كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني
قوله : { فآمنوا بالله ورسوله } أي : افعلوا الإيمان المطلوب منكم ، ودعوا الاشتغال بما ليس من شأنكم من التطلع لعلم الله سبحانه : { وَإِن تُؤْمِنُواْ } بما ذكر { وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ } عوضاً عن ذلك : { أَجْرٌ عَظِيمٌ } لا يعرف قدره ، ولا يبلغ كنهه . قوله : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ } الموصول في محل رفع على أنه فاعل الفعل على قراءة من قرأ بالياء التحتية ، والمفعول الأول محذوف ، أي : لا يحسبنّ الباخلون البخل خيراً لهم . قاله الخليل ، وسيبويه ، والفراء ، قالوا : وإنما حذف لدلالة يبخلون عليه ، ومن ذلك قول الشاعر :
إذا نُهِى السَفِيه جَرَى إليه ... وخالَفَ والسَّفِيهُ إلى خِلافِ
أي : جرى إلى السفه ، فالسّفيه دلّ على السَّفه . وأما على قراءة من قرأ بالفوقية ، فالفعل مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والمفعول الأول محذوف ، أي : لا تحسبنّ يا محمد بخل الذين يبخلون خيراً لهم . قال الزجاج : هو : مثل { واسئل القرية } [ يوسف : 82 ] والضمير المذكور هو ضمير الفصل . قال المبرد : والسين في قوله : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ } سين الوعيد ، وهذه الجملة مبينة قوله : { بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } قيل : ومعنى التطويق هنا أنه يكون ما بخلوا به من المال طوقاً من نار في أعناقهم . وقيل معناه : أنه سيحملون عقاب ما بخلوا به ، فهو من الطاقة ، وليس من التطويق ، وقيل المعنى : أنهم يلزمون أعمالهم ، كما يلزم الطوق العنق ، يقال : طوق فلان عمله طوق الحمامة : أي : ألزم جزاء عمله ، وقيل : إن ما لم تؤدّ زكاته من المال يمثل له شجاعاً أقرع حتى يطوّق به في عنقه ، كما ورد ذلك مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم . قال القرطبي : والبخل في اللغة أن يمنع الإنسان الحق الواجب ، فأما من منع ما لا يجب عليه ، فليس ببخيل . قوله : { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض } أي : له وحده لا لغيره ، كما يفيده التقديم . والمعنى : أن له ما فيهما مما يتوارثه أهلها ، فما بالهم يبخلون بذلك ، ولا ينفقونه ، وهو لله سبحانه لا لهم ، وإنما كان عندهم عارية مستردة! ومثل هذه الآية قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا } [ مريم : 40 ] وقوله : { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ }
[ الحديد : 7 ] والميراث في الأصل : هو ما يخرج من مالك إلى آخر ، ولم يكن مملوكاً لذلك الآخر قبل انتقاله إليه بالميراث ، ومعلوم أن الله سبحانه هو المالك بالحقيقة لجميع مخلوقاته .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد : { إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان } قال : هم المنافقون ، وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، عن ابن مسعود قال : ما من نفس برّة ، ولا فاجرة إلا ، والموت خير لها من الحياة إن كان براً ، فقد قال الله : { وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لّلأبْرَارِ } [ آل عمران : 198 ] وإن كان فاجراً ، فقد قال : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ } الآية . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن أبي الدرداء نحوه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، عن محمد بن كعب ، نحوه .
وأخرج عبد بن حميد ، عن أبي برزة أيضاً نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي قال : قالوا إن كان محمد صادقاً ، فليخبرنا بمن يؤمن به منا ، ومن يكفر ، فأنزل الله : { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين } الآية . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : يميز أهل السعادة من أهل الشقاوة ، وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة قال : يميز بينهم في الجهاد ، والهجرة ، وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن في قوله : { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب } قال : ولا يطلع على الغيب إلا رسول . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد : { وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى } قال : يختص . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مالك قال : يستخلص .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ } قال : هم أهل الكتاب بخلوا أن يبينوه للناس . وأخرج ابن جرير ، عن مجاهد قال : هم يهود . وأخرج ابن جرير ، عن السدي قال : بخلوا أن ينفقوها في سبيل الله لم يؤدوا زكاتها . وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من آتاه الله مالاً ، فلم يؤد زكاته ، مثل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ، فيأخذ بلهزمته - يعني بشدقه - فيقول : أنا مالك أنا كنزك ، ثم تلا هذه الآية » وقد ورد هذا المعنى في أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة يرفعونها .
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
قال أهل التفسير : لما أنزل الله : { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا } [ البقرة : 245 ، الحديد : 11 ] قال قوم من اليهود : هذه المقالة تمويهاً على ضعفائهم ، لا أنهم يعتقدون ذلك؛ لأنهم أهل الكتاب ، بل أرادوا أنه تعالى إن صح ما طلبه منا من القرض على لسان محمد ، فهو فقير ليشككوا على إخوانهم في دين الإسلام . وقوله : { سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ } سنكتبه في صحف الملائكة ، أو سنحفظه ، أو سنجازيهم عليه . والمراد : الوعيد لهم ، وأن ذلك لا يفوت على الله ، بل هو معدّ لهم ليوم الجزاء . وجملة سنكتب على هذا مستأنفة جواباً لسؤال مقدر ، كأنه قيل : ماذا صنع الله بهؤلاء الذين سمع منهم هذا القول الشنيع؟ فقال : قال لهم : { سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ } . وقرأ الأعمش ، وحمزة : «سيكتب» بالمثناة التحتية مبني للمفعول . وقرأ برفع اللام من «قتلهم» و " يقول " بالياء المثناة تحت . قوله : { وَقَتْلِهِمُ الأنبياء } عطف على { ما قالوا } ، أي : ونكتب قتلهم الأنبياء ، أي : قتل أسلافهم للأنبياء ، وإنما نسب ذلك إليهم لكونهم رضوا به ، جعل ذلك القول قريناً لقتل الأنبياء تنبيهاً على أنه من العظم ، والشناعة بمكان يعدل قتل الأنبياء . قوله : { وَنَقُولُ } معطوف على { سَنَكْتُبُ } أي : ننتقم منهم بعد الكتابة بهذا القول الذي نقوله لهم في النار ، أو عند الموت ، أو عند الحساب . والحريق : اسم للنار الملتهبة وإطلاق الذوق على إحساس العذاب فيه مبالغة بليغة . وقرأ ابن مسعود : «ويقال ذوقوا» والإشارة بقوله : { ذلك } إلى العذاب المذكور قبله ، وأشار إلى القريب بالصيغة التي يشار بها إلى البعيد للدلالة على بعد منزلته في الفظاعة ، وذكر الأيدي لكونها المباشرة لغالب المعاصي .
وقوله : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } معطوف على { مَّا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُم } ووجه أنه سبحانه عذبهم بما أصابوا من الذنب ، وجازاهم على فعلهم ، فلم يكن ذلك ظلماً ، أو بمعنى : أنه مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء ، وليس بظالم لمن عذبه بذنبه ، وقيل : إن وجهه أن نفي الظلم مستلزم للعدل المقتضي لإثابة المحسن ، ومعاقبة المسيء ، ورد بأن ترك التعذيب مع وجود سببه ، ليس بظلم عقلاً ، ولا شرعاً ، وقيل : إن جملة قوله : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } في محل رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : والأمر أن الله ليس بظلام للعبيد ، والتعبير بذلك عن نفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم عند أهل السنة فضلاً عن كونه ظلماً بالغاً لبيان تنزهه عن ذلك ، ونفي ظلام المشعر بالكثرة ، يفيد ثبوت أصل الظلم . وأجيب عن ذلك بأن الذي توعد بأن يفعله بهم لو كان ظلماً لكان عظيماً ، فنفاه على حدّ عظمه لو كان ثابتاً .
قوله : { الذين قَالُواْ } هو خبر مبتدأ محذوف أي : هم الذين قالوا ، وقيل : نعت للعبيد ، وقيل : منصوب على الذم ، وقيل : هو في محل جر بدل من { لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ } وهو ضعيف؛ لأن البدل هو المقصود دون المبدل منه ، وليس الأمر كذلك هنا ، والقائلون هؤلاء هم جماعة من اليهود ، كما سيأتي ، وهذا المقول ، وهو أن الله عهد إليهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتيهم بالقربان هو من جملة دعاويهم الباطلة . وقد كان دأب بني إسرائيل أنهم كانوا يقربون القربان ، فيقوم النبي ، فيدعو ، فتنزل نار من السماء ، فتحرقه ، ولم يتعبد الله بذلك كل أنبيائه ، ولا جعله دليلاً على صدق دعوى النبوة ، ولهذا ردّ الله عليهم ، فقال : { قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بالبينات وبالذى قُلْتُمْ } من القربان { فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صادقين } كيحيى بن زكريا وشعياء ، وسائر من قتلوا من الأنبياء . والقربان : ما يتقرب به إلى الله من نسيكة وصدقة وعمل صالح ، وهو فعلان من القربة؛ ثم سلّى الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله : { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ جَاءوا } بمثل ما جئت به من البينات . والزبر جمع زبور : وهو الكتاب ، وقد تقدم تفسيره { والكتاب المنير } الواضح الجلي المضيء ، يقال نار الشيء ، وأنار ، ونوره ، واستناره بمعنى .
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : دخل أبو بكر بيت المدراس ، فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له : فنحاص ، وكان من علمائهم ، وأحبارهم . فقال أبو بكر : ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم ، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة ، فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر ، وإنه إلينا لفقير ، وما نتضرع إليه ، كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء ، ولو كان غنياً عنا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم ، ينهاكم عن الربا ، ويعطينا ، ولو كان غنياً عنا ما أعطانا الربا ، فغضب أبو بكر ، فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة ، وقال : والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت عنقك يا عدو الله ، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد انظر ما صنع صاحبك بي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : « ما حملك على ما صنعت؟ » فقال : يا رسول الله قال قولاً عظيماً ، يزعم أن الله فقير ، وأنهم عنه أغنياء ، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال ، فضربت وجهه ، فجحد فنحاص فقال : ما قلت ذلك ، فأنزل الله فيما قال فنحاص تصديقاً لأبي بكر : { لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ } الآية ، ونزل في أبي بكر ، وما بلغه في ذلك من الغضب
{ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ أَذىً كَثِيراً } [ آل عمران : 186 ] الآية . وقد أخرج هذه القصة ابن جرير ، وابن المنذر ، عن عكرمة ، وأخرجها ابن جرير ، عن السدي بأخصر من ذلك .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أتت اليهود محمداً صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله : { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا } [ البقرة : 245 ] فقالوا : يا محمد أفقير ربك يسأل عباده القرض؟ فأنزل الله الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة : أن القائل لهذه المقالة حيي بن أخطب ، وأنها نزلت فيه . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن العلاء بن بدر أنه سئل عن قوله : { وَقَتْلِهِمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقّ } وهم : لم يدركوا ذلك ، قال : بموالاتهم من قتل الأنبياء .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } قال : ما أنا بمعذب من لم يجترم . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الضحاك في قوله : { الذين قَالُواْ إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا } قال : هم اليهود . وأخرج ابن أبي حاتم ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار } [ التوبة : 30 ] قال : يتصدق الرجل منا ، فإذا تقبل منه أنزلت عليه النار من السماء ، فأكلته . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن في قوله : { الذين قَالُواْ إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا } قال : كذبوا على الله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله : { بالبينات } قال : الحلال ، والحرام { والزبر } قال : كتب الأنبياء { والكتاب المنير } قال : هو القرآن .
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
قوله : { ذَائِقَةُ } من الذوق ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
مَن لَمْ يَمُت غَبْطة يَمُتْ هَرَماً ... المَوت كَأسٌ والمرءُ ذَائِقُها
وهذه الآية تتضمن الوعد ، والوعيد للمصدق ، والمكذب بعد إخباره ، عن الباخلين القائلين { إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } . وقرأ الأعمش ، ويحيى بن وثاب ، وابن أبي إسحاق : { ذَائِقَةُ الموت } بالتنوين ونصب الموت . وقرأ الجمهور بالإضافة . قوله : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة } أجر المؤمن : الثواب ، وأجر الكافر : العقاب ، أي : أن توفية الأجور ، وتكميلها إنما تكون في ذلك اليوم ، وما يقع من الأجور في الدنيا ، أو في البرزخ ، فإنما هو بعض الأجور ، والزحزحة : التنحية ، والإبعاد : تكرير الزح ، وهو الجذب بعجلة ، قاله في الكشاف ، وقد سبق الكلام عليه ، أي : فمن بعد عن النار يومئذ ، ونحى ، فقد فاز ، أي : ظفر بما يريد ، ونجا مما يخاف ، وهذا هو الفوز الحقيقي الذي لا فوز يقاربه ، فإن كل فوز ، وإن كان بجميع المطالب دون الجنة ليس بشيء بالنسبة إليها ، اللهم لا فوز إلا فوز الآخرة ، ولا عيش إلا عيشها ، ولا نعيم إلا نعيمها ، فاغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، وارض عنا رضاً لا سخط بعده ، واجمع لنا بين الرضا منك علينا ، والجنة . والمتاع : ما يتمتع به الإنسان ، وينتفع به ، ثم يزول ، ولا يبقى كذا قال أكثر المفسرين . الغرور : الشيطان يغرّ الناس بالأماني الباطلة ، والمواعيد الكاذبة ، شبه سبحانه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على من يريده ، وله ظاهر محبوب ، وباطن مكروه .
قوله : { لَتُبْلَوُنَّ فِى أموالكم وَأَنفُسِكُمْ } هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأمته تسلية لهم عما سيلقونه من الكفرة ، والفسقة؛ ليوطنوا أنفسهم على الثبات ، والصبر على المكاره . والابتلاء : الامتحان ، والاختبار ، والمعنى : لتمتحننّ ، ولتختبرنّ في أموالكم بالمصائب ، والإنفاقات الواجبة ، وسائر التكاليف الشرعية المتعلقة بالأموال . والابتلاء في الأنفس بالموت ، والأمراض ، وفقد الأحباب ، والقتل في سبيل الله . وهذه الجملة جواب قسم محذوف دلت عليه اللام الموطئة { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } وهم : اليهود والنصارى . { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } وهم سائر الطوائف الكفرية من غير أهل الكتاب : { أَذًى كَثِيراً } من الطعن في دينكم ، وأعراضكم ، والإشارة بقوله : { فَإِنَّ ذلك } إلى الصبر ، والتقوى المدلول عليهما بالفعلين . وعزم الأمور : معزوماتها ، أي : مما يجب عليكم أن تعزموا عليه لكونه عزمة من عزمات الله التي أوجب عليهم القيام بها ، يقال عزم الأمر ، أي : شدّه ، وأصلحه .
قوله : { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب } هذه الآية توبيخ لأهل الكتاب وهم : اليهود والنصارى ، أو اليهود فقط على الخلاف في ذلك ، والظاهر أن المراد بأهل الكتاب : كل من آتاه الله علم شيء من الكتاب ، أيُّ كتاب كان ، كما يفيده التعريف الجنسي في الكتاب .
قال الحسن ، وقتادة : إن الآية عامة لكل عالم ، وكذا قال محمد بن كعب ، ويدل على ذلك قول أبي هريرة : لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ، ثم تلا هذه الآية ، والضمير في قوله : { لَتُبَيّنُنَّهُ } راجع إلى الكتاب ، وقيل : راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يتقدّم له ذكر؛ لأن الله أخذ على اليهود والنصارى أن يبينوا نبوته للناس ، ولا يكتموها { فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ } . وقرأ أبو عمرو ، وعاصم في رواية أبي بكر ، وأهل المدينة : «ليبيننه» بالياء التحتية ، وقرأ الباقون بالمثناة الفوقية . وقرأ ابن عباس : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتنيننه " ويشكل على هذه القراءة قوله : { فَنَبَذُوهُ } فلا بد من أن يكون فاعله الناس . وفي قراءة ابن مسعود : «لتبينونه» والنبذ : الطرح ، وقد تقدّم في البقرة : { وَرَاء ظُهُورِهِمْ } مبالغة في النبذ ، والطرح ، وقد تقدّم أيضاً معنى قوله : { واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } والضمير عائد إلى الكتاب الذي أمروا ببيانه ، ونُهوا عن كتمانه ، وقوله : { ثَمَناً قَلِيلاً } أي : حقيراً يسيراً من حطام الدنيا ، وأعراضها ، قوله : { فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } " ما " نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس ، ويشترون صفة ، والمخصوص بالذم محذوف ، أي : بئس شيئاً يشترونه بذلك الثمن . قوله : { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ } قرأ الكوفيون بالتاء الفوقية ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يصلح له . وقوله : { بِمَا أَتَوْاْ } أي : بما فعلوا . وقد اختلف في سبب نزول الآية ، كما سيأتي ، والظاهر شمولها لكل من حصل منه ما تضمنته عملاً بعموم اللفظ ، وهو المعتبر دون خصوص السبب ، فمن فرح بما فعل ، وأحب أن يحمده الناس بما لم يفعل ، فلا تحسبنه بمفازة من العذاب . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وابن كثير ، وأبو عمرو : «لا يحسبنّ» بالياء التحتية ، أي : لا يحسبن الفارحون فرحهم منجياً لهم من العذاب ، فالمفعول الأوّل محذوف ، وهو فرحهم ، والمفعول الثاني بمفازة من العذاب . وقوله : { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ } تأكيد للفعل الأوّل على القراءتين ، والمفازة : المنجاة ، مفعلة من فاز يفوز إذا نجا ، أي : ليسوا بفائزين ، سمي موضع الخوف مفازة على جهة التفاؤل قاله الأصمعي . وقيل : لأنها موضع تفويز ، ومظنة هلاك ، تقول العرب : فوّز الرجل إذا مات . قال ثعلب : حكيت لابن الأعرابي قول الأصمعي ، فقال : أخطأ . قال لي أبو المكارم : إنما سميت مفازة؛ لأن من قطعها فاز . وقال ابن الأعرابي : بل؛ لأنه مستسلم لما أصابه . وقيل المعنى : لا تحسبنهم بمكان بعيد من العذاب؛ لأن الفوز التباعد عن المكروه . وقرأ مروان بن الحكم ، والأعمش ، وإبراهيم النخعي : «آتوا» بالمد ، أي : يفرحون بما أعطوا . وقرأ جمهور القراء السبعة ، وغيرهم { أتوا } بالقصر .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وهناد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، وابن حبان ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« إن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، اقرءوا إن شئتم : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور } » وأخرج ابن مردويه ، عن سهل بن سعد مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الزهري في قوله : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ ومن الذين أشركوا } قال : هو كعب بن الأشرف ، وكان يحرّض المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه في شعره . وأخرج ابن المنذر ، من طريق الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن جريج في الآية قال : يعني : اليهود والنصارى ، فكان المسلمون يسمعون من اليهود قولهم : { عُزَيْرٌ ابن الله } [ التوبة : 30 ] ، ومن النصارى قولهم : { المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } قال : من القوة مما عزم الله عليه ، وأمركم به . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } قال : فنحاص ، وأشيع ، وأشباههما من الأحبار . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } قال : كان الله أمرهم أن يتبعوا النبي الأميّ . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه في الآية قال : في التوراة والإنجيل أن الإسلام دين الله الذي افترضه على عباده ، وأن محمداً رسول الله يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة ، والإنجيل ، فنبذوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في الآية قال : هم اليهود : { لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } قال : محمداً صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير ، عن السدي مثله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في الآية قال : هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم ، فمن علم علماً ، فليعلمه للناس ، وإياكم وكتمان العلم ، فإن كتمان العلم هلكة . وأخرج ابن سعد عن الحسن قال : لولا الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه . وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما؛ أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس ، فقل : لئن كان كل امريء منا فرح بما أوتي وأحبّ أن يحمد بما لم يفعل معذباً؛ لَنُعذَّبنّ أجمعون ، فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية ، إنما أنزلت في أهل الكتاب ، ثم تلا : { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب } الآية ، قال ابن عباس : سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فكتموه إياه ، وأخبروه بغيره ، فخرجوا ، وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه ، واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه .
وفي البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، عن أبي سعيد الخدري : أن رجالاً من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه ، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه ، وحلفوا ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فنزلت . وقد روي : أنها نزلت في فنحاص ، وأشيع ، وأشباههما . وروي أنها نزلت في اليهود . وأخرج مالك ، وابن سعد ، والطبراني ، والبيهقي في الدلائل ، عن محمد بن ثابت أن ثابت بن قيس قال : يا رسول الله لقد خشيت أن أكون قد هلكت قال : « لم؟ » قال : قد نهانا الله أن نحبّ أن نحمد بما لم نفعل ، وأجدني أحبّ الحمد ، ونهانا عن الخيلاء ، وأجدني أحب الجمال ، ونهانا أن نرفع أصواتنا فوق صوتك ، وأنا رجل جهير الصوت ، فقال : « يا ثابت ألا ترضى أن تعيش حميداً ، وتقتل شهيداً ، وتدخل الجنة؟ » فعاش حميداً ، وقتل شهيداً يوم مسيلمة الكذاب . وأخرج ابن المنذر ، عن الضحاك في قوله : { بِمَفَازَةٍ } قال بمنجاة . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد مثله .
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
قوله : { إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض } هذه جملة مستأنفة لتقرير اختصاصه سبحانه بما ذكره فيها . والمراد ذات السموات ، والأرض ، وصفاتهما : { واختلاف اليل والنهار } أي : تعاقبهما ، وكون كل واحد منهما يخلف الآخر ، وكون زيادة أحدهما في نقصان الآخر ، وتفاوتهما طولاً ، وقصراً ، وحراً ، وبرداً وغير ذلك : { لآيَاتٍ } أي : دلالات واضحة ، وبراهين بينة تدل على الخالق سبحانه . وقد تقدم تفسير بعض ما هاهنا في سورة البقرة . والمراد بأولي الألباب : أهل العقول الصحيحة الخالصة ، عن شوائب النقص ، فإن مجرد التفكير فيما قصه الله في هذه الآية يكفي العاقل ، ويوصله إلى الإيمان الذي لا تزلزله الشبه ، ولا تدفعه التشكيكات .
قوله : { الذين يَذْكُرُونَ الله قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ } الموصول نعت لأولي الألباب ، وقيل : هو مفصول عنه خبر مبتدأ محذوف ، أو منصوب على المدح . والمراد بالذكر هنا : ذكره سبحانه في هذه الأحوال من غير فرق بين حال الصلاة ، وغيرها . وذهب جماعة من المفسرين إلى أن الذكر هنا عبارة عن الصلاة ، أي : لا يضيعونها في حال من الأحوال ، فيصلونها قياماً مع عدم العذر ، وقعوداً ، وعلى جنوبهم مع العذر . قوله : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السموات والأرض } معطوف على قوله : { يَذَّكَّرُونَ } وقيل : إنه معطوف على الحال ، أعني : { قياما وَقُعُوداً } وقيل : إنه منقطع عن الأوّل ، والمعنى : أنهم يتفكرون في بديع صنعهما ، وإتقانهما مع عظم أجرامها ، فإن هذا الفكر إذا كان صادقاً ، أوصلهم إلى الإيمان بالله سبحانه . قوله : { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا } هو على تقدير القول ، أي : يقولون ما خلقت هذا عبثاً ، ولهواً ، بل خلقته دليلاً على حكمتك ، وقدرتك . والباطل : الزائل الذاهب ، ومنه قول لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وهو منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي : خلقاً باطلاً ، وقيل : منصوب بنزع الخافض ، وقيل : هو مفعول ثان ، وخلق بمعنى : جعل ، أو منصوب على الحال ، والإشارة بقوله : { هذا } إلى السموات والأرض ، أو إلى الخلق على أنه بمعنى المخلوق . قوله : { سبحانك } أي : تنزيهاً لك عما لا يليق بك من الأمور التي من جملتها أن يكون خلقك لهذه المخلوقات باطلاً . وقوله : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } الفاء لترتيب هذا الدعاء على ما قبله .
وقوله : { رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } تأكيد لما تقدمه من استدعاء الوقاية من النار منه سبحانه ، وبيان للسبب الذي لأجله دعاه عباده بأن يقيهم عذاب النار ، وهو أن من أدخله النار ، فقد أخزاه ، أي : أذله ، وأهانه . وقال المفضل : معنى أخزيته أهلكته ، وأنشد :
أخْزَى الإله بني الصَلِيب عُنَيْزة ... واللابِسين مَلابِس الرهْبَانِ
وقيل : معناه : فضحته ، وأبعدته ، يقال : أخزاه الله : أبعده ومقته ، والاسم الخزي .
قال ابن السّكِّيت : خَزَي يَخْزُى خِزياً : إذا وقع في بَلِيَّة .
قوله : { رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى للإيمان } المنادي عند أكثر المفسرين هو النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : هو القرآن ، وأوقع السماع على المنادي مع كون المسموع هو النداء؛ لأنه قد وصف المنادي بما يسمع ، وهو قوله : { ينادي للإيمان أن آمنوا } . وقال أبو علي الفارسي : إن «ينادي» هو المفعول الثاني وذكر { ينادي } مع أنه قد فهم من قوله : { مُنَادِياً } لقصد التأكيد ، والتفخيم لشأن هذا المنادى به ، واللام في قوله : { للإيمان } بمعنى إلى ، وقيل : إن ينادي يتعدّى باللام ، وبإلى ، يقال ينادي لكذا ، وينادي إلى كذا ، وقيل : اللام للعلة ، أي : لأجل الإيمان . قوله : { أن آمنوا } هي : إما تفسيرية ، أو مصدرية ، وأصلها بأن آمنوا ، فحذف حرف الجرّ . قوله : { فَئَامَنَّا } أي : امتثلنا ما يأمر به هذا المنادي من الإيمان فآمنا ، وتكرير النداء في قوله : { رَبَّنَا } لإظهار التضرع ، والخضوع ، قيل المراد : بالذنوب هنا الكبائر ، وبالسيئات الصغائر . والظاهر عدم اختصاص أحد اللفظين بأحد الأمرين ، والآخر بالآخر ، بل يكون المعنى في الذنوب ، والسيئات واحداً ، والتكرير للمبالغة ، والتأكيد ، كما أن معنى الغفر ، والكفر : الستر . والأبرار جمع بارّ أو برّ ، وأصله من الاتساع ، فكأن البار متسع في طاعة الله ، ومتسعة له رحمته ، قيل : هم الأنبياء ، ومعنى اللفظ أوسع من ذلك .
قوله : { رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } هذا دعاء آخر والنكتة في تكرير النداء ما تقدّم ، والموعود به على ألسن الرسل هو الثواب الذي وعد الله به أهل طاعته ، ففي الكلام حذف ، وهو لفظ الألسن ، كقوله : { واسئل القرية } [ يوسف : 82 ] وقيل : المحذوف التصديق ، أي : ما وعدتنا على تصديق رسلك ، وقيل : ما وعدتنا منزلاً على رسلك ، أو محمولاً على رسلك ، والأول أولى . وصدور هذا الدعاء منهم مع علمهم أن ما وعدهم الله به على ألسن رسله كائن لا محالة ، إما لقصد التعجيل ، أو للخضوع بالدعاء ، لكونه مخ العبادة ، وفي قولهم : { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد } دليل على أنهم لم يخافوا خلف الوعد ، وأن الحامل لهم على الدعاء هو ما ذكرنا .
وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال : أتت قريش اليهود ، فقالوا ما جاءكم به موسى من الآيات؟ قالوا عصاه ، ويده بيضاء للناظرين ، وأتوا النصارى ، فقالوا : كيف كان عيسى فيكم؟ قالوا : كان يبرىء الأكمه ، والأبرص ، ويحيي الموتى ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهباً ، فدعا ربه ، فنزلت : { إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض } الآية . وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال : بتُّ عند خالتي ميمونة ، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتصف الليل ، أو قبله بقليل ، أو بعده بقليل ، ثم استيقظ ، فجعل يمسح النوم عن وجهه بيديه ، ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران حتى ختم .
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، والطبراني ، والحاكم في الكنى ، والبغوي في معجم الصحابة ، عن صفوان بن المعطل قال : كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر ، فذكر نحوه .
وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، من طريق جوبير ، عن الضحاك ، عن ابن مسعود في قوله : { الذين يَذْكُرُونَ الله قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ } الآية ، قال : إنما هذه في الصلاة إذا لم يستطع قائماً ، فقاعداً ، وإن لم يستطع قاعداً ، فعلى جنبه . وقد ثبت في البخاري من حديث عمران بن حصين قال : «كانت بي بواسير ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة ، فقال : " صلّ قائماً ، فإن لم تستطع ، فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب " وثبت فيه عنه قال : «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن صلاة الرجل ، وهو قاعد ، فقال : " من صلى قائماً ، فهو أفضل ، ومن صلى قاعداً ، فله نصف أجر القائم ، ومن صلى نائماً ، فله نصف أجر القاعد " وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في الآية قال : هذه حالاتك كلها يابن آدم ، اذكر الله ، وأنت قائم ، فإن لم تستطع ، فاذكره جالساً ، فإن لم تستطع جالساً ، فاذكره ، وأنت على جنبك ، يسر من الله ، وتخفيف .
وأقول هذا التقييد الذي ذكره بعدم الاستطاعة مع تعميم الذكر لا وجه له لا من الآية ، ولا من غيرها ، فإنه لم يرد في شيء من الكتاب ، والسنة ما يدل على أنه لا يجوز الذكر من قعود إلا مع عدم استطاعة الذكر من قيام ، ولا يجوز على جنب إلا مع عدم استطاعته من قعود ، وإنما يصلح هذا التقييد لمن جعل المراد بالذكر هنا : الصلاة ، كما سبق عن ابن مسعود .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن حبان في صحيحه ، وابن مردويه ، عن عائشة مرفوعاً : " ويل لمن قرأ هذه الآية ، ولم يتفكر فيها " . وأخرج ابن أبي الدنيا في التفكر عن سفيان رفعه " من قرأ آخر سورة آل عمران ، فلم يتفكر فيها ، ويله فعدّ أصابعه عشراً " قيل للأوزاعي : ما غاية التفكر فيهنّ؟ قال : يقرؤهنّ ، وهو يعقلهنّ . وقد وردت أحاديث ، وآثار عن السلف في استحباب التفكر مطلقاً .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أنس في قوله : { مَنْ تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } قال : من تخلد . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن سعيد بن المسيب في الآية قال : هذه خاصة بمن لا يخرج منها . وأخرج ابن جرير ، والحاكم ، عن عمرو بن دينار قال : قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة ، فانتهيت إليه أنا ، وعطاء فقلت :
{ وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار } [ البقرة : 167 ] قال : أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم الكفار ، قلت لجابر : فقوله : { إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } قال : وما أخزاه حين أحرقه بالنار ، وإن دون ذلك خزياً .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن جريج في قوله : { مُنَادِياً يُنَادِى للإيمان } قال : هو محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد مثله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن محمد بن كعب القرظي قال : هو القرآن ، ليس كل أحد سمع النبي صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن جريج في قوله : { رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } قال : يستنجزون موعد الله على رسله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة } قال : لا تفضحنا .
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
قوله : { فاستجاب } الاستجابة بمعنى : الإجابة؛ وقيل : الإجابة عامة ، والاستجابة خاصة بإعطاء المسئول ، وهذا الفعل يتعدى بنفسه ، وباللام ، يقال استجابه ، واستجاب له ، والفاء للعطف؛ وقيل : على مقدّر : أي : دعوا بهذه الأدعية ، فاستجاب لهم ، وقيل : على قوله : { وَيَتَفَكَّرُونَ } وإنما ذكر سبحانه الاستجابة ، وما بعدها في جملة ما لهم من الأوصاف الحسنة؛ لأنها منه ، إذ من أجيبت دعوته ، فقد رفعت درجته . قوله : { أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ } أي بأني ، وقرأ عيسى بن عمرو بكسر الهمزة على تقدير القول الأول ، وقرأ أبيّ بثبوت الباء ، وهي للسببية ، أي : فاستجاب لهم ربهم بسبب أنه لا يضيع عمل عامل منهم . والمراد بالإضاعة : ترك الإثابة . قوله : { مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } " من " بيانية ومؤكدة لما تقتضيه النكرة الواقعة في سياق النفي من العموم . قوله : { بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ } أي : رجالكم مثل نسائكم في الطاعة ، ونساؤكم مثل رجالكم فيها ، والجملة معترضة لبيان كون كل منهما من الآخر باعتبار تشعبهما من أصل واحد .
قوله : { فالذين هاجروا } الآية ، هذه الجملة تتضمن تفصيل ما أجمل في قوله : { أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ } أي فالذين هاجروا من أوطانهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَأُخْرِجُواْ مِن ديارهم } في طاعة الله عزّ وجلّ { وَقَاتِلُواْ } أعداء الله { وَقُتّلُواْ } في سبيل الله ، وقرأ ابن كثير ، وابن عامر : «وقتّلوا» على التكثير وقرأ الأعمش ، وحمزة ، والكسائي : «وقتلوا وقاتلوا» وهو مثل قول الشاعر :
تصابى وأمسى علاه الكبر ... أي : قد علاه الكبر ، وأصل الواو لمطلق الجمع بلا ترتيب ، كما قال به الجمهور . ولمراد هنا : أنهم قاتلوا ، وقتل بعضهم ، كما قال امرؤ القيس :
فإن تقتلونا نقتلكمو ... وقرأ عمر بن عبد العزيز : «وقتلوا وقتلوا» . ومعنى قوله : { وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى } أي : بسببه ، والسبيل : الدين الحق . والمراد هنا : ما نالهم من الأذية من المشركين بسبب إيمانهم بالله ، وعملهم بما شرعه الله لعباده . وقوله : { لأكَفّرَنَّ } جواب قسم محذوف . وقوله : { ثَوَاباً مّن عِندِ الله } مصدر مؤكد عند البصريين ، لأن معنى قوله : { لأدخلنهم جنات } لأثيبنهم ثواباً ، أي : إثابة ، أو تثويباً كائناً من عند الله . وقال الكسائي : إنه منتصب على الحال . وقال الفراء : على التفسير { والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب } أي : حسن الجزاء ، وهو ما يرجع على العامل من جزاء عمله من ثاب يثوب : إذا رجع .
وقد أخرج سعيد بن منصور ، وعبد الرزاق ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، عن أم سلمة قالت : يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ، فأنزل الله : { فاستجاب لَهُمْ } إلى آخر الآية . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عطاء قال : «ما من عبد يقول يا ربّ يا ربّ يا ربّ ثلاث مرات إلا نظر الله إليه» فذكر للحسن ، فقال : أما تقرأ القرآن؟ { رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً } إلى قوله : { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ } . وأخرج ابن مردويه ، عن أم سلمة قالت : آخر آية نزلت هذه الآية : { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ } إلى آخرها . وقد ورد في فضل الهجرة أحاديث كثيرة .
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
قوله : { لاَ يَغُرَّنَّكَ } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم . والمراد : تثبيته على ما هو عليه ، كقوله تعالى : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ } [ النساء : 136 ] أو خطاب لكل أحد ، وهذه الآية متضمنة لقبح حال الكفار بعد ذكر حسن حال المؤمنين؛ والمعنى : لا يغرنك ما هم فيه من تقلبهم في البلاد بالأسفار للتجارة التي يتوسعون بها في معاشهم ، فهو متاع قليل يتمتعون به في هذه الدار ، ثم مصيرهم إلى جهنم ، فقوله : { متاع } خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو متاع قليل لا اعتداد به بالنسبة إلى ثواب الله سبحانه { وَمَأْوَاهُمُ } أي : ما يأوون إليه . والتقلب في البلاد : الاضطراب في الأسفار إلى الأمكنة ، ومثله قوله تعالى : { فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى البلاد } [ غافر : 4 ] والمتاع ما يعجل الانتفاع به ، وسماه قليلاً؛ لأنه فانٍ وكل فانٍ ، وإن كان كثيراً ، فهو قليل . وقوله : { وَبِئْسَ المهاد } ما مهدوا لأنفسهم في جهنم بكفرهم ، أو ما مهد الله لهم من النار ، فالمخصوص بالذم محذوف ، وهو هذا المقدّر .
قوله : { لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ } هو استدراك مما تقدّمه؛ لأن معناه معنى النفي كأنه قال : ليس لهم في تقلبهم في البلاد كثير انتفاع { لَكِنِ الذين اتقوا } لهم الانتفاع الكثير ، والخلد الدائم . وقرأ يزيد بن القعقاع « لكن » بتشديد النون . قوله : { نُزُلاً } مصدر مؤكد عند البصريين ، كما تقدّم في { ثواباً } وعند الكسائي ، والفراء مثل ما قالا في { ثواباً } ، والنزل ما يهيأ للنزيل ، والجمع أنزال ، قال الهروي : { نُزُلاٍ مّنْ عِندِ الله } أي : ثواباً من عند الله { وَمَا عِندَ الله } مما أعدّه لمن أطاعه { خَيْرٌ لّلأبْرَارِ } مما يحصل للكفار من الربح في الأسفار فإنه متاع قليل عن قريب يزول .
قوله : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله } هذه الجملة سيقت لبيان أن بعض أهل الكتاب لهم حظّ من الدين ، وليسوا كسائرهم في فضائحهم التي حكاها الله عنهم فيما سبق ، وفيما سيأتي ، فإن هذا البعض يجمعون بين الإيمان بالله ، وبما أنزل الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أنزله على أنبيائهم حال كونهم { خاشعين للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ } أي : يستبدلون { بآيات الله ثمناً قليلاً } بالتحريف ، والتبديل ، كما يفعله سائرهم ، بل يحكون كتب الله سبحانه ، كما هي ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى هذه الطائفة الصالحة من أهل الكتاب من حيث اتصافهم بهذه الصفات الحميدة { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } الذي وعد الله سبحانه به بقوله : { أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } [ القصص : 54 ] وتقديم الخبر يفيد اختصاص ذلك الأجر بهم . وقوله : { عِندَ رَبّهِمْ } في محل نصب على الحال . قوله : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اصبروا } الخ . هذه الآية العاشرة من قوله سبحانه :
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السموات } [ البقرة : 164 ، آل عمران : 190 ] ختم بها هذه السورة لما اشتملت عليه من الوصايا التي جمعت خير الدنيا ، والآخرة ، فحض على الصبر على الطاعات ، والشهوات ، والصبر : الحبس ، وقد تقدم تحقيق معناه . والمصابرة : مصابرة الأعداء ، قاله الجمهور : أي : غالبوهم في الصبر على الشدائد الحرب ، وخص المصابرة بالذكر بعد أن ذكر الصبر لكونها أشدّ منه ، وأشقّ . وقيل : المعنى : صابروا على الصلوات ، وقيل صابروا الأنفس عن شهواتها . وقيل : صابروا الوعد الذي وعدتم ، ولا تيأسوا ، والقول الأول هو المعنى العربي ، ومنه قول عنترة :
فَلَمْ أرَ حيّاً صَابَروا مِثْل صَبَرْنا ... وَلا كَافَحوا مِثْلَ الذين نُكَافِحُ
أي : صابروا العدّو في الحرب . قوله : { وَرَابِطُواْ } أي : أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها ، كما يربطها أعداؤكم وهذا قول جمهور المفسرين . وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة ، ولم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ، وسيأتي ذكر من خرج عنه هذا ، والرباط اللغوي هو الأوّل ، ولا ينافيه تسميته صلى الله عليه وسلم ، لغيره رباطاً ، كما سيأتي . ويمكن إطلاق الرباط على المعنى الأول ، وعلى انتظار الصلاة . قال الخليل : الرباط ملازمة الثغور ، ومواظبة الصلاة ، هكذا قال ، وهو من أئمة اللغة . وحكى ابن فارس عن الشيباني أنه قال : يقال ماء مترابط دائم لا يبرح ، وهو يقتضي تعدية الرباط إلى غير ارتباط الخيل في الثغور . قوله : { واتقوا الله } فلا تخالفوا ما شرعه لكم { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : تكونون من جملة الفائزين بكل مطلوب ، وهم : المفلحون .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن عكرمة في قوله : { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ } تقلب ليلهم ، ونهارهم وما يجري عليهم من النعم ، قال عكرمة : قال ابن عباس ، وبئس المهاد ، أي : بئس المنزل . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي في قوله : { تَقَلُّبُهُمْ فِى البلاد } [ غافر : 4 ] قال ضربهم في البلاد . وأخرج عبد بن حميد ، والبخاري في الأدب المفرد ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عمر في قوله : { وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لّلابْرَارِ } قال : إنما سماهم الله أبراراً؛ لأنهم بروا الآباء ، والأبناء ، كما أن لوالدك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حقاً . وأخرجه ابن مردويه ، عنه مرفوعاً ، والأول أصح قاله السيوطي . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد : { خَيْرٌ لّلأبْرَارِ } لمن يطيع الله .
وأخرج النسائي ، والبزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن أنس قال : لما مات النجاشي قال صلى الله عليه وسلم : « صلوا عليه ، » قالوا : يا رسول الله نصلي على عبد حبشي؟ فأنزل الله { وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب } الآية . وأخرج ابن جرير ، عن جابر مرفوعاً أن المنافقين قالوا : انظروا إلى هذا - يعني النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على علج نصراني ، فنزلت .
وأخرج الحاكم وصححه ، عن عبد الله بن الزبير أنها نزلت في النجاشي . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال : هم مسلمة أهل الكتاب من اليهود والنصارى . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن قال : هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد ، والذين اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن المبارك ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ما قدّمنا ذكره .
وأخرج ابن مردويه عنه عن أبي هريرة قال : أما إنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه ، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد يصلون الصلوات في مواقيتها ثم يذكرون الله فيها . وقد ثبت في الصحيح وغيره من قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط " وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن محمد بن كعب القرظي؛ قال : اصبروا على دينكم ، وصابروا ، الوعد الذي وعدتكم ، ورابطوا عدوي ، وعدوكم . وقد روي من تفاسير السلف غير هذا في سر الصبر على نوع من أنواع الطاعات ، والمصابرة على نوع آخر ، ولا تقوم بذلك حجة ، فالواجب الرجوع إلى المدلول اللغوي ، وقد قدّمناه .
وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الرباط ، وفيها التصريح بأنه الرباط في سبيل الله ، وهو يردّ ما قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ندب إلى الرباط في سبيل الله ، وهو الجهاد ، فيحمل ما في الآية عليه ، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه سمى حراسة جيش المسلمين رباطاً ، فأخرج الطبراني في الأوسط بسند جيد عن أنس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر المرابط ، فقال : " من رابط ليلة حارساً من وراء المسلمين كان له أجر من خلفه ممن صام وصلى "
وقد ورد في فضل هذه العشر الآيات التي في آخر هذه السورة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أخرجه ابن السني ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، عن أبي هريرة : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة " وفي إسناده مظاهر بن أسلم ، وهو ضعيف . وقد تقدم من حديث ابن عباس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه العشر الآيات لما استيقظ . وكذلك تقدم في غير الصحيحين من رواية صفوان بن المعطل عن النبي صلى الله عليه وسلم . وأخرج الدارمي عن عثمان بن عفان قال : «من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة» .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
المراد بالناس : الموجودون عند الخطاب من بني آدم ، ويدخل من سيوجد بدليل خارجي ، وهو الإجماع على أنهم مكلفون بما كلف به الموجودون ، أو تغليب الموجودين على من لم يوجد ، كما غلب الذكور على الإناث في قوله : { اتقوا رَبَّكُمُ } لاختصاص ذلك بجمع المذكر . والمراد بالنفس الواحدة هنا : آدم . وقرأ ابن أبي عبلة ، « واحد » بغير هاء على مراعاة المعنى ، فالتأنيث باعتبار اللفظ ، والتذكير باعتبار المعنى . قوله : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } قيل : هو معطوف على مقدر يدل عليه الكلام ، أي : خلقكم من نفس واحدة خلقها أولاً ، وخلق منها زوجها ، وقيل : على خلقكم ، فيكون الفعل الثاني داخلاً مع الأوّل في حيز الصلة . والمعنى : وخلق من تلك النفس التي هي عبارة عن آدم زوجها ، وهي حواء . وقد تقدم في البقرة معنى التقوى ، والربّ ، والزوج ، والبث ، والضمير في قوله : { مِنْهَا } راجع إلى آدم وحواء المعبر عنهما بالنفس ، والزوج . وقوله : { كَثِيراً } وصف مؤكد لما تفيده صيغة الجمع لكونها من جموع الكثرة وقيل : هو نعت لمصدر محذوف ، أي : بثاً كثيراً . وقوله : { وَنِسَاء } أي : كثيرة ، وترك التصريح به استغناء بالوصف الأوّل . قوله : { واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ والأرحام } قرأ أهل الكوفة بحذف التاء الثانية ، وأصله تتساءلون تخفيفاً لاجتماع المثلين . وقرأ أهل المدينة ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر بإدغام التاء في السين؛ والمعنى : يسأل بعضكم بعضاً بالله والرحم ، فإنهم كانوا يقرنون بينهما في السؤال ، والمناشدة ، فيقولون : أسألك بالله والرحم ، وأنشدك الله والرحم ، وقرأ النخعي ، وقتادة ، والأعمش ، وحمزة : { والأرحام } بالجر . وقرأ الباقون بالنصب .
وقد اختلف أئمة النحو في توجيه قراءة الجر ، فأما البصريون ، فقالوا : هي لحن لا تجوز القراءة بها . وأما الكوفيون ، فقالوا هي قراءة قبيحة . قال سيبويه في توجيه هذا القبح : إن المضمر المجرور بمنزلة التنوين ، والتنوين لا يعطف عليه . وقال الزجاج ، وجماعة : بقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإعادة الخافض كقوله تعالى { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض } [ القصص : 81 ] وجوز سيبويه ذلك في ضرورة الشعر ، وأنشد :
فاليوم قرّبت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيام من عجب
ومثله قول الآخر :
تعلق في مثل السوارى سيوفنا ... وما بينها والكعب وهوىً نفانف
بعطف الكعب على الضمير في بينها . وحكى أبو علي الفارسي أن المبرد قال : لو صليت خلف إمام يقرأ : « واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ والأرحام » بالجر ، لأخذت نعلي ، ومضيت . وقد ردّ الإمام أبو نصر القشيري ما قاله القادحون في قراء الجرّ ، فقال : ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين ، لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم تواتراً ، ولا يخفى عليك أن دعوى التواتر باطلة ، يعرف ذلك من يعرف الأسانيد التي رووها بها ، ولكن ينبغي أن يحتج للجواز بورود ذلك في أشعار العرب ، كما تقدم ، وكما في قول بعضهم :
وحسبك والضحاك سيف مهند ... وقول الآخر :
وقد رام آفاق السماء فلم يجد ... له مصعداً فيها ولا الأرض مقعداً
وقول الآخر :
ما إن بها ولا الأمور من تلف ... ما حُمَّ من أمر غَيْبِه وَقَعَا
وقول الآخر :
أمر على الكتيبة لست أدري ... أحتفي كان فيها أم سواها
فسواها في موضع جرّ عطفاً على الضمير في فيها ، ومنه قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين } [ الحجر : 30 ] . وأما قراءة النصب ، فمعناها واضح جليّ؛ لأنه عطف الرحم على الاسم الشريف ، أي : اتقوا الله واتقوا الأرحام فلا تقطعوها ، فإنها مما أمر الله به أن يوصل وقيل إنه عطف على محل الجار والمجرور في قوله { بِهِ } كقولك مررت بزيد وعمراً ، أي : اتقوا الله الذي تساءلون به ، وتتساءلون بالأرحام . والأوّل أولى . وقرأ عبد الله بن يزيد ، « والأرحام » بالرفع على الابتداء ، والخبر مقدّر ، أي : والأرحام صلوها ، أو والأرحام أهل أن توصل ، وقيل : إن الرفع على الإغراء عند من يرفع به ، ومنه قول الشاعر :
إن قوماً منهم عمير وأشبا ... هُ عمير ومنهم السفاح
لجديرون باللقاء إذا ق ... ل أخ النجدة السلاح السلاح
و { الأرحام } اسم لجميع الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره ، لا خلاف في هذا بين أهل الشرع ، ولا بين أهل اللغة . وقد خصص أبو حنيفة ، وبعض الزيدية الرحم بالمحرم ، في منع الرجوع في الهبة ، مع موافقتهم على أن معناها أعم ، ولا وجه لهذا التخصيص . قال القرطبي : اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة ، وأن قطيعتها محرّمة ، انتهى . وقد وردت بذلك الأحاديث الكثيرة الصحيحة . والرقيب : المراقب ، وهي صيغة مبالغة ، يقال رقبت أرقب رقبة ورقباناً : إذا انتظرت .
قوله : { وَءاتُواْ اليتامى أموالهم } خطاب للأولياء ، والأوصياء . والإيتاء : الإعطاء . واليتيم : من لا أب له . وقد خصصه الشرع بمن لم يبلغ الحلم . وقد تقدم تفسير معناه في البقرة مستوفي ، وأطلق اسم اليتيم عليهم عند إعطائهم أموالهم ، مع أنهم لا يعطونها إلا بعد ارتفاع اسم اليتم بالبلوغ مجازاً باعتبار ما كانوا عليه ، ويجوز أن يراد باليتامى المعنى الحقيقي ، وبالإيتاء ما يدفعه الأولياء ، والأوصياء إليهم من النفقة ، والكسوة لا دفعها جميعاً ، وهذه الآية مقيدة بالآية الأخرى ، وهي قوله تعالى : { فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 6 ] فلا يكون مجرد ارتفاع اليتم بالبلوغ مسوغاً لدفع أموالهم إليهم ، حتى يؤنس منهم الرشد .
قوله : { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب } نهي لهم عن أن يصنعوا صنع الجاهلية في أموال اليتامى ، فإنهم كانوا يأخذون الطيب من أموال اليتامى ، ويعوضونه بالرديء من أموالهم ، ولا يرون بذلك بأساً وقيل المعنى : لا تأكلوا أموال اليتامى ، وهي محرّمة خبيثة ، وتدعوا الطيب من أموالكم .
وقيل المراد : لا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم ، وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله ، والأوّل أولى؛ فإن تبدل الشيء بالشيء في اللغة أخذه مكانه ، وكذلك استبداله ، ومنه قوله تعالى : { وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل } [ البقرة : 108 ] وقوله : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الذى هُوَ أدنى بالذى هُوَ خَيْرٌ } [ البقرة : 61 ] وأما التبديل فقد يستعمل كذلك كما في قوله : { وبدلناهم بجنتيهم جَنَّتَيْنِ } [ سبأ : 16 ] وأخرى بالعكس ، كما في قولك بدّلت الحلقة بالخاتم : إذا أذبتها ، وجعلتها خاتماً ، نص عليه الأزهري .
قوله : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم } ذهب جماعة من المفسرين إلى أن المنهي عنه في هذه الآية هو الخلط ، فيكون الفعل مضمناً معنى الضم ، أي : لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم ، ثم نسخ هذا بقوله تعالى : { وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم } [ البقرة : 220 ] وقيل : إن « إلى » بمعنى « مع » ، كقوله تعالى : { مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله } [ آل عمران : 52 ] والأوّل أولى . والحوب : الإثم يقال حاب الرجل يحوب حوباً : إذا أثم ، وأصله الزجر للإبل ، فسمي الإثم حوباً لأنه يزجر عنه . والحوبة : الحاجة . والحوب أيضاً : الوحشة ، وفيه ثلاث لغات : ضم الحاء وهي قراءة الجمهور . وفتح الحاء ، وهي قراءة الحسن ، قال الأخفش : وهي لغة تميم . والثالثة الحاب . وقرأ أبيّ بن كعب حاباً على المصدر ، كقال قالا . والتحوب التحزن ، ومنه قول طفيل :
فذوقوا كما ذقنا غداة مُجّجرٍ ... من الغيظ في أكبادنا والتحوب
قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى فانكحوا } وجه ارتباط الجزاء بالشرط أن الرجل كان يكفل اليتيمة لكونه ولياً لها ويريد أن يتزوجها ، فلا يقسط لها في مهرها ، أي : يعدل فيه ، ويعطيها ما يعطيها غيره من الأزواج ، فنهاهم الله أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا لهنّ ، ويبلغوا بهنّ أعلى ما هو لهنّ من الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهنّ من النساء سواهنّ ، فهذا سبب نزول الآية كما سيأتي ، فهو نهي يخص هذه الصورة . وقال جماعة من السلف : إن هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية ، وفي أوّل الإسلام من أن للرجل أن يتزوج من الحرائر ما شاء ، فقصرهم بهذه الآية على أربع ، فيكون وجه ارتباط الجزاء بالشرط أنهم إذا خافوا ألا يقسطوا في اليتامى ، فكذلك يخافون ألا يقسطوا في النساء ، لأنهم كانوا يتحرجون في اليتامى ، ولا يتحرجون في النساء ، والخوف من الأضداد ، فإن المخوف قد يكون معلوماً ، وقد يكون مظنوناً ، ولهذا اختلف الأئمة في معناه في الآية ، فقال أبو عبيدة : { خِفْتُمْ } بمعنى أيقنتم . وقال آخرون : { خِفْتُمْ } بمعنى ظننتم . قال ابن عطية : وهو الذي اختاره الحذاق ، وأنه على بابه من الظن لا من اليقين ، والمعنى : من غلب على ظنه التقصير في العدل لليتيمة ، فليتركها ، وينكح غيرها .
وقرأ النخعي وابن وثاب : " تُقْسِطُواْ " بفتح التاء من قسط : إذا جار ، فتكون هذه القراءة على تقدير زيادة " لا " ، كأنه قال : وإن خفتم أن تقسطوا . وحكى الزجاج أن أقسط يستعمل استعمال قسط ، والمعروف عند أهل اللغة أن أقسط بمعنى عدل ، وقسط بمعنى جار .
و«ما» في قوله : { مَا طَابَ } موصولة ، وجاء " بما " مكان " من " . لأنهما قد يتعاقبان ، فيقع كل واحد منهما مكان الآخر كما في قوله : { والسماء وَمَا بناها } [ الشمس : 5 ] { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على بَطْنِهِ } { وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى على أَرْبَع } [ النور : 45 ] . وقال البصريون : إن «ما» تقع للنعوت كما تقع لما لا يعقل ، يقال ما عندك؟ فيقال ظريف وكريم ، فالمعنى : فانكحوا الطيب من النساء ، أي : الحلال ، وما حرّمه الله ، فليس بطيب ، وقيل : إن «ما» هنا مدّية ، أي : ما دمتم مستحسنين للنكاح ، وضعفه ابن عطية . وقال الفراء : إن «ما» ها هنا مصدرية . قال النحاس : وهذا بعيد جداً . وقرأ ابن أبي عبلة : " فانكحوا منْ طَابَ } . وقد اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له ، وأنه يجوز لمن لم يخف أن يقسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة ، و«من» في قوله : { مّنَ النساء } إما بيانية ، أو تبعيضية ، لأن المراد غير اليتائم . قوله : { مثنى وثلاث وَرُبَاعَ } في محل نصب على البدل من «ما» كما قاله أبو علي الفارسي . وقيل : على الحال ، وهذه الألفاظ لا تنصرف للعدل والوصفية ، كما هو مبين في علم النحو ، والأصل : انكحوا ما طاب لكم من النساء اثنتين اثنتين ، وثلاثاً ثلاثاً ، وأربعاً أربعاً .
وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع ، وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة ، وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد ، كما يقال للجماعة : اقتسموا هذا المال ، وهو ألف درهم ، أو هذا المال الذي في البدرة درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة . وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته ، أو عين مكانه ، أما لو كان مطلقاً ، كما يقال : اقتسموا الدراهم ، ويراد به ما كسبوه ، فليس المعنى هكذا . والآية من الباب الآخر لا من الباب الأوّل . على أن من قال لقوم يقتسمون مالاً معيناً كثيراً اقتسموه مثنى وثلاث ورباع ، فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين ، وبعضه ثلاثة ثلاثة ، وبعضه أربعة أربعة ، كان هذا هو المعنى العربيّ ، ومعلوم أنه إذا قال القائل جاءني القوم مثنى ، وهم مائة ألف . كان المعنى أنهم جاؤوه اثنين اثنين ، وهكذا جاءني في القوم ثلاث ورباع ، والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد ، كما في قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] { أَقِيمُواْ الصلاة } [ النور : 56 ] ، { أَتَوْا الزكواة } [ النور : 56 ] ونحوها ، فقوله : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء مثنى وثلاث وَرُبَاعَ } معناه لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين ، وثلاثاً ثلاثاً ، وأربعاً أربعاً ، هذا ما تقتضيه لغة العرب .
فالآية تدلّ على خلاف ما استدلوا بها عليه ، ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ *تَعْدِلُواْ فواحدة } فإنه وإن كان خطاباً للجميع ، فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد . فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن .
وأما استدلال من استدّل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة ، فكأنه قال : انكحوا مجموع هذا العدد المذكور ، فهذا جهل بالمعنى العربي ، ولو قال : انكحوا اثنتين وثلاثاً وأربعا كان هذا القول له وجه ، وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا ، وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون « أو » ، لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره ، وذلك ليس بمراد من النظم القرآني . وقرأ النخعي ، ويحيى بن وثاب « ثلث وربع » بغير ألف .
قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فواحدة } فانكحوا واحدة ، كما يدل على ذلك قوله : { فانكحوا مَا طَابَ } وقيل : التقدير فالزموا ، أو فاختاروا واحدة . والأول أولى ، والمعنى : فإن خفتم ألا تعدلوا بين الزوجات في القسم ، ونحوه ، فانكحوا واحدة ، وفيه المنع من الزيادة على الواحدة لمن خاف ذلك . وقرىء بالرفع على أنه مبتدأ ،
والخبر محذوف . قال الكسائي : أي فواحدة تقنع . وقيل التقدير : فواحدة فيها كفاية ، ويجوز أن تكون واحدة على قراءة الرفع خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالمقنع واحدة . قوله : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم } معطوف على واحدة ، أي : فانكحوا واحدة ، أو انكحوا ما ملكت أيمانكم من السراري ، وإن كثر عددهنّ ، كما يفيده الموصول . والمراد : نكاحهن بطريق الملك لا بطريق النكاح ، وفيه دليل على أنه لا حق للمملوكات في القسم ، كما يدل على ذلك جعله قسيماً للواحدة في الأمن من عدم العدل ، وإسناد الملك إلى اليمين ، لكونها المباشرة لقبض الأموال ، وإقباضها ، ولسائر الأمور التي تنسب إلى الشخص في الغالب ، ومنه :
إذا ما راية نصبت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
قوله : { ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ } أي ذلك أقرب إلى ألا تعولوا ، أي : تجوروا ، من عال الرجل يعول : إذا مال وجار ، ومنه قولهم عال السهم عن الهدف : مال عنه ، وعال الميزان إذا مال ، ومنه :
قالوا تبعنا رسول الله واطرحوا ... قول الرسول وعالوا في الموازين
ومنه قول أبى طالب :
بميزان صدق لا يغل شعيرة ... له شاهد من نفسه غير عائل
ومنه أيضاً :
فنحن ثلاثة وثلاث ذود ... لقد عال الزمان على عيالي
والمعنى : إن خفتم عدم العدل بين الزوجات ، فهذه التي أمرتم بها أقرب إلى عدم الجور ، ويقال عال الرجل يعيل : إذا افتقر ، وصار عالة ، ومنه قوله تعالى :
{ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } [ التوبة : 28 ] ، ومنه قول الشاعر :
وما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغنيّ متى يعيل
وقال الشافعي : { أَلاَّ تَعُولُواْ } ألا تكثر عيالكم . قال الثعلبي : وما قال هذا غيره ، وإنما يقال أعال يعيل : إذا كثر عياله . وذكر ابن العربي أن عال تأتي لسبعة معان : الأوّل عال : مال . الثاني زاد . الثالث جار . الرابع افتقر الخامس أثقل ، السادس قام بمؤونة العيال ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « وابدأ بمن تعول » ، السابع عال : غلب ، ومنه عيل صبري ، قال : ويقال أعال الرجل : كثر عياله . وأما عال بمعنى كثر عياله ، فلا يصح ، ويجاب عن إنكار الثعلبي لما قاله الشافعي ، وكذلك إنكار ابن العربي لذلك ، بأنه قد سبق الشافعي إلى القول به زيد بن أسلم وجابر بن زيد ، وهما إمامان من أئمة المسلمين لا يفسران القرآن هما ، والإمام الشافعي بما لا وجه له في العربية . وقد أخرج ذلك عنهما الدارقطني في سننه . وقد حكاه القرطبي عن الكسائي ، وأبي عمر الدوري ، وابن الأعرابي ، وقال أبو حاتم : كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا ، ولعله لغة . وقال الثعلبي : قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب : سألت أبا عمر الدوري عن هذا ، وكان إماماً في اللغة غير مدافع ، فقال : هي لغة حمير ، وأنشد :
وإن الموت يأخذ كل حي ... بلا شك وإن أمشي وعالا
أي : وإن كثرت ماشيته وعياله . وقرأ طلحة بن مصرف : « أَن لا تعيلوا » قال ابن عطية : وقدح الزجاج في تأويل عال من العيال بأن الله سبحانه قد أباح كثرة السراري ، وفي ذلك تكثير العيال ، فكيف يكون أقرب إلى أن لا يكثروا ، وهذا القدح غير صحيح ، لأن السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع ، وإنما العيال الحرائر ذوات الحقوق الواجبة . وقد حكى ابن الأعرابي أن العرب تقول : عال الرجل إذا كثر عياله ، وكفى بهذا .
وقد ورد عال لمعان غير السبعة التي ذكرها ابن العربي ، منها عال : اشتدّ وتفاقم ، حكاه الجوهري ، وعال الرجل في الأرض : إذا ضرب فيها ، حكاه الهروي ، وعال : إذا أعجز ، حكاه الأحمر ، فهذه ثلاثة معان غير السبعة والرابع عال كثر عياله ، فجملة معاني عال أحد عشر معنى .
قوله : { وَءاتُواْ النساء صدقاتهن نِحْلَةً } الخطاب للأزواج . وقيل : للأولياء . والصدقات بضم الدال جمع صدقة كثمرة ، قال الأخفش : وبنو تميم يقولون صدقة ، والجمع صدقات ، وإن شئت فتحت ، وإن شئت أسكنت . والنحلة بكسر النون وضمها لغتان ، وأصلها العطاء نحلت فلاناً : أعطيته ، وعلى هذا ، فهي منصوبة على المصدرية لأن الإيتاء بمعنى الإعطاء . وقيل : النحلة التدين فمعنى نحلة تديناً ، قاله الزجاج ، وعلى هذا ، فهي منصوبة على المفعول له . وقال قتادة : النحلة الفريضة ، وعلى هذا فهي منصوبة على الحال .
وقيل : النحلة طيبة النفس ، قال أبو عبيد : ولا تكون النحلة إلا عن طيبة نفس . ومعنى الآية على كون الخطاب للأزواج : أعطوا النساء اللاتي نكحتموهنّ مهورهنّ التي لهن عليكم عطية ، أو ديانة منكم ، أو فريضة عليكم ، أو طيبة من أنفسكم . ومعناها على كون الخطاب للأولياء : أعطوا النساء من قراباتكم التي قبضتم مهورهنّ من أزواجهنّ تلك المهور . وقد كان الولي يأخذ مهر قريبته في الجاهلية ، ولا يعطيها شيئاً ، حكى ذلك عن أبي صالح ، والكلبي . والأوّل أولى ، لأن الضمائر من أوّل السياق للأزواج . وفي الآية دليل على أن الصداق واجب على الأزواج للنساء ، وهو مجمع عليه ، كما قال القرطبي ، قال : وأجمع العلماء أنه لا حدّ لكثيره ، واختلفوا في قليله . وقرأ قتادة : «صدقاتهن» بضم الصاد وسكون الدال . وقرأ النخعي ، وابن وثاب بضمهما . وقرأ الجمهور بفتح الصاد وضم الدال .
قوله : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } الضمير في { منه } راجع إلى الصداق الذي هو واحد الصدقات ، أو إلى المذكور ، وهو الصدقات ، أو هو بمنزلة اسم الإشارة ، كأنه قال من ذلك ، و { نفساً } تمييز . وقال أصحاب سيبويه : منصوب بإضمار فعل لا تمييز ، أي : أعني نفساً . والأوّل أولى ، وبه قال الجمهور . والمعنى : فإن طبن ، أي : النساء لكم أيها الأزواج ، أو الأولياء عن شيء من المهر { فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } وفي قوله : { طِبْنَ } دليل على أن المعتبر في تحليل ذلك منهن لهم إنما هو طيبة النفس لا مجرد ما يصدر منها من الألفاظ التي لا يتحقق معها طيبة النفس ، فإذا ظهر منها ما يدل على عدم طيبة نفسها لم يحلّ للزوج ، ولا للوليّ ، وإن كانت قد تلفظت بالهبة ، أو النذر ، أو نحوهما . وما أقوى دلالة هذه الآية على عدم اعتبار يصدر من النساء من الألفاظ المفيدة للتمليك بمجردها لنقصان عقولهنّ ، وضعف إدراكهنّ ، وسرعة انخداعهن ، وانجذابهنّ إلى ما يراد منهن بأيسر ترغيب ، أو ترهيب .
وقوله : { هَنِيئاً مَّرِيئاً } منصوبان على أنهما صفتان لمصدر محذوف ، أي : أكلا هنيئاً مريئاً ، أو قائمان مقام المصدر ، أو على الحال ، يقال : هناه الطعام والشراب يهنيه ، ومرأه وأمرأه من الهنيء ، والمريء ، والفعل هنأ ، ومرأ ، أي : أتى من غير مشقة ، ولا غيظ ، وقيل : هو الطيب الذي لا تنغيص فيه . وقيل : المحمود العاقبة الطيب الهضم . وقيل : مالا إثم فيه ، والمقصود هنا أنه حلال لهم خالص عن الشوائب . وخص الأكل لأنه معظم ما يراد بالمال وإن كان سائر الانتفاعات به جائزة كالأكل .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة } قال : آدم { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } قال : حواء من قصيري آدم ، أي : قصيري أضلاعه . وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس مثله .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر قال : خلقت حواء من خلف آدم الأيسر . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الضحاك قال : من ضلع الخلف ، وهو من أسفل الاضلاع . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس : { واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ } قال : تعاطون به . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الربيع قال : تعاقدون وتعاهدون . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال : يقول أسألك بالله والرحم . وأخرج ابن جرير ، عن الحسن نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : اتقوا الله الذي تساءلون به ، واتقوا الأرحام ، وصلوها .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد : { إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } قال : حفيظاً .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير قال : إن رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له ، فلما بلغ اليتيم طلب ماله ، فمنعه عمه ، فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { وَءاتُواْ اليتامى أموالهم } يعني الأوصياء ، يقول : أعطوا اليتامى أموالهم : { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب } يقول : لا تستبدلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم ، يقول : لا تذروا أموالكم الحلال ، وتأكلوا أموالهم الحرام . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن مجاهد قال : لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال الذي قدّر لك : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم } قال : مع أموالكم تخلطونها ، فتأكلونها جميعاً { إِنَّهُ كَانَ حُوباً } إثماً . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد في الآية قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ، ولا يورثون الصغار يأخذه الأكبر ، فنصيبه من الميراث طيب ، وهذا الذي يأخذ خبيث . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن قتادة قال : مع أموالكم . وأخرج ابن جرير ، عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم ، وجعل وليّ اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { ويَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم } [ البقرة : 220 ] قال : فخالطوهم .
وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما : أن عروة سأل عائشة عن قول الله عز وجل : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى } قالت : يابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في مالها ، ويعجبه مالها ، وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا عن أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا لهنّ ، ويبلغوا بهنّ أعلى سننهنّ في الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهنّ ، وأن الناس قد استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية ، فأنزل الله :
{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النساء } [ النساء : 127 ] قالت عائشة : وقول الله في الآية الأخرى : { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } [ النساء : 127 ] رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال ، والجمال ، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها ، وجمالها من باقي النساء إلا بالقسط ، من أجل رغبتهم عنهنّ إذا كن قليلات المال ، والجمال . وأخرج البخاري ، عن عائشة : أن رجلاً كانت له يتيمة ، فنكحها ، وكان لها عذق ، فكان يمسكها عليه ، ولم يكن لها من نفسه شيء ، فنزلت : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى } أحسبه قال : كانت شريكته في ذلك العذق ، وفي ماله . وقد روي هذا المعنى من طرق . وأخرج ابن جرير ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس في الآية قال : كان الرجل يتزوج بمال اليتيم ما شاء الله تعالى ، فنهى الله عن ذلك . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه قال : قصر الرجال على أربع نسوة من أجل أموال اليتامى .
وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى } قال : كان الرجل يتزوج ما شاء ، فقال : كما تخافون ألا تعدلوا في اليتامى ، فخافوا في النساء ألا تعدلوا فيهنّ ، فقصرهم على الأربع . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في الآية قال : كانوا في الجاهلية ينكحون عشراً من النساء الأيامى ، وكانوا يعظمون شأن اليتيم ، فتفقدوا من دينهم شأن اليتامى ، وتركوا ما كانوا ينكحون في الجاهلية . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه في الآية قال : كما خفتم ألا تعدلوا في اليتامى ، فخافوا ألا تعدلوا في النساء إذا جمعتموهنّ عندكم . وأخرج ابن أبي حاتم ، من طريق محمد بن أبي موسى الأشعري عنه قال : فإن خفتم الزنا ، فانكحوهن ، يقول : كما خفتم في أموال اليتامى ألا تقسطوا فيها ، فكذلك فخافوا على أنفسكم ما لم تنكحوا . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد نحوه .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي مالك : { مَا طَابَ لَكُمْ } قال : ما أحلّ لكم . وأخرج ابن جرير ، عن الحسن ، وسعيد بن جبير مثله . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، عن عائشة نحوه . وأخرج الشافعي ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي ، وابن ماجه ، والنحاس في ناسخه ، والدارقطني ، والبيهقي ، عن ابن عمر : أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم ، وتحته عشر نسوة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « اختر منهنّ » وفي لفظ : « أمسك منهنّ أربعاً ، وفارق سائرهن » هذا الحديث أخرجه هؤلاء المذكورون من طرق ، عن إسماعيل بن علية ، وغندر ، وزيد بن زريع ، وسعيد بن أبي عروبة ، وسفيان الثوري ، وعيسى بن يونس ، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي ، والفضل بن موسى ، وغيرهم من الحفاظ عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم عن أبيه ، فذكره .
وقد علل البخاري هذا الحديث ، فحكى عنه الترمذي أنه قال : هذا حديث غير محفوظ . والصحيح ما روي عن شعيب ، وغيره ، عن الزهري حدثت ، عن محمد بن سويد الثقفي أن غيلان بن سلمة ، فذكره ، وأما حديث الزهري ، عن أبيه : أن رجلاً من ثقيف طلق نساءه ، فقال له عمر : لأرجمنّ قبرك ، كما رجم قبر أبي رغال . وقد رواه معمر ، عن الزهري مرسلاً ، وهكذا رواه مالك عن الزهري مرسلاً . قال أبو زرعة : وهو أصح . ورواه عقيل ، عن الزهري : بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد قال أبو حاتم : وهذا وهم ، إنما هو الزهري ، عن عثمان بن أبي سويد . وقد ساقه أحمد برجال الصحيح ، فقال : حدثنا إسماعيل ، ومحمد بن جعفر قالا : حدثنا معمر ، عن الزهري قال أبو جعفر في حديثه : أخبرنا ابن شهاب ، عن سالم عن أبيه أن غيلان ، فذكره ، وقد روى من غير طريق معمر ، والزهري ، فأخرجه البيهقي ، عن أيوب ، عن نافع ، وسالم ، عن ابن عمر : أن غيلان فذكره .
وأخرج أبو داود وابن ماجه في سننهما عن عمير الأسدي قال : أسلمت ، وعندي ثمان نسوة ، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " اختر منهنّ أربعاً " . قال ابن كثير : إن إسناده حسن . وأخرج الشافعي في مسنده ، عن نوفل بن معاوية الديلي قال : أسلمت ، وعندي خمس نسوة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمسك أربعاً ، وفارق الأخرى " وأخرج ابن ماجه ، والنحاس في ناسخه ، عن قيس بن الحارث الأسدي قال : «أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته ، فقال : " اختر منهنّ أربعاً ، وخلّ سائرهنّ ، ففعلت " . وهذه شواهد للحديث الأوّل ، كما قال البيهقي . وأخرج ابن أبي شيبة ، والبيهقي في سننه عن الحكم قال : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن المملوك لا يجمع من النساء فوق اثنتين . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في الآية يقول : إن خفت ألا تعدل في أربع فثلاث ، وإلا فثنتين ، وإلا فواحدة ، فإن خفت ألا تعدل في واحدة ، فما ملكت يمينك . وأخرج ابن جرير ، عن الربيع مثله .
وأخرج أيضاً ، عن الضحاك : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ } قال : في المجامعة والحبّ . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم } قال : السراري . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان في صحيحه ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : { ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ } قال : " ألا تجوروا " . قال ابن أبي حاتم قال أبي : هذا حديث خطأ ، والصحيح ، عن عائشة موقوف .
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
هذا رجوع إلى بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى . وقد تقدّم الأمر بدفع أموالهم إليهم في قوله تعالى : { وَءاتُواْ اليتامى أموالهم } [ النساء : 2 ] فبين سبحانه هاهنا أن السفيه ، وغير البالغ لا يجوز دفع ماله إليه . وقد تقدّم في البقرة معنى السفيه لغة .
واختلف أهل العلم في هؤلاء السفهاء من هم؟ فقال سعيد بن جبير : هم اليتامى لا تؤتوهم أموالكم . قال النحاس ، وهذا من أحسن ما قيل في الآية . وقال مالك : هم الأولاد الصغار لا تعطوهم أموالكم ، فيفسدوها ، وتبقوا بلا شيء . وقال مجاهد : هم النساء . قال النحاس ، وغيره : وهذا القول لا يصح إنما تقول العرب سفائه أو سفيهات . واختلفوا في وجه إضافة الأموال إلى المخاطبين ، وهي للسفهاء ، فقيل : أضافها إليهم؛ لأنها بأيديهم ، وهم الناظرون فيها ، كقوله : { فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ } [ النور : 61 ] ، وقوله : { فاقتلوا أَنفُسَكُمْ } [ البقرة : 54 ] أي : ليسلم بعضكم على بعض ، وليقتل بعضكم بعضاً ، وقيل : أضافها إليهم لأنها من جنس أموالهم ، فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق في الأصل . وقيل المراد : أموال المخاطبين حقيقة . وبه قال أبو موسى الأشعري ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة . والمراد : النهي عن دفعها إلى من لا يحسن تدبيرها كالنساء ، والصبيان ، ومن هو ضعيف الإدراك لا يهتدي إلى وجوه النفع التي تصلح المال ، ولا يتجنب ، وجوه الضرر التي تهلكه ، وتذهب به .
قوله : { التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما } المفعول الأوّل محذوف ، والتقدير التي جعلها الله لكم ، و«قيما» قراءة أهل المدينة ، وأبي عامر ، وقرأ غيرهم : «قياماً» وقرأ عبد الله بن عمر : «قواما» والقيام والقوام : ما يقيمك ، يقال فلان قيام أهله ، وقوام بيته ، وهو الذي يقيم شأنه ، أي : يصلحه ، ولما انكسرت القاف في قوام أبدلوا الواو ياء . قال الكسائي والفراء : قيماً وقواماً بمعنى قياماً ، وهو منصوب على المصدر أي : لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي تصلح بها أموركم ، فتقومون بها قياماً ، وقال الأخفش : المعنى قائمة بأموركم ، فذهب إلى أنها جمع . وقال البصريون : قيماً جمع قيمة كديمة وديم ، أي : جعلها الله قيمة للأشياء . وخطأ أبو علي الفارسي هذا القول ، وقال : هي مصدر ، كقيام وقوام . والمعنى : أنها صلاح للحال ، وثبات له ، فأما على قول من قال : إن المراد أموالهم على ما يقتضيه ظاهر الإضافة ، فالمعنى واضح . وأما على قول من قال إنها أموال اليتامى ، فالمعنى أنها من جنس ما تقوم به معايشكم ، ويصلح به حالكم من الأموال . وقرأ الحسن ، والنخعي : «اللاتي جعل» قال الفراء : الأكثر في كلام العرب النساء اللواتي ، والأموال التي ، وكذلك غير الأموال ، ذكره النحاس .
قوله : { وارزقوهم فِيهَا واكسوهم } أي : اجعلوا لهم فيها رزقاً ، أو افرضوا لهم ، وهذا فيمن تلزم نفقته ، وكسوته من الزوجات ، والأولاد ، ونحوهم . وأما على قول من قال : إن الأموال هي أموال اليتامى ، فالمعنى اتجروا فيها حتى تربحوا ، وتنفقوهم من الأرباح ، أو اجعلوا لهم من أموالهم رزقاً ينفقونه على أنفسهم ، ويكتسون به .
وقد استدل بهذه الآية على جواز الحجر على السفهاء ، وبه قال الجمهور . وقال أبو حنيفة : لا يحجر على من بلغ عاقلاً ، واستدل بها أيضاً على وجوب نفقة القرابة ، والخلاف في ذلك معروف في مواطنه . قوله : { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } قيل : ادعوا لهم : بارك الله فيكم ، وحاطكم ، وصنع لكم . وقيل معناه : عدوهم وعداً حسناً قولوا لهم : إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم ، ويقول الأب لابنه : مالي سيصير إليك ، وأنت إن شاء الله صاحبه ، ونحو ذلك . والظاهر من الآية ما يصدق عليه مسمى القول الجميل ، ففيه إرشاد إلى حسن الخلق مع الأهل ، والأولاد ، أو مع الأيتام المكفولين . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه : « خيركم خيركم أهله ، وأنا خيركم لأهلي » قوله : { وابتلوا اليتامى } الابتلاء : الاختبار . وقد تقدّم تحقيقه . وقد اختلفوا في معنى الاختبار ، فقيل : هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه ، ليعلم بنجابته ، وحسن تصرفه ، فيدفع إليه ماله إذا بلغ النكاح ، وآنس منه الرشد ، وقيل : معنى الاختبار : أن يدفع إليه شيئاً من ماله ، ويأمره بالتصرف فيه حتى يعلم حقيقة حاله ، وقيل : معنى الاختبار : أن يرد النظر إليه في نفقة الدار ليعرف كيف تدبيره ، وإن كانت جارية ردّ إليها ما يردّ إلى ربة البيت من تدبير بيتها . والمراد ببلوغ النكاح بلوغ النكاح : بلوغ الحلم كقوله تعالى : { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم } [ النور : 59 ] ومن علامات البلوغ الإنبات ، وبلوغ خمس عشرة سنة . وقال مالك ، وأبو حنيفة ، وغيرهما : لا يحكم لمن لم يحتلم بالبلوغ إلا بعد مضي سبع عشرة سنة ، وهذه العلامات تعم الذكر ، والأنثى ، وتختص الأنثى بالحبل ، والحيض . قوله : { وابتلوا اليتامى } أي : أبصرتم ، ورأيتم ، ومنه قوله : { مِن جَانِبِ الطور نَاراً } [ القصص : 29 ] . قال الأزهري : تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحداً ، معناه : تبصر . وقيل : هو هنا بمعنى : وجد وعلم ، أي : فإن وجدتم ، وعلمتم منهم رشداً . وقراءة الجمهور : { رشدا } بضم الراء وسكون الشين . وقرأ ابن مسعود ، والسلمي ، وعيسى الثقفي بفتح الراء ، والشين ، قيل : هما لغتان ، وقيل : هو بالضم مصدر رشد ، وبالفتح مصدر رشد .
واختلف أهل العلم في معنى الرشد هاهنا ، فقيل : الصلاح في العقل والدين ، وقيل : في العقل خاصة . قال سعيد بن جبير ، والشعبي : إنه لا يدفع إلى اليتيم ماله إذا لم يؤنس رشده ، وإن كان شيخاً . قال الضحاك : وإن بلغ مائة سنة . وجمهور العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم لا يزول عنه الحجر . وقال أبو حنيفة ، لا يحجر على الحرّ البالغ ، وإن كان أفسق الناس ، وأشدهم تبذيراً ، وبه قال النخعي ، وزفر ، وظاهر النظم القرآني أنها لا تدفع إليهم أموالهم إلا بعد بلوغ غاية هي : بلوغ النكاح مقيدة هذه الغاية بإيناس الرشد ، فلا بد من مجموع الأمرين ، فلا تدفع إلى اليتامى أموالهم قبل البلوغ ، وإن كانوا معروفين بالرشد ، ولا بعد البلوغ إلا بعد إيناس الرشد منهم .
والمراد بالرشد : نوعه ، وهو المتعلق بحسن التصرف في أمواله ، وعدم التبذير بها ، ووضعها في مواضعها .
قوله : { وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } الإسراف في اللغة : الإفراط ، ومجاوزة الحدّ . وقال النضر بن شميل : السرف التبذير ، والبدار المبادرة { أَن يَكْبَرُواْ } في موضع نصب بقوله : { بداراً } أي : لا تأكلوا أموال اليتامى أكل إسراف ، وأكل مبادرة لكبرهم ، أو لا تأكلوا لأجل السرف ، ولأجل المبادرة أو لا تأكلوها مسرفين ، ومبادرين لكبرهم ، وتقولوا ننفق أموال اليتامى . فيما نشتهي قبل أن يبلغوا ، فينتزعوها من أيدينا . قوله : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } بين سبحانه ما يحل لهم من أموال اليتامى ، فأمر الغنيّ بالاستعفاف وتوفير مال الصبي عليه ، وعدم تناوله منه ، وسوّغ للفقير أن يأكل بالمعروف .
واختلف أهل العلم في الأكل بالمعروف ما هو؟ فقال قوم : هو القرض إذا احتاج إليه ، ويقضي متى أيسر الله عليه ، وبه قال عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وعبيدة السلماني ، وابن جبير ، والشعبي ، ومجاهد ، وأبو العالية ، والأوزاعي ، وقال النخعي ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة : لا قضاء على الفقير فيما يأكل بالمعروف ، وبه قال جمهور الفقهاء . وهذا بالنظم القرآني ألصق ، فإن إباحة الأكل للفقير مشعرة بجواز ذلك له من غير قرض . والمراد بالمعروف : المتعارف به بين الناس ، فلا يترفه بأموال اليتامى ، ويبالغ في التنعم بالمأكول ، والمشروب ، والملبوس ، ولا يدع نفسه عن سدّ الفاقة ، وستر العورة . والخطاب في هذه الآية لأولياء الأيتام القائمين بما يصلحهم كالأب ، والجدّ ، ووصيهما . وقال بعض أهل العلم : المراد بالآية : اليتيم إن كان غنياً ، وسع عليه ، وعفّ من ماله ، وإن كان فقيراً كان الإنفاق عليه بقدر ما يحصل له ، وهذا القول في غاية السقوط .
قوله : { فإذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } أي : إذا حصل مقتضى الدفع ، فدفعتم إليهم أموالهم ، فأشهدوا عليهم أنهم قد قبضوها منكم لتندفع عنكم التهم ، وتأمنوا عاقبة الدعاوى الصادرة منهم ، وقيل : إن الإشهاد المشروع هو ما أنفقه عليهم الأولياء قبل رشدهم ، وقيل : هو على ردّ ما استقرضه إلى أموالهم ، وظاهر النظم القرآني مشروعية الإشهاد على ما دفع إليهم من أموالهم ، وهو يعمّ الإنفاق قبل الرشد ، والدفع للجميع إليهم بعد الرشد : { وكفى بالله حَسِيباً } أي : حاسباً لأعمالكم شاهداً عليكم في كل شيء تعملونه ، ومن جملة ذلك معاملتكم لليتامى في أموالهم ، وفيه وعيد عظيم ، والباء زائدة ، أي : كفى الله .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم } يقول لا تعمد إلى مالك ، وما خولك الله ، وجعله لك معيشة ، فتعطيه امرأتك ، أو بنتك ، ثم تضطر إلى ما في أيديهم ، ولكن أمسك مالك ، وأصلحه ، وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ، ورزقهم ، ومؤونتهم .
قال : وقوله : { قَياما } يعني : قوامكم من معايشكم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه من طريق العوفي في الآية يقول : لا تسلط السفيه من ولدك على مالك ، وأمره أن يرزقه منه ، ويكسوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه قال : هم بنوك ، والنساء . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن النساء السفهاء إلا التي أطاعت قيمها » وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي هريرة قال : هم الخدم ، وهم شياطين الإنس . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن مسعود قال : هم النساء ، والصبيان .
وأخرج ابن جرير ، عن حضرمي : أن رجلاً عمد ، فدفع ماله إلى امرأته ، فوضعته في غير الحق ، فقال الله : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن سعيد بن جبير قال : هم اليتامى والنساء . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن عكرمة قال : هو مال اليتيم ، يكون عندك ، يقول لا تؤتوه إياه ، وأنفق عليه حتى يبلغ . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { وارزقوهم } يقول : أنفقوا عليهم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد : { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } قال : أمروا أن يقولوا لهم قولاً معروفاً في البرّ ، والصلة . وأخرج ابن جرير ، عن ابن جريج : { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } قال : عدة تعدونهم .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس في قوله : { وابتلوا اليتامى } يعني : اختبروا اليتامى عند الحلم { فإن آنستم } عرفتم { مّنْهُمْ رُشْداً } في حالهم ، والإصلاح في أموالهم : { فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً } يعني تأكل مال اليتيم ببادرة قبل أن يبلغ ، فتحول بينه ، وبين ماله . وأخرج البخاري ، وغيره ، عن عائشة قالت : أنزلت هذه الآية في وليّ اليتيم : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } بقدر قيامه عليه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، عن ابن عباس : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } قال بغناه : { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } قال : يأكل من ماله يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم ، وأخرج ابن جرير عنه قال : هو القرض . وأخرج عبد بن حميد ، والبيهقي ، عن ابن عباس قال : إن كان فقيراً أخذ من فضل اللبن ، وأخذ من فضل القوت ، ولا يجاوزه ، وما يستر عورته من الثياب ، فإن أيسر قضاه ، وإن أعسر ، فهو في حل .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن سعد ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه من طرق عن عمر بن الخطاب قال : إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة وليّ اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن احتجت أخذت منه بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت . وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عمرو : أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ليس لي مال ، ولي يتيم فقال : « » كل من مال يتيمك غير مسرف ، ولا مبذر ، ولا متأثل مالاً ، ومن غير أن تقي مالك بماله « وأخرج أبو داود ، والنحاس كلاهما في الناسخ ، وابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } قال : نسختها { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى } [ النساء : 10 ] الآية .
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
لما ذكر سبحانه حكم أموال اليتامى ، وصله بأحكام المواريث ، وكيفية قسمتها بين الورثة . وأفرد سبحانه ذكر النساء بعد ذكر الرجال ، ولم يقل للرجال والنساء نصيب ، للإيذان بأصالتهنّ في هذا الحكم ، ودفع ما كانت عليه الجاهلية من عدم توريث النساء ، وفي ذكر القرابة بيان لعلة الميراث مع التعميم لما يصدق عليه مسمى القرابة من دون تخصيص . وقوله : { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ } بدل من قوله : { مّمَّا تَرَكَ } بإعادة الجار ، والضمير في قوله : { مِنْهُ } راجع إلى المبدل منه . وقوله : { نَصِيباً } منتصب على الحال ، أو على المصدرية ، أو على الاختصاص ، وسيأتي ذكر السبب في نزول هذه الآية إن شاء الله ، وقد أجمل الله سبحانه في هذه المواضع قدر النصيب المفروض ، ثم أنزل قوله : { يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم } [ النساء : 11 ] فبين ميراث كل فرد .
قوله : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى } المراد بالقرابة هنا : غير الوارثين ، وكذا اليتامى ، والمساكين ، شرع الله سبحانه أنهم إذا حضروا قسمة التركة كان لهم منها رزق ، فيرضخ لهم المتقاسمون شيئاً منها . وقد ذهب قوم إلى أن الآية محكمة ، وأن الأمر للندب . وذهب آخرون إلى أنها منسوخة بقوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم } [ النساء : 11 ] والأوّل أرجح ، لأن المذكور في الآية للقرابة غير الوارثين ليس هو من جملة الميراث حتى يقال إنها منسوخة بآية المواريث ، إلا أن يقولوا إن أولى القربى المذكورين هنا هم الوارثون كان للنسخ وجه . وقالت طائفة : إن هذا الرضخ لغير الوارث من القرابة واجب بمقدار ما تطيب به أنفس الورثة ، وهو معنى الأمر الحقيقي ، فلا يصار إلى الندب إلا لقرينة ، والضمير في قوله : { مِنْهُ } راجع إلى المال المقسوم المدلول عليه بالقسمة ، وقيل : راجع إلى ما ترك . والقول المعروف : هو القول الجميل الذي ليس فيه منّ بما صار إليهم من الرضخ ولا أذى .
قوله : { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ } هم الأوصياء ، كما ذهب إليه طائفة من المفسرين ، وفيه وعظ لهم بأن يفعلوا باليتامى الذين في حجورهم ما يحبون أن يفعل بأولادهم من بعدهم . وقالت طائفة : المراد جميع الناس أمروا باتقاء الله في الأيتام ، وأولاد الناس ، وإن لم يكونوا في حجورهم؛ وقال آخرون : إن المراد بهم : من يحضر الميت عند موته ، أمروا بتقوى الله ، بأن يقولوا للمحتضر قولاً سديداً من إرشادهم إلى التخلص عن حقوق الله ، وحقوق بني آدم ، وإلى الوصية بالقرب المقرّبة إلى الله سبحانه ، وإلى ترك التبذير بماله ، وإحرام ورثته ، كما يخشون على ورثتهم من بعدهم لو تركوهم ، فقراء عالة يتكففون الناس وقال ابن عطية : الناس صنفان يصلح لأحدهما أن يقال له عند موته ما لا يصلح للآخر ، وذلك أن الرجل إذا ترك ورثته مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية ، ويحمل على أن يقدّم لنفسه ، وإذا ترك ورثة ضعفاء مفلسين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط ، فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين .
قال القرطبي : وهذا التفصيل صحيح . قوله : { لَوْ تَرَكُواْ } صلة الموصول ، والفاء في قوله : { فَلْيَتَّقُواّ } لترتيب ما بعدها على ما قبلها . والمعنى : وليخش الذين صفتهم ، وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافاً ، وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم ، وكاسبهم ، ثم أمرهم بتقوى الله ، والقول السديد للمحتضرين ، أو لأولادهم من بعدهم على ما سبق .
قوله : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى } استئناف يتضمن النهي عن ظلم الأيتام من الأولياء ، والأوصياء ، وانتصاب قوله : { ظُلْماً } على المصدرية ، أي : أكل ظلم ، أو على الحالية ، أي : ظالمين لهم . وقوله : { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً } أي : ما يكون سبباً للنار ، تعبيراً بالمسبب عن السبب ، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية . وقوله : { وَسَيَصْلَوْنَ } قراءة عاصم ، وابن عامر بضم الياء على ما لم يسم فاعله . وقرأ أبو حيوة بضم الياء ، وفتح الصاد ، وتشديد اللام من التصلية بكثرة الفعل مرة بعد أخرى . وقرأ الباقون بفتح الياء من صلى النار يصلاها ، والصلى هو : التسخن بقرب النار ، أو مباشرتها ، ومنه قول الحارث بن عباد :
لم أكن من جناتها علم الل ... ه وإني لحرّها اليوم صالي
والسعير : الجمر المشتعل .
وقد أخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ، ولا الصغار حتى يدركوا ، فمات رجل من الأنصار يقال له : أوس بن ثابت ، وترك ابنتين ، وابناً صغيراً ، فجاء ابنا عمه ، وهما عصبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذا ميراثه كله ، فجاءت امرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت الآية ، فأرسل إليهما رسول الله فقال : « لا تحركا من الميراث شيئاً ، فإنه قد أنزل عليّ شيء احترت فيه أن للذكر ، والأنثى نصيباً » ، ثم نزل بعد ذلك : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النساء } [ النساء : 127 ] ، ثم نزل : { يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم } [ النساء : 11 ] فدعا بالميراث ، فأعطى المرأة الثمن ، وقسم ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن عكرمة في الآية قال : نزلت في أم كلثوم ابنة أم كحلة ، أو أم كجَّة ، وثعلبة بن أوس ، وسويد ، وهم من الأنصار ، كان أحدهم زوجها ، والآخر عم ولدها ، فقالت : يا رسول الله توفي زوجي ، وتركني وابنته ، فلم نورث من ماله ، فقال عمّ ولدها : يا رسول الله لا يركب فرساً ، ولا ينكى عدواً ويكسب عليها ، ولا يكتسب ، فنزلت .
وأخرج البخاري ، وغيره عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة } قال : هي محكمة ، وليست بمنسوخة .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن خطاب بن عبد الله في هذه الآية قال : قضى بها أبو موسى . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في الآية قال : هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، عن الحسن ، والزهري قالا : هي محكمة ما طابت به أنفسهم . وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، والحاكم وصححه ، عن ابن عباس قال : يرضخ لهم فإن كان في ماله تقصير اعتذر إليهم ، فهو قولاً معروفاً . وأخرج ابن المنذر ، عن عائشة أنها لم تنسخ . وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم : أن هذه الآية منسوخة بآية الميراث . وأخرج أبو داود في ناسخه ، وعبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن المسيب قال : هي منسوخة . وأخرج ابن جرير ، عن سعيد بن جبير قال : إن كانوا كباراً يرضخوا ، وإن كانوا صغاراً اعتذروا إليهم .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه في قوله : { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ } قال : هذا في الرجل يحضر الرجل عند موته ، فيسمعه يوصي وصية تضرّ بورثته ، فأمر الله الذي يسمعه أن يتقي الله ، ويوفقه ، ويسدده للصواب ، ولينظر لورثته ، كما يحب أن يصنع لورثته إذا خشي عليهم الضيعة . وقد روي نحو هذا من طرق . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأبو يعلى ، والطبراني ، وابن حبان في صحيحه ، وابن أبي حاتم ، عن أبي برزة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجج أفواههم ناراً ، » فقيل : يا رسول الله من هم؟ قال : « ألم تر أن الله يقول : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً } » وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسرى به قال : « نظرت فإذا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل ، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ، ثم يجعل في أفواههم صخراً من نار ، فيقذف في فيّ أحدهم حتى يخرج من أسافلهم ، ولهم جؤار ، وصراخ ، فقلت : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء : { الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } » وأخرج ابن جرير ، عن زيد بن أسلم قال : هذه الآية لأهل الشرك حين كانوا لا يورثونهم ، ويأكلون أموالهم .
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
هذا تفصيل لما أجمل في قوله تعالى : { لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } [ النساء : 7 ] الآية ، وقد استدل بذلك على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهذه الآية ركن من أركان الدين ، وعمدة من عمد الأحكام ، وأم من أمهات الآيات لاشتمالها على ما يهم من علم الفرائض ، وقد كان هذا العلم من أجلّ علوم الصحابة ، وأكثر مناظراتهم فيه ، وسيأتي بعد كمال تفسير ما اشتمل عليه كلام الله من الفرائض ذكر بعض فضائل هذا العلم إن شاء الله .
قوله : { يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم } أي : في بيان ميراثهم . وقد اختلفوا هل يدخل أولاد الأولاد أم لا؟ فقالت الشافعية : إنهم يدخلون مجازاً لا حقيقة ، وقالت الحنفية : إنه يتناولهم لفظ الأولاد حقيقة إذا لم يوجد أولاد الصلب ، ولا خلاف أن بني البنين كالبنين في الميراث مع عدمهم ، وإنما هذا الخلاف في دلالة لفظ الأولاد على أولادهم مع عدمهم ، ويدخل في لفظ الأولاد من كان منهم كافراً ، ويخرج بالسنة ، وكذلك يدخل القاتل عمداً ، ويخرج أيضاً بالسنة والإجماع ، ويدخل فيه الخنثى . قال القرطبي : وأجمع العلماء أنه يورث من حيث يبول ، فإن بال منهما ، فمن حيث سبق ، فإن خرج البول منهما من غير سبق أحدهما ، فله نصف نصيب الذكر ، ونصف نصيب الأنثى . وقيل : يعطى أقلّ النصيبين ، وهو نصيب الأنثى ، قاله يحيى بن آدم ، وهو قول الشافعي . وهذه الآية ناسخة لما كان في صدر الإسلام من الموارثة بالحلف ، والهجرة ، والمعاقدة . وقد أجمع العلماء على أنه إذا كان مع الأولاد من له فرض مسمى أعطيه ، وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأنثيين ، للحديث الثابت في الصحيحين ، وغيرهما بلفظ : « ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما أبقت الفرائض ، فلأولى رجل ذكر » إلا إذا كان ساقطاً معهم ، كالأخوة لأم .
وقوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين } جملة مستأنفة لبيان الوصية في الأولاد ، فلا بد من تقدير ضمير يرجع إليهم : ويوصيكم الله في أولادكم للذكر منهم مثل حظ الأنثيين . والمراد : حال اجتماع الذكور والإناث ، وأما حال الانفراد ، فللذكر جميع الميراث ، وللأنثى النصف ، وللاثنتين فصاعداً الثلثان . قوله : { فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } أي : فإن كنّ الأولاد ، والتأنيث باعتبار الخبر ، أو البنات ، أو المولودات نساء ليس معهن ذكر فوق اثنتين ، أي : زائدات على اثنتين على أن فوق صفة لنساء ، أو يكون خبراً ثانياً لكان : { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } الميت المدلول عليه بقرينة المقام .
وظاهر النظم القرآني أن الثلثين فريضة الثلاث من البنات فصاعداً ، ولم يسم للاثنتين فريضة ، ولهذا اختلف أهل العلم في فريضتهما ، فذهب الجمهور إلى أن لهما إذا انفردتا عن البنين الثلثين .
وذهب ابن عباس إلى أن فريضتهما النصف ، احتج الجمهور بالقياس على الأختين ، فإن الله سبحانه قال في شأنهما : { فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان } [ النساء : 176 ] فألحقوا البنتين بالأختين في استحقاقهما الثلثين ، كما ألحقوا الأخوات إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في الثلثين ، وقيل : في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين ، وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث كان للإبنتين إذا انفردتا الثلثان ، هكذا احتج بهذه الحجة إسماعيل بن عياش ، والمبرد . قال النحاس : وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط؛ لأن الاختلاف في البنتين إذا انفردتا عن البنين ، وأيضاً للمخالف أن يقول إذا ترك بنتين ، وابناً فللبنتين النصف ، فهذا دليل على أن هذا فرضهما ، ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور بأن الله سبحانه لما فرض للبنت الواحدة إذا انفردت النصف بقوله تعالى : { وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف } كان فرض البنتين إذا انفردتا فوق فرض الواحدة ، وأوجب القياس على الأختين الاقتصار للبنتين على الثلثين .
وقيل : إن { فوق } زائدة ، والمعنى : وإن كنّ نساء اثنتين ، كقوله تعالى : { فاضربوا فَوْقَ الأعناق } [ الأنفال : 12 ] أي : الأعناق ، ورد هذا النحاس ، وابن عطية ، فقالا : هو خطأ؛ لأن الظروف وجميع الأسماء لا تجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى . قال ابن عطية : ولأن قوله : { فَوْقَ الأعناق } هو الفصيح ، وليست { فوق } زائدة ، بل هي محكمة المعنى؛ لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ ، كما قال دريد بن الصمة : اخفض عن الدماغ ، وارفع عن العظم ، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال . انتهى . وأيضاً لو كان لفظ { فوق } زائداً ، كما قالوا لقال ، فلهما ثلثا ما ترك . ولم يقل ، فلهن ثلثا ما ترك ، وأوضح ما يحتج به الجمهور ما أخرجه ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، وأبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والحاكم ، والبيهقي في سننه ، عن جابر قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيداً ، وإن عمهما أخذ مالهما ، فلم يدع لهما مالاً ، ولا ينكحان إلا ولهما مال ، فقال : " يقضي الله في ذلك " ، فنزلت آية الميراث : { يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم } الآية ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما ، فقال : " أعط ابنتي سعد الثلثين ، وأمهما الثمن ، وما بقي ، فهو لك " أخرجوه من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر . قال الترمذي : ولا يعرف إلا من حديثه .
قوله : { وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف } قرأ نافع ، وأهل المدينة : «واحدةٌ» بالرفع على أن كان تامة بمعنى : فإن وجدت واحدة ، أو حدثت واحدة . وقرأ الباقون بالنصب ، قال النحاس : وهذه قراءة حسنة ، أي : وإن كانت المتروكة ، أو المولودة واحدة .
قوله : { وَلأِبَوَيْهِ لِكُلّ واحد مّنْهُمَا السدس } أي : لأبوي الميت ، وهو : كناية عن غير مذكور ، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه و { لِكُلّ واحد مّنْهُمَا السدس } بدل من قوله : { وَلاِبَوَيْهِ } بتكرير العامل للتأكيد ، والتفصيل . وقرأ الحسن ، ونعيم بن ميسرة : «السدس» بسكون الدال ، وكذلك قرأ " الثلث " ، والربع إلى العشر بالسكون ، وهي لغة بني تميم ، وربيعة ، وقرأ الجمهور بالتحريك ضماً ، وهي لغة أهل الحجاز ، وبني أسد في جميعها . والمراد بالأبوين : الأب والأم ، والتثنية على لفظ الأب للتغليب .
وقد اختلف العلماء في الجد ، هل هو بمنزلة الأب ، فتسقط به الأخوة أم لا؟ فذهب أبو بكر الصديق إلى أنه بمنزلة الأب ، ولم يخالفه أحد من الصحابة أيام خلافته ، واختلفوا في ذلك بعد وفاته ، فقال بقول أبي بكر ابن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعائشة ، ومعاذ بن جبل ، وأبيّ بن كعب ، وأبو الدرداء ، وأبو هريرة ، وعطاء ، وطاوس ، والحسن ، وقتادة ، وأبو حنيفة ، وأبو ثور ، وإسحاق ، واحتجوا بمثل قوله تعالى : { مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم } [ الحج : 78 ] وقوله : { يا بني آدم } [ الأعراف؛ 26 ، 27 ، 31 ، 35 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " ارموا يا بني إسماعيل " وذهب علي ابن أبي طالب وزيد بن ثابت ، وابن مسعود إلى توريث الجدّ مع الإخوة لأبوين أو لأب ، ولا ينقص معهم من الثلث ، ولا ينقص مع ذوي الفروض من السدس في قول زيد ، ومالك ، والأوزاعي ، وأبي يوسف ، ومحمد ، والشافعي . وقيل : يشرك بين الجد ، والإخوة إلى السدس ، ولا ينقص من السدس شيئاً مع ذوي الفروض وغيرهم ، وهو : قول ابن أبي ليلى ، وطائفة . وذهب الجمهور إلى أن الجد يسقط بني الإخوة ، وروى الشعبي عن علي أنه أجرى بني الإخوة في المقاسمة مجرى الإخوة . وأجمع العلماء على أن الجد لا يرث مع الأب شيئاً ، وأجمع العلماء على أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم ، وأجمعوا على أنها ساقطة مع وجود الأم ، وأجمعوا على أن الأب لا يسقط الجدّة أم الأمّ .
واختلفوا في توريث الجدة ، وابنها حيّ ، فروي عن زيد بن ثابت ، وعثمان ، وعلي أنها لا ترث ، وابنها حيّ ، وبه قال مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي . وروي عن عمر وابن مسعود ، وأبي موسى : أنها ترث معه . وروي أيضاً ، عن عليّ ، وعثمان ، وبه قال شريح ، وجابر بن زيد ، وعبيد الله بن الحسن ، وشريك ، وأحمد ، وإسحاق وابن المنذر .
قوله : { إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ } الولد يقع على الذكر والأنثى ، لكنه إذا كان الموجود الذكر من الأولاد ، وحده أو مع الأنثى منهم ، فليس للجد إلا السدس ، وإن كان الموجود أنثى كان للجد السدس بالفرض ، وهو عصبة فيما عدا السدس ، وأولاد ابن الميت كأولاد الميت .
قوله : { فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ } أي : ولا ولد ابن لما تقدّم من الإجماع { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ } منفردين ، عن سائر الورثة ، كما ذهب إليه الجمهور من أن الأم لا تأخذ ثلث التركة إلا إذا لم يكن للميت وارث غير الأبوين ، أما لو كان معهما أحد الزوجين ، فليس للأم إلا ثلث الباقي بعد الموجود من الزوجين . وروي عن ابن عباس أن للأم ثلث الأصل مع أحد الزوجين ، وهو يستلزم تفضيل الأمّ على الأب في مسألة زوج وأبوين مع الاتفاق على أن أفضل منها عند انفرادهما عن أحد الزوجين .
قوله : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِهِ السدس } إطلاق الإخوة يدل على أنه لا فرق بين الإخوة لأبوين أو لأحدهما .
وقد أجمع أهل العلم على أن الإثنين من الإخوة يقومون مقام الثلاثة فصاعداً في حجب الأم إلى السدس ، إلا ما يروى عن ابن عباس أنه جعل الاثنين كالواحد في عدم الحجب . وأجمعوا أيضاً على أن الأختين فصاعداً ، كالأخوين في حجب الأم . قوله : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم : «يوصى» بفتح الصاد . وقرأ الباقون بكسرها ، واختار الكسر أبو عبيد ، وأبو حاتم؛ لأنه جرى ذكر الميت قبل هذا . قال الأخفش : وتصديق ذلك قوله : { يُوصِينَ } و { توصون } .
واختلف في وجه تقديم الوصية على الدين مع كونه مقدماً عليها بالإجماع ، فقيل : المقصود تقديم الأمرين على الميراث من غير قصد إلى الترتيب بينهما ، وقيل : لما كانت الوصية أقل لزوماً من الدين قدّمت اهتماماً بها وقيل : قدّمت لكثرة وقوعها ، فصارت كالأمر اللازم لكل ميت وقيل : قدمت لكونها حظ المساكين والفقراء ، وأخر الدين لكونه حظ غريم يطلبه بقوة وسلطان وقيل : لما كانت الوصية ناشئة من جهة الميت قدمت ، بخلاف الدين ، فإنه ثابت مؤدي ذكر أو لم يذكر وقيل : قدّمت لكونها تشبه الميراث في كونها مأخوذة من غير عوض ، فربما يشق على الورثة إخراجها ، بخلاف الدين ، فإن نفوسهم مطمئنة بأدائه ، وهذه الوصية مقيدة بقوله تعالى : { غَيْرَ مُضَارّ } كما سيأتي إن شاء الله .
قوله : { آباؤكم وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } قيل : خبر قوله : { أيهم } مقدر أي : هم المقسوم عليهم ، وقيل : إن الخبر قوله : { لاَ تَدْرُونَ } وما بعده { وَأَقْرَبَ } خبر قوله : { أَيُّهُم } و { نَفْعاً } تمييز ، أي : لا تدرون أيهم قريب لكم نفعه في الدعاء لكم ، والصدقة عنكم ، كما في الحديث الصحيح : " أو ولد صالح يدعو له " وقال ابن عباس ، والحسن : قد يكون الابن أفضل ، فيشفع في أبيه . وقال بعض المفسرين : إن الابن إذا كان أرفع درجة من أبيه في الآخرة سأل الله أن يرفع إليه أباه ، وإذا كان الأب أرفع درجة من ابنه سأل الله أن يرفع ابنه إليه .
وقيل المراد : النفع في الدنيا ، والآخرة ، قاله ابن زيد ، وقيل : المعنى : إنكم لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم ، أمن أوصى منهم فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته ، فهو أقرب لكم نفعاً ، أو من ترك الوصية ، ووفر عليكم عرض الدنيا؟ وقوى هذا صاحب الكشاف ، قال : لأن الجملة اعتراضية ، ومن حق الاعتراض أن يؤكد ما اعترض بينه ، ويناسبه قوله : { فَرِيضَةً مّنَ الله } نصب على المصدر المؤكد ، إذ معنى : { يُوصِيكُمُ } يفرض عليكم . وقال مكي ، وغيره : هي حال مؤكدة ، والعامل يوصيكم . والأوّل أولى { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً } بقسمة المواريث { حَكِيماً } حكم بقسمتها ، وبينها لأهلها . وقال الزجاج : { عَلِيماً } بالأشياء قبل خلقها { حَكِيماً } فيما يقدّره ويمضيه منها .
قوله : { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ } الخطاب هنا للرجال . والمراد بالولد ولد الصلب ، أو ولد الولد لما قدمنا من الإجماع { فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ } ، وهذا مجمع عليه لم يختلف أهل العلم في أن للزوج مع عدم الولد النصف ، ومع وجوده ، وإن سفل الربع . وقوله : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ } الخ الكلام فيه ، كما تقدم . قوله : { وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثمن مِمَّا تَرَكْتُم } هذا النصيب مع الولد ، والنصيب مع عدمه تنفرد به الواحدة من الزوجات ، ويشترك فيه الأكثر من واحدة لا خلاف في ذلك ، والكلام في الوصية ، والدين ، كما تقدّم . قوله : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كلالة } المراد بالرجل الميت ، و { يُورَثُ } على البناء للمفعول من ورث لا من أورث ، وهو خبر كان و { كلالة } حال من ضمير { يُورَثُ } أي : يورث حال كونه ذا كلالة ، أو على أن الخبر كلالة ، ويورث صفة لرجل ، أي : إن كان رجل يورث ذا كلالة ليس له ولد ، ولا والد ، وقريء { يُورَثُ } مخففاً ، ومشدداً ، فيكون كلالة مفعولاً ، أو حالاً ، والمفعول محذوف ، أي : يورث ، وأريد حال كونه ذا كلالة ، أو يكون مفعولاً له ، أي : لأجل الكلالة . والكلالة مصدر من تكلله النسب ، أي : أحاط به ، وبه سمي الإكليل لإحاطته بالرأس . وهو الميت الذي لا ولد له ، ولا والد ، هذا قول أبي بكر الصديق ، وعمر ، وعليّ ، وجمهور أهل العلم ، وبه قال صاحب كتاب العين وأبي منصور اللغوي ، وابن عرفة ، والقتيبي ، وأبو عبيد ، وابن الأنباري . وقد قيل : إنه إجماع . قال ابن كثير : وبه يقول أهل المدينة ، والكوفة ، والبصرة ، وهو قول الفقهاء السبعة ، والأئمة الأربعة ، وجمهور الخلف ، والسلف بل جميعهم . وقد حكى الإجماع غير واحد ، وورد فيه حديث مرفوع . انتهى . وروى أبو حاتم ، والأثرم ، عن أبي عبيدة أنه قال : الكلالة كل من لم يرثه أب ، أو ابن ، أو أخ ، فهو عند العرب كلالة .
قال أبو عمر بن عبد البر : ذكر أبي عبيدة الأخ هنا مع الأب ، والابن في شرط الكلالة غلط لا وجه له ، ولم يذكره في شرط الكلالة غيره ، وما يروى عن أبي بكر ، وعمر من أن الكلالة من لا ولد له خاصة ، فقد رجعا عنه . وقال ابن زيد : الكلالة : الحيّ ، والميت جميعاً ، وإنما سموا القرابة كلالة؛ لأنهم أطافوا بالميت من جوانبه ، وليسوا منه ، ولا هو منهم ، بخلاف الابن ، والأب ، فإنهما طرفان له ، فإذا ذهبا تكلله النسب . وقيل : إن الكلالة مأخوذة من الكلال ، وهو الإعياء ، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بعد ، وإعياء . وقال ابن الأعرابي : إن الكلالة بنو العم الأباعد . وبالجملة فمن قرأ : { يُورَثُ كلالة } بكسر الراء مشددة ، وهو بعض الكوفيين ، أو مخففة ، وهو الحسن ، وأيوب جعل الكلالة القرابة . ومن قرأ : { يُورَثُ } بفتح الراء ، وهم الجمهور احتمل أن يكون الكلالة الميت ، واحتمل أن يكون القرابة . وقد روي عن علي ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، والشعبي أن الكلالة ما كان سوى الولد ، والوالد من الورثة . قال الطبري : الصواب أن الكلالة هم الذين يرثون الميت من عدا ولده ، ووالده ، لصحة خبر جابر فقلت : يا رسول الله إنما يرثني كلالة ، أفأوصي بمالي كله؟ قال : « لا » انتهى . وروي عن عطاء أنه قال : الكلالة المال . قال ابن العربي وهذا قول ضعيف لا وجه له . وقال صاحب الكشاف : إن الكلالة تنطلق على ثلاثة : على من لم يخلف ولداً ، ولا والداً ، وعلى من ليس بولد ، ولا والد من المخلفين ، وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد . انتهى .
قوله : { أَو امرأة } معطوف على رجل مقيد بما قيد به ، أي : أو امرأة تورث كلالة . قوله : { وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } قرأ سعد بن أبي وقاص من أمّ . وسيأتي ذكر من أخرج ذلك عنه . قال القرطبي : أجمع العلماء أن الإخوة ها هنا هم الإخوة لأم قال : ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب ، والأم ، أو للأب ليس ميراثهم هكذا ، فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في قوله تعالى : { وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأنثيين } [ النساء : 176 ] هم الإخوة لأبوين ، أو لأب ، وأفرد الضمير في قوله : { وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } لأن المراد كل واحد منهما ، كما جرت بذلك عادة العرب ، إذا ذكروا اسمين مستويين في الحكم ، فإنهم قد يذكرون الضمير الراجع إليهما مفرداً ، كما في قوله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } [ البقرة : 45 ] وقوله : { يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله } [ التوبة : 34 ] . وقد يذكرونه مثنى ، كما في قوله : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] . وقد قدمنا في هذا كلاماً أطول من المذكور هنا .
قوله : { فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلك فَهُمْ شُرَكَاء فِى الثلث } الإشارة بقوله : «من ذلك» إلى قوله : { وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } أي : أكثر من الأخ المنفرد ، أو الأخت المنفردة بواحد ، وذلك بأن يكون الموجود اثنين فصاعداً ، ذكرين أو أنثيين ، أو ذكراً ، وأنثى . وقد استدل بذلك على أن الذكر ، كالأنثى من الإخوة لأم؛ لأن الله شرّك بينهم في الثلث ، ولم يذكر فضل الذكر على الأنثى ، كما ذكره في البنين ، والإخوة لأبوين ، أو لأب . قال القرطبي : وهذا إجماع . ودلت الآية على أن الإخوة لأم إذا استكملت بهم المسألة كانوا أقدم من الإخوة لأبوين ، أو لأب ، وذلك في المسألة المسماة بالحمارية ، وهي إذا تركت الميتة زوجاً وأماً وأخوين لأمّ ، وإخوة لأبوين ، فإن للزوج النصف ، وللأم السدس ، وللأخوين لأم الثلث ، ولا شيء للإخوة لأبوين . ووجه ذلك أنه قد وجد الشرط الذي يرث عنده الإخوة من الأم ، وهو كون الميت كلالة ، ويؤيد هذا حديث : " ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي ، فلأولي رجل ذكر " وهو في الصحيحين ، وغيرهما ، وقد قررنا دلالة الآية ، والحديث على ذلك في الرسالة التي سميناها : «المباحث الدرية في المسألة الحمارية» . وفي هذه المسألة خلاف بين الصحابة ، فمن بعدهم معروف .
قوله : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } الكلام فيه ، كما تقدم . قوله : { غَيْرَ مُضَارّ } أي : يوصي حال كونه غير مضار لورثته بوجه من وجوه الضرار ، كأن يقرّ بشيء ليس عليه ، أو يوصي بوصية لا مقصد له فيها إلا الإضرار بالورثة . أو يوصي لوارث مطلقاً ، أو لغيره بزيادة على الثلث ، ولم تجزه الورثة ، وهذا القيد أعني قوله : { غَيْرَ مُضَارّ } راجع إلى الوصية ، والدين المذكورين ، فهو قيد لهما ، فما صدر من الإقرارات بالديون ، أو الوصايا المنهي عنها له ، أو التي لا مقصد لصاحبها إلا المضارة لورثته ، فهو باطل مردود لا ينفذ منه شيء ، لا الثلث ، ولا دونه . قال القرطبي : وأجمع العلماء على أن الوصية للوارث لا تجوز . انتهى . وهذا القيد أعني عدم الضرار هو قيد لجميع ما تقدّم من الوصية والدين . قال أبو السعود في تفسيره : وتخصيص القيد بهذا المقام لما أن الورثة مظنة لتفريط الميت في حقهم .
قوله : { وَصِيَّةً مّنَ الله } نصب على المصدر ، أي : يوصيكم بذلك وصية من الله كقوله : { فَرِيضَةً مّنَ الله } قال ابن عطية : يصح أن يعمل فيها مضار . والمعنى : أن يقع الضرر بها ، أو بسببها ، فأوقع عليها تجوزاً ، فتكون { وصية } على هذا مفعولاً بها؛ لأن الاسم الفاعل قد اعتمد على ذي الحال ، أو لكونه منفياً معنى ، وقرأ الحسن : " وَصِيَّةً مّنَ الله " بالجرّ على إضافة اسم الفاعل إليها ، كقوله يا سارق الليلة أهل الدار . وفي كون هذه الوصية من الله سبحانه دليل على أنه قد وصى عباده بهذه التفاصيل المذكورة الفرائض ، وأن كل وصية من عباده تخالفها ، فهي مسبوقة بوصية الله ، وذلك كالوصايا المتضمنة لتفضيل بعض الورثة على بعض ، أو المشتملة على الضرار بوجه من الوجوه .
والإشارة بقوله : { تِلْكَ } إلى الأحكام المتقدمة ، وسماها حدوداً لكونها لا تجوز مجاوزتها ، ولا يحلّ تعديها { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } في قسمة المواريث ، وغيرها من الأحكام الشرعية ، كما يفيده عموم اللفظ : { فدخله جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } وهكذا قوله : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ } قرأ نافع ، وابن عامر { ندخله } بالنون ، وقرأ الباقون بالياء التحتية . قوله : { وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي : وله بعد إدخاله النار عذاب لا يعرف كنهه .
وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، عن جابر قال : عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت . وقد قدّمنا أن سبب النزول سؤال امرأة سعد بن الربيع . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ، ولا الضعفاء من الغلمان ، لا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال ، فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر ، وترك امرأة يقال لها : أم كجة ، وترك خمس جوار ، فأخذ الورثة ماله ، فشكت ذلك أمّ كجَّة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله هذه الآية : { فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين } ثم قال في أمّ كجة : { وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ } .
وأخرج سعيد بن منصور ، والحاكم ، والبيهقي ، عن ابن مسعود قال : كان عمر بن الخطاب إذا سلك بنا طريقاً ، فاتبعناه ، وجدناه سهلاً ، وإنه سئل عن امرأة ، وأبوين ، فقال : للمرأة الربع ، وللأم ثلث ما بقي ، وما بقي فللأب . وأخرج عبد الرزاق ، والبيهقي ، عن زيد بن ثابت نحوه . وأخرج ابن جرير ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس أنه دخل على عثمان ، فقال : إن الأخوين لا يردان الأمّ عن الثلث قال الله : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } والأخوان ليس بلسان قومك إخوة ، فقال عثمان : لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ، ومضى في الأمصار ، وتوارث به الناس . وأخرج الحاكم والبيهقي في سننه ، عن زيد بن ثابت؛ أنه قال : إن العرب تسمي الأخوين إخوة .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وابن الجارود ، والدارقطني ، والبيهقي في سننه عن علي قال : إنكم تقرؤون هذه الآية : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية ، وأن أعيان بني الأمّ يتوارثون دون بني العلات . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { آبائكم وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } يقول : أطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة عند الله يوم القيامة؛ لأن الله سبحانه شفع المؤمنين بعضهم في بعض .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله : { أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } قال : في الدنيا .
وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، والدارمي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يقرأ : « وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمَّ } . وأخرج البيهقي ، عن الشعبي قال : ما ورث أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الإخوة لأم مع الجدّ شيئاً قط ، وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن شهاب قال : قضى عمر أن ميراث الاخوة لأمّ بينهم للذكر مثل الأنثى ، قال : ولا أرى عمر قضي بذلك حتى علمه من رسول الله ، ولهذه الآية التي قال الله : { فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلك فَهُمْ شُرَكَاء فِى الثلث } . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد الرزاق ، وعبد ابن حميد ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي ، عن ابن عباس قال : الإضرار في الوصية من الكبائر ، ثم قرأ : { غَيْرَ مُضَارّ } . وقد رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عنه مرفوعاً . وفي إسناده عمر بن المغيرة أبو حفص المصيصي . قال أبو القاسم بن عساكر : ويعرف بمفتي المساكين ، وروى عنه غير واحد من الأئمة ، قال فيه أبو حاتم الرازي : هو شيخ . وقال : وعليّ بن المديني : هو مجهول لا أعرفه . قال ابن جرير : والصحيح الموقوف . انتهى . ورجال إسناد هذا الموقوف رجال الصحيح ، فإن النسائي رواه في سننه ، عن علي بن حجر ، عن علي بن مسهر ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة عنه .
وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، وابن ماجه ، واللفظ له ، والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة ، فإذا أوصى حاف في وصيته ، فيختم له بشرّ عمله فيدخل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشرّ سبعين سنة ، فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله ، فيدخل الجنة « ثم يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : { تِلْكَ حُدُودُ الله } إلى قوله : { عَذَابٌ مُّهِينٌ } . وفي إسناده شهر بن حوشب ، وفيه مقال معروف . وأخرج ابن ماجه ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » من قطع ميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنة يوم القيامة « وأخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة مرفوعاً . وأخرجه ابن أبي شيبة ، وسعيد بن منصور ، عن سليمان بن موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه .
وقد ثبت في الصحيحين ، وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه يعوده في مرضه ، فقال : إن لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلا ابنة لي أفأتصدق بالثلثين؟ فقال « لا » ، قال فالشطر؟ قال « لا » ، قال فالثلث؟ قال « الثلث والثلث كثير ، إنك إن تذر ، ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس » وأخرج ابن أبي شيبة ، عن معاذ بن جبل قال : إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم زيادة في حسناتكم : يعني : الوصية . وفي الصحيحين ، عن ابن عباس قال : وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الثلث كثير » وأخرج ابن أبي شيبة ، عن ابن عمر قال : ذكر عند عمر الثلث في الوصية ، فقال : الثلث وسط لا بخس ولا شطط . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن علي قال : لأن أوصي بالخمس أحبّ إليّ من أن أوصي بالربع ، ولأن أوصي بالربع أحبّ إليّ من أن أوصي بالثلث ، ومن أوصى بالثلث لم يترك .
( فائدة ) ورد في الترغيب في تعلم الفرائض وتعليمها ما أخرجه الحاكم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تعلموا الفرائض ، وعلموه الناس ، فإني امرؤ مقبوض ، وإن العلم سيقبض ، وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يقضي بها » وأخرجاه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تعلموا الفرائض ، وعلموه ، فإنه نصف العلم ، وإنه ينسى ، وهو أوّل ما ينزع من أمتي » وقد روي عن عمر ، وابن مسعود ، وأنس آثار في الترغيب في الفرائض ، وكذلك روي عن جماعة من التابعين ، ومن بعدهم .
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
لما ذكر سبحانه في هذه السورة الإحسان إلى النساء ، وإيصال صدقاتهنّ إليهنّ ، وميراثهنّ مع الرجال ، ذكر التغليظ عليهنّ فيما يأتين به من الفاحشة لئلا يتوهمن أنه يسوغ لهنّ ترك التعفف { واللاتى } جمع التي بحسب المعنى دون اللفظ ، وفيه لغات : اللاتي بإثبات التاء ، والياء ، واللات بحذف الياء ، وإبقاء الكسرة لتدل عليها ، واللائي بالهمزة والياء ، واللاء بكسر الهمزة ، وحذف الياء ، ويقال في جمع الجمع اللواتي ، واللوائي ، واللوات ، واللواء . والفاحشة : الفعلة القبيحة ، وهي مصدر كالعافية ، والعاقبة ، وقرأ ابن مسعود : « بالفاحشة » . والمراد بها هنا : الزنا خاصة ، وإتيانها فعلها ، ومباشرتها . والمراد بقوله : { مّن نِّسَائِكُمُ } المسلمات ، وكذا { مّنكُمْ } المراد به المسلمون . قوله : { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى البيوت } كان هذا في أول الإسلام ، ثم نسخ بقوله تعالى : { الزانية والزانى فاجلدوا } [ النور : 2 ] وذهب بعض أهل العلم إلى أن الحبس المذكور ، وكذلك الأذى باقيان مع الجلد ، لأنه لا تعارض بينها بل الجمع ممكن . قوله : { أو يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } هو ما في حديث عبادة الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم : « خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلاً ، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام » الحديث .
قوله : { واللذان يأتيانها مِنكُمْ } اللذان تثنية الذي ، وكان القياس أن يقال اللذيان كرحيان . قال سيبويه : حذفت الياء ليفرق بين الأسماء الممكنة ، وبين الأسماء المبهمة . وقال أبو علي : حذفت الياء تخفيفاً . وقرأ ابن كثير : « اللذان » بتشديد النون ، وهي لغة قريش ، وفيه لغة أخرى ، وهي : « اللذا » بحذف النون . وقرأ الباقون بتخفيف النون . قال سيبويه : المعنى ، وفيما يتلى عليكم اللذان يأتيانها : أي : الفاحشة منكم ودخلت الفاء في الجواب ، لأن في الكلام معنى الشرط . والمراد باللذان هنا : الزاني ، والزانية تغليباً ، وقيل : الآية الأولى في النساء خاصة محصنات وغير محصنات ، والثانية في الرجال خاصة ، وجاء بلفظ التثنية لبيان صنفي الرجال من أحصن ، ومن لم يحصن ، فعقوبة النساء الحبس ، وعقوبة الرجال الأذى ، واختار هذا النحاس ، ورواه عن ابن عباس ، ورواه القرطبي ، عن مجاهد ، وغيره ، واستحسنه . وقال السدي ، وقتادة ، وغيرهما الآية الأولى في النساء المحصنات ، ويدخل معهنّ الرجال المحصنون ، والآية الثانية في الرجل والمرأة البكرين ، ورجحه الطبري ، وضعفه النحاس وقال : تغليب المؤنث على المذكر بعيد . وقال ابن عطية : إن معنى هذا القول تام إلا أن لفظ الآية يقلق عنه وقيل : كان الإمساك للمرأة الزانية دون الرجل ، فخصت المرأة بالذكر في الإمساك ، ثم جمعاً في الإيذاء ، قال قتادة : كانت المرأة تحبس ويؤذيان جميعاً . واختلف المفسرون في تفسير الأذى ، فقيل التوبيخ ، والتعيير ، وقيل : السبّ ، والجفاء من دون تعيير ، وقيل : النيل باللسان ، والضرب بالنعال ، وقد ذهب قوم إلى أن الأذى منسوخ كالحبس .
وقيل : ليس بمنسوخ كما تقدّم في الحبس . قوله : { فَإِن تَابَا } أي : من الفاحشة { وَأَصْلَحَا } العمل فيما بعد { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا } أي : اتركوهما وكفوا عنهما الأذى وهذا كان قبل نزول الحدود على ما تقدّم من الخلاف .
قوله : { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله } استئناف لبيان أن التوبة ليست بمقبولة على الاطلاق ، كما ينبىء عنه قوله : { تَوَّاباً رَّحِيماً } بل إنما تقبل من البعض دون البعض ، كما بينه النظم القرآني ها هنا ، فقوله : { إِنَّمَا التوبة } مبتدأ خبره قوله : { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء بجهالة } . وقوله : { عَلَى الله } متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار ، أو متعلق بمحذوف وقع حالاً عند من يجوز تقديم الحال التي هي ظرف على عاملها المعنوي . وقيل : المعنى : إنما التوبة على فضل الله ورحمته بعباده . وقيل : المعنى : إنما التوبة واجبة على الله ، وهذا على مذهب المعتزلة؛ لأنهم يوجبون على الله عز وجل واجبات من جملتها قبول توبة التائبين . وقيل : على هنا بمعنى عند ، وقيل : بمعنى من .
وقد اتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين لقوله تعالى : { وَتُوبُواْ إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون } [ النور : 31 ] وذهب الجمهور إلى أنها تصح من ذنب دون ذنب خلافاً للمعتزلة ، وقيل : إن قوله : { عَلَى الله } هو الخبر . وقوله : { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ } متعلق بما تعلق به الخبر ، أو بمحذوف وقع حالاً . والسوء هنا : العمل السيىء . وقوله : { بِجَهَالَةٍ } متعلق بمحذوف وقع صفة أو حالاً ، أي : يعملونها متصفين بالجهالة ، أو جاهلين . وقد حكى القرطبي ، عن قتادة أنه قال : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية ، فهي بجهالة عمداً كانت أو جهلاً . وحكى عن الضحاك ، ومجاهد أن الجهالة هنا : العمد ، وقال عكرمة : أمور الدنيا كلها جهالة ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } [ محمد : 36 ] وقال الزجاج : معناه بجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية . وقيل معناه : أنهم لا يعلمون كنه العقوبة ، ذكره ابن فورك ، وضعفه ابن عطية . قوله : { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } معناه قبل أن يحضرهم الموت ، كما يدل عليه قوله : { حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت } وبه قال أبو مجلز ، والضحاك ، وعكرمة ، وغيرهم ، والمراد قيل : المعاينة للملائكة ، وغلبة المرء على نفسه ، و «من» في قوله : { مِن قَرِيبٍ } للتبعيض ، أي : يتوبون بعض زمان قريب ، وهو ما عدا وقت حضور الموت . وقيل معناه : قبل المرض ، وهو ضعيف ، بل باطل لما قدمنا ، ولما أخرجه أحمد ، والترمذي ، وحسنه ، وابن ماجه ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " وقيل معناه : يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار .
قوله : { فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ } هو وعد منه سبحانه بأنه يتوب عليهم بعد بيانه أن التوبة لهم مقصورة عليهم .
وقوله : { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات } تصريح بما فهم من حصر التوبة فيما سبق على من عمل السوء بجهالة ، ثم تاب من قريب . قوله : { حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت } « حتى » حرف ابتداء ، والجملة المذكورة بعدها غاية لما قبلها ، وحضور الموت حضور علاماته ، وبلوغ المريض إلى حالة السياق ، ومصيره مغلوباً على نفسه مشغولاً بخروجها من بدنه ، وهو وقت الغرغرة المذكورة في الحديث السابق ، وهي بلوغ روحه حلقومه ، قاله الهروي . وقوله : { قَالَ إِنّى تُبْتُ الآن } أي : وقت حضور الموت . قوله : { وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } معطوف على الموصول في قوله : { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات } أي : ليست التوبة لأولئك ، ولا للذين يموتون ، وهم كفار مع أنه لا توبة لهم رأساً ، وإنما ذكروا مبالغة في بيان عدم قبول توبة من حضرهم الموت ، وأن وجودها كعدمها .
وقد أخرج البزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، عن ابن عباس في قوله : { واللاتى يَأْتِينَ الفاحشة } قال : كانت المرأة إذا فجرت حبست في البيوت ، فإن ماتت ماتت ، وإن عاشت عاشت ، حتى نزلت الآية في سورة النور : { الزانية والزانى فاجلدوا } [ النور : 2 ] فجعل الله لهنّ سبيلاً . فمن عمل شيئاً جلد وأرسل ، وقد روى هذا عنه من وجوه ، وأخرج أبو داود في سننه عنه ، والبيهقي في قوله : { واللاتى يَأْتِينَ الفاحشة مِن نّسَائِكُمْ } إلى قوله : { سَبِيلاً } ثم جمعهما جميعاً ، فقال : { واللذان يأتيانها مِنكُمْ فَئَاذُوهُمَا } ثم نسخ ذلك بآية الجلد ، وقد قال بالنسخ جماعة من التابعين ، أخرجه أبو داود ، والبيهقي ، عن مجاهد ، وأخرجه عبد بن حميد ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة . وأخرجه البيهقي في سننه ، عن الحسن . وأخرجه ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير . وأخرجه ابن جرير عن السدي . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس في قوله : { واللذان يأتيانها مِنكُمْ } قال : كان الرجل إذا زنا أوذي بالتعيير ، وضرب بالنعال ، فأنزل الله بعد هذه الآية : { الزانية والزانى فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ } [ النور : 2 ] فإن كانا محصنين رجما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد : { واللذان يأتيانها مِنكُمْ } قال : الرجلان الفاعلان . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير : { واللذان يأتيانها مِنكُمْ } يعني البكرين . وأخرج ابن جرير ، عن عطاء قال : الرجل ، والمرأة .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية في قوله : { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله } الآية قال : هذه للمؤمنين وفي قوله : { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات } قال : هذه لأهل النفاق { وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } قال : هذه لأهل الشرك .
وأخرج ابن جرير ، عن الربيع مثله . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، عن قتادة قال : اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصى به ، فهو جهالة عمداً كان أو غيره . وأخرج عبد ابن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن أبي العالية أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : كل ذنب أصابه عبد ، فهو جهالة . وأخرج ابن جرير من طريق الكلبي ، عن أبي عن صالح ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله } الآية ، قال : من عمل السوء ، فهو جاهل من جهالته عمل السوء { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } قال : في الحياة ، والصحة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال : القريب ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي في الشعب ، عن الضحاك قال : كل شيء قبل الموت ، فهو قريب له التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت ، فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت ، فليس له ذلك . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن قال : القريب : ما لم يغرغر . وقد وردت أحاديث كثيرة في قبول توبة العبد ما لم يغرغر ، ذكرها ابن كثير في تفسيره ، ومنها الحديث الذي قدّمنا ذكره .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
هذا متصل بما تقدم من ذكر الزوجات ، والمقصود نفي الظلم عنهنّ ، والخطاب للأولياء ، ومعنى الآية يتضح بمعرفة سبب نزولها ، وهو ما أخرجه البخاري ، وغيره ، عن ابن عباس في قوله : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً } قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاءوا زوجوها ، وإن شاؤوا لم يزوجوها ، فهم أحق بها من أهلها ، فنزلت . وفي لفظ لأبي داود عنه في هذه الآية : كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته ، فيعضلها حتى يموت ، أو تردّ إليه صداقها . وفي لفظ لابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه : فإن كانت جميلة تزوجها ، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت ، فيرثها . وقد روي هذا السبب بألفاظ ، فمعنى قوله : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً } أي : لا يحل لكم أن تأخذوهن بطريق الإرث ، فتزعمون أنكم أحق بهن من غيركم ، وتحبسونهن لأنفسكم { وَلاَ } يحل لكم أن { تَعْضُلُوهُنَّ } عن أن يتزوجن غيركم لتأخذوا ميراثهن إذا متن ، أو ليدفعن إليكم صداقهن إذا أذنتم لهن بالنكاح . قال الزهري ، وأبو مجلز : كان من عاداتهم إذا مات الرجل ، وله زوجة ألقى ابنه من غيرها ، أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة ، فيصير أحق بها من نفسها ، ومن أوليائها ، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت ، وإن شاء زوجها من غيره ، وأخذ صداقها ، ولم يعطها شيئاً ، وإن شاء عضلها لتفتدي منه بما ورثت من الميت ، أو تموت ، فيرثها ، فنزلت الآية .
وقيل : الخطاب لأزواج النساء إذا حبسوهنّ مع سوء العشرة طمعاً في إرثهنّ ، أو يفتدين ببعض مهورهنّ ، واختاره ابن عطية . قال : ودليل ذلك قوله : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ } إذا أتت بفاحشة ، فليس للوليّ حبسها حتى تذهب بمالها إجماعاً من الأمة ، وإنما ذلك للزوج . قال الحسن : إذا زنت البكر ، فإنها تجلد مائة وتنفى ، وتردّ إلى زوجها ما أخذت منه . وقال أبو قلابة : إذا زنت امرأة الرجل ، فلا بأس أن يضارّها ، ويشقّ عليها حتى تفتدى منه . وقال السدي : إذا فعلن ذلك ، فخذوا مهورهنّ . وقال قوم : الفاحشة البذاءة باللسان ، وسوء العشرة قولاً وفعلاً . وقال مالك ، وجماعة من أهل العلم : للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك .
هذا كله على أن الخطاب في قوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } للأزواج ، وقد عرفت مما قدمنا في سبب النزول أن الخطاب في قوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } لمن خوطب بقوله : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً } فيكون المعنى : ولا يحلّ لكم أن تمنعوهنّ من الزواج : { لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ } أي : ما آتاهنّ من ترثونه : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ } جاز لكم حبسهنّ عن الأزواج ، ولا يخفى ما في هذا من التعسف مع عدم جواز حبس من أتت بفاحشة عن أن تتزوج ، وتستعفّ من الزنا ، وكما أن جعل قوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } خطاباً للأولياء فيه هذا التعسف ، كذلك جعل قوله : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً } خطاباً للأزواج فيه تعسف ظاهر مع مخالفته لسبب نزول الآية الذي ذكرناه ، والأولى أن يقال إن الخطاب في قوله : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ } للمسلمين ، أي : لا يحل لكم معاشر المسلمين أن ترثوا النساء كرهاً ، كما كانت تفعله الجاهلية ، ولا يحلّ لكم معاشر المسلمين أن تعضلوا أزواجكم ، أي : تحبسوهن عندكم مع عدم رغوبكم فيهنّ ، بل لقصد أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ من المهر يفتدين به من الحبس ، والبقاء تحتكم ، وفي عقدتكم مع كراهتكم لهنّ : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ } جاز لكم مخالعتهنّ ببعض ما آتيتموهنّ .
قوله : { مُّبَيّنَةٍ } قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص ، وحمزة ، والكسائي بكسر الياء . وقرأ الباقون بفتحها . وقرأ ابن عباس : « مُّبِيْنَةٍ » بكسر الباء ، وسكون الياء من أبان الشيء ، فهو مبين . قوله : { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف } أي : بما هو معروف في هذه الشريعة ، وبين أهلها من حسن المعاشرة ، وهو خطاب للأزواج ، أو لما هو أعم ، وذلك يختلف باختلاف الأزواج في الغنى ، والفقر ، والرفاعة ، والوضاعة : { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ } لسبب من الأسباب من غير ارتكاب فاحشة ، ولا نشوز { فَعَسَى } أن يؤول الأمر إلى ما تحبونه من ذهاب الكراهة ، وتبدلها بالمحبة ، فيكون في ذلك خير كثير من استدامة الصحبة ، وحصول الأولاد ، فيكون الجزاء على هذا محذوفاً مدلولاً عليه بعلته ، أي : فإن كرهتموهنّ ، فاصبروا : { فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } .
قوله : { وآتيتم إحداهن قنطاراً } قد تقدم بيانه في آل عمران ، والمراد به هنا : المال الكثير ، فلا تأخذوا منه شيئاً . قيل : هي محكمة ، وقيل : هي منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة : { ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألاَّ يقيما حدود الله } [ البقرة : 229 ] والأولى أن الكل محكم ، والمراد هنا : غير المختلعة لا يحل لزوجها أن يأخذ مما آتاها شيئاً . قوله : { أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً } الاستفهام للإنكار والتقريع . والجملة مقررة للجملة الأولى المشتملة على النهي .
وقوله : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } إنكار بعد إنكار مشتمل على العلة التي تقتضي منع الأخذ ، وهي : الإفضاء . قال الهروي : وهو إذا كانا في لحاف واحد ، جامع ، أو لم يجامع ، وقال الفراء : الإفضاء ، أن يخلو الرجل والمرأة ، وإن لم يجامعها . وقال ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي : الإفضاء في هذه الآية : الجماع وأصل الإفضاء في اللغة : المخالطة ، يقال للشيء المختلط فضاً ، ويقال القوم فوضى وفضاً ، أي : مختلطون لا أمير عليهم .
قوله : { وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً } معطوف على الجملة التي قبله ، أي : والحال أن قد أفضى بعضكم إلى بعض ، وقد أخذن منكم ميثاقاً غليظاً ، وهو عقد النكاح ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله » وقيل : هو قوله تعالى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } [ البقرة : 229 ] وقيل : هو الأولاد .
قوله : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نكح ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء } نهى عما كانت عليه الجاهلية من نكاح نساء آبائهم إذا ماتوا ، وهو شروع في بيان من يحرم نكاحه من النساء ومن لا يحرم . ثم بين سبحانه وجه النهي عنه ، فقال : { إِنَّهُ كَانَ فاحشة وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً } هذه الصفات الثلاث تدل على أنه من أشدّ المحرمات وأقبحها ، وقد كانت الجاهلية تسميه نكاح المقت . قال ثعلب : سألت ابن الأعرابي ، عن نكاح المقت ، فقال : هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها ، أو مات عنها ، ويقال لهذا الضيزن ، وأصل المقت البغض ، من مقته يمقته مقتاً ، فهو ممقوت ، ومقيت . قوله : { إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } هو استثناء منقطع أي : لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه ، وقيل : إلا بمعنى بعد ، أي : بعد ما سلف . وقيل : المعنى : ولا ما سلف ، وقيل : هو استثناء متصل من قوله : { مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ } يفيد المبالغة في التحريم بإخراج الكلام مخرج التعلق بالمحال ، يعني : إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف ، فانكحوا ، فلا يحلّ لكم غيره . قوله : { وَسَاء سَبِيلاً } هي جارية مجرى بئس في الذم ، والعمل ، والمخصوص بالذم محذوف ، أي : ساء سبيلاً سبيل ذلك النكاح . وقيل : إنها جارية مجرى سائر الأفعال ، وفيها ضمير يعود إلى ما قبلها .
وقد أخرج النسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال : لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته ، وقد كان لهم ذلك في الجاهلية ، فأنزل الله : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية في كبيشة بنت معمر بن معن بن عاصم من الأوس كانت عند أبي قيس بن الأسلت ، فتوفي عنها ، فجنح عليها ابنه ، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : لا أنا ورثت زوجي ، ولا أنا تركت ، فأنكح ، فنزلت هذه الآية . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن عبد الرحمن بن البيلماني في قوله : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } قال : نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية ، والأخرى في أمر الإسلام . قال ابن المبارك : { أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً } في الجاهلية ، { ولا تعضلوهنّ } في الإسلام . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن أبي مالك في قوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } قال : لا تضر بامرأتك لتفتدي منك .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } يعني : أن ينكحن أزواجهن كالعضل في سورة البقرة . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد قال : كان العضل في قريش بمكة : ينكح الرجل المرأة الشريفة ، فلعلها لا توافقه ، فيفارقها على ألا تتزوج إلا بإذنه ، فيأتي بالشهود ، فيكتب ذلك عليها ، ويشهد ، فإذا خطبها خاطب ، فإن أعطته ، وأرضته أذن لها ، وإلا عضلها ، وقد قدمنا عن ابن عباس في بيان السبب ما عرفت .
وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ } قال : البغض ، والنشوز ، فإذا فعلت ذلك ، فقد حل له منها الفدية . وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك نحوه أيضاً . وأخرج ابن جرير ، عن الحسن قال الفاحشة هنا : الزنا . وأخرج ابن جرير ، عن أبي قلابة ، وابن سيرين نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي ، في قوله : { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف } قال : خالطوهنّ . قال ابن جرير : صحفه بعض الرواة ، وإنما هو : خالقوهنّ . وأخرج ابن المنذر ، عن عكرمة قال : حقها عليك الصحبة الحسنة ، والكسوة ، والرزق المعروف . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مقاتل : { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف } يعني : صحبتهن بالمعروف { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً } فيطلقها ، فتتزوج من بعده رجلاً ، فيجعل الله له منها ولداً ، ويجعل الله في تزويجها خيراً كثيراً . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : الخير الكثير أن يعطف عليها ، فترزق ولدها ، ويجعل الله في ولدها خيراً كثيراً . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، عن الحسن نحو ما قال مقاتل .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ } الآية ، قال : إن كرهت امرأتك ، وأعجبك غيرها ، فطلقت هذه ، وتزوجت تلك ، فأعط هذه مهرها ، وإن كان قنطاراً . وأخرج سعيد بن منصور ، وأبو يعلى . قال السيوطي بسند جيد : أن عمر نهى الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم ، فاعترضت له امرأة من قريش فقالت : أما سمعت ما أنزل الله يقول : { وآتيتم إحداهن قنطاراً } فقال : اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر ، فركب المنبر ، فقال : يا أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهنّ على أربعمائة درهم ، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحبّ . قال أبو يعلى : وأظنه قال : فمن طابت نفسه ، فليفعل . قال ابن كثير : إسناده جيد قويّ ، وقد رويت هذه القصة بألفاظ مختلفة ، هذا أحدها . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : الإفضاء هو الجماع ، ولكن الله يكني . وأخرج عبد بن حميد ، عن مجاهد نحوه .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً } قال : الغليظ : إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان .
وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة نحوه ، وقال : وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح : آلله عليك لتمسكنّ بمعروف ، أو لتسرحنّ بإحسان . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، عن ابن أبي مليكة أن ابن عمر : كان إذا نكح قال : أنكحتك على ما أمر الله به ، إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن أنس بن مالك نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن ابن عباس نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن عكرمة ، ومجاهد في قوله : { وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً } قال : أخذتموهنّ بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : هو قول الرجل ملكت . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال : كلمة النكاح التي تستحلّ بها فروجهن .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والبيهقي في سننه في قوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء } أنها نزلت لما أراد ابن أبي قيس بن الأسلت أن يتزوج امرأة أبيه بعد موته . وأخرج ابن المنذر ، عن الضحاك : { إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } إلا ما كان في الجاهلية . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه ، عن البراء قال : لقيت خالي ، ومعه الراية قلت : أين تريد؟ قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده ، فأمرني أن أضرب عنقه ، وآخذ ماله .
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
قوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم } أي : نكاحهنّ ، وقد بين الله سبحانه في هذه الآية ما يحلّ ، وما يحرم من النساء ، فحرّم سبعاً من النسب ، وستاً من الرضاع ، والصهر ، وألحقت السنة المتواترة تحريم الجمع بين المرأة وعمتها ، وبين المرأة وخالتها ، ووقع عليه الإجماع . فالسبع المحرمات من النسب الأمهات ، والبنات ، والأخوات ، والعمات ، والخالات ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت . والمحرمات بالصهر ، والرضاع : الأمهات من الرضاعة ، والأخوات من الرضاعة ، وأمهات النساء ، والربائب ، وحلائل الأبناء ، والجمع بين الأختين ، فهؤلاء ست ، والسابعة منكوحات الآباء ، والثامنة الجمع بين المرأة وعمتها . قال الطحاوي : وكل هذا من المحكم المتفق عليه ، وغير جائز نكاح واحدة منهنّ بالإجماع إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهنّ أزواجهنّ ، فإن جمهور السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة ، ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم . وقال بعض السلف : الأم ، والربيبة سواء لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالأخرى . قالوا : ومعنى قوله : { وأمهات نِسَائِكُمْ } أي : اللاتي دخلتم بهن ، وزعموا أن قيد الدخول راجع إلى الأمهات ، والربائب جميعاً ، رواه خلاس عن عليّ بن أبي طالب . وروى عن ابن عباس ، وجابر ، وزيد بن ثابت ، وابن الزبير ، ومجاهد ، قال القرطبي : ورواية خلاس عن عليّ لا تقوم بها حجة ، ولا تصح روايته عند أهل الحديث ، والصحيح عنه مثل قول الجماعة . وقد أجيب عن قولهم إن قيد الدخول راجع إلى الأمهات ، والربائب بأن ذلك لا يجوز من جهة الإعراب ، وبيانه أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحداً ، فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك ، وهويت نساء زيد الظريفات ، على أن يكون الظريفات نعتاً للجميع ، فكذلك في الآية لا يجوز أن يكون اللاتي دخلتم بهنّ نعتاً لهما جميعاً؛ لأن الخبرين مختلفان .
قال ابن المنذر : والصحيح قول الجمهور لدخول جميع أمهات النساء في قوله : { وأمهات نِسَائِكُمْ } . ومما يدل على ما ذهب إليه الجمهور ما أخرجه عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه من طريقين عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جدّه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا نكح الرجل المرأة ، فلا يحلّ له أن يتزوج أمها دخل بالإبنة أو لم يدخل ، وإذا تزوج الأم ، فلم يدخل بها ، ثم طلقها ، فإن شاء تزوج الإبنة » قال ابن كثير في تفسيره مستدلاً للجمهور : وقد روي في ذلك خبر غير أن في إسناده نظراً ، فذكر هذا الحديث ، ثم قال ، وهذا الخبر ، وإن كان في إسناده ما فيه ، فإن إجماع الحجة على صحة القول به يغني عن الاستشهاد على صحته بغيره ، قال في الكشاف : وقد اتفقوا على أن تحريم أمهات النساء مبهم دون تحريم الربائب على ما عليه ظاهر كلام الله تعالى .
انتهى . ودعوى الإجماع مدفوعة بخلاف من تقدم .
واعلم أنه يدخل في لفظ الأمهات أمهاتهنّ ، وجداتهنّ ، وأمّ الأب ، وجدّاته ، وإن علون؛ لأن كلهن أمهات لمن ولده من ولدته ، وإن سفل . ويدخل في لفظ البنات بنات الأولاد ، وإن سفلن ، والأخوات تصدق على الأخت لأبوين ، أو لأحدهما ، والعمة اسم لكل أنثى شاركت أباك ، أو جدّك في أصليه ، أو أحدهما . وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أب الأمّ . والخالة اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو في أحدهما ، وقد تكون الخالة من جهة الأب ، وهي أخت أم أبيك ، وبنت الأخ اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة بواسطة ومباشرة وإن بعدت ، وكذلك بنت الأخت .
قوله { وأمهاتكم الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ } هذا مطلق مقيد بما ورد في السنة من كون الرضاع في الحولين إلا في مثل قصة إرضاع سالم مولى أبي حذيفة ، وظاهر النظم القرآني أنه يثبت حكم الرضاع بما يصدق عليه مسمى الرضاع لغة وشرعاً ، ولكنه قد ورد تقييده بخمس رضعات في أحاديث صحيحة ، والبحث عن تقرير ذلك ، وتحقيقه يطول ، وقد استوفيناه في مصنفاتنا ، وقررنا ما هو الحق في كثير من مباحث الرضاع . قوله : { وأخواتكم مّنَ الرضاعة } الأخت من الرضاع هي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك سواء أرضعتها معك ، أو مع من قبلك ، أو بعدك من الإخوة والأخوات ، والأخت من الأم هي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر . قوله : { وأمهات نِسَائِكُمْ } قد تقدم الكلام على اعتبار الدخول ، وعدمه . والمحرمات بالمصاهرة أربع : أمّ المرأة ، وابنتها ، وزوجة الأب ، وزوجة الابن .
قوله : { وَرَبَائِبُكُمُ } الربيبة بنت امرأة الرجل من غيره؛ سميت بذلك؛ لأنه يربيها في حجره ، فهي : مربوبة فعيلة بمعنى مفعولة . قال القرطبي : واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم ، وإن لم تكن الربيبة في حجره ، وشذّ بعض المتقدمين ، وأهل الظاهر ، فقالوا : لا تحرم الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج ، فلو كانت في بلد آخر ، وفارق الأم ، فله أن يتزوج بها؛ وقد روي ذلك عن عليّ . قال ابن المنذر ، والطحاوي : لم يثبت ذلك عن عليّ؛ لأن راويه إبراهيم بن عبيد ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، عن عليّ ، وإبراهيم هذا لا يعرف . وقال ابن كثير في تفسيره بعد إخراج هذا عن علي : وهذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم . والحجور جمع حجر . والمراد : أنهنّ في حضانة أمهاتهنّ تحت حماية أزواجهن ، كما هو الغالب . وقيل المراد بالحجور : البيوت ، أي : في بيوتكم ، حكاه الأثرم عن أبي عبيدة . قوله : { فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أي : في نكاح الربائب ، وهو : تصريح بما دلّ عليه مفهوم ما قبله .
وقد اختلف أهل العلم في معنى الدخول الموجب لتحريم الربائب : فروي عن ابن عباس أنه قال : الدخول الجماع ، وهو قول طاوس ، وعمرو بن دينار ، وغيرهما . وقال مالك ، والثوري ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي ، والليث ، والزيدية : إن الزوج إذا لمس الأمّ لشهوة حرّمت عليه ابنتها ، وهو أحد قولي الشافعي . قال ابن جرير الطبري : وفي إجماع الجميع أن خلوة الرجل بامرأته لا تحرّم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ، ومباشرتها ، وقبل النظر إلى فرجها بالشهوة ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع . انتهى . وهكذا حكى الاجماع القرطبي ، فقال : وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها ، أو ماتت قبل أن يدخل بها حلّ له نكاح ابنتها . واختلفوا في النظر ، فقال مالك : إذا نظر إلى شعرها ، أو صدرها ، أو شيء من محاسنها للذة حرمت عليه أمها ، وابنتها . وقال الكوفيون : إذا نظر إلى فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة ، وكذا قال الثوري ، ولم يذكر الشهوة . وقال ابن أبي ليلى : لا تحرم بالنظر حتى يلمس ، وهو قول الشافعي . والذي ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الخلاف هو : النظر في معنى الدخول شرعاً أو لغة ، فإن كان خاصاً بالجماع ، فلا وجه لإلحاق غيره به من لمس ، أو نظر ، أو غيرهما ، وإن كان معناه أوسع من الجماع بحيث يصدق على ما حصل فيه نوع استمتاع كان مناط التحريم هو ذلك . وأما الربيبة في ملك اليمين ، فقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كره ذلك . وقال ابن عباس : أحلتهما آية ، وحرمتهما آية ، ولم أكن لأفعله . وقال ابن عبد البر : لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة ، وابنتها من ملك اليمين؛ لأن الله حرّم ذلك في النكاح قال : { وأمهات نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى فِى حُجُورِكُمْ مّن نِّسَائِكُمُ } وملك اليمين عندهم تبع للنكاح إلا ما روي عن عمر ، وابن عباس ، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ، ولا من تبعهم . انتهى .
قوله : { وحلائل أَبْنَائِكُمُ } الحلائل : جمع حليلة ، وهي الزوجة ، سميت بذلك؛ لأنها تحلّ مع الزوج حيث حلّ ، فهي فعيلة بمعنى فاعلة . وذهب الزجاج ، وقوم إلى أنها من لفظة الحلال ، فهي حليلة بمعنى محللة . وقيل : لأن كل واحد منهما يحلّ إزار صاحبه . وقد أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء ، وما عقد عليه الأبناء على الآباء سواء كان مع العقد وطء ، أو لم يكن ، لقوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء } وقوله : { وحلائل أَبْنَائِكُمُ } .
واختلف الفقهاء في العقد إذا كان فاسداً هل يقتضي التحريم أم لا؟ كما هو مبين في كتب الفروع . قال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه العلم من علماء الأمصار أن الرجل إذا وطىء امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه ، وابنه ، وعلى أجداده .
وأجمع العلماء : على أن عقد الشراء على الجارية لا يحرّمها على أبيه وابنه ، فإذا اشترى جارية فلمس ، أو قبل حرمت على أبيه ، وابنه لا أعلمهم يختلفون فيه ، فوجب تحريم ذلك تسليماً لهم . ولما اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم قال : ولا يصح عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلناه .
قوله : { الذين مِنْ أصلابكم } وصف للأبناء ، أي : دون من تبنيتم من أولاد غيركم ، كما كانوا يفعلونه في الجاهلية ، ومنه قوله تعالى { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زوجناكها لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } [ الأحزاب : 37 ] ومنه قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ } [ الأحزاب : 4 ] ومنه : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ } [ الأحزاب : 40 ] وأما زوجة الابن من الرضاع ، فقد ذهب الجمهور إلى أنها تحرم على أبيه ، وقد قيل : إنه إجماع مع أن الابن من الرضاع ليس من أولاد الصلب . ووجهه ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله : " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " ولا خلاف أن أولاد الأولاد ، وإن سفلوا بمنزلة أولاد الصلب في تحريم نكاح نسائهم على آبائهم .
وقد اختلف أهل العلم في وطء الزنا هل يقتضي التحريم أم لا؟ فقال أكثر أهل العلم : إذا أصاب رجل امرأة بزنا لم يحرم عليه نكاحها بذلك ، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنا بأمها ، أو بابنتها ، وحسبه أن يقام عليه الحدّ ، وكذلك يجوز له عندهم أن يتزوّج بأم من زنى بها ، وبابنتها . وقالت طائفة من أهل العلم : إن الزنا يقتضي التحريم . حكي ذلك عن عمران بن حصين ، والشعبي ، وعطاء ، والحسن ، وسفيان الثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي ، وحكي ذلك عن مالك ، والصحيح عنه كقول الجمهور . احتج الجمهور بقوله تعالى : { وأمهات نِسَائِكُمْ } وبقوله : { وحلائل أَبْنَائِكُمُ } والموطوءة بالزنا لا يصدق عليها أنها من نسائهم ، ولا من حلائل أبنائهم .
وقد أخرج الدارقطني عن عائشة قالت : «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة ، فأراد أن يتزوّجها ، أو ابنتها ، فقال : " لا يحرّم الحرام الحلال " واحتج المحرّمون بما روي في قصة جريج الثابتة في الصحيح أنه قال : يا غلام من أبوك؟ فقال : فلان الراعي ، فنسب الابن نفسه إلى أبيه من الزنا ، وهذا احتجاج ساقط ، واحتجوا أيضاً بقوله : " لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة ، وابنتها " ولم يفصل بين الحلال والحرام . ويجاب عنه بأن هذا مطلق مقيد بما ورد من الأدلة الدالة على أن الحرام لا يحرّم الحلال .
واختلفوا في اللواط هل يقتضي التحريم أم لا؟ فقال الثوري : إذا لاط بالصبيّ حرمت عليه أمه ، وهو : قول أحمد بن حنبل قال : إذا تلوّط بابن امرأته ، أو أبيها ، أو أخيها حرمت عليه امرأته . وقال الأوزاعي : إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن يتزوجها؛ لأنها بنت من قد دخل به . ولا يخفى ما في قول هؤلاء من الضعف ، والسقوط النازل ، عن قول القائلين بأن وطء الحرام يقتضي التحريم بدرجات لعدم صلاحية ما تمسك به أولئك من الشبه على ما زعمه هؤلاء من اقتضاء اللواط للتحريم .
قوله : { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين } أي : وحرّم عليكم أن تجمعوا بين الأختين ، فهو في محل رفع عطفاً على المحرمات السابقة ، وهو يشمل الجمع بينهما بالنكاح ، والوطء بملك اليمين . وقيل : إن الآية خاصة بالجمع في النكاح لا في ملك اليمين ، وأما في الوطء بالملك ، فلا حق بالنكاح ، وقد أجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد نكاح .
واختلفوا في الأختين بملك اليمين ، فذهب كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما في الوطء بالملك ، وأجمعوا على أنه يجوز الجمع بينهما في الملك فقط . وقد توقف بعض السلف في الجمع بين الأختين في الوطء بالملك ، وسيأتي بيان ذلك . واختلفوا في جواز عقد النكاح على أخت الجارية التي توطأ بالملك . فقال الأوزاعي : إذا وطىء جارية له بملك اليمين لم يجز له أن يتزوّج أختها . وقال الشافعي : ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت . وقد ذهبت الظاهرية إلى جواز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء ، كما يجوز الجمع بينهما في الملك . قال ابن عبد البرّ بعد أن ذكر ما روي عن عثمان بن عفان من جواز الجمع بين الأختين في الوطء بالملك : وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عباس ، ولكنه اختلف عليهم ، ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز ، ولا بالعراق ، ولا ما وراءها من المشرق ، ولا بالشام ، ولا المغرب إلا من شذّ ، عن جماعتهم باتباع الظاهر ، ونفي القياس . وقد ترك من تعمد ذلك . وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحلّ الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء ، كما لا يحلّ ذلك في النكاح . وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم } إلى آخر الآية ، أن النكاح بملك اليمين في هؤلاء كلهنّ سواء . فكذلك يجب أن يكون قياساً ونظراً الجمع بين الأختين ، وأمهات النساء ، والربائب ، وكذا هو عند جمهورهم ، وهي : الحجة المحجوج بها من خالفها ، وشذ عنها ، والله المحمود . انتهى .
وأقول : ها هنا إشكال ، وهو أنه قد تقرّر أن النكاح يقال على العقد فقط ، وعلى الوطء فقد ، والخلاف في كون أحدهما حقيقة والآخر مجازاً ، أو كونهما حقيقتين معروف ، فإن حملنا هذا التحريم المذكور في هذه الآية ، وهي قوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم } إلى آخرها ، على أن المراد تحريم العقد عليهنّ لم يكن في قوله تعالى : { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين } دلالة على تحريم الجمع بين المملوكتين في الوطء بالملك ، وما وقع من إجماع المسلمين على أن قوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم } إلى آخره ، يستوي فيه الحرائر والإماء والعقد ، والملك لا يستلزم أن يكون محل الخلاف ، وهو الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين مثل محل الإجماع ، ومجرد القياس في مثل هذا الموطن لا تقوم به الحجة لما يرد عليه من النقوض ، وإن حملنا التحريم المذكور في الآية على الوطء فقط لم يصح ذلك للإجماع على تحريم عقد النكاح على جميع المذكورات من أوّل الآية إلى آخرها ، فلم يبق إلا حمل التحريم في الآية على تحريم عقد النكاح ، فيحتاج القائل بتحريم الجمع بين الأختين في الوطء بالملك إلى دليل ، ولا ينفعه أن ذلك قول الجمهور ، فالحق لا يعرف بالرجال ، فإن جاء به خالصاً عن شوب الكدر فبها ونعمت ، وإلا كان الأصل الحل ، ولا يصح حمل النكاح في الآية على معنييه جميعاً أعني العقد والوطء؛ لأنه من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وهو ممنوع ، أو من باب الجمع بين معنى المشترك ، وفيه الخلاف المعروف في الأصول فتدبر هذا .
وقد اختلف أهل العلم إذا كان الرجل يطأ مملوكته بالملك ، ثم أراد أن يطأ أختها بالملك ، فقال عليّ ، وابن عمر ، والحسن البصري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق : لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرّم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق ، أو بأن يزوّجها . قال ابن المنذر : وفيه قول ثان لقتادة ، وهو أنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وأن لا يقربها ، ثم يمسك عنهما حتى تستبرىء المحرمة ، ثم يغشى الثانية . وفيه قول ثالث ، وهو أنه لا يقرب واحدة منهما ، هكذا قال الحكم ، وحماد . وروي معنى ذلك عن النخعي . وقال مالك : إذا كان عنده أختان بملك فله أن يطأ أيتهما شاء ، والكفّ عن الأخرى موكول إلى أمانته ، فإن أراد وطء الأخرى ، فيلزمه أن يحرّم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك أو تزويج أو بيع أو عتق أو كتابة أو إخدام طويل ، فإن كان يطأ إحداهما ، ثم وثب على الأخرى دون أن يحرّم الأولى وقف عنهما ، ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرّم الأخرى ، ولم يوكل ذلك إلى أمانته ، لأنه متهم . قال القرطبي : وقد أجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقاً يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدّة التى طلق . روي ذلك عن عليّ ، وزيد بن ثابت ، ومجاهد ، وعطاء ، والنخعي ، والثوري ، وأحمد بن حنبل ، وأصحاب الرأي .
وقالت طائفة : له أن ينكح أختها ، وينكح الرابعة لمن كان تحته أربع ، وطلق واحدة منهنّ طلاقاً بائناً . روي ذلك عن سعيد بن المسيب ، والحسن ، والقاسم ، وعروة بن الزبير ، وابن أبي ليلى ، والشافعي ، وأبي ثور ، وأبي عبيد . قال ابن المنذر : ولا أحسبه إلا قول مالك . وهو أيضاً إحدى الروايتين عن زيد بن ثابت ، وعطاء . قوله : { إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } يحتمل أن يكون معناه معنى ما تقدّم من قوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } ويحتمل معنى آخر ، وهو جواز ما سلف وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحاً ، وإذا جرى في الإسلام خير بين الأختين . والصواب الاحتمال الأوّل . قوله : { والمحصنات مِنَ النساء } عطف على المحرّمات المذكورات . وأصل التحصن التمنع ، ومنه قوله تعالى : { لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ } [ الأنبياء : 80 ] أي : لتمنعكم ، ومنه الحصان بكسر الحاء للفرس؛ لأنه يمنع صاحبه من الهلاك . والحصان بفتح الحاء : المرأة العفيفة لمنعها نفسها ، ومنه قول حسان :
حصان رزان ما تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
والمصدر الحصانة بفتح الحاء . والمراد بالمحصنات هنا : ذوات الأزواج . وقد ورد الإحصان في القرآن لمعان ، هذا أحدها . والثاني يراد به الحرّة ، ومنه قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات } [ النساء : 25 ] وقوله : { والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } [ المائدة : 5 ] . والثالث يراد به : العفيفة ومنه قوله تعالى : { محصنات غَيْرَ مسافحات } [ النساء : 25 ] ، { مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين } [ النساء : 24 ، المائدة : 5 ] . والرابع المسلمة ، ومنه قوله تعالى : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } .
وقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية ، أعني قوله : { والمحصنات مِنَ النساء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم } فقال ابن عباس ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو قلابة ، ومكحول ، والزهري : المراد بالمحصنات هنا : المسبيات ذوات الأزواج خاصة ، أي : هنّ محرّمات عليكم إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من أرض الحرب ، فإن تلك حلال ، وإن كان لها زوج ، وهو قول الشافعي : أي : أن السباء يقطع العصمة ، وبه قال ابن وهب ، وابن عبد الحكم ، وروياه عن مالك ، وبه قال أبو حنيفة ، وأصحابه ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور . واختلفوا في استبرائها بماذا يكون؟ كما هو مدوّن في كتب الفروع . وقالت طائفة : المحصنات في هذه الآية العفائف ، وبه قال أبو العالية ، وعبيدة السلماني ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، ورواه عبيدة ، عن عمر . ومعنى الآية عندهم : كل النساء حرام إلا ما ملكت أيمانكم ، أي : تملكون عصمتهنّ بالنكاح ، وتملكون الرقبة بالشراء . وحكى ابن جرير الطبري أن رجلاً قال لسعيد بن جبير : أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية ، فلم يقل فيها شيئاً؟ فقال : كان ابن عباس لا يعلمها . وروى ابن جرير أيضاً عن مجاهد أنه قال : لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل .
انتهى . ومعنى الآية ، والله أعلم واضح لا سترة به ، أي : وحرّمت عليكم المحصنات من النساء ، أي : المزوجات أعمّ من أن يكنّ مسلمات ، أو كافرات إلا ما ملكت أيمانكم منهنّ ، أما بسبي ، فإنها تحلّ ، ولو كانت ذات زوج ، أو بشراء ، فإنها تحلّ ، ولو كانت متزوجة ، وينفسخ النكاح الذي كان عليها بخروجها عن ملك سيدها الذي زوّجها . وسيأتي ذكر سبب نزول الآية إن شاء الله ، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . وقد قرىء : { المحصنات } بفتح الصاد وكسرها ، فالفتح على أن الأزواج أحصنوهنّ؛ والكسر على أنهنّ أحصنّ فروجهن من غير أزواجهنّ ، أو أحصنّ أزواجهنّ .
قوله : { كتاب الله عَلَيْكُمْ } منصوب على المصدرية ، أي : كتب الله ذلك عليكم كتاباً . وقال الزجاج ، والكوفيون : إنه منصوب على الإغراء ، أي : الزموا كتاب الله ، أو عليكم كتاب الله ، واعترضه أبو عليّ الفارسي بأن الإغراء لا يجوز فيه تقديم المنصوب ، وهذا الاعتراض إنما يتوجه على قول من قال : إنه منصوب بعليكم المذكور في الآية ، وروي عن عبيدة السلماني أنه قال : إن قوله : { كتاب الله عَلَيْكُمْ } إشارة إلى قوله تعالى : { مثنى وثلاث وَرُبَاعَ } [ النساء : 3 ] وهو بعيد ، بل هو إشارة إلى التحريم المذكور في قوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ } إلى آخر الآية .
قوله : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية حفص ، { وأحلّ } على البناء للمجهول ، وقرأ الباقون على البناء للمعلوم عطفاً على الفعل المقدّر في قوله : { كتاب الله عَلَيْكُمْ } وقيل على قوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ } ولا يقدح في ذلك اختلاف الفعلين ، وفيه دلالة على أنه يحل لهم نكاح ما سوى المذكورات ، وهذا عام مخصوص بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من تحريم الجمع بين المرأة ، وعمتها ، وبين المرأة وخالتها . وقد أبعد من قال : إن تحريم الجمع بين المذكورات مأخوذ من الآية هذه؛ لأنه حرّم الجمع بين الأختين ، فيكون ما في معناه في حكمه ، وهو الجمع بين المرأة ، وعمتها ، وبين المرأة ، وخالتها ، وكذلك تحريم نكاح الأمة لمن يستطيع نكاح حرّة ، كما سيأتي ، فإنه يخصص هذا العموم . قوله : { أَن تَبْتَغُواْ بأموالكم } في محل نصب على العلة ، أي : حرّم عليكم ما حرّم ، وأحلّ لكم ما أحلّ لأجل أن تبتغوا بأموالكم النساء اللاتي أحلهنّ الله لكم ، ولا تبتغوا بها الحرام ، فتذهب حال كونكم : { مُّحْصِنِينَ } أي : متعففين عن الزنا : { غَيْرَ مسافحين } أي : غير زانين . والسفاح : الزنا ، وهو مأخوذ من سفح الماء ، أي : صبه وسيلانه ، فكأنه سبحانه أمرهم بأن يطلبوا بأمولهم النساء على وجه النكاح ، لا على وجه السفاح وقيل : إن قوله : { أَن تَبْتَغُواْ بأموالكم } بدل من «ما» في قوله : { مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } أي : وأحلّ لكم الابتغاء بأموالكم .
والأوّل أولى ، وأراد سبحانه بالأموال المذكورة ما يدفعونه في مهور الحرائر وأثمان الإماء .
قوله : { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } «ما» موصولة فيها معنى الشرط ، والفاء في قوله : { فَئَاتُوهُنَّ } لتضمن الموصول معنى الشرط ، والعائد محذوف ، أي : فآتوهنّ أجورهنّ عليه .
وقد اختلف أهل العلم في معنى الآية : فقال الحسن ، ومجاهد ، وغيرهما : المعنى فما انتفعتم ، وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الشرعي { فآتوهن أجورهن } أي : مهورهنّ . وقال الجمهور : إن المراد بهذه الآية : نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام ، ويؤيد ذلك قراءة أبيّ بن كعب ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير : " فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فآتوهن أجورهن } ثم نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم ، كما صحّ ذلك من حديث عليّ قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم ، عن نكاح المتعة ، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، وهو في الصحيحين وغيرهما ، وفي صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال يوم فتح مكة " يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، والله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهنّ شيء ، فليخلّ سبيلها ، ولا تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً " وفي لفظ لمسلم أن ذلك كان في حجة الوداع ، فهذا هو الناسخ . وقال سعيد بن جبير : نسختها آيات الميراث إذ المتعة لا ميراث فيها . وقالت عائشة ، والقاسم بن محمد : تحريمها ، ونسخها في القرآن ، وذلك قوله تعالى : { والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } [ المؤمنون : 5 ، 6 ] وليست المنكوحة بالمتعة من أزواجهم ، ولا مما ملكت أيمانهم ، فإن من شأن الزوجة أن ترث ، وتورث ، وليست المستمتع بها كذلك . وقد روي عن ابن عباس أنه قال بجواز المتعة ، وأنها باقية لم تنسخ . وروي عنه أنه رجع عن ذلك عند أن بلغه الناسخ . وقد قال بجوازها جماعة من الروافض ، ولا اعتبار بأقوالهم . وقد أتعب نفسه بعض المتأخرين بتكثير الكلام على هذه المسألة ، وتقوية ما قاله المجوّزون لها ، وليس هذا المقام مقام بيان بطلان كلامه .
وقد طوّلنا البحث ، ودفعنا الشبه الباطلة التي تمسك بها المجوّزون لها في شرحنا للمنتقي ، فليرجع إليه .
قوله : { فَرِيضَةً } منتصب على المصدرية المؤكدة ، أو على الحال ، أي : مفروضة . قوله : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة } أي : من زيادة ، أو نقصان في المهر ، فإن ذلك سائغ عند التراضي ، هذا عند من قال بأن الآية في النكاح الشرعي ، وأما عند الجمهور القائلين بأنها في المتعة ، فالمعنى التراضي في زيادة مدّة المتعة ، أو نقصانها ، أو في زيادة ما دفعه إليها إلى مقابل الاستمتاع بها ، أو نقصانه .
قوله : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات } الطول : الغنى والسعة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والسدّي ، وابن زيد ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وجمهور أهل العلم . ومعنى الآية : فمن لم يستطع منكم غنى ، وسعة في ماله يقدر بها على نكاح المحصنات المؤمنات ، فلينكح من فتياتكم المؤمنات ، يقال طال يطول طولاً في الإفضال والقدرة ، وفلان ذو طول ، أي : ذو قدرة في ماله . والطول بالضم : ضد القِصَر . وقال قتادة ، والنخعي ، وعطاء ، والثوري : إن الطول الصبر . ومعنى الآية عندهم أن من كان يهوى أمة حتى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج غيرها ، فإن له أن يتزوجها إذا لم يملك نفسه ، وخاف أن يبغي بها ، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة . وقال أبو حنيفة ، وهو مرويّ عن مالك : إن الطول المرأة الحرّة ، فمن كان تحته حرة لم يحل له أن ينكح الأمة ، ومن لم يكن تحته حرة جاز له أن يتزوج أمة ، ولو كان غنياً ، وبه قال أبو يوسف ، واختاره ابن جرير ، واحتج له . والقول الأوّل هو المطابق لمعنى الآية ، ولا يخلو ما عداه عن تكلف ، فلا يجوز للرجل أن يتزوج بالأمة إلا إذا كان لا يقدر على أن يتزوج بالحرة لعدم وجود ما يحتاج إليه في نكاحها من مهر وغيره . وقد استدلّ بقوله : { مّن فتياتكم المؤمنات } على أنه لا يجوز نكاح الأمة الكتابية ، وبه قال أهل الحجاز ، وجوّزه أهل العراق ، ودخلت الفاء في قوله : { فمن مَا مَلَكَتْ أيمانكم } لتضمن المبتدأ معنى الشرط .
وقوله : { مّن فتياتكم المؤمنات } في محل نصب على الحال ، فقد عرفت أنه لا يجوز للرجل الحرّ أن يتزوج بالمملوكة إلا بشرط عدم القدرة على الحرّة . والشرط الثاني ما سيذكره الله سبحانه آخر الآية من قوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ } فلا يحلّ للفقير أن يتزوج بالمملوكة إلا إذا كان يخشى على نفسه العنت . والمراد هنا : الأمة المملوكة للغير ، وأما أمة الإنسان نفسه ، فقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز له أن يتزوجها ، وهي تحت ملكه لتعارض الحقوق واختلافها . والفتيات جمع فتاة ، والعرب تقول للمملوك فتى ، وللمملوكة فتاة . وفي الحديث الصحيح : « لا يقولنّ أحدكم عبدي ، وأمتي ، ولكن ليقل فتاي ، وفتاتي » قوله : { والله أَعْلَمُ بإيمانكم } فيه تسلية لمن ينكح الأمة إذا اجتمع فيه الشرطان المذكوران ، أي : كلكم بنو آدم ، وأكرمكم عند الله أتقاكم ، فلا تستنكفوا من الزواج بالإماء عند الضرورة . فربما كان إيمان بعض الإماء أفضل من إيمان بعض الحرائر . والجملة اعتراضية . وقوله : { بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ } مبتدأ وخبر ، ومعناه : أنهم متصلون في الأنساب؛ لأنهم جميعاً بنو آدم ، أو متصلون في الدين؛ لأنهم جميعاً أهل ملة واحدة ، وكتابهم واحد ونبيهم واحد .
والمراد بهذا : توطئة نفوس العرب؛ لأنهم كانوا يستهجنون أولاد الإماء ، ويستصغرونهم ، ويغضون منهم : { فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } أي : بإذن المالكين لهنّ؛ لأن منافعهنّ لهم لا يجوز لغيرهم أن ينتفع بشيء منها إلا بإذن من هي له .
قوله : { وآتوهن أجورهن بالمعروف } أي : أدّوا إليهنّ مهورهنّ بما هو بالمعروف في الشرع ، وقد استدل بهذا من قال : إن الأمة أحقّ بمهرها من سيدها ، وإليه ذهب مالك ، وذهب الجمهور إلى أن المهر للسيد ، وإنما أضافها إليهنّ؛ لأن التأدية إليهنّ تأدية إلى سيدهن لكونهنّ ماله . قوله : { محصنات } أي : عفائف . وقرأ الكسائي « محصنات » بكسر الصاد في جميع القرآن إلا في قوله : { والمحصنات مِنَ النساء } وقرأ الباقون بالفتح في جميع القرآن . قوله : { غَيْرَ مسافحات } أي : غير معلنات بالزنا . والأخدان : الأخلاء ، والخدن ، والخدين المخادن ، أي : المصاحب ، وقيل ذات الخدن : هي التي تزني سرّاً ، فهو مقابل للمسافحة وهي التي تجاهر بالزنا ، وقيل : المسافحة ، المبذولة ، وذات الخدن ، التي تزني بواحد . وكانت العرب تعيب الإعلان بالزنا ، ولا تعيب اتخاذ الأخدان ، ثم رفع الإسلام جميع ذلك ، قال الله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأنعام : 151 ] . قوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي بفتح الهمزة ، وقرأ الباقون بضمها . والمراد بالإحصان هنا : الإسلام . روي ذلك عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وأنس ، والأسود بن يزيد ، وزرّ بن حبيش ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وإبراهيم النخعي ، والشعبي ، والسديّ ، وروي عن عمر بن الخطاب ، بإسناد منقطع ، وهو الذي نص عليه الشافعي ، وبه قال الجمهور . وقال ابن عباس ، وأبو الدرداء ، ومجاهد ، وعكرمة ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، وغيرهم : إنه التزويج . وروي عن الشافعي . فعلى القول الأوّل لا حدّ على الأمة الكافرة . وعلى القول الثاني لا حدّ على الأمة التي لم تتزوج . وقال القاسم وسالم : إحصانها : إسلامها ، وعفافها . وقال ابن جرير : إن معنى القراءتين مختلف ، فمن قرأ { أحصنّ } بضم الهمزة ، فمعناه التزويج ، ومن قرأ بفتح الهمزة ، فمعناه الإسلام . وقال قوم : إن الإحصان المذكور في الآية هو : التزوج ، ولكن الحدّ واجب على الأمة المسلمة إذا زنت قبل أن تتزوّج بالسنة ، وبه قال الزهري . قال ابن عبد البر : ظاهر قول الله عزّ وجل يقتضي أنه لا حدّ على الأمة ، وإن كانت مسلمة إلا بعد التزويج ، ثم جاءت السنة بجلدها ، وإن لم تحصن ، وكان ذلك زيادة بيان . قال القرطبي : ظهر المسلم حمى لا يستباح إلا بيقين ، ولا يقين مع الاختلاف لولا ما جاء في صحيح السنة من الجلد .
قال ابن كثير في تفسيره : والأظهر ، والله أعلم أن المراد بالإحصان هنا : التزويج؛ لأن سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } إلى قوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب } فالسياق كله في الفتيات المؤمنات ، فتعين أن المراد بقوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } أي : تزوجن ، كما فسره به ابن عباس ، ومن تبعه ، قال : وعلى كلّ من القولين إشكال على مذهب الجمهور؛ لأنهم يقولون إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة سواء كانت مسلمة ، أو كافرة مزوجة ، أو بكراً ، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة من الإماء .
وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك ، ثم ذكر أن منهم من أجاب ، وهم الجمهور بتقديم منطوق الأحاديث على هذا المفهوم ، ومنهم من عمل على مفهوم الآية ، وقال : إذا زنت ، ولم تحصن ، فلا حدّ عليها ، وإنما تضرب تأديباً . قال : وهو المحكي عن ابن عباس ، وإليه ذهب طاوس ، وسعيد بن جبير ، وأبو عبيد ، وداود الظاهري في رواية عنه ، فهؤلاء قدموا مفهوم الآية على العموم ، وأجابوا عن مثل حديث أبي هريرة ، وزيد بن خالد في الصحيحين ، وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة : إذا زنت ، ولم تحصن ، قال : " إن زنت ، فاجلدوها ، ثم إن زنت ، فاجلدوها ، ثم إن زنت ، فاجلدوها ، ثم بيعوها ، ولو بضفير " بأن المراد بالجلد هنا : التأديب ، وهو تعسف ، وأيضاً قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا زنت أمة أحدكم ، فليجلدها الحدّ ، ولا يثرّب عليها . ثم إن زنت ، فليجلدها الحد " الحديث . ولمسلم من حديث علي قال : «يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحدّ من أحصن ، ومن لم يحصن ، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت ، فأمرني أن أجلدها» الحديث .
وأما ما أخرجه سعيد بن منصور ، وابن خزيمة ، والبيهقي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس على الأمة حدّ حتى تحصن بزوج ، فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات من العذاب " فقد قال ابن خزيمة ، والبيهقي : إن رفعه خطأ ، والصواب وقفه .
قوله : { فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة } الفاحشة هنا الزنا : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات } أي : الحرائر الأبكار؛ لأن الثيب عليها الرجم ، وهو لا يتبعض ، وقيل المراد بالمحصنات هنا : المزوّجات؛ لأن عليهنّ الجلد ، والرجم ، والرجم لا يتبعض ، فصار عليهنّ نصف ما عليهنّ من الجلد . والمراد بالعذاب هنا : الجلد ، وإنما نقص حدّ الإماء عن حدّ الحرائر؛ لأنهنّ أضعف . وقيل : لأنهنّ لا يصلن إلى مرادهنّ ، كما تصل الحرائر؛ وقيل : لأن العقوبة تجب على قدر النعمة ، كما في قوله تعالى : { يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ } [ الأحزاب : 30 ] ولم يذكر الله سبحانه في هذه الآية العبيد ، وهم لاحقون بالإماء بطريق القياس .
وكما يكون على الإماء ، والعبيد نصف الحدّ في الزنا ، كذلك يكون عليهم نصف الحدّ في القذف والشرب . والإشارة بقوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ } إلى نكاح الإماء . والعنت : الوقوع في الإثم ، وأصله في اللغة انكسار العظم بعد الجبر ، ثم استعير لكل مشقة { وَأَن تَصْبِرُواْ } عن نكاح الإماء { خَيْرٌ لَّكُمْ } من نكاحهنّ ، أي : صبركم خير لكم؛ لأن نكاحهنّ يفضي إلى إرقاق الولد ، والغضّ من النفس .
قوله : { يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ } اللام هنا هي لام كي التي تعاقب : أن . قال الفراء : العرب تعاقب بين لام كي وأن ، فتأتي باللام التي على معنى كي في موضع أن في أردت ، وأمرت ، فيقولون أردت أن تفعل ، وأردت لتفعل ، ومنه : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم } [ الصف : 8 ] { وَأُمِرْتُ لاِعْدِلَ بَيْنَكُمُ } [ الشورى : 15 ] { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ العالمين } [ الأنعام : 71 ] ومنه :
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
وحكى الزجاج هذا القول وقال : لو كانت اللام بمعنى أن لدخلت عليها لام أخرى ، كما تقول : جئت كي تكرمني ، ثم تقول : جئت لكي تكرمني ، وأنشد :
أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود
وقيل اللام زائدة لتأكيد معنى الاستقبال ، أو لتأكيد إرادة التبيين ، ومفعول يبين محذوف ، أي : ليبين لكم ما خفي عليكم من الخير ، وقيل : مفعول يريد محذوف ، أي : يريد الله هذا ليبين لكم ، وبه قال البصريون ، وهو مرويّ ، عن سيبويه . وقيل : اللام بنفسها ناصبة للفعل من غير إضمار أن ، وهي وما بعدها مفعول للفعل المتقدّم ، وهو مثل قول الفراء السابق . وقال بعض البصريين : إن قوله : { يُرِيدُ } مؤول بالمصدر مرفوع بالابتداء مثل : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه . ومعنى الآية : يريد الله ليبين لكم مصالح دينكم ، وما يحلّ لكم ، وما يحرم عليكم : { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ } أي : طرقهم ، وهم الأنبياء ، وأتباعهم لتقتدوا بهم : { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي : ويريد أن يتوب عليكم فتوبوا إليه ، وتلافوا ما فرط منكم بالتوبة يغفر لكم ذنوبكم .
{ والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } هذا تأكيد لما قد فهم من قوله : { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } المتقدّم . وقيل : الأوّل معناه للإرشاد إلى الطاعات ، والثاني فعل أسبابها . وقيل : إن الثاني لبيان كمال منفعة إرادته سبحانه ، وكمال ضرر ما يريده الذين يتبعون الشهوات ، وليس المراد به : مجرد إرادة التوبة حتى يكون من باب التكرير للتأكيد . قيل : هذه الإرادة منه سبحانه في جميع أحكام الشرع . وقيل : في نكاح الأمة فقط .
واختلف في تعيين المتبعين للشهوات ، فقيل : هم الزناة ، وقيل : اليهود والنصارى . وقيل : اليهود خاصة . وقيل هم المجوس؛ لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب . والأوّل أولى . والميل : العدول عن طريق الاستواء . والمراد بالشهوات هنا : ما حرّمه الشرع دون ما أحله . ووصف الميل بالعظم بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئة نادراً .
قوله : { يُرِيدُ اللهُ يُخَفّفَ عَنْكُمْ } بما مرّ من الترخيص لكم ، أو بكل ما فيه تخفيف عليكم : { وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } عاجزاً غير قادر على ملك نفسه ، ودفعها عن شهواتها ، وفاء بحق التكليف ، فهو محتاج من هذه الحيثية إلى التخفيف ، فلهذا أراد الله سبحانه التخفيف عنه .
وقد أخرج البخاري ، وغيره عن ابن عباس قال : حرم من النسب سبع ، ومن الصهر سبع ، ثم قرأ : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم } إلى قوله : { وَبَنَاتُ الأخت } هذا من النسب . وباقي الآية من الصهر ، والسابعة : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء } . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي ، عن عمران بن حصين في قوله : { وأمهات نِسَائِكُمْ } قال : هي مبهمة . وأخرج هؤلاء ، عن ابن عباس قال : هي مبهمة إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها ، أو ماتت لم تحلّ له أمها . وأخرج هؤلاء إلا البيهقي ، عن علي في الرجل يتزوج المرأة ثم يطلقها ، أو ماتت قبل أن يدخل بها هل تحل له أمها؟ قال : هي بمنزلة الربيبة . وأخرج هؤلاء عن زيد بن ثابت أنه كان يقول : إذا ماتت عنده ، فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها ، وإذا طلقها قبل أن يدخل بها ، فلا بأس أن يتزوج أمها .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن مجاهد قال في قوله : { وأمهات نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى فِى حُجُورِكُمْ } اللاتي أريد بهما الدخول جميعاً . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن عبد الله بن الزبير قال : الربيبة والأم سواء لا بأس بها إذا لم يدخل بالمرأة . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي حاتم ، بسند صحيح ، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : كانت عندي امرأة ، فتوفيت ، وقد ولدت لي فوجدت عليها ، فلقيني عليّ بن أبي طالب ، فقال : مالك؟ فقلت : توفيت المرأة ، فقال عليّ : لها ابنة؟ قلت : نعم ، وهي بالطائف ، قال : كانت في حجرك؟ قلت لا ، قال : فانكحها ، قلت : فأين قول الله : { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى فِى حُجُورِكُمْ } ؟ قال : إنها لم تكن في حجرك .
وقد قدّمنا قول من قال : إنه إسناد ثابت على شرط مسلم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس قال : الدخول الجماع .
وأخرج عبد الرزاق في المصنف ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن عطاء قال : كنا نتحدث أن محمداً صلى الله عليه وسلم لما نكح امرأة زيد قال المشركون بمكة في ذلك ، فأنزل الله : { وحلائل أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم } ونزلت : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ } [ الأحزاب : 4 ] ونزلت : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ } [ الأحزاب : 40 ] .
وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين } قال يعني في النكاح .
وأخرج عبد بن حميد عنه في الآية قال : ذلك في الحرائر ، فأما المماليك ، فلا بأس . وأخرج ابن المنذر عنه نحوه من طريق أخرى . وأخرج مالك ، والشافعي ، وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد ابن حميد ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن عثمان بن عفان : أن رجلاً سأله عن الأختين في ملك اليمين هل يجمع بينهما؟ قال : أحلتهما آية وحرّمتهما آية ، وما كنت لأصنع ذلك ، فخرج من عنده ، فلقي رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أراه علي بن أبي طالب ، فسأله عن ذلك ، فقال : لو كان لي من الأمر شيء ، ثم وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالاً .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، والبيهقي عن علي : أنه سئل عن رجل له أمتان أختان ، وطىء إحداهما ، وأراد أن يطأ الأخرى ، فقال : لا حتى يخرجها من ملكه . وقيل : فإن زوجها عبده؟ قال : لا حتى يخرجها من ملكه . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، عن ابن مسعود أنه سئل عن الرجل يجمع بين الأختين الأمتين ، فكرهه ، فقيل : يقول الله : { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم } فقال : وبعيرك أيضاً مما ملكت يمينك . وأخرج ابن أبي شيبة ، والبيهقي ، من طريق أبي صالح ، عن عليّ بن أبي طالب قال في الأختين المملوكتين : أحلتهما آية ، وحرّمتهما آية ، ولا آمر ، ولا أنهى ، ولا أحلّ ، ولا أحرّم ، ولا أفعل أنا ، وأهل بيتي . وأخرج أحمد عن قيس قال : قلت لابن عباس : أيقع الرجل على المرأة ، وابنتها مملوكتين له؟ فقال : أحلتهما آية ، وحرّمتهما آية ، ولم أكن لأفعله . وأخرج عبد الرزاق ، والبيهقي عنه في الأختين من ملك اليمين : أحلتهما آية ، وحرّمتهما آية . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والبيهقي ، عن ابن عمر قال : إذا كان للرجل جاريتان أختان ، فغشى إحداهما ، فلا يقرب الأخرى حتى يخرج التي غشى من ملكه . وأخرج البيهقي ، عن مقاتل بن سليمان قال : إنما قال الله في نساء الآباء : { إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } لأن العرب كانوا ينكحون نساء الآباء ، ثم حرم النسب والصهر ، فلم يقل إلا ما قد سلف؛ لأن العرب كانت لا تنكح النسب ، والصهر . وقال في الأختين : { إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } لأنهم كانوا يجمعون بينهما ، فحرم جمعهما جميعاً إلا ما قد سلف قبل التحريم : { إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } لما كان من جماع الأختين قبل التحريم .
وأخرج أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم ، عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث يوم حنين جيشاً إلى أوطاس ، فلقوا عدواً ، فقاتلوهم ، فظهروا عليهم ، وأصابوا لهم سبايا ، فكأن ناساً من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين ، فأنزل الله في ذلك : { والمحصنات مِنَ النساء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم } يقول : إلا ما أفاء الله عليكم .
وأخرج الطبراني عن ابن عباس أن ذلك سبب نزول الآية . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن سعيد بن جبير مثله . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { والمحصنات مِنَ النساء } قال : كل ذات زوج إتيانها زنا إلا ما سبيت . وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، والطبراني ، عن عليّ ، وابن مسعود في قوله : { والمحصنات مِنَ النساء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم } قال : على المشركات إذا سبين حلت له . وقال ابن مسعود : المشركات والمسلمات . وأخرج ابن جرير ، عن ابن مسعود قال : إذا بيعت الأمة ، ولها زوج ، فسيدها أحق ببضعها . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { والمحصنات مِنَ النساء } قال : ذوات الأزواج . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، عن أنس بن مالك مثله . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن ابن مسعود مثله .
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { والمحصنات } قال : العفيفة العاقلة من مسلمة ، أو من أهل الكتاب . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عنه في الآية قال : لا يحل له أن يتزوج فوق الأربع ، فما زاد ، فهو عليه حرام ، كأمه وأخته . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن أبي العالية في قوله : { والمحصنات مِنَ النساء } قال : يقول انكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى ، وثلاث ، ورباع ، ثم حرّم ما حرّم من النسب ، والصهر ، ثم قال : { والمحصنات مِنَ النساء } فرجع إلى أول السورة ، فقال : هنّ حرام أيضاً ، إلا لمن نكح بصداق وسنة وشهود . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، عن عبيدة قال : أحلّ الله لك أربعاً في أوّل السورة ، وحرّم نكاح كل محصنة بعد الأربع إلا ما ملكت يمينك . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « الإحصان إحصانان : إحصان نكاح ، وإحصان عفاف » فمن قرأها والمحصنات بكسر الصاد ، فهن العفائف ، ومن قرأها والمحصنات بالفتح ، فهنّ المتزوجات . قال ابن أبي حاتم : قال أبيّ هذا حديث منكر .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } قال : ما وراء هذا النسب . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدّي قال : ما دون الأربع . وأخرج ابن جرير ، عن عطاء قال : ما وراء ذات القرابة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة في قوله : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } قال : ما ملكت أيمانكم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عبيدة السلماني نحوه .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين } قال غير زانين . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { فآتوهن أجورهن } يقول : إذا تزوج الرجل منكم المرأة ، ثم نكحها مرة واحدة ، فقد وجب صداقها كله ، والاستمتاع هو : النكاح ، وهو قوله : { وَءاتُواْ النساء صدقاتهن } [ النساء : 4 ] .
وأخرج الطبراني ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس قال : كانت المتعة في أوّل الإسلام ، وكانوا يقرءون هذه الآية : { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } [ النساء : 24 ] الآية ، فكان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة ، فيتزوج بقدر ما يرى أنه يفرغ من حاجته؛ ليحفظ متاعه ، ويصلح شأنه . حتى نزلت هذه الآية : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم } فنسخت الأولى ، فحرّمت المتعة ، وتصديقها من القرآن : { إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم } [ المؤمنون : 6 ] وما سوى هذا الفرج فهو حرام .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن الأنباري في المصاحف ، والحاكم وصححه : أن ابن عباس قرأ : { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } [ النساء : 24 ] وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن أبيّ بن كعب أنه قرأها كذلك . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد ، أن هذه الآية في نكاح المتعة ، وكذلك أخرج ابن جرير ، عن السدّي ، والأحاديث في تحليل المتعة ، ثم تحريمها ، وهل كان نسخها مرة ، أو مرّتين؟ مذكورة في كتب الحديث . وقد أخرج ابن جرير في تهذيبه ، وابن المنذر ، والطبراني ، والبيهقي ، عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : ماذا صنعت؟ ذهبت الركاب بفتياك ، وقالت فيها الشعراء قال : وما قالوا؟ قلت : قالوا :
أقول للشيخ لما طال مجلسه ... يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس
هل لك في رحضة الأعطاف آنسة ... تكون مثواك حتى مصدر الناس
فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، لا والله ما بهذا أفتيت ، ولا هذا أردت ، ولا أحللتها إلا للمضطر وفي لفظ ، ولا أحللت منها إلا ما أحل الله من الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير . وأخرج ابن جرير ، عن حضرمي أن رجالاً كانوا يفرضون المهر ، ثم عسى أن تدرك أحدهم العسرة ، فقال الله : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ } قال : الراضي أن يوفى لها صداقها ، ثم يخيرها . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد في الآية قال : إن وضعت لك منه شيئاً ، فهو سائغ .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } يقول : من لم يكن له سعة { أَن يَنكِحَ المحصنات } يقول الحرائر : { فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } فلينكح من إماء المؤمنين { محصنات غَيْرَ مسافحات } يعني عفائف غير زواني في سرّ .
ولا علانية { وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } يعني أخلاء { فَإِذَا أُحْصِنَّ } ثم إذا تزوجت حراً ، ثم زنت { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب } قال : من الجلد { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ } هو : الزنا ، فليس لأحد من الأحرار أن ينكح أمة إلا أن لا يقدر على حرة ، وهو يخشى العنت { وَأَن تَصْبِرُواْ } عن نكاح الإماء { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي ، عن مجاهد { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } يعني من لا يجد منكم غنى { أَن يَنكِحَ المحصنات } يعني : الحرائر ، فلينكح الأمة المؤمنة { وَأَن تَصْبِرُواْ } عن نكاح الإماء { خَيْرٌ لَّكُمْ } وهو حلال . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، عنه قال مما وسع الله به على هذه الأمة ، نكاح الأمة النصرانية واليهودية وإن كان موسراً . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي عنه قال : لا يصلح نكاح إماء أهل الكتاب؛ لأن الله يقول : { مّن فتياتكم المؤمنات } . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، عن الحسن : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تنكح الأمة على الحرّة ، والحرّة على الأمة ، ومن وجد طولاً لحرّة ، فلا ينكح أمة . وأخرج ابن أبي شيبة ، والبيهقي عن ابن عباس قال : لا يتزوج الحرّ من الإماء إلا واحدة . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن قتادة نحوه .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مقاتل في قوله : { والله أَعْلَمُ بإيمانكم بَعْضُكُمْ مّن بَعْضٍ } يقول : أنتم إخوة بعضكم من بعض . وأخرج ابن المنذر ، عن السدّي : { فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } قال : بإذن مواليهن : { وآتوهن أجورهن } قال : مهورهنّ . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس قال : المسافحات المعلنات بالزنا ، والمتخذات أخدان : ذات الخليل الواحد . قال : كان أهل الجاهلية يحرّمون ما ظهر من الزنا ، ويستحلون ما خفي ، فأنزل الله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأنعام : 151 ] . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عليّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } قال : « إحصانها إسلامها » وقال عليّ : اجلدوهنّ . قال ابن أبي حاتم ، حديث منكر ، وقال ابن كثير في إسناده ضعف ، ومبهم لم يسم ، ومثله لا تقوم به حجة . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، عن ابن عباس قال : حدّ العبد يفتري على الحرّ أربعون . وأخرج ابن جرير عنه قال : العنت الزنا .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدّي : { وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات } قال : هم اليهود ، والنصارى . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس : { وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات } قال : الزنا .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد : { يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ } يقول : في نكاح الأمة ، وفي كل شيء فيه يسر . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد : { يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ } قال : رخص لكم في نكاح الإماء { وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } قال : لو لم يرخص له فيها . وأخرج ابن جرير ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس قال : ثماني آيات نزلت في سورة النساء هنّ خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس ، وغربت : أوّلهنّ : { يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ النساء : 26 ] ، والثانية : { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عظيماً } [ النساء : 27 ] ، والثالثة : { عَظِيماً يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } [ النساء : 28 ] ، والرابعة : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } [ النساء : 31 ] ، والخامسة : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] الآية ، والسادسة : { وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله } [ النساء : 110 ] الآية ، والسابعة : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 116 ] الآية ، والثامنة : { والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ الله } للذين عملوا من الذنوب { غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 152 ] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
الباطل : ما ليس بحق ، ووجوه ذلك كثيرة ، ومن الباطل البيوعات التي نهى عنها الشرع . والتجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ، وهذا الاستثناء منقطع ، أي : لكن تجارة عن تراض منكم جائزة بينكم ، أو لكن كون تجارة عن تراض منكم حلالاً لكم . وقوله : { عَن تَرَاضٍ } صفة لتجارة ، أي : كائنة عن تراض ، وإنما نص الله سبحانه على التجارة دون سائر أنواع المعاوضات لكونها أكثرها وأغلبها ، وتطلق التجارة على جزاء الأعمال من الله على وجه المجاز ، ومنه قوله تعالى : { هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الصف : 10 ] . وقوله : { يَرْجُونَ تجارة لَّن تَبُورَ } [ فاطر : 29 ] .
واختلف العلماء في التراضي ، فقالت طائفة : تمامه وجوبه بافتراق الأبدان بعد عقد البيع ، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه : اختر كما في الحديث الصحيح : « البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا ، أو يقول أحدهما لصاحبه : اختر » وإليه ذهب جماعة من الصحابة ، والتابعين ، وبه قال الشافعي ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث ، وابن عيينة ، وإسحاق وغيرهم . وقال مالك ، وأبو حنيفة : تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة ، فيرتفع بذلك الخيار ، وأجابوا عن الحديث بما لا طائل تحته . وقد قرىء « تجارة » بالرفع على أن كان تامة ، وتجارة بالنصب على أنها ناقصة .
قوله : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } أي : لا يقتل بعضكم أيها المسلمون بعضاً إلا بسبب أثبته الشرع ، أو لا تقتلوا أنفسكم باقتراف المعاصي ، أو المراد النهي عن أن يقتل الإنسان نفسه حقيقة . ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني . ومما يدل على ذلك احتجاج عمرو بن العاص بها حين لم يغتسل بالماء البارد حين أجنب في غزاة ذات السلاسل ، فقرّر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه ، وهو في مسند أحمد ، وسنن أبي داود وغيرهما .
قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } أي : القتل خاصة ، أو أكل أموال الناس ظلماً ، والقتل عدواناً وظلماً ، وقيل : هو إشارة إلى كل ما نهى عنه في هذه السورة . وقال ابن جرير : إنه عائد على ما نهى عنه من آخر وعيد وهو قوله تعالى : { أَلِيماً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً } [ النساء : 19 ] لأن كل ما نهى عنه من أوّل السورة قرن به وعيد إلا من قوله : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ } فإنه لا وعيد بعده إلا قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك عدوانا وَظُلْماً } والعدوان : تجاوز الحدّ . والظلم : وضع الشيء في غير موضعه . وقيل : إن معنى العدوان ، والظلم واحد ، وتكريره لقصد التأكيد ، كما في قول الشاعر :
وألفى قولها كذباً ومينا ... وخرج بقيد العدوان والظلم ما كان من القتل بحق كالقصاص ، وقتل المرتد ، وسائر الحدود الشرعية ، وكذلك قتل الخطأ .
قوله : { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً } جواب الشرط ، أي : ندخله ناراً عظيمة : { وَكَانَ ذلك } أي : إصلاؤه النار { عَلَى الله يَسِيراً } لأنه لا يعجزه بشيء . وقرىء : «نصليه» بفتح النون ، روي ذلك عن الأعمش ، والنخعي ، وهو : على هذه القراءة منقول من صلى ، ومنه شاة مصلية .
قوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم } أي : إن تجتنبوا كبائر الذنوب التي نهاكم الله عنها : { نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم } أي : ذنوبكم التي هي صغائر ، وحمل السيئات على الصغائر هنا متعين لذكر الكبائر قبلها ، وجعل اجتنابها شرطاً لتكفير السيئات . وقد اختلف أهل الأصول في تحقيق معنى الكبائر ، ثم في عددها ، فأما في تحقيقها ، فقيل : إن الذنوب كلها كبائر ، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها ، كما يقال : الزنا صغيرة بالإضافة إلى الكفر ، والقبلة المحرّمة صغيرة بالإضافة إلى الزنا ، وقد روي نحو هذا عن الإسفراييني ، والجويني ، والقشيري ، وغيرهم قالوا : والمراد بالكبائر التي يكون اجتنابها سبباً لتكفير السيئات هي : الشرك ، واستدلوا على ذلك بقراءة من قرأ : { إِن تَجْتَنِبُواْ كبائر مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } وعلى قراءة الجمع ، فالمراد أجناس الكفر ، واستدلوا على ما قالوه بقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 116 ] قالوا : فهذه الآية مقيدة لقوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } وقال ابن عباس : الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار ، أو غضب ، أو لعنة ، أو عذاب . وقال ابن مسعود : الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية . وقال سعيد بن جبير : كل ذنب نسبه الله إلى النار فهو كبيرة . وقال جماعة من أهل الأصول : الكبائر كل ذنب رتب الله عليه الحدّ ، أو صرح بالوعيد فيه . وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره . وأما الاختلاف في عددها ، فقيل : إنها سبع ، وقيل : سبعون ، وقيل : سبعمائة ، وقيل : غير منحصرة ، ولكن بعضها أكبر من بعض ، وسيأتي ما ورد في ذلك إن شاء الله . قوله : { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً } أي : مكان دخول ، وهو الجنة : { كَرِيماً } أي : حسناً مرضياً ، وقد قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وابن عامر ، والكوفيون { مُّدْخَلاً } بضم الميم . وقرأ أهل المدينة بفتح الميم ، وكلاهما اسم مكان ، ويجوز أن يكون مصدراً .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، قال السيوطي بسند صحيح ، عن ابن مسعود في قوله تعالى : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل } قال : إنها محكمة ما نسخت ، ولا تنسخ إلى يوم القيامة .
وأخرج ابن جرير ، عن عكرمة ، والحسن في الآية قال : كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية ، فنسخ ذلك الآية التي في النور : { وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ }
[ النور : 61 ] الآية . وأخرج ابن ماجه ، وابن المنذر ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنما البيع عن تراض » وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي صالح ، وعكرمة في قوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } قالا : نهاهم عن قتل بعضهم بعضاً . وأخرج ابن المنذر ، عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن عطاء بن أبي رباح نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن السدي : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } قال : أهل دينكم .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك عدوانا وَظُلْماً } يعني : متعمداً اعتداء بغير حق : { وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً } يقول : كان عذابه على الله هيناً . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : أرأيت قوله تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك عدوانا وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً } في كل ذلك أم في قوله : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } ؟ قال : بل في قوله : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } .
وأخرج عبد بن حميد ، عن أنس بن مالك قال : هان ما سألكم ربكم : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس قال : كل ما نهى الله عنه ، فهو كبيرة ، وقد ذكرت الطرفة : يعني النظرة . وأخرج ابن جرير ، عنه قال : كل شيء عصى الله فيه ، فهو كبيرة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : كل ما وعد الله عليه النار كبيرة . وأخرج ابن جرير ، والبيهقي في الشعب عنه قال : الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار ، أو غضب ، أو لعنة ، أو عذاب . وأخرج ابن جرير ، عن سعيد بن جبير ما قدّمنا عنه . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس : أنه سئل عن الكبائر أسبع هي؟ قال : هي إلى السبعين أقرب . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه : أن رجلاً سأله كم الكبائر أسبع هي؟ قال : هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ، ولا صغيرة مع إصرار . وأخرج البيهقي في الشعب عنه : كل ذنب أصر عليه العبد كبيرة ، وليس بكبيرة ما تاب عنه العبد .
وقد ثبت في الصحيحين ، وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اجتنبوا السبع الموبقات ، » قالوا : وما هي يا رسول الله؟ قال : « الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات » وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :
" ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ " قلنا : بلى يا رسول الله ، قال : " الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وكان متكئاً ، فجلس ، فقال : ألا وقول الزور ، وشهادة الزور ، " فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " . وأخرج البخاري ، وغيره عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس «شك شعبة» واليمين الغموس " وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه ، " قالوا : وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال : " يسبّ أبا الرجل ، فيسبّ أباه ، ويسبّ أمه ، فيسبّ أمه " والأحاديث في تعداد الكبائر ، وتعيينها كثيرة جداً ، فمن رام الوقوف على ما ورد في ذلك ، فعليه بكتاب الزواجر في الكبائر ، فإنه قد جمع ، فأوعى .
واعلم أنه لا بد من تقييد ما في هذه الآية من تكفير السيئات بمجرد اجتناب الكبائر بما أخرجه النسائي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه ، عن أبي هريرة ، وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر ، ثم قال : " والذي نفسي بيده ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ، ويصوم رمضان ، ويؤدي الزكاة ، ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة حتى إنها لتصفق ، ثم تلا : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم } " وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن مسعود قال : إن في سورة النساء خمس آيات ما يسرّني أن لي بها الدنيا ، وما فيها ، ولقد علمت أن العلماء إذا مرّوا بها يعرفونها : قوله تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } [ النساء : 31 ] الآية ، وقوله : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] الآية ، وقوله : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ، 116 ] الآية ، وقوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءوكَ } [ النساء : 64 ] الآية ، وقوله : { وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء : 110 ] الآية .
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
قوله : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ } التمني نوع من الإرادة يتعلق بالمستقبل ، كالتلهف نوع منها يتعلق بالماضي ، وفيه النهي عن أن يتمنى الإنسان ما فضل الله به غيره من الناس عليه ، فإن ذلك نوع من عدم الرضا بالقسمة التي قسمها الله بين عباده على مقتضى إرادته ، وحكمته البالغة ، وفيه أيضاً نوع من الحسد المنهى عنه إذا صحبه إرادة زوال تلك النعمة عن الغير .
وقد اختلف العلماء في الغبطة هل تجوز أم لا؟ وهي أن يتمنى أن يكون به حال مثل حال صاحبه من دون أن يتمنى زوال ذلك الحال عن صاحبه ، فذهب الجمهور إلى جواز ذلك ، واستدلوا بالحديث الصحيح : « لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن ، فهو يقوم به آناء الليل ، وآناء النهار ، ورجل آتاه الله مالاً ، فهو ينفقه آناء الليل ، وآناء النهار » وقد بوب عليه البخاري : « باب الاغتباط في العلم ، والحكم » وعموم لفظ الآية يقتضي تحريم تمني ما وقع به التفضيل سواء كان مصحوباً بما يصير به من جنس الحسد أم لا ، وما ورد في السنة من جواز ذلك في أمور معينة يكون مخصصاً لهذا العموم ، وسيأتي ذكر سبب نزول الآية ، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
وقوله : { لّلرّجَالِ نَصِيبٌ } الخ ، فيه تخصيص بعد التعميم ، ورجوع إلى ما يتضمنه سبب نزول الآية من أن أمّ سلمة قالت : يا رسول الله يغزو الرجال ، ولا نغزي ، ولا نقاتل ، فنستشهد ، وإنما لنا نصف الميراث ، فنزلت . أخرجه عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، والبيهقي ، وقد روى نحو هذا السبب من طرق بألفاظ مختلفة . والمعنى في الآية : أن الله جعل لكل من الفريقين نصيباً على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته ، وعبر عن ذلك المجعول لكل فريق من فريقي النساء ، والرجال بالنصيب ، مما اكتسبوا ، على طريق الاستعارة التبعية شبه اقتضاء حال كل فريق لنصيبه باكتسابه إياه . قال قتادة : للرجال نصيب مما اكتسبوا من الثواب ، والعقاب ، وللنساء كذلك . وقال ابن عباس : المراد بذلك : الميراث والاكتساب على هذا القول بمعنى ما ذكرنا . قوله : { واسألوا الله مِن فَضْلِهِ } عطف على قوله : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ } وتوسيط التعليل بقوله : { لّلرّجَالِ نَصِيبٌ } الخ . بين المعطوف ، والمعطوف عليه لتقرير ما تضمنه النهي ، وهذا الأمر يدل على وجوب سؤال الله سبحانه من فضله ، كما قاله جماعة من أهل العلم .
قوله : { وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } أي : جعلنا لكل إنسان ورثة موالي يلون ميراثه ، ف { لكل } مفعول ثان قدّم على الفعل لتأكيد الشمول ، وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها ، أي : ليتبع كل أحد ما قسم الله له من الميراث ، ولا يتمنى ما فضل الله به غيره عليه .
وقد قيل : إن هذه الآية منسوخة بقوله بعدها : { والذين عاقدت أيمانكم } وقيل : العكس . كما روى ذلك ابن جرير . وذهب الجمهور إلى أن الناسخ لقوله { والذين عاقدت أيمانكم } قوله تعالى { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } [ الأنفال : 75 ] والموالى جمع مولى ، وهو : يطلق على المعتق ، والمعتق ، والناصر ، وابن العم ، والجار قيل : والمراد هنا : العصبة ، أي : ولكل جعلنا عصبة يرثون ما أبقت الفرائض . قوله : { والذين عاقدت أيمانكم } المراد بهم موالى الموالاة : كان الرجل من أهل الجاهلية يعاقد الرجل ، أي : يحالفه فيستحق من ميراثه نصيباً ، ثم ثبت في صدر الإسلام بهذه الآية ، ثم نسخ بقوله : { وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } [ الأنفال : 75 ] وقراءة الجمهور : { عاقدت } وروي عن حمزة أنه قرأ : «عقدت» بتشديد القاف على التكثير ، أي : والذين عقدت لهم أيمانكم الحلف ، أو عقدت عهودهم أيمانكم ، والتقدير على قراءة الجمهور : والذين عاقدتهم أيمانكم ، فآتوهم نصيبهم ، أي : ما جعلتموه لهم بعقد الحلف .
قوله : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } هذه الجملة مستأنفة مشتملة على بيان العلة التي استحق بها الرجال الزيادة ، كأنه قيل : كيف استحق الرجال ما استحقوا مما لم تشاركهم فيه النساء؟ فقال : { الرجال قَوَّامُونَ } الخ ، والمراد : أنهم يقومون بالذب عنهنّ ، كما تقوم الحكام والأمراء بالذبّ عن الرعية ، وهم أيضاً يقومون بما يحتجن إليه من النفقة والكسوة والمسكن ، وجاء بصيغة المبالغة في قوله : { قَوَّامُونَ } ليدّل على أصالتهم في هذا الأمر ، والباء في قوله : { بِمَا فَضَّلَ الله } للسببية والضمير في قوله : { بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } للرجال والنساء ، أي : إنما استحقوا هذه المزية لتفضيل الله للرجال على النساء بما فضلهم به من كون فيهم الخلفاء والسلاطين والحكام والأمراء والغزاة ، وغير ذلك من الأمور . قوله : { وَبِمَا أَنفَقُواْ } أي : وبسبب ما أنفقوا من أموالهم ، وما مصدرية ، أو موصولة ، وكذلك هي في قوله : { بِمَا فَضَّلَ الله } و " من " تبعيضية ، والمراد : ما أنفقوه في الإنفاق على النساء ، وبما دفعوه في مهورهنّ من أموالهم ، وكذلك ما ينفقونه في الجهاد ، وما يلزمهم في العقل .
وقد استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على جواز فسخ النكاح إذا عجز الزوج عن نفقة زوجته وكسوتها ، وبه قال مالك ، والشافعي ، وغيرهما .
قوله : { فالصالحات } أي : من النساء { قانتات } أي : مطيعات لله قائمات بما يجب عليهنّ من حقوق الله ، وحقوق أزواجهنّ { حفظات لّلْغَيْبِ } أي : لما يجب حفظه عند غيبة أزواجهنّ عنهنّ من حفظ نفوسهنّ ، وحفظ أموالهم ، «وما» في قوله : { بِمَا حَفِظَ الله } مصدرية ، أي : بحفظ الله . والمعنى : أنهنّ حافظات لغيب أزواجهنّ بحفظ الله لهنّ ومعونته وتسديده ، أو حافظات له بما استحفظهنّ من أداء الأمانة إلى أزواجهن على الوجه الذي أمر الله به ، أو حافظات له بحفظ الله لهنّ بما أوصى به الأزواج في شأنهنّ من حسن العشرة ، ويجوز أن تكون «ما» موصولة ، والعائد محذوف .
وقرأ أبو جعفر : " بِمَا حَفِظَ الله " بنصب الاسم الشريف . والمعنى بما حفظن الله : أي : حفظن أمره ، أو حفظن دينه ، فحذف الضمير الراجع إليهنّ للعلم به ، و«ما» على هذه القراءة مصدرية ، أو موصولة ، كالقراءة الأولى ، أي : بحفظهن الله ، أو بالذي حفظن الله به .
قوله : { واللاتى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } هذا خطاب للأزواج ، قيل : الخوف هنا على بابه ، وهو حالة تحدث في القلب عند حدوث أمر مكروه ، أو عند ظنّ حدوثه ، وقيل المراد : بالخوف هنا العلم . والنشوز : العصيان . وقد تقدّم بيان أصل معناه في اللغة . قال ابن فارس : يقال : نشزت المرأة : استعصت على بعلها ، ونشز بعلها عليها : إذا ضربها وجفاها { فَعِظُوهُنَّ } أي : ذكروهنّ بما أوجبه الله عليهن من الطاعة ، وحسن العشرة ، ورغبوهنّ ، ورهبوهنّ ، { واهجروهن فِى المضاجع } يقال : هجره ، أي : تباعد عنه . والمضاجع : جمع مضجع ، وهو محل الاضطجاع ، أي : تباعدوا عن مضاجعتهنّ ، ولا تدخلوهنّ تحت ما تجعلونه عليكم حال الاضطجاع من الثياب ، وقيل : هو أن يوليها ظهره عند الاضطجاع ، وقيل : هو كناية عن ترك جماعها . وقيل : لا تبيت معه في البيت الذي يضطجع فيه { واضربوهن } أي : ضرباً غير مبرح . وظاهر النظم القرآني أنه يجوز للزوج أن يفعل جميع هذه الأمور عند مخافة النشوز ، وقيل : إنه لا يهجرها إلا بعد عدم تأثير الوعظ ، فإن أثر الوعظ لم ينتقل إلى الهجر . وإن كفاه الهجر لم ينتقل إلى الضرب { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ } كما يجب ، وتركن النشوز { فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } أي : لا تتعرضوا لهنّ بشيء مما يكرهن لا بقول ، ولا بفعل ، وقيل : المعنى : لا تكلفوهنّ الحبّ لكم ، فإنه لا يدخل تحت اختيارهنّ { إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب ، أي : وإن كنتم تقدرون عليهنّ ، فاذكروا قدرة الله عليكم ، فإنها فوق كل قدرة ، والله بالمرصاد لكم .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ } يقول : لا يتمنى الرجل ، فيقول : ليت أن لي مال فلان وأهله ، فنهى الله سبحانه عن ذلك ، ولكن يسأل الله من فضله : { لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبوا } يعني مما ترك الوالدان والأقربون ، للذكر مثل حظ الأنثيين . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة : أن سبب نزول الآية أن النساء قلن : لو جعل أنصباؤنا في الميراث ، كأنصباء الرجال؟ وقال الرجال : إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة ، كما فضلنا عليهنّ في الميراث .
وقد تقدم ذكر سبب النزول . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { واسألوا الله مِن فَضْلِهِ } قال : ليس بعرض الدنيا . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير { واسألوا الله مِن فَضْلِهِ } قال : العبادة ليس من أمر الدنيا . وأخرج الترمذي ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سلوا الله من فضله ، فإن الله يحب أن يسأل » . قال الترمذي : كذا رواه حماد بن واقد ، وليس بالحافظ ، ورواه أبو نعيم ، عن إسرائيل ، عن حكيم بن جبير ، عن رجل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح ، وكذا رواه ابن جرير ، وابن مردويه ، ورواه أيضاً ابن مردويه من حديث ابن عباس .
وأخرج البخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس { وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِىَ } قال : ورثة { والذين عاقدت أيمانكم } قال : كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوّة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم ، فلما نزلت : { وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِىَ } نسخت ، ثم قال : { والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } من النصر والرفادة والنصيحة ، وقد ذهب الميراث ، ويوصي له . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه : { وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِىَ } قال : عصبة { والذين عاقدت أيمانكم } قال : كان الرجلان أيهما مات ، ورثه الآخر ، فأنزل الله : { وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إلى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً } [ الأحزاب : 6 ] يقول : إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية ، فهو لهم جائز من ثلث مال الميت ، وهو المعروف . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه في الآية قال : كان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل يقول : ترثني وأرثك ، وكان الأحياء يتحالفون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كل حلف كان في الجاهلية ، أو عقد أدركه الإسلام ، فلا يزيده الإسلام إلا شدّة ، ولا عقد ولا حلف في الإسلام » ، فنسختها هذه الآية : { وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } [ الأنفال : 75 ] . وأخرج أبو داود ، وابن جرير ، وابن مردويه ، والبيهقي ، عنه في الآية قال : كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب ، فيرث أحدهما الآخر ، فنسخ ذلك في الأنفال : { وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن : أن رجلاً من الأنصار لطم امرأته ، فجاءت تلتمس القصاص ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص ، فنزل : { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [ طه : 114 ] فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزل القرآن : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء } الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« أردنا أمراً وأراد الله غيره » وأخرج ابن مردويه ، عن عليّ نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء } يعني أمراء عليهنّ أن تطيعه فيما أمرها الله به من طاعته ، وطاعته أن تكون محسنة إلى أهله حافظة لماله { بِمَا فَضَّلَ الله } فضله عليها بنفقته ، وسعيه { فالصالحات قانتات } قال : مطيعات { حفظات لّلْغَيْبِ } يعني : إذا كنّ كذا ، فأحسنوا إليهنّ . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة { حفظات لّلْغَيْبِ } قال : حافظات للغيب بما استودعهنّ الله من حقه ، وحافظات لغيب أزواجهنّ . وأخرج ابن المنذر ، عن مجاهد قال : { حفظات لّلْغَيْبِ } للأزواج . وأخرج ابن جرير ، عن السدي قال : تحفظ على زوجها ماله ، وفرجها حتى يرجع ، كما أمرها الله .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس { واللاتى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } قال : تلك المرأة تنشز ، وتستخفّ بحق زوجها ، ولا تطيع أمره ، فأمره الله أن يعظها ، ويذكرها بالله ، ويعظم حقه عليها ، فإن قبلت ، وإلا هجرها في المضجع ، ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها ، وذلك عليها تشديد ، فإن رجعت ، وإلا ضربها ضرباً غير مبرح ، ولا يكسر لها عظماً ، ولا يجرح بها جرحاً { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } يقول : إذا أطاعتك ، فلا تتجنى عليها العلل . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس : { واهجروهن فِى المضاجع } قال : لا يجامعها . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، عنه قال : يهجرها بلسانه ، ويغلظ لها بالقول ، ولا يدع الجماع . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، عن عكرمة نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن عطاء : أنه سأل ابن عباس ، عن الضرب غير المبرح ، فقال : بالسواك ، ونحوه . وقد أخرج الترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن ماجه ، عن عمرو بن الأحوص : أنه شهد خطبة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيها أنه قال النبي صلى الله عليه وسلم « ألا واستوصوا بالنساء خيراً ، فإنما هنّ عوان عندكم ليس تملكون منهنّ شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن ، فاهجروهنّ في المضاجع ، واضربوهنّ ضرباً غير مبرح { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } » وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، عن عبد الله بن زمعة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أيضرب أحدكم امرأته ، كما يضرب العبد؟ ثم يجامعها في آخر اليوم » .
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
قد تقدّم معنى الشقاق في البقرة ، وأصله أن كل واحد منهم يأخذ شقاً غير شق صاحبه ، أي : ناحية غير ناحيته ، وأضيف الشقاق إلى الظرف لإجرائه مجرى المفعول به ، كقوله تعالى : { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } [ سبأ : 33 ] » وقوله : يا سارق الليلة أهل الدار والخطاب للأمراء والحكام ، والضمير في قوله : { بَيْنَهُمَا } للزوجين؛ لأنه قد تقدم ذكر ما يدل عليهما ، وهو ذكر الرجال والنساء { فابعثوا } إلى الزوجين { حُكْمًا } يحكم بينهما ممن يصلح لذلك عقلاً وديناً وإنصافاً ، وإنما نص الله سبحانه على أن الحكمين يكونان من أهل الزوجين؛ لأنهما أقعد بمعرفة أحوالهما ، وإذا لم يوجد من أهل الزوجين من يصلح للحكم بينهما كان الحكمان من غيرهم ، وهذا إذا أشكل أمرهما ، ولم يتبين من هو المسيء منهما؛ فأما إذا عرف المسيء ، فإنه يؤخذ لصاحبه الحق منه ، وعلى الحكمين أن يسعيا في إصلاح ذات البين جهدهما ، فإن قدرا على ذلك عملا عليه ، وإن أعياهما إصلاح حالهما ، ورأيا التفريق بينهما جاز لهما ذلك من دون أمر من الحاكم في البلد ، ولا توكيل بالفرقة بين الزوجين . وبه قال مالك ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وهو مرويّ ، عن عثمان ، وعليّ ، وابن عباس ، والشعبي ، والنخعي ، والشافعي ، وحكاه ابن كثير عن الجمهور ، قالوا : لأن الله قال : { فابعثوا حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا } وهذا نصّ من الله سبحانه أنهما قاضيان لا وكيلان ، ولا شاهدان . وقال الكوفيون ، وعطاء ، وابن زيد ، والحسن ، وهو أحد قولي الشافعي : إن التفريق هو إلى الإمام ، أو الحاكم في البلد لا إليهما ، ما لم يوكلهما الزوجان ، أو يأمرهما الإمام والحاكم؛ لأنهما رسولان شاهدان ، فليس إليهما التفريق ، ويرشد إلى هذا قوله : { إِن يُرِيدَا } أي الحكمان { إصلاحا } بين الزوجين { يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا } لاقتصاره على ذكر الإصلاح دون التفريق . ومعنى : { إِن يُرِيدَا إصلاحا يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا } أي : يوقع الموافقة بين الزوجين حتى يعودا إلى الألفة وحسن العشرة . ومعنى الإرادة : خلوص نيتهما لصلاح الحال بين الزوجين ، وقيل : إن الضمير في قوله : { يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا } للحكمين ، كما في قوله : { إِن يُرِيدَا إصلاحا } أي : يوفق بين الحكمين في اتحاد كلمتهما ، وحصول مقصودهما ، وقيل : كلا الضميرين للزوجين ، أي : إن يريدا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله بينهما الألفة والوفاق ، وإذا اختلف الحكمان لم ينفذ حكمهما ، ولا يلزم قبول قولهما بلا خلاف .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } قال : هذا الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما أمر الله أن تبعثوا رجلاً صالحاً من أهل الرجل ، ورجلاً مثله من أهل المرأة ، فينظران أيهما المسيء ، فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا امرأته عنه ، وقسروه على النفقة ، وإن كانت المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ، ومنعوها النفقة ، فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا ، فأمرهما جائز ، فإن رأيا أن يجمعا ، فرضي أحد الزوجين ، وكره الآخر ذلك ، ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي كره ، ولا يرث الكاره الراضي { إِن يُرِيدَا إصلاحا } قال : هما الحكمان { يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا } وكذلك كل مصلح يوفقه للحق والصواب .
وأخرج الشافعي في الأمّ ، وعبد الرزاق في المصنف ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن عبيدة السلماني في هذه الآية قال : جاء رجل وامرأة إلى عليّ ، ومعهما فئام من الناس ، فأمرهم عليّ ، فبعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ، ثم قال للحكمين : تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا ، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا ، قالت المرأة : رضيت بكتاب الله بما عليّ فيه ولي؛ وقال الرجل : أما الفرقة ، فلا ، فقال : كذبت ، والله حتى تقرّ مثل الذي أقرّت به . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس قال : بعثت أنا ومعاوية حكمين ، فقيل لنا : إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، والذي بعثهما عثمان . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي ، عن الحسن قال : إنما يبعث الحكمان ليصلحا ، ويشهدا على الظالم بظلمه ، فأما الفرقة فليست بأيديهما . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة نحوه . وأخرج البيهقي ، عن عليّ قال : إذا حكم أحد الحكمين ولم يحكم الآخر ، فليس حكمه بشيء حتى يجتمعا .
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
قد تقدّم بيان معنى العبادة . و { شيئاً } إما مفعول به ، أي : لا تشركوا به شيئاً من الأشياء من غير فرق بين حيّ وميت ، وجماد وحيوان ، وإما مصدر ، أي : لا تشركوا به شيئاً من الاشراك من غير فرق بين الشرك الأكبر والأصغر والواضح والخفي . وقوله : { إحسانا } مصدر لفعل محذوف ، أي : أحسنوا بالوالدين إحساناً . وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع ، وقد دل ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد الأمر بعبادة الله ، والنهي عن الإشراك به على عظم حقهما ، ومثله : { أَنِ اشكر لِى ولوالديك } [ لقمان : 14 ] فأمر سبحانه بأن يشكرا معه . قوله : { وَبِذِى القربى } أي : صاحب القرابة ، وهو من يصح إطلاق اسم القربى عليه ، وإن كان بعيداً . { واليتامى والمساكين } قد تقدّم تفسيرهم والمعنى وأحسنوا بذي القربى إلى آخر ما هو مذكور في هذه الآية : { والجار ذِى القربى } أي : القريب جواره ، وقيل : هو من له مع الجوار في الدار قرب في النسب { والجار الجنب } المجانب ، وهو مقابل للجار ذي القربى ، والمراد من يصدق عليه مسمى الجوارمع كون داره بعيدة ، وفي ذلك دليل على تعميم الجيران بالإحسان إليهم سواء كانت الديار متقاربة أو متباعدة ، وعلى أن الجوار حرمة مرعية مأمور بها . وفيه ردّ على من يظن أن الجار مختص بالملاصق دون من بينه وبينه حائل ، أو مختص بالقريب دون البعيد . وقيل : إن المراد بالجار الجنب هنا : هو الغريب . وقيل : هو الأجنبي الذي لا قرابة بينه وبين المجاور له . وقرأ الأعمش ، والمفضل : « والجار الجنب » بفتح الجيم ، وسكون النون ، أي : ذي الجنب ، وهو : الناحية ، وأنشد الأخفش :
الناس جنب ، والأمير جنب ... وقيل : المراد بالجار ذي القربى : المسلم ، وبالجار الجنب : اليهودي النصراني . وقد اختلف أهل العلم في المقدار الذي يصدق عليه مسمى الجوار ، ويثبت لصاحبه الحق . فروي عن الأوزاعي والحسن أنه إلى حدّ أربعين داراً من كل ناحية ، وروي عن الزهري نحوه . وقيل : من سمع إقامة الصلاة . وقيل : إذا جمعتهما محلة . وقيل : من سمع النداء . والأولى أن يرجع في معنى الجار إلى الشرع ، فإن وجد فيه ما يقتضي بيانه ، وأنه يكون جاراً إلى حد كذا من الدور ، أو من مسافة الأرض ، كان العمل عليه متعيناً ، وإن لم يوجد رجع إلى معناه لغة أو عرفاً . ولم يأت في الشرع ما يفيد أن الجار هو الذي بينه وبين جاره مقدار كذا ، ولا ورد في لغة العرب أيضاً ما يفيد ذلك ، بل المراد بالجار في اللغة : المجاور ، ويطلق على معان . قال في القاموس . والجار المجاور ، والذي أجرته من أن يظلم ، والمجير ، والمستجير ، والشريك في التجارة ، وزوج المرأة وهي جارته ، وفرج المرأة ، وما قرب من المنازل ، والإست كالجارة ، والقاسم ، والحليف ، والناصر .
انتهى . قال القرطبي في تفسيره : وروي : أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إني نزلت محلة قوم ، وإن أقربهم إليّ جوارا أشدّهم لي أذى فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ، وعمر ، وعلياً يصيحون على أبواب المساجد : " ألا إن أربعين داراً جار ، ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه " انتهى . ولو ثبت هذا لكان مغنياً عن غيره ، ولكنه رواه ، كما ترى من غير عزوله إلى أحد كتب الحديث المعروفة ، وهو : وإن كان إماماً في علم الرواية ، فلا تقوم الحجة بما يرويه بغير سند مذكور ، ولا نقل عن كتاب مشهور ، ولا سيما ، وهو يذكر الواهيات كثيراً ، كما يفعل في تذكرته ، وقد ورد في القرآن ما يدل على أن المساكنة في مدينة مجاورة ، قال الله تعالى : «لئن لم ينته المنافقون» إلى قوله : { ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً } [ الأحزاب : 60 ] فجعل اجتماعهم في المدينة جواراً . وأما الأعراف في مسمى الجوار ، فهي تختلف باختلاف أهلها ، ولا يصح حمل القرآن على أعراف متعارفة ، واصطلاحات متواضعة .
قوله : { والصاحب بالجنب } قيل : هو الرفيق في السفر ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، والضحاك . وقال علي بن أبي طالب ، وابن مسعود ، وابن أبي ليلى : هو الزوجة . وقال ابن جريج : هو الذي يصحبك ، ويلزمك رجاء نفعك . ولا يبعد أن تتناول الآية جميع ما في هذه الأقوال مع زيادة عليها وهو : كل من صدق عليه أنه صاحب بالجنب أي : بجنبك كمن يقف بجنبك في تحصيل علم ، أو تعلم صناعة ، أو مباشرة تجارة ، أو نحو ذلك . قوله : { وابن السبيل } قال مجاهد : هو الذي يجتاز بك مارّاً ، والسبيل الطريق ، فنسب المسافر إليه لمروره عليه ، ولزومه إياه ، فالأولى تفسيره بمن هو على سفر ، فإن على المقيم أن يحسن إليه . وقيل : هو المنقطع به . وقيل : هو الضيف . قوله : { وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم } أي : وأحسنوا إلى ما ملكت أيمانكم إحساناً ، وهم : العبيد والإماء ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يطعمون مما يطعم مالكهم ويلبسون مما يلبس . والمختال ذو الخيلاء ، وهو الكبر ، والتيه ، أي : لا يحب من كان متكبراً تائهاً على الناس مفتخراً عليهم . والفخر : المدح للنفس ، والتطاول ، وتعديد المناقب ، وخص هاتين الصفتين؛ لأنهما يحملان صاحبهما على الأنفة مما ندب الله إليه في هذه الآية .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في شعب الإيمان من طرق ، عن ابن عباس في قوله : { والجار ذِى القربى } يعني : الذي بينك ، وبينه قرابة { والجار الجنب } يعني : الذي ليس بينك ، وبينه قرابة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن نوف البكالي قال : الجار ذي القربى : المسلم ، والجار الجنب : اليهودي والنصراني .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله : { والصاحب بالجنب } قال : الرفيق في السفر . وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير ، ومجاهد مثله . وأخرج الحكيم ، والترمذي في نوادر الأصول ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم : { والصاحب بالجنب } قال : هو جليسك في الحضر ، ورفيقك في السفر ، وامرأتك التي تضاجعك . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عليّ قال : هو المرأة . وأخرج هؤلاء ، والطبراني عن ابن مسعود مثله .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم } قال : مما خوّلك الله ، فأحسن صحبته ، كل هذا أوصى الله به . وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل نحوه ، وقد ورد مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في برّ الوالدين ، وفي صلة القرابة ، وفي الإحسان إلى اليتامى ، وفي الإحسان إلى الجار ، وفي القيام بما يحتاجه المماليك أحاديث كثيرة قد اشتملت عليها كتب السنة لا حاجة بنا إلى بسطها هنا ، وهكذا ورد في ذم الكبر والاختيال والفخر ما هو معروف .
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
قوله : { الذين يَبْخَلُونَ } هم في محل نصب بدلاً من قوله : { مَن كَانَ مُخْتَالاً } أو على الذمّ ، أو في محل رفع على الابتداء ، والخبر مقدّر ، أي : لهم كذا وكذا من العذاب ، ويجوز أن يكون مرفوعاً بدلاً من الضمير المستتر في قوله : { مُخْتَالاً فَخُوراً } ويجوز أن يكون منصوباً على تقدير أعنى ، أو مرفوعاً على الخبر ، والمبتدأ مقدّر ، أي : هم الذين يبخلون ، والجملة في محل نصب على البدل . والبخل المذموم في الشرع هو الامتناع من أداء ما أوجب الله ، وهؤلاء المذكورون في هذه الآية ضموا إلى ما وقعوا فيه من البخل الذي هو أشرّ خصال الشرّ ما هو أقبح منه ، وأدل على سقوط نفس فاعله ، وبلوغه في الرذالة إلى غايتها ، وهو أنهم مع بخلهم بأموالهم ، وكتمهم لما أنعم الله به عليهم من فضله { يَأْمُرُونَ الناس بالبخل } كأنهم يجدون في صدورهم من جود غيرهم بماله حرجاً ومضاضة ، فلا كثر في عباده من أمثالكم ، هذه أموالكم قد بخلتم بها لكونكم تظنون انتقاصها بإخراج بعضها في مواضعه ، فما بالكم بخلتم بأموال غيركم؟ مع أنه لا يلحقكم في ذلك ضرر ، وهل هذا إلا غاية اللوم ونهاية الحمق ، والرقاعة وقبح الطباع وسوء الاختيار . وقد تقدم اختلاف القراءات في البخل . وقد قيل : إن المراد بهذه الآية : اليهود ، فإنهم جمعوا بين الاختيال ، والفخر ، والبخل بالمال ، وكتمان ما أنزل الله في التوراة وقيل : المراد بها المنافقون ، ولا يخفى أن اللفظ أوسع من ذلك ، وأكثر شمولاً ، وأعمّ فائدة .
قوله : { والذين يُنْفِقُونَ أموالهم رِئَاء الناس } عطف على قوله : { الذين يَبْخَلُونَ } ووجه ذلك أن الأوّلين قد فرطوا بالبخل ، وبأمر الناس به ، وبكتم ما آتاهم الله من فضله ، وهؤلاء أفرطوا ببذل أموالهم في غير مواضعها لمجرد الرياء ، والسمعة ، كما يفعله من يريد أن يتسامع الناس بأنه كريم ، ويتطاول على غيره بذلك ، ويشمخ بأنفه عليه ، مع ما ضم إلى هذا الإنفاق الذي يعود عليه بالضرر من عدم الإيمان بالله وباليوم الآخر . قوله : { وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً } في الكلام إضمار ، والتقدير ، ولا يؤمنون بالله ، ولا باليوم الآخر ، فقرينهم الشيطان { وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً } والقرين المقارن ، وهو الصاحب ، والخليل . والمعنى : من قبل من الشيطان في الدنيا ، فقد قارنه فيها ، أو فهو قرينه في النار ، فساء الشيطان قرينا : { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ } أي : على هذه الطوائف { لَوْ ءامَنُواْ بالله واليوم الأخر وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ الله } ابتغاء لوجهه وامتثالاً لأمره ، أي : وماذا يكون عليهم من ضرر لو فعلوا ذلك .
قوله : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } المثقال مفعال من الثقل ، كالمقدار من القدر ، وهو منتصب على أنه نعت لمفعول محذوف ، أي : لا يظلم شيئاً مثقال ذرة .
والذرّة واحدة الذرّ ، وهي : النمل الصغار . وقيل : رأس النملة . وقيل : الذرّة الخردلة . وقيل : كل جزء من أجزاء الهباء الذي يظهر فيما يدخل من الشمس من كوة أو غيرها ذرة . والأوّل هو المعنى اللغوي الذي يجب حمل القرآن عليه . والمراد من الكلام : أن الله لا يظلم كثيراً ، ولا قليلاً ، أي : لا يبخسهم من ثواب أعمالهم ، ولا يزيد في عقاب ذنوبهم وزن ذرّة فضلاً عما فوقها . قوله : { وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها } قرأ أهل الحجاز : «حسنة» بالرفع . وقرأ من عداهم بالنصب ، والمعنى على القراءة الأولى : إن توجد حسنة ، على أنّ كان هي التامة لا الناقصة ، وعلى القراءة الثانية : إن تك فعلته حسنة يضاعفها ، وقيل : إن التقدير : إن تك مثقال الذرّة حسنة ، وأنث ضمير المثقال لكونه مضافاً إلى المؤنث ، والأوّل أولى . وقرأ الحسن : " نضاعفها " بالنون ، وقرأ الباقون بالياء ، وهي الأرجح لقوله : { وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } وقد تقدّم الكلام في المضاعفة ، والمراد : مضاعفة ثواب الحسنة .
قوله : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } كيف منصوبة بفعل مضمر ، كما هو رأي سيبويه ، أو محلها رفع على الابتداء ، كما هو رأي غيره ، والإشارة بقوله : { هَؤُلاء } إلى الكفار . وقيل : إلى كفار قريش خاصة . والمعنى : فكيف يكون حال هؤلاء الكفار يوم القيامة إذا جئنا من كل أمة بشهيد ، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً؟ وهذا الاستفهام معناه : التوبيخ ، والتقريع { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الارض } قرأ نافع ، وابن عامر " تسوى " بفتح التاء ، وتشديد السين ، وقرأ حمزة ، والكسائي بفتح التاء ، وتخفيف السين ، وقرأ الباقون بضم التاء ، وتخفيف السين . والمعنى على القراءة الأولى والثانية : أن الأرض هي التي تسوّى بهم ، أي : أنهم تمنوا لو انفتحت لهم الأرض ، فساخوا فيها ، وقيل الباء في قوله : { بِهِمُ } بمعنى على ، أي : تسوّى عليهم الأرض . وعلى القراءة الثالثة الفعل مبنيّ للمفعول ، أي : لو سوّى الله بهم الأرض ، فيجعلهم والأرض سواء حتى لا يبعثوا . قوله : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } عطف على { يَوَدُّ } أي : يومئذ يودّ الذين كفروا ، ويومئذ لا يكتمون الله حديثاً ، ولا يقدرون على ذلك . قال الزجاج : قال بعضهم { لا يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } مستأنف؛ لأن ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه . وقال بعضهم : هو معطوف . والمعنى : يودّون أن الأرض سوّيت بهم وأنهم لم يكتموا الله حديثاً؛ لأنه ظهر كذبهم .
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : كان كردم بن يزيد حليف كعب بن الأشرف ، وأسامة بن حبيب ، ونافع بن أبي نافع ، وبحري بن عمرو ، وحيي بن أخطب ، ورفاعة بن زيد بن التابوت يأتون رجالاً من الأنصار يتنصحون لهم ، فيقولون : لا تنفقوا أموالكم ، فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ، ولا تسارعوا في النفقة ، فإنكم لا تدرون ما يكون؟ فأنزل الله فيهم : { الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل } إلى قوله : { وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً } .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عنه أنها نزلت في اليهود . وأخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد . وأخرجه ابن جرير ، عن سعيد بن جبير . وأخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن ابن عباس : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } قال : رأس نملة حمراء . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { وَإِن تَكُ حَسَنَةً } وزن ذرة زادت على سيئاته { يضاعفها } فأما المشرك ، فيخفف به عنه العذاب ، ولا يخرج من النار أبداً . وأخرج البخاري ، وغيره ، عن ابن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اقرأ عليّ » ، قلت يا رسول الله آقرأ عليك ، وعليك أنزل؟ قال : « نعم إني أحبّ أن أسمعه من غيري » ، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً } قال : « حسبك الآن » ، فإذا عيناه تذرفان . وأخرجه الحاكم ، وصححه من حديث عمرو بن حريث .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض } يعني : أن تسوّى الأرض بالجبال ، والأرض عليهم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في الآية : يقول : ودّوا لو انخرقت بهم الأرض ، فساخوا فيها . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } قال : بجوارحهم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
قوله : { يا أيها الذين آمنوا } جعل الخطاب خاصاً بالمؤمنين؛ لأنهم كانوا يقربون الصلاة حال السكر ، وأما الكفار ، فهم لا يقربونها سكارى ولا غير سكارى . قوله : { لاَ تَقْرَبُواْ } قال أهل اللغة : إذا قيل : لا تقرب بفتح الراء معناه لا تتلبس بالفعل ، وإذا كان بضم الراء كان معناه : لا تدن منه . والمراد هنا : النهي عن التلبس بالصلاة ، وغشيانها . وبه قال جماعة من المفسرين ، وإليه ذهب أبو حنيفة . وقال آخرون المراد : مواضع الصلاة ، وبه قال الشافعي . وعلى هذا فلا بدّ من تقدير مضاف ، ويقوّي هذا قوله : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } وقالت طائفة : المراد الصلاة ومواضعها معاً؛ لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ، ولا يصلون إلا مجتمعين ، فكانا متلازمين .
قوله : { وَأَنتُمْ سكارى } الجملة في محل نصب على الحال ، وسكارى جمع سكران ، مثل كسالى جمع كسلان . وقرأ النخعي : «سكرى» بفتح السين ، وهو تكسير سكران . وقرأ الأعمش : «سُكْرى» كحبلى صفة مفردة . وقد ذهب العلماء كافة إلى أن المراد بالسكر هنا : سكر الخمر ، إلا الضحاك ، فإنه قال : المراد سكر النوم . وسيأتي بيان سبب نزول الآية ، وبه يندفع ما يخالف الصواب من هذه الأقوال . قوله : { حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } هذا غاية النهي عن قربان الصلاة في حال السكر ، أي : حتى يزول عنكم أثر السكر ، وتعلموا ما تقولونه ، فإن السكران لا يعلم ما يقوله ، وقد تمسك بهذا من قال : إن طلاق السكران لا يقع؛ لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد . وبه قال عثمان بن عفان ، وابن عباس ، وطاوس ، وعطاء ، والقاسم ، وربيعة ، وهو قول الليث بن سعد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، والمزني . واختاره الطحاوي ، وقال : أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز ، والسكران معتوه كالموسوس . وأجازت طائفة وقوع طلاقه ، وهو محكيّ عن عمر ابن الخطاب ، ومعاوية ، وجماعة من التابعين ، وهو : قول أبي حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي . واختلف قول الشافعي في ذلك . وقال مالك : يلزمه الطلاق ، والقود في الجراح ، والقتل ، ولا يلزمه النكاح ، والبيع .
قوله : { وَلاَ جُنُباً } عطف على محل الجملة الحالية ، وهي قوله : { وَأَنتُمْ سكارى } والجنب لا يؤنث ، ولا يثنى ، ولا يجمع؛ لأنه ملحق بالمصدر كالبعد والقرب . قال الفراء : يقال جنب الرجل ، وأجنب من الجنابة . وقيل : يجمع الجنب في لغة على أجناب ، مثل عنق ، وأعناق ، وطنب ، وأطناب . وقوله : { إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } استثناء مفرّغ ، أي : لا تقربوها في حال من الأحوال إلا في حال عبور السبيل . والمراد به هنا : السفر ، ويكون محل هذا الاستثناء المفرّغ النصب على الحال من ضمير لا تقربوا بعد تقييده بالحال الثانية ، وهي قوله : { وَلاَ جُنُباً } لا بالحال الأولى ، وهي قوله : { وَأَنتُمْ سكارى } فيصير المعنى : لا تقربوا الصلاة حال كونكم جنباً إلا حال السفر ، فإنه يجوز لكم أن تصلوا بالتيمم ، وهذا قول عليّ ، وابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، والحكم ، وغيرهم ، قالوا : لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال إلا المسافر ، فإنه يتيمم؛ لأن الماء قد يعدم في السفر لا في الحضر ، فإن الغالب أنه لا يعدم .
وقال ابن مسعود ، وعكرمة ، والنخعي ، وعمرو بن دينار ، ومالك ، والشافعي : عابر السبيل هو : المجتاز في المسجد ، وهو مرويّ عن ابن عباس ، فيكون معنى الآية على هذا لا تقربوا مواضع الصلاة ، وهي : المساجد في حال الجنابة إلا أن تكونوا مجتازين فيها من جانب إلى جانب ، وفي القول الأوّل قوّة من جهة كون الصلاة فيه باقية على معناها الحقيقي ، وضعف من جهة ما في حمل عابر السبيل على المسافر ، وإن معناه : أنه يقرب الصلاة عند عدم الماء بالتيمم ، فإن هذا الحكم يكون في الحاضر إذا عدم الماء ، كما يكون في المسافر ، وفي القول الثاني قوّة من جهة عدم التكلف في معنى قوله : { إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } وضعف من جهة حمل الصلاة على مواضعها .
وبالجملة فالحال الأولى ، أعني قوله : { وَأَنتُمْ سكارى } تقوّي بقاء الصلاة على معناها الحقيقي من دون تقدير مضاف ، وكذلك ما سيأتي من سبب نزول الآية يقوّي ذلك . وقوله : { إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } يقوّي تقدير المضاف ، أي : لا تقربوا مواضع الصلاة . ويمكن أن يقال : إن بعض قيود النهي أعني : { لا تقربوا } وهو قوله : { وَأَنتُمْ سكارى } يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي ، وبعض قيود النهي وهو قوله : { إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } يدل على أن المراد مواضع الصلاة ، ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدالّ عليه ، ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد ، وهما لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان ، وأنتم سكارى ، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنباً إلا حال عبوركم في المسجد من جانب إلى جانب ، وغاية ما يقال في هذا أنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وهو جائز بتأويل مشهور .
وقال ابن جرير بعد حكايته للقولين : والأولى قول من قال : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } إلا مجتازي طريق فيه ، وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء ، وهو جنب في قوله : { وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط أَوْ لامستم النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صعيداً طيباً } فكان معلوماً بذلك ، أي : أن قوله : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُواْ } لو كان معنياً به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله : { وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ } معنى مفهوم .
وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك ، فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها ، وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا تقربوها أيضاً جنباً حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل . قال : والعابر السبيل المجتاز مرّاً وقطعاً ، يقال منه : عبرت هذا الطريق ، فأنا أعبره عبراً وعبوراً ، ومنه قيل : عبر فلان النهر إذا قطعه وجاوزه ، ومنه قيل للناقة القوية : هي عبر أسفار لقوّتها على قطع الأسفار . قال ابن كثير : وهذا الذي نصره يعني ابن جرير هو قول الجمهور ، وهو الظاهر من الآية . انتهى .
قوله : { حتى تَغْتَسِلُواْ } غاية للنهي عن قربان الصلاة ، أو مواضعها حال الجنابة . والمعنى : لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا إلا حال عبوركم السبيل . قوله : { وَإِنْ كُنتُم مرضى } المرض عبارة عن خروج البدن عن حدّ الاعتدال ، والاعتياد إلى الاعوجاج والشذوذ ، وهو على ضربين كثير ويسير . والمراد هنا : أن يخاف على نفسه التلف ، أو الضرر باستعمال الماء ، أو كان ضعيفاً في بدنه وهو لا يقدر على الوصول إلى موضع الماء . وروي عن الحسن أنه يتطهر ، وإن مات ، وهذا باطل يدفعه قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] . وقوله : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] وقوله : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر } [ البقرة : 185 ] قوله : { أَوْ على سَفَرٍ } فيه جواز التيمم لمن صدق عليه اسم المسافر ، والخلاف مبسوط في كتب الفقه . وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط أن يكون سفر قصر ، وقال قوم : لا بد من ذلك . وقد أجمع العلماء على جواز التيمم للمسافر . واختلفوا في الحاضر ، فذهب مالك ، وأصحابه ، وأبو حنيفة ، ومحمد إلى أنه يجوز في الحضر ، والسفر . وقال الشافعي : لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف .
قوله : { أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط } هو المكان المنخفض ، والمجيء منه كناية عن الحدث ، والجمع الغيطان ، والأغواط ، وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء الحاجة تستراً عن أعين الناس ، ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطاً توسعاً ، ويدخل في الغائط جميع الأحداث الناقضة للوضوء . قوله : { أَوْ لامستم النساء } قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : { لامستم } وقرأ حمزة ، والكسائي : «لمستم» قيل المراد بها : بها في القراءتين الجماع . وقيل : المراد به : مطلق المباشرة ، وقيل : إنه يجمع الأمرين جميعاً . وقال محمد بن يزيد المبرد : الأولى في اللغة أن يكون : { لامستم } بمعنى قبلتم ، ونحوه ، و«لمستم» بمعنى غشيتم .
واختلف العلماء في معنى ذلك على أقوال ، فقالت فرقة : الملامسة هنا مختصة باليد دون الجماع ، قالوا : والجنب لا سبيل له إلى التيمم بل يغتسل ، أو يدع الصلاة حتى يجد الماء . وقد روي هذا عن عمرو بن الخطاب ، وابن مسعود . قال ابن عبد البر : لم يقل بقولهما في هذه المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي ، وحملة الآثار .
انتهى . وأيضاً الأحاديث الصحيحة تدفعه ، وتبطله ، كحديث عمار ، وعمران بن حصين ، وأبي ذرّ في تيمم الجنب . وقالت طائفة : هو الجماع كما في قوله : { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [ الأحزاب : 49 ] ، وقوله : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [ البقرة : 237 ] وهو مرويّ عن عليّ ، وأبيّ بن كعب ، وابن عباس ، ومجاهد ، وطاوس ، والحسن ، وعبيد ابن عمير ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، وقتادة ، ومقاتل بن حبان ، وأبي حنيفة . وقال مالك : الملامس بالجماع يتيمم ، والملامس باليد يتيمم إذا التذّ ، فإن لمسها بغير شهوة ، فلا وضوء ، وبه قال أحمد ، وإسحاق . وقال الشافعي : إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد ، أو غيرها من أعضاء الجسد انتقضت به الطهارة وإلا فلا . وحكاه القرطبي عن ابن مسعود ، وابن عمر ، والزهري ، وربيعة . وقال الأوزاعي : إذا كان اللمس باليد نقض الطهر ، وإن كان بغير اليد لم ينقضه لقوله تعالى { فلمسوه بأيديهم } [ الأنعام : 7 ] وقد احتجوا بحجج تزعم كل طائفة أن حجتها تدل على أن الملامسة المذكورة في الآية هي ما ذهبت إليه ، وليس الأمر كذلك . فقد اختلفت الصحابة ، ومن بعدهم في معنى الملامسة المذكورة في الآية ، وعلى فرض أنها ظاهرة في الجماع ، فقد ثبتت القراءة المروية عن حمزة ، والكسائي بلفظ : «أو لمستم» وهي محتملة بلا شك ، ولا شبهة ، ومع الاحتمال ، فلا تقوم الحجة بالمحتمل . وهذا الحكم تعمّ به البلوى ، ويثبت به التكليف العامّ ، فلا يحل إثباته بمحتمل قط ، وقد وقع النزاع في مفهومه . وإذا عرفت هذا ، فقد ثبتت السنة الصحيحة بوجوب التيمم على من اجتنب ولم يجد الماء ، فكان الجنب داخلاً في الآية بهذا الدليل ، وعلى فرض عدم دخوله فالسنة تكفي في ذلك .
وأما وجوب الوضوء ، أو التيمم على من لمس المرأة بيده ، أو بشيء من بدنه ، فلا يصح القول به استدلالاً بهذه الآية لما عرفت من الاحتمال . وأما ما استدلوا به من أنه صلى الله عليه وسلم أتاه رجل ، فقال : يا رسول الله ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها؟ وليس يأتي الرجل من امرأته شيئاً إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها فأنزل الله : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } [ هود : 114 ] . أخرجه أحمد ، والترمذي ، والنسائي من حديث معاذ ، قالوا : فأمره بالوضوء؛ لأنه لمس المرأة ، ولم يجامعها ، ولا يخفاك أنه لا دلالة بهذا الحديث على محل النزاع ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالوضوء ليأتي بالصلاة التي ذكرها الله سبحانه في هذه الآية ، إذ لا صلاة إلا بوضوء . وأيضاً فالحديث منقطع؛ لأنه من رواية ابن أبي ليلى عن معاذ ، ولم يلقه ، وإذا عرفت هذا ، فالأصل البراءة عن هذا الحكم ، فلا يثبت إلا بدليل خالص عن الشوائب الموجبة لقصوره عن الحجة .
وأيضاً قد ثبت عن عائشة من طرق أنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ، ثم يقبل ، ثم يصلي ، ولا يتوضأ . وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة ، رواه أحمد ، وابن أبي شيبة ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، وما قيل من أنه من رواية حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة ، عن عائشة ، ولم يسمع من عروة فقد رواه أحمد في مسنده من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، ورواه ابن جرير من حديث ليث ، عن عطاء ، عن عائشة ، ورواه أحمد أيضاً ، وأبو داود ، والنسائي من حديث أبي روق الهمداني ، عن إبراهيم التيميّ ، عن عائشة ، ورواه أيضاً ابن جرير من حديث أم سلمة ، ورواه أيضاً من حديث زينب السهمية . ولفظ حديث أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها ، وهو صائم ، ولا يفطر ، ولا يحدث وضوءاً . ولفظ حديث زينب السهمية : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقبل ، ثم يصلي ، ولا يتوضأ» . ورواه أحمد ، عن زينب السهمية ، عن عائشة .
قوله : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء } هذا القيد إن كان راجعاً إلى جميع ما تقدم مما هو مذكور بعد الشرط ، وهو المرض ، والسفر ، والمجيء من الغائط ، وملامسة النساء كان فيه دليل على أن المرض والسفر بمجردهما لا يسوّغان التيمم ، بل لا بد مع وجود أحد السببين من عدم الماء ، فلا يجوز للمريض أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء ، ولا يجوز للمسافر أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء ، ولكنه يشكل على هذا أن الصحيح ، كالمريض إذا لم يجد الماء تيمم ، وكذلك المقيم ، كالمسافر إذا لم يجد الماء تيمم ، فلا بد من فائدة في التنصيص على المرض والسفر؛ فقيل وجه التنصيص عليهما أن المرض مظنة للعجز عن الوصول إلى الماء ، وكذلك المسافر عدم الماء في حقه غالب ، وإن كان راجعاً إلى الصورتين الأخيرتين : أعني قوله : { أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط أَوْ لامستم النساء } كما قال بعض المفسرين كان فيه إشكال ، وهو أن من صدق عليه اسم المريض ، أو المسافر جاز له التيمم ، وإن كان واجداً للماء قادراً على استعماله ، وقد قيل : إنه رجع هذا القيد إلى الآخرين مع كونه معتبراً في الأوّلين لندرة وقوعه فيهما . وأنت خبير بأن هذا كلام ساقط ، وتوجيه بارد . وقال مالك ، ومن تابعه : ذكر الله المرض ، والسفر في شرط التيمم اعتباراً بالأغلب في من لم يجد الماء بخلاف الحاضر ، فإن الغالب ، وجوده ، فلذلك لم ينص الله سبحانه عليه . انتهى . والظاهر أن المرض بمجرّده مسوّغ للتيمم ، وإن كان الماء موجوداً إذا كان يتضرّر باستعماله في الحال ، أو في المآل ، ولا تعتبر خشية التلف ، فالله سبحانه يقول :
{ يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر } [ البقرة : 185 ] ويقول : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 87 ] ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : « الدين يسر » ويقول : « يسروا ولا تعسروا » وقال : « قتلوه قتلهم الله » ويقول : « أمرت بالشريعة السمحة » فإذا قلنا : إن قيد عدم وجود الماء راجع إلى الجميع كان وجه التنصيص على المرض هو أنه يجوز له التيمم ، والماء حاضر موجود إذا كان استعماله يضرّه ، فيكون اعتبار ذلك القيد في حقه إذا كان استعماله لا يضرّه ، فإن في مجرّد المرض مع عدم الضرر باستعمال الماء ما يكون مظنة لعجزه عن الطلب ، لأنه يلحقه بالمرض نوع ضعف . وأما وجه التنصيص على المسافر ، فلا شك أن الضرب في الأرض مظنة لإعواز الماء في بعض البقاع دون بعض .
قوله : { فَتَيَمَّمُواْ } التيمم لغة : القصد ، يقال : تيممت الشيء : قصدته ، وتيممت الصعيد : تعمدته ، وتيممته بسهمي ، ورمحي : قصدته دون من سواه ، وأنشد الخليل :
يممته الرمح شزرا ثم قلت له ... هذي البسالة لا لعب الزحاليق
وقال امرؤ القيس :
تيممتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال
وقال :
تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي
قال ابن السكيت : قوله : { فَتَيَمَّمُواْ } أي : اقصدوا ، ثم كثر استعمال هذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب . وقال ابن الأنباري في قولهم قد تيمم الرجل : معناه قد مسح التراب على وجهه ، وهذا خلط منهما للمعنى اللغوي بالمعنى الشرعي . فإن العرب لا تعرف التيمم بمعنى مسح الوجه واليدين ، وإنما هو معنى شرعي فقط ، وظاهر الأمر الوجوب ، وهو مجمع على ذلك . والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، وتفاصيل التيمم ، وصفاته مبينة في السنة المطهرة ، ومقالات أهل العلم مدوّنة في كتب الفقه ، قوله : { صَعِيداً } الصعيد : وجه الأرض سواء كان عليه تراب ، أو لم يكن ، قاله الخليل ، وابن الأعرابي ، والزجاج . قال الزجاج : لا أعلم فيه خلافاً بين أهل اللغة ، قال الله تعالى : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } [ الكهف : 8 ] أي : أرضاً غليظة لا تنبت شيئاً ، وقال تعالى : { فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا } [ الكهف : 40 ] وقال : ذو الرمة :
كأنه بالضحى يرمي الصعيد به ... دبابة في عظام الرأس خرطوم
وإنما سمي صعيداً؛ لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض ، وجمع الصعيد صعدات .
وقد اختلف أهل العلم فيما يجزىء التيمم به ، فقال مالك ، وأبو حنيفة ، والثوري ، والطبري : إنه يجزىء بوجه الأرض كله تراباً كان ، أو رملاً ، أو حجارة ، وحملوا قوله : { طَيّباً } على الطاهر الذي ليس بنجس ، وقال الشافعي ، وأحمد ، وأصحابهما : إنه لا يجزىء التيمم إلا بالتراب فقط ، واستدلوا بقوله تعالى : { صَعِيدًا زَلَقًا } [ الكهف : 40 ] أي : تراباً أملس طيباً ، وكذلك استدلوا بقوله : { طَيّباً } قالوا : والطيب التراب الذي ينبت .
وقد تنوزع في معنى الطيب ، فقيل : الطاهر كما تقدم وقيل : المنبت كما هنا وقيل : الحلال . والمحتمل لا تقوم به حجة ، ولو لم يوجد في الشيء الذي يتيمم به إلا ما في الكتاب العزيز ، لكان الحق ما قاله الأوّلون ، لكن ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله : « فضلنا الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً ، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء » وفي لفظ « وجعل ترابها لنا طهوراً » فهذا مبين لمعنى الصعيد المذكور في الآية ، أو مخصص لعمومه ، أو مقيد لإطلاقه ، ويؤيد هذا ما حكاه ابن فارس عن كتاب الخليل : تيمم بالصعيد ، أي : أخذ من غباره . انتهى . والحجر الصلد لا غبار له . قوله : { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } هذا المسح مطلق ، يتناول المسح بضربة أو ضربتين ، ويتناول المسح إلى المرفقين أو إلى الرسغين ، وقد بينته السنة بياناً شافياً ، وقد جمعنا بين ما ورد في المسح بضربة ، وبضربتين ، وما ورد في المسح إلى الرسغ وإلى المرفقين في شرحنا للمنتقى وغيره من مؤلفاتنا بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره . قوله : { إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } أي : عفا عنكم ، وغفر لكم تقصيركم ، ورحمكم بالترخيص لكم ، والتوسعة عليكم .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والضياء في المختارة ، عن عليّ بن أبي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً ، فدعانا وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلاة ، فقدموني ، فقرأت : { قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } ونحن نعبد ما تعبدون ، فأنزل الله : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه : أن الذي صلى بهم عبد الرحمن . وأخرج ابن المنذر ، عن عكرمة في الآية قال : نزلت في أبي بكر ، وعمر ، وعليّ ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد ، صنع لهم عليّ طعاماً ، وشراباً ، فأكلوا ، وشربوا ، ثم صلى بهم المغرب ، فقرأ : { قل يا أيها الكافرون } حتى ختمها ، فقال : ليس لي دين ، لكم دين ، فنزلت . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، والنسائي ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : نسختها : { إِنَّمَا الخمر والميسر } [ المائدة : 90 ] الآية . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الضحاك في الآية قال : لم يعن بها الخمر إنما عني بها سكر النوم . وأخرج عبد بن حميد ، عن ابن عباس : { وَأَنتُمْ سكارى } قال : النعاس .
وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة في المصنف ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقيّ عن عليّ .
قوله : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } قال : نزلت في المسافر تصيبه الجنابة ، فيتيمم ويصلي . وفي لفظ قال : لا يقرب الصلاة إلا أن يكون مسافراً تصيبه الجنابة ، فلا يجد الماء ، فيتيمم ، ويصلي حتى يجد الماء . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن ابن عباس في الآية يقول : لا تقربوا الصلاة ، وأنتم جنب إذا وجدتم الماء ، فإن لم تجدوا الماء ، فقد أحللت أن تمسحوا بالأرض . وأخرج عبد بن حميد ، عن مجاهد قال : لا يمرّ الجنب ، ولا الحائض في المسجد ، إنما أنزلت : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } للمسافر يتيمم ، ثم يصلي . وأخرج الدارقطني ، والطبراني ، وأبو نعيم في المعرفة ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، والضياء في المختارة عن الأسلع بن شريك قال : كنت أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصابتني جنابة في ليلة باردة ، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة ، فكرهت أن أرحل ناقة وأنا جنب ، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد ، فأموت ، أو أمرض ، فأمرت رجلاً من الأنصار فرحلها ، ثم رضفت أحجاراً فأسخنت بها ماء فاغتسلت ، ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم و أصحابه ، فقال : " يا أسلع ، ما لي أرى راحلتك تغيرت؟ " قلت : يا رسول الله لم أرحلها ، رحلها رجل من الأنصار ، قال : " ولم؟ " قلت : إني أصابتني جنابة ، فخشيت القرّ على نفسي ، فأمرته أن يرحلها ، ورضفت أحجاراً ، فأسخنت بها ماء ، فاغتسلت به ، فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا } إلى قوله : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } .
وأخرج ابن سعد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والطبراني ، والبيهقي من وجه آخر عن أسلع قال : «كنت أخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم وأرحل له ، فقال لي ذات ليلة : " يا أسلع قم ، فارحل لي ، " قلت : يا رسول الله أصابتني جنابة ، فسكت عني ساعة حتى جاء جبريل بآية الصعيد ، فقال : " قم يا أسلع فتيمم " الحديث . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة } قال : المساجد . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقيّ من طريق عطاء الخراساني عنه : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } قال : لا تدخلوا المسجد ، وأنتم جنب إلا عابري سبيل ، قال : تمرّ به مرّاً ، ولا تجلس . وأخرج ابن جرير ، عن ابن مسعود ، نحوه . وأخرج عبد الرزاق ، والبيهقي في سننه عنه أنه كان يرخص للجنب أن يمرّ في المسجد ، ولا يجلس فيه ، ثم قرأ قوله : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } . وأخرج البيهقي ، عن أنس نحوه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، والبيهقي ، عن جابر قال : كان أحدنا يمرّ في المسجد ، وهو جنب مجتازاً .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { وَإِنْ كُنتُم مرضى } قال : نزلت في رجل من الأنصار كان مريضاً ، فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ، ولم يكن له خادم فيناوله ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له ، فأنزل الله هذه الآية . وأخرج ابن شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِنْ كُنتُم مرضى } قال : هو الرجل المجدور أو به الجراح ، أو القرح يجنب ، فيخاف إن اغتسل أن يموت ، فيتيمم . وأخرج ابن جرير ، عن إبراهيم النخعي قال : نال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جراح ففشت فيهم ، ثم ابتلوا بالجنابة ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { وَإِنْ كُنتُم مرضى } الآية .
وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، والبيهقي من طرق عن ابن مسعود في قوله : { أَوْ لامستم النساء } قال : اللمس ما دون الجماع ، والقبلة منه ، وفيه الوضوء . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، عن ابن عمر أنه كان يتوضأ من قبلة المرأة ، ويقول هي : اللماس . وأخرج الدارقطني ، والبيهقي ، والحاكم عن عمر قال : إن القبلة من اللمس ، فتوضأ منها . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن علي قال : اللمس هو الجماع ، ولكن الله كنى عنه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن سعيد بن جبير قال : كنا في حجرة ابن عباس ، ومعنا عطاء بن أبي رباح ، ونفر من الموالي ، وعبيد بن عمير ، ونفر من العرب ، فتذاكرنا للماسّ ، فقلت أنا وعطاء والموالي : اللمس باليد ، وقال عبيد بن عمير ، والعرب : هو الجماع ، فدخلت على ابن عباس ، فأخبرته فقال : غلبت الموالي وأصابت العرب ، ثم قال : إن اللمس ، والمسّ والمباشرة إلى الجماع ما هو ، ولكن الله يكنى ما شاء بما شاء . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد ابن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : إن أطيب الصعيد أرض الحرث .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب } كلام مستأنف ، والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المسلمين . والنصيب : الحظّ ، والمراد : اليهود أوتوا نصيباً من التوراة . وقوله : { يَشْتَرُونَ } جملة حالية ، والمراد بالاشتراء : الاستبدال ، وقد تقدم تحقيق معناه . والمعنى : أن اليهود استبدلوا الضلالة ، وهي : البقاء على اليهودية ، بعد وضوح الحجة على صحة نبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . قوله : { وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل } عطف على قوله : { يَشْتَرُونَ } مشارك له في بيان سوء صنيعهم ، وضعف اختيارهم ، أي : لم يكتفوا بما جنوه على أنفسهم من استبدال الضلالة بالهدى ، بل أرادوا مع ضلالهم أن يتوصلوا بكتمهم وجحدهم إلى أن تضلوا أنتم أيها المؤمنون السبيل المستقيم ، الذي هو سبيل الحق : { والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ } أيها المؤمنون ، وما يريدونه بكم من الإضلال ، والجملة اعتراضية { وكفى بالله وَلِيّاً } لكم { وكفى بالله نَصِيراً } ينصركم في مواطن الحرب ، فاكتفوا بولايته ونصره ، ولا تتولوا غيره ، ولا تستنصروه ، والباء في قوله : { بالله } في الموضعين زائدة .
قوله : { مّنَ الذين هَادُواْ } قال الزجاج : إن جعلت متلعقة بما قبل ، فلا يوقف على قوله : { نَصِيراً } وإن جعلت منقطعة ، فيجوز الوقف على { نصيراً } والتقدير : من الذين هادوا قوم يحرّفون ، ثم حذف ، وهذا مذهب سيبويه ، ومثله قول الشاعر :
لو قلت ما في قومها لم أيثم ... يفضلها في حسب وميسم
قالوا : المعنى : لو قلت ما في قومها أحد يفضلها ، ثم حذف . وقال الفراء : المحذوف لفظ من : أي من الذين هادوا من يحرّفون الكلم كقوله : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] أي : من له ، ومنه قول ذي الرمة :
فظلوا ومنهم دمعه سابق له ... أي : من دمعه ، وأنكره المبرّد والزجاج؛ لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة؛ وقيل إن قوله : { مّنَ الذين هَادُواْ } بيان لقوله : { الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب } . والتحريف : الإمالة والإزالة ، أي : يميلونه ويزيلونه عن مواضعه ، ويجعلون مكانه غيره ، أو المراد : أنهم يتأوّلونه على غير تأويله ، وذمهم الله عزّ وجلّ بذلك ، لأنهم يفعلونه عناداً وبغياً ، وتأثيراً لغرض الدنيا .
قوله : { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي : سمعنا قولك ، وعصينا أمرك { واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ } أي : اسمع حال كونك غير مسمع ، وهو يحتمل أن يكون دعاء على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : اسمع لا سمعت ، ويحتمل أن يكون المعنى : اسمع غير مسمع مكروهاً ، أو اسمع غير مسمع جواباً . وقد تقدم الكلام في راعنا . ومعنى : { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } أنهم يلوونها عن الحق ، أي : يميلونها إلى ما في قلوبهم ، وأصل الليّ : الفتل وهو منتصب على المصدر ، ويجوز أن يكون مفعولاً لأجله . قوله : { وَطَعْناً فِى الدين } معطوف على { ليا } ، أي : يطعنون في الدين بقولهم : لو كان نبياً لعلم أنا نسُّبه ، فأطلع الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك : { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا } قولك : { وَأَطَعْنَا } أمرك : { واسمع } ما نقول : { وانظرنا } أي : لو قالوا هذا مكان قولهم راعنا { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } مما قالوه { وَأَقْوَمُ } أي : أعدل ، وأولى من قولهم الأوّل ، وهو قولهم : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وراعنا } لما في هذا من المخالفة وسوء الأدب ، واحتمال الذم في راعنا { ولكن } لم يسلكوا المسلك الحسن ، ويأتوا بما هو خير لهم وأقوم ، ولهذا : { لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي : إلا إيماناً قليلاً ، وهو الإيمان ببعض الكتب دون بعض ، وببعض الرسل دون بعض .
قوله : { يَأَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب } ذكر سبحانه أوّلاً أنهم أوتوا نصيباً من الكتاب ، وهنا ذكر أنهم أوتوا الكتاب . والمراد : أنهم أوتوا نصيباً منه؛ لأنهم لم يعملوا بجميع ما فيه ، بل حرّفوا وبدّلوا . وقوله : { مُصَدّقاً } منتصب على الحال . والطمس : استئصال أثر الشيء ، ومنه { وَإِذَا النجوم طُمِسَتْ } [ المرسلات : 8 ] يقال : نطمس بكسر الميم وضمها لغتان في المستقبل ، ويقال : طمس الأثر أي : محاه كله ، ومنه { رَبَّنَا اطمس على أموالهم } [ يونس : 88 ] أي : أهلكها ، ويقال : هو مطموس البصر ، ومنه : { وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ } [ يس : 66 ] أي : أعميناهم .
واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية هل هو حقيقة؟ فيجعل الوجه كالقفا ، فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين ، أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم ، وسلبهم التوفيق؟ فذهب إلى الأوّل طائفة ، وذهب إلى الآخر آخرون ، وعلى الأوّل ، فالمراد بقوله : { فَنَرُدَّهَا على أدبارها } نجعلها قفا ، أي : نذهب بآثار الوجه ، وتخطيطه حتى يصير على هيئة القفا ، وقيل : إنه بعد الطمس يردّها إلى موضع القفا ، والقفا إلى مواضعها ، وهذا هو ألصق بالمعنى الذي يفيده قوله : { فَنَرُدَّهَا على أدبارها } فإن قيل : كيف جاز أن يهدّدهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ، ولم يفعل ذلك بهم؟ فقيل : إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين . وقال المبرد : الوعيد باق منتظر وقال : لا بدّ من طمس في اليهود ، ومسخ قبل يوم القيامة . قوله : { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أصحاب السبت } الضمير عائد إلى أصحاب الوجوه ، قيل المراد باللعن هنا : المسخ لأجل تشبيهه بلعن أصحاب السبت ، وكان لعن أصحاب السبت مسخهم قردة وخنازير ، وقيل المراد : نفس اللعنة ، وهم ملعونون بكل لسان . والمراد : وقوع أحد الأمرين : إما الطمس ، أو اللعن . وقد وقع اللعن ، ولكنه يقوّي الأوّل تشبيه هذا اللعن بلعن أهل أصحاب السبت . قوله : { وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } أي : كائناً موجوداً لا محالة ، أو يراد بالأمر المأمور . والمعنى أنه متى أراده كان ، كقوله : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }
[ يس : 82 ] قوله : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } هذا الحكم يشمل جميع طوائف الكفار من أهل الكتاب وغيرهم ، ولا يختص بكفار أهل الحرب ، لأن اليهود قالوا عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله ، وقالوا ثالث ثلاثة . ولا خلاف بين المسلمين أن المشرك إذا مات على شركه لم يكن من أهل المغفرة التي تفضل الله بها على غير أهل الشرك حسبما تقتضيه مشيئته؛ وأما غير أهل الشرك من عصاة المسلمين ، فداخلون تحت المشيئة يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء . قال ابن جرير : قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عزّ وجلّ إن شاء عذبه ، وإن شاء عفا عنه ما لم تكن كبيرته شركاً بالله عزّ وجلّ . وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلاً منه ورحمة ، وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة ، وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة . وقد تقدّم قوله تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم } [ النساء : 31 ] وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب الكبائر ، فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته .
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود ، وإذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه ، وقال : أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك ، ثم طعن في الإسلام وعابه ، فأنزل الله فيه : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب } الآية .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه في قوله : { يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه } يعني : يحرفون حدود الله في التوراة ، وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله : { يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه } قال : تبديل اليهود التوراة { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } قالوا : سمعنا ما تقول ولا نطيعك { واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ } قال : غير مقبول ما تقول : { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } قال : خلافاً يلوون به ألسنتهم { واسمع وانظرنا } قال : أفهمنا لا تعجل علينا . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، عن ابن عباس في قوله : { واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ } قال : يقولون اسمع لا سمعت .
وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار اليهود : منهم عبد الله بن صوريا ، وكعب بن أسد ، فقال لهم : « يا معشر اليهود اتقوا الله ، وأسلموا ، فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق » فقالوا : ما نعرف ذلك يا محمد ، وأنزل الله فيهم : { يَأَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب } الآية .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } قال : طمسها أن تعمي { فَنَرُدَّهَا على أدبارها } يقول : نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم ، فيمشون القهقري . ونجعل لأحدهم عينين في قفاه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } يقول : عن صراط الحق { فَنَرُدَّهَا على أدبارها } قال : في الضلالة . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن نحوه .
وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني عن أبي أيوب الأنصاري قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام ، قال : « وما دينه؟ » قال : يصلي ويوحد الله ، قال : استوهب منه دينه ، فإن أبى فابتعه منه ، فطلب الرجل منه ذلك ، فأبى عليه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره ، فقال : وجدته شحيحاً على دينه ، فنزلت : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } الآية . وأخرج ابن الضريس ، وأبو يعلى ، وابن المنذر ، وابن عدّي بسند صحيح ، عن ابن عمر قال : كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم : « { إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } » وقال : « إنيّ ادّخرت دعوتي ، وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي » فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عمر قال : لما نزلت : { قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 53 ] الآية قام رجل فقال : والشرك يا نبيّ الله؟ فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } الآية . وأخرج ابن المنذر ، عن أبي مجلز أن سؤال هذا الرجل هو سبب نزول : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } . وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال في هذه الآية : إن الله حرّم المغفرة على من مات وهو كافر ، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته ، فلم يؤيسهم من المغفرة . وأخرج الترمذي ، وحسنه عن علي قال : أحبّ آية إلىّ في القرآن { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } الآية .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ } تعجيب من حالهم . وقد اتفق المفسرون على أن المراد : اليهود . واختلفوا في المعنى الذي زكوا به أنفسهم ، فقال الحسن ، وقتادة : هو قولهم : { نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] وقولهم : { لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] وقال الضحاك : هو قولهم لا ذنوب لنا ، ونحن كالأطفال . وقيل : قولهم إن آباءهم يشفعون لهم وقيل : ثناء بعضهم على بعض . ومعنى التزكية : التطهير والتنزيه ، فلا يبعد صدقها على جميع هذه التفاسير وعلى غيرها ، واللفظ يتناول كل من زكى نفسه بحق أو بباطل من اليهود وغيرهم ، ويدخل في هذا التلقب بالألقاب المتضمنة للتزكية ، كمحيي الدين ، وعز الدين ، ونحوهما . قوله : { بَلِ الله يُزَكّى مَن يَشَاء } أي : ذلك إليه سبحانه ، فهو العالم بمن يستحق التزكية من عباده ، ومن لا يستحقها ، فليدع العباد تزكية أنفسهم ، ويفوضوا أمر ذلك إلى الله سبحانه ، فإن تزكيتهم لأنفسهم مجرد دعاوى فاسدة تحمل عليها محبة النفس ، وطلب العلوّ والترفع والتفاخر ومثل هذه الآية قوله تعالى : { فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى } [ النجم : 32 ] . قوله : { وَلاَ تُظْلَمُونَ } أي : هؤلاء المزكون لأنفسهم { فَتِيلاً } وهو : الخيط الذي في نواة التمر . وقيل : القشرة التي حول النواة وقيل : هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما ، فهو : فتيل بمعنى مفتول ، والمراد هنا : الكناية عن الشيء الحقير ، ومثله : { وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } [ النساء : 124 ] وهو : النكتة التي في ظهر النواة . والمعنى : أن هؤلاء الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم لأنفسهم بقدر هذا الذنب ، ولا يظلمون بالزيادة على ما يستحقون ، ويجوز أن يعود الضمير إلى { مَن يَشَآء } أي : لا يظلم هؤلاء الذين يزكيهم الله فتيلاً مما يستحقونه من الثواب . ثم عجب النبي صلى الله عليه وسلم من تزكيتهم لأنفسهم ، فقال : { انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ } في قولهم ذلك . والافتراء : الاختلاق ، ومنه افترى فلان على فلان : أي : رماه بما ليس فيه ، وفريت الشيء : قطعته ، وفي قوله : { وكفى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً } من تعظيم الذنب ، وتهويله ما لا يخفى .
قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب } هذا تعجيب من حالهم بعد التعجيب الأوّل ، وهم : اليهود .
واختلف المفسرون في معنى الجبت : فقال ابن عباس ، وابن جبير ، وأبو العالية ، الجبت : الساحر بلسان الحبشة ، والطاغوت : الكاهن ، وروي عن عمر بن الخطاب أن الجبت : السحر ، والطاغوت الشيطان . وروي عن ابن مسعود أن الجبت ، والطاغوت هاهنا كعب بن الأشرف . وقال قتادة : الجبت : الشيطان ، والطاغوت : الكاهن . وروي عن مالك أن الطاغوت : ما عبد من دون الله ، والجبت : الشيطان ، وقيل : هما كل معبود من دون الله ، أو مطاع في معصية الله .
وأصل الجبت الجبس ، وهو : الذي لا سير فيه ، فأبدلت التاء من السين قاله قطرب ، وقيل : الجبت : إبليس ، والطاغوت : أولياؤه . قوله : { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أهدى مِنَ الذين ءامَنُواْ سَبِيلاً } أي : يقول اليهود لكفار قريش أنتم أهدى من الذين آمنوا بمحمد سبيلاً ، أي : أقوم ديناً ، وأرشد طريقاً .
وقوله : { أولئك } إشارة إلى القائلين { الذين لَعَنَهُمُ الله } أي : طردهم وأبعدهم من رحمته { وَمَن يَلْعَنِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً } يدفع عنه ما نزل به من عذاب الله وسخطه . قوله : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملك } « أم » منقطعة ، والاستفهام للإنكار ، يعني : ليس لهم نصيب من الملك { فَإذا لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً } والفاء للسببية الجزائية لشرط محذوف ، أي : إن جعل لهم نصيب من الملك ، فإذا لا يعطون الناس نقيراً منه لشدّة بخلهم وقوّة حسدهم وقيل : المعنى : بل لهم نصيب من الملك على أن معنى أم الإضراب عن الأوّل ، والاستئناف للثاني . وقيل : هي : عاطفة على محذوف ، والتقدير : أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته ، أم لهم نصيب من الملك ، فإذن لا يؤتون الناس نقيراً؟ والنقير : النقرة في ظهر النواة وقيل : ما نقر الرجل بأصبعه ، كما ينقر الأرض . والنقير أيضاً : خشبة تنقر وينبذ فيها . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النقير ، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما ، والنقير : الأصل ، يقال : فلان كريم النقير ، أي : كريم الأصل . والمراد هنا : المعنى الأوّل ، والمقصود به المبالغة في الحقارة ، كالقطمير والفتيل . و « إذن » هنا ملغاة غير عاملة لدخول فاء العطف عليها ، ولو نصب لجاز . قال سيبويه : « إذن » في عوامل الأفعال بمنزلة أظن في عوامل الأسماء التي تلغى إذا لم يكن الكلام معتمداً عليها ، فإن كانت في أوّل الكلام ، وكان الذي بعدها مستقبلاً نصبت .
قوله : { أم يحسدون الناس على ما آتاهم من فضله } أم منقطعة مفيدة للانتقال عن توبيخهم بأمر إلى توبيخهم بآخر ، أي : بل يحسدون الناس يعني : اليهود يحسدون النبي صلى الله عليه وسلم فقط ، أو يحسدونه هو وأصحابه على ما آتاهم الله من فضله من النبوّة ، والنصر ، وقهر الأعداء . قوله : { فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إبراهيم } هذا إلزام لليهود بما يعترفون به ولا ينكرونه ، أي : ليس ما آتينا محمداً وأصحابه من فضلنا ببدع حتى يحسدهم اليهود على ذلك ، فهم يعلمون بما آتينا آل إبراهيم ، وهم أسلاف محمد صلى الله عليه وسلم . وقد تقدّم تفسير الكتاب والحكمة والملك العظيم . قيل : هو ملك سليمان ، واختاره ابن جرير { فَمِنْهُمْ } أي : اليهود { مَنْ ءامَنَ بِهِ } أي : بالنبي صلى الله عليه وسلم { وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ } أي : أعرض عنه . وقيل : الضمير في { به } راجع إلى ما ذكر من حديث آل إبراهيم .
وقيل : الضمير راجع إلى إبراهيم . والمعنى : فمن آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ، ومنهم من صدّ عنه ، وقيل : الضمير يرجع إلى الكتاب ، والأوّل أولى { وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً } أي : ناراً مسعرة .
وقد أخرج ابن جرير ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس قال : إن اليهود قالوا : إن آباءنا قد توفوا ، وهم لنا قربة عند الله ، وسيشفعون لنا ويزكوننا ، فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ } . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه قال : كانت اليهود يقدّمون صبيانهم يصلون بهم ، ويقرّبون قربانهم ، ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب ، وكذبوا ، قال الله : إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له ، ثم أنزل الله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ } . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن أن التزكية قولهم : { نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] { وقالوا لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } قال : الفتيل : ما خرج من بين الأصبعين . وفي لفظ آخر عنه : هو أن تدلك بين أصبعيك ، فما خرج منهما ، فهو ذلك . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، عنه قال : النقير : النقرة تكون في النواة التي نبتت منها النخلة . والفتيل : الذي يكون على شق النواة . والقطمير : القشر الذي يكون على النواة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه : قال الفتيل الذي في الشق الذي في بطن النواة .
وأخرج الطبراني ، والبيهقي في الدلائل عنه قال : قدم حيّي بن أخطب ، وكعب بن الأشرف مكة على قريش ، فحالفوهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا لهم : أنتم أهل العلم القديم ، وأهل الكتاب ، فأخبرونا عنا وعن محمد ، قالوا : ما أنتم وما محمد؟ قالوا : ننحر الكوماء ، ونسقي اللبن على الماء ، ونفك العناة ، ونسقي الحجيج ، ونصل الأرحام ، قالوا : فما محمد؟ قالوا : صنبور : أي : فرد ضعيف ، قطع أرحامنا ، واتبعه سراق الحجيج بنو غفار ، فقالوا : لا بل أنتم خير منه ، وأهدى سبيلاً ، فأنزل الله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الكتاب يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت } الآية . وأخرجه سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن عكرمة مرسلاً . وقد روي عن ابن عباس ، وعن عكرمة بلفظ آخر . وأخرج نحوه عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن السدّي ، عن أبي مالك . وأخرج نحوه أيضاً البيهقي في الدلائل ، وابن عساكر في تاريخه ، عن جابر ابن عبد الله . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، عن عكرمة قال : الجبت ، والطاغوت صنمان . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن عمر في تفسير الجبت ، والطاغوت ما قدّمناه عنه .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : الجبت حيّي بن أخطب ، والطاغوت كعب بن الأشرف . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : الجبت : الأصنام ، والطاغوت : الذي يكون بين يدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : الجبت : اسم الشيطان بالحبشية ، والطاغوت : كهان العرب .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملك } قال : فليس لهم نصيب ، ولو كان لهم نصيب لم يؤتوا الناس نقيراً . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق ، عن ابن عباس قال النقير : النقطة التي في ظهر النواة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس قال : قال أهل الكتاب : زعم محمد أنه أوتي ما أوتى في تواضع ، وله تسع نسوة ، وليس له همة إلا النكاح ، فأيّ ملك أفضل من هذا؟ فأنزل الله هذه الآية : { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس } إلى قوله : { مُّلْكاً عَظِيماً } يعني : ملك سليمان . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن عكرمة قال : الناس في هذا الموضع النبي خاصة . وأخرج ابن جرير ، عن قتادة قال : هم : هذا الحيّ من العرب .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
قوله : { بئاياتنا } الظاهر عدم تخصيص بعض الآيات دون بعض ، و { سَوْفَ } كلمة تذكر للتهديد قاله سيبويه . وينوب عنها السين . وقد تقدّم معنى نصلي في أوّل السورة . والمراد : ندخلهم ناراً عظيمة . وقرأ حميد بن قيس « نَصْلِيهِمْ » بفتح النون . قوله : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } يقال : نضج الشيء نضجاً ونضاجاً ، ونضج اللحم ، وفلان نضج الرأي ، أي : محكمه . والمعنى : أنها كلما احترقت جلودهم بدّلهم الله جلوداً غيرها ، أي : أعطاهم مكان كل جلد محترق جلداً آخر غير محترق ، فإن ذلك أبلغ في العذاب للشخص؛ لأن إحساسه لعمل النار في الجلد الذي لم يحترق أبلغ من إحساسه لعملها في الجلد المحتر . وقيل : المراد بالجلود : السرابيل التي ذكرها في قوله : { سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ } [ إبراهيم : 50 ] ولا موجب لترك المعنى الحقيقي ها هنا ، وإن جاز إطلاق الجلود على السرابيل مجازاً ، كما في قول الشاعر :
كسا اللوم تيما خضرة في جلودها ... فويل لتيم من سرابيلها الخضر
وقيل : المعنى : أعدنا الجلد الأوّل جديداً ، ويأبى ذلك معنى التبديل . قوله : { لِيَذُوقُواْ العذاب } أي : ليحصل لهم الذوق الكامل بذلك التبديل . وقيل : معناه : ليدوم لهم العذاب ، ولا ينقطع ، ثم أتبع وصف حال الكفار بوصف حال المؤمنين . وقد تقدّم تفسير الجنات التي تجري من تحتها الأنهار .
قوله : { لَّهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ } أي : من الأدناس التي تكون في نساء الدنيا ، والظل الظليل الكثيف الذي لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحرّ ، والسموم ، ونحو ذلك ، وقيل : هو مجموع ظلّ الأشجار ، والقصور . وقيل : الظلّ الظليل : هو الدائم الذي لا يزول ، واشتقاق الصفة من لفظ الموصوف للمبالغة ، كما يقال : ليل أليل .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عمر في قوله : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } قال : إذا احترقت جلودهم بدّلناهم جلوداً بيضاء أمثال القراطيس . وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني عنه بسند ضعيف قال : قرىء عند عمر : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } الآية ، فقال معاذ : عندي تفسيرها تبدّل في ساعة مائة مرة ، فقال عمر : هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأخرجه أبو نعيم في الحلية ، وابن مردويه أن القائل كعب ، وأنه قال : تبدّل في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن ابن مسعود أن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الربيع بن أنس في قوله : { ظِلاًّ ظَلِيلاً } قال : هو ظل العرش الذي لا يزول .
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
هذه الآية من أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشرع؛ لأن الظاهر أن الخطاب يشمل جميع الناس في جميع الأمانات ، وقد روي عن علي ، وزيد بن أسلم ، وشهر بن حوشب أنها خطاب لولاة المسلمين ، والأوّل أظهر ، وورودها على سبب ، كما سيأتي ، لا ينافي ما فيها من العموم ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، كما تقرر في الأصول ، وتدخل الولاة في هذا الخطاب دخولاً أوّليا ، فيجب عليهم تأدية ما لديهم من الأمانات ، وردّ الظلامات ، وتحرّي العدل في أحكامهم ، ويدخل غيرهم من الناس في الخطاب ، فيجب عليهم ردّ ما لديهم من الأمانات ، والتحري في الشهادات والأخبار . وممن قال بعموم هذا الخطاب : البراء بن عازب ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبيّ بن كعب ، واختاره جمهور المفسرين ، ومنهم ابن جرير ، وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها : الأبرار منهم والفجار ، كما قال ابن المنذر . والأمانات جمع أمانة ، وهي : مصدر بمعنى المفعول .
قوله : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل } أي : وإن الله يأمركم إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل . والعدل : هو فصل الحكومة على ما في كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، لا الحكم بالرأي المجرد ، فإن ذلك ليس من الحق في شيء ، إلا إذا لم يوجد دليل تلك الحكومة في كتاب الله ولا في سنة رسوله ، فلا بأس باجتهاد الرأي من الحاكم الذي يعلم بحكم الله سبحانه ، وبما هو أقرب إلى الحق عند عدم وجود النص ، وأما الحاكم الذي لا يدري بحكم الله ورسوله ، ولا بما هو أقرب إليهما ، فهو لا يدري ما هو العدل؛ لأنه لا يعقل الحجة إذا جاءته ، فضلاً عن أن يحكم بها بين عباد الله . قوله : { نِعِمَّا } « ما » موصوفة أو موصولة ، وقد قدّمنا البحث في مثل ذلك .
وقد أخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة ، وقبض مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة ، فنزل جبريل عليه السلام بردّ المفتاح ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة ، وردّه إليه ، وقرأ هذه الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن عساكر ، عن ابن جريج : أن هذه الآية نزلت في عثمان بن طلحة لما قبض منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة ، فدعاه ، ودفعه إليه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن أبي شيبة ، عن علي قال : حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ، وأن يؤدي الأمانة ، فإذا فعل ذلك ، فحقّ على الناس أن يسمعوا له ، وأن يطيعوا ، وأن يجيبوا إذا دعوا . وأخرج أبو داود ، والترمذي ، والحاكم ، والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أدّ الأمانة لمن ائتمنك ، ولا تخن من خانك » وقد ثبت في الصحيح أن من خان إذا اؤتمن ، ففيه خصلة من خصال النفاق .