيب ، فيتوعدون من أراد المجيء إليه ، ويقولون إنه كذاب فلا تذهب إليه ، كما كانت قريش تفعله مع النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، والسديّ ، وغيرهم . وقيل المراد : القعود على طرق الدين ومنع من أراد سلوكها . وليس المراد به القعود على الطرق حقيقة . ويؤيده : { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ ءامَنَ بِهِ } وقيل : المراد بالآية النهي عن قطع الطريق ، وأخذ السلب ، وكان ذلك من فعلهم . وقيل : إنهم كانوا عشارين يأخذون الجباية في الطرق من أموال الناس ، فنهوا عن ذلك .
والقول الأوّل : أقربها إلى الصواب ، مع أنه لا مانع من حمل النهي على جميع هذه الأقوال المذكورة . وجملة { توعدون } في محل نصب على الحال ، وكذلك ما عطف عليها ، أي لا تقعدوا بكل طريق موعدين لأهله ، صادّين عن سبيل الله ، باغين لها عوجاً ، والمراد بالصدّ { عن سبيل الله } : صدّ الناس عن الطريق الذي قعدوا عليه ، ومنعهم من الوصول إلى شعيب ، فإن سلوك الناس في ذلك السبيل للوصول إلى نبيّ الله هو سلوك سبيل الله ، و { مَنْ ءامَنَ بِهِ } مفعول { تصدّون } ، والضمير في { آمن به } يرجع إلى الله ، أو إلى سبيل الله ، أو إلى كل صراط أو إلى شعيب ، و { تَبْغُونَهَا عِوَجاً } أي تطلبون سبيل الله أن تكون معوجة غير مستقيمة ، وقد سبق الكلام على العوج . قال الزجاج : كسر العين في المعاني وفتحها في الأجرام { واذكروا إِذْ كُنتُمْ } أي وقت كنتم { قَلِيلاً } عددكم { فَكَثَّرَكُمْ } بالنسل . وقيل : كنتم فقراء فأغناكم .
{ وانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين } من الأمم الماضية ، فإن الله أهلكهم ، وأنزل بهم من العقوبات ما ذهب بهم ومحا أثرهم . { وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بالذى أُرْسِلْتُ بِهِ } إليكم من الأحكام التي شرعها الله لكم { وَطَائِفَةٌ } منكم { لَّمْ يْؤْمِنُواْ فاصبروا حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } هذا من باب التهديد والوعيد الشديد لهم . وليس هو من باب الأمر بالصبر على الكفر . وحكم الله بين الفريقين هو نصر المحقين على المبطلين ، ومثله قوله تعالى : { فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ } [ التوبة : 52 ] أو هو أمر للمؤمنين بالصبر على ما يحلّ بهم من أذى الكفار ، حتى ينصرهم الله عليهم . { قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ } أي قال الأشراف المستكبرون { لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ } لم يكتفوا بترك الإيمان والتمرّد عن الإجابة إلى ما دعاهم إليه ، بل جاوزوا ذلك بغياً وبطراً وأشرا إلى توعد نبيهم ، ومن آمن به ، بالإخراج من قريتهم ، أو عوده هو ومن معه في ملتهم الكفرية ، أي لا بدّ من أحد الأمرين : إما الإخراج ، أو العود . قال الزجاج : يجوز أن يكون العود بمعنى الإبتداء . يقال عاد إليّ من فلان مكروه ، أي صار وإن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك ، فلا يرد ما يقال : كيف يكون شعيب على ملتهم الكفرية من قبل أن يبعثه الله رسولاً؟ ويحتاج إلى الجواب بتغليب قومه المتبعين له عليه في الخطاب ، بالعود إلى ملتهم .
وجملة { قَالَ أُو لَو كُنَّا كارهين } مستأنفة جواب عن سؤال مقدّر . والهمزة لإنكار وقوع ما طلبوه من الإخراج أو العود ، والواو للحال ، أي أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا للعود إليها ، أو أتخرجوننا من قريتكم في حال كراهتنا للخروج منها ، أو في حال كراهتنا للأمرين جميعاً ، والمعنى : إنه ليس لكم أن تكرهونا على أحد الأمرين ، ولا يصح لكم ذلك ، فإن المكره لا اختيار له ، ولا تعدّ موافقته مكرها موافقة ، ولا عوده إلى ملتكم مكرهاً عوداً ، وبهذا التقرير يندفع ما استشكله كثير من المفسرين في هذا المقام ، حتى تسبب عن ذلك تطويل ذيول الكلام .
{ قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ } التي هي الشرك { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } بالإيمان ، فلا يكون منا عود إليها أصلاً { وَمَا يَكُونُ لَنَا } أي ما يصح لنا ولا يستقيم { أَن نَّعُودَ فِيهَا } بحال من الأحوال { إِلاَّ أَن يَشَاء الله } أي إلا حال مشيئته سبحانه ، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . قال الزجاج : أي إلا بمشيئة الله عزّ وجلّ ، قال : وهذا قول أهل السنة . والمعنى : أنه لا يكون منا العود إلى الكفر ، إلا أن يشاء الله ذلك ، فالاستثناء منقطع . وقيل : إن الاستثناء هنا على جهة التسليم لله عزّ وجلّ ، كما في قوله : { وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بالله } [ هود : 88 ] وقيل : هو كقولهم لا أكلمك حتى يبيضّ الغراب ، وحتى يلج الجمل في سمّ الخياط ، والغراب لا يبيض ، والجمل لا يلج ، فهو من باب التعليق بالمحال .
{ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا } أي أحاط علمه بكل المعلومات ، فلا يخرج عنه منها شيء ، و { علماً } منصوب على التمييز . وقيل المعنى : { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا } أي القرية بعد أن كرهتم مجاورتنا لهم { إِلاَّ أَن يَشَاء الله } عودنا إليها { عَلَى الله تَوَكَّلْنَا } أي عليه اعتمدنا في أن يثبتنا على الإيمان ، ويحول بيننا وبين الكفر وأهله ، ويتمّ علينا نعمته ، ويعصمنا من نقمته .
قوله : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } الفتاحة الحكومة ، أي احكم بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين . دعوا الله سبحانه أن يحكم بينهم ، ولا يكون حكمه سبحانه إلا بنصر المحقين على المبطلين ، كما أخبرنا به في غير موضع من كتابه فكأنهم طلبوا نزول العذاب بالكافرين ، وحلول نقمة الله بهم { وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ } معطوف على { قَالَ الملأ الذين استكبروا } يحتمل أن يكون هؤلاء هم أولئك ، ويحتمل أن يكونوا غيرهم من طوائف الكفار الذين أرسل إليهم شعيب ، واللام في { لئن اتبعتم شعيبا } موطئة لجواب قسم محذوف ، أي دخلتم في دينه ، وتركتم دينكم { إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون } جواب القسم ساد مسدّ جواب الشرط . وخسرانهم : هلاكهم ، أو ما يخسرونه بسبب إيفاء الكيل والوزن ، وترك التطفيف الذي كانوا يعاملون الناس به { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } أي : الزلزلة . وقيل : الصيحة كما في قوله : { وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جاثمين } [ هود : 94 ] قد تقدم تفسيره في قصة صالح .
قوله : { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } هذه الجملة مستأنفة مبينة لما حلّ بهم من النعمة ، والموصول مبتدأ ، و { كأن لم يغنوا } خبره يقال غنيت بالمكان إذا أقمت به ، وغنى القوم في دارهم ، أي طال مقامهم فيها ، والمغني : المنزل ، والجمع المغاني . قال حاتم الطائي :
غنينا زماناً بالتصعلك والغنى ... وكلا سقاناه بكاسيهما الدهر
فما زادنا بغياً على ذي قرابة ... غنانا ولا أزرى باحساننا الفقر
ومعنى الآية : الذين كذبوا شعيباً كأن لم يقيموا في دارهم ، لأن الله سبحانه استأصلهم بالعذاب ، والموصول { في الذين كذبوا } شعيباً مبتدأ خبره { كَانُواْ هُمُ الخاسرين } ، وهذه الجملة مستأنفة كالأولى ، متضمنة لبيان خسران القوم المكذبين { فتولى عَنْهُمْ } أي شعيب لما شاهد نزول العذاب بهم { وَقَالَ ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبّى } التي أرسلني بها إليكم { وَنَصَحْتُ لَكُمْ } ببيان ما فيه سلامة دينكم ودنياكم { فَكَيْفَ ءاسى } أي أحزن { على قَوْمٍ كافرين } بالله ، مصرّين على كفرهم ، متمردين عن الإجابة ، أو الأسى شدة الحزن ، آسى على ذلك فهو آس . قال شعيب هذه المقالة تحسراً على عدم إيمان قومه ، ثم سلا نفسه بأنه كيف يقع منه الأسى على قوم ليس بأهل للحزن عليهم لكفرهم بالله ، وعدم قبولهم لما جاء به رسوله .
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن عساكر ، عن عكرمة ، والسدي قالا : ما بعث الله نبياً مرتين إلا شعيباً : مرة إلى مدين فأخذتهم الصيحة ، ومرة إلى أصحاب الأيكة { فأخذهم الله بعذاب يوم الظلة } [ الشعراء : 189 ] . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ } قال : لا تظلموا الناس . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن قتادة { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ } قال : لا تظلموهم { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ } قال : كانوا يوعدون من أتى شعيباً وغشيه وأراد الإسلام .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ } قال : كانوا يجلسون في الطريق ، فيخبرون من أتى عليهم أن شعيباً كذاب ، فلا يفتننكم عن دينكم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد { بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ } قال : بكل سبيل حق { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } قال : تصدّون أهلها { وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا } قال : تلتمسون لها الزيغ . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ } قال : هو العاشر { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } قال : تصدّون عن الإسلام { وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا } قال : هلاكاً . وأخرج أبو الشيخ ، عن مجاهد ، قال : هم العُشَّار . وأخرج ابن جرير ، عن أبي العالية ، عن أبي هريرة أو غيره ، شك أبو العالية قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به على خشبة على الطريق لا يمرّ بها ثوب إلا شقته ، ولا شيء إلا خرقته ، قال :
« ما هذا يا جبريل؟ » قال : هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه ثم تلا { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ } .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السدي ، في قوله : { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا } قال : ما ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله { إِلا أَن يَشَاء الله رَبُّنَا } والله لا يشاء الشرك ، ولكن يقول : إلا أن يكون الله قد علم شيئاً ، فإنه قد وسع كل شيء علماً . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، وابن الأنباري في الوقف والابتداء ، عن ابن عباس قال : ما ما كنت أدري ما قوله : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق } حتى سمعت ابنته ذي يزن تقول : تعال أفاتحك ، تعني أقاضيك . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه ، في قوله : { رَبَّنَا افتح } يقول : اقض . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السديّ ، قال : الفتح القضاء لغة يمانية إذا قال أحدهم تعال أقاضيك القضاء قال : تعال أفاتحك .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس { لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } قال : لم يعيشوا فيها . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة ، مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس { فَكَيْفَ ءاسى } قال : أحزن . وأخرج ابن عساكر ، عن ابن عباس قال : في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما ، قبر إسماعيل ، وقبر شعيب ، فقبر إسماعيل في الحجر ، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود . وأخرج ابن عساكر عن وهب بن منبه أن شعيباً مات بمكة ، ومن معه من المؤمنين ، فقبورهم في غربي الكعبة بين دار الندوة وبين باب بني سهم . وأخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم ، عن ابن إسحاق قال : ذكر لي يعقوب بن أبي مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر شعيباً قال : « ذاك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه فيما يريدهم به ، فلما كذبوه وتوعدوه بالرجم والنفي من بلادهم وعتوا على الله أخذهم عذاب يوم الظلة » .
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ } لما فصل الله سبحانه أحوال بعض الأنبياء مع أممهم ، وهم المذكورون سابقاً ، أجمل حال سائر الأمم المرسل إليها ، أي وما أرسلنا في قرية من القرى من نبيّ من الأنبياء . وفي الكلام محذوف ، أي فكذب أهلها { إلا أخذناهم } ، والاستثناء مفرّغ ، أي ما أرسلنا في حال من الأحوال ، إلا في حال أخذنا أهلها ، فمحل أخذنا النصب . والبأساء : البؤس والفقر . والضراء : الضرّ . وقد تقدم تحقيق معنى البأساء والضراء { لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } أي لكي يتضرعوا ويتذللوا ، فيدعوا ما هم عليه من الاستكبار وتكذيب الأنبياء .
قوله : { ثُمَّ بَدَّلْنَا } معطوف على { أخذنا } أي ثم بعد الأخذ لأهل القرى بدّلناهم { مَكَانَ السيئة } التي أصبناهم بها من البلاء والامتحان { الحسنة } أي الخصلة الحسنة ، فصاروا في خير وسعة وأمن { حتى عَفَواْ } يقال عفا كثر ، وعفا درس ، فهو من أسماء الأضداد ، والمراد هنا : أنهم كثروا في أنفسهم وفي أموالهم ، أي أعطيناهم الحسنة مكان السيئة ، حتى كثروا { وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضراء والسراء } أي قالوا هذه المقالة عند أن صاروا في الحسنة بعد السيئة ، أي أن هذا الذي مسنا من البأساء والضراء ، ثم من الرخاء والخصب من بعد ، هو أمر وقع لآبائنا قبلنا مثله . فمسهم من البأساء والضراء ما مسنا ، ومن النعمة والخير ما نلناه ، ومعناهم : أن هذه العادة الجارية في السلف والخلف ، وأن ذلك ليس من الله سبحانه ابتلاء لهم ، واختبار لما عندهم ، وفي هذا من شدة عنادهم وقوة تمردهم وعتوّهم ما لا يخفى ، ولهذا عاجلهم الله بالعقوبة ولم يمهلهم فقال : { فأخذناهم بَغْتَةً } أي فجأة عقب أن قالوا هذه المقالة من دون تراخ ولا إمهال « و » الحال أن { هُمْ لا يَشْعُرُونَ } بذلك ولا يترقبونه . واللام في { القرى } للعهد ، أي : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى } التي أرسلنا إليها رسلنا { ءامَنُواْ } بالرسل المرسلين إليهم { واتقوا } ما صمموا عليه من الكفر ، ولم يصرّوا على ما فعلوا من القبائح { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والأرض } أي يسرنا لهم خير السماء والأرض ، كما يحصل التيسير للأبواب المغلقة بفتح أبوابها . قيل المراد بخير السماء : المطر ، وخير : الأرض النبات ، والأولى حمل ما في الآية على ما هو أعمّ من ذلك . ويجوز أن تكون اللام في { القرى } للجنس . والمراد : لو أن أهل القرى أين كانوا ، وفي أيّ بلاد سكنوا { آمنوا واتقوا } إلى آخر الآية . { ولكن كَذَّبُواْ } بالآيات والأنبياء ولم يؤمنوا ولا اتقوا { فأخذناهم } بالعذاب بسبب { مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من الذنوب الموجبة لعذابهم . والاستفهام في { أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى } للتقريع والتوبيخ ، وأهل القرى هم أهل القرى : المذكورة قبله ، والفاء للعطف ، وهو مثل :
{ أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } [ المائدة : 50 ] . وقيل : المراد بالقرى مكة وما حولها ، لتكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، والحمل على العموم أولى .
قوله : { أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بياتا } أي : وقت بيات ، وهو الليل ، على أنه منصوب على الظرفية ، ويجوز أن يكون مصدراً ، بمعنى تبيتاً ، أو مصدراً في موضع الحال ، أي مبيتين ، وجملة : { وَهُمْ نَائِمُونَ } في محل نصب على الحال ، والاستفهام في { أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } كالاستفهام الذي قبله . والضحى ضحوة النهار ، وهو في الأصل اسم لضوء الشمس إذا أشرقت وارتفعت . قرأ ابن عامر والحرميان " أوْ أمن " بإسكان الواو ، وقرأ الباقون بفتحها . وجملة { وَهُمْ يَلْعَبُونَ } في محل نصب على الحال ، أي يشتغلون بما لا يعود عليهم بفائدة . والاستفهام في { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله } للتقريع والتوبيخ ، وإنكار ما هم عليه من أمان مالا يؤمن من مكر الله بهم وعقوبته لهم ، وفي تكرير هذا الاستفهام زيادة تقرير ، لإنكار ما أنكره عليهم ، ثم بين حال من أمن مكر الله ، فقال : { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون } أي الذين أفرطوا في الخسران ، ووقعوا في وعيده الشديد . وقيل : مكر الله هنا هو استدراجه بالنعمة والصحة . والأولى حمله على ما هو أعمّ من ذلك .
قوله : { أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا } قرىء «نهد» بالنون وبالتحتية . فعلى القراءة بالنون يكون فاعل الفعل هو الله سبحانه ، ومفعول الفعل { أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ } أي أن الشأن هو هذا ، وعلى القراءة بالتحتية يكون فاعل يهد هو { أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ } أي أخذناهم بكفرهم وتكذيبهم . والهداية هنا بمعنى التبيين ، ولهذا عديت باللام .
قوله : { وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ } أي ونحن نطبع على قلوبهم على الاستئناف ، ولا يصح عطفه على { أصبنا } لأنهم ممن طبع الله على قلبه ، لعدم قبولهم للإيمان . وقيل : هو معطوف على فعل مقدّر دلّ عليه الكلام . كأنه قيل يغفلون عن الهداية ونطبع . وقيل معطوف على { يرثون } قوله : { فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } جواب " لو " أي صاروا بسبب إصابتنا لهم بذنوبهم ، والطبع على قلوبهم ، لا يسمعون ما يتلوه عليهم من أرسله الله إليهم من الوعظ ، والإعذار ، والإنذار .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة } قال : مكان الشدة الرخاء { حتى عَفَواْ } قال : كثروا ، وكثرت أموالهم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس في قوله : { حتى عَفَواْ } قال : جَمُّوا .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله : { قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضراء والسراء } قال : قالوا قد أتى على آبائنا مثل هذا فلم يكن شيئاً { فأخذناهم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عنه في قوله : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءامَنُواْ } قال : بما أنزل الله { واتقوا } قال : ما حرّمه الله { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والأرض } يقول : أعطتهم السماء بركتها والأرض نباتها . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق معاذ بن رفاعة ، عن موسى الطائفي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أكرموا الخبز ، فإن الله أنزله من بركات السماء ، وأخرجه من بركات الأرض » وأخرج البزار والطبراني ، قال السيوطي ، بسند ضعيف ، عن عبد الله ابن أمّ حرام قال : صليت القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « أكرموا الخبز ، فإن الله أنزله من بركات السماء ، وسخر له بركات الأرض ، ومن تتبع ما يسقط من السفرة ، غفر له » وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال : كان أهل قريةِ أوسع الله عليهم ، حتى كانوا يستنجون بالخبز ، فبعث الله عليهم الجوع .
وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { أَوَ لَمْ يَهْدِ } قال : أو لم نبين . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السديّ في قوله : { لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا } قال : المشركون .
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
قوله : { تِلْكَ القرى } أي التي أهلكناها ، وهي قرى قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ، المتقدّم ذكرها . { نَقُصُّ عَلَيْكَ } أي نتلو عليك { مِنْ أَنبَائِهَا } أي من أخبارها . وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين . و { نقصّ } إما في محل نصب على أنه حال ، و { تِلْكَ القرى } مبتدأ وخبر ، أو يكون في محل رفع على أنه الخبر ، و { القرى } صفة { لتلك } ، و { من } في { مِنْ أَنبَائِهَا } للتبعيض ، أي نقصّ عليك بعض أنبائها ، واللام في { وَلَقَد جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } جواب القسم . والمعنى : أن من أخبارهم أنها جاءتهم رسل الله ببيناته ، كما سبق بيانه في قصص الأنبياء المذكورين قبل هذا { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } عند مجيء الرسل { بِمَا كَذَّبُواْ } به { مِن قَبْلُ } مجيئهم ، أو فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل ، في حال من الأحوال ، ولا في وقت من الأوقات بما كذبوا به قبل مجيئهم ، بل هم مستمرون على الكفر ، متشبثون بأذيال الطغيان دائماً ، ولم ينجع فيهم مجيء الرسل ، ولا ظهر له أثر ، بل حالهم عند مجيئهم كحالهم قبله . وقيل المعنى : فما كانوا ليؤمنوا بعد هلاكهم بما كذبوا به لو أحييناهم كقوله : { وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا } [ الأنعام : 28 ] وقيل سألوا المعجزات ، فلما رأوها لم يؤمنوا بما كذبوا به من قبل رؤيتها ، والأوّل : أولى ، ومعنى تكذيبهم قبل مجيء الرسل : أنهم كانوا في الجاهلية يكذبون بكل ما سمعوا به من إرسال الرسل ، وإنزال الكتب .
قوله : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين } أي مثل ذلك الطبع الشديد يطبع الله على قلوب الكافرين ، فلا ينجع فيهم بعد ذلك وعظ ولا تذكير ولا ترغيب ولا ترهيب . قوله : { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ } الضمير يرجع إلى أهل القرى المذكورين سابقاً ، أي ما وجدنا لأكثر أهل هذه القرى من عهد ، أي عهد يحافظون عليه ويتمسكون به ، بل دأبهم نقض العهود في كل حال . وقيل الضمير يرجع إلى الناس على العموم ، أي ما وجدنا لأكثر الناس من عهد . وقيل المراد بالعهد : هو المأخوذ عليهم في عالم الذرّ . وقيل : الضمير يرجع إلى الكفار على العموم من غير تقييد بأهل القرى ، أي الأكثر منهم لا عهد ولا وفاء . والقليل منهم قد يفي بعهده ويحافظ عليه ، و « إن » في { وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لفاسقين } هي المخففة من الثقيلة ، وضمير الشأن محذوف ، أي أن الشأن وجدنا أكثرهم لفاسقين ، أو هي النافية . واللام في { لفاسقين } بمعنى إلا ، أي إلا فاسقين خارجين عن الطاعة خروجاً شديداً .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن أبيّ بن كعب ، في قوله : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } قال : كان في علم الله يوم أقروا له بالميثاق من يكذب به ممن يصدّق به .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، في قوله : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } قال : مثل قوله : { وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن ، في قوله : { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ } قال : الوفاء . وأخرج ابن أبي حاتم ، في الآية قال : هو ذاك العهد يوم أخذ الميثاق . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لفاسقين } قال : ذاك أن الله إنما أهلك القرى ، لأنهم لم يكونوا حفظوا ما وصاهم به .
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)
قوله : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى } أي من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب أي ثم أرسلنا موسى بعد إرسالنا لهؤلاء الرسل . وقيل : الضمير في { مّن بَعْدِهِمْ } راجع إلى الأمم السابقة ، أي من بعد إهلاكهم { إلى فِرْعَوْنَ وملئه } فرعون هو لقب لكل من يملك أرض مصر بعد العمالقة . وملأ فرعون : أشراف قومه ، وتخصيصهم بالذكر مع عموم الرسالة لهم ولغيرهم ، لأن من عداهم كالأتباع لهم . قوله : { فَظَلَمُواْ بِهَا } أي كفروا بها . وأطلق الظلم على الكفر ، لكون كفرهم بالآيات التي جاء بها موسى كان كفراً متبالغاً ، لوجود ما يوجب الإيمان من المعجزات العظيمة التي جاءهم بها . والمراد بالآيات هنا : هي الآيات التسع . أو معنى : { فَظَلَمُواْ بِهَا } ظلموا الناس بسببها لما صدّوهم عن الإيمان بها ، أو ظلموا أنفسهم بسببها { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين } أي المكذبين بالآيات الكافرين بها ، وجعلهم مفسدين ، لأن تكذيبهم وكفرهم من أقبح أنواع الفساد .
قوله : { وَقَالَ موسى يافرعون إِنّى رَسُولٌ مِن رَّبّ العالمين } أخبره بأنه مرسل من الله إليه ، وجعل ذلك عنواناً لكلامه معه ، لأن من كان مرسلاً من جهة من هو رب العالمين أجمعين ، فهو حقيق بالقبول لما جاء به ، كما يقول من أرسله الملك في حاجة إلى رعيته : أنا رسول الملك إليكم ، ثم يحكي ما أرسل به فإن في ذلك من تربية المهابة ، وإدخال الروعة ، مالا يقادر قدره .
قوله : { حَقِيقٌ عَلَى أَن لا أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق } قرىء " حقيق عليّ أن لا أقول " أي واجب عليّ ، ولازم لي ، أن لا أقول فيما أبلغكم عن الله إلا القول الحق ، وقرىء { حَقِيقٌ عَلَى أَن لا أَقُولَ } بدون ضمير في " على "؛ قيل : في توجيهه إن " على " معنى الباء ، أي حقيق بأن لا أقول . ويؤيده قراءة أبيّ والأعمش ، فإنهما قرآ «حقيق بأن لا أقول» . وقيل : إن { حَقِيقٌ } مضمن معنى حريص . وقيل : إنه لما كان لازماً للحق ، كان الحق لازماً له . فقول الحق حقيق عليه ، وهو حقيق على قول الحق . وقيل إنه أغرق في وصف نفسه في ذلك المقام ، حتى جعل نفسه حقيقة على قول الحق ، كأنه وجب على الحق أن يكون موسى هو قائله . وقرأ عبد الله بن مسعود «حقيق أن لا أقول» بإسقاط " على " ، ومعناها واضح . ثم قال بعد هذا { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ مّن رَّبّكُمْ } أي بما يتبين به صدقي ، وأني رسول من رب العالمين . وقد طوى هنا ذكر ما دار بينهما من المحاورة ، كما في موضع آخر أنه قال فرعون :
{ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى } [ طه : 49 ] . ثم قال بعد جواب موسى { وَمَا رَبُّ العالمين } [ الشعراء : 23 ] الآيات الحاكية لما دار بينهما .
قوله : { فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إسراءيل } أمره بأن يدع بني إسرائيل يذهبون معه ، ويرجعون إلى أوطانهم ، وهي الأرض المقدّسة . وقد كانوا باقين لديه مستعبدين ممنوعين من الرجوع إلى وطنهم ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فلما قال ذلك { قَالَ } له فرعون { إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيةٍ } من عند الله كما تزعم { فَأْتِ بِهَا } حتى نشاهدها ، وننظر فيها { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } في هذه الدعوى التي جئت بها .
قوله : { فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } أي وضعها على الأرض فانقلبت ثعباناً ، أي حية عظيمة من ذكور الحيات . ومعنى { مُّبِينٌ } أن كونها حية في تلك الحال أمر ظاهر واضح لا لبس فيه . { وَنَزَعَ يَدَهُ } أي أخرجها وأظهرها من جيبه ، أو من تحت إبطه ، وفي التنزيل : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء } [ النمل : 12 ] . قوله : { فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين } أي فإذا يده التي أخرجها بيضاء تتلألأ نوراً ، يظهر لكل مبصر .
{ قَالَ الملأ } أي الأشراف { مِن قَوْمِ فِرْعَونَ } لما شاهدوا انقلاب العصى حية ، ومصير يده بيضاء من غير سوء { إِنَّ هَذَا } أي موسى { لساحر عَلِيمٌ } أي كثير العلم بالسحر . ولا تنافي بين نسبة هذا القول إلى الملأ هنا ، وإلى فرعون في سورة الشعراء ، فكلهم قد قالوه ، فكان ذلك مصححاً لنسبته إليهم تارة وإليه أخرى .
وجملة : { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ } وصف { لساحر } . والأرض المنسوبة إليهم هي أرض مصر . وهذا من كلام الملأ . وأما { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } فقيل : هو من كلام فرعون ، قال للملأ لما قالوا بما تقدّم ، أي بأي شيء تأمرونني . وقيل : هو من كلام الملأ ، أي قالوا لفرعون ، فبأي شيء تأمرنا ، وخاطبوه بما تخاطب به الجماعة تعظيماً له ، كما يخاطب الرؤساء أتباعهم . و " ما " في موضع نصب بالفعل الذي بعدها . ويجوز أن تكون " ذا " بمعنى الذي ، كما ذكره النحاة في ماذا صنعت ، وكون هذا من كلام فرعون هو الأولى ، بدليل ما بعده ، وهو : { قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } قال الملأ جواباً لكلام فرعون ، حيث استشارهم وطلب ما عندهم من الرأي : { أرجه } ، أي أخره وأخاه . يقال أرجأته وأرجيته : أخرته . قرأ عاصم والكسائي وحمزة وأهل المدينة «أرجه» بغير همز . وقرأ الباقون بالهمز . وقرأ أهل الكوفة إلا الكسائي " أرجه " بسكون الهاء . قال الفراء : هي لغة للعرب يقفون على الهاء في الوصل ، وأنكر ذلك البصريون . وقيل معنى { أرجه } احبسه . وقيل هو من رجا يرجو ، أي أطمعه ودعه يرجوك ، حكاه النحاس عن محمد بن يزيد المبرد { وَأَرْسِلْ فِى المدائن حاشرين } أي أرسل جماعة حاشرين في المدائن التي فيها السحرة ، و { حاشرين } مفعول { أرسل } .
وقيل : هو منصوب على الحال . و { يَأْتُوكَ } جواب الأمر ، أي يأتوك هؤلاء الذين أرسلتهم { بِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } أي بكل ماهر في السحر ، كثير العلم بصناعته . قرأ أهل الكوفة إلا عاصم «سحار» . وقرأ من عداهم { ساحر } .
قوله : { وَجَاء السحرة فِرْعَوْنَ } في الكلام طيّ ، أي فبعث في المدائن حاشرين ، وجاء السحرة فرعون . قوله : { قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا } أي فلما جاءوا فرعون قالوا له إن لنا لأجراً ، والجملة استئنافية جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : أيّ شيء قالوا له لما جاءوه؟ والأجر الجائزة والجعل ، ألزموا فرعون أن يجعل لهم جُعلاً ، إن غلبوا موسى بسحرهم . قرأ نافع ، وابن كثير { إن لنا } على الإخبار . وقرأ الباقون «أئن لنا» على الاستفهام . استفهموا فرعون عن الجعل الذي سيجعله لهم على الغلبة ، ومعنى الاستفهام التقرير . وأما على القراءة الأولى ، فكأنهم قاطعون بالجعل ، وأنه لابدّ لهم منه ، فأجابهم فرعون بقوله : { نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين } أي إن تلكم لأجراً ، وإنكم مع هذا الأجر المطلوب منكم لمن المقرّبين لدينا .
قوله : { قَالُواْ يا موسى إَمَا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين } هذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فما قالوا لموسى بعد أن قال لهم فرعون { نعم وإنكم لمن المقرّبين } . والمعنى : أنهم خيروا موسى بين أن يبتدىء بإلقاء ما يلقيه عليهم ، أو يبتدئوه هم بذلك تأدّباً معه ، وثقة من أنفسهم بأنهم غالبون ، وإن تأخروا ، و " أن " في موضع نصب ، قاله الكسائي والفراء ، أي إما أن تفعل الإلقاء أو نفعله نحن . فأجابهم موسى بقوله : { أَلْقَوْاْ } اختار أن يكونوا المتقدّمين عليه بإلقاء ما يلقونه غير مبال بهم ، ولا هائب لما جاءوا به . قال الفراء : في الكلام حذف . المعنى : قال لهم موسى إنكم لم تغلبوا ربكم ، ولن تبطلوا آياته . وقيل هو تهديد ، أي ابتدئوا بالإلقاء فستنظرون ما يحل بكم من الافتضاح . والموجب لهذين التأويلين عند من قال بهما أنه لا يجوز على موسى أن يأمرهم بالسحر { فَلَمَّا أَلْقُوْاْ } أي حبالهم وعصيهم { سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس } أي قلبوها وغيروها عن صحة إدراكها بما جاءوا به من التمويه والتخييل الذي يفعله المشعوذون وأهل الخفة { واسترهبوهم } أي أدخلوا الرهبة في قلوبهم إدخالاً شديداً { وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } في أعين الناظرين لما جاءوا به ، وإن كان لا حقيقة له في الواقع .
قوله : { وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } أمره الله سبحانه ، عند أن جاء السحرة بما جاءوا به من السحر ، أن يلقي عصاه { فَإِذَا هِىَ } أي العصا { تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } قرأ حفص { تَلْقَفْ } بإسكان اللام ، وتخفيف القاف من لقف يلقف . وقرأ الباقون بفتح اللام ، وتشديد القاف من تلقف يتلقف ، يقال لقفت الشيء وتلقفته : إذا أخذته أو بلعته .
قال أبو حاتم : وبلغني في بعض القراءات " تلقم " بالميم والتشديد ، قال الشاعر :
أنت عصا موسى التي لم تزل ... تلقم ما يأفكه الساحر
و«ما» في { مَا يَأْفِكُونَ } مصدرية أو موصولة ، أي إفكهم أو ما يأفكونه ، سماه إفكاً ، لأنه لا حقيقة له في الواقع ، بل هو كذب وزور وتمويه وشعوذة { فَوَقَعَ الحق } أي ظهر وتبين لما جاء به موسى { وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من سحرهم ، أي تبين بطلانه { فَغُلِبُواْ } أي السحرة { هُنَالِكَ } أي في الموقف الذي أظهروا فيه سحرهم { وانقلبوا } من ذلك الموقف { صاغرين } أذلاء مقهورين { وَأُلْقِىَ السحرة ساجدين } أي خروا ساجدين ، كأنما ألقاهم ملق على هيئة السجود ، أو لم يتمالكوا مما رأوا ، فكأنهم ألقوا أنفسهم ، وجملة { قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ العالمين رَبّ موسى وهارون } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : ماذا قالوا عند سجودهم أوفي سجودهم؟ وإنما قالوا هذه المقالة وصرّحوا بأنهم آمنوا بربّ العالمين ، ثم لم يكتفوا بذلك حتى قالوا : { ربّ موسى وهارون } لئلا يتوهم متوهم من قوم فرعون المقرّين بإلهيته ، أن السجود له .
وقد أخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { ثُمَّ بَعَثْنَا موسى } قال : إنما سمي موسى ، لأنه ألقى بين ماء وشجر ، فالماء بالقبطية : مو والشجر : سي . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مجاهد أن فرعون كان فارسياً من أهل إصطخر . وأخرج أيضاً عن ابن لهيعة ، أنه كان من أبناء مصر . وأخرج أيضاً وأبو الشيخ ، عن محمد بن المنكدر قال : عاش فرعون ثلثمائة سنة . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عليّ بن أبي طلحة ، أن فرعون كان قبطياً ولد زنا طوله سبعة أشبار . وأخرج أيضاً عن الحسن قال : كان علجاً من همذان . وأخرج أبو الشيخ ، عن إبراهيم بن مقسم الهذلي ، قال : مكث فرعون أربعمائة سنة لم يصدع له رأس .
وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : { فألقى عَصَاهُ } قال : ذكر لنا أن تلك العصا عصا آدم ، أعطاه إياها ملك حين توجه إلى مدين ، فكانت تضيء بالليل ، ويضرب بها الأرض بالنهار ، فتخرج له رزقه ويهشّ بها على غنمه { فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } قال : حية تكاد تساوره . وأخرج ابن أبي حاتم ، على ابن عباس ، قال : لقد دخل موسى على فرعون وعليه زرمانقة من صوف ما تجاوز مرفقيه ، فاستأذن على فرعون فقال : أدخلوه ، فدخل فقال : إن إلهي أرسلني إليك ، فقال للقوم حوله : { ما علمت لكم من إله غيري } [ القصص : 38 ] ، خذوه . قال إني قد جئتك بآية ، قال : فائت بها إن كنت من الصادقين ، فألقى عصاه ، فصارت ثعباناً بين لحييه ، ما بين السقف إلى الأرض ، وأدخل يده في جيبه ، فأخرجها مثل البرق تلتمع الأبصار ، فخروا على وجوههم ، وأخذ موسى عصاه ثم خرج ، ليس أحد من الناس إلا نفر منه .
فلما أفاق وذهب عن فرعون الروع قال للملأ حوله : ماذا تأمروني؟ { قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاه } ولا تأتنا به ولا يقربنا { وَأَرْسِلْ فِى المدائن حاشرين } وكانت السحرة يخشون من فرعون ، فلما أرسل إليهم قالوا : قد احتاج إليكم إلهكم؟ قال : إن هذا فعل كذا وكذا . قالوا : إن هذا ساحر سحر { إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين } .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه ، قال : عصى موسى اسمها ماشا . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ من طرق ، عنه ، في قوله : { فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } قال : الحية الذكر . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السديّ ، في قوله : { فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } قال : الذكر من الحيات ، فاتحة فمها ، واضعة لحيها الأسفل في الأرض ، والأعلى على سور القصر ، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه ، فلما رآها ذُعِر منها ووثب فأحدث ، ولم يكن يحدث قبل ذلك ، فصاح يا موسى خذها وأنا أؤمن بربك وأرسل معك بني إسرائيل ، فأخذها موسى فصارت عصا .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { أَرْجِهْ } قال : أخره . وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة ، قال : احبسه وأخاه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس من طرق في قوله : { وَأَرْسِلْ فِى المدائن حاشرين } قال : الشُّرَط . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عنه ، في قوله : { وَجَاء السحرة } قال : كانوا سبعين رجلاً أصبحوا سحرة ، وأمسوا شهداء .
وقد اختلفت كلمة السلف في عددهم؛ فقيل : كانوا سبعين كما قال ابن عباس . وقيل كانوا اثني عشر . وقيل : خمسة عشر ألفاً . وقيل : سبعة عشر ألفاً . وقيل : تسعة عشر ألفاً . وقيل : ثلاثين ألفاً . وقيل : سبعين ألفاً . وقيل : ثمانين ألفاً . وقيل ثلثمائة ألف . وقيل تسعمائة ألف .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : { إِنَّ لَنَا لأَجْرًا } أي عطاء . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس ، في قوله : { فَلَمَّا أَلْقُوْاْ } قال : ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً ، فأقبلت يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ قال : ألقى موسى عصاه فأكلت كل حية لهم ، فلما رأوا ذلك سجدوا . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، نحوه .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر عن مجاهد ، في قوله : { تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } قال : ما يكذبون .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن الحسن في قوله : { تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } قال : تسترط حبالهم وعصيهم . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة قال : التقى موسى وأمير السحرة ، فقال له موسى : أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي؟ وتشهد أن ما جئت به حق؟ فقال الساحر : لآتينّ غداً بسحر لا يغلبه سحر . فو الله لئن غلبتني لأمننّ بك ، ولأشهدنّ أنه حق ، وفرعون ينظر إليهما وهو قول فرعون { إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى المدينة } [ الأعراف : 123 ] . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الأوزاعي قال : لما خرّ السحرة سجداً رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها .
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
قوله : { آمَنتُمْ بِهِ } قرىء بحذف الهمزة على الإخبار وبإثباتها . أنكر على السحرة فرعون إيمانهم بموسى قبل أن يأذن لهم بذلك ، ثم قال بعد الإنكار عليهم ، مبيناً لما هو الحامل لهم على ذلك في زعمه { إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى المدينة } أي حيلة احتلتموها أنتم وموسى عن مواطأة بينكم سابقة { لِتُخْرِجُواْ } من مدينة مصر { أَهْلِهَا } من القبط ، وتستولوا عليها وتسكنوا فيها أنتم وبنو إسرائيل . ومعنى { فِى المدينة } أن هذه الحيلة والمواطأة كانت بينكم ، وأنتم بالمدينة ، مدينة مصر ، قبل أن تبرزوا أنتم وموسى إلى هذه الصحراء . ثم هدّدهم بقوله : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } عاقبة صنعكم هذا ، وسوء مغبته ، ثم لم يكتف بهذا الوعيد المجمل ، بل فصّله فقال : { لأقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ } أي الرجل اليمنى واليد اليسرى ، أو الرجل اليسرى واليد اليمنى ، ثم لم يكتف عدوّ الله بهذا ، بل جاوزه إلى غيره فقال : { ثُمَّ لاَصَلّبَنَّكُمْ } في جذوع النخل ، أي أجعلكم عليها مصلوبين زيادة تنكيل بهم ، وإفراطاً في تعذيبهم ، وجملة { قَالُواْ إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ } استئنافية جواب سؤال كما تقدّم ، ومعناه : إنك وإن فعلت بنا هذا الفعل ، فبْعَدْه يومُ الجزاء سيجازيك الله بصنعك ، ويحسن إلينا بما أصابنا في ذاته ، فتوعدوه بعذاب الله في الآخرة ، لما توعدهم بعذاب الدنيا ، ويحتمل أن يكون المعنى : { إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ } بالموت ، أي لا بدّ لنا من الموت ، ولا يضرّنا كونه بسبب منك .
قوله : { وَمَا تَنقِمُ مِنَّا } قرأ الحسن بفتح القاف . قال الأخفش : هي لغة ، وقرأ الباقون بكسرها . يقال نقمت الأمر أنكرته ، أي لست تعيب علينا وتنكر منا { إِلا أَنْ ءامَنَّا بئايات رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا } مع أن هذا هو الشرف العظيم والخير الكامل ، ومثله لا يكون موضعاً للعيب ومكاناً للإنكار ، بل هو حقيق بالثناء الحسن والاستحسان البالغ ، ثم تركوا خطابه وقطعوا الكلام معه والتفتوا إلى خطاب الجناب العليّ ، مفوّضين الأمر إليه ، طالبين منه عزّ وجلّ أن يثبتهم على هذه المحنة بالصبر قائلين : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } الإفراغ : الصبّ ، أي اصببه علينا حتى يفيض ويغمرنا . طلبوا أبلغ أنواع الصبر ، استعداداً منهم لما سينزل بهم من العذاب من عدوّ الله ، وتوطيناً لأنفسهم على التصلب في الحق ، وثبوت القدم على الإيمان ، ثم قالوا : { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أي توفنا إليك حال ثبوتنا على الإسلام ، غير محرّفين ، ولا مبدّلين ، ولا مفتونين . ولقد كان ما هم عليه من السحر ، والمهارة في علمه ، مع كونه شرّاً محضاً ، سبباً للفوز بالسعادة ، لأنهم علموا أن هذا الذي جاء به موسى خارج عن طوق البشر ، وأنه من فعل الله سبحانه ، فوصلوا بالشرّ إلى الخير ، ولم يحصل من غيرهم ممن لا يعرف هذا العلم من أتباع فرعون ، ما حصل منهم من الإذعان والاعتراف والإيمان ، وإذا كانت المهارة في علم الشرّ قد تأتي بمثل هذه الفائدة ، فما بالك بالمهارة في علم الخير ، اللهم انفعنا بما علمتنا ، وثبت أقدامنا على الحق ، وأفرغ علينا سجال الصبر ، وتوفنا مسلمين .
قوله : { وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الأرض } ؟ هذا الاستفهام منهم للإنكار عليه ، أي أتتركه وقومه ليفسدوا في الأرض بإيقاع الفرقة وتشتيت الشمل؟ والمراد بالأرض هنا : أرض مصر . قوله : { وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ } قرأ نعيم بن ميسرة «ويذرك» بالرفع على تقدير مبتدأ ، أي وهو يذرك ، أو على العطف على { أَتَذَرُ موسى } أي أتذره ويذرك . وقرأ الأشهب العقيلي " وَيَذَرَك " بالجزم ، إما على التخفيف بالسكون لثقل الضمة ، أو على ما قيل في { وَأَكُن مّنَ الصالحين } [ المنافقون : 10 ] في توجيه الجزم . وقرأ أنس بن مالك «ونذرك» بالنون والرفع ، ومعناه : أنهم أخبروا عن أنفسهم بأنهم سيذرونه وآلهته . وقرأ الباقون { ويذرك } بالنصب بأن مقدّرة على أنه جواب الاستفهام ، والواو نائبة عن الفاء ، أو عطفاً على { يفسدوا } أي ليفسدوا ، وليذرك ، لأنهم على الفساد في زعمهم ، وهو يؤدّي إلى ترك فرعون وآلهته .
واختلف المفسرون في معنى : { وَءالِهَتَكَ } لكون فرعون كان يدّعي الربوبية كما في قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى } [ القصص : 38 ] . وقوله : { أَنَاْ رَبُّكُمُ } [ النازعات : 24 ] فقيل معنى و { آلهتك } وطاعتك . وقيل معناه : وعبادتك . ويؤيده قراءة علي ، وابن عباس ، والضحاك «وإلهتك» ، وفي حرف أبي «أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وقد تركوك أن يعبدوك» وقيل : إنه كان يعبد بقرة ، وقيل : كان يعبد النجوم . وقيل : كان له أصنام يعبدها قومه تقرّباً إليه ، فنسبت إليه ، ولهذا قال { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] قاله الزجاج . وقيل : كان يعبد الشمس . فقال فرعون مجيباً لهم ، ومثبتاً لقلوبهم على الكفر { سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ } . قرأ نافع وابن كثير «سنقتل» بالتخفيف ، وقرأ الباقون بالتشديد ، أي سنقتل الأبناء ، ونستحيي النساء ، أي نتركهنّ في الحياة . ولم يقل سنقتل موسى ، لأنه يعلم . أنه لا يقدر عليه { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون } أي مستعلون عليهم بالقهر والغلبة ، أو هم تحت قهرنا وبين أيدينا . ما شئنا أن نفعله بهم فعلناه .
وجملة { قَالَ موسى لِقَوْمِهِ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، لما بلغ موسى ما قاله فرعون أمر قومه بالاستعانة بالله والصبر على المحنة ، ثم أخبرهم { أَنَّ الارض } يعني : أرض مصر { للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } أو جنس الأرض ، وهو وعد من موسى لقومه بالنصر على فرعون وقومه ، وأن الله سيورثهم أرضهم وديارهم . ثم بشّرهم بأن العاقبة للمتقين ، أي العاقبة المحمودة في الدنيا والآخرة للمتقين من عباده ، وهم موسى ومن معه . وعاقبة كل شيء آخره . وقرىء «والعاقبة» بالنصب عطفاً على الأرض .
وجملة { قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } مستأنفة جواب سؤال مقدّر كالتي قبلها ، أي أوذينا من قبل أن تأتينا رسولاً ، وذلك بقتل فرعون أبناءنا عند مولدك لما أخبر بأنه سيولد مولود يكون زوال ملكه على يده { وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } رسولاً بقتل أبنائنا الآن . وقيل : المعنى أوذينا من قبل أن تأتينا باستعمالنا في الأعمال الشاقة بغير جعل { ومن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } بما صرنا فيه الآن من الخوف على أنفسنا وأولادنا وأهلنا . وقيل : إن الأذى من قبل ومن بعد واحد ، وهو قبض الجزية منهم . وجملة { قَالَ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } مستأنفة كالتي قبلها ، وعدهم بإهلاك الله لعدوّهم ، وهو فرعون وقومه .
قوله : { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأرض } هو تصريح بما رمز إليه سابقاً من أن الأرض لله . وقد حقّق الله رجاءه ، وملكوا مصر في زمان داود وسليمان ، وفتحوا بيت المقدس مع يوشع ابن نون ، وأهلك فرعون وقومه بالغرق وأنجاهم { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } من الأعمال بعد أن يمنّ عليكم بإهلاك عدوّكم { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأرض } فيجازيكم بما عملتم فيه من خير وشرّ .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السدي في قوله : { إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى المدينة } إذا التقيتما لتظاهرا فتخرجا منها أهلها { لأقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ } الآية ، قال : فقتلهم وقطعهم كما قال . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : كان أوّل من صلب فرعون ، وهو أوّل من قطع الأيدي والأرجل من خلاف . وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة ، في قوله : { مّنْ خلاف } قال : يداً من ها هنا ، ورجلاً من ها هنا .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، في قوله : { أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } قال : من قبل إرسال الله إياك ومن بعده . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن وهب بن منبه ، في الآية قال : قالت بنو إسرائيل لموسى كان فرعون يكلفنا اللبن قبل أن تأتينا . فلما جئت كلفنا اللبن مع التبن أيضاً ، فقال موسى : أي ربّ أهلك فرعون ، حتى متى تبقيه؟ فأوحى الله إليهم إنهم لم يعملوا الذنب الذي أهلكهم به . وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة في الآية قال : حزا لعدوّ الله حاز أنه يولد في العام غلام يسلب ملكك ، قال : فتتبع أولادهم في ذلك العام بذبح الذكر منهم ، ثم ذبحهم أيضاً بعد ما جاءهم موسى .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، قال : إن بنا أهل البيت يفتح ويختم ، ولا بدّ أن تقع دولة لبني هاشم فانظروا فيمن تكون من بني هاشم؟ وفيهم نزلت : { عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } وينبغي أن ينظر في صحة هذا عن ابن عباس ، فالآية نازلة في بني إسرائيل ، لا في بني هاشم ، واقعة في هذه القصة الحاكية لما جرى بين موسى وفرعون .
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
المراد بآل فرعون هنا قومه ، والمراد بالسنين الجدب . وهذا معروف عند أهل اللغة . يقولون أصابتهم سنة : أي جدب سنة ، وفي الحديث : " اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف " ، وأكثر العرب يعربون السنين إعراب جمع المذكر السالم . ومن العرب من يعربه إعراب المفرد ، ويجري الحركات على النون ، وأنشد الفراء :
أرى مرّ السنين أخذن مني ... كما أخذ السرار من الهلال
بكسر النون من السنين . قال النحاس : وأنشد سيبويه هذا البيت بفتح النون .
أقول : قد ورد ما لا احتمال فيه وهو قول الشاعر :
وماذا تزدري الأقوام مني ... وقد جاوزت حدّ الأربعين
وبعده :
أخو الخمسين مجتمع أشدي ... وتجدبني مداورة السنين
فإن الأبيات قبله وبعده مكسورة . وأوّل هذه الأبيات :
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
وحكى الفراء عن بني عامر أنهم يقولون : أقمت عنده سنيناً مصروفاً . قال : وبنو تميم لا يصرفونه . ويقال أسنت القوم ، أي أجدبوا ، ومنه قول ابن الزبعري :
ورجال مكة مسنتون عجاف ... { وَنَقْصٍ مّن الثمرات } بسبب عدم نزول المطر ، وكثرة العاهات { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } فيتعظون ويرجعون عن غوايتهم .
قوله : { فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه } أي الخصلة الحسنة من الخصب بكثرة المطر ، وصلاح الثمرات ، ورخاء الأسعار { قَالُواْ لَنَا هذه } أي أعطيناها باستحقاق ، وهي مختصة بنا { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ } أي خصلة سيئة من الجدب والقحط ، وكثرة الأمراض ونحوها من البلاء { يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } أي يتشاءموا بموسى ومن معه من المؤمنين به ، والأصل يتطيروا أدغمت التاء في الطاء ، وقرأ طلحة " تطيروا " على أنه فعل ماض . وقد كانت العرب تتطير بأشياء من الطيور والحيوانات ، ثم استعمل بعد ذلك في كل من تشاءم بشيء . ومثل هذا قوله تعالى : { اوإن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ } [ النساء : 78 ] قيل : ووجه تعريف الحسنة أنها كثيرة الوقوع ، ووجه تنكير السيئة ندرة وقوعها .
قوله : { أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله } أي سبب خيرهم وشرهم بجميع ما ينالهم من خصب وقحط ، هو من عند الله ، ليس بسبب موسى ومن معه . وكان هذا الجواب على نمط ما يعتقدونه وبما يفهمونه . ولهذا عبر بالطائر عن الخير والشر الذي يجري بقدر الله وحكمته ومشيئته { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } بهذا ، بل ينسبون الخير والشر إلى غير الله جهلاً منهم . وقرأ الحسن «طيرهم» .
قوله : { وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } قال الخليل : أصل { مهما } : «ما» الشرطية زيدت عليه «ما» التي للتوكيد ، كما تزاد في سائر الحروف مثل : حيثما وأينما وكيفما ومتى ما . ولكنهم كرهوا اجتماع المثلين فأبدلوا ألف الأولى هاء .
وقال الكسائي : أصله : مه ، أي اكفف ما تأتينا به من آية ، وزيدت عليها «ما» الشرطية . وقيل : وهي كلمة مفردة يجازى بها . ومحل { مهما } الرفع على الابتداء ، أو النصب بفعل يفسره ما بعدها . و { من آية } لبيان { مهما } ، وسموها آية استهزاء بموسى كما يفيده ما بعده . وهو { لّتَسْحَرَنَا بِهَا } أي لتصرفنا عما نحن عليه كما يفعله السحرة بسحرهم . والضمير في " به " عائد إلى { مهما } ، والضمير في { بها } عائد إلى { آية } ؛ وقيل : إنهما جميعاً عائدان إلى { مهما } ، وتذكير الأوّل باعتبار اللفظ ، وتأنيث الثاني باعتبار المعنى { فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } جواب الشرط ، أي فما نحن لك بمصدّقين . أخبروا عن أنفسهم أنهم لا يؤمنون بشيء مما يجيء به من الآيات التي هي في زعمهم من السحر ، فعند ذلك نزلت بهم العقوبة من الله عزّ وجلّ المبينة بقوله : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان } وهو المطر الشديد . قال الأخفش : واحده طوفانة ، وقيل : هو مصدر كالرجحان والنقصان فلا واحد له . وقيل الطوفان : الموت . وقال النحاس : الطوفان في اللغة ما كان مهلكاً من موت أو سيل ، أي ما يطيف بهم فيهلكهم . والجراد هو الحيوان المعروف . أرسله الله لأكل زروعهم فأكلها . والقمل قيل : هي الدباء . والدباء : الجراد قبل أن تطير ، وقيل : هي السوس ، وقيل : البراغيث ، وقيل : دواب سود صغار ، وقيل : ضرب من القردان ، وقيل : الجعلان . قال النحاس : يجوز أن تكون هذه الأشياء كلها أرسلت عليهم . وقرأ الحسن «القمل» بفتح القاف وإسكان الميم . وقرأ الباقون بضم القاف وفتح الميم مشددة . وقد فسّر عطاء الخراساني «القمل» بالقمل { والضفادع } جمع ضفدع ، وهو الحيوان المعروف الذي يكون في الماء . { والدم } روي أنه سال النيل عليهم دماً . وقيل : هو الرعاف .
قوله : { آيَاتٍ مّفَصَّلاَت } أي مبينات . قال الزجاج : هو منصوب على الحال . والمعنى : أرسلنا عليهم هذه الأشياء حال كونها آيات بينات ظاهرات { فاستكبروا } أي ترفعوا عن الإيمان بالله { وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } لا يهتدون إلى حق ، ولا ينزعون عن باطل .
قوله : { وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز } أي العذاب بهذه الأمور التي أرسلها الله عليهم . وقرىء بضم الراء وهما لغتان . وقيل : كان هذا الرجز طاعوناً مات به من القبط في يوم واحد سبعون ألفاً . { قَالُواْ يا موسى ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } أي بما استودعك من العلم ، أو بما اختصك به من النبوّة ، أو بما عهد إليك أن تدعو به فيجيبك . والباء متعلقة ب { ادع } على معنى : أسعفنا إلى ما نطلب من الدعاء بحق ما عندك من عهد الله ، أو ادع لنا متوسلاً إليه بعهده عندك . وقيل : إن الباء للقسم ، وجوابه لنؤمنن ، أي أقسمنا بعهد الله عندك { لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ } على أن جواب الشرط سدّ مسدّ جواب القسم ، وعلى أن الباء ليست للقسم ، تكون اللام في { لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز } جواب قسم محذوف .
و { لَنُؤْمِنَنَّ } جواب الشرط سادّ مسدّ جواب القسم { وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إسراءيل } معطوف على لنؤمننّ . وقد كانوا حابسين لبني إسرائيل عندهم ، يمتهنونهم في الأعمال ، فوعدوه بإرسالهم معه .
{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز إلى أَجَلٍ هُم بالغوه } أي رفعنا عنهم العذاب عند أن رجعوا إلى موسى وسألوه بما سألوه ، لكن لا رفعاً مطلقاً ، بل رفعاً مقيداً بغاية هي الأجل المضروب لإهلاكهم بالغرق . وجواب « لما » { إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } أي ينقضون ما عقدوه على أنفسهم ، و « إذا » هي الفجائية ، أي فاجؤوا النكث وبادروه .
{ فانتقمنا مِنْهُمْ } أي أردنا الانتقام منهم لما نكثوا بسبب ما تقدّم لهم من الذنوب المتعددة { فأغرقناهم فِي اليم } أي في البحر . قيل : هو الذي لا يدرك قعره . وقيل هو لجته وأوسطه . وجملة { بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } تعليل للإغراق { وَكَانُواْ عَنْهَا غافلين } معطوف على كذبوا ، أي كانوا غافلين عن النقمة المدلول عليها بانتقمنا ، أو عن الآيات التي لم يؤمنوا بها ، بل كذبوا بها ، وكانوا في تكذيبهم بمنزلة الغافلين عنها . والثاني أولى لأن الجملتين تعليل للإغراق .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن مسعود { وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بالسنين } قال : السنين الجوع . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد قال : السنين الجوائح { وَنَقْصٍ مّن الثمرات } دون ذلك . وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، قال : لما أخذ الله آل فرعون بالسنين يبس كل شيء لهم ، وذهبت مواشيهم حتى يبس نيل مصر ، واجتمعوا إلى فرعون ، فقالوا : إن كنت كما تزعم فائتنا في نيل مصر بماء ، قال : غدوة يصبحكم الماء ، فلما خرجوا من عنده قال : أي شيء صنعت إن لم أقدر على أن أجري في نيل مصر ماء غدوة كذبوني . فلما كان جوف الليل قام فاغتسل ، ولبس مدرعة صوف ، ثم خرج حافياً حتى أتى نيل مصر فقال : اللهم إنك تعلم ، أني أعلم أنك تقدر على أن تملأ نيل مصر ماء فاملأه ماء . فما علم إلا بجزر الماء يقبل ، فخرج وأقبل النيل يزخ بالماء لما أراد الله بهم من الهلكة .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة } قال : العافية والرخاء { قَالُواْ لَنَا هذه } نحن أحق بها { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ } قال : بلاء وعقوبة { يَطَّيَّرُواْ بموسى } قال : يتشاءموا به . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس ، في قوله : { أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله } قال : الأمر من قبل الله .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الطوفان الموت » قال ابن كثير : هو حديث غريب . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، قال : الطوفان الغرق . وأخرج هؤلاء عن مجاهد قال : الطوفان الموت على كل حال . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، قال : الطوفان : مطروا دائماً بالليل والنهار ثمانية أيام . والقمل : الجراد الذي له أجنحة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه ، قال : الطوفان أمر من أمر ربك ، ثم قرأ : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبّكَ } [ القلم : 19 ] . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد قال : الطوفان الماء ، والطاعون والجراد . قال يأكل مسامير رُتُجهم : يعني أبوابهم وثيابهم ، والقمل : الدباء . والضفادع ، تسقط على فرشهم وفي أطعمتهم ، والدم : يكون في ثيابهم ومائهم وطعامهم .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس قال : القمل الدباء . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، قال : كانت الضفادع بريّة ، فلما أرسلها الله على آل فرعون سمعت وأطاعت ، فجعلت تقذف نفسها في القدر وهي تغلي ، وفي التنانير وهي تفور .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، قال : سال النيل دماً ، فكان الإسرائيلي يستقي ماء طيباً ، ويستقي الفرعوني دماً ، ويشتركان في إناء واحد ، فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء طيباً وما يلي الفرعوني دماً . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن زيد بن أسلم ، في قوله : { والدم } قال : سلط الله عليهم الرعاف . وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : مكث موسى في آل فرعون بعدما غلب السحرة أربعين سنة ، يريهم الآيات ، والجراد ، والقمل والضفادع . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه في قوله : { آيَاتٍ مّفَصَّلاَت } قال : كانت آيات مفصلات يتبع بعضها بعضاً ليكون لله الحجة عليهم . وأخرج ابن المنذر ، عنه ، قال : يتبع بعضها بعضاً تمكث فيهم سبتاً إلى سبت ، ثم ترفع عنهم شهراً .
وأخرج ابن مردويه ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الرجز : العذاب » وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال : الرجز الطاعون . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس في قوله : { إلى أَجَلٍ هُم بالغوه } قال : الغرق . وأخرج ابن أبي حاتم ، من طرق ، عن ابن عباس قال : اليم البحر . وأخرج أيضاً عن السديّ مثله .
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
قوله : { وَأَوْرَثْنَا القوم } يعني : بني إسرائيل { الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ } أي يذلون ويمتهون بالخدمة لفرعون وقومه { مشارق الأرض ومغاربها } منصوبان بأورثنا . وقال الكسائي والفراء : إن الأصل في مشارق الأرض ومغاربها ، جهات مغربها ، ثم حذفت في فنصبا . والأوّل أظهر ، لأنه يقال أورثته المال . والأرض هي مصر والشام ، ومشارقها جهات مشرقها . ومغاربها ، وهي التي كانت لفرعون وقومه من القبط . وقيل : المراد جميع الأرض؛ لأن داود وسليمان من بني إسرائيل ، وقد ملكا الأرض . قوله : { التى بَارَكْنَا فِيهَا } صفة للمشارق والمغارب . وقيل : صفة الأرض . والمباركة فيها إخراج الزرع والثمار منها على أتمّ ما يكون ، وأنفع ما يتفق .
قوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الحسنى } أي مضت واستمرت على التمام ، والكلمة هي : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِى الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين } [ القصص : 5 ] ، وهذا وعد من الله سبحانه بالنصر والظفر بالأعداء والاستيلاء على أملاكهم . و { الحسنى } صفة للكلمة . وهي تأنيث الأحسن . وتمام هذه الكلمة { على بَنِى إسراءيل } بسبب صبرهم على ما أصيبوا به من فرعون وقومه .
قوله : { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } التدمير الإهلاك ، أي أهلكنا بالخراب ما كانوا يصنعونه من العمارات { وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } قرأ ابن عامر ، وأبو بكر ، عن عاصم «يعرشُون» بضم الراء . قال الكسائي : هي لغة تميم . وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة «يُعَرّشون» بتشديد الراء وضم حرف المضارعة . وقرأ الباقون بكسر الراء مخففة ، أي ما كانوا يعرشونه من الجنات ، ومنه قوله تعالى : { وَهُوَ الذى أَنشَأَ جنات معروشات وَغَيْرَ معروشات } [ الأنعام : 141 ] وقيل : معنى يعرشون يبنون ، يقال عرش يعرش أي بنى يبني .
قوله : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسراءيل البحر } هذا شروع في بيان ما فعله بنو إسرائيل بعد الفراغ مما فعله فرعون وقومه . ومعنى جاوزنا ببني إسرائيل البحر : جزناه بهم وقطعناه . وقرىء «جوزنا» بالتشديد ، وهو بمعنى قراءة الجمهور { فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ } قرأ حمزة والكسائي «يعكفون» بكسر الكاف ، وقرأ الباقون بضمها . يقال عكف يعكف ، ويعكف بمعنى أقام على الشيء ولزمه ، والمصدر منها عكوف . قيل : هؤلاء القوم الذين آتاهم بنو إسرائيل هم من لخم كانوا نازلين بالرقة ، كانت أصنامهم تماثيل بقر . وقيل : كانوا من الكنعانيين { قَالُواْ } أي بنو إسرائيل عند مشاهدتهم لتلك التماثيل { ياموسى اجعل لَّنَا إلها } أي صنماً نعبده كائناً كالذي لهؤلاء القوم ، فالكاف متعلق بمحذوف وقع صفة ل { إلهاً } ، فأجاب عليهم موسى ، و { قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } وصفهم بالجهل ، لأنهم قد شاهدوا من آيات الله ما يزجر من له أدنى علم عن طلب عبادة غير الله . ولكن هؤلاء القوم ، أعني بني إسرائيل ، أشد خلق الله عناداً وجهلاً وتلوّناً .
وقد سلف في سورة البقرة بيان ما جرى منهم من ذلك . ثم قال لهم موسى { إِنَّ هَؤُلآء } يعني القوم العاكفين على الأصنام { مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ } التبار : الهلاك . وكل إناء منكسر فهو متبر ، أي أن هؤلاء هالك ما هم فيه مدمّر مكسر . والذي هم فيه هو : عبادة الأصنام . أخبرهم بأن هذا الدين الذي هؤلاء القوم عليه هالك مدمّر لا يتمّ منه شيء .
قوله : { وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ذاهب مضمحل جميع ما كانوا يعملونه من الأعمال مع عبادتهم للأصنام . قال في الكشاف : وفي إيقاع { هؤلاء } اسماً لإن ، وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لها ، وسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرّضون للتبار ، وأنه لا يعدوهم ألبتة ، وأنه لهم ضربة لازب ، ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ، ويبغض إليهم ما أحبوا . قوله : { أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها } الاستفهام للإنكار والتوبيخ ، أي كيف أطلب لكم غير الله إلها تعبدونه ، وقد شاهدتم من آياته العظام ما يكفي البعض منه؟ والمعنى : أن هذا الذي طلبتم لا يكون أبداً . وإدخال الهمزة على { غير } للإشعار بأن المنكر هو كون المبتغى غيره سبحانه إلها ، و { غير } مفعول للفعل الذي بعده . و { إلها } تمييز أو حال . وجملة : { وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين } في محل نصب على الحال ، أي : والحال أنه فضلكم على العالمين من أهل عصركم بما أنعم به عليكم من إهلاك عدوكم ، واستخلافكم في الأرض ، وإخراجكم من الذلّ والهوان إلى العزّ والرفعة ، فكيف تقابلون هذه النعم بطلب عبادة غيره؟
قوله : { وَإِذْ أنجيناكم مّنْ ءالِ فِرْعَونَ } أي : واذكروا وقت إنجائنا لكم من آل فرعون ، بعد أن كانوا مالكين لكم ، يستعبدونكم فيما يريدونه منكم ، ويمتهنونكم بأنواع الامتهانات . هذا على أن هذا الكلام محكيّ عن موسى . وأما إذا كان في حكم الخطاب لليهود الموجودين في عصر محمد ، فهو بمعنى : اذكروا إذ أنجينا أسلافكم من آل فرعون . وجملة : { يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب } في محل نصب على الحال ، أي أنجيناكم من آل فرعون حال كونهم { يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب } . ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان ما كانوا فيه مما أنجاهم منه . وجملة : { يُقَتّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ } مفسرة للجملة التي قبلها ، أو بدل منها ، وقد سبق بيان ذلك . والإشارة بقوله : { وَفِى ذلكم } إلى العذاب : أي في هذا العذاب ، الذي كنتم فيه { بَلاء } عليكم { مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ } وقيل : الإشارة إلى الإنجاء ، والبلاء النعمة ، والأوّل أولى .
وقد أخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الحسن في قوله : { مشارق الأرض ومغاربها التى بَارَكْنَا فِيهَا } قال : الشام . وأخرج هؤلاء عن قتادة مثله . وأخرج ابن عساكر عن زيد بن أسلم نحوه .
وأخرج أبو الشيخ ، عن عبد الله بن شوذب ، قال : هي فلسطين . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الشام أحاديث ليس هذا موضع ذكرها . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الحسنى } قال : ظهور قوم موسى على فرعون وتمكين الله لهم في الأرض وما ورثهم منها . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } قال : يبنون .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : { فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ } قال : لخم وجذام . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن أبي عمران الجوني مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن جريج ، في الآية قال : تماثيل بقر من نحاس ، فلما كان عجل السامري شبه لهم أنه من تلك البقر . فذلك كان أوّل شأن العجل ليكون لله عليهم الحجة ، فينتقم منهم بعد ذلك . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي وصححه ، والنسائي وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين فمررنا بسدرة ، فقلت : يا رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط ، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ، ويعكفون حولها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم » وأخرج نحوه ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، من طريق كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جدّه مرفوعاً ، وكثير ضعيف جدّاً .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { مُتَبَّرٌ } قال : خسران . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عنه ، قال : هلاك .
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
هذا من جملة ما كرّم الله به موسى عليه السلام وشرفه . والثلاثين هي ذو القعدة ، والعشر هي عشر ذي الحجة ضرب الله هذه المدّة موعداً لمناجاة موسى ومكالمته . قيل : وكان التكليم في يوم النحر . والفائدة في { فَتَمَّ ميقات رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } مع العلم بأن الثلاثين والعشر أربعون ليلاً يتوهم وأن المراد أتممنا الثلاثين بعشر منها ، فبين أن العشر غير الثلاثين ، و { أربعين ليلة } منصوب على الحال ، أي فتمّ حال كونه بالغاً أربعين ليلة .
قوله : { وَقَالَ موسى لأخِيهِ هارون اخلفنى فِى قومي } أي : كن خليفتي فيهم . قال موسى هذا لما أراد المضيّ إلى المناجاة { وَأَصْلِح } أمر بني إسرائيل بحسن سياستهم ، والرفق بهم ، وتفقد أحوالهم { وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين } أي : لا تسلك سبيل العاصين ، ولا تكن عوناً للظالمين .
وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، من طرق ، عن ابن عباس ، في قوله : { وواعدنا موسى } الآية ، قال : ذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن مجاهد مثله . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في الآية ، قال : إن موسى قال لقومه : إن ربي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه ، وأخلف هارون فيكم ، فلما فصل موسى إلى ربه ، زاده الله عشراً ، فكانت فتنتهم في العشر التي زاده الله ، فلما مضى ثلاثون ليلة كان السامري قد أبصر جبريل ، فأخذ من أثر الفرس قبضة من تراب ، ثم ذكر قصة السامريّ .
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
اللام في { لميقاتنا } للاختصاص ، أي كان مجيئه مختصاً بالميقات المذكور ، بمعنى أنه جاء في الوقت الموعود { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } أي أسمعه كلامه من غير واسطة . قوله : { أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } أي ، أرني نفسك أنظر إليك : أي سأله النظر إليه اشتياقاً إلى رؤيته لما أسمعه كلامه . وسؤال موسى للرؤية يدلّ على أنها جائزة عنده في الجملة . ولو كانت مستحيلة عنده لما سألها . والجواب بقوله : { لَن تَرَانِى } يفيد أنه لا يراه هذا الوقت الذي طلب رؤيته فيه ، أو أنه لا يرى ما دام الرائي حياً في دار الدنيا . وأما رؤيته في الآخرة فقد ثبتت بالأحاديث المتواترة تواتراً لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة ، والجدال في مثل هذا والمراوغة لا تأتي بفائدة ، ومنهج الحق واضح . ولكن الاعتقاد لمذهب نشأ الإنسان عليه وأدرك عليه آباءه وأهل بلده ، مع عدم التنبه لما هو المطلوب من العباد من هذه الشريعة المطهرة يوقع في التعصب ، والمتعصب وإن كان بصره صحيحاً فبصيرته عمياء ، وأذنه عن سماع الحق صماء ، يدفع الحق ، وهو يظنّ أنه ما دفع غير الباطل ، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق ، غفلة منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح ، وتلقى ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم . وما أقلّ المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع فإنه صار بها باب الحقّ مرتجاً ، وطريق الإنصاف مستوعرة ، والأمر لله سبحانه ، والهداية منه :
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح
وجملة : { قَالَ لَن تَرَانِى } مستأنفة ، لكونها جواباً لسؤال مقدّر ، كأنه قيل : فما قال الله له؟ والاستدراك بقوله : { ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى } معناه أنك لا تثبت لرؤيتي ، ولا يثبت لها ما هو أعظم منك جرماً وصلابة وقوّة ، وهو الجبل ، فانظر إليه { فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ } ولم يتزلزل عند رؤيتي له { فَسَوْفَ تَرَانِى } وإن ضعف عن ذلك ، فأنت منه أضعف . فهذا الكلام بمنزلة ضرب المثل لموسى عليه السلام بالجبل . وقيل : هو من باب التعليق بالمحال . وعلى تسليم هذا فهو في الرؤية في الدنيا لما قدّمنا .
وقد تمسك بهذه الآية كلا طائفتين المعتزلة والأشعرية . فالمعتزلة استدلوا بقوله : { لَن تَرَانِى } ، وبأمره بأن ينظر إلى الجبل . والأشعرية قالوا : إن تعليق الرؤية باستقرار الجبل يدلّ على أنها جائزة غير ممتنعة . ولا يخفاك أن الرؤية الأخروية هي بمعزل عن هذا كله . والخلاف بينهم هو فيها لا في الرؤية في الدنيا ، فقد كان الخلاف فيها في زمن الصحابة ، وكلامهم فيها معروف .
قوله : { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا } تجلى معناه : ظهر ، من قولك جلوت العروس ، أي أيرزتها .
وجلوت السيف : أخلصته من الصدأ ، وتجلى الشيء : انكشف . والمعنى : فلما ظهر ربه للجبل جعله دكاً . وقيل المتجلي : هو أمره وقدرته ، قاله قطرب وغيره . والدك مصدر بمعنى المفعول ، أي جعله مدكوكاً مدقوقاً فصار تراباً ، هذا على قراءة من قرأ { دكاً } بالمصدر . وهم أهل المدينة وأهل البصرة . وأما على قراءة أهل الكوفة « جَعَلَهُ دَكَّاء » على التأنيث ، والجمع دكاوات ، كحمراء وحمراوات ، وهي اسم للرابية الناشزة من الأرض ، أو للأرض المستوية . فالمعنى : أن الجبل صار صغيراً كالرابية ، أو أرضاً مستوية . قال الكسائي الدك : الجبال العراض واحدها أدك . والدكاوات جمع دكاء ، وهي رواب من طين ليست بالغلاظ ، والدكادك : ما التبد من الأرض فلم يرتفع ، وناقة دكاء : لا سنام لها .
{ وَخَرَّ موسى صَعِقًا } أي مغشياً عليه مأخوذاً من الصاعقة . والمعنى : أنه صار حاله لما غشي عليه كحال من يغشى عليه عند إصابة الصاعقة له . يقال صعق الرجل ، فهو صعق ومصعوق ، إذا أصابته الصاعقة { فَلَمَّا أَفَاقَ } من غشيته { قَالَ سبحانك } أي أنزهك تنزيهاً من أن أسأل شيئاً لم تأذن لي به { تُبْتُ إِلَيْكَ } عن العود إلى مثل هذا السؤال . قال القرطبي : وأجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية ، فإن الأنبياء معصومون . وقيل : هي توبة من قتله للقبطي ، ذكره القشيري . ولا وجه له في مثل هذا المقام { وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } بك قبل قومي الموجودين في هذا العصر المعترفين بعظمتك وجلالك .
وجملة { قَالَ يَا موسى } مستأنفة كالتي قبلها ، متضمنة لإكرام موسى واختصاصه بما اختصه الله به . والاصطفاء : الاجتباء والاختيار ، أي اخترتك على الناس المعاصرين لك برسالتي ، كذا قرأ نافع ، وابن كثير ، بالافراد ، وقرأ الباقون بالجمع . والرسالة مصدر ، والأصل فيه الإفراد . ومن جمع فكأنه نظر إلى أن الرسالة هي على ضروب ، فجمع لاختلاف الأنواع . والمراد بالكلام هنا : التكليم . امتنّ الله سبحانه عليه بهذين النوعين العظيمين من أنواع الإكرام ، وهما الرسالة والتكليم من غير واسطة ، ثم أمره بأن يأخذ ما آتاه ، أي أعطاه من هذا الشرف الكريم ، وأمره بأن يكون من الشاكرين على هذا العطاء العظيم ، والإكرام الجليل .
قوله : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الألواح مِن كُلّ شَىْء مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء } من كل شيء أي من كل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل في دينهم ودنياهم . وهذه الألواح : هي التوراة . قيل : كانت من زمردة خضراء . وقيل : من ياقوتة حمراء ، وقيل : من زبرجد ، وقيل : من صخرة صماء . وقد اختلف في عدد الألواح ، وفي مقدار طولها وعرضها . والألواح : جمع لوح ، وسمي لوحاً لكونه تلوح فيه المعاني . وأسند الله سبحانه الكتابة إلى نفسه تشريفاً للمكتوب في الألواح ، وهي مكتوبة بأمره سبحانه . وقيل : هي كتابة خلقها الله في الألواح .
و { مِن كُلّ شَىْء } في محل نصب على أنه مفعول { كَتَبْنَا } و { مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً } بدل من محل كل شيء ، أي موعظة لمن يتعظ بها من بني إسرائيل وغيرهم ، وتفصيلاً للأحكام المحتاجة إلى التفصيل { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } أي : خذ الألواح بقوّة ، أي بجدّ ونشاط . وقيل الضمير عائد إلى الرسالات ، أو إلى كل شيء ، أو إلى التوراة . قيل : وهذا الأمر على إضمار القول ، أي فقلنا له خذها . وقيل : إن { فَخُذْهَا } بدل من قوله : { فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ } { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } أي بأحسن ما فيها بما أجره أكثر من غيره ، وهو مثل قوله تعالى : { اتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ } [ الزمر : 55 ] ، وقوله : { فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [ الزمر : 18 ] ، ومن الأحسن الصبر على الغير والعفو عنه ، والعمل بالعزيمة دون الرخصة ، وبالفريضة دون النافلة ، وفعل المأمور به ، وترك المنهيّ عنه .
قوله : { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } قيل : هي أرض مصر التي كانت لفرعون وقومه . وقيل منازل عاد وثمود . وقيل هي جهنم . وقيل منازل الكفار من الجبابرة والعمالقة ليعتبروا بها . وقيل الدار : الهلاك . والمعنى : سأريكم هلاك الفاسقين . وقد تقدّم تحقيق معنى الفسق .
قوله : { سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق } قيل : معنى { سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي الذين يَتَكَبَّرُونَ } سأمنعهم فهم كتابي . وقيل : سأصرفهم عن الإيمان بها . وقيل : سأصرفهم عن نفعها مجازاة على تكبرهم كما في قوله : { فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] . وقيل : سأطبع على قلوبهم حتى لا يتفكروا فيها ولا يعتبروا بها . واختلف في تفسير الآيات ، فقيل هي المعجزات . وقيل : الكتب المنزلة . وقيل : هي خلق السموات والأرض ، وصرفهم عنها أن لا يعتبروا بها . ولا مانع من حمل الآيات على جميع ذلك حمل الصرف على جميع المعاني المذكورة . و { بِغَيْرِ الحق } إما متعلق بقوله : { يَتَكَبَّرُونَ } أي يتكبرون بما ليس بحق ، أو بمحذوف وقع حالاً ، أي يتكبرون متلبسين بغير الحق .
قوله : { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } معطوف على { يتكبرون } منتظم معه في حكم الصفة . والمعنى : سأصرف عن آياتي المتكبرين التاركين للإيمان بما يرونه من الآيات . ويدخل تحت كل آية الآيات المنزلة ، والآيات التكوينية ، والمعجزات ، أي لا يؤمنون بآية من الآيات كائنة ما كانت . وقرأ مالك بن دينار «يروا» بضم الياء في الموضعين . وجملة : { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } معطوفة على ما قبلها داخلة في حكمها . وكذلك جملة : { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغى يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } والمعنى : أنهم إذا وجدوا سبيلاً من سبل الرشد تركوه وتجنبوه ، وإن رأوا سبيلاً من سبل الغيّ سلكوه واختاروه لأنفسهم . قرأ أهل المدينة وأهل البصرة { الرشد } بضم الراء وإسكان الشين . وقرأ أهل الكوفة إلا عاصماً بفتح الراء والشين . قال أبو عبيدة : فرق أبو عمرو بين الرشد والرشد فقال : الرُّشد الصلاح والرُّشد في الدين .
قال النحاس : سيبويه يذهب إلى أن الرشد والرشد ، كالسخط والسخط . قال الكسائي : والصحيح عن أبي عمرو ، وغيره ، ما قال أبو عبيدة . وأصل الرشد في اللغة : أن يظفر الإنسان بما يريد ، وهو ضدّ الخيبة ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى الصرف ، أي ذلك الصرف بسبب تكذيبهم ، أو الإشارة إلى التكبر وعدم الإيمان بالآيات ، وتجنب سبيل الرشد ، وسلوك سبيل الغيّ ، واسم الإشارة مبتدأ ، وخبره جملة : { بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } أي بسبب تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها . والموصول في { والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا وَلِقَاء الآخرة } مبتدأ . وخبره { حَبِطَتْ أعمالهم } ، والمراد بلقاء الآخرة لقاء الدار الآخرة : أي لقائهم لها ، أو لقائهم ما وعدوا به فيها على أن الإضافة إلى الظرف ، وحباط الأعمال بطلانها ، أي بطلان ما عملوه مما صورته صورة الطاعة ، كالصدقة والصلة ، وإن كانوا في حال كفرهم لا طاعات لهم . ويحتمل أن يراد أنها تبطل بعدما كانت مرجوّة النفع على تقدير إسلامهم ، لما في الحديث الصحيح : « أسلمت على ما أسفلت من خير » { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من الكفر بالله ، والتكذيب بآياته ، وتنكب سبيل الحق ، وسلوك سبيل الغيّ .
وقد أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن كعب قال : لما كلم الله موسى قال : يا ربّ أهكذا كلامك؟ قال : يا موسى إنما أكلمك بقوّة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها ، ولو كلمتك بكنه كلامي لم تك شيئاً . وأخرج البزار ، وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، من حديث جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لما كلم الله موسى يوم الطور ، كلمه بغير الكلام الذي كلمه به يوم ناداه ، فقال له موسى : يا ربّ ، أهذا كلامك الذي كلمتني به؟ قال : يا موسى إنما كلمتك بقوّة عشرة آلاف لسان ، ولي قوّة الألسن كلها ، وأقوى من ذلك . فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا : يا موسى صف لنا كلام الرحمن ، فقال : لا تستطيعونه ، ألم تروا إلى أصوات الصواعق التي تقتل ، في أحلا حلاوة سمعتموه ، فذاك قريب منه وليس به » وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية ، قال : إنما كلم الله موسى بقدر ما يطيق من كلامه ، ولو تكلم بكلامه كله لم يطقه شيء ، فمكث موسى أربعين ليلة لا يراه أحد ، إلا مات من نور ربّ العالمين .
وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { قَالَ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } يقول : أعطني أنظر إليك . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن قتادة ، في الآية ، قال : لما سمع الكلام طمع في الرؤية .
وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس ، قال : حين قال موسى لربه تبارك وتعالى { رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } قال الله : يا موسى إنك لن تراني ، قال يقول : ليس تراني ولا يكون ذلك أبداً ، يا موسى إنه لن يراني أحد فيحيا ، قال موسى ربّ إني أراك ثم أموت ، أحبّ إليّ من أن لا أراك ثم أحيا ، فقال الله لموسى : يا موسى انظر إلى الجبل العظيم الطويل الشديد { فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ } يقول : فإن ثبت مكانه لم يتضعضع ، ولم ينهد لبعض ما يرى من عظمتي { فَسَوْفَ تَرَانِى } أنت لضعفك وذلتك ، وإن الجبل انهدّ بقوّته وشدته وعظمته ، فأنت أضعف وأذلّ .
وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن عدي في الكامل ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في كتاب الرؤية من طرق ، عن أنس بن مالك : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا } قال هكذا ، وأشار بأصبعيه ووضع إبهامه على أنملة الخنصر . وفي لفظ على المفصل الأعلى من الخنصر . فساخ الجبل { وَخَرَّ موسى صَعِقًا } وفي لفظ ، فساخ الجبل في الأرض ، فهو يهوى فيها إلى يوم القيامة ، وهذا الحديث حديث صحيح على شرط مسلم . وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس ، قال : الجبل الذي أمره الله أن ينظر إليه الطور .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في كتاب الرؤية ، عن ابن عباس { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } قال : ما تجلى منه إلا قدر الخنصر { جَعَلَهُ دَكّا } قال : تراباً { وَخَرَّ موسى صَعِقًا } قال : مغشياً عليه . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، والديلمي ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لما تجلى الله للجبل طارت لعظمته ستة أجبل ، فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة بالمدينة : أحد وورقان ورضوى ، وبمكة : حراء وثبير وثور » وأخرج الطبراني في الأوسط ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : « لما تجلى الله لموسى ، تطايرت سبعة أجبل ، ففي الحجاز خمسة منها ، وفي اليمن اثنان ، في الحجاز : أحد وثبير وحراء وورقان ، وفي اليمن : حضور وصبر » وأخرج ابن جرير ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، أن موسى لما كلمه ربه أحبّ أن ينظر إليه فسأله فقال : { لَن تَرَانِى ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } قال : فحفّ حول الجبل الملائكة ، وحفّ حول الملائكة بنار ، وحف حول النار بملائكة ، وحفّ حولهم بنار ، ثم تجلى ربه للجبل تجلى منه مثل الخنصر ، فجعل الجبل دكاً وخرّ موسى صعقاً ، فلم يزل صعقاً ما شاء الله ، ثم أفاق فقال : سبحانك تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين من بني إسرائيل .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وأبو الشيخ عن عليّ ابن أبي طالب ، قال : كتب الله الألواح لموسى ، وهو يسمع صريف الأقلام في لوح . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الألواح التي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة ، كان طول اللوح اثنى عشر ذراعاً » وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد ابن جبير ، قال كانوا يقولون كانت الألواح من ياقوتة . وأنا أقول : إنما كانت من زمرّد وكتابها الذهب ، كتبها الله بيده ، فسمع أهل السموات صريف الأقلام .
أقول : رحم الله سعيداً ، ما كان أغناه عن هذا الذي قاله من جهة نفسه ، فمثله لا يقال بالرأي ولا بالحدس ، والذي يغلب به الظن أن كثيراً من السلف رحمهم الله كانوا يسألون اليهود عن هذه الأمور . فلهذا اختلفت واضطربت ، فهذا يقول من خشب ، وهذا يقول من ياقوت . وهذا يقول من زمرّد ، وهذا يقول من زبرجد ، وهذا يقول من برد ، وهذا يقول من حجر .
وأخرج أبو الشيخ ، عن السدي { وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الألواح مِن كُلّ شَىْء } كل شيء أمروا به ونهوا عنه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، مثله . وقد اختلف السلف في المكتوب في الألواح اختلافاً كثيراً . ولا مانع من حمل المكتوب على جميع ذلك لعدم التنافي .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } قال بجدّ وحزم { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } قال : دار الكفار . وأخرج ابن جرير عنه { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } قال : أمر موسى أن يأخذها بأشدّ مما أمر به قومه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن الربيع بن أنس { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } قال : بطاعة . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } يعني : بجدّ واجتهاد { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } قال : بأحسن ما يجدون منها .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } قال : مصيرهم في الآخرة . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، قال : منازلهم في الدنيا . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الحسن ، قال : جهنم . وأخرج أبو الشيخ ، عن قتادة ، قال : مصر .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السدي ، في قوله : { سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي } قال : عن أن يتفكروا في آياتي . وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن ابن جريج { عَنْ ءاياتي } قال : عن خلق السموات والأرض ، والآيات التي فيها ، سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها أو يعتبروا . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن سفيان بن عيينة في الآية قال : أنزع عنهم فهم القرآن .
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
قوله : { واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ } أي من بعد خروجه إلى الطور { مِنْ حُلِيّهِمْ } متعلق ب { اتخذ } أو بمحذوف وقع حالاً ، و { من } للتبعيض ، أو للابتداء ، أو للبيان . والحلي جمع حلى . وقرأ أهل المدينة وأهل البصرة { من حُلِّيهم } بضم الحاء وتشديد الياء . وقرأ أهل الكوفة إلا عاصماً بكسر الحاء . وقرأ يعقوب بفتح الحاء وتخفيف الياء . قال النحاس : جمع حَلْيٍ وحُليٍ وحِلِى مثل ثدي وثدي وثدي ، والأصل حلوى أدغمت الواو في الياء ، فانكسرت اللام لمجاورتها الياء ، وتكسر الحاء لكسرة اللام وضمها على الأصل . وأضيفت الحلي إليهم وإن كانت لغيرهم؛ لأن الإضافة تجوز لأدنى ملابسة ، و { عِجْلاً } مفعول { اتخذ } . وقيل : هو بمعنى التصيير ، فيتعدى إلى مفعولين ثانيهما محذوف : أي اتخذوا عجلاً إلهاً . و { جَسَداً } بدل من عجلاً . وقيل وصف له . والخوار الصياح . يقال خار يخور خوراً إذا صاح . وكذلك خار يخار خواراً . ونسب اتخاذ العجل إلى القوم جميعاً ، مع أنه اتخذه السامريّ وحده ، لكونه واحداً منهم ، وهم راضون بفعله .
روي أنه لما وعد موسى قومه ثلاثين ليلة فأبطأ عليهم في العشر المزيدة ، قال السامري لبني إسرائيل وكان مطاعاً فيهم : إن معكم حلياً من حلي آل فرعون الذي استعرتموه منهم لتتزينوا به في العيد ، وخرجتم وهو معكم ، وقد أغرق الله أهله من القبط ، فهاتوها ، فدفعوها إليه ، فاتخذ منها العجل المذكور .
قوله : { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ } الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، أي ألم يعتبروا بأن هذا الذي اتخذوه إلهاً لا يقدر على تكليمهم ، فضلاً عن أن يقدر على جلب نفع لهم ، أو دفع ضرّ عنهم . { وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً } أي طريقاً واضحة يسلكونها { اتخذوه وَكَانُواْ ظالمين } أي اتخذوه إلهاً { وَكَانُواْ ظالمين } لأنفسهم في اتخاذه ، أو في كل شيء . ومن جملة ذلك هذا الاتخاذ .
قوله : { وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ } أي ندموا وتحيروا بعد عود موسى من الميقات ، يقال للنادم المتحير قد سقط في يده . قال الأخفش : يقال سقط في يده وأسقط . ومن قال { سقط في أيديهم } على البناء للفاعل ، فالمعنى عنده : سقط الندم . وأصله أن من شأن من اشتدّ ندمه وحسرته أن يعضّ يده غماً ، فتصير يده مسقوطاً فيها ، لأن فاه قد وقع فيها . وقال الأزهري والزجاج والنحاس وغيرهم : معنى { سقط في أيديهم } أي في قلوبهم وأنفسهم ، كما يقال : حصل في يده مكروه ، وإن كان محالاً أن يكون في اليد تشبيهاً لما يحصل في القلب والنفس بما يحصل في اليد ، لأن مباشرة الأشياء في الغالب باليد ، قال الله تعالى : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [ الحج : 10 ] وأيضاً الندم وإن حلّ القلب ، فأثره يظهر في البدن ، لأن النادم يعضّ يده ، ويضرب إحدى يديه على الأخرى ، قال الله تعالى :
{ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا } [ الكهف : 42 ] ومنه : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ } [ الفرقان : 27 ] أي : من الندم . وأيضاً النادم يضع ذقنه في يده .
{ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ } معطوف على { سقط } : أي تبينوا أنهم قد ضلوا باتخاذهم العجل ، وأنهم قد ابتلوا بمعصية الله سبحانه { قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا } قرأ حمزة والكسائي بالفوقية في الفعلين جميعاً . وقرأ الباقون بالتحتية ، واللام للقسم ، وجوابه : { لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } وفي هذا الكلام منهم ما يفيد الاستغاثة بالله والتضرع والابتهال في السؤال . وسيأتي في سورة طه إن شاء الله ما يدل على أن هذا الكلام المحكي عنهم هنا وقع بعد رجوع موسى . وإنما قدم هنا على رجوعه لقصد حكاية ما صدر عنهم من القول والفعل في موضع واحد . قوله : { وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غضبان أَسِفًا } هذا بيان لما وقع من موسى بعد رجوعه . وانتصاب غضبان وأسفا على الحال ، والأسف شديد الغضب . قيل هو منزلة وراء الغضب أشدّ منه ، وهو أسف وأسيف وأسفان وأسوف ، قال ابن جرير الطبري : أخبره الله قبل رجوعه بأنهم قد فتنوا ، فلذلك رجع وهو غضبان أسفاً .
{ قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى } هذا ذمّ من موسى لقومه ، أي بئس العمل ما عملتموه من بعدي ، أي من بعد غيبتي عنكم ، يقال خلفه بخير وخلفه بشرّ ، استنكر عليهم ما فعلوه ، وذمهم لكونهم قد شاهدوا من الآيات ما يوجب بعضه الانزجار والإيمان بالله وحده ، ولكن هذا شأن بني إسرائيل في تلوّن حالهم واضطراب أفعالهم . ثم قال منكراً عليهم { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ } والعجلة . التقدّم بالشيء قبل وقته ، يقال عجلت الشيء سبقته ، وأعجلت الرجل حملته على العجلة ، والمعنى : أعجلتم عن انتظار أمر ربكم؟ أي ميعاده الذي وعدنيه ، وهو الأربعون ففعلتم ما فعلتم . وقيل معناه : تعجلتم سخط ربكم . وقيل معناه : أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم .
{ وَأَلْقَى الألواح } أي طرحها لما اعتراه من شدّة الغضب والأسف ، حين أشرف على قومه ، وهم عاكفون على عبادة العجل .
قوله : { وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } أي أخذ برأس أخيه هارون ، أو بشعر رأسه حال كونه يجرّه إليه فعل به ذلك لكونه لم ينكر على السامريّ ، ولا غيره ما رآه من عبادة بني إسرائيل للعجل ، فقال : هارون معتذراً منه { ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفونى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى } أي إني لم أطق تغيير ما فعلوه لهذين الأمرين ، استضعافهم لي ، ومقاربتهم لقتلي . وإنما قال { ابن أمّ } مع كونه أخاه من أبيه وأمه ، لأنها كلمة لين وعطف ، ولأنها كانت كما قيل مؤمنة . وقال الزجاج : قيل كان هارون أخا موسى لأمه لا لأبيه . قرىء { ابن أمّ } بفتح الميم تشبيهاً له بخمسة عشر ، فصار كقولك يا خمسة عشر أقبلوا .
وقال الكسائي والفراء وأبو عبيد : إن الفتح على تقدير يابن أما . وقال البصريون هذا القول خطأ . لأن الألف خفيفة لا تحذف ، ولكن جعل الاسمين اسماً واحداً كخمسة عشر ، واختاره الزجاج والنحاس . وأما من قرأ بكسر الميم ، فهو على تقدير ابن أمي ، ثم حذفت الياء وأبقيت الكسرة ، لتدل عليها . وقال الأخفش وأبو حاتم : ابن أمّ بالكسر ، كما تقول يا غلام أقبل وهي لغة شاذة والقراءة بها بعيدة . وإنما هذا فيما يكون مضافاً إليك . وقرىء { ابن أمي } بإثبات الياء .
قوله : { يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الأعداء } الشماتة : السرور من الأعداء بما يصيب من يعادونه مع المصائب ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء ، ودرك الشقاء ، وجهد البلاء ، وشماتة الأعداء » وهو في الصحيح . ومنه قول الشاعر :
إذا ما الدهر جرّ على أناس ... كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
والمعنى : لا تفعل بي ما يكون سبباً للشماتة منهم . وقرأ مجاهد ومالك بن دينار « فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الأعداء » بفتح حرف المضارعة ، وفتح الميم ، ورفع الأعداء على أن الفعل مسند إليهم ، أي لا يكون ذلك منهم لفعل تفعله بي . وروي عن مجاهد أنه قرأ « تُشْمِتْ » كما تقدّم عنه مع نصب الأعداء . قال ابن جني : والمعنى فلا تشمت بي أنت يا ربّ ، وجاز هذا كما في قوله : { الله يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } [ البقرة : 15 ] ونحوه ، ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلاً نصب به الأعداء ، كأنه قال : ولا تشمت يا ربّ بي الأعداء ، وما أبعد هذه القراءة عن الصواب ، وأبعد تأويلها عن وجوه الإعراب .
قوله : { وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ القوم الظالمين } أي : لا تجعلني بغضبك عليّ في عداد القوم الظالمين ، يعني الذين عبدوا العجل ، أو لا تعتقد أني منهم .
قوله : { قَالَ رَبّ اغفر لِي وَلأَخِي } هذا كلام مستأنف جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا قال موسى بعد كلام هارون هذا؟ فقيل : { قَالَ رَبّ اغفر لِى وَلأَخِي } طلب المغفرة له أوّلاً ، ولأخيه ثانياً ، ليزيل عن أخيه ما خافه من الشماتة ، فكأنه تذمم مما فعله بأخيه ، وأظهر أنه لا وجه له ، وطلب المغفرة من الله مما فرط منه في جانبه ، ثم طلب المغفرة لأخيه إن كان قد وقع منه تقصير فيما يجب عليه من الإنكار عليهم وتغيير ما وقع منهم ، ثم طلب إدخاله وإدخال أخيه في رحمة الله التي وسعت كل شيء ، فهو { أَرْحَمُ الرحمين } .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن مجاهد ، في قوله : { واتخذ قَوْمُ موسى } الآية ، قال : حين دفنوها ألقى عليها السامري قبضة من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في الآية قال : استعاروا حلياً من آل فرعون ، فجمعه السامري فصاغ منه { عِجْلاً } فجعله { جَسَداً } لحماً ودماً { لَّهُ خُوَارٌ } . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عكرمة ، في قوله : { خُوَارٌ } قال : الصوت . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الضحاك قال : خار العجل خورة لم يئن ، ألم تر أن الله قال : { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ } .
وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس ، في قوله : { سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ } قال : ندموا . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ من طرق ، عن ابن عباس { أَسَفاً } قال : حزينا . وأخرج أبو الشيخ ، عن أبي الدرداء ، قال : الأسف منزلة وراء الغضب أشدّ من ذلك . وأخرج عبد بن حميد ، عن محمد بن كعب ، قال : الأسف الغضب الشديد .
وأخرج أبو عبيد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، قال : لما ألقى موسى الألواح تكسرت فرفعت إلا سدسها . وأخرج أبو الشيخ عنه قال : رفع الله منها ستة أسباعها وبقي سبع . وأخرج أبو نعيم في الحلية ، عن مجاهد ، أو سعيد بن جبير ، قال : لما ألقاها موسى ذهب التفصيل وبقي الهدى . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن جريج ، قال : كانت تسعة رفع منها لوحان وبقي سبعة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، في قوله : { وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ القوم الظالمين } قال : مع أصحاب العجل .
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
الغضب ما نزل بهم من العقوبة في الدنيا بقتل أنفسهم ، وما سينزل بهم في الآخرة من العذاب ، والذلة هي التي ضربها الله عليهم بقوله : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة } [ البقرة : 61 ] . وقيل : هي إخراجهم من ديارهم . وقيل : هي الجزية ، وفيه نظر لأنها لم تؤخذ منهم ، وإنما أخذت من ذراريَهم . والأولى أن يقيد الغضب والذلة بالدنيا ، لقوله : { فِي الحياة الدنيا } وأن ذلك مختص بالمتخذين للعجل إلهاً ، لا لمن بعدهم من ذراريهم . ومجرّد ما أمروا به من قتل أنفسهم هو غضب من الله عليهم ، وبه يصيرون أذلاء . وكذلك خروجهم من ديارهم هو من غضب الله عليهم ، وبه يصبرون أذلاء . وأما ما نال ذراريهم من الذلة فلا يصحّ تفسير ما في الآية به إلا إذا تعذر حمل الآية على المعنى الحقيقي ، وهو لم يتعذر هنا { وكذلك نَجْزِى المفترين } أي : مثل ما فعلنا بهؤلاء نفعل بالمفترين . والافتراء الكذب ، فمن افترى على الله سيناله من الله غضب وذلة في الحياة الدنيا . وإن لم يكن بنفس ما عوقب به هؤلاء ، بل المراد ما يصدق عليه أنه من غضب الله سبحانه ، وأن فيه ذلة بأيّ نوع كان { والذين عَمِلُواْ السيئات } أي : سيئة كانت { ثُمَّ تَابُواْ } عنها { مِن بَعْدِ } عملها { وَءامَنُواْ } بالله { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } أي : من بعد هذه التوبة ، أو من بعد عمل هذه السيئات التي قد تاب عنها فاعلها وآمن بالله { لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : كثير الغفران لذنوب عباده وكثير الرحمة لهم .
قوله : { وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب } أصل السكوت : السكون والإمساك ، يقال جرى الوادي ثلاثاً ثم سكن ، أي أمسك عن الجري . قيل هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ، ويقول له : قل لقومك كذا ، وألق الألواح ، وجرّ برأس أخيك ، فترك الإغراء وسكت . وقيل : هذا الكلام فيه قلب ، والأصل : سكت موسى عن الغضب ، كقولهم أدخلت الإصبع الخاتم ، والخاتم الإصبع . وأدخلت القلنسوة رأسي ، ورأسي القلنسوة . وقرأ معاوية ابن قرّة «ولما سكن عن موسى الغضب» . وقرىء " سكت وأسكت "
{ أَخَذَ الألواح } التي ألقاها عند غضبه { وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ } النسخ نقل ما في كتاب إلى كتاب آخر . ويقال للأصل الذي كان النقل منه نسخة ، وللمنقول نسخة أيضاً . قال القشيري : والمعنى { وَفِى نُسْخَتِهَا } أي فيما نسخ من الألواح المتكسرة ، ونقل إلى الألواح الجديدة { هُدًى وَرَحْمَةً } . وقيل المعنى : وفيما نسخ له منها ، أي من اللوح المحفوظ . وقيل المعنى : وفيما كتب له فيها هدى ورحمة ، فلا يحتاج إلى أصل ينقل عنه ، وهذا كما يقال أنسخ ما يقول فلان ، أي أثبته في كتابك . والنسخة فعلة ، بمعنى مفعولة كالخطبة .