كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني
« هذه تنجي ، وهذه تردي » وأخرج عبد ابن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، والخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن مسعود : { مَن جَاء بالحسنة } قال : لا إله إلاّ الله ، { وَمَن جَاء بالسيئة } قال : بالشرك . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم : { فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا } قال : له منها خير ، يعني : من جهتها . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً : { فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا } قال : ثواب . وأخرج أيضاً عنه أيضاً قال : البلدة : مكة .
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
الكلام في فاتحة هذه السورة قد مرّ في فاتحة الشعراء وغيرها ، فلا نعيده ، وكذلك مرّ الكلام على قوله : { تِلْكَ ءَايَاتُ الكتاب المبين } فاسم الإشارة مبتدأ خبره ما بعده ، أو خبر مبتدأ محذوف ، و { آيات } بدل من اسم الإشارة ، ويجوز أن يكون تلك في موضع نصب ب { نتلو } ، والمبين : المشتمل على بيان الحق من الباطل . قال الزجاج : مبين الحق من الباطل ، والحلال من الحرام ، وهو من أبان بمعنى : أظهر { نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ بالحق لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي نوحي إليك من خبرهما ملتبساً بالحق ، وخص المؤمنين؛ لأن التلاوة إنما ينتفع بها المؤمن ، وقيل : إن مفعول نتلو محذوف ، والتقدير : نتلو عليك شيئاً من نبئهما ، ويجوز أن تكون « من » مزيدة على رأي الأخفش أي : نتلو عليك نبأ موسى وفرعون ، والأولى أن تكون للبيان على تقدير المفعول كما ذكر أو للتبعيض ، ولا ملجىء للحكم بزيادتها ، والحق : الصدق ، وجملة : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض } وما بعدها مستأنفة مسوقة لبيان ما أجمله من النبأ . قال المفسرون : معنى { علا } : تكبر ، وتجبر بسلطانه ، والمراد بالأرض أرض مصر . وقيل : معنى { علا } : ادعى الربوبية ، وقيل : علا عن عبادة ربه { وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً } أي فرقاً ، وأصنافاً في خدمته يشايعونه على ما يريد ، ويطيعونه ، وجملة : { يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ } مستأنفة مسوقة لبيان حال الأهل الذين جعلهم فرقاً وأصنافاً ، ويجوز أن تكون في محلّ نصب على الحال من فاعل جعل ، أي جعلهم شيعاً حال كونهم مستضعفاً طائفة منهم ، ويجوز أن تكون صفة لطائفة ، والطائفة هم بنو إسرائيل ، وجملة : { يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْييِ نِسَاءهُمْ } بدل من الجملة الأولى ، ويجوز أن تكون مستأنفة للبيان ، أو حالاً ، أو صفة كالتي قبلها على تقدير عدم كونها بدلاً منها ، وإنما كان فرعون يذبح أبناءهم ، ويترك النساء؛ لأن المنجمين في ذلك العصر أخبروه أنه يذهب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل . قال الزجاج : والعجب من حمق فرعون ، فإن الكاهن الذي أخبره بذلك إن كان صادقاً عنده فما ينفع القتل ، وإن كان كاذباً فلا معنى للقتل { إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين } في الأرض بالمعاصي والتجبر ، وفيه بيان أن القتل من فعل أهل الإفساد .
{ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض } جاء بصيغة المضارع لحكاية الحالة الماضية ، واستحضار صورتها ، أي نريد أن نتفضل عليهم بعد استضعافهم ، والمراد بهؤلاء : بنو إسرائيل ، والواو في { ونريد } للعطف على جملة { إن فرعون علا } ، وإن كانت الجملة المعطوف عليها اسمية؛ لأن بينهما تناسباً من حيث أن كل واحدة منهما للتفسير والبيان ، ويجوز أن تكون حالاً من فاعل { يستضعف } بتقدير مبتدأ ، أي ونحن نريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض كما في قول الشاعر :
نجوت وأرهنتهم ملكاً ... والأوّل أولى { وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً } أي قادة في الخير ، ودعاة إليه ، وولاة على الناس ، وملوكاً فيهم { وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين } لملك فرعون ، ومساكن القبط ، وأملاكهم ، فيكون ملك فرعون فيهم ، ويسكنون في مساكنه ، ومساكن قومه ، وينتفعون بأملاكه وأملاكهم { وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأرض } أي نجعلهم مقتدرين عليها وعلى أهلها مسلطين على ذلك يتصرّفون به كيف شاؤوا . قرأ الجمهور : { نمكّن } بدون لام ، وقرأ الأعمش : « لنمكن » بلام العلة . { وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا } قرأ الجمهور : { نرى } بنون مضمومة وكسر الراء على أن الفاعل هو الله سبحانه . وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف : « ويرى » بفتح الياء التحتية والراء ، والفاعل فرعون . والقراءة الأولى ألصق بالسياق؛ لأن قبلها نريد ونجعل ونمكّن بالنون . وأجاز الفراء : « ويري فرعون » بضم الياء التحتية ، وكسر الراء ، أي ويرى الله فرعون ، ومعنى { مِنْهُمْ } : من أولئك المستضعفين { مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ } الموصول هو المفعول الثاني على القراءة الأولى ، والمفعول الأوّل على القراءة الثانية ، والمعنى : أن الله يريهم ، أو يرون هم الذي كانوا يحذرون منه ، ويجتهدون في دفعه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد المولود من بني إسرائيل المستضعفين .
{ وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ } أي ألهمناها وقذفنا في قلبها ، وليس ذلك هو الوحي الذي يوحى إلى الرسل ، وقيل : كان ذلك رؤيا في منامها ، وقيل : كان ذلك بملك أرسله الله يعلمها بذلك .
وقد أجمع العلماء على أنها لم تكن نبية ، وإنما كان إرسال الملك إليها عند من قال به على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى كما في الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما ، وقد سلمت على عمران بن حصين الملائكة كما في الحديث الثابت في الصحيح فلم يكن بذلك نبياً ، و « أن » في { أَنْ أَرْضِعِيهِ } هي المفسرة ، لأن في الوحي معنى القول ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي بأن أرضعيه ، وقرأ عمر بن عبد العزيز بكسر نون أن ، ووصل همزة أرضعيه فالكسر لالتقاء الساكنين ، وحذف همزة الوصل على غير القياس { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } من فرعون بأن يبلغ خبره إليه { فَأَلْقِيهِ فِي اليم } ، وهو بحر النيل ، وقد تقدّم بيان الكيفية التي ألقته في اليمّ عليها في سورة طه { وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي } أي لا تخافي عليه الغرق ، أو الضيعة ، ولا تحزني لفراقه { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ } عن قريب على وجه تكون به نجاته { وجاعلوه مِنَ المرسلين } الذين نرسلهم إلى العباد .
والفاء في قوله : { فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ } هي الفصيحة ، والالتقاط : إصابة الشيء من غير طلب ، والمراد بآل فرعون هم الذين أخذوا التابوت الذي فيه موسى من البحر ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : فألقته في اليمّ بعد ما جعلته في التابوت ، فالتقطه من وجده من آل فرعون ، واللام في { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } لام العاقبة ، ووجه ذلك : أنهم إنما آخذوه؛ ليكون لهم ولداً ، وقرّة عين لا ليكون عدوّاً فكان عاقبة ذلك إنه كان لهم عدوًّا وحزناً ، ولما كانت هذه العداوة نتيجة لفعلهم ، وثمرة له شبهت بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله ، ومن هذا قول الشاعر :
لدوا للموت وابنوا للخراب ... قول الآخر :
وللمنايا تربي كل مرضعة ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها
قرأ الجمهور : { وحزناً } بفتح الحاء ، والزاي ، وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف : « وحزناً » بضم الحاء وسكون الزاي ، واختار القراءة الأولى أبو عبيدة وأبو حاتم وهما لغتان كالعَدَم والعُدْم ، والرَّشَد والرُّشْد ، والسَّقَم والسُّقْم ، وجملة { إِنَّ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خاطئين } لتعليل ما قبلها ، أو للاعتراض لقصد التأكيد؛ ومعنى { خاطئين } : عاصين آثمين في كل أفعالهم وأقوالهم ، وهو مأخوذ من الخطأ المقابل للصواب ، وقرىء : « خاطين » بياء من دون همزة ، فيحتمل أن يكون معنى هذه القراءة معنى قراءة الجمهور ، ولكنها خففت بحذف الهمزة ، ويحتمل أن تكون من خطا يخطو ، أي تجاوز الصواب .
{ وَقَالَتِ امرأت فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لّي وَلَكَ } أي قالت امرأة فرعون لفرعون ، وارتفاع { قرّة } على أنه خبر مبتدأ محذوف ، قاله الكسائي ، وغيره . وقيل : على أنه مبتدأ ، وخبره : { لاَ تَقْتُلُوهُ } قاله الزجاج ، والأوّل أولى . وكان قولها لهذا القول عند رؤيتها له لما وصل إليها ، وأخرجته من التابوت ، وخاطبت بقولها : { لاَ تَقْتُلُوهُ } فرعون ، ومن عنده من قومه ، أو فرعون وحده على طريقة التعظيم له . وقرأ عبد الله بن مسعود : « وقالت امرأة فرعون لا تقتلوه قرّة عين لي ولك » ، ويجوز نصب « قرّة » بقوله : { لاَ تَقْتُلُوهُ } على الاشتغال . وقيل : إنها قالت : لا تقتلوه فإن الله أتى به من أرض بعيدة ، وليس من بني إسرائيل . ثم عللت ما قالته بالترجي منها لحصول النفع منه لهم ، أو التنبي له ، فقالت : { عسى أَن يَنفَعَنَا } فنصيب منه خيراً { أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } وكانت لا تلد ، فاستوهبته من فرعون فوهبه لها ، وجملة : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } في محل نصب على الحال ، أي وهم لا يشعرون أنهم على خطأ في التقاطه ، ولا يشعرون أن هلاكهم على يده؛ فتكون حالاً من آل فرعون ، وهي من كلام الله سبحانه . وقيل : هي من كلام المرأة ، أي وبنو إسرائيل لا يدرون أنا التقطناه ، وهم لا يشعرون ، قال الكلبي ، وهو بعيد جداً . وقد حكى الفراء عن السديّ عن الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس أن قوله : { لاَ تَقْتُلُوهُ } من كلام فرعون ، واعترضه بكلام يرجع إلى اللفظ ، ويكفي في ردّه ضعف إسناده .
{ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغاً } قال المفسرون : معنى ذلك : أنه فارغ من كل شيء إلاّ من أمر موسى كأنها لم تهتمّ بشيء سواه . قال أبو عبيدة : خالياً من ذكر كل شيء في الدنيا إلاّ من ذكر موسى ، وقال الحسن وابن إسحاق ، وابن زيد : فارغاً مما أوحى إليها من قوله : { وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي } ، وذلك لما سوّل الشيطان لها من غرقه وهلاكه . وقال الأخفش : فارغاً من الخوف والغمّ لعلمها أنه لم يغرق بسبب ما تقدّم من الوحي إليها ، وروى مثله عن أبي عبيدة أيضاً . وقال الكسائي : ناسياً ذاهلاً ، وقال العلاء بن زياد : نافراً . وقال سعيد بن جبير : والهاً كادت تقول : وا ابناه من شدّة الجزع ، وقال مقاتل : كادت تصيح شفقة عليه من الغرق . وقيل : المعنى : أنها لما سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع ، والدهش ، قال النحاس : وأصحّ هذه الأقوال الأوّل ، والذين قالوه أعلم بكتاب الله ، فإذا كان فارغاً من كل شيء إلاّ من ذكر موسى فهو فارغ من الوحي ، وقول من قال : فارغاً من الغمّ غلط قبيح؛ لأن بعده : { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا } وقرأ فضالة بن عبيد الأنصاري ومحمد ابن السميفع وأبو العالية وابن محيصن : « فزعا » بالفاء ، والزاي ، والعين المهملة من الفزع ، أي خائفاً وجلاً ، وقرأ ابن عباس : « قرعا » بالقاف المفتوحة ، والراء المهملة المكسورة ، والعين المهملة من قرع رأسه : إذا انحسر شعره ، ومعنى { وَأَصْبَحَ } : وصار ، كما قال الشاعر :
مضى الخلفاء في أمر رشيد ... وأصبحت المدينة للوليد
{ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا } « إن » هي : المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، أي إنها كادت لتظهر أمر موسى ، وأنه ابنها من فرط ما دهمها من الدهش والخوف والحزن ، من بدا يبدو : إذا ظهر ، وأبدى يبدي : إذا أظهر ، وقيل : الضمير في { به } عائد إلى الوحي الذي أوحى إليها ، والأوّل أولى . وقال الفراء : إن كانت لتبدي باسمه لضيق صدرها لولا أن ربطنا على قلبها . قال الزجاج : ومعنى الربط على القلب : إلهام الصبر ، وتقويته ، وجواب لولا محذوف ، أي لولا أن ربطنا على قلبها لأبدت ، واللام في : { لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين } متعلق ب { ربطنا } ، والمعنى : ربطنا على قلبها؛ لتكون من المصدّقين بوعد الله ، وهو قوله : { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ } قيل : والباء في { لَتُبْدِي بِهِ } زائدة للتأكيد ، والمعنى : لتبديه كما تقول : أخذت الحبل وبالحبل . وقيل : المعنى : لتبدي القول به { وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصّيهِ } أي : قالت أمّ موسى لأخت موسى ، وهي مريم : قصيه ، أي تتبعي أثره ، واعرفي خبره ، وانظري أين وقع ، وإلى من صار؟ يقال : قصصت الشيء : إذا اتبعت أثره متعرّفاً لحاله { فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ } أي أبصرته عن بعد ، وأصله عن مكان جنب ، ومنه الأجنبي .
قال الشاعر :
فلا تحرميني نائلاً عن جنابة ... فإني امرؤ وسط الديار غريب
وقيل : المراد بقوله : { عن جنب } عن جانب ، والمعنى : أنها أبصرت إليه متجانفة مخاتلة ، ويؤيد ذلك قراءة النعمان بن سالم عن جانب ، ومحلّ : { عن جنب } النصب على الحال إما من الفاعل ، أي بصرت به مستخفية كائنة عن جنب ، وإما من المجرور ، أي بعيداً منها . قرأ الجمهور : { بصرت } به بفتح الباء وضم الصاد ، وقرأ قتادة بفتح الصاد ، وقرأ عيسى بن عمر بكسرها . قال المبرّد : أبصرته ، وبصرت به بمعنى ، وقرأ الجمهور : { عن جنب } بضمتين ، وقرأ قتادة والحسن والأعرج وزيد بن عليّ بفتح الجيم وسكون النون ، وروي عن قتادة أيضاً أنه قرأ بفتحهما . وروي عن الحسن أيضاً أنه قرأ بضم الجيم وسكون النون . وقال أبو عمرو بن العلاء : إن معنى { عَن جُنُبٍ } : عن شوق . قال : وهي لغة جذام يقولون : جنبت إليك أي : اشتقت إليك { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أنها تقصه وتتبع خبره ، وأنها أخته .
{ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع } المراضع جمع مرضع ، أي منعناه أن يرضع من المرضعات . وقيل : المراضع جمع مرضع بفتح الضاد ، وهو الرضاع ، أو موضعه ، وهو الثدي ، ومعنى { مِن قَبْلُ } : من قبل أن نردّه إلى أمه ، أو من قبل أن تأتيه أمه ، أو من قبل قصها لأثره ، وقد كانت امرأة فرعون طلبت لموسى المرضعات ليرضعنه ، فلم يرضع من واحدة منهنّ فعند ذلك { قَالَتْ } أي أخته لما رأت امتناعه من الرضاع : { هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ } أي : يضمنون لكم القيام به ، وإرضاعه { وَهُمْ لَهُ ناصحون } أي مشفقون عليه لا يقصرون في إرضاعه وتربيته . وفي الكلام حذف ، والتقدير : فقالوا لها : من هم؟ فقالت : أمي ، فقيل لها : وهل لأمك لبن؟ قالت : نعم لبن أخي هارون : فدلتهم على أمّ موسى ، فدفعوه إليها ، فقبل ثديها ، ورضع منه ، وذلك معنى قوله سبحانه : { فرددناه إلى أُمّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } بولدها { وَلاَ تَحْزَنْ } على فراقه { وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله } أي جميع وعده ، ومن جملة ذلك ما وعدها بقوله : { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ } . { حَقّ } لا خلف فيه واقع لا محالة { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي أكثر آل فرعون لا يعلمون بذلك ، بل كانوا في غفلة عن القدر وسرّ القضاء ، أو أكثر الناس لا يعلمون بذلك أو لا يعلمون أن الله وعدها بأن يردّه إليها .
وقد أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد : { وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً } قال : فرّق بينهم . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة : { وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً } قال : يستعبد طائفة منهم ، ويدع طائفة ويقتل طائفة ويستحيي طائفة .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب في قوله : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً } قال : يوسف وولده . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض } قال : هم : بنو إسرائيل { وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً } أي ولاة الأمر { وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين } أي الذين يرثون الأرض بعد فرعون وقومه { وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ } قال : ما كان القوم حذروه .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى } أي ألهمناها الذي صنعت بموسى . وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش قال : قال ابن عباس في قوله : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } قال : أن يسمع جيرانك صوته . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغاً } قال : فرغ من ذكر كل شيء من أمر الدنيا إلاّ من ذكر موسى . وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغاً } قال : خالياً من كل شيء غير ذكر موسى . وفي قوله : { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } قال : تقول : يا ابناه . وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عنه في قوله : { وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصّيهِ } أي اتبعي أثره { فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ } قال : عن جانب . وأخرج الطبراني وابن عساكر عن أبي أمامة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة : « أما شعرت أن الله زوّجني مريم بنت عمران وكلثوم أخت موسى وامرأة فرعون؟ » قالت : هنيئاً لك يا رسول الله ، وأخرجه ابن عساكر عن ابن أبي روّاد مرفوعاً بأطول من هذا ، وفي آخره : أنها قالت : بالرفاء والبنين . وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع مِن قَبْلُ } قال : لا يؤتى بمرضع فيقبلها .
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
قوله : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } قد تقدّم الكلام في بلوغ الأشدّ في الأنعام ، وقد قال ربيعة ومالك : هو الحلم لقوله تعالى : { حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً } [ النساء : 6 ] الآية ، وأقصاه أربع وثلاثون سنة كما قال مجاهد وسفيان الثوري وغيرهما . وقيل : الأشدّ ما بين الثمانية عشر إلى الثلاثين ، والاستواء : من الثلاثين إلى الأربعين ، وقيل : الاستواء هو بلوغ الأربعين ، وقيل : الاستواء : إشارة إلى كمال الخلقة ، وقيل : هو بمعنى واحد ، وهو ضعيف؛ لأن العطف يشعر بالمغايرة { آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا } الحكم : الحكمة على العموم ، وقيل : النبوّة . وقيل : الفقه في الدين . والعلم : الفهم ، قاله السديّ . وقال مجاهد : الفقه . وقال ابن إسحاق : العلم بدينه ودين آبائه ، وقيل : كان هذا قبل النبوّة ، وقد تقدّم بيان معنى ذلك في البقرة { وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين } أي مثل ذلك الجزاء الذي جزينا أمّ موسى لما استسلمت لأمر الله وألقت ولدها في البحر ، وصدّقت بوعد الله نجزي المحسنين على إحسانهم ، والمراد العموم .
{ وَدَخَلَ المدينة } أي ودخل موسى مدينة مصر الكبرى . وقيل : مدينة غيرها من مدائن مصر ، ومحل قوله : { على حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا } النصب على الحال إما من الفاعل ، أي مستخفياً ، وإما من المفعول . قيل : لما عرف موسى ما هو عليه من الحق في دينه عاب ما عليه قوم فرعون ، وفشا ذلك منه ، فأخافوه ، فخافهم ، فكان لا يدخل المدينة إلاّ مستخفياً . قيل : كان دخوله بين العشاء والعتمة ، وقيل : وقت القائلة . قال الضحاك : طلب أن يدخل المدينة وقت غفلة أهلها فدخل على حين علم منهم ، فكان منه ما حكى الله سبحانه بقوله : { فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ } أي ممن شايعه على دينه ، وهم بنو إسرائيل { وهذا مِنْ عَدُوّهِ } أي من المعادين له على دينه ، وهم قوم فرعون { فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ } أي طلب منه أن ينصره ، ويعينه على خصمه { عَلَى الذي مِنْ عَدُوّهِ } فأغاثه؛ لأن نصر المظلوم واجب في جميع الملل . قيل : أراد القبطي أن يسخر الإسرائيلي؛ ليحمل حطباً لمطبخ فرعون ، فأبى عليه ، واستغاث بموسى { فَوَكَزَهُ موسى } الوكز : الضرب بجمع الكف ، وهكذا اللكز واللهز . وقيل : اللكز على اللحى ، والوكز على القلب . وقيل : ضربه بعصاه . وقرأ ابن مسعود « فلكزه » ، وحكى الثعلبي : أن في مصحف عثمان : « فنكزه » بالنون ، قال الأصمعي : « نكزه » بالنون : ضربه ، ودفعه . قال الجوهري : اللكز الضرب على الصدر . وقال أبو زيد : في جميع الجسد يعني : أنه يقال له : لكز ، واللهز : الضرب بجميع اليدين في الصدر ، ومثله عن أبي عبيدة { فقضى عَلَيْهِ } أي قتله ، وكل شيء أتيت عليه ، وفرغت منه : فقد قضيت عليه ، ومنه قول الشاعر :
قد عضه فقضى عليه الأشجع ... قيل : لم يقصد موسى قتل القبطي ، وإنما قصد دفعه ، فأتى ذلك على نفسه ، ولهذا قال : { هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان } وإنما قال بهذا القول مع أن المقتول كافر حقيق بالقتل؛ لأنه لم يكن إذ ذاك مأموراً بقتل الكفار . وقيل : إن تلك الحالة حالة كفّ عن القتال لكونه مأموناً عندهم ، فلم يكن له أن يغتالهم . ثم وصف الشيطان بقوله : { إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } أي : عدوّ للإنسان يسعى في إضلاله ، ظاهر العداوة والإضلال . وقيل : إن الإشارة بقوله : { هذا } إلى عمل المقتول لكونه كافراً مخالفاً لما يريده الله . وقيل : إنه إشارة إلى المقتول نفسه يعني : أنه من جند الشيطان وحزبه . ثم طلب من الله سبحانه : أن يغفر له ما وقع منه : { قَالَ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ } الله { لَهُ } ذلك { إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } ووجه استغفاره : أنه لم يكن لنبيّ أن يقتل حتى يؤمر ، وقيل : إنه طلب المغفرة من تركه للأولى كما هو سنة المرسلين ، أو أراد إني ظلمت نفسي بقتل هذا الكافر؛ لأن فرعون لو يعرف ذلك لقتلني به ، ومعنى { فاغفر لِي } : فاستر ذلك عليّ لا تطلع عليه فرعون ، وهذا خلاف الظاهر فإن موسى عليه السلام ما زال نادماً على ذلك خائفاً من العقوبة بسببه ، حتى إنه يوم القيامة عند طلب الناس الشفاعة منه يقول : إني قتلت نفساً لم أومر بقتلها ، كما ثبت ذلك في حديث الشفاعة الصحيح . وقد قيل : إن هذا كان قبل النبوّة . وقيل : كان ذلك قبل بلوغه سنّ التكليف ، وإنه كان إذ ذاك في اثنتي عشرة سنة ، وكل هذه التأويلات البعيدة محافظة على ما تقرر من عصمة الأنبياء ، ولا شك أنهم معصومون من الكبائر ، والقتل الواقع منه لم يكن عن عمد فليس بكبيرة ، لأن الوكزة في الغالب لا تقتل .
ثم لما أجاب الله سؤاله ، وغفر له ما طلب منه مغفرته ، قال : { رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } هذه الباء يجوز أن تكون باء القسم والجواب مقدر أي : أقسم بإنعامك عليّ لأتوبنّ ، وتكون جملة : { فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ } كالتفسير للجواب وكأنه أقسم بما أنعم الله عليه أن لا يظاهر مجرماً . ويجوز أن تكون هذه الباء هي باء السببية متعلقة بمحذوف ، أي اعصمني بسبب ما أنعمت به عليّ ، ويكون قوله : { فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً } مترتباً عليه ، ويكون في ذلك استعطاف لله تعالى ، وتوصل إلى إنعامه بإنعامه ، و «ما» في قوله : { بِمَا أَنْعَمْتَ } إما موصولة ، أو مصدرية ، والمراد بما أنعم به عليه : هو ما آتاه من الحكم والعلم أو بالمغفرة أو بالجميع ، وأراد بمظاهرة المجرمين : إما صحبة فرعون والانتظام في جملته في ظاهر الأمر ، أو مظاهرته على ما فيه إثم .
قال الكسائي ، والفراء : ليس قوله : { فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ } خبراً بل هو دعاء ، أي فلا تجعلني يا ربّ ظهيراً لهم . قال الكسائي ، وفي قراءة عبد الله : « فلا تجعلني يا ربّ ظهيراً للمجرمين » وقال الفراء : المعنى : اللهم فلن أكون ظهيراً للمجرمين . وقال النحاس : إن جعله من باب الخبر أوفى وأشبه بنسق الكلام .
{ فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَائِفاً يَتَرَقَّبُ } أي دخل في وقت الصباح في المدينة التي قتل فيها القبطي ، و { خائفاً } خبر { أصبح } ويجوز أن يكون حالاً ، والخبر : { في المدينة } ، و { يترقب } يجوز أن يكون خبراً ثانياً ، وأن يكون حالاً ثانية ، وأن يكون بدلاً من { خائفاً } ، ومفعول { يترقب } محذوف ، والمعنى : يترقب المكروه أو يترقب الفرح { فَإِذَا الذي استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ } إذا هي الفجائية ، والموصول مبتدأ ، وخبره : { يستصرخه } أي فإذا صاحبه الإسرائيلي الذي استغاثه بالأمس يقاتل قبطياً آخر ، أراد أن يسخره ويظلمه كما أراد القبطي الذي قد قتله موسى بالأمس ، والاستصراخ : الاستغاثة ، وهو من الصراخ ، وذلك أن المستغيث يصوّت ، ويصرخ في طلب الغوث ، ومنه قول الشاعر :
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الجواب له قرع الظنابيب
{ قَالَ لَهُ موسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } أي بين الغواية ، وذلك أنك تقاتل من لا تقدر على مقاتلته ، ولا تطيقه . وقيل : إنما قال له هذه المقالة؛ لأنه تسبب بالأمس لقتل رجل يريد اليوم أن يتسبب لقتل آخر . { فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا } أي يبطش بالقبطي الذي هو عدوّ لموسى ، وللإسرائيلي حيث لم يكن على دينهما ، وقد تقدّم معنى يبطش ، واختلاف القراء فيه . { قَالَ ياموسى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس } القائل هو الإسرائيلي لما سمع موسى يقول له : { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } ورآه يريد أن يبطش بالقبطي ظن أنه يريد أن يبطش به ، فقال لموسى : { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس } فلما سمع القبطي ذلك أفشاه ، ولم يكن قد علم أحد من أصحاب فرعون أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس حتى أفشى عليه الإسرائيلي ، هكذا قال جمهور المفسرين . وقيل : إن القائل : { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس } هو القبطي ، وكان قد بلغه الخبر من جهة الإسرائيلي ، وهذا هو الظاهر ، وقد سبق ذكر القبطي قبل هذا بلا فصل؛ لأنه هو المراد بقوله عَدُوٌّ لَّهُمَا ، ولا موجب لمخالفة الظاهر حتى يلزم عنه أن المؤمن بموسى المستغيث به المرّة الأولى ، والمرّة الأخرى هو الذي أفشى عليه ، وأيضاً إن قوله : { إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض } لا يليق صدور مثله إلاّ من كافر ، و « إن » في قوله : { إِن تُرِيدُ } هي النافية ، أي ما تريد إلاّ أن تكون جباراً في الأرض ، قال الزجاج : الجبار في اللغة : الذي لا يتواضع لأمر الله ، والقاتل بغير حق جبار .
وقيل : الجبار : الذي يفعل ما يريد من الضرب ، والقتل ، ولا ينظر في العواقب ، ولا يدفع بالتي هي أحسن { وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين } أي الذين يصلحون بين الناس .
{ وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى المدينة يسعى } قيل : المراد بهذا الرجل : حزقيل ، وهو مؤمن آل فرعون ، وكان ابن عم موسى ، وقيل : اسمه شمعون ، وقيل : طالوت ، وقيل : شمعان . والمراد بأقصى المدينة : آخرها وأبعدها ، و { يسعى } يجوز أن يكون في محل رفع صفة لرجل ، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال ، لأن لفظ رجل وإن كان نكرة فقد تخصص بقوله : مِنْ أَقْصَى المدينة ، { قَالَ ياموسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } أي يتشاورون في قتلك ، ويتآمرون بسببك . قال الزجاج : يأمر بعضهم بعضاً بقتلك ، وقال أبو عبيد : يتشاورون فيك ليقتلوك : يعني : أشراف قوم فرعون . قال الأزهري : ائتمر القوم وتآمروا ، أي أمر بعضهم بعضاً ، نظيره قوله : { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } [ الطلاق : 6 ] قال النمر بن تولب :
أرى الناس قد أحدثوا شيمة ... وفي كل حادثة يؤتمر
{ فاخرج إِنّي لَكَ مِنَ الناصحين } في الأمر بالخروج ، واللام للبيان؛ لأن معمول المجرور لا يتقدم عليه { فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ } فخرج موسى من المدينة حال كونه خائفاً من الظالمين مترقباً لحوقهم به ، وإدراكهم له ، ثم دعا ربه بأن ينجيه مما خافه قائلاً : { رَبّ نَجّنِي مِنَ القوم الظالمين } أي خلصني من القوم الكافرين ، وادفعهم عني ، وحلّ بيني وبينهم { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ } أي نحو مدين قاصداً لها . قال الزجاج : أي سلك في الطريق الذي تلقاء مدين فيها . انتهى . يقال : داره تلقاء دار فلان ، وأصله من اللقاء ، ولم تكن هذه القرية داخلة تحت سلطان فرعون ، ولهذا خرج إليها { قَالَ عسى رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السبيل } أي يرشدني نحو الطريق المستوية إلى مدين .
{ وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ } أي وصل إليه ، وهو الماء الذي يستقون منه { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ الناس يَسْقُونَ } أي وجد على الماء جماعة كثيرة من الناس يسقون مواشيهم ، ولفظ الورود قد يطلق على الدخول في المورد ، وقد يطلق على البلوغ إليه ، وإن لم يدخل فيه ، وهو المراد هنا ، ومنه قول زهير :
فلما وردنا الماء زرقا حمامه ... وقد تقدم تحقيق معنى الورود في قوله : { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] وقيل : مدين اسم للقبيلة لا للقرية ، وهي غير منصرفة على كلا التقديرين . { وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ } أي من دون الناس الذين يسقون ما بينهم وبين الجهة التي جاء منها ، وقيل : معناه : في موضع أسفل منهم { امرأتين تَذُودَانِ } أي تحبسان أغنامهما من الماء حتى يفرغ الناس ، ويخلو بينهما وبين الماء ، ومعنى الذود : الدفع ، والحبس ، ومنه قول الشاعر :
أبيت على باب القوافي كأنما ... أذود بها سرباً من الوحش نزّعا
أي : أحبس ، وأمنع ، وورد الذود بمعنى الطرد ، ومنه قول الشاعر :
لقد سلبت عصاك بنو تميم ... فما تدري بأي عصى تذود
أي : تطرد { قَالَ مَا خَطْبُكُمَا } أي : قال موسى للمرأتين : ما شأنكما لا تسقيان غنمكما مع الناس؟ والخطب : الشأن ، قيل : وإنما يقال : ما خطبك لمصاب ، أو مضطهد ، أو لمن يأتي بمنكر { قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعاء } أي إن عادتنا التأني حتى يصدر الناس عن الماء ، وينصرفوا منه حذراً من مخالطتهم ، أو عجزاً عن السقي معهم . قرأ الجمهور : { يصدر } بضم الياء ، وكسر الدال مضارع أصدر المتعدّى بالهمزة . وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بفتح الياء وضم الدال من صدر يصدر لازماً ، فالمفعول على القراءة الأولى محذوف ، أي يرجعون مواشيهم ، والرعاء جمع راع . قرأ الجمهور : { الرعاء } بكسر الراء . وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بفتحها . قال أبو الفضل : هو مصدر أقيم مقام الصفة ، فلذلك استوى فيه الواحد ، والجمع . وقرىء : « الرعاء » بالضم اسم جمع . وقرأ طلحة بن مصرف : « نسقى » بضم النون من أسقى { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } عالي السن ، وهذا من تمام كلامهما ، أي لا يقدر أن يسقي ماشيته من الكبر ، فلذلك احتجنا ، ونحن امرأتان ضعيفتان أن نسقي الغنم لعدم وجود رجل يقوم لنا بذلك فلما سمع موسى كلامهما { سقى لهما } رحمة لهما ، أي سقى أغنامهما لأجلهما ، « ثم » لما فرغ من السقي لهما { تولى إِلَى الظل } أي : انصرف إليه ، فجلس فيه . قيل : كان هذا الظل ظل سمرة هنالك . ثم قال لما أصابه من الجهد ، والتعب منادياً لربه { إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ } أيّ خير كان { فَقِيرٌ } أي محتاج إلى ذلك . قيل : أراد بذلك الطعام ، واللام في : { لِمَا أَنزَلْتَ } معناها : إلى . قال الأخفش : يقال : هو فقير له ، وإليه .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، والمحاملي في أماليه من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } قال : ثلاثاً وثلاثين سنة { واستوى } قال : أربعين سنة . وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب المعمرين من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه قال : الأشد : ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين ، والاستواء : ما بين الثلاثين إلى الأربعين ، فإذا زاد على الأربعين أخذ في النقصان . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضاً في قوله : { وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا } قال : نصف النهار .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء الخراساني ، عنه أيضاً في الآية قال : ما بين المغرب والعشاء . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً { هذا مِن شِيعَتِهِ } قال : إسرائيلي { وهذا مِنْ عَدُوّهِ } قال : قبطي { فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ } الإسرائيلي { عَلَى الذي مِنْ عَدُوّهِ } القبطي { فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ } قال : فمات ، قال : فكبر ذلك على موسى . وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { فَإِذَا الذي استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ } قال : هو صاحب موسى الذي استنصره بالأمس . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : الذي استنصره هو الذي استصرخه . وأخرج ابن المنذر عن الشعبي قال : من قتل رجلين فهو جبار ، ثم تلا هذه الآية : { إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض } ، وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : لا يكون الرجل جباراً حتى يقتل نفسين .
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال : خرج موسى خائفاً يترقب جائعاً ليس معه زاد حتى انتهى إلى ماء مدين ، و { عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ الناس يَسْقُونَ } ، وامرأتان جالستان بشياههما ، فسألهما : { مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } قال : فهل قربكما ماء؟ قالتا : لا ، إلاّ بئر عليها صخرة قد غطيت بها لا يطيقها نفر ، قال : فانطلقا ، فأريانيها ، فانطلقتا معه ، فقال بالصخرة بيده ، فنحاها ، ثم استقى لهم سجلاً واحداً فسقى الغنم ، ثم أعاد الصخرة إلى مكانها { ثُمَّ تولى إِلَى الظل فَقَالَ رَبّ إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } ، فسمعتا ، قال : فرجعتا إلى أبيهما فاستنكر سرعة مجيئهما ، فسألهما فأخبرتاه ، فقال لإحداهما : انطلقي فادعيه ، فأتت ، فقالت : { قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } فمشت بين يديه ، فقال لها : امشي خلفي ، فإني امرؤ من عنصر إبراهيم لا يحلّ لي أن أرى منك ما حرّم الله عليّ ، وأرشديني الطريق { فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استئجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استجرت القوي الأمين } قال لها أبوها : ما رأيت من قوّته وأمانته؟ فأخبرته بالأمر الذي كان ، قالت : أما قوّته فإنه قلب الحجر وحده ، وكان لا يقلبه إلاّ النفر . وأما أمانته فقال : امشي خلفي وأرشديني الطريق لأني امرؤ من عنصر إبراهيم لا يحلّ لي منك ما حرّمه الله .
قيل لابن عباس : أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال : أبرّهما وأوفاهما .
وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة في المصنف ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب قال : إن موسى لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ، فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ولا يطيق رفعها إلاّ عشرة رجال ، فإذا هو بامرأتين ، قال : ما خطبكما؟ فحدّثتاه ، فأتى الحجر ، فرفعه وحده ، ثم استقى فلم يستق إلاّ ذنوباً واحداً حتى رويت الغنم ، فرجعت المرأتان إلى أبيهما ، فحدّثتاه ، وتولى موسى إلى الظلّ فقال : { ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير } .
قال : { فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى استحياء } واضعة ثوبها على وجهها ليست بسلفع من النساء خرّاجة ولاجة { قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } فقام معها موسى ، فقال لها : إمشي خلفي وانعتي لي الطريق ، فإني أكره أن يصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك ، فلما انتهى إلى أبيها قصّ عليه ، فقالت إحداهما : { يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القويّ الأمين } قال : يا بنية ما علمك بأمانته وقوّته؟ قالت : أما قوّته فرفعه الحجر ولا يطيقه إلاّ عشرة رجال ، وأما أمانته فقال : امشي خلفي وانعتي لي الطريق؛ فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك ، فتصف لي جسدك ، فزاده ذلك رغبة فيه ، فقال : { إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ } إلى قوله : { سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصالحين } أي في حسن الصحبة ، والوفاء بما قلت { قَالَ } موسى : { ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } قال : نعم ، قال : { والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } فزوَّجه ، وأقام معه يكفيه ويعمل في رعاية غنمه ، وما يحتاج إليه ، وزوجه صفوراً وأختها شرفاً ، وهما اللتان كانتا تذودان . قال ابن كثير بعد إخراجه لطرق من هذا الحديث : إن إسناده صحيح . والسلفع من النساء الجريئة السليطة .
وأخرج أحمد في الزهد ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ } قال : ورد الماء حيث ورد ، وإنه لتتراءى خضرة البقل في بطنه من الهزال . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : خرج موسى من مصر إلى مدين وبينه وبينها ثماني ليالٍ ، ولم يكن له طعام إلاّ ورق الشجر ، وخرج حافياً ، فما وصل إليها حتى وقع خفّ قدمه . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً قال : { تَذُودَانِ } : تحبسان غنمهما حتى ينزع الناس ، ويخلو لهما البئر . وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والضياء في المختارة عنه أيضاً قال : لقد قال موسى : { ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير } وهو أكرم خلقه عليه ، ولقد افتقر إلى شقّ تمرة ، ولقد لصق بطنه بظهره من شدّة الجوع . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : ما سأل إلاّ الطعام . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : سأل فلقاً من الخبز يشدّ بها صلبه من الجوع .
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
قوله : { فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحياء } في الكلام حذف يدل عليه السياق . قال الزجاج : تقديره : فذهبتا إلى أبيهما سريعتين ، وكانت عادتهما الإبطاء في السقي ، فحدّثتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما ، فأمر الكبرى من بنتيه ، وقيل : الصغرى أن تدعوه له ، فجاءته . وذهب أكثر المفسرين إلى أنهما ابنتا شعيب ، وقيل : هما ابنتا أخي شعيب ، وأن شعيباً كان قد مات . والأوّل أرجح ، وهو ظاهر القرآن . ومحلّ { تَمْشِي } النصب على الحال من فاعل جاءت ، { وعلى استحياء } حال أخرى ، أي كائنة على استحياء حالتي المشي والمجيء فقط ، وجملة : { قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ } مستأنفة جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : ماذا قالت له لما جاءته؟ { لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } أي جزاء سقيك لنا { فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص } القصص مصدر سمي به المفعول أي : المقصوص يعني أخبره بجميع ما اتفق له من عند قتله القبطيّ إلى عند وصوله إلى ماء مدين { قَالَ } شعيب : { لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين } أي فرعون وأصحابه؛ لأن فرعون لا سلطان له على مدين ، وللرازي في هذا الموضع إشكالات باردة جدًّا لا تستحق أن تذكر في تفسير كلام الله عزّ وجلّ ، والجواب عليها يظهر للمقصر فضلاً عن الكامل ، وأشفّ ما جاء به أن موسى كيف أجاب الدعوة المعللة بالجزاء لما فعله من السقي . ويجاب عنه : بأنه اتبع سنة الله في إجابة دعوة نبيّ من أنبياء الله ، ولم تكن تلك الإجابة لأجل أخذ الأجر على هذا العمل ، ولهذا ورد أنه لما قدّم إليه الطعام قال : إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهباً .
{ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استئجره } القائلة هي التي جاءته ، أي استأجره ليرعى لنا الغنم ، وفيه دليل على أن الإجارة كانت عندهم مشروعة . وقد اتفق على جوازها ، ومشروعيتها جميع علماء الإسلام إلا الأصم فإنه عن سماع أدلتها أصمّ ، وجملة : { إِنَّ خَيْرَ مَنِ استئجرت القوى الأمين } تعليل لما وقع منها من الإرشاد لأبيها إلى استئجار موسى ، أي إنه حقيق باستئجارك له لكونه جامعاً بين خصلتي القوّة والأمانة . وقد تقدّم في المرويّ عن ابن عباس ، وعمر : أن أباها سألها عن وصفها له بالقوّة والأمانة فأجابته بما تقدّم قريباً : { قَالَ إِنّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ } فيه مشروعية عرض وليّ المرأة لها على الرجل ، وهذه سنة ثابتة في الإسلام ، كما ثبت من عرض عمر لابنته حفصة على أبي بكر وعثمان ، والقصة معروفة ، وغير ذلك مما وقع في أيام الصحابة أيام النبوّة ، وكذلك ما وقع من عرض المرأة لنفسها على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } أي على أن تكون أجيراً لي ثماني سنين . قال الفراء : يقول : على أن تجعل ثوابي أن ترعى غنمي ثماني سنين ، ومحل : { على أَن تَأْجُرَنِي } النصب على الحال ، وهو مضارع أجرته ، ومفعوله الثاني محذوف ، أي نفسك و { ثَمَانِيَ حِجَجٍ } ظرف . قال المبرد : يقال : أجرت داري ومملوكي غير ممدود وممدوداً ، والأوّل أكثر { فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ } أي إن أتممت ما استأجرتك عليه من الرعي عشر سنين فمن عندك ، أي تفضلاً منك لا إلزاماً مني لك ، جعل ما زاد على الثمانية الأعوام إلى تمام عشرة أعوام ، موكولاً إلى المروءة . ومحل { فَمِنْ عِندِكَ } الرفع على تقدير مبتدأ ، أي : فهي من عندك { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ } بإلزامك إتمام العشرة الأعوام ، واشتقاق المشقة من الشقّ ، أي شق ظنه نصفين ، فتارة يقول : أطيق ، وتارة يقول : لا أطيق . ثم رغبه في قبول الإجارة فقال : { سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصالحين } في حسن الصحبة والوفاء . وقيل : أراد الصلاح على العموم ، فيدخل صلاح المعاملة في تلك الإجارة تحت الآية دخولاً أولياً ، وقيد ذلك بالمشيئة تفويضاً للأمر إلى توفيق الله ومعونته .
ثم لما فرغ شعيب من كلامه قرره موسى فقال : { ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ } واسم الإشارة مبتدأ ، وخبره ما بعده ، والإشارة إلى ما تعاقدا عليه ، وجملة : { أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ } شرطية ، وجوابها : { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } ، والمراد بالأجلين : الثمانية الأعوام والعشرة الأعوام ، ومعنى { قضيَت } : وفيت به ، وأتممته ، والأجلين مخفوض بإضافة أيّ إليه ، وما زائدة . وقال ابن كيسان : «ما» في موضع خفض بإضافة أيّ إليها ، والأجلين بدل منها ، وقرأ الحسن : " أيما " بسكون الياء ، وقرأ ابن مسعود : " أيّ الأجلين ما قضيت " ومعنى { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } : فلا ظلم عليّ بطلب الزيادة على ما قضيته من الأجلين ، أي كما لا أطالب بالزيادة على الثمانية الأعوام لا أطالب بالنقصان على العشرة . وقيل : المعنى كما لا أطالب بالزيادة على العشرة الأعوام لا أطالب بالزيادة على الثمانية الأعوام ، وهذا أظهر . وأصل العدوان : تجاوز الحد في غير ما يجب . قال المبرد : وقد علم موسى أنه لا عدوان عليه إذا أتمهما ، ولكنه جمعهما؛ ليجعل الأوّل كالأتمّ في الوفاء . قرأ الجمهور : { عدوان } بضم العين . وقرأ أبو حيوة بكسرها . { والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } أي على ما نقول من هذه الشروط الجارية بيننا شاهد وحفيظ ، فلا سبيل لأحدنا إلى الخروج عن شيء من ذلك . قيل : هو من قول موسى . وقيل : من قول شعيب ، والأوّل أولى لوقوعه في جملة كلام موسى .
{ فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل } هو أكملهما ، وأوفاهما ، وهو العشرة الأعوام ، كما سيأتي آخر البحث ، والفاء فصيحة { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } إلى مصر ، وفيه دليل على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء { آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً قَالَ } أي أبصر من الجهة التي تلي الطور ناراً ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة طه مستوفًى .
{ قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إِنّي ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِي ءَاتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ } وهذا تقدّم تفسيره أيضاً في سورة طه ، وفي سورة النمل . { أَوْ جَذْوَةٍ } قرأ الجمهور بكسر الجيم ، وقرأ حمزة ويحيى بن وثاب بضمها ، وقرأ عاصم ، والسلمي ، وذرّ بن حبيش بفتحها . قال الجوهري : الجِذوة والجُذوة والجَذوة : الجمرة ، والجمع جِذَى وجُذى وجَذى . قال مجاهد : في الآية أن الجذوة قطعة من الجمر في لغة جميع العرب . وقال أبو عبيدة : هي القطعة الغليظة من الخشب كأن في طرفها ناراً ، ولم يكن ، ومما يؤيد أن الجذوة الجمرة قول السلمي :
وبدلت بعد المسك والبان شقوة ... دخان الجذا في رأس أشمط شاحب
{ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } أي تستدفئون بالنار { فَلَمَّا أتاها } أي : أتى النار التي أبصرها ، وقيل : أتى الشجرة ، والأوّل أولى لعدم تقدّم الذكر للشجرة { نُودِيَ مِن شَاطِيء الواد الأيمن } : « من » لابتداء الغاية ، و { الأيمن } صفة للشاطىء ، وهو من اليمن وهو البركة ، أو من جهة اليمين المقابل لليسار بالنسبة إلى موسى ، أي الذي يلي يمينه دون يساره ، وشاطىء الوادي : طرفه . وكذا شطه . قال الراغب : وجمع الشاطىء أشطاء ، وقوله : { فِي البقعة المباركة } متعلق ب { نودي } أو بمحذوف على أنه حال من الشاطىء ، و { مِنَ الشجرة } بدل اشتمال من شاطىء الواد؛ لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطىء . وقال الجوهري : يقول : شاطىء الأودية ولا يجمع . قرأ الجمهور : { في البقعة } بضم الباء ، وقرأ أبو سلمة والأشهب العقيلي بفتحها ، وهي لغة حكاها أبو زيد { أَن ياموسى إِنّي أَنَا الله } : « أن » هي المفسرة ، ويجوز أن تكون هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن ، وجملة النداء مفسرة له ، والأوّل أولى . قرأ الجمهور بكسر همزة { إني } على إضمار القول أو على تضمين النداء معناه . وقرىء بالفتح ، وهي قراءة ضعيفة .
وقوله : { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } معطوف على { أَن ياموسى } وقد تقدّم تفسير هذا وما بعده في طه والنمل ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : فألقاها فصارت ثعباناً فاهتزت { فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ } في سرعة حركتها مع عظم جسمها { ولى مُدْبِراً } أي منهزماً ، وانتصاب { مدبراً } على الحال وقوله : { وَلَمْ يُعَقّبْ } في محل نصب أيضاً على الحال أي لم يرجع { ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين } قد تقدّم تفسير جميع ما ذكر هنا مستوفى فلا نعيده ، وكذلك قوله : { اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } جناح الإنسان : عضده ، ويقال لليد كلها : جناح ، أي اضمم إليك يديك المبسوطتين؛ لتتقي بهما الحية كالخائف الفزع ، وقد عبر عن هذا المعنى بثلاث عبارات : الأولى : { اسلك يدك في جيبك } .
والثانية : { واضمم إليك جناحك } . والثالثة : { وأدخل يدك في جيبك } . ويجوز أن يراد بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا ثعباناً . ومعنى { مِنَ الرهب } : من أجل الرهب ، وهو الخوف . قرأ الجمهور : « الرهب » بفتح الراء والهاء ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم وقرأ حفص والسلمي وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق بفتح الراء وإسكان الهاء . وقرأ ابن عامر والكوفيون إلاّ حفصاً بضم الراء وإسكان الهاء . وقال الفراء : أراد بالجناح : عصاه ، وقال بعض أهل المعاني : الرهب : الكمّ بلغة حمير وبني حنيفة . قال الأصمعي : سمعت أعرابياً يقول لآخر : أعطني ما في رهبك ، فسألته عن الرهب ، فقال : الكم . فعلى هذا يكون اضمم إليك يدك وأخرجها من الكمّ { فَذَانِكَ } إشارة إلى العصا واليد { برهانان مِن رَّبّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ } أي : حجتان نيرتان ودليلان واضحان ، قرأ الجمهور : { فذانك } بتخفيف النون ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديدها ، قيل : والتشديد لغة قريش . وقرأ ابن مسعود وعيسى بن عمر وشبل وأبو نوفل بياء تحتية بعد نون مكسورة ، والياء بدل من إحدى النونين ، وهي لغة هذيل ، وقيل : لغة تميم ، وقوله : { مِن رَبّكَ } متعلق بمحذوف ، أي كائنان منه ، وكذلك قوله : { إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ } متعلق بمحذوف ، أي مرسلان ، أو واصلان إليهم { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين } : متجاوزين الحدّ في الظلم ، خارجين عن الطاعة أبلغ خروج ، والجملة تعليل لما قبلها .
وقد أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن أبي الهذيل عن عمر بن الخطاب في قوله : { تَمْشِي عَلَى استحياء } قال : جاءت مستترة بكمّ درعها على وجهها . وأخرجه ابن المنذر عن أبي الهذيل موقوفاً عليه . وأخرج ابن عساكر عن أبي حازم قال : لما دخل موسى على شعيب إذا هو بالعشاء ، فقال له شعيب : كل ، قال موسى : أعوذ بالله ، قال : ولم؟ ألست بجائع؟ قال : بلى ، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً عما سقيت لهما ، وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئاً من عمل الآخرة بملء الأرض ذهباً ، قال : لا والله ، ولكنها عادتي وعادة آبائي ، نقري الضيف ونطعم الطعام ، فجلس موسى فأكل . وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك بن أنس أنه بلغه أن شعيباً هو الذي قصّ عليه القصص . وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال : كان صاحب موسى أثرون ابن أخي شعيب النبي . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : الذي استأجر موسى يثربي صاحب مدين . وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه قال : كان اسم ختن موسى يثربي . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال : يقول أناس : إنه شعيب ، وليس بشعيب ، ولكنه سيد الماء يومئذٍ .
وأخرج ابن ماجه والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن عتبة بن المنذر السلمي قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ سورة : { طسم } حتى إذا بلغ قصة موسى قال : « إن موسى أجر نفسه ثماني سنين أو عشراً على عفة فرجه وطعام بطنه ، فلما وفى الأجل » قيل : يا رسول الله ، أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال : « أبرّهما وأوفاهما ، فلما أراد فراق شعيب أمر امرأته : أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به ، فأعطاها ما ولدت غنمه » الحديث بطوله . وفي إسناده مسلمة بن علي الحسني الدمشقي البلاطي ضعفه الأئمة . وقد روي من وجه آخر ، وفيه نظر . وإسناده عند ابن أبي حاتم هكذا : حدثنا أبو زرعة عن يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدّثني ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي قال : سمعت عتبة ابن المنذر السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره . وابن لهيعة ضعيف ، وينظر في بقية رجال السند . وأخرج ابن جرير عن أنس طرفاً منه موقوفاً عليه .
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة في المصنف ، وعبد بن حميد والبخاري وابن المنذر وابن مردويه من طرق عن ابن عباس : أنه سئل : أيّ الأجلين قضى موسى؟ فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما ، إن رسول الله إذا قال فعل . وأخرج البزار وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عنه نحوه ، وقوله : « إن رسول الله إذا قال فعل » فيه نظر؛ فإن موسى لم يقل إنه سيقضي أكثر الأجلين بل قال : { أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ } . وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن موسى قضى أتمّ الأجلين من طرق . وأخرج الخطيب في تاريخه عن أبي ذرّ قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى؟ فقل : خيرهما وأبرهما ، وإن سئلت أيّ المرأتين تزوّج؟ فقل الصغرى منهما ، وهي التي جاءت فقالت : { يا أبت استأجره } » وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال لي جبريل : يا محمد إن سألك اليهود أيّ الأجلين قضى موسى؟ فقل : أوفاهما ، وإن سألوك أيهما تزوّج؟ فقل : الصغرى منهما » وأخرج البزار وابن أبن حاتم ، والطبراني في الأوسط ، وابن مردويه . قال السيوطي : بسندٍ ضعيف ، عن أبي ذرّ : أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال : « أبرّهما وأوفاهما » ، قال : « وإن سئلت أيّ المرأتين تزوّج؟ فقل : الصغرى منهما »
قال البزار : لا نعلم يروي عن أبي ذر إلاّ بهذا الإسناد ، وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث عويد بن أبي عمران ، وهو ضعيف . وأما روايات أنه قضى أتمّ الأجلين فلها طرق يقوّي بعضها بعضاً . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدّي قال : قال ابن عباس : لما قضى موسى الأجل سار بأهله ، فضلّ الطريق ، وكان في الشتاء فرفعت له نار ، فلما رآها ظنّ أنها نار ، وكانت من نور الله { فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إِنّي ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلّي آتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ } فإن لم أجد خبراً آتيكم بشهاب قبس { لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } من البرد . وأخرج ابن أبي حاتم عنه : { لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } لعلي أجد من يدلني على الطريق ، وكانوا قد ضلوا الطريق . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { أَوْ جَذْوَةٍ } قال : شهاب . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { نُودِيَ مِن شَاطِىء الواد } قال : كان النداء من السماء الدنيا ، وظاهر القرآن يخالف ما قاله رضي الله عنه . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن عبد الله بن مسعود قال : ذكرت لي الشجرة التي أوى إليها موسى ، فسرت إليها يومي وليلتي حتى صبحتها ، فإذا هي سمرة خضراء ترف ، فصليت على النبي صلى الله عليه وسلم وسلمت ، فأهوى إليها بعيري وهو جائع ، فأخذ منها ملء فيه فلاكه فلم يستطع أن يسيغه ، فلفظه ، فصليت على النبيّ وسلمت ، ثم انصرفت .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } قال : يدك .
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
لما سمع موسى قول الله سبحانه : { فَذَانِكَ برهانان مِن رَّبِّك إلى فِرْعَوْنَ } طلب منه سبحانه أن يقوّي قلبه ، فقال : { رَبّ إِنّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً } يعني القبطي الذي وكزه فقضى عليه { فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } بها . { وَأَخِى هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّي لِسَاناً } لأنه كان في لسان موسى حبسة كما تقدّم بيانه ، والفصاحة لغةً : الخلوص ، يقال : فصح اللبن ، وأفصح : فهو فصيح ، أي خلص من الرغوة ، ومنه فصح الرجل : جادت لغته ، وأفصح : تكلم بالعربية . وقيل : الفصيح : الذي ينطق ، والأعجم : الذي لا ينطق . وأما في اصطلاح أهل البيان فالفصاحة : خلوص الكلمة عن تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس . وفصاحة الكلام : خلوصه من ضعف التأليف ، والتعقيد . وانتصاب { رِدْءاً } على الحال ، والردء : المعين ، من أردأته ، أي أعنته ، يقال : فلان ردء فلان : إذا كان ينصره ، ويشدّ ظهره ، ومنه قول الشاعر :
ألم تر أن أصرم كان ردئي ... وخير الناس في قلّ ومال
وحذفت الهمزة تخفيفاً في قراءة نافع ، وأبي جعفر ، ويجوز أن يكون ترك الهمز من قولهم : أردى على المائة : إذا زاد عليها ، فكان المعنى : أرسله معي زيادة في تصديقي ، ومنه قول الشاعر :
وأسمر خطياً كأن كعوبه ... نوى القسب قد أردى ذراعاً على العشر
وروي البيت في الصحاح بلفظ قد أربى ، والقسب : الصلب ، وهو الثمر اليابس الذي يتفتت في الفم ، وهو صلب النواة . { يُصَدّقُنِي } قرأ عاصم وحمزة : { يصدقني } بالرفع على الاستئناف ، أو الصفة ل { ردءاً } ، أو الحال من مفعول أرسله ، وقرأ الباقون بالجزم على جواب الأمر ، وقرأ أبي وزيد بن عليّ : « يصدقون » أي فرعون وملؤه { إِنّي أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ } إذا لم يكن معي هارون لعدم انطلاق لساني بالمحاجة . { قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } أي نقويك به ، فشدّ العضد كناية عن التقوية ، ويقال في دعاء الخير : شدّ الله عضدك ، وفي ضدّه : فتّ الله في عضدك . قرأ الجمهور : { عضُدك } بفتح العين . وقرأ الحسين وزيد ابنا عليّ بضمها . وروي عن الحسن أيضاً أنه قرأ بضمة وسكون . وقرأ عيسى بن عمر بفتحهما . { وَنَجْعَلُ لَكُمَا سلطانا } أي حجة وبرهاناً ، أو تسلطاً عليه ، وعلى قومه { فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا } بالأذى ولا يقدرون على غلبتكما بالحجة ، و { بئاياتنا } متعلق بمحذوف ، أي تمتنعان منهم بآياتنا ، أو اذهبا بآياتنا . وقيل : الباء للقسم ، وجوابه { يصلون } وما أضعف هذا القول . وقال الأخفش وابن جرير : في الكلام تقديم ، وتأخير ، والتقدير : { أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون } بآياتنا ، وأوّل هذه الوجوه أولاها ، وفي : { أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون } تبشير لهما ، وتقوية لقلوبهما .
{ فَلَمَّا جَاءهُم موسى بئاياتنا بينات } البينات : الواضحات الدلالة ، وقد تقدّم وجه إطلاق الآيات ، وهي جمع على العصا ، واليد في سورة طه { قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى } أي مختلق مكذوب اختلقته من قبل نفسك { وَمَا سَمِعْنَا بهذا } الذي جئت به من دعوى النبوّة ، أو ما سمعنا بهذا السحر { في آبَآئِنَا الأولين } أي كائناً ، أو واقعاً في آبائنا الأوّلين .
{ وَقَالَ موسى رَبّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بالهدى مِنْ عِندِهِ } يريد نفسه ، وإنما جاء بهذه العبارة؛ لئلا يصرّح لهم بما يريده قبل أن يوضح لهم الحجة ، والله أعلم . قرأ الجمهور : { وقال موسى } بالواو ، وقرأ مجاهد وابن كثير وابن محيصن : « قال موسى » بلا واو ، وكذلك هو في مصاحف أهل مكة . وقرأ الكوفيون إلا عاصماً : « ومن يكون عاقبة الدار » بالتحتية على أن اسم يكون عاقبة الدار . والتذكير لوقوع الفصل؛ ولأنه تأنيث مجازي ، وقرأ الباقون : { تكون } بالفوقية ، وهي أوضح من القراءة الأولى ، والمراد بالدار هنا : الدنيا ، وعاقبتها : هي الدار الآخرة ، والمعنى : لمن تكون له العاقبة المحمودة ، والضمير في : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } للشأن أي : إن الشأن أنه لا يفلح الظالمون أي لا يفوزون بمطلب خير ، ويجوز أن يكون المراد بعاقبة الدار خاتمة الخير .
وقال فرعون : { ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِي } : تمسك اللعين بمجرّد الدعوى الباطلة مغالطة لقومه منه ، وقد كان يعلم أنه ربه الله عزّ وجلّ ، ثم رجع إلى تكبره ، وتجبره ، وإيهام قومه بكمال اقتداره فقال : { فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين } أي : اطبخ لي الطين حتى يصير آجرًّا { فاجعل لّي صَرْحاً } أي اجعل لي من هذا الطين الذي توقد عليه حتى يصير آجرًّا صرحاً ، أي قصراً عالياً { لَّعَلّي أَطَّلِعُ إلى إله موسى } أي أصعد إليه { وَإِنّى لأظُنُّهُ مِنَ الكاذبين } والطلوع والإطلاع واحد ، يقال : طلع الجبل واطلع { واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق } المراد بالأرض : أرض مصر ، والاستكبار : التعظم بغير استحقاق ، بل بالعدوان؛ لأنه لم يكن له حجة يدفع بها ما جاء به موسى ، ولا شبهة ينصبها في مقابلة ما أظهره من المعجزات { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ } أي فرعون ، وجنوده ، والمراد بالرجوع البعث والمعاد . قرأ نافع ، وشيبة وابن محيصن وحميد ويعقوب وحمزة والكسائي : « لاَ يَرْجِعُونَ » بفتح الياء وكسر الجيم مبنياً للفاعل . وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الجيم مبنياً للمفعول ، واختار القراءة الأولى أبو حاتم ، واختار القراءة الثانية أبو عبيد .
{ فأخذناه وَجُنُودَهُ } بعد أن عتوا في الكفر ، وجاوزوا الحدّ فيه { فنبذناهم فِي اليم } أي طرحناهم في البحر ، وقد تقدّم بيان الكلام في هذا { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين } الخطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، أي انظر يا محمد كيف كان آخر أمر الكافرين حين صاروا إلى الهلاك؟ { وجعلناهم أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار } أي صيرناهم رؤساء متبوعين مطاعين في الكافرين ، فكأنهم بإصرارهم على الكفر والتمادي فيه يدعون أتباعهم إلى النار؛ لأنهم اقتدوا وسلكوا طريقتهم تقليداً لهم .
وقيل : المعنى : إنه يأتمّ بهم أي : يعتبر بهم من جاء بعدهم ، ويتعظ بما أصيبوا به ، والأول أولى { وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ } أي لا ينصرهم أحد ولا يمنعهم مانع من عذاب الله { وأتبعناهم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً } أي : طرداً وإبعاداً ، أو أمرنا العباد بلعنهم ، فكل من ذكرهم لعنهم ، والأوّل أولى . { وَيَوْمَ القيامة هُمْ مّنَ المقبوحين } المقبوح : المطرود المبعد . وقال أبو عبيدة وابن كيسان : معناه : من المهلكين الممقوتين . وقال أبو زيد : قبح الله فلاناً قبحاً وقبوحاً أبعده من كل خير . قال أبو عمرو : قبحت وجهه بالتخفيف بمعنى قبحت بالتشديد ، ومثله قول الشاعر :
ألا قبح الله البراجم كلها ... وقبح يربوعاً وقبح دارما
وقيل : المقبوح المشوّه الخلقة ، والعامل في يوم محذوف يفسره من المقبوحين ، والتقدير : وقبحوا يوم القيامة . أو هو معطوف على موضع في هذه الدنيا ، أي وأتبعناهم لعنة يوم القيامة ، أو معطوف على لعنة على حذف مضاف ، أي ولعنة يوم القيامة . { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب } يعني : التوراة { مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الأولى } أي : قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم . وقيل : من بعد ما أهلكنا فرعون وقومه وخسفنا بقارون . وانتصاب { بَصَائِرَ للنَّاسِ } على أنه مفعول له أو حال ، أي آتيناه الكتاب لأجل يتبصر به الناس ، أو حال كونه بصائر للناس يبصرون به الحق ويهتدون إليه وينقذون أنفسهم به من الضلالة بالاهتداء به . { وَرَحْمَةً } لهم من الله رحمهم بها { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } هذه النعم ، فيشكرون الله ، ويؤمنون به ، ويجيبون داعيه إلى ما فيه خير لهم .
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : { رِدْءاً يُصَدّقُنِي } كي يصدقني . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : لما قال فرعون { ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِي } قال جبريل : يا ربّ طغى عبدك فائذن لي في هلكه ، فقال : يا جبريل هو عبدي ، ولن يسبقني ، له أجل قد أجلته حتى يجيء ذلك الأجل ، فلما قال : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } قال الله : يا جبريل سبقت دعوتك في عبدي وقد جاء أوان هلاكه . وأخرج ابن مردويه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كلمتان قالهما فرعون : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِي } وقوله : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] » قال : « كان بينهما أربعون عاماً { فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى } » [ النازعات : 25 ] . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : بلغني أن فرعون أوّل من طبخ الآجرّ . وأخرجه ابن المنذر عن ابن جريج . وأخرج البزار وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما أهلك الله قوماً ولا قرناً ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء منذ أنزل التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخت قردة ، ألم تر إلى قوله : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الأولى } » وأخرجه البزار وابن جرير وابن أبي حاتم من وجه آخر عن أبي سعيد موقوفاً .
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
قوله : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي } هذا شروع في بيان إنزال القرآن ، أي وما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربيّ ، فيكون من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، واختاره الزجاج . وقال الكلبي : بجانب الوادي الغربيّ ، أي حيث ناجى موسى ربه { إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر } أي عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه { وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين } لذلك حتى تقف على حقيقته ، وتحكيه من جهة نفسك . وإذا تقرّر أن الوقوف على تفاصيل تلك الأحوال لا يمكن أن يكون بالحضور عندها من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، والمشاهدة لها منه ، وانتفى بالأدلة الصحيحة أنه لم يتلقّ ذلك من غيره من البشر ، ولا علمه معلم منهم كما قدّمنا تقريره ، تبين أنه من عند الله سبحانه بوحي منه إلى رسوله بواسطة الملك النازل بذلك ، فهذا الكلام هو على طريقة : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقلامهم أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } [ آل عمران : 44 ] وقيل : معنى { إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر } : إذ كلفناه وألزمناه . وقيل : أخبرناه أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم ، ولا يستلزم نفي كونه بجانب الغربي نفي كونه من الشاهدين ، لأنه يجوز أن يحضر ولا يشهد . قيل : المراد بالشاهدين : السبعون الذين اختارهم موسى للميقات .
{ وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً } أي خلقنا أمماً بين زمانك يا محمد وزمان موسى { فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر } طالت عليهم المهلة وتمادى عليهم الأمد فتغيرت الشرائع والأحكام وتنوسيت الأديان فتركوا أمر الله ، ونسوا عهده ، ومثله قوله سبحانه : { فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الحديد : 16 ] ، وقد استدلّ بهذا الكلام على أن الله سبحانه قد عهد إلى موسى عهوداً في محمد صلى الله عليه وسلم وفي الإيمان به فلما طال عليهم العمر ، ومضت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود ، وتركوا الوفاء بها { وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ } أي مقيماً بينهم كما أقام موسى حتى تقرأ على أهل مكة خبرهم وتقصّ عليهم من جهة نفسك . يقال : ثوى يثوي ثواء وثويا فهو ثاوٍ . قال ذو الرمة :
لقد كان في حول ثواء ثويته ... تقضي لبانات ويسأم سائم
وقال العجاج :
فبات حيث يدخل الثوّى ... يعني : الضيف المقيم .
وقال آخر :
طال الثواء على رسوم المنزل ... { تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياتنا } أي تقرأ على أهل مدين آياتنا ، وتتعلم منهم ، وقيل : تذكرهم بالوعد والوعيد ، والجملة في محل نصب على الحال أو خبر ثان ، ويجوز أن تكون هذه الجملة هي الخبر ، و { ثاوياً } حال . وجعلها الفراء مستأنفة كأنه قيل : وها أنت تتلو على أمتك { وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } أي أرسلناك إلى أهل مكة ، وأنزلنا عليك هذه الأخبار ، ولولا ذلك لما علمتها .
قال الزجاج : المعنى : أنك لم تشاهد قصص الأنبياء ، ولا تليت عليك ، ولكنا أوحيناها إليك وقصصناها عليك .
{ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا } أي وما كنت يا محمد بجانب الجبل المسمى بالطور إذ نادينا موسى لما أتى إلى الميقات مع السبعين . وقيل : المنادى هو أمة محمد صلى الله عليه وسلم . قال وهب : وذلك أن موسى لما ذكر الله له فضل محمد ، وأمته قال : يا رب أرنيهم ، فقال الله : إنك لن تدركهم ، وإن شئت ناديتهم فأسمعتك صوتهم ، قال : بلى يا ربّ ، فقال الله : يا أمة محمد ، فأجابوا من أصلاب آبائهم ، فيكون معنى الآية على هذا : ما كنت يا محمد بجانب الطور إذ كلمنا موسى ، فنادينا أمتك ، وسيأتي ما يدلّ على هذا ويقوّيه ويرجحه في آخر البحث إن شاء الله { ولكن رَّحْمَةً مّن رَّبِكَ } أي ولكن فعلنا ذلك رحمة منا بكم ، وقيل : ولكن أرسلنا بالقرآن رحمة لكم ، وقيل : علمناك . وقيل : عرفناك . قال الأخفش : هو منصوب يعني : رحمة ، على المصدر ، أي ولكن رحمناك رحمة . وقال الزجاج : هو مفعول من أجله ، أي فعلنا ذلك بك لأجل الرحمة . قال النحاس : أي لم تشهد قصص الأنبياء ولا تليت عليك ، ولكن بعثناك وأوحيناها إليك للرحمة . وقال الكسائي : هو خبر لكان مقدّرة ، أي ولكن كان ذلك رحمة ، وقرأ عيسى بن عمر ، وأبو حيوة : « رحمة » بالرفع على تقدير : ولكن أنت رحمة . وقال الكسائي : الرفع على أنها اسم كان المقدّرة ، وهو بعيد إلاّ على تقدير أنها تامة ، واللام في : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ } متعلق بالفعل المقدّر على الاختلاف في تقديره . والقوم : هم أهل مكة ، فإنه لم يأتهم نذير ينذرهم قبله صلى الله عليه وسلم ، وجملة { ما أتاهم } إلخ ، صفة ل { قوماً } ، { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي يتعظون بإنذارك .
{ وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } لولا هذه هي الامتناعية ، وأن وما في حيزها في موضع رفع بالابتداء وجوابها محذوف . قال الزجاج : وتقديره : ما أرسلنا إليهم رسلاً : يعني : أن الحامل على إرسال الرسل هو إزاحة عللهم ، فهو كقوله سبحانه : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } [ النساء : 165 ] وقدّره ابن عطية : لعاجلناهم بالعقوبة ، ووافقه على هذا التقدير الواحدي فقال : والمعنى : لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة بكفرهم ، وقوله : { فَيَقُولُواْ } عطف على تصيبهم ، ومن جملة ما هو في حيز لولا ، أي فيقولوا : { رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } ولولا هذه الثانية هي التحضيضية أي : هلا أرسلت إلينا رسولاً من عندك ، وجوابها هو : { فَنَتَّبِعَ ءاياتك } وهو منصوب بإضمار أن لكونه جواباً للتحضيض ، والمراد بالآيات : الآيات التنزيلية الظاهرة الواضحة ، وإنما عطف القول على تصيبهم؛ لكونه هو السبب للإرسال ، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها جعلت العقوبة كأنها هي السبب لإرسال الرسل بواسطة القول { وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } بهذه الآيات ، ومعنى الآية : أنا لو عذبناهم لقالوا : طال العهد بالرسل ، ولم يرسل الله إلينا رسولاً ، ويظنون أن ذلك عذر لهم ولا عذر لهم بعد أن بلغتهم أخبار الرسل ، ولكنا أكملنا الحجة وأزحنا العلة وأتممنا البيان بإرسالك يا محمد إليهم .
{ فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ موسى } أي فلما جاء أهل مكة الحقّ من عند الله ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل عليه من القرآن قالوا تعنتاً منهم وجدالاً بالباطل : هلا أوتي هذا الرسول مثل ما أوتي موسى من الآيات التي من جملتها التوراة المنزلة عليه جملة واحدة؟ فأجاب الله عليهم بقوله : { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ } أي من قبل هذا القول ، أو من قبل ظهور محمد؛ والمعنى : أنهم قد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمد ، وجملة : { قَالُواْ سِاحْرَانِ تظاهرا } مستأنفة مسوقة لتقرير كفرهم ، وعنادهم ، والمراد بقولهم : { ساحران } موسى ومحمد ، والتظاهر : التعاون ، أي تعاونا على السحر ، والضمير في قوله : { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ } لكفار قريش ، وقيل : هو لليهود ، والأوّل أولى ، فإن اليهود لا يصفون موسى بالسحر إنما يصفه بذلك كفار قريش وأمثالهم إلاّ أن يراد من أنكر نبوّة موسى كفرعون وقومه ، فإنهم وصفوا موسى وهارون بالسحر ، ولكنهم ليسوا من اليهود ويمكن أن يكون الضمير لمن كفر بموسى ومن كفر بمحمد ، فإن الذين كفروا بموسى وصفوه بالسحر ، والذين كفروا بمحمد وصفوه أيضاً بالسحر . وقيل : المعنى : أولم يكفر اليهود في عصر محمد بما أوتي موسى من قبله بالبشارة بعيسى ومحمد . قرأ الجمهور : { ساحران } وقرأ الكوفيون : { سحران } يعنون التوراة والقرآن . وقيل : الإنجيل والقرآن . قال بالأوّل الفراء ، وقال بالثاني أبو زيد . وقيل : إن الضمير في : { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ } لليهود ، وأنهم عنوا بقولهم : { ساحران } عيسى ومحمداً . { وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلّ كافرون } أي بكلّ من موسى ومحمد ، أو من موسى وهارون ، أو من موسى وعيسى على اختلاف الأقوال ، وهذا على قراءة الجمهور ، وأما على القراءة الثانية فالمراد : التوراة والقرآن أو الإنجيل والقرآن . وفي هذه الجملة تقرير لما تقدّمها من وصف النبيين بالسحر ، أو من وصف الكتابين به وتأكيد لذلك .
ثم أمر الله سبحانه نبيه أن يقول لهم قولاً يظهر به عجزهم ، فقال : { قُلْ فَأْتُواْ بكتاب مّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ } أي قل لهم يا محمد : فأتوا بكتاب هو أهدى من التوراة والقرآن ، و { أتبعه } جواب الأمر ، وقد جزمه جمهور القراء لذلك . وقرأ زيد ابن عليّ برفع : « أَتَّبِعْهُ » على الاستئناف ، أي فأنا أتبعه . قال الفراء : إنه على هذه القراءة صفة للكتاب ، وفي هذا الكلام تهكم به .
وفيه أيضاً دليل على أن قراءة الكوفيين أقوى من قراءة الجمهور؛ لأنه رجع الكلام إلى الكتابين لا إلى الرسولين ، ومعنى { إِن كُنتُمْ صادقين } : إن كنتم فيما وصفتم به الرسولين أو الكتابين صادقين . { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ } أي لم يفعلوا ما كلفتهم به من الإتيان بكتاب هو أهدى من الكتابين ، وجواب الشرط : { فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ } أي آراءهم الزائغة واستحساناتهم الزائفة بلا حجة ، ولا برهان ، وقيل : المعنى : فإن لم يستجيبوا لك بالإيمان بما جئت به ، وتعدية { يستجيبوا } باللام هو أحد الجائزين { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ الله } أي لا أحد أضلّ منه ، بل هو الفرد الكامل في الضلال { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } لأنفسهم بالكفر وتكذيب الأنبياء والإعراض عن آيات الله .
{ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول } قرأ الجمهور : { وصلنا } بتشديد الصاد ، وقرأ الحسن بتخفيفها ، ومعنى الآية : أتبعنا بعضه بعضاً وبعثنا رسولاً بعد رسول . وقال أبو عبيدة والأخفش : معناه : أتممنا . وقال ابن عيينة ، والسديّ : بينا . وقال ابن زيد : وصلنا لهم خير الدنيا بخير الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا ، والأولى أولى ، وهو مأخوذ من وصل الحبال بعضها ببعض ، ومنه قول الشاعر :
قل لبني مروان ما بال ذمتي ... بحبل ضعيف لا تزال توصل
وقال امرؤ القيس :
يقلب كفيه بخيط موصل ... والضمير في : { لهم } عائد إلى قريش . وقيل : إلى اليهود . وقيل : للجميع { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } فيكون التذكر سبباً لإيمانهم مخافة أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم . { الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ } أي من قبل القرآن ، والموصول مبتدأ ، وخبره : { هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } أخبر سبحانه أن طائفة من بني إسرائيل آمنوا بالقرآن كعبد الله بن سلام وسائر من أسلم من أهل الكتاب ، وقيل : الضمير في { مِن قَبْلِهِ } يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، والأوّل أولى . والضمير في { به } راجع إلى القرآن على القول الأوّل ، وإلى محمد على القول الثاني . { وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ } أي وإذا يتلى القرآن عليهم قالوا : صدّقنا به { إِنَّهُ الحق مِن رَّبّنَا } أي الحق الذي نعرفه المنزل من ربنا { إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } أي مخلصين لله بالتوحيد ، أو مؤمنين بمحمد وبما جاء به لما نعلمه من ذكره في التوراة والإنجيل من التبشير به ، وأنه سيبعث آخر الزمان وينزل عليه القرآن ، والإشارة بقوله : { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } إلى الموصوفين بتلك الصفات ، والباء في { بِمَا صَبَرُواْ } للسببية أي بسبب صبرهم وثباتهم على الإيمان بالكتاب الأول والكتاب الآخر ، وبالنبيّ الأوّل والنبيّ الآخر { وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة } الدرء : الدفع ، أي يدفعون بالاحتمال والكلام الحسن ما يلاقونه من الأذى .
وقيل : يدفعون بالطاعة المعصية . وقيل : بالتوبة ، والاستغفار ، من الذنوب . وقيل : بشهادة أن لا إله إلاّ الله الشرك { وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } أي ينفقون أموالهم في الطاعات وفيما أمر به الشرع .
ثم مدحهم سبحانه بإعراضهم عن اللغو ، فقال : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ } تكرّماً وتنزّهاً وتأدّباً بآداب الشرع ، ومثله قوله سبحانه : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً } [ الفرقان : 72 ] واللغو هنا هو ما يسمعونه من المشركين من الشتم لهم ولدينهم والاستهزاء بهم { وَقَالُواْ لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم } لا يلحقنا من ضرر كفركم شيء ، ولا يلحقكم من نفع إيماننا شيء { سلام عَلَيْكُمُ } ليس المراد بهذا السلام سلام التحية؛ ولكن المراد به : سلام المتاركة؛ ومعناه : أمنة لكم منا وسلامة ، لا نجاريكم ولا نجاوبكم فيما أنتم فيه . قال الزجاج : وهذا قبل الأمر بالقتال { لاَ نَبْتَغِي الجاهلين } أي لا نطلب صحبتهم . وقال مقاتل : لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه . وقال الكلبي : لا نحبّ دينكم الذي أنتم عليه . { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } من الناس ، وليس ذلك إليك { ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَاء } هدايته { وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } أي القابلين للهداية المستعدّين لها ، وهذه الآية نزلت في أبي طالب كما ثبت في الصحيحين وغيرهما ، وقد تقدّم ذلك في براءة . قال الزجاج : أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب ، وقد تقرّر في الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فيدخل في ذلك أبو طالب دخولاً أولياً .
{ وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } أي قال مشركو قريش ، ومن تابعهم : إن ندخل في دينك يا محمد نتخطف من أرضنا ، أي يتخطفنا العرب من أرضنا يعنون مكة ولا طاقة لنا بهم ، وهذا من جملة أعذارهم الباطلة ، وتعللاتهم العاطلة ، والتخطف في الأصل : هو الانتزاع بسرعة . قرأ الجمهور : { نتخطف } بالجزم جواباً للشرط ، وقرأ المنقري بالرفع على الاستئناف . ثم ردّ الله ذلك عليهم ردًّا مصدّراً باستفهام التوبيخ والتقريع فقال : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً } أي ألم نجعل لهم حرماً ذا أمن؟ قال أبو البقاء : عدّاه بنفسه؛ لأنه بمعنى جعل كما صرّح بذلك في قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً } [ العنكبوت : 67 ] ، ثم وصف هذا الحرم بقوله : { يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء } أي تجمع إليه الثمرات على اختلاف أنواعها من الأراضي المختلفة وتحمل إليه . قرأ الجمهور : { يجبى } بالتحتية اعتباراً بتذكير كل شيء ووجود الحائل بين الفعل وبين ثمرات ، وأيضاً ليس تأنيث ثمرات بحقيقيّ ، واختار قراءة الجمهور أبو عبيد لما ذكرنا ، وقرأ نافع بالفوقية اعتباراً بثمرات . وقرأ الجمهور أيضاً : { ثمرات } بفتحتين ، وقرأ { أبان } بضمتين ، جمع ثمر بضمتين ، وقرىء بفتح الثاء وسكون الميم { رّزْقاً مّن لَّدُنَّا } منتصب على المصدرية؛ لأن معنى { يجبى } : نرزقهم ، ويجوز أن ينتصب على أنه مفعول له لفعل محذوف ، أي نسوقه إليهم رزقاً من لدنا ، ويجوز أن ينتصب على الحال ، أي رازقين { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } لفرط جهلهم ومزيد غفلتهم وعدم تفكرهم في أمر معادهم ورشادهم؛ لكونهم ممن طبع الله على قلبه ، وجعل على بصره غشاوة .
وقد أخرج الفريابي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم والبيهقي معاً في الدلائل عن أبي هريرة في قوله : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا } قال : نودوا : يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني ، واستجبت لكم قبل أن تدعوني . وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعاً . وأخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن عساكر عنه من وجه آخر بنحوه . وأخرج ابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل ، وأبو نصر السجزي في الإبانة ، والديلمي عن عمرو بن عبسة قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا } : ما كان النداء ، وما كانت الرحمة؟ قال : « كتبه الله قبل أن يخلق خلقه بألفي عام ، ثم وضعه على عرشه ، ثم نادى : يا أمة محمد ، سبقت رحمتي غضبي ، أعطيتكم قبل أن تسألوني ، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ، فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبدي ورسولي صادقاً ، أدخلته الجنة » وأخرج الختلي في الديباج عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعاً مثله . وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن حذيفة في قوله : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا } مرفوعاً ، قال : « نودوا : يا أمة محمد ما دعوتمونا إذ استجبنا لكم ، ولا سألتمونا إذ أعطيناكم » وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً : « إن الله نادى : يا أمة محمد أجيبوا ربكم » ، قال : « فأجابوا وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم إلى يوم القيامة فقالوا : لبيك ، أنت ربنا حقاً ونحن عبيدك حقاً ، قال : صدقتم أنا ربكم وأنتم عبيدي حقاً ، قد عفوت عنكم قبل أن تدعوني ، وأعطيتكم قبل أن تسألوني ، فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلاّ الله دخل الجنة » وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الهالك في الفترة يقول : ربّ لم يأتني كتاب ولا رسول » ، ثم قرأ هذه الآية { رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } الآية . وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { قَالُواْ سِحْرَانِ تظاهرا } إلخ . قال : هم أهل الكتاب { إِنَّا بِكُلّ كافرون } يعني : بالكتابين : التوراة والفرقان . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وأبو القاسم البغوي والباوردي وابن قانع الثلاثة في معاجم الصحابة ، والطبراني وابن مردويه بسندٍ جيد عن رفاعة القرظي قال : نزلت : { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } إلى قوله : { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } في عشرة رهط أنا أحدهم .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس { الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } قال : يعني من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين : رجل من أهل الكتاب آمن بالكتاب الأوّل والآخر ، ورجل كانت له أمة ، فأدّبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوّجها ، وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ، ونصح لسيده » وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث المسيب ومسلم وغيره من حديث أبي هريرة أن قوله : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } نزلت في أبي طالب لما امتنع من الإسلام . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس : أن ناساً من قريش قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إن نتبعك يتخطفنا الناس ، فنزلت : { وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ } الآية . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء } قال : ثمرات الأرض .
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
قوله { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ } أي من أهل قرية كانوا في خفض عيش ودعة ورخاء ، فوقع منهم البطر ، فأهلكوا . قال الزجاج : البطر الطغيان عند النعمة . قال عطاء : عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام . قال الزجاج ، والمازني : معنى { بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } : بطرت في معيشتها ، فلما حذفت «في» تعدّى الفعل كقوله : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] . وقال الفراء : هو منصوب على التفسير كما تقول : أبطرك مالك وبطرته ، ونظيره عنده قوله تعالى : { إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] ونصب المعارف على التمييز غير جائز عند البصريين؛ لأن معنى التفسير : أن تكون النكرة دالة على الجنس . وقيل : إن معيشتها منصوبة ببطرت على تضمينه معنى : جهلت { فَتِلْكَ مساكنهم لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي لم يسكنها أحد بعدهم إلاّ زمناً قليلاً ، كالذي يمرّ بها مسافراً فإنه يلبث فيها يوماً أو بعض يوم ، أو لم يبق من يسكنها فيها إلاّ أياماً قليلة لشؤم ما وقع فيها من معاصيهم . وقيل : إن الاستثناء يرجع إلى المساكن ، أي لم تسكن بعد هلاك أهلها إلاّ قليلاً من المساكن ، وأكثرها خراب ، كذا قال الفراء ، وهو قول ضعيف { وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين } منهم لأنهم لم يتركوا وارثاً يرث منازلهم وأموالهم ، ومحلّ جملة : { لَمْ تُسْكَن } الرفع على أنها خبر ثان لاسم الإشارة ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال .
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ فِي أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءاياتنا } أي وما صحّ ، ولا استقام أن يكون الله مهلك القرى الكافرة ، أي الكافر أهلها حتى يبعث في أمها رسولاً ينذرهم ، ويتلوا عليهم آيات الله الناطقة بما أوجبه الله عليهم ، وما أعدّه من الثواب للمطيع والعقاب للعاصي ، ومعنى { أُمّهَا } : أكبرها وأعظمها ، وخص الأعظم منها بالبعثة إليها؛ لأن فيها أشراف القوم ، وأهل الفهم والرأي ، وفيها الملوك والأكابر ، فصارت بهذا الاعتبار كالأم لما حولها من القرى . وقال الحسن : أمّ القرى أوّلها . وقيل : المراد بأمّ القرى هنا : مكة ، كما في قوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 96 ] الآية ، وقد تقدّم بيان ما تضمنته هذه الآية في آخر سورة يوسف ، وجملة : { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءاياتنا } في محل نصب على الحال ، أي تالياً عليهم ومخبراً لهم أن العذاب سينزل بهم إن لم يؤمنوا { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون } هذه الجملة معطوفة على الجملة التي قبلها ، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال ، أي وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد أن نبعث إلى أمها رسولاً يدعوهم إلى الحق إلاّ حال كونهم ظالمين قد استحقوا الإهلاك لإصرارهم على الكفر بعد الإعذار إليهم ، وتأكيد الحجة عليهم كما في قوله سبحانه :
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } [ هود : 117 ] .
ثم قال سبحانه : { وَمَا أُوتِيتُم مّن شَيْء فمتاع الحياة الدنيا وَزِينَتُهَا } الخطاب لكفار مكة ، أي وما أعطيتم من شيء من الأشياء فهو متاع الحياة الدنيا تتمتعون به مدّة حياتكم أو بعض حياتكم ثم تزولون عنه ، أو يزول عنكم ، وعلى كل حال فذلك إلى فناء ، وانقضاء { وَمَا عِندَ الله } من ثوابه وجزائه { خَيْرٌ } من ذلك الزائل الفاني؛ لأنه لذّة خالصة عن شوب الكدر { وأبقى } لأنه يدوم أبداً ، وهذا ينقضي بسرعة { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أن الباقي أفضل من الفاني ، وما فيه لذّة خالصة غير مشوبة أفضل من اللذات المشوبة بالكدر المنغصة بعوارض البدن والقلب ، وقرىء بنصب : " متاع " على المصدرية ، أي : فتمتعون متاع الحياة ، قرأ أبو عمرو : " يعقلون " بالتحتية ، وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب وقراءتهم أرجح لقوله : { وَمَا أُوتِيتُم } .
{ أَفَمَن وعدناه وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ } أي وعدناه بالجنة ، وما فيها من النعم التي لا تحصى فهو لاقيه ، أي مدركه لا محالة فإن الله لا يخلف الميعاد { كَمَن مَّتَّعْنَاهُ متاع الحياة الدنيا } فأعطي منها بعض ما أراد مع سرعة زواله ، وتنغيصه { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين } هذا معطوف على قوله : { مَّتَّعْنَاهُ } داخل معه في حيز الصلة مؤكد لإنكار التشابه ، ومقرّر له ، والمعنى : ثم هذا الذي متعناه هو يوم القيامة من المحضرين النار ، وتخصيص المحضرين بالذين أحضروا للعذاب اقتضاه المقام ، والاستفهام للإنكار ، أي ليس حالهما سواء ، فإن الموعود بالجنة لا بدّ أن يظفر بما وعد به مع أنه لا يفوته نصيبه من الدنيا ، وهذا حال المؤمن . وأما حال الكافر فإنه لم يكن معه إلاّ مجرّد التمتيع بشيء من الدنيا يستوي فيه هو والمؤمن ، وينال كل واحد منهما حظه منه ، وهو صائر إلى النار ، فهل يستويان؟ قرأ الجمهور : { ثم هو } بضم الهاء ، وقرأ الكسائي وقالون بسكون الهاء إجراء ل { ثم } مجرى الواو ، والفاء .
وانتصاب «يوم» في قوله : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } بالعطف على يوم القيامة ، أو بإضمار اذكر ، أي يوم ينادي الله سبحانه هؤلاء المشركين { فَيَقُولُ } لهم : { أَيْنَ شُرَكَائِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أنهم ينصرونكم ويشفعون لكم ، ومفعولا يزعمون محذوفان ، أي تزعمونهم شركائي لدلالة الكلام عليهما { قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول } أي حقت عليهم كلمة العذاب ، وهم رؤساء الضلال الذين اتخذوهم أرباباً من دون الله ، كذا قال الكلبي . وقال قتادة : هم الشياطين { رَبَّنَا هَؤُلاء الذين أَغْوَيْنَا } أي دعوناهم إلى الغواية يعنون الأتباع { أغويناهم كَمَا غَوَيْنَا } أي أضللناهم كما ضللنا { تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ } منهم ، والمعنى : أن رؤساء الضلال ، أو الشياطين تبرّؤوا ممن أطاعهم . قال الزجاج : برىء بعضهم من بعض ، وصاروا أعداء كما قال الله تعالى :
{ الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } [ الزخرف : 67 ] ، و { هؤلاء } مبتدأ ، { والذين أغوينا } صفته ، والعائد محذوف ، أي أغويناهم ، والخبر : { أغويناهم } ، و { كما غوينا } نعت مصدر محذوف . وقيل : إن خبر هؤلاء هو الذين أغوينا ، وأما { أغويناهم كما غوينا } فكلام مستأنف لتقرير ما قبله ، ورجح هذا أبو عليّ الفارسي ، واعترض الوجه الأوّل ، وردّ اعتراضه أبو البقاء . { مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } وإنما كانوا يعبدون أهواءهم . وقيل : إن «ما» في { ما كانوا } مصدرية ، أي تبرأنا إليك من عبادتهم إيانا ، والأول أولى .
{ وَقِيلَ ادعوا شُرَكَاءكُمْ } أي قيل للكفار من بني آدم هذا القول ، والمعنى : استغيثوا بآلهتكم التي كنتم تعبدونهم من دون الله في الدنيا لينصروكم ويدفعوا عنكم { فَدَعَوْهُمْ } عند ذلك { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } ولا نفعوهم بوجه من وجوه النفع { وَرَأَوُاْ العذاب } أي التابع والمتبوع قد غشيهم { لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } قال الزجاج : جواب لو محذوف ، والمعنى : لو أنهم كانوا يهتدون لأنجاهم ذلك ، ولم يروا العذاب . وقيل : المعنى : لو أنهم كانوا يهتدون ما دعوهم : وقيل : المعنى : لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا لعلموا أن العذاب حق . وقيل : المعنى : لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب . وقيل : قد آن لهم أن يهتدوا لو كانوا يهتدون . وقيل : غير ذلك . والأوّل أولى ، ويوم في قوله : { وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المرسلين } معطوف على ما قبله ، أي ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين لما بلغوكم رسالاتي .
{ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنباء يَوْمَئِذٍ } أي خفيت عليهم الحجج حتى صاروا كالعمي الذين لا يهتدون ، والأصل فعموا عن الأنباء ، ولكنه عكس الكلام للمبالغة ، والأنباء الأخبار ، وإنما سمى حججهم أخباراً؛ لأنها لم تكن من الحجة في شيء ، وإنما هي أقاصيص ، وحكايات { فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ } لا يسأل بعضهم بعضاً ، ولا ينطقون بحجة ولا يدرون بما يجيبون ، لأن الله قد أعذر إليهم في الدنيا فلا يكون لهم عذر ، ولا حجة يوم القيامة . قرأ الجمهور : ( عميت ) بفتح العين ، وتخفيف الميم . وقرأ الأعمش وجناح بن حبيش بضم العين وتشديد الميم . { فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صالحا فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين } أن تاب من الشرك وصدّق بما جاء به الرسل ، وأدّى الفرائض واجتنب المعاصي فعسى أن يكون من المفلحين ، أي الفائزين بمطالبهم من سعادة الدارين ، وعسى وإن كانت في الأصل للرجاء فهو من الله واجب على ما هو عادة الكرام . وقيل : إن الترجي هو من التائب المذكور لا من جهة الله سبحانه .
{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء } أي يخلقه { وَيَخْتَارُ } ما يشاء أن يختاره . { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] وهذا متصل بذكر الشركاء الذين عبدوهم ، واختاروهم أي الاختيار إلى الله { مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة } أي التخير ، وقيل : المراد من الآية : أنه ليس لأحد من خلق الله أن يختار ، بل الاختيار هو إلى الله عزّ وجلّ .
وقيل : إن هذه الآية جواب عن قولهم : { لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] وقيل : هذه الآية جواب عن اليهود حيث قالوا : لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل لآمنا به .
قال الزجاج : الوقف على { ويختار } تام على أن " ما " نافية . قال : ويجوز أن تكون «ما» في موضع نصب ب { يختار } ، والمعنى : ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة . والصحيح الأوّل لإجماعهم على الوقف . وقال ابن جرير : إن تقدير الآية : ويختار لولايته الخيرة من خلقه ، وهذا في غاية من الضعف . وجوّز ابن عطية أن تكون «كان» تامة ، ويكون لهم الخيرة جملة مستأنفة . وهذا أيضاً بعيد جداً . وقيل : إن «ما» مصدرية ، أي : يختار اختيارهم ، والمصدر واقع موقع المفعول به ، أي ويختار مختارهم ، وهذا كالتفسير لكلام ابن جرير ، والراجح أوّل هذه التفاسير ، ومثله قوله سبحانه : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة } [ الأحزاب : 36 ] والخيرة : التخير كالطيرة فإنها التطير ، اسمان يستعملان استعمال المصدر ، ثم نزّه سبحانه نفسه ، فقال : { سبحان الله } أي تنزّه تنزّهاً خاصاً به من غير أن ينازعه منازع ، ويشاركه مشارك { وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي عن الذين يجعلونهم شركاء له ، أو عن إشراكهم .
{ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } أي تخفيه من الشرك ، أو من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو من جميع ما يخفونه مما يخالف الحق { وَمَا يُعْلِنُونَ } أي يظهرونه من ذلك . قرأ الجمهور : { تكن } بضم التاء الفوقية وكسر الكاف . وقرأ ابن محيصن وحميد بفتح الفوقية وضم الكاف . ثم تمدح سبحانه وتعالى بالوحدانية والتفرّد باستحقاق الحمد ، فقال : { وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الحمد فِي الأولى } أي الدنيا { والآخرة } أي الدار الآخرة { وَلَهُ الحكم } يقضي بين عباده بما شاء من غير مشارك { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } بالبعث ، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، لا ترجعون إلى غيره .
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون } قال : قال الله : لم نهلك قرية بإيمان ، ولكنه أهلك القرى بظلم إذا ظلم أهلها ، ولو كانت مكة آمنت لم يهلكوا مع من هلك ، ولكنهم كذبوا ، وظلموا فبذلك هلكوا . وأخرج مسلم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله عزّ وجلّ : يا ابن آدم مرضت فلم تعدني " الحديث بطوله . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن عبد بن عبيد بن عمير قال : " يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا ، وأعطش ما كانوا ، وأعرى ما كانوا ، فمن أطعم لله عزّ وجلّ أطعمه الله ، ومن كسا لله عزّ وجلّ كساه الله ، ومن سقى لله عزّ وجلّ سقاه الله ، ومن كان في رضا الله كان الله على رضاه " وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد : { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنباء } قال : الحجج { فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ } قال : بالأنساب . وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح تعليم الاستخارة وكيفية صلاتها ودعائها ، فلا نطول بذكره .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
قوله : { قُلْ أَرَءيْتُمْ } أي أخبروني { إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَدا } السرمد : الدائم المستمرّ ، من السرد ، وهو المتابعة فالميم زائدة ، ومنه قول طرفة :
لعمرك ما أمري عليك بغمة ... نهاري ولا ليلي عليك بسرمد
وقيل : إن ميمه أصلية ، ووزنه فعلل لا مفعل ، وهو الظاهر ، بيّن لهم سبحانه أنه مهّد لهم أسباب المعيشة ليقوموا بشكر النعمة؛ فإنه لو كان الدهر الذي يعيشون فيه ليلاً دائماً إلى يوم القيامة لم يتمكنوا من الحركة فيه ، وطلب ما لا بدّ لهم منه مما يقوم به العيش من المطاعم والمشارب والملابس . ثم امتنّ عليهم فقال { مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء } أي هل لكم إلاه من الآلهة التي تعبدونها يقدر على أن يرفع هذه الظلمة الدائمة عنكم بضياء؟ أي بنور تطلبون فيه المعيشة وتبصرون فيه ما تحتاجون إليه ، وتصلح به ثماركم وتنمو عنده زرائعكم وتعيش فيه دوابكم { أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } هذا الكلام سماع فهم وقبول ، وتدبر وتفكر .
ثم لما فرغ من الامتنان عليهم بوجود النهار امتنّ عليهم بوجود الليل فقال : { قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة } أي جعل جميع الدهر الذي تعيشون فيه نهاراً إلى يوم القيامة { مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ } أي تستقرّون فيه من النصب والتعب ، وتستريحون مما تزاولون من طلب المعاش والكسب { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } هذه المنفعة العظيمة إبصار متعظ متيقظ؛ حتى تنزجروا عما أنتم فيه من عبادة غير الله ، وإذا أقرّوا بأنه لا يقدر على ذلك إلاّ الله عزّ وجلّ فقد لزمتهم الحجة ، وبطل ما يتمسكون به من الشبه الساقطة ، وإنما قرن سبحانه بالضياء قوله : { أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من درك منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل قوله : { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } لأن البصر يدرك ما لا يدركه السمع من ذلك { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } أي في الليل { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي في النهار بالسعي في المكاسب { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي ولكي تشكروا نعمة الله عليكم ، وهذه الآية من باب اللف والنشر ، كما في قول امرىء القيس :
كأنّ قلوب الطير رطباً ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
واعلم أنه وإن كان السكون في النهار ممكناً ، وطلب الرزق في الليل ممكناً ، وذلك عند طلوع القمر على الأرض ، أو عند الاستضاءة بشيء بما له نور كالسراج ، لكن ذلك قليل نادر مخالف لما يألفه العباد فلا اعتبار به . { وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } كرّر سبحانه هذا لاختلاف الحالتين؛ لأنهم ينادون مرة فيدعون الأصنام ، وينادون أخرى فيسكتون ، وفي هذا التكرير أيضاً تقريع بعد تقريع وتوبيخ بعد توبيخ ، وقوله : { وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيداً } عطف على ينادي ، وجاء بصيغة الماضي للدلالة على التحقق ، والمعنى : وأخرجنا من كل أمة من الأمم شهيداً يشهد عليهم .
قال مجاهد : هم الأنبياء ، وقيل : عدول كلّ أمة ، والأوّل أولى . ومثله قوله سبحانه : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] ثم بين سبحانه ما يقوله لكل أمة من هذه الأمم بقوله : { فَقُلْنَا هَاتُواْ برهانكم } أي حجتكم ودليلكم بأن معي شركاء ، فعند ذلك اعترفوا وخرسوا عن إقامة البرهان ، ولذا قال : { فَعَلِمُواْ أَنَّ الحق لِلَّهِ } في الإلهية ، وأنه وحده لا شريك له { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي غاب عنهم وبطل وذهب ما كانوا يختلقونه من الكذب في الدنيا بأن لله شركاء يستحقون العبادة .
ثم عقب سبحانه حديث أهل الضلال بقصة قارون لما اشتملت عليه من بديع القدرة وعجيب الصنع فقال : { إِنَّ قارون كَانَ مِن قَوْمِ موسى } قارون على وزن فاعول اسم أعجمي ممتنع للعجمة والعلمية ، وليس بعربيّ مشتق من قرنت . قال الزجاج : لو كان قارون من قرنت الشيء لانصرف . قال النخعي وقتادة وغيرهما : كان ابن عمّ موسى ، وهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ، وموسى هو ابن عمران بن قاهث . وقال ابن إسحاق : كان عمّ موسى لأب وأم فجعله أخا لعمران ، وهما ابنا قاهث . وقيل : ابن خالة موسى ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة منه ، فنافق كما نافق السامري وخرج عن طاعة موسى ، وهو معنى قوله : { فبغى عَلَيْهِمْ } أي جاوز الحدّ في التجبر والتكبر عليهم ، وخرج عن طاعة موسى وكفر بالله . قال الضحاك : بغيه على بني إسرائيل استخفافه بهم لكثرة ماله ، وولده . وقال قتادة : بغيه بنسبته ما آتاه الله من المال إلى نفسه لعلمه ، وحيلته . وقيل : كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل ، فتعدّى عليهم وظلمهم . وقيل : كان بغيه بغير ذلك مما لا يناسب معنى الآية .
{ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز } جمع كنز ، وهو المال المدّخر . قال عطاء : أصاب كنزاً من كنوز يوسف . وقيل : كان يعمل الكيمياء ، و«ما» في قوله : { مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ } موصولة صلتها إنّ وما في حيزها ، ولهذا كسرت . ونقل الأخفش الصغير عن الكوفيين منع جعل المكسورة ، وما في حيزها صلة الذي ، واستقبح ذلك منهم لوروده في الكتاب العزيز في هذا الموضع . والمفاتح جمع مفتح بالكسر ، وهو ما يفتح به ، وقيل : المراد بالمفاتح : الخزائن ، فيكون واحدها مفتح بفتح الميم . قال الواحدي : إن المفاتح : الخزائن في قول أكثر المفسرين ، كقوله : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب } [ الأنعام : 59 ] قال : وهو اختيار الزجاج ، فإنه قال : الأشبه في التفسير أن مفاتحه : خزائن ماله .
وقال آخرون : هي جمع مفتاح ، وهو ما يفتح به الباب ، وهذا قول قتادة ومجاهد { لَتَنُوأُ بالعصبة أُوْلِي القوة } هذه الجملة خبر إن وهي واسمها وخبرها صلة ما الموصولة ، يقال : ناء بحمله : إذا نهض به مثقلاً ، ويقال : ناء بي الحمل : إذا أثقلني ، والمعنى : يثقلهم حمل المفاتح . قال أبو عبيدة : هذا من المقلوب ، والمعنى : لتنوء بها العصبة ، أي تنهض بها . قال أبو زيد : نؤت بالحمل : إذا نهضت به . قال الشاعر :
إنا وجدنا خلفاً بئس الخلف ... عبداً إذا ما ناء بالحمل وقف
وقال الفراء : معنى تنوء بالعصبة : تميلهم بثقلها كما يقال : يذهب بالبؤس ، ويُذهِب البؤس وذهبت به ، وأذهبته وجئت به وأجأته ونؤت به ، وأنأته ، واختار هذا النحاس ، وبه قال كثير من السلف . وقيل : هو مأخوذ من النأي ، وهو البعد وهو بعيد . وقرأ بديل بن ميسرة : « لينوء » بالياء ، أي لينوء الواحد منها أو المذكور ، فحمل على المعنى . والمراد بالعصبة : الجماعة التي يتعصب بعضها لبعض . قيل : هي من الثلاثة إلى العشرة ، وقيل : من العشرة إلى الخمسة عشر ، وقيل : ما بين العشرة إلى العشرين ، وقيل : من الخمسة إلى العشرة . وقيل : أربعون . وقيل : سبعون . وقيل : غير ذلك { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ } الظرف منصوب ب { تنوء } . وقيل : ب { آتيناه } ، وقيل : ب { بغى } . وردّهما أبو حبان بأن الإيتاء والبغي لم يكونا ذلك الوقت . وقال ابن جرير : هو متعلق بمحذوف ، وهو : اذكر ، والمراد بقومه هنا : هم المؤمنون من بني إسرائيل . وقال الفراء : هو موسى ، وهو جمع أريد به الواحد ، ومعنى { لا تفرح } : لا تبطر ولا تأشر { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين } البطرين الأشرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم . قال الزجاج : المعنى لا تفرح بالمال ، فإن الفرح بالمال لا يؤدي حقه ، وقيل : المعنى : لا تفسد : كقول الشاعر :
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة ... وتحمل أخرى أفرحتك الودائع
أي أفسدتك . قال الزجاج : الفرحين ، والفارحين سواء . وقال الفراء : معنى الفرحين : الذين هم في حال الفرح ، والفارحين : الذين يفرحون في المستقبل . وقال مجاهد : معنى { لا تفرح } : لا تبغ إن الله لا يحبّ الفرحين الباغين . وقيل معناه : لا تبخل إن الله لا يحبّ الباخلين .
{ وابتغ فِيمَا ءَاتَاكَ الله الدار الآخرة } أي واطلب فيما أعطاك الله من الأموال الدار الآخرة فأنفقه فيما يرضاه الله لا في التجبر والبغي . وقرىء : « واتبع » . { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا } . قال جمهور المفسرين : وهو أن يعمل في دنياه لآخرته ، ونصيب الإنسان عمره ، وعمله الصالح . قال الزجاج : معناه : لا تنس أن تعمل لآخرتك؛ لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا الذي يعمل به لآخرته . وقال الحسن ، وقتادة : معناه : لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه ، وهذا ألصق بمعنى النظم القرآني { وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } أي أحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك بما أنعم به عليك من نعم الدنيا .
وقيل : أطع الله واعبده كما أنعم عليك ، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين ، وغيرهما؛ أن جبريل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال : « أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » { وَلاَ تَبْغِ الفساد فِي الأرض } أي لا تعمل فيها بمعاصي الله { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين } في الأرض .
{ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِي } قال قارون هذه المقالة ردّاً على من نصحه بما تقدّم ، أي إنما أعطيت ما أعطيت من المال لأجل علمي ، فقوله : { على عِلْمٍ } في محل نصب على الحال ، و { عندي } إما ظرف لأوتيته ، وإما صلة للعلم . وهذا العلم الذي جعله سبباً لما ناله من الدنيا ، قيل : هو علم التوراة . وقيل : علمه بوجوه المكاسب والتجارات . وقيل : معرفة الكنوز والدفائن . وقيل : علم الكيمياء . وقيل : المعنى إن الله آتاني هذه الكنوز على علم منه باستحقاقي إياها لفضل علمه مني . واختار هذا الزجاج وأنكر ما عداه . ثم ردّ الله عليه قوله هذا ، فقال : { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً } المراد بالقرون : الأمم الخالية ، ومعنى أكثر جمعاً : أكثر منه جمعاً للمال ، ولو كان المال أو القوّة يدلان على فضيلة لما أهلكهم الله . وقيل : القوّة الآلات . والجمع الأعوان . وهذا الكلام خارج مخرج التقريع والتوبيخ لقارون؛ لأنه قد قرأ التوراة ، وعلم علم القرون الأولى وإهلاك الله سبحانه لهم { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون } أي لا يسألون سؤال استعتاب ، كما في قوله : { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } [ النحل : 84 ] ، { وَمَا هُم من المعتبين } [ فصلت : 24 ] وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ ، كما في قوله : { فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] وقال مجاهد : لا تسأل الملائكة غداً عن المجرمين؛ لأنهم يعرفون بسيماهم ، فإنهم يحشرون سود الوجوه زرق العيون . وقال قتادة : لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها ، بل يدخلون النار . وقيل : لا يسأل مجرمو هذه الأمة عن ذنوب الأمم الخالية .
{ فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ } الفاء للعطف على { قال } وما بينهما اعتراض ، و { فِي زِينَتِهِ } متعلق بخرج ، أو بمحذوف هو حال من فاعل خرج . وقد ذكر المفسرون في هذه الزينة التي خرج فيها روايات مختلفة ، والمراد أنه خرج في زينة انبهر لها من رآها ، ولهذا تمنى الناظرون إليه أن يكون لهم مثلها كما حكى الله عنهم بقوله : { قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا } وزينتها { الدنيا ياليت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارون إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ } أي : نصيب وافر من الدنيا .
واختلف في هؤلاء القائلين بهذه المقالة ، فقيل : هم من مؤمني ذلك الوقت ، وقيل : هم قوم من الكفار .
{ وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم } ، وهم : أحبار بني إسرائيل قالوا للذين تمنوا : { وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ } أي ثواب الله في الآخرة خير مما تمنونه { لّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صالحا } فلا تمنوا عرض الدنيا الزائل الذي لا يدوم { وَلاَ يُلَقَّاهَا } أي هذه الكلمة التي تكلم بها الأحبار ، وقيل : الضمير يعود إلى الأعمال الصالحة . وقيل : إلى الجنة { إِلاَّ الصابرون } على طاعة الله والمصبرون أنفسهم عن الشهوات . { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض } يقال : خسف المكان يخسف خسوفاً : ذهب في الأرض ، وخسف به الأرض خسفاً ، أي غاب به فيها ، والمعنى : أن الله سبحانه غيبه وغيب داره في الأرض { فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله } أي ما كان له جماعة يدفعون ذلك عنه { وَمَا كَانَ } هو في نفسه { مِنَ المنتصرين } من الممتنعين مما نزل به من الخسف .
{ وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بالامس } أي منذ زمان قريب { يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ } أي يقول كل واحد منهم متندّماً على ما فرط منه من التمني . قال النحاس : أحسن ما قيل في هذا ما قاله الخليل وسيبويه ويونس والكسائي : أن القوم تنبهوا ، فقالوا : وي . والمتندم من العرب يقول في خلال ندمه : وي . قال الجوهري : وي كلمة تعجب ، ويقال : ويك ، وقد تدخل وي على كأن المخففة ، والمشدّدة ويكأن الله . قال الخليل : هي مفصولة تقول : وي ، ثم تبتدىء ، فيقول كأن . وقال الفراء : هي كلمة تقرير كقولك : أما ترى صنع الله وإحسانه؟ وقيل : هي كلمة تنبيه بمنزلة ألا . وقال قطرب : إنما هو : ويلك فأسقطت لامه ، ومنه قول عنترة :
ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها ... قول الفوارس ويك عنتر أقدم
وقال ابن الأعرابي : معنى وَيْكَأَنَّ الله : أعلم أن الله . وقال القتيبي : معناها بلغة حمير : رحمة ، وقيل : هي بمعنى ألم تر؟ وروي عن الكسائي أنه قال : هي كلمة تفجع { لَوْلا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا } برحمته وعصمنا من مثل ما كان عليه قارون من البطر ، والبغي ، ولم يؤاخذنا بما وقع منا من ذلك التمني { لَخَسَفَ بِنَا } كما خسف به . قرأ حفص : { لَخَسَفَ } مبنياً للفاعل ، وقرأ الباقون مبنياً للمفعول { وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } أي لا يفوزون بمطلب من مطالبهم { تِلْكَ الدار الآخرة } أي الجنة ، والإشارة إليها لقصد التعظيم لها والتفخيم لشأنها ، كأنه قال : تلك التي سمعت بخبرها وبلغك شأنها { نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض } أي : رفعة وتكبراً على المؤمنين { وَلاَ فَسَاداً } أي عملاً بمعاصي الله سبحانه فيها ، وذكر العلوّ والفساد منكرين في حيز النفي يدلّ على شمولهما لكلّ ما يطلق عليه أنه علوّ وأنه فساد من غير تخصيص بنوع خاص ، أما الفساد فظاهر أنه لا يجوز شيء منه كائناً ما كان ، وأما العلوّ فالممنوع منه ما كان على طريق التكبر على الغير ، والتطاول على الناس ، وليس منه طلب العلو في الحقّ ، والرئاسة في الدين ولا محبة اللباس الحسن والمركوب الحسن والمنزل الحسن .
{ مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا } وهو أن الله يجازيه بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف { وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُواْ السيئات إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي إلاّ مثل ما كانوا يعملون ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقد تقدّم بيان معنى هذه الآية في سورة النمل : { إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرءان } قال المفسرون : أي أنزل عليك القرآن . وقال الزجاج : فرض عليك العمل بما يوجبه القرآن ، وتقدير الكلام : فرض عليك أحكام القرآن وفرائضه { لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ } قال جمهور المفسرين : أي إلى مكة . وقال مجاهد وعكرمة والزهري والحسن : إنّ المعنى : لرادّك إلى يوم القيامة ، وهو اختيار الزجاج ، يقال : بيني وبينك المعاد ، أي يوم القيامة؛ لأن الناس يعودون فيه أحياء . وقال أبو مالك وأبو صالح : لرادّك إلى معاد : إلى الجنة . وبه قال أبو سعيد الخدري ، وروي عن مجاهد . وقيل : { إلى مَعَادٍ } : إلى الموت { قُل رَّبّي أَعْلَمُ مَن جَاء بالهدى وَمَنْ هُوَ فِي ضلال مُّبِينٍ } هذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إنك في ضلال ، والمراد : من جاء بالهدى هو النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ومن هو في ضلال مبين : المشركون ، والأولى حمل الآية على العموم ، وأن الله سبحانه يعلم حال كلّ طائفة من هاتين الطائفتين ، ويجازيها بما تستحقه من خير وشرّ .
{ وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب } أي ما كنت ترجو أنا نرسلك إلى العباد ، وننزل عليك القرآن . وقيل : ما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب بردّك إلى معادك ، والاستثناء في قوله : { إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } منقطع ، أي لكن إلقاؤه عليك رحمة من ربك ، ويجوز أن يكون متصلاً حملاً على المعنى ، كأنه قيل : وما ألقى إليك الكتاب إلاّ لأجل الرحمة من ربك . والأوّل أولى ، وبه جزم الكسائي والفرّاء { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين } أي عونا لهم ، وفيه تعريض بغيره من الأمة . وقيل : المراد : لا تكوننّ ظهيراً لهم بمداراتهم . { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايات الله بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ } أي لا يصدنك يا محمد الكافرون وأقوالهم وكذبهم وأذاهم عن تلاوة آيات الله والعمل بها بعد إذ أنزلها الله إليك وفرضت عليك . قرأ الجمهور بفتح الياء وضم الصاد من صدّه يصدّه . وقرأ عاصم بضم الياء وكسر الصاد ، من أصدّه بمعنى صدّه .
{ وادع إلى رَبّكَ } أي ادع الناس إلى الله ، وإلى توحيده ، والعمل بفرائضه ، واجتناب معاصيه { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } وفيه تعريض بغيره كما تقدّم ، لأنه لا يكون من المشركين بحال من الأحوال ، وكذلك قوله : { وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ } فإنه تعريض لغيره . ثم وحد سبحانه نفسه ، ووصفها بالبقاء والدوام ، فقال : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْء } من الأشياء كائناً ما كان { هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } أي إلاّ ذاته . قال الزجاج : وجهه منصوب على الاستثناء ، ولو كان في غير القرآن كان مرفوعاً بمعنى كلّ شيء غير وجهه هالك ، كما قال الشاعر :
وكلّ أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلاّ الفرقدان
والمعنى كلّ أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه . { لَهُ الحكم } أي القضاء النافذ يقضي بما شاء ، ويحكم بما أراد { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } عند البعث؛ ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، لا إله غيره سبحانه وتعالى .
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { سَرْمَداً } قال : دائماً . وأخرج ابن أبي حاتم عنه { وَضَلَّ عَنْهُم } يوم القيامة { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } قال : يكذبون في الدنيا . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عنه أيضاً : { إِنَّ قارون كَانَ مِن قَوْمِ موسى } قال : كان ابن عمه ، وكان يتبع العلم حتى جمع علماً فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى ، وحسده ، فقال له موسى : إن الله أمرني أن آخذ الزكاة ، فأبى ، فقال : إن موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة ، وجاءكم بأشياء فاحتملتموها ، فتحتملون أن تعطوه أموالكم؟ فقالوا : لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم : أرى أن أرسل إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل ، فنرسلها إليه ، فترميه بأنه أرادها على نفسها ، فأرسلوا إليها ، فقالوا لها : نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك ، قالت : نعم ، فجاء قارون إلى موسى فقال : اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك ، قال : نعم ، فجمعهم فقالوا له : ما أمرك ربك؟ قال : أمرني أن تعبدوا الله ، ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا ، وأمرني إذا زنا ، وقد أحصن أن يرجم ، قالوا : وإن كنت أنت . قال : نعم ، قالوا : فإنك قد زنيت . قال : أنا؟ فأرسلوا للمرأة ، فجاءت ، فقالوا : ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى : أنشدك بالله إلاّ ما صدقت . قالت : أما إذا نشدتني بالله فإنهم دعوني وجعلوا لي جعلاً على أن أقذفك بنفسي ، وأنا أشهد أنك بريء ، وأنك رسول الله ، فخرّ موسى ساجداً يبكي ، فأوحى الله إليه : ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض ، فمرها فتطيعك ، فرفع رأسه ، فقال : خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم ، فجعلوا يقولون : يا موسى يا موسى ، فقال : خذيهم ، فأخذتهم إلى ركبهم ، فجعلوا يقولون : يا موسى يا موسى ، فقال : خذيهم ، فأخذتهم إلى أعناقهم ، فجعلوا يقولون : يا موسى يا موسى ، فقال : خذيهم ، فأخذتهم فغشيتهم ، فأوحى الله : يا موسى سألك عبادي وتضرّعوا إليك فلم تجبهم ، وعزّتي لو أنهم دعوني لأجبتهم .
قال ابن عباس : وذلك قوله : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض } خسف به إلى الأرض السفلى .
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن خيثمة قال : كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود ، كل مفتاح مثل الأصبع ، كل مفتاح على خزانة على حدة ، فإذا ركب حملت المفاتيح على سبعين بغلاً أغرّ محجل . وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عنه قال : وجدت في الإنجيل أن بغال مفاتيح خزائن قارون غر محجلة لا يزيد مفتاح منها على إصبع لكل مفتاح كنز . قلت : لم أجد في الإنجيل هذا الذي ذكره خيثمة . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لَتَنُوأُ بالعصبة } قال : تثقل . وأخرج ابن المنذر عنه قال : لا يرفعها العصبة من الرجال أولو القوّة . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال : العصبة : أربعون رجلاً . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين } قال : المرحين ، وفي قوله : { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا } قال : أن تعمل فيها لآخرتك . وأخرج ابن مردويه عن أوس بن أوس الثقفي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ } في أربعة آلاف بغل . وقد روي عن جماعة من التابعين أقوال في بيان ما خرج به على قومه من الزينة ، ولا يصحّ منها شيء مرفوعاً ، بل هي من أخبار أهل الكتاب كما عرفناك غير مرّة ، ولا أدري كيف إسناد هذا الحديث الذي رفعه ابن مردويه ، فمن ظفر بكتابه ، فلينظر فيه . وأخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض } قال : خسف به إلى الأرض السفلى .
وأخرج المحاملي ، والديلمي في مسند الفردوس عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { تِلْكَ الدار الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً } قال : « التجبر في الأرض والأخذ بغير الحق » وروي نحوه عن مسلم البطين ، وابن جريج ، وعكرمة . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير : { لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض } قال : بغياً في الأرض . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : هو الشرف والعلوّ عند ذوي سلطانهم . وأقول : إن كان ذلك للتقوّي به على الحق ، فهو من خصال الخير لا من خصال الشرّ . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب قال : إن الرجل ليحبّ أن يكون شسع نعله أفضل من شسع نعل صاحبه ، فيدخل في هذه الآية : { تِلْكَ الدار الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً } قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكر هذه الرواية عن عليّ رضي الله عنه : وهذا محمول على من أحبّ ذلك لا لمجرّد التجمل ، فهذا لا بأس به .
فقد ثبت : أن رجلاً قال : يا رسول الله إني أحبّ أن يكون ثوبي حسناً ونعلي حسنة . أفمن الكبر ذلك؟ قال : « لا ، إن الله جميل يحبّ الجمال » وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن عليّ بن أبي طالب : أنه قال : نزلت هذه الآية ، يعني { تِلْكَ الدار الآخرة } إلخ في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس نحوه . وأخرج ابن مردويه عن عدي بن حاتم قال : لما دخل عليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ألقى إليه وسادة ، فجلس على الأرض ، فقال : أشهد أنك لا تبغي علوًّا في الأرض ، ولا فساداً فأسلم .
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك . وأخرج أيضاً ابن مردويه عن عليّ بن الحسين بن واقد : أن قوله تعالى : { إِنَّ الذى فَرَضَ عَلَيْكَ القرءان } الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة حين خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي من طرق عن ابن عباس في قوله : { لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ } قال : إلى مكة . زاد ابن مردويه كما أخرجك منها . وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري : { لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ } قال : الآخرة . وأخرج ابن أبي شيبة ، والبخاري في تاريخه ، وأبو يعلى وابن المنذر عنه أيضاً في قوله : { لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ } قال : معاده : الجنة ، وفي لفظ : معاده آخرته . وأخرج الحاكم في التاريخ ، والديلمي عن عليّ بن أبي طالب قال : { لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ } : الجنة . وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس نحوه .
وأخرج ابن مردويه عنه قال : لما نزلت : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] قالت الملائكة : هلك أهل الأرض ، فلما نزلت : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت } [ آل عمران : 185 ] قالت الملائكة : هلك كلّ نفس ، فلما نزلت : { كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } قالت الملائكة : هلك أهل السماء والأرض . وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس : { كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } قال : إلاّ ما أريد به وجهه .
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
قد تقدّم الكلام على فاتحة هذه السورة مستوفى في سورة البقرة والاستفهام في قوله : { أَحَسِبَ الناس } للتقريع ، والتوبيخ و { أَن يُتْرَكُواْ } في موضع نصب بحسب ، وهي وما دخلت عليه قائمة مقام المفعولين على قول سيبويه ، والجمهور ، و { أَن يَقُولُواْ } في موضع نصب على تقدير : لأن يقولوا ، أو بأن يقولوا ، أو على أن يقولوا وقيل : هو بدل من أن يتركوا ، ومعنى الآية : أن الناس لا يتركون بغير اختبار ولا ابتلاء { أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } أي وهم لا يبتلون في أموالهم ، وأنفسهم ، وليس الأمر كما حسبوا ، بل لابد أن يختبرهم حتى يتبين المخلص من المنافق ، والصادق من الكاذب ، فالآية مسوقة لإنكار ذلك الحسبان ، واستبعاده ، وبيان أنه لا بد من الامتحان بأنواع التكاليف وغيرها . قال الزجاج : المعنى : أحسبوا أن نقنع منهم بأن يقولوا : إنا مؤمنون فقط ، ولا يمتحنون بما تتبين به حقيقة إيمانهم؟ وهو قوله : { أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } . قال السدّي وقتادة ومجاهد : أي لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم بالقتل والتعذيب ، وسيأتي في بيان سبب نزول هذه الآيات ما يوضح معنى ما ذكرناه ، وظاهرها شمول كلّ الناس من أهل الإيمان ، وإن كان السبب خاصاً فالاعتبار بعموم اللفظ كما قررناه غير مرّة . قال ابن عطية : وهذه الآية وإن كانت نازلة في سبب خاص ، فهي باقية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم موجود حكمها بقية الدهر ، وذلك أن الفتنة من الله باقية في ثغور المسلمين بالأسر ، ونكاية العدوّ وغير ذلك .
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي هذه سنة الله في عباده ، وأنه يختبر مؤمني هذه الأمة كما اختبر من قبلهم من الأمم كما جاء به القرآن في غير موضع من قصص الأنبياء وما وقع مع قومهم من المحن وما اختبر الله به أتباعهم ، ومن آمن بهم من تلك الأمور التي نزلت بهم { فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ } في قولهم : آمنا { وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين } منهم في ذلك ، قرأ الجمهور : { فليعلمنّ } بفتح الياء ، واللام في الموضعين ، أي ليظهرنّ الله الصادق والكاذب في قولهم ويميز بينهم ، وقرأ عليّ بن أبي طالب في الموضعين بضم الياء وكسر اللام . والمعنى : أي يعلم الطائفتين في الآخرة بمنازلهم ، أو يعلم الناس بصدق من صدق ، ويفضح الكاذبين بكذبهم ، أو يضع لكلّ طائفة علامة تشتهر بها وتتميز عن غيرها .
{ أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا } أي يفوتونا ، ويعجزونا قبل أن نؤاخذهم بما يعملون ، وهو سادّ مسدّ مفعولي حسب ، وأم هي المنقطعة { سَاء مَا يَحْكُمُونَ } أي بئس الذي يحكمونه حكمهم ذلك : وقال الزجاج : { ما } في موضع نصب بمعنى : ساء شيئاً أو حكماً يحكمون .
قال : ويجوز : أن تكون { ما } في موضع رفع بمعنى : ساء الشيء ، أو الحكم حكمهم ، وجعلها ابن كيسان مصدرية ، أي ساء حكمهم { مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله } أي من كان يطمع ، والرجاء بمعنى : الطمع . قاله سعيد بن جبير . وقيل : الرجاء هنا بمعنى : الخوف . قال القرطبي : أجمع أهل التفسير على أن المعنى : من كان يخاف الموت ، ومنه قول الهذلي :
إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها ... قال الزجاج : معنى من كان يرجو لقاء الله : من كان يرجو ثواب لقاء الله ، أي : ثواب المصير إليه ، فالرجاء على هذا معناه : الأمل { فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ } أي : الأجل المضروب للبعث آت لا محالة . قال مقاتل : يعني يوم القيامة ، والمعنى : فليعمل لذلك اليوم كما في قوله : { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحا } [ الكهف : 110 ] « ومن » في الآية التي هنا يجوز أن تكون شرطية . والجزاء { فإن أجل الله لآت } ، ويجوز : أن تكون موصولة ، ودخلت الفاء في جوابها تشبيهاً لها بالشرطية . وفي الآية من الوعد والوعيد والترهيب والترغيب ما لا يخفى { وَهُوَ السميع } لأقوال عباده { العليم } بما يسرّونه وما يعلنونه .
{ وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يجاهد لِنَفْسِهِ } أي من جاهد الكفار وجاهد نفسه بالصبر على الطاعات فإنما يجاهد لنفسه ، أي ثواب ذلك له لا لغيره ، ولا يرجع إلى الله سبحانه من نفع ذلك شيء { إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنِ العالمين } فلا يحتاج إلى طاعاتهم كما لا تضرّه معاصيهم . وقيل : المعنى : ومن جاهد عدوّه لنفسه لا يريد بذلك وجه الله ، فليس لله حاجة بجهاده ، والأوّل أولى { والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ } أي : لنغطينها عنهم بالمغفرة بسبب ما عملوا من الصالحات { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي بأحسن جزاء أعمالهم . وقيل : بجزاء أحسن أعمالهم ، والمراد بأحسن : مجرّد الوصف لا التفضيل لئلا يكون جزاؤهم بالحسن مسكوتاً عنه . وقيل : يعطيهم أكثر مما عملوا وأحسن منه كما في قوله : { مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } انتصاب { حسناً } على أنه نعت مصدر محذوف ، أي إيصاء حسناً على المبالغة ، أو على حذف المضاف ، أي ذا حسن . هذا مذهب البصريين ، وقال الكوفيون : تقديره : ووصينا الإنسان أن يفعل حسناً ، فهو مفعول لفعل مقدّر ، ومنه قول الشاعر :
عجبت من دهماء إذ تشكونا ... ومن أبى دهماء إذ يوصينا ... خيراً بها كأنما خافونا
أي يوصينا أن نفعل بها خيراً ، ومثله قول الحطيئة :
وصيت من برّة قلباً حرًّا ... بالكلب خيراً والحمأة شرًّا
قال الزجاج : معناه : ووصينا الإنسان : أن يفعل بوالديه ما يحسن وقيل : هو صفة لموصوف محذوف ، أي ووصيناه أمراً ذا حسن ، وقيل : هو منتصب على أنه مفعول به على التضمين ، أي ألزمناه حسناً .
وقيل : منصوب بنزع الخافض ، أي ووصيناه بحسن . وقيل : هو مصدر لفعل محذوف ، أي يحسن حسناً ، ومعنى الآية : التوصية للإنسان بوالديه بالبرّ بهما ، والعطف عليهما . قرأ الجمهور : { حَسَنًا } بضم الحاء ، وإسكان السين ، وقرأ أبو رجاء وأبو العالية والضحاك بفتحهما ، وقرأ الجحدري : « إحسانا » وكذا في مصحف أبيّ { وَإِن جاهداك لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } أي طلباً منك وألزماك أن تشرك بي إلها ليس لك به علم بكونه إلها ، فلا تطعهما ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وعبر بنفي العلم عن نفي الإله؛ لأن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه ، فكيف بما علم بطلانه؟ وإذا لم تجز طاعة الأبوين في هذا المطلب مع المجاهدة منهما له ، فعدم جوازها مع مجرّد الطلب بدون مجاهدة منهما أولى ، ويلحق بطلب الشرك منهما سائر معاصي الله سبحانه ، فلا طاعة لهما فيما هو معصية لله كما صحّ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي أخبركم بصالح أعمالكم وطالحها ، فأجازي كلاً منكم بما يستحقه ، والموصول في قوله : { والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } في محل رفع على الابتداء وخبره { لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين } أي في زمرة الراسخين في الصلاح ، ويجوز أن يكون في محل نصب على الاشتغال ، ويجوز أن يكون المعنى : لندخلنهم في مدخل الصالحين ، وهو الجنة كذا قيل ، والأوّل أولى .
{ وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ ءَامَنَّا بالله فَإِذَا أُوذِيَ فِي الله } أي في شأن الله ولأجله كما يفعله أهل الكفر مع أهل الإيمان ، وكما يفعله أهل المعاصي مع أهل الطاعات من إيقاع الأذى عليهم لأجل الإيمان بالله والعمل بما أمر به { جَعَلَ فِتْنَةَ الناس } التي هي ما يوقعونه عليه من الأذى { كَعَذَابِ الله } أي جزع من أذاهم . فلم يصبر عليه ، وجعله في الشدّة والعظم كعذاب الله ، فأطاع الناس كما يطيع الله . وقيل : هو المنافق إذا أُوذي في الله رجع عن الدين فكفر . قال الزجاج : ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذية في الله { وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ } أي نصر من الله للمؤمنين وفتح وغلبة للأعداء وغنيمة يغنمونها منهم { لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } أي داخلون معكم في دينكم ، ومعاونون لكم على عدوّكم ، فكذبهم الله وقال : { أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين } أي هو سبحانه أعلم بما في صدورهم منهم من خير وشرّ ، فكيف يدّعون هذه الدعوى الكاذبة؟ وهؤلاء هم قوم ممن كان في إيمانهم ضعف ، كانوا إذا مسهم الأذى من الكفار وافقوهم . وإذا ظهرت قوّة الإسلام ونصر الله المؤمنين في موطن من المواطن : { إِنَّا كُنَّا مَّعَكُمْ } وقيل : المراد بهذا وما قبله المنافقون .
قال مجاهد : نزلت في ناس كانوا يؤمنون بالله بألسنتهم . فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة افتتنوا . وقال الضحاك : نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون . فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك ، والظاهر أن هذا النظم من قوله : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ } إلى قوله : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } نازل في المنافقين لما يظهر من السياق ، ولقوله : { وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين } فإنها لتقرير ما قبلها وتأكيده ، أي ليميزنّ الله بين الطائفتين ويظهر إخلاص المخلصين ونفاق المنافقين ، فالمخلص الذي لا يتزلزل بما يصيبه من الأذى ويصبر في الله حق الصبر ، ولا يجعل فتنة الناس كعذاب الله . والمنافق الذي يميل هكذا وهكذا ، فإن أصابه أذى من الكافرين وافقهم وتابعهم وكفر بالله عزّ وجلّ ، وإن خفقت ريح الإسلام وطلع نصره ولاح فتحه رجع إلى الإسلام ، وزعم أنه من المسلمين .
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا } اللام في { للذين آمنوا } هي لام التبليغ ، أي قالوا مخاطبين لهم كما سبق بيانه في غير موضع ، أي قالوا لهم اسلكوا طريقتنا ، وادخلوا في ديننا { وَلْنَحْمِلْ خطاياكم } أي إن كان اتباع سبيلنا خطيئة تؤاخذون بها عند البعث ، والنشور كما تقولون ، فلنحمل ذلك عنكم؛ فنؤاخذ به دونكم . واللام في { لنحمل } لام الأمر كأنهم أمروا أنفسهم بذلك . وقال الفراء والزجاج : هو أمر في تأويل الشرط والجزاء ، أي إن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم ، ثم ردّ الله عليهم بقوله : { وَمَا هُمْ بحاملين مِنْ خطاياهم مّن شَيْء } من الأولى بيانية . والثانية مزيدة للاستغراق ، أي وما هم بحاملين شيئاً من خطيئاتهم التي التزموا بها ، وضمنوا لهم حملها ، ثم وصفهم الله سبحانه بالكذب في هذا التحمل فقال : { إِنَّهُمْ لكاذبون } فيما ضمنوا به من حمل خطاياهم . قال المهدوي : هذا التكذيب لهم من الله عزّ وجلّ حمل على المعنى؛ لأن المعنى : إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم ، فلما كان الأمر يرجع في المعنى إلى الخبر أوقع عليه التكذيب كما يوقع على الخبر .
{ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ } أي أوزارهم التي عملوها ، والتعبير عنها بالأثقال للإيذان بأنها ذنوب عظيمة { وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } أي أوزاراً مع أوزارهم . وهي : أوزار من أضلوهم ، وأخرجوهم عن الهدى إلى الضلالة ، ومثله قوله سبحانه : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ النحل : 25 ] ومثله قوله صلى الله عليه وسلم : « من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها » كما في حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم وغيره { وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القيامة } تقريعاً وتوبيخاً { عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي يختلقونه من الأكاذيب التي كانوا يأتون بها في الدنيا . وقال مقاتل : يعني قولهم : نحن الكفلاء بكل تبعة تصيبكم من الله .
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله : { الم أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُواْ } الآية قال : أنزلت في ناس كانوا بمكة قد أقرّوا بالإسلام ، فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لما أنزلت آية الهجرة أنه لا يقبل منكم إقرار ولا إسلام حتى تهاجروا ، قال : فخرجوا عامدين إلى المدينة فاتبعهم المشركون فردّوهم ، فنزلت فيهم هذه الآية ، فكتبوا إليهم : أنه قد أنزل فيكم كذا وكذا ، فقالوا : نخرج فإن اتبعنا أحد قتلناه ، فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ومنهم من نجا ، فأنزل الله فيهم : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جاهدوا وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 110 ] . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة نحوه بأخصر منه . وأخرج ابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر عن عبد الله بن عبيد الله بن عمير قال : نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في الله : { الم أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُواْ } الآية .
وأخرج ابن ماجه وابن مردويه عن ابن مسعود قال : أوّل من أظهر الله إسلامه سبعة : رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر . وسمية أم عمار ، وعمار ، وصهيب ، وبلال ، والمقداد . فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب ، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه ، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس ، فما منهم من أحد إلاّ وقد أتاهم على ما أرادوا إلاّ بلال ، فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه ، فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة ، وهو يقول : أحد أحد . وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { أَن يَسْبِقُونَا } قال : أن يعجزونا .
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال : قالت أمي لا آكل طعاماً ولا أشرب شراباً حتى تكفر بمحمد ، فامتنعت من الطعام والشراب حتى جعلوا يشجرون فاها بالعصا ، فنزلت هذه الآية : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جاهداك لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } وأخرجه أيضاً الترمذي من حديثه ، وقال : نزلت فيّ أربع آيات ، وذكر نحو هذه القصة ، وقال : حسن صحيح . وقد أخرج هذا الحديث أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي أيضاً . وأخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، وابن ماجه وأبو يعلى ، وابن حبان وأبو نعيم والبيهقي والضياء عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أخفت في الله ، وما يخاف أحد ، ولقد أتت عليّ ثالثة ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلاّ ما وارى إبط بلال » وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله } قال : يرتدّ عن دين الله إذا أوذي في الله .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
أجمل سبحانه قصة نوح تصديقاً لقوله في أوّل السورة : { وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ } فيه تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم ، كأنه قيل له : إن نوحاً لبث ألف سنة إلاّ خمسين عاماً يدعو قومه ، ولم يؤمن منهم إلاّ قليل ، فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك . قيل : ووقع في النظم إلاّ خمسين عاماً ولم يقل : تسعمائة سنة وخمسين؛ لأن في الاستثناء تحقيق العدد بخلاف الثاني ، فقد يطلق على ما يقرب منه . وقد اختلف في مقدار عمر نوح . وسيأتي آخر البحث . وليس في الآية إلاّ أنه لبث فيهم هذه المدة ، وهي لا تدل على أنها جميع عمره . فقد تلبث في غيرهم قبل اللبث فيهم ، وقد تلبث في الأرض بعد هلاكهم بالطوفان ، والفاء في { فَأَخَذَهُمُ الطوفان } للتعقيب ، أي أخذهم عقب تمام المدة المذكورة ، والطوفان يقال لكل شيء كثير مطيف بجمع محيط بهم من مطر أو قتل : أو موت قاله النحاس . وقال سعيد بن جبير وقتادة والسدي : هو المطر ، وقال الضحاك : الغرق ، وقيل : الموت ، ومنه قول الشاعر :
أفناهم طوفان موت جارف ... وجملة { وَهُمْ ظالمون } في محل نصب على الحال ، أي مستمرون على الظلم ، ولم ينجع فيهم ما وعظهم به نوح ، وذكرهم هذه المدّة بطولها { فأنجيناه وأصحاب السفينة } أي أنجينا نوحاً ، وأنجينا من معه في السفينة من أولاده وأتباعه . واختلف في عددهم على أقوال : { وجعلناها } أي السفينة { آيَةً للعالمين إِنَّ } أي عبرة عظيمة لهم ، وفي كونها آية وجوه : أحدها : أنها كانت باقية على الجوديّ مدة مديدة . وثانيها : أن الله سلم السفينة من الرياح المزعجة . وثالثها : أن الماء غيض قبل نفاذ الزاد . وهذا غير مناسب لوصف السفينة بأن الله جعلها آية . وقيل : إن الضمير راجع في { جعلناها } إلى الواقعة أو إلى النجاة ، أو إلى العقوبة بالغرق .
{ وإبراهيم إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } انتصاب { إبراهيم } بالعطف على { نوحاً } وقال النسائي : هو معطوف على الهاء في { جعلناها } وقيل : منصوب بمقدّر ، أي واذكر إبراهيم . و { إذ قال } منصوب على الظرفية ، أي وأرسلنا إبراهيم وقت قوله لقومه اعبدوا الله ، أو جعلنا إبراهيم آية وقت قوله هذا ، أو واذكر إبراهيم وقت قوله ، على أن الظرف بدل اشتمال من إبراهيم { اعبدوا الله واتقوه } أي أفردوه بالعبادة وخصوه بها واتقوه أن تشركوا به شيئاً { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ } أي عبادة الله وتقواه خير لكم من الشرك ، ولا خير في الشرك أبداً ، ولكنه خاطبهم باعتبار اعتقادهم { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } شيئاً من العلم ، أو تعلمون علماً تميزون به بين ما هو خير ، وما هو شرّ . قرأ الجمهور : { وإبراهيم } بالنصب .
ووجهه ما قدّمنا . وقرأ النخعي وأبو جعفر وأبو حنيفة بالرفع على الابتداء والخبر مقدّر ، أي ومن المرسلين إبراهيم .
{ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أوثانا } بيّن لهم إبراهيم أنهم يعبدون ما لا ينفع ولا يضرّ ولا يسمع ولا يبصر ، والأوثان هي : الأصنام . وقال أبو عبيدة : الصنم ما يتخذ من ذهب أو فضة أو نحاس ، والوثن ما يتخذ من جصّ أو حجارة . وقال الجوهري : الوثن الصنم والجمع أوثان { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } أي وتكذبون كذباً على أن معنى { تخلقون } : تكذبون ، ويجوز أن يكون معناه : تعملون وتنحتون ، أي تعملونها ، وتنحتونها للإفك . قال الحسن : معنى تخلقون : تنحتون أي إنما تعبدون أوثاناً ، وأنتم تصنعونها . قرأ الجمهور : { تخلقون } بفتح الفوقية وسكون الخاء وضم اللام مضارع خلق وإفكاً بكسر الهمزة وسكون الفاء . وقرأ عليّ بن أبي طالب وزيد بن عليّ والسلمي وقتادة بفتح الخاء واللام مشدّدة ، والأصل تتخلقون . وروي عن زيد بن عليّ أنه قرأ بضم التاء وتشديد اللام مكسورة . وقرأ ابن الزبير وفضيل بن ورقان : " أَفكا " بفتح الهمزة وكسر الفاء وهو مصدر كالكذب ، أو صفة لمصدر محذوف ، أي خلقا أفكا { إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً } أي لا يقدرون على أن يرزقوكم شيئاً من الرزق { فابتغوا عِندَ الله الرزق } أي اصرفوا رغبتكم في أرزاقكم إلى الله فهو الذي عنده الرزق كله ، فاسألوه من فضله ووحدوه دون غيره { واشكروا لَهُ } أي على نعمائه ، فإن الشكر موجب لبقائها وسبب للمزيد عليها ، يقال : شكرته وشكرت له { إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } بالموت ثم بالبعث لا إلى غيره .
{ وَإِن تُكَذّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ } قيل : هذا من قول إبراهيم ، أي وإن تكذبوني فقد وقع ذلك لغيري ممن قبلكم ، وقيل : هو من قول الله سبحانه ، أي وإن تكذبوا محمداً ، فذلك عادة الكفار مع من سلف { وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين } لقومه الذي أرسل إليهم ، وليس عليه هدايتهم ، وليس ذلك في وسعه { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيء الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } قرأ الجمهور : { أولم يروا } بالتحتية على الخبر ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم . قال أبو عبيد : كأنه قال : أولم ير الأمم . وقرأ أبو بكر والأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي بالفوقية على الخطاب من إبراهيم لقومه . وقيل : هو خطاب من الله لقريش . قرأ الجمهور : { كيف يبدىء } بضم التحتية من أبدأ يبدىء . وقرأ الزبيري وعيسى بن عمر وأبو عمرو بفتحها من بدأ يبدأ . وقرأ الزهري «كيف بدأ» والمعنى : ألم يروا كيف يخلقهم الله ابتداء نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم ينفخ فيه الروح ، ثم يخرجه إلى الدنيا ، ثم يتوفاه بعد ذلك وكذلك سائر الحيوانات وسائر النباتات ، فإذا رأيتم قدرة الله سبحانه على الابتداء والإيجاد فهو القادر على الإعادة ، والهمزة لإنكار عدم رؤيتهم ، والواو للعطف على مقدّر { إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ } لأنه إذا أراد أمراً قال له : كن فيكون .
ثم أمر سبحانه إبراهيم أن يأمر قومه بالمسير في الأرض ليتفكروا ويعتبروا ، فقال : { قُلْ سِيرُواْ فِي الارض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق } على كثرتهم واختلاف ألوانهم وطبائعهم وألسنتهم وانظروا إلى مساكن القرون الماضية والأمم الخالية وآثارهم؛ لتعلموا بذلك كمال قدرة الله . وقيل : إن المعنى : قل لهم يا محمد سيروا ، ومعنى قوله : { ثُمَّ الله يُنشِىء النشأة الآخرة } أن الله الذي بدأ النشأة الأولى ، وخلقها على تلك الكيفية ينشئها نشأة ثانية عند البعث ، والجملة عطف على جملة : { سيروا في الأرض } داخلة معها في حيز القول ، وجملة : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ } تعليل لما قبلها . قرأ الجمهور : ب { النشأة } بالقصر ، وسكون الشين . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالمدّ وفتح الشين ، وهما لغتان كالرأفة والرآفة . وهي منتصبة على المصدرية بحذف الزوائد ، والأصل الإنشاءة { يُعَذّبُ مَن يَشَاء وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء } أي هو سبحانه بعد النشأة الآخرة يعذب من يشاء تعذيبه وهم الكفار والعصاة ويرحم من يشاء رحمته ، وهم المؤمنون به المصدّقون لرسله العاملون بأوامره ونواهيه { وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } أي ترجعون وتردّون لا إلى غيره { وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَلاَ فِي السماء } قال الفراء : ولا من في السماء بمعجزين الله فيها . قال : وهو كما في قول حسان :
فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
أي ومن يمدحه ، وينصره سواء . ومثله قوله تعالى : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] أي : إلاّ من له مقام معلوم . والمعنى : أنه لا يعجزه سبحانه أهل الأرض ولا أهل السماء في السماء إن عصوه . وقال قطرب : إن معنى الآية : ولا في السماء لو كنتم فيها ، كما تقول : لا يفوتني فلان ها هنا ، ولا بالبصرة ، يعني : ولا بالبصرة لو صار إليها . وقال المبرد : المعنى : ولا من في السماء . على أن « من » ليست موصولة بل نكرة ، وفي السماء صفة لها ، فأقيمت الصفة مقام الموصوف ، وردّ ذلك عليّ بن سليمان وقال : لا يجوز ، ورجح ما قاله قطرب { وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } « من » مزيدة للتأكيد ، أي ليس لكم وليّ يواليكم ولا نصير ينصركم ويدفع عنكم عذاب الله { والذين كَفَرُواْ بئايات الله وَلِقَائِهِ } المراد بالآيات الآيات التنزيلية أو التكوينية أو جميعهما . وكفروا بلقاء الله ، أي أنكروا البعث وما بعده ولم يعملوا بما أخبرتهم به رسل الله سبحانه . والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الكافرين بالآيات ، واللقاء ، وهو مبتدأ وخبره : { يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي } أي إنهم في الدنيا آيسون من رحمة الله لم ينجع فيهم ما نزل من كتب الله ، ولا ما أخبرتهم به رسله .
وقيل : المعنى : أنهم ييأسون يوم القيامة من رحمة الله ، وهي : الجنة . والمعنى : أنهم أويسوا من الرحمة { وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } كرّر سبحانه الإشارة للتأكيد ، ووصف العذاب بكونه أليماً للدلالة على أنه في غاية الشدّة .
{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرّقُوهُ } هذا رجوع إلى خطاب إبراهيم بعد الاعتراض بما تقدّم من خطاب محمد صلى الله عليه وسلم على قول من قال : إن قوله : { قل سيروا في الأرض } خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم . وأما على قول من قال : إنه خطاب لإبراهيم عليه السلام ، فالكلام في سياقه سابقاً ولاحقاً ، أي قال بعضهم لبعض عند المشاورة بينهم : افعلوا بإبراهيم أحد الأمرين المذكورين ، ثم اتفقوا على تحريقه { فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار } وجعلها عليه برداً وسلاماً { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي في إنجاء الله لإبراهيم { لآيَاتٍ } بيّنة ، أي دلالات واضحة وعلامات ظاهرة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه ، حيث أضرموا تلك النار العظيمة وألقوه فيها ، ولم تحرقه ولا أثرت فيه أثراً ، بل صارت إلى حالة مخالفة لما هو شأن عنصرها من الحرارة والإحراق ، وإنما خصّ المؤمنون؛ لأنهم الذين يعتبرون بآيات الله سبحانه ، وأما من عداهم ، فهم عن ذلك غافلون . قرأ الجمهور : بنصب { جواب قومه } على أنه خبر كان وما بعده اسمها . وقرأ سالم الأفطس وعمرو بن دينار والحسن برفعه على أنه اسم كان وما بعده في محل نصب على الخبر .
{ وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم مّن دُونِ الله أوثانا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحياة الدنيا } أي قال إبراهيم لقومه ، أي للتوادد بينكم ، والتواصل لاجتماعكم على عبادتها ، وللخشية من ذهاب المودّة فيما بينكم إن تركتم عبادتها . قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي : «مودّة بينكم» برفع مودّة غير منوّنة ، وإضافتها إلى بينكم . وقرأ الأعمش وابن وثاب «مودّة» برفعها منوّنة . وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر بنصب " مَّوَدَّةَ " منوّنة ونصب بينكم على الظرفية . وقرأ حمزة وحفص بنصب «مودّة» مضافة إلى بينكم . فأما قراءة الرفع فذكر الزجاج لها وجهين : الأوّل : أنها ارتفعت على خبر إنّ في { إنما اتخذتم } وجعل ما موصولة . والتقدير : إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثاناً مودّة بينكم . والوجه الثاني : أن تكون على إضمار مبتدأ ، أي هي مودّة ، أو تلك مودّة . والمعنى : أن المودّة هي التي جمعتكم على عبادة الأوثان ، واتخاذها . قيل : ويجوز أن تكون مودّة مرتفعة بالابتداء ، وخبرها في الحياة الدنيا . ومن قرأ برفع مودّة منوّنة فتوجيهه كالقراءة الأولى ، ونصب بينكم على الظرفية . ومن قرأ بنصب مودّة ، ولم ينوّنها جعلها مفعول اتخذتم ، وجعل إنما حرفاً واحداً للحصر ، وهكذا من نصبها ونوّنها . ويجوز أن يكون النصب في هاتين القراءتين على أن المودّة علة فهي مفعول لأجله ، وعلى قراءة الرفع يكون مفعول اتخذتم الثاني محذوفاً ، أي أوثاناً آلهة ، وعلى تقدير أن ما في قوله : { إنما اتخذتم } موصولة يكون المفعول الأوّل ضميرها؛ أي اتخذتموه ، والمفعول الثاني أوثاناً { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } أي يكفر بعض هؤلاء المتخذين للأوثان العابدين لها بالبعض الآخر منهم ، فيتبرأ القادة من الأتباع والأتباع من القادة ، وقيل : المعنى : يتبرأ العابدون للأوثان من الأوثان ، وتتبرأ الأوثان من العابدين لها { وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } أي يلعن كلّ فريق الآخر على التفسيرين المذكورين { وَمَأْوَاكُمُ النار } أي الكفار .
وقيل : يدخل في ذلك الأوثان ، أي هي منزلكم الذي تأوون إليه { وَمَا لَكُمْ مّن ناصرين } يخلصونكم منها بنصرتهم لكم .
{ فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ } أي : آمن لإبراهيم لوط فصدّقه في جميع ما جاء به . وقيل : إنه لم يؤمن به إلاّ حين رأى النار لا تحرقه ، وكان لوط ابن أخي إبراهيم { وَقَالَ إِنّي مُهَاجِرٌ إلى رَبّي } قال النخعي ، وقتادة : الذي قال : { إني مهاجر إلى ربي } هو إبراهيم قال قتادة : هاجر من كوثى ، وهي قرية من سواد الكوفة إلى حران ، ثم إلى الشام ، ومعه ابن أخيه لوط وامرأته سارّة . والمعنى : إني مهاجر عن دار قومي إلى حيث أعبد ربي { إِنَّهُ هُوَ العزيز الحكيم } أي الغالب الذي أفعاله جارية على مقتضى الحكمة : وقيل : إن القائل : { إني مهاجر إلى ربي } هو لوط ، والأوّل أولى لرجوع الضمير في قوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ } إلى إبراهيم ، وكذا في قوله : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرّيَّتِهِ النبوة والكتاب } ، وكذا في قوله : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين } فإن هذه الضمائر كلها لإبراهيم بلا خلاف ، أي منّ الله عليه بالأولاد ، فوهب له إسحاق ولداً له ويعقوب ولداً لولده إسحاق ، وجعل في ذرّيته النبوّة والكتاب ، فلم يبعث الله نبياً بعد إبراهيم إلاّ من صلبه ، ووحد الكتاب لأن الألف واللام فيه للجنس الشامل للكتب ، والمراد : التوراة والإنجيل والزبور والقرآن ، ومعنى { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا } : أنه أعطي في الدنيا الأولاد ، وأخبره الله باستمرار النبوّة فيهم ، وذلك مما تقرّ به عينه ، ويزداد به سروره ، وقيل : أجره في الدنيا أن أهل الملل كلها تدّعيه ، وتقول هو منهم . وقيل : أعطاه في الدنيا عملاً صالحاً وعاقبة حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ، أي الكاملين في الصلاح المستحقين لتوفير الأجرة وكثرة العطاء من الربّ سبحانه .
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : بعث الله نوحاً ، وهو ابن أربعين سنة ، ولبث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً يدعوهم إلى الله ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا .
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال : كان عمر نوح قبل أن يبعث إلى قومه وبعد ما بعث ألفاً وسبعمائة سنة . وأخرج ابن جرير عن عوف بن أبي شدّاد قال : إن الله أرسل نوحاً إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة ، فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة سنة . وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ذمّ الدنيا عن أنس بن مالك قال : جاء ملك الموت إلى نوح فقال : يا أطول النبيين عمراً كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال : كرجل دخل بيتاً له بابان ، فقال في وسط البيت هنيهة ، ثم خرج من الباب الآخر .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وجعلناها ءَايَةً للعالمين } قال : أبقاها الله آية فهي على الجوديّ . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } قال : تقولون كذباً . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { النشأة الآخرة } قال : هي الحياة بعد الموت ، وهو النشور . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ } قال : صدّق لوط إبراهيم . وأخرج أبو يعلى وابن مردويه عن أنس قال : أوّل من هاجر من المسلمين إلى الحبشة بأهله عثمان بن عفان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « صحبهما الله ، إن عثمان لأوّل من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط » وأخرج ابن منده وابن عساكر عن أسماء بنت أبي بكر قالت : هاجر عثمان إلى الحبشة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إنه أوّل من هاجر بعد إبراهيم ولوط » وأخرج ابن عساكر والطبراني ، والحاكم في الكنى عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما كان بين عثمان وبين رقية وبين لوط مهاجر » وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال : أوّل من هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان كما هاجر لوط إلى إبراهيم .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ } قال : هما ولدا إبراهيم ، وفي قوله : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا } قال : إن الله وصى أهل الأديان بدينه فليس من أهل الأديان دين إلاّ وهم يقولون إبراهيم ويرضون به . وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في قوله : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا } قال : الذكر الحسن . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال : الولد الصالح ، والثناء ، وقول ابن عباس : هما ولدا إبراهيم لعله يريد ولده وولد ولده ، لأن ولد الولد بمنزلة الولد ، ومثل هذا لا يخفى على مثل ابن عباس ، فهو حبر الأمة ، وهذه الرواية عنه هي من رواية العوفي ، وفي الصحيحين « إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم » .
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
قوله : { وَلُوطاً } منصوب بالعطف على { نوحاً } ، أو على إبراهيم ، أو بتقدير : اذكر . قال الكسائي : المعنى : وأنجينا لوطاً ، أو وأرسلنا لوطاً { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } ظرف للعامل في لوط { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة } قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر : «أئنكم» بالاستفهام . وقرأ الباقون بلا استفهام . والفاحشة : الخصلة المتناهية في القبح ، وجملة : { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن العالمين } مقرّرة لكمال قبح هذه الخصلة ، وأنهم منفردون بذلك لم يسبقهم إلى عملها أحد من الناس على اختلاف أجناسهم . ثم بيّن سبحانه هذه الفاحشة فقال : { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال } أي تلوطون بهم { وَتَقْطَعُونَ السبيل } قيل : إنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمرّ بهم من المسافرين ، فلما فعلوا ذلك ترك الناس المرور بهم ، فقطعوا السبيل بهذا السبب . قال الفراء : كانوا يعترضون الناس في الطرق بعملهم الخبيث . وقيل : كانوا يقطعون الطريق على المارّة بقتلهم ونهبهم . والظاهر أنهم كانوا يفعلون ما يكون سبباً لقطع الطريق من غير تقييد بسبب خاص ، وقيل : إن معنى قطع الطريق : قطع النسل بالعدول عن النساء إلى الرجال { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر } النادي والنديّ والمنتدى : مجلس القوم ومتحدّثهم .
واختلف في المنكر الذي كانوا يأتونه فيه : فقيل : كانوا يحذفون الناس بالحصباء ، ويستخفون بالغريب . وقيل : كانوا يتضارطون في مجالسهم ، وقيل : كانوا يأتون الرجال في مجالسهم وبعضهم يرى بعضاً ، وقيل : كانوا يلعبون بالحمام . وقيل : كانوا يخضبون أصابعهم بالحناء . وقيل : كانوا يناقرون بين الديكة ، ويناطحون بين الكباش . وقيل : يلعبون بالنرد والشطرنج ويلبسون المصبغات ، ولا مانع من أنهم كانوا يفعلون جميع هذه المنكرات . قال الزجاج : وفي هذا إعلام أنه لا ينبغي أن يتعاشر الناس على المنكر وألا يجتمعوا على الهزؤ ، والمناهي .
ولما أنكر لوط عليهم ما كانوا يفعلونه أجابوا بما حكى الله عنهم بقوله : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } أي فما أجابوا بشيء إلاّ بهذا القول رجوعاً منهم إلى التكذيب واللجاج والعناد ، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية ، وقد تقدّم في سورة النمل : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءَالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ } [ النمل : 56 ] وتقدّم في سورة الأعراف : { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ } [ الأعراف : 82 ] وقد جمع بين هذه الثلاثة المواضع بأن لوطاً كان ثابتاً على الإرشاد ، ومكرّرًا للنهي لهم والوعيد عليهم ، فقالوا له أوّلاً : { ائتنا بعذاب الله } كما في هذه الآية ، فلما كثر منه ذلك ، ولم يسكت عنهم قالوا : { أخرجوهم } كما في الأعراف والنمل . وقيل : إنهم قالوا أوّلاً : { أخرجوهم من قريتكم } ثم قالوا ثانياً : { ائتنا بعذاب الله } .
ثم إن لوطاً لما يئس منهم طلب النصرة عليهم من الله سبحانه فقال : { رَبّ انصرني عَلَى القوم المفسدين } بإنزال عذابك عليهم ، وإفسادهم هو بما سبق من إتيان الرجال وعمل المنكر في ناديهم ، فاستجاب الله سبحانه وبعث لعذابهم ملائكته وأمرهم بتبشير إبراهيم قبل عذابهم ، ولهذا قال : { وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إبراهيم بالبشرى } أي بالبشارة بالولد وهو إسحاق ، وبولد الولد وهو يعقوب { قَالُواْ إِنَّآ مُهْلِكُو أَهْلِ هذه القرية } أي قالوا لإبراهيم هذه المقالة .
والقرية هي قرية سدوم التي كان فيها قوم لوط ، وجملة : { إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظالمين } تعليل للإهلاك ، أي إهلاكنا لهم بهذا السبب { قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً } أي قال لهم إبراهيم : إن في هذه القرية التي أنتم مهلكوها لوطاً فكيف تهلكونها؟ { قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا } من الأخيار والأشرار ، ونحن أعلم من غيرنا بمكان لوط { لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ } من العذاب . قرأ الأعمش وحمزة ويعقوب والكسائي «لننجينه» بالتخفيف ، وقرأ الباقون بالتشديد { إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين } أي الباقين في العذاب ، وهو لفظ مشترك بين الماضي والباقي ، وقد تقدّم تحقيقه ، وقيل : المعنى : من الباقين في القرية التي سينزل بها العذاب ، فتعذب من جملتهم ، ولا تنجو فيمن نجا .
{ وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمُ } أي لما جاءت الرسل لوطاً بعد مفارقتهم إبراهيم سيىء بهم أي جاءه ما ساءه ، وخاف منه؛ لأنه ظنهم من البشر ، فخاف عليهم من قومه لكونهم في أحسن صورة من الصور البشرية ، و«أن» في { أن جاءت } زائدة للتأكيد { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا } أي عجز عن تدبيرهم وحزن وضاق صدره ، وضيق الذراع كناية عن العجز ، كما يقال : في الكناية عن الفقر : ضاقت يده ، وقد تقدّم تفسير هذا مستوفى في سورة هود . ولما شاهدت الملائكة ما حلّ به من الحزن والتضجر ، قالوا : { لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ } أي لا تخف علينا من قومك ، ولا تحزن فإنهم لا يقدرون علينا { إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ } من العذاب الذي أمرنا الله بأن ننزله بهم { إِلاَّ امرأتك كَانَتْ مِنَ الغابرين } أخبروا لوطاً بما جاؤوا به من إهلاك قومه وتنجيته وأهله إلاّ امرأته كما أخبروا بذلك إبراهيم ، قرأ حمزة والكسائي وشعبة ويعقوب والأعمش : «منجوك» بالتخفيف . وقرأ الباقون بالتشديد . قال المبرد : الكاف في { منجوك } مخفوض ولم يجز عطف الظاهر على المضمر المخفوض ، فحمل الثاني على المعنى وصار التقدير : وننجي أهلك : { إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هذه القرية رِجْزاً مّنَ السماء } هذه الجملة مستأنفة لبيان هلاكهم المفهوم من تخصيص التنجية به وبأهله . والرجز : العذاب ، أي : عذاباً من السماء ، وهو : الرمي بالحجارة ، وقيل : إحراقهم بنار نازلة من السماء . وقيل : هو الخسف والحصب كما في غير هذا الموضع ، ومعنى كون الخسف من السماء أن الأمر به نزل من السماء .
قرأ ابن عامر : «منزّلون» بالتشديد . وبها قرأ ابن عباس . وقرأ الباقون بالتخفيف ، والباء في { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } للسببية ، أي لسبب فسقهم { وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا ءايَةً بَيّنَةً } أي أبقينا من القرية علامة ودلالة بينة وهي الآثار التي بها من الحجارة رجموا بها ، وخراب الديار . وقال مجاهد : هو الماء الأسود الباقي على وجه أرضهم ، ولا مانع من حمل الآية على جميع ما ذكر ، وخص من يعقل ، لأنه الذي يفهم أن تلك الآثار عبرة يعتبر بها من يراها .
{ وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً } أي وأرسلناه إليهم ، وقد تقدّم ذكره وذكر نسبه وذكر قومه في سورة الأعراف وسورة هود { قَالَ يَاقَوْم اعبدوا الله } أي أفردوه بالعبادة ، وخصوه بها { وارجوا اليوم الآخر } أي توقعوه ، وافعلوا اليوم من الأعمال ما يدفع عذابه عنكم . قال يونس النحوي : معناه : اخشوا الآخرة التي فيها الجزاء على الأعمال { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } العُثْو ، والعثْي أشدّ الفساد . وقد تقدّم تفسيره { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } أي الزلزلة ، وتقدّم في سورة هود : { وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة } [ هود : 67 ] أي صيحة جبريل ، وهي سبب الرجفة { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين } أي أصبحوا في بلدهم أو منازلهم جاثمين على الركب ميتين .
{ وَعَاداً وَثَمُودَاْ } قال الكسائي : قال بعضهم هو راجع إلى أوّل السورة ، أي ولقد فتنا الذين من قبلهم وفتنا عادًا وثمود ، قال : وأحبّ إليّ أن يكون على { فأخذتهم الرجفة } أي وأخذت عاداً وثمود . وقال الزجاج : التقدير ، وأهلكنا عادًا وثمود . وقيل : المعنى : واذكر عادًا وثمود إذ أرسلنا إليهم هوداً وصالحاً { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مّن مساكنهم } أي وقد ظهر لكم يا معاشر الكفار من مساكنهم بالحجر ، والأحقاف آيات بينات تتعظون بها ، وتتفكرون فيها ، ففاعل تبين محذوف { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم } التي يعملونها من الكفر ، ومعاصي الله { فَصَدَّهُمْ } بهذا التزيين { عَنِ السبيل } أي الطريق الواضح الموصل إلى الحق { وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ } أي أهل بصائر يتمكنون بها من معرفة الحق بالاستدلال . قال الفراء : كانوا عقلاء ذوي بصائر فلم تنفعهم بصائرهم . وقيل : المعنى : كانوا مستبصرين في كفرهم وضلالتهم معجبين بها يحسبون أنهم على هدى ، ويرون أن أمرهم حقّ ، فوصفهم بالاستبصار على هذا باعتبار ما عند أنفسهم .
{ وقارون وَفِرْعَوْنَ وهامان } قال الكسائي : إن شئت كان محمولاً على { عادًا } وكان فيه ما فيه ، وإن شئت كان على { فصدّهم عن السبيل } أي وصدّ قارون وفرعون وهامان . وقيل : التقدير : وأهلكنا هؤلاء بعد أن جاءتهم الرسل { فاستكبروا فِي الأرض } عن عبادة الله { وَمَا كَانُواْ سابقين } أي فائتين ، يقال : سبق طالبه : إذا فاته : وقيل : وما كانوا سابقين في الكفر ، بل قد سبقهم إليه قرون كثيرة . { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } أي عاقبنا بكفره وتكذيبه . قال الكسائي : { فكلاًّ أخذنا } أي فأخذنا كلاًّ بذنبه { فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً } أي ريحاً تأتي بالحصباء ، وهي الحصى الصغار فترجمهم بها ، وهم قوم لوط { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة } وهم ثمود وأهل مدين { وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض } وهو قارون وأصحابه { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا } وهم قوم نوح وقوم فرعون { وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ } بما فعل بهم ، لأنه قد أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } باستمرارهم على الكفر وتكذيبهم للرسل وعملهم بمعاصي الله .
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر } قال : مجلسكم . وأخرج الفريابي وأحمد وعبد بن حميد ، والترمذي وحسنه ، وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب وابن عساكر عن أمّ هانىء بنت أبي طالب قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله سبحانه : { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر } قال : « كانوا يجلسون بالطريق فيحذفون أبناء السبيل ويسخرون منهم » قال الترمذي : بعد إخراجه ، وتحسينه : ولا نعرفه إلاّ من حديث حاتم بن أبي صغيرة عن سماك . وأخرج ابن مردويه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحذف ، وهو قول الله سبحانه : { وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ المنكر } . وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في الآية قال : هو الحذف . وأخرج عبد ابن حميد عن ابن عباس مثله . وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عائشة في الآية قالت : الضراط . وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } قال : الصيحة ، وفي قوله : { وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ } قال : في الضلالة . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً } قال : قوم لوط { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة } قال : ثمود { وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض } قال : قارون { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا } قال : قوم نوح .
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
قوله : { مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء } يوالونهم ، ويتكلون عليهم في حاجاتهم من دون الله سواء كانوا من الجماد أو الحيوان ، ومن الأحياء أو من الأموات { كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً } فإن بيتها لا يغني عنها شيئاً لا في حرّ ولا قرّ ولا مطر ، كذلك ما اتخذوه ولياً من دون الله ، فإنه لا ينفعهم بوجه من وجوه النفع ، ولا يغني عنهم شيئاً . قال الفراء : هو مثل ضربه الله لمن اتخذ من دونه آلهة لا تنفعه ولا تضرّه ، كما أن بيت العنكبوت لا يقيها حرّاً ، ولا برداً . قال : ولا يحسن الوقف على العنكبوت؛ لأنه لما قصد بالتشبيه لبيتها الذي لا يقيها من شيء شبهت الآلهة التي لا تنفع ولا تضرّ به ، وقد جوّز الوقف على العنكبوت الأخفش ، وغلطه ابن الأنباري قال : لأن اتخذت صلة للعنكبوت كأنه قال : كمثل العنكبوت التي { اتخذت } بيتاً ، فلا يحسن الوقف على الصلة دون الموصول . والعنكبوت تقع على الواحد ، والجمع والمذكر والمؤنث ، وتجمع على عناكب وعنكبوتات ، وهي : الدّويبة الصغيرة التي تنسج نسجاً رقيقاً . وقد يقال لها : عكنبات ، ومنه قول الشاعر :
كأنما يسقط من لغامها ... بيت عكنبات على زمامها
{ وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت } لا بيت أضعف منه مما يتخذه الهوامّ بيتاً ، ولا يدانيه في الوهي والوهن شيء من ذلك { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أن اتخاذهم الأولياء من دون الله كاتخاذ العنكبوت بيتاً ، أو لو كانوا يعلمون شيئاً من العلم لعلموا بهذا { إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْء } ما استفهامية ، أو نافية ، أو موصولة ، ومن للتبعيض أو مزيدة للتوكيد . وقيل : إن هذه الجملة على إضمار القول ، أي قل للكافرين : إن الله يعلم أيّ شيء يدعون من دونه . وحرّم أبو علي الفارسي بأنها استفهامية ، وعلى تقدير النفي كأنه قيل : إن الله يعلم أنكم لا تدعون من دونه من شيء ، يعني : ما تدعونه ليس بشيء ، وعلى تقدير الموصولة : إن الله يعلم الذين تدعونهم من دونه ، ويجوز أن تكون « ما » مصدرية ، و { من شيء } عبارة عن المصدر . قرأ عاصم وأبو عمرو ويعقوب : « يدعون » بالتحتية . واختار هذه القراءة أبو عبيد لذكر الأمم قبل هذه الآية . وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب { وَهُوَ العزيز الحكيم } الغالب المصدر أفعاله على غاية الإحكام والإتقان .
{ وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } أي هذا المثل ، وغيره من الأمثال التي في القرآن نضربها للناس تنبيهاً لهم ، وتقريباً لما بعد من أفهامهم { وَمَا يَعْقِلُهَا } أي يفهمها ويتعقل الأمر الذي ضربناها لأجله { إِلاَّ العالمون } بالله الراسخون في العلم المتدبرون المتفكرون لما يتلى عليهم وما يشاهدونه .
{ خَلَقَ الله السموات والأرض بالحق } أي بالعدل ، والقسط مراعياً في خلقها مصالح عباده . وقيل : المراد بالحق : كلامه وقدرته ، ومحل { بالحق } النصب على الحال { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } أي لدلالة عظيمة وعلامة ظاهرة على قدرته ، وتفرّده بالإلهية ، وخص المؤمنين لأنهم الذين ينتفعون بذلك .
{ اتل مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب } أي القرآن ، وفيه الأمر بالتلاوة للقرآن ، والمحافظة على قراءته مع التدبر لآياته والتفكر في معانيه { وَأَقِمِ الصلاة إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر } أي : دم على إقامتها ، واستمرّ على أدائها كما أمرت بذلك ، وجملة : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } تعليل لما قبلها ، والفحشاء ما قبح من العمل ، والمنكر : ما لا يعرف في الشريعة ، أي تمنعه عن معاصي الله ، وتبعده منها ، ومعنى نهيها عن ذلك أن فعلها يكون سبباً للانتهاء ، والمراد هنا الصلوات المفروضة { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } أي أكبر من كل شيء ، أي أفضل من العبادات كلها بغير ذكر . قال ابن عطية : وعندي أن المعنى : ولذكر الله أكبر على الإطلاق ، أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر ، فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك ، وكذلك يفعل ما لم يكن منه في الصلاة؛ لأن الانتهاء لا يكون إلاّ من ذاكر لله مراقب له . وقيل : ذكر الله أكبر من الصلاة في النهي عن الفحشاء ، والمنكر مع المداومة عليه . قال الفراء ، وابن قتيبة : المراد بالذكر في الآية : التسبيح ، والتهليل ، يقول : هو أكبر وأحرى بأن ينهى عن الفحشاء ، والمنكر . وقيل : المراد بالذكر هنا الصلاة ، أي وللصلاة أكبر من سائر الطاعات ، وعبر عنها بالذكر كما في قوله : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } [ الجمعة : 9 ] للدلالة على أن ما فيها من الذكر هو العمدة في تفضيلها على سائر الطاعات ، وقيل : المعنى : ولذكر الله لكم بالثواب والثناء عليكم منه أكبر من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم ، واختار هذا ابن جرير ، ويؤيده حديث : « من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم » { والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } لا تخفى عليه من ذلك خافية ، فهو مجازيكم بالخير خيراً وبالشرّ شرّاً .
{ وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } أي إلاّ بالخصلة التي هي أحسن ، وذلك على سبيل الدعاء لهم إلى الله عزّ وجلّ والتنبيه لهم على حججه وبراهينه رجاء إجابتهم إلى الإسلام ، لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } بأن أفرطوا في المجادلة ولم يتأدّبوا مع المسلمين فلا بأس بالإغلاظ عليهم والتخشين في مجادلتهم ، هكذا فسر الآية أكثر المفسرين بأن المراد بأهل الكتاب : اليهود والنصارى . وقيل : معنى الآية : لا تجادلوا من آمن بمحمد من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وسائر من آمن منهم { إلاّ بالتي هي أحسن } يعني : بالموافقة فيما حدّثوكم به من أخبار أهل الكتاب ، ويكون المراد بالذين ظلموا على هذا القول هم : الباقون على كفرهم .
وقيل : هي الآية منسوخة بآيات القتال ، وبذلك قال قتادة ، ومقاتل . قال النحاس : من قال : هذه منسوخة ، احتج بأن الآية مكية ، ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض ، ولا طلب جزية ولا غير ذلك . قال سعيد بن جبير ومجاهد : إن المراد بالذين ظلموا منهم : الذين نصبوا القتال للمسلمين فجدالهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية { وَقُولُواْ ءَامَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا } من القرآن { وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } من التوراة والإنجيل ، أي آمنا بأنهما منزلان من عند الله ، وأنهما شريعة ثابتة إلى قيام الشريعة الإسلامية والبعثة المحمدية ، ولا يدخل في ذلك ما حرّفوه وبدّلوه { وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ } لا شريك له ولا ضدّ ولا ندّ { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي ونحن معاشر أمة محمد مطيعون له خاصة ، لم نقل : عزير ابن الله ، ولا المسيح ابن الله ، ولا اتخذنا أحبارنا ورهباننا أرباباً من دون الله ، ويحتمل أن يراد : ونحن جميعاً منقادون له ، ولا يقدح في هذا الوجه كون انقياد المسلمين أتمّ من انقياد أهل الكتاب وطاعتهم أبلغ من طاعاتهم .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء } الآية قال : ذاك مثل ضربه الله لمن عبد غيره أن مثله كمثل بيت العنكبوت . وأخرج أبو داود في مراسيله عن يزيد بن مرثد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « العنكبوت شيطان مسخها الله فمن وجدها فليقتلها » وأخرج ابن أبي حاتم عن مزيد بن ميسرة قال : العنكبوت شيطان . وأخرج الخطيب عن عليّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « دخلت أنا وأبو بكر الغار فاجتمعت العنكبوت فنسجت بالباب فلا تقتلوهنّ » وروى القرطبي في تفسيره عن عليّ أيضاً أنه قال : طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه في البيت يورث الفقر . وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني قال : نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود ، والثانية على النبيّ صلى الله عليه وسلم .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر } قال : في الصلاة منتهى ومزدجر عن المعاصي . وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عمران بن حصين قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله : { إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر } فقال : « من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له » وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلاّ بعدًا » وأخرج عبد بن حميد وابن جرير ، والبيهقي في الشعب عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له » ، وفي لفظ : « لم يزدد بها من الله إلاّ بعدا » وأخرج الخطيب عن ابن عمر مرفوعاً نحوه . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعاً نحوه . قال السيوطي : وسنده ضعيف . وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد في الزهد ، وابن جرير وابن المنذر ، والطبراني [ والبيهقي ] في الشعب عنه نحوه موقوفاً . قال ابن كثير في تفسيره : والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة والأعمش وغيرهم .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } يقول : ولذكر الله لعباده إذا ذكروه أكبر من ذكرهم إياه . وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن ربيعة قال : سألني ابن عباس عن قول الله : { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } فقلت : ذكر الله بالتسبيح والتهليل والتكبير قال : لذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه ، ثم قال : { فاذكروني أذكركم } [ البقرة : 152 ] . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير عن ابن مسعود : { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } قال : ذكر الله العبد أكبر من ذكر العبد لله . وأخرج ابن السني وابن مردويه والديلمي عن ابن عمر نحوه . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : لها وجهان ذكر الله أكبر مما سواه ، وفي لفظ ذكر الله عندما حرّمه ، وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه . وأخرج أحمد في الزهد ، وابن المنذر عن معاذ بن جبل قال : ما عمل آدميّ عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله ، قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال : ولا أن يضرب بسيفه حتى يتقطع ، لأن الله يقول في كتابه العزيز : { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } . وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر ، والحاكم في الكنى ، والبيهقي في الشعب عن عنترة قال : قلت لابن عباس : أيّ العمَل أفضل؟ قال : ذكر الله .
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } قال : بلا إله إلاّ الله . وأخرج البخاري والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون » وأخرج البيهقي في الشعب ، والديلمي ، وأبو نصر السجزي في الإبانة عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، إما أن تصدّقوا بباطل ، أو تكذبوا بحق ، والله لو كان موسى حيًّا بين أظهركم ما حلّ له إلاّ أن يتبعني » وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن ابن مسعود قال : لا تسألوا أهل الكتاب ، وذكر نحو حديث جابر ، ثم قال : فإن كنتم سائليهم لا محالة فانظروا ما واطأ كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه .
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
قوله : { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب } هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والإشارة إلى مصدر الفعل كما بيناه في مواضع كثيرة ، أي ومثل ذلك الإنزال البديع أنزلنا إليك الكتاب ، وهو : القرآن ، وقيل : المعنى : كما أنزلنا الكتاب عليهم أنزلنا عليك القرآن { فالذين ءاتيناهم الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ } يعني : مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام ، وخصهم بإيتائهم الكتاب لكونهم العاملين به وكأن غيرهم لم يؤتوه لعدم عملهم بما فيه ، وجحدهم لصفات رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكورة فيه { وَمِنْ هؤلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ } الإشارة إلى أهل مكة ، والمراد : أن منهم ، وهو من قد أسلم من يؤمن به ، أي بالقرآن ، وقيل : الإشارة إلى جميع العرب { وَمَا يَجْحَدُ بئاياتنا } أي آيات القرآن { إِلاَّ الكافرون } المصممون على كفرهم من المشركين ، وأهل الكتاب .
{ وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْ قَبْلِهِ مِن كتاب } الضمير في قبله راجع إلى القرآن لأنه المراد بقوله : { أنزلنا إليك الكتاب } أي ما كنت يا محمد تقرأ قبل القرآن كتاباً ولا تقدر على ذلك لأنك أمّي لا تقرأ ولا تكتب { وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } أي ولا تكتبه؛ لأنك لا تقدر على الكتابة . قال مجاهد : كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية . قال النحاس : وذلك دليل على نبوّته؛ لأنه لا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب ولم يكن بمكة أهل كتاب فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم { إِذاً لارتاب المبطلون } أي لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط لقالوا : لعله وجد ما يتلوه علينا من كتب الله السابقة أو من الكتب المدوّنة في أخبار الأمم ، فلما كنت أمياً لا تقرأ ولا تكتب لم يكن هناك موضع للريبة ولا محل للشك أبداً ، بل إنكار من أنكر وكفر من كفر مجرّد عناد وجحود بلا شبهة ، وسماهم مبطلين لأن ارتيابهم على تقدير أنه صلى الله عليه وسلم يقرأ ويكتب ظلم منهم لظهور نزاهته ووضوح معجزاته .
{ بَلْ هُوَ ءايات بينات } يعني : القرآن { فِي صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم } يعني : المؤمنين الذين حفظوا القرآن على عهده صلى الله عليه وسلم ، وحفظوه بعده ، وقال قتادة ومقاتل : إن الضمير يرجع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أي بل محمد آيات بينات ، أي ذو آيات . وقرأ ابن مسعود : « بل هي آيات بينات » قال الفراء : معنى هذه القراءة : بل آيات القرآن آيات بينات . واختار ابن جرير ما قاله قتادة ومقاتل ، وقد استدل لما قالاه بقراءة ابن السميفع : « بل هذا آيات بينات » ولا دليل في هذه القراءة على ذلك؛ لأن الإشارة يجوز أن تكون إلى القرآن كما جاز أن تكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، بل رجوعها إلى القرآن أظهر لعدم احتياج ذلك إلى التأويل ، والتقدير : { وَمَا يَجْحَدُ بئاياتنا إِلاَّ الظالمون } أي المجاوزون للحدّ في الظلم { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايات مّن رَّبّهِ } أي قال المشركون هذا القول ، والمعنى : هلا أنزلت عليه آيات كآيات الأنبياء ، وذلك كآيات موسى وناقة صالح وإحياء المسيح للموتى ، ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم فقال : { قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله } ينزلها على من يشاء من عباده ولا قدرة لأحد على ذلك { وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أنذركم كما أمرت وأبين لكم كما ينبغي ، ليس في قدرتي غير ذلك .
قرأ ابن كثير وأبو بكر وحمزة والكسائي : « لولا أنزل عليه آية » بالإفراد . وقرأ الباقون بالجمع ، واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله : { قل إنما الآيات } . { أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ } هذه الجملة مستأنفة للردّ على اقتراحهم وبيان بطلانه ، أي أو لم يكف المشركين من الآيات التي اقترحوها هذا الكتاب المعجز الذي قد تحدّيتهم بأن يأتوا بمثله أو بسورة منه ، فعجزوا ، ولو أتيتهم بآيات موسى وآيات غيره من الأنبياء لما آمنوا ، كما لم يؤمنوا بالقرآن الذي يتلى عليهم في كل زمان ، ومكان { إِنَّ فِي ذَلِكَ } الإشارة إلى الكتاب الموصوف بما ذكر { لَرَحْمَةً } عظيمة في الدنيا ، والآخرة { وذكرى } في الدنيا يتذكرون بها ، وترشدهم إلى الحق { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي لقوم يصدّقون بما جئت به من عند الله ، فإنهم هم الذين ينتفعون بذلك { قُلْ كفى بالله بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً } أي قل للمكذبين كفى الله شهيداً بما وقع بيني وبينكم { يَعْلَمُ مَا فِي السموات والأرض } لا تخفى عليه من ذلك خافية ، ومن جملته ما صدر بينكم وبين رسوله { والذين ءَامَنُواْ بالباطل وَكَفَرُواْ بالله أولئك هُمُ الخاسرون } أي آمنوا بما يعبدونه من دون الله وكفروا بالحق وهو الله سبحانه ، أولئك هم الجامعون بين خسران الدنيا والآخرة .
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب } استهزاء وتكذيباً منهم بذلك كقولهم : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] . { وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى } قد جعله الله لعذابهم وعينه ، وهو القيامة ، وقال الضحاك : الأجل : مدّة أعمارهم؛ لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب { لَّجَاءهُمُ العذاب } أي لولا ذلك الأجل المضروب لجاءهم العذاب الذي يستحقونه بذنوبهم . وقيل : المراد بالأجل المسمى : النفخة الأولى . وقيل : الوقت الذي قدّره الله لعذابهم في الدنيا بالقتل والأسر يوم بدر . والحاصل : أن لكل عذاب أجلاً لا يتقدّم عليه ولا يتأخر عنه كما في قوله سبحانه : { لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ } [ الأنعام : 67 ] . وجملة : { وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً } مستأنفة مبينة لمجيء العذاب المذكور قبلها .
ومعنى بغتة : فجأة ، وجملة : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } في محل نصب على الحال ، أي حال كونهم لا يعلمون بإتيانه . ثم ذكر سبحانه أن موعد عذابهم النار ، فقال : { يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } أي يطلبون منك تعجيل عذابهم والحال أن مكان العذاب محيط بهم ، أي سيحيط بهم عن قرب ، فإن ما هو آت قريب ، والمراد بالكافرين : جنسهم ، فيدخل فيه هؤلاء المستعجلون دخولاً أوّلياً ، فقوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب } إخبار عنهم ، وقوله ثانياً : { يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب } تعجب منهم . وقيل : التكرير للتأكيد .
ثم ذكر سبحانه كيفية إحاطة العذاب بهم فقال : { يَوْمَ يغشاهم العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } أي من جميع جهاتهم ، فإذا غشيهم العذاب على هذه الصفة ، فقد أحاطت بهم جهنم { وَنَقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } القائل هو الله سبحانه ، أو بعض ملائكته يأمره ، أي ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون من الكفر والمعاصي . قرأ أهل المدينة والكوفة : « نقول » بالنون . وقرأ الباقون بالتحتية ، واختار القراءة الأخيرة أبو عبيد لقوله : { قُلْ كفى بالله } وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة : « ويقال ذوقوا » .
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والإسماعيلي في معجمه عن ابن عباس في قوله : { وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْ قَبْلِهِ مِن كتاب وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ولا يكتب كان أمياً ، وفي قوله : { بَلْ هُوَ ءايات بينات فِي صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم } قال : كان الله أنزل شأن محمد في التوراة والإنجيل لأهل العلم وعلمه لهم وجعله لهم آية فقال لهم : إن آية نبوّته أن يخرج حين يخرج ولا يعلم كتاباً ولا يخطه بيمينه ، وهي الآيات البينات التي قال الله تعالى . وأخرج البيهقي في سننه عن ابن مسعود في قوله : { وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْ قَبْلِهِ مِن كتاب } الآية قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ولا يكتب .
وأخرج الفريابي والدارمي ، وأبو داود في مراسيله وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن يحيى بن جعدة قال : جاء أناس من المسلمين بكتب قد كتبوها فيها بعض ما سمعوه من اليهود ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « كفى بقوم حمقاً أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم » فنزلت : { أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ } الآية . وأخرجه الإسماعيلي في معجمه ، وابن مردويه من طريق يحيى بن جعدة عن أبي هريرة ، فذكره بمعناه . وأخرج عبد الرزاق في المصنف ، والبيهقي في الشعب عن الزهري؛ أن حفصة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب من قصص يوسف في كتف ، فجعلت تقرؤه والنبي صلى الله عليه وسلم يتلوّن وجهه فقال :
« والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا نبيكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم » وأخرج عبد الرزاق ، وابن سعد وابن الضريس ، والحاكم في الكنى ، والبيهقي في الشعب عن عبد الله ابن الحارث الأنصاري قال : دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب فيه مواضع من التوراة فقال : هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيراً شديداً لم أر مثله قط ، فقال عبد الله بن الحارث لعمر : أما ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر : رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ، فسرّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : « لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم أنا حظكم من النبيين وأنتم حظكم من الأمم » وأخرج نحوه عبد الرزاق والبيهقي من طريق أبي قلابة عن عمر . وأخرج البيهقي وصححه عن عمر بن الخطاب قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تعلم التوراة فقال : « لا تتعلمها وآمن بها ، وتعلموا ما أنزل إليكم وآمنوا به » وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } قال : جهنم هو هذا البحر الأخضر تنتثر الكواكب فيه وتكون فيه الشمس والقمر ثم يستوقد فيكون هو جهنم ، وفي هذا نكارة شديدة ، فإن الأحاديث الكثيرة الصحيحة ناطقة بأن جهنم موجودة مخلوقة على الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة .
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
لما ذكر سبحانه حال الكفرة من أهل الكتاب ومن المشركين وجمعهم في الإنذار وجعلهم من أهل النار اشتدّ عنادهم ، وزاد فسادهم ، وسعوا في إيذاء المسلمين بكل وجه فقال الله سبحانه : { ياعبادي الذين آمنوا } أضافهم إليه بعد خطابه لهم تشريفاً وتكريماً ، والذين آمنوا صفة موضحة أو مميزة { إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ } إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان ، وفي مكايدة للكفار فاخرجوا منها لتتيسر لكم عبادتي وحدي وتتسهل عليكم . قال الزجاج : أمروا بالهجرة من الموضع الذي لا يمكنهم فيه عبادة الله ، وكذلك يجب على من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له أن يعبد الله حق عبادته . وقال مطرف بن الشخير : المعنى : إن رحمتي واسعة ورزقي لكم واسع ، فابتغوه في الأرض . وقيل : المعنى : إن أرضي التي هي أرض الجنة واسعة فاعبدون حتى أورثكموها . وانتصاب { إياي } بفعل مضمر ، أي فاعبدوا إياي . ثم خوّفهم سبحانه بالموت ليهون عليهم أمر الهجرة فقال : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } أي كل نفس من النفوس واجدة مرارة الموت لا محالة ، فلا يصعب عليكم ترك الأوطان ، ومفارقة الإخوان والخلان ، ثم إلى الله المرجع بالموت والبعث لا إلى غيره ، فكل حيّ في سفر إلى دار القرار وإن طال لبثه في هذه الدار .
{ والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مّنَ الجنة غُرَفَاً } في هذا الترغيب إلى الهجرة ، وأن جزاء من هاجر أن يكون في غرف الجنة ، ومعنى { لنبوّئنهم } : لننزلنهم غرف الجنة ، وهي علاليها : فانتصاب { غرفاً } على أنه المفعول الثاني على تضمين نبوئتهم معنى : ننزلنهم ، أو على الظرفية مع عدم التضمين؛ لأن نبوئتهم لا يتعدّى إلاّ إلى مفعول واحد . وإما منصوب بنزع الخافض اتساعاً ، أي في غرف الجنة ، وهو مأخوذ من المباءة ، وهي الإنزال . قرأ أبو عمرو ويعقوب والجحدري وابن أبي إسحاق وابن محيصن والأعمش وحمزة والكسائي وخلف : « يا عبادي » بإسكان الياء ، وفتحها الباقون . وقرأ ابن عامر : « إن أرضي » بفتح الياء ، وسكنها الباقون . وقرأ السلمي وأبو بكر عن عاصم : « يرجعون » بالتحتية ، وقرأ الباقون بالفوقية . وقرأ ابن مسعود والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي : « لنثوينهم » بالثاء المثلثة مكان الباء الموحدة ، وقرأ الباقون بالباء الموحدة ، ومعنى لنثوينهم بالمثلثة : لنعطينهم غرفاً يثوون فيها من الثوى وهو الإقامة . قال الزجاج ، يقال : ثوى الرجل : إذا أقام ، وأثويته : إذا أنزلته منزلاً يقيم فيه . قال الأخفش : لا تعجبني هذه القراءة ، لأنك لا تقول : أثويته الدار ، بل تقول : في الدار ، وليس في الآية حرف جرّ في المفعول الثاني . قال أبو علي الفارسي : هو على إرادة حرف الجرّ ، ثم حذف كما تقول : أمرتك الخير ، أي بالخير .
ثم وصف سبحانه تلك الغرف فقال : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أي من تحت الغرف { خالدين فِيهَا } أي في الغرف لا يموتون أبداً ، أو في الجنة ، والأوّل أولى { نِعْمَ أَجْرُ العاملين } المخصوص بالمدح محذوف ، أي نعم أجر العاملين أجرهم ، والمعنى : العاملين للأعمال الصالحة . ثم وصف هؤلاء العاملين فقال : { الذين صَبَرُواْ } على مشاق التكليف ، وعلى أذية المشركين لهم ، ويجوز أن يكون منصوباً على المدح { وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي يفوّضون أمورهم إليه في كل إقدام وإحجام .
ثم ذكر سبحانه ما يعين على الصبر والتوكل ، وهو النظر في حال الدوابّ ، فقال : { وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } قد تقدّم الكلام في كأين ، وأن أصلها : أي ، دخلت عليها كاف التشبيه ، وصار فيها معنى : كم كما صرح به الخليل وسيبويه ، وتقديرها عندهما كشيء كثير من العدد من دابة . وقيل : المعنى : وكم من دابة . ومعنى { لا تحمل رزقها } : لا تطيق حمل رزقها لضعفها ، ولا تدّخره ، وإنما يرزقها الله من فضله ويرزقكم؛ فكيف لا يتوكلون على الله مع قوّتهم وقدرتهم على أسباب العيش كتوكلها على الله مع ضعفها ، وعجزها؟ قال الحسن : تأكل لوقتها ، لا تدّخر شيئاً . قال مجاهد : يعني : الطير والبهائم تأكل بأفواهها ، ولا تحمل شيئاً { وَهُوَ السميع } الذي يسمع كل مسموع { العليم } بكل معلوم . ثم إنه سبحانه ذكر حال المشركين من أهل مكة وغيرهم ، وعجب السامع من كونهم يقرّون بأنه خالقهم ورازقهم ولا يوحدونه ويتركون عبادة غيره فقال : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله } أي خلقها ، لا يقدرون على إنكار ذلك ، ولا يتمكنون من جحوده { فأنى يُؤْفَكُونَ } أي فكيف يصرفون عن الإقرار بتفرّده بالإلهية؟ وأنه وحده لا شريك له ، والاستفهام للإنكار والاستبعاد . ولما قال المشركون لبعض المؤمنين : لو كنتم على حق لم تكونوا فقراء دفع سبحانه ذلك بقوله : { الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ } أي التوسيع في الرزق والتقتير له هو من الله الباسط القابض يبسطه لمن يشاء ويضيقه على من يشاء على حسب ما تقتضيه حكمته ، وما يليق بحال عباده من القبض والبسط ، ولهذا قال : { إِنَّ الله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ } يعلم ما فيه صلاح عباده وفسادهم .
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السماء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله } أي نزّله ، وأحيا به الأرض الله ، يعترفون بذلك لا يجدون إلى إنكاره سبيلاً . ثم لما اعترفوا هذا الاعتراف في هذه الآيات ، وهو يقتضي بطلان ما هم عليه من الشرك وعدم إفراد الله سبحانه بالعبادة ، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحمد الله على إقرارهم وعدم جحودهم مع تصلبهم في العناد ، وتشدّدهم في ردّ كل ما جاء به رسول الله من التوحيد فقال : { قُلِ الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } أي احمد الله على أن جعل الحق معك ، وأظهر حجتك عليهم ، ثم ذمهم فقال : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } الأشياء التي يتعقلها العقلاء .
فلذلك لا يعملون بمقتضى ما اعترفوا به مما يستلزم بطلان ماهم عليه عند كل عاقل .
ثم أشار سبحانه إلى تحقير الدنيا وأنها من جنس اللعب واللهو ، وأن الدار على الحقيقة هي دار الآخرة ، فقال : { وَمَا هذه الحياة الدنيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ } من جنس ما يلهو به الصبيان ويلعبون به { وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان } . قال ابن قتيبة وأبو عبيدة : إن الحيوان الحياة . قال الواحدي : وهو قول جميع المفسرين ذهبوا إلى أن معنى الحيوان : ههنا : الحياة ، وأنه مصدر بمنزلة الحياة ، فيكون كالنزوان والغليان ويكون التقدير : وإن الدار الآخرة لهي دار الحيوان ، أو ذات الحيوان : أي : دار الحياة الباقية التي لا تزول ولا ينغصها موت ، ولا مرض ، ولا همّ ولا غمّ { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } شيئاً من العلم لما آثروا عليها الدار الفانية المنغصة .
ثم بين سبحانه أنه ليس المانع لهم من الإيمان إلاّ مجرّد تأثير الحياة فقال : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } أي إذا انقطع رجاؤهم من الحياة وخافوا الغرق رجعوا إلى الفطرة ، فدعوا الله وحده كائنين على صورة المخلصين له الدين بصدق نياتهم ، وتركهم عند ذلك لدعاء الأصنام لعلمهم أنه لا يكشف هذه الشدّة العظيمة النازلة بهم غير الله سبحانه { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } أي فاجؤوا المعاودة إلى الشرك ، ودعوا غير الله سبحانه . والركوب هو : الاستعلاء ، وهو متعدّ بنفسه ، وإنما عدّي بكلمة في للإشعار بأن المركوب في نفسه من قبيل الأمكنة ، واللام في { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم } وفي قوله : { وَلِيَتَمَتَّعُواْ } للتعليل ، أي فاجؤوا الشرك بالله ليكفروا بنعمة الله وليتمتعوا بهما فهما في الفعلين لام كي ، وقيل : هما لاما الأمر تهديداً ووعيداً ، أي اكفروا بما أعطيناكم من النعمة وتمتعوا ، ويدلّ على هذه القراءة قراءة أبيّ : « وتمتعوا » وهذا الاحتمال للأمرين إنما هو على قراءة أبي عمرو وابن عامر وعاصم وورش بكسر اللام ، وأما على قراءة الجمهور بسكونها فلا خلاف أنها لام الأمر ، وفي قوله : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } تهديد عظيم لهم ، أي فسيعلمون عاقبة ذلك وما فيه من الوبال عليهم .
{ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءَامِناً } أي ألم ينظروا؟ يعني : كفار قريش أنا جعلنا حرمهم هذا حرماً آمناً يأمن فيه ساكنه من الغارة والقتل والسبي والنهب فصاروا في سلامة وعافية مما صار فيه غيره من العرب فإنهم في كل حين تطرقهم الغارات ، وتجتاح أموالهم الغزاة ، وتسفك دماءهم الجنود ، وتستبيح حرمهم وأموالهم شطار العرب وشياطينها ، وجملة : { وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } في محل نصب على الحال ، أي يختلسون من حولهم بالقتل والسبي والنهب .
والخطف : الأخذ بسرعة ، وقد مضى تحقيق معناه في سورة القصص { أفبالباطل يُؤْمِنُونَ } وهو الشرك بعد ظهور حجة الله عليهم وإقرارهم بما يوجب التوحيد { وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ } يجعلون كفرها مكان شكرها ، وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ ما لا يقادر قدره .
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } أي لا أحد أظلم منه ، وهو من زعم أن لله شريكاً { أَوْ كَذَّبَ بالحق لَمَّا جَاءهُ } أي كذّب بالرسول الذي أرسل إليه والكتاب الذي أنزله على رسوله . وقال السديّ : كذّب بالتوحيد ، والظاهر شموله لما يصدق عليه أنه حق . ثم هدّد المكذبين وتوعدهم فقال : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين } أي مكان يستقرّون فيه ، والاستفهام للتقرير ، والمعنى : أليس يستحقون الاستقرار فيها وقد فعلوا ما فعلوا؟ ثم لما ذكر حال المشركين الجاحدين للتوحيد الكافرين بنعم الله أردفه بحال عباده الصالحين ، فقال : { والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } أي جاهدوا في شأن الله لطلب مرضاته ورجاء ما عنده من الخير لنهدينهم سبلنا ، أي الطريق الموصل إلينا . قال ابن عطية : هي مكية نزلت قبل فرض الجهاد العرفي ، وإنما هو جهاد عامّ في دين الله وطلب مرضاته ، وقيل : الآية هذه نزلت في العباد . وقال إبراهيم بن أدهم : هي في الذين يعملون بما يعلمون { وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين } بالنصر والعون ، ومن كان معه لم يخذل ، ودخلت لام التوكيد على مع بتأويل كونها اسماً ، أو على أنها حرف ودخلت عليها لإفادة معنى الاستقرار كما تقول : إن زيداً لفي الدار ، والبحث مقرّر في علم النحو .
قد أخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لما نزلت هذه الآية { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ } [ الزمر : 30 ] قلت : يا ربّ أيموت الخلائق كلهم ويبقى الأنبياء؟ فنزلت : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } » وينظر كيف صحة هذا ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يسمع قول الله سبحانه : { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ } يعلم أنه ميت ، وقد علم أن من قبله من الأنبياء قد ماتوا ، وأنه خاتم الأنبياء ، فكيف ينشأ عن هذه الآية ما سأل عنه عليّ رضي الله عنه من قوله : « أيموت الخلائق ويبقى الأنبياء » ، فلعلّ هذه الرواية لا تصح مرفوعة ولا موقوفة .
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر - قال السيوطي بسند ضعيف - عن ابن عمر قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان المدينة ، فجعل يلتقط التمر ويأكل ، فقال لي :
« مالك لا تأكل؟ » قلت : لا أشتهيه يا رسول الله ، قال : « لكني أشتهيه وهذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاماً ولم أجده ، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر ، فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يحبون رزق سنتهم ويضعف اليقين » قال : فوالله ما برحنا ، ولا رمنا حتى نزلت : { وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله لم يأمرني بكنز الدنيا ولا باتباع الشهوات ، ألا وإني لا أكنز ديناراً ولا درهماً ، ولا أخبأ رزقاً لغد » وهذا الحديث فيه نكارة شديدة لمخالفته لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد كان يعطي نساءه قوت العام كما ثبت ذلك في كتب الحديث المعتبرة . وفي إسناده أبو العطوف الجوزي وهو ضعيف . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان } قال : باقية . وأخرج ابن أبي الدنيا ، والبيهقي في الشعب عن أبي جعفر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا عجباً كل العجب للمصدّق بدار الحيوان وهو يسعى لدار الغرور » وهو مرسل .
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
قد تقدّم الكلام على فاتحة هذه السورة في فاتحة سورة البقرة ، وتقدّم الكلام على محلها من الإعراب ، ومحلّ أمثالها في غير موضع من فواتح السور . قرأ الجمهور : { غلبت الروم } بضم الغين المعجمة وكسر اللام مبنياً للمفعول ، وقرأ عليّ بن أبي طالب وأبو سعيد الخدري ومعاوية بن قرّة وابن عمر وأهل الشام بفتح الغين ، واللام مبنياً للفاعل . قال النحاس : قراءة أكثر الناس : { غُلِبَتِ } بضم الغين وكسر اللام . قال أهل التفسير : غلبت فارس الروم ففرح بذلك كفار مكة وقالوا : الذين ليس لهم كتاب غلبوا الذين لهم كتاب ، وافتخروا على المسلمين وقالوا : نحن أيضاً نغلبكم كما غلبت فارس الروم ، وكان المسلمين يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب .
ومعنى { فِي أَدْنَى الأرض } : في أقرب أرضهم من أرض العرب ، أو في أقرب أرض العرب منهم . قيل : هي أرض الجزيرة . وقيل : أذرعات . وقيل : كسكر : وقيل : الأدرن . وقيل : فلسطين ، وهذه المواضع هي أقرب إلى بلاد العرب من غيرها ، وإنما حملت الأرض على أرض العرب لأنها المعهود في ألسنتهم إذا أطلقوا الأرض أرادوا بها جزيرة العرب . وقيل : إن الألف واللام عوض عن المضاف إليه . والتقدير : في أدنى أرضهم فيعود الضمير إلى الروم ، ويكون المعنى : في أقرب أرض الروم من العرب . قال ابن عطية : إن كانت الوقعة بأذرعات ، فهي من أدنى الأرض بالقياس إلى مكة ، وإن كانت الوقعة بالجزيرة ، فهي أدنى بالقياس إلى أرض كسرى ، وإن كانت بالأردن ، فهي أدنى إلى أرض الروم { وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } أي والروم من بعد غلب فارس إياهم سيغلبون أهل فارس ، والغلب والغلبة لغتان ، والمصدر مضاف إلى المفعول على قراءة الجمهور ، وإلى الفاعل على قراءة غيرهم . قرأ الجمهور : { سيغلبون } مبنياً للفاعل ، وقرأ علي وأبو سعيد ومعاوية بن قرّة وابن عمر ، وأهل الشام على البناء للمفعول ، وسيأتي في آخر البحث ما يقوّي قراءة الجمهور في الموضعين . وقرأ أبو حيوة الشامي وابن السميفع : « من بعد غلبهم » بسكون اللام .
{ فِي بِضْعِ سِنِينَ } متعلق بما قبله ، وقد تقدّم تفسير البضع واشتقاقه في سورة يوسف ، والمراد به هنا ما بين الثلاثة إلى العشرة { لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } أي هو المنفرد بالقدرة وإنقاذ الأحكام وقت مغلوبيتهم ووقت غالبيتهم ، فكلّ ذلك بأمر الله سبحانه وقضائه ، قرأ الجمهور : { من قبل ومن بعد } بضمهما لكونهما مقطوعين عن الإضافة ، والتقدير : من قبل الغلب ومن بعده ، أو من قبل كل أمر ومن بعده . وحكى الكسائي « من قبل ومن بعدُ » بكسر الأوّل منوّناً وضم الثاني بلا تنوين . وحكى الفراء « من قبلِ ومن بعدِ » بكسرهما من غير تنوين ، وغلطه النحاس .
قال شهاب الدين : قد قرىء بكسرهما منوّنين . قال الزجاج : ومعنى الآية : من متقدّم ومن متأخر { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله } أي يوم أن تغلب الروم على فارس في بضع سنين يفرح المؤمنون بنصر الله للروم لكونهم أهل كتاب كما أن المسلمين أهل كتاب ، بخلاف فارس فإنه لا كتاب لهم ، ولهذا سرّ المشركون بنصرهم على الروم . وقيل : نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم على فارس ، والأوّل أولى . قال الزجاج : وهذه الآية من الآيات التي تدل على أن القرآن من عند الله لأنه إنباء بما سيكون ، وهذا لا يعلمه إلاّ الله سبحانه { يَنصُرُ مَن يَشَاء } أن ينصره { وَهُوَ العزيز } الغالب القاهر { الرحيم } الكثير الرحمة لعباده المؤمنين . وقيل : المراد بالرحمة هنا : الدنيوية ، وهي شاملة للمسلم والكافر .
{ وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ } أي : وعد الله وعداً لا يخلفه ، وهو ظهور الروم على فارس { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أن الله لا يخلف وعده ، وهم الكفار ، وقيل : كفار مكة على الخصوص . { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا } أي يعلمون ظاهر ما يشاهدونه من زخارف الدنيا وملاذها وأمر معاشهم وأسباب تحصيل فوائدهم الدنيوية . وقيل : هو ما تلقيه الشياطين إليهم من أمور الدنيا عند استراقهم السمع . وقيل : الظاهر : الباطل { وَهُمْ عَنِ الآخرة } التي هي النعمة الدائمة ، واللذة الخالصة { هُمْ غافلون } لا يلتفتون إليها ولا يعدون لها ما يحتاج إليه ، أو غافلون عن الإيمان بها والتصديق بمجيئها .
{ أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ الله السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } الهمزة للإنكار عليهم ، والواو للعطف على مقدّر كما في نظائره ، و { في أنفسهم } ظرف للتفكر وليس مفعولاً للتفكر والمعنى : أن أسباب التفكر حاصلة لهم ، وهي أنفسهم لو تفكروا فيها كما ينبغي لعلموا وحدانية الله وصدق أنبيائه . وقيل : إنها مفعول للتفكر . والمعنى : أو لم يتفكروا في خلق الله إياهم ولم يكونوا شيئاً؟ و«ما» في : { ما خلق الله } نافية ، أي لم يخلقها إلاّ بالحق الثابت الذي يحق ثبوته ، أو هي اسم في محل نصب على إسقاط الخافض ، أي بما خلق الله ، والعامل فيها العلم الذي يؤدي إليه التفكر . وقال الزجاج : في الكلام حذف ، أي فيعلموا ، فجعل " ما " معمولة للفعل المقدّر لا للعلم المدلول : عليه ، والباء في : { إِلاَّ بالحق } إما للسببية ، أو هي ومجرورها في محل نصب على الحال ، أي ملتبسة بالحق . قال الفراء : معناه : إلاّ للحق ، أي للثواب ، والعقاب . وقيل : بالحق : بالعدل . وقيل : بالحكمة . وقيل : بالحق ، أي أنه هو الحق وللحق خلقها { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } معطوف على الحق ، أي وبأجل مسمى للسماوات والأرض وما بينهما تنتهي إليه ، وهو يوم القيامة ، وفي هذا تنبيه على الفناء ، وأن لكل مخلوق أجلاً لا يجاوزه .
وقيل : معنى { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } : أنه خلق ما خلق في وقت سماه لخلق ذلك الشيء { وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الناس بِلِقَاء رَبّهِمْ لكافرون } أي لكافرون بالبعث بعد الموت ، واللام هي المؤكدة ، والمراد بهؤلاء : الكفار على الإطلاق ، أو كفار مكة .
{ أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض } الاستفهام للتقريع والتوبيخ لعدم تفكرهم في الآثار وتأملهم لمواقع الاعتبار ، والفاء في : { فَيَنظُرُواْ } للعطف على { يسيروا } داخل تحت ما تضمنه الاستفهام من التقريع والتوبيخ ، والمعنى : أنهم قد ساروا وشاهدوا { كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ } من طوائف الكفار الذين أهلكهم الله بسبب كفرهم بالله ، وجحودهم للحق وتكذيبهم للرسل ، وجملة : { كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } مبينة للكيفية التي كانوا عليها ، وأنهم أقدر من كفار مكة ومن تابعهم على الأمور الدنيوية ، ومعنى { وَأَثَارُواْ الأرض } : حرثوها وقلبوها للزراعة وزاولوا أسباب ذلك ، ولم يكن أهل مكة أهل حرث { وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا } أي عمروها عمارة أكثر مما عمرها هؤلاء؛ لأن أولئك كانوا أطول منهم أعماراً ، وأقوى أجساماً ، وأكثر تحصيلاً لأسباب المعاش ، فعمروا الأرض بالأبنية والزراعة والغرس { وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم } بالبينات ، أي المعجزات . وقيل : بالأحكام الشرعية { فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ } بتعذيبهم على غير ذنب { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بالكفر والتكذيب .
{ ثُمَّ كَانَ عاقبة الذين أَسَاءُواْ } أي عملوا السيئات من الشرك والمعاصي { السُوأَى } هي فعلى من السوء ثأنيث الأسوأ ، وهو : الأقبح ، أي كان عاقبتهم العقوبة التي هي أسوأ العقوبات . وقيل : هي اسم لجهنم كما أن الحسنى اسم للجنة ، ويجوز أن تكون مصدراً كالبشرى والذكرى ، وصفت به العقوبة مبالغة . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : « عاقبة » بالرفع على أنها اسم كان ، وتذكير الفعل لكون تأنيثها مجازياً ، والخبر السوأى ، أي الفعلة أو الخصلة أو العقوبة السوأى أو الخبر { أَن كَذَّبُواْ } أي : كان آخر أمرهم التكذيب ، وقرأ الباقون : { عاقبة } بالنصب على خبر كان ، والاسم السوأى ، أو أن كذبوا ، ويكون التقدير : ثم كان التكذيب عاقبة الذين أساؤوا ، والسوأى مصدر أساؤوا ، أو صفة لمحذوف . وقال الكسائي : إن قوله : { أَن كَذَّبُواْ } في محل نصب على العلة ، أي لأن كذبوا بآيات الله التي أنزلها على رسله ، أو بأن كذبوا ، ومن القائلين بأن السوأى : جهنم ، الفراء والزجاج وابن قتيبة وأكثر المفسرين ، وسميت : سوأى لكونها تسوء صاحبها . قال الزجاج : المعنى : ثم كان عاقبة الذين أشركوا النار بتكذيبهم آيات الله واستهزائهم ، وجملة : { وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئونَ } عطف على كذبوا ، داخلة معه في حكم العلية على أحد القولين ، أو في حكم الاسمية لكان ، أو الخبرية لها على القول الآخر .
وقد أخرج أحمد ، والترمذي وحسنه ، والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والطبراني في الكبير ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله : { الم * غُلِبَتِ الروم } قال : كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ، لأنهم كانوا أصحاب أوثان ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أصحاب كتاب ، فذكروه لأبي بكر ، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« أما إنهم سيغلبون » فذكره أبو بكر لهم ، فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلاً فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا ، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا ، فجعل بينهم أجلاً خمس سنين فلم يظهروا ، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « ألا جعلته » - أراه قال - : دون العشر ، فظهرت الروم بعد ذلك ، فذلك قوله : { الم غُلِبَتِ الروم } فغلبت ، ثم غلبت بعد بقول الله : { لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله } قال سفيان : سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر . وأخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن البراء بن عازب نحوه ، وزاد : أنه لما مضى الأجل ولم تغلب الروم فارس ، ساء النبيّ ما جعله أبو بكر من المدّة وكرهه وقال : « ما دعاك إلى هذا؟ » قال : تصديقاً لله ولرسوله فقال : « تعرّض لهم وأعظم الخطة واجعله إلى بضع سنين » ، فأتاهم أبو بكر فقال : هل لكم في العود ، فإن العود أحمد؟ قالوا : نعم ، فلم تمض تلك السنون حتى غلبت الروم فارس ، وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا رومية ، فقمر أبو بكر ، فجاء به أبو بكر يحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « هذا السحت تصدّق به » . وأخرج الترمذي وصححه ، والدارقطني في الأفراد ، والطبراني وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل ، والبيهقي في الشعب عن نيار ابن مكرم الأسلمي قال : لما نزلت { الم * غُلِبَتِ الروم } الآية كانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين الروم ، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم ، لأنهم وإياهم أهل الكتاب ، وفي ذلك يقول الله : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله } وكانت قريش تحبّ ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا أهل كتاب ولا إيمان ببعث ، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة : { الم * غُلِبَتِ الروم فِي أَدْنَى الأرض وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } فقال ناس من قريش لأبي بكر : ذلك بيننا وبينكم يزعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال : بلى ، وذلك قبل تحريم الرهان ، فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان ، وقالوا لأبي بكر : لم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين فسم بيننا وبينك وسطاً ننتهي إليه ، قال : فسموا بينهم ستّ سنين ، فمضت الستّ قبل أن يظهروا ، فأخذ المشركون رهن أبي بكر ، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم ، فعاب المسلمون على أبي بكر تسميته ستّ سنين؛ لأن الله قال : { فِي بِضْعِ سِنِينَ } فأسلم عند ذلك ناس كثير .
وأخرج الترمذي وحسنه ، وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر : « لا احتطت يا أبا بكر ، فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع » وأخرج البخاري عنه في تاريخه نحوه . وأخرج الفريابي ، والترمذي وحسنه ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد قال : لما كان يوم بدر ظهر الروم على فارس ، فأعجب ذلك المؤمنين ، فنزلت : « الم * غُلِبَتِ الروم » قرأها بالنصب يعني للغين على البناء للفاعل إلى قوله : { يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله } . قال : ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس ، وهذه الرواية مفسرة لقراءة أبي سعيد ومن معه .
وأخرج الحاكم وصححه عن أبي الدرداء قال : سيجيء أقوام يقرؤون : « الم * غَلِبَتِ الروم » يعني : بفتح الغين ، وإنما هي { غلبت } : يعني : بضمها ، وفي الباب روايات وما ذكرناه يغني عما سواه . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا } يعني : معايشهم ، متى يغرسون؟ ومتى يزرعون؟ ومتى يحصدون؟ وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في قوله : { كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } قال : كان الرجل ممن كان قبلكم بين منكبيه ميل .
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
قوله : { الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } أي يخلقهم أوّلاً ، ثم يعيدهم بعد الموت أحياء كما كانوا { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } إلى موقف الحساب ، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيىء بإساءته ، وأفرد الضمير في : { يعيده } باعتبار لفظ الخلق ، وجمعه في : { ترجعون } باعتبار معناه . قرأ أبو بكر وأبو عمرو : " يرجعون " بالتحتية . وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب والالتفات المؤذن بالمبالغة . { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون } قرأ الجمهور : { يبلس } على البناء للفاعل . وقرأ السلمي على البناء للمفعول ، يقال : أبلس الرجل : إذا سكت وانقطعت حجته . قال الفراء والزجاج : المبلس : الساكت المنقطع في حجته الذي أيس أن يهتدي إليها ، ومنه قول العجاج :
يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا ... قال : نعم أعرفه وأبلسا
وقال الكلبي : أي : يئس المشركون من كل خير حين عاينوا العذاب ، وقد قدّمنا تفسير الإبلاس عند قوله : { فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } [ الأنعام : 44 ] . { وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء } أي لم يكن للمشركين يوم تقوم الساعة من شركائهم الذين عبدوهم من دون الله شفعاء يجيرونهم من عذاب الله { وَكَانُواْ } في ذلك الوقت { بِشُرَكَائِهِمْ } أي بآلهتهم الذين جعلوهم شركاء لله { كافرين } أي : جاحدين لكونهم آلهة؛ لأنهم علموا إذ ذاك أنهم لا ينفعون ولا يضرون وقيل : إن معنى الآية : كانوا في الدنيا كافرين بسبب عبادتهم ، والأوّل أولى . { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } أي يتفرّق جميع الخلق المدلول عليهم بقوله : { الله يَبْدَأُ الخلق } والمراد بالتفرّق : أن كل طائفة تنفرد ، فالمؤمنون يصيرون إلى الجنة ، والكافرون إلى النار ، وليس المراد تفرّق كلّ فرد منهم عن الآخر ، ومثله قوله تعالى : { فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير } [ الشورى : 7 ] وذلك بعد تمام الحساب ، فلا يجتمعون أبداً .
ثم بيّن سبحانه كيفية تفرّقهم ، فقال : { فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ } قال النحاس : سمعت الزجاج يقول : معنى «أما» : دع ما كنا فيه ، وخذ في غيره ، وكذا قال سيبويه : إن معناها : مهما يكن من شيء فخذ في غير ما كنا فيه . والروضة كل أرض ذات نبات . قال المفسرون : والمراد بها هنا : الجنة ، ومعنى { يحبرون } : يسرون ، والحبور والحبرة : السرور ، أي فهم في رياض الجنة ينعمون . قال أبو عبيد : الروضة ما كان في سفل ، فإذا كان مرتفعاً فهو : ترعة . وقال غيره : أحسن ما تكون الروضة إذا كانت في مكان مرتفع ، ومنه قول الأعشى :
ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل
وقيل : معنى { يحبرون } : يكرمون . قال النحاس : حكى الكسائي حبرته ، أي أكرمته ، ونعمته ، والأولى تفسير يحبرون بالسرور كما هو المعنى العربيّ ، ونفس دخول الجنة يستلزم الإكرام والنعيم ، وفي السرور زيادة على ذلك .
وقيل : التحبير التحسين ، فمعنى { يحبرون } يحسن إليهم ، وقيل : هو السماع الذي يسمعونه في الجنة . وقيل : غير ذلك ، والوجه ما ذكرناه . { وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ } بالله { وَكَذَّبُواْ بئاياتنا } وكذبوا ب { لِقَاء الآخرة } أي البعث والجنة والنار ، والإشارة بقوله : { فأولئك } إلى المتصفين بهذه الصفات ، وهو مبتدأ وخبره : { فِي العذاب مُحْضَرُونَ } أي مقيمون فيه . وقيل : مجموعون . وقيل : نازلون . وقيل : معذبون ، والمعاني متقاربة ، والمراد دوام عذابهم .
ثم لما بيّن عاقبة طائفة المؤمنين وطائفة الكافرين أرشد المؤمنين إلى ما فيه الأجر الوافر ، والخير العام فقال : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : فإذا علمتم ذلك فسبحوا الله ، أي نزهوه عما لا يليق به في وقت الصباح والمساء وفي العشي ، وفي وقت الظهيرة . وقيل : المراد بالتسبيح هنا الصلوات الخمس . فقوله : { حين تمسون } : صلاة المغرب والعشاء ، وقوله : { وحين تصبحون } : صلاة الفجر ، وقوله : { وعشيا } صلاة العصر ، وقوله : { وحين تظهرون } : صلاة الظهر ، وكذا قال الضحاك وسعيد بن جبير وغيرهما . قال الواحدي : قال المفسرون : إن معنى { فسبحان الله } : فصلوا لله . قال النحاس : أهل التفسير على أن هذه الآية في الصلوات قال : وسمعت محمد بن يزيد يقول : حقيقته عندي : فسبحوا الله في الصلوات؛ لأن التسبيح يكون في الصلاة . وجملة : { وَلَهُ الحمد فِي السموات والأرض } معترضة مسوقة للإرشاد إلى الحمد ، والإيذان بمشروعية الجمع بينه وبين التسبيح كما في قوله سبحانه : { فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ } [ الحجر : 98 ] وقوله : { وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ } [ البقرة : 30 ] وقيل : معنى { وله الحمد } أي الاختصاص له بالصلاة التي يقرأ فيها الحمد ، والأول أولى . وقرأ عكرمة : «حينا تمسون وحينا تصبحون» ، والمعنى : حينا تمسون فيه ، وحينا تصبحون فيه . والعشيّ : من صلاة المغرب إلى العتمة . قاله الجوهري ، وقال قوم : هو من زوال الشمس إلى طلوع الفجر ، ومنه قول الشاعر :
غدونا غدوة سحرا بليل ... عشيا بعد ما انتصف النهار
وقوله : { عشيا } معطوف على حين { وفي السماوات } متعلق بنفس الحمد ، أي الحمد له يكون في السماوات والأرض { يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } كالإنسان من النطفة والطير من البيضة { وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } كالنطفة والبيضة من الحيوان . وقد سبق بيان هذا في سورة آل عمران . وقيل : ووجه تعلق هذه الآية بالتي قبلها أن الإنسان عند الصباح يخرج من شبه الموت وهو النوم إلى شبه الوجود وهو اليقظة ، وعند العشاء يخرج من اليقظة إلى النوم { وَيُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } أي يحييها بالنبات بعد موتها باليباس ، وهو شبيه بإخراج الحيّ من الميت { وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } أي ومثل ذلك الإخراج تخرجون من قبوركم . قرأ الجمهور : { تخرجون } على البناء للمفعول . وقرأ حمزة والكسائي على البناء للفاعل ، فأسند الخروج إليهم كقوله : { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث } [ المعارج : 43 ] { وَمِنْ ءاياته أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ } أي من آياته الباهرة الدالة على البعث أن خلقكم ، أي خلق أباكم آدم من تراب ، وخلقكم في ضمن خلقه؛ لأن الفرع مستمد من الأصل ومأخوذ منه ، وقد مضى تفسير هذا في الأنعام ، و " أن " في موضع رفع بالابتداء ، و { من آياته } خبره { ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } " إذا " هي الفجائية ، أي ثم فاجأتم بعد ذلك وقت كونكم بشراً تنتشرون في الأرض .
وإذا الفجائية ، وإن كانت أكثر ما تقع بعد الفاء ، لكنها وقعت هنا بعد ثم بالنسبة إلى ما يليق بهذه الحالة الخاصة ، وهي أطوار الإنسان كما حكاه الله في مواضع : من كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً مكسوّاً لحماً فاجأ البشرية ، والانتشار ، ومعنى { تنتشرون } : تنصرفون فيما هو قوام معايشكم .
{ وَمِنْ ءاياته أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا } أي ومن علاماته ودلالاته الدالة على البعث أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً ، أي من جنسكم في البشرية والإنسانية . وقيل : المراد : حوّاء ، فإنه خلقها من ضلع آدم { لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا } أي تألفوها وتميلوا إليها ، فإن الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر ولا يميل قلبه إليه { وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } أي وداداً وتراحماً بسبب عصمة النكاح يعطف به بعضكم على بعض من غير أن يكون بينكم قبل ذلك معرفة ، فضلاً عن مودّة ورحمة . وقال مجاهد : المودّة : الجماع ، والرحمة الولد ، وبه قال الحسن . وقال السديّ : المودّة : المحبة ، والرحمة : الشفقة . وقيل : المودّة حبّ الرجل امرأته ، والرحمة رحمته إياها من أن يصيبها بسوء . وقوله : { أن خلق لكم } في موضع رفع على الابتداء ، و { من آياته } خبره { إِنَّ فِي ذَلِكَ } المذكور سابقاً . { لآيَاتٍ } عظيمة الشأن بديعة البيان واضحة الدلالة على قدرته سبحانه على البعث والنشور { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ، لأنهم الذين يقتدرون على الاستدلال لكون التفكر مادّة له يتحصل عنه ، وأما الغافلون عن التفكر فما هم إلاّ كالأنعام .
{ وَمِنْ ءاياته خَلْقُ السموات والأرض } فإن من خلق هذه الأجرام العظيمة ، التي هي أجرام السماوات والأرض ، وجعلها باقية ما دامت هذه الدار ، وخلق فيها من عجائب الصنع وغرائب التكوين ، ما هو عبرة للمعتبرين ، قادر على أن يخلقكم بعد موتكم وينشركم من قبوركم { واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ } أي لغاتكم من عرب وعجم ، وترك ، وروم ، وغير ذلك من اللغات { وألوانكم } من البياض ، والسواد ، والحمرة ، والصفرة ، والزرقة ، والخضرة مع كونكم أولاد رجل واحد وأم واحدة ، ويجمعكم نوع واحد وهو الإنسانية ، وفصل واحد وهو الناطقية ، حتى صرتم متميزين في ذات بينكم لا يلتبس هذا بهذا ، بل في كل فرد من أفرادكم ما يميزه عن غيره من الأفراد ، وفي هذا من بديع القدرة ما لا يعقله إلاّ العالمون ، ولا يفهمه إلاّ المتفكرون { إِنَّ فِي ذلك لآيات للعالمين } الذين هم من جنس هذا العالم من غير فرق بين برّ وفاجر ، قرأ الجمهور بفتح لام العالمين ، وقرأ حفص وحده بكسرها .
قال الفراء : وله وجه جيد لأنه قد قال : { لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } { لآيات لأُوْلِي الألباب } [ آل عمران : 190 ] { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون } [ العنكبوت : 43 ] .
{ وَمِنْ ءاياته مَنَامُكُم باليل والنهار وابتغاؤكم مّن فَضْلِهِ } قيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار . وقيل : المعنى صحيح من دون تقديم وتأخير ، أي ومن آياته العظيمة أنكم تنامون بالليل ، وتنامون بالنهار في بعض الأحوال للاستراحة كوقت القيلولة ، وابتغاؤكم من فضله فيهما ، فإن كل واحد منهما يقع فيه ذلك ، وإن كان ابتغاء الفضل في النهار أكثر . والأوّل هو المناسب لسائر الآيات الواردة في هذا المعنى ، والآخر هو المناسب للنظم القرآني ها هنا . ووجه ذكر النوم والابتغاء ها هنا ، وجعلهما من جملة الأدلة على البعث : أن النوم شبيه بالموت ، والتصرّف في الحاجات والسعي في المكاسب شبيه بالحياة بعد الموت { إِنَّ فِي ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي يسمعون الآيات والمواعظ سماع متفكّر متدبر ، فيستدلون بذلك على البعث { وَمِنْ ءاياته يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً } المعنى : أن يريكم ، فحذف " أن " لدلالة الكلام عليه كما قال طرفة :
ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي؟
والتقدير : أن أحضر ، فلما حذف الحرف في الآية والبيت بطل عمله ، ومنه المثل المشهور : «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» وقيل : هو على التقديم ، والتأخير ، أي ويريكم البرق من آياته ، فيكون من عطف جملة فعلية على جملة اسمية ، ويجوز أن يكون { يريكم } صفة لموصوف محذوف ، أي ومن آياته آية يريكم بها ، وفيها البرق ، وقيل : التقدير ، ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً من آياته . قال الزجاج : فيكون من عطف جملة على جملة . قال قتادة : خوفاً للمسافر ، وطمعاً للمقيم . وقال الضحاك : خوفاً من الصواعق ، وطمعاً في الغيث . وقال يحيى بن سلام : خوفاً من البرد أن يهلك الزرع ، وطمعاً في المطر أن يحيي الزرع . وقال ابن بحر : خوفاً أن يكون البرق برقاً خلباً لا يمطر ، وطمعاً أن يكون ممطراً ، وأنشد :
لا يكن برقك برقاً خلبا ... إن خير البرق ما الغيث معه
وانتصاب { خوفاً } و { طمعاً } على العلة { وَيُنَزّلُ مِنَ السماء مَاء فَيُحْىِ بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } أي يحييها بالنبات بعد موتها باليباس { إِنَّ فِي ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } فإن من له نصيب من العقل يعلم أن ذلك آية يستدلّ بها على القدرة الباهرة . { وَمِنْ ءاياته أَن تَقُومَ السماء والأرض بِأَمْرِهِ } أي قيامهما واستمساكهما بإرادته سبحانه وقدرته بلا عمد يعمدها ، ولا مستقرّ يستقران عليه . قال الفراء : يقول : أن تدوما قائمتين بأمره { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الأرض إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } أي ثم بعد موتكم ومصيركم في القبور ، إذا دعاكم دعوة واحدة فاجأتم الخروج منها بسرعة ، من غير تلبث ولا توقف ، كما يجيب المدعو المطيع دعوة الداعي المطاع .
و { من الأرض } متعلق ب « دعا » ، أي دعاكم من الأرض التي أنتم فيها ، كما يقال : دعوته من أسفل الوادي فطلع إليّ ، أو متعلق بمحذوف هو صفة لدعوة ، أو متعلق بمحذوف يدلّ عليه تخرجون ، أي خرجتم من الأرض ، ولا يجوز أن يتعلق ب { تخرجون } ؛ لأن ما بعد إذ لا يعمل فيما قبلها ، وهذه الدعوة هي نفخة إسرافيل الآخرة في الصور على ما تقدّم بيانه ، وقد أجمع القراء على فتح التاء في { تخرجون } هنا ، وغلط من قال إنه قرىء هنا بضمها على البناء للمفعول ، وإنما قرىء بضمها في الأعراف .
{ وَلَهُ مَن فِي السموات والأرض } من جميع المخلوقات ملكاً وتصرّفاً وخلقاً ، ليس لغيره في ذلك شيء { كُلٌّ لَّهُ قانتون } أي مطيعون طاعة انقياد . وقيل : مقرّون بالعبودية . وقيل : مصلون . وقيل : قائمون يوم القيامة كقوله : { يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين } [ المطففين : 6 ] أي للحساب . وقيل : بالشهادة أنهم عباده . وقيل : مخلصون { وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } بعد الموت فيحييه الحياة الدائمة { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } أي هين عليه لا يستصعبه ، أو أهون عليه بالنسبة إلى قدرتكم ، وعلى ما يقوله بعضكم لبعض ، وإلاّ فلا شيء في قدرته بعضه أهون من بعض ، بل كل الأشياء مستوية يوجدها بقوله : كن فتكون . قال أبو عبيد : من جعل أهون عبارة عن تفضيل شيء على شيء ، فقوله مردود بقوله : { وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً } [ النساء : 30 ] ، وبقوله : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } [ البقرة : 255 ] والعرب تحمل أفعل على فاعل كثيراً ، كما في قول الفرزدق :
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعزّ وأطول
أي عزيزة طويلة ، وأنشد أحمد بن يحيى ثعلب على ذلك :
تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أي لست بواحد ، ومثله قول الآخر :
لعمرك إن الزبرقان لباذل ... لمعروفه عند السنين وأفضل
أي وفاضل ، وقرأ عبد الله بن مسعود : « وهو عليه هين » . وقال مجاهد وعكرمة والضحاك : إن الإعادة أهون عليه ، أي على الله من البداية ، أي أيسر ، وإن كان جميعه هيناً . وقيل : المراد أن الإعادة فيما بين الخلق أهون من البداية ، وقيل : الضمير في : { عليه } للخلق ، أي وهو أهون على الخلق؛ لأنه يصاح بهم صيحة واحدة فيقومون ، ويقال لهم : كونوا فيكونون ، فلذلك أهون عليهم من أن يكونوا نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى آخر النشأة { وَلَهُ المثل الأعلى } قال الخليل : المثل الصفة ، أي وله الوصف الأعلى { فِي السموات والأرض } كما قال :
{ مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون } [ الرعد : 35 ] أي صفتها . وقال مجاهد : المثل الأعلى قول : لا إله إلاّ الله ، وبه قال قتادة . وقال الزجاج : { وَلَهُ المثل الأعلى فِي السموات والأرض } أي قوله : { وهو أهون عليه } قد ضربه لكم مثلاً فيما يصعب ويسهل . وقيل : المثل الأعلى هو أنه ليس كمثله شيء ، وقيل : هو أن ما أراده كان بقول : كن ، و { في السماوات والأرض } متعلق بمضمون الجملة المتقدّمة ، والمعنى : أنه سبحانه عرف بالمثل الأعلى ، ووصف به في السماوات والأرض ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الأعلى ، أو المثل ، أو من الضمير في الأعلى { وَهُوَ العزيز } في ملكه ، القادر الذي لا يغالب { الحكيم } في أقواله وأفعاله .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { يُبْلِسُ } قال : يبتئس . وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم : { يُبْلِسُ } قال : يكتئب ، وعنه : الإبلاس : الفضيحة . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { يُحْبَرُونَ } قال : يكرمون . وأخرج الديلمي عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا كان يوم القيامة قال الله : أين الذين كانوا ينزّهون أسماعهم ، وأبصارهم عن مزامير الشيطان؟ ميزوهم ، فيميزون في كثب المسك والعنبر؛ ثم يقول للملائكة : أسمعوهم من تسبيحي وتحميدي وتهليلي ، قال : فيسبحون بأصوات لم يسمع السامعون بمثلها قط » وأخرج الدينوري في المجالسة عن مجاهد قال : ينادي مناد يوم القيامة . . . فذكر نحوه ، ولم يسمّ من رواه له عن رسول الله . وأخرج ابن أبي الدنيا في ذمّ الملاهي ، والأصبهاني في الترغيب عن محمد بن المنكدر نحوه . وأخرج ابن أبي الدنيا والضياء المقدسي كلاهما في صفة الجنة ، قال السيوطي : بسند صحيح ، عن ابن عباس قال : « في الجنة شجرة على ساق قدر ما يسير الراكب المجدّ في ظلها مائة عام ، فيخرج أهل الجنة أهل الغرف ، وغيرهم فيتحدّثون في ظلها ، فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا ، فيرسل الله ريحاً من الجنة فتحرّك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا » وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه .
وأخرج الفريابي وابن مردويه عن ابن عباس قال : « كل تسبيح في القرآن فهو صلاة » وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصححه عن أبي رزين قال : جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس ، فقال : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال : نعم ، فقرأ : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ } : صلاة المغرب { وَحِينَ تُصْبِحُونَ } : صلاة الصبح { وَعَشِيّاً } : صلاة العصر { وَحِينَ تُظْهِرُونَ } : صلاة الظهر ، وقرأ : { مِن بَعْدِ صلاة العشاء } [ النور : 58 ] . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عنه قال : جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ } قال : المغرب والعشاء { وَحِينَ تُصْبِحُونَ } : الفجر { وَعَشِيّاً } : العصر { وَحِينَ تُظْهِرُونَ } : الظهر .
وأخرج أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن السني في عمل يوم وليلة ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدعوات عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفّى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى : سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون . وله الحمد في السماوات والأرض وعشياً وحين تظهرون » وفي إسناده ابن لهيعة . وأخرج أبو داود والطبراني وابن السني وابن مردويه عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من قال حين يصبح : { سبحان الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الحمد فِي السموات والأرض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَيُحْييِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } أدرك ما فاته في يومه ، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته » وإسناده ضعيف .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { كُلٌّ لَّهُ قانتون } يقول : مطيعون : يعني : الحياة والنشور والموت وهم له عاصون فيما سوى ذلك من العبادة . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } قال : أيسر . وأخرج ابن الأنباري عنه أيضاً في قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } قال : الإعادة أهون على المخلوق ، لأنه يقول له يوم القيامة : كن فيكون ، وابتدأ الخلقة من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { وَلَهُ المثل الأعلى } يقول : ليس كمثله شيء .
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
قوله : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً } قد تقدّم تحقيق معنى المثل ، و " من " في : { مّنْ أَنفُسِكُمْ } لابتداء الغاية وهي ومجرورها في محلّ نصب صفة لمثلاً ، أي مثلاً منتزعاً ، ومأخوذاً من أنفسكم ، فإنها أقرب شيء منكم ، وأبين من غيرها عندكم ، فإذا ضرب لكم المثل بها في بطلان الشرك كان أظهر دلالة وأعظم وضوحاً . ثم بين المثل المذكور فقال : { هَلْ لَّكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن شُرَكَاء فِى مَا رزقناكم } . «من» في { مما ملكت } للتبعيض ، وفي : { من شركاء } زائدة للتأكيد ، والمعنى : هل لكم شركاء فيما رزقناكم كائنون من النوع الذي ملكت أيمانكم؟ وهم : العبيد والإماء ، والاستفهام للإنكار ، وجملة : { فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء } جواب للاستفهام الذي بمعنى النفي ، ومحققه لمعنى الشركة بينهم وبين العبيد والإماء المملوكين لهم في أموالهم ، أي هل ترضون لأنفسكم - والحال أن عبيدكم وإماءكم أمثالكم في البشرية - أن يساووكم في التصرّف بما رزقناكم من الأموال ، ويشاركوكم فيها من غير فرق بينكم وبينهم؟ { تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } الكاف نعت مصدر محذوف ، أي تخافونهم خيفة كخيفتكم أنفسكم ، أي كما تخافون الأحرار المشابهين لكم في الحرية وملك الأموال وجواز التصرف ، والمقصود نفي الأشياء الثلاثة : الشركة بينهم وبين المملوكين ، والاستواء معهم ، وخوفهم إياهم . وليس المراد ثبوت الشركة ونفي الاستواء والخوف كما قيل في قولهم : ما تأتينا فتحدّثنا . والمراد : إقامة الحجة على المشركين فإنهم لا بدّ أن يقولوا : لا نرضى بذلك ، فيقال لهم : فكيف تنزّهون أنفسكم عن مشاركة المملوكين لكم وهم أمثالكم في البشرية ، وتجعلون عبيد الله شركاء له؟ فإذا بطلت الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة؛ بطلت الشركة بين الله وبين أحد من خلقه ، والخلق كلهم عبيد الله تعالى ، ولم يبق إلاّ أنه الربّ وحده لا شريك له . قرأ الجمهور { أنفسكم } بالنصب على أنه معمول المصدر المضاف إلى فاعله ، وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على إضافة المصدر إلى مفعوله { كذلك نُفَصّلُ الآيات } تفصيلاً واضحاً وبياناً جلياً { لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } لأنهم الذين ينتفعون بالآيات التنزيلية والتكوينية باستعمال عقولهم في تدبرها والتفكر فيها .
ثم أضرب سبحانه عن مخاطبة المشركين وإرشادهم إلى الحق بما ضربه لهم من المثل ، فقال : { بَلِ اتبع الذين ظَلَمُواْ أَهْوَاءهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي لم يعقلوا الآيات ، بل اتبعوا أهواءهم الزائغة ، وآراءهم الفاسدة الزائفة ، ومحل { بغير علم } النصب على الحال ، أي جاهلين بأنهم على ضلالة { فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله } أي لا أحد يقدر على هدايته؛ لأن الرشاد والهداية بتقدير الله وإرادته { وَمَا لَهُم مّن ناصرين } أي ما لهؤلاء الذين أضلهم الله من ناصرين ينصرونهم ، ويحولون بينهم وبين عذاب الله سبحانه .
ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بتوحيده وعبادته كما أمره فقال : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً } شبه الإقبال على الدين بتقويم وجهه إليه ، وإقباله عليه . وانتصاب { حنيفاً } على الحال من فاعل أقم أو من مفعوله ، أي مائلاً إليه مستقيماً عليه غير ملتفت إلى غيره من الأديان الباطلة .
{ فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا } الفطرة في الأصل : الخلقة ، والمراد بها هنا : الملة ، وهي الإسلام والتوحيد . قال الواحدي : هذا قول المفسرين في فطرة الله ، والمراد بالناس هنا : الذين فطرهم الله على الإسلام؛ لأن المشرك لم يفطر على الإسلام ، وهذا الخطاب وإن كان خاصاً برسول الله فأمته داخلة معه فيه . قال القرطبي باتفاق من أهل التأويل : والأولى حمل الناس على العموم من غير فرق بين مسلمهم وكافرهم ، وأنهم جميعاً مفطورون على ذلك لولا عوارض تعرض لهم فيبقون بسببها على الكفر كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة » وفي رواية : « على هذه الملة - ولكن أبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء؟ » ثم يقول أبو هريرة : واقرؤوا إن شئتم : { فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } . وفي رواية « حتى تكونوا أنتم تجدعونها » وسيأتي في آخر البحث ما ورد معاضداً لحديث أبي هريرة هذا ، فكل فرد من أفراد الناس مفطور ، أي مخلوق على ملة الإسلام ، ولكن لا اعتبار بالإيمان والإسلام الفطريين ، وإنما يعتبر الإيمان والإسلام الشرعيان ، وهذا قول جماعة من الصحابة ومن بعدهم ، وقول جماعة من المفسرين ، وهو : الحق . والقول بأن المراد بالفطرة هنا : الإسلام هو مذهب جمهور السلف . وقال آخرون : هي البداءة التي ابتدأهم الله عليها ، فإنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاوة . والفاطر في كلام العرب هو المبتدىء ، وهذا مصير من القائلين به إلى معنى الفطرة لغة ، وإهمال معناها شرعاً . والمعنى الشرعيّ مقدّم على المعنى اللغوي باتفاق أهل الشرع ، ولا ينافي ذلك ورود الفطرة في الكتاب أو السنة في بعض المواضع مراداً بها المعنى اللغوي كقوله تعالى : { الحمد للَّهِ فَاطِرِ السموات والأرض } [ فاطر : 1 ] أي خالقهما ، ومبتديهما ، وكقوله : { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي } [ يس : 22 ] إذ لا نزاع في أن المعنى اللغوي هو هذا ، ولكن النزاع في المعنى الشرعي للفطرة ، وهو ما ذكره الأوّلون كما بيناه ، وانتصاب { فطرة } على أنها مصدر مؤكد للجملة التي قبلها . وقال الزجاج : فطرة منصوب بمعنى : اتبع فطرة الله ، قال : لأن معنى { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ } : اتبع الدين واتبع فطرة الله . وقال ابن جرير : هي مصدر من معنى { فأقم وجهك } لأن معنى ذلك : فطرة الله الناس على الدين .
وقيل : هي منصوبة على الإغراء ، أي الزموا فطرة الله ، أو عليكم فطرة الله ، وردّ هذا الوجه أبو حيان وقال : إن كلمة الإغراء لا تضمر إذ هي عوض عن الفعل ، فلو حذفها لزم حذف العوض ، والمعوّض عنه وهو إجحاف . وأجيب بأن هذا رأي البصريين ، وأما الكسائي وأتباعه فيجيزون ذلك .
وجملة { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } تعليل لما قبلها من الأمر بلزوم الفطرة ، أي هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لها من جهة الخالق سبحانه . وقيل : هو نفي معناه النهي ، أي لا تبدّلوا خلق الله . قال مجاهد وإبراهيم النخعي : معناه : لا تبديل لدين الله . قال قتادة وابن جبير والضحاك وابن زيد : هذا في المعتقدات . وقال عكرمة : إن المعنى : لا تغيير لخلق في البهائم بأن تخصى فحولها { ذلك الدين القيم } أي ذلك الدين المأمور بإقامة الوجه له هو الدين القيم ، أو لزوم الفطرة هو الدين القيم { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك حتى يفعلوه ويعملوا به . { مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } أي راجعين إليه بالتوبة والإخلاص ، ومطيعين له في أوامره ونواهيه . ومنه قول أبي قيس بن الأسلت :
فإن تابوا فإن بني سليم ... وقومهم هوازن قد أنابوا
قال الجوهري : أناب إلى الله : أقبل وتاب ، وانتصابه على الحال من فاعل أقم . قال المبرد : لأن معنى { أقم وجهك } : أقيموا وجوهكم . قال الفراء : المعنى : فأقم وجهك ومن معك منيبين ، وكذا قال الزجاج ، وقال : تقديره : فأقم وجهك وأمتك ، فالحال من الجميع . وجاز حذف المعطوف لدلالة منيبين عليه . وقيل : هو منصوب على القطع ، وقيل : على أنه خبر لكان ، محذوفة ، أي وكونوا منيبين إليه لدلالة { ولا تكونوا من المشركين } على ذلك ، ثم أمرهم سبحانه بالتقوى بعد أمرهم بالإنابة فقال : { واتقوه } أي باجتناب معاصيه ، وهو معطوف على الفعل المقدر ناصباً لمنيبين { وَأَقِيمُواْ الصلاة } التي أمرتم بها { وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين } بالله .
وقوله : { مِنَ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً } هو بدل مما قبله بإعادة الجار ، والشيع : الفرق ، أي لا تكونوا من الذين تفرقوا فرقاً في الدين يشايع بعضهم بعضاً من أهل البدع والأهواء . وقيل : المراد بالذين فرّقوا دينهم شيعاً : اليهود والنصارى . وقرأ حمزة والكسائي : « فارقوا دينهم » ورويت هذه القراءة عن علي بن أبي طالب ، أي فارقوا دينهم الذي يجب اتباعه ، وهو التوحيد . وقد تقدّم تفسير هذه الآية في آخر سورة الأنعام { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } أي كل فريق بما لديهم من الدين المبني على غير الصواب مسرورون مبتهجون يظنون أنهم على الحق ، وليس بأيديهم منه شيء . وقال الفراء : يجوز أن يكون قوله : { من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً } مستأنفاً كما يجوز أن يكون متصلاً بما قبله { وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ } أي قحط وشدّة { دَعَوْاْ رَبَّهُمْ } أن يرفع ذلك عنهم واستغاثوا به { مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } أي راجعين إليه ملتجئين به لا يعوّلون على غيره .
وقيل : مقبلين عليه بكل قلوبهم { ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً } بإجابة دعائهم ورفع تلك الشدائد عنهم { إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ } " إذا " هي الفجائية وقعت جواب الشرط لأنها كالفاء في إفادة التعقيب ، أي فاجأ فريق منهم الإشراك وهم الذين دعوه ، فخلصهم مما كانوا فيه . وهذا الكلام مسوق للتعجيب من أحوالهم وما صاروا عليه من الاعتراف بوحدانية الله سبحانه عند نزول الشدائد والرجوع إلى الشرك عند رفع ذلك عنهم ، واللام في { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم } هي لام كي . وقيل : لام الأمر لقصد الوعيد والتهديد ، وقيل : هي لام العاقبة . ثم خاطب سبحانه هؤلاء الذين وقع منهم ما وقع فقال : { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } ما يتعقب هذا التمتع الزائل من العذاب الأليم . قرأ الجمهور : { فتمتعوا } على الخطاب . وقرأ أبو العالية بالتحتية على البناء للمفعول ، وفي مصحف ابن مسعود : «فليتمتعوا» .
{ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا } أم هي المنقطعة ، والاستفهام للإنكار والسلطان الحجة الظاهرة { فَهُوَ يَتَكَلَّمُ } أي يدل كما في قوله : { هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق } [ الجاثية : 29 ] قال الفراء : إن العرب تؤنث السلطان ، يقولون : قضت به عليك السلطان ، فأما البصريون فالتذكير عندهم أفصح ، وبه جاء القرآن ، والتأنيث عندهم جائز لأنه بمعنى الحجة . وقيل : المراد بالسلطان هنا الملك { بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } أي ينطق بإشراكهم بالله سبحانه ، ويجوز أن تكون الباء سببية ، أي بالأمر الذي بسببه يشركون { وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً } أي خصباً ونعمة وسعة وعافية { فَرِحُواْ بِهَا } فرح بطر وأشر ، لا فرح شكر بها وابتهاج بوصولها إليهم { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [ يونس : 58 ] . ثم قال سبحانه : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ } شدة على أي صفة { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي بسبب ذنوبهم { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } القنوط : الإياس من الرحمة ، كذا قال الجمهور . وقال الحسن : القنوط : ترك فرائض الله سبحانه . قرأ الجمهور : " يقنطون " بضم النون . وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب بكسرها . { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء } من عباده ويوسع له { وَيَقْدِرُ } أي يضيق على من يشاء لمصلحة في التوسيع لمن وسع له ، وفي التضييق على من ضيق عليه { إِنَّ فِي ذلك لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فيستدلون على الحق لدلالتها على كمال القدرة وبديع الصنع ، وغريب الخلق .
وقد أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان يلبي أهل الشرك : لبيك لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك ، فأنزل الله : { هَلْ لَّكُمْ مّن مَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن شُرَكَاء } الآية .
وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : هي في الآلهة ، وفيه يقول : تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضاً . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } قال : دين الله { ذلك الدين القيم } قال : القضاء القيم . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة وأحمد والنسائي ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن الأسود ابن سريع ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خيبر فقاتلوا المشركين ، فانتهى القتل إلى الذرية ، فلما جاؤوا قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما حملكم على قتل الذرية؟ » قالوا : يا رسول الله ، إنما كانوا أولاد المشركين ، قال : « وهل خياركم إلاّ أولاد المشركين؟ والذي نفسي بيده ما من نسمة تولد إلاّ على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها » وأخرج أحمد من حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كل مولود يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه ، فإذا عبر عنه لسانه إما شاكراً وإما كفوراً » رواه أحمد عن الربيع بن أنس عن الحسن عن جابر . وقال الإمام أحمد في المسند : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا هشام ، حدثنا قتادة عن مطرف عن عياض بن حماد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوماً ، فقال في خطبته حاكياً عن الله سبحانه : « وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم » الحديث .
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
لما بيّن سبحانه كيفية التعظيم لأمر الله أشار إلى ما ينبغي من مواساة القرابة ، وأهل الحاجات ممن بسط الله له في رزقه ، فقال : { فَئَاتِ ذَا القربى حَقَّهُ } والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته أسوته ، أو لكل مكلف له مال وسع الله به عليه ، وقدم الإحسان إلى القرابة لأن خير الصدقة ما كان على قريب ، فهو صدقة مضاعفة وصلة رحم مرغب فيها ، والمراد : الإحسان إليهم بالصدقة والصلة والبر { والمساكين وابن السبيل } أي وآت المسكين وابن السبيل حقهما الذي يستحقانه . ووجه تخصيص الأصناف الثلاثة بالذكر أنهم أولى من سائر الأصناف بالإحسان ، ولكون ذلك واجباً لهم على كل من له مال فاضل عن كفايته وكفاية من يعول .
وقد اختلف في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ قيل : هي منسوخة بآية المواريث . وقيل : محكمة وللقريب في مال قريبه الغنيّ حقّ واحب ، وبه قال مجاهد وقتادة . قال مجاهد : لا تقبل صدقة من أحد ، ورحمه محتاج . قال مقاتل : حق المسكين أن يتصدّق عليه ، وحق ابن السبيل الضيافة . وقيل : المراد بالقربى : قرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم . قال القرطبي : والأوّل أصح ، فإن حقهم مبين في كتاب الله عزّ وجلّ في قوله : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى } [ الأنفال : 41 ] وقال الحسن : إن الأمر في إيتاء ذي القربى للندب { ذَلِكَ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله } أي ذلك الإيتاء أفضل من الإمساك لمن يريد التقرّب إلى الله سبحانه { وأولئك هُمُ المفلحون } أي الفائزون بمطلوبهم حيث أنفقوا لوجه الله امتثالاً لأمره .
{ وَمَا ءَاتَيْتُمْ مّن رِباً } قرأ الجمهور : { آتيتم } بالمدّ بمعنى أعطيتم ، وقرأ مجاهد وحميد وابن كثير بالقصر بمعنى ما فعلتم ، وأجمعوا على القراءة بالمدّ في قوله : { وما آتيتم من زكاة } وأصل الربى : الزيادة ، وقراءة القصر تؤول إلى قراءة المدّ؛ لأن معناها : ما فعلتم على وجه الإعطاء ، كما تقول : أتيت خطأ وأتيت صواباً؛ والمعنى في الآية : ما أعطيتم من زيادة خالية عن العوض { لّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس } أي ليزيد ويزكو في أموالهم { فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله } أي لا يبارك الله فيه . قال السديّ : الربا في هذا الموضع : الهدية يهديها الرجل لأخيه يطلب المكافأة؛ لأن ذلك لا يربو عند الله ، لا يؤجر عليه صاحبه ، ولا إثم عليه ، وهكذا قال قتادة والضحاك . قال الواحدي : وهذا قول جماعة المفسرين . قال الزجاج : يعني : دفع الإنسان الشيء ليعوّض أكثر منه وذلك ليس بحرام ، ولكنه لا ثواب فيه؛ لأن الذي يهبه يستدعي به ما هو أكثر منه . وقال الشعبي : معنى الآية : أن ما خدم به الإنسان أحداً ، لينتفع به في دنياه فإن ذلك النفع الذي يجزي به الخدمة لا يربو عند الله .
وقيل : هذا كان حراماً على النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص لقوله سبحانه : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } [ المدثر : 6 ] ومعناها : أن تعطي فتأخذ أكثر منه عوضاً عنه . وقيل : إن هذه الآية نزلت في هبة الثواب . قال ابن عطية : وما يجري مجراه مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه . قال عكرمة : الربا ربوان : فربا حلال ، وربا حرام . فأما الربا الحلال فهو الذي يهدي يلتمس ما هو أفضل منه : يعني كما في هذه الآية . وقيل : إن هذا الذي في هذه الآية هو الربا المحرّم ، فمعنى لا يربو عند الله على القول لا يحكم به ، بل هو للمأخوذ منه .
قال المهلب : اختلف العلماء فيمن وهب هبة يطلب بها الثواب ، فقال مالك : ينظر فيه ، فإن كان مثله ممن يطلب الثواب من الموهوب له فله ذلك ، مثل هبة الفقير للغنيّ ، وهبة الخادم للمخدوم ، وهبة الرجل لأميره ، وهو أحد قولي الشافعي . وقال أبو حنيفة : لا يكون له ثواب إذا لم يشترط ، وهو قول الشافعي الآخر . قرأ الجمهور : { ليربوا } بالتحتية على أن الفعل مسند إلى ضمير الربا . وقرأ نافع ويعقوب بالفوقية مضمومة خطاباً للجماعة بمعنى : لتكونوا ذوي زيادات . وقرأ أبو مالك : { لتربوها } ومعنى الآية : أنه لا يزكو عند الله ، ولا يثيب عليه؛ لأنه لا يقبل إلاّ ما أريد به وجهه خالصاً له { وَمَا آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله } أي وما أعطيتم من صدقة لا تطلبون بها المكافأة ، وإنما تقصدون بها ما عند الله { فأولئك هُمُ المضعفون } المضعف دون الأضعاف من الحسنات الذين يعطون بالحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف . قال الفراء : هو نحو قولهم : مسمن ومعطش ومضعف إذا كانت له إبل سمان ، أو عطاش ، أو ضعيفة . وقرأ أبيّ : « المضعفون » بفتح العين اسم مفعول .
{ الله الذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَيْء } عاد سبحانه إلى الاحتجاج على المشركين ، وأنه الخالق الرازق المميت المحيي ، ثم قال على جهة الاستفهام : { هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَيْء } ومعلوم أنهم يقولون ليس فيهم من يفعل شيئاً من ذلك ، فتقوم عليهم الحجة ، ثم نزّه سبحانه نفسه ، فقال : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي نزّهوه تنزيهاً ، وهو متعال عن أن يجوز عليه شيء من ذلك ، وقوله : { من شركائكم } خبر مقدّم ومن للتبعيض ، والمبتدأ هو الموصول ، أعني : من يفعل ، و { من ذلكم } متعلق بمحذوف؛ لأنه حال من { شيء } المذكور بعده ، ومن في : { من شيء } مزيدة للتوكيد ، وأضاف الشركاء إليهم؛ لأنهم كانوا يسمونهم آلهة ، ويجعلون لهم نصيباً من أموالهم .
{ ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس } بيّن سبحانه : أن الشرك والمعاصي سبب لظهور الفساد في العالم .
واختلف في معنى ظهور الفساد المذكور ، فقيل : هو القحط وعدم النبات ، ونقصان الرزق ، وكثرة الخوف ونحو ذلك ، وقال مجاهد ، وعكرمة : فساد البرّ : قتل ابن آدم أخاه : يعني : قتل قابيل لهابيل ، وفي البحر : الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً . وليت شعري أيّ دليل دلهما على هذا التخصيص البعيد والتعيين الغريب ، فإن الآية نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم ، والتعريف في الفساد يدلّ على الجنس ، فيعم كل فساد واقع في حيزي البرّ والبحر . وقال السديّ : الفساد الشرك ، وهو أعظم الفساد . ويمكن أن يقال : إن الشرك وإن كان الفرد الكامل في أنواع المعاصي ، ولكن لا دليل على أنه المراد بخصوصه . وقيل : الفساد كساد الأسعار وقلة المعاش . وقيل : الفساد : قطع السبل والظلم ، وقيل : غير ذلك مما هو تخصيص لا دليل عليه . والظاهر من الآية ظهور ما يصح إطلاق اسم الفساد عليه سواء كان راجعاً إلى أفعال بني آدم من معاصيهم واقترافهم السيئات ، وتقاطعهم وتظالمهم وتقاتلهم ، أو راجعاً إلى ما هو من جهة الله سبحانه بسبب ذنوبهم كالقحط وكثرة الخوف والموتان ونقصان الزرائع ونقصان الثمار . والبرّ والبحر هما المعروفان المشهوران . وقيل : البرّ : الفيافي ، والبحر : القرى التي على ماء قاله عكرمة ، والعرب تسمي الأمصار : البحار . قال مجاهد : البرّ : ما كان من المدن والقرى على غير نهر ، والبحر : ما كان على شط نهر . والأوّل أولى . ويكون معنى البرّ : مدن البرّ ، ومعنى البحر : مدن البحر ، وما يتصل بالمدن من مزارعها ومراعيها . والباء في { بما كسبت } للسببية ، « ما » إما موصولة أو مصدرية { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ } اللام متعلقة بظهر ، وهي لام العلة ، أي ليذيقهم عقاب بعض عملهم أو جزاء بعض عملهم { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عما هم فيه من المعاصي ويتوبون إلى الله .
{ قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلُ } لما بين سبحانه ظهور الفساد بما كسبت أيدي المشركين والعصاة بيّن لهم ضلال أمثالهم من أهل الزمن الأوّل ، وأمرهم بأن يسيروا لينظروا آثارهم ويشاهدوا كيف كانت عاقبتهم ، فإن منازلهم خاوية وأراضيهم مقفرة موحشة كعاد وثمود ونحوهم من طوائف الكفار . وجملة : { كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ } مستأنفة لبيان الحالة التي كانوا عليها ، وإيضاح السبب الذي صارت عاقبتهم به إلى ما صارت إليه { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ القيم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ } هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمته أسوته فيه ، كأن المعنى : إذا قد ظهر الفساد بالسبب المتقدّم فأقم وجهك يا محمد إلخ . قال الزجاج : اجعل جهتك اتباع الدين القيم ، وهو : الإسلام المستقيم { من قبل أن يأتي يوم } يعني : يوم القيامة { ا مردّ له } لا يقدر أحد على ردّه ، والمردّ مصدر ردّ ، وقيل : المعنى : أوضح الحق ، وبالغ في الأعذار ، و { مِنَ الله } يتعلق ب { يأتي } أو بمحذوف يدل عليه المصدر ، أي لا يردّه من الله أحد .
وقيل : يجوز أن يكون المعنى : لا يردّه الله لتعلق إرادته القديمة بمجيئه ، وفيه من الضعف وسوء الأدب مع الله ما لا يخفى { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } أصله يتصدعون ، والتصدع التفرق ، يقال : تصدع القوم إذا تفرقوا ، ومنه قول الشاعر :
وكنا كندماني جذيمة برهة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا
والمراد بتفرقهم هاهنا أن أهل الجنة يصيرون إلى الجنة ، وأهل النار يصيرون إلى النار . { مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أي جزاء كفره ، وهو النار { وَمَنْ عَمِلَ صالحا فَلأِنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } أي يوطئون لأنفسهم منازل في الجنة بالعمل الصالح ، والمهاد : الفراش ، وقد مهدت الفراش مهداً : إذا بسطته ووطأته ، فجعل الأعمال الصالحة التي هي سبب لدخول الجنة كبناء المنازل في الجنة وفرشها . وقيل : المعنى : فعلى أنفسهم يشفقون ، من قولهم في المشفق : أمٌّ فرشت فأنامت ، وقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص . وقال مجاهد : { فلأنفسهم يمهدون } في القبر ، واللام في { لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ } متعلقة ب { يصدّعون } ، أو { يمهدون } ، أي يتفرّقون ليجزي الله المؤمنين بما يستحقونه { مِن فَضْلِهِ } أو يمهدون لأنفسهم بالأعمال الصالحة ليجزيهم . وقيل : يتعلق بمحذوف . قال ابن عطية : تقديره ذلك ليجزي ، وتكون الإشارة إلى ما تقدّم من قوله : { من عمل } و { من كفر } . وجعل أبو حيان قسيم قوله : { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } محذوفاً لدلالة قوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين } عليه؛ لأنه كناية عن بغضه لهم الموجب لغضبه سبحانه ، وغضبه يستتبع عقوبته .
{ وَمِنْ ءاياته أَن يُرْسِلَ الرياح مبشرات } أي ومن دلالات بديع قدرته إرسال الرياح مبشرات بالمطر؛ لأنها تتقدّمه كما في قوله سبحانه : { بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ النمل : 63 ] قرأ الجمهور : { الرياح } وقرأ الأعمش : « الريح » بالإفراد على قصد الجنس لأجل قوله : { مبشرات } ، واللام في قوله : { وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ } متعلقة ب { يرسل } ، أي يرسل الرياح مبشرات ويرسلها ليذيقكم من رحمته ، يعني : الغيث والخصب . وقيل : هو متعلق بمحذوف ، أي وليذيقكم أرسلها . وقيل : الواو مزيدة على رأي من يجوز ذلك ، فتتعلق اللام ب { يرسل } { وَلِتَجْرِيَ الفلك بِأَمْرِهِ } معطوف على { ليذيقكم من رحمته } أي يرسل الرياح لتجري الفلك في البحر عند هبوبها ، ولما أسند الجري إلى الفلك عقبه بقوله : { بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي تبتغوا الرزق بالتجارة التي تحملها السفن { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } هذه النعم فتفردون الله بالعبادة ، وتستكثرون من الطاعة .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَمَا ءَاتَيْتُمْ مّن رِباً } الآية قال : الربا ربوان : ربا لا بأس به وربا لا يصلح . فأما الربا الذي لا بأس به فهدية الرجل إلى الرجل يريد فضلها ، وأضعافها .
وأخرج البيهقي عنه قال : هذا هو الربا الحلال ، أن يهدي يريد أكثر منه وليس له أجر ولا وزر ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة فقال : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } [ المدثر : 6 ] . وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { وَمَا ءَاتَيْتُمْ مّن زَكَاةٍ } قال : هي الصدقة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر } قال : البر : البرية التي ليس عندها نهر ، والبحر : ما كان من المدائن والقرى على شط نهر . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال : نقصان البركة بأعمال العباد كي يتوبوا . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } قال : من الذنوب . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { يَصَّدَّعُونَ } قال : يتفرقون .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
قوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ } كما أرسلناك إلى قومك { فَجَاءُوهُم بالبينات } أي بالمعجزات ، والحجج النيرات { فانتقمنا } : أي فكفروا فانتقمنا { مِنَ الذين أَجْرَمُواْ } أي فعلوا الإجرام ، وهي الآثام { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين } هذا إخبار من الله سبحانه بأن نصره لعباده المؤمنين حق عليه ، وهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد ، وفيه تشريف للمؤمنين ومزيد تكرمة لعباده الصالحين ، ووقف بعض القراء على { حقاً } وجعل اسم كان ضميراً فيها وخبرها حقاً ، أي وكان الانتقام حقاً . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، والصحيح أن نصر المؤمنين اسمها وحقاً خبرها وعلينا متعلق ب { حقاً } ، أو بمحذوف هو صفة له . { الله الذي يُرْسِلُ الرياح } قرأ حمزة والكسائي وابن كثير وابن محيصن : « يرسل الريح » بالإفراد . وقرأ الباقون : { الرياح } قال أبو عمرو : كل ما كان بمعنى الرحمة فهو جمع ، وما كان بمعنى العذاب فهو موحد ، وهذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما سبق من أحوال الرياح ، فتكون على هذا جملة : { ولقد أرسلنا } إلى قوله : { وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } معترضة { فَتُثِيرُ سحابا } أي تزعجه من حيث هو { فَيَبْسُطُهُ فِي السماء كَيْفَ يَشَاء } تارة سائراً وتارة واقفاً ، وتارة مطبقاً ، وتارة غير مطبق ، وتارة إلى مسافة بعيدة ، وتارة إلى مسافة قريبة ، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة وفي سورة النور { وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً } تارة أخرى ، أو يجعله بعد بسطه قطعاً متفرقة ، والكسف جمع كسفة . والكسفة : القطعة من السحاب . وقد تقدم تفسيره واختلاف القراءة فيه { فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } الودق : المطر ، و { من خلاله } : من وسطه . وقرأ أبو العالية والضحاك : « يخرج من خلله » . { فَإِذَا أَصَابَ بِهِ } أي بالمطر { مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } أي بلادهم وأرضهم { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } إذا هي : الفجائية ، أي فاجؤوا الاستبشار بمجيء المطر ، والاستبشار : الفرح .
{ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ } أي من قبل أن ينزل عليهم المطر ، وإن هي المخففة ، وفيها ضمير شأن مقدر هو اسمها ، أي وإن الشأن كانوا من قبل أن ينزل عليهم ، وقوله : { مِن قَبْلِهِ } تكرير للتأكيد ، قاله الأخفش وأكثر النحويين كما حكاه عنهم النحاس . وقال قطرب : إن الضمير في : { قبله } راجع إلى المطر ، أي وإن كانوا من قبل التنزيل من قبل المطر . وقيل : المعنى : من قبل تنزيل الغيث عليهم من قبل الزرع والمطر . وقيل : من قبل أن ينزل عليهم من قبل السحاب ، أي من قبل رؤيته ، واختار هذا النحاس . وقيل : الضمير عائد إلى الكسف . وقيل : إلى الإرسال . وقيل : إلى الاستبشار . والراجح الوجه الأول ، وما بعده من هذه الوجوه كلها ففي غاية التكلف والتعسف ، وخبر كان { لَمُبْلِسِينَ } أي آيسين أو بائسين .
وقد تقدّم تحقيق الكلام في هذا .
{ فانظر إلى أَثَرِ رَحْمَتَ الله } الناشئة عن إنزال المطر من النبات والثمار والزرائع التي بها يكون الخصب ورخاء العيش ، أي انظر نظر اعتبار واستبصار لتستدلّ بذلك على توحيد الله ، وتفرده بهذا الصنع العجيب . قرأ الجمهور : «أثر» بالتوحيد . وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي : { آثار } بالجمع { كَيْفَ يُحْييِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } فاعل الإحياء ضمير يعود إلى الله سبحانه ، وقيل : ضمير يعود إلى الأثر ، وهذه الجملة في محل نصب بانظر ، أي انظر إلى كيفية هذا الإحياء البديع للأرض . وقرأ الجحدري ، وأبو حيوة : " تحيي " بالفوقية على أن فاعله ضمير يعود إلى الرحمة ، أو إلى الآثار على قراءة من قرأ بالجمع ، والإشارة بقوله : { إِنَّ ذلك } إلى الله سبحانه ، أي إن الله العظيم الشأن المخترع لهذه الأشياء المذكورة { لَمُحْييِ الموتى } أي لقادر على إحيائهم في الآخرة ، وبعثهم ، ومجازاتهم كما أحيا الأرض الميتة بالمطر { وَهُوَ على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } أي عظيم القدرة كثيرها .
{ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً } الضمير في : { فرأوه } يرجع إلى الزرع ، والنبات الذي كان من أثر رحمة الله ، أي فرأوه مصفراً من البرد الناشىء عن الريح التي أرسلها الله بعد اخضراره . وقيل : راجع إلى الريح ، وهو يجوز تذكيره وتأنيثه . وقيل : راجع إلى الأثر المدلول عليه بالآثار . وقيل : راجع إلى السحاب لأنه إذا كان مصفراً لم يمطر ، والأول أولى . واللام هي الموطئة ، وجواب القسم { لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } ، وهو يسدّ مسد جواب الشرط . والمعنى : ولئن أرسلنا ريحاً حارة أو باردة ، فضربت زرعهم بالصفار لظلوا من بعد ذلك يكفرون بالله ، ويجحدون نعمه ، وفي هذا دليل على سرعة تقلبهم وعدم صبرهم ، وضعف قلوبهم ، وليس كذا حال أهل الإيمان . ثم شبههم بالموتى وبالصم فقال : { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } إذا دعوتهم ، فكذا هؤلاء لعدم فهمهم للحقائق ومعرفتهم للصواب { وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء } إذا دعوتهم إلى الحق ، ووعظتهم بمواعظ الله وذكرتهم الآخرة وما فيها ، وقوله : { إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } بيان لإعراضهم عن الحق بعد بيان كونهم كالأموات وكونهم صمّ الآذان ، قد تقدّم تفسير هذا في سورة النمل . ثم وصفهم بالعمى فقال : { وَمَا أَنتَ بِهَادِ العمى عَن ضلالتهم } لفقدهم للانتفاع بالأبصار كما ينبغي . أو لفقدهم للبصائر { إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا } أي ما تسمع إلاّ هؤلاء لكونهم أهل التفكر والتدبر والاستدلال بالآثار على المؤثر { فَهُم مُّسْلِمُونَ } أي منقادون للحق متبعون له .
{ الله الذي خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ } ذكر سبحانه استدلالاً آخر على كمال قدرته ، وهو خلق الإنسان نفسه على أطوار مختلفة ، ومعنى من ضعف : من نطفة .
قال الواحدي : قال المفسرون : من نطفة ، والمعنى : من ذي ضعف . وقيل : المراد : حال الطفولية والصغر { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ } ، وهي قوّة الشباب ، فإنه إذ ذاك تستحكم القوّة وتشتدّ الخلقة إلى بلوغ النهاية { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً } أي عند الكبر والهرم { وَشَيْبَةً } الشيبة هي : تمام الضعف ونهاية الكبر . قرأ الجمهور : «ضعف» بضم الضاد في هذه المواضع . وقرأ عاصم وحمزة بفتحها . وقرأ الجحدري بالفتح في الأوّلين والضم في الثالث . قال الفراء : الضم لغة قريش والفتح لغة تميم . قال الجوهري : الضعف والضعف خلاف القوّة ، وقيل : هو بالفتح في الرأي ، وبالضم في الجسم { يَخْلُقُ مَا يَشَاء } يعني : من جميع الأشياء ، ومن جملتها القوّة والضعف في بني آدم { وَهُوَ العليم } بتدبيره { القدير } على خلق ما يريده ، وأجاز الكوفيون : " من ضعف " بفتح الضاد والعين .
{ وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة } أي : القيامة ، وسميت ساعة لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا { يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ } أي يحلفون ما لبثوا في الدنيا ، أو في قبورهم غير ساعة ، فيمكن أن يكونوا استقلوا مدّة لبثهم ، واستقرّ ذلك في أذهانهم ، فحلفوا عليه وهم يظنون أن حلفهم مطابق للواقع . وقال ابن قتيبة : إنهم كذبوا في هذا الوقت كما كانوا يكذبون من قبل ، وهذا هو الظاهر؛ لأنهم إن أرادوا لبثهم في الدنيا ، فقد علم كل واحد منهم مقداره ، وإن أرادوا لبثهم في القبور فقد حلفوا على جهالة إن كانوا لا يعرفون الأوقات في البرزخ { كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ } يقال : أفك الرجل : إذا صرف عن الصدق ، فالمعنى : مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون . وقيل : المراد يصرفون عن الحق . وقيل : عن الخير ، والأوّل أولى ، وهو دليل على أن حلفهم كذب .
{ وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كتاب الله إلى يَوْمِ البعث } اختلف في تعيين هؤلاء الذين أوتوا العلم ، فقيل : الملائكة . وقيل : الأنبياء . وقيل : علماء الأمم . وقيل : مؤمنو هذه الأمة ، ولا مانع من الحمل على الجميع . ومعنى في كتاب الله : في علمه وقضائه . قال الزجاج : في علم الله المثبت في اللوح المحفوظ . قال الواحدي : والمفسرون حملوا هذا على التقديم والتأخير على تقدير : وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله ، وكان ردّ الذين أوتوا العلم عليهم باليمين للتأكيد ، أو للمقابلة لليمين باليمين ، ثم نبهوهم على طريقة التبكيت بأن { هذا } الوقت الذي صاروا فيه هو { يَوْمُ البعث ولكنكم كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ } أنه حق ، بل كنتم تستعجلونه تكذيباً واستهزاء . { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يَنفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ } أي لا ينفعهم الاعتذار يومئذ ولا يفيدهم علمهم بالقيامة . وقيل : لما ردّ عليهم المؤمنون سألوا الرجوع إلى الدنيا واعتذروا فلم يعذروا .
قرأ الجمهور : { لا تنفع } بالفوقية ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتحتية { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } يقال : استعتبته فأعتبني ، أي استرضيته ، فأرضاني ، وذلك إذا كنت جانياً عليه ، وحقيقة أعتبته أزلت عتبه ، والمعنى : أنهم لا يدعون إلى إزالة عتبهم من التوبة والطاعة كما دعوا إلى ذلك في الدنيا .
{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ } أي من كلّ مثل من الأمثال التي تدلهم على توحيد الله وصدق رسله واحتججنا عليهم بكل حجة تدل على بطلان الشرك { وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِئَايَةٍ } من آيات القرآن الناطقة بذلك ، أو لئن جئتهم بآية كالعصا واليد { لَّيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ } أي ما أنت يا محمد وأصحابك إلاّ مبطلون أصحاب أباطيل تتبعون السحر وما هو مشاكل له في البطلان { كذلك يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } أي مثل ذلك الطبع يطبع الله على قلوب الفاقدين للعلم النافع الذي يهتدون به إلى الحق ، وينجون به من الباطل . ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر معللاً لذلك بحقية وعد الله وعدم الخلف فيه ، فقال : { فاصبر } على ما تسمعه منهم من الأذى وتنظره من الأفعال الكفرية فإن الله قد وعدك بالنصر عليهم وإعلاء حجتك وإظهار دعوتك ووعده حق لا خلف فيه { وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ } أي لا يحملنك على الخفة ، ويستفزنك عن دينك ، وما أنت عليه ، الذين لا يوقنون بالله ، ولا يصدقون أنبياءه ، ولا يؤمنون بكتبه ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، يقال : استخف فلان فلاناً ، أي استجهله حتى حمله على اتباعه في الغيّ . قرأ الجمهور : { يستخفنك } بالخاء المعجمة والفاء ، وقرأ يعقوب وابن أبي إسحاق بحاء مهملة وقاف من الاستحقاق ، والنهي في الآية من باب : لا أرينك هاهنا .
وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « مامن مسلم يردّ عن عرض أخيه إلاّ كان حقاً على الله أن يردّ عنه نار جهنم يوم القيامة » ، ثم تلا : { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين } . وهو من طريق شهر بن حوشب عن أمّ الدرداء عن أبي الدرداء . وأخرج أبو يعلى وابن المنذر عنه في قوله : { وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً } قال : قطعاً بعضها فوق بعض { فَتَرَى الودق } قال : المطر { يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } قال : من بينه . وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء } في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأهل بدر ، والإسناد ضعيف . والمشهور في الصحيحين وغيرهما أن عائشة استدلت بهذه الآية على ردّ رواية من روى من الصحابة : أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى أهل قليب بدر ، وهو من الاستدلال بالعام على ردّ الخاص ، فقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قيل له : إنك تنادي أجساداً بالية : « ما أنتم بأسمع لما أقول منهم » وفي مسلم من حديث أنس : أن عمر بن الخطاب لما سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يناديهم ، فقال : يا رسول الله ، تناديهم بعد ثلاث ، وهل يسمعون؟ يقول الله : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } ، فقال : « والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع منهم ، ولكنهم لا يطيقون أن يجيبوا » .
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
قوله : { الم * تِلْكَ ءايات الكتاب } قد تقدم الكلام على أمثال فاتحة هذه السورة ومحلها من الإعراب مستوفى فلا نعيده ، وبيان مرجع الإشارة أيضاً ، و { الحكيم } إما أن يكون بمعنى مفعل ، أو بمعنى فاعل ، أو بمعنى ذي الحكمة أو الحكيم قائله ، و { هُدًى وَرَحْمَةً } منصوبان على الحال على قراءة الجمهور . قال الزجاج : المعنى : تلك آيات الكتاب في حال الهداية والرحمة ، وقرأ حمزة : « ورحمة » بالرفع على أنهما خبر مبتدأ محذوف ، أي هو هدى ورحمة ، ويجوز أن يكونا خبر تلك . والمحسن : العامل للحسنات ، أو من يعبد الله كأنه يراه كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح لما سأله جبريل عن الإحسان : فقال : « أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » ، ثم بين عمل المحسنين فقال : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكواة وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ } والموصول في محل جر على الوصف للمحسنين ، أو في محل رفع ، أو نصب على المدح أو القطع ، وخص هذه العبادات الثلاث؛ لأنها عمدة العبادات { أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون } قد تقدم تفسير هذا في أوائل سورة البقرة ، والمعنى هنا : أن أولئك المتصفين بالإحسان وفعل تلك الطاعات التي هي أمهات العبادات هم على طريقة الهدى ، وهم الفائزون بمطالبهم الظافرون بخيري الدارين .
{ وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث } : محل { ومن الناس } الرفع على الابتداء كما تقدم بيانه في سورة البقرة ، وخبره { من يشتري لهو الحديث } ، و « من » إما موصولة أو موصوفة ، و { لهو الحديث } : كل ما يلهي عن الخير من الغناء والملاهي والأحاديث المكذوبة وكل ما هو منكر ، والإضافة بيانية . وقيل : المراد : شراء القينات المغنيات والمغنين ، فيكون التقدير : ومن يشتري أهل لهو الحديث . قال الحسن : لهو الحديث : المعازف والغناء . وروي عنه أنه قال : هو الكفر والشرك . قال القرطبي : إن أولى ما قيل في هذا الباب هو : تفسير لهو الحديث بالغناء ، قال : وهو قول الصحابة والتابعين ، واللام في { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله } للتعليل . قرأ الجمهور بضم الياء من { ليضل } أي ليضل غيره عن طريق الهدى ومنهج الحق ، وإذا أضل غيره فقد ضل في نفسه . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وحميد ، وورش وابن أبي إسحاق بفتح الياء . أي ليضل هو في نفسه . قال الزجاج : من قرأ بضم الياء ، فمعناه : ليضل غيره ، فإذا أضل غيره فقد ضل هو ، ومن قرأ بفتح الياء فمعناه : ليصير أمره إلى الضلال ، وهو وإن لم يكن يشتري للضلالة ، فإنه يصير أمره إلى ذلك ، فأفاد هذا التعليل أنه إنما يستحق الذم من اشترى لهو الحديث لهذا المقصد ، ويؤيد هذا سبب نزول الآية وسيأتي .
قال الطبري : قد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه ، وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبد الله العنبري . قال القاضي أبو بكر بن العربي : يجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته إذ ليس شيء منها عليه حرام لا من ظاهرها ولا من باطنها ، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها؟ قلت : قد جمعت رسالة مشتملة على أقوال أهل العلم في الغناء وما استدل به المحللون له والمحرمون له ، وحققت هذا المقام بما لا يحتاج من نظر فيها وتدبر معانيها إلى النظر في غيرها ، وسميتها : [ إبطال دعوى الإجماع ، على تحريم مطلق السماع ] فمن أحب تحقيق المقام كما ينبغي فليرجع إليها .
ومحل قوله : { بغير علم } النصب على الحال ، أي حال كونه غير عالم بحال ما يشتريه ، أو بحال ما ينفع من التجارة ، وما يضر ، فلهذا استبدل بالخير ما هو شر محض { وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً } قرأ الجمهور برفع : « يتخذها » عطفاً على { يشتري } فهو من جملة الصلة . وقيل : الرفع على الاستئناف والضمير المنصوب في { يتخذها } يعود إلى الآيات المتقدم ذكرها ، والأول أولى . وقرأ حمزة والكسائي والأعمش : { ويتخذها } بالنصب عطفاً على { يضل } ، والضمير المنصوب راجع إلى السبيل ، فتكون على هذه القراءة من جملة التعليل للتحريم ، والمعنى : أنه يشتري لهو الحديث للإضلال عن سبيل الله واتخاذ السبيل هزواً ، أي مهزوءاً به ، والسبيل يذكر ويؤنث ، والإشارة بقوله : { أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } إلى من ، والجمع باعتبار معناها ، كما أن الإفراد في الفعلين باعتبار لفظها ، والعذاب المهين : هو الشديد الذي يصير به من وقع عليه مهيناً .
{ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا } أي وإذا تتلى آيات القرآن على هذا المستهزىء { ولى مُسْتَكْبِراً } أي أعرض عنها حال كونه مبالغاً في التكبر ، وجملة : { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } في محل نصب على الحال ، أي كأن ذلك المعرض المستكبر لم يسمعها مع أنه قد سمعها ، ولكن أشبهت حاله حال من لم يسمع ، وجملة : { كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً } حال ثانية ، أو بدل من التي قبلها ، أو حال من ضمير يسمعها ، ويجوز أن تكون مستأنفة . والوقر : الثقل ، وقد تقدم بيانه ، وفيه مبالغة في إعراض ذلك المعرض { فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي أخبره بأن له العذاب البليغ في الألم ، ثم لما بيّن سبحانه حال من يعرض عن الآيات بيّن حال من يقبل عليها ، فقال : { إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي آمنوا بالله وبآياته ولم يعرضوا عنها بل قبلوها وعملوا بها { لَهُمْ جنات النعيم } أي : نعيم الجنات فعكسه للمبالغة ، جعل لهم جنات النعيم كما جعل للفريق الأول العذاب المهين ، وانتصاب { خالدين فِيهَا } على الحال . وقرأ زيد بن علي : « خالدون فيها » على أنه خبر ثان لأن { وَعْدَ الله حَقّا } هما مصدران الأول مؤكد لنفسه ، أي وعد الله وعداً .
والثاني مؤكد لغيره ، وهو مضمون الجملة الأولى وتقديره : حق ذلك حقاً . والمعنى : أن وعده كائن لا محالة ولا خلف فيه { وَهُوَ العزيز } الذي لا يغلبه غالب { الحكيم } في كل أفعاله وأقواله .
ثم بيّن سبحانه عزته وحكمته بقوله : { خلِقَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } العمد : جمع عماد ، وقد تقدم الكلام فيه في سورة الرعد . و { ترونها } في محل جرّ صفة ل { عمد } فيمكن أن تكون ثمّ عمد ، ولكن لا ترى . ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال ، أي ولا عمد ألبتة . قال النحاس : وسمعت علي بن سليمان يقول : الأولى أن يكون مستأنفاً ، أي ولا عمد ثم { وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ } أي جبالاً ثوابت { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } في محل نصب على العلة ، أي كراهة أن تميد بكم . والكوفيون يقدّرونه : لئلا تميد ، والمعنى : أنها خلقها وجعلها مستقرّة ثابتة لا تتحرّك بجبال جعلها عليها وأرساها على ظهرها { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ } أي من كلّ نوع من أنواع الدوابّ ، وقد تقدّم بيان معنى البثّ { وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } أي أنزلنا من السماء مطراً فأنبتنا فيها بسبب إنزاله من كلّ زوج ، أي من كل صنف ، ووصفه بكونه كريماً؛ لحسن لونه وكثرة منافعه . وقيل : إن المراد بذلك : الناس ، فالكريم منهم من يصير إلى الجنة ، واللئيم من يصير إلى النار . قاله الشعبي ، وغيره ، والأوّل أولى . والإشارة بقوله : { هذا } إلى ما ذكر في خلق السموات والأرض ، وهو مبتدأ وخبره { خَلْقُ الله } أي مخلوقه { فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ } من آلهتكم التي تعبدونها ، والاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والمعنى : فأروني أيّ شيء خلقوا مما يحاكي خلق الله أو يقاربه ، وهذا الأمر لهم لقصد التعجيز والتبكيت . ثم أضرب عن تبكيتهم بما ذكر إلى الحكم عليهم بالضلال الظاهر فقال : { بَلِ الظالمون فِي ضلال } فقرّر ظلمهم أوّلاً وضلالهم ثانياً ، ووصف ضلالهم بالوضوح والظهور ، ومن كان هكذا فلا يعقل الحجة ولا يهتدي إلى الحق .
وقد أخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث } يعني : باطل الحديث . وهو النضر بن الحارث بن علقمة اشترى أحاديث الأعاجم وصنيعهم في دهرهم . وكان يكتب الكتب من الحيرة إلى الشام ويكذب بالقرآن . وأخرج الفريابي وابن جرير وابن مردويه عنه في الآية قال : باطل الحديث وهو : الغناء ونحوه { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله } قال : قراءة القرآن وذكر الله ، نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية . وأخرج البخاري في الأدب المفرد ، وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في السنن عنه أيضاً في الآية قال : هو الغناء وأشباهه .