كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني
. . الحديث كما اختلفوا في تأويل هذه الآية ، والكلام في هذا يطول وقد ذكرنا ها هنا ما لا يحتاج معه الناظر إلى غيره . والفاء في قوله : { فنادى فِي الظلمات } فصيحة أي كان ما كان من التقام الحوت له ، فنادى في الظلمات ، والمراد بالظلمات : ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت ، وكان نداؤه : هو قوله : { أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّي كُنتُ مِنَ الظالمين } أي بأن لا إله إلا أنت . . . إلخ ، ومعنى { سبحانك } تنزيهاً لك من أن يعجزك شيء ، إني كنت من الظالمين الذين يظلمون أنفسهم ، قال الحسن وقتادة : هذا القول من يونس اعتراف بذنبه وتوبة من خطيئته ، قال ذلك وهو في بطن الحوت .
ثم أخبر الله سبحانه بأنه استجاب له فقال : { فاستجبنا لَهُ } دعاءه الذي دعانا به في ضمن اعترافه بالذنب على ألطف وجه { ونجيناه مِنَ الغم } بإخراجنا له من بطن الحوت حتى قذفه إلى الساحل { وكذلك نُنجِي المؤمنين } أي نخلصهم من همهم بما سبق من عملهم وما أعددناه لهم من الرحمة ، وهذا هو معنى الآية الأخرى ، وهي قوله : { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الصافات : 143 ، 144 ] . قرأ الجمهور : « ننجي » بنونين . وقرأ ابن عامر « نُجّي » بنون واحدة وجيم مشدّدة وتسكين الياء على الفعل الماضي وإضمار المصدر ، أي وكذلك نُجّي النجاءُ المؤمنين كما تقول : ضُرب زيداً ، أي ضُرب الضربُ زيداً ، ومنه قول الشاعر :
ولو ولدت قُفَيرة جرو كلب ... لسبّ بذلك الجرو الكلابا
هكذا قال في توجيه هذه القراءة الفرّاء وأبو عبيد وثعلب ، وخطأها أبو حاتم والزجاج وقالا : هي لحن لأنه نصب اسم ما لم يسمّ فاعله ، وإنما يقال : نجي المؤمنون . ولأبي عبيدة قول آخر ، وهو أنه أدغم النون في الجيم وبه قال القتيبي . واعترضه النحاس فقال : هذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين لبعد مخرج النون من مخرج الجيم فلا تدغم فيها ، ثم قال النحاس : لم أسمع في هذا أحسن من شيء سمعته من عليّ بن سليمان الأخفش قال : الأصل : ننجي ، فحذف إحدى النونين لاجتماعهما كما يحذف إحدى التاءين لاجتماعهما نحو قوله تعالى : { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران : 103 ] . والأصل : ولا تتفرّقوا . قلت : وكذا الواحدي عن أبي عليّ الفارسي أنه قال : إن النون الثانية تخفى مع الجيم ، ولا يجوز تبيينها ، فالتبس على السامع الإخفاء بالإدغام ، فظن أنه إدغام ، ويدلّ على هذا إسكانه الياء من نجي ونصب المؤمنين ، ولو كان على ما لم يسم فاعله ما سكن الياء ولوجب أن يرفع المؤمنين . قلت : ولا نسلم قوله : إنه لا يجوز تبيينها فقد بينت في قراءة الجمهور ، وقرأ محمد بن السميفع وأبو العالية « وكذلك نجى المؤمنين » على البناء للفاعل ، أي نجى الله المؤمنين .
وقد أخرج ابن جرير عن مرّة في قوله : { إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث } قال : كان الحرث نبتاً فنفشت فيه ليلاً فاختصموا فيه إلى داود ، فقضى بالغنم لأصحاب الحرث ، فمرّوا على سليمان فذكروا ذلك له . فقال : لا ، تدفع الغنم فيصيبون منها ويقوم هؤلاء على حرثهم ، فإذا كان كما كان ردّوا عليهم فنزلت : { ففهمناها سليمان } وقد روي هذا عن مرّة عن ابن مسعود . وأخرج ابن جرير والحاكم وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن ابن مسعود في قوله : { وَدَاوُدَ وسليمان إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث } قال : كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته الغنم ، فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم ، فقال سليمان : غير هذا يا نبيّ الله قال : وما ذاك؟ قال : يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان ، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها ، حتى إذا عاد الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه والغنم إلى صاحبها ، فذلك قوله : { ففهمناها سليمان } . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مسروق نحوه . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه ، ولكنه لم يذكر الكرم . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وابن جرير وابن المنذر ، وابن مردويه عنه نحوه بأطول منه . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً { نَفَشَتْ } قال : رعت . وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن حرام بن محيصة : أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطاً فأفسدت فيه ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار ، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها . وقد علل هذا الحديث ، وقد بسطنا الكلام عليه في شرح المنتقى . وأخرج ابن مردويه من حديث عائشة نحوه ، وزاد في آخره ، ثم تلا هذه الآية { وَدَاوُدَ وسليمان } الآية . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بينما امرأتان معهما ابنان جاء الذئب فأخذ أحد الابنين ، فتحاكما إلى داود فقضى به للكبرى ، فخرجتا فدعاهما سليمان فقال : هاتوا السكين أشقه بينهما ، فقالت الصغرى : رحمك الله ، هو ابنها لا تشقه ، فقضى به للصغرى » وهذا الحديث وإن لم يكن داخلاً فيما حكته الآية من حكمهما لكنه من جملة ما وقع لهما .
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن قتادة في قوله : { وَسَخَّرْنَا مَعَ * دَاوُودُ *الجبال يُسَبّحْنَ والطير } قال : يصلين مع داود إذا صلى { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ } قال : كانت صفائح ، فأوّل من سردها وحلقها داود عليه السلام .
وأخرج ابن أبي شيبة ، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : كان سليمان يوضع له ستمائة ألف كرسي ، ثم يجيء أشراف الإنس فيجلسون مما يليه ، ثم يجيء أشراف الجنّ فيجلسون مما يلي أشراف الإنس ثم يدعو الطير فتظلهم ، ثم يدعو الريح فتحملهم تسير مسيرة شهر في الغداة الواحدة .
وأخرج ابن عساكر ، والديلمي ، وابن النجار عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال الله لأيوب : تدري ما جرمك عليّ حتى ابتليتك؟ قال : لا يا رب ، قال : لأنك دخلت على فرعون فداهنت عنده في كلمتين » وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال : إنما كان ذنب أيوب أنه استعان به مسكين على ظالم يدرؤه فلم يعنه ، ولم يأمر بالمعروف ، ولم ينه الظالم عن ظلم المسكين فابتلاه الله ، وفي إسناده جويبر . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد ، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : كان لأيوب أخوان جاءا يوماً فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه ، فقاما من بعيد ، فقال أحدهما للآخر : لو كان علم الله من أيوب خيراً ما ابتلاه بهذا ، فجزع أيوب من قولهما جزعاً لم يجزع من شيء قط مثله ، فقال : اللّهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان ، وأنا أعلم مكان جائع فصدّقني؛ فصدّق من السماء وهما يسمعان ، ثم قال : اللّهم إن كنت تعلم أني لم ألبس قميصاً قط وأنا أعلم مكان عار فصدّقني ، فصدّق من السماء وهما يسمعان ثم خرّ ساجداً وقال : اللّهم بعزتك لا أرفع رأسي حتى تكشف عني ، فما رفع رأسه حتى كشف الله عنه . وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر مرفوعاً بنحو هذا . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وآتيناه أهله ومثلهم معهم } قال : قيل له : يا أيوب ، إن أهلك لك في الجنة ، فإن شئت أتيناك بهم ، وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوضناك مثلهم ، قال : لا ، بل اتركهم لي في الجنة ، قال : فتركوا له في الجنة وعوّض مثلهم في الدنيا . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني عن الضحاك قال : بلغ ابن مسعود أن مروان قال في هذه الآية : { وآتيناه أهله ومثلهم معهم } قال : أوتي أهلاً غير أهله ، فقال ابن مسعود : بل أوتي أهله بأعيانهم ومثلهم معهم . وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والروياني وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
« إن أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخصّ إخوانه ، كانا يغدوان إليه ويروحان ، فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم : تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد . قال : وما ذاك؟ قال : منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف عنه ما به ، فلما راحا إلى أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر له ذلك ، فقال أيوب : لا أدري ما يقول غير أن الله يعلم أني أمرّ بالرجلين يتنازعان يذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفّر عنهما كراهة أن يذكر الله إلا في حق ، وكان يخرج لحاجته فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ ، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها ، فأوحى الله إلى أيوب في مكانه أن { اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } [ ص : 42 ] فاستبطأته فتلقته وأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو أحسن ما كان ، فلما رأته قالت : أي بارك الله فيك هل رأيت نبيّ الله المبتلى ، والله على ذلك ما رأيت رجلاً أشبه به منك إذ كان صحيحاً؟ قال : فإني أنا هو ، قال : وكان له أندران : أندر للقمح ، وأندر للشعير ، فبعث الله سحابتين ، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض . وأفرعت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض » وأخرج ابن أبي شيبة وعبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وَذَا الكفل } قال : رجل صالح غير نبيّ تكفل لنبيّ قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له ويقضي بينهم بالعدل ، ففعل ذلك ، فسمي ذا الكفل . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان في بني إسرائيل قاضٍ فحضره الموت ، فقال : من يقوم مقامي على أن لا يغضب؟ فقال رجل : أنا ، فسمي : ذا الكفل ، فكان ليله جميعاً يصلي ، ثم يصبح صائماً فيقضي بين الناس ، وذكر قصة . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري قال : ما كان ذو الكفل نبياً ، ولكن كان في بني إسرائيل رجل صالح يصلي كلّ يوم مائة صلاة فتوفي ، فتكفل له ذو الكفل من بعده ، فكان يصلي كل يوم مائة صلاة ، فسمي ذا الكفل . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن حبان والطبراني والحاكم وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان من طريق سعد مولى طلحة عن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورّع من ذنب عمله ، فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها ، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت ، فقال : ما يبكيك : أكرهتك؟ قالت : لا ، ولكنه عمل ما عملته قط ، وما حملني عليه إلا الحاجة ، فقال : تفعلين أنت هذا وما فعلته ، اذهبي فهي لك ، وقال : والله لا أعصي الله بعدها أبداً ، فمات من ليلته فأصبح مكتوب على بابه : إن الله قد غفر للكفل »
وأخرجه الترمذي وحسنه ، والحاكم وابن مردويه من طريق سعد مولى طلحة . وأخرجه ابن مردويه من طريق نافع عن ابن عمر وقال فيه ذو الكفل .
وأخرج ابن جرير ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ مغاضبا } يقول : غضب على قومه { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } يقول : أن لن نقضي عليه عقوبة ولا بلاء فيما صنع بقومه في غضبه عليهم وفراره ، قال : وعقوبته أخذ النون إياه . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } قال : ظنّ أن لن يأخذه العذاب الذي أصابه . وأخرج أحمد في الزهد ، وابن أبي الدنيا ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود : { فنادى فِي الظلمات } قال : ظلمة الليل ، وظلمة بطن الحوت ، وظلمة البحر . وأخرج أحمد والترمذي والنسائي ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، والبزار وابن جرير وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن سعد بن أبي وقاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له » وأخرج ابن جرير عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « اسم الله الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ، دعوة يونس بن متى » ، قلت : يا رسول الله ، هل ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال : « هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامة إذا دعوا به ، ألم تسمع قول الله : { وكذلك نُنجِي المؤمنين } فهو شرط من الله لمن دعاه » وأخرج الحاكم من حديثه أيضاً نحوه ، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا ينبغي لأحد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى » وروي أيضاً في الصحيح وغيره من حديث ابن مسعود . وروي أيضاً في الصحيحين من حديث أبي هريرة .
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
قوله : { وَزَكَرِيَّا } أي واذكر خبر زكريا وقت ندائه لربه قال : { رَبّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً } أي منفرداً وحيداً لا ولد لي . وقد تقدّم الكلام على هذه الآية في آل عمران { وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين } أي خير من يبقى بعد كل من يموت ، فأنت حسبي إن لم ترزقني ولداً فإني أعلم أنك لا تضيع دينك وأنه سيقوم بذلك من عبادك من تختاره له وترتضيه للتبليغ : { فاستجبنا لَهُ } دعاءه { وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى } . وقد تقدّم مستوفى في سورة مريم { وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } . قال أكثر المفسرين : إنها كانت عاقراً فجعلها الله ولوداً . فهذا هو المراد بإصلاح زوجه . وقيل : كانت سيئة الخلق فجعلها الله سبحانه حسنة الخلق ، ولا مانع من إرادة الأمرين جميعاً ، وذلك بأن يصلح الله سبحانه ذاتها ، فتكون ولوداً بعد أن كانت عاقراً ، ويصلح أخلاقها فتكون أخلاقها مرضية بعد أن كانت غير مرضية ، وجملة : { إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات } للتعليل لما قبلها من إحسانه سبحانه إلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ، فالضمير المذكور راجع إليهم ، وقيل : هو راجع إلى زكريا وامرأته ويحيى . ثم وصفهم الله سبحانه بأنهم كانوا يدعونه { رَغَباً وَرَهَباً } أي يتضرّعون إليه في حال الرّخاء وحال الشدّة ، وقيل الرغب : رفع بطون الأكف إلى السماء ، والرهب : رفع ظهورها ، وانتصاب رغباً ورهباً على المصدرية أي : يرغبون رغباً ويرهبون رهباً ، أو على العلة أي للرّغب والرّهب ، أو على الحال ، أي راغبين وراهبين . وقرأ طلحة بن مصرِّف « ويدعونا » بنون واحدة ، وقرأ الأعمش بضم الراء فيهما وإسكان ما بعده ، وقرأ ابن وثاب بفتح الراء فيهما مع إسكان ما بعده ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو ، وقرأ الباقون بفتح الراء وفتح ما بعده فيهما { وَكَانُواْ لَنَا خاشعين } أي : متواضعين متضرّعين .
{ والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أي واذكر خبرها ، وهي مريم ، فإنها أحصنت فرجها من الحلال والحرام ولم يمسسها بشر ، وإنما ذكرها مع الأنبياء وإن لم تكن منهم لأجل ذكر عيسى ، وما في ذكر قصتها من الآية الباهرة { فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } أضاف سبحانه الروح إليه ، وهو للملك تشريفاً وتعظيماً ، وهو يريد روح عيسى { وجعلناها وابنها ءَايَةً للعالمين } قال الزجاج : الآية فيهما واحدة لأنها ولدته من غير فحل . وقيل : إن التقدير على مذهب سيبويه : وجعلناها آية وجعلنا ابنها آية كقوله سبحانه : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] والمعنى : أن الله سبحانه جعل قصتهما آية تامة مع تكاثر آيات كل واحد منهما . وقيل : أراد بالآية الجنس الشامل ، لما لكل واحد منهما من آيات ، ومعنى : { أحصنت } عفت فامتنعت من الفاحشة وغيرها . وقيل : المراد بالفرج : جيب القميص ، أي أنها طاهرة الأثواب ، وقد مضى بيان مثل هذا في سورة النساء ومريم .
ثم لما ذكر سبحانه الأنبياء بيّن أنهم كلهم مجتمعون على التوحيد فقال : { إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } والأمة : الدّين كما قال ابن قتيبة ، ومنه : { إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءنَا على أمة } [ الزخرف : 22 ] أي على دين ، كأنه قال : إن هذا دينكم دين واحد لا خلاف بين الأمم المختلفة في التوحيد ، ولا يخرج عن ذلك إلا الكفرة المشركون بالله ، وقيل : المعنى إن هذه الشريعة التي بينتها لكم في كتابكم شريعة واحدة ، وقيل : المعنى إن هذه ملتكم ملة واحدة ، وهي ملة الإسلام . وانتصاب { أمة واحدة } على الحال ، أي متفقة غير مختلفة ، وقرىء : « إن هذه أمتكم » بنصب أمتكم على البدل من اسم إنّ والخبر أمة واحدة . وقرىء برفع { أمتكم } ورفع { أمة } على أنهما خبران؛ وقيل : على إضمار مبتدأ أي : هي أمة واحدة . وقرأ الجمهور برفع ( أمتكم ) على أنه الخبر ونصب ( أمة ) على الحال كما قدّمنا . وقال الفراء والزجاج : على القطع بسبب مجيء النكرة بعد تمام الكلام { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون } خاصة ، لا تعبدوا غيري كائناً ما كان .
{ وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } أي تفرّقوا فرقاً في الدين حتى صار كالقطع المتفرّقة . وقال الأخفش : اختلفوا فيه ، وهو كالقول الأوّل . قال الأزهري : أي تفرّقوا في أمرهم ، فنصب أمرهم بحذف في ، والمقصود بالآية المشركون ، ذمهم الله بمخالفة الحق واتخاذهم آلهة من دون الله . وقيل : المراد : جميع الخلق وأنهم جعلوا أمرهم في أديانهم قطعاً وتقسموه بينهم ، فهذا موحّد ، وهذا يهوديّ ، وهذا نصرانيّ ، وهذا مجوسيّ ، وهذا عابد وثن . ثم أخبر سبحانه بأن مرجع الجميع إليه فقال : { كُلٌّ إِلَيْنَا راجعون } أي : كل واحد من هذه الفرق راجع إلينا بالبعث ، لا إلى غيرنا .
{ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات } أي من يعمل بعض الأعمال الصالحة ، لا كلها ، إذ لا يطيق ذلك أحد { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } بالله ورسله واليوم الآخر { فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } أي لا جحود لعمله ، ولا تضييع لجزائه ، والكفر ضدّ الإيمان ، والكفر أيضاً جحود النعمة وهو ضدّ الشكر ، يقال : كفر كفوراً وكفراناً ، وفي قراءة ابن مسعود : « فلا كفر لسعيه » . { وَإِنَّا لَهُ كاتبون } أي لسعيه حافظون ، ومثله قوله سبحانه : { أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } [ آل عمران : 195 ] . { وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهلكناها } . قرأ زيد بن ثابت وأهل المدينة { وحرام } وقرأ أهل الكوفة : « وحرم » وقد اختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم ، ورويت القراءة الثانية عن عليّ وابن مسعود وابن عباس : وهما لغتان مثل حلّ وحلال . وقرأ سعيد بن جبير « وحرم » بفتح الحاء وكسر الراء وفتح الميم . وقرأ عكرمة وأبو العالية « حرم » بضم الراء وفتح الحاء والميم ، ومعنى { أهلكناها } : قدّرنا إهلاكها ، وجملة : { أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } في محل رفع على أنه مبتدأ وخبره { حرام } أو على أنه فاعل له سادّ مسدّ خبره .
والمعنى : وممتنع ألبتة عدم رجوعهم إلينا للجزاء ، وقيل : إن { لا } في { لا يرجعون } زائدة أي حرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا بعد الهلاك إلى الدنيا ، واختار هذا أبو عبيدة؛ وقيل : إن لفظ حرام هنا بمعنى الواجب ، أي واجب على قرية ، ومنه قول الخنساء :
وإن حراماً لا أرى الدهر باكياً ... على شجوه إلا بكيت على صخر
وقيل : حرام : أي ممتنع رجوعهم إلى التوبة ، على أن لا زائدة . قال النحاس : والآية مشكلة ، ومن أحسن ما قيل فيها وأجلّه ما رواه ابن عيينة وابن علية وهشيم وابن إدريس ومحمد بن فضيل ، وسليمان بن حيان ومعلى عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في معنى الآية قال : واجب أنهم لا يرجعون ، أي لا يتوبون . قال الزجاج وأبو علي الفارسي : إن في الكلام إضماراً ، أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها ، أو بالختم على قلوب أهلها ، أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون ، أي لا يتوبون . { حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ } : « حتى » هذه هي التي يحكى بعدها الكلام ، ويأجوج ومأجوج قبيلتان من الإنس ، والمراد بفتح يأجوج ومأجوج فتح السدّ الذي عليهم ، على حذف المضاف ، وقيل : إن حتى هذه هي التي للغاية . والمعنى : أن هؤلاء المذكورين سابقاً مستمرّون على ما هم عليه إلى يوم القيامة ، وهي يوم فتح سدّ يأجوج ومأجوج { وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } الضمير ليأجوج ومأجوج ، والحدب ، كلّ أكمة من الأرض مرتفعة والجمع أحداب ، مأخوذ من حدبة الأرض ، ومعنى { يَنسِلُونَ } يسرعون . وقيل : يخرجون . قال الزجاج : والنسلان مشية الذئب إذا أسرع . يقال : نسل فلان في العدو ينسل بالكسر والضم نسلاً ونسولاً ونسلاناً ، أي أن يأجوج ومأجوج من كلّ مرتفع من الأرض يسرعون المشي ويتفرقون في الأرض؛ وقيل : الضمير في قوله : { وهم } لجميع الخلق ، والمعنى : أنهم يحشرون إلى أرض الموقف وهم يسرعون من كلّ مرتفع من الأرض . وقرىء بضم السين . حكى ذلك المهدوي عن ابن مسعود . وحكى هذه القراءة أيضاً الثعلبي ، عن مجاهد ، وأبي الصهباء .
{ واقترب الوعد } عطف على { فتحت } ، والمراد : ما بعد الفتح من الحساب . وقال الفراء والكسائي وغيرهما : المراد بالوعد الحق : القيامة والواو زائدة؛ والمعنى : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق وهو القيامة ، فاقترب جواب إذا ، وأنشد الفراء :
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... أي انتحى ، ومنه قوله تعالى : { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وناديناه } [ الصافات : 103 ، 104 ] . وأجاز الفراء أن يكون جواب إذا { فَإِذَا هِيَ شاخصة أبصار الذين كَفَرُواْ } وقال البصريون : الجواب محذوف ، والتقدير : قالوا : يا ويلنا .
وبه قال الزجاج ، والضمير في { فَإِذَا هِىَ } للقصة ، أو مبهم يفسره ما بعده ، وإذا للمفاجأة . وقيل : إن الكلام تمّ عند قوله { هي } ، والتقدير : فإذا هي ، يعني : القيامة بارزة واقعة كأنها آتية حاضرة ، ثم ابتدأ فقال : { شاخصة أبصار الذين كفروا } على تقديم الخبر على المبتدأ ، أي أبصار الذين كفروا شاخصة ، و { يا ويلنا } على تقدير القول : { قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذا } أي من هذا الذي دهمنا من العبث والحساب { بَلْ كُنَّا ظالمين } أضربوا عن وصف أنفسهم بالغفلة ، أي لم نكن غافلين بل كنا ظالمين لأنفسنا بالتكذيب وعدم الانقياد للرسل .
وقد أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } قال : كان في لسان امرأة زكريا طول فأصلحه الله . وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : وهبنا له ولدها . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : كانت عاقراً فجعلها الله ولوداً ووهب له منها يحيى ، وفي قوله : { وَكَانُواْ لَنَا خاشعين } قال : أذلاء . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله : { وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } قال : رغباً في رحمة الله ورهباً من عذاب الله . وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله سبحانه : { وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } قال : « رغباً هكذا ورهباً هكذا وبسط كفيه » ، يعني : جعل ظهرهما للأرض في الرغبة وعكسه في الرهبة . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن حكيم قال : خطبنا أبو بكر الصديق فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله ، وأن تثنوا عليه بما هو له أهل ، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة ، فإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال : { إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشعين } .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } قال : إن هذا دينكم ديناً واحداً . وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه . وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : { وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } قال : تقطعوا : اختلفوا في الدين . وأخرج الفريابي وابن المنذر ، وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهلكناها } قال : وجب إهلاكها { أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } قال : لا يتوبون . وأخرج سعيد بن منصور وعبد ابن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم ابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يقرأ : « وَحَرَّمَ على قَرْيَةٍ » قال : وجب على قرية { أهلكناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } كما قال : { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ ياس : 31 ] . وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة وسعيد بن جبير مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { مّن كُلّ حَدَبٍ } قال : شرف { يَنسِلُونَ } قال : يقبلون ، وقد ورد في صفة يأجوج ومأجوج وفي وقت خروجهم أحاديث كثيرة لا يتعلق بذكرها ها هنا كثير فائدة .
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
بيّن سبحانه حال معبودهم يوم القيامة فقال : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } وهذا خطاب منه سبحانه لأهل مكة ، والمراد بقوله { وما تعبدون } : الأصنام التي كانوا يعبدون . قرأ الجمهور : { حصب } بالصاد المهملة ، أي وقود جهنم وحطبها ، وكل ما أوقدت به النار أو هيجتها به فهو حصب ، كذا قال الجوهري . قال أبو عبيدة : كل ما قذفته في النار فقد حصبتها به ، ومثل ذلك قوله تعالى : { فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة } [ البقرة : 24 ] . وقرأ عليّ بن أبي طالب وعائشة : « حطب جهنم » بالطاء ، وقرأ ابن عباس : « حضب » بالضاد المعجمة . قال الفراء : ذكر لنا أن الحضب في لغة أهل اليمن : الحطب ، ووجه إلقاء الأصنام في النار مع كونها جمادات لا تعقل ذلك ولا تحسّ به : التبكيت لمن عبدها وزيادة التوبيخ لهم وتضاعف الحسرة عليهم . وقيل : إنها تحمى فتلصق بهم زيادة في تعذيبهم ، وجملة : { أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } إما مستأنفة أو بدل من { حصب جهنم } والخطاب لهم ولما يعبدون تغليباً ، واللام في { لها } للتقوية لضعف عمل اسم الفاعل . وقيل : هي بمعنى على ، والمراد بالورود هنا : الدخول . قال كثير من أهل العلم : ولا يدخل في هذه الآية عيسى وعزير والملائكة ، لأن { ما } لمن لا يعقل ، ولو أراد العموم لقال : ومن يعبدون . قال الزجاج : ولأن المخاطبين بهذه الآية مشركو مكة دون غيرهم .
{ لَوْ كَانَ هَؤُلاء ءَالِهَةً مَّا وَرَدُوهَا } أي لو كانت هذه الأصنام آلهة كما تزعمون ، ما وردوها أي : ما ورد العابدون هم والمعبودون النار ، وقيل : ما ورد العابدون فقط ، لكنهم وردوها فلم يكونوا آلهة ، وفي هذا تبكيت لعباد الأصنام وتوبيخ شديد { وَكُلٌّ فِيهَا خالدون } أي : كلّ العابدين والمعبودين في النار خالدون لا يخرجون منها { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ } أي لهؤلاء الذين وردوا النار ، والزفير صوت نفس المغموم ، والمراد هنا : الأنين والتنفس الشديد ، وقد تقدّم بيان هذا في هود . { وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ } أي لا يسمع بعضهم زفير بعض لشدّة الهول . وقيل : لا يسمعون شيئاً ، لأنهم يحشرون صماً كما قال سبحانه : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا } [ الإسراء : 97 ] . وإنما سلبوا السماع ، لأن فيه بعض تروّح وتأنس ، وقيل : لا يسمعون ما يسرهم ، بل يسمعون ما يسوؤهم .
ثم لما بيّن سبحانه حال هؤلاء الأشقياء شرع في بيان حال السعداء فقال : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى } أي الخصلة الحسنى التي هي أحسن الخصال وهي السعادة . وقيل : التوفيق ، أو التبشير بالجنة ، أو نفس الجنة . { أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } إشارة إلى الموصوفين بتلك الصفة { عَنْهَا } أي عن جهنم { مُبْعَدُونَ } لأنهم قد صاروا في الجنة .
{ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } الحسّ والحسيس : الصوت تسمعه من الشيء يمرّ قريباً منك . والمعنى : لا يسمعون حركة النار وحركة أهلها ، وهذه الجملة بدل من { مبعدون } أو حال من ضميره { وَهُمْ فِيمَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خالدون } أي دائمون ، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذّ به الأعين كما قال سبحانه : { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } [ فصلت : 31 ] . { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } قرأ أبو جعفر وابن محيصن : « لا يحزنهم » بضم الياء وكسر الزاي ، وقرأ الباقون { لا يحزنهم } بفتح الياء وضم الزاي . قال اليزيدي : حزنه لغة قريش ، وأحزنه لغة تميم . والفزع الأكبر : أهوال يوم القيامة من البعث والحساب والعقاب { وتتلقاهم الملئكة } أي تستقبلهم على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم : { هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } أي توعدون به في الدنيا وتبشرون بما فيه ، هكذا قال جماعة من المفسرين إن المراد بقوله : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى } إلى هنا هم كافة الموصوفين بالإيمان والعمل الصالح ، لا المسيح وعزير والملائكة ، وقال أكثر المفسرين : إنه لما نزل { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } الآية « أتى ابن الزبعري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ألست تزعم أن عزيراً رجل صالح ، وأن عيسى رجل صالح ، وأن مريم امرأة صالحة؟ قال : بلى ، فقال : فإن الملائكة وعيسى وعزيراً ومريم يعبدون من دون الله ، فهؤلاء في النار ، فأنزل الله { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى } » وسيأتي بيان من أخرج هذا قريباً إن شاء الله .
{ يَوْمَ نَطْوِي السماء كَطَيّ السجل للكتب } قرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والأعرج والزهري : « تطوي » بمثناة فوقية مضمومة ورفع السماء ، وقرأ مجاهد : « يطوي » بالتحتية المفتوحة مبنياً للفاعل على معنى يطوي الله السماء ، وقرأ الباقون { نطوي } بنون العظمة وانتصاب { يوم } بقوله : { نُّعِيدُهُ } أي نعيده يوم نطوي السماء ، وقيل : هو بدل من الضمير المحذوف في توعدون ، والتقدير : الذي كنتم توعدونه يوم نطوي . وقيل : بقوله : { لا يحزنهم الفزع } وقيل : بقوله : { تتلقاهم } . وقيل : متعلق بمحذوف ، وهو اذكر ، وهذا أظهر وأوضح ، والطيّ ضد النشر . وقيل : المحو ، والمراد بالسماء : الجنس ، والسجل : الصحيفة ، أي طياً كطيّ الطومار . وقيل : السجل : الصك ، وهو مشتق من المساجلة وهي المكاتبة ، وأصلها من السجل ، وهو الدلو ، يقال : ساجلت الرجل : إذا نزعت دلواً ونزع دلواً ، ثم استعيرت للمكاتبة والمراجعة في الكلام ، ومنه قول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب :
من يساجلني يساجل ماجداً ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب
وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير : « السجل » بضم السين والجيم وتشديد اللام ، وقرأ الأعمش وطلحة بفتح السين وإسكان الجيم وتخفيف اللام ، والطيّ في هذه الآية يحتمل معنيين أحدهما : الطيّ الذي هو ضدّ النشر ، ومنه قوله :
{ والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] . والثاني : الإخفاء والتعمية والمحو ، لأن الله سبحانه يمحو ويطمس رسومها ويكدّر نجومها . وقيل : السجل اسم ملك ، وهو الذي يطوي كتب بني آدم . وقيل : هو اسم كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأوّل أولى . قرأ الأعمش وحفص وحمزة والكسائي ويحيى وخلف : { للكتب } جمعاً ، وقرأ الباقون : { للكتاب } وهو متعلق بمحذوف حال من السجل ، أي كطيّ السجل كائناً للكتب أو صفة له أي الكائن للكتب ، فإن الكتب عبارة عن الصحائف وما كتب فيها ، فسجلها بعض أجزائها ، وبه يتعلق الطيّ حقيقة . وأما على القراءة الثانية فالكتاب مصدر ، واللام للتعليل ، أي كما يطوي الطومار للكتابة ، أي ليكتب فيه ، أو لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة ، وهذا على تقدير أن المراد بالطيّ المعنى الأوّل ، وهو ضدّ النشر { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } أي كما بدأناهم في بطون أمهاتهم وأخرجناهم إلى الأرض حفاة عراة غرلاً كذلك نعيدهم يوم القيامة ، فأوّل خلق مفعول نعيد مقدّراً يفسره نعيده المذكور ، أو مفعول لبدأنا ، وما كافة أو موصولة ، والكاف متعلقة بمحذوف ، أي نعيد مثل الذي بدأناه نعيده ، وعلى هذا الوجه يكون أوّل ظرف لبدأنا ، أو حال ، وإنما خص أوّل الخلق بالذكر تصويراً للإيجاد عن العدم ، والمقصود بيان صحة الإعادة بالقياس على المبدأ للشمول الإمكاني الذاتي لهما ، وقيل معنى الآية : نهلك كلّ نفس كما كان أوّل مرّة ، وعلى هذا فالكلام متصل بقوله : { يَوْمَ نَطْوِي السماء } . وقيل : المعنى نغير السماء ، ثم نعيدها مرّة أخرى بعد طيها وزوالها ، والأوّل أولى ، وهو مثل قوله : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 94 ] . ثم قال سبحانه : { وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فاعلين } انتصاب { وعداً } على أنه مصدر أي وعدنا وعداً علينا إنجازه والوفاء به . وهو البعث والإعادة ، ثم أكد سبحانه ذلك بقوله : { إِنَّا كُنَّا فاعلين } . قال الزجاج : معنى { إنا كنا فاعلين } : إنا كنا قادرين على ما نشاء . وقيل : إنا كنا فاعلين ما وعدناكم ، ومثله قوله : { كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } [ المزمل : 18 ] .
{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور } الزبر في الأصل : الكتب ، يقال : زبرت ، أي كتبت ، وعلى هذا يصح إطلاق الزبور على التوراة والإنجيل ، وعلى كتاب داود المسمى بالزبور . وقيل : المراد به هنا : كتاب داود ، ومعنى { مِن بَعْدِ الذكر } أي اللوح المحفوظ . وقيل : هو التوراة ، أي والله لقد كتبنا في كتاب داود من بعد ما كتبنا في التوراة أو من بعد ما كتبنا في اللوح المحفوظ { أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون } . قال الزجاج : الزبور جميع الكتب : التوراة والإنجيل والقرآن ، لأن الزبور والكتاب في معنى واحد ، يقال : زبرت وكتبت ، ويؤيد ما قاله قراءة حمزة في الزبور بضم الزاي ، فإنه جمع زبر .
وقد اختلف في معنى { يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون } فقيل : المراد : أرض الجنة ، واستدل القائلون بهذا بقوله سبحانه :
{ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض } [ الزمر : 74 ] . وقيل : هي الأرض المقدسة . وقيل : هي أرض الأمم الكافرة يرثها نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته بفتحها . وقيل : المراد بذلك : بنو إسرائيل ، بدليل قوله سبحانه : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الارض ومغاربها التي بَارَكْنَا فِيهَا } [ الأعراف : 137 ] والظاهر أن هذا تبشير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بوراثة أرض الكافرين ، وعليه أكثر المفسرين . وقرأ حمزة : " عبادي " بتسكين الياء ، وقرأ الباقون بتحريكها .
{ إِنَّ فِي هذا لبلاغا } أي فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه { لبلاغاً } : لكفاية ، يقال : في هذا الشيء بلاغ وبلغة وتبلغ ، أي كفاية . وقيل : الإشارة بقوله : { إِنَّ فِي هذا } إلى القرآن { لّقَوْمٍ عابدين } أي مشغولين بعبادة الله مهتمين بها . والعبادة هي : الخضوع والتذلل ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ورأس العبادة الصلاة . { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين } أي وما أرسلناك يا محمد بالشرائع والأحكام إلا رحمة لجميع الناس ، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال والعلل ، أي ما أرسلناك لعلة من العلل إلا لرحمتنا الواسعة ، فإن ما بعثت به سبب لسعادة الدارين ، قيل : ومعنى كونه رحمة للكفار : أنهم أمنوا به من الخسف والمسخ والاستئصال ، وقيل : المراد بالعالمين : المؤمنون خاصة ، والأوّل أولى بدليل قوله سبحانه : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] .
ثم بيّن سبحانه أن أصل تلك الرحمة هو التوحيد والبراءة من الشرك فقال : { قُلْ إِنَّمَا يوحى إِلَيَّ أَنَّمَا إلهكم إله واحد } إن كانت «ما» موصولة فالمعنى : أن الذي يوحى إليّ هو أن وصفه تعالى مقصور على الوحدانية لا يتجاوزها إلى ما يناقضها أو يضادّها ، وإن كانت «ما» كافة فالمعنى : أن الوحي إليّ مقصور على استئثار الله بالوحدة ، ووجه ذلك أن القصر أبداً يكون لما يلي إنما ، فإنما الأولى لقصر الوصف على الشيء كقولك : إنما يقوم زيد ، أي ما يقوم إلا زيد . والثانية لقصر الشيء على الحكم كقولك : إنما زيد قائم ، أي ليس به إلا صفة القيام { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } منقادون مخلصون للعبادة ولتوحيد الله سبحانه .
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي أعرضوا عن الإسلام { فَقُلْ } لهم { آذنكم على سَوَاء } أي : أعلمتكم أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا كائنين على سواء في الإعلام لم أخصّ به بعضكم دون بعض كقوله سبحانه : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَاء } [ الأنفال : 58 ] أي أعلمهم أنك نقضت العهد نقضاً سوّيت بينهم فيه . وقال الزجاج : المعنى : أعلمتكم ما يوحى إليّ على استواء في العلم به ، ولا أظهر لأحد شيئاً كتمته على غيره { وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } أي ما أدري أما توعدون به قريب حصوله أم بعيد ، وهو غلبة الإسلام وأهله على الكفر وأهله؛ وقيل : المراد بما توعدون : القيامة .
وقيل : آذنتكم بالحرب ولكن لا أدري ما يؤذن لي في محاربتكم { إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } أي يعلم سبحانه ما تجاهرون به من الكفر والطعن على الإسلام وأهله وما تكتمونه من ذلك وتخفونه { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ } أي ما أدري لعلّ الإمهال فتنة لكم واختبار ليرى كيف صنعكم { ومتاع إلى حِينٍ } أي وتمتيع إلى وقت مقدّر تقتضيه حكمته .
ثم حكى سبحانه وتعالى دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { قَالَ رَبّ احكم بالحق } أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين بما هو الحق عندك ففوّض الأمر إليه سبحانه . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وابن محيصن : « رب » بضم الباء . قال النحاس : وهذا لحن عند النحويين لا يجوز عندهم : رجل أقبل ، حتى يقول : يا رجل . وقرأ الضحاك وطلحة ويعقوب : « أحكم » بقطع الهمزة وفتح الكاف وضم الميم ، أي قال محمد : ربي أحكم بالحقّ من كل حاكم . وقرأ الجحدري : « أحكم » بصيغة الماضي ، أي أحكم الأمور بالحق . وقرىء : « قل » بصيغة الأمر ، أي قل يا محمد . قال أبو عبيدة : الصفة هنا أقيمت مقام الموصوف ، والتقدير : ربّ احكم بحكمك الحق ، { وربّ } في موضع نصب ، لأنه منادى مضاف إلى الضمير ، وقد استجاب سبحانه دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم فعذبهم ببدر ، ثم جعل العاقبة والغلبة والنصر لعباده المؤمنين والحمد لله ربّ العالمين . ثم قال سبحانه متمماً لتلك الحكاية { وَرَبُّنَا الرحمن المستعان على مَا تَصِفُونَ } من الكفر والتكذيب ، ف { ربنا } مبتدأ وخبره { الرحمن } أي هو كثير الرحمة لعباده ، { المستعان } خبر آخر ، أي المستعان به في الأمور التي من جملتها ما تصفونه من أن الشوكة تكون لكم ، ومن قولكم : { هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } [ الأنبياء : 3 ] وقولكم : { اتخذ الرحمن وَلَداً } [ مريم : 88 ] وكثيراً ما يستعمل الوصف في كتاب الله بمعنى الكذب كقوله : { وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ } [ الأنبياء : 18 ] ، وقوله : { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } [ الأنعام : 139 ] وقرأ المفضل والسلمي : « على ما يصفون » بالياء التحتية . وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب .
وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال : لما نزلت { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } قال المشركون : فالملائكة وعيسى وعزير يعبدون من دون الله ، فنزلت : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } عيسى وعزير والملائكة . وأخرج ابن مردويه ، والضياء في المختارة عنه قال : جاء عبد الله بن الزبعري إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : تزعم أن الله أنزل عليك هذه الآية : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } قال ابن الزبعري : قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير وعيسى ابن مريم كل هؤلاء في النار مع آلهتنا ، فنزلت :
{ وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُواْ أآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [ الزخرف : 57 ، 58 ] . ثم نزلت : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } . وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر والطبراني من وجه آخر عنه أيضاً نحوه بأطول منه . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى } قال : « عيسى وعزير والملائكة » .
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله : { حَصَبُ جَهَنَّمَ } قال : شجر جهنم ، وفي إسناده العوفي . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه من وجه آخر أن { حَصَبُ جَهَنَّمَ } وقودها . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : هو حطب جهنم بالزنجية . وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } قال : « حيات على الصراط تقول حس حس » وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عثمان النهدي في قوله : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } قال : حيات على الصراط تلسعهم ، فإذا لسعتهم قالوا : حس حس . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن محمد بن حاطب قال : سئل عليّ عن هذه الآية : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى } قال : هو عثمان وأصحابه . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } يقول : لا يسمع أهل الجنة حسيس النار إذا نزل منزلهم من الجنة .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } قال : النفخة الآخرة ، وفي إسناده العوفي . وأخرج أحمد ، والترمذي وحسنه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاثة على كثبان المسك لا يهولهم الفزع الأكبر يوم القيامة : رجل أمّ قوماً وهم به راضون ، ورجل كان يؤذن في كل يوم وليلة . وعبد أدّى حق الله وحقّ مواليه » وأخرج عبد بن حميد عن عليّ في قوله : { كَطَيّ السجل } قال : ملك . وأخرج عبد بن حميد عن عطية مثله . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال : السجل ملك ، فإذا صعد بالاستغفار قال : اكتبوها نوراً . وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي جعفر الباقر قال : السجل ملك . وأخرج أبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، وابن منده في المعرفة ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه وصححه عن ابن عباس قال : السجل كاتب للنبيّ صلى الله عليه وسلم .
وأخرج ابن المنذر وابن عديّ وابن عساكر عن ابن عباس قال : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كاتب يسمى : السجل ، وهو قوله : { يَوْمَ نَطْوِي السماء كَطَىّ السجل } قال : كما يطوي السجل الكتاب كذلك نطوي السماء . وأخرج ابن المنذر ، وأبو نعيم في المعرفة وابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن ابن عمر قال : كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم كاتب يقال له : السجل ، فأنزل الله : { يَوْمَ نَطْوِي السماء كَطَيّ السجل } .
قال ابن كثير في تفسيره بعد إخراج هذا الحديث : وهذا منكر جداً من حديث نافع عن ابن عمر ، لا يصح أصلاً . قال : وكذلك ما تقدّم عن ابن عباس من رواية أبي داود وغيره لا يصح أيضاً . وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه ، وإن كان في سنن أبي داود منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج وقد أفردت لهذا الحديث جزءاً له على حدة ، ولله الحمد . قال : وقد تصدّى الإمام أبو جعفر ابن جرير للإنكار على هذا الحديث وردّه أتمّ ردّ ، وقال : ولا نعرف في الصحابة أحداً اسمه سجلّ ، وكتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا معروفين ، وليس فيهم أحد اسمه السجل . وصدق رحمه الله في ذلك وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث . وأما من ذكر في أسماء الصحابة هذا فإنما اعتمد على هذا الحديث لا على غيره والله أعلم . قال : والصحيح عن ابن عباس : أن السجلّ هو الصحيفة ، قاله عليّ بن أبي طلحة والعوفي عنه . ونصّ على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد ، واختاره ابن جرير لأنه المعروف في اللغة ، فعلى هذا يكون معنى الكلام : يوم نطوي السماء كطيّ السجلّ للكتاب أي : على الكتاب ، يعني المكتوب كقوله : { افلما أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [ الصافات : 103 ] ، أي : على الجبين ، وله نظائر في اللغة والله أعلم . قلت : أما كون هذا هو الصحيح عن ابن عباس فلا ، فإن عليّ بن أبي طلحة والعوفيّ ضعيفان ، فالأولى التعويل على المعنى اللغوي والمصير إليه . وقد أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس قال : { السجل } هو الرجل ، زاد ابن مردويه : بلغة الحبشة . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسير الآية قال : كطيّ الصحيفة على الكتاب .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } يقول : نهلك كل شيء كما كان أوّل مرّة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر } قال : القرآن { أَنَّ الأرض } قال : أرض الجنة . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور } قال : الكتب { مِن بَعْدِ الذكر } قال : التوراة وفي إسناده العوفي .
وأخرج سعيد بن منصور عنه أيضاً ، قال : الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن . والذكر : الأصل الذي نسخت منه هذه الكتب الذي في السماء ، والأرض : أرض الجنة . وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون } قال : أرض الجنة . وأخرج بن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : أخبر الله سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السموات والأرض أن يورث أمة محمد الأرض ، ويدخلهم الجنة ، وهم الصالحون ، وفي قوله : { لبلاغا لّقَوْمٍ عابدين } قال : عالمين ، وفي إسناده عليّ بن أبي طلحة .
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن أبي هريرة : { إِنَّ فِي هذا لبلاغا لّقَوْمٍ عابدين } قال : الصلوات الخمس . وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم والديلمي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « في قول الله : { إِنَّ فِي هذا لبلاغا لّقَوْمٍ عابدين } قال : في الصلوات الخمس شغلاً للعبادة » وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية : { لبلاغا لّقَوْمٍ عابدين } قال : « هي الصلوات الخمس في المسجد الحرام جماعة » وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين } قال : من آمن تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن عوفي مما كان يصيب الأمم في عاجل الدنيا من العذاب من الخسف والمسخ والقذف . وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ادع الله على المشركين ، قال : « إني لم أبعث لعاناً ، وإنما بعثت رحمة » وأخرج الطيالسي وأحمد والطبراني ، وأبو نعيم في الدلائل عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله بعثني رحمة للعالمين وهدى للمتقين » وأخرج أحمد والطبراني عن سلمان ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أيما رجل من أمتي سببته سبة في غضبي أو لعنته لعنة ، فإنما أنا رجل من ولد آدم أغضب كما يغضبون ، وإنما بعثني رحمة للعالمين ، فاجعلها عليه صلاة يوم القيامة » وأخرج البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنما أنا رحمة مهداة » وقد روي معنى هذا من طرق .
وأخرج ابن أبي خيثمة وابن عساكر عن الربيع بن أنس قال : لما أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم رأى فلاناً ، وهو بعض بني أمية على المنبر يخطب الناس ، فشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ } يقول : هذا الملك . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ } يقول : ما أخبركم به من العذاب والساعة ، لعلّ تأخير ذلك عنكم فتنة لكم . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله : { قُل رَّبّ احكم بالحق } قال : لا يحكم الله إلا بالحق ، وإنما يستعجل بذلك في الدنيا يسأل ربه .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
لما انجرّ الكلام في خاتمة السورة المتقدمة إلى ذكر الإعادة وما قبلها وما بعدها ، بدأ سبحانه في هذه السورة بذكر القيامة وأهوالها ، حثاً على التقوى التي هي أنفع زاد فقال : { يَأَيُّهَا الناس اتقوا رَبَّكُمُ } أي احذروا عقابه بفعل ما أمركم به من الواجبات وترك ما نهاكم عنه من المحرمات ، ولفظ الناس يشمل جميع المكلفين من الموجودين ومن سيوجد على ما تقرر في موضعه ، وقد قدّمنا طرفاً من تحقيق ذلك في سورة البقرة ، وجملة : { إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْء عَظِيمٌ } تعليل لما قبلها من الأمر بالتقوى ، والزلزلة : شدّة الحركة ، وأصلها من زلّ عن الموضع ، أي زال عنه وتحرّك ، وزلزل الله قدمه ، أي : حركها ، وتكرير الحرف يدل على تأكيد المعنى ، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله ، وهي على هذا ، الزلزلة التي هي أحد أشراط الساعة التي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة ، هذا قول الجمهور . وقيل : إنها تكون في النصف من شهر رمضان ، ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها . وقيل : إن المصدر هنا مضاف إلى الظرف ، وهو الساعة ، إجراء له مجرى المفعول ، أو بتقدير " في " كما في قوله : { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } [ سبأ : 33 ] . وهي المذكورة في قوله : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا } [ الزلزلة : 1 ] . قيل : وفي التعبير عنها بالشيء إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها . { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } انتصاب الظرف بما بعده ، والضمير يرجع إلى الزلزلة ، أي وقت رؤيتكم لها ، تذهل : كل ذات رضاع عن رضيعها وتغفل عنه . قال قطرب : تذهل تشتغل ، وأنشد قول الشاعر :
ضرب يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
وقيل : تنسى . وقيل : تلهو . وقيل : تسلو ، وهذه معانيها متقاربة . قال المبرّد : إن «ما» فيما أرضعت بمعنى المصدر أي تذهل عن الإرضاع ، قال : وهذا يدل على أن هذه الزلزلة في الدنيا ، إذ ليس بعد القيامة حمل وإرضاع ، إلا أن يقال : من ماتت حاملاً فتضع حملها للهول ، ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك ، ويقال : هذا مثل كما يقال : { يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً } [ المزمل : 17 ] . وقيل : يكون مع النفخة الأولى ، قال : ويحتمل أن تكون الساعة عبارة عن أهوال يوم القيامة ، كما في قوله : { مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء وَزُلْزِلُواْ } [ البقرة : 214 ] . ومعنى { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } : أنها تلقي جنينها لغير تمام من شدّة الهول ، كما أن المرضعة تترك ولدها بغير رضاع لذلك { وَتَرَى الناس سكارى } قرأ الجمهور بفتح التاء والراء خطاب لكل واحد ، أي يراهم الرائي كأنهم سكارى { وَمَا هُم بسكارى } حقيقة ، قرأ حمزة والكسائي : " سكرى " بغير ألف ، وقرأ الباقون بإثباتها وهما لغتان يجمع بهما سكران ، مثل كسلى وكسالى ، ولما نفى سبحانه عنهم السكر أوضح السبب الذي لأجله شابهوا السكارى فقال : { ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ } فبسبب هذه الشدة والهول العظيم طاشت عقولهم ، واضطربت أفهامهم فصاروا كالسكارى ، بجامع سلب كمال التمييز وصحة الإدراك .
وقرىء : « وترى » بضم التاء وفتح الراء مسنداً إلى المخاطب من أرأيتك أي : تظنهم سكارى . قال الفراء : ولهذه القراءة وجه جيد في العربية .
ثم لما أراد سبحانه أن يحتجّ على منكري البعث قدّم قبل ذلك مقدّمة تشمل أهل الجدال كلهم فقال : { وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله بِغَيْرِ عِلْمٍ } وقد تقدّم إعراب مثل هذا التركيب في قوله : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ } [ البقرة : 8 ] . ومعنى { فِي الله } : في شأن الله وقدرته ، ومحل { بِغَيْرِ عِلْمٍ } النصب على الحال . والمعنى : أنه يخاصم في قدرة الله ، فيزعم أنه غير قادر على البعث بغير علم يعلمه ، ولا حجة يدلي بها { وَيَتَّبِعْ } فيما يقوله ويتعاطاه ويحتجّ به ويجادل عنه { كُلَّ شيطان مَّرِيدٍ } أي متمرّد على الله وهو العاتي ، سمي بذلك لخلّوه عن كل خير ، والمراد : إبليس وجنوده ، أو رؤساء الكفار الذين يدعون أشياعهم إلى الكفر . وقال الواحدي : قال المفسرون : نزلت في النضر بن الحارث وكان كثير الجدال ، وكان ينكر أن الله يقدر على إحياء الأموات . وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة .
{ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ } أي كتب على الشيطان؛ وفاعل كتب : أنه من تولاه ، والضمير للشأن ، أي من اتخذه ولياً { فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ } أي : فشأن الشيطان أن يضله عن طريق الحقّ ، فقوله أنه يضله جواب الشرط إن جعلت من شرطية أو خبر الموصول إن جعلت موصولة ، فقد وصف الشيطان بوصفين : الأوّل أنه مريد ، والثاني ما أفاده جملة كتب عليه إلخ ، وجملة { وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير } معطوفة على جملة يضله أي : يحمله على مباشرة ما يصير به في عذاب السعير .
ثم ذكر سبحانه ما هو المقصود من الاحتجاج على الكفار بعد فراغه من تلك المقدّمة ، فقال : { ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مّنَ البعث } قرأ الحسن : « البعث » بفتح العين وهي لغة ، وقرأ الجمهور بالسكون ، وشكهم يحتمل أن يكون في وقوعه أو في إمكانه . والمعنى : إن كنتم في شكّ من الإعادة فانظروا في مبدأ خلقكم ، أي خلق أبيكم آدم ، ليزول عنكم الريب ، ويرتفع الشكّ وتدحض الشبهة الباطلة { فَإِنَّا خلقناكم مّن تُرَابٍ } في ضمن خلق أبيكم آدم « ثُمَّ » خلقناكم { مِن نُّطْفَةٍ } أي من منيّ ، سمي نطفة لقلته ، والنطفة : القليل من الماء . وقد يقع على الكثير منه ، والنطفة : القطرة ، يقال : نطف ينطف ، أي قطر . وليلة نطوف ، أي دائمة القطر { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } والعلقة : الدم الجامد ، والعلق : الدم العبيط ، أي الطريّ أو المتجمد ، وقيل : الشديد الحمرة .
والمراد : الدم الجامد المتكوّن من المنيّ { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ } وهي القطعة من اللحم ، قدر ما يمضغ الماضغ تتكوّن من العلقة { مُّخَلَّقَةٍ } بالجرّ صفة لمضغة ، أي مستبينة الخلق ظاهرة التصوير { وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } أي : لم يستبن خلقها ولا ظهر تصويرها . قال ابن الأعرابي : مخلقة يريد قد بدأ خلقه ، وغير مخلقة : لم تصوّر . قال الأكثر : ما أكمل خلقه بنفخ الروح فيه فهو المخلقة وهو الذي ولد لتمام ، وما سقط؛ كان غير مخلقة أي غير حيّ بإكمال خلقته بالروح . قال الفراء : مخلقة : تامّ الخلق ، وغير مخلقة : السقط ، ومنه قول الشاعر :
أفي غير المخلقة البكاء ... فأين الحزم ويحك والحياء
واللام في { لّنُبَيّنَ لَكُمْ } متعلق بخلقنا ، أي خلقناكم على هذا النمط البديع لنبين لكم كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم { وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَاء } روى أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل عن عاصم أنه قرأ بنصب نقرّ عطفاً على نبين ، وقرأ الجمهور : « تقر » بالرفع على الاستئناف ، أي ونحن نقرّ . قال الزجاج : نقرّ بالرفع لا غير ، لأنه ليس المعنى فعلنا ذلك لنقرّ في الأرحام ما نشاء . ومعنى الآية : ونثبت في الأرحام ما نشاء فلا يكون سقطاً { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } وهو وقت الولادة ، وقال ما نشاء ، ولم يقل : من نشاء ، لأنه يرجع إلى الحمل وهو جماد قبل أن ينفخ فيه الروح ، وقرىء « ليبين » « ويقرّ » و « يخرجكم » بالتحتية في الأفعال الثلاثة ، وقرأ ابن أبي وثاب : « ما نشاء » بكسر النون { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } أي نخرجكم من بطون أمهاتكم طفلاً ، أي أطفالاً ، وإنما أفرده إرادة للجنس الشامل للواحد والمتعدد . قال الزجاج : طفلاً في معنى أطفالاً ، ودلّ عليه ذكر الجماعة : يعني في : نخرجكم ، والعرب كثيراً ما تطلق اسم الواحد على الجماعة ، ومنه قول الشاعر :
يلحينني من حبها ويلمنني ... إن العواذل لسن لي بأمير
وقال المبرد : هو اسم يستعمل مصدراً كالرضا والعدل ، فيقع على الواحد والجمع ، قال الله سبحانه : { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ } [ النور : 31 ] . قال ابن جرير : هو منصوب على التمييز كقوله : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْء مّنْهُ نَفْساً } [ النساء : 4 ] . وفيه بعد ، والظاهر انتصابه على الحال بالتأويل المذكور ، والطفل يطلق على الصغير من وقت انفصاله إلى البلوغ { ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ } قيل : هو علة لنخرجكم معطوف على علة أخرى مناسبة له ، كأنه قيل : نخرجكم لتكبروا شيئاً فشيئاً ثم لتبلغوا إلى الأشدّ . وقيل : إن ثم زائدة والتقدير : لتبلغوا وقيل : إنه معطوف على نبين . والأشدّ هو : كمال العقل وكمال القوّة والتمييز . قيل : وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين . وقد تقدم الكلام في هذا مستوفى في الأنعام { وَمِنكُمْ مَّن يتوفى } يعني : قبل بلوغ الأشدّ ، وقرىء « يتوفّى » مبنياً للفاعل .
وقرأ الجمهور : « يتوفى » مبنياً للمفعول { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر } أي أخسه وأدونه ، وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل ، ولهذا قال سبحانه : { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } أي شيئاً من الأشياء ، أو شيئاً من العلم ، والمعنى : أنه يصير من بعد أن كان ذا علم بالأشياء وفهم لها ، لا علم له ولا فهم ، ومثله قوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين } [ التين : 4 ، 5 ] ، وقوله : { وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِى الخلق } [ ياس : 68 ] . { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً } هذه حجة أخرى على البعث ، فإنه سبحانه احتج بإحياء الأرض بإنزال الماء على إحياء الأموات ، والهامدة : اليابسة التي لا تنبت شيئاً ، قال ابن قتيبة : أي ميتة يابسة كالنار إذا طفئت . وقيل : دارسة ، والهمود : الدروس ، ومنه قول الأعشى :
قالت قتيلة ما لجسمك شاحباً ... وأرى ثيابك باليات همودا
وقيل : هي التي ذهب عنها الندى . وقيل : هالكة ، ومعاني هذه الأقوال متقاربة { فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ } المراد بالماء هنا : المطر ، ومعنى : اهتزّت : تحركت . والاهتزاز : شدّة الحركة ، يقال : هززت الشيء فاهتزّ ، أي حركته فتحرك ، والمعنى : تحركت بالنبات؛ لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة حقيقة ، فسماه اهتزازاً مجازاً . وقال المبرد : المعنى : اهتزّ نباتها فحذف المضاف . واهتزازه شدة حركته ، والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض . ومعنى ربت : ارتفعت ، وقيل : انتفخت . والمعنى واحد ، وأصله : الزيادة ، يقال : ربا الشيء يربو ربواً : إذا زاد ، ومنه الربا والربوة . وقرأ يزيد بن القعقاع وخالد بن إلياس : « وربأت » أي ارتفعت حتى صارت بمنزلة الرابية ، وهو الذي يحفظ القوم على مكان مشرف يقال له : رابىء ورابئة وربيئة { وَأَنبَتَتْ } أي أخرجت { مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أي من كلّ صنف حسن ولون مستحسن ، والبهجة : الحسن .
وجملة : { ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق } مستأنفة ، لما ذكر افتقار الموجودات إليه سبحانه وتسخيرها على وفق إرادته واقتداره . قال بعد ذلك هذه المقالات ، وهي إثبات أنه سبحانه الحق ، وأنه المتفرد بإحياء الموتى ، وأنه قادر على كل شيء من الأشياء ، والمعنى : أنه المتفرد بهذه الأمور ، وأنها من شأنه لا يدّعي غيره أنه يقدر على شيء منها ، فدلّ سبحانه بهذا على أنه الحق الحقيقي الغني المطلق؛ وأن وجود كل موجود مستفاد منه ، والحق هو الموجود الذي لا يتغير ولا يزول . وقيل : ذو الحقّ على عباده . وقيل : الحقّ في أفعاله . قال الزجاج : { ذلك } في موضع رفع ، أي الأمر ما وصفه لكم وبيّن بأن الله هو الحق . قال : ويجوز أن يكون { ذلك } نصباً .
ثم أخبر سبحانه بأن { الساعة ءَاتِيَةٌ } أي في مستقبل الزمان ، قيل : لا بدّ من إضمار فعل ، أي ولتعلموا أن الساعة آتية { لاَ رَيْبَ فِيهَا } أي لا شك فيها ولا تردّد ، وجملة : { لاَ رَيْبَ فِيهَا } خبر ثانٍ للساعة ، أو في محل نصب على الحال .
ثم أخبر سبحانه عن البعث فقال : { وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي القبور } فيجازيهم بأعمالهم ، إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ ، وأن ذلك كائن لا محالة .
وقد أخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه من طرق عن الحسن وغيره عن عمران بن حصين قال : لما نزلت { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْء عَظِيمٌ } إلى قوله : { ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ } أنزلت عليه هذه وهو في سفر ، فقال : « أتدرون أيّ يوم ذلك؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : « ذلك يوم يقول الله لآدم ابعث بعث النار ، قال : يا ربّ وما بعث النار؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار ، وواحداً إلى الجنة » ، فأنشأ المسلمون يبكون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قاربوا وسدّدوا وأبشروا ، فإنها لم تكن نبوّة قط إلا كان بين يديها جاهلية فتؤخذ العدّة من الجاهلية ، فإن تمت وإلا كملت من المنافقين ، وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة ، أو كالشامة في جنب البعير » ، ثم قال : « إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة » فكبّروا ، ثم قال : « إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة » فكبّروا ، ثم قال : « إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة » فكبّروا ، قال : « ولا أدري قال الثلثين أم لا » وأخرج الترمذي وصححه ، وابن جرير وابن المنذر عن عمران بن حصين مرفوعاً نحوه ، وقال في آخره : « اعملوا وأبشروا ، فوالذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه : يأجوج ومأجوج ، ومن مات من بني آدم ومن بني إبليس » ، فسري عن القوم بعض الذي يجدون ، قال : « اعملوا وأبشروا ، فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير ، أو كالرقمة في ذراع الدابة » وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وابن حبان والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن أنس مرفوعاً نحوه . وأخرج البزار وابن جرير وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن أنس مرفوعاً نحوه أيضاً . وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه ، وفي آخره فقال : « من يأجوج ومأجوج ألف ومنكم واحد ، وهل أنتم في الأمم إلا كالشعرة السوداء في الثور الأبيض ، أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود »
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { كُتِبَ عَلَيْهِ } قال : كتب على الشيطان . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله : { أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ } قال : اتبعه . وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن ابن مسعود قال : حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : « إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها » والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً . وأخرج ابن أبي حاتم وصححه عن ابن عباس في قوله : { مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } قال : المخلقة ما كان حياً ، وغير المخلقة ما كان سقطاً . وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } قال : حسن . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن معاذ بن جبل قال : من علم أن الله عزّ وجلّ حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور؛ دخل الجنة .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
قوله : { وَمِنَ الناس مَن يجادل فِي الله } أي في شأن الله ، كقول من قال : إن الملائكة بنات الله ، والمسيح ابن الله ، وعزير ابن الله . قيل : نزلت في النضر بن الحارث . وقيل : في أبي جهل . وقيل : هي عامة لكل من يتصدى لإضلال الناس وإغوائهم ، وعلى كل حال فالاعتبار بما يدلّ عليه اللفظ وإن كان السبب خاصاً . ومعنى اللفظ : ومن الناس فريق يجادل في الله ، فيدخل في ذلك كل مجادل في ذات الله ، أو صفاته أو شرائعه الواضحة ، و { بِغَيْرِ عِلْمٍ } في محل نصب على الحال ، أي كائناً بغير علم . قيل : والمراد بالعلم هو : العلم الضروري ، وبالهدى هو العلم النظري الاستدلالي . والأولى حمل العلم على العموم ، وحمل الهدى على معناه اللغوي ، وهو : الإرشاد . والمراد بالكتاب المنير هو : القرآن ، والمنير : النير البين الحجة الواضح البرهان ، وهو وإن دخل تحت قوله : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } فإفراده بالذكر كإفراد جبريل بالذكر عند ذكر الملائكة ، وذلك لكونه الفرد الكامل الفائق على غيره من أفراد العلم . وأما من حمل العلم على الضروري والهدى على الاستدلالي ، فقد حمل الكتاب هنا على الدليل السمعي ، فتكون الآية متضمنة لنفي الدليل العقلي ضرورياً كان أو استدلالياً ، ومتضمنة لنفي الدليل النقلي بأقسامه ، وما ذكرناه أولى . قيل : والمراد بهذا المجادل في هذه الآية هو المجادل في الآية الأولى ، أعني قوله : { وَمِنَ الناس مَن يجادل فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شيطان مَّرِيدٍ } [ الحج : 3 ] وبذلك قال كثير من المفسرين . والتكرير للمبالغة في الذمّ كما تقول للرجل تذمه وتوبخه : أنت فعلت هذا أنت فعلت هذا؟ ويجوز أن يكون التكرير لكونه وصفه في كل آية بزيادة على ما وصفه به في الآية الأخرى ، فكأنه قال : ومن الناس من يجادل في الله ويتبع كلّ شيطان مريد بغير علم وَلاَ هُدًى وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ ليضل عن سبيل الله . وقيل : الآية الأولى في المقلدين اسم فاعل . والثانية في المقلدين اسم مفعول . ولا وجه لهذا كما أنه لا وجه لقول من قال : إن الآية الأولى خاصة بإضلال المتبوعين لتابعيهم ، والثانية عامة في كلّ إضلال وجدال .
وانتصاب { ثَانِيَ عِطْفِهِ } على الحال من فاعل يجادل ، والعطف : الجانب ، وعطفا الرجل : جانباه من يمين وشمال ، وفي تفسيره وجهان : الأوّل : أن المراد به من يلوي عنقه مرحاً وتكبراً ، ذكر معناه الزجاج . قال : وهذا يوصف به المتكبر . والمعنى : ومن الناس من يجادل في الله متكبراً . قال المبرد : العطف ما انثنى من العنق . والوجه الثاني : أن المراد بقوله : { ثَانِيَ عِطْفِهِ } : الإعراض ، أي معرضاً عن الذكر ، كذا قال الفراء والمفضل وغيرهما كقوله تعالى : { ولى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } [ لقمان : 7 ] ، وقوله :
{ لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ } [ المنافقون : 5 ] ، وقوله : { أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } [ الإسراء : 83 ] ، واللام في { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله } متعلق ب { يجادل } أي إن غرضه هو الإضلال عن السبيل وإن لم يعترف بذلك . وقرىء : « ليضلّ » بفتح الياء على أن تكون اللام هي لام العاقبة كأنه جعل ضلاله غاية لجداله ، وجملة : { لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ } مستأنفة مبينة لما يحصل له بسبب جداله من العقوبة . والخزي : الذل ، وذلك بما يناله من العقوبة في الدنيا من العذاب المعجل وسوء الذكر على ألسن الناس . وقيل : الخزي الدنيوي هو : القتل ، كما وقع في يوم بدر { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق } أي عذاب النار المحرقة .
والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدّم من العذاب الدنيوي والأخروي ، وهو مبتدأ خبره : { بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } ، والباء للسببية ، أي ذلك العذاب النازل بك بسبب ما قدّمته يداك من الكفر والمعاصي ، وعبر باليد عن جملة البدن لكون مباشرة المعاصي تكون بها في الغالب ، ومحل أن وما بعدها في قوله : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي والأمر أنه سبحانه لا يعذب عباده بغير ذنب . وقد مرّ الكلام على هذه الآية في آخر آل عمران فلا نعيده .
{ وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ } هذا بيان لشقاق أهل الشقاق . قال الواحدي : قال أكثر المفسرين : الحرف : الشك ، وأصله من حرف الشيء وهو طرفه ، مثل حرف الجبل والحائط ، فإن القائم عليه غير مستقرّ ، والذي يعبد الله على حرف قلق في دينه على غير ثبات وطمأنينة كالذي هو على حرف الجبل ونحوه يضطرب اضطراباً ويضعف قيامه فقيل للشاكّ في دينه : إنه يعبد الله على حرف؛ لأنه على غير يقين من وعده ووعيده ، بخلاف المؤمن؛ لأنه يعبده على يقين وبصيرة فلم يكن على حرف . وقيل : الحرف : الشرط ، أي ومن الناس من يعبد الله على شرط ، والشرط هو قوله : { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ } أي خير دنيوي من رخاء وعافية وخصب وكثرة مال ، ومعنى { اطمأنّ به } : ثبت على دينه واستمرّ على عبادته ، أو اطمأن قلبه بذلك الخير الذي أصابه { وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } أي شيء يفتتن به من مكروه يصيبه في أهله أو ماله أو نفسه { انقلب على وَجْهِهِ } أي ارتدّ ورجع إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر ، ثم بيّن حاله بعد انقلابه على وجهه فقال : { خَسِرَ الدنيا والآخرة } أي ذهبا منه وفقدهما ، فلا حظ له في الدنيا من الغنيمة والثناء الحسن ، ولا في الآخرة من الأجر وما أعدّه الله للصالحين من عباده . وقرأ مجاهد ، وحميد بن قيس ، والأعرج ، والزهري ، وابن أبي إسحاق : « خاسرا الدنيا والآخرة » على صيغة اسم الفاعل منصوباً على الحال . وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف .
والإشارة بقوله : { ذلك } إلى خسران الدنيا والآخرة وهو مبتدأ وخبره { هُوَ الخسران المبين } أي الواضح الظاهر الذي لا خسران مثله { يَدْعُو مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ } أي هذا الذي انقلب على وجهه ورجع إلى الكفر { يدعو من دون الله } أي يعبد متجاوزاً عبادة الله إلى عبادة الأصنام { ما لا يضرّه } إن ترك عبادته ، { ولا ينفعه } إن عبده لكون ذلك المعبود جماداً لا يقدر على ضرّ ولا نفع ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى الدعاء المفهوم من الفعل وهو يدعو ، واسم الإشارة مبتدأ وخبره : { هُوَ الضلال البعيد } أي عن الحق والرشد ، مستعار من ضلال من سلك غير الطريق فصار بضلاله بعيداً عنها . قال الفراء : البعيد : الطويل .
{ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } يدعو بمعنى : يقول ، والجملة مقرّرة لما قبلها من كون ذلك الدعاء ضلالاً بعيداً . والأصنام لا نفع فيها بحال من الأحوال ، بل هي ضرر بحت لمن يعبدها؛ لأنه دخل النار بسبب عبادتها . وإيراد صيغة التفضيل مع عدم النفع بالمرّة للمبالغة في تقبيح حال ذلك الداعي ، أو ذلك من باب { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضلال مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] واللام هي : الموطئة للقسم ، ومن موصولة أو موصوفة ، و { ضرّه } مبتدأ خبره أقرب ، والجملة صلة الموصول . وجملة : { لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير } جواب القسم . والمعنى : أنه يقول ذلك الكافر يوم القيامة لمعبوده الذي ضرّه أقرب من نفعه : لبئس المولى ولبئس العشير . والمولى الناصر ، والعشير : الصاحب ، ومثل ما في هذه الآية قول عنترة :
يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم
وقال الزجاج : يجوز أن يكون { يدعو } في موضع الحال ، وفيه هاء محذوفة ، أي ذلك هو الضلال البعيد يدعوه ، وعلى هذا يوقف على { يدعو } ، ويكون قوله : { لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } كلاماً مستأنفاً مرفوعاً بالابتداء ، وخبره { لبئس المولى } . قال : وهذا لأن اللام لليمين والتوكيد فجعلها أوّل الكلام . وقال الزجاج والفراء : يجوز أن يكون { يدعو } مكررة على ما قبلها على جهة تكثير هذا الفعل الذي هو الدعاء ، أي يدعو ما لا يضرّه ولا ينفعه يدعو ، مثل ضربت زيداً ضربت . وقال الفراء والكسائي والزجاج : معنى الكلام القسم ، واللام مقدّمة على موضعها ، والتقدير : يدعو من لضرّه أقرب من نفعه ، فمن في موضع نصب ب { يدعو } ، واللام جواب القسم و { ضرّه } مبتدأ ، و { أقرب } خبره ، ومن التصرف في اللام بالتقديم والتأخير قول الشاعر :
خالي لأنت ومن جرير خاله ... ينل العلاء ويكرم الأخوالا
أي لخالي أنت . قال النحاس : وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال : في الكلام حذف ، والمعنى : يدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه إلها . قال النحاس : وأحسب هذا القول غلطاً عن محمد بن يزيد ، ولعل وجهه أن ما قبل اللام هذه لا يعمل فيما بعدها .
وقال الفراء أيضاً والقفال اللام صلة ، أي زائدة ، والمعنى : يدعو من ضرّه أقرب من نفعه ، أي يعبده ، وهكذا في قراءة عبد الله بن مسعود بحذف اللام ، وتكون اللام في : { لبئس المولى } وفي : { لبئس العشير } على هذا موطئة للقسم .
{ إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } لما فرغ من ذكر حال المشركين ، ومن يعبد الله على حرف ذكر حال المؤمنين في الآخرة ، وأخبر أنه يدخلهم هذه الجنات المتصفة بهذه الصفة ، وقد تقدّم الكلام في جري الأنهار من تحت الجنات ، وبيّنا أنه إن أريد بها الأشجار المتكاثفة الساترة لما تحتها ، فجريان الأنهار من تحتها ظاهر؛ وإن أريد بها الأرض فلا بدّ من تقدير مضاف ، أي من تحت أشجارها { إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } هذه الجملة تعليل لما قبلها ، أي يفعل ما يريده من الأفعال { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } . فيثيب من يشاء ويعذب من يشاء .
{ مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِى الدنيا والآخرة } قال النحاس : من أحسن ما قيل في هذه الآية أن المعنى : من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء } أي فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء { ثُمَّ لْيَقْطَعْ } أي ثم ليقطع النصر إن تهيأ له { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ } وحيلته { مَا يَغِيظُ } من نصر النبيّ صلى الله عليه وسلم . وقيل : المعنى : من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً صلى الله عليه وسلم حتى يظهره على الدين كله فليمت غيظاً ، ثم فسره بقوله : { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء } أي فليشدد حبلاً في سقف بيته { ثُمَّ لْيَقْطَعْ } أي ثم ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقاً ، والمعنى : فليختنق غيظاً حتى يموت ، فإن الله ناصره ومظهره ، ولا ينفعه غيظه ، ومعنى { فلينظر هل يذهبن كيده } أي صنيعه وحيلته ما يغيظ ، أي غيظه ، و « ما » مصدرية . وقيل : إن الضمير في : { ينصره } يعود إلى من ، والمعنى : من كان يظنّ أن الله لا يرزقه فليقتل نفسه ، وبه قال أبو عبيدة . وقيل : إن الضمير يعود إلى الدين ، أي من كان يظنّ أن لن ينصر الله دينه . وقرأ الكوفيون بإسكان اللام في « ثم ليقطع » . قال النحاس : وهذه القراءة بعيدة من العربية .
{ وكذلك أنزلناه ءايات بينات } أي : مثل ذلك الإنزال البديع أنزلناه آيات واضحات ظاهرة الدلالة على مدلولاتها { وَأَنَّ الله يَهْدِى مَن يُرِيدُ } هدايته ابتداء أو زيادة فيها لمن كان مهدياً من قبل .
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { ثَانِيَ عِطْفِهِ } قال : لاوي عنقه .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس والسديّ وابن يزيد وابن جريج أنه المعرض . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله : { ثَانِيَ عِطْفِهِ } قال : أنزلت في النضر بن الحارث . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : هو رجل من بني عبد الدار . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { ثَانِيَ عِطْفِهِ } قال : مستكبراً في نفسه . وأخرج البخاري وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ } قال : كان الرجل يقدم المدينة ، فإن ولدت امرأته غلاماً وأنتجت خيله قال : هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه بسند صحيح قال : كان ناس من الأعراب يأتون النبيّ صلى الله عليه وسلم يسلمون ، فإذا رجعوا إلى بلادهم ، فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن قالوا : إن ديننا هذا لصالح فتمسكوا به ، وإن وجدوا عام جدب وعام ولاد سوء وعام قحط ، قالوا : ما في ديننا هذا خير ، فأنزل الله : { وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ } . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً نحوه ، وفي إسناده العوفي . وأخرج ابن مردويه أيضاً من طريقه أيضاً عن أبي سعيد قال : أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده فتشاءم بالإسلام ، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : أقلني أقلني ، قال : « إن الإسلام لا يقال » ، فقال : لم أصب من ديني هذا خيراً ، ذهب بصري ومالي ومات ولدي ، فقال : « يا يهوديّ ، الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة » ، فنزلت { وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ }
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله } قال : من كان يظنّ أن لن ينصر الله محمداً في الدنيا والآخرة { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ } قال : فليربط بحبل { إِلَى السماء } قال : إلى سماء بيته السقف { ثُمَّ لْيَقْطَعْ } قال : ثم يختنق به حتى يموت . وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه قال : { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله } يقول : أن لن يرزقه الله { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء } فليأخذ حبلاً فليربطه في سماء بيته فليختنق به { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } قال : فلينظر هل ينفعه ذلك أو يأتيه برزق .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
قوله : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ } أي بالله وبرسوله ، أو بما ذكر من الآيات البينات { والذين هَادُواْ } هم اليهود المنتسبون إلى ملة موسى { والصابئين } قوم يعبدون النجوم . وقيل : هم من جنس النصارى وليس ذلك بصحيح بل هم فرقة معروفة لا ترجع إلى ملة من الملل المنتسبة إلى الأنبياء { والنصارى } هم المنتسبون إلى ملة عيسى { والمجوس } هم الذين يعبدون النار ، ويقولون : إن للعالم أصلين : النور والظلمة . وقيل : هم قوم يعبدون الشمس والقمر ، وقيل : هم قوم يستعملون النجاسات . وقيل : هم قوم من النصارى اعتزلوهم ولبسوا المسوح . وقيل : إنهم أخذوا بعض دين اليهود وبعض دين النصارى { والذين أَشْرَكُواْ } الذين يعبدون الأصنام ، وقد مضى تحقيق هذا في البقرة ، ولكنه سبحانه قدّم هنالك النصارى على الصابئين ، وأخّرهم عنهم هنا . فقيل : وجه تقديم النصارى هنالك : أنهم أهل كتاب دون الصابئين ، ووجه تقديم الصابئين هنا : أن زمنهم متقدّم على زمن النصارى ، وجملة : { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } في محل رفع على أنها خبر لإنّ المتقدّمة . ومعنى الفصل : أنه سبحانه يقضي بينهم فيدخل المؤمنين منهم الجنة والكافرين منهم النار . وقيل : الفصل هو أن يميز المحقّ من المبطل بعلامة يعرف بها كل واحد منهما ، وجملة : { إِنَّ الله على كُلّ شَيْء شَهِيدٌ } تعليل لما قبلها ، أي أنه سبحانه على كل شيء من أفعال خلقه وأقوالهم شهيد لا يعزب عنه شيء منها ، وأنكر الفراء أن تكون جملة { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ } خبراً لإن المتقدّمة . وقال لا يجوز في الكلام : إن زيداً إن أخاه منطلق ، وردّ الزجاج ما قاله الفراء ، وأنكره وأنكر ما جعله مماثلاً للآية ، ولا شك في جواز قولك : إن زيداً إن الخير عنده ، وإن زيداً إنه منطلق ، ونحو ذلك .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السموات وَمَن فِي الارض } الرؤية هنا هي القلبية لا البصرية ، أي ألم تعلم . والخطاب لكل من يصلح له ، وهو من تتأتى منه الرؤية ، والمراد بالسجود هنا هو : الانقياد الكامل ، لا سجود الطاعة الخاصة بالعقلاء ، سواء جعلت كلمة من خاصة بالعقلاء ، أو عامة لهم ولغيرهم ، ولهذا عطف { الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب } على من ، فإن ذلك يفيد أن السجود هو الانقياد لا الطاعة الخاصة بالعقلاء ، وإنما أفرد هذه الأمور بالذكر مع كونها داخلة تحت من ، على تقدير جعلها عامة لكون قيام السجود بها مستبعداً في العادة ، وارتفاع { كَثِيرٍ مّنَ الناس } بفعل مضمر يدل عليه المذكور ، أي ويسجد له كثير من الناس . وقيل : مرتفع على الابتداء وخبره محذوف وتقديره : وكثير من الناس يستحق الثواب ، والأوّل أظهر .
وإنما لم يرتفع بالعطف على من ، لأن سجود هؤلاء الكثير من الناس هو سجود الطاعة الخاصة بالعقلاء ، والمراد بالسجود المتقدّم هو : الانقياد ، فلو ارتفع بالعطف على من لكان في ذلك جمع بين معنيين مختلفين في لفظ واحد . وأنت خبير بأنه لا ملجىء إلى هذا بعد حمل السجود على الانقياد ، ولا شك أنه يصح أن يراد من سجود كثير من الناس هو انقيادهم لا نفس السجود الخاص ، فارتفاعه على العطف لا بأس به ، وإن أبى ذلك صاحب الكشاف ومتابعوه ، وأما قوله : { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } فقال الكسائي والفراء : إنه مرتفع بالابتداء وخبره ما بعده . وقيل : هو معطوف على كثير الأوّل ، ويكون المعنى : وكثير من الناس يسجد وكثير منهم يأبى ذلك ، وقيل : المعنى وكثير من الناس في الجنة ، وكثير حق عليه العذاب هكذا حكاه ابن الأنباري { وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } أي من أهانه الله بأن جعله كافراً شقياً ، فما له من مكرم يكرمه فيصير سعيداً عزيزاً . وحكى الأخفش والكسائي والفراء أن المعنى : ومن يهن الله فما له من مكرم ، أي إكرام { إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء } من الأشياء التي من جملتها ما تقدّم ذكره من الشقاوة والسعادة والإكرام والإهانة .
{ هذان خَصْمَانِ } الخصمان أحدهما أنجس الفرق : اليهود والنصارى والصابئون والمجوس والذين أشركوا ، والخصم الآخر : المسلمون ، فهما فريقان مختصمان . قاله الفراء وغيره . وقيل : المراد بالخصمين الجنة والنار . قالت الجنة : خلقني لرحمته ، وقالت النار : خلقني لعقوبته . وقيل : المراد بالخصمين : هم الذين برزوا يوم بدر ، فمن المؤمنين حمزة وعليّ وعبيدة ، ومن الكافرين : عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة . وقد كان أبو ذرّ رضي الله عنه يقسم أن هذه الآية نزلت في هؤلاء المتبارزين كما ثبت عنه في الصحيح ، وقال بمثل هذا جماعة من الصحابة ، وهم أعرف من غيرهم بأسباب النزول . وقد ثبت في الصحيح أيضاً عن عليّ أنه قال : فينا نزلت هذه الآية . وقرأ ابن كثير « هذان » بتشديد النون ، وقال سبحانه : { اختصموا } ولم يقل : اختصما . قال الفراء : لأنهم جمع ، ولو قال اختصما لجاز ، ومعنى { فِي رَبّهِمْ } في شأن ربهم ، أي في دينه ، أو في ذاته ، أو في صفاته ، أو في شريعته لعباده ، أو في جميع ذلك .
ثم فصل سبحانه ما أجمله في قوله : { يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ } فقال : { فالذين كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ } قال الأزهري : أي سوّيت وجعلت لبوساً لهم ، شبهت النار بالثياب؛ لأنها مشتملة عليهم كاشتمال الثياب ، وعبر بالماضي عن المستقبل تنبيهاً على تحقق وقوعه . وقيل : إن هذه الثياب من نحاس قد أذيب فصار كالنار ، وهي السرابيل المذكورة في آية أخرى . وقيل : المعنى في الآية : أحاطت النار بهم . وقرىء : « قُطّعَتْ » بالتخفيف ، ثم قال سبحانه : { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم } والحميم هو : الماء الحار المغلي بنار جهنم ، والجملة مستأنفة أو هي خبر ثانٍ للموصول { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ } الصهر : الإذابة ، والصهارة : ما ذاب منه ، يقال : صهرت الشيء فانصهر ، أي أذبته فذاب فهو صهير ، والمعنى : أنه يذاب بذلك الحميم ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء { والجلود } معطوفة على ما ، أي ويصهر به الجلود والجملة في محل نصب على الحال .
وقيل : إن الجلود لا تذاب ، بل تحرق ، فيقدّر فعل يناسب ذلك ، ويقال : وتحرق به الجلود كما في قول الشاعر :
علفتها تبناً وماءً بارداً ... أي وسقيتها ماء ، ولا يخفى أنه لا ملجىء لهذا ، فإن الحميم إذا كان يذيب ما في البطون فإذابته للجلد الظاهر بالأولى . { وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } : المقامع جمع مقمعة ومقمع ، قمعته : ضربته بالمقمعة ، وهي قطعة من حديد . والمعنى : لهم مقامع من حديد يضربون بها ، أي للكفرة ، وسميت المقامع مقامع؛ لأنها تقمع المضروب ، أي تذلله . قال ابن السكيت : أقمعت الرجل عني إقماعاً : إذا اطلع عليك فرددته عنك { كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا } أي من النار { أُعِيدُواْ فِيهَا } أي في النار بالضرب بالمقامع ، و { مِنْ غَمّ } بدل من الضمير في منها بإعادة الجارّ أو مفعول له ، أي لأجل غمّ شديد من غموم النار { وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } هو بتقدير القول ، أي أعيدوا فيها؛ وقيل لهم : ذوقوا عذاب الحريق ، أي العذاب المحرق ، وأصل الحريق الاسم من الاحتراق ، تحرق الشيء بالنار واحترق حرقة واحتراقاً ، والذوق مماسة يحصل معها إدراك الطعم ، وهو هنا توسع ، والمراد به إدراك الألم . قال الزجاج : وهذا لأحد الخصمين . وقال في الخصم الآخر وهم المؤمنون : { إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } فبيّن سبحانه حال المؤمنين بعد بيانه لحال الكافرين .
ثم بيّن الله سبحانه بعض ما أعده لهم من النعيم بعد دخولهم الجنة فقال : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا } قرأ الجمهور { يحلون } بالتشديد والبناء للمفعول ، وقرىء مخففاً ، أي يحليهم الله أو الملائكة بأمره . و « من » في قوله : { مِنْ أَسَاوِرَ } للتبعيض ، أي يحلون بعض أساور ، أو للبيان ، أو زائدة ، و « من » في { مّن ذَهَبٍ } للبيان ، والأساور : جمع أسورة والأسورة : جمع سوار . وفي السوار لغتان : كسر السين وضمها ، وفيه لغة ثالثة ، وهي أسوار . قرأ نافع وابن كثير وعاصم وشيبة { ولؤلؤاً } بالنصب عطف على محل { أساور } أي ويحلون لؤلؤاً ، أو بفعل مقدّر ينصبه ، وهكذا قرأ بالنصب يعقوب والجحدري وعيسى بن عمر ، وهذه القراءة هي الموافقة لرسم المصحف فإن هذا الحرف مكتوب فيه بالألف ، وقرأ الباقون بالجرّ عطفاً على { أساور } أي يحلون من أساور ومن لؤلؤ ، واللؤلؤ : ما يستخرج من البحر من جوف الصدف .
قال القشيري : والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ ، ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ مصمت كما أن فيها أساور من ذهب { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } أي جميع ما يلبسونه حرير كما تفيده هذه الإضافة ، ويجوز أن يراد أن هذا النوع من الملبوس الذي كان محرّماً عليهم في الدنيا حلال لهم في الآخرة ، وأنه من جملة ما يلبسونه فيها ، ففيها ما تشتهيه الأنفس ، وكل واحد منهم يعطى ما تشتهيه نفسه وينال ما يريده .
{ وَهُدُواْ إِلَى الطيب مِنَ القول } أي أرشدوا إليه ، قيل : هو لا إله إلا الله . وقيل : الحمد لله . وقيل : القرآن . وقيل : هو ما يأتيهم من الله سبحانه من البشارات . وقد ورد في القرآن ما يدلّ على هذا القول المجمل هنا ، وهو قوله سبحانه : { الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [ الزمر : 74 ] ، { الحمد لِلَّهِ الذي هَدَانَا لهذا } [ الأعراف : 43 ] ، { الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن } [ فاطر : 34 ] . ومعنى { وَهُدُواْ إلى صراط الحميد } : أنهم أرشدوا إلى الصراط المحمود وهو طريق الجنة ، أو صراط الله الذي هو دينه القويم ، وهو الإسلام .
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { والصابئين } قال : هم قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون القبلة ، ويقرؤون الزبور { والمجوس } عبدة الشمس والقمر والنيران ، { والذين أَشْرَكُواْ } عبدة الأوثان { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ } قال : الأديان ستة؛ فخمسة للشيطان ، ودين الله عزّ وجلّ . وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال : فصل قضاءه بينهم فجعل الخمسة مشتركة وجعل هذه الأمة واحدة . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : الذين هادوا : اليهود ، والصابئون : ليس لهم كتاب ، والمجوس : أصحاب الأصنام ، والمشركون : نصارى العرب .
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذرّ أنه كان يقسم قسماً أن هذه الآية : { هذان خَصْمَانِ } الآية نزلت في الثلاثة والثلاثة الذين بارزوا يوم بدر ، وهم : حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث وعليّ بن أبي طالب ، وعتبة ، وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة ، قال عليّ : وأنا أوّل من يجثو في الخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة . وأخرجه البخاري وغيره من حديث عليّ . وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس بنحوه ، وهكذا روي عن جماعة من التابعين . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : { قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ } قال : من نحاس ، وليس من الآنية شيء إذا حمي أشدّ حرّاً منه ، وفي قوله : { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم } قال : النحاس يذاب على رؤوسهم ، وقوله : { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ } قال : تسيل أمعاؤهم { والجلود } قال : تتناثر جلودهم . وأخرج عبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وأبو نعيم في الحلية ، وابن مردويه عن أبي هريرة؛ أنه تلا هذه الآية : { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم } فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
« إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه ، فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ، ثم يعاد كما كان » وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ } قال : يمشون وأمعاءهم تتساقط وجلودهم . وفي قوله : { وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } قال : يضربون بها ، فيقع كل عضو على حياله فيدعون بالويل والثبور . وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : يسقون ماء إذا دخل في بطونهم أذابها والجلود مع البطون . وأخرج أحمد ، وأبو يعلى وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث والنشور عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لو أن مقمعاً من حديد وضع في الأرض فاجتمع الثقلان ما أقلوه من الأرض ، ولو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ثم عاد كما كان » وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن سلمان قال : النار سوداء مظلمة لا يضيء لهبها ولا جمرها ، ثم قرأ : { كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا } . وفي الصحيحين وغيرهما عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة » وفي الباب أحاديث .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَهُدُواْ إِلَى الطيب مِنَ القول } قال : ألهموا . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : هدوا إلى الطيب من القول في الخصومة إذ قالوا : الله مولانا ولا مولى لكم . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن إسماعيل بن أبي خالد في الآية قال : القرآن { وَهُدُواْ إلى صراط الحميد } قال : الإسلام . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال : الإسلام . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، والحمد لله الذي قال : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } [ فاطر : 10 ] .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } عطف المضارع على الماضي؛ لأن المراد بالمضارع ما مضى من الصدّ ، ومثل هذا قوله : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } [ محمد : 1 ] ، أو المراد بالصدّ ها هنا الاستمرار لا مجرّد الاستقبال ، فصح بذلك عطفه على الماضي ، ويجوز أن تكون الواو في : { ويصدّون } واو الحال ، أي كفروا والحال أنهم يصدون . وقيل : الواو زائدة والمضارع خبر إن والأولى أن يقدر خبر إن بعد قوله : { والباد } وذلك نحو خسروا أو هلكوا . وقال الزجاج : إن الخبر { نذقه من عذاب أليم } وردّ بأنه لو كان خبراً لإن لم يجزم وأيضاً لو كان خبراً لإن لبقي الشرط وهو { وَمَن يُرِدِ } بغير جواب ، فالأولى أنه محذوف كما ذكرنا . والمراد بالصدّ : المنع وبسبيل الله : دينه ، أي : يمنعون من أراد الدخول في دين الله و { المسجد الحرام } ، معطوف على { سبيل الله } قيل : المراد به : المسجد نفسه كما هو الظاهر من هذا النظم القرآني . وقيل : الحرم كله؛ لأن المشركين صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنه يوم الحديبية . وقيل : المراد به : مكة بدليل قوله : { الذي جعلناه لِلنَّاسِ سَوَاء العاكف فِيهِ والباد } أي جعلناه للناس على العموم يصلون فيه ويطوفون به مستوياً فيه العاكف وهو المقيم فيه الملازم له ، والباد أي الواصل من البادية ، والمراد به : الطارىء عليه من غير فرق بين كونه من أهل البادية أو من غيرهم . وانتصاب { سواء } على أنه المفعول الثاني لجعلناه ، وهو بمعنى مستوياً ، و { العاكف } مرتفع به ، وصف المسجد الحرام بذلك لزيادة التقريع والتوبيخ للصادّين عنه ، ويحتمل أن يكون انتصاب { سَوَآء } على الحال . وهذا على قراءة النصب ، وبها قرأ حفص عن عاصم ، وهي قراءة الأعمش ، وقرأ الجمهور برفع { سواء } على أنه مبتدأ وخبره { العاكف } أو على أنه خبر مقدّم ، والمبتدأ { العاكف } أي العاكف فيه والبادي سواء ، وقرىء بنصب { سواء } وجرّ { العاكف } على أنه صفة للناس ، أي جعلناه للناس ، العاكف والبادي سواء ، وأثبت الياء في البادي ابن كثير وصلا ووقفا ، وحذفها أبو عمرو في الوقف ، وحذفها نافع في الوصل والوقف . قال القرطبي : وأجمع الناس على الاستواء في المسجد الحرام نفسه .
واختلفوا في مكة فذهب مجاهد ومالك إلى أن دور مكة ومنازلها يستوي فيها المقيم والطارىء . وذهب عمر بن الخطاب وابن عباس وجماعة إلى أن للقادم أن ينزل حيث وجد ، وعلى ربّ المنزل أن يؤويه شاء أم أبى . وذهب الجمهور إلى أن دور مكة ومنازلها ليست كالمسجد الحرام ، ولأهلها منع الطارىء من النزول فيها . والحاصل أن الكلام في هذا راجع إلى أصلين : الأصل الأوّل : ما في هذه الآية : هل المراد بالمسجد الحرام المسجد نفسه ، أو جميع الحرم ، أو مكة على الخصوص؟ والثاني : هل كان فتح مكة صلحاً أو عنوة؟ وعلى فرض أن فتحها كان عنوة هل أقرّها النبيّ صلى الله عليه وسلم في يد أهلها على الخصوص؟ أو جعلها لمن نزل بها على العموم؟ وقد أوضحنا هذا في شرحنا على المنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى زيادة .
{ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } مفعول يرد محذوف لقصد التعميم ، والتقدير : ومن يرد فيه مراداً ، أيّ مراد بإلحاد ، أي بعدول عن القصد . والإلحاد في اللغة : الميل إلا أنه سبحانه بيّن هنا أنه الميل بظلم .
وقد اختلف في هذا الظلم ماذا هو؟ فقيل : هو الشرك . وقيل : الشرك والقتل ، وقيل : صيد حيواناته وقطع أشجاره ، وقيل : هو الحلف فيه بالأَيمان الفاجرة ، وقيل : المراد : المعاصي فيه على العموم . وقيل : المراد بهذه الآية أنه يعاقب بمجرد الإرادة للمعصية في ذلك المكان . وقد ذهب إلى هذا ابن مسعود وابن عمر والضحاك وابن زيد وغيرهم حتى قالوا : لو همّ الرجل في الحرم بقتل رجل بعدن لعذّبه الله . والحاصل : أن هذه الآية دلت على أن من كان في البيت الحرام مأخوذ بمجرّد الإرادة للظلم ، فهي مخصصة لما ورد من أن الله غفر لهذه الأمة ما حدّثت به أنفسها ، إلا أن يقال : إن الإرادة فيها زيادة على مجرّد حديث النفس ، وبالجملة فالبحث عن هذا وتقرير الحق فيه على وجه يجمع بين الأدلة ويرفع الإشكال يطول جدّاً ، ومثل هذه الآية حديث : « إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار » قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : « إنه كان حريصاً على قتل صاحبه » فدخل النار هنا بسبب مجرّد حرصه على قتل صاحبه . وقد أفردنا هذا البحث برسالة مستقلة ، والباء في قوله : { بِإِلْحَادٍ } إن كان مفعول { يرد } محذوفاً كما ذكرنا فليست بزائدة . وقيل : إنها زائدة هنا كقول الشاعر :
نحن بنو جعدة أصحاب الفَلَج ... نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
أي : نرجو الفرج ، ومثله :
ألم يأتيك والأنباء تنمى ... بما لاقت لبون بني زياد
أي : ما لاقت ، ومن القائلين بأنها زائدة الأخفش ، والمعنى عنده : ومن يرد فيه إلحاداً بظلم . وقال الكوفيون : دخلت الباء لأن المعنى : بأن يلحد ، والباء مع أن تدخل وتحذف ، ويجوز أن يكون التقدير : ومن يرد الناس بإلحاد . وقيل : إن { يرد } مضمن معنى : يهمّ ، والمعنى : ومن يهمّ فيه بإلحاد . وأما الباء في قوله : { بظلم } فهي للسببية ، والمعنى : ومن يرد فيه بإلحاد بسبب الظلم ، ويجوز أن يكون { بظلم } بدلاً من { بإلحاد } بإعادة الجارّ ، ويجوز أن يكونا حالين مترادفين .
{ وإذ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت } أي : واذكر وقت ذلك ، يقال : بوّأته منزلاً وبوّأت له ، كما يقال : مكنتك ومكنت لك .
قال الزجاج : معناه : جعلنا مكان البيت مبوأ لإبراهيم ، ومعنى { بوّأنا } : بيّنا له مكان البيت ، ومثله قول الشاعر :
كم من أخ لي ماجد ... بوّأته بيديّ لحداً
وقال الفراء : إن اللام زائدة ومكان ظرف ، أي أنزلناه فيه { أن لا تشرك بِي شَيْئاً } قيل : إن هذه هي مفسرة لبوّأنا ، لتضمنه معنى تعبدنا؛ لأن التبوئة هي للعبادة . وقال أبو حاتم : هي مصدرية ، أي لأن لا تشرك بي . وقيل : هي المخففة من الثقيلة ، وقيل : هي زائدة . وقيل : معنى الآية : وأوحينا إليه أن لا تعبد غيري . قال المبرد : كأنه قيل له : وحدني في هذا البيت ، لأن معنى لا تشرك : بي وحدني { وَطَهّرْ بَيْتِيَ } من الشرك وعبادة الأوثان . وفي الآية طعن على ما أشرك من قطان البيت أي : هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعده وأنتم فلم تفوا بل أشركتم . وقالت فرقة : الخطاب بقوله : { أَلاَّ تُشْرِكُواْ } لمحمد صلى الله عليه وسلم وهذا ضعيف جدّاً . ومعنى { وَطَهّرْ بَيْتِىَ } : تطهيره من الكفر والأوثان والدماء وسائر النجاسات ، وقيل : عنى به التطهير عن الأوثان فقط ، وذلك أن جرهما والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت ، وقد مرّ في سورة براءة ما فيه كفاية في هذا المعنى . والمراد بالقائمين هنا هم : المصلون وذكر { الركع السجود } بعده لبيان أركان الصلاة دلالة على عظم شأن هذه العبادة ، وقرن الطواف بالصلاة؛ لأنهما لا يشرعان إلا في البيت فالطواف عنده والصلاة إليه .
{ وَأَذّن فِي الناس بالحج } قرأ الحسن وابن محيصن : « وآذن » بتخفيف الذال والمدّ . وقرأ الباقون بتشديد الذال ، والأذان الإعلام ، وقد تقدّم في براءة .
قال الواحدي : قال جماعة المفسرين : لما فرغ إبراهيم من بناء البيت جاءه جبريل فأمره أن يؤذن في الناس بالحج ، فقال : يا ربّ ، من يبلغ صوتي؟ فقال الله سبحانه : أذن وعليّ البلاغ ، فعلا المقام فأشرف به حتى صار كأعلى الجبال ، فأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً وقال : يا أيها الناس ، كتب عليكم الحج إلى البيت فأجيبوا ربكم ، فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء : لبيك اللّهم لبيك . وقيل : إن الخطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم . والمعنى : أعلمهم يا محمد بوجوب الحجّ عليهم ، وعلى هذا فالخطاب لإبراهيم انتهى عند قوله : { والركع السجود } وقيل : إن خطابه انقضى عند قوله : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت } وأن قوله : { أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى } وما بعده خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقرأ الجمهور { بالحجّ } بفتح الحاء ، وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها { يَأْتُوكَ رِجَالاً } هذا جواب الأمر ، وعده الله إجابة الناس له إلى حجّ البيت ما بين راجل وراكب ، فمعنى { رجالاً } : مشاة ، جمع راجل .
وقيل : جمع رجل . وقرأ ابن أبي إسحاق « رجالاً » بضم الراء وتخفيف الجيم . وقرأ مجاهد : « رجالى » على وزن فعالى مثل كسالى . وقدّم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي ، وقال : { يأتوك } وإن كانوا يأتون البيت ، لأن من أتى الكعبة حاجاً فقد أتى إبراهيم ، لأنه أجاب نداءه { وعلى كُلّ ضَامِرٍ } عطف على { رجالا } أي وركباناً على كل بعير . والضامر : البعير المهزول الذي أتعبه السفر ، يقال : ضمر يضمر ضموراً ، ووصف الضامر بقوله : { يَأْتِينَ } باعتبار المعنى؛ لأن ضامر في معنى ضوامر ، وقرأ أصحاب ابن مسعود وابن أبي عبلة والضحاك « يأتون » على أنه صفة ل { رجالاً } . والفجّ : الطريق الواسع ، الجمع فجاج ، والعميق : البعيد . واللام في { لّيَشْهَدُواْ منافع لَهُمْ } متعلقة بقوله : { ريأتوك } وقيل : بقوله : { وأذن } والشهود : الحضور ، والمنافع هي تعمّ منافع الدنيا والآخرة . وقيل : المراد بها : المناسك . وقيل : المغفرة؛ وقيل : التجارة كما في قوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ } [ البقرة : 198 ] . { وَيَذْكُرُواْ اسم الله فِي أَيَّامٍ معلومات } أي يذكروا عند ذبح الهدايا والضحايا اسم الله . وقيل : إن هذا الذكر كناية عن الذبح؛ لأنه لا ينفك عنه . والأيام المعلومات هي : أيام النحر ، كما يفيد ذلك قوله : { على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام } . وقيل : عشر ذي الحجة . وقد تقدّم الكلام في الأيام المعلومات والمعدودات في البقرة فلا نعيده ، والكلام في وقت ذبح الأضحية معروف في كتب الفقه وشروح الحديث . ومعنى : { على ما رزقهم } : على ذبح ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، وهي الإبل والبقر والغنم ، وبهيمة الأنعام هي الأنعام ، فالإضافة في هذا كالإضافة في قولهم : مسجد الجامع وصلاة الأولى { فَكُلُواْ مِنْهَا } الأمر هنا للندب عند الجمهور ، وذهبت طائفة إلى أن الأمر للوجوب ، وهذا التفات من الغيبة إلى الخطاب { وَأَطْعِمُواْ البائس الفقير } البائس : ذو البؤس وهو شدة الفقر ، فذكر الفقير بعده؛ لمزيد الإيضاح . والأمر هنا للوجوب . وقيل : للندب .
{ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ } المراد بالقضاء هنا هو : التأدية ، أي ليؤدوا إزالة وسخهم ، لأن التفث هو : الوسخ والقذارة من طول الشعر والأظفار ، وقد أجمع المفسرون ، كما حكاه النيسابوري ، على هذا . قال الزجاج : إن أهل اللغة لا يعرفون التفث . وقال أبو عبيدة : لم يأت في الشرع ما يحتجّ به في معنى التفث . وقال المبرّد : أصل التفث في اللغة : كل قاذورة تلحق الإنسان . وقيل : قضاؤه ادّهانه لأن الحاج مغبرّ شعث لم يدهن ولم يستحد ، فإذا قضى نسكه وخرج من إحرامه حلق شعره ولبس ثيابه ، فهذا هو قضاء التفث . قال الزجاج : كأنه خروج من الإحرام إلى الإحلال { وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } أي : ما ينذرون به من البرّ في حجهم ، والأمر للوجوب . وقيل : المراد بالنذور هنا أعمال الحج { وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق } هذا الطواف هو طواف الإفاضة .
قال ابن جرير : لا خلاف في ذلك بين المتأوّلين ، والعتيق : القديم كما يفيده قوله سبحانه : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 96 ] الآية ، وقد سمي العتيق لأن الله أعتقه من أن يتسلط عليه جبار . وقيل : لأن الله يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب . وقيل : لأنه أعتق من غرق الطوفان . وقيل : العتيق الكريم .
وقد أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله : { والمسجد الحرام } قال : الحرم كله ، وهو المسجد الحرام { سَوَاء العاكف فِيهِ والباد } قال : خلق الله فيه سواء . وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير مثله . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : هم في منازل مكة سواء ، فينبغي لأهل مكة أن يوسعوا لهم حتى يقضوا مناسكهم . وقال البادي وأهل مكة سواء ، يعني : في المنزل والحرم . وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو قال : من أخذ من أجور بيوت مكة إنما يأكل في بطونه ناراً . وأخرج ابن سعد عن عمر بن الخطاب ، أن رجلاً قال له عند المروة : يا أمير المؤمنين ، أقطعني مكاناً لي ولعقبي ، فأعرض عنه عمر وقال : هو حرم الله ، سواء العاكف فيه والباد . وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال : كان عمر يمنع أهل مكة أن يجعلوا لها أبواباً حتى ينزل الحاجّ في عرصات الدور . وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال السيوطي بإسناد صحيح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله : { سَوَاء العاكف فِيهِ والباد } قال : « سواء المقيم والذي يرحل » وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « مكة مباحة لا تؤجر بيوتها ولا تباع رباعها » وأخرج ابن أبي شيبة وابن ماجه عن علقمة بن نضلة قال : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وما تدعى رباع مكة إلا السوائب ، من احتاح سكن ومن استغنى أسكن . رواه ابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حفرة عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة فذكره . وأخرج الدارقطني عن ابن عمر مرفوعاً : « من أكل كراء بيوت مكة أكل ناراً » وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن راهويه وأحمد وعبد بن حميد والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن مسعود رفعه في قوله : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال : « لو أن رجلاً همّ فيه بإلحاد وهو بعدن أبين لأذاقه الله عذاباً أليماً » قال ابن كثير : هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري ، ووقفه أشبه من رفعه ، ولهذا صمم شعبة على وقفه .
وأخرج سعيد بن منصور والطبراني عن ابن مسعود في الآية قال : من همّ بخطيئة فلم يعملها في سوى البيت ، لم تكتب عليه حتى يعملها ، ومن همّ بخطيئة في البيت؛ لم يمته الله من الدنيا حتى يذيقه من عذاب أليم . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أنيس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين ، أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار ، فافتخروا في الأنساب ، فغضب عبد الله بن أنيس ، فقتل الأنصاري ، ثم ارتدّ عن الإسلام وهرب إلى مكة ، فنزلت فيه { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } يعني : من لجأ إلى الحرم بإلحاد ، يعني بميل عن الإسلام . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال : بشرك . وأخرج عبد بن حميد ، والبخاري في تاريخه ، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن يعلى بن أمية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه » وأخرج سعيد بن منصور ، والبخاري في تاريخه ، وابن المنذر عن عمر بن الخطاب قال : احتكار الطعام بمكة إلحاد بظلم . وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال : بيع الطعام بمكة إلحاد . وأخرج البيهقي في الشعب عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « احتكار الطعام بمكة إلحاد » وأخرج ابن جرير ، والحاكم وصححه عن عليّ قال : لما أمر إبراهيم ببناء البيت خرج معه إسماعيل وهاجر . فلما قدم مكة رأى على رابية في موضع البيت مثل الغمامة فيه مثل الرأس ، فكلمه فقال : يا إبراهيم ، ابْنِ على ظلي أو على قدري ولا تزد ولا تنقص ، فلما بنى خرج وخلف إسماعيل وهاجر ، وذلك حين يقول الله : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت } الآية . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطاء { والقائمين } قال : المصلين عنده . وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة معناه . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في السنن عن ابن عباس قال : لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال : ربّ ، قد فرغت ، فقال : { أَذِنَ فِي الناس بالحج } قال : ربّ ، وما يبلغ صوتي؟ قال : أذن وعليّ البلاغ ، قال : ربّ كيف أقول؟ قال : قل : يا أيها الناس كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق . فسمعه من في السماء والأرض ، ألا ترى أنهم يجيئون من أقصى الأرض يلبون . وفي الباب آثار عن جماعة من الصحابة .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { لّيَشْهَدُواْ منافع لَهُمْ } قال : أسواقاً كانت لهم ، ما ذكر الله منافع إلا الدنيا . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة ، فأما منافع الآخرة فرضوان الله ، وأما منافع الدنيا فمما يصيبون من لحوم البدن في ذلك اليوم والذبائح والتجارات . وأخرج أبو بكر المروزي في كتاب العيدين عنه أيضاً قال : الأيام المعلومات : أيام العشر . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : الأيام المعلومات : يوم النحر وثلاثة أيام بعده . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال : أيام التشريق . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضاً في الأيام المعلومات قال : قبل يوم التروية بيوم ، ويوم التروية ويوم عرفة . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال : البائس : الزمن .
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر قال : التفث : المناسك كلها . وأخرج هؤلاء عن ابن عباس نحوه . وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : التفث حلق الرأس والأخذ من العارضين ونتف الإبط وحلق العانة والوقوف بعرفة والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار وقصّ الأظفار وقصّ الشارب والذبح . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه : { وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق } هو طواف الزيارة يوم النحر ، وورد في وجه تسمية البيت بالعتيق آثار عن جماعة من الصحابة ، وقد أشرنا إلى ذلك سابقاً . وورد في فضل الطواف أحاديث ليس هذا موضع ذكرها .
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
محل { ذلك } الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي الأمر ذلك ، أو مبتدأ خبره محذوف ، أو في محل نصب بفعل محذوف ، أي افعلوا ذلك . والمشار إليه هو ما سبق من أعمال الحجّ ، وهذا وأمثاله يطلق للفصل بين الكلامين أو بين طرفي كلام واحد ، والحرمات جمع حرمة . قال الزجاج : الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه ، وهي في هذه الآية ما نهي عنها ، ومنع من الوقوع فيها . والظاهر من الآية عموم كل حرمة في الحج وغيره كما يفيده اللفظ وإن كان السبب خاصاً ، وتعظيمها ترك ملابستها { فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } أي فالتعظيم خير له { عِندَ رَبّهِ } يعني : في الآخرة من التهاون بشيء منها . وقيل : إن صيغة التفضيل هنا لا يراد بها معناها الحقيقي ، بل المراد : أن ذلك التعظيم خير ينتفع به ، فهي عدة بخير { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام } وهي الإبل والبقر والغنم { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } أي في الكتاب العزيز من المحرّمات ، وهي الميتة وما ذكر معها في سورة المائدة . وقيل في قوله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ } [ المائدة : 1 ] .
{ فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } الرجس : القذر ، والوثن : التمثال ، وأصله من وثن الشيء ، أي أقام في مقامه ، وسمي الصليب وثناً ، لأنه ينصب ويركز في مقامه ، فلا يبرح عنه . والمراد : اجتناب عبادة الأوثان ، وسماها رجساً؛ لأنها سبب الرجس وهو العذاب . وقيل : جعلها سبحانه رجساً حكماً ، والرجس : النجس ، وليست النجاسة وصفاً ذاتياً لها ولكنها وصف شرعي ، فلا تزول إلا بالإيمان كما أنها لا تزول النجاسة الحسية إلا بالماء . قال الزجاج : « من » هنا لتخليص جنس من أجناس ، أي فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن { واجتنبوا قَوْلَ الزور } الذي هو الباطل ، وسمي زوراً؛ لأنه مائل عن الحق ، ومنه قوله تعالى : { تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ } [ الكهف : 17 ] . وقولهم : مدينة زوراء ، أي مائلة ، والمراد هنا قول الزور على العموم ، وأعظمه الشرك بالله بأيّ لفظ كان . وقال الزجاج المراد بقول الزور ها هنا : تحليلهم بعض الأنعام وتحريمهم بعضها ، وقولهم : { هذا حلال وهذا حَرَامٌ } [ النحل : 116 ] . وقيل : المراد به : شهادة الزور .
وانتصاب { حُنَفَاء } على الحال ، أي مستقيمين على الحق ، أو مائلين إلى الحق . ولفظ حنفاء من الأضداد يقع على الاستقامة ، ويقع على الميل . وقيل : معناه : حجاجاً ، ولا وجه لهذا . { غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } هو حال كالأوّل ، أي غير مشركين به شيئاً من الأشياء كما يفيده الحذف من العموم ، وجملة : { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء } مبتدأة مؤكدة لما قبلها من الأمر بالاجتناب . ومعنى خرّ من السماء : سقط إلى الأرض ، أي انحط من رفيع الإيمان إلى حضيض الكفر { فَتَخْطَفُهُ الطير } ، يقال : خطفه : إذا سلبه ، ومنه قوله :
{ يَخْطَفُ أبصارهم } [ البقرة 20 ] . أي تخطف لحمه وتقطعه بمخالبها . قرأ أبو جعفر ونافع بتشديد الطاء وفتح الخاء ، وقرىء بكسر الخاء والطاء وبكسر التاء مع كسرهما { أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح } أي تقذفه وترمي به { فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } أي بعيد ، يقال : سحق يسحق سحقاً فهو سحيق : إذا بعد قال الزجاج : أعلم الله أن بعد من أشرك به من الحقّ ، كبعد ما خرّ من السماء ، فتذهب به الطير أو هوت به الريح في مكان بعيد .
{ ذلك وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله } الكلام في هذه الإشارة قد تقدّم قريباً ، والشعائر : جمع الشعيرة ، وهي كل شيء فيه لله تعالى شعار ، ومنه شعار القوم في الحرب ، وهو علامتهم التي يتعارفون بها ، ومنه إشعار البدن ، وهو الطعن في جانبها الأيمن ، فشعائر الله : أعلام دينه ، وتدخل الهدايا في الحجّ دخولاً أوّلياً ، والضمير في قوله : { فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب } راجع إلى الشعائر بتقدير مضاف محذوف ، أي فإن تعظيمها من تقوى القلوب أي : من أفعال القلوب التي هي من التقوى ، فإن هذا التعظيم ناشىء من التقوى . { لَكُمْ فِيهَا منافع } أي في الشعائر على العموم ، أو على الخصوص ، وهي البدن كما يدلّ عليه السياق . ومن منافعها : الركوب والدرّ والنسل والصوف وغير ذلك { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } وهو وقت نحرها { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق } أي حيث يحلّ نحرها ، والمعنى : أنها تنتهي إلى البيت وما يليه من الحرم ، فمنافعهم الدنيوية المستفادة منها مستمرّة إلى وقت نحرها ، ثم تكون منافعها بعد ذلك دينية . وقيل : إن محلها ها هنا مأخوذ من إحلال الحرام ، والمعنى : أن شعائر الحجّ كلها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي تنتهي إلى طواف الإفاضة بالبيت ، فالبيت على هذا مراد بنفسه .
{ وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا } المنسك ها هنا المصدر من نسك ينسك : إذا ذبح القربان ، والذبيحة : نسيكة ، وجمعها نسك . وقال الأزهري : إن المراد بالمنسك في الآية : موضع النحر ، ويقال : منسك بكسر السين وفتحها لغتان ، قرأ بالكسر الكوفيون إلا عاصماً وقرأ الباقون بالفتح . وقال الفرّاء : المنسك في كلام العرب : الموضع المعتاد في خير أو شرّ ، وقال ابن عرفة : { وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا } أي مذهباً من طاعة الله . وروي عن الفراء أن المنسك : العيد . وقيل : الحجّ ، والأوّل أولى لقوله : { لّيَذْكُرُواْ اسم الله } إلى آخره ، والأمة : الجماعة المجتمعة على مذهب واحد ، والمعنى : وجعلنا لكل أهل دين من الأديان ذبحاً يذبحونه ، ودما يريقونه ، أو متعبداً أو طاعة أو عيداً أو حجاً يحجونه ، ليذكروا اسم الله وحده ، ويجعلوا نسكهم خاصاً به { على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام } أي على ذبح ما رزقهم منها . وفيه إشارة إلى أن القربان لا يكون إلا من الأنعام دون غيرها ، وفي الآية دليل على أن المقصود من الذبح المذكور هو ذكر اسم الله عليه .
ثم أخبرهم سبحانه بتفرّده بالإلهية وأنه لا شريك له ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، ثم أمرهم بالإسلام له ، والانقياد لطاعته وعبادته ، وتقديم الجار والمجرور على الفعل للقصر ، والفاء هنا كالفاء التي قبلها ، ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يبشر { المخبتين } من عباده ، أي المتواضعين الخاشعين المخلصين ، وهو مأخوذ من الخبت ، وهو المنخفض من الأرض ، والمعنى : بشرهم يا محمد بما أعدّ الله لهم من جزيل ثوابه وجليل عطائه . وقيل : إن المخبتين هم الذين لا يظلمون غيرهم ، وإذا ظلمهم غيرهم لم ينتصروا .
ثم وصف سبحانه هؤلاء المخبتين بقوله : { الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } أي خافت وحذرت مخالفته ، وحصول الوجل منهم عند الذكر له سبحانه دليل على كمال يقينهم وقوّة إيمانهم ، ووصفهم بالصبر { على مَا أَصَابَهُمْ } من البلايا والمحن في طاعة الله ثم وصفهم بإقامة { الصلاة } أي الإتيان بها في أوقاتها على وجه الكمال . قرأ الجمهور : { والمقيمي الصلاة } بالجرّ على ما هو الظاهر ، وقرأ أبو عَمْرو بالنصب على توهم بقاء النون ، وأنشد سيبويه على ذلك قول الشاعر :
الحافظو عورة العشيرة ... البيت بنصب عورة ، وقيل : لم يقرأ بهذه القراءة أبو عمرو ، وقرأ ابن محيصن : « والمقيمين » بإثبات النون على الأصل ، ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود ، ثم وصفهم سبحانه بقوله : { وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } أي يتصدّقون به وينفقونه في وجوه البرّ ، ويضعونه في مواضع الخير ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه : { إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءاياته زَادَتْهُمْ إيمانا وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ الأنفال : 2 ] .
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { حرمات الله } قال : الحرمة مكة والحجّ والعمرة وما نهى الله عنه من معاصيه كلها . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } يقول : اجتنبوا طاعة الشيطان في عبادة الأوثان { واجتنبوا قَوْلَ الزور } يعني : الافتراء على الله والتكذيب به . وأخرج أحمد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن أيمن بن خريم قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال : « يا أيها الناس ، عدلت شهادة الزور شركاً بالله » « ثلاثاً ، ثم قرأ : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور ، قال أحمد : غريب ، إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد . وقد اختلف عنه في رواية هذا الحديث ، ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعاً من النبيّ صلى الله عليه وسلم . وقد أخرجه أحمد وعبد بن حميد وأبو داود وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب من حديث خريم .
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألا أنبئكم بأكبر الكبائر » ثلاثاً ، قلنا : بلى يا رسول الله ، قال : « الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين » ، وكان متكئاً ، فجلس فقال : « ألا وقول الزور ، ألا وشهادة الزور » ، فما زال يكرّرها حتى قلنا : ليته سكت . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } قال : حجاجاً لله غير مشركين به ، وذلك أن الجاهلية كانوا يحجون مشركين ، فلما أظهر الله الإسلام ، قال الله للمسلمين : حجوا الآن غير مشركين بالله . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصدّيق نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله } قال : البدن . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله } قال : الاستسمان والاستحسان والاستعظام ، وفي قوله : { لَكُمْ فِيهَا منافع إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } قال : إلى أن تسمى بدناً . وأخرج هؤلاء عن مجاهد نحوه ، وفيه قال : ولكم فيها منافع إلى أجل مسمى ، في ظهورها وألبانها وأوبارها وأشعارها وأصوافها إلى أن تسمى هدياً ، فإذا سميت هدياً ذهبت المنافع { ثُمَّ مَحِلُّهَا } يقول : حين تسمى { إلى البيت العتيق } .
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال : إذا دخلت الحرم فقد بلغت محلها . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا } قال : عيداً . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : إهراق الدماء . وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : ذبحاً . وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في الآية قال : مكة لم يجعل الله لأمة قط منسكاً غيرها . وقد وردت أحاديث في الأضحية ليس هذا موضع ذكرها .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وَبَشّرِ المخبتين } قال : المطمئنين . وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في ذم الغضب ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في شعب الإيمان عن عمرو بن أوس قال : المخبتون في الآية الذين لا يظلمون الناس ، وإذا ظلموا لم ينتصروا .
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
قرأ ابن أبي إسحاق : « والبدن » بضم الباء والدال ، وقرأ الباقون بإسكان الدال وهما لغتان ، وهذا الاسم خاص بالإبل . وسميت بدنة؛ لأنها تبدن ، والبدانة : السمن . وقال أبو حنيفة ومالك : إنه يطلق على غير الإبل ، والأوّل أولى لما سيأتي من الأوصاف التي هي ظاهرة في الإبل ، ولما تفيده كتب اللغة من اختصاص هذا الاسم بالإبل . وقال ابن كثير في تفسيره : واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة على قولين : أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعاً كما صح في الحديث { جعلناها لَكُمْ } وهي ما تقدّم بيانه قريباً { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } أي منافع دينية ودنيوية كما تقدّم { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا } أي على نحرها ومعنى { صَوَافَّ } أنها قائمة قد صفت قوائمها ، لأنها تنحر قائمة معقولة . وأصل هذا الوصف في الخيل يقال : صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثنى الرابعة . وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري : « صوافي » أي خوالص لله لا تشركون به في التسمية على نحرها أحداً ، وواحد صوافّ صافة ، وهي قراءة الجمهور . وواحد صوافي صافية ، وقرأ ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبو جعفر ومحمد بن علي : « صوافن » بالنون جمع صافنة . والصافنة هي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب ، ومنه قوله تعالى : { الصافنات الجياد } [ ص : 31 ] ، ومنه قول عمرو بن كلثوم :
تركنا الخيل عاكفة عليه ... مقلدة أعنتها صفونا
وقال الآخر :
ألف الصفون فما يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا
{ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } الوجوب : السقوط ، أي فإذا سقطت بعد نحرها ، وذلك عند خروج روحها { فَكُلُواْ مِنْهَا } ذهب الجمهور أن هذا الأمر للندب { وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر } هذا الأمر قيل : هو للندب كالأوّل ، وبه قال مجاهد والنخعي وابن جرير وابن سريج . وقال الشافعي وجماعة : هو للوجوب .
واختلف في القانع من هو؟ فقيل : هو السائل ، يقال : قنع الرجل بفتح النون يقنع بكسرها إذا سأل ، ومنه قول الشماخ :
لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أعفّ من القنوع
أي السؤال ، وقيل : هو المتعفف عن السؤال المستغني ببلغة ، ذكر معناه الخليل . قال ابن السكيت : من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة ، وهي الرضا والتعفف وترك المسألة . وبالأوّل قال زيد بن أسلم وابنه وسعيد بن جبير والحسن ، وروي عن ابن عباس . وبالثاني قال عكرمة وقتادة . وأما المعترّ ، فقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن : أنه الذي يتعرّض من غير سؤال . وقيل : هو الذي يعتريك ويسألك . وقال مالك : أحسن ما سمعت أن القانع : الفقير ، والمعترّ : الزائر . وروي عن ابن عباس : أن كليهما الذي لا يسأل ، ولكن القانع الذي يرضى بما عنده ولا يسأل ، والمعترّ الذي يتعرّض لك ولا يسألك .
وقرأ الحسن : « والمعترّى » ومعناه كمعنى المعترّ ومنه قول زهير :
على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
يقال : اعترّه واعتراه وعرّه وعراه : إذا تعرّض لما عنده أو طلبه ، ذكره النحاس { كذلك سخرناها لَكُمْ } أي مثل ذلك التسخير البديع سخرناها لكم ، فصارت تنقاد لكم إلى مواضع نحرها فتنحرونها . وتنتفعون بها بعد أن كانت مسخرة للحمل عليها والركوب على ظهرها والحلب لها ونحو ذلك { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } هذه النعمة التي أنعم الله بها عليكم .
{ لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا } أي لن يصعد إليه ولا يبلغ رضاه ولا يقع موقع القبول منه لحوم هذه الإبل التي تتصدّقون بها ولا دماؤها التي تنصب عند نحرها من حيث إنها لحوم ودماء { ولكن يَنَالُهُ } أي يبلغ إليه تقوى قلوبكم ، ويصل إليه إخلاصكم له وإرادتكم بذلك وجهه ، فإن ذلك هو الذي يقبله الله ويجازي عليه . وقيل : المراد : أصحاب اللحوم والدماء ، أي : لن يرضى المضحون والمتقرّبون إلى ربهم باللحوم والدماء ، ولكن بالتقوى . قال الزجاج : أعلم الله أن الذي يصل إليه تقواه وطاعته فيما يأمر به ، وحقيقة معنى هذا الكلام تعود إلى القبول ، وذلك أن ما يقبله الإنسان يقال : قد ناله ووصل إليه ، فخاطب الله الخلق كعادتهم في مخاطبتهم { كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ } كرّر هذا للتذكير ، ومعنى { لِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ } هو قول الناحر : الله أكبر عند النحر ، فذكر في الآية الأولى الأمر بذكر اسم الله عليها . وذكر هنا التكبير . للدلالة على مشروعية الجمع بين التسمية والتكبير . وقيل : المراد بالتكبير : وصفه سبحانه بما يدلّ على الكبرياء ، ومعنى { على مَا هَدَاكُمْ } : على ما أرشدكم إليه من علمكم بكيفية التقرّب بها ، و « ما » مصدرية ، أو موصولة { وَبَشّرِ المحسنين } قيل : المراد بهم : المخلصون . وقيل : الموحدون . والظاهر أن المراد بهم : كل من يصدر منه من الخير ما يصح به إطلاق اسم المحسن عليه .
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عبد الله بن عمر قال : لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : البدن ذات الجوف . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : ليس البدن إلا من الإبل . وأخرجوا عن الحكم نحوه . وأخرجوا عن عطاء نحو ما قال ابن عمر . وأخرج ابن أبي شيبة عن ، سعيد بن المسيب نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن نحوه أيضاً . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن يعقوب الرباحي عن أبيه قال : أوصى إليّ رجل ، وأوصى ببدنة ، فأتيت ابن عباس فقلت له : إن رجلاً أوصى إليّ وأوصى ببدنة ، فهل تجزىء عني بقرة؟ قال : نعم ، ثم قال : ممن صاحبكم؟ فقلت : من بني رباح ، فقال : ومتى اقتنى بنو رباح البقر إلى الإبل؟ وهم صاحبكم ، إنما البقر للأسد وعبد القيس .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في الأضاحي ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه عن أبي ظبيان قال : سألت ابن عباس عن قوله : { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَافَّ } قال : إذا أردت أن تنحر البدنة فأقمها على ثلاث قوائم معقولة ، ثم قل : بسم الله والله أكبر . وأخرج الفريابي وأبو عبيد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : { صَوَافَّ } قال : قياماً معقولة ، وفي الصحيحين وغيرهما عنه أنه رأى رجلاً قد أناخ بدنته وهو ينحرها ، فقال : ابعثها قياماً مقيدة سنّة محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج أبو عبيدة وعبد بن حميد وابن المنذر عن ميمون بن مهران قال : في قراءة ابن مسعود : « صوافن » يعني : قياماً .
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { فَإِذَا وَجَبَتْ } قال : سقطت على جنبها . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : نحرت . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : { القانع } : المتعفف { والمعتر } : السائل . وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال : القانع الذي يقنع بما آتيته . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : القانع : الذي يقنع بما أوتي ، والمعترّ : الذي يعترض . وأخرج عنه أيضاً قال : القانع الذي يجلس في بيته . وأخرج عبد بن حميد ، والبيهقي في سننه عنه ، أنه سئل عن هذه الآية ، فقال : أما القانع : فالقانع بما أرسلت إليه في بيته ، والمعترّ : الذي يعتريك . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال : القانع : الذي يسأل ، والمعترّ : الذي يتعرض ، ولا يسأل . وقد روي عن التابعين في تفسير هذه الآية أقوال مختلفة ، والمرجع المعنى اللغوي لا سيما مع الاختلاف بين الصحابة ومن بعدهم في تفسير ذلك . وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان المشركون إذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء فينضحون بها نحو الكعبة ، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك ، فأنزل الله : { لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا } . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج نحوه .
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
قرأ أبو عمرو وابن كثير : « يدفع » وقرأ الباقون : { يدافع } وصيغة المفاعلة هنا مجرّدة عن معناها الأصلي ، وهو وقوع الفعل من الجانبين كما تدلّ عليه القراءة الأخرى . وقد ترد هذه الصيغة ولا يراد بها معناها الأصلي كثيراً مثل : عاقبت اللصّ ونحو ذلك ، وقد قدّمنا تحقيقه . وقيل : إن إيراد هذه الصيغة هنا للمبالغة . وقيل : للدلالة على تكرر الواقع . والمعنى : يدافع عن المؤمنين غوائل المشركين . وقيل : يعلي حجتهم . وقيل : يوفقهم . والجملة مستأنفة لبيان هذه المزية الحاصلة للمؤمنين من ربّ العالمين ، وأنه المتولي للمدافعة عنهم ، وجملة : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } مقرّرة لمضمون الجملة الأولى ، فإن المدافعة من الله لهم عن عباده المؤمنين مشعرة أتمّ إشعار بأنهم مبغضون إلى الله غير محبوبين له . قال الزجاج : من ذكر غير اسم الله وتقرّب إلى الأصنام بذبيحته فهو خوّان كفور ، وإيراد صيغتي المبالغة للدلالة على أنهم كذلك في الواقع لا لإخراج من خان دون خيانتهم ، أو كفر دون كفرهم .
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يقاتلون بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ } قرىء : « أذن » مبنياً للفاعل ومبنياً للمفعول وكذلك « يقاتلون » ، قرىء مبنياً للفاعل ومبنياً للمفعول ، وعلى كلا القراءتين فالإذن من الله سبحانه لعباده المؤمنين بأنهم إذا صلحوا للقتال ، أو قاتلهم المشركون قاتلوهم . قال المفسرون : كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بألسنتهم وأيديهم ، فيشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول لهم : « اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر » ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية بالمدينة ، وهي أوّل آية نزلت في القتال . وهذه الآية مقرّرة أيضاً لمضمون قوله : { إِنَّ الله يُدَافِعُ } فإن إباحة القتال لهم هي من جملة دفع الله عنهم ، والباء في : { بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ } للسببية ، أي بسبب أنهم ظلموا بما كان يقع عليهم من المشركين من سب وضرب وطرد . ثم وعدهم سبحانه النصر على المشركين ، فقال : { وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } وفيه تأكيد لما مرّ من المدافعة أيضاً .
ثم وصف هؤلاء المؤمنين بقوله : { الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم بِغَيْرِ حَقّ } ويجوز أن يكون بدلاً من الذين يقاتلون ، أو في محل نصب على المدح ، أو محل رفع بإضمار مبتدأ ، والمراد بالديار : مكة { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله } قال سيبويه : هو استثناء منقطع ، أي لكن لقولهم : ربنا الله أي أخرجوا بغير حق يوجب إخراجهم لكن لقولهم : ربنا الله . وقال الفراء والزجاج : هو استثناء متصل ، والتقدير : الذين أخرجوا من ديارهم بلا حق إلا بأن يقولوا : ربنا الله ، فيكون مثل قوله سبحانه : { هل تنقمون منا إلا آمنا بالله } [ المائدة : 59 ] وقول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
{ وَلَوْلاَ دفع الله الناس } قرأ نافع : « ولولا دفاع » وقرأ الباقون : { ولولا دفع } والمعنى : لولا ما شرعه الله للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء لاستولى أهل الشرك ، وذهبت مواضع العبادة من الأرض ، ومعنى { لَّهُدّمَتْ } : لخربت باستيلاء أهل الشرك على أهل الملل . فالصوامع : هي صوامع الرهبان . وقيل : صوامع الصابئين ، والبيع : جمع بيعة ، وهي كنيسة النصارى ، والصلوات : هي كنائس اليهود ، واسمها بالعبرانية صلوثا بالمثلثة فعربت ، والمساجد هي مساجد المسلمين ، وقيل : المعنى : لولا هذا الدفع لهدّمت في زمن موسى الكنائس ، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع ، وفي زمن محمد المساجد . قال ابن عطية : هذا أصوب ما قيل في تأويل الآية . وقيل : المعنى : ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة . وقيل : لولا دفع الله العذاب بدعاء الأخيار . وقيل : غير ذلك . والصوامع : جمع صومعة ، وهي بناء مرتفع ، يقال : صمع الثريدة : إذا رفع رأسها ، ورجل أصمع القلب ، أي حادّ الفطنة ، والأصمع من الرجال : الحديد القول . وقيل : الصغير الأذن . ثم استعمل في المواضع التي يؤذن عليها في الإسلام ، وقد ذكر ابن عطية في { صلوات } تسع قراءات ، ووجه تقديم مواضع عبادات أهل الملل على موضع عبادة المسلمين كونها أقدم بناء وأسبق وجوداً . والظاهر من الهدم المذكور معناه الحقيقي كما ذكره الزجاج وغيره . وقيل : المراد به المعنى المجازي ، وهو تعطلها من العبادة ، وقرىء : { لهدّمت } بالتشديد ، وانتصاب { كثيراً } في قوله : { يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً } على أنه صفة لمصدر محذوف أي : ذكراً كثيراً ، أو وقتاً كثيراً ، والجملة صفة للمساجد؛ وقيل : لجميع المذكورات .
{ وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ } اللام هي جواب لقسم محذوف ، أي والله لينصر الله من ينصره ، والمراد بمن ينصر الله : من ينصر دينه وأولياءه . والقويّ : القادر على الشيء ، والعزيز : الجليل الشريف قاله الزجاج . وقيل : الممتنع الذي لا يرام ولا يدافع ولا يمانع ، والموصول في قوله : { الذين إِنْ مكناهم فِي الأرض } في موضع نصب صفة لمن في قوله : { من ينصره } قاله الزجاج : وقال غيره : هو في موضع جرّ صفة لقوله : { للذين يقاتلون } . وقيل : المراد بهم : المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان . وقيل : أهل الصلوات الخمس . وقيل : ولاة العدل . وقيل : غير ذلك ، وفيه إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على من مكنه الله في الأرض وأقدره على القيام بذلك ، وقد تقدّم تفسير الآية ، ومعنى { وَلِلَّهِ عاقبة الأمور } : أن مرجعها إلى حكمه وتدبيره دون غيره .
وقد أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد ، والترمذي وحسنه ، والنسائي وابن ماجه والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : لما أخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكنّ القوم ، فنزلت : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يقاتلون بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ } الآية .
قال ابن عباس : وهي أوّل آية نزلت في القتال . قال الترمذي : حسن ، وقد رواه غير واحد عن الثوري ، وليس فيه ابن عباس . انتهى . وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين . وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : { الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم } أي من مكة إلى المدينة بغير حق ، يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه . وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان بن عفان قال : فينا نزلت هذه الآية : { الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم بِغَيْرِ حَقّ } والآية بعدها ، أخرجنا من ديارنا بغير حق ، ثم مكنّاهم في الأرض أقمنا الصلاة وآتينا الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر فهي لي ولأصحابي .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال : إنما أنزلت هذه الآية في أصحاب محمد : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس } الآية قال : لولا دفع الله بأصحاب محمد عن التابعين لهدّمت صوامع . وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لَّهُدّمَتْ صوامع } الآية قال : الصوامع التي تكون فيها الرهبان ، والبيع : مساجد اليهود وصلوات : كنائس النصارى ، والمساجد : مساجد المسلمين . وأخرجا عنه قال : البيع : بيع النصارى ، وصلوات : كنائس اليهود . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله : { الذين إِنْ مكناهم فِي الأرض } قال : أرض المدينة { الذين إِنْ } قال : المكتوبة { وَإِذْ أَخَذْنَا } قال : المفروضة { وَأَمَرُواْ بالمعروف } قال : بلا إله إلا الله { وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر } قال : عن الشرك بالله { وَلِلَّهِ عاقبة الأمور } قال : وعند الله ثواب ما صنعوا .
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
قوله : { وَإِن يُكَذّبُوكَ } إلخ هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزية له متضمنة للوعد له بإهلاك المكذبين له كما أهلك سبحانه المكذبين لمن كان قبله . وفيه إرشاد له صلى الله عليه وسلم إلى الصبر على قومه والاقتداء بمن قبله من الأنبياء في ذلك ، وقد تقدّم ذكر هذه الأمم وما كان منهم ومن أنبيائهم وكيف كانت عاقبتهم . وإنما غير النظم في قوله : { وَكُذّبَ موسى } فجاء بالفعل مبنياً للمفعول؛ لأن قوم موسى لم يكذبوه وإنما كذّبه غيرهم من القبط { فَأمْلَيْتُ للكافرين } أي : أخرت عنهم العقوبة وأمهلتهم والفاء لترتيب الإمهال على التكذيب { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } أي أخذت كلّ فريق من المكذبين بالعذاب بعد انقضاء مدّة الإمهال { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } هذا الاستفهام للتقرير ، أي فانظر كيف كان إنكاري عليهم وتغيير ما كانوا فيه من النعم وإهلاكهم ، والنكير اسم من الإنكار . قال الزجاج : أي ثم أخذتهم فأنكرت أبلغ إنكار . قال الجوهري : النكير والإنكار تغيير المنكر .
ثم ذكر سبحانه كيف عذّب أهل القرى المكذبة فقال : { وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أهلكناها } أي أهلكنا أهلها ، وقد تقدّم الكلام على هذا التركيب في آل عمران ، وقرىء : « أهلكتها » ، وجملة : { وَهِيَ ظالمة } حالية ، وجملة : { فَهِيَ خَاوِيَةٌ } عطف على { أهلكناها } ، لا على { ظالمة } لأنها حالية ، والعذاب ليس في حال الظلم ، والمراد بنسبة الظلم إليها نسبته إلى أهلها . والخواء : بمعنى السقوط فهي ساقطة { على عُرُوشِهَا } أي على سقوفها ، وذلك بسبب تعطل سكانها حتى تهدّمت فسقطت حيطانها فوق سقوفها ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في البقرة { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ } معطوف على قرية ، والمعنى : وكم من أهل قرية ، ومن أهل بئر معطلة ، هكذا قال الزجاج . وقال الفراء : إنه معطوف على عروشها . والمراد بالمعطلة : المتروكة ، وقيل : الخالية عن أهلها لهلاكهم . وقيل : الغائرة . وقيل معطلة من الدلاء والأرشية ، والقصر المشيد هو : المرفوع البنيان ، كذا قال قتادة والضحاك ، ويدلّ عليه قول عديّ بن زيد :
شاده مرمرا وجلله كِلْ ... ساً فللطير في ذراه وكور
شاده : أي رفعه . وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد : المراد بالمشيد : المجصص ، مأخوذ من الشيد ، وهو الجص ، ومنه قول الراجز :
لا تحسبني وإن كنت أمرأ غمرا ... كحية الماء بين الطين والشيد
وقيل : المشيد : الحصين قاله الكلبيّ . قال الجوهري : المشيد المعمول بالشيد ، والشيد : بالكسر : كلّ شيء طليت به الحائط من جصّ أو بلاط ، وبالفتح المصدر ، تقول : شاده يشيده جصصه ، والمشيد بالتشديد : المطوّل . قال الكسائي : [ المشِيد ] للواحد من قوله تعالى : { وقصر مشيد } والمُشيِّد للجمع ، من قوله تعالى : { فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [ النساء : 78 ] والمعنى المعنيّ : وكم من قصر مشيد معطل مثل البئر المعطلة؟ ومعنى التعطيل في القصر هو : أنه معطل من أهله ، أو من آلاته ، أو نحو ذلك .
قال القرطبي في تفسيره : ويقال : إن هذه البئر والقصر بحضر موت معروفان ، فالقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال ، والبئر في سفحه لا تقرّ الريح شيئاً سقط فيها إلا أخرجته ، وأصحاب القصر ملوك الحضر ، وأصحاب البئر ملوك البدو . حكى الثعلبيّ وغيره : أن البئر كان بعدن من اليمن في بلد يقال لها : حضوراء ، نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح ونجوا من العذاب ومعهم صالح فمات صالح ، فسمي المكان حضر موت؛ لأن صالحاً لما حضره مات فبنوا حضوراء وقعدوا على هذه البئر وأمروا عليهم رجلاً ، ثم ذكر قصة طويلة ، وقال بعد ذلك : وأما القصر المشيد فقصر بناه شدّاد بن عاد بن إرم ، لم يبن في الأرض مثله فيما ذكروا وزعموا ، وحاله أيضاً كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الأنس ، وإقفاره بعد العمران ، وإن أحداً لا يستطيع أن يدنو منه على أميال ، لما يسمع فيه من عزيف الجنّ والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك ، وانتظام الأهل كالسلك فبادوا وما عادوا ، فذكرهم الله سبحانه في هذه الآية موعظة وعبرة . قال : وقيل : إنهم الذين أهلكهم بختنصر على ما تقدّم في سورة الأنبياء في قوله : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ } [ الأنبياء : 11 ] . فتعطلت بئرهم وخربت قصورهم . انتهى .
ثم أنكر سبحانه على أهل مكة عدم اعتبارهم بهذه الآثار قائلاً : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض } حثاً لهم على السفر ليروا مصارع تلك الأمم فيعتبروا ، ويحتمل أن يكونوا قد سافروا ولم يعتبروا ، فلهذا أنكر عليهم ، كما في قوله : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الصافات : 137 ، 138 ] . ومعنى { فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } : أنهم بسبب ما شاهدوا من العبر تكون لهم قلوب يعقلون بها ما يجب أن يتعقلوه وأسند التعقل إلى القلوب لأنها محل العقل . كما أن الآذان محل السمع . وقيل : إن العقل محله الدماغ ولا مانع من ذلك ، فإن القلب هو الذي يبعث على إدراك العقل وإن كان محله خارجاً عنه .
وقد اختلف علماء المعقول في محل العقل وماهيته اختلافاً كثيراً لا حاجة إلى التطويل بذكره { أو آذان يسمعون بها } أي ما يجب أن يسمعوه مما تلاه عليهم أنبياؤهم من كلام الله ، وما نقله أهل الأخبار إليهم من أخبار الأمم المهلكة { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار } قال الفراء : الهاء عماد يجوز أن يقال : فإنه ، وهي قراءة عبد الله بن مسعود ، والمعنى واحد ، التذكير على الخبر ، والتأنيث على الأبصار أو القصة ، أي فإن الأبصار لا تعمى ، أو فإن القصة { لا تعمي الأبصار } أي أبصار العيون { ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } أي ليس الخلل في مشاعرهم ، وإنما هو في عقولهم أي لا تدرك عقولهم مواطن الحق ومواضع الاعتبار .
قال الفراء والزجاج : إن قوله { التي في الصدور } من التوكيد الذي تزيده العرب في الكلام كقوله : { عشرة كاملة } [ البقرة : 196 ] ، { يقولون بأفواههم } [ المائدة : 41 ] ، { يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] .
ثم حكى سبحانه عن هؤلاء ما كانوا عليه من التكذيب والاستهزاء فقال : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب } لأنهم كانوا منكرين لمجيئه أشدّ إنكار ، فاستعجالهم له ، هو على طريقة الاستهزاء والسخرية ، وكأنهم كانوا يقولون ذلك عند سماعهم لما تقوله الأنبياء عن الله سبحانه من الوعد منه عزّ وجلّ بوقوعه عليهم وحلوله بهم ، ولهذا قال : { وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ } قال الفراء : في هذه الآية وعيد لهم بالعذاب في الدنيا والآخرة . وذكر الزجاج وجهاً آخر فقال : أعلم أن الله لا يفوته شيء ، وإن يوماً عنده وألف سنة في قدرته واحد ، ولا فرق بين وقوع ما يستعجلون به من العذاب وتأخره في القدرة ، إلا أن الله تفضل بالإمهال انتهى . ومحل جملة : { ولن يخلف الله وعده } النصب على الحال ، أي والحال أنه لا يخلف وعده أبداً ، وقد سبق الوعد فلا بدّ من مجيئه حتماً ، أو هي اعتراضية مبينة لما قبلها ، وعلى الأوّل تكون جملة : { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ } مستأنفة ، وعلى الثاني تكون معطوفة على الجملة التي قبلها مسوقة لبيان حالهم في الاستعجال ، وخطابهم في ذلك ببيان كمال حلمه ، لكون المدة القصيرة عنده كالمدة الطويلة عندهم كما في قوله : { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً } [ المعارج : 6 ، 7 ] . قال الفرّاء : هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة أي : يوم من أيام عذابهم في الآخرة كألف سنة . وقيل : المعنى : وإن يوماً من الخوف والشدّة في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا فيها خوف وشدة ، وكذلك يوم النعيم قياساً . قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : « مما يعدون » بالتحتية ، واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ } وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب ، واختارها أبو حاتم .
{ وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظالمة ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِليَّ المصير } : هذا إعلام منه سبحانه أنه أخذ قوماً بعد الإملاء والتأخير . قيل : وتكرير هذا مع ذكره قبله للتأكيد ، وليس بتكرار في الحقيقة؛ لأن الأوّل سيق لبيان الإهلاك مناسباً لقوله : { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } ولهذا عطف بالفاء بدلاً عن ذلك؛ والثاني : سيق لبيان الإملاء مناسباً لقوله : { وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ } فكأنه قيل : وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أمهلتهم حيناً ، ثم أخذتهم بالعذاب ، ومرجع الكل إلى حكمي . فجملة : { وإليّ المصير } تذييل لتقرير ما قبلها . ثم أمره الله سبحانه أن يخبر الناس بأنه نذير لهم بين يدي الساعة مبين لهم ما نزل إليهم ، فمن آمن وعمل صالحاً فاز بالمغفرة والرزق الكريم وهو الجنة ، ومن كان على خلاف ذلك فهو في النار ، وهم { الذين سعوا في آيات الله معاجزين } يقال : عاجزه : سابقه ، لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر ، فإذا سبقه قيل : أعجزه وعجزه ، قاله الأخفش .
وقيل : معنى { معاجزين } ظانين ومقدّرين أن يعجزوا الله سبحانه ويفوتوه فلا يعذبهم ، قاله الزجاج؛ وقيل : معاندين ، قاله الفرّاء .
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : { فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } قال : خربة ليس فيها أحد { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ } : عطلها أهلها وتركوها { وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } قال : شيدوه وحصنوه فهلكوا وتركوه . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ } قال : التي تركت لا أهل لها . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } قال : هو المجصص . وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن عطاء نحوه أيضاً .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ } قال : من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض . وأخرج ابن المنذر عن عكرمة ، قال في الآية : هو يوم القيامة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة ، فقد مضى منها ستة آلاف . وأخرج ابن عدّي والديلمي عن أنس مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { معاجزين } قال : مراغمين . وأخرج ابن جرير عنه أنه قال : مشاقين .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
قوله : { مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيّ } قيل : الرسول : الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عياناً ومحاورته شفاهاً ، والنبيّ : الذي تكون [ نبوته ] إلهاماً أو مناماً . وقيل : الرسول من بعث بشرع وأمر بتبليغه ، والنبيّ : من أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله ، ولم ينزل عليه كتاب ، ولا بدّ لهما جميعاً من المعجزة الظاهرة { إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ } معنى تمنى : تشهى وهيأ في نفسه ما يهواه . قال الواحدي : وقال المفسرون : معنى تمنى : تلا . قال جماعة المفسرين في سبب نزول هذه الآية : أنه صلى الله عليه وسلم لما شقّ عليه إعراض قومه عنه تمنّى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم ، فكان ذات يوم جالساً في نادٍ من أنديتهم وقد نزل عليه سورة { والنجم إِذَا هوى } [ النجم : 1 ] . فأخذ يقرؤها عليهم حتى بلغ قوله : { أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى } [ النجم : 19 ، 20 ] . وكان ذلك التمني في نفسه ، فجرى على لسانه مما ألقاه الشيطان عليه : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتها لترتجى ، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته حتى ختم السورة ، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين ، فتفرّقت قريش مسرورين بذلك وقالوا : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر ، فأتاه جبريل فقال : ما صنعت؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاف خوفاً شديداً ، فأنزل الله هذه الآية ، هكذا قالوا .
ولم يصح شيء من هذا ، ولا ثبت بوجه من الوجوه ، ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه ، قال الله : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } [ الحاقة : 44 ، 46 ] . وقوله : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } [ النجم : 3 ] . وقوله : { وَلَوْلاَ أَن ثبتناك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } [ الإسراء : 74 ] . فنفى المقاربة للركون فضلاً عن الركون . قال البزار : هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل . وقال البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم . وقال إمام الأئمة ابن خزيمة : إن هذه القصة من وضع الزنادقة . قال القاضي عياض في الشفاء : إن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه ، لا قصداً ولا عمداً ولا سهواً ولا غلطاً . قال ابن كثير : قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ، ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح .
وإذا تقرّر لك بطلان ذلك عرفت أن معنى { تمنى } : قرأ وتلا ، كما قدّمنا من حكاية الواحدي لذلك عن المفسرين . وكذا قال البغوي : إن أكثر المفسرين قالوا معنى { تمنى } : تلا وقرأ كتاب الله ، ومعنى { أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ } أي في تلاوته وقراءته . قال ابن جرير : هذا القول أشبه بتأويل الكلام ، ويؤيد هذا ما تقدّم في تفسير قوله : { لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِىَّ } [ البقرة : 78 ] . وقيل : معنى { تمنى } : حدّث ، ومعنى { أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ } في حديثه ، روي هذا عن ابن عباس ، وقيل : معنى { تمنى } : قال . فحاصل معنى الآية : أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جرى على لسانه ، فتكون هذه الآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي لا يهولنك ذلك ولا يحزنك ، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء ، وعلى تقدير أن معنى { تمنى } : حدّث نفسه كما حكاه الفرّاء والكسائي فإنهما قالا : تمنى إذا حدّث نفسه ، فالمعنى : أنه إذا حدّث نفسه بشيء تكلم به الشيطان وألقاه في مسامع الناس من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جرى على لسانه . قال ابن عطية : لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة وقعت بها الفتنة . وقد قيل في تأويل الآية : إن المراد بالغرانيق : الملائكة ، ويردّ بقوله : { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان } أي يبطله ، وشفاعة الملائكة غير باطلة؛ وقيل : إن ذلك جرى على لسانه صلى الله عليه وسلم سهواً ونسياناً وهما مجوّزان على الأنبياء ، ويرد بأن السهو والنسيان فيما طريقه البلاغ غير جائز كما هو مقرّر في مواطنه ، ثم لما سلاه الله سبحانه بهذه التسلية وأنها قد وقعت لمن قبله من الرسل والأنبياء بيّن سبحانه أنه يبطل ذلك ولا يثبته ولا يستمر تغرير الشيطان به فقال : { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان } أي : يبطله ويجعله ذاهباً غير ثابت { ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته } أي يثبتها { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : كثير العلم والحكمة في كل أقواله وأفعاله .
وجملة { لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً } للتعليل ، أي ذلك الإلقاء الذي يلقيه الشيطان فتنة ، أي ضلالة { لّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي شكّ ونفاق { والقاسية قُلُوبُهُمْ } : هم المشركون ، فإن قلوبهم لا تلين للحق أبداً ولا ترجع إلى الصواب بحال ، ثم سجل سبحانه على هاتين الطائفتين : وهما : من في قلبه مرض ، ومن في قلبه قسوة بأنهم ظالمون فقال : { وَإِنَّ الظالمين لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي عداوة شديدة ، ووصف الشقاق بالبعد مبالغة ، والموصوف به في الحقيقة من قام به .
ولما بين سبحانه أن ذلك الإلقاء كان فتنة في حقّ أهل النفاق والشكّ والشرك بيّن أنه في حقّ المؤمنين العالمين بالله العارفين به سبب لحصول العلم لهم بأن القرآن حقّ وصدق فقال : { وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ } أي : الحقّ النازل من عنده . وقيل : إن الضمير في { أنه } راجع إلى تمكين الشيطان من الإلقاء ، لأنه مما جرت به عادته مع أنبيائه ، ولكنه يردّ هذا قوله : { فَيُؤْمِنُواْ بِهِ } فإن المراد الإيمان بالقرآن ، أي يثبتوا على الإيمان به { فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } أي تخشع وتسكن وتنقاد ، فإن الإيمان به وإخبات القلوب له لا يمكن أن يكونا تمكين من الشيطان بل للقرآن { وإن الله لهاد الذين آمنوا } في أمور دينهم { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } أي طريق صحيح لاعوج به . وقرأ أبو حيوة : « وإن الله لهاد الذين آمنوا » بالتنوين .
{ وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ } أي في شكّ من القرآن . وقيل : في الدين الذي يدل عليه ذكر الصراط المستقيم . وقيل : في إلقاء الشيطان ، فيقولون : ما باله ذكر الأصنام بخير ثم رجع عن ذلك؟ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : « في مرية » بضم الميم { حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة } أي القيامة { بَغْتَةً } أي فجأة { أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } وهو يوم القيامة؛ لأنه لا يوم بعده ، فكان بهذا الاعتبار عقيماً ، والعقيم في اللغة من لا يكون له ولد ، ولما كانت الأيام تتوالى جعل ذلك كهيئة الولادة ، ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم ، وصف بالعقم . وقيل : يوم حرب يقتلون فيه كيوم بدر . وقيل : إن اليوم وصف بالعقم ، لأنه لا رأفة فيه ولا رحمة ، فكأنه عقيم من الخير ، ومنه قوله تعالى : { إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم } [ الذاريات : 41 ] أي التي لا خير فيها ولا تأتي بمطر .
{ الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ } أي السلطان القاهر والاستيلاء التامّ : يوم القيامة لله سبحانه وحده لا منازع له فيه ولا مدافع له عنه ، وجملة : { يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } مستأنفة جواباً عن سؤال مقدّر ، ثم فسر هذا الحكم بقوله سبحانه : { فالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي جنات النعيم } أي كائنون فيها مستقرّون في أرضها منغمسون في نعيمها { والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا } أي جمعوا بين الكفر بالله والتكذيب بآياته { فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي عذاب متصف بأنه مهين للمعذبين بالغ منهم المبلغ العظيم .
وقد أخرج عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف ، عن عمرو بن دينار قال : كان ابن عباس يقرأ : « وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيّ وَلاَ مُّحْدَثٍ » . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف مثله ، وزاد : فنسخت محدّث ، قال : والمحدّثون : صاحب ياس ولقمان ، ومؤمن آل فرعون ، وصاحب موسى .
وأخرج البزار والطبراني وابن مردويه ، والضياء في المختارة . قال السيوطي : بسند رجاله ثقات ، من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : « أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى ، تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى » . ففرح المشركون بذلك وقالوا : قد ذكر آلهتنا ، فجاءه جبريل فقال : اقرأ عليّ ما جئت به ، فقرأ : { أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى ، تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى } فقال : ما أتيتك بهذا ، هذا من الشيطان ، فأنزل الله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى } الآية . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، قال السيوطي : بسند صحيح عن سعيد بن جبير ، قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة النجم ، فذكر نحوه ، ولم يذكر ابن عباس . وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية والسديّ عن سعيد مرسلاً . ورواه عبد بن حميد عن السديّ عن أبي صالح مرسلاً . ورواه ابن أبي حاتم عن ابن شهاب مرسلاً . وأخرج ابن جرير ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نحوه مرسلاً أيضاً . والحاصل : أن جميع الروايات في هذا الباب إما مرسلة أو منقطعة لا تقوم الحجة بشيء منها . وقد أسلفنا عن الحفاظ في أوّل هذا البحث ما فيه كفاية ، وفي الباب روايات من أحبّ الوقوف على جميعها فلينظرها في الدرّ المنثور للسيوطي ، ولا يأتي التطويل بذكرها هنا بفائدة ، فقد عرّفناك أنها جميعها لا تقوم بها الحجة .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { حتى إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ } يقول : إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه . وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك ، قال : يعني بالتمني التلاوة والقراءة ، ألقى الشيطان في أمنيته : في تلاوته { فَيَنسَخُ الله } ينسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان على لسان النبيّ . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن مجاهد : { إِذَا تمنى } قال : تكلم { فِي أُمْنِيَّتِهِ } قال : كلامه . وأخرج ابن مردويه ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس في قوله : { عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } قال : يوم بدر . وأخرج ابن مردويه عن أبيّ بن كعب نحوه . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير : { عذاب يوم عقيم } ، قال : يوم بدر . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير وعكرمة مثله . وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : يوم القيامة لا ليلة له . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مثله . وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الضحاك مثله .
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
أفرد سبحانه المهاجرين بالذكر تخصيصاً لهم بمزيد الشرف ، فقال : { والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله } قال بعض المفسرين : هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة . وقال بعضهم : الذين هاجروا من الأوطان في سرية أو عسكر ، ولا يبعد حمل ذلك على الأمرين ، والكلّ من سبيل الله { ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ } أي في حال المهاجرة ، واللام في { لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً } جواب قسم محذوف ، والجملة خبر الموصول بتقدير القول ، وانتصاب { رزقاً } على أنه مفعول ثانٍ ، أي : مرزوقاً حسناً ، أو على أنه مصدر مؤكدة ، والرزق الحسن هو نعيم الجنة الذي لا ينقطع وقيل هو الغنيمة لأنه حلال . وقيل : هو العلم والفهم كقول شعيب : { وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا } [ هود : 88 ] . قرأ ابن عامر وأهل الشام : « ثم قتلوا » بالتشديد على التكثير ، وقرأ الباقون بالتخفيف { وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين } فإنه سبحانه يرزق بغير حساب ، وكل رزق يجري على يد العباد لبعضهم البعض ، فهو منه سبحانه ، لا رازق سواه ولا معطي غيره ، والجملة تذييل مقرّرة لما قبلها .
وجملة : { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ } مستأنفة ، أو بدل من جملة : { ليرزقنهم الله } . قرأ أهل المدينة : « مدخلاً » بفتح الميم ، وقرأ الباقون بضمها ، وهو اسم مكان أريد به الجنة ، وانتصابه على أنه مفعول ثانٍ أو مصدر ميمي مؤكد للفعل المذكور ، وقد مضى الكلام على مثل هذا في سورة سبحان . وفي هذا من الامتنان عليهم والتبشير لهم ما لا يقادر قدره ، فإن المدخل الذي يرضونه هو الأوفق لنفوسهم والأقرب إلى مطلبهم ، على أنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، وذلك هو الذي يرضونه وفوق الرضا { وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ } بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم { حَلِيمٌ } عن تفريط المفرطين منهم لا يعاجلهم بالعقوبة .
والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدّم . قال الزجاج : أي الأمر ما قصصنا عليكم من إنجاز الوعد للمهاجرين خاصة إذا قتلوا أو ماتوا ، فهو على هذا خبر مبتدأ محذوف ، ومعنى { وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ } : من جازى الظالم بمثل ما ظلمه . وسمي الابتداء باسم الجزاء مشاكلة كقوله تعالى : { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] . وقوله تعالى : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ] . والعقوبة في الأصل إنما تكون بعد فعل تكون جزاء عنه . والمراد بالمثلية : أنه اقتصر على المقدار الذي ظلم به ولم يزد عليه ، ومعنى { ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ } : أن الظالم له في الابتداء عاوده بالمظلمة بعد تلك المظلمة الأولى . قيل : المراد بهذا البغي : هو ما وقع من المشركين من إزعاج المسلمين من أوطانهم بعد أن كذبوا نبيهم وآذوا من آمن به ، واللام في { لَيَنصُرَنَّهُ الله } جواب قسم محذوف ، أي لينصرن الله المبغيّ عليه على الباغي { إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } أي كثير العفو والغفران للمؤمين فيما وقع منهم من الذنوب .
وقيل : العفو والغفران لما وقع من المؤمنين من ترجيح الانتقام على العفو . وقيل : إن معنى { ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ } أي ثم كان المجازي مبغياً عليه ، أي مظلوماً ، ومعنى ثم تفاوت الرتبة ، لأن الابتداء بالقتال معه نوع ظلم كما قيل في أمثال العرب : البادي أظلم . وقيل : إن هذه الآية مدنية ، وهي في القصاص والجراحات .
والإشارة بقوله : { ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ اليل فِي النهار } إلى ما تقدّم من نصر الله سبحانه للمبغيّ عليه ، وهو مبتدأ وخبره جملة : { بأن الله يولج } ، والباء للسببية ، أي ذلك بسبب أنه سبحانه قادر ، ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل ، وعبر عن الزيادة بالإيلاج ، لأن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر ، والمراد تحصيل أحد العرضين في محل الآخر . وقد مضى في آل عمران معنى هذا الإيلاج { وَأَنَّ الله سَمِيعٌ } يسمع كلّ مسموع { بَصِيرٌ } يبصر كلّ مبصر ، أو سميع للأقوال مبصر للأفعال ، فلا يعزب عنه مثقال ذرة .
والإشارة بقوله : { ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق } إلى ما تقدّم من اتصافه سبحانه بكمال القدرة الباهرة والعلم التام ، أي هو سبحانه ذو الحق ، دينه حقّ ، وعبادته حقّ ، ونصره لأوليائه على أعدائه حقّ ، ووعده حقّ ، فهو عزّ وجلّ في نفسه وأفعاله وصفاته حقّ { وَإِن مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الباطل } قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة « تدعون » بالفوقية على الخطاب للمشركين ، واختار هذه القراءة أبو حاتم . وقرأ الباقون بالتحتية على الخبر ، واختار هذه القراءة أبو عبيدة . والمعنى : إن الذين تدعونه إلها ، وهي الأصنام ، هو الباطل الذي لا ثبوت له ولا لكونه إلها { وَأَنَّ الله هُوَ العلي } أي العالي على كلّ شيء بقدرته المتقدّس على الأشباه والأنداد المتنزه عما يقول الظالمون من الصفات { الكبير } أي ذو الكبرياء ، وهو عبارة عن كمال ذاته وتفرّده بالإلهية .
ثم ذكر سبحانه دليلاً بيناً على كمال قدرته ، فقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً } الاستفهام للتقرير ، والفاء للعطف على { أنزل } وارتفع الفعل بعد الفاء لكون استفهام التقرير بمنزلة الخبر كما قاله الخليل وسيبويه . قال الخليل : المعنى أنزل من السماء ماء فكان كذا وكذا ، كما قال الشاعر :
ألم تسأل الربع القواء فينطق ... وهل يخبرنك اليوم بيداء سملق
معناه : قد سألته فنطق . قال الفراء : { ألم ترَ } خبر ، كما تقول في الكلام : إن الله ينزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرّة ، أي ذات خضرة كما تقول مبقلة ومسبعة ، أي ذوات بقل وسباع ، وهو عبارة عن استعجالها أثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة ، وصيغة الاستقبال ، لاستحضار صورة الاخضرار مع الإشعار بتجدد الإنزال واستمراره ، وهذا المعنى لا يحصل إلا بالمستقبل ، والرفع هنا متعين؛ لأنه لو نصب لانعكس المعنى المقصود من الآية فينقلب إلى نفي الاخضرار ، والمقصود إثباته .
قال ابن عطية : هذا لا يكون ، يعني الاخضرار في صباح ليلة المطر إلا بمكة وتهامة . والظاهر أن المراد بالاخضرار اخضرار الأرض في نفسها لا باعتبار النبات فيها كما في قوله : { فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ } [ الحج : 5 ] . والمراد بقوله : { إِنَّ الله لَطِيفٌ } أنه يصل علمه إلى كل دقيق وجليل . وقيل : لطيف بأرزاق عباده . وقيل : لطيف باستخراج النبات ، ومعنى { خَبِيرٌ } أنه ذو خبرة بتدبير عباده وما يصلح لهم . وقيل : خبير بما ينطوون عليه من القنوط عند تأخير المطر . وقيل : خبير بحاجتهم وفاقتهم .
{ لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض } خلقاً وملكاً وتصرّفاً وكلهم محتاجون إلى رزقه { وَإِنَّ الله لَهُوَ الغني } فلا يحتاج إلى شيء { الحميد } المستوجب للحمد في كل حال { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الارض } هذه نعمة أخرى ذكرها الله سبحانه ، فأخبر عباده بأنه سخر لهم ما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار وجعله لمنافعهم { والفلك } عطف على ما ، أو على اسم أن ، أي وسخر لكم الفلك في حال جريها في البحر ، وقرأ عبد الرحمن الأعرج : « والفلك » بالرفع على الابتداء وما بعده خبره ، وقرأ الباقون بالنصب . ومعنى { تَجْرِي فِي البحر بِأَمْرِهِ } أي بتقديره ، والجملة في محل نصب على الحال على قراءة الجمهور { وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض } أي كراهة أن تقع ، وذلك بأنه خلقها على صفة مستلزمة للإمساك ، والجملة معطوفة على تجري { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } أي بإرادته ومشيئته ، وذلك يوم القيامة { إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } أي : كثير الرأفة والرحمة حيث سخر هذه الأمور لعباده وهيأ لهم أسباب المعاش ، وأمسك السماء أن تقع على الأرض فتهلكهم تفضلاً منه عل عباده وإنعاماً عليهم .
ثم ذكر سبحانه نعمة أخرى فقال : { وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ } بعد أن كنتم جماداً { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عند انقضاء أعماركم { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } عند البعث للحساب والعقاب { إنْ الإنسان لَكَفُورٌ } أي كثير الجحود لنعم الله عليه مع كونها ظاهرة غير مستترة ، ولا ينافي هذا خروج بعض الأفراد عن هذا الجحد؛ لأن المراد وصف جميع الجنس بوصف من يوجد فيه ذلك من أفراده مبالغة .
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن سلمان الفارسي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر ، وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين ، واقرؤوا إن شئتم { والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ } إلى قوله : { حَلِيمٌ } »
وإسناد ابن أبي حاتم هكذا : حدّثنا المسيب بن واضح ، حدّثنا ابن المبارك عن عبد الرحمن بن شريح عن عبد الكريم بن الحارث عن أبي عقبة ، يعني : أبا عبيدة بن عقبة قال : قال شرحبيل بن السمط : طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم ، فمرّ بي سلمان : يعني : الفارسي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابي أنه كان برودس ، فمرّوا بجنازتين أحدهما قتيل والآخر متوفى ، فمال الناس عن القتيل ، فقال فضالة : مالي أرى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا؟ فقالوا : هذا القتيل في سبيل الله ، فقال : والله ما أبالي من أيّ حفرتيهما بعثت اسمعوا كتاب الله { والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ } الآية . وإسناده عند ابن أبي حاتم هكذا : حدّثنا أبو زرعة عن زيد بن بشر أخبرني ضمام؛ أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المغافري يقولان : كنا برودس ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره . قلت : ويؤيد هذا قول الله سبحانه : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مهاجرا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } [ النساء : 100 ] . وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله : { وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ } قال : إن النبيّ بعث سرية في ليلتين بقيتا من المحرم فلقوا المشركين ، فقال المشركون بعضهم لبعض : قاتلوا أصحاب محمد فإنهم يحرمون القتال في الشهر الحرام ، وإن أصحاب محمد ناشدوهم وذكروهم بالله أن يعرضوا لقتالهم فإنهم لا يستحلون القتال في الشهر الحرام إلا من بادأهم ، وإن المشركين بدأوا فقاتلوهم ، فاستحلّ الصحابة قتالهم عند ذلك فقاتلوهم ونصرهم الله عليهم . وهو مرسل . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : { وَمَنْ عَاقَبَ } الآية قال : تعاون المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأخرجوه ، فوعده الله أن ينصره ، وهو في القصاص أيضاً . وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد { وَإِن مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الباطل } قال : الشيطان . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : { إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ } قال : يعدّ المصيبات وينسى النعم .
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
عاد سبحانه إلى بيان أمر التكاليف مع الزجر لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الأديان عن منازعته فقال : { لّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً } أي لكلّ قرن من القرون الماضية وضعنا شريعة خاصة ، بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى شريعة أخرى ، وجملة : { وَهُمْ نَاسِكُوهُ } صفة ل { منسكاً } ، والضمير لكل أمة ، أي تلك الأمة هي العاملة به لا غيرها ، فكانت التوراة منسك الأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى ، والإنجيل منسك الأمة التي من مبعث عيسى إلى مبعث محمد صلى الله عليه وسلم . والقرآن منسك المسلمين ، والمنسك : مصدر لا اسم مكان كما يدلّ عليه : { هم ناسكوه } ، ولم يقل : ناسكون فيه . وقيل : المنسك : موضع أداء الطاعة ، وقيل : هو الذبائح ، ولا وجه للتخصيص ، ولا اعتبار بخصوص السبب ، والفاء في قوله : { فَلاَ ينازعنك فِي الأمر } لترتيب النهي على ما قبله ، والضمير راجع إلى الأمم الباقية آثارهم ، أي : قد عينا لكل أمة شريعة ، ومن جملة الأمم هذه الأمة المحمدية ، وذلك موجب لعدم منازعة من بقي منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومستلزم لطاعتهم إياه في أمر الدين ، والنهي إما على حقيقته ، أو كناية عن نهيه عن الالتفات إلى نزاعهم له . قال الزجاج : إنه نهي له صلى الله عليه وسلم عن منازعتهم ، أي لا تنازعهم أنت ، كما تقول لا يخاصمك فلان أي : لا تخاصمه ، وكما تقول لا يضاربنك فلان ، أي لا تضاربه ، وذلك أن المفاعلة تقتضي العكس ضمناً ، ولا يجوز لا يضربنك فلان وأنت تريد : لا تضربه . وحكي عن الزجاج أنه قال في معنى الآية : فلا ينازعنك ، أي فلا يجادلنك . قال : ودلّ على هذا { وَإِن جادلوك } وقرأ أبو مجلز : « فلا ينزعنك في الأمر » أي لا يستخفنك ولا يغلبنك على دينك . وقرأ الباقون : { ينازعنك } من المنازعة { وادع إلى رَبّكَ } أي وادع هؤلاء المنازعين ، أو ادع الناس على العموم إلى دين الله وتوحيده والإيمان به { إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ } أي طريق مستقيم لا اعوجاج فيه .
{ وَإِن جادلوك } أي وإن أبوا إلا الجدال بعد البيان لهم وظهور الحجة عليهم { فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي فكل أمرهم إلى الله وقل لهم هذا القول المشتمل على الوعيد { الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } أي بين المسلمين والكافرين { يَوْمَ القيامة فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من أمر الدين فيتبين حينئذٍ الحق من الباطل ، وفي هذه الآية تعليم لهذه الأمة بما ينبغي لهم أن يجيبوا به من أراد الجدال بالباطل وقيل : إنها منسوخة بآية السيف .
وجملة { أَلَمْ تَعْلَمْ } مستأنفة مقرّرة لمضمون ما قبلها .
والاستفهام للتقرير ، أي قد علمت يا محمد وتيقنت { أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماء والأرض } ومن جملة ذلك ما أنتم فيه مخلتفون { إِنَّ ذلك } الذي في السماء والأرض من معلوماته { فِى كتاب } أي مكتوب عنده في أمّ الكتاب { إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ } أي إن الحكم منه سبحانه بين عباده فيما يختلفون فيه يسير عليه غير عسير ، أو إن إحاطة علمه بما في السماء والأرض يسير عليه .
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا } هذا حكاية لبعض فضائحهم ، أي إنهم يعبدون أصناماً لم يتمسكوا في عبادتها بحجة نيرة من الله سبحانه { وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ } من دليل عقل يدلّ على جواز ذلك بوجه من الوجوه { وَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ } ينصرهم ويدفع عنهم عذاب الله ، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية في آل عمران ، وجملة : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ } معطوفة على يعبدون ، وانتصاب بينات على الحال ، أي حال كونها واضحات ظاهرات الدلالة { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر } أي الأمر الذي ينكر ، وهو غضبهم وعبوسهم عند سماعها ، أو المراد بالمنكر : الإنكار ، أي تعرف في وجوههم إنكارها . وقيل : هو التجبر والترفع ، وجملة : { يكادون يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتنا } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : ما ذلك المنكر الذي يعرف في وجوههم؟ فقيل : يكادون يسطون ، أي يبطشون ، والسطوة : شدّة البطش ، يقال : سطا به يسطو إذا بطش به بضرب ، أو شتم ، أو أخذ باليد ، وأصل السطو : القهر .
وهكذا ترى أهل البدع المضلة إذا سمع الواحد منهم ما يتلوه العالم عليهم من آيات الكتاب العزيز ، أو من السنة الصحيحة مخالفاً لما اعتقده من الباطل والضلالة رأيت في وجهه من المنكر ما لو تمكن من أن يسطو بذلك العالم لفعل به ما لا يفعله بالمشركين ، وقد رأينا وسمعنا من أهل البدع ما لا يحيط به الوصف ، والله ناصر الحقّ ومظهر الدين وداحض الباطل ودامغ البدع وحافظ المتكلمين بما أخذه عليهم ، المبينين للناس ما نزل إليهم ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
ثم أمر رسوله أن يردّ عليهم . فقال : { قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم } أي أخبركم { بِشَرّ مّن ذلكم } الذي فيكم من الغيظ على من يتلو عليكم آيات الله ومقاربتكم للوثوب عليهم ، وهو النار التي أعدّها الله لكم ، فالنار مرتفعة على أنها خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل : ما هذا الأمر الذي هو شرّ مما نكابده ونناهده عند سماعنا ما تتلوه علينا؟ فقال : هو { النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ } وقيل : إن { النار } مبتدأ وخبره جملة : { وعدها الله الذين كفروا } وقيل : المعنى : أفأخبركم بشرّ مما يلحق تالي القرآن منكم من الأذى والتوعد لهم والتوثب عليهم؟ وقرىء « النار » بالنصب على تقدير : أعني .
وقرىء بالجرّ بدلاً من شرّ { وَبِئْسَ المصير } أي الموضع الذي تصيرون إليه ، وهو النار .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { هُمْ نَاسِكُوهُ } قال : يعني : هم ذابحوه { فَلاَ ينازعنك فِى الأمر } يعني : في أمر الذبح . وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه أيضاً . وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال : { فَلاَ ينازعنك فِى الأمر } قول أهل الشرك : أما ما ذبح الله بيمينه فلا تأكلوه ، وأما ما ذبحتم بأيديكم فهو حلال .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : خلق الله اللوح المحفوظ لمسيرة مائة عام ، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش : اكتب ، قال : ما أكتب؟ قال : علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة ، فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة ، فذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماء والأرض } يعني : ما في السموات السبع والأرضين السبع . { إِنَّ ذلك } العلم { فِي كتاب } يعني : في اللوح المحفوظ مكتوب قبل أن يخلق السموات والأرضين { إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ } يعني : هين . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { يكادون يَسْطُونَ } يبطشون .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
قوله : { يأَيُّهَا الناس ضُرِبَ مَثَلٌ } هذا متصل بقوله : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا } [ الحج : 71 ] قال الأخفش : ليس ثم مثل ، وإنما المعنى : ضربوا لي مثلاً { فاستمعوا } قولهم ، يعني : أن الكفار جعلوا لله مثلاً بعبادتهم غيره ، فكأنه قال : جعلوا لي شبهاً في عبادتي فاستمعوا خبر هذا الشبه . وقال القتيبي : إن المعنى : يا أيها الناس ، مثل من عبد آلهة لم تستطع أن تخلق ذباباً ، وإن سلبها شيئاً لم تستطع أن تستنقذه منه . قال النحاس : المعنى ضرب الله عزّ وجلّ لما يعبدونه من دونه مثلاً . قال : وهذا من أحسن ما قيل فيه ، أي بين الله لكم شبهاً ولمعبودكم . وأصل المثل : جملة من الكلام متلقاة بالرضا والقبول ، مسيرة في الناس مستغربة عندهم ، وجعلوا مضربها مثلاً لموردها ، ثم قد يستعيرونها للقصة أو الحالة أو الصفة المستغربة لكونها مماثلة لها في الغرابة كهذه القصة المذكورة في هذه الآية . والمراد بما يدعونه من دون الله : الأصنام التي كانت حول الكعبة وغيرها . وقيل : المراد بهم : السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله لكونهم أهل الحلّ والعقد فيهم . وقيل : الشياطين الذين حملوهم على معصية الله ، والأوّل أوفق بالمقام وأظهر في التمثيل ، والذباب : اسم للواحد يطلق على الذكر والأنثى ، وجمع القلة أذبة ، والكثرة ذبان مثل غراب وأغربة وغربان . وقال الجوهري : الذباب معروف ، الواحد ذبابة . والمعنى : لن يقدروا على خلقه مع كونه صغير الجسم حقير الذات ، وجملة : { وَلَوِ اجتمعوا لَهُ } معطوفة على جملة أخرى شرطية محذوفة ، أي لو لم يجتمعوا له لن يخلقوه ولو اجتمعوا له ، والجواب محذوف والتقدير : لن يخلقوه وهما في محل نصب على الحال ، أي لن يخلقوه على كلّ حال .
ثم بين سبحانه كمال عجزهم وضعف قدرتهم فقال : { وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } أي إذا أخذ منهم الذباب شيئاً من الأشياء لا يقدرون على تخليصه منه لكمال عجزهم وفرط ضعفهم ، والاستنقاذ والإنقاذ : التخلص ، وإذا عجزوا عن خلق هذا الحيوان الضعيف ، وعن استنقاذ ما أخذه عليهم؛ فهم عن غيره مما هو أكبر منه جرماً وأشدّ منه قوّة؛ أعجز وأضعف ، ثم عجب سبحانه من ضعف الأصنام والذباب ، فقال : { ضَعُفَ الطالب والمطلوب } فالصنم كالطالب من حيث إنه يطلب خلق الذباب أو يطلب استنقاذ ما سلبه منه ، والمطلوب : الذباب . وقيل : الطالب عابد الصنم ، والمطلوب : الصنم ، وقيل : الطالب : الذباب ، والمطلوب : الآلهة .
ثم بين سبحانه أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهة عاجزة إلى هذه الغاية في العجز ، ما عرفوا الله حقّ معرفته فقال : { مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } أي ما عظموه حقّ تعظيمه ولا عرفوه حقّ معرفته ، حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له مع كون حالها هذا الحال ، وقد تقدّم في الأنعام { إِنَّ الله لَقَوِيٌّ } على خلق كل شيء { عَزِيزٌ } غالب لا يغالبه أحد ، بخلاف آلهة المشركين ، فإنها جماد لا تعقل ولا تنفع ولا تضرّ ولا تقدر على شيء .
ثم أراد سبحانه أن يردّ عليهم ما يعتقدونه في النبوّات والإلهيات فقال : { الله يَصْطَفِى مِنَ الملائكة رُسُلاً } كجبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل ويصطفي أيضاً رسلاً { مِنَ الناس } وهم الأنبياء ، فيرسل الملك إلى النبيّ ، والنبيّ إلى الناس ، أو يرسل الملك لقبض أرواح مخلوقاته ، أو لتحصيل ما ينفعهم ، أو لإنزال العذاب عليهم { إِنَّ الله سَمِيعٌ } لأقوال عباده { بَصِيرٌ } بمن يختاره من خلقه { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي ما قدّموا من الأعمال وما يتركونه من الخير والشرّ كقوله تعالى : { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءَاثَارَهُمْ } [ ياس : 12 ] . { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } لا إلى غيره .
ولما تضمن ما ذكره من أن الأمور ترجع إليه ، الزجر لعباده عن معاصيه ، والحضّ لهم على طاعاته؛ صرح بالمقصود فقال : { يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ اركعوا واسجدوا } أي صلوا الصلاة التي شرعها الله لكم ، وخصّ الصلاة لكونها أشرف العبادات ، ثم عمّم فقال : { وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ } أي افعلوا جميع أنواع العبادة التي أمركم الله بها { وافعلوا الخير } أي ما هو خير ، وهو أعم من الطاعة الواجبة والمندوبة . وقيل : المراد بالخير هنا : المندوبات . ثم علل ذلك بقوله : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي إذا فعلتم هذه كلها رجوتم الفلاح . وهذه الآية من مواطن سجود التلاوة عند الشافعي ومن وافقه ، لا عند أبي حنيفة ومن قال بقوله ، وقد تقدّم أن هذه السورة فضلت بسجدتين ، وهذا دليل على ثبوت السجود عند تلاوة هذه الآية .
ثم أمرهم بما هو سنام الدين وأعظم أعماله ، فقال : { وجاهدوا فِي الله } أي في ذاته ومن أجله ، والمراد به الجهاد الأكبر ، وهو الغزو للكفار ومدافعتهم إذا غزوا بلاد المسلمين ، وقيل : المراد بالجهاد هنا : امتثال ما أمرهم الله به في الآية المتقدّمة ، أو امتثال جميع ما أمر به ونهى عنه على العموم ، ومعنى { حَقَّ جهاده } : المبالغة في الأمر بهذا الجهاد؛ لأنه أضاف الحق إلى الجهاد ، والأصل إضافة الجهاد إلى الحق ، أي جهاداً خالصاً لله ، فعكس ذلك لقصد المبالغة ، وأضاف الجهاد إلى الضمير اتساعاً ، أو لاختصاصه به سبحانه من حيث كونه مفعولاً له ومن أجله . وقيل : المراد { بحق جهاده } : هو أن لا تخافوا في الله لومة لائم . وقيل : المراد به استفراغ ما في وسعهم في إحياء دين الله . وقال مقاتل والكلبي : إن الآية منسوخة بقوله تعالى : { فاتقوا الله مَا استطعتم } [ التغابن : 16 ] . كما أن قوله : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] منسوخ بذلك ، ورد ذلك بأن التكليف مشروط بالقدرة ، فلا حاجة إلى المصير إلى النسخ .
ثم عظم سبحانه شأن المكلفين بقوله : { هُوَ اجتباكم } أي اختاركم لدينه ، وفيه تشريف لهم عظيم . ثم لما كان في التكليف مشقة على النفس في بعض الحالات قال : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ } أي من ضيق وشدّة .
وقد اختلف العلماء في هذا الحرج الذي رفعه الله ، فقيل : هو ما أحله الله من النساء مثنى وثلاث ورباع وملك اليمين . وقيل : المراد : قصر الصلاة ، والإفطار للمسافر ، والصلاة بالإيماء على من لا يقدر على غيره ، وإسقاط الجهاد عن الأعرج والأعمى والمريض ، واغتفار الخطأ في تقديم الصيام وتأخيره لاختلاف الأهلة ، وكذا في الفطر والأضحى . وقيل : المعنى : أنه سبحانه ما جعل عليهم حرجاً بتكليف ما يشق عليهم ، ولكن كلفهم بما يقدرون عليه ، ورفع عنهم التكاليف التي فيها حرج ، فلم يتعبدهم بها كما تعبد بها بني إسرائيل . وقيل : المراد بذلك : أنه جعل لهم من الذنب مخرجاً بفتح باب التوبة وقبول الاستغفار والتكفير فيما شرع فيه الكفارة والأرش ، أو القصاص في الجنايات ، وردّ المال أو مثله أو قيمته في الغصب ونحوه . والظاهر أن الآية أعمّ من هذا كله ، فقط حطّ سبحانه ما فيه مشقة من التكاليف على عباده : إما بإسقاطها من الأصل وعدم التكليف بها كما كلف بها غيرهم ، أو بالتخفيف وتجويز العدول إلى بدل لا مشقة فيه ، أو بمشروعية التخلص عن الذنب بالوجه الذي شرعه الله ، وما أنفع هذه الآية وأجلّ موقعها وأعظم فائدتها ، ومثلها قوله سبحانه : { فاتقوا الله مَا استطعتم } [ التغابن : 16 ] ، وقوله : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } [ البقرة : 185 ] . وقوله : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [ البقرة : 286 ] . وفي الحديث الصحيح أنه سبحانه قال : « قد فعلت » كما سبق بيانه في تفسير هذه الآية ، والأحاديث في هذا كثيرة .
وانتصاب ملة في { مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم } على المصدرية بفعل دلّ عليه ما قبله أي وسع عليكم دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم . وقال الزجاج : المعنى اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم . وقال الفراء : انتصب على تقدير حذف الكاف ، أي كملة ، وقيل : التقدير : وافعلوا الخير كفعل أبيكم إبراهيم ، فأقام الملة مقام الفعل . وقيل : على الإغراء . وقيل : على الاختصاص ، وإنما جعله سبحانه أباهم لأنه أبو العرب قاطبة ، ولأن له عند غير العرب الذين لم يكونوا من ذريته حرمة عظيمة كحرمة الأب على الابن لكونه أبا لنبيهم صلى الله عليه وسلم : { هُوَ سماكم المسلمين مِن قَبْلُ } أي في الكتب المتقدّمة { وَفِي هذا } أي القرآن ، والضمير لله سبحانه . وقيل : راجع إلى إبراهيم . والمعنى : هو ، أي إبراهيم ، سماكم المسلمين من قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا ، أي في حكمه ، أن من اتبع محمداً فهو مسلم .
قال النحاس : وهذا القول مخالف لقول علماء الأمة . ثم علل سبحانه ذلك بقوله : { لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ } أي بتبليغه إليكم { وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } أن رسلهم قد بلغتهم ، وقد تقدّم بيان معنى هذه الآية في البقرة . ثم أمرهم بما هو أعظم الأركان الإسلامية فقال : { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } وتخصيص الخصلتين بالذكر لمزيد شرفهما { واعتصموا بالله } أي اجعلوه عصمة لكم مما تحذرون ، والتجؤوا إليه في جميع أموركم ، ولا تطلبوا ذلك إلاّ منه { هُوَ مولاكم } أي ناصركم ومتولي أموركم دقيقها وجليلها { فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير } أي لا مماثل له في الولاية لأموركم والنصرة على أعدائكم . وقيل : المراد بقوله : { واعتصموا بالله } : تمسكوا بدين الله . وقيل : ثقوا به تعالى .
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { يأَيُّهَا الناس ضُرِبَ مَثَلٌ } قال : نزلت في صنم . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه : { ضَعُفَ الطالب والمطلوب } قال : الطالب آلهتهم ، والمطلوب الذباب . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة في قوله : { لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } قال : لا تستنقذ الأصنام ذلك الشيء من الذباب . وأخرج الحاكم وصححه عنه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله اصطفى موسى بالكلام ، وإبراهيم بالخلة » وأخرج أيضاً عن أنس وصححه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « موسى بن عمران صفي الله » وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف قال : قال لي عمر : ألسنا كنا نقرأ فيما نقرأ : وجاهدوا في الله حق جهاده في آخر الزمان كما جاهدتم في أوّله؟ قلت : بلى فمتى هذا يا أمير المؤمنين؟ قال : إذا كانت بنو أمية الأمراء ، وبنو المغيرة الوزراء . وأخرجه البيهقي في الدلائل عن المسور بن مخرمة قال : قال عمر لعبد الرحمن بن عوف فذكره . وأخرج الترمذي وصححه وابن حبان وابن مردويه والعسكري في الأمثال عن فضالة بن عبيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله » وأخرج ابن جرير ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن عائشة؛ أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ } قال : « الضيق » وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد قال : قال أبو هريرة لابن عباس : أما علينا في الدين من حرج في أن نسرق أو نزني؟ قال : بلى ، قال : فما جعل عليكم في الدين من حرج ، قال : الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنكم . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن شهاب أن ابن عباس كان يقول : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } توسعة الإسلام ، ما جعل الله من التوبة والكفارات .
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عثمان بن يسار عن ابن عباس : { مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } قال : هذا في هلال رمضان إذا شكّ فيه الناس ، وفي الحج إذا شكوا في الأضحى ، وفي الفطر وأشباهه . وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير : أن ابن عباس سئل عن الحرج فقال : ادع لي رجلاً من هذيل ، فجاءه فقال : مما الحرج فيكم؟ قال : الحرجة من الشجر التي ليس فيها مخرج ، فقال ابن عباس : الذي ليس له مخرج . وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر ، والبيهقي في سننه من طريق عبيد الله بن أبي يزيد ، أن ابن عباس سئل عن الحرج فقال : ها هنا أحد من هذيل؟ قال رجل : أنا ، فقال : ما تعدّون الحرجة فيكم؟ قال : الشيء الضيق ، قال : هو ذاك . وأخرج البيهقي في سننه عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال : قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ } ثم قال لي : ادع لي رجلاً من بني مدلج ، قال عمر : ما الحرج فيكم؟ قال : الضيق .
وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في قوله : { مّلَّةَ أَبِيكُمْ } قال : دين أبيكم . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : { سماكم المسلمين مِن قَبْلُ } قال الله عزّ وجلّ : سماكم . وروي نحوه عن جماعة من التابعين . وأخرج الطيالسي وأحمد ، والبخاري في تاريخه ، والترمذي وصححه ، والنسائي وأبو يعلى وابن خزيمة وابن حبان والبغوي والبارودي وابن قانع والطبراني والحاكم وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن الحارث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من دعا بدعوة الجاهلية فإنه من جثي جهنم » ، قال رجل : يا رسول الله وإن صام وصلى؟ قال : « نعم ، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين والمؤمنين عباد الله » .
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
قوله : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } قال الفراء : « قد » ها هنا يجوز أن تكون تأكيداً لفلاح المؤمنين ، ويجوز أن تكون تقريباً للماضي من الحال؛ لأن قد تقرّب الماضي من الحال حتى تلحقه بحكمه ، ألا تراهم يقولون : قد قامت الصلاة قبل حال قيامها ، ويكون المعنى في الآية : أن الفلاح قد حصل لهم وأنهم عليه في الحال ، والفلاح الظفر بالمراد والنجاة من المكروه . وقيل : البقاء في الخير ، وأفلح إذا دخل في الفلاح ، ويقال : أفلحه : إذا أصاره إلى الفلاح ، وقد تقدّم بيان معنى الفلاح في أوّل البقرة . وقرأ طلحة بن مصرف « قد أفلح » بضم الهمزة وبناء الفعل للمفعول . وروي عنه أنه قرأ : « أفلحوا المؤمنون » على الإبهام والتفسير ، أو على لغة أكلوني البراغيث .
ثم وصف هؤلاء المؤمنين بقوله : { الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خاشعون } وما عطف عليه . والخشوع منهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة ، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات والعبث ، وهو في اللغة السكون والتواضع والخوف والتذلل .
وقد اختلف الناس في الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها؟ على قولين : قيل : الصحيح الأوّل ، وقيل : الثاني . وادّعى عبد الواحد بن زيد إجماع العلماء على أنه ليس للعبد إلا ما عقل من صلاته ، حكاه النيسابوري في تفسيره . قال : ومما يدل على صحة هذا القول قوله تعالى : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان } [ محمد : 24 ] . والتدبر لا يتصوّر بدون الوقوف على المعنى ، وكذا قوله : { أَقِمِ الصلاة لِذِكْرِي } [ طه : 14 ] . والغفلة تضادّ الذكر ، ولهذا قال : { وَلاَ تَكُنْ مّنَ الغافلين } [ الأعراف : 205 ] . وقوله : { حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } [ النساء : 43 ] . نهي للسكران والمستغرق في هموم الدنيا بمنزلته . واللغو ، قال الزجاج : هو كل باطل ولهو وهزل ومعصية وما لا يجمل من القول والفعل ، وقد تقدم تفسيره في البقرة . قال الضحاك : إن اللغو هنا الشرك . وقال الحسن : إنه المعاصي كلها . ومعنى إعراضهم عنه : تجنبهم له وعدم التفاتهم إليه ، وظاهره اتصافهم بصفة الإعراض عن اللغو في كل الأوقات ، فيدخل وقت الصلاة في ذلك دخولاً أوّلياً كما تفيده الجملة الإسمية ، وبناء الحكم على الضمير ، ومعنى فعلهم للزكاة : تأديتهم لها ، فعبر عن التأدية بالفعل لأنها مما يصدق عليه الفعل ، والمراد بالزكاة هنا : المصدر؛ لأنه الصادر عن الفاعل ، وقيل : يجوز أن يراد بها العين على تقدير مضاف ، أي والذين هُم لتأدية الزكواة * فاعلون . { والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون } : الفرج يطلق على فرج الرجل والمرأة ، ومعنى حفظهم لها : أنهم ممسكون لها بالعفاف عما لا يحلّ لهم . قيل : والمراد هنا : الرجال خاصة دون النساء ، بدليل قوله : { إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم } للإجماع على أنه لا يحل للمرأة أن يطأها من تملكه .
قال الفراء : إن « على » في قوله : { إِلاَّ على أزواجهم } بمعنى : « من » . وقال الزجاج : المعنى : أنهم يلامون في إطلاق ما حظر عليهم فأمروا بحفظه إلا على أزواجهم ودلّ على المحذوف ذكر اللوم في آخر الآية . والجملة في محل نصب على الحال . وقيل : إن الاستثناء من نفي الإرسال المفهوم من الحفظ ، أي لا يرسلونها على أحد إلا على أزواجهم . وقيل : المعنى : إلا والين على أزواجهم وقوّامين عليهم من قولهم : كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلان . والمعنى : أنهم لفروجهم حافظون في جميع الأحوال إلا في حال تزوّجهم أو تسرّيهم ، وجملة : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم } في محل جرّ عطفاً على أزواجهم ، و « ما » مصدرية . والمراد بذلك : الإماء ، وعبر عنهنّ ب « ما » التي لغير العقلاء؛ لأنه اجتمع فيهنّ الأنوثة المنبئة عن قصور العقل وجواز البيع والشراء فيهنّ كسائر السلع ، فأجراهن بهذين الأمرين مجرى غير العقلاء ، وجملة : { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } تعليل لما تقدّم مما لا يجب عليهم حفظ فروجهم منه .
{ فَمَنِ ابتغى وَرَاء ذلك فأولئك هُمُ العادون } الإشارة إلى الزوجات وملك اليمين ، ومعنى العادون : المجاوزون إلى ما لا يحلّ لهم ، فسمى سبحانه من نكح ما لا يحلّ عادياً . ووراء هنا بمعنى : سوى وهو مفعول ابتغى . قال الزجاج : أي فمن ابتغى ما بعد ذلك فمفعول الابتغاء محذوف ، و { وراء } ظرف .
وقد دلت هذه الآية على تحريم نكاح المتعة ، واستدلّ بها بعض أهل العلم على تحريم الاستمناء لأنه من الوراء لما ذكر ، وقد جمعنا في ذلك رسالة سميناها « بلوغ المني في حكم الاستمنا » ، وذكرنا فيها أدلة المنع والجواز وترجيح الراجح منهما .
{ والذين هُمْ لأماناتهم وَعَهْدِهِمْ راعون } قرأ الجمهور : { لأماناتهم } بالجمع . وقرأ ابن كثير بالإفراد . والأمانة : ما يؤتمنون عليه ، والعهد : ما يعاهدون عليه من جهة الله سبحانه أو جهة عباده ، وقد جمع العهد والأمانة كل ما يتحمله الإنسان من أمر الدين والدنيا ، والأمانة أعمّ من العهد ، فكل عهد أمانة ، ومعنى { راعون } : حافظون . { والذين هُمْ على صلواتهم يحافظون } قرأ الجمهور : { صلواتهم } بالجمع . وقرأ حمزة والكسائي : « صلاتهم » بالإفراد ، ومن قرأ بالإفراد فقد أراد اسم الجنس وهو في معنى الجمع . والمحافظة على الصلاة إقامتها والمحافظة عليها في أوقاتها وإتمام ركوعها وسجودها وقراءتها والمشروع من أذكارها .
ثم مدح سبحانه هؤلاء فقال : { أولئك هُمُ الوارثون } أي الأحقاء بأن يسموا بهذا الاسم دون غيرهم . ثم بين الموروث بقوله : { الذين يَرِثُونَ الفردوس } وهو أوسط الجنة ، كما صح تفسيره بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والمعنى : أن من عمل بما ذكر في هذه الآيات فهو الوارث الذي يرث من الجنة ذلك المكان ، وفيه استعارة لاستحقاقهم الفردوس بأعمالهم .
وقيل : المعنى : أنهم يرثون من الكفار منازلهم حيث فرقوها على أنفسهم؛ لأنه سبحانه خلق لكل إنسان منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار . ولفظ الفردوس لغة رومية معرّبة ، وقيل : فارسية . وقيل : حبشية . وقيل : هي عربية . وجملة : { هُمْ فِيهَا خالدون } في محل نصب على الحال المقدّرة ، أو مستأنفة لا محل لها ، ومعنى الخلود : أنهم يدومون فيها لا يخرجون منها ولا يموتون فيها ، وتأنيث الضمير مع أنه راجع إلى الفردوس لأنه بمعنى الجنة .
وقد أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والترمذي والنسائي وابن المنذر والعقيلي ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الدلائل ، والضياء في المختارة عن عمر بن الخطاب قال : كان إذا أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدويّ النحل ، فأنزل الله عليه يوماً فمكثنا ساعة ، فسريّ عنه فاستقبل القبلة فقال : « اللّهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا » ، ثم قال : « لقد أنزل عليّ عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنة » ، ثم قرأ { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } حتى ختم العشر . وفي إسناده يونس بن سليم الصنعاني . قال النسائي : لا نعرف أحداً رواه عن ابن شهاب إلا يونس بن سليم ويونس لا نعرفه . وأخرج البخاري في الأدب المفرد ، والنسائي وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن يزيد بن بابنوس قال : قلنا لعائشة : كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : كان خلقه القرآن ، ثم قالت : تقرأ سورة المؤمنين؟ اقرأ : { قد أفلح المؤمنون } حتى بلغ العشر ، فقالت : هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير ، والبيهقي في سننه عن محمد بن سيرين قال : نبئت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء ، فنزلت : { الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خاشعون } . وأخرجه عبد الرزاق ، عنه ، وزاد : فأمره بالخشوع فرمى ببصره نحو مسجده . وأخرجه عنه أيضاً عبد بن حميد ، وأبو داود في المراسيل ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في السنن بلفظ : كان إذا قام في الصلاة نظر هكذا وهكذا ، يميناً وشمالاً ، فنزلت : { الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خاشعون } فحنى رأسه . وروي عنه من طرق مرسلاً هكذا . وأخرجه الحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عنه عن أبي هريرة؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء ، فنزلت : { الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خاشعون } فطأطأ رأسه . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن سيرين بلفظ : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون رؤوسهم وأبصارهم إلى السماء في الصلاة يلتفتون يميناً وشمالاً ، فأنزل الله { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون * الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خاشعون } فمالوا برؤوسهم فلم يرفعوا أبصارهم بعد ذلك في الصلاة ، ولم يلتفتوا يميناً وشمالاً .
وأخرج ابن المبارك في الزهد ، وعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه عن عليّ : أنه سئل عن قوله : { الذين هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خاشعون } قال : الخشوع في القلب ، وأن تلين كتفك للمرء المسلم ، وأن لا تلتفت في صلاتك . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خاشعون } قال : خائفون ساكنون . وقد ورد في مشروعية الخشوع في الصلاة والنهي عن الالتفات وعن رفع البصر إلى السماء أحاديث معروفة في كتب الحديث .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ } قال : الباطل . وأخرج عبد الرزاق ، وأبو داود في ناسخه عن القاسم بن محمد : أنه سئل عن المتعة فقال : إني لأرى تحريمها في القرآن ، ثم تلا : { والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون * إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم } . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني عن ابن مسعود أنه قيل له : إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن : { الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ } [ المعارج : 23 ] . { والذين هُمْ على صلاتهم يحافظون } قال : ذلك على مواقيتها ، قالوا : ما كنا نرى ذلك إلا على تركها ، قال : تركها كفر .
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير ، والحاكم وصححه عن أبي هريرة في قوله : { أولئك هُمُ الوارثون } قال : يرثون مساكنهم ومساكن إخوانهم التي أعدت لهم لو أطاعوا الله . وأخرج سعيد بن منصور وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما منكم من أحد إلا وله منزلان : منزل في الجنة ، ومنزل في النار ، فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله ، فذلك قوله : { أولئك هُمُ الوارثون } » وأخرج عبد بن حميد ، والترمذي وقال : حسن صحيح غريب عن أنس ، فذكر قصة ، وفيها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها » ، ويدلّ على هذه الوراثة المذكورة هنا قوله تعالى : { تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } [ مريم : 63 ] . وقوله : { تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 43 ] . ويشهد لحديث أبي هريرة هذا ما في صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال ، فيغفرها الله لهم ، ويضعها على اليهود والنصارى » وفي لفظ له : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً ، فيقول : هذا فكاكك من النار » .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
لما حثّ سبحانه عباده على العبادة ووعدهم الفردوس على فعلها ، عاد إلى تقرير المبدأ والمعاد ليتمكن ذلك في نفوس المكلفين فقال : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } إلى آخره ، واللام جواب قسم محذوف ، والجملة مبتدأة ، وقيل : معطوفة على ما قبلها ، والمراد بالإنسان : الجنس؛ لأنهم مخلوقون في ضمن خلق أبيهم آدم ، وقيل : المراد به آدم . والسلالة فعالة من السلّ ، وهو استخراج الشيء من الشيء ، يقال : سللت الشعرة من العجين ، والسيف من الغمد فانسلّ ، فالنطفة سلالة ، والولد سليل ، وسلالة أيضاً ، ومنه قول الشاعر :
فجاءت به عضب الأديم غضنفرا ... سلالة فرج كان غير حصين
وقول الآخر :
وهل هند إلا مهرة عربية ... سلالة أفراس تجللها بغل
و « مِنْ » في : { مِن سلالة } ابتدائية متعلقة ب { خلقنا } ، وفي : { مِن طِينٍ } بيانية متعلقة بمحذوف ، وقع صفة لسلالة ، أي كائنة من طين ، والمعنى : أنه سبحانه خلق جوهر الإنسان أوّلاً من طين؛ لأن الأصل آدم ، وهو من طين خالص وأولاده من طين ومنيّ ، وقيل : السلالة : الطين إذا عصرته انسلّ من بين أصابعك؛ فالذي يخرج هو السلالة ، قاله الكلبي { ثُمَّ جعلناه } أي : الجنس باعتبار أفراده الذين هم بنو آدم ، أو جعلنا نسله على حذف مضاف إن أريد بالإنسان آدم { نُّطْفَةٍ } وقد تقدّم تفسير النطفة في سورة الحج . وكذلك تفسير العلقة والمضغة . والمراد بالقرار المكين : الرّحم ، وعبر عنها بالقرار الذي هو مصدر مبالغة ، ومعنى { ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً } أي أنه سبحانه أحال النطفة البيضاء علقة حمراء { فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً } أي قطعة لحم غير مخلقة { فَخَلَقْنَا المضغة عظاما } أي جعلها الله سبحانه متصلبة لتكون عموداً للبدن على أشكال مخصوصة { فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً } أي أنبتَ الله سبحانه على كل عظم لحماً على المقدار الذي يليق به ويناسبه { ثم أنشأناه خلقاً آخر } أي نفخنا فيه الروح بعد أن كان جماداً . وقيل : أخرجناه إلى الدنيا . وقيل : هو نبات الشعر . وقيل : خروج الأسنان . وقيل : تكميل القوى المخلوقة فيه ، ولا مانع من إرادة الجميع ، والمجيء ب « ثم » لكمال التفاوت بين الخلقين { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } أي استحق التعظيم والثناء . وقيل : مأخوذ من البركة ، أي كثر خيره وبركته . والخلق في اللغة : التقدير ، يقال : خلقت الأديم : إذا قسته لتقطع منه شيئاً ، فمعنى { أحسن الخالقين } : أتقن الصانعين المقدّرين ، ومنه قول الشاعر :
ولأنت تفري ما خلقت وب ... عض القوم يخلق ثم لا يفري
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيّتُونَ } الإشارة بقوله : { ذلك } إلى الأمور المتقدّمة ، أي ثم إنكم بعد تلك الأمور لميتون صائرون إلى الموت لا محالة { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ } من قبوركم إلى المحشر للحساب والعقاب .
واللام في { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ } جواب لقسم محذوف ، والجملة مبتدأة مشتملة على بيان خلق ما يحتاجون إليه بعد بيان خلقهم . والطرائق : هي السموات . قال الخليل والفراء والزجاج : سميت طرائق؛ لأنه طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل . قال أبو عبيدة : طارقت الشيء جعلت بعضه فوق بعض ، والعرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة . وقيل : لأنها طرائق الملائكة . وقيل : لأنها طرائق الكواكب { وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غافلين } المراد بالخلق هنا : المخلوق ، أي : وما كنا عن هذه السبع الطرائق وحفظها عن أن تقع على الأرض بغافلين . وقال أكثر المفسرين : المراد الخلق كلهم بغافلين بل حفظنا السموات عن أن تسقط ، وحفظنا من في الأرض أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم أو تميد بهم الأرض ، أو يهلكون بسبب من الأسباب المستأصلة لهم ، ويجوز أن يراد نفي الغفلة عن القيام بمصالحهم وما يعيشون به ، ونفي الغفلة عن حفظهم .
{ وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء } هذا من جملة ما امتن الله سبحانه به على خلقه . والمراد : بالماء ماء المطر ، فإن به حياة الأرض وما فيها من الحيوان ، ومن جملة ذلك ماء الأنهار النازلة من السماء والعيون ، والآبار المستخرجة من الأرض ، فإن أصلها من ماء السماء . وقيل : أراد سبحانه في هذه الآية الأنهار الأربعة : سيحان ، وجيحان ، والفرات ، والنيل ، ولا وجه لهذا التخصيص . وقيل : المراد به : الماء العذب ، ولا وجه لذلك أيضاً فليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء ، ومعنى { بِقَدَرٍ } : بتقدير منا أو بمقدار يكون به صلاح الزرع والثمار ، فإنه لو كثر لكان به هلاك ذلك ، ومثله قوله سبحانه : { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ الحجر : 21 ] ومعنى { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض } : جعلناه مستقرّاً فيها ينتفعون به وقت حاجتهم إليه كالماء الذي يبقى في المستنقعات والغدران ونحوها { وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لقادرون } أي كما قدرنا على إنزاله فنحن قادرون على أن نذهب به بوجه من الوجوه ، ولهذا التنكير حسن موقع لا يخفى ، وفي هذا تهديد شديد لما يدلّ عليه من قدرته سبحانه على إذهابه وتغويره حتى يهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم ، ومثله قوله : { قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ } [ الملك : 30 ] .
ثم بين سبحانه ما يتسبب عن إنزال فقال : { فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جنات مّن نَّخِيلٍ وأعناب } أي أوجدنا بذلك الماء جنات من النوعين المذكورين { لَكُمْ فِيهَا } أي في هذه الجنات { فواكه كَثِيرَةٌ } . تتفكهون بها وتتطعمون منها ، وقيل : المعنى : ومن هذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعاشكم كقوله : فلان يأكل من حرفة كذا ، وهو بعيد ، واقتصر سبحانه على النخيل والأعناب؛ لأنها الموجودة بالطائف والمدينة وما يتصل بذلك .
كذا قال ابن جرير . وقيل : لأنها أشرف الأشجار ثمرة وأطيبها منفعة وطعماً ولذّة . قيل : المعنى بقوله : { لَّكُمْ فِيهَا فواكه } أن لكم في هذه الجنات فواكه من غير العنب والنخيل . وقيل : المعنى لكم في هذين النوعين خاصة فواكه؛ لأن فيهما أنواعاً مختلفة متفاوتة في الطعم واللون .
وقد اختلف أهل الفقه في لفظ الفاكهة على ماذا يطلق؟ اختلافاً كثيراً ، وأحسن ما قيل : إنها تطلق على الثمرات التي يأكلها الناس ، وليست بقوت لهم ولا طعام ولا إدام . واختلف في البقول هل تدخل في الفاكهة أم لا؟
وانتصاب { شجرة } على العطف على { جنات } . وأجاز الفراء الرفع على تقدير : وثم شجرة فتكون مرتفعة على الابتداء ، وخبرها محذوف مقدّر قبلها ، وهو الظرف المذكور . قال الواحدي : المفسرون كلهم يقولون : إن المراد بهذه الشجرة : شجرة الزيتون ، وخصت بالذكر ، لأنه لا يتعاهدها أحد بالسقي ، وهي التي يخرج الدهن منها ، فذكرها الله سبحانه امتناناً منه على عباده بها؛ ولأنها أكرم الشجر وأعمها نفعاً وأكثرها بركة ، ثم وصف سبحانه هذه الشجرة بأنها { تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء } وهو جبل ببيت المقدّس ، والطور الجبل في كلام العرب . وقيل : هو مما عرّب من كلام العجم . واختلف في معنى سيناء فقيل : هو الحسن . وقيل : هو المبارك ، وذهب الجمهور إلى أنه اسم للجبل كما تقول : جبل أحد . وقيل : سيناء حجر بعينه أضيف الجبل إليه لوجوده عنده . وقيل : هو كلّ جبل يحمل الثمار . وقرأ الكوفيون : { سيناء } بفتح السين ، وقرأ الباقون بكسر السين ، ولم يصرف لأنه جعل اسماً للبقعة ، وزعم الأخفش أنه أعجمي . وقرأ الجمهور : { تنبت بالدهن } بفتح المثناة وضمّ الباء الموحدة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضمّ المثناة وكسر الباء الموحدة . والمعنى على القراءة الأولى : أنها تنبت في نفسها متلبسة بالدهن ، وعلى القراءة الثانية : الباء بمعنى مع ، فهي للمصاحبة . قال أبو عليّ الفارسي : التقدير : تنبت جناها ومعه الدهن . وقيل : الباء زائدة ، قاله أبو عبيدة ، ومثله قول الشاعر :
هنّ الحرائر لا ربات أحمرة ... سود المحاجر لا يقرأن بالسور
وقال آخر :
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج ... وقال الفراء والزجاج : إن نبت وأنبت بمعنى ، والأصمعي ينكر أنبت ، ويرد عليه قول زهير :
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل
أي نبت . وقرأ الزهري والحسن والأعرج : « تنبت » بضم المثناة وفتح الموحدة . قال الزجاج وابن جني : أي تنبت ومعها الدهن ، وقرأ ابن مسعود : « تخرج » بالدهن ، وقرأ زرّ بن حبيش : « تنبت الدهن » بحذف حرف الجرّ . وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب : « بالدهان » { وَصِبْغٍ لّلآكِلِيِنَ } معطوف على الدهن ، أي تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به . وكونه صبغاً يؤتدم به . قرأ الجمهور : { صبغ } ، وقرأ قوم « صباغ » مثل لبس ولباس .
وكل إدام يؤتدم به فهو صبغ وصباغ . وأصل الصبغ : ما يلّون به الثوب ، وشبه الإدام به؛ لأن الخبز يكون بالإدام كالمصبوغ به .
{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الانعام لَعِبْرَةً } هذه من جملة النعم التي امتنّ الله بها عليهم . وقد تقدّم تفسير الأنعام في سورة النحل . قال النيسابوري في تفسيره : ولعلّ القصد بالأنعام هنا إلى الإبل خاصة؛ لأنها هي المحمول عليها في العادة؛ ولأنه قرنها بالفلك وهي سفائن البرّ ، كما أن الفلك سفائن البحر . وبين سبحانه أنها عبرة؛ لأنها مما يستدل بخلقها وأفعالها على عظيم القدرة الإلهية ، ثم فصل سبحانه ما في هذه الأنعام من النعم بعد ما ذكره من العبرة فيها للعباد فقال : { نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِي بُطُونِهَا } يعني سبحانه : اللبن المتكوّن في بطونها المنصبّ إلى ضروعها ، فإن في انعقاد ما تأكله من العلف واستحالته إلى هذا الغذاء اللذيذ ، والمشروب النفيس أعظم عبرة للمعتبرين ، وأكبر موعظة للمتعظين . وقرىء { نسقيكم } بالنون على أن الفاعل هو الله سبحانه ، وقرىء بالتاء الفوقية على أن الفاعل هو الأنعام ، ثم ذكر ما فيها من المنافع إجمالاً فقال : { وَلَكُمْ فيِهَا منافع كَثِيرَةٌ } يعني : في ظهورها وألبانها وأولادها وأصوافها وأشعارها ، ثم ذكر منفعة خاصة فقال : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } لما في الأكل من عظيم الانتفاع لهم .
وكذلك ذكر الركوب عليها لما فيه من المنفعة العظيمة فقال : { وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ } أي وعلى الأنعام ، فإن أريد بالأنعام الإبل والبقر والغنم ، فالمراد وعلى بعض الأنعام ، وهي الإبل خاصة ، وإن أريد بالأنعام الإبل خاصة ، فالمعنى واضح . ثم لما كانت الأنعام هي غالب ما يكون الركوب عليه في البرّ ضمّ إليها ما يكون الركوب عليه في البحر ، فقال : { وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ } تميماً للنعمة وتكميلاً للمنة .
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : السلالة : صفو الماء الرقيق الذي يكون منه الولد . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : إن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في [ كل ] شعر وظفر فتمكث أربعين يوماً ، ثم تنحدر في الرحم فتكون علقة . وللتابعين في تفسير السلالة أقوال قد قدّمنا الإشارة إليها . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : { ثم أنشأناه خلقاً آخر } قال : الشعر والأسنان . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه : { أنشأناه خلقاً آخر } قال : نفخ فيه الروح ، وكذا قال مجاهد وعكرمة والشعبي والحسن وأبو العالية والربيع بن أنس والسديّ والضحاك وابن زيد ، واختاره ابن جرير . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد : { ثم أنشأناه خلقاً آخر } قال : حين استوى به الشباب . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن صالح أبي الخليل قال : لما نزلت هذه الآية على النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قوله : { ثم أنشأناه خلقاً آخر } قال عمر : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } قال :
« والذي نفسي بيده إنها ختمت بالذي تكلمت به يا عمر » وأخرج الطيالسي وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أنس قال : قال عمر : وافقت ربي في أربع ، قلت : يا رسول الله لو صلينا خلف المقام؟ فأنزل الله { واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] . وقلت : يا رسول الله ، لو اتخذت على نسائك حجاباً فإنه يدخل عليك البرّ والفاجر ، فأنزل الله : { وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب } [ الأحزاب : 53 ] وقلت لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم : لتنتهنّ أو ليبدلنّه الله أزواجاً خيراً منكنّ ، فنزلت : { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ } [ التحريم : 5 ] الآية ، ونزلت : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة } إلى قوله : { ثم أنشأناه خلقاً آخر } فقلت أنا : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } . وأخرج ابن راهويه وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، وابن مردويه عن زيد بن ثابت قال : أملى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } إلى قوله : { خَلْقاً ءَاخَرَ } فقال معاذ بن جبل : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له معاذ : مم ضحكت يا رسول الله؟ قال : « بها ختمت { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } » وفي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف جداً . قال ابن كثير : وفي خبره هذا نكارة شديدة ، وذلك أن هذه السورة مكية ، وزيد بن ثابت إنما كتب الوحي بالمدينة ، وكذلك إسلام معاذ بن جبل إنما كان بالمدينة ، والله أعلم .
وأخرج ابن مردويه والخطيب ، قال السيوطي : بسند ضعيف ، عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أنزل الله من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار : سيحون وهو نهر الهند ، وجيحون وهو نهر بلخ ، ودجلة والفرات وهما نهرا العراق ، والنيل وهو نهر مصر ، أنزلها من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل ، فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض ، وجعلها منافع للناس في أصناف معايشهم ، فذلك قوله : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض } فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله جبريل ، فرفع من الأرض القرآن والعلم ، والحجر من ركن البيت ، ومقام إبراهيم ، وتابوت موسى بما فيه ، وهذه الأنهار الخمسة ، فيرفع كل ذلك إلى السماء ، فذلك قوله : { وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لقادرون } فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا والآخرة » وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ، قال : طور سيناء هو الجبل الذي نودي منه موسى . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { تَنبُتُ بالدهن } قال : هو الزيت يؤكل ويدهن به .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
لما ذكر سبحانه الفلك أتبعه بذكر نوح؛ لأنه أوّل من صنعه ، وذكر ما صنعه قوم نوح معه بسبب إهمالهم للتفكر في مخلوقات الله سبحانه والتذكر لنعمه عليهم فقال : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ } وفي ذلك تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتسلية له ببيان أن قوم غيره من الأنبياء كانوا يصنعون مع أنبيائهم ما يصنعه قومه معه ، واللام جواب قسم محذوف { فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله } أي اعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً كما يستفاد من الآيات الآخرة ، وجملة : { مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ } واقعة موقع التعليل لما قبلها ، وارتفاع { غيره } لكونه وصفاً لإله على المحل؛ لأنه مبتدأ خبره لكم ، أي ما لكم في الوجود إله غيره سبحانه ، وقرىء بالجرّ اعتباراً بلفظ إله { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أي أفلا تخافون أن تتركوا عبادة ربكم الذي لا يستحقّ العبادة غيره ، وليس لكم إله سواه . وقيل : المعنى أفلا تخافون أن يرفع عنكم ما خوّلكم من النعم ويسلبها عنكم . وقيل : المعنى : أفلا تقون أنفسكم عذابه الذي تقتضيه ذنوبكم .
{ فَقَالَ الملا الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ } أي قال أشراف قومه الذين كفروا به : { مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } أي من جنسكم في البشرية ، لا فرق بينكم وبينه { يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } أي يطلب الفضل عليكم بأن يسودكم حتى تكونوا تابعين له منقادين لأمره ، ثم صرّحوا بأن البشر لا يكون رسولاً فقالوا : { وَلَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة } أي لو شاء الله إرسال رسول لأرسل ملائكة ، وإنما عبر بالإنزال عن الإرسال؛ لأن إرسالهم إلى العباد يستلزم نزولهم إليهم { مَا سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } أي بمثل دعوى هذا المدّعي للنبوّة من البشر ، أو بمثل كلامه ، وهو الأمر بعبادة الله وحده أو ما سمعنا ببشر يدّعي هذه الدعوى في آبائنا الأوّلين ، أي في الأمم الماضية قبل هذا . وقيل : الباء في : { بهذا } زائدة ، أي ما سمعنا هذا كائناً في الماضين ، قالوا : هذا اعتماداً منهم على التقليد واعتصاماً بحبله . ولم يقنعوا بذلك حتى ضموا إليه الكذب البحت ، والبهت الصراح فقالوا : { إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ } أي جنون لا يدري ما يقول : { فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ } أي انتظروا به حتى يستبين أمره ، بأن يفيق من جنونه فيترك هذه الدعوى ، أو حتى يموت فتستريحوا منه . قال الفراء : ليس يريد بالحين هنا وقتاً بعينه إنما هو كقولهم : دعه إلى يوم ما . فلما سمع عليه الصلاة والسلام كلامهم وعرف تماديهم على الكفر وإصرارهم عليه { قَالَ رَبّ انصرني } عليهم فانتقم منهم بما تشاء وكيف تريد ، والباء في : { بِمَا كَذَّبُونِ } للسببية ، أي : بسبب تكذيبهم إياي .
{ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ } عند ذلك أي أرسلنا إليه رسولاً من السماء { أَنِ اصنع الفلك } وأن هي مفسرة لما في الوحي من معنى القول { بِأَعْيُنِنَا } أي متلبساً بحفظنا وكلاءتنا ، وقد تقدّم بيان هذا في هود . ومعنى { وَوَحْيِنَا } : أمرنا لك وتعليمنا إياك لكيفية صنعها ، والفاء في قوله : { فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا } لترتيب ما بعدها على ما قبلها من صنع الفلك ، والمراد بالأمر : العذاب { وَفَارَ التنور } معطوف على الجملة التي قبله عطف النسق؛ وقيل : عطف البيان ، أي إن مجيء الأمر هو فور التنور ، أي تنور آدم الصائر إلى نوح ، أي إذا وقع ذلك { فاسلك فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين } أي ادخل فيها ، يقال : سلكه في كذا أدخله وأسلكته أدخلته . قرأ حفص : { من كلّ } بالتنوين ، وقرأ الباقون بالإضافة ، ومعنى القراءة الأولى : من كلّ أمة زوجين ، ومعنى الثانية : من كل زوجين ، وهما أمة الذكر والأنثى اثنين ، وانتصاب { أَهْلَكَ } بفعل معطوف على { فاسلك } لا بالعطف على زوجين ، أو على { اثنين } على القراءتين لأدائه إلى اختلاف المعنى ، أي واسلك أهلك { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ } أي القول بإهلاكهم منهم { وَلاَ تخاطبني فِي الذين ظَلَمُواْ } بالدعاء لهم بإنجائهم ، وجملة : { إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } تعليل للنهي عن المخاطبة أي إنهم مقضي عليهم بالإغراق لظلمهم ، ومن كان هكذا فهو لا يستحق الدعاء له .
{ فَإِذَا استويت } أي : علوت { أَنتَ وَمَن مَّعَكَ } من أهلك وأتباعك { عَلَى الفلك } راكبين عليه { فَقُلِ الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين } أي حال بيننا وبينهم ، وخلصنا منهم ، كقوله : { فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبّ العالمين } [ الأنعام : 45 ] . وقد تقدّم تفسير هذه القصة في سورة هود على التمام والكمال ، وإنما جعل سبحانه استواءهم على السفينة نجاة من الغرق جزماً؛ لأنه قد سبق في علمه أن ذلك سبب نجاتهم من الظلمة ، وسلامتهم من أن يصابوا بما أصيبوا به من العذاب .
ثم أمره أن يسأل ربه ما هو أنفع له وأتمّ فائدة فقال : { وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً } أي أنزلني في السفينة . قرأ الجمهور : { منزلاً } بضم الميم وفتح الزاي على أنه مصدر . وقرأ زرّ بن حبيش وأبو بكر عن عاصم والمفضل بفتح الميم وكسر الزاي على أنه اسم مكان . فعلى القراءة الأولى : أنزلني إنزالاً مباركاً ، وعلى القراءة الثانية : أنزلني مكاناً مباركاً ، قال الجوهري : والمنزل بفتح الميم والزاي النزول ، وهو الحلول ، تقول : نزلت نزولاً ومنزلاً . قال الشاعر :
أإن ذكرتك الدار منزلها جمل ... بكيت فدمع العين منحدر سجل
بنصب منزلها؛ لأنه مصدر . قيل : أمره الله سبحانه بأن يقول هذا القول عند دخوله السفينة . وقيل : عند خروجه منها ، والآية تعليم من الله لعباده إذا ركبوا ثم نزلوا أن يقولوا هذا القول : { وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين } هذا ثناء منه على الله عزّ وجلّ إثر دعائه له .
قال الواحدي : قال المفسرون : إنه أمر أن يقول عند استوائه على الفلك : الحمد لله ، وعند نزوله منها : ربّ أنزلني منزلاً مباركاً ، والإشارة بقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } إلى ما تقدّم مما قصه الله علينا من أمر نوح عليه السلام : والآيات الدلالات على كمال قدرته سبحانه ، والعلامات التي يستدلّ بها على عظيم شأنه { وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } أي لمختبرين لهم بإرسال الرسل إليهم؛ ليظهر المطيع والعاصي للناس أو للملائكة . وقيل : المعنى : إنه يعاملهم سبحانه معاملة المختبر لأحوالهم ، تارة بالإرسال ، وتارة بالعذاب .
{ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءاخَرِينَ } أي من بعد إهلاكهم . قال أكثر المفسرين : إن هؤلاء الذين أنشأهم الله بعدهم هم عاد قوم هود ، لمجيء قصتهم على إثر قصة نوح في غير هذا الموضع ، ولقوله في الأعراف : { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } [ الأعراف : 69 ] . وقيل : هم ثمود؛ لأنهم الذين أهلكوا بالصيحة . وقد قال سبحانه في هذه القصة : { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة } [ الحجر : 73 و83 ] . وقيل : هم أصحاب مدين قوم شعيب؛ لأنهم ممن أهلك بالصيحة { فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً } عدّى فعل الإرسال بفي مع أنه يتعدّى بإلى؛ للدلالة على أن هذا الرسول المرسل إليهم نشأ فيهم بين أظهرهم ، يعرفون مكانه ومولده ، ليكون سكونهم إلى قوله أكثر من سكونهم إلى من يأتيهم من غير مكانهم . وقيل : وجه التعدية للفعل المذكور بفي أنه ضمن معنى القول ، أي قلنا لهم على لسان الرسول { اعبدوا الله } ولهذا جيء بأن المفسرة . والأوّل أولى؛ لأن تضمين أرسلنا معنى قلنا لا يستلزم تعديته بفي ، وجملة : { مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ } تعليل للأمر بالعبادة { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } عذابه الذي يقتضيه شرككم .
{ وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ } أي أشرافهم وقادتهم . ثم وصف الملأ بالكفر والتكذيب فقال : { الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الآخرة } أي كذبوا بما في الآخرة من الحساب والعقاب ، أو كذبوا بالبعث { وأترفناهم } أي وسعنا لهم نعم الدنيا فبطروا بسبب ما صاروا فيه { في الحياة الدنيا } من كثرة الأموال ورفاهة العيش { مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } أي قال الملأ لقومهم هذا القول ، وصفوه بمساواتهم في البشرية ، وفي الأكل : { مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ } والشرب : { مما تشربون } منه ، وذلك يستلزم عندهم أنه لا فضل له عليهم . قال الفرّاء : إن معنى { وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } على حذف منه أي : مما تشربون منه وقيل : إن ما مصدرية ، فلا تحتاج إلى عائد .
{ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ } فيما ذكر من الأوصاف { إِنَّكُمْ إذاً لخاسرون } أي مغبونون بترككم آلهتكم واتباعكم إياه من غير فضيلة له عليكم . والاستفهام في قوله : { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتمْ } للإنكار ، والجملة مستأنفة مقرّرة لما قبلها من تقبيح اتباعهم له .
قرىء بكسر الميم من { متم } ، من مات يمات كخاف يخاف ، وقرىء بضمها من مات يموت ، كقال يقول . { وَكُنتُمْ تُرَاباً وعظاما } أي كان بعض أجزائكم تراباً ، وبعضها عظاماً نخرة لا لحم فيها ولا أعصاب عليها . وقيل : وتقديم التراب؛ لكونه أبعد في عقولهم . وقيل : المعنى : كان متقدّموكم تراباً ، ومتأخروكم عظاماً { أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } أي من قبوركم أحياء كما كنتم ، قال سيبويه : " أنّ " الأولى في موضع نصب بوقوع أيعدكم عليها ، وأن الثانية بدلّ منها . وقال الفرّاء والجرمي والمبرّد : إن " أن " الثانية مكرّرة للتوكيد ، وحسن تكريرها لطول الكلام ، وبمثله قال الزجاج . وقال الأخفش : " أن " الثانية في محل رفع بفعل مضمر ، أي يحدث إخراجكم كما تقول : اليوم القتال ، فالمعنى : اليوم يحدث القتال .
{ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ } أي بعد ما توعدون ، أو بعيد ما توعدون ، والتكرير للتأكيد . قال ابن الأنباري : وفي هيهات عشر لغات ثم سردها ، وهي مبينة في علم النحو . وقد قرىء ببعضها ، واللام في { لما توعدون } لبيان المستبعد كما في قولهم : هيت لك ، كأنه قيل : لماذا هذا الاستبعاد؟ فقيل : لما توعدون . والمعنى : بعد إخراجكم للوعد الذي توعدون ، هذا على أن هيهات اسم فعل ، وقال الزجاج : هو في تقدير المصدر ، أي البعد لما توعدون ، أو بعد لما توعدون ، على قراءة من نوّن فتكون على هذا مبتدأ خبره : { لما توعدون } .
ثم بين سبحانه إترافهم بأنهم قالوا : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا ، لا الحياة الآخرة التي تعدنا بها ، وجملة : { نَمُوتُ وَنَحْيَا } مفسرة لما ادّعوه من قصرهم حياتهم على حياة الدنيا . ثم صرحوا بنفي البعث ، وأن الوعد به منه افتراء على الله فقالوا : { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً } أي ما هو فيما يدّعيه إلا مفتر للكذب على الله { وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ } أي بمصدّقين له فيما يقوله . { قَالَ رَبّ انصرنى } أي : قال نبيهم لما علم بأنهم لا يصدّقونه ألبتة : ربّ انصرني عليهم وانتقم لي منهم بسبب تكذيبهم إياي .
{ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نادمين } أي قال الله سبحانه مجيباً لدعائه واعداً له بالقبول لما دعا به : عما قليل من الزمان ليصبحن نادمين على ما وقع منهم من التكذيب والعناد والإصرار على الكفر . و «ما» في : { عما قليل } مزيدة بين الجارّ والمجرور للتوكيد لقلة الزمان كما في قوله : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله } [ آل عمران : 159 ] .
ثم أخبر سبحانه بأنها { أَخَذَتْهُمُ الصيحة } وحاق بهم عذابه ونزل عليهم سخطه . قال المفسرون : صاح بهم جبريل صيحة واحدة مع الريح التي أهلكهم الله بها فماتوا جميعاً .
وقيل : الصيحة : هي نفس العذاب الذي نزل بهم ، ومنه قول الشاعر :
صاح الزمان بآل برمك صيحة ... خرّوا لشدّتها على الأذقان
والباء في : { بالحق } متعلق بالأخذ ، ثم أخبر سبحانه عما صاروا إليه بعد العذاب النازل بهم : فقال : { فجعلناهم غُثَاء } أي كغثاء السيل الذي يحمله : والغثاء ما يحمله ، والغثاء : ما يحمل السيل من بالي الشجر والحشيش والقصب ونحو ذلك مما يحمله على ظاهر الماء . والمعنى : صيرهم هلكى فيبسوا كما يبس الغثاء { فَبُعْداً لّلْقَوْمِ الظالمين } انتصاب { بعداً } على المصدرية وهو من المصادر التي لا يذكر فعلها معها ، أي بعدوا بعداً ، واللام لبيان من قيل له ذلك .
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فاسلك فِيهَا } يقول : اجعل معك في السفينة { مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين } . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد : { وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً } قال لنوح حين أنزل من السفينة . وأخرج هؤلاء عن قتادة في الآية قال : يعلمكم سبحانه كيف تقولون إذا ركبتم ، وكيف تقولون إذا نزلتم . أما عند الركوب : { فسبحان الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إلى رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ } [ الزخرف : 13 ، 14 ] ، { بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ هود : 41 ] . وعند النزول : { رَّبّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين } . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : { قَرْناً } قال : أمة . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ } قال : بعيد بعيد . وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { فجعلناهم غُثَاء } قال : جعلوا كالشيء الميت البالي من الشجر .
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
قوله : { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ } أي من بعد إهلاكهم { قُرُوناً ءَاخَرِينَ } قيل : هم قوم صالح ولوط وشعيب كما وردت قصتهم على هذا الترتيب في الأعراف وهود ، وقيل : هم بنو إسرائيل . والقرون الأمم ، ولعل وجه الجمع هنا للقرون والإفراد فيما سبق قريباً : أنه أراد ها هنا أمماً متعدّدة وهناك أمة واحدة . ثم بين سبحانه كمال علمه وقدرته في شأن عباده فقال : { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَئخِرُونَ } أي ما تتقدّم كل طائفة مجتمعة في قرن آجالها المكتوبة لها في الهلاك ولا تتأخر عنها ، ومثل ذلك قوله تعالى : { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ النحل : 61 ] .
ثم بين سبحانه أن رسله كانوا بعد هذه القرون متواترين ، وأن شأن أممهم كان واحداً في التكذيب لهم فقال : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تترا } والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها بمعنى : أن إرسال كل رسول متأخر عن إنشاء القرن الذي أرسل إليه ، لا على معنى أنّ إرسال الرسل جميعاً متأخر عن إنشاء تلك القرون جميعاً ، ومعنى { تتراً } : تتواتر واحداً بعد واحد ويتبع بعضهم بعضاً ، من الوتر وهو الفرد . قال الأصمعي : واترت كتبي عليه : أتبعت بعضها بعضاً إلا أن بين كل واحد منها وبين الآخر مهلة . وقال غيره : المتواترة المتتابعة بغير مهلة . قرأ ابن كثير ، وابن عمرو « تترى » بالتنوين على أنه مصدر . قال النحاس : وعلى هذا يجوز « تترى » بكسر التاء الأولى؛ لأن معنى { ثم أرسلنا } : واترنا ، ويجوز أن يكون في موضع الحال ، أي متواترين { كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ } هذه الجملة مستأنفة مبينة لمجيء كل رسول لأمته على أن المراد بالمجيء : التبليغ { فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً } أي في الهلاك بما نزل بهم من العذاب { وجعلناهم أَحَادِيثَ } الأحاديث جمع أحدوثة ، وهي ما يتحدّث به الناس كالأعاجيب جمع أعجوبة ، وهي ما يتعجب الناس منه . قال الأخفش : إنما يقال جعلناهم أحاديث في الشرّ ، ولا يقال في الخير ، كما يقال : صار فلان حديثاً ، أي عبرة ، وكما قال سبحانه في آية أخرى : { فجعلناهم أَحَادِيثَ ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 19 ] . قلت : وهذه الكلية غير مسلمة فقد يقال : صار فلان حديثاً حسناً ، ومنه قول ابن دريد في مقصورته :
وإنما المرء حديث بعده ... فكن حديثاً حسناً لمن روى
{ فَبُعْداً لّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } وصفهم هنا بعدم الإيمان ، وفيما سبق قريباً بالظلم لكون كل من الوصفين صادراً عن كل طائفة من الطائفتين ، أو لكون هؤلاء لم يقع منهم إلا مجرّد عدم التصديق ، وأولئك ضموا إليه تلك الأقوال الشنيعة التي هي من أشد الظلم وأفظعه .
ثم حكى سبحانه ما وقع من فرعون وقومه عند إرسال موسى وهارون إليهم فقال : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هارون بئاياتنا } هي التسع المتقدّم ذكرها غير مرّة ، ولا يصح عدّ فلق البحر منها هنا؛ لأن المراد : الآيات التي كذبوا بها واستكبروا عنها .
والمراد بالسلطان المبين : الحجة الواضحة البينة . قيل : هي الآيات التسع نفسها ، والعطف من باب :
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وقيل : أراد العصي؛ لأنها أمّ الآيات ، فيكون من باب عطف جبريل على الملائكة . وقيل : المراد بالآيات : التي كانت لهما ، وبالسلطان : الدلائل . المبين : التسع الآيات ، والمراد بالملأ في قوله : { إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ } هم الأشراف منهم كما سبق بيانه غير مرّة { عَادٌ فاستكبروا } أي : طلبوا الكبر وتكلفوه فلم ينقادوا للحق { وَكَانُواْ قَوْماً عالين } قاهرين للناس بالبغي والظلم ، مستعلين عليهم ، متطاولين كبراً وعناداً وتمرّداً ، وجملة : { فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } معطوفة على جملة : { استكبروا } وما بينهما اعتراض ، والاستفهام للإنكار ، أي كيف نصدق من كان مثلنا في البشرية؟ والبشر يطلق على الواحد كقوله : { بَشَراً سَوِيّاً } [ مريم : 17 ] كما يطلق على الجمع كما في قوله : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً } [ مريم : 26 ] . فتثنيته هنا هي باعتبار المعنى الأول ، وأفرد المثل لأنه في حكم المصدر ، ومعنى { وَقَوْمُهُمَا لَنَا عابدون } : أنهم مطيعون لهم منقادون لما يأمرونهم به كانقياد العبيد . قال المبرّد : العابد : المطيع الخاضع . قال أبو عبيدة : العرب تسمي كل من دان الملك : عابداً له . وقيل : يحتمل أنه كان يدّعي الإلهية فدعى الناس إلى عبادته فأطاعوه ، واللام في : { لَنَا } متعلقة ب { عابدون } ، قدّمت عليه لرعاية الفواصل ، والجملة حالية { فَكَذَّبُوهُمَا } أي فأصّروا على تكذيبهما . { فَكَانُواْ مِنَ المهلكين } بالغرق في البحر .
ثم حكى سبحانه ما جرى على قوم موسى بعد إهلاك عدوّهم فقال : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب } يعني التوراة ، وخصّ موسى بالذكر؛ لأن التوراة أنزلت عليه في الطور ، وكان هارون خليفته في قومه . { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } أي لعلّ قوم موسى يهتدون بها إلى الحق ، ويعملون بما فيها من الشرائع ، فجعل سبحانه إيتاء موسى إياها إيتاء لقومه؛ لأنها وإن كانت منزلة على موسى فهي لإرشاد قومه . وقيل : إن ثمّ مضافاً محذوفاً أقيم المضاف إليه مقامه ، أي آتينا قوم موسى الكتاب . وقيل : إن الضمير في : { لَعَلَّهُمْ } يرجع إلى فرعون وملائه ، وهو وهم؛ لأن موسى لم يؤت التوراة إلا بعد إهلاك فرعون وقومه ، كما قال سبحانه : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الأولى } [ القصص : 43 ] .
ثم أشار سبحانه إلى قصة عيسى إجمالاً فقال : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَةً } أي علامة تدلّ على عظيم قدرتنا ، وبديع صنعنا ، وقد تقدّم الكلام على هذا في آخر سورة الأنبياء في تفسير قوله سبحانه : { وجعلناها وابنها ءايَةً للعالمين } [ الأنبياء : 91 ] . ومعنى قوله : { وآويناهما إلى ربوة } إلى مكان مرتفع ، أي جعلناهما يأويان إليها .
قيل : هي أرض دمشق ، وبه قال عبد الله بن سلام وسعيد بن المسيب ومقاتل . وقيل : بيت المقدس ، قاله قتادة وكعب وقيل : أرض فلسطين ، قاله السديّ . { ذَاتِ قَرَارٍ } أي ذات مستقرّ يستقرّ عليه ساكنوه { وَمَعِينٍ } أي وماء معين . قال الزجاج : هو الماء الجاري في العيون ، فالميم على هذا زائدة كزيادتها في منبع . وقيل : هو فعيل بمعنى مفعول . قال عليّ بن سليمان الأخفش : معن الماء : إذا جرى فهو معين وممعون وكذا قال ابن الأعرابي : وقيل : هو مأخوذ من الماعون ، وهو النفع ، وبمثل ما قال الزجاج قال الفرّاء : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات } قال الزجاج : هذه مخاطبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودلّ الجمع على أن الرسل كلهم كذا أمروا؛ وقيل : إن هذه المقالة خوطب بها كل نبيّ ، لأن هذه طريقتهم التي ينبغي لهم الكون عليها ، فيكون المعنى : وقلنا : يا أيها الرسل خطاباً لكل واحد على انفراده ، لاختلاف أزمنتهم . وقال ابن جرير : إن الخطاب لعيسى . وقال الفرّاء : هو كما تقول للرجل الواحد : كفوا عنا ، و { الطيبات } : ما يستطاب ويستلذّ ، وقيل : هي الحلال ، وقيل : هي ما جمع الوصفين المذكورين . ثم بعد أن أمرهم بالأكل من الطيبات أمرهم بالعمل الصالح فقال : { واعملوا صالحا } أي عملاً صالحاً وهو ما كان موافقاً للشرع ، ثم علل هذا الأمر بقوله : { إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } لا يخفى عليّ شيء منه ، وإني مجازيكم على حسب أعمالكم إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشرّ .
{ وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحدة } هذا من جملة ما خوطب به الأنبياء ، والمعنى : أن هذه ملتكم وشريعتكم أيها الرسل ملة واحدة ، وشريعة متحدة يجمعها أصل هو أعظم ما بعث الله به أنبياءه وأنزل فيه كتبه ، وهو دعاء جميع الأنبياء إلى عبادة الله وحده لا شريك له . وقيل : المعنى إن هذا الذي تقدّم ذكره هو دينكم وملتكم فالزموه على أن المراد بالأمة هنا : الدين ، كما في قوله : { إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءنَا على أمة } [ الزخرف : 22 ] ، ومنه قول النابغة :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع
قرىء بكسر : « إن » على الاستئناف المقرّر لما تقدّمه ، وقرىء بفتحها وتشديدها . قال الخليل : هي في موضع نصب لما زال الخافض ، أي أنا عالم بأن هذا دينكم الذي أمرتكم أن تؤمنوا به . وقال الفرّاء : إن متعلقة بفعل مضمر ، وتقديره : واعلموا أن هذه أمتكم . وقال سيبويه : هي متعلقة ب { اتقون } ، والتقدير : فاتقون لأن أمتكم أمة واحدة ، والفاء في : { فاتقون } لترتيب الأمر بالتقوى على ما قبله من كونه ربكم المختصّ بالربوبية ، أي لا تفعلوا ما يوجب العقوبة عليكم مني بأن تشركوا بي غيري ، أو تخالفوا ما أمرتكم به أو نهيتكم عنه .
ثم ذكر سبحانه ما وقع من الأمم من مخالفتهم لما أمرهم به الرسل فقال : { فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً } والفاء لترتيب عصيانهم على ما سبق من الأمر بالتقوى ، والضمير يرجع إلى ما يدلّ عليه لفظ الأمة ، والمعنى : أنهم جعلوا دينهم مع اتحاده قطعاً متفرّقة مختلفة . قال المبرّد : زبراً : فرقاً وقطعاً مختلفة ، واحدها زبور ، وهي الفرقة والطائفة ، ومثله : الزبرة وجمعها زبر ، فوصف سبحانه الأمم بأنهم اختلفوا ، فاتبعت فرقة التوراة ، وفرقة الزبور ، وفرقة الإنجيل ثم حرّفوا وبدّلوا ، وفرقة مشركة تبعوا ما رسمه لهم آباؤهم من الضلال . قرىء : « زبراً » بضم الباء جمع زبور ، وقرىء بفتحها ، أي قطعاً كقطع الحديد { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } أي : كل فريق من هؤلاء المختلفين { بما لديهم } أي بما عندهم من الدين { فرحون } أي معجبون به .
{ فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ } أي اتركهم في جهلهم ، فليسوا بأهل للهداية ، ولا يضق صدرك بتأخير العذاب عنهم ، فلكلّ شيء وقت . شبه سبحانه ما هم فيه من الجهل بالماء الذي يغمر من دخل فيه . والغمرة في الأصل : ما يغمرك ويعلوك ، وأصله الستر . والغمر : الماء الكثير؛ لأنه يغطي الأرض ، وغمر الرداء هو الذي يشمل الناس بالعطاء ، ويقال للحقد : الغمر ، والمراد هنا : الحيرة والغفلة والضلالة ، والآية خارجة مخرج التهديد لهم ، لا مخرج الأمر له صلى الله عليه وسلم بالكفّ عنهم ، ومعنى { حتى حِينٍ } : حتى يحضر وقت عذابهم بالقتل ، أو حتى يموتوا على الكفر فيعذّبون في النار .
{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } أي أيحسبون إنما نعطيهم في هذه الدنيا من الأموال والبنين . { نُسَارِعُ } به { لَهُمْ } فيما فيه خيرهم وإكرامهم ، والهمزة للإنكار ، والجواب عن هذا مقدّر يدلّ عليه قوله : { بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } لأنه عطف على مقدّر ينسحب إليه الكلام ، أي كلا لا نفعل ذلك بل هم لا يشعرون بشيء أصلاً كالبهائم التي لا تفهم ولا تعقل ، فإن ما خوّلناهم من النعم وأمددناهم به من الخيرات إنما هو استدراج لهم ليزدادوا إثماً ، كما قال سبحانه : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] . قال الزجاج : المعنى : نسارع لهم به في الخيرات ، فحذفت به ، و « ما » في : { إنما } موصولة ، والرابط هو هذا المحذوف . وقال الكسائي : إن أنما هنا حرف واحد فلا يحتاج إلى تقدير رابط . قيل : يجوز الوقف على بنين . وقيل : لا يحسن ، لأن يحسبون يحتاج إلى مفعولين ، فتمام المفعولين في الخيرات . قال ابن الأنباري : وهذا خطأ؛ لأن « ما » كافة . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعبد الرحمن ابن أبي بكرة : « يسارع » بالياء التحتية على أن فاعله ما يدلّ عليه أمددنا ، وهو الإمداد ، ويجوز أن يكون المعنى : يسارع الله لهم . وقرأ الباقون : « نسارع » بالنون .
قال الثعلبي : وهذه القراءة هي الصواب لقوله : نمدّهم .
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا } قال : يتبع بعضهم بعضاً . وفي لفظ قال : بعضهم على إثر بعض . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة { يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً } قال : ولدته من غير أب . وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن { أنس } آية قال : عبرة . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { وآويناهما إلى ربوة } قال : الربوة المستوية ، والمعين : الماء الجاري ، وهو النهر الذي قال الله : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } [ مريم : 24 ] . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه : { وآويناهما إلى ربوة } قال : هي المكان المرتفع من الأرض ، وهو أحسن ما يكون فيه النبات { ذَاتِ قَرَارٍ } : ذات خصب . والمعين : الماء الظاهر . وأخرج وكيع والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وتمام الرازي وابن عساكر . قال السيوطي : بسند صحيح عن ابن عباس في قوله : { إلى رَبْوَةٍ } قال : أنبئنا أنها دمشق . وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن سلام مثله . وكذا أخرجه ابن أبي حاتم عنه . وأخرج ابن عساكر عن أبي أمامة مرفوعاً نحوه ، وإسناده ضعيف . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، وابن مردويه وابن عساكر عن مرة البهزي ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « الربوة الرملة » وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم ، والحاكم في الكنى ، وابن عساكر عن أبي هريرة قال : هي الرملة من فلسطين . وأخرجه ابن مردويه من حديثه مرفوعاً . وأخرج الطبراني وابن السكن وابن منده وأبو نعيم وابن عساكر عن الأقرع بن شفي العكي مرفوعاً نحوه .
وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا أيها الناس ، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } . وقال : { ياأيها الذين ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم } [ البقرة : 172 ] » ثم ذكر : « الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، يمدّ يديه إلى السماء : يا ربّ يا ربّ ، فأنى يستجاب لذلك » وأخرج سعيد بن منصور عن حفص الفزاري في قوله : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات } قال : ذلك عيسى بن مريم يأكل من غزل أمه . وأخرجه عبدان في الصحابة عن حفص مرفوعاً ، وهو مرسل؛ لأن حفصاً تابعي .
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
لما نفي سبحانه الخيرات الحقيقية عن الكفرة المتنعمين أتبع ذلك بذكر من هو أهل للخيرات عاجلاً وآجلاً فوصفهم بصفات أربع : الأولى : قوله : { إِنَّ الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ } الإشفاق : الخوف ، تقول : أنا مشفق من هذا الأمر ، أي خائف . قيل : الإشفاق هو الخشية ، فظاهر ما في الآية التكرار . وأجيب بحمل الخشية على العذاب ، أي من عذاب ربهم خائفون ، وبه قال الكلبي ومقاتل . وأجيب أيضاً بحمل الإشفاق على ما هو أثر له : وهو الدوام على الطاعة ، أي الذين هم من خشية ربهم دائمون على طاعته . وأجيب أيضاً بأن الإشفاق كمال الخوف فلا تكرار . وقيل : هو تكرار للتأكيد . والصفة الثانية : قوله : { والذين هُم بئايات رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ } قيل : المراد بالآيات : هي التنزيلية . وقيل : هي التكوينية . وقيل : مجموعهما . قيل : وليس المراد بالإيمان بها : هو التصديق بوجودها فقط . فإن ذلك معلوم بالضرورة ولا يوجب المدح ، بل المراد : التصديق بكونها دلائل وأن مدلولها حق . والصفة الثالثة : قوله : { والذين هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ } أي يتركون الشرك تركاً كلياً ظاهراً وباطناً . والصفة الرابعة : قوله : { والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون } أي يعطون ما أعطوا وقلوبهم خائفة من أجل ذلك الإعطاء يظنون أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله ، وجملة : { وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } في محل نصب على الحال ، أي والحال أن قلوبهم خائفة أشدّ الخوف . قال الزجاج : قلوبهم خائفة لأنهم إلى ربهم راجعون ، وسبب الوجل هو أن يخافوا أن لا يقبل منهم ذلك على الوجه المطلوب ، لا مجرّد رجوعهم إليه سبحانه . وقيل : المعنى : أن من اعتقد الرجوع إلى الجزاء والحساب وعلم أن المجازي والمحاسب هو الربّ الذي لا تخفى عليه خافية لم يخل من وجل . وقرأت عائشة وابن عباس والنخعي « يَأْتُونَ مَا أَتَواْ » مقصوراً من الإتيان . قال الفراء : ولو صحت هذه القراءة لم تخالف قراءة الجماعة؛ لأن من العرب من يلزم في الهمز الألف في كل الحالات . قال النحاس : ومعنى هذه القراءة : يعملون ما عملوا .
والإشارة بقوله : { أولئك } إلى المتصفين بهذه الصفات ، ومعنى { يسارعون فِي الخيرات } : يبادرون بها . قال الفرّاء والزجاج : ينافسون فيها ، وقيل : يسابقون ، وقرىء : « يسرعون » . { وَهُمْ لَهَا سابقون } اللام للتقوية ، والمعنى : هم سابقون إياها . وقيل : اللام بمعنى إلى ، كما في قوله : { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } [ الزلزلة : 5 ] . أي أوحى إليها ، وأنشد سيبويه قول الشاعر :
تجانف عن أهل اليمامة ناقتي ... وما قصدت من أهلها لسوائكا
أي إلى سوائكا . وقيل : المفعول محذوف ، والتقدير : وهم سابقون الناس لأجلها . ثم لما انجر الكلام إلى ذكر أعمال المكلفين ذكر لهما حكمين : الأوّل : قوله : { وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } الوسع هو : الطاقة ، وقد تقدّم بيان هذا في آخر سورة البقرة .
وفي تفسير الوسع قولان : الأوّل : أنه الطاقة ، كما فسره بذلك أهل اللغة . الثاني : أنه دون الطاقة ، وبه قال مقاتل والضحاك والكلبي . والمعتزلة قالوا : لأن الوسع إنما سمي وسعاً؛ لأنه يتسع على فاعله فعله ولا يضيق عليه ، فمن لم يستطع الجلوس فليوم إيماء ، ومن لم يستطع الصوم فليفطر . وهذه الجملة مستأنفة للتحريض على ما وصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدّي إلى نيل الكرامات ببيان سهولته وكونه غير خارج عن حدّ الوسع والطاقة ، وأن ذلك عادة الله سبحانه في تكليف عباده ، وجملة : { وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق } من تمام ما قبلها من نفي التكليف بما فوق الوسع والمراد بالكتاب : صحائف الأعمال ، أي عندنا كتاب قد أثبت فيه أعمال كل واحد من المكلفين على ما هي عليه ، ومعنى { يَنطِقُ بالحق } : يظهر به الحق المطابق للواقع من دون زيادة ولا نقص ، ومثله قوله سبحانه : { هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 29 ] . وفي هذا تهديد للعصاة وتأنيس للمطيعين من الحيف والظلم . وقيل : المراد بالكتاب : اللوح المحفوظ ، فإنه قد كتب فيه كل شيء . وقيل : المراد بالكتاب : القرآن ، والأوّل أولى . وفي هذه الآية تشبيه للكتاب بمن يصدر عنه البيان بالنطق بلسانه ، فإن الكتاب يعرب عما فيه كما يعرب الناطق المحق ، وقوله : { بالحق } ، يتعلق ب { ينطق } أو بمحذوف هو حال من فاعله ، أي ينطق ملتبساً بالحق ، وجملة : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } مبينة لما قبلها من تفضله وعدله في جزاء عباده ، أي لا يظلمون بنقص ثواب أو بزيادة عقاب ، ومثله قوله سبحانه : { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [ الكهف : 49 ] ، ثم أضرب سبحانه عن هذا فقال : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مّنْ هذا } والضمير للكفار ، أي بل قلوب الكفار في غمرة غامرة لها عن هذا الكتاب الذي ينطق بالحق ، أو عن الأمر الذي عليه المؤمنون ، يقال غمره الماء : إذا غطاه ، ونهر غمر : يغطي من دخله ، والمراد بها هنا : الغطاء والعمه أو الحيرة والعمى ، وقد تقدّم الكلام على الغمرة قريباً { وَلَهُمْ أعمال مّن دُونِ ذلك } قال قتادة ومجاهد : أي لهم خطايا لا بدّ أن يعملوها من دون الحق . وقال الحسن وابن زيد : المعنى : ولهم أعمال رديئة لم يعملوها من دون ما هم عليه لا بدّ أن يعملوها فيدخلون بها النار ، فالإشارة بقوله : { ذلك } إما إلى أعمال المؤمنين ، أو إلى أعمال الكفار ، أي لهم أعمال من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله ، أو من دون أعمال الكفار التي تقدّم ذكرها من كون قلوبهم في غفلة عظيمة مما ذكر ، وهي فنون كفرهم ومعاصيهم التي من جملتها ما سيأتي من طعنهم في القرآن .
قال الواحدي : إجماع المفسرين وأصحاب المعاني على أن هذا إخبار عما سيعملونها من أعمالهم الخبيثة التي كتبت عليهم لا بدّ لهم أن يعملوها ، وجملة : { هُمْ لَهَا عاملون } مقرّرة لما قبلها ، أي واجب عليهم أن يعملوها فيدخلوا بها النار لما سبق لهم من الشقاوة لا محيص لهم عن ذلك .
ثم رجع سبحانه إلى وصف الكفار فقال : { حتى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب } حتى هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام ، والكلام هو الجملة الشرطية المذكورة ، وهذه الجملة مبينة لما قبلها ، والضمير في : { مترفيهم } راجع إلى من تقدّم ذكره من الكفار . والمراد بالمترفين : المتنعمين منهم ، وهم الذين أمدهم الله بما تقدم ذكره من المال والبنين ، أو المراد بهم الرؤساء منهم . والمراد بالعذاب هو : عذابهم بالسيف يوم بدر ، أو بالجوع بدعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهم حيث قال : « اللّهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف » وقيل : المراد بالعذاب : عذاب الآخرة؛ ورجح هذا بأن ما يقع منهم من الجؤار إنما يكون عند عذاب الآخرة ، لأنه الاستغاثة بالله ولم يقع منهم ذلك يوم بدر ولا في سني الجوع ، ويجاب عنه بأن الجؤار في اللغة : الصراخ والصياح . قال الجوهري : الجؤار مثل الخوار . يقال : جأر ، الثور يجأر أي صاح . وقد وقع منهم ومن أهلهم وأولادهم عندما أن عذبوا بالسيف يوم بدر ، وبالجوع في سني الجوع ، وليس الجؤار ها هنا مقيد بالجؤار الذي هو التضرّع بالدعاء حتى يتم ما ذكره ذلك القائل ، وجملة : { إذا هم يجأرون } جواب الشرط ، وإذا هي الفجائية ، والمعنى : حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب فاجئوا بالصراخ .
ثم أخبر سبحانه أنه يقال لهم حينئذٍ على جهة التبكيت : { لاَ تَجْئَرُواْ اليوم } فالقول مضمر ، والجملة مسوقة لتبكيتهم وإقناطهم وقطع أطماعهم ، وخصص سبحانه المترفين مع أن العذاب لاحق بهم جميعاً واقع على مترفيهم وغير مترفيهم؛ لبيان أنهم بعد النعمة التي كانوا فيها صاروا على حالة تخالفها وتباينها ، فانتقلوا من النعيم التامّ إلى الشقاء الخالص ، وخصّ اليوم بالذكر للتهويل ، وجملة : { إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ } تعليل للنهي عن الجؤار ، والمعنى : إنكم من عذابنا لا تمنعون ولا ينفعكم جزعكم . وقيل المعنى : إنكم لا يلحقكم من جهتنا نصرة تمنعكم مما دهمكم من العذاب .
ثم عدّد سبحانه عليهم قبائحهم توبيخاً لهم فقال : { قَدْ كَانَتْ ءَايَتِي تتلى عَلَيْكُمْ } أي في الدنيا؛ وهي آيات القرآن { فَكُنتُمْ على أعقابكم تَنكِصُونَ } أي ترجعون وراءكم ، وأصل النكوص : أن يرجع القهقرى ، ومنه قول الشاعر :
زعموا أنهم على سبل الحق ... وأنا نكص على الأعقاب
وهو هنا استعارة للإعراض عن الحق ، وقرأ عليّ بن أبي طالب : « على أدباركم » بدل : { على أعقابكم تَنكِصُونَ } بضم الكاف ، وعلى أعقابكم متعلق { بتنكصون } أو متعلق بمحذوف وقع حالاً من فاعل تنكصون { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ } الضمير في : { به } راجع إلى البيت العتيق ، وقيل : للحرم ، والذي سوّغ الإضمار قبل الذكر اشتهارهم بالاستكبار به وافتخارهم بولايته والقيام به ، وكانوا يقولون : لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم وخدّامه .
وإلى هذا ذهب جمهور المفسرين . وقيل : الضمير عائد إلى القرآن ، والمعنى : أن سماعه يحدث لهم كبراً وطغياناً فلا يؤمنون به . قال ابن عطية : وهذا قول جيد . وقال النحاس : القول الأوّل أولى وبينه بما ذكرنا . فعلى القول الأوّل يكون { به } متعلقاً ب { مستكبرين } ، وعلى الثاني يكون متعلقاً ب { سامرا } لأنهم كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون ، وكان عامة سمرهم ذكر القرآن والطعن فيه ، والسامر كالحاضر في الإطلاق على الجمع . قال الواحدي : السامر : الجماعة يسمرون بالليل ، أي يتحدّثون ، ويجوز أن يتعلق { بِهِ } بقوله : { تَهْجُرُونَ } والهجر بالفتح : الهذيان ، أي تهذون في شأن القرآن ، ويجوز أن يكون من الهجر بالضم ، وهو الفحش . وقرأ ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبو حيوة : « سمرا » بضم السين وفتح الميم مشدّدة ، وقرأ زيد بن علي وأبو رجاء ( سمارا ) ورويت هذه القراءة عن ابن عباس ، وانتصاب { سامرا } على الحال ، إما من فاعل { تنكصون } أو من الضمير في { مستكبرين } وقيل : هو مصدر جاء على لفظ الفاعل ، يقال : قوم سامر ، ومنه قول الشاعر :
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
قال الراغب : ويقال : سامر وسمار ، وسمر وسامرون . قرأ الجمهور : « تهجرون » بفتح التاء المثناة من فوق وضم الجيم . وقرأ نافع . وابن محيصن بضم التاء وكسر الجيم من أهجر ، أي أفحش في منطقه . وقرأ زيد بن علي وابن محيصن وأبو نهيك بضم التاء وفتح الهاء وكسر الجيم مشدّدة مضارع هجر بالتشديد . وقرأ ابن أبي عاصم كالجمهور إلا أنه بالياء التحتية ، وفيه التفات .
وقد أخرج الفريابي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجه ، وابن أبي الدنيا في نعت الخائفين ، وابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله ، قول الله : { والذين يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله؟ قال : « لا ، ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي ، وهو مع ذلك يخاف الله أن لا يتقبل منه » وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير ، وابن الأنباري في المصاحف وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قالت عائشة : يا رسول الله ، فذكر نحوه . وأخرج عبد الرزاق عن ابن عباس في قوله : { والذين يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ } قال : يعطون ما أعطوا . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } قال : يعملون خائفين .
وأخرج الفريابي وابن جرير عن ابن عمر { والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ } قال : الزكاة . وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن عائشة : { والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ } قالت : هم الذين يخشون الله ويطيعونه . وأخرج عبد بن حميد عن ابن أبي مليكة قال : قالت عائشة : لأن تكون هذه الآية كما أقرأ أحبّ إليّ من حمر النعم ، فقال لها ابن عباس : ما هي؟ قالت : { الذين يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ } وقد قدّمنا ذكر قراءتها ومعناها . وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه عنها ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قرأ : { والذين يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ } مقصوراً من المجيء . وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد ، والبخاري في تاريخه ، وابن المنذر وابن أبي شيبة ، وابن الأنباري في المصاحف ، والدارقطني في الأفراد ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن عبيد بن عمير؛ أنه سأل عائشة : كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية : { والذين يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ } ؟ قالت : أيتهما أحبّ إليك؟ قلت : والذي نفسي بيده لأحدهما أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها جميعاً ، قالت : أيهما؟ قلت : « الذين يَأْتُونَ مَا ءاتَواْ » فقالت : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها كذلك ، وكذلك أنزلت ، ولكن الهجاء حرّف . وفي إسناده إسماعيل بن عليّ وهو ضعيف .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أولئك يسارعون فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا سابقون } قال : سبقت لهم السعادة من الله . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مّنْ هذا } يعني بالغمرة : الكفر والشك { وَلَهُمْ أعمال مّن دُونِ ذلك } يقول : أعمال سيئة دون الشرك { هُمْ لَهَا عاملون } قال : لا بدّ لهم أن يعملوها . وأخرج النسائي عنه : { حتى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب } قال : هم أهل بدر .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { إذا هم يجأرون } قال : يستغيثون ، وفي قوله : { فَكُنتُمْ على أعقابكم تَنكِصُونَ } قال : تدبرون ، وفي قوله : { سامرا تَهْجُرُونَ } قال : تسمرون حول البيت وتقولون هجراً . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ } قال : بحرم الله أنه لا يظهر عليهم فيه أحد . وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { سامرا تَهْجُرُونَ } قال : كانت قريش يتحلقون حلقاً يتحدّثون حول البيت . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامرا تَهْجُرُونَ } قال : كان المشركون يهجرون برسول الله صلى الله عليه وسلم في القول في سمرهم . وأخرج النسائي وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامرا تَهْجُرُونَ } .
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
قوله : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول } بين سبحانه أن سبب إقدامهم على الكفر هو أحد هذه الأمور الأربعة : الأوّل : عدم التدبر في القرآن ، فإنهم لو تدّبروا معانيه لظهر لهم صدقه وآمنوا به وبما فيه ، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدّر ، أي فعلوا ما فعلوا فلم يتدبروا ، والمراد بالقول : القرآن ، ومثله : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان } [ النساء : 82 ، محمد : 24 ] . والثاني قوله : { أم جاءهم مَّا لَمْ يَأْتِ ءابَاءهُمُ الأولين } أم هي المنقطعة ، أي بل جاءهم من الكتاب ما لم يأتِ آباءهم الأوّلين ، فكان ذلك سبباً لاستنكارهم للقرآن ، والمقصود : تقرير أنه لم يأتِ آباءهم الأوّلين رسول؛ فلذلك أنكروه ، ومثله قوله : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ } [ ياس : 6 ] . وقيل : إنه أتى آباءهم الأقدمين رسل أرسلهم الله إليهم . كما هي سنّة الله سبحانه في إرسال الرسل إلى عباده ، فقد عرف هؤلاء ذلك ، فكيف كذبوا هذا القرآن؟ وقيل : المعنى : أم جاءهم من الأمن من عذاب الله ما لم يأتِ آباءهم الأوّلين كإسماعيل ومن بعده . والثالث : قوله : { أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } وفي هذا إضراب وانتقال من التوبيخ بما تقدّم إلى التوبيخ بوجه آخر ، أي بل ألم يعرفوه بالأمانة والصدق فأنكروه ، ومعلوم أنهم قد عرفوه بذلك . والرابع : قوله : { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ } وهذا أيضاً انتقال من توبيخ إلى توبيخ ، أي بل أتقولون به جنة ، أي جنون ، مع أنهم قد علموا أنه أرجح الناس عقلاً ، ولكنه جاء بما يخالف هواهم فدفعوه وجحدوه تعصباً وحمية . ثم أضرب سبحانه عن ذلك كله فقال : { بَلْ جَاءهُمْ بالحق } أي ليس الأمر كما زعموا في حق القرآن والرسول ، بل جاءهم ملتبساً بالحق ، والحق هو : الدين القويم : { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كارهون } لما جبلوا عليه من التعصب ، والانحراف عن الصواب ، والبعد عن الحق ، فلذلك كرهوا هذا الحق الواضح الظاهر ، وظاهر النظم أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق ، ولكنهم لم يظهروا الإيمان خوفاً من الكارهين له .
وجملة : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءهُمْ } مستأنفة مسوقة لبيان أنه لو جاء الحق على ما يهوونه ويريدونه لكان ذلك مستلزماً للفساد العظيم ، وخروج نظام العالم عن الصلاح بالكلية ، وهو معنى قوله : { لَفَسَدَتِ السموات والأرض وَمَن فِيهِنَّ } قال أبو صالح وابن جريج ومقاتل والسديّ : الحق : هو الله ، والمعنى : لو جعل مع نفسه كما يحبون شريكاً لفسدت السموات والأرض . وقال الفراء والزجاج : يجوز أن يكون المراد بالحق : القرآن ، أي لو نزل القرآن بما يحبون من الشرك لفسد نظام العالم . وقيل : المعنى : ولو كان الحق ما يقولون من اتحاد الآلهة مع الله لاختلفت الآلهة ، ومثل ذلك قوله : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] وقد ذهب إلى القول الأوّل الأكثرون ، ولكنه يرد عليه أن المراد بالحق هنا هو : الحق المذكور قبله في قوله : { بَلْ جَاءهُمْ بالحق } ولا يصح أن يكون المراد به هنالك الله سبحانه ، فالأولى تفسير الحق هنا وهناك : بالصدق الصحيح من الدين الخالص من شرع الله ، والمعنى : ولو ورد الحق متابعاً لأهوائهم موافقاً لفاسد مقاصدهم لحصل الفساد ، والمراد بقوله : { وَمَن فِيهِنَّ } من في السموات والأرض من المخلوقات .
وقرأ ابن مسعود : « وما بينهما » وسبب فساد المكلفين من بني آدم ظاهر ، وهو ذنوبهم التي من جملتها الهوى المخالف للحق ، وأما فساد ما عداهم فعلى وجه التبع؛ لأنهم مدبرون في الغالب بذوي العقول فلما فسدوا فسدوا .
ثم ذكر سبحانه أن نزول القرآن عليهم من جملة الحق فقال : { بَلْ أتيناهم بِذِكْرِهِمْ } والمراد بالذكر هنا القرآن ، أي بالكتاب الذي هو فخرهم وشرفهم ، ومثله قوله : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] . والمعنى : بل آتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوه ، ويقبلوا عليه . وقال قتادة : المعنى : بذكرهم الذي ذكر فيه ثوابهم وعقابهم . وقيل : المعنى بذكر ما لهم به حاجة من أمر الدين . وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر : « أتيتهم » بتاء التكلم . وقرأ أبو حيوة والجحدري : « أتيتهم » بتاء الخطاب ، أي أتيتهم يا محمد . وقرأ عيسى بن عمر : « بذكراهم » . وقرأ قتادة : « نذكرهم » بالنون والتشديد من التذكير ، وتكون الجملة على هذه القراءة في محل نصب على الحال . وقيل : الذكر هو : الوعظ والتحذير { فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ } أي هم بما فعلوا من الاستكبار والنكوص عن هذا الذكر المختص بهم معرضون لا يلتفتون إليه بحال من الأحوال ، وفي هذا التركيب ما يدل على أن إعراضهم مختص بذلك لا يتجاوزه إلى غيره .
ثم بين سبحانه أن دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم ليست مشبوهة بأطماع الدنيا فقال : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً } و « أم » هي المنقطعة ، والمعنى : أم يزعمون أنك تسألهم خرجاً تأخذه على الرسالة ، والخرج : الأجر والجعل ، فتركوا الإيمان بك وبما جئت به لأجل ذلك ، مع أنهم يعلمون أنك لم تسألهم ذلك ولا طلبته منهم { فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ } أي فرزق ربك الذي يرزقك في الدنيا ، وأجره الذي يعطيكه في الآخرة خير لك مما ذكر . قرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى ابن وثاب : « أم تسألهم خراجاً » ، وقرأ الباقون : { خرجا } وكلهم قرؤوا { فَخَرَاجُ } إلا ابن عامر وأبا حيوة فإنهما قرآ : « فخرج » بغير ألف . والخرج : هو الذي يكون مقابلاً للدخل ، يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك : خرجاً ، والخراج غالب في الضريبة على الأرض . قال المبرد : الخرج : المصدر ، والخراج : الاسم . قال النضر بن شميل : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج فقال : الخراج ما لزمك ، والخرج ما تبرعت به .
وروي عنه أنه قال : الخرج من الرقاب ، والخراج من الأرض { وَهُوَ خَيْرُ الرازقين } هذه الجملة مقرّرة لما قبلها من كون خراجه سبحانه خير .
ثم لما أثبت سبحانه لرسوله من الأدلة الواضحة المقتضية لقبول ما جاء به ونفى عنه أضداد ذلك قال : { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } أي إلى طريق واضحة تشهد العقول بأنها مستقيمة غير معوجة ، والصراط في اللغة : الطريق ، فسمي الدين طريقاً لأنها تؤدّي إليه . ثم وصفهم سبحانه بأنهم على خلاف ذلك فقال : { وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لناكبون } يقال : نكب عن الطريق ينكب نكوباً : إذا عدل عنه ومال إلى غيره ، والنكوب والنكب : العدول والميل ، ومنه النكباء للريح بين ريحين ، سميت بذلك لعدولها عن المهابّ ، و { عن الصراط } متعلق ب { ناكبون } ، والمعنى : أن هؤلاء الموصوفين بعدم الإيمان بالآخرة عن ذلك الصراط أو جنس الصراط لعادلون عنه .
ثم بين سبحانه أنهم مصرّون على الكفر لا يرجعون عنه بحال فقال : { وَلَوْ رحمناهم وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ } أي من قحط وجدب { لَّلَجُّواْ فِي طغيانهم } أي لتمادوا في طغيانهم وضلالهم { يَعْمَهُونَ } يتردّدون ويتذبذبون ويخبطون . وأصل اللجاج : التمادي في العناد ، ومنه اللجة بالفتح لتردّد الصوت ، ولجة البحر تردّد أمواجه ، ولجة الليل تردد ظلامه . وقيل : المعنى : لو رددناهم إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحناهم للجوا في طغيانهم .
{ وَلَقَدْ أخذناهم بالعذاب } جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها . والعذاب قيل : هو الجوع الذي أصابهم في سني القحط . وقيل : المرض . وقيل : القتل يوم بدر ، واختاره الزجاج . وقيل : الموت . وقيل : المراد من أصابه العذاب من الأمم الخالية { فَمَا استكانوا لِرَبّهِمْ } أي ما خضعوا ولا تذللوا ، بل أقاموا على ما كانوا فيه من التمرّد على الله والانهماك في معاصيه { وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } أي وما يخشعون لله في الشدائد عند إصابتها لهم ، ولا يدعونه لرفع ذلك { حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ } قيل : هو عذاب الآخرة . وقيل : قتلهم يوم بدر بالسيف . وقيل : القحط الذي أصابهم . وقيل : فتح مكة { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } أي : متحيرون ، لا يدرون ما يصنعون . والإبلاس : التحير والإياس من كل خير . وقرأ السلمي : « مبلسون » بفتح اللام من أبلسه ، أي أدخله في الإبلاس . وقد تقدّم في الأنعام .
{ وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والابصار } امتنّ عليهم ببعض النعم التي أعطاهم ، وهي نعمة السمع والبصر { والأفئدة } فصارت هذه الأمور معهم ليسمعوا المواعظ وينظروا العبر ويتفكروا بالأفئدة فلم ينتفعوا بشيء من ذلك لإصرارهم على الكفر وبعدهم عن الحق ، ولم يشكروه على ذلك ولهذا قال : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } أي شكراً قليلاً حقيراً غير معتدّ به باعتبار تلك النعم الجليلة .
وقيل : المعنى : أنهم لا يشكرونه ألبتة ، لا أن لهم شكراً قليلاً . كما يقال لجاحد النعمة : ما أقلّ شكره ، أي : لا يشكره ، ومثل هذه الآية قوله : { فَمَا أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أبصارهم وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ } [ الأحقاف : 26 ] . { وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِى الأرض } أي : بثكم فيها كما تبث الحبوب لتنبت وقد تقدّم تحقيقه { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي تجمعون يوم القيامة بعد تفرّقكم .
{ وَهُوَ الذي يُحي وَيُمِيتُ } على جهة الانفراد والاستقلال ، وفي هذا تذكير لنعمة الحياة ، وبيان الانتقال منها إلى الدار الآخرة { وَلَهُ اختلاف اليل والنهار } قال الفراء : هو الذي جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض . وقيل : اختلافهما : نقصان أحدهما وزيادة الآخر . وقيل : تكرّرها يوماً بعد يوم وليلة بعد ليلة { أَفلاَ تعقلون } كنه قدرته وتتفكرون في ذلك . ثم بين سبحانه أنه لا شبهة لهم في إنكار البعث إلا التشبث بحبل التقليد المبنيّ على مجرد الاستبعاد فقال : { بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون } أي آباؤهم والموافقون لهم في دينهم . ثم بين ما قاله الأوّلون فقال : { قَالُواْ أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ } فهذا مجرّد استبعاد لم يتعلقوا فيه بشيء من الشبه ، ثم كملوا ذلك القول بقولهم : { لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءَابَاؤُنَا هذا مِن قَبْلُ } أي وعدنا هذا البعث ووعده آباؤنا الكائنون من قبلنا فلم نصدّقه كما لم يصدّقه من قبلنا ، ثم صرّحوا بالتكذيب وفرّوا إلى مجرّد الزعم الباطل فقالوا : { إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين } أي ما هذا إلا أكاذيب الأولين التي سطروها في الكتب جمع أسطورة كأحدوثة ، والأساطير : الأباطيل والترهات والكذب .
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح في قوله : { أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ } قال : عرفوه ولكنهم حسدوه . وفي قوله : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءهُمْ } قال : الحق : الله عزّ وجلّ . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { بَلْ أتيناهم بِذِكْرِهِمْ } قال : بينا لهم ، وأخرجوا عنه في قوله : { عَنِ الصراط لناكبون } قال : عن الحقّ لحائدون . وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : جاء أبو سفيان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد أنشدك الله والرحم ، فقد أكلنا العلهز ، يعني الوبر بالدم ، فأنزل الله : { وَلَقَدْ أخذناهم بالعذاب فَمَا استكانوا لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } ، وأصل الحديث في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش حين استعصوا فقال : « اللّهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف » الحديث .
وأخرج ابن جرير وأبو نعيم في المعرفة ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس : أن ابن أثال الحنفي لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وهو أسير فخلى سبيله لحق باليمامة .
فحال بين أهل مكة وبين الميرة من اليمامة حتى أكلت قريش العلهز ، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أليس تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ قال : « بلى » . قال : فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع ، فأنزل الله : { وَلَقَدْ أخذناهم بالعذاب } الآية . وأخرج العسكري في المواعظ عن عليّ بن أبي طالب في قوله : { فَمَا استكانوا لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } قال : أي لم يتواضعوا في الدعاء ولم يخضعوا ، ولو خضعوا لله لاستجاب لهم . وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ } قال : قد مضى ، كان يوم بدر .
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل الكفار عن أمور لا عذر لهم من الاعتراف فيها ، ثم أمره أن ينكر عليهم بعد الاعتراف منهم ويوبخهم فقال : { قُل لّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَا } أي قل يا محمد لأهل مكة هذه المقالة ، والمراد بمن في الأرض : الخلق جميعاً ، وعبر عنهم بمن تغليباً للعقلاء { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } شيئاً من العلم ، وجواب الشرط محذوف ، أي إن كنتم تعلمون فأخبروني ، وفي هذا تلويح بجهلهم وفرط غباوتهم { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } أي لا بدّ لهم أن يقولوا ذلك؛ لأنه معلوم ببديهة العقل . ثم أمره سبحانه أن يقول لهم بعد اعترافهم : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ترغيباً لهم في التدبر وإمعان النظر والفكر ، فإن ذلك مما يقودهم إلى اتباع الحق وترك الباطل؛ لأن من قدر على ذلك ابتداء قدر على إحياء الموتى .
{ قُلْ مَن رَّبُّ السموات السبعِ وَرَبُّ العرش العظيم * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } جاء سبحانه باللام نظراً إلى معنى السؤال ، فإن قولك : من ربه ، ولمن هو في معنى واحد ، كقولك : من ربّ هذه الدار؟ فيقال : زيد ، ويقال : لزيد . وقرأ أبو عمرو ، وأهل العراق : « سيقولون الله » بغير لام نظراً إلى لفظ السؤال ، وهذه القراءة أوضح من قراءة الباقين باللام ، ولكنه يؤيد قراءة الجمهور أنها مكتوبة في جميع المصاحف باللام بدون ألف ، وهكذا قرأ الجمهور في قوله : { قل من بيده ملكوت كلّ شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله } باللام نظراً إلى معنى السؤال كما سلف . وقرأ أبو عمرو وأهل العراق بغير لام نظراً إلى لفظ السؤال ، ومثل هذا قول الشاعر :
إذا قيل من ربّ المزالف والقرى ... وربّ الجياد الجرد قيل لخالد
أي لمن المزالف ، والملكوت : الملك ، وزيادة التاء للمبالغة ، نحو جبروت ورهبوت ، ومعنى { وَهُوَ يُجْيِرُ } : أنه يغيث غيره إذا شاء ويمنعه { وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ } أي لا يمنع أحد أحداً من عذاب الله ولا يقدر على نصره وإغاثته ، يقال : أجرت فلاناً : إذا استغاث بك فحميته ، وأجرت عليه : إذا حميت عنه { قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ } قال الفراء والزجاج : أي تصرفون عن الحق وتخدعون ، والمعنى : كيف يخيل لكم الحق باطلاً والصحيح فاسداً؟ والخادع لهم : هو الشيطان أو الهوى أو كلاهما .
ثم بين سبحانه أنه قد بالغ في الاحتجاج عليهم فقال : { بَلْ أتيناهم بالحق } أي الأمر الواضح الذي يحقّ اتباعه { وَإِنَّهُمْ لكاذبون } فيما ينسبونه إلى الله سبحانه من الولد والشريك ، ثم نفاهما عن نفسه فقال : { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } « من » في الموضعين زائدة لتأكيد النفي .
ثم بين سبحانه ما يستلزمه ما يدّعيه الكفار من إثبات الشريك ، فقال : { إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ } وفي الكلام حذف تقديره لو كان مع الله آلهة لانفرد كل إله بخلقه واستبدّ به وامتاز ملكه عن ملك الآخر ، ووقع بينهم التطالب والتحارب والتغالب { وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } أي غلب القويّ على الضعيف وقهره وأخذ ملكه كعادة الملوك من بني آدم ، وحينئذٍ فذلك الضعيف المغلوب لا يستحق أن يكون إلها ، وإذا تقرّر عدم إمكان المشاركة في ذلك ، وأنه لا يقوم به إلا واحد تعين أن يكون هذا الواحد هو الله سبحانه ، وهذا الدليل كما دلّ على نفي الشريك فإنه يدلّ على نفي الولد؛ لأن الولد ينازع أباه في ملكه . ثم نزّه سبحانه نفسه فقال : { سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ } أي : من الشريك والولد وإثبات ذلك لله عزّ وجلّ { عالم الغيب والشهادة } أي : هو مختص بعلم الغيب والشهادة ، وأما غيره فهو وإن علم الشهادة لا يعلم الغيب . قرأ نافع وأبو بكر وحمزة والكسائي : { عالم } بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هو عالم ، وقرأ الباقون بالجرّ على أنه صفة لله أو بدل منه . وروي عن يعقوب أنه كان يخفض إذا وصل ويرفع إذا ابتدأ { فتعالى } الله { عَمَّا يُشْرِكُونَ } معطوف على معنى ما تقدّم كأنه قال : علم الغيب فتعالى ، كقولك : زيد شجاع فعظمت منزلته ، أي شجع فعظمت ، أو يكون على إضمار القول ، أي أقول : فتعالى الله ، والمعنى : أنه سبحانه متعالٍ عن أن يكون له شريك في الملك .
{ قُل رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى مَا يُوعَدُونَ } أي إن كان ولا بدّ أن تريني ما يوعدون من العذاب المستأصل لهم . { رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي القوم الظالمين } أي قل يا ربّ فلا تجعلني . قال الزجاج : أي إن أنزلت بهم النقمة يا ربّ فاجعلني خارجاً عنهم ، ومعنى كلامه هذا : أن النداء معترض ، و «ما» في : { إما } زائدة ، أي قل ربّ إن تريني ، والجواب : { فلا تجعلني } وذكر الربّ مرّتين مرة قبل الشرط ، ومرّة بعده مبالغة في التضرع . وأمره الله أن يسأله أن لا يجعله في القوم الظالمين مع أن الأنبياء لا يكونون مع القوم الظالمين أبداً ، تعليماً له صلى الله عليه وسلم من ربه كيف يتواضع ، وقيل : يهضم نفسه ، أو لكون شؤم الكفر قد يلحق من لم يكن من أهله ، كقوله : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } [ الأنفال : 25 ] .
ثم لما كان المشركون ينكرون العذاب ، ويسخرون من النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا ذكر لهم ذلك ، أكد سبحانه وقوعه بقوله : { وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لقادرون } أي أن الله سبحانه قادر على أن يري رسوله عذابهم ، ولكنه يؤخره لعلمه بأن بعضهم سيؤمن ، أو لكون الله سبحانه لا يعذبهم والرسول فيهم .
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
« حتى » هي الابتدائية دخلت على الجملة الشرطية ، وهي مع ذلك غاية لما قبلها متعلقة بقوله : { لكاذبون } وقيل : ب { يصفون } والمراد بمجيء الموت : مجيء علاماته { قَالَ رَبّ ارجعون } أي قال ذلك الواحد الذي حضره الموت تحسراً وتحزناً على ما فرط منه : رب ارجعون ، أي ردوني إلى الدنيا ، وإنما قال : ارجعون بضمير الجماعة لتعظيم المخاطب . وقيل : هو على معنى تكرير الفعل ، أي ارجعني ارجعني ارجعني ، ومثله قوله : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } [ ق : 24 ] . قال المازني : معناه ألق ألق ، وهكذا قيل في قول امرىء القيس :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... ومنه قول الحجاج : يا حرسي اضربا عنقه .
ومنه قول الشاعر :
ولو شئت حرمت النساء سواكم ... وقول الآخر :
ألا فارحموني يا إله محمد ... وقيل : إنهم لما استغاثوا بالله قال قائلهم : ربّ ، ثم رجع إلى مخاطبة الملائكة فقال : { ارجعون * لَعَلّي أَعْمَلُ صالحا } أي : أعمل عملاً صالحاً في الدنيا إذا رجعت إليها من الإيمان وما يتبعه من أعمال الخير ، ولما تمنى أن يرجع ليعمل ردّ الله عليه ذلك بقوله : { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } فجاء بكلمة الردع والزجر ، والضمير في : { إنها } يرجع إلى قوله : { رَبّ ارجعون } أي إن هذه الكلمة هو قائلها لا محالة ، وليس الأمر على ما يظنه من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا ، أو المعنى : أنه لو أجيب إلى ذلك لما حصل منه الوفاء ، كما في قوله : { وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] . وقيل : إن الضمير في : { قائلها } يرجع إلى الله ، أي لا خلف في خبره ، وقد أخبرنا بأنه لا يؤخر نفساً إذا جاء أجلها { وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ } أي من أمامهم وبين أيديهم . والبرزخ هو : الحاجز بين الشيئين . قاله الجوهري .
واختلف في معنى الآية ، فقال الضحاك ومجاهد وابن زيد : حاجز بين الموت والبعث . وقال الكلبي : هو الأجل ما بين النفختين ، وبينهما أربعون سنة . وقال السديّ : هو الأجل ، و { إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } هو يوم القيامة .
{ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور } قيل : هذه هي النفخة الأولى . وقيل : الثانية ، وهذا أولى ، وهي النفخة التي تقع بين البعث والنشور . وقيل : المعنى : فإذا نفخ في الأجساد أرواحها ، على أن الصور جمع صورة ، لا القرن ويدلّ على هذا قراءة ابن عباس والحسن : « الصور » بفتح الواو مع ضم الصاد جمع صورة . وقرأ أبو رزين بفتح الصاد والواو ، وقرأ الباقون بضم الصاد وسكون الواو ، وهو القرن الذي ينفخ فيه { فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ } أي لا يتفاخرون بالأنساب ويذكرونها لما هم فيه من الحيرة والدهشة { وَلاَ يَتَسَاءلُونَ } أي لا يسأل بعضهم بعضاً ، فإن لهم إذ ذاك شغلاً شاغلاً ، ومنه قوله تعالى :
{ يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ } [ عبس : 34 36 ] . وقوله : { وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } [ المعارج : 10 ] . ولا ينافي هذا ما في الآية الأخرى من قوله : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } [ الطور : 25 ] . فإن ذلك محمول على اختلاف المواقف يوم القيامة ، فالإثبات باعتبار بعضها ، والنفي باعتبار بعض آخر كما قررناه في نظائر هذا ، مما أثبت تارة ونفي أخرى .
{ فَمَن ثَقُلَتْ موازينه } أي موزوناته من أعماله الصالحة { فأولئك هُمُ المفلحون } أي الفائزون بمطالبهم المحبوبة ، الناجون من الأمور التي يخافونها { وَمَنْ خَفَّتْ موازينه } وهي أعماله الصالحة { فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } أي ضيعوها وتركوا ما ينفعها { فِي جَهَنَّمَ خالدون } هذا بدل من صلة الموصول ، أو خبر ثانٍ لاسم الإشارة ، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية مستوفى فلا نعيده ، وجملة : { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار } مستأنفة ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال ، أو تكون خبراً آخر لأولئك ، واللفح : الإحراق ، يقال : لفحته النار : إذا أحرقته ، ولفحته بالسيف : إذا ضربته ، وخصّ الوجوه؛ لأنها أشرف الأعضاء { وَهُمْ فِيهَا كالحون } هذه الجملة في محل نصب على الحال . والكالح : الذي قد تشمرت شفتاه وبدت أسنانه ، قاله الزجاج . ودهر كالح ، أي شديد . قال أهل اللغة : الكلوح : تكشر في عبوس .
وجملة { أَلَمْ تَكُنْ ءاياتي تتلى عَلَيْكُمْ } هي على إضمار القول ، أي يقال لهم ذلك توبيخاً وتقريعاً أي : ألم تكن آياتي تتلى عليكم في الدنيا { فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ } . وجملة : { قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، أي غلبت علينا لذّاتنا وشهواتنا ، فسمي ذلك شقوة؛ لأنه يؤول إلى الشقاء . قرأ أهل المدينة ، وأبو عمرو وعاصم : { شقوتنا } وقرأ الباقون : « شقاوتنا » وهذه القراءة مروية عن ابن مسعود والحسن { وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ } أي بسب ذلك فإنهم ضلوا عن الحق بتلك الشقوة . ثم طلبوا ما لا يجابون إليه فقالوا : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظالمون } أي فإن عدنا إلى ما كنا عليه من الكفر وعدم الإيمان فإنا ظالمون لأنفسنا بالعود إلى ذلك ، فأجاب الله عليهم بقوله : { قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ } أي اسكنوا في جهنم . قال المبرد : الخسء : إبعاد بمكروه ، وقال الزجاج : تباعدوا تباعد سخط وأبعدوا بعد الكلب . فالمعنى على هذا : أبعدوا في جهنم . كما يقال للكلب : اخسأ ، أي ابعد ، خسأت الكلب خسأً : طردته ، { ولا تكلمون } في إخراجكم من النار ورجوعكم إلى الدنيا ، أو في رفع العذاب عنكم ، وقيل : المعنى : لا تكلمون رأساً .
ثم علل ذلك بقوله : { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ } وهم المؤمنون . وقيل : الصحابة ، يقولون : { رَبَّنَا ءامَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين } قرأ الجمهور : { إنه كان فريق } بكسر إن استئنافاً تعليلياً ، وقرأ أبيّ بفتحها { فاتخذتموهم سِخْرِيّاً } قرأ نافع وحمزة والكسائي بضمّ السين ، وقرأ الباقون بكسرها .
وفرّق بينهما أبو عمرو فجعل الكسر من جهة الهزو ، والضم من جهة السُّخْرة . قال النحاس : ولا يعرف هذا الفرق الخليل ، ولا سيبويه ولا الكسائي ولا الفرّاء ، وحكى الثعلبي عن الكسائي : أن الكسر بمعنى الاستهزاء والسخرية بالقول ، والضم بمعنى : التسخير والاستعباد بالفعل { حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي } أي اتخذتموهم سخرياً إلى هذه الغاية فإنهم نسوا ذكر الله لشدّة اشتغالهم بالاستهزاء { وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } في الدنيا ، والمعنى : حتى نسيتم ذكري باشتغالكم بالسخرية والضحك ، فنسب ذلك إلى عباده المؤمنين لكونهم السبب . وجملة : { إِنِي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صَبَرُواْ } مستأنفة لتقرير ما سبق ، والباء في : { بما صبروا } للسببية { أَنَّهُمْ هُمُ الفائزون } قرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة على الاستئناف ، وقرأ الباقون بالفتح ، أي لأنهم الفائزون ، ويجوز أن يكون منصوباً على أنه المفعول الثاني للفعل { قال كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الارض عَدَدَ سِنِينَ } القائل هو الله عزّ وجلّ وتذكيراً لهم كم لبثوا ، لما سألوا الرجوع إلى الدنيا بعد أن أخبرهم بأن ذلك غير كائن ، كما في قوله : { اخسئوا فيها } ، والمراد بالأرض : هي الأرض التي طلبوا الرجوع إليها ، ويحتمل أن يكون السؤال عن جميع ما لبثوه في الحياة وفي القبور . وقيل : هو سؤال عن مدة لبثهم في القبور لقوله : { في الأرض } ولم يقل : على الأرض ، وردّ بمثل قوله تعالى : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض } [ الأعراف : 56 ] . وانتصاب { عدد سنين } على التمييز ، لما في « كم » من الإبهام { وسنين } بفتح النون على أنها نون الجمع ، ومن العرب من يخفضها وينوّنها . { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } استقصروا مدّة لبثهم لما هم فيه من العذاب الشديد . وقيل : إن العذاب رفع عنهم بين النفختين ، فنسوا ما كانوا فيه من العذاب في قبورهم . وقيل : أنساهم الله ما كانوا فيه من العذاب من النفخة الأولى إلى النفخة الثانية . ثم لما عرفوا ما أصابهم من النسيان لشدّة ما هم فيه من الهول العظيم أحالوا على غيرهم فقالوا : { فَاسْأَلِ العادين } أي : المتمكنين من معرفة العدد ، وهم الملائكة؛ لأنهم الحفظة العارفون بأعمال العباد وأعمارهم . وقيل : المعنى : فاسأل الحاسبين العارفين بالحساب من الناس . وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : « قل كم لبثتم في الأرض » على الأمر ، والمعنى : قل يا محمد للكفار ، أو يكون أمراً للملك بسؤالهم ، أو التقدير : قولوا كم لبثتم ، فأخرج الكلام مخرج الأمر للواحد ، والمراد : الجماعة . وقرأ الباقون : { قال كم لبثتم } على أن القائل هو الله عزّ وجلّ أو الملك .
{ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } قرأ حمزة والكسائي : « قل إن لبثتم » كما في الآية الأولى ، وقرأ الباقون : « قال » على الخبر ، وقد تقدّم توجيه القراءتين ، أي ما لبثتم في الأرض إلا لبثاً قليلاً { لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } شيئاً من العلم ، والجواب محذوف ، أي لو كنتم تعلمون لعلمتم اليوم قلة لبثكم في الأرض أو في القبور أو فيهما ، فكل ذلك قليل بالنسبة إلى لبثهم .