كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني
قال الزجاج : معنى { عِينٌ } كبار الأعين حسناها . وقال مجاهد : العين : حسان العيون . وقال الحسن : هنّ : الشديدات بياض العين الشديدات سوادها . والأوّل أولى { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } قال الحسن ، وأبو زيد : شبههنّ ببيض النعام تكنها النعامة بالريش من الريح ، والغبار . فلونه أبيض في صفرة ، وهو أحسن ألوان النساء . وقال سعيد بن جبير ، والسدّي : شبههنّ ببطن البيض قبل أن يقشر ، وتمسه الأيدي ، وبه قال ابن جرير ، ومنه قول امرىء القيس :
وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل
قال المبرد : وتقول العرب إذا وصفت الشيء بالحسن ، والنظافة كأنه بيض النعام المغطى بالريش . وقيل : المكنون : المصون عن الكسر ، أي : إنهنّ عذارى ، وقيل : المراد بالبيض : اللؤلؤ كما في قوله : { وَحُورٌ عِينٌ * كأمثال اللؤلؤ المكنون } [ الواقعة : 22 ، 23 ] ومثله قول الشاعر :
وهي بيضاء مثل لؤلؤة الغوّا ... ص ميزت من جوهر مكنون
والأوّل أولى ، وإنما قال : { مكنون } ، ولم يقل : مكنونات؛ لأنه وصف البيض باعتبار اللفظ .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم } قال : تقول الملائكة للزبانية هذا القول . وأخرج عبد الرّزّاق ، والفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن منيع في مسنده ، وعبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث من طريق النعمان بن بشير ، عن عمر بن الخطاب في قوله : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم } قال : أمثالهم الذين هم مثلهم ، يجيء أصحاب الرّبا مع أصحاب الرّبا ، وأصحاب الزّنا مع أصحاب الزّنا ، وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر ، أزواج في الجنة ، وأزواج في النار . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم } قال : أشباههم ، وفي لفظ : نظراءهم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } قال : وجهوهم ، وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال : دلوهم { إلى صراط الجحيم } قال : طريق النار . وأخرج عنه أيضاً في قوله : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } قال : احبسوهم إنهم محاسبون . وأخرج البخاري في تاريخه ، والدارمي ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفاً معه يوم القيامة لازماً به لا يفارقه ، وإن دعا رجل رجلاً » ثم قرأ { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُون } . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } قال : ذلك إذا بعثوا في النفخة الثانية .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه في قوله : { كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ } قال : كانوا إذا لم يشرك بالله يستنكفون ، { وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ } لا يعقل ، قال : فحكى الله صدقه ، فقال : { بَلْ جَاء بالحق وَصَدَّقَ المرسلين } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلاّ الله ، فمن قال : لا إله إلاّ الله ، فقد عصم مني ماله ، ونفسه إلا بحقه ، وحسابه على الله » وأنزل الله في كتابه ، وذكر قوماً استكبروا ، فقال : { إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ } ، وقال : { إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الحمية حَمِيَّةَ الجاهلية فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } [ الفتح : 26 ] وهي : لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ، استكبر عنها المشركون يوم الحديبية يوم كاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضية الهدنة .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ } قال : الخمر { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } قال : ليس فيها صداع { وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } قال : لا تذهب عقولهم . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه قال : في الخمر أربع خصال : السكر ، والصداع ، والقيء ، والبول ، فنزّه الله خمر الجنة عنها ، فقال : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } لا تغول عقولهم من السكر { وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } قال : يقيئون عنها كما يقيء صاحب خمر الدنيا عنها . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } قال : هي : الخمر ليس فيها وجع بطن . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث عنه أيضاً في قوله : { وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف } يقول : من غير أزواجهنّ { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } قال : اللؤلؤ المكنون . وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } قال : بياض البيضة ينزع عنها فوفها ، وغشاؤها .
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
قوله : { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } معطوف على يطاف ، أي : يسأل هذا ذاك ، وذاك هذا حال شربهم عن أحوالهم التي كانت في الدنيا ، وذلك من تمام نعيم الجنة ، والتقدير : فيقبل بعضهم على بعض ، وإنما عبر عنه بالماضي للدلالة على تحقق وقوعه { قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ } أي : قال قائل من أهل الجنة في حال إقبال بعضهم على بعض بالحديث ، وسؤال بعضهم لبعض { إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ } أي : صاحب ملازم لي في الدنيا كافر بالبعث منكر له كما يدلّ عليه قوله : { أَءنَّكَ لَمِنَ المصدقين } يعني : بالبعث ، والجزاء ، وهذا الاستفهام من القرين لتوبيخ : ذلك المؤمن ، وتبكيته بإيمانه ، وتصديقه بما وعد الله به من البعث ، وكان هذا القول منه في الدنيا . ثم ذكر ما يدلّ على الاستبعاد للبعث عنده ، وفي زعمه ، فقال : { أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَدِينُونَ } أي : مجزيون بأعمالنا ، ومحاسبون بها بعد أن صرنا تراباً ، وعظاماً ، وقيل : معنى مدينون : مسوسون ، يقال دانه : إذا ساسه . قال سعيد بن جبير : قرينه شريكه ، وقيل : أراد بالقرين الشيطان الذي يقارنه ، وأنه كان يوسوس إليه بإنكار البعث ، وقد مضى ذكر قصتهما في سورة الكهف ، والاختلاف في اسميهما ، قرأ الجمهور { لمن المصدقين } بتخفيف الصاد من التصديق ، أي : لمن المصدّقين بالبعث ، وقرىء بتشديدها ، ولا أدري من قرأ بها ، ومعناها بعيد؛ لأنها من التصدّق لا من التصديق ، ويمكن تأويلها بأنه أنكر عليه التصدّق بماله لطلب الثواب ، وعلل ذلك باستبعاد البعث .
وقد اختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة ، فقرأ نافع الأولى ، والثانية بالاستفهام بهمزة ، والثالثة بكسر الألف من غير استفهام . ووافقه الكسائي إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين ، وابن عامر الأولى ، والثالثة بهمزتين ، والثانية بكسر الألف من غير استفهام ، والباقون بالاستفهام في جميعها . ثم اختلفوا ، فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطوّلة ، وبعده ساكنة خفيفة ، وأبو عمرو مطوّلة ، وعاصم ، وحمزة بهمزتين .
{ قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ } القائل : هو المؤمن الذي في الجنة بعد ما حكى لجلسائه فيها ما قاله له قرينه في الدنيا ، أي : هل أنتم مطلعون إلى أهل النار؟ لأريكم ذلك القرين الذي قال لي تلك المقالة كيف منزلته في النار؟ قال ابن الأعرابي : والاستفهام هو : بمعنى الأمر أي : اطلعوا ، وقيل القائل : هو الله سبحانه ، وقيل : الملائكة ، والأوّل أولى { فاطلع فَرَءاهُ فِى سَوَاء الجحيم } أي : فاطلع على النار ذلك المؤمن الذي صار يحدث أصحابه في الجنة بما قال له قرينه في الدنيا ، فرأى قرينه في وسط الجحيم . قال الزجاج : سواء كل شيء وسطه . قرأ الجمهور { مطلعون } بتشديد الطاء مفتوحة ، وبفتح النون ، فاطلع ماضياً مبنياً للفاعل من الطلوع .
وقرأ ابن عباس ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو « مطلعون » بسكون الطاء ، وفتح النون « فأطلع » بقطع الهمزة مضمومة ، وكسر اللام ماضياً مبنياً للمفعول . قال النحاس : فأطلع فيه قولان على هذه القراءة : أحدهما : أن يكون فعلاً مستقبلاً ، أي : فأطلع أنا ، ويكون منصوباً على أنه جواب الاستفهام . والقول الثاني : أن يكون فعلاً ماضياً ، وقرأ حماد بن أبي عمار « مطلعون » بتخفيف الطاء ، وكسر النون ، فاطلع مبنياً للمفعول ، وأنكر هذه القراءة أبو حاتم ، وغيره . قال النحاس : هي : لحن ، لأنه لا يجوز الجمع بين النون ، والإضافة ، ولو كان مضافاً لقال : هل أنتم مطلعيّ ، وإن كان سيبويه ، والفراء قد حكيا مثله ، وأنشدا :
هم القائلون الخير والآمرونه ... إذا ما خشوا من محدث الدهر معظما
ولكنه شاذ خارج عن كلام العرب { قَالَ تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ } أي : قال ذلك الذي من أهل الجنة لما اطلع على قرينه ، ورآه في النار : { تالله إن كدت لتردين } أي : لتهلكني بالإغواء . قال الكسائي : لتردين : لتهلكني ، والردي : الهلاك . قال المبرد : لو قيل : لتردين : لتوقعني في النار لكان جائزاً . قال مقاتل : المعنى : والله لقد كدت أن تغويني ، فأنزل منزلتك ، والمعنى متقارب ، فمن أغوى إنساناً ، فقد أهلكه { وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّى لَكُنتُ مِنَ المحضرين } أي : لولا رحمة ربي ، وإنعامه عليّ بالإسلام ، وهدايتي إلى الحقّ ، وعصمتي عن الضلال لكنت من المحضرين معك في النار . قال الفراء : أي : لكنت معك في النار محضراً . قال الماوردي : وأحضر لا يستعمل إلا في الشرّ . ولما تمم كلامه مع ذلك القرين ، الذي هو في النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة ، فقال : { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ } ، والهمزة للاستفهام التقريري ، وفيها معنى : التعجيب ، والفاء للعطف على محذوف كما في نظائره ، أي : أنحن مخلدون منعمون ، فما نحن بميتين { إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى } التي كانت في الدنيا ، وقوله هذا كان على طريقة الابتهاج ، والسرور بما أنعم الله عليهم من نعيم الجنة الذي لا ينقطع ، وأنهم مخلدون لا يموتون أبداً ، وقوله : { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } هو من تمام كلامه ، أي : وما نحن بمعذبين كما يعذب الكفار . ثم قال مشيراً إلى ما هم فيه من النعيم : { إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم } أي : إن هذا الأمر العظيم ، والنعيم المقيم ، والخلود الدائم الذي نحن فيه لهو الفوز العظيم الذي لا يقادر قدره ، ولا يمكن الإحاطة بوصفه ، وقوله : { لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون } من تمام كلامه ، أي : لمثل هذا العطاء ، والفضل العظيم ، فليعمل العاملون ، فإن هذه هي التجارة الرابحة ، لا العمل للدنيا الزائلة ، فإنها صفقة خاسرة نعيمها منقطع ، وخيرها زائل ، وصاحبها عن قريب منها راحل . وقيل : إن هذا من قول الله سبحانه ، وقيل : من قول الملائكة ، والأوّل أولى .
قرأ الجمهور { بميتين } ، وقرأ زيد بن عليّ « بمايتين » ، وانتصاب { إلا موتتنا } على المصدرية ، والاستثناء مفرّغ ، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً . أي : لكن الموتة الأولى التي كانت في الدنيا { أذلك خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم } الإشارة بقوله ذلك : إلى ما ذكره من نعيم الجنة ، وهو : مبتدأ ، وخبره { خير } ، و { نزلاً } تمييز ، والنزل في اللغة : الرزق الذي يصلح أن ينزلوا معه ، ويقيموا فيه ، والخيرية بالنسبة إلى ما اختاره الكفار على غيره . قال الزجاج : المعنى : أذلك خير في باب الإنزال التي يبقون بها نزلاً ، أم نزل أهل النار ، وهو قوله : { أَمْ شَجَرَةُ الزقوم } ، وهو ما يكره تناوله . قال الواحدي : وهو شيء مرّ كريه يكره أهل النار على تناوله ، فهم يتزقمونه ، وهي على هذا مشتقة من التزقم ، وهو البلع على جهد لكراهتها ، ونتنها . واختلف فيها هل هي من شجر الدنيا التي يعرفها العرب أم لا؟ على قولين : أحدهما : أنها معروفة من شجر الدنيا ، فقال قطرب : إنها شجرة مرّة تكون بتهامة من أخبث الشجر . وقال غيره : بل هو كلّ نبات قاتل . القول الثاني : أنها غير معروفة في شجر الدنيا . قال قتادة : لما ذكر الله هذه الشجرة افتتن بها الظلمة ، فقالوا : كيف تكون في النار شجرة . فأنزل الله تعالى : { إِنَّا جعلناها فِتْنَةً للظالمين } قال الزجاج : حين افتتنوا بها ، وكذبوا بوجودها . وقيل : معنى جعلها فتنة لهم : أنها محنة لهم لكونهم يعذبون بها ، والمراد بالظالمين هنا : الكفار ، أو أهل المعاصي الموجبة للنار .
ثم بين سبحانه أوصاف هذه الشجرة ردًّا على منكريها ، فقال : { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الجحيم } أي : في قعرها ، قال الحسن : أصلها في قعر جهنم ، وأغصانها ترفع إلى دركاتها ، ثم قال : { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ الشياطين } أي : ثمرها ، وما تحمله كأنه في تناهي قبحه ، وشناعة منظره رؤوس الشياطين ، فشبه المحسوس بالمتخيل ، وإن كان غير مرئيّ ، للدلالة على أنه غاية في القبح كما تقول في تشبيه من يستقبحونه : كأنه شيطان ، وفي تشبيه من يستحسنونه : كأنه ملك ، كما في قوله : { مَا هذا بَشَرًا إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [ يوسف : 31 ] ، ومنه قول امرىء القيس :
أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وقال الزجاج ، والفراء : الشياطين : حيات لها رءوس ، وأعراف ، وهي من أقبح الحيات ، وأخبثها ، وأخفها جسماً . وقيل : إن رؤوس الشياطين اسم لنبت قبيح معروف باليمن يقال له : الأستن ، ويقال له : الشيطان . قال النحاس : وليس ذلك معروفاً عند العرب . وقيل : هو شجر خشن منتن مرّ منكر الصورة يسمى ثمره رؤوس الشياطين . { فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا } أي : من الشجرة ، أو من طلعها ، والتأنيث لاكتساب الطلع التأنيث من إضافته إلى الشجرة { فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون } وذلك أنهم يكرهون على أكلها حتى تمتلىء بطونهم ، فهذا طعامهم ، وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة { ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا } بعد الأكل منها { لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ } الشوب : الخلط .
قال الفراء : يقال : شاب طعامه ، وشرابه : إذا خلطهما بشيء يشوبهما شوباً وشيابة ، والحميم : الماء الحارّ . فأخبر سبحانه : أنه يشاب لهم طعامهم من تلك الشجرة بالماء الحارّ ، ليكون أفظع لعذابهم ، وأشنع لحالهم كما في قوله : { وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ } [ محمد : 15 ] قرأ الجمهور { شوباً } بفتح الشين ، وهو : مصدر ، وقرأ شيبان النحوي بالضم . قال الزجاج : المفتوح مصدر ، والمضموم اسم بمعنى : المشوب ، كالنقص بمعنى : المنقوص .
{ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم } أي : مرجعهم بعد شرب الحميم ، وأكل الزقوم إلى الجحيم ، وذلك أنهم يوردون الحميم لشربه ، وهو خارج الجحيم كما تورد الإبل ، ثم يردّون إلى الجحيم كما في قوله سبحانه : { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ } [ الرحمن : 44 ] . وقيل : إن الزقوم ، والحميم نزل يقدّم إليهم قبل دخولها . قال أبو عبيدة : ثم بمعنى : الواو ، وقرأ ابن مسعود " ثم إن منقلبهم لإلى الجحيم " ، وجملة { إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ } أي : وجدوا { آباءهم ضالين } تعليل لاستحقاقهم ما تقدّم ذكره ، أي : صادفوهم كذلك ، فاقتدوا بهم تقليداً ، وضلالة لا لحجة أصلاً { فَهُمْ على ءاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } الإهراع : الإسراع . قال الفراء : الإهراع : الإسراع برعدة . وقال أبو عبيدة : { يهرعون } : يستحثون من خلفهم ، يقال : جاء فلان يهرع إلى النار : إذا استحثه البرد إليها . وقال المفضل يزعجون من شدّة الإسراع . قال الزجاج : هرع ، وأهرع : إذا استحثّ ، وانزعج ، والمعنى : يتبعون آباءهم في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم { وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين } أي : ضلّ قبل هؤلاء المذكورين أكثر الأوّلين من الأمم الماضية { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ } أي : أرسلنا في هؤلاء الأوّلين رسلاً أنذروهم العذاب ، وبينوا لهم الحقّ ، فلم ينجع ذلك فيهم { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين } أي : الذين أنذرتهم الرسل ، فإنهم صاروا إلى النار . قال مقاتل : يقول : كان عاقبتهم العذاب ، يحذر كفار مكة ، ثم استثنى عباده المؤمنين ، فقال : { إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } أي : إلا من أخلصهم الله بتوفيقهم إلى الإيمان ، والتوحيد ، وقرىء " المخلصين " بكسر اللام ، أي : الذين أخلصوا لله طاعاتهم ، ولم يشوبوها بشيء مما يغيرها .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وهناد ، وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله : { فاطلع فَرَءاهُ فِى سَوَاء الجحيم } قال : اطلع ، ثم التفت إلى أصحابه ، فقال : لقد رأيت جماجم القوم تغلي . وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال : قول الله لأهل الجنة : { كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الطور : 19 ] قال { هنيئاً } أي : لا تموتون فيها ، فعند ذلك قالوا : { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم } قال : هذا قول الله : { لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون } .
وأخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال : «كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في يدي ، فرأى جنازة فأسرع المشي حتى أتى القبر ، ثم جثى على ركبتيه ، فجعل يبكي حتى بلّ الثرى ، ثم قال : { لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون } .
وأخرج ابن مردويه عن أنس قال : دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم على مريض يجود بنفسه ، فقال : { لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون } . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : مرّ أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو جالس ، فلما بعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى } [ القيامة : 34 ، 35 ] ، فلما سمع أبو جهل قال : من توعد يا محمد؟ قال : « إياك » قال : بما توعدني؟ قال : « أوعدك بالعزيز الكريم » فقال أبو جهل : أليس أنا العزيز الكريم؟ فأنزل الله : { شَجَرَةُ الزقوم *طَعَامُ الأثيم } إلى قوله : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 43-49 ] فلما بلغ أبا جهل ما نزل فيه جمع أصحابه ، فأخرج إليهم زبداً ، وتمراً ، فقال : تزقموا من هذا ، فوالله ما يتوعدكم محمد إلا بهذا ، فأنزل الله { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الجحيم } إلى قوله : { ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ } . وأخرج ابن أبي شيبة عنه قال : لو أن قطرة من زقوم جهنم أنزلت إلى الأرض لأفسدت على الناس معايشهم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً { ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً } قال : لمزجاً . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال : في قوله : { لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ } يخالط طعامهم ، ويشاب بالحميم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء ، ويقيل هؤلاء أهل الجنة ، وأهل النار ، وقرأ : « ثم إن منقلبهم لإلى الجحيم » . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءابَاءهُمْ ضَالّينَ } قال : وجدوا آباءهم .
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
لما ذكر سبحانه أنه أرسل في الأمم الماضية منذرين : ذكر تفصيل بعض ما أجمله ، فقال : { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ } واللام هي : الموطئة للقسم ، وكذا اللام في قوله : { فَلَنِعْمَ المجيبون } أي : نحن ، والمراد : أن نوحاً دعا ربه على قومه لما عصوه ، فأجاب الله دعاءه ، وأهلك قومه بالطوفان . فالنداء هنا هو : نداء الدعاء لله ، والاستغاثة به ، كقوله : { رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] ، وقوله : { أَنّى مَغْلُوبٌ فانتصر } [ القمر : 10 ] قال الكسائي : أي : فلنعم المجيبون له كنا { فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم } المراد بأهله : أهل دينه ، وهم من آمن معه ، وكانوا ثمانين ، والكرب العظيم هو : الغرق ، وقيل : تكذيب قومه له ، وما يصدر منهم إليه من أنواع الأذايا { وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين } وحدهم دون غيرهم كما يشعر به ضمير الفصل ، وذلك لأن الله أهلك الكفرة بدعائه ، ولم يبق منهم باقية ، ومن كان معه في السفينة من المؤمنين ماتوا كما قيل ، ولم يبق إلا أولاده . قال سعيد بن المسيب : كان ولد نوح ثلاثة ، والناس كلهم من ولد نوح ، فسام أبو العرب ، وفارس ، والروم ، واليهود ، والنصارى . وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب : السند . والهند ، والنوب ، والزنج ، والحبشة ، والقبط ، والبربر وغيرهم . ويافث أبو الصقالب ، والترك ، والخزر ، ويأجوج ، ومأجوج وغيرهم . وقيل : إنه كان لمن مع نوح ذرّية كما يدلّ عليه قوله : { ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } [ الإسراء : 3 ] ، وقوله : { قِيلَ يانوح اهبط بسلام مّنَّا وبركات عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ هود : 48 ] ، فيكون على هذا معنى { وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين } ، وذرّيته وذرّية من معه دون ذرّية من كفر ، فإن الله أغرقهم ، فلم يبق لهم ذرّية .
{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الآخرين } يعني : في الذين يأتون بعده إلى يوم القيامة من الأمم ، والمتروك هذا هو قوله : { سلام على نُوحٍ } أي : تركنا هذا الكلام بعينه ، وارتفاعه على الحكاية ، والسلام هو : الثناء الحسن ، أي : يثنون عليه ثناءً حسناً ، ويدعون له ، ويترحمون عليه . قال الزجاج : تركنا عليه الذكر الجميل إلى يوم القيامة ، وذلك الذكر هو قوله : { سلام على نُوحٍ } . قال الكسائي : في ارتفاع { سلام } ، وجهان : أحدهما وتركنا عليه في الآخرين يقال : سلام على نوح . والوجه الثاني أن يكون المعنى : وأبقينا عليه ، وتمّ الكلام ، ثم ابتدأ ، فقال : سلام على نوح ، أي : سلامة له من أن يذكر بسوء في الآخرين . قال المبرد : أي : تركنا عليه هذه الكلمة باقية ، يعني : يسلمون عليه تسليماً ، ويدعون له ، وهو من الكلام المحكي كقوله : { سُورَةٌ أنزلناها } [ النور : 1 ] ، وقيل : إنه ضمن تركنا معنى : قلنا . قال الكوفيون : جملة { سلام على نوح في العالمين } في محل نصب مفعول { تركنا } ، لأنه ضمن معنى قلنا .
قال الكسائي : وفي قراءة ابن مسعود « سلاماً » منصوب بتركنا ، أي : تركنا عليه ثناءً حسناً ، وقيل : المراد بالآخرين : أمة محمد صلى الله عليه وسلم . و { في العالمين } متعلق بما تعلق به الجار والمجرور الواقع خبراً ، وهو على نوح ، أي : سلام ثابت ، أو مستمرّ ، أو مستقرّ على نوح في العالمين من الملائكة ، والجنّ ، والإنس ، وهذا يدل على عدم اختصاص ذلك بأمة محمد صلى الله عليه وسلم كما قيل : { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } هذه الجملة تعليل لما قبلها من التكرمة لنوح بإجابة دعائه ، وبقاء الثناء من الله عليه ، وبقاء ذريته ، أي : إنا كذلك نجزي من كان محسناً في أقواله ، وأفعاله راسخاً في الإحسان معروفاً به ، والكاف في { كذلك } نعت مصدر محذوف ، أي : جزاء كذلك الجزاء { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين } هذا بيان لكونه من المحسنين ، وتعليل له بأنه كان عبداً مؤمناً مخلصاً لله { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين } أي : الكفرة الذين لم يؤمنوا بالله ، ولا صدّقوا نوحاً .
ثم ذكر سبحانه قصة إبراهيم ، وبيّن : أنه ممن شايع نوحاً ، فقال : { وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبراهيم } أي : من أهل دينه ، وممن شايعه ، ووافقه على الدعاء إلى الله ، وإلى توحيده ، والإيمان به . قال مجاهد : أي : على منهاجه ، وسنّته . قال الأصمعي : الشيعة : الأعوان ، وهو مأخوذ من الشياع ، وهو الحطب الصغار الذي يوقد مع الكبار حتى يستوقد ، وقال الفراء : المعنى : وإن من شيعة محمد لإبراهيم ، فالهاء في شيعته على هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وكذا قال الكلبي . ولا يخفى ما في هذا من الضعف ، والمخالفة للسياق . والظرف في قوله : { إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } منصوب بفعل محذوف ، أي : اذكر ، بما في الشيعة من معنى المتابعة . قال أبو حيان : لا يجوز؛ لأن فيه الفصل بين العامل ، والمعمول بأجنبيّ ، وهو : إبراهيم ، والأولى أن يقال : إن لام الابتدء تمنع ما بعدها من العمل فيما قبلها ، والقلب السليم المخلص من الشرك ، والشك . وقيل : هو الناصح لله في خلقه ، وقيل : الذي يعلم أن الله حقّ ، وأن الساعة قائمة ، وأن الله يبعث من في القبور . ومعنى مجيئه إلى ربه يحتمل وجهين : أحدهما : عند دعائه إلى توحيده ، وطاعته . الثاني : عند إلقائه في النار .
وقوله : { إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ } بدل من الجملة الأولى ، أو ظرف لسليم ، أو ظرف لجاء ، والمعنى : وقت قال لأبيه آزر ، وقومه من الكفار : أيّ شيء تعبدون { أَإِفْكا ءالِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ فَمَا } انتصاب « إفكاً » على أنه مفعول لأجله ، وانتصاب { آلهة } على أنه مفعول { تريدون } ، والتقدير : أتريدون آلهة من دون الله للإفك ، و { دون } ظرف ل { تريدون } ، وتقديم هذه المعمولات للفعل عليه للاهتمام . وقيل : انتصاب « إفكاً » على أنه مفعول به ل { تريدون } ، و { آلهة } بدل منه ، جعلها نفس الإفك مبالغة ، وهذا أولى من الوجه الأوّل .
وقيل : انتصابه على الحال من فاعل { تريدون } أي : أتريدون آلهة آفكين ، أو ذوي إفك . قال المبرد : الإفك : أسوأ الكذب ، وهو الذي لا يثبت ويضطرب ، ومنه ائتفكت بهم الأرض { فَمَا ظَنُّكُم بِرَبّ العالمين } أي : ما ظنكم به إذا لقيتموه ، وقد عبدتم غيره ، وما ترونه يصنع بكم؟ وهو تحذير مثل قوله : { مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم } [ الانفطار : 6 ] وقيل : المعنى : أيّ شيء توهمتموه بالله حتى أشركتم به غيره؟
{ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النجوم * فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ } قال الواحدي : قال المفسرون : كانوا يتعاطون علم النجوم ، فعاملهم بذلك لئلا ينكروا عليه ، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم؛ لتلزمهم الحجة في أنها غير معبودة ، وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه ، وأراد أن يتخلف عنهم ، فاعتلّ بالسقم : وذلك أنهم كلفوه أن يخرج معهم إلى عيدهم ، فنظر إلى النجوم يريهم أنه مستدلّ بها على حاله ، فلما نظر إليها قال : إني سقيم ، أي : سأسقم . وقال الحسن : إنهم لما كلفوه أن يخرج معهم تفكر فيما يعمل ، فالمعنى على هذا : أنه نظر فيما نجم له من الرأي ، أي : فيما طلع له منه ، فعلم أن كلّ شيء يسقم { فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ } . قال الخليل ، والمبرد : يقال للرجل إذا فكر في الشيء يدبره : نظر في النجوم . وقيل : كانت الساعة التي دعوه إلى الخروج معهم فيها ساعة تعتاده فيها الحمى . وقال الضحاك : معنى : { إني سقيم } : سأسقم سقم الموت ، لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب ، ثم يموت ، وهذا تورية ، وتعريض كما قال للملك لما سأله عن سارّة : هي أختي يعني : أخوّة الدين . وقال سعيد بن جبير : أشار لهم إلى مرض يسقم ، ويعدي ، وهو : الطاعون ، وكانوا يهربون من ذلك ، ولهذا قال : { فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } أي : تركوه ، وذهبوا مخافة العدوى { فَرَاغَ إلى ءالِهَتِهِمْ } يقال : راغ يروغ روغاً ، وروغاناً : إذا مال ، ومنه طريق رائغ ، أي : مائل . ومنه قول الشاعر :
فيريك من طرف اللسان حلاوة ... ويروغ عنك كما يروغ الثعلب
وقال السدّي : ذهب إليهم ، وقال أبو مالك : جاء إليهم ، وقال الكلبي : أقبل عليهم ، والمعنى متقارب { فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ } أي : فقال إبراهيم للأصنام التي راغ إليها استهزاء ، وسخرية : ألا تأكلون من الطعام الذي كانوا يصنعونه لها ، وخاطبها كما يخاطب من يعقل؛ لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة . وكذا قوله : { مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ } ، فإنه خاطبهم خطاب من يعقل ، والاستفهام للتهكم بهم؛ لأنه قد علم أنها جمادات لا تنطق . قيل : إنهم تركوا عند أصنامهم طعامهم للتبرك بها ، وليأكلوه إذا رجعوا من عيدهم . وقيل : تركوه للسدنة ، وقيل : إن إبراهيم هو الذي قرب إليها الطعام مستهزئاً بها .
{ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين } أي : فمال عليهم يضربهم ضرباً باليمين ، فانتصابه على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف ، أو هو مصدر لراغ ، لأنه بمعنى : ضرب . قال الواحدي : قال المفسرون : يعني : بيده اليمنى يضربهم بها . وقال السدي : بالقوة ، والقدرة؛ لأن اليمين أقوى اليدين . قال الفراء ، وثعلب : ضرباً بالقوة ، واليمين القوة . وقال الضحاك ، والربيع بن أنس : المراد باليمين : اليمين التي حلفها حين قال : { وتالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم } [ الأنبياء : 57 ] وقيل : المراد باليمين هنا : العدل كما في قوله : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين } [ الحاقة : 44 ، 45 ] أي : بالعدل ، واليمين كناية عن العدل كما أن الشمال كناية عن الجور ، وأول هذه الأقوال أولاها .
{ فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ } أي : أقبل إليه عبدة تلك الأصنام يسرعون لما علموا بما صنعه بها ، ويزفون في محل نصب على الحال من فاعل أقبلوا . قرأ الجمهور { يزفون } بفتح الياء من زف الظليم يزف إذا عدا بسرعة ، وقرأ حمزة بضم الياء من أزف يزف ، أي : دخل في الزفيف ، أو يحملون غيرهم على الزفيف . قال الأصمعي : أزففت الإبل ، أي : حملتها على أن تزف . وقيل : هما لغتان ، يقال : زف القوم ، وأزفوا ، وزفت العروس ، وأزففتها ، حكي ذلك عن الخليل . قال النحاس : زعم أبو حاتم : أنه لا يعرف هذه اللغة ، يعني : يزفون بضم الياء ، وقد عرفها جماعة من العلماء منهم الفراء ، وشبهها بقولهم : أطردت الرحل ، أي : صيرته إلى ذلك ، وقال المبرد : الزفيف : الإسراع . وقال الزجاج : الزفيف : أوّل عدو النعام . وقال قتادة ، والسدّي : معنى يزفون : يمشون . وقال الضحاك : يسعون . وقال يحيى بن سلام : يرعدون غضباً . وقال مجاهد : يختالون ، أي : يمشون مشيء الخيلاء ، وقيل : يتسللون تسللاً بين المشي ، والعدو ، والأولى تفسير يزفون بيسرعون ، وقرىء " يزفون " على البناء للمفعول ، وقرىء " يزفون " كيرمون . وحكى الثعلبي عن الحسن ، ومجاهد ، وابن السميفع : أنهم قرءوا " يرفون " بالراء المهملة ، وهي : ركض بين المشي والعدو .
{ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } لما أنكروا على إبراهيم ما فعله بالأصنام ، ذكر لهم الدليل الدال على فساد عبادتها ، فقال مبكتاً لهم ، ومنكراً عليهم : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } أي : أتعبدون أصناماً أنتم تنحتونها ، والنحت : النجر ، والبري ، نحته ينحته بالكسر نحتاً ، أي : براه ، والنحاتة البراية ، وجملة { والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } في محل نصب على الحال من فاعل تعبدون ، و «ما» في { وَمَا تَعْمَلُونَ } موصولة ، أي : وخلق الذي تصنعونه على العموم ويدخل فيها الأصنام التي ينحتونها دخولاً أولياً ، ويكون معنى العمل هنا : التصوير ، والنحت ، ونحوهما ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : خلقكم ، وخلق عملكم ، ويجوز أن تكون استفهامية ، ومعنى الاستفهام : التوبيخ ، والتقريع ، أي : وأي شيء تعملون ، ويجوز أن تكون نافية ، أي : إن العمل في الحقيقة ليس لكم ، فأنتم لا تعملون شيئاً ، وقد طول صاحب الكشاف الكلام في رد قول من قال : إنها مصدرية ، ولكن بما لا طائل تحته ، وجعلها موصولة أولى بالمقام وأوفق بسياق الكلام .
وجملة { قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا فَأَلْقُوهُ فِى الجحيم } مستأنفة جواب سؤال مقدر كالجملة التي قبلها ، قالوا هذه المقالة لما عجزوا عن جواب ما أورده عليهم من الحجة الواضحة ، فتشاوروا فيما بينهم أن يبنوا له حائطاً من حجارة ، ويملؤوه حطباً ويضرموه ، ثم يلقوه فيه ، والجحيم : النار الشديدة الاتقاد : قال الزجاج ، وكل نار بعضها فوق بعض ، فهي : جحيم ، واللام في الجحيم عوض عن المضاف إليه ، أي : في جحيم ذلك البنيان ، ثم لما ألقوه فيها نجاه الله منها ، وجعلها عليه برداً وسلاماً ، وهو معنى قوله : { فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فجعلناهم الأسفلين } الكيد : المكر ، والحيلة ، أي : احتالوا لإهلاكه ، فجعلناهم الأسفلين المقهورين المغلوبين؛ لأنها قامت له بذلك عليهم الحجة التي لا يقدرون على دفعها ، ولا يمكنهم جحدها ، فإن النار الشديدة الاتقاد العظيمة الاضطرام المتراكمة الجمار إذا صارت بعد إلقائه عليها برداً وسلاماً ، ولم تؤثر فيه أقل تأثير كان ذلك من الحجة بمكان يفهمه كل من له عقل ، وصار المنكر له سافلاً ساقط الحجة ظاهر التعصب واضح التعسف ، وسبحان من يجعل المحن لمن يدعو إلى دينه منحاً ، ويسوق إليهم الخير بما هو من صور الضير .
ولما انقضت هذه الوقعة وأسفر الصبح لذي عينين ، وظهرت حجة الله لإبراهيم ، وقامت براهين نبوته ، وسطعت أنوار معجزته { وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى } أي : مهاجر من بلد قومي ، الذين فعلوا ما فعلوا تعصباً للأصنام ، وكفراً بالله ، وتكذيباً لرسله إلى حيث أمرني بالمهاجرة إليه ، أو إلى حيث أتمكن من عبادته { سَيَهْدِينِ } أي : سيهديني إلى المكان الذي أمرني بالذهاب إليه ، أو إلى مقصدي .
قيل : إن الله سبحانه أمره بالمصير إلى الشام ، وقد سبق بيان هذا في سورة الكهف مستوفى ، قال مقاتل : فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد ، فقال : { رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين } أي : ولداً صالحاً من الصالحين يعينني على طاعتك ، ويؤنسني في الغربة هكذا قال المفسرون ، وعللوا ذلك بأن الهبة قد غلب معناها في الولد ، فتحمل عند الإطلاق عليه ، وإذا وردت مقيدة حملت على ما قيدت به كما في قوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هارون نَبِيّاً } [ مريم : 53 ] ، وعلى فرض أنها لم تغلب في طلب الولد ، فقوله : { فبشرناه بغلام حَلِيمٍ } يدل على أنه ما أراد بقوله : { رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين } إلا الولد ، ومعنى حليم : أن يكون حليماً عند كبره ، فكأنه بشر ببقاء ذلك الغلام حتى يكبر ، ويصير حليماً ، لأن الصغير لا يوصف بالحلم .
قال الزجاج : هذه البشارة تدل على أنه مبشر بابن ذكر ، وأنه يبقى حتى ينتهي في السن ، ويوصف بالحلم { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى } في الكلام حذف كما تشعر به هذه الفاء الفصيحة ، والتقدير : فوهبنا له الغلام ، فنشأ حتى صار إلى السن التي يسعى فيها مع أبيه في أمور دنياه .
قال مجاهد : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى } أي : شبّ ، وأدرك سعيه سعي إبراهيم . وقال مقاتل : لما مشى معه . قال الفراء : كان يومئذٍ ابن ثلاث عشرة سنة . وقال الحسن : هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة . وقال ابن زيد : هو السعي في العبادة ، وقيل : هو الاحتلام { قَالَ يَابَنِى إِنّى أرى فِى المنام أَنّى أَذْبَحُكَ } قال إبراهيم لابنه لما بلغ معه ذلك المبلغ : إني رأيت في المنام هذه الرؤيا . قال مقاتل : رأى إبراهيم ذلك ثلاث ليال متتابعات . قال قتادة : رؤيا الأنبياء حقّ ، إذا رأوا شيئاً فعلوه .
وقد اختلف أهل العلم في الذبيح : هل هو إسحاق ، أو إسماعيل؟ قال القرطبي : فقال أكثرهم : الذبيح إسحاق ، وممن قال بذلك العباس بن عبد المطلب ، وابنه عبد الله ، وهو الصحيح عن عبد الله بن مسعود ، ورواه أيضاً عن جابر ، وعليّ بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمر ، وعمر بن الخطاب ، قال : فهؤلاء سبعة من الصحابة . قال : ومن التابعين ، وغيرهم : علقمة ، والشعبي ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وكعب الأحبار ، وقتادة ، ومسروق ، وعكرمة ، والقاسم بن أبي برزة ، وعطاء ، ومقاتل ، وعبد الرحمن بن سابط ، والزهري ، والسدّي ، وعبد الله بن أبي الهذيل ، ومالك بن أنس كلهم قالوا : الذبيح إسحاق ، وعليه أهل الكتابين اليهود ، والنصارى ، واختاره غير واحد ، منهم النحاس ، وابن جرير الطبري ، وغيرهما . قال : وقال آخرون : هو إسماعيل ، وممن قال بذلك : أبو هريرة ، وأبو الطفيل عامر ابن واثلة ، وروي ذلك عن ابن عمر ، وابن عباس أيضاً ، ومن التابعين : سعيد بن المسيب ، والشعبي ، ويوسف بن مهران ، ومجاهد ، والربيع بن أنس ، ومحمد بن كعب القرظي ، والكلبي ، وعلقمة ، وعن الأصمعي قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح ، فقال : يا أصمعي أين عزب عنك عقلك ، ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة . قال ابن كثير في تفسيره : وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق ، وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى يقال عن بعض الصحابة ، وليس في ذلك كتاب ، ولا سنّة ، وما أظنّ ذلك تلقي إلا عن أخبار أهل الكتاب ، وأخذ مسلماً من غير حجة ، وكتاب الله شاهد ، ومرشد إلى أنه إسماعيل ، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم ، وذكر أنه الذبيح ، وقال بعد ذلك { وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً مّنَ الصالحين } ا ه .
واحتجّ القائلون بأنه إسحاق بأن الله عزّ وجلّ قد أخبرهم عن إبراهيم حين فارق قومه ، فهاجر إلى الشام مع امرأته سارّة ، وابن أخيه لوط ، فقال : { إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى سَيَهْدِينِ } أنه دعا ، فقال : { رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين } ، فقال تعالى :
{ فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ } [ مريم : 49 ] . ولأن الله قال : { وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } ، فذكر أنه في الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم ، وإنما بشر بإسحاق ، لأنه قال : { وبشرناه بإسحاق } ، وقال هنا : { بغلام حَلِيمٍ } وذلك قبل أن يعرف هاجر ، وقبل أن يصير له إسماعيل ، وليس في القرآن أنه بشر بولد إلا إسحاق . قال الزجاج : الله أعلم أيهما الذبيح ا ه . وما استدلّ به الفريقان يمكن الجواب عنه ، والمناقشة له .
ومن جملة ما احتجّ به من قال إنه إسماعيل بأن الله وصفه بالصبر دون إسحاق كما في قوله : { وإسماعيل واليسع وَذَا الكفل كُلٌّ مّنَ الصابرين } [ الأنبياء : 85 ] ، وهو : صبره على الذبح ، ووصفه بصدق الوعد في قوله : { إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد } [ مريم : 54 ] ؛ لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح ، فوفى به ، ولأن الله سبحانه قال : { وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً } فكيف يأمره بذبحه ، وقد وعده أن يكون نبياً ، وأيضاً فإن الله قال : { فبشرناها بإسحاق وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] ، فكيف يؤمر بذبح إسحاق قبل إنجاز الوعد في يعقوب ، وأيضاً ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة ، فدل على أن الذبيح إسماعيل ، ولو كان إسحاق لكان الذبح واقعاً ببيت المقدس ، وكل هذا أيضاً يحتمل المناقشة { فانظر مَاذَا ترى } قرأ حمزة ، والكسائي « ترى » بضم الفوقية ، وكسر الراء ، والمفعولان محذوفان ، أي : انظر ماذا تريني إياه من صبرك ، واحتمالك . وقرأ الباقون من السبعة بفتح التاء ، والراء من الرأي ، وهو : مضارع رأيت ، وقرأ الضحاك ، والأعمش ، « ترى » بضم التاء ، وفتح الراء مبنياً للمفعول ، أي : ماذا يخيل إليك ، ويسنح لخاطرك . قال الفراء في بيان معنى القراءة الأولى : انظر ماذا ترى من صبرك ، وجزعك . قال الزجاج : لم يقل هذا أحد غيره . وإنما قال العلماء ماذا تشير ، أي : ما تريك نفسك من الرأي ، وقال أبو عبيد : إنما يكون هذا من رؤية العين خاصة ، وكذا قال أبو حاتم ، وغلطهما النحاس وقال : هذا يكون من رؤية العين ، وغيرها ، ومعنى القراءة الثانية ظاهر واضح ، وإنما شاوره ليعلم صبره لأمر الله ، وإلا فرؤيا الأنبياء وحي ، وامتثالها لازم لهم متحتم عليهم .
{ قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ } أي : ما تؤمر به مما أوحي إليك من ذبحي ، و « ما » موصولة ، وقيل : مصدرية على معنى : افعل أمرك ، والمصدر مضاف إلى المفعول ، وتسمية المأمور به أمراً ، والأوّل أولى { سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين } على ما ابتلاني به من الذبح ، والتعليق بمشيئة الله سبحانه تبركاً بها منه { فَلَمَّا أَسْلَمَا } أي : استسلما لأمر الله ، وأطاعاه ، وانقادا له . قرأ الجمهور « أسلمنا » ، وقرأ عليّ ، وابن مسعود ، وابن عباس « فلما سلما » أي : فوضا أمرهما إلى الله ، وروي عن ابن عباس : أنه قرأ « استسلما » قال قتادة : أسلم أحدهما نفسه لله ، وأسلم الآخر ابنه ، يقال : سلم لأمر الله ، وأسلم ، واستسلم بمعنى واحد .
وقد اختلف في جواب « لما » ماذا هو؟ فقيل : هو محذوف ، وتقديره : ظهر صبرهما ، أو أجزلنا لهما أجرهما ، أو فديناه بكبش ، هكذا قال البصريون . وقال الكوفيون : الجواب هو : { ناديناه } ، والواو زائدة مقحمة ، واعترض عليهم النحاس بأن الواو من حروف المعاني ، ولا يجوز أن تزاد ، وقال الأخفش : الجواب { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } ، والواو زائدة ، وروي هذا أيضاً عن الكوفيين ، واعتراض النحاس يرد عليه كما ورد على الأوّل { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } التلّ : الصرع والدفع ، يقال : تللت الرجل : إذا ألقيته ، والمراد أنه أضجعه : على جبينه على الأرض ، والجبين : أحد جانبي الجبهة ، فللوجه جبينان ، والجبهة بينهما ، وقيل : كبه على وجهه كيلا يرى منه ما يؤثر الرّقة لقلبه . واختلف في الموضع الذي أراد ذبحه فيه ، فقيل : هو مكة في المقام . وقيل : في المنحر بمنى عند الجمار . وقيل : على الصخرة التي بأصل جبل ثبير ، وقيل : بالشام .
{ وناديناه أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا } أي : عزمت على الإتيان بما رأيته . قال المفسرون : لما أضجعه للذبح نودي من الجبل يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا ، وجعله مصدّقاً بمجرد العزم ، وإن لم يذبحه؛ لأنه قد أتى بما أمكنه ، والمطلوب استسلامهما لأمر الله ، وقد فعلا . قال القرطبي : قال أهل السنّة : إن نفس الذبح لم يقع ، ولو وقع لم يتصور رفعه ، فكان هذا من باب النسخ قبل الفعل؛ لأنه لو حصل الفراغ من امتثال الأمر بالذبح ما تحقق الفداء . قال : ومعنى : { صَدَّقْتَ الرؤيا } فعلت ما أمكنك ثم امتنعت لما منعناك ، هذا أصح ما قيل في هذا الباب . وقالت طائفة : ليس هذا مما ينسخ بوجه؛ لأن معنى ذبحت الشيء : قطعته ، وقد كان إبراهيم يأخذ السكين ، فيمرّ بها على حلقه ، فتنقلب كما قال مجاهد . وقال بعضهم : كان كلما قطع جزءًا التأم ، وقالت طائفة منهم السدّي : ضرب الله على عنقه صفيحة نحاس ، فجعل إبراهيم يحزّ ، ولا يقطع شيئاً . وقال بعضهم : إن إبراهيم ما أمر بالذبح الحقيقي الذي هو فري الأوداج ، وإنهار الدم ، وإنما رأى أنه أضجعه للذبح ، فتوهم أنه أمر بالذبح الحقيقي ، فلما أتى بما أمر به من الإضجاع قيل له : { قد صَدَّقْتَ الرؤيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } أي : نجزيهم بالخلاص من الشدائد ، والسلامة من المحن ، فالجملة كالتعليل لما قبلها . قال مقاتل : جزاه الله سبحانه بإحسانه في طاعته ، العفو عن ذبح ابنه .
{ إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين } البلاء ، والابتلاء : الاختبار ، والمعنى : إن هذا هو الاختبار الظاهر حيث اختبره الله في طاعته بذبح ولده . وقيل : المعنى : إن هذا لهو النعمة الظاهرة حيث سلم الله ولده من الذبح ، وفداه بالكبش ، يقال : أبلاه الله إبلاءً وبلاء : إذا أنعم عليه والأوّلى أولى ، وإن كان الابتلاء يستعمل في الاختبار بالخير ، والشرّ ، ومنه
{ وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] ، ولكن المناسب للمقام المعنى الأول . قال أبو زيد : هذا في البلاء الذي نزل به في أن يذبح ولده . قال : وهذا من البلاء المكروه { وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } الذبح : اسم المذبوح ، وجمعه ذبوح كالطحن اسم للمطحون ، وبالفتح المصدر ، ومعنى عظيم : عظيم القدر ، ولم يرد عظم الجثة ، وإنما عظم قدره؛ لأنه فدى به الذبيح ، أو لأنه متقبل . قال النحاس : العظيم في اللغة يكون للكبير ، وللشريف ، وأهل التفسير على أنه ها هنا للشريف ، أي : المتقبل . قال الواحدي : قال أكثر المفسرين : أنزل عليه كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً . وقال الحسن : ما فدي إلا بتيس من الأروى أهبط عليه من ثبير ، فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه . قال الزجاج : قد قيل : إنه فدي بوعل ، والوعل : التيس الجبلي ، ومعنى الآية : جعلنا الذبح فداء له ، وخلصناه به من الذبح { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الآخرين * سلام على إبراهيم } أي : في الأمم الآخرة التي تأتي بعده ، والسلام : الثناء الجميل . وقال عكرمة : سلام منا ، وقيل : سلامة من الآفات ، والكلام في هذا كالكلام في قوله { سلام على نُوحٍ فِى العالمين } وقد تقدم في هذه السورة بيان معناه ، ووجه إعرابه .
{ كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } أي : مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي من انقاد لأمر الله . { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين } أي : الذين أعطوا العبودية حقها ، ورسخوا في الإيمان بالله ، وتوحيده : { وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً مّنَ الصالحين } أي : بشرنا إبراهيم بولد يولد له ، ويصير نبياً بعد أن يبلغ السن التي يتأهل فيها لذلك ، وانتصاب { نبياً } على الحال ، وهي : حال مقدرة . قال الزجاج : إن كان الذبيح إسحاق ، فيظهر كونها مقدرة ، والأولى أن يقال : إن من فسر الذبيح بإسحاق جعل البشارة . هنا خاصة بنبوته . وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه ، ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة ، فإن وجود ذي الحال ليس بشرط ، وإنما الشرط المقارنة للفعل ، و { مّنَ الصالحين } كما يجوز أن يكون صفة لنبياً ، يجوز أن يكون حالاً من الضمير المستتر فيه ، فتكون أحوالاً متداخلة { وباركنا عَلَيْهِ وعلى إسحاق } أي : على إبراهيم ، وعلى إسحاق بمرادفة نعم الله عليهما . وقيل : كثرنا ولدهما ، وقيل : إن الضمير في { عليه } يعود إلى إسماعيل ، وهو بعيد ، وقيل : المراد بالمباركة هنا : هي : الثناء الحسن عليهما إلى يوم القيامة { وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وظالم لّنَفْسِهِ مُبِينٌ } أي : محسن في عمله بالإيمان ، والتوحيد ، وظالم لها بالكفر ، والمعاصي لما ذكر سبحانه البركة في الذرية بيّن أن كون الذرية من هذا العنصر الشريف ، والمحتد المبارك ليس بنافع لهم ، بل إنما ينتفعون بأعمالهم لآبائهم ، فإن اليهود ، والنصارى ، وإن كانوا من ولد إسحاق ، فقد صاروا إلى ما صاروا إليه من الضلال البين ، والعرب ، وإن كانوا من ولد إسماعيل ، فقد ماتوا على الشرك إلا من أنقذه الله بالإسلام .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين } يقول : لم يبق إلا ذرية نوح { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الآخرين } يقول : يذكر بخير . وأخرج الترمذي وحسنه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن سمرة بن جندب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين } قال : حام ، وسام ، ويافث . وأخرج ابن سعد ، وأحمد ، والترمذي وحسنه ، وأبو يعلى ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن سمرة أيضاً : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « سام أبو العرب ، وحام أبو الحبش ، ويافث أبو الروم » والحديثان هما من سماع الحسن عن سمرة ، وفي سماعه منه مقال معروف ، وقد قيل : إنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة فقط ، وما عداه فبواسطة . قال ابن عبد البرّ : وقد روي عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . وأخرج البزار ، وابن أبي حاتم ، والخطيب في تالي التلخيص عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ولد نوح ثلاثة : سام ، وحام ، ويافث ، فولد سام العرب ، وفارس ، والروم ، والخير فيهم ، وولد يافث يأجوج ، ومأجوج ، والترك ، والصقالبة ، ولا خير فيهم ، وولد حام القبط ، والبربر ، والسودان » وهو من حديث إسماعيل بن عياش ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب عنه .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبراهيم } قال : من أهل دينه . وأخرج عبد بن حميد عنه في قوله : { إِنّى سَقِيمٌ } قال : مريض . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال : مطعون . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ } قال : يخرجون . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله : { وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى } قال : حين هاجر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى } قال : العمل . وأخرج الطبراني عنه أيضاً قال : لما أراد إبراهيم أن يذبح إسحاق قال لأبيه : إذا ذبحتني ، فاعتزل لا أضطرب ، فينتضح عليك دمي ، فشده ، فلما أخذ الشفرة ، وأراد أن يذبحه نودي من خلفه { أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا } وأخرج أحمد عنه أيضاً مرفوعاً مثله مع زيادة . وأخرجه عنه موقوفاً . وأخرج ابن المنذر ، والحاكم وصححه من طريق مجاهد عنه أيضاً في قوله : { وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبراهيم } قال : من شيعة نوح على منهاجه ، وسننه { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى } قال : شب حتى بلغ سعيه سعي أبيه في العمل { فَلَمَّا أَسْلَمَا } سلما ما أمر به { وَتَلَّهُ } وضع وجهه إلى الأرض .
فقال : لا تذبحني ، وأنت تنظر عسى أن ترحمني ، فلا تجهز علي . وأن أجزع ، فأنكص ، فأمتنع منك . ولكن اربط يدي إلى رقبتي ، ثم ضع وجهي إلى الأرض ، فلما أدخل يده ليذبحه ، فلم تصل المدية حتى نودي : أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ، فأمسك يده ، قوله : { وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } بكبش عظيم متقبل . وزعم ابن عباس : أن الذبيح إسماعيل . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رؤيا الأنبياء وحي » وأخرجه البخاري ، وغيره من قول عبيد بن عمير ، واستدل بهذه الآية . وأخرج ابن جرير ، والحاكم من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : المفدى إسماعيل ، وزعمت اليهود أنه إسحاق ، وكذبت اليهود . وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق الشعبي ، عن ابن عباس قال : الذبيح : إسماعيل . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق مجاهد ، ويوسف بن ماهك عن ابن عباس قال : الذبيح : إسماعيل . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير من طريق يوسف بن ماهك ، وأبي الطفيل ، عن ابن عباس قال : الذبيح : إسماعيل . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه عن ابن عمر في قوله : { وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } قال : إسماعيل ذبح عنه إبراهيم الكبش . وأخرج عبد بن حميد من طريق الفرزدق الشاعر قال : رأيت أبا هريرة يخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول : إن الذي أمر بذبحه : إسماعيل . وأخرج البزار ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وابن مردويه عن العباس بن عبد المطلب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال نبي الله داود : يا رب أسمع الناس يقولون : رب إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، فاجعلني رابعاً ، قال : إن إبراهيم ألقي في النار ، فصبر من أجلي ، وإن إسحاق جاد لي بنفسه ، وإن يعقوب غاب عنه يوسف ، وتلك بلية لم تنلك » وفي إسناده الحسن بن دينار البصري ، وهو متروك عن علي بن زيد بن جدعان ، وهو ضعيف . وأخرج الديلمي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه . وأخرج الدارقطني في الأفراد ، والديلمي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الذبيح إسحاق » وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن العباس بن عبد المطلب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الذبيح إسحاق » وأخرج ابن مردويه ، عن أبي هريرة مرفوعاً مثله . وأخرج ابن مردويه عن بهار ، وكانت له صحبة ، قال : إسحاق ذبيح الله .
وأخرج الطبراني ، وابن مردويه عن ابن مسعود قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم : من أكرم الناس؟ قال : « يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله » وأخرج عبد الرزاق ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : الذبيح : إسحاق . وأخرج عبد بن حميد ، والبخاري في تاريخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن العباس بن عبد المطلب قال : الذبيح : إسحاق . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، والحاكم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : الذبيح : إسحاق .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } قال : أكبه على وجهه . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال : صرعه للذبح . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب في قوله : { وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } قال : كبش أعين أبيض أقرن قد ربط بسمرة في أصل ثبير . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } قال : كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً . وأخرج عبد بن حميد عنه قال : فدي إسماعيل بكبشين أملحين أقرنين أعينين . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس : أن رجلاً قال : نذرت لأنحر نفسي ، فقال ابن عباس : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، ثم تلا { وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } ، فأمره بكبش ، فذبحه . وأخرج الطبراني من طريق أخرى عنه نحوه . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله : { وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً مّنَ الصالحين } قال : إنما بشر به نبياً حين فداه الله من الذبح ، ولم تكن البشارة بالنبوّة عند مولده .
وبما سقناه من الاختلاف في الذبيح هل هو إسحاق ، أو إسماعيل؟ وما استدل به المختلفون في ذلك تعلم أنه لم يكن في المقام ما يوجب القطع ، أو يتعين رجحانه تعيناً ظاهراً ، وقد رجح كل قول طائفة من المحققين المنصفين كابن جرير ، فإنه رجح أنه إسحاق ، ولكنه لم يستدل على ذلك إلا ببعض مما سقناه ها هنا ، وكابن كثير فإنه رجح أنه إسماعيل ، وجعل الأدلة على ذلك أقوى ، وأصح ، وليس الأمر كما ذكره ، فإنها إن لم تكن دون أدلة القائلين بأن الذبيح إسحاق لم تكن فوقها ، ولا أرجح منها ، ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء . وما روي عنه ، فهو إما موضوع ، أو ضعيف جدًّا . ولم يبق إلا مجرّد استنباطات من القرآن كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق ، وهي محتملة ، ولا تقوم حجة بمحتمل ، فالوقف هو الذي لا ينبغي مجاوزته ، وفيه السلامة من الترجيح ، بلا مرجح ، ومن الاستدلال بما هو محتمل .
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
لما فرغ سبحانه من ذكر إنجاء الذبيح من الذبح ، وما منّ عليه بعد ذلك من النبوّة ذكر ما منّ به على موسى ، وهارون ، فقال : { وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى وهارون } يعني : بالنبوّة ، وغيرها من النعم العظيمة التي أنعم الله بها عليهما { ونجيناهما وَقَوْمَهُمَا مِنَ الكرب العظيم } المراد بقومهما هم : المؤمنون من بني إسرائيل ، والمراد بالكرب العظيم هو : ما كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم ، وما كان يصيبهم من جهته من البلاء ، وقيل : هو الغرق الذي أهلك فرعون ، وقومه ، والأوّل أولى { ونصرناهم } جاء بضمير الجماعة . قال الفراء : الضمير لموسى ، وهارون ، وقومهما ، لأن قبله ، { نجيناهما ، وقومهما } والمراد بالنصر : التأييد لهم على عدوّهم { فَكَانُواْ } بسبب ذلك { هُمُ الغالبين } على عدوّهم بعد أن كانوا تحت أسرهم ، وقهرهم ، وقيل : الضمير في { نصرناهم } عائد على الاثنين موسى ، وهارون تعظيماً لهما ، والأوّل أولى { وءاتيناهما الكتاب المستبين } المراد بالكتاب : التوراة ، والمستبين : البين الظاهر ، يقال : استبان كذا . أي : صار بيناً { وهديناهما الصراط المستقيم } أي : القيم لا اعوجاج فيه ، وهو دين الإسلام ، فإنه الطريق الموصلة إلى المطلوب { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الآخرين * سلام على موسى وهارون } أي : أبقينا عليهما في الأمم المتأخرة الثناء الجميل ، وقد قدّمنا الكلام في السلام ، وفي وجه إعرابه بالرفع ، وكذلك تقدّم تفسير { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين } في هذه السورة .
{ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المرسلين } قال المفسرون : هو نبيّ من أنبياء بني إسرائيل ، وقصته مشهورة مع قومه ، قيل : وهو إلياس بن ياس من سبط هارون أخي موسى . قال ابن إسحاق ، وغيره : كان إلياس هو القيم بأمر بني إسرائيل بعد يوشع ، وقيل : هو إدريس ، والأوّل أولى . قرأ الجمهور { إلياس } بهمزة مكسورة مقطوعة ، وقرأ ابن ذكوان بوصلها ، ورويت هذه القراءة عن ابن عامر ، وقرأ ابن مسعود ، والأعمش ، ويحيى بن وثاب « وإن إدريس لمن المرسلين » ، وقرأ أبيّ « وإن إبليس » بهمزة مكسورة ، ثم تحتية ساكنة ، ثم لام مكسورة ، ثم تحتية ساكنة ، ثم سين مهملة مفتوحة { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ } هو ظرف لقوله { من المرسلين } ، أو متعلق بمحذوف ، أي : اذكر يا محمد إذ قال ، والمعنى : ألا تتقون عذاب الله؟ ثم أنكر عليهم بقوله : { أَتَدْعُونَ بَعْلاً } هو : اسم لصنم كانوا يعبدونه ، أي : أتعبدون صنماً ، وتطلبون الخير منه .
قال ثعلب : اختلف الناس في قوله سبحانه : { بَعْلاً } فقالت طائفة : البعل هنا الصنم ، وقالت طائفة : البعل هنا ملك ، وقال ابن إسحاق : امرأة كانوا يعبدونها . قال الواحدي : والمفسرون يقولون : رباً ، وهو بلغة اليمن ، يقولون للسيد ، والربّ : البعل .
قال النحاس : القولان صحيحان ، أي : أتدعون صنماً عملتوه رباً؟ { وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين } أي : وتتركون عبادة أحسن من يقال له خالق ، وانتصاب الاسم الشريف في قوله : { الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءابَائِكُمُ الأولين } على أنه بدل من { أحسن } ، هذا على قراءة حمزة ، والكسائي ، والربيع بن خثيم ، وابن أبي إسحاق ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش ، فإنهم قرؤوا بنصب الثلاثة الأسماء . وقيل : النصب على المدح ، وقيل : على عطف البيان ، وحكى أبو عبيد : أن النصب على النعت . قال النحاس : وهو غلط ، وإنما هو بدل ، ولا يجوز النعت . لأنه ليس بتحلية ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وأبو جعفر ، وشيبة ، ونافع بالرفع . قال أبو حاتم : بمعنى : هو الله ربكم . قال النحاس : وأولى ما قيل : إنه مبتدأ ، وخبر بغير إضمار ، ولا حذف . وحكي عن الأخفش : أن الرفع أولى وأحسن . قال ابن الأنباري : من رفع ، أو نصب لم يقف على { أحسن الخالقين } على جهة التمام؛ لأن الله مترجم عن أحسن الخالقين على الوجهين جميعاً ، والمعنى أنه خالقكم ، وخالق من قبلكم ، فهو الذي تحقّ له العبادة .
{ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } أي : فإنهم بسبب تكذيبه لمحضرون في العذاب ، وقد تقدّم أن الإحضار المطلق ، مخصوص بالشرّ { إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } أي : من كان مؤمناً به من قومه ، قرىء بكسر اللام ، وفتحها كما تقدّم ، والمعنى على قراءة الكسر : أنهم أخلصوا لله؛ وعلى قراءة الفتح : أن الله استخلصهم من عباده . وقد تقدّم تفسير { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الآخرين سلام على إِلْ يَاسِينَ } قرأ نافع ، وابن عامر ، والأعرج ، وشيبة على { آل ياسين } بإضافة آل بمعنى : آل ياسين ، وقرأ الباقون بكسر الهمزة ، وسكون اللام موصولة بياسين إلا الحسن ، فإنه قرأ « الياسين » بإدخال آلة التعريف على ياسين . قيل : المراد على هذه القراءات كلها إلياس ، وعليه وقع التسليم ، ولكنه اسم أعجمي ، والعرب تضطرب في هذه الأسماء الأعجمية ، ويكثر تغييرهم لها . قال ابن جني : العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعباً؛ فياسين ، وإلياس ، وإلياسين شيء واحد . قال الأخفش : العرب تسمي قوم الرجل باسم الرجل الجليل منهم ، فيقولون : المهالبة ، على أنهم سموا كل رجل منهم بالمهلب . قال : فعلى هذا إنه سمي كل رجل منهم بالياسين . قال الفراء : يذهب بالياسين إلى أن يجعله جمعاً ، فيجعل أصحابه داخلين معه في اسمه . قال أبو عليّ الفارسي : تقديره : الياسيين ، إلا أن الياءين للنسبة حذفتا كما حذفتا في الأشعرين ، والأعجمين . ورجح الفرّاء ، وأبو عبيدة قراءة الجمهور قالا : لأنه لم يقل في شيء من السور على آل فلان ، إنما جاء بالاسم كذلك الياسين؛ لأنه إنما هو بمعنى : إلياس ، أو بمعنى : إلياس ، وأتباعه . وقال الكلبي : المراد بآل ياسين : آل محمد . قال الواحدي : وهذا بعيد؛ لأن ما بعده من الكلام ، وما قبله لا يدلّ عليه ، وقد تقدّم تفسير { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين } مستوفى .
{ وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ المرسلين } قد تقدّم ذكر قصة لوط مستوفاة { إِذْ نجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ } الظرف متعلق بمحذوف هو اذكر ، ولا يصح تعلقه بالمرسلين ، لأنه لم يرسل وقت تنجيته { إِلاَّ عَجُوزاً فِى الغابرين } قد تقدم أن الغابر يكون بمعنى : الماضي ، ويكون بمعنى : الباقي ، فالمعنى : إلا عجوزاً في الباقين في العذاب ، أو الماضين الذين قد هلكوا { ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين } أي : أهلكناهم بالعقوبة ، والمعنى : أن في نجاته ، وأهله جميعاً إلا العجوز ، وتدمير الباقين من قومه الذين لم يؤمنوا به دلالة بينة على ثبوت كونه من المرسلين { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } خاطب بهذا العرب ، أو أهل مكة على الخصوص ، أي : تمرون على منازلهم التي فيها آثار العذاب وقت الصباح { وباليل } ، والمعنى : تمرون على منازلهم في ذهابكم إلى الشام ، ورجوعكم منه نهاراً ، وليلاً { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ما تشاهدونه في ديارهم من آثار عقوبة الله النازلة بهم ، فإن في ذلك عبرة للمعتبرين ، وموعظة للمتدبرين { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين } يونس هو : ذو النون ، وهو : ابن متى . قال المفسرون : وكان يونس قد وعد قومه العذاب ، فلما تأخر عنهم العذاب خرج عنهم ، وقصد البحر ، وركب السفينة ، فكان بذهابه إلى البحر كالفار من مولاه ، فوصف بالإباق ، وهو معنى قوله : { إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون } وأصل الإباق : الهرب من السيد ، لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه وصف به . وقال المبرد : تأويل أبق بباعد ، أي : ذهب إليه ، ومن ذلك قولهم : عبد آبق .
وقد اختلف أهل العلم هل كانت رسالته قبل التقام الحوت إياه ، أو بعده؟ ومعنى المشحون : المملوء { فساهم فَكَانَ مِنَ المدحضين } المساهمة أصلها : المغالبة ، وهي : الاقتراع ، وهو : أن يخرج السهم على من غلب . قال المبرد : أي : فقارع . قال : وأصله من السهام التي تجال ، ومعنى { فَكَانَ مِنَ المدحضين } : فصار من المغلوبين . قال : يقال : دحضت حجته ، وأدحضها الله ، وأصله من الزلق عن مقام الظفر ، ومنه قول الشاعر :
قتلنا المدحضين بكل فج ... فقد قرت بقتلهم العيون
أي : المغلوبين { فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ } يقال : لقمت اللقمة ، والتقمتها : إذا ابتلعتها ، أي : فابتلعه الحوت ، ومعنى { وَهُوَ مُلِيمٌ } : وهو مستحق للوم ، يقال : رجل مليم : إذا أتى بما يلام عليه ، وأما الملوم ، فهو : الذي يلام سواء أتى بما يستحق أن يلام عليه أم لا ، وقيل : المليم : المعيب ، يقال : ألام الرجل : إذا عمل شيئاً صار به معيباً . ومعنى هذه المساهمة : أن يونس لما ركب السفينة احتبست . فقال الملاحون : ها هنا عبد أبق من سيده ، وهذا رسم السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري ، فاقترعوا ، فوقعت القرعة على يونس ، فقال : أنا الآبق ، وزج نفسه في الماء .
قال سعيد بن جبير : لما استهموا جاء حوت إلى السفينة فاغراً فاه ينتظر أمر ربه حتى إذا ألقى نفسه في الماء أخذه الحوت { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين } أي : الذاكرين لله ، أو المصلين له { لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي : لصار بطن الحوت له قبراً إلى يوم البعث . وقيل : للبث في بطنه حياً . واختلف المفسرون : كم أقام في بطن الحوت؟ فقال السدي ، والكلبي ، ومقاتل بن سليمان : أربعين يوماً . وقال الضحاك : عشرين يوماً . وقال عطاء : سبعة أيام . وقال مقاتل بن حيان : ثلاثة أيام ، وقيل : ساعة واحدة . وفي هذه الآية ترغيب في ذكر الله ، وتنشيط للذاكرين له . { فنبذناه بالعراء وَهُوَ سَقِيمٌ } النبذ : الطرح ، والعراء . قال ابن الأعرابي : هو : الصحراء ، وقال الأخفش : الفضاء ، وقال أبو عبيدة : الواسع من الأرض ، وقال الفراء : المكان الخالي . وروي عن أبي عبيدة أيضاً أنه قال : هو وجه الأرض ، وأنشد لرجل من خزاعة :
ورفعت رجلاً لا أخاف عثارها ... ونبذت بالبلد العراء ثيابي
والمعنى : أن الله طرحه من بطن الحوت في الصحراء الواسعة التي لا نبات فيها ، وهو عند إلقائه سقيم لما ناله في بطن الحوت من الضرر ، قيل : صار بدنه كبدن الطفل حين يولد .
وقد استشكل بعض المفسرين الجمع بين ما وقع هنا من قوله : { فنبذناه بالعراء } ، وقوله في موضع آخر : { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مّن رَّبّهِ لَنُبِذَ بالعراء وَهُوَ مَذْمُومٌ } [ القلم : 49 ] فإن هذه الآية تدل على أنه لم ينبذ بالعراء . وأجاب النحاس ، وغيره بأن الله سبحانه أخبر ها هنا : أنه نبذ بالعراء ، وهو غير مذموم ، ولولا رحمته عزّ وجلّ لنبذ بالعراء ، وهو مذموم . { وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ } أي : شجرة فوقه تظلل عليه ، وقيل : معنى { عليه } : عنده . وقيل : معنى عليه : له . واليقطين : هي شجرة الدباء . وقال المبرد : اليقطين يقال : لكل شجرة ليس لها ساق ، بل تمتد على وجه الأرض نحو الدباء ، والبطيخ ، والحنظل ، فإن كان لها ساق يقلها ، فيقال لها : شجرة فقط ، وهذا قول الحسن ، ومقاتل ، وغيرهما . وقال سعيد بن جبير : هو كل شيء ينبت ، ثم يموت من عامه . قال الجوهري : اليقطين : ما لا ساق له من شجر كشجر القرع ، ونحوه . قال الزجاج : اشتقاق اليقطين من قطن بالمكان ، أي : أقام به ، فهو يفعيل ، وقيل : هو : اسم أعجمي . قال المفسرون : كان يستظل بظلها من الشمس ، وقيض الله له أروية من الوحش تروح عليه بكرة ، وعشية ، فكان يشرب من لبنها حتى اشتد لحمه ، ونبت شعره ، ثم أرسله الله بعد ذلك . وهو معنى قوله : { وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } هم قومه الذين هرب منهم إلى البحر ، وجرى له ما جرى بعد هربه ، كما قصه الله علينا في هذه السورة ، وهم : أهل نينوى .
قال قتادة : أرسل إلى أهل نينوى من أرض الموصل . وقد مر الكلام على قصته في سورة يونس مستوفى ، و «أو» في { أو يزيدون } قيل : هي بمعنى : الواو ، والمعنى : ويزيدون . وقال الفراء : أو ها هنا بمعنى : بل ، وهو قول مقاتل ، والكلبي . وقال المبرد ، والزجاج ، والأخفش : أو هنا على أصله ، والمعنى : أو يزيدون في تقديركم إذا رآهم الرائي قال : هؤلاء مائة ألف ، أو يزيدون ، فالشك إنما دخل على حكاية قول المخلوقين . قال مقاتل ، والكلبي : كانوا يزيدون عشرين ألفاً . وقال الحسن : بضعاً وثلاثين ألفاً . وقال سعيد بن جبير : سبعين ألفاً . وقرأ جعفر بن محمد ، " ويزيدون " بدون ألف الشك .
وقد وقع الخلاف بين المفسرين : هل هذا الإرسال المذكور هو الذي كان قبل التقام الحوت له ، وتكون الواو في : { وأرسلناه } لمجرد الجمع بين ما وقع له مع الحوت ، وبين إرساله إلى قومه ، من غير اعتبار تقديم ما تقدم في السياق ، وتأخير ما تأخر ، أو هو إرسال له بعد ما وقع له مع الحوت ما وقع على قولين؟ وقد قدمنا الإشارة إلى الاختلاف بين أهل العلم هل كان قد أرسل قبل أن يهرب من قومه إلى البحر ، أو لم يرسل إلا بعد ذلك؟ والراجح : أنه كان رسولاً قبل أن يذهب إلى البحر كما يدل عليه ما قدمنا في سورة يونس ، وبقي مستمراً على الرسالة ، وهذا الإرسال المذكور هنا هو بعد تقدم نبوته ، ورسالته . { فَئَامَنُواْ فمتعناهم إلى حِينٍ } أي : وقع منهم الإيمان بعد ما شاهدوا أعلام نبوته ، فمتعهم الله في الدنيا إلى حين انقضاء آجالهم ، ومنتهى أعمارهم .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر عن ابن مسعود قال : إلياس هو : إدريس . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة مثله . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال صلى الله عليه وسلم : " الخضر هو : إلياس " وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الدلائل ، وضعفه عن أنس قال : «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فنزل منزلاً ، فإذا رجل في الوادي يقول : اللَّهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم المرحومة المغفور المثاب لها ، فأشرفت على الوادي ، فإذا طوله ثمانون ذراعاً وأكثر ، فقال : من أنت؟ فقلت : أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أين هو؟ فقلت : هو ذا يسمع كلامك ، قال : فأته ، وأقرئه مني السلام ، وقل له : أخوك إلياس يقرئك السلام ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته ، فجاء حتى عانقه ، وقعدا يتحدّثان ، فقال له : يا رسول الله إني إنما آكل في كلّ سنة يوماً ، وهذا يوم فطري ، فآكل أنا وأنت ، فنزلت عليهما المائدة من السماء خبز ، وحوت ، وكرفس ، فأكلا ، وأطعماني ، وصليا العصر ، ثم ودّعه ، ثم رأيته مرّ على السحاب نحو السماء» .
قال الذهبي متعقباً لتصحيح الحاكم له : بل موضوع قبح الله من وضعه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن ابن عباس في قوله : { أَتَدْعُونَ بَعْلاً } قال : صنماً .
وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عنه في قوله : { سلام على إِلْ يَاسِينَ } قال : نحن آل محمد آل ياسين . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : بعث الله يونس إلى أهل قريته ، فردّوا عليه ما جاءهم به ، فامتنعوا منه ، فلما فعلوا ذلك أوحى الله إليهم إني مرسل عليهم العذاب في يوم كذا ، وكذا . فأخرج من بين أظهرهم ، فأعلم قومه الذي وعد الله من عذابه إياهم ، فقالوا : ارمقوه ، فإن خرج من بين أظهركم ، فهو والله كائن ما وعدكم ، فلما كانت الليلة التي وعدوا بالعذاب في صبيحتها أدلج ، فرآه القوم ، فحذروا ، فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم ، وفرّقوا بين كلّ دابة ، وولدها ، ثم عجوا إلى الله ، وأنابوا ، واستقالوا ، فأقالهم الله ، وانتظر يونس الخبر عن القرية ، وأهلها حتى مرّ به مارّ ، فقال : ما فعل أهل القرية؟ قال : إن نبيهم لما خرج من بين أظهرهم عرفوا أنه قد صدقهم ما وعدهم من العذاب ، فخرجوا من قريتهم إلى براز من الأرض ، ثم فرقوا بين كلّ ذات ولد وولدها ، ثم عجوا إلى الله ، وتابوا إليه ، فتقبل منهم ، وأخرّ عنهم العذاب ، فقال يونس عند ذلك : لا أرجع إليهم كذاباً أبداً ، ومضى على وجهه ، وقد قدّمنا الكلام على قصته ، وما روي فيها في سورة يونس ، فلا نكرره .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { فساهم } قال : اقترع { فَكَانَ مِنَ المدحضين } قال : المقروعين . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَهُوَ مُلِيمٌ } قال : مسيء . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وأحمد في الزهد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين } قال : من المصلين . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً { فنبذناه بالعراء } قال : ألقيناه بالساحل . وأخرج هؤلاء عنه أيضاً { شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ } قال : القرع . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير عنه أيضاً قال : اليقطين : كلّ شيء يذهب على وجه الأرض . وأخرج أحمد في الزهد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن مردويه عنه أيضاً قال : إنما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت ، ثم تلا : { فنبذناه بالعراء } إلى قوله : { وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ } وقد تقدّم عنه ما يدلّ على أن رسالته كانت من قبل ذلك ، وليس في الآية : ما يدلّ على ما ذكره كما قدّمنا . وأخرج الترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبيّ بن كعب قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله : { وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } قال : يزيدون عشرين ألفاً . قال الترمذي : غريب . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : يزيدون ثلاثين ألفاً . وروي عنه أنهم يزيدون بضعة وثلاثين ألفاً . وروي عنه : أنهم يزيدون بضعة وأربعين ألفاً ، ولا يتعلق بالخلاف في هذا كثير فائدة .
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
لما كانت قريش ، وقبائل من العرب يزعمون : أن الملائكة بنات الله أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم باستفتائهم على طريقة التقريع ، والتوبيخ ، فقال : { فاستفتهم } يا محمد ، أي : استخبرهم { أَلِرَبّكَ البنات وَلَهُمُ البنون } أي : كيف يجعلون لله ، على تقدير صدق ما زعموه من الكذب أدنى الجنسين ، وأوضعهما ، وهو : الإناث ، ولهم أعلاهما ، وأرفعهما ، وهم : الذكور ، وهل هذا إلا حيف في القسمة لضعف عقولهم ، وسوء إدراكهم؟ ومثله قوله : { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى } [ النجم : 21 ، 22 ] ثم زاد في توبيخهم ، وتقريعهم . فقال : { أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إناثا وَهُمْ شاهدون } فأضرب عن الكلام الأوّل إلى ما هو أشدّ منه في التبكيت ، والتهكم بهم ، أي : كيف جعلوهم إناثاً ، وهم لم يحضروا عند خلقنا لهم ، وهذا كقوله : { وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } [ الزخرف : 19 ] فبيّن سبحانه : أن مثل ذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة ، ولم يشهدوا ، ولا دلّ دليل على قولهم من السمع ، ولا هو مما يدرك بالعقل حتى ينسبوا إدراكه إلى عقولهم .
ثم أخبر سبحانه عن كذبهم ، فقال : { أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لكاذبون } فبيّن سبحانه أن قولهم هذا هو من الإفك ، والافتراء من دون دليل ، ولا شبهة دليل ، فإنه لم يلد ، ولم يولد . قرأ الجمهور { ولد الله } فعلاً ماضياً مسنداً إلى الله . وقرىء بإضافة ولد إلى الله على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : يقولون الملائكة ولد الله ، والولد بمعنى : مفعول يستوي فيه المفرد ، والمثنى ، والمجموع ، والمذكر ، والمؤنث . ثم كرر سبحانه تقريعهم ، وتوبيخهم ، فقال : { أَصْطَفَى البنات على البنين } قرأ الجمهور بفتح الهمزة على أنها للاستفهام الإنكاري ، وقد حذف معها همزة الوصل استغناء به عنها . وقرأ نافع في رواية عنه ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والأعمش بهمزة وصل تثبت ابتداء ، وتسقط درجاً ، ويكون الاستفهام منوياً قاله الفراء . وحذف حرفه للعلم به من المقام ، أو على أن اصطفى ، وما بعده بدل من الجملة المحكية بالقول . وعلى تقدير عدم الاستفهام ، والبدل . فقد حكى جماعة من المحققين منهم الفراء : أن التوبيخ يكون باستفهام ، وبغير استفهام كما في قوله : { أَذْهَبْتُمْ طيباتكم فِى حياتكم الدنيا } [ الأحقاف : 20 ] ، وقيل : هو على إضمار القول { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } جملتان استفهاميتان ليس لأحدهما تعلق بالأخرى من حيث الإعراب : استفهمهم أوّلاً عما استقرّ لهم ، وثبت استفهام بإنكار ، وثانياً استفهام تعجب من هذا الحكم الذي حكموا به ، والمعنى : أيّ شيء ثبت لكم كيف تحكمون لله بالبنات ، وهم : القسم الذي تكرهونه ، ولكم بالبنين ، وهم : القسم الذي تحبونه { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي : تتذكرون ، فحذفت إحدى التاءين ، والمعنى : ألا تعتبرون ، وتتفكرون ، فتتذكرون بطلان قولكم { أَمْ لَكُمْ سلطان مُّبِينٌ } أي : حجة واضحة ظاهرة على هذا الذي تقولونه ، وهو إضراب عن توبيخ إلى توبيخ ، وانتقال من تقريع إلى تقريع .
{ فَأْتُواْ بكتابكم إِن كُنتُمْ صادقين } أي : فأتوا بحجتكم الواضحة على هذا إن كنتم صادقين فيما تقولونه ، أو فأتوا بالكتاب الذي ينطق لكم بالحجة ، ويشتمل عليها .
{ وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً } قال أكثر المفسرين : إن المراد بالجنة هنا : الملائكة ، قيل لهم : جنة ، لأنهم لا يرون . وقال مجاهد : هم بطن من بطون الملائكة يقال لهم : الجنة . وقال أبو مالك : إنما قيل لهم؛ الجنة؛ لأنهم خزّان على الجنان . والنسب الصهر . قال قتادة ، والكلبي : قالوا : لعنهم الله : إن الله صاهر الجنّ ، فكانت الملائكة من أولادهم؛ قالا : والقائل بهذه المقالة اليهود . وقال مجاهد ، والسدّي ، ومقاتل : إن القائل بذلك كنانة ، وخزاعة قالوا : إن الله خطب إلى سادات الجن ، فزوّجوه من سروات بناتهم ، فالملائكة بنات الله من سروات بنات الجن . وقال الحسن : أشركوا الشيطان في عبادة الله ، فهو النسب الذي جعلوه . ثم ردّ الله سبحانه عليهم بقوله : { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } أي : علموا أن هؤلاء الكفار الذين قالوا هذا القول يحضرون النار ، ويعذبون فيها . وقيل : علمت الجنة أنفسهم يحضرون للحساب . والأوّل أولى ، لأن الإحضار إذا أطلق ، فالمراد العذاب . وقيل : المعنى : ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون إلى الجنة . ثم نزّه سبحانه نفسه ، فقال : { سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ } أو هو حكاية لتنزيه الملك لله عزّ وجلّ عما وصفه به المشركون ، والاستثناء في قوله : { إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } منقطع ، والتقدير : لكن عباد الله المخلصين بريئون عن أن يصفوا الله بشيء من ذلك . وقد قرىء بفتح اللام ، وكسرها ، ومعناهما ما بيناه قريباً . وقيل : هو استثناء من المحضرين ، أي : إنهم يحضرون النار إلا من أخلص ، فيكون متصلاً لا منقطعاً ، وعلى هذا تكون جملة التسبيح معترضة .
ثم خاطب الكفار على العموم ، أو كفار مكة على الخصوص ، فقال : { فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بفاتنين } أي : فإنكم ، وآلهتكم التي تعبدون من دون الله لستم بفاتنين على الله بإفساد عباده ، وإضلالهم ، وعلى متعلقة بفاتنين . والواو في { وما تعبدون } إما للعطف على اسم إن ، أو هو بمعنى : مع ، وما موصولة ، أو مصدرية ، أي : فإنكم ، والذي تعبدون ، أو وعبادتكم ، ومعنى : { فاتنين } : مضلين ، يقال : فتنت الرجل ، وأفتنته ، ويقال : فتنه على الشيء ، وبالشيء كما يقال : أضله على الشيء ، وأضله به . قال الفراء : أهل الحجاز يقولون : فتنته ، وأهل نجد يقولون : أفتنته ، ويقال : فتن فلان على فلان امرأته ، أي : أفسدها عليه ، فالفتنة هنا بمعنى : الإضلال ، والإفساد . قال مقاتل : يقول : ما أنتم بمضلين أحداً بآلهتكم إلا من قدَر الله له أن يصلى الجحيم ، «وما» في { وَمَا أَنتُمْ } نافية و { أَنتُمْ } خطاب لهم ، ولمن يعبدونه على التغليب .
قال الزجاج : أهل التفسير مجمعون فما علمت أن المعنى : ما أنتم بمضلين أحداً إلا من قدّر الله عزّ وجلّ عليه أن يضلّ ، ومنه قول الشاعر :
فردّ بفتنته ، كيده ... عليه ، وكان لنا فاتناً
أي : مضلاً { إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم } قرأ الجمهور { صال } بكسر اللام؛ لأنه منقوص مضاف حذفت الياء لالتقاء الساكنين ، وحمل على لفظ من ، وأفرد كما أفرد هو . وقرأ الحسن ، وابن أبي عبلة بضم اللام مع واو بعدها ، وروي عنهما : أنهما قرآ بضم اللام بدون واو . فأما مع الواو فعلى أنه جمع سلامة بالواو حملاً على معنى : من ، وحذفت نون الجمع للإضافة ، وأما بدون الواو ، فيحتمل أن يكون جمعاً ، وإنما حذفت الواو خطاً كما حذفت لفظاً ، ويحتمل أن يكون مفرداً ، وحقه على هذا كسر اللام . قال النحاس : وجماعة أهل التفسير يقولون : إنه لحن؛ لأنه لا يجوز هذا قاض المدينة ، والمعنى : أن الكفار وما يعبدونه لا يقدرون على إضلال أحد من عباد الله ، إلا من هو من أهل النار ، وهم المصرّون على الكفر ، وإنما يصرّ على الكفر من سبق القضاء عليه بالشقاوة ، وإنه ممن يصلى النار ، أي : يدخلها .
ثم قال الملائكة مخبرين للنبي صلى الله عليه وسلم كما حكاه الله سبحانه عنهم : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : وما منا أحد ، أو وما منا ملك إلا له مقام معلوم في عبادة الله . وقيل : التقدير : وما منا إلا من له مقام معلوم ، رجح البصريون التقدير الأوّل ، ورجح الكوفيون الثاني . قال الزجاج : هذا قول الملائكة ، وفيه مضمر . المعنى : وما منا ملك إلا له مقام معلوم . ثم قالوا : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون } أي : في مواقف الطاعة . قال قتادة : هم : الملائكة صفوا أقدامهم . وقال الكلبي : صفوف الملائكة في السماء كصفوف أهل الدنيا في الأرض . { وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون } أي : المنزّهون لله المقدّسون له عما أضافه إليه المشركون . وقيل : المصلون ، وقيل : المراد بقولهم { المسبحون } : مجموع التسبيح باللسان ، وبالصلاة ، والمقصود أن هذه الصفات هي : صفات الملائكة ، وليسوا كما وصفهم به الكفار من أنهم بنات الله { وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ } هذا رجوع إلى الإخبار عن المشركين ، أي : كانوا قبل المبعث المحمدي إذا عيروا بالجهل قالوا : { لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الأولين } أي : كتاباً من كتب الأوّلين كالتوراة ، والإنجيل { لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين } أي : لأخلصنا العبادة له ، ولم نكفر به ، و « إن » في قوله : { وَإِن كَانُواْ } هي : المخففة من الثقيلة ، وفيها ضمير شأن محذوف ، واللام هي : الفارقة بينها ، وبين النافية ، أي : وإن الشأن كان كفار العرب ليقولون إلخ ، والفاء في قوله : { فَكَفَرُواْ بِهِ } هي : الفصيحة الدالة على محذوف مقدّر في الكلام .
قال الفراء : تقديره : فجاءهم محمد بالذكر ، فكفروا به ، وهذا على طريق التعجب منهم { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } أي : عاقبة كفرهم ، ومغبته ، وفي هذا تهديد لهم شديد .
وجملة { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين } مستأنفة مقرّرة للوعيد ، والمراد بالكلمة : ما وعدهم الله به من النصر ، والظفر على الكفار . قال مقاتل : عنى بالكلمة : قوله سبحانه : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [ المجادلة : 21 ] وقال الفراء : سبقت كلمتنا بالسعادة لهم ، والأولى تفسير هذه الكلمة بما هو مذكور هنا ، فإنه قال : { إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } فهذه هي الكلمة المذكورة سابقاً ، وهذا تفسير لها ، والمراد بجند الله : حزبه ، وهم الرسل ، وأتباعهم . قال الشيباني : جاء هنا على الجمع : يعني : قوله { لَهُمُ الغالبون } من أجل أنه رأس آية ، وهذا الوعد لهم بالنصر ، والغلبة لا ينافيه انهزامهم في بعض المواطن ، وغلبة الكفار لهم ، فإن الغالب في كل موطن هو : انتصارهم على الأعداء ، وغلبتهم لهم ، فخرج الكلام مخرج الغالب ، على أن العاقبة المحمودة لهم على كل حال ، وفي كل موطن كما قال سبحانه : { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ القصص : 83 ] .
ثم أمر الله سبحانه رسوله بالإعراض عنهم ، والإغماض عما يصدر منهم من الجهالات ، والضلالات ، فقال : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ } أي : أعرض عنهم إلى مدّة معلومة عند الله سبحانه ، وهي : مدة الكف عن القتال . قال السدّي ، ومجاهد : حتى نأمرك بالقتال . وقال قتادة : إلى الموت ، وقيل : إلى يوم بدر ، وقيل : إلى يوم فتح مكة ، وقيل : هذه الآية منسوخة بآية السيف { وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } أي : وأبصرهم إذا نزل بهم العذاب بالقتل ، والأسر ، فسوف يبصرون حين لا ينفعهم الإبصار ، وعبر بالإبصار عن قرب الأمر ، أي : فسوف يبصرون عن قريب . وقيل : المعنى : فسوف يبصرون العذاب يوم القيامة . ثم هددهم بقوله سبحانه : { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } كانوا يقولون من فرط تكذيبهم : متى هذا العذاب؟ { فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ } أي : إذا نزل عذاب الله لهم بفنائهم ، والساحة في اللغة : فناء الدار الواسع . قال الفراء : نزل بساحتهم ، ونزل بهم سواء . قال الزجاج : وكان عذاب هؤلاء بالقتل ، قيل : المراد به نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم يوم فتح مكة . قرأ الجمهور { نزل } مبنياً للفاعل . وقرأ عبد الله بن مسعود على البناء للمفعول ، والجار والمجرور قائم مقام الفاعل { فَسَاء صَبَاحُ المنذرين } أي : بئس صباح الذين أنذروا بالعذاب ، والمخصوص بالذم محذوف ، أي : صباحهم . وخصّ الصباح بالذكر؛ لأن العذاب كان يأتيهم فيه . ثم كرر سبحانه ما سبق تأكيداً للوعد بالعذاب ، فقال : { وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } ، وحذف مفعول أبصر ها هنا ، وذكره أوّلاً إما لدلالة الأوّل عليه ، فتركه هنا اختصاراً ، أو قصداً إلى التعميم للإيذان بأن ما يبصره من أنواع عذابهم لا يحيط به الوصف .
وقيل : هذه الجملة المراد بها : أحوال القيامة ، والجملة الأولى المراد بها : عذابهم في الدنيا ، وعلى هذا فلا يكون من باب التأكيد ، بل من باب التأسيس .
ثم نزّه سبحانه نفسه عن قبيح ما يصدر منهم ، فقال : { سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ } العزّة : الغلبة ، والقوة ، والمراد : تنزيهه عن كل ما يصفونه به مما لا يليق بجنابه الشريف ، وربّ العزّة بدل من ربك . ثم ذكر ما يدلّ على تشريف رسله ، وتكريمهم ، فقال : { وسلام على المرسلين } أي : الذين أرسلهم إلى عباده ، وبلغوا رسالاته ، وهو من السلام الذي هو : التحية . وقيل : معناه : أمن لهم ، وسلامة من المكاره { والحمد للَّهِ رَبّ العالمين } إرشاد لعباده إلى حمده على إرسال رسله إليهم مبشرين ، ومنذرين ، وتعليم لهم كيف يصنعون عند إنعامه عليهم ، وما يثنون عليه به . وقيل : إنه الحمد على هلاك المشركين ، ونصر الرسل عليهم ، والأولى أنه حمد لله سبحانه على كل ما أنعم به على خلقه أجمعين كما يفيده حذف المحمود عليه ، فإن حذفه مشعر بالتعميم كما تقرّر في علم المعاني ، والحمد هو : الثناء الجميل بقصد التعظيم .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً } قال : زعم أعداء الله أنه تبارك وتعالى هو وإبليس أخوان . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } قال : فإنكم يا معشر المشركين ، وما تعبدون يعني : الآلهة { مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بفاتنين } قال : بمضلين { إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم } يقول : إلا من سبق في علمي أنه سيصلى الجحيم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية يقول : إنكم لا تضلون أنتم ، ولا أضلّ منكم إلا من قضيت عليه أنه صال الجحيم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال : لا تفتنون إلا من هو صال الجحيم .
وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عنه أيضاً في قوله : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } قال : الملائكة { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون } قال : الملائكة { وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون } قال : الملائكة . وأخرج محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد ، أو قائم ، وذلك قول الملائكة : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون } » وأخرج محمد بن نصر ، وابن عساكر عن العلاء بن سعد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه : « أطت السماء ، وحق لها أن تئط ، ليس فيها موضع قدم إلا عليه ملك راكع ، أو ساجد »
، ثم قرأ { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون * وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون } . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال : إن من السموات لسماء ما فيها موضع شبر إلا ، وعليه جبهة ملك ، أو قدماه قائماً ، أو ساجداً ، ثم قرأ { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون * وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون } . وأخرج الترمذي وحسنه ، وابن جرير ، وابن مردويه عن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون ، إن السماء أطت ، وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله " وقد ثبت في الصحيح ، وغيره : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يصفوا كما تصفّ الملائكة عند ربهم ، فقالوا : وكيف تصفّ الملائكة عند ربهم؟ قال : " يقيمون الصفوف المقدّمة ، ويتراصون في الصف " وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الأولين } قال : لما جاء المشركين من أهل مكة ذكر الأوّلين ، وعلم الآخرين كفروا بالكتاب { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أنس قال : صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ، وقد خرجوا بالمساحي ، فلما نظروا إليه قالوا : محمد ، والخميس ، فقال : " الله أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم ، فساء صباح المنذرين " الحديث . وأخرج ابن سعد ، وابن مردويه من طريق سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سلمتم على المرسلين ، فسلموا عليّ ، فإنما أنا بشر من المرسلين " وأخرج ابن مردويه من طريق أبي العوام ، عن قتادة ، عن أنس مرفوعاً نحوه بأطول منه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأبو يعلى ، وابن مردويه ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه كان إذا أراد أن يسلم من صلاته قال : « { سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ * وسلام على المرسلين * والحمد للَّهِ رَبّ العالمين } » . وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : كنا نعرف انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة بقوله : { سبحان رَبّكَ } إلى آخر الآية . وأخرج الخطيب نحوه من حديث أبي سعيد . وأخرج الطبراني عن زيد بن أرقم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قال دبر كل صلاة : { سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ * وسلام على المرسلين * والحمد للَّهِ رَبّ العالمين } ثلاث مرات ، فقد اكتال بالمكيال الأوفى من الأجر " وأخرج حميد بن زنجويه في ترغيبه من طريق الأصبغ بن نباتة عن عليّ بن أبي طالب نحوه .
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
قوله : { ص } قرأ الجمهور بسكون الدال كسائر حروف التهجي في أوائل السور ، فإنها ساكنة الأواخر على الوقف . وقرأ أبيّ بن كعب ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، ونصر بن عاصم ، وابن أبي عبلة ، وأبو السماك بكسر الدال من غير تنوين ، ووجه الكسر أنه لالتقاء الساكنين ، وقيل : وجه الكسر أنه من صادى يصادي إذا عارض ، والمعنى : صاد القرآن بعملك ، أي : عارضه بعملك ، وقابله ، فاعمل به ، وهذا حكاه النحاس عن الحسن البصري ، وقال : إنه فسر قراءته هذه بهذا ، وعنه أن المعنى : أتله ، وتعرّض لقراءته . وقرأ عيسى بن عمر : " صاد " بفتح الدال ، والفتح لالتقاء الساكنين ، وقيل : نصب على الإغراء . وقيل : معناه : صاد محمد قلوب الخلق ، واستمالها حتى آمنوا به ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو ، وروي عن ابن أبي إسحاق أيضاً : أنه قرأ : " صاد " بالكسر والتنوين تشبيهاً لهذا الحرف بما هو غير متمكن من الأصوات . وقرأ هارون الأعور ، وابن السميفع : " صاد " بالضم من غير تنوين على البناء نحو : منذ ، وحيث .
وقد اختلف في معنى «صاد» ، فقال الضحاك : معناه : صدق الله . وقال عطاء : صدق محمد . وقال سعيد بن جبير : هو : بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين . وقال محمد بن كعب : هو : مفتاح اسم الله . وقال قتادة : هو : اسم من أسماء الله . وروي عنه أنه قال : هو اسم من أسماء الرحمن . وقال مجاهد : هو : فاتحة السورة . وقيل : هو : مما استأثر الله بعلمه ، وهذا هو الحقّ كما قدّمنا في فاتحة سورة البقرة . قيل : وهو إما اسم للحروف مسروداً على نمط التعبد ، أو اسم للسورة ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو منصوب بإضمار اذكر ، أو اقرأ ، والواو في قوله : { والقرءان ذِى الذكر } هي : واو القسم ، والإقسام بالقرآن فيه تنبيه على شرف قدره ، وعلوّ محله ، ومعنى { ذِى الذكر } : أنه مشتمل على الذكر الذي فيه بيان كل شيء . قال مقاتل : معنى { ذِى الذكر } : ذي البيان . وقال الضحاك : ذي الشرف كما في قوله : { لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كتابا فِيهِ ذِكْرُكُمْ } [ الأنبياء : 10 ] أي : شرفكم ، وقيل : أي : ذي الموعظة .
واختلف في جواب هذا القسم ما هو؟ فقال الزجاج ، والكسائي ، والكوفيون غير الفراء : إنه قوله : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ } [ ص : 64 ] ، وقال الفراء : لا نجده مستقيماً لتأخره جدًّا عن قوله : { والقرءان } ، ورجح هو ، وثعلب : أن الجواب قوله : { كَمْ أَهْلَكْنَا } ، وقال الأخفش : الجواب هو : { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ عِقَابِ } ، وقيل : هو صاد ، لأن معناه : حقّ ، فهو : جواب لقوله : { والقرءان } كما تقول : حقاً والله ، وجب والله . ذكره ابن الأنباري ، وروي أيضاً عن ثعلب ، والفراء ، وهو مبنيّ على أن جواب القسم يجوز تقدّمه ، وهو ضعيف .
وقيل : الجواب محذوف ، والتقدير : والقرآن ذي الذكر لتبعثنّ ، ونحو ذلك . وقال ابن عطية : تقديره ما الأمر كما يزعم الكفار ، والقول بالحذف أولى . وقيل : إن قوله : { ص } مقسم به ، وعلى هذا القول تكون الواو في { والقرءان } للعطف عليه ، ولما كان الإقسام بالقرآن دالاً على صدقه ، وأنه حقّ ، وأنه ليس بمحل للريب قال سبحانه : { بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } ، فأضرب عن ذلك ، وكأنه قال : لا ريب فيه قطعاً ، ولم يكن عدم قبول المشركين له لريب فيه . بل هم في عزّة عن قبول الحقّ ، أي : تكبر ، وتجبر . وشقاق ، أي : وامتناع عن قبول الحقّ ، والعزّة عند العرب : الغلبة ، والقهر ، يقال : من عزَّ بزَّ ، أي : من غلب سلب ، ومنه { وَعَزَّنِى فِى الخطاب } [ ص : 23 ] أي : غلبني ، ومنه قول الشاعر :
يعزّ على الطريق بمنكبيه ... كما ابترك الخليع على القداح
والشقاق : مأخوذ من الشقّ ، وقد تقدّم بيانه . ثم خوّفهم سبحانه ، وهدّدهم بما فعله بمن قبلهم من الكفار ، فقال : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ } يعني : الأمم الخالية المهلكة بتكذيب الرسل ، أي : كم أهلكنا من الأمم الخالية الذين كانوا أمنع من هؤلاء ، وأشدّ قوة ، وأكثر أموالاً ، وكم هي : الخبرية الدالة على التكثير ، وهي في محل نصب بأهلكنا على أنها مفعول به ، و [ من قرن ] تمييز ، و«من» في { مِن قَبْلِهِمُ } هي لابتداء الغاية . { فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } النداء هنا : هو نداء الاستغاثة منهم عند نزول العذاب بهم ، وليس الحين حين مناص . قال الحسن : نادوا بالتوبة ، وليس حين التوبة ، ولا حين ينفع العمل . والمناص مصدر ناص ينوص ، وهو الفوت ، والتأخر . ولات بمعنى : ليس ، بلغة أهل اليمن . وقال النحويون : هي : لا التي بمعنى ليس زيدت عليها التاء كما في قولهم : ربّ ، وربت ، وثمّ وثمت قال الفراء : النوص : التأخر ، وأنشد قول امرىء القيس :
أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص ... قال : يقال : ناص عن قرنه ينوص نوصاً أي : فرّ ، وزاغ . قال الفراء : ويقال : ناص ينوص : إذا تقدّم . وقيل : المعنى : أنه قال بعضهم لبعض : مناص ، أي : عليكم بالفرار ، والهزيمة ، فلما أتاهم العذاب قالوا : مناص ، فقال الله : { وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } قال سيبويه : لات مشبهة بليس ، والاسم فيها مضمر ، أي : ليس حيننا حين مناص . قال الزجاج : التقدير : وليس أواننا . قال ابن كيسان : والقول كما قال سيبويه ، والوقف عليها عند الكسائي بالهاء ، وبه قال المبرد ، والأخفش . قال الكسائي ، والفرّاء ، والخليل ، وسيبويه ، والأخفش : والتاء تكتب منقطعة عن حين ، وكذلك هي في المصاحف . وقال أبو عبيد : تكتب متصلة بحين ، فيقال : ( ولا تحين ) ، ومنه قول أبيّ ، وجرة السعدي :
العاطفون تحين ما من عاطف ... والمطعمون زمان ما من مطعم
وقد يستغنى بحين عن المضاف إليه كما قال الشاعر :
تذكر حبّ ليلى لات حينا ... وأمسى الشيب قد قطع القرينا
قال أبو عبيد : لم نجد العرب تزيد هذه التاء إلا في حين ، وأوان ، والآن . قلت : بل قد يزيدونها في غير ذلك كما في قول الشاعر :
فلتعرفن خلائقا مشمولة ... ولتندمنّ ولات ساعة مندم
وقد أنشد الفراء هذا البيت مستدلاً به على أن من العرب من يخفض بها ، وجملة : { وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } في محل نصب على الحال من ضمير نادوا . قرأ الجمهور : { لات } بفتح التاء ، وقرىء : " لات " بالكسر كجير { وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّنذِرٌ مّنْهُمْ } أي : عجب الكفار الذين وصفهم الله سبحانه بأنهم في عزّة وشقاق أن جاءهم منذر منهم ، أي : رسول من أنفسهم ينذرهم بالعذاب إن استمرّوا على الكفر ، وأن وما في حيزها في محل نصب بنزع الخافض ، أي : من أن جاءهم ، وهو كلام مستأنف مشتمل على ذكر نوع من أنواع كفرهم { وَقَالَ الكافرون هذا ساحر كَذَّابٌ } قالوا هذا القول لما شاهدوا ما جاء به من المعجزات الخارجة عن قدرة البشر ، أي : هذا المدّعي للرسالة ساحر فيما يظهره من المعجزات كذاب فيما يدّعيه من أن الله أرسله . قيل : ووضع الظاهر موضع المضمر لإظهار الغضب عليهم وأن ما قالوه لا يتجاسر على مثله إلا المتوغلون في الكفر . ثم أنكروا ما جاء به صلى الله عليه وسلم من التوحيد ، وما نفاه من الشركاء لله ، فقالوا : { أَجَعَلَ الآلهة إلها واحدا } أي : صيرها إلها واحداً ، وقصرها على الله سبحانه { إِنَّ هذا لَشَىْء عُجَابٌ } أي : لأمر بالغ في العجب إلى الغاية . قال الجوهري : العجيب : الأمر الذي يتعجب منه . وكذلك العجاب بالضم ، والعجاب بالتشديد أكثر منه ، قرأ الجمهور : { عجاب } مخففاً . وقرأ عليّ ، والسلمي وعيسى بن عمر ، وابن مقسم بتشديد الجيم . قال مقاتل : عجاب يعني بالتخفيف لغة أزد شنوءة ، قيل : والعجاب بالتخفيف والتشديد يدلان على أنه قد تجاوز الحدّ في العجب ، كما يقال : الطويل الذي فيه طول . والطوال : الذي قد تجاوز حدّ الطول ، وكلام الجوهري يفيد اختصاص المبالغة بعجاب مشدّد الجيم لا بالمخفف ، وقد قدّمنا في صدر هذه السورة سبب نزول هذه الآيات . { وانطلق الملأ مِنْهُمْ } المراد بالملأ : الأشراف كما هو مقرر في غير موضع من تفسير الكتاب العزيز ، أي : انطلقوا من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب كما تقدم قائلين : { أَنِ امشوا } أي : قائلين لبعضهم بعضاً امضوا على ما كنتم عليه ، ولا تدخلوا في دينه . { وَاْصْبِرُواْ على ءالِهَتِكُمْ } أي : اثبتوا على عبادتها ، وقيل : المعنى : وانطلق الأشراف منهم ، فقالوا للعوامّ : امشوا ، واصبروا على آلهتكم ، و «أن» في قوله : { أَنِ امشوا } هي : المفسرة للقول المقدّر ، أو لقوله : { وانطلق } ، لأنه مضمن معنى القول ، ويجوز أن تكون مصدرية معمولة للمقدر ، أو للمذكور ، أي : بأن امشوا .
وقيل : المراد بالانطلاق : الاندفاع في القول ، وامشوا من مشت المرأة . إذا كثرت ولادتها ، أي : اجتمعوا ، وأكثروا ، وهو بعيد جدًّا ، وخلاف ما يدل عليه الانطلاق ، والمشي بحقيقتهما ، وخلاف ما تقدم في سبب النزول ، وجملة { إِنَّ هذا لَشَىْء يُرَادُ } تعليل لما تقدمه من الأمر بالصبر ، أي : يريده محمد بنا ، وبآلهتنا ، ويودّ تمامه ، ليعلو علينا ، ونكون له أتباعاً ، فيتحكم فينا بما يريد ، فيكون هذا الكلام خارجاً مخرج التحذير منه ، والتنفير عنه . وقيل : المعنى : إن هذا الأمر يريده الله سبحانه ، وما أراده فهو كائن لا محالة ، فاصبروا على عبادة آلهتكم . وقيل : المعنى : إن دينكم لشيء يراد ، أي : يطلب ، ليؤخذ منكم ، وتغلبوا عليه ، والأوّل أولى . { مَّا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الآخرة } أي : ما سمعنا بهذا الذي يقوله محمد من التوحيد في الملة الآخرة . وهي : ملة النصرانية ، فإنها آخر الملل قبل ملة الإسلام ، كذا قال محمد بن كعب القرظي ، وقتادة ، ومقاتل ، والكلبي ، والسدي . وقال مجاهد : يعنون : ملة قريش ، وروي مثله عن قتادة أيضاً . وقال الحسن : المعنى : ما سمعنا أن هذا يكون آخر الزمان . وقيل : المعنى : ما سمعنا من اليهود ، والنصارى أن محمداً رسول { إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق } أي : ما هذا إلا كذب اختلقه محمد ، وافتراه . ثم استنكروا أن يخصّ الله رسوله بمزية النبوّة دونهم ، فقالوا : { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا } والاستفهام للإنكار أي : كيف يكون ذلك ، ونحن الرؤساء ، والأشراف . قال الزجاج : قالوا : كيف أنزل على محمد القرآن من بيننا ، ونحن أكبر سناً ، وأعظم شرفاً منه ، وهذا مثل قولهم : { لَوْلا نُزِّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] فأنكروا أن يتفضل الله سبحانه على من يشاء من عباده بما شاء . ولما ذكر استنكارهم لنزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم دونهم بين السبب الذي لأجله تركوا تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ، فقال : { بْل هُمْ فَى شَكّ مّن ذِكْرِى } أي : من القرآن ، أو الوحي لإعراضهم عن النظر الموجب لتصديقه ، وإهمالهم للأدلة الدالة على أنه حقّ منزل من عند الله { بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ } أي : بل السبب أنهم لم يذوقوا عذابي ، فاغترّوا بطول المهلة ، ولو ذاقوا عذابي على ما هم عليه من الشرك والشكّ لصدّقوا ما جئت به من القرآن ، ولم يشكوا فيه . { أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ العزيز الوهاب } أي : مفاتيح نعم ربك ، وهي النبوّة ، وما هو دونها من النعم حتى يعطوها من شاءوا ، فما لهم ، ولإنكار ما تفضل الله به على هذا النبيّ ، واختاره له ، واصطفاه لرسالته . والمعنى : بل أعندهم ، لأن أم هي المنقطعة المقدّرة ببل والهمزة . والعزيز : الغالب القاهر . والوهاب : المعطي بغير حساب . { أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } أي : بل ألهم ملك هذه الأشياء حتى يعطوا من شاءوا ، ويمنعوا من شاءوا ، ويعترضوا على إعطاء الله سبحانه ما شاء لمن شاء؟ وقوله : { فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب } جواب شرط محذوف ، أي : إن كان لهم ذلك ، فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء ، أو إلى العرش حتى يحكموا بما يريدون من عطاء ، ومنع ، ويدبروا أمر العالم بما يشتهون ، أو فليصعدوا ، وليمنعوا الملائكة من نزولهم بالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم .
والأسباب : أبواب السماوات التي تنزل الملائكة منها ، قاله مجاهد ، وقتادة ، ومنه قول زهير :
ولو رام أسباب السماء بسلم ... قال الربيع بن أنس : الأسباب : أدقّ من الشعر ، وأشدّ من الحديد ، ولكن لا ترى . وقال السدّي : { فِى الاسباب } : في الفضل ، والدين . وقيل : فليعملوا في أسباب القوّة إن ظنوا أنها مانعة ، وهو قول أبي عبيدة . وقيل : الأسباب : الحبال ، يعني : إن وجدوا حبالاً يصعدون فيها إلى السماء فعلوا ، والأسباب عند أهل اللغة : كل شيء يتوصل به إلى المطلوب كائناً ما كان . وفي هذا الكلام تهكم بكم ، وتعجيز لهم { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مّن الأحزاب } هذا وعد من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بالنصر عليهم ، والظفر بهم ، و { جند } مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم جند ، يعني : الكفار ، مهزوم : مكسور عما قريب ، فلا تبال بهم ، ولا تظن أنهم يصلون إلى شيء مما يضمرونه بك منا لكيد ، و «ما» في قوله : { مَّا هُنَالِكَ } هي : صفة لجند لإفادة التعظيم ، والتحقير ، أي : جند أيّ جند . وقيل : هي زائدة ، يقال : هزمت الجيش : كسرته ، وتهزمت القرية : إذا تكسرت ، وهذا الكلام متصل بما تقدّم ، وهو قوله : { بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } وهم جند من الأحزاب مهزومون ، فلا تحزن لعزّتهم ، وشقاقهم ، فإني أسلب عزّهم ، وأهزم جمعهم ، وقد وقع ذلك ، ولله الحمد في يوم بدر ، وفيما بعده من مواطن الله . وقد أخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال : سئل جابر بن عبد الله ، وابن عباس عن { ص } ، فقال : لا ندري ما هو . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : { ص } محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير عنه { والقرءان ذِى الذكر } قال : ذي الشرف . وأخرج أبو داود الطيالسي ، وعبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه عن التميمي قال : سألت ابن عباس عن قول الله تعالى : { فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } قال : ليس بحين نزو ، ولا فرار . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عنه في الآية قال : نادوا النداء حين لا ينفعهم ، وأنشد :
تذكرت ليلى لات حين تذكر ... وقد بنت منها والمناص بعيد
وأخرج عنه أيضاً في الآية قال : ليس هذا حين زوال . وأخرج ابن المنذر من طريق عطية عنه أيضاً قال : لا حين فرار . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وانطلق الملأ مِنْهُمْ } الآية قال : نزلت حين انطلق أشراف قريش إلى أبي طالب ، فكلموه في النبي صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن مردويه عنه { وانطلق الملأ مِنْهُمْ } قال : أبو جهل . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { مَّا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الآخرة } قال : النصرانية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله { فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب } قال : في السماء .
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
لما ذكر سبحانه أحوال الكفار المعاصرين لرسول الله ذكر أمثالهم ممن تقدّمهم ، وعمل عملهم من الكفر والتكذيب ، فقال : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأوتاد } قال المفسرون : كانت له أوتاد يعذب بها الناس ، وذلك أنه كان إذا غضب على أحد ، وتد يديه ، ورجليه ، ورأسه على الأرض . وقيل : المراد بالأوتاد : الجموع ، والجنود الكثيرة ، يعني : أنهم كانوا يقوّون أمره ، ويشدّون سلطانه كما تقوى الأوتاد ما ضربت عليه ، فالكلام خارج مخرج الاستعارة على هذا . قال ابن قتيبة : العرب تقول : هم في عزّ ثابت الأوتاد ، وملك ثابت الأوتاد ، يريدون ملكاً دائماً شديداً ، وأصل هذا أن البيت من بيوت الشعر إنما يثبت ، ويقوم بالأوتاد . وقيل : المراد بالأوتاد هنا البناء المحكم ، أي : وفرعون ذو الأبنية المحكمة . قال الضحاك : والبنيان يسمى أوتاداً ، والأوتاد جمع وتد أفصحها فتح الواو ، وكسر التاء ، ويقال : وتد بفتحهما ، وودّ بإدغام التاء في الدال ، وودت . قال الأصمعي : ويقال : وتد واتد مثل شغل شاغل ، وأنشد :
لاقت علي الماء جذيلاً واتدا ... ولم يكن يخلفها المواعدا
{ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وأصحاب الأَيْكَةِ } الأيكة : الغيضة ، وقد تقدّم تفسيرها ، واختلاف القرّاء في قراءتها في سورة الشعراء ، ومعنى { أُوْلَئِكَ الأحزاب } : أنهم الموصوفون بالقوّة ، والكثرة كقولهم : فلان هو الرجل ، وقريش وإن كانوا حزباً كما قال الله سبحانه فيما تقدّم : { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مّن الأحزاب } [ ص : 11 ] ؛ ولكن هؤلاء الذين قصهم الله علينا من الأمم السالفة هم أكثر منهم عدداً ، وأقوى أبداناً ، وأوسع أموالاً ، وأعماراً ، وهذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفة ، ويجوز أن تكون خبراً ، والمبتدأ قوله : { وَعَادٌ } كذا قال أبو البقاء ، وهو ضعيف ، بل الظاهر أن { عاد } ، وما بعده معطوفات على { قوم نوح } ، والأولى أن تكون هذه الجملة خبراً لمبتدأ محذوف ، أو بدلاً من الأمم المذكورة { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل } إن هي : النافية ، والمعنى : ما كلّ حزب من هذه الأحزاب إلا كذب الرسل ، لأن تكذيب الحزب لرسوله المرسل إليه تكذيب لجميع الرسل ، أو هو من مقابلة الجمع بالجمع ، والمراد : تكذيب كلّ حزب لرسوله ، والاستثناء مفرغ من أعمّ الأحوال ، أي : ما كلّ أحد من الأحزاب في جميع أحواله إلا وقع منه تكذيب الرسل { فَحَقَّ عِقَابِ } أي : فحقّ عليهم عقابي بتكذيبهم ، ومعنى حقّ : ثبت ، ووجب ، وإن تأخر ، فكأنه واقع بهم ، وكلّ ما هو آتٍ قريب . قرأ يعقوب بإثبات الياء في { عقاب } ، وحذفها الباقون مطابقة لرؤوس الآي . { وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآء إِلاَّ صَيْحَةً واحدة } أي : ما ينتظرون إلا صيحة ، وهي : النفخة الكائنة عند قيام الساعة . وقيل : هي النفخة الثانية ، وعلى الأوّل المراد : من عاصر نبينا صلى الله عليه وسلم من الكفار ، وعلى الثاني المراد : كفار الأمم المذكورة ، أي : ليس بينهم ، وبين حلول ما أعدّ الله لهم من عذاب النار إلا أن ينفخ في الصور النفخة الثانية .
وقيل : المراد بالصيحة : عذاب يفجؤهم في الدنيا كما قال الشاعر :
صاح الزمان بآل برمك صيحة ... خرّوا لشدّتها على الأذقان
وجملة : { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } في محل نصب صفة لصيحة . قال الزجاج : فواق ، وفواق بفتح الفاء ، وضمها أي : ما لها من رجوع ، والفواق ما بين حلبتي الناقة ، وهو مشتقّ من الرجوع أيضاً ، لأنه يعود اللبن إلى الضرع بين الحلبتين ، وأفاق من مرضه ، أي : رجع إلى الصحة ، ولهذا قال مجاهد ، ومقاتل : إن الفواق : الرجوع . وقال قتادة : ما لها من مثنوية . وقال السدّي : ما لها من إفاقة ، وقيل : ما لها من مردّ . قال الجوهري : ما لها من نظرة ، وراحة وإفاقة ، ومعنى الآية : أن تلك الصيحة هي ميعاد عذابهم ، فإذا جاءت لم ترجع ، ولا تردّ عنهم ، ولا تصرف منهم ، ولا تتوقف مقدار فواق ناقة ، وهي ما بين حلبتي الحالب لها ، ومنه قول الأعشى :
حتى إذا فيقة في ضرعها اجتمعت ... جاءت لترضع شقّ النفس لو رضعا
والفيقة : اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين ، وجمعها فيق ، وأفواق . قرأ حمزّة ، والكسائي : « ما لها من فواق » بضم الفاء ، وقرأ الباقون بفتحها . قال الفراء ، وأبو عبيدة : الفواق بفتح الفاء : الراحة ، أي : لا يفيقون فيها كما يفيق المريض ، والمغشيّ عليه ، وبالضم الانتظار { وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب } لما سمعوا ما توعدهم الله به من العذاب قالوا هذه المقالة استهزاء ، وسخرية ، والقط في اللغة : النصيب ، من القط ، وهو : القطع ، وبهذا قال قتادة ، وسعيد بن جبير ، قال الفراء : القط في كلام العرب : الحظ والنصيب ، ومنه قيل للصك : قط . قال أبو عبيدة ، والكسائي : القط : الكتاب بالجوائز ، والجمع القطوط ، ومنه قول الأعشى :
ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بغبطته يعطي القطوط ويأفق
ومعنى يأفق : يصلح ، ومعنى الآية : سؤالهم لربهم أن يعجل لهم نصيبهم وحظهم من العذاب ، وهو مثل قوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب } [ الحج : 47 ] . وقال السدّي : سألوا ربهم : أن يمثل لهم منازلهم من الجنة ، ليعلموا حقيقة ما يوعدون به ، وقال إسماعيل بن أبي خالد : المعنى : عجل لنا أرزاقنا ، وبه قال سعيد بن جبير ، والسدّي . وقال أبو العالية ، والكلبي ، ومقاتل : لما نزل : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ } [ الحاقة : 19 ] { وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِشِمَالِهِ } [ الحاقة : 25 ] قالت قريش : زعمت يا محمد أنا نؤتى كتابنا بشمالنا ، فعجل لنا قطنا قبل يوم الحساب . ثم أمر الله سبحانه نبيه أن يصبر على ما يسمعه من أقوالهم فقال : { اصبر على مَا يَقُولُونَ } من أقوالهم الباطلة التي هذا القول المحكي عنهم من جملتها . وهذه الآية منسوخة بآية السيف .
{ واذكر عَبْدَنَا دَاوُودُ ذَا الأيد } لما فرغ من ذكر قرون الضلالة ، وأمم الكفر ، والتكذيب ، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يسمعه زاد في تسليته ، وتأسيته بذكر قصة داود ، وما بعدها . ومعنى { اذكر عَبْدَنَا دَاوُودُ } : اذكر قصته ، فإنك تجد فيها ما تتسلى به ، والأيد : القوّة ، ومنه رجل أيد ، أي : قويّ ، وتأيد الشيء : تقوّى ، والمراد : ما كان فيه عليه السلام من القوّة على العبادة . قال الزجاج : وكانت قوّة داود على العبادة أتمّ قوّة ، ومن قوّته ما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم : أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ، وكان يصلي نصف الليل ، وكان لا يفرّ إذا لاقى العدّو ، وجملة { إِنَّهُ أَوَّابٌ } تعليل لكونه ذا الأيد ، والأوابّ : الرجاع عن كل ما يكرهه الله سبحانه إلى ما يحبه ، ولا يستطيع ذلك إلا من كان قوياً في دينه . وقيل : معناه : كلما ذكر ذنبه استغفر منه ، وناب عنه ، وهذا داخل تحت المعنى الأوّل ، يقال : آب يؤوب : إذا رجع { إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبّحْنَ بالعشى والإشراق } أيّ : يقدّسن الله سبحانه ، وينزهنه عما لا يليق به . وجملة : { يُسَبّحْنَ } في محل نصب على الحال ، وفي هذا بيان ما أعطاه الله من البرهان ، والمعجزة ، وهو : تسبيح الجبال معه . قال مقاتل : كان داود إذا ذكر الله ذكرت الجبال معه ، وكان يفقه تسبيح الجبال . وقال محمد بن إسحاق : أوتي داود من حسن الصوت ما يكون له في الجبال دويّ حسن ، فهذا معنى : تسبيح الجبال ، والأوّل أولى . وقيل : معنى : { يُسَبّحْنَ } : يصلين ، و { مَعَهُ } متعلق بسخرنا . ومعنى { بالعشى والإشراق } قال الكلبي : غدوة وعشية ، يقال : أشرقت الشمس : إذا أضاءت ، وذلك وقت الضحى . وأما شروقها ، فطلوعها . قال الزجاج : شرقت الشمس : إذا طلعت ، وأشرقت : إذا أضاءت . { والطير مَحْشُورَةً } معطوف على الجبال ، وانتصاب { محشورة } على الحال من الطير ، أي : وسخرنا الطير حال كونها محشورة ، أي : مجموعة إليه تسبح الله معه . قيل : كانت تجمعها إليه الملائكة . وقيل : كانت تجمعها الريح { كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } أي : كل واحد من داود ، والجبال ، والطير رجاع إلى طاعة الله ، وأمره ، والضمير في له راجع إلى الله عزّ وجلّ . وقيل : الضمير لداود ، أي : لأجل تسبيح داود مسبح ، فوضع أوّاب موضع مسبح ، والأوّل أولى . وقد قدّمنا أن الأوّاب : الكثير الرجوع إلى الله سبحانه { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } قوّيناه وثبتناه بالنصر في المواطن على أعدائه وإلقاء الرعب منه في قلوبهم . وقيل : بكثرة الجنود { وءاتيناه الحكمة وَفَصْلَ الخطاب } المراد بالحكمة : النبوّة ، والمعرفة بكل ما يحكم به . وقال مقاتل : الفهم ، والعلم . وقال مجاهد : العدل . وقال أبو العالية : العلم بكتاب الله . وقال شريح : السنة . والمراد بفصل الخطاب : الفصل في القضاء ، وبه قال الحسن ، والكلبي ، ومقاتل . وحكى الواحدي عن الأكثر : أن فصل الخطاب : الشهود ، والإيمان؛ لأنها إنما تنقطع الخصومة بهذا .
وقيل : هو : الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل . { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب } لما مدحه الله سبحانه بما تقدم ذكره أردف ذلك بذكر هذه القصة الواقعة له لما فيها من الأخبار العجيبة . قال مقاتل : بعث الله إلى داود ملكين ، جبريل ، وميكائيل؛ لينبهه على التوبة ، فأتياه ، وهو في محرابه . قال النحاس : ولا خلاف بين أهل التفسير أن المراد بالخصم ها هنا الملكان ، والخصم مصدر يقع على الواحد ، والاثنين ، والجماعة . ومعنى { تَسَوَّرُواْ المحراب } : أتوه من أعلى سوره ، ونزلوا إليه ، والسور : الحائط المرتفع ، وجاء بلفظ الجمع في تسوروا مع كونهم اثنين ، نظراً إلى ما يحتمله لفظ الخصم من الجمع . ومنه قول الشاعر :
وخصم غضاب قد نفضت لحاهم ... كنفض البراذين العراب المخاليا
والمحراب : الغرفة ، لأنهم تسوروا عليه ، وهو فيها ، كذا قال يحيى بن سلام . وقال أبو عبيدة : إنه صدر المجلس ، ومنه محراب المسجد . وقيل : إنهما كانا إنسيين ، ولم يكونا ملكين ، والعامل في «إذ» في قوله : { إِذْ دَخَلُواْ } النبأ ، أي : هل أتاك الخبر الواقع في وقت تسورهم؟ وبهذا قال ابن عطية ، ومكي ، وأبو البقاء . وقيل : العامل فيه أتاك . وقيل : معمول للخصم . وقيل : معمول لمحذوف ، أي : وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم . وقيل : هو معمول لتسوروا . وقيل : هو بدل مما قبله . وقال الفراء : إن أحد الظرفين المذكورين بمعنى : لما { فَفَزِعَ مِنْهُمْ } ، وذلك لأنهما أتياه ليلاً في غير وقت دخول الخصوم ، ودخلوا عليه بغير إذنه ، ولم يدخلوا من الباب الذي يدخل منه الناس . قال ابن الأعرابي : وكان محراب داود من الامتناع بالارتفاع بحيث لا يرتقي إليه آدمي بحيلة ، وجملة : { قَالُواْ لاَ تَخَفْ } مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : فماذا قالوا لداود لما فزع منهم؟ وارتفاع { خَصْمَانِ } ، على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : نحن خصمان ، وجاء فيما سبق بلفظ الجمع ، وهنا بلفظ التثنية ، لما ذكرنا من أن لفظ الخصم يحتمل المفرد ، والمثنى ، والمجموع ، فالكل جائز . قال الخليل : هو كما تقول : نحن فعلنا كذا : إذا كنتما اثنين . وقال الكسائي : جمع لما كان خبراً ، فلما انقضى الخبر ، وجاءت المخاطبة أخبر الاثنان عن أنفسهما ، فقالا : خصمان ، وقوله : { بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ } هو على سبيل الفرض ، والتقدير ، وعلى سبيل التعريض؛ لأن من المعلوم أن الملكين لا يبغيان . ثم طلبا منه أن يحكم بينهما بالحق ، ونهياه عن الجور ، فقالا : { فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ } أي : لا تجر في حكمك ، يقال : شط الرجل ، وأشط شططاً ، وإشطاطاً : إذا جار في حكمه . قال أبو عبيد : شططت عليه ، وأشططت أي : جرت . وقال الأخفش : معناه : لا تسرف ، وقيل : لا تفرط ، وقيل : لا تمل .
والمعنى متقارب ، والأصل فيه البعد ، من شطت الدار : إذا بعدت . قال أبو عمرو : الشطط مجاوزة القدر في كل شيء { واهدنا إلى سَوَاء الصراط } سواء الصراط : وسطه . والمعنى : أرشدنا إلى الحق ، واحملنا عليه . ثم لما أخبراه عن الخصومة إجمالاً شرعاً في تفصيلهما ، وشرحها ، فقالا : { إِنَّ هَذَا أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } المراد بالأخوة هنا : أخوة الدين ، أو الصحبة ، والنعجة هي : الأنثى من الضأن ، وقد يقال لبقر الوحش : نعجة { وَلِى نَعْجَةٌ واحدة } قال الواحدي : النعجة البقرة الوحشية ، والعرب تكني عن المرأة بها ، وتشبه النساء بالنعاج من البقر . قرأ الجمهور : { تِسْعٌ وَتِسْعُونَ } بكسر التاء الفوقية . وقرأ الحسن ، وزيد بن علي بفتحها . قال النحاس : وهي : لغة شاذة ، وإنما عنى ب { هذا } : داود؛ لأنه كان له تسع وتسعون امرأة ، وعنى بقوله : { ولي نعجة واحدة } ( أوريا ) زوج المرأة التي أراد أن يتزوجها داود كما سيأتي بيان ذلك { فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا } أي : ضمها إليّ ، وانزل لي عنها حتى أكفلها ، وأصير بعلاً لها . قال ابن كيسان : اجعلها كفلي ، ونصيبي { وَعَزَّنِى فِى الخطاب } أي : غلبني ، يقال : عزه يعزه عزاً : إذا غلبه . وفي المثل «من عزَّ بزَّ» أي : من غلب سلب ، والاسم العزة : وهي : القوة . قال عطاء : المعنى : إن تكلم كان أفصح مني . وقرأ ابن مسعود ، وعبيد بن عمير : ( وعازني في الخطاب ) أي : غالبني من المعازة ، وهي : المغالبة { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ } أي : بسؤاله نعجتك؛ ليضمها إلى نعاجه التسع والتسعين إن كان الأمر على ما تقول ، واللام هي : الموطئة للقسم ، وهي وما بعدها جواب للقسم المقدر . وجاء بالقسم في كلامه مبالغة في إنكار ما سمعه من طلب صاحب التسع والتسعين النعجة أن يضم إليه النعجة الواحدة التي مع صاحبه ، ولم يكن معه غيرها . ويمكن أنه إنما قال بهذا بعد أن سمع الاعتراف من الآخر . قال النحاس : ويقال : إن خطيئة داود هي : قوله : { لَقَدْ ظَلَمَكَ } ؛ لأنه قال ذلك قبل أن يتثبت { وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الخلطاء } وهم : الشركاء ، واحدهم خليط : وهو المخالط في المال { لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } أي : يتعدى بعضهم على بعض ، ويظلمه غير مراع لحقه { إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } ، فإنهم يتحامون ذلك ، ولا يظلمون خليطاً ، ولا غيره { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } أي : وقليل هم ، و " ما " زائدة للتوكيد ، والتعجيب . وقيل : هي موصولة ، و { هم } مبتدأ ، و { قليل } خبره { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فتناه } ، قال أبو عمرو ، والفراء : ظن يعني : أيقن . ومعنى { فتناه } : ابتليناه ، والمعنى : أنه عند أن تخاصما إليه ، وقال ما قال علم عند ذلك أنه المراد ، وأن مقصودهما التعريض به وبصاحبه الذي أراد أن ينزل له عن امرأته . قال الواحدي : قال المفسرون : فلما قضى بينهما داود نظر أحدهما إلى صاحبه ، فضحك ، فعند ذلك علم داود بما أراده .
قرأ الجمهور : { فتناه } بالتخفيف للتاء ، وتشديد النون . وقرأ عمر بن الخطاب ، والحسن ، وأبو رجاء بالتشديد للتاء ، والنون ، وهي : مبالغة في الفتنة . وقرأ الضحاك : « افتناه » ، وقرأ قتادة ، وعبيد بن عمير ، وابن السميفع : « فتناه » بتخفيفهما ، وإسناد الفعل إلى الملكين ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو { فاستغفر رَبَّهُ } لذنبه { وَخَرَّ رَاكِعاً } أي : ساجداً . وعبر بالركوع عن السجود ، قال ابن العربي : لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع هنا السجود ، فإن السجود هو : الميل ، والركوع هو : الانحناء ، وأحدهما يدخل في الآخر ، ولكنه قد يختص كل واحد منهما بهيئة . ثم جاء في هذا على تسمية أحدهما بالآخر . وقيل : المعنى للسجود راكعاً ، أي : مصلياً . وقيل : بل كان ركوعهم سجوداً . وقيل : بل كان سجودهم ركوعاً { وَأَنَابَ } أي : رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه .
وقد اختلف المفسرون في ذنب داود الذي استغفر له ، وتاب عنه على أقوال : الأول : أنه نظر إلى امرأة الرجل التي أراد أن تكون زوجة له ، كذا قال سعيد بن جبير ، وغيره . قال الزجاج : ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه عاود النظر إليها ، وصارت الأولى له ، والثانية عليه . القول الثاني : أنه أرسل زوجها في جملة الغزاة . الثالث : أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها . الرابع : أن أوريا كان خطب تلك المرأة ، فلما غاب خطبها داود ، فزوّجت منه لجلالته ، فاغتم لذلك أوريا ، فعتب الله عليه حيث لم يتركها لخاطبها . الخامس : أنه لم يجزع على قتل أوريا كما كان يجزع على من هلك من الجند ، ثم تزوج امرأته ، فعاتبه الله على ذلك ، لأن ذنوب الأنبياء ، وإن صغرت ، فهي عظيمة . السادس : أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر كما قدمنا .
وأقول : الظاهر من الخصومة التي وقعت بين الملكين تعريضاً لداود عليه السلام : أنه طلب من زوج المرأة الواحدة أن ينزل له عنها ، ويضمها إلى نسائه ، و لاينافي هذا العصمة الكائنة للأنبياء ، فقد نبهه الله على ذلك ، وعرض له بإرسال ملائكته إليه ، ليتخاصموا في مثل قصته حتى يستغفر لذنبه ، ويتوب منه ، فاستغفر وتاب . وقد قال سبحانه : { وعصى ءادَمُ رَبَّهُ فغوى } [ طه : 121 ] وهو أبو البشر ، وأوّل الأنبياء ، ووقع لغيره من الأنبياء ما قصه الله علينا في كتابه . ثم أخبر سبحانه : أنه قبل استغفاره ، وتوبته قال : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك } أي : ذلك الذنب الذي استغفر منه . قال عطاء الخراساني ، وغيره : إن داود بقي ساجداً أربعين يوماً حتى نبت الرعي حول وجهه ، وغمر رأسه . قال ابن الأنباري : الوقف على قوله : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك } تامّ ، ثم يبتدىء الكلام بقوله : { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ } الزلفى : القربة ، والكرامة بعد المغفرة لذنبه .
قال مجاهد : الزلفى : الدنوّ من الله عزّ وجلّ يوم القيامة ، والمراد بحسن المآب : حسن المرجع ، وهو : الجنة .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } قال : من رجعة . { وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا } قال : سألوا الله أن يعجل لهم . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الزبير ابن عدي عنه : { عَجّل لَّنَا قِطَّنَا } قال : نصيبنا من الجنة . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله : { ذَا الأيد } قال : القوّة . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال : الأوّاب : المسبح . وأخرج الديلمي عن مجاهد قال : سألت ابن عمر عن الأوّاب ، فقال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنه ، فقال : « هو الذي يذكر ذنوبه في الخلاء ، فيستغفر الله » . وأخرج عبد بن حميد ، عن ابن عباس قال : الأوّاب : الموقن . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن عطاء الخراساني عنه قال : لم يزل في نفسي من صلاة الضحى حتى قرأت هذه الآية : { إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبّحْنَ بالعشى والإشراق } . وأخرج ابن المنذر ، وابن مردويه عنه أيضاً قال : لقد أتى عليّ زمان ، وما أدري وجه هذه الآية { يُسَبّحْنَ بالعشى والإشراق } حتى رأيت الناس يصلون الضحى . وأخرج الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه عنه قال : كنت أمرّ بهذه الآية { يُسَبّحْنَ بالعشى والإشراق } فما أدري ما هي؟ حتى حدَّثتني أمّ هانىء بنت أبي طالب : أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح ، فدعا بوضوء ، فتوضأ ، ثم صلى الضحى ، ثم قال : « يا أمّ هانىء هذه صلاة الإشراق » وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه من وجه آخر عنه نحوه . والأحاديث في صلاة الضحى كثيرة جدًّا قد ذكرناها في شرحنا للمنتقى . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : استعدى رجل من بني إسرائيل عند داود على رجل من عظمائهم ، فقال : إن هذا غصبني بقراً لي ، فسأل داود الرجل عن ذلك ، فجحده ، فسأل الآخر البينة ، فلم يكن له بينة ، فقال لهما داود : قوماً حتى أنظر في أمركما ، فقاما من عنده ، فأتى داود في منامه فقيل له : اقتل الرجل الذي استعدى ، فقال : إن هذه رؤيا ، ولست أعجل حتى أتثبت ، فأتى الليلة الثانية في منامه ، فأمر أن يقتل الرجل ، فلم يفعل ، ثم أتى الليلة الثالثة ، فقيل له : اقتل الرجل ، أو تأتيك العقوبة من الله ، فأرسل داود إلى الرجل ، فقال : إن الله أمرني أن أقتلك ، قال : تقتلني بغير بينة ، ولا تثبت؟ قال : نعم ، والله لأنفذنّ أمر الله فيك ، فقال الرجل : لا تعجل عليّ حتى أخبرك ، إني والله ما أخذت بهذا الذنب ، ولكني كنت اغتلت والد هذا ، فقتلته ، فبذلك أخذت ، فأمر به داود ، فقتل ، فاشتدّت هيبته في بني إسرائيل ، وشدّد به ملكه ، فهو قول الله : { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه { وَآتَيْنَاهُ الحكمة } قال : أعطي الفهم . وأخرج ابن أبي حاتم ، والديلمي عن أبي موسى الأشعري قال : أوّل من قال : أما بعد داود عليه السلام وهو { فَصْلٌ الخطاب } . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن سعد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن الشعبي : أنه سمع زياد بن أبيه يقول : فصل الخطاب الذي أوتي داود : أما بعد . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس : أن داود حدّث نفسه إذا ابتلي أنه يعتصم ، فقيل له : إنك ستبتلى ، وستعلم اليوم الذي تبتلي فيه ، فخذ حذرك ، فقيل له : هذا اليوم الذي تبتلي فيه ، فأخذ الزبور ، ودخل المحراب ، وأغلق باب المحراب ، وأخذ الزبور في حجره ، وأقعد منصفاً يعني : خادماً على الباب ، وقال : لا تأذن لأحد عليّ اليوم ، فبينما هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر مذهب كأحسن ما يكون للطير فيه من كل لون ، فجعل يدور بين يديه ، فدنا منه ، فأمكن أن يأخذه ، فتناوله بيده؛ ليأخذه ، فاستوفز من خلفه ، فأطبق الزبور ، وقام إليه ، ليأخذه ، فطار ، فوقع على كوّة المحراب ، فدنا منه؛ ليأخذه ، فأفضى ، فوقع على خصّ ، فأشرف عليه لينظر أين وقع؟ فإذا هو بامرأة عند بركتها تغتسل من الحيض ، فلما رأت ظله حركت رأسها ، فغطت جسدها أجمع بشعرها ، وكان زوجها غازياً في سبيل الله ، فكتب داود إلى رأس الغزاة : انظر أوريا ، فاجعله في حملة التابوت ، وكان حملة التابوت إما أن يفتح عليهم ، وإما أن يقتلوا ، فقدّمه في حملة التابوت ، فقتل ، فلما انقضت عدّتها خطبها داود ، فاشترطت عليه إن ولدت غلاماً أن يكون الخليفة من بعده ، وأشهدت عليه خمسين من بني إسرائيل ، وكتب عليه بذلك كتاباً ، فما شعر بفتنته أنه افتتن حتى ولدت سليمان ، وشب ، فتسوّر عليه الملكان المحراب ، وكان شأنهما ما قصّ الله في كتابه ، وخرّ داود ساجداً ، فغفر الله له ، وتاب عليه . وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب قال : ما أصاب داود بعد ما أصابه بعد القدر إلا من عجب عجب بنفسه ، وذلك أنه قال : يا ربّ ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا وعابد من آل داود يعبدك يصلي لك ، أو يسبح ، أو يكبر ، وذكر أشياء ، فكره الله ذلك ، فقال : يا داود إن ذلك لم يكن إلا بي ، فلولا عوني ما قويت عليه ، وعزّتي وجلالي لأكلنك إلى نفسك يوماً ، قال : يا ربّ فأخبرني به ، فأخبر به ، فأصابته الفتنة ذلك اليوم . وأخرج أصل القصة الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أنس مرفوعاً بإسناد ضعيف . وأخرجها ابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس مطوّلة .
وأخرجها جماعة عن جماعة من التابعين . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله : { إِنَّ هَذَا أَخِى } قال : على ديني . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وأحمد في الزهد ، وابن جرير ، والطبراني عنه قال : ما زاد داود على أن قال { أَكْفِلْنِيهَا } . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أَكْفِلْنِيهَا } قال : ما زاد داود على أن قال : تحوّل لي عنها . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } يقول : قليل الذي هم فيه ، وفي قوله : { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فتناه } قال : اختبرناه . وأخرج أحمد ، والبخاري ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عنه أيضاً : أنه قال في السجود في { ص } : ليست من عزائم السجود ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها . وأخرج النسائي ، وابن مردويه بسند جيد عنه أيضاً : أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في { ص } ، وقال : « سجدها داود ، ونسجدها شكراً » وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في { ص } . وأخرج ابن مردويه عن أنس مثله مرفوعاً . وأخرج الدارمي ، وأبو داود ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والدارقطني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن أبي سعيد قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو على المنبر { ص } ، فلما بلغ السجدة نزل ، فسجد ، وسجد الناس معه ، فلما كان يوم آخر قرأها ، فلما بلغ السجدة تهيأ الناس للسجود ، فقال : إنما هي توبة ، ولكني رأيتكم تهيأتم للسجود ، فنزل ، فسجد . وأخرج ابن مردويه ، عن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه ذكر يوم القيامة ، فعظم شأنه ، وشدّته قال : « ويقول الرحمن عزّ وجلّ لداود عليه السلام : مرّ بين يديّ ، فيقول داود : يا ربّ أخاف أن تدحضني خطيئتي ، فيقول : خذ بقدمي ، فيأخذ بقدمه عزّ وجلّ ، فيمرّ » ، قال : « فتلك الزلفى التي قال الله : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ } » .
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
لما تمم سبحانه قصة داود أردفها ببيان تفويض أمر خلافة الأرض إليه ، والجملة مقولة لقول مقدر معطوف على غفرنا أي : وقلنا له { ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ } استخلفناك على الأرض ، أو { جعلناك خَلِيفَةً } لمن قبلك من الأنبياء لتأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر { فاحكم بَيْنَ الناس بالحق } أي : بالعدل الذي هو حكم الله بين عباده { وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى } أي : هوى النفس في الحكم بين العباد . وفيه تنبيه لداود عليه السلام أن الذي عوتب عليه ليس بعدل ، وأن فيه شائبة من اتباع هوى النفس { فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله } بالنصب على أنه جواب للنهي ، وفاعل يضلك هو الهوى ، ويجوز أن يكون الفعل مجزوماً بالعطف على النهي ، وإنما حرك لالتقاء الساكنين ، فعلى الوجه الأول يكون المنهي عنه الجمع بينهما ، وعلى الوجه الثاني يكون النهي عن كلّ واحد منهما على حدة . وسبيل الله : هو طريق الحق ، أو طريق الجنة . وجملة : { إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ } تعليل للنهي عن اتباع الهوى ، والوقوع في الضلال ، والباء في : { بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب } للسببية ، ومعنى النسيان : الترك ، أي : بسبب تركهم العمل لذلك اليوم . قال الزجاج : أي : بتركهم العمل لذلك اليوم صاروا بمنزلة الناسين ، وإن كانوا ينذرون ، ويذكرون . وقال عكرمة ، والسدّي : في الآية تقديم وتأخير ، والتقدير : ولهم عذاب يوم الحساب بما نسوا ، أي : تركوا القضاء بالعدل ، والأوّل أولى . وجملة : { وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا } مستأنفة مقرّرة لما قبلها من أمر البعث والحساب ، أي : ما خلقنا هذه الأشياء خلقاً باطلاً خارجاً على الحكمة الباهرة ، بل خلقناها للدلالة على قدرتنا ، فانتصاب { باطلاً } على المصدرية ، أو على الحالية ، أو على أنه مفعول لأجله ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى المنفيّ قبله ، وهو مبتدأ ، وخبره { ظَنُّ الذين كَفَرُواْ } أي : مظنونهم ، فإنهم يظنون أن هذه الأشياء خلقت لا لغرض ، ويقولون : إنه لا قيامة ، ولا بعث ، ولا حساب ، وذلك يستلزم أن يكون خلق هذه المخلوقات باطلاً { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار } والفاء لإفادة ترتب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل ، أي : فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم ، وكفرهم . ثم وبخهم ، وبكتهم فقال : { أَمْ نَجْعَلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِى الأرض } قال مقاتل : قال كفار قريش للمؤمنين : إنا نعطي في الآخرة كما تعطون ، فنزلت ، و « أم » هي : المنقطعة المقدّرة ببل والهمزة ، أي : بل أنجعل الذين آمنوا بالله ، وصدقوا رسله ، وعملوا بفرائضه كالمفسدين في الأرض بالمعاصي . ثم أضرب سبحانه إضراباً آخر ، وانتقل عن الأول إلى ما هو أظهر استحالة منه ، فقال : { أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار } أي : بل تجعل أتقياء المؤمنين كأشقياء الكافرين ، والمنافقين ، والمنهمكين في معاصي الله سبحانه من المسلمين ، وقيل : إن الفجار هنا خاص بالكافرين ، وقيل : المراد بالمتقين الصحابة ، ولا وجه للتخصيص بغير مخصص ، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
{ كتاب أنزلناه إِلَيْكَ مبارك } ارتفاع كتاب على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وأنزلناه إليك صفة له ، ومبارك خبر ثانٍ للمبتدأ ولا يجوز أن يكون صفة أخرى لكتاب لما تقرر من أنه لا يجوز تأخير الوصف الصريح عن غير الصريح ، وقد جوزه بعض النحاة ، والتقدير : القرآن كتاب أنزلناه إليك يا محمد كثير الخير ، والبركة . وقرىء : ( مباركاً ) على الحال ، وقوله : { لّيَدَّبَّرُواْ } أصله : ليتدبروا ، فأدغمت التاء في الدال ، وهو متعلق بأنزلناه . وفي الآية دليل على أن الله سبحانه إنما أنزل القرآن للتدبر ، والتفكر في معانيه ، لا لمجرد التلاوة بدون تدبر . قرأ الجمهور : { ليدبروا } بالإدغام . وقرأ أبو جعفر ، وشيبة : ( لتدبروا ) بالتاء الفوقية على الخطاب ، ورويت هذه القراءة عن عاصم ، والكسائي ، وهي قراءة علي رضي الله عنه ، والأصل لتتدبروا بتاءين ، فحذف إحداهما تخفيفاً { وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الألباب } أي : ليتعظ أهل العقول ، والألباب جمع لب وهو : العقل . { وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سليمان نِعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ } أخبر سبحانه : بأن من جملة نعمه على داود أنه وهب له سليمان ولداً ، ثم مدح سليمان ، فقال : { نِعْمَ العبد } والمخصوص بالمدح محذوف ، أي : نعم العبد سليمان ، وقيل : إن المدح هنا بقوله : { نعم العبد } هو لداود ، والأول أولى ، وجملة : { إِنَّهُ أَوَّابٌ } تعليل لما قبلها من المدح ، والأواب : الرجاع إلى الله بالتوبة كما تقدم بيانه ، والظرف في قوله : { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ } متعلق بمحذوف وهو : اذكر ، أي : اذكر ما صدر عنه وقت عرض الصافنات الجياد عليه { بالعشى } وقيل : هو متعلق بنعم ، وهو مع كونه غير متصرف لا وجه لتقييده بذلك الوقت ، وقيل : متعلق بأواب ، ولا وجه لتقييد كونه أواباً بذلك الوقت ، والعشي : من الظهر ، أو العصر إلى آخر النهار ، و { الصافنات } جمع صافن .
وقد اختلف أهل اللغة في معناه ، فقال القتيبي ، والفراء : الصافن في كلام العرب : الواقف من الخيل ، أو غيرها ، وبه قال قتادة ، ومنه الحديث : « من أحب أن يتمثل له الناس صفونا ، فليتبوأ مقعده من النار » ، أي : يديمون القيام له ، واستدلوا بقول النابغة :
لنا قبة مضروبة بفنائها ... عتاق المهارى والجياد الصوافن
ولا حجة لهم في هذا فإنه استدلال بمحل النزاع ، وهو مصادرة؛ لأن النزاع في الصافن ماذا هو؟ وقال الزجاج : هو الذي يقف على إحدى اليدين ، ويرفع الأخرى ، ويجعل على الأرض طرف الحافر منها حتى كأنه يقوم على ثلاث ، وهي : الرجلان ، وإحدى اليدين ، وقد يفعل ذلك بإحدى رجليه ، وهي : علامة الفراهة . وأنشد الزجاج قول الشاعر :
ألف الصفون فما يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا
ومن هذا قول عمرو بن كلثوم :
تركنا الخيل عاكفة عليه ... مقلدّة أعنتها صفونا
فإن قوله : صفونا لا بدّ أن يحمل على معنى غير مجرّد القيام ، لأن مجرّد القيام قد استفيد من قوله : عاكفة عليه . وقال أبو عبيد : الصافن هو : الذي يجمع يديه ، ويسويهما ، وأما الذي يقف على سنبكه ، فاسمه : المتخيم ، والجياد جمع جواد ، يقال : للفرس إذا كان شديدا العدو . وقيل : إنها الطوال الأعناق ، مأخوذ من الجيد ، وهو : العنق ، قيل : كانت مائة فرس ، وقيل : كانت عشرين ألفاً ، وقيل : كانت عشرين فرساً ، وقيل : إنها خرجت له من البحر ، وكانت لها أجنحة { فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِى } انتصاب { حب الخير } على أنه مفعول أحببت بعد تضمينه معنى : آثرت . قال الفراء : يقول : آثرت حب الخير ، وكل من أحب شيئاً ، فقد آثره . وقيل : انتصابه على المصدرية بحذف الزوائد ، والناصب له أحببت ، وقيل : هو مصدر تشبيهي ، أي : حباً مثل حب الخير ، والأول أولى . والمراد بالخير هنا : الخيل . قال الزجاج : الخير هنا : الخيل . وقال الفراء : الخير ، والخيل في كلام العرب واحد . قال النحاس : وفي الحديث : " الخيل معقود بنواصيها الخير " ، فكأنها سميت خيراً لهذا . وقيل : إنها سميت خيراً لما فيها من المنافع . «وعن» في { عَن ذِكْرِ رَبِى } بمعنى : على . والمعنى : آثرت حبّ الخيل على ذكر ربي ، يعني : صلاة العصر { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } يعني : الشمس ، ولم يتقدّم لها ذكر ، ولكن المقام يدلّ على ذلك . قال الزجاج : إنما يجوز الإضمار إذا جرى ذكر الشيء ، أو دليل الذكر ، وقد جرى هنا الدليل ، وهو قوله : بالعشيّ . والتواري : الاستتار عن الأبصار ، والحجاب : ما يحجبها عن الأبصار . قال قتادة ، وكعب : الحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق ، وهو جبل قاف ، وسمي الليل حجاباً؛ لأنه يستر ما فيه ، وقيل : الضمير في قوله : { حتى تَوَارَتْ } للخيل ، أي : حتى توارت في المسابقة عن الأعين ، والأوّل أولى ، وقوله : { رُدُّوهَا عَلَىَّ } من تمام قول سليمان ، أي : أعيدوا عرضها عليّ مرّة أخرى . قال الحسن : إن سليمان لما شغله عرض الخيل حتى فاتته صلاة العصر غضب لله ، وقال : ردّوها عليّ ، أي : أعيدوها . وقيل : الضمير : في { ردّوها } يعود إلى الشمس ، ويكون ذلك معجزة له ، وإنما أمر بإرجاعها بعد مغيبها لأجل أن يصلي العصر ، والأوّل أولى ، والفاء في قوله : { فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق } هي : الفصيحة التي تدل على محذوف في الكلام ، والتقدير هنا : فردّوها عليه . قال أبو عبيدة : طفق يفعل ، مثل ما زال يفعل ، وهو مثل ظلّ ، وبات . وانتصاب { مسحاً } على المصدرية بفعل مقدّر ، أي : يمسح مسحاً؛ لأن خبر طفق لا يكون إلا فعلاً مضارعاً ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال ، والأول أولى .
والسوق جمع ساق ، والأعناق جمع عنق ، والمراد : أنه طفق يضرب أعناقها ، وسوقها ، يقال : مسح علاوته ، أي : ضرب عنقه . قال الفراء : المسح هنا : القطع ، قال : والمعنى : أنه أقبل يضرب سوقها ، وأعناقها؛ لأنها كانت سبب فوت صلاته ، وكذا قال أبو عبيدة . قال الزجاج : ولم يكن يفعل ذلك إلا وقد أباحه الله له ، وجائز أن يباح ذلك لسليمان ، ويحضر في هذا الوقت .
وقد اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية ، فقال قوم : المراد بالمسح ما تقدّم . وقال آخرون : منهم الزهري وقتادة : إن المراد به : المسح على سوقها ، وأعناقها لكشف الغبار عنها حباً لها . والقول الأوّل أولى بسياق الكلام ، فإنه ذكر أنه آثرها على ذكر ربه حتى فاتته صلاة العصر ، ثم أمرهم بردّها عليه؛ ليعاقب نفسه بإفساد ما ألهاه عن ذلك ، وما صدّه عن عبادة ربه ، وشغله عن القيام بما فرضه الله عليه ، ولا يناسب هذا أن يكون الغرض من ردّها عليه هو كشف الغبار عن سوقها ، وأعناقها بالمسح عليها بيده ، أو بثوبه ، ولا متمسك لمن قال : إن إفساد المال لا يصدر عن النبيّ ، فإن هذا مجرد استبعاد باعتبار ما هو المتقرّر في شرعنا مع جواز أن يكون في شرع سليمان أن مثل هذا مباح على أن إفساد المال المنهيّ عنه في شرعنا إنما هو مجرّد إضاعته لغير غرض صحيح ، وأما لغرض صحيح ، فقد جاز مثله في شرعنا كما وقع منه صلى الله عليه وسلم من إكفاء القدور التي طبخت من الغنيمة قبل القسمة ، ولهذا نظائر كثيرة في الشريعة ، ومن ذلك ما وقع من الصحابة من إحراق طعام المحتكر .
وقد أخرج ابن عساكر عن ابن عباس في قوله : { أَمْ نَجْعَلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِى الأرض } قال : الذين آمنوا : عليّ ، وحمزة ، وعبيدة بن الحارث ، والمفسدين في الأرض : عتبة ، وشيبة ، والوليد . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : { الصافنات الجياد } . خيل خلقت على ما شاء . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { الصافنات } قال : صفون الفرس : رفع إحدى يديه حتى يكون على أطراف الحافر ، وفي قوله : { الجياد } : السراع . وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله : { حُبَّ الخير } قال : الماء ، وفي قوله : { ردّوها عليّ } قال : الخيل { فَطَفِقَ مَسْحاً } قال : عقراً بالسيف . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب قال : الصلاة التي فرّط فيها سليمان صلاة العصر . وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن إبراهيم التيمي في قوله : { إذ عرض عليه بالعشيّ الصافنات الجياد } قال : كانت عشرين ألف فرس ذات أجنحة ، فعقرها . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير عن ابن مسعود بقوله : { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } قال : توارت من وراء ياقوتة خضراء ، فخضرة السماء منها . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن عباس قال : كان سليمان لا يكلم إعظاماً له ، فلقد فاتته صلاة العصر ، وما استطاع أحد أن يكلمه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { عَن ذِكْرِ رَبِى } يقول : من ذكر ربي { فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق } قال : قطع سوقها ، وأعناقها بالسيف .
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
قوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان } أي : ابتليناه ، واختبرناه . قال الواحدي : قال أكثر المفسرين : تزوّج سليمان امرأة من بنات الملوك ، فعبدت الصنم في داره ، ولم يعلم بذلك سليمان ، فامتحن بسبب غفلته عن ذلك . وقيل : إن سبب الفتنة : أنه تزوّج سليمان امرأة يقال لها : جرادة ، وكان يحبها حباً شديداً ، فاختصم إليه فريقان : أحدهما : من أهل جرادة ، فأحبّ أن يكون القضاء لهم ، ثم قضى بينهم بالحق . وقيل : إن السبب : أنه احتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يقضي بين أحد . وقيل : إنه تزوّج جرادة هذه ، وهي مشركة؛ لأنه عرض عليها الإسلام ، فقالت : اقتلني ، ولا أسلم . وقال كعب الأحبار : إنه لما ظلم الخيل بالقتل سلب ملكه . وقال الحسن : إنه قارب بعض نسائه في شيء من حيض أو غيره . وقيل : إنه أمر أن لا يتزوّج امرأة إلا من بني إسرائيل ، فتزوّج امرأة من غيرهم . وقيل : إن سبب فتنته ما ثبت في الحديث الصحيح : أنه قال : لأطوفنّ الليلة على تسعين امرأة تأتي كلّ واحدة بفارس يقاتل في سبيل الله ، ولم يقل : إن شاء الله . وقيل غير ذلك . ثم بيّن سبحانه ما عاقبه به ، فقال : { وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً } انتصاب { جسداً } على أنه مفعول { ألقينا } ، وقيل : انتصابه على الحال على تأويله بالمشتق ، أي : ضعيفاً ، أو فارغاً ، والأوّل أولى . قال أكثر المفسرين : هذا الجسد الذي ألقاه الله على كرسيّ سليمان هو شيطان اسمه : صخر ، وكان متمّرداً عليه غير داخل في طاعته ، ألقى الله شبه سليمان عليه ، وما زال يحتال حتى ظفر بخاتم سليمان ، وذلك عند دخول سليمان الكنيف؛ لأنه كان يلقيه إذا دخل الكنيف ، فجاء صخر في صورة سليمان ، فأخذ الخاتم من امرأة من نساء سليمان ، فقعد على سرير سليمان ، وأقام أربعين يوماً على ملكه ، وسليمان هارب . وقال مجاهد : إن شيطاناً قال له سليمان : كيف تفتنون الناس؟ قال : أرني خاتمك أخبرك ، فلما أعطاه إياه نبذه في البحر ، فذهب ملكه ، وقعد الشيطان على كرسيه ، ومنعه الله نساء سليمان ، فلم يقربهنّ ، وكان سليمان يستطعم ، فيقول : أتعرفونني أطعموني؟ فيكذبوه حتى أعطته امرأة يوماً حوتاً ، فشقّ بطنه ، فوجد خاتمه في بطنه ، فرجع إليه ملكه ، وهو معنى قوله : { ثُمَّ أَنَابَ } أي : رجع إلى ملكه بعد أربعين يوماً . وقيل : معنى أناب : رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه ، وهذا هو الصواب ، وتكون جملة : { قَالَ رَبّ اغفر لِى } بدلاً من جملة أناب ، وتفسيراً له ، أي : اغفر لي ما صدر عني من الذنب الذي ابتليتني لأجله . ثم لما قدّم التوبة ، والاستغفار جعلها وسيلة إلى إجابة طلبته ، فقال : { وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لأحَدٍ مّن بَعْدِى } قال أبو عبيدة : معنى لا ينبغي لأحد من بعده : لا يكون لأحد من بعدي .
وقيل : المعنى : لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني بعد هذه السلبة ، أو لا يصح لأحد من بعدي لعظمته ، وليس هذا من سؤال نبيّ الله سليمان عليه السلام للدنيا ، وملكها ، والشرف بين أهلها ، بل المراد بسؤاله الملك : أن يتمكن به من إنفاذ أحكام الله سبحانه ، والأخذ على يد المتمرّدين من عباده من الجنّ ، والإنس ، ولو لم يكن من المقتضيات لهذا السؤال منه إلا ما رآه عند قعود الشيطان على كرسيه من الأحكام الشيطانية الجارية في عباد الله ، وجملة : { إِنَّكَ أَنتَ الوهاب } تعليل لما قبلها مما طلبه من مغفرة الله له وهبة الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ، أي : فإنك كثير الهبات عظيم الموهوبات . ثم ذكر سبحانه إجابته لدعوته ، وإعطاءه لمسألته ، فقال : { فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح } أي : ذللناها له ، وجعلناها منقادة لأمره . ثم بيّن كيفية التسخير لها بقوله : { تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاء } أي : لينة الهبوب ليست بالعاصف ، مأخوذ من الرخاوة ، والمعنى : أنها ريح لينة لا تزعزع ، ولا تعصف مع قوة هبوبها ، وسرعة جريها ، ولا ينافي هذا قوله في آية أخرى { ولسليمان الريح عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِهِ } [ الأنبياء : 81 ] لأن المراد : أنها في قوة العاصفة ، ولا تعصف . وقيل : إنها كانت تارة رخاء ، وتارة عاصفة على ما يريده سليمان ، ويشتهيه ، وهذا أولى في الجمع بين الآيتين { حَيْثُ أَصَابَ } أي : حيث أراد . قال الزجاج : إجماع أهل اللغة والمفسرين أن معنى { حيث أصاب } : حيث أراد ، وحقيقته حيث قعد . وقال الأصمعي ، وابن الأعرابي : العرب تقول : أصاب الصواب ، وأخطأ الجواب . وقيل : إن معنى أصاب بلغة حمير : أراد ، وليس من لغة العرب ، وقيل : هو بلسان هجر ، والأول أولى ، وهو مأخوذ من إصابة السهم للغرض { والشياطين } معطوف على الريح ، أي : وسخرنا له الشياطين ، وقوله : { كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ } بدل من الشياطين ، أي : كل بناء منهم ، وغواص منهم يبنون له ما يشاء من المباني ، ويغوصون في البحر ، فيستخرجون له الدر منه ، ومن هذا قول الشاعر :
إلا سليمان إذ قال الجليل له ... قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن أني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد
{ وَءاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الأصفاد } معطوف على كل داخل في حكم البدل ، وهم مردة الشياطين سخروا له حتى قرنهم في الأصفاد . يقال : قرنهم في الحبال إذا كانوا جماعة كثيرة ، والأصفاد : الأغلال واحدها صفد . قال الزجاج : هي السلاسل ، فكل ما شددته شداً وثيقاً بالحديد ، وغيره ، فقد صفدته . قال أبو عبيدة : صفدت الرجل ، فهو : مصفود ، وصفدته ، فهو : مصفد ، ومن هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته :
فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفدينا
قال يحيى بن سلام : ولم يكن يفعل ذلك إلا بكفارهم ، فإذا آمنوا أطلقهم ، ولم يسخرهم ، والإشارة بقوله : { هذا } إلى ما تقدم من تسخير الريح ، والشياطين له ، وهو بتقدير القول ، أي : وقلنا له : { هذا عَطَاؤُنَا } الذي أعطيناكه من الملك العظيم الذي طلبته { فامنن أَوْ أَمْسِكْ } قال الحسن ، والضحاك ، وغيرهما : أي فأعط من شئت ، وامنع من شئت { بِغَيْرِ حِسَابٍ } لا حساب عليك في ذلك الإعطاء ، أو الإمساك ، أو عطاؤنا لك بغير حساب لكثرته ، وعظمته .
وقال قتادة : إن قوله : { هذا عَطَاؤُنَا } إشارة إلى ما أعطيه من قوة الجماع ، وهذ لا وجه لقصر الآية عليه لو قدّرنا أنه قد تقدم ذكره من جملة تلك المذكورات ، فكيف يدعي اختصاص الآية به مع عدم ذكره؟ { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى } أي : قربة في الآخرة { وَحُسْنُ مَئَابٍ } ، وحسن مرجع ، وهو : الجنة .
وقد أخرج الفريابي ، والحكيم الترمذي ، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً } قال : هو الشيطان الذي كان على كرسيه يقضي بين الناس أربعين يوماً ، وكان لسليمان امرأة يقال لها : جرادة ، وكان بين بعض أهلها ، وبين قوم خصومة ، فقضى بينهم بالحق إلا أنه ود أن الحق كان لأهلها ، فأوحى الله إليه أن سيصيبك بلاء ، فكان لا يدري أيأتيه من السماء أم من الأرض؟ وأخرج النسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، قال السيوطي بسند قوي : عن ابن عباس قال : أراد سليمان أن يدخل الخلاء ، فأعطى لجرادة خاتمه ، وكانت جرادة امرأته ، وكانت أحب نسائه إليه ، فجاء الشيطان في صورة سليمان ، فقال لها : هاتي خاتمي ، فأعطته ، فلما لبسه دانت له الإنس ، والجن ، والشياطين ، فلما خرج سليمان من الخلاء قال : هاتي خاتمي ، قالت : قد أعطيته سليمان . قال : أنا سليمان ، قالت : كذبت لست سليمان ، فجعل لا يأتي أحداً يقول : أنا سليمان إلا كذبه ، حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة ، فلما رأى ذلك عرف أنه من أمر الله ، وقام الشيطان يحكم بين الناس ، فلما أراد الله أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان ، فأرسلوا إلى نساء سليمان ، فقالوا لهن : تنكرن من أمر سليمان شيئاً؟ قلن : نعم إنه يأتينا ، ونحن نحيض ، وما كان يأتينا قبل ذلك ، فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع ، فكتبوا كتباً فيها سحر ، وكفر ، فدفنوها تحت كرسي سليمان ، ثم أثاروها ، وقرءوها على الناس ، وقالوا : بهذا كان يظهر سليمان على الناس ، ويغلبهم ، فأكفر الناس سليمان ، فلم يزالوا يكفرونه ، وبعث ذلك الشيطان بالخاتم ، فطرحه في البحر فتلقته سمكة ، فأخذته ، وكان سليمان يعمل على شط البحر بالأجر ، فجاء رجل ، فاشترى سمكاً فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم ، فدعا سليمان ، فقال : تحمل لي هذا السمك؟ قال : نعم ، قال : بكم؟ قال : بسمكة من هذا السمك ، فحمل سليمان السمك ، ثم انطلق به إلى منزله ، فلما انتهى الرجل إلى باب داره أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم ، فأخذها سليمان ، فشق بطنها ، فإذا الخاتم في جوفها ، فأخذه ، فلبسه ، فلما لبسه دانت له الجنّ ، والإنس ، والشياطين ، وعاد إلى حاله ، وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر البحر ، فأرسل سليمان في طلبه ، وكان شيطاناً مريداً ، فجعلوا يطلبونه ، ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوماً نائماً ، فجاءوا ، فبنوا عليه بنياناً من رصاص ، فاستيقظ ، فوثب ، فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا انماط معه الرصاص ، فأخذوه ، فأوثقوه ، وجاءوا به إلى سليمان ، فأمر به ، فنقر له تخت من رخام ، ثم أدخله في جوفه ، ثم شدّ بالنحاس ، ثم أمر به ، فطرح في البحر ، فذلك قوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً } يعني : الشيطان الذي كان سلط عليه .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً } قال : صخر الجني تمثل على كرسيه على صورته . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنّ عفريتاً من الجنّ جعل يتفلت عليّ البارحة؛ ليقطع عليّ صلاتي ، وإن الله أمكنني منه ، فلقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا ، فتنظروا إليه كلكم ، فذكرت قول أخي سليمان : { وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لأحَدٍ مّن بَعْدِى } فردّه الله خاسئاً » وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فامنن } يقول : اعتق من الجنّ من شئت ، وأمسك منهم من شئت .
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
قوله : { واذكر عَبْدَنَا أَيُّوبَ } معطوف على قوله : { واذكر عَبْدَنَا دَاوُود } وأيوب عطف بيان ، و { إِذْ نادى رَبَّهُ } بدل اشتمال من عبدنا { أَنّى مَسَّنِىَ الشيطان } قرأ الجمهور بفتح الهمزة على أنه حكاية لكلامه الذي نادى ربه به ، ولو لم يحكه لقال : إنه مسه . وقرأ عيسى بن عمر بكسرها على إضمار القول . وفي ذكر قصة أيوب إرشاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء به في الصبر على المكاره . قرأ الجمهور بضم النون من قوله : { بِنُصْبٍ } وسكون الصاد ، فقيل : هو جمع نصب بفتحتين نحو أسد ، وأسد ، وقيل : هو لغة في النصب ، نحو رشد ، ورشد . وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع ، وشيبة ، وحفص ، ونافع في رواية عنه بضمتين ، ورويت هذه القراءة عن الحسن . وقرأ أبو حيوة ، ويعقوب ، وحفص في رواية بفتح ، وسكون ، وهذه القراءات كلها بمعنى واحد ، وإنما اختلفت القراءات باختلاف اللغات . وقال أبو عبيدة : إن النصب بفتحتين : التعب ، والإعياء ، وعلى بقية القراءات الشرّ ، والبلاء ، ومعنى قوله : { وَعَذَابٍ } أي : ألم . قال قتادة ، ومقاتل : النصب في الجسد ، والعذاب في المال . قال النحاس : وفيه بعد كذا قال . والأولى تفسير النصب بالمعنى اللغوي ، وهو : التعب ، والإعياء ، وتفسير العذاب بما يصدق عليه مسمى العذاب ، وهو : الألم ، وكلاهما راجع إلى البدن . { اركض بِرِجْلِكَ } هو بتقدير القول ، أي : قلنا له : اركض برجلك كذا قال الكسائي ، والركض : الدفع بالرجل ، يقال : ركض الدابة برجله : إذا ضربها بها . وقال المبرد : الركض : التحريك . قال الأصمعي : يقال : ركضت الدابة ، ولا يقال : ركضت هي؛ لأن الركض إنما هو تحريك راكبها رجليه ، ولا فعل لها في ذلك ، وحكى سيبويه : ركضت الدابة ، فركضت ، مثل جبرت العظم ، فجبر { هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } هذا أيضاً من مقول القول المقدّر ، المغتسل : هو الماء الذي يغتسل به ، والشراب : الذي يشرب منه . وقيل : إن المغتسل هو : المكان الذي يغتسل فيه . قال قتادة : هما عينان بأرض الشام في أرض يقال لها : الجابية ، فاغتسل من إحداهما ، فأذهب الله ظاهر دائه ، وشرب من الأخرى فأذهب الله باطن دائه ، وكذا قال الحسن . وقال مقاتل : نبعت عين جارية ، فاغتسل فيها ، فخرج صحيحاً ، ثم نبعت عين أخرى ، فشرب منها ماءً عذباً بارداً . وفي الكلام حذف ، والتقدير : فركض برجله ، فنبعت عين ، فقلنا له : { هذا مغتسل } إلخ ، وأسند المسّ إلى الشيطان مع أن الله سبحانه هو الذي مسه بذلك : إما لكونه لما عمل بوسوسته عوقب على ذلك بذلك النصب ، والعذاب . فقد قيل : إنه أعجب بكثرة ماله ، وقيل : استغاثه مظلوم ، فلم يغثه ، وقيل : إنه قال ذلك على طريقة الأدب ، وقيل : إنه قال ذلك؛ لأن الشيطان وسوس إلى أتباعه ، فرفضوه ، وأخرجوه من ديارهم ، وقيل : المراد به .
ما كان يوسوسه الشيطان إليه حال مرضه ، وابتلائه من تحسين الجزع ، وعدم الصبر على المصيبة ، وقيل غير ذلك . وقوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ } معطوف على مقدّر كأنه قيل : فاغتسل ، وشرب ، فكشفنا بذلك ما به من ضرّ ، ووهبنا له أهله . قيل : أحياهم الله بعد أن أماتهم ، وقيل : جمعهم بعد تفرقهم ، وقيل : غيرهم مثلهم ، ثم زاده مثلهم معهم ، وهو معنى قوله : { وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ } فكانوا مثلى ما كانوا من قبل ابتلائه ، وانتصاب قوله : { رَحْمَةً مّنَّا وذكرى لأوْلِى الألباب } على أنه مفعول لأجله ، أي : وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه ، وليتذكر بحاله أولو الألباب ، فيصبروا على الشدائد كما صبر ، وقد تقدّم في سورة الأنبياء تفسير هذه الآية مستوفى ، فلا نعيده . { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً } معطوف على { اركض } ، أو على { وهبنا } ؛ أو التقدير ، وقلنا له : { خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً } ، والضغث : عثكال النخل بشماريخه ، وقيل : هو قبضة من حشيش مختلط رطبها بيابسها ، وقيل : الحزمة الكبيرة من القضبان ، وأصل المادّة تدلّ على جمع المختلطات . قال الواحدي : الضغث : ملء الكفّ من الشجر ، والحشيش ، والشماريخ { فاضرب بّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } أي : اضرب بذلك الضغث ، ولا تحنث في يمينك ، والحنث : الإثم ، ويطلق على فعل ما حلف على تركه ، وكان أيوب قد حلف في مرضه أن يضرب امرأته مائة جلدة .
واختلف في سبب ذلك ، فقال سعيد بن المسيب : إنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه به من الخبز ، فخاف خيانتها ، فحلف ليضربنها . وقال يحيى بن سلام ، وغيره : إن الشيطان أغواها أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلة تقرّباً إليه ، فإنه إذا فعل ذلك برىء ، فحلف ليضربنها إن عوفي مائة جلدة . وقيل : باعت ذؤابتها برغيفين إذ لم تجد شيئاً ، وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام ، فلهذا حلف ليضربنها . وقيل : جاءها إبليس في صورة طبيب ، فدعته لمداواة أيوب ، فقال : أداويه على أنه إذا برىء قال : أنت شفيتني ، لا أريد جزاء سواه ، قالت : نعم ، فأشارت على أيوب بذلك ، فحلف ليضربنها .
وقد اختلف العلماء هل هذا خاصّ بأيوب ، أو عامّ للناس كلهم؟ وأن من حلف خرج من يمينه بمثل ذلك . قال الشافعي : إذا حلف ليضربنّ فلاناً مائة جلدة ، أو ضرباً ، ولم يقل : ضرباً شديداً ، ولم ينوِ بقلبه ، فيكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية ، حكاه ابن المنذر عنه ، وعن أبي ثور ، وأصحاب الرأي . وقال عطاء : هو خاصّ بأيوب ، ورواه ابن القاسم عن مالك . ثم أثنى الله سبحانه على أيوب ، فقال : { إِنَّا وجدناه صَابِراً } أي : على البلاء الذي ابتليناه به ، فإنه ابتلي بالداء العظيم في جسده ، وذهاب ماله ، وأهله ، وولده ، فصبر { نِعْمَ العبد } أي : أيوب { إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي : رجاع إلى الله بالاستغفار ، والتوبة .
{ واذكر عِبَادَنَا إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ } قرأ الجمهور : { عبادنا } بالجمع . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وحميد ، وابن محيصن ، وابن كثير : « عبدنا » بالإفراد . فعلى قراءة الجمهور يكون إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب عطف بيان ، وعلى القراءة الأخرى يكون إبراهيم عطف بيان ، وما بعده عطف على عبدنا لا على إبراهيم . وقد يقال : لما كان المراد بعبدنا الجنس جاز إبدال الجماعة منه . وقيل : إن إبراهيم ، وما بعده بدل ، أو النصب بإضمار أعني ، وعطف البيان أظهر ، وقراءة الجمهور أبين ، وقد اختارها أبو عبيد ، وأبو حاتم { أُوْلِى الأيدى والأبصار } الأيدي ، جمع اليد التي بمعنى : القوّة ، والقدرة . قال قتادة : أعطوا قوّة في العبادة ، ونصراً في الدين . قال الواحدي : وبه قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والمفسرون . قال النحاس : أما الأبصار ، فمتفق على أنها البصائر في الدين ، والعلم . وأما الأيدي ، فمختلف في تأويلها ، فأهل التفسير يقولون : إنها القوّة في الدين ، وقوم يقولون : الأيدي جمع يد ، وهي النعمة ، أي : هم أصحاب النعم ، أي : الذين أنعم الله عزّ وجلّ عليهم ، وقيل : هم أصحاب النعم على الناس ، والإحسان إليهم ، لأنهم قد أحسنوا ، وقدّموا خيراً ، واختار هذا ابن جرير . قرأ الجمهور ( أولي الأيدي ) بإثبات الياء في الأيدي . وقرأ ابن مسعود ، والأعمش ، والحسن ، وعيسى : ( الأيد ) بغير ياء ، فقيل معناها : معنى القراءة الأولى ، وإنما حذفت الياء لدلالة كسرة الدال عليها ، وقيل الأيد : القوّة وجملة : { إِنَّا أخلصناهم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار } تعليل لما وصفوا به . قرأ الجمهور : { بخالصة } بالتنوين ، وعدم الإضافة على أنها مصدر ، بمعنى : الإخلاص ، فيكون ذكرى منصوباً به ، أو بمعنى : الخلوص ، فيكون ذكرى مرفوعاً به ، أو يكون خالصة اسم فاعل على بابه ، وذكرى بدل منها ، أو بيان لها ، أو بإضمار أعني ، أو مرفوعة بإضمار مبتدأ ، والدار يجوز أن تكون مفعولاً به لذكرى ، وأن تكون ظرفاً : إما على الاتساع ، أو على إسقاط الخافض ، وعلى كل تقدير ، فخالصة صفة لموصوف محذوف ، والباء للسببية ، أي : بسبب خصلة خالصة . وقرأ نافع ، وشيبة ، وأبو جعفر ، وهشام عن ابن عامر بإضافة خالصة إلى ذكرى على أن الإضافة للبيان ، لأن الخالصة تكون ذكرى ، وغير ذكرى ، أو على أن خالصة مصدر مضاف إلى مفعوله ، والفاعل محذوف . أي : بأن أخلصوا ذكرى الدار ، أو مصدر بمعنى : الخلوص مضافاً إلى فاعله . قال مجاهد : معنى الآية : استصفيناهم بذكر الآخرة ، فأخلصناهم بذكرها . وقال قتادة : كانوا يدعون إلى الآخرة ، وإلى الله . وقال السدّي : أخلصوا بخوف الآخرة . قال الواحدي : فمن قرأ بالتنوين في خالصة كان المعنى : جعلناهم لنا خالصين بأن خلصت لهم ذكرى الدار ، والخالصة مصدر بمعنى : الخلوص ، والذكرى بمعنى : التذكر ، أي : خلص لهم تذكر الدار ، وهو أنهم يذكرون التأهب لها ، ويزهدون في الدنيا ، وذلك من شأن الأنبياء . وأما من أضاف ، فالمعنى : أخلصنا لهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار ، والخالصة مصدر مضاف إلى الفاعل ، والذكرى على هذا المعنى : الذكر { وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار } الاصطفاء : الاختيار ، والأخيار جمع خير بالتشديد والتخفيف كأموات في جمع ميت مشدّداً ومخففاً؛ والمعنى : إنهم عندنا لمن المختارين من أبناء جنسهم من الأخيار .
{ واذكر إسماعيل } قيل : وجه إفراده بالذكر بعد ذكر أبيه ، وأخيه ، وابن أخيه؛ للإشعار بأنه عريق في الصبر الذي هو المقصود بالتذكير هنا { واليسع وَذَا الكفل } قد تقدّم ذكر اليسع ، والكلام فيه في الأنعام ، وتقدَّم ذكر ذا الكفل ، والكلام فيه في سورة الأنبياء ، والمراد من ذكر هؤلاء : أنهم من جملة من صبر من الأنبياء ، وتحملوا الشدائد في دين الله . أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يذكرهم؛ ليسلك مسلكهم في الصبر { وَكُلٌّ مّنَ الأخيار } يعني : الذين اختارهم الله لنبوّته ، واصطفاهم من خلقه . { هذا ذِكْر } الإشارة إلى ما تقدّم من ذكر أوصافهم ، أي : هذا ذكر جميل في الدنيا ، وشرف يذكرون به أبداً { وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ } أي : لهم مع هذا الذكر الجميل حسن مآب في الآخرة ، والمآب : المرجع ، والمعنى : أنهم يرجعون في الآخرة إلى مغفرة الله ، ورضوانه ، ونعيم جنته . ثم بيّن حسن المرجع ، فقال : { جنات عَدْنٍ } قرأ الجمهور : { جنات } بالنصب بدلاً من حسن مآب ، سواء كان جنات عدن معرفة ، أو نكرة؛ لأن المعرفة تبدل من النكرة ، وبالعكس ، ويجوز أن يكون جنات عطف بيان إن كانت نكرة ، ولا يجوز ذلك فيها إن كانت معرفة على مذهب جمهور النحاة ، وقد جوزه بعضهم . ويجوز أن يكون نصب جنات بإضمار فعل . والعدن في الأصل : الإقامة ، يقال : عدن بالمكان : إذا أقام فيه ، وقيل : هو اسم لقصر في الجنة ، وقرىء برفع جنات على أنها مبتدأ . وخبرها مفتحة ، أو على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي جنات عدن ، وقوله : { مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب } حال من جنات ، والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل ، والأبواب مرتفعة باسم المفعول : كقوله : { وَفُتِحَتْ أبوابها } [ الزمر : 43 ] والرّابط بين الحال ، وصاحبها ضمير مقدر ، أي : منها ، أو الألف ، واللام لقيامه مقام الضمير ، إذ الأصل أبوابها . وقيل : إن ارتفاع الأبواب على البدل من الضمير في مفتحة ، العائد على جنات ، وبه قال أبو عليّ الفارسي أي : مفتحة هي الأبواب . قال الفراء : المعنى : مفتحة أبوابها ، والعرب تجعل الألف ، واللام خلفاً من الإضافة . وقال الزجاج : المعنى : مفتحة لهم الأبواب منها . قال الحسن : إن الأبواب يقال لها : انفتحي فتنفتح ، انغلقي ، فتنغلق . وقيل : تفتح لهم الملائكة الأبواب ، وانتصاب { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا } على الحال من ضمير لهم ، والعامل فيه مفتحة ، وقيل : هو حال من { يَدَّعُونَ } قدّمت على العامل { فِيهَا } أي : يدعون في الجنات حال كونهم متكئين فيها { بفاكهة كَثِيرَةٍ } أي : بألوان متنوّعة متكثرة من الفواكه { وَشَرَاب } كثير ، فحذف كثيراً لدلالة الأوّل عليه ، وعلى جعل { مُتَّكِئِينَ } حالاً من ضمير لهم ، والعامل فيه مفتحة ، فتكون جملة { يَدَّعُونَ } مستأنفة لبيان حالهم .
وقيل : إن يدعون في محل نصب على الحال من ضمير متكئين . { وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف أَتْرَابٌ } أي : قاصرات طرفهنّ على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم ، وقد مضى بيانه في سورة الصافات . والأتراب : المتحدات في السنّ ، أو المتساويات في الحسن . وقال مجاهد : معنى أتراب : أنهنّ متواخيات لا يتباغضن ، ولا يتغايرن . وقيل : أتراباً للأزواج . والأتراب : جمع ترب ، واشتقاقه من التراب ، لأنه يمسهنّ في وقت واحد لاتحاد مولدهنّ . { هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحساب } أي : هذا الجزاء الذي وعدتم به لأجل يوم الحساب ، فإن الحساب علة للوصول إلى الجزاء ، أو المعنى : في يوم الحساب . قرأ الجمهور : { ما توعدون } بالفوقية على الخطاب . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن محيصن ، ويعقوب بالتحتية على الخبر ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم لقوله : { وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ } ، فإنه خبر { إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا } أي : إن هذا المذكور من النعم ، والكرامات لرزقنا الذي أنعمنا به عليكم { مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } أي : انقطاع ، ولا يفنى أبداً ، ومثله قوله : { عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 108 ] فنعم الجنة لا تنقطع عن أهلها .
وقد أخرج أحمد في الزهد ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر عن ابن عباس قال : إن الشيطان عرج إلى السماء ، فقال : يا رب سلطني على أيوب ، قال الله : لقد سلطتك على ماله ، وولده ، ولم أسلطك على جسده ، فنزل ، فجمع جنوده ، فقال لهم : قد سلطت على أيوب ، فأروني سلطانكم ، فصاروا نيراناً ، ثم صاروا ماء ، فبينما هم في المشرق إذا هم بالمغرب ، وبينما هم بالمغرب إذا هم بالمشرق . فأرسل طائفة منهم إلى زرعه ، وطائفة إلى أهله ، وطائفة إلى بقره ، وطائفة إلى غنمه ، وقال : إنه لا يعتصم منكم إلا بالمعروف ، فأتوه بالمصائب بعضها على بعض ، فجاء صاحب الزرع ، فقال : يا أيوب ألم ترَ إلى ربك أرسل على زرعك ناراً ، فأحرقته؟ ثم جاء صاحب الإبل ، فقال : يا أيوب ألم ترَ إلى ربك أرسل إلى إبلك عدواً ، فذهب بها؟ ثم جاء صاحب البقر فقال : يا أيوب ألم ترَ إلى ربك أرسل إلى بقرك عدواً ، فذهب بها؟ ثم جاءه صاحب الغنم فقال : يا أيوب ألم ترَ إلى ربك أرسل على غنمك عدواً ، فذهب بها؟ وتفرد هو لبنيه ، فجمعهم في بيت أكبرهم ، فبينما هم يأكلون ، ويشربون إذ هبت ريح ، فأخذت بأركان البيت ، فألقته عليهم ، فجاء الشيطان إلى أيوب بصورة غلام بأذنيه قرطان ، فقال : يا أيوب ألم ترَ إلى ربك جمع بنيك في بيت أكبرهم ، فبينما هم يأكلون ، ويشربون إذ هبت ريح ، فأخذت بأركان البيت ، فألقته عليهم ، فلو رأيتهم حين اختلطت دماؤهم ، ولحومهم بطعامهم ، وشرابهم؟ فقال له أيوب : فأين كنت؟ قال : كنت معهم ، قال : فكيف انفلتّ؟ قال : انفلت ، قال أيوب : أنت الشيطان؛ ثم قال أيوب : أنا اليوم كيوم ولدتني أمي ، فقام ، فحلق رأسه ، وقام يصلي ، فرنّ إبليس رنة سمعها أهل السماء ، وأهل الأرض ، ثم عرج إلى السماء ، فقال : أي رب إنه قد اعتصم ، فسلطني عليه ، فإني لا أستطيعه إلا بسلطانك ، قال : قد سلطتك على جسده ، ولم أسلطك على قلبه ، فنزل ، فنفخ تحت قدمه نفخة قرح ما بين قدمه إلى قرنه ، فصار قرحة واحدة ، وألقي على الرماد حتى بدا حجاب قلبه ، فكانت امرأته تسعى عليه ، حتى قالت له : ألا ترى يا أيوب قد نزل والله بي من الجهد والفاقة ما إن بعت قروني برغيف ، فأطعمتك ، فادع الله أن يشفيك ، ويريحك قال : ويحك كنا في النعيم سبعين عاماً ، فاصبري حتى نكون في الضراء سبعين عاماً ، فكان في البلاء سبع سنين ، ودعا ، فجاء جبريل يوماً ، فدعا بيده ، ثم قال : قم ، فقام ، فنحاه عن مكانه ، وقال : اركض برجلك هذا مغتسل بارد ، وشراب ، فركض برجله ، فنبعت عين ، فقال : اغتسل ، فاغتسل منها ، ثم جاء أيضاً ، فقال : اركض برجلك ، فنبعت عين أخرى فقال له : اشرب منها ، وهو قوله : { اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } ، وألبسه الله حلة من الجنة ، فتنحى أيوب ، فجلس في ناحية ، وجاءت امرأته ، فلم تعرفه ، فقالت : يا عبد الله أين المبتلي الذي كان ها هنا؟ لعل الكلاب قد ذهبت به ، أو الذئاب ، وجعلت تكلمه ساعة ، فقال : ويحك أنا أيوب قد ردّ الله عليّ جسدي ، ورد عليه ماله ، وولده عياناً ، ومثلهم معهم ، وأمطر عليه جراداً من ذهب ، فجعل يأخذ الجراد بيده ، ثم يجعله في ثوبه ، وينشر كساءه ، ويأخذه ، فيجعل فيه ، فأوحى الله إليه : يا أيوب أما شبعت؟ قال : يا رب من ذا الذي يشبع من فضلك ، ورحمتك؟ وفي هذا نكارة شديدة ، فإن الله سبحانه لا يمكن الشيطان من نبي من أنبيائه ، ويسلط عليه هذا التسليط العظيم .
وأخرج أحمد في الزهد ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر عن ابن عباس قال : إن إبليس قعد على الطريق ، وأخذ تابوتاً يداوي الناس ، فقالت امرأة أيوب : يا عبد الله إن ها هنا مبتلى من أمره كذا وكذا ، فهل لك أن تداويه؟ قال : نعم بشرط إن أنا شفيته أن يقول : أنت شفيتني لا أريد منه أجراً غيره . فأتت أيوب ، فذكرت له ذلك ، فقال : ويحك ذاك الشيطان ، لله عليّ إن شفاني الله أن أجلدك مائة جلدة ، فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثاً ، فيضربها به ، فأخذ عذقاً فيه مائة شمراخ ، فضربها ضربة واحدة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عنه في قوله : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً } قال : هو الأسل .
وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال : الضغث : القبضة من المرعى الرطب . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : الضغث : الحزمة . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والطبراني ، وابن عساكر من طريق أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال : « حملت وليدة في بني ساعدة من زنا ، فقيل لها : ممن حملك؟ قالت : من فلان المقعد ، فسئل المقعد ، فقال : صدقت . فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : » خذوا عثكولاً فيه مائة شمراخ ، فاضربوه به ضربة واحدة « وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والطبراني ، وابن عساكر نحوه من طريق أخرى عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، عن سعيد بن سعد بن عبادة . وأخرج الطبراني عن سهل بن سعد نحوه . وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود قال : أيوب رأس الصابرين يوم القيامة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أُوْلِى الأيدى } قال : القوّة في العبادة { والأبصار } قال : الفقه في الدين . وأخرج ابن أبي حاتم عنه { أُوْلِى الأيدى } قال : النعمة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { إِنَّا أخلصناهم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار } قال : أخلصوا بذكر دار الآخرة أن يعملوا لها .
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
قوله : { هذا } قال الزجاج : هذا خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر هذا ، فيوقف على هذا . قال ابن الأنباري : وهذا وقف حسن ، ثم يبتدىء { وَإِنَّ للطاغين } ، ويجوز أن يكون هذا مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : هذا كما ذكر ، أو هذا ذكر . ثم ذكر سبحانه ما لأهل الشرّ بعد أن ذكر ما لأهل الخير ، فقال : { وَإِنَّ للطاغين لَشَرَّ مَآبٍ } أي : الذين طغوا على الله ، وكذبوا رسله { لَشَرَّ مَئَابٍ } لشر منقلب ينقلبون إليه ، ثم بيّن ذلك ، فقال : { جَهَنَّم يَصْلَوْنَهَا } ، وانتصاب { جهنم } على أنها بدل من { شرّ مآب } ، أو منصوبة بأعني ، ويجوز أن يكون عطف بيان على قول البعض كما سلف قريباً ، ويجوز أن يكون منصوباً على الاشتغال ، أي : يصلون جهنم يصلونها ، ومعنى { يصلونها } : يدخلونها ، وهو في محل نصب على الحالية { فَبِئْسَ المهاد } أي : بئس ما مهدوا لأنفسهم ، وهو الفراش ، مأخوذ من مهد الصبي ، ويجوز أن يكون المراد بالمهد الموضع ، والمخصوص بالذمّ محذوف ، أي : بئس المهاد هي كما في قوله : { لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ } [ الأعراف : 41 ] شبه الله سبحانه ما تحتهم من نار جهنم بالمهاد { هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } هذا في موضع رفع بالابتداء ، وخبره حميم ، وغساق على التقديم والتأخير ، أي : هذا حميم ، وغساق ، فليذوقوه . قال الفراء ، والزجاج : تقدير الآية : هذا حميم وغساق فليذوقوه ، أو يقال لهم في ذلك اليوم هذه المقالة . والحميم : الماء الحارّ الذي قد انتهى حرّه ، والغساق : ما سال من جلود أهل النار من القيح ، والصديد ، من قولهم : غسقت عينه إذا انصبت ، والغسقان : الانصباب . قال النحاس : ويجوز أن يكون المعنى : الأمر هذا ، وارتفاع حميم وغساق على أنهما خبران لمبتدأ محذوف ، أي : هو حميم ، وغساق ، ويجوز أن يكون هذا في موضع نصب بإضمار فعل يفسره ما بعده ، أي : ليذوقوا هذا ، فليذوقوه ، ويجوز أن يكون حميم مرتفع على الابتداء ، وخبره مقدّر قبله ، أي : منه حميم ، ومنه غساق ، ومثله قول الشاعر :
حتى إذا ما أضاء البرق في غلس ... وغودر البقل ملويّ ومخضود
أي : منه ملويّ ، ومنه مخضود ، وقيل : الغساق ما قتل ببرده ، ومنه قيل : لليل غاسق ، لأنه أبرد من النهار ، وقيل : هو الزمهرير ، وقيل : الغساق : المنتن ، وقيل : الغساق : عين في جهنم يسيل منه كلّ ذوب حية ، وعقرب . وقال قتادة : هو ما يسيل من فروج النساء الزواني ، ومن نتن لحوم الكفرة ، وجلودهم . وقال محمد بن كعب : هو : عصارة أهل النار ، وقال السدي : الغساق : الذي يسيل من دموع أهل النار يسقونه مع الحميم ، وكذا قال ابن زيد . وقال مجاهد ، ومقاتل : هو الثلج البارد الذي قد انتهى برده ، وتفسير الغساق بالبارد أنسب بما تقتضيه لغة العرب ، ومنه قول الشاعر :
إذا ما تذكرت الحياة وطيبها ... إليّ جرى دمع من الليل غاسق
أي : بارد ، وأنسب أيضاً بمقابلة الحميم . وقرأ أهل المدينة ، وأهل البصرة ، وبعض الكوفيين بتخفيف السين من ( غساق ) ، وقرأ يحيى بن وثاب ، والأعمش ، وحمزة بالتشديد ، وهما لغتان بمعنى واحد كما قال الأخفش . وقيل : معناهما مختلف؛ فمن خفف ، فهو اسم مثل عذاب ، وجواب ، وصواب ، ومن شدّد قال : هو اسم فاعل للمبالغة نحو ضرّاب ، وقتال { وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ } قرأ الجمهور : { وآخر } مفرد مذكر ، وقرأ أبو عمرو : « وأخر » بضم الهمزة على أنه جمع ، وأنكر قراءة الجمهور لقوله أزواج ، وأنكر عاصم الجحدري قراءة أبي عمرو ، وقال : لو كانت كما قرأ لقال : من شكلها ، وارتفاع آخر على أنه مبتدأ ، وخبره أزواج ، ويجوز أن يكون من شكله خبراً مقدّماً ، وأزواج مبتدأ مؤخراً ، والجملة خبر آخر ، ويجوز أن يكون خبراً آخر مقدراً ، أي : وآخر لهم ، و { مِن شَكْلِهِ أزواج } جملة مستقلة؛ ومعنى الآية على قراءة الجمهور : وعذاب آخر ، أو مذوق آخر ، أو نوع آخر من شكل العذاب ، أو المذوق ، أو النوع الأوّل ، والشكل المثل ، وعلى القراءة الثانية يكون معنى الآية : ومذوقات أخر ، أو أنواع أخر من شكل ذلك المذوق ، أو النوع المتقدّم . وإفراد الضمير في شكله على تأويل المذكور ، أي : من شكل المذكور ، ومعنى { أزواج } : أجناس ، وأنواع وأشباه . وحاصل معنى الآية : أن لأهل النار حميماً ، وغساقاً ، وأنواعاً من العذاب من مثل الحميم ، والغساق . قال الواحدي : قال المفسرون : هو : الزمهرير ، ولا يتمّ هذا الذي حكاه عن المفسرين إلا على تقدير أن الزمهرير أنواع مختلفة ، وأجناس متفاوتة؛ ليطابق معنى أزواج ، أو على تقدير أن لكلّ فرد من أهل النار زمهريراً . { هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } الفوج : الجماعة ، والاقتحام . الدخول ، وهذا حكاية لقول الملائكة الذين هم خزنة النار ، وذلك أن القادة والرؤساء إذا دخلوا النار ، ثم دخل بعدهم الأتباع . قالت الخزنة للقادة : هذا فوج ، يعنون : الأتباع { مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } أي : داخل معكم إلى النار ، وقوله : { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ } من قول القادة والرؤساء لما قالت لهم الخزنة ذلك قالوا : لا مرحباً بهم ، أي : لا اتسعت منازلهم في النار ، والرحب : السعة ، والمعنى : لا كرامة لهم ، وهذا إخبار من الله سبحانه بانقطاع المودة بين الكفار ، وأن المودّة التي كانت بينهم تصير عداوة . وجملة لا مرحباً بهم دعائية لا محل لها من الإعراب ، أو صفة للفوج ، أو حال منه ، أو بتقدير القول ، أي : مقولاً في حقهم لا مرحباً بهم . وقيل : إنها من تمام قول الخزنة . والأوّل أولى كما يدل عليه جواب الأتباع الآتي ، وجملة : { إِنَّهُمْ صَالُو النار } تعليل من جهة القائلين : لا مرحباً بهم ، أي : إنهم صالوا النار كما صليناها ، ومستحقون لها كما استحقيناها .
وجملة : { قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، أي : قال الأتباع عند سماع ما قاله الرؤساء لهم : بل أنتم لا مرحباً بكم ، أي : لا كرامة لكم ، ثم عللوا ذلك بقولهم : { أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا } أي : أنتم قدّمتم العذاب أو الصليّ لنا ، وأوقعتمونا فيه ، ودعوتمونا إليه بما كنتم تقولون لنا من أن الحقّ ما أنتم عليه ، وأن الأنبياء غير صادقين فيما جاءوا به { بِئْسَ القرار } أي : بئس المقرّ جهنم لنا ، ولكم . ثم حكي عن الأتباع أيضاً : أنهم أردفوا هذا القول بقول آخر ، وهو : { قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النار } أي : زده عذاباً ذا ضعف ، والضعف بأن يزيد عليه مثله ، ومعنى من { قدّم لنا هذا } : من دعانا إليه ، وسوّغه لنا . قال الفراء : المعنى : من سوّغ لنا هذا ، وسنه ، وقيل : معناه : قدّم لنا هذا العذاب بدعائه إيانا إلى الكفر ، فزده عذاباً ضعفاً في النار ، أي : عذاباً بكفره ، وعذاباً بدعائه إيانا ، فصار ذلك ضعفاً ، ومثله قوله سبحانه : { رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مّنَ النار } [ الأعراف : 38 ] وقوله : { رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب } [ الأحزاب : 68 ] وقيل : المراد بالضعف هنا : الحيات ، والعقارب . { وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الأشرار } قيل : هو من قول الرؤساء ، وقيل : من قول الطاغين المذكورين سابقاً . قال الكلبي : ينظرون في النار ، فلا يرون من كان يخالفهم من المؤمنين معهم فيها ، فعند ذلك قالوا : ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدّهم من الأشرار . وقيل : يعنون : فقراء المؤمنين كعمار ، وخباب ، وصهيب ، وبلال ، وسالم ، وسلمان . وقيل : أرادوا أصحاب محمد على العموم { أتخذناهم سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصار } قال مجاهد : المعنى : أتخذناهم سخرياً في الدنيا ، فأخطأنا ، أم زاغت عنهم الأبصار ، فلم نعلم مكانهم؟ والإنكار المفهوم من الاستفهام متوجه إلى كل واحد من الأمرين . قال الحسن : كل ذلك قد فعلوا : اتخذوهم سخرياً ، وزاغت عنهم أبصارهم . قال الفراء : والاستفهام هنا بمعنى : التوبيخ ، والتعجب . قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وابن كثير ، والأعمش بحذف همزة اتخذناهم في الوصل . وهذه القراءة تحتمل أن يكون الكلام خبراً محضاً ، وتكون الجملة في محل نصب صفة ثانية ل { رجالاً } ، وأن يكون المراد : الاستفهام ، وحذفت أداته لدلالة أم عليها ، فتكون أم على الوجه الأوّل منقطعة بمعنى : بل ، والهمزة ، أي : بل أزاغت عنهم الأبصار على معنى : توبيخ أنفسهم على الاستسخار ، ثم الإضراب ، والانتقال منه إلى التوبيخ على الازدراء ، والتحقير ، وعلى الثاني أم هي المتصلة . وقرأ الباقون بهمزة استفهام سقطت لأجلها همزة الوصل ، ولا محل للجملة حينئذٍ ، وفيه التوبيخ لأنفسهم على الأمرين جميعاً؛ لأن أم على هذه القراءة هي للتسوية . وقرأ أبو جعفر ، ونافع ، وشيبة ، والمفضل ، وهبيرة ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي : ( سخرياً ) بضم السين ، وقرأ الباقون بكسرها .
قال أبو عبيدة : من كسر جعله من الهزء ، ومن ضم جعله من التسخير ، والإشارة بقوله : { إِنَّ ذلك } إلى ما تقدّم من حكاية حالهم ، وخبر إنّ قوله : { لَحَقُّ } أي : لواقع ثابت في الدار الآخرة لا يتخلف ألبتة ، و { تَخَاصُمُ أَهْلِ النار } خبر مبتدأ محذوف ، والجملة بيان لذلك ، وقيل : بيان لحقّ ، وقيل : بدل منه ، وقيل : بدل من محل ذلك ، ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر ، وهذا على قراءة الجمهور برفع تخاصم . والمعنى : إن ذلك الذي حكاه الله عنهم لحقّ لا بدّ أن يتكلموا به ، وهو تخاصم أهل النار فيها ، وما قالته الرؤساء للأتباع ، وما قالته الأتباع لهم . وقرأ ابن أبي عبلة بنصب : «تخاصم» على أنه بدل من ذلك ، أو بإضمار أعني . وقرأ ابن السميفع : «تخاصم» بصيغة الفعل الماضي ، فتكون جملة مستأنفة . ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول قولاً جامعاً بين التخويف ، والإرشاد إلى التوحيد ، فقال : { قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ } أي : مخوّف لكم من عقاب الله ، وعذابه { وَمَا مِنْ إله } يستحق العبادة { إِلاَّ الله الواحد } الذي لا شريك له { القهار } لكل شيء سواه . { رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } من المخلوقات { العزيز } الذي لا يغالبه مغالب { الغفار } لمن أطاعه ، وقيل : معنى { العزيز } : المنيع الذي لا مثل له ، ومعنى { الغفار } : الستار لذنوب خلقه . ثم أمره سبحانه أن يبالغ في إنذارهم ، ويبين لهم عظم الأمر ، وجلالته ، فقال : { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } أي : ما أنذرتكم به من العقاب وما بينته لكم من التوحيد هو خبر عظيم ، ونبأ جليل ، من شأنه العناية به ، والتعظيم له ، وعدم الاستخفاف به ، ومثل هذه الآية قوله : { عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النبإ العظيم } [ النبأ : 1 ، 2 ] ، وقال مجاهد ، وقتادة ، ومقاتل : هو : القرآن ، فإنه نبأ عظيم؛ لأنه كلام الله . قال الزجاح : قل : النبأ الذي أنبأتكم به عن الله نبأ عظيم ، يعني : ما أنبأهم به من قصص الأولين ، وذلك دليل على صدقه ، ونبوّته؛ لأنه لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله ، وجملة { أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } توبيخ لهم ، وتقريع لكونهم أعرضوا عنه ، ولم يتفكروا فيه ، فيعلموا صدقه ، ويستدلوا به على ما أنكروه من البعث . وقوله : { مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى } استئناف مسوق لتقرير أنه نبأ عظيم ، والملأ الأعلى هم : الملائكة { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } أي : وقت اختصامهم؛ فقوله : { بالملإ الأعلى } متعلق بعلم على تضمينه معنى : الإحاطة ، وقوله : { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } متعلق بمحذوف ، أي : ما كان لي فيما سبق علم بوجه من الوجوه بحال الملأ الأعلى وقت اختصامهم ، والضمير في { يختصمون } راجع إلى الملأ الأعلى ، والخصومة الكائنة بينهم هي في أمر آدم كما يفيده ما سيأتي قريباً .
وجملة : { إِن يوحى إِلَىَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } معترضة بين اختصامهم المجمل ، وبين تفصيله بقوله : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة } . والمعنى : ما يوحى إليّ إلا أنما أنا نذير مبين . قال الفراء : المعنى : ما يوحى إليّ إلا أنني نذير مبين أبين لكم ما تأتون من الفرائض ، والسنن ، وما تدعون من الحرام ، والمعصية . قال : كأنك قلت : ما يوحى إليّ إلا الإنذار . قال النحاس : ويجوز أن تكون في محل نصب ، بمعنى : ما يوحى إليّ إلا لأنما أنا نذير مبين . قرأ الجمهور بفتح همزة أنما على أنها وما في حيزها في محل رفع لقيامها مقام الفاعل ، أي : ما يوحى إليّ إلا الإنذار ، أو إلا كوني نذيراً مبيناً ، أو في محل نصب ، أو جرّ بعد إسقاط لام العلة ، والقائم مقام الفاعل على هذا الجارّ والمجرور . وقرأ أبو جعفر بكسر الهمزة؛ لأن في الوحي معنى القول ، وهي : القائمة مقام الفاعل على سبيل الحكاية ، كأنه قيل : ما يوحى إليّ إلا هذه الجملة المتضمنة لهذا الإخبار ، وهو أن أقول لكم إنما أنا نذير مبين . وقيل : إن الضمير في { يختصمون } عائد إلى قريش؛ يعني : قول من قال منهم : الملائكة بنات الله ، والمعنى : ما كان لي علم بالملائكة إذ تختصم فيهم قريش ، والأوّل أولى .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وَغَسَّاقٌ } قال : الزمهرير { وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ } قال : من نحوه { أزواج } قال : ألوان من العذاب . وأخرج أحمد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا » قال الترمذي بعد إخراجه : لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد . قلت : ورشدين فيه مقال معروف . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن ابن مسعود في قوله : { فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النار } قال : أفاعي ، وحيات . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { بالملإ الأعلى } قال : الملائكة حين شوروا في خلق آدم ، فاختصموا فيه ، وقالوا : لا تجعل في الأرض خليفة . وأخرج محمد بن نصر في كتاب الصلاة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } قال : هي : الخصومة في شأن آدم حيث قالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } [ البقرة : 30 ] . وأخرج عبد الرزاق ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وحسنه ، وابن نصر في كتاب الصلاة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتاني الليلة ربي في أحسن صورة ، أحسبه قال في المنام - قال : يا محمد ، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : لا ، فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدت بردها بين ثديّي ، أو في نحري ، فعلمت ما في السموات ، والأرض ، ثم قال لي : يا محمد ، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : نعم في الكفارات ، والكفارات : المكث في المساجد بعد الصلوات ، والمشي على الأقدام إلى الجماعات ، وإبلاغ الوضوء في المكاره »
، الحديث . وأخرج الترمذي وصححه ، ومحمد بن نصر ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه من حديث معاذ بن جبل نحوه بأطول منه ، وقال : « وإسباغ الوضوء في السبرات » وأخرج الطبراني ، وابن مردويه من حديث جابر بن سمرة نحوه بأخصر منه . وأخرجا أيضاً من حديث أبي هريرة نحوه ، وفي الباب أحاديث .
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
لما ذكر سبحانه خصومة الملائكة إجمالاً فيما تقدّم ذكرها هنا تفصيلاً ، فقال : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة } « إذ » هذه هي بدل من { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } لاشتمال ما في حيز هذه على الخصومة . وقيل : هي منصوبة بإضمار اذكر ، والأوّل أولى إذا كانت خصومة الملائكة في شأن من يستخلف في الأرض . وأما إذا كانت في غير ذلك مما تقدّم ذكره ، فالثاني أولى { إِنّى خالق بَشَراً مّن طِينٍ } أي : خالق فيما سيأتي من الزمن { بَشَرًا } أي : جسماً من جنس البشر مأخوذ من مباشرته للأرض ، أو من كونه بادي البشرة . وقوله : { مِن طِينٍ } متعلق بمحذوف هو : صفة لبشر ، أو بخالق ، ومعنى { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } : صوّرته على صورة البشر ، وصارت أجزاؤه مستوية { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } أي : من الروح الذي أملكه ، ولا يملكه غيري . وقيل : هو تمثيل ، ولا نفخ ، ولا منفوخ فيه . والمراد : جعله حياً بعد أن كان جماداً لا حياة فيه . وقد مرّ الكلام في هذا في سورة النساء { فَقَعُواْ لَهُ ساجدين } هو أمر من وقع يقع ، وانتصاب { ساجدين } على الحال ، والسجود هنا هو : سجود التحية لا سجود العبادة ، وقد مضى تحقيقه في سورة البقرة . { فَسَجَدَ الملائكة } في الكلام حذف تدلّ عليه الفاء ، والتقدير : فخلقه ، فسوّاه ، ونفخ فيه من روحه ، فسجد له الملائكة . وقوله : { كُلُّهُمْ } يفيد أنهم سجدوا جميعاً ، ولم يبق منهم أحد . وقوله : { أَجْمَعُونَ } يفيد أنهم اجتمعوا على السجود في وقت واحد ، فالأوّل : لقصد الإحاطة ، والثاني : لقصد الاجتماع . قال في الكشاف : فأفادا معاً أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا سجد ، وأنهم سجدوا جميعاً في وقت واحد غير متفرّقين في أوقات . وقيل : إنه أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم { إِلاَّ إِبْلِيسَ } الاستثناء متصل على تقدير : أنه كان متصفاً بصفات الملائكة داخلاً في عدادهم ، فغلبوا عليه ، أو منقطع على ما هو الظاهر من عدم دخوله فيهم ، أي : لكن إبليس { استكبر } أي : أنف من السجود جهلاً منه بأنه طاعة لله ، وكان استكباره استكبار كفر ، فلذلك { كَانَ مِنْ الكافرين } أي : صار منهم بمخالفته لأمر الله ، واستكباره عن طاعته ، أو كان من الكافرين في علم الله سبحانه ، وقد تقدّم الكلام على هذا مستوفى في سورة البقرة ، والأعراف ، وبني إسرائيل ، والكهف ، وطه . ثم إن الله سبحانه سأله عن سبب تركه للسجود الذي أمره به فقال : { يَاإِبْلِيسَ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } أي : ما صرفك ، وصدّك عن السجود لما توليت خلقه من غير واسطة؟ وأضاف خلقه إلى نفسه تكريماً له ، وتشريفاً ، مع أنه سبحانه خالق كل شيء كما أضاف إلى نفسه الروح ، والبيت ، والناقة ، والمساجد .
قال مجاهد : اليد هنا بمعنى : التأكيد ، والصلة مجازاً كقوله : { ويبقى وَجْهُ رَبّكَ } [ الرحمن : 27 ] . وقيل : أراد باليد القدرة ، يقال : ما لي بهذا الأمر يد ، وما لي به يدان أي : قدرة ، ومنه قول الشاعر :
تحملت من عفراء ما ليس لي به ... ولا للجبال الراسيات يدان
وقيل : التثنية في اليد للدلالة على أنها ليس بمعنى : القوّة ، والقدرة ، بل للدلالة على أنهما صفتان من صفات ذاته سبحانه ، و «ما» في قوله : { لِمَا خَلَقْتُ } هي : المصدرية ، أو الموصولة . وقرأ الجحدري : ( لما ) بالتشديد مع فتح اللام على أنها ظرف بمعنى : حين كما قال أبو عليّ الفارسي . وقرىء : " بيدي " على الإفراد { أَسْتَكْبَرْتَ } قرأ الجمهور بهمزة الاستفهام ، وهو استفهام توبيخ ، وتقريع و { أَمْ } متصلة . وقرأ ابن كثير في رواية عنه ، وأهل مكة بألف وصل ، ويجوز أن يكون الاستفهام مراداً ، فيوافق القراءة الأولى كما في قول الشاعر :
تروح من الحيّ أم تبتكر ... وقول الآخر :
بسبع رمين الجمر أم بثمانيا ... ويحتمل أن يكون خبراً محضاً من غير إرادة للاستفهام ، فتكون «أم» منقطعة ، والمعنى : استكبرت عن السجود الذي أمرت به بل أكُنتَ مِنَ العالين ، أي : المستحقين للترفع عن طاعة أمر الله المتعالين عن ذلك ، وقيل : المعنى : استكبرت عن السجود الآن ، أم لم تزل من القوم الذين يتكبرون عن ذلك؟ وجملة : { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، ادّعى اللعين لنفسه : أنه خير من آدم ، وفي ضمن كلامه هذا : أن سجود الفاضل للمفضول لا يحسن . ثم علل ما ادّعاه من كونه خيراً منه بقوله : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } ، وفي زعمه أن عنصر النار أشرف من عنصر الطين ، وذهب عنه أن النار إنما هي بمنزلة الخادم لعنصر الطين إن احتيج إليها استدعيت كما يستدعى الخادم ، وإن استغنى عنها طردت ، وأيضاً فالطين يستولي على النار ، فيطفئها ، وأيضاً فهي لا توجد إلا بما أصله من عنصر الأرض ، وعلى كل حال ، فقد شرّف آدم بشرف ، وكرّم بكرامة لا يوازيها شيء من شرف العناصر ، وذلك أن الله خلقه بيديه ، ونفخ فيه من روحه ، والجواهر في أنفسها متجانسة ، وإنما تشرف بعارض من عوارضها . وجملة : { قَالَ فاخرج مِنْهَا } مستأنفة كالتي قبلها ، أي : فاخرج من الجنة ، أو من زمرة الملائكة ، ثم علل أمره بالخروج بقوله : { فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } أي : مرجوم بالكواكب مطرود من كل خير { وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إلى يَوْمِ الدين } أي : طردي لك عن الرحمة ، وإبعادي لك منها ، ويوم الدين يوم الجزاء ، فأخبر سبحانه وتعالى : أن تلك اللعنة مستمرّة له دائمة عليه ما دامت الدنيا ، ثم في الآخرة يلقى من أنواع عذاب الله ، وعقوبته ، وسخطه ما هو به حقيق ، وليس المراد : أن اللعنة تزول عنه في الآخرة ، بل هو ملعون أبداً ، ولكن لما كان له في الآخرة ما ينسى عنده اللعنة ، ويذهل عند الوقوع فيه منها صارت كأنها لم تكن بجنب ما يكون فيه ، وجملة : { قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } مستأنفة كما تقدّم فيما قبلها أي : أمهلني ، ولا تعاجلني إلى غاية هي يوم يبعثون : يعني : آدم ، وذريته { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين } أي : الممهلين { إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } الذي قدّره الله لفناء الخلائق ، وهو عند النفخة الآخرة ، وقيل : هو النفخة الأولى .
قيل : إنما طلب إبليس الإنظار إلى يوم البعث؛ ليتخلص من الموت ، لأنه إذا أنظر إلى يوم البعث لم يمت قبل البعث ، وعند مجيء البعث لا يموت ، فحينئذٍ يتخلص من الموت . فأجيب بما يبطل مراده ، وينقض عليه مقصده ، وهو الإنظار إلى يوم الوقت المعلوم ، وهو الذي يعلمه الله ، ولا يعلمه غيره . فلما سمع اللعين إنظار الله له إلى ذلك الوقت قال { فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } فأقسم بعزّة الله أنه يضلّ بني آدم بتزيين الشهوات لهم ، وإدخال الشبه عليهم حتى يصيروا غاوين جميعاً . ثم لما علم أن كيده لا ينجع إلا في أتباعه ، وأحزابه من أهل الكفر ، والمعاصي ، استثنى من لا يقدر على إضلاله ، ولا يجد السبيل إلى إغوائه ، فقال : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } أي : الذين أخلصتهم لطاعتك ، وعصمتهم من الشيطان الرجيم ، وقد تقدّم تفسير هذه الآيات في سورة الحجر ، وغيرها . وقد أقسم ها هنا بعزّة الله ، وأقسم في موضع آخر بقوله : { فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى } [ الأعراف : 16 ] ولا تنافي بين القسمين ، فإن إغواءه إياه من آثار عزّته سبحانه ، وجملة { قَالَ فالحق والحق أَقُولُ } مستأنفة كالجمل التي قبلها . قرأ الجمهور بنصب الحق في الموضعين على أنه مقسم به حذف منه حرف القسم ، فانتصب ، أو هما منصوبان على الإغراء ، أي : الزموا الحق ، أو مصدران مؤكدان لمضمون قوله : { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ } ، وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، والأعمش ، وعاصم ، وحمزة برفع الأوّل ، ونصب الثاني ، فرفع الأوّل على أنه مبتدأ ، وخبره مقدّر ، أي : فالحق مني ، أو فالحق أنا ، أو خبره : لأملأن ، أو هو خبر مبتدأ محذوف ، وأما نصب الثاني ، فبالفعل المذكور بعده أي : وأنا أقول الحق ، وأجاز الفراء ، وأبو عبيد أن يكون منصوباً بمعنى : حقاً لأملأنّ جهنم . واعترض عليهما بأن ما بعد اللام مقطوع عما قبلها . وروي عن سيبويه ، والفراء أيضاً : أن المعنى : فالحق أن إملاء جهنم . وروي عن ابن عباس ، ومجاهد : أنهما قرآ برفعها ، فرفع الأوّل على ما تقدّم ، ورفع الثاني بالابتداء ، وخبره الجملة المذكورة بعده ، والعائد محذوف . وقرأ ابن السميفع ، وطلحة بن مصرف بخفضهما على تقدير حرف القسم . قال الفراء : كما يقول الله عزّ وجلّ : لأفعلنّ كذا ، وغلطه أبو العباس ثعلب وقال : لا يجوز الخفض بحرف مضمر ، وجملة { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ } جواب القسم على قراءة الجمهور ، وجملة : { والحق أَقُولُ } معترضة بين القسم ، وجوابه ، ومعنى { مِنكَ } أي : من جنسك من الشياطين { وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } أي : من ذرّية آدم ، فأطاعوك إذ دعوتهم إلى الضلال ، والغواية و { أَجْمَعِينَ } تأكيد للمعطوف ، والمعطوف عليه ، أي : لأملأنها من الشياطين ، وأتباعهم أجمعين .
ثم أمر الله سبحانه رسوله : أن يخبرهم بأنه إنما يريد بالدعوة إلى الله امتثال أمره لا عرض الدنيا الزائل ، فقال : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } والضمير في : { عليه } راجع إلى تبليغ الوحي ، ولم يتقدّم له ذكر ، ولكنه مفهوم من السياق . وقيل : هو عائد إلى ما تقدّم من قوله : { أَءنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا } [ ص : 8 ] وقيل : الضمير راجع إلى القرآن ، وقيل : إلى الدّعاء إلى الله على العموم ، فيشمل القرآن ، وغيره من الوحي ، ومن قول الرسول صلى الله عليه وسلم . والمعنى : ما أطلب منكم من جعل تعطونيه عليه { وَمَا أَنَا مِنَ المتكلفين } حتى أقول ما لا أعلم إذ أدعوكم إلى غير ما أمرني الله بالدعوّة إليه ، والتكلف : التصنع . { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين } أي : ما هذا القرآن ، أو الوحي ، أو ما أدعوكم إليه إلا ذكر من الله عزّ وجلّ للجنّ ، والإنس . قال الأعمش : ما القرآن إلا موعظة للخلق أجمعين { وَلَتَعْلَمُنَّ } أيها الكفار { نَبَأَهُ } أي : ما أنبأ عنه ، وأخبر به من الدّعاء إلى الله ، وتوحيده ، والترغيب إلى الجنة ، والتحذير من النار { بَعْدَ حِينِ } قال قتادة ، والزجاج ، والفراء : بعد الموت . وقال عكرمة ، وابن زيد : يوم القيامة . وقال الكلبي : من بقي علم ذلك لما ظهر أمره ، وعلا ، ومن مات علمه بعد الموت . وقال السدّي : وذلك يوم بدر .
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } : أن الخصومة هي : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ } إلخ . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ في العظمة ، والبيهقي عن ابن عمر قال : خلق الله أربعاً بيده : العرش ، وجنة عدن ، والقلم ، وآدم . وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة ، وأبو الشيخ في العظمة ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن عبد الله بن الحارث قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خلق الله ثلاثة أشياء بيده : خلق آدم بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس الفردوس بيده » ، وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { فالحق والحق أَقُولُ } قال : أنا الحق أقول الحق . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } قال : قل يا محمد : { مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } ما أدعوكم إليه { مِنْ أَجْرٍ } عرض دنيا . وفي البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن مسروق قال : بينما رجل يحدّث في المسجد ، فقال فيما يقول :
{ يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } [ الدخان : 10 ] قال : دخان يكون يوم القيامة يأخذ بأسماع المنافقين ، وأبصارهم ، ويأخذ المؤمنين كهيئة الزكام ، قال : قمنا حتى دخلنا على عبد الله ، وهو في بيته ، وكان متكئاً ، فاستوى قاعداً ، فقال : يا أيها الناس من علم منكم علماً ، فليقل به ، ومن لم يعلم ، فليقل الله أعلم ، فإن من العلم أن يقول العالم لما لا يعلم : الله أعلم ، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المتكلفين } . وأخرج البخاري عن عمر قال : نهينا عن التكلف . وأخرج الطبراني ، والحاكم ، والبيهقي عن سلمان قال : نهانا رسول الله أن نتكلف للضيف .
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
قوله : { تَنزِيلُ الكتاب } ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف هو اسم إشارة ، أي : هذا تنزيل . وقال أبو حيان : إن المبتدأ المقدّر لفظ هو ليعود على قوله : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين } [ ص : 87 ] ، كأنه قيل : وهذا الذكر ما هو؟ فقيل : هو تنزيل الكتاب . وقيل : ارتفاعه على أنه مبتدأ ، وخبره الجارّ والمجرور بعده ، أي : تنزيل كائن من الله ، وإلى هذا ذهب الزجاج ، والفراء . قال الفراء : ويجوز أن يكون مرفوعاً بمعنى : هذا تنزيل ، وأجاز الفراء ، والكسائي النصب على أنه مفعول به لفعل مقدّر ، أي : اتبعوا ، أو اقرءوا تنزيل الكتاب . وقال الفراء : يجوز نصبه على الإغراء ، أي : الزموا ، والكتاب هو : القرآن ، وقوله : { مِنَ الله العزيز الحكيم } على الوجه الأوّل صلة للتنزيل ، أو خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو متعلق بمحذوف على أنه حال عمل فيه اسم الإشارة المقدّر { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق } الباء سببية متعلقة بالإنزال ، أي : أنزلناه بسبب الحقّ ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف هو : حال من الفاعل ، أي : ملتبسين بالحق ، أو من المفعول ، أي : ملتبساً بالحق ، والمراد كلّ ما فيه من إثبات التوحيد ، والنبوّة ، والمعاد ، وأنواع التكاليف . قال مقاتل : يقول : لم ننزله باطلاً لغير شيء { فاعبد الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، وانتصاب مخلصاً على الحال من فاعل اعبد ، والإخلاص : أن يقصد العبد بعمله وجه الله سبحانه ، والدين العبادة ، والطاعة ، ورأسها توحيد الله ، وأنه لا شريك له . قرأ الجمهور : { الدين } بالنصب على أنه مفعول مخلصاً . وقرأ ابن أبي عبلة برفعه على أن مخلصاً مسند إلى الدين على طريقة المجاز . قيل : وكان عليه أن يقرأ مخلصاً بفتح اللام . وفي الآية دليل على وجوب النية ، وإخلاصها عن الشوائب؛ لأن الإخلاص من الأمور القلبية التي لا تكون إلا بأعمال القلب ، وقد جاءت السنة الصحيحة أن ملاك الأمر في الأقوال ، والأفعال النية ، كما في حديث : « إنما الأعمال بالنيات » وحديث : « لا قول ولا عمل إلا بنية » وجملة { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص } مستأنفة مقرّرة لما قبلها من الأمر بالإخلاص ، أي : إن الدين الخالص من شوائب الشرك ، وغيره هو لله ، وما سواه من الأديان ، فليس بدين الله الخالص الذي أمر به . قال قتادة : الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله { والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } لما أمر سبحانه بعبادته على وجه الإخلاص ، وأن الدين الخالص له لا لغيره بيّن بطلان الشرك الذي هو مخالف للإخلاص ، والموصول عبارة عن المشركين ، ومحله الرفع على الابتداء ، وخبره قوله : { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } وجملة { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى } في محل نصب على الحال بتقدير القول ، والاستثناء مفرّغ من أعمّ العلل ، والمعنى : والذين لم يخلصوا العبادة لله ، بل شابوها بعبادة غيره قائلين : ما نعبدهم لشيء من الأشياء إلا ليقرّبونا إلى الله تقريباً ، والضمير في نعبدهم راجع إلى الأشياء التي كانوا يعبدونها من الملائكة ، وعيسى ، والأصنام ، وهم : المرادون بالأولياء ، والمراد بقولهم : { إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى } الشفاعة ، كما حكاه الواحدي عن المفسرين .
قال قتادة : كانوا إذا قيل لهم : من ربكم ، وخالقكم ، ومن خلق السموات ، والأرض ، وأنزل من السماء ماء؟ قالوا : الله ، فيقال لهم : ما معنى عبادتكم للأصنام؟ قالوا : ليقرّبونا إلى الله زلفى ، ويشفعوا لنا عنده . قال الكلبي : جواب هذا الكلام قوله في سورة الأحقاف : { فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً ءالِهَةَ } [ الأحقاف : 28 ] . والزلفى اسم أقيم مقام المصدر ، كأنه قال : إلا ليقرّبونا إلى الله تقريباً . وفي قراءة ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد : ( قالوا ما نعبدهم ) ، ومعنى { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أي : بين أهل الأديان يوم القيامة ، فيجازي كلا بما يستحقه . وقيل : بين المخلصين للدين ، وبين الذين لم يخلصوا ، وحذف الأوّل لدلالة الحال عليه ، ومعنى { فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } : في الذي اختلفوا فيه من الدين بالتوحيد ، والشرك ، فإن كلّ طائفة تدّعي أن الحقّ معها { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كاذب كَفَّارٌ } أي : لا يرشد لدينه ، ولا يوفق للاهتداء إلى الحقّ من هو كاذب في زعمه : أن الآلهة تقربه إلى الله ، وكفر باتخاذها آلهة ، وجعلها شركاء لله ، والكفار صيغة مبالغة تدلّ على أن كفر هؤلاء قد بلغ إلى الغاية . وقرأ الحسن ، والأعرج كذاب على صيغة المبالغة ككفار ، ورويت هذه القراءة عن أنس .
{ لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى } هذا مقرّر لما سبق من إبطال قول المشركين : بأن الملائكة بنات الله لتضمنه استحالة الولد في حقه سبحانه على الإطلاق ، فلو أراد أن يتخذ ولداً لامتنع اتخاذ الولد حقيقة ، ولم يتأتّ ذلك إلا بأن يصطفي { مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء } أي : يختار من جملة خلقه ما يشاء أن يصطفيه ، إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له ، ولا يصح أن يكون المخلوق ولداً للخالق لعدم المجانسة بينهما ، فلم يبق إلا أن يصطفيه عبداً كما يفيده التعبير بالاصطفاء مكان الاتخاذ؛ فمعنى الآية : لو أراد أن يتخذ ولداً لوقع منه شيء ليس هو من اتخاذ الولد ، بل إنما هو من الاصطفاء لبعض مخلوقاته ، ولهذا نزّه سبحانه نفسه عن اتخاذ الولد على الإطلاق ، فقال : { سبحانه } أي : تنزيهاً له عن ذلك ، وجملة { هُوَ الله الواحد القهار } مبينة لتنزّهه بحسب الصفات بعد تنزّهه بحسب الذات ، أي : هو المستجمع لصفات الكمال المتوحد في ذاته ، فلا مماثل له القهّار لكل مخلوقاته ، ومن كان متصفاً بهذه الصفات استحال وجود الولد في حقه ، لأن الولد مماثل لوالده ، ولا مماثل له سبحانه ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه :
{ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاتخذناه مِن لَّدُنَّا } [ الأنبياء : 17 ] ثم لما ذكر سبحانه كونه منزّهاً عن الولد بكونه إلها واحداً قهاراً ذكر ما يدل على ذلك من صفاته ، فقال : { خَلَقَ السموات والأرض بالحق } أي : لم يخلقهما باطلاً لغير شيء ، ومن كان هذا الخلق العظيم خلقه استحال أن يكون له شريك ، أو صاحبة ، أو ولد . ثم بيّن كيفية تصرفه في السموات ، والأرض ، فقال : { يُكَوّرُ اليل عَلَى النهار وَيُكَوّرُ النهار عَلَى اليل } التكوير في اللغة : طرح الشيء بعضه على بعض . يقال : كوّر المتاع : إذا ألقي بعضه على بعض ، ومنه كوّر العمامة؛ فمعنى تكوير الليل على النهار : تغشيته إياه حتى يذهب ضوؤه ، ومعنى تكوير النهار على الليل : تغشيته إياه حتى تذهب ظلمته ، وهو : معنى قوله تعالى : { يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثا } [ الأعراف : 54 ] هكذا قال قتادة ، وغيره . وقال الضحاك : أي : يلقي هذا على هذا ، وهذا على هذا ، وهو مقارب للقول الأوّل . وقيل : معنى الآية : أن ما نقص من الليل دخل في النهار ، وما نقص من النهار دخل في الليل ، وهو : معنى قوله : { يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل } [ الحج : 61 ] ، وقيل : المعنى : إن هذا يكرّ على هذا ، وهذا يكرّ على هذا كروراً متتابعاً . قال الراغب : تكوير الشيء إدارته ، وضم بعضه إلى بعض ككور العمامة ا ه . والإشارة بهذا التكوير المذكور في الآية إلى جريان الشمس في مطالعها ، وانتقاص الليل ، والنهار ، وازديادهما . قال الرازي : إن النور ، والظلمة عسكران عظيمان ، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك ، وذاك هذا؛ ثم ذكر تسخيره لسلطان النهار ، وسلطان الليل ، وهما : الشمس ، والقمر ، فقال : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } أي : جعلهما منقادين لأمره بالطلوع ، والغروب لمنافع العباد ، ثم بيّن كيفية هذا التسخير ، فقال : { كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى } أي : يجري في فلكه إلى أن تنصرم الدنيا ، وذلك يوم القيامة ، وقد تقدّم الكلام على الأجل المسمى لجريهما مستوفي في سورة «ياس» { أَلا هُوَ العزيز الغفار } ألا : حرف تنبيه ، والمعنى : تنبهوا أيها العباد ، فالله هو : الغالب الساتر لذنوب خلقه بالمغفرة .
ثم بيّن سبحانه نوعاً آخر من قدرته ، وبديع صنعه ، فقال : { خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة } ، وهي : نفس آدم { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } جاء بثمّ للدّلالة على ترتب خلق حواء على خلق آدم ، وتراخيه عنه؛ لأنها خلقت منه ، والعطف : إما على مقدّر هو صفة لنفس . قال الفراء ، والزجاج : التقدير خلقكم من نفس خلقها واحدة ، ثم جعل منها زوجها . ويجوز أن يكون العطف على معنى واحدة ، أي : من نفس انفردت ، ثم جعل إلخ ، والتعبير بالجعل دون الخلق مع العطف بثمّ للدّلالة على أن خلق حوّاء من ضلع آدم أدخل في كونه آية باهرة دالة على كمال القدرة ، لأن خلق آدم هو على عادة الله المستمرة في خلقه ، وخلقها على الصفة المذكورة لم تجر به عادة لكونه لم يخلق سبحانه أنثى من ضلع رجل غيرها ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الأعراف .
ثم بيّن سبحانه نوعاً آخر من قدرته الباهرة ، فقال : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعام ثمانية أزواج } ، وهو معطوف على خلقكم ، وعبر بالإنزال لما يروى : أنه خلقها في الجنة ، ثم أنزلها ، فيكون الإنزال حقيقة ، ويحتمل أن يكون مجازاً ، لأنها لم تعش إلا بالنبات ، والنبات إنما يعيش بالماء ، والماء منزل من السماء ، كانت الأنعام كأنها منزلة ، لأن سبب سببها منزل كما أطلق على السبب في قوله :
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
وقيل : إن أنزل بمعنى : أنشأ ، وجعل ، أو بمعنى : أعطى . وقيل : جعل الخلق إنزالاً ، لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء ، والثمانية الأزواج هي ما في قوله : { مّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين } [ الأنعام : 143 ] { وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين } [ الأنعام : 144 ] ويعني بالاثنين في الأربعة المواضع : الذكر ، والأنثى ، وقد تقدّم تفسير الآية في سورة الأنعام . ثم بيّن سبحانه نوعاً آخر من قدرته البديعة ، فقال : { يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أمهاتكم خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ } ، والجملة استئنافية لبيان ما تضمنته من الأطوار المختلفة في خلقهم ، وخلقاً مصدر مؤكد للفعل المذكور ، و { مّن بَعْدِ خَلْقٍ } صفة له ، أي : خلقاً كائناً من بعد خلق . قال قتادة ، والسدّي : نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظماً ، ثم لحماً . وقال ابن زيد : خلقكم خلقاً في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم ، وقوله : { فِى ظلمات ثلاث } متعلق بقوله : { يَخْلُقُكُمْ } ، وهذه الظلمات الثلاث هي : ظلمة البطن ، وظلمة الرّحم ، وظلمة المشيمة قاله مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك . وقال سعيد بن جبير : ظلمة المشيمة ، وظلمة الرّحم ، وظلمة الليل . وقال أبو عبيدة : ظلمة صلب الرجل ، وظلمة بطن المرأة ، وظلمة الرّحم ، والإشارة بقوله : { ذَلِكُمُ الله } إليه سبحانه باعتبار أفعاله السابقة ، والاسم الشريف خبره { رَبُّكُمْ } خبر آخر { لَهُ الملك } الحقيقي في الدنيا ، والآخرة لا شركة لغيره فيه ، وهو : خبر ثالث ، وقوله : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } خبر رابع { فأنى تُصْرَفُونَ } أي : فكيف تنصرفون عن عبادته ، وتنقلبون عنها إلى عبادة غيره . قرأ حمزة : ( إمهاتكم ) بكسر الهمزة ، والميم . وقرأ الكسائي بكسر الهمزة ، وفتح الميم . وقرأ الباقون بضم الهمزة ، وفتح الميم .
وقد أخرج ابن مردويه ، عن يزيد الرقاشي أن رجلاً قال : يا رسول الله إنا نعطي أموالنا التماس الذكر ، فهل لنا في ذلك من أجر؟ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا » قال : يا رسول الله إنما نعطي التماس الأجر والذكر فهل لنا أجر؟ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله لا يقبل إلا ما أخلص له » ثم تلا هذه الآية : { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { يُكَوّرُ اليل } قال : يحمل الليل . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ } قال : علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاماً { فِى ظلمات ثلاث } البطن ، والرحم ، والمشيمة .
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)
لما ذكر سبحانه النعم التي أنعم بها على عباده ، وبيّن لهم من بديع صنعه ، وعجيب فعله ما يوجب على كل عاقل أن يؤمن به عقبه بقوله : { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ } أي : غير محتاج إليكم ، ولا إلى إيمانكم ، ولا إلى عبادتكم له فإنه الغنيّ المطلق ، ومع كون كفر الكافر لا يضرّه كما أنه لا ينفعه إيمان المؤمن ، فهو أيضاً { لاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر } أي : لا يرضى لأحد من عباده الكفر ، ولا يحبه ، ولا يأمر به ، ومثل هذه الآية قوله : { إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى الأرض جَمِيعًا فَإِنَّ الله لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ } [ إبراهيم : 8 ] ، ومثلها ما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم : « يا عبادي لو أن أوّلكم ، وآخركم ، وإنسكم ، وجنكم كانوا على قلب أفجر رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً » وقد اختلف المفسرون في هذه الآية هل هي على عمومها ، وإن الكفر غير مرضيّ لله سبحانه على كل حال كما هو الظاهر ، أو هي خاصة؟ ، والمعنى : لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر ، وقد ذهب إلى التخصيص حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه كما سيأتي بيانه آخر البحث ، وتابعه على ذلك عكرمة ، والسدّي ، وغيرهما . ثم اختلفوا في الآية اختلافاً آخر . فقال قوم : إنه يريد كفر الكافر ، ولا يرضاه ، وقال آخرون : إنه لا يريده ، ولا يرضاه ، والكلام في تحقيق مثل هذا يطول جداً . وقد استدلّ القائلون بتخصيص هذه الآية ، والمثبتون للإرادة مع عدم الرضا بما ثبت في آيات كثيرة من الكتاب العزيز أنه سبحانه : { يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء } [ النحل : 93 ] { وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله } [ الإنسان : 30 ] ، ونحو هذا مما يؤدي معناه كثير في الكتاب العزيز . ثم لما ذكر سبحانه : أنه لا يرضى لعباده الكفر بيّن أنه يرضى لهم الشكر ، فقال : { وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } أي : يرض لكم الشكر المدلول عليه بقوله ، وإن تشكروا ، ويثبكم عليه ، وإنما رضي لهم سبحانه الشكر؛ لأنه سبب سعادتهم في الدنيا ، والآخرة كما قال سبحانه : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ } [ إبراهيم : 7 ] قرأ أبو جعفر ، وأبو عمرو ، وشيبة ، وهبير عن عاصم بإسكان الهاء من يرضه ، وأشبع الضمة على الهاء ابن ذكوان ، وابن كثير ، والكسائي ، وابن محيصن ، وورش عن نافع ، واختلس الباقون . { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } أي : لا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية مستوفى { ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ } يوم القيامة { فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } من خير ، وشر ، وفيه تهديد شديد { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي : بما تضمره القلوب ، وتستره ، فكيف بما تظهره ، وتبديه .
{ وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ } أيّ : ضر كان من مرض ، أو فقر ، أو خوف { دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ } أي : راجعاً إليه مستغيثاً به في دفع ما نزل به تاركاً لما كان يدعوه ، ويستغيث به من ميت ، أو حيّ ، أو صنم ، أو غير ذلك { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مّنْهُ } أي : أعطاه ، وملكه ، يقال : خوّله الشيء ، أي : ملكه إياه ، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد :
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا ... وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
ومنه قول أبي النجم :
أعطى ولم يبخل ولم يُبَخِّل ... كوم الذرى من خول المخوّل
{ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ } أي : نسي الضرّ الذي كان يدعو الله إلى كشفه عنه من قبل أن يخوله ما خوله . وقيل : نسي الدعاء الذي كان يتضرع به ، وتركه ، أو نسي ربه الذي كان يدعوه ، ويتضرّع إليه ، ثم جاوز ذلك إلى الشرك بالله ، وهو معنى قوله : { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً } أي : شركاء من الأصنام ، أو غيرها يستغيث بها ، ويعبدها { لّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ } أي : ليضل الناس عن طريق الله التي هي الإسلام ، والتوحيد . وقال السدّي : يعني : أنداداً من الرجال يعتمد عليهم في جميع أموره . ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم : أن يهدّد من كان متصفاً بتلك الصفة ، فقال : { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً } أي : تمتعاً قليلاً ، أو زماناً قليلاً ، فمتاع الدنيا قليل ، ثم علل ذلك بقوله : { إِنَّكَ مِنْ أصحاب النار } أي : مصيرك إليها عن قريب ، وفيه من التهديد أمر عظيم . قال الزجاج : لفظه لفظ الأمر ، ومعناه : التهديد ، والوعيد . قرأ الجمهور : { ليضل } بضم الياء ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بفتحها .
ثم لما ذكر سبحانه صفات المشركين ، وتمسكهم بغير الله عند اندفاع المكروهات عنهم ذكر صفات المؤمنين ، فقال : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء اليل } ، وهذا إلى آخره من تمام الكلام المأمور به رسول الله صلى الله عليه وسلم . والمعنى : ذلك الكافر أحسن حالاً ، ومآلاً ، أمن هو قائم بطاعات الله في السرّاء ، والضرّاء في ساعات الليل ، مستمرّ على ذلك ، غير مقتصر على دعاء الله سبحانه عند نزول الضرر به . قرأ الحسن ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم ، والكسائي : { أمن } بالتشديد ، وقرأ نافع ، وابن كثير ، وحمزة ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش بالتخفيف ، فعلى القراءة الأولى أم داخلة على من الموصولة ، وأدغمت الميم في الميم ، وأم هي المتصلة ، ومعادلها محذوف تقديره : الكافر خير أم الذي هو قانت . وقيل : هي المنقطعة المقدّرة ببل ، والهمزة ، أي : بل أمن هو قانت كالكافر ، وأما على القراءة الثانية ، فقيل : الهمزة للاستفهام دخلت على من ، والاستفهام للتقرير ، ومقابله محذوف ، أي : أمن هو قانت كمن كفر . وقال الفراء : إن الهمزة في هذه القراءة للنداء ، ومن منادى ، وهي عبارة عن النبي صلى الله عليه وسلم المأمور بقوله : { قل تمتع } ، والتقدير : يا من هو قانت ، قل : كيت ، وكيت .
وقيل : التقدير : يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة . ومن القائلين بأن الهمزة للنداء الفرّاء ، وضعف ذلك أبو حيان ، وقال : هو أجنبيّ عما قبله ، وعما بعده ، وقد سبقه إلى هذا التضعيف أبو عليّ الفارسي ، واعترض على هذه القراءة من أصلها أبو حاتم ، والأخفش ، ولا وجه لذلك ، فإنا إذا ثبتت الرواية بطلت الدّراية .
وقد اختلف في تفسير القانت هنا ، فقيل : المطيع . وقيل : الخاشع في صلاته . وقيل : القائم في صلاته . وقيل : الدّاعي لربه . قال النحاس : أصل القنوت الطاعة ، فكل ما قيل فيه ، فهو داخل في الطاعة ، والمراد بآناء الليل : ساعاته . وقيل : جوفه . وقيل : ما بين المغرب ، والعشاء ، وانتصاب { ساجدا وَقَائِماً } على الحال ، أي : جامعاً بين السجود ، والقيام ، وقدّم السجود على القيام لكونه أدخل في العبادة ، ومحل { يَحْذَرُ الأخرة } النصب على الحال أيضاً ، أي : يحذر عذاب الآخرة قاله سعيد بن جبير ، ومقاتل { وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ } ، فيجمع بين الرجاء ، والخوف ، وما اجتمعا في قلب رجل إلا فاز . قيل : وفي الكلام حذف ، والتقدير : كمن لا يفعل شيئاً من ذلك كما يدل عليه السياق . ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم قولاً آخر يتبين به الحقّ من الباطل ، فقال : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } أي : الذين يعلمون أن ما وعد الله به من البعث ، والثواب ، والعقاب حق ، والذين لا يعلمون ذلك ، أو الذين يعلمون ما أنزل الله على رسله ، والذين لا يعلمون ذلك ، أو المراد : العلماء والجهال ، ومعلوم عند كل من له عقل أنه لا استواء بين العلم والجهل ، ولا بين العالم والجاهل . قال الزجاج : أي كما لا يستوي الذين يعلمون ، والذين لا يعلمون ، كذلك لا يستوي المطيع ، والعاصي . وقيل : المراد بالذين يعلمون : هم : العاملون بعلمهم ، فإنهم المنتفعون به ، لأن من لم يعمل بمنزلة من لم يعلم { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب } أي : إنما يتعظ ، ويتدبر ، ويتفكر أصحاب العقول ، وهم المؤمنون لا الكفار ، فإنهم ، وإن زعموا أن لهم عقولاً ، فهي كالعدم ، وهذه الجملة ليست من جملة الكلام المأمور به بل من جهة الله سبحانه .
{ قُلْ ياعِبَادِ الذين ءامَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ } لما نفى سبحانه المساواة بين من يعلم ، ومن لا يعلم ، وبين أنه { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب } أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأمر المؤمنين من عباده بالثبات على تقواه ، والإيمان به . والمعنى : يا أيها الذين صدّقوا بتوحيد الله اتقوا ربكم بطاعته ، واجتناب معاصيه ، وإخلاص الإيمان له ، ونفي الشركاء عنه ، والمراد : قل لهم قولي هذا بعينه . ثم لما أمر الله سبحانه المؤمنين بالتقوى بين لهم ما في هذه التقوى من الفوائد ، فقال : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هذه الدنيا حَسَنَةٌ } أي : للذين عملوا الأعمال الحسنة في هذه الدنيا على وجه الإخلاص حسنة عظيمة ، وهي : الجنة ، وقوله : { فِى هذه الدنيا } متعلق بأحسنوا .
وقيل : هو متعلق بحسنة على أنه بيان لمكانها ، فيكون المعنى : للذين أحسنوا في العمل حسنة في الدنيا بالصحة ، والعافية ، والظفر ، والغنيمة ، والأوّل أولى . ثم لما كان بعض العباد قد يتعسر عليه فعل الطاعات ، والإحسان في وطنه أرشد الله سبحانه من كان كذلك إلى الهجرة ، فقال : { وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ } أي : فليهاجر إلى حيث يمكنه طاعة الله . والعمل بما أمر به ، والترك لما نهى عنه ، ومثل ذلك قوله سبحانه : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا } [ النساء : 97 ] ، وقد مضى الكلام في الهجرة مستوفى في سورة النساء . وقيل : المراد بالأرض هنا : أرض الجنة ، رغبهم في سعتها ، وسعة نعيمها كما في قوله : { جَنَّةُ عَرْضُهَا السموات والأرض } [ آل عمران : 133 ] ، والأوّل أولى .
ثم لما بيّن سبحانه ما للمحسنين إذا أحسنوا ، وكان لا بدّ في ذلك من الصبر على فعل الطاعة ، وعلى كفّ النفس عن الشهوات ، أشار إلى فضيلة الصبر ، وعظيم مقداره ، فقال : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : يوفيهم الله أجرهم في مقابلة صبرهم بغير حساب ، أي : بما لا يقدر على حصره حاصر ، ولا يستطيع حسبانه حاسب . قال عطاء : بما لا يهتدي إليه عقل ، ولا وصف . وقال مقاتل : أجرهم الجنة ، وأرزاقهم فيها بغير حساب . والحاصل : أن الآية تدلّ على أن ثواب الصابرين ، وأجرهم لا نهاية له ، لأن كل شيء يدخل تحت الحساب ، فهو : متناهٍ ، وما كان لا يدخل تحت الحساب ، فهو : غير متناه ، وهذه فضيلة عظيمة ، ومثوبة جليلة تقتضي أن على كل راغب في ثواب الله ، وطامع فيما عنده من الخير ، أن يتوفر على الصبر ، ويزّم نفسه بزمامه ، ويقيدها بقيده ، فإن الجزع لا يردّ قضاء قد نزل ، ولا يجلب خيراً قد سلب ، ولا يدفع مكروهاً قد وقع ، وإذا تصوّر العاقل هذا حقّ تصوره ، وتعقله حقّ تعقله علم أن الصابر على ما نزل به قد فاز بهذا الأجر العظيم ، وظفر بهذا الجزاء الخطير ، وغير الصابر قد نزل به القضاء شاء أم أبى ، ومع ذلك فاته من الأجر ما لا يقادر قدره ، ولا يبلغ مداه ، فضمّ إلى مصيبته مصيبة أخرى ، ولم يظفر بغير الجزع ، وما أحسن قول من قال :
أرى الصبر محموداً وعنه مذاهب ... فكيف إذا ما لم يكن عنه مذهب
هناك يحق الصبر والصبر واجب ... وما كان منه للضرورة أوجب
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بما أمر به من التوحيد ، والإخلاص ، فقال : { قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين } أي : أعبده عبادة خالصة من الشرك ، والرّياء ، وغير ذلك؛ قال مقاتل : إن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ما يحملك على الذي أتيتنا به ، ألا تنظر إلى ملة أبيك ، وجدّك ، وسادات قومك يعبدون اللات ، والعزّى ، فتأخذ بها؟ فأنزل الله الآية ، وقد تقدّم بيان معنى الآية في أوّل هذه السورة { وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين } أي : من هذه الأمة ، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم ، فإنه أوّل من خالف دين آبائه ، ودعا إلى التوحيد ، واللام للتعليل ، أي : وأمرت بما أمرت به لأجل أن أكون .
وقيل : إنها مزيدة للتأكيد ، والأوّل أولى .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ } يعني : الكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ، فيقولون لا إله إلا الله ، ثم قال : { وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر } ، وهم : عباده المخلصون الذين قال : { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان } [ الإسراء : 65 ] ، فألزمهم شهادة أن لا إله إلا الله ، وحببها إليهم . وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة { وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر } قال : لا يرضى لعباده المسلمين الكفر . وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة قال : والله ما رضي الله لعبد ضلالة ، ولا أمره بها ، ولا دعا إليها ، ولكن رضي لكم طاعته ، وأمركم بها ، ونهاكم عن معصيته . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، وابن عساكر عن ابن عمر : أنه تلا هذه الآية : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء اليل ساجدا وَقَائِماً يَحْذَرُ الأخرة } قال : ذاك عثمان بن عفان ، وفي لفظ : نزلت في عثمان بن عفان . وأخرج ابن سعد في طبقاته ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن ابن عباس في قوله : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } الآية قال : نزلت في عمار بن ياسر . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { يَحْذَرُ الأخرة } يقول : يحذر عذاب الآخرة . وأخرج الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه عن أنس قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل ، وهو في الموت ، فقال : كيف تجدك؟ قال : أرجو الله ، وأخاف ذنوبي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو ، وأمنه الذي يخاف » أخرجوه من طريق سيار بن حاتم ، عن جعفر بن سليمان ، عن ثابت ، عن أنس . قال الترمذي : غريب ، وقد رواه بعضهم عن ثابت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً .
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
قوله : { قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى } أي : بترك إخلاص العبادة له ، وتوحيده ، والدعاء إلى ترك الشرك ، وتضليل أهله { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } ، وهو : يوم القيامة . قال أكثر المفسرين : المعنى : إني أخاف إن عصيت ربي بإجابة المشركين إلى ما دعوني إليه من عبادة غير الله . قال أبو حمزة اليماني ، وابن المسيب : هذه الآية منسوخة بقوله : { لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] وفي هذه الآية دليل على أن الأمر للوجوب ، لأن قبله : { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله } [ الزمر : 11 ] ، فالمراد : عصيان هذا الأمر { قُلِ الله أَعْبُدُ } التقديم مشعر بالاختصاص ، أي : لا أعبد غيره لا استقلالاً ، ولا على جهة الشركة ، ومعنى { مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى } : أنه خالص لله غير مشوب بشرك ، ولا رياء ، ولا غيرهما ، وقد تقدّم تحقيقه في أول السورة . قال الرازي : فإن قيل : ما معنى التكرير في قوله : { قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين } [ الزمر : 11 ] ، وقوله : { قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى } قلنا : ليس هذا بتكرير ، لأن الأوّل : إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإيمان ، والعبادة ، والثاني إخبار بأنه أمر أن لا يعبد أحداً غير الله { فاعبدوا مَا شِئْتُمْ } أن تعبدوه { مِن دُونِهِ } هذا الأمر للتهديد ، والتقريع ، والتوبيخ كقوله : { اعملوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] ، وقيل : إن الأمر على حقيقته ، وهو منسوخ بآية السيف ، والأوّل أولى { قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة } أي : إن الكاملين في الخسران هم هؤلاء ، لأن من دخل النار ، فقد خسر نفسه ، وأهله . قال الزجاج : وهذا يعني به الكفار ، فإنهم خسروا أنفسهم بالتخليد في النار ، وخسروا أهليهم ، لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة ، وجملة : { أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين } مستأنفة لتأكيد ما قبلها ، وتصديرها بحرف التنبيه للإشعار بأن هذا الخسران الذي حلّ بهم قد بلغ من العظم إلى غاية ليس فوقها غاية ، وكذلك تعريف الخسران ، ووصفه بكونه مبيناً ، فإنه يدلّ على أنه الفرد الكامل من أفراد الخسران؛ وأنه لا خسران يساويه ، ولا عقوبة تدانيه .
ثم بيّن سبحانه هذا الخسران الذي حلّ بهم ، والبلاء النازل عليهم بقوله : { لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار } الظلل عبارة عن أطباق النار ، أي : لهم من فوقهم أطباق من النار تلتهب عليهم { وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } أي : أطباق من النار ، وسمي ما تحتهم ظللاً؛ لأنها تظلّ من تحتها من أهل النار ، لأن طبقات النار صار في كلّ طبقة منها طائفة من طوائف الكفار ، ومثل هذه الآية قوله : { لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [ الأعراف : 41 ] ، وقوله : { يَوْمَ يغشاهم العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ }
[ العنكبوت : 55 ] ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدّم ذكره من وصف عذابهم في النار ، وهو : مبتدأ ، وخبره قوله : { يُخَوّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ } أي : يحذرهم بما توعد به الكفار من العذاب؛ ليخافوه ، فيتقوه ، وهو : معنى { ياعباد فاتقون } أي : اتقوا هذه المعاصي الموجبة لمثل هذا العذاب على الكفار ، ووجه تخصيص العباد بالمؤمنين أن الغالب في القرآن إطلاق لفظ العباد عليهم . وقيل : هو للكفار ، وأهل المعاصي . وقيل : هو عامّ للمسلمين ، والكفار .
{ والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا } الموصول مبتدأ ، وخبره قوله : { لَهُمُ البشرى } والطاغوت بناء مبالغة في المصدر كالرحموت ، والعظموت ، وهو : الأوثان ، والشيطان . وقال مجاهد ، وابن زيد : هو : الشيطان . وقال الضحاك ، والسدّي : هو : الأوثان . وقيل : إنه الكاهن . وقيل : هو اسم أعجمي مثل طالوت ، وجالوت . وقيل : إنه اسم عربيّ مشتق من الطغيان . قال الأخفش : الطاغوت جمع ، ويجوز أن يكون واحده مؤنثاً ، ومعنى اجتنبوا الطاغوت : أعرضوا عن عبادته ، وخصوا عبادتهم بالله عزّ وجلّ ، وقوله : { أَن يَعْبُدُوهَا } في محل نصب على البدل من الطاغوت ، بدل اشتمال ، كأنه قال : اجتنبوا عبادة الطاغوت ، وقد تقدّم الكلام على تفسير الطاغوت مستوفى في سورة البقرة ، وقوله : { وَأَنَابُواْ إِلَى الله } معطوف على اجتنبوا ، والمعنى : رجعوا إليه ، وأقبلوا على عبادته معرضين عما سواه { لَهُمُ البشرى } بالثواب الجزيل ، وهو : الجنة . وهذه البشرى إما على ألسنة الرسل ، أو عند حضور الموت ، أو عند البعث { فَبَشّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } المراد بالعباد هنا : العموم ، فيدخل الموصوفون بالاجتناب ، والإنابة إليه دخولاً أوّلياً ، والمعنى : يستمعون القول الحقّ من كتاب الله ، وسنّة رسوله ، فيتبعون أحسنه ، أي : محكمه ، ويعملون به . قال السدّي : يتبعون أحسن ما يؤمرون به ، فيعملون بما فيه . وقيل : هو الرجل يسمع الحسن ، والقبيح ، فيتحدّث بالحسن ، وينكف عن القبيح ، فلا يتحدّث به . وقيل : يستمعون القرآن وغيره ، فيتبعون القرآن ، وقيل : يستمعون الرخص والعزائم ، فيتبعون العزائم ، ويتركون الرخص ، وقيل : يأخذون بالعفو ، ويتركون العقوبة . ثم أثنى سبحانه على هؤلاء المذكورين ، فقال : { أُوْلَئِكَ الذين هَدَاهُمُ الله وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الألباب } أي : هم الذين أوصلهم الله إلى الحق ، وهم أصحاب العقول الصحيحة ، لأنهم الذين انتفعوا بعقولهم ، ولم ينتفع من عداهم بعقولهم .
ثم ذكر سبحانه من سبقت له الشقاوة ، وحرم السعادة فقال : { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب } من هذه يحتمل أن تكون موصولة في محل رفع بالابتداء ، وخبرها محذوف ، أي : كمن يخاف ، أو فأنت تخلصه ، أو تتأسف عليه ، ويحتمل أن تكون شرطية ، وجوابه { أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النار } فالفاء فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء ، وأعيدت الهمزة الإنكارية لتأكيد معنى الإنكار . وقال سيبويه : إنه كرّر الاستفهام لطول الكلام . وقال الفراء : المعنى : أفأنت تنقذ من حقّت عليه كلمة العذاب ، والمراد بكلمة العذاب هنا هي : قوله تعالى لإبليس :
{ لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 85 ] ، وقوله : { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأعراف : 18 ] ومعنى الآية : التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان حريصاً على إيمان قومه ، فأعلمه الله أن من سبق عليه القضاء ، حقت عليه كلمة الله لا يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينقذه من النار بأن يجعله مؤمناً . قال عطاء : يريد أبا لهب ، وولده ، ومن تخلف من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان ، وفي الآية تنزيل لمن يستحقّ العذاب بمن قد صار فيه ، وتنزيل دعائه إلى الإيمان منزلة الإخراج له من عذاب النار .
ولما ذكر سبحانه فيما سبق أن لأهل الشقاوة ظللاً من فوقهم النار ، ومن تحتهم ظلل استدرك عنهم من كان من أهل السعادة ، فقال : { لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ } ، وذلك لأن الجنة درجات بعضها فوق بعض ، ومعنى { مَّبْنِيَّةٌ } : أنها مبنية بناء المنازل في إحكام أساسها ، وقوّة بنائها ، وإن كانت منازل الدنيا ليست بشيء بالنسبة إليها { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } أي : من تحت تلك الغرف ، وفي ذلك كمال لبهجتها ، وزيادة لرونقها ، وانتصاب { وَعَدَ الله } على المصدرية المؤكدة لمضمون الجملة ، لأن قوله : { لَهُمْ غُرَفٌ } في معنى : وعدهم الله بذلك ، وجملة : { لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد } مقرّرة للوعد ، أي : لا يخلف الله ما وعد به الفريقين من الخير ، والشرّ .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } الآية . قال : هم : الكفار الذين خلقهم الله للنار زالت عنهم الدنيا ، وحرمت عليهم الجنة . وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ } قال : أهليهم من أهل الجنة كانوا أعدّوا لهم لو عملوا بطاعة الله ، فغيبوهم . وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال : كان سعيد بن زيد ، وأبو ذرّ ، وسلمان يتبعون في الجاهلية أحسن القول ، والكلام لا إله إلا الله قالوا بها ، فأنزل الله على نبيه : { يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } الآية . وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد قال : لما نزل : { فَبَشّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً فنادى : من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ، فاستقبل عمر الرسول ، فردّه ، فقال : يا رسول الله خشيت أن يتكل الناس ، فلا يعملون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو يعلم الناس قدر رحمة ربي لاتكلوا ، ولو يعلمون قدر سخط ربي ، وعقابه لاستصغروا أعمالهم » وهذا الحديث أصله في الصحيح من حديث أبي هريرة .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
لما ذكر سبحانه الآخرة ، ووصفها بوصف يوجب الرغبة فيها ، والشوق إليها أتبعه بذكر الدنيا ، ووصفها بوصف يوجب الرغبة عنها ، والنفرة منها ، فذكر تمثيلاً لها في سرعة زوالها ، وقرب اضمحلالها مع ما في ذلك من ذكر نوع من أنواع قدرته الباهرة ، وصنعه البديع ، فقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء } أي : من السحاب مطراً { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأرض } أي : فأدخله ، وأسكنه فيها ، والينابيع جمع ينبوع من نبع الماء ينبع ، والينبوع عين الماء ، والأمكنة التي ينبع منها الماء ، والمعنى : أدخل الماء النازل من السماء في الأرض ، وجعله فيها عيوناً جارية ، أو جعله في ينابيع ، أي : في أمكنة ينبع منها الماء ، فهو على الوجه الثاني منصوب بنزع الخافض . قال مقاتل : فجعله عيوناً ، وركايا في الأرض { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } أي : يخرج بذلك الماء من الأرض زرعاً مختلفاً ألوانه من أصفر ، وأخضر ، وأبيض ، وأحمر ، أو من برّ ، وشعير ، وغيرهما إذا كان المراد بالألوان الأصناف { ثُمَّ يَهِيجُ } يقال : هاج النبت يهيج هيجاً إذا تمّ جفافه . قال الجوهري : يقال : هاج النبت هياجاً : إذا يبس ، وأرض هائجة يبس بقلها ، أو اصفّر ، وأهاجت الريح النبت أيبسته . قال المبرد : قال الأصمعي : يقال : هاجت الأرض تهيج : إذا أدبر نبتها ، وولى . قال : وكذلك هاج النبت . { فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً } أي : تراه بعد خضرته ، ونضارته ، وحسن رونقه مصفرًّا قد ذهبت خضرته ، ونضارته { ثُمَّ يَجْعَلُهُ حطاما } أي : متفتتاً منكسراً ، من تحطم العود إذا تفتت من اليبس { إِنَّ فِى ذَلِكَ لذكرى لأُِوْلِى الألباب } أي : فيما تقدّم ذكره تذكير الأهل العقول الصحيحة ، فإنهم الذين يتعقلون الأشياء على حقيقتها ، فيتفكرون ، ويعتبرون ، ويعلمون بأن الحياة الدّنيا حالها كحال هذا الزرع في سرعة التصرم ، وقرب التقضي ، وذهاب بهجتها ، وزوال رونقها ، ونضارتها ، فإذا أنتج لهم التفكر ، والاعتبار العلم بذلك لم يحصل منهم الاغترار بها ، والميل إليها ، وإيثارها على دار النعيم الدائم ، والحياة المستمرة ، واللذة الخالصة ، ولم يبق معهم شك في أن الله قادر على البعث ، والحشر ، لأن من قدر على هذا قدر على ذلك . وقيل : هو مثل ضربه الله للقرآن ، ولصدور من في الأرض . والمعنى : أنزل من السماء قرآناً ، فسلكه في قلوب المؤمنين ، ثم يخرج به ديناً بعضه أفضل من بعض ، فأما المؤمن ، فيزداد إيماناً ويقيناً ، وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع ، وهذا بالتغيير أشبه منه بالتفسير . قرأ الجمهور : { ثم يجعله } بالرفع عطفاً على ما قبله ، وقرأ أبو بشر بالنصب بإضمار أن ، ولا وجه لذلك .
ثم لما ذكر سبحانه أن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ، ذكر شرح الصدر للإسلام ، لأن الانتفاع الكامل لا يحصل إلا به ، فقال : { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام } أي : وسعه لقبول الحقّ ، وفتحه للاهتداء إلى سبيل الخير .
قال السدّي : وسع صدره للإسلام للفرح به ، والطمأنينة إليه ، والكلام في الهمزة ، والفاء كما تقدم في : { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب } [ الزمر : 19 ] ، ومن مبتدأ ، وخبرها محذوف تقديره كمن قسا قلبه ، وحرج صدره ، ودلّ على هذا الخبر المحذوف قوله : { فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ } والمعنى : أفمن وسع الله صدره للإسلام ، فقبله ، واهتدى بهديه { فَهُوَ } بسبب ذلك الشرح { على نُورٍ مّن رَّبّهِ } يفيض عليه كمن قسا قلبه لسوء اختياره ، فصار في ظلمات الضلالة ، وبليات الجهالة . قال قتادة : النور كتاب الله به يؤخذ ، وإليه ينتهي . قال الزجاج : تقدير الآية : أفمن شرح الله صدره كمن طبع على قلبه ، فلم يهتد لقسوته { فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ الله } قال الفراء ، والزجاج : أي عن ذكر الله كما تقول : أتخمت عن طعام أكلته ، ومن طعام أكلته ، والمعنى : أنه غلظ قلبه ، وجفا عن قبول ذكر الله ، يقال : قسا القلب إذا صلب ، وقلب قاس ، أي : صلب لا يرقّ ، ولا يلين . وقيل : معنى من ذكر الله من أجل ذكره الذي حقه أن تنشرح له الصدور ، وتطمئن به القلوب . والمعنى : أنه إذا ذكر الله اشمأزوا ، والأول أولى ، ويؤيده قراءة من قرأ عن ذكر الله ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى القاسية قلوبهم ، وهو : مبتدأ ، وخبره { فِى ضلال مُّبِينٍ } أي : ظاهر واضح .
ثم ذكر سبحانه بعض أوصاف كتابه العزيز ، فقال : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } يعني : القرآن ، وسماه حديثاً؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدّث به قومه ، ويخبرهم بما ينزل عليه منه . وفيه بيان أن أحسن القول المذكور سابقاً هو : القرآن ، وانتصاب { كتابا } على البدل من أحسن الحديث ، ويحتمل أن يكون حالاً منه { متشابها } صفة ل { كتاباً } ، أي : يشبه بعضه بعضاً في الحسن ، والأحكام ، وصحة المعاني ، وقوة المباني ، وبلوغه إلى أعلى درجات البلاغة ، وقال قتادة : يشبه بعضه بعضاً في الآي ، والحروف . وقيل : يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه ، و { مَّثَانِيَ } صفة أخرى لكتاباً ، أي : تثنى فيه القصص ، وتتكرر فيه المواعظ ، والأحكام . وقيل : يثنى في التلاوة ، فلا يملّ سامعه ، ولا يسأم قارئه . قرأ الجمهور : { مثاني } بفتح الياء ، وقرأ هشام عن ابن عامر ، وبشر بسكونها تخفيفاً ، واستثقالاً لتحريكها ، أو على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو مثاني ، وقال الرازي : في تبيين مثاني أن أكثر الأشياء المذكورة في القرآن متكرّرة زوجين زوجين مثل الأمر والنهي والعامّ والخاصّ ، والمجمل والمفصل ، وأحوال السماوات والأرض ، والجنة والنار ، والنور والظلمة ، واللوح والقلم ، والملائكة والشياطين ، والعرش والكرسي ، والوعد والوعيد ، والرجاء والخوف ، والمقصود من ذلك البيان : بأن كلّ ما سوى الحقّ زوج ، وأن الفرد الأحد الحقّ هو : الله ، ولا يخفى ما في كلامه هذا من التكلف ، والبعد عن مقصود التنزيل { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } هذه الجملة يجوز أن تكون صفة ل { كتاباً } ، وأن تكون حالاً منه ، لأنه وإن كان نكرة ، فقد تخصص بالصفة ، أو مستأنفة لبيان ما يحصل عند سماعه من التأثر لسامعيه ، والاقشعرار التقبض ، يقال : اقشعرّ جلده : إذا تقبض ، وتجمع من الخوف .
والمعنى : أنها تأخذهم منه قشعريرة . قال الزجاج : إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرّت جلود الخائفين لله { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ } إذا ذكرت آيات الرحمة . قال الواحدي : وهذا قول جميع المفسرين ، ومن ذلك قول امرىء القيس :
فبتّ أكابد ليل التمام ... والقلب من خشية مقشعر
وقيل : المعنى : أن القرآن لما كان في غاية الجزالة ، والبلاغة ، فكانوا إذا رأوا عجزهم عن معارضته اقشعرّت الجلود منه إعظاماً له ، وتعجباً من حسنه ، وبلاغته ثم تلين جلودهم ، وقلوبهم { إلى ذِكْرِ الله } عدّى تلين بإلى لتضمينه فعلاً يتعدّى بها ، كأنه قيل : سكنت ، واطمأنت إلى ذكر الله لينة غير منقبضة ، ومفعول ذكر الله محذوف ، والتقدير : إلى ذكر الله رحمته ، وثوابه ، وجنته ، وحذف للعلم به . قال قتادة : هذا نعت أولياء الله نعتهم بأنها تقشعرّ جلودهم ، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله ، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم ، والغشيان عليهم إنما ذلك في أهل البدع وهو : من الشيطان ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى الكتاب الموصوف بتلك الصفات ، وهو : مبتدأ ، و { هُدَى الله } خبره ، أي : ذلك الكتاب هدى الله { يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء } أن يهديه من عباده . وقيل : إن الإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما وهبه الله لهؤلاء من خشية عذابه ، ورجاء ثوابه { وَمَن يُضْلِلِ الله } أي : يجعل قلبه قاسياً مظلماً غير قابل للحقّ { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } يهديه إلى الحق ، ويخلصه من الضلال . قرأ الجمهور : { من هاد } بغير ياء . وقرأ ابن كثير ، وابن محيصن بالياء .
ثم لما حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا ، وهو : الضلال ، حكم عليهم في الآخرة بحكم آخر ، وهو : العذاب ، فقال : { أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب يَوْمَ القيامة } والاستفهام للإنكار ، وقد تقدّم الكلام فيه ، وفي هذه الفاء الداخلة على من في قوله : { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب } [ الزمر : 19 ] ، ومن مبتدأ ، وخبرها محذوف لدلالة المقام عليه ، والمعنى : أفمن شأنه أن يقي نفسه بوجهه الذي هو أشرف أعضائه سوء العذاب يوم القيامة لكون يده قد صارت مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن لا يعتريه شيء من ذلك ، ولا يحتاج إلى الاتقاء . قال الزجاج : المعنى : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن يدخل الجنة . قال عطاء ، وابن زيد : يرمى به مكتوباً في النار ، فأوّل شيء تمس منه وجهه . وقال مجاهد : يجرّ على وجهه في النار .
قال الأخفش : المعنى : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب أفضل أم من سعد؟ مثل قوله : { أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة } [ فصلت : 40 ] ، ثم أخبر سبحانه عما تقوله الخزنة للكفار ، فقال : { وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } ، وهو معطوف على يتقي أي : ويقال لهم ، وجاء بصيغة الماضي للدّلالة على التحقيق . قال عطاء : أي : جزاء ما كنتم تعملون ، ومثل هذه الآية قوله : { هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } [ التوبة : 35 ] ، وقد تقدّم الكلام على معنى الذوق في غير موضع .
ثم أخبر سبحانه عن حال من قبلهم من الكفار ، فقال : { كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي : من قبل الكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم . والمعنى : أنهم كذبوا رسلهم { فأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } أي : من جهة لا يحتسبون إتيان العذاب منها ، وذلك عند أمنهم ، وغفلتهم عن عقوبة الله لهم بتكذيبهم { فَأَذَاقَهُمُ الله الخزى } أي : الذلّ ، والهوان { فِي الحياة الدنيا } بالمسخ ، والخسف ، والقتل ، والأسر ، وغير ذلك { وَلَعَذَابُ الأخرة أَكْبَرُ } لكونه في غاية الشدّة مع دوامه { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي : لو كانوا ممن يعلم الأشياء ، ويتفكر فيها ، ويعمل بمقتضى علمه . قال المبرّد : يقال : لكل ما نال الجارحة من شيء قد ذاقته ، أي : وصل إليها كما تصل الحلاوة ، والمرارة إلى الذائق لهما . قال : والخزي المكروه .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء } الآية قال : ما في الأرض ماء إلا نزل من السماء ، ولكن عروق في الأرض تغيره ، فذلك قوله : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأرض } فمن سرّه أن يعود الملح عذباً ، فليصعده . وأخرج ابن مردويه عنه في قوله : { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام } قال : أبو بكر الصديق . وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ } قلنا : يا نبيّ الله كيف انشراح صدره؟ قال : " إذا دخل النور القلب انشرح ، وانفسح " قلنا : فما علامة ذلك يا رسول الله؟ فقال : " الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والتأهب للموت قبل نزول الموت " وأخرجه ابن مردويه عن محمد بن كعب القرظي مرفوعاً مرسلاً . وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عمر : أن رجلاً قال : يا نبيّ الله أي المؤمنين أكيس؟ قال : " أكثرهم ذكراً للموت وأحسنهم له استعداداً ، وإذا دخل النور في القلب انفسح ، واستوسع " فقالوا : ما آية ذلك يا نبيّ الله؟ قال : " الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت " وأخرجه عن أبي جعفر عبد الله بن المسور ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه ، وزاد فيه : ثم قرأ : { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام فَهُوَ على نُورٍ مّن رَّبّهِ } » .
وأخرج الترمذي ، وابن مروديه ، وابن شاهين في الترغيب في الذكر ، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال : قال رسول الله : " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب ، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي " وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : قالوا : يا رسول الله لو حدّثتنا ، فنزل : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } الآية» . وأخرج ابن مردويه عنه في قوله : { مَّثَانِيَ } قال : القرآن كله مثاني . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال : القرآن يشبه بعضه بعضاً ، ويردّ بعضه إلى بعض . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال : كتاب الله مثاني ثني فيه الأمر مراراً . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال : قلت لجدّتي أسماء كيف كان يصنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرءوا القرآن؟ قالت : كانوا كما نعتهم الله تدمع أعينهم ، وتقشعرّ جلودهم ، قلت : فإن ناساً ها هنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم عليه غشية ، قالت : أعوذ بالله من الشيطان . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب } قال : ينطلق به إلى النار مكتوفاً ، ثم يرمى به فيها ، فأوّل ما تمسّ وجهه النار .
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
قوله : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ } قد قدّمنا تحقيق المثل ، وكيفية ضربه في غير موضع ، ومعنى : { مِن كُلّ مَثَلٍ } : ما يحتاجون إليه ، وليس المراد ما هو أعمّ من ذلك ، فهو هنا كما في قوله : { مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَىْء } [ الأنعام : 38 ] أي : من شيء يحتاجون إليه في أمر دينهم . وقيل : المعنى : ما ذكرنا من إهلاك الأمم السالفة مثل لهؤلاء { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } يتعظمون ، فيعتبرون ، وانتصاب { قُرْءاناً عَرَبِيّاً } على الحال من هذا ، وهي حال مؤكدة ، وتسمى هذه حالاً موطئة ، لأن الحال في الحقيقة هو : عربياً ، وقرآناً توطئة له ، نحو جاءني زيد رجلاً صالحاً : كذا قال الأخفش ، ويجوز أن ينتصب على المدح . قال الزجاج : عربياً منتصب على الحال ، وقرآنا توكيد ، ومعنى { غَيْرَ ذِى عِوَجٍ } : لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه . قال الضحاك : أي غير مختلف . قال النحاس : أحسن ما قيل في معناه قول الضحاك . وقيل : غير متضادّ . وقيل : غير ذي لبس . وقيل : غير ذي لحن . وقيل : غير ذي شك كما قال الشاعر :
وقد أتاك يقين غير ذي عوج ... من الإله وقول غير مكذوب
{ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } علة أخرى بعد العلة الأولى . وهي : { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي : لكي يتقوا الكفر ، والكذب . ثم ذكر سبحانه مثلاً من الأمثال القرآنية للتذكير ، والإيقاظ ، فقال : { ضَرَبَ الله مَثَلاً } أي : تمثيل حالة عجيبة بأخرى مثلها . ثم بيّن المثل ، فقال : { رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون } قال الكسائي : نصب { رجلاً } ؛ لأنه تفسير للمثل . وقيل : هو منصوب بنزع الخافض ، أي : ضرب الله مثلاً برجل . وقيل : إن { رجلاً } هو المفعول الأوّل ، و { مثلاً } هو المفعول الثاني ، وأخر المفعول الأوّل؛ ليتصل بما هو من تمامه ، وقد تقدّم تحقيق هذا في سورة «ياس» ، وجملة : { فِيهِ شُرَكَاء } في محل نصب صفة لرجل ، والتشاكس التخالف . قال الفراء : أي مختلفون . وقال المبرد : أي متعاسرون من شكس يشكس شكساً ، فهو : شكس مثل عسر يعسر عسراً ، فهو : عسر . قال الجوهري : التشاكس الاختلاف . قال : ويقال : رجل شكس بالتسكين ، أي : صعب الخلق ، وهذا مثل من أشرك بالله ، وعبد آلهة كثيرة . ثم قال : { وَرَجُلاً سَلَماً لّرَجُلٍ } أي : خالصاً له ، وهذا مثل من يعبد الله وحده . قرأ الجمهور : { سلما } بفتح السين ، واللام ، وقرأ سعيد بن جبير ، وعكرمة ، وأبو العالية بكسر السين ، وسكون اللام . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، والجحدري ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، ويعقوب : ( سالماً ) بالألف ، وكسر اللام اسم فاعل من سلم له ، فهو : سالم ، واختار هذه القراءة أبو عبيد قال : لأن السالم الخالص ضدّ المشترك ، والسلم ضدّ الحرب ، ولا موضع للحرب ها هنا ، وأجيب عنه بأن الحرف إذا كان له معنيان لم يحمل إلا على أولاهما ، فالسلم ، وإن كان ضدّ الحرب ، فله معنى آخر بمعنى : سالم ، من سلم له كذا : إذا خلص له .
وأيضاً يلزمه في سالم ما ألزم به ، لأنه يقال : شيء سالم ، أي : لا عاهة به ، واختار أبو حاتم القراءة الأولى . والحاصل أن قراءة الجمهور هي على الوصف بالمصدر للمبالغة ، أو على حذف مضاف ، أي : ذا سلم ، ومثلها قراءة سعيد بن جبير ، ومن معه .
ثم جاء سبحانه بما يدلّ على التفاوت بين الرجلين ، فقال : { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } ، وهذا الاستفهام للإنكار ، والاستبعاد ، والمعنى : هل يستوي هذا الذي يخدم جماعة شركاء أخلاقهم مختلفة ، ونياتهم متباينة يستخدمه كل واحد منهم ، فيتعب ، وينصب مع كون كل واحد منهم غير راضٍ بخدمته ، وهذا الذي يخدم واحداً لا ينازعه غيره إذا أطاعه رضي عنه ، وإذا عصاه عفا عنه . فإن بين هذين من الاختلاف الظاهر الواضح ما لا يقدر عاقل أن يتفوّه باستوائهما ، لأن أحدهما : في أعلى المنازل ، والآخر : في أدناها ، وانتصاب مثلاً على التمييز المحول عن الفاعل؛ لأن الأصل هل يستوي مثلهما ، وأفرد التمييز ، ولم يثنه؛ لأن الأصل في التمييز الإفراد لكونه مبيناً للجنس ، وجملة : { الحمد للَّهِ } تقرير لما قبلها من نفي الاستواء ، وللإيذان للموحدين بما في توحيدهم لله من النعمة العظيمة المستحقة لتخصيص الحمد به . ثم أضرب سبحانه عن نفي الاستواء المفهوم من الاستفهام الإنكاري إلى بيان أن أكثر الناس لا يعلمون ، فقال : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، وهم : المشركون ، فإنهم لا يعلمون ذلك مع ظهوره ، ووضوحه . قال الواحدي ، والبغوي : والمراد بالأكثر الكلّ ، والظاهر خلاف ما قالاه ، فإن المؤمنين بالله يعلمون ما في التوحيد من رفعة شأنه ، وعلوّ مكانه ، وإن الشرك لا يمائله بوجه من الوجوه ، ولا يساويه في وصف من الأوصاف ، ويعلمون أن الله سبحانه يستحق الحمد على هذه النعمة ، وأن الحمد مختصّ به .
ثم أخبر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن الموت يدركه ، ويدركهم لا محالة ، فقال : { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ } قرأ الجمهور : { ميت } و { ميتون } بالتشديد ، وقرأ ابن محيصن ، وابن أبي عبلة ، وعيسى بن عمر ، وابن أبي إسحاق ، واليماني : ( مائت ومائتون ) ، وبها قرأ عبد الله بن الزبير . وقد استحسن هذه القراءة بعض المفسرين لكون موته ، وموتهم مستقبلاً ، ولا وجه للاستحسان ، فإن قراءة الجمهور تفيد هذا المعنى . قال الفراء : والكسائي : الميت بالتشديد من لم يمت ، وسيموت ، والميت بالتخفيف من قد مات ، وفارقته الرّوح . قال قتادة : نعيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه ، ونعيت إليهم أنفسهم . ووجه هذا الإخبار الإعلام للصحابة بأنه يموت ، فقد كان بعضهم يعتقد ، أنه لا يموت مع كونه توطئة ، وتمهيداً لما بعده حيث قال : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } أي : تخاصمهم يا محمد ، وتحتجّ عليهم بأنك قد بلغتهم ، وأنذرتهم ، وهم يخاصمونك ، أو يخاصم المؤمن الكافر ، والظالم المظلوم .
ثم بيّن سبحانه حال كل فريق من المختصمين ، فقال : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله } أي : لا أحد أظلم ممن كذب على الله ، فزعم أن له ولداً ، أو شريكاً ، أو صاحبة { وَكَذَّبَ بالصدق إِذْ جَاءهُ } ، وهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من دعاء الناس إلى التوحيد ، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع ، ونهيهم عن محرّماته ، وإخبارهم بالبعث ، والنشور ، وما أعدّ الله للمطيع ، والعاصي . ثم استفهم سبحانه استفهاماً تقريرياً ، فقال : { أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين } أي : أليس لهؤلاء المفترين المكذّبين بالصدق ، والمثوى : المقام ، وهو مشتق من ثوى بالمكان إذا أقام به يثوى ثواء ، وثوياً ، مثل مضى مضاء ، ومضياً . وحكى أبو عبيد أنه يقال : أثوى ، وأنشد قول الأعشى :
أثوى وأقصر ليله ليزودا ... ومضى وأخلف من قُتَيْلَةَ موعدا
وأنكر ذلك الأصمعي ، وقال : لا نعرف أثوى . ثم ذكر سبحانه فريق المؤمنين المصدّقين ، فقال : { والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ } الموصول في موضع رفع بالابتداء ، وهو : عبارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن تابعه ، وخبره : { أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون } ، وقيل : الذي جاء بالصدق رسول الله ، والذي صدّق به أبو بكر . وقال مجاهد : الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي صدّق به عليّ بن أبي طالب . وقال السدّي : الذي جاء بالصدق جبريل ، والذي صدّق به رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال قتادة ، ومقاتل ، وابن زيد : الذي جاء بالصدق النبي صلى الله عليه وسلم ، والذي صدّق به المؤمنون . وقال النخعي : الذي جاء بالصدق ، وصدّق به هم المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة . وقيل : إن ذلك عام في كل من دعا إلى توحيد الله ، وأرشد إلى ما شرعه لعباده ، واختار هذا ابن جرير ، وهو : الذي اختاره من هذه الأقوال ، ويؤيده قراءة ابن مسعود : ( والذين جاءوا بالصدق وصدّقوا به ) . ولفظ { الذي } كما وقع في قراءة الجمهور وإن كان مفرداً ، فمعناه : الجمع ، لأنه يراد به الجنس كما يفيده قوله : { أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون } أي : المتصفون بالتقوى التي هي عنوان النجاة . وقرأ أبو صالح : ( وصدق به ) مخففاً ، أي : صدق به الناس . ثم ذكر سبحانه ما لهؤلاء الصادقين المصدّقين في الآخرة ، فقال : { لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ } أي : لهم كل ما يشاءونه من رفع الدرجات ، ودفع المضرّات ، وتكفير السيئات ، وفي هذا ترغيب عظيم ، وتشويق بالغ ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدم ذكره من جزائهم ، وهو : مبتدأ ، وخبره قوله : { جَزَاء المحسنين } أي : الذين أحسنوا في أعمالهم . وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« أن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك » ثم بيّن سبحانه ما هو الغاية مما لهم عند ربهم ، فقال : { لِيُكَفّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذى عَمِلُواْ } ، فإن ذلك هو أعظم ما يرجونه من دفع الضرر عنهم؛ لأن الله سبحانه إذا غفر لهم ما هو الأسوأ من أعمالهم غفر لهم ما دونه بطريقة الأولى ، واللام متعلقة بيشاءون ، أو بالمحسنين ، أو بمحذوف . قرأ الجمهور : { أسوأ } على أنه أفعل تفضيل . وقيل : ليست للتفضيل بل بمعنى : سيء الذي عملوا . وقرأ ابن كثير في رواية عنه أسواء بألف بين الهمزة ، والواو بزنة أجمال جمع سوء . { وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ } لما ذكر سبحانه ما يدلّ على دفع المضارّ عنهم ذكر ما يدلّ على جلب أعظم المنافع إليهم ، وإضافة الأحسن إلى ما بعده ليست من إضافة المفضل إلى المفضل عليه ، بل من إضافة الشيء إلى بعضه قصداً إلى التوضيح من غير اعتبار تفضيل . قال مقاتل : يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ، ولا يجزيهم بالمساوىء .
وقد أخرج الآجرّي ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { غَيْرَ ذِى عِوَجٍ } قال : غير مخلوق . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً } الآية قال : الرجل يعبد آلهة شتى ، فهذا مثل ضربه الله لأهل الأوثان { وَرَجُلاً سَلَماً } يعبد إلها واحداً ضرب لنفسه مثلاً . وأخرجا عنه أيضاً في قوله : { وَرَجُلاً سَلَماً } قال : ليس لأحد فيه شيء . وأخرج عبد بن حميد ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، عن ابن عمر قال : لقد لبثنا برهة من دهرنا ، ونحن نرى أن هذه الآية نزلت فينا ، وفي أهل الكتابين من قبلنا { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ } الآية ، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف ، فعرفت أنها نزلت فينا . وأخرج نعيم بن حماد في الفتن ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عنه نحوه بأطول منه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن مردويه عنه أيضاً قال : نزلت علينا الآية { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } ، وما ندري ما تفسيرها حتى وقعت الفتنة ، فقلنا : هذا الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه . وأخرج عبد الرّزاق ، وأحمد ، وابن منيع ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في البعث والنشور عن الزبير بن العوّام قال : لما نزلت : { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } قلت : يا رسول الله أيكرّر علينا ما يكون بيننا في الدنيا مع خواصّ الذنوب؟ قال : « نعم ليكرّرن عليكم ذلك حتى يؤدى إلى كل ذي حقّ حقه . قال الزبير : فوالله إن الأمر لشديد »
وأخرج سعيد بن منصور ، عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } كنا نقول : ربنا واحد ، وديننا واحد ، ونبينا واحد ، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين ، وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف ، قلنا : نعم هو هذا .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { والذى جَاء بالصدق } يعني : بلا إله إلا الله { وَصَدَّقَ بِهِ } يعني : برسول الله صلى الله عليه وسلم { أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون } يعني : اتقوا الشرك . وأخرج ابن جرير ، والباوردي في معرفة الصحابة ، وابن عساكر من طريق أسيد بن صفوان ، وله صحبة عن عليّ بن أبي طالب قال : الذي جاء بالصدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وصدّق به أبو بكر . وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مثله .
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
قوله : { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } قرأ الجمهور : { عبده } بالإفراد . وقرأ حمزة ، والكسائي : ( عباده ) بالجمع ، فعلى القراءة الأولى المراد : النبي صلى الله عليه وسلم ، أو الجنس ، ويدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم دخولاً أوّلياً ، وعلى القراءة الأخرى المراد : الأنبياء أو المؤمنون أو الجميع ، واختار أبو عبيد قراءة الجمهور ، لقوله عقبه : { ويخوّفونك } ، والاستفهام للإنكار لعدم كفايته سبحانه على أبلغ وجه كأنها بمكان من الظهور لا يتيسر لأحد أن ينكره . وقيل : المراد بالعبد ، والعباد : ما يعمّ المسلم ، والكافر . قال الجرجاني : إن الله كاف عبده المؤمن ، وعبده الكافر هذا بالثواب ، وهذا بالعقاب . وقرىء : ( بكافي عباده ) بالإضافة ، وقرىء : ( يكافي ) بصيغة المضارع ، وقوله : { وَيُخَوّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ } يجوز أن يكون في محل نصب على الحال ، إذ المعنى : أليس كافيك حال تخويفهم إياك؟ ويجوز أن تكون مستأنفة ، والذين من دونه عبارة عن المعبودات التي يعبدونها { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } أي : من حقّ عليه القضاء بضلاله ، فما له من هاد يهديه إلى الرّشد ، ويخرجه من الضلالة . { وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلّ } يخرجه من الهداية ، ويوقعه في الضلالة { أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ } أي : غالب لكل شيء قاهر له { ذِى انتقام } ينتقم من عصاته بما يصبه عليهم من عذابه ، وما ينزله بهم من سوط عقابه .
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } ذكر سبحانه اعترافهم إذا سئلوا عن الخالق بأن الله سبحانه مع عبادتهم للأوثان ، واتخاذهم الآلهة من دون الله ، وفي هذا أعظم دليل على أنهم كانوا في غفلة شديدة ، وجهالة عظيمة؛ لأنهم إذا علموا أن الخالق لهم ، ولما يعبدون من دون الله هو : الله سبحانه ، فكيف استحسنت عقولهم عبادة غير خالق الكل ، وتشريك مخلوق مع خالقه في العبادة؟ وقد كانوا يذكرون بحسن العقول ، وكمال الإدراك ، والفطنة التامة ، ولكنهم لما قلدوا أسلافهم ، وأحسنوا الظنّ بهم هجروا ما يقتضيه العقل ، وعملوا بما هو محض الجهل . ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يبكتهم بعد هذا الاعتراف ، ويوبخهم ، فقال : { قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِىَ الله بِضُرّ هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرّهِ } أي : أخبروني عن آلهتكم هذه هل تقدر على كشف ما أراده الله بي من الضرّ ، والضرّ هو : الشدّة ، أو أعلى { أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ } عنِّي بحيث لا تصل إليّ ، والرحمة النعمة ، والرّخاء . قرأ الجمهور ممسكات ، وكاشفات في الموضعين بالإضافة ، وقرأهما أبو عمرو ، بالتنوين . قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية سألهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فسكتوا ، وقال غيره : قالوا : لا تدفع شيئاً من قدر الله ، ولكنها تشفع ، فنزل : { قُلْ حَسْبِىَ الله } في جميع أموري في جلب النفع ، ودفع الضرّ { عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون } أي : عليه ، لا على غيره يعتمد المعتمدون ، واختار أبو عبيد ، وأبو حاتم قراءة أبي عمرو ، لأن كاشفات اسم فاعل في معنى : الاستقبال ، وما كان كذلك ، فتنوينه أجود ، وبها قرأ الحسن ، وعاصم .
ثم أمره سبحانه أن يهدّدهم ، ويتوعدهم ، فقال : { قُلْ ياقَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } أي : على حالتكم التي أنتم عليها ، وتمكنتم منها { إِنّى عامل } أي : على حالتي التي أنا عليها ، وتمكنت منها ، وحذف ذلك للعلم به مما قبله { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } أي : يهينه ، ويذله في الدنيا ، فيظهر عند ذلك أنه المبطل ، وخصمه المحقّ ، والمراد بهذا العذاب عذاب : الدنيا ، وما حلّ بهم من القتل ، والأسر ، والقهر ، والذلة . ثم ذكر عذاب الآخرة ، فقال : { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } أي : دائم مستمرّ في الدار الآخرة ، وهو : عذاب النار . ثم لما كان يعظم على رسول الله صلى الله عليه وسلم إصرارهم على الكفر أخبره بأنه لم يكلف إلا بالبيان ، لا بأن يهدي من ضلّ ، فقال : { إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب لِلنَّاسِ } أي : لأجلهم ، ولبيان ما كلفوا به ، و { بالحق } حال من الفاعل ، أو المفعول ، أي : محقين ، أو ملتبساً بالحقّ { فَمَنُ اهتدى } طريق الحق ، وسلكها { فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ } عنها { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي : على نفسه ، فضرر ذلك عليه لا يتعدّى إلى غيره { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } أي : بمكلف بهدايتهم مخاطب بها ، بل ليس عليك إلا البلاغ ، وقد فعلت . وهذه الآيات هي منسوخة بآية السيف ، فقد أمر الله رسوله بعد هذا أن يقاتلهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ، ويعملوا بأحكام الإسلام .
ثم ذكر سبحانه نوعاً من أنواع قدرته البالغة ، وصنعته العجيبة ، فقال : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا } أي : يقبضها عند حضور أجلها ، ويخرجها من الأبدان { والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا } أي : ويتوفى الأنفس التي لم تمت ، أي : لم يحضر أجلها في منامها .
وقد اختلف في هذا . فقيل : يقبضها عن التصرّف مع بقاء الروح في الجسد . وقال الفراء : المعنى : ويقبض التي لم تمت عند انقضاء أجلها قال : وقد يكون توفيها نومها ، فيكون التقدير على هذا : والتي لم تمت ، وفاتها نومها . قال الزجاج : لكل إنسان نفسان : أحدهما : نفس التمييز ، وهي التي تفارقه إذا نام ، فلا يعقل ، والأخرى : نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس ، والنائم يتنفس . قال القشيري : في هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحالين شيء واحد ، ولهذا قال : { فَيُمْسِكُ التى قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى } أي : النائمة { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } ، وهو الوقت المضروب لموته ، وقد قال بمثل قول الزجاج : ابن الأنباري .
وقال سعيد بن جبير : إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا ، وأرواح الأحياء إذا ناموا ، فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف { فَيُمْسِكُ التى قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى } ، فيعيدها ، والأولى أن يقال : إن توفي الأنفس حال النوم بإزالة الإحساس ، وحصول الآفة به في محل الحسّ ، فيمسك التي قضى عليها الموت ، ولا يردّها إلى الجسد الذي كانت فيه ، ويرسل الأخرى بأن يعيد عليها إحساسها . قيل : ومعنى { يَتَوَفَّى الأنفس عِندَ مَوْتِهَا } : هو على حذف مضاف ، أي : عند موت أجسادها .
وقد اختلف العقلاء في النفس ، والروح هل هما شيء واحد ، أو شيئان؟ والكلام في ذلك يطول جدًّا ، وهو معروف في الكتب الموضوعة لهذا الشأن . قرأ الجمهور : { قضى } مبنياً للفاعل ، أي : قضى الله عليها الموت ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، والأعمش ، ويحيى بن وثاب على البناء للمفعول ، واختار أبو عبيد ، وأبو حاتم القراءة الأولى لموافقتها لقوله : { الله يَتَوَفَّى الأنفس } ، والإشارة بقوله : { إِنَّ فِى ذَلِكَ } إلى ما تقدّم من التوفي ، والإمساك ، والإرسال للنفوس { لآيَاتٍ } أي : لآيات عجيبة بديعة دالة على القدرة الباهرة ، ولكن ليس كون ذلك آيات يفهمه كل أحد بل { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } في ذلك ، ويتدبرونه ، ويستدلون به على توحيد الله ، وكمال قدرته . فإن في هذا التوفي ، والإمساك ، والإرسال موعظة للمتعظين ، وتذكرة للمتذكرين .
وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا } الآية قال : نفس ، وروح بينهما مثل شعاع الشمس ، فيتوفى الله النفس في منامه ، ويدع الروح في جوفه تتقلب ، وتعيش ، فإن بدا له أن يقبضه قبض الروح ، فمات . وإن أخر أجله ردّ النفس إلى مكانها من جوفه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني في الأوسط ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة عنه في الآية قال : تلتقي أرواح الأحياء ، وأرواح الأموات في المنام ، فيتساءلون بينهم ما شاء الله ، ثم يمسك الله أرواح الأموات ، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } لا يغلط بشيء منها ، فذلك قوله : { إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } . وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً في الآية قال : كل نفس لها سبب تجري فيه ، فإذا قضى عليها الموت نامت حتى ينقطع السبب ، والتي لم تمت في منامها تترك . وأخرج البخاري ، ومسلم من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا أوى أحدكم إلى فراشه ، فلينفضه بداخلة إزاره ، فإنه لا يدري ما خلفه عليه ، ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي ، وباسمك أرفعه ، إن أمسكت نفسي ، فارحمها ، وإن أرسلتها ، فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين » .
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)
قوله : { أَمِ اتخذوا مِن دُونِ الله شُفَعَاء } أم هي المنقطعة المقدّرة ببل ، والهمزة ، أي : بل اتخذوا من دون الله آلهة شفعاء تشفع لهم عند الله { قُلْ أَوَلَوْ لَّوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ } الهمزة للإنكار ، والتوبيخ ، والواو للعطف على محذوف مقدّر ، أي : أيشفعون ، ولو كانوا الخ ، وجواب لو محذوف تقديره تتخذونهم ، أي : وإن كانوا بهذه الصفة تتخذونهم ، ومعنى لا يملكون شيئاً : أنهم غير مالكين لشيء من الأشياء ، وتدخل الشفاعة في ذلك دخولاً أوّلياً ، ولا يعقلون شيئاً من الأشياء؛ لأنها جمادات لا عقل لها ، وجمعهم بالواو ، والنون لاعتقاد الكفار فيهم أنهم يعقلون . ثم أمره سبحانه بأن يخبرهم : أن الشفاعة لله وحده ، فقال : { قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً } ، فليس لأحد منها شيء إلا أن يكون بإذنه لمن ارتضى ، كما في قوله : { مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] ، وقوله : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] ، وانتصاب { جميعاً } على الحال ، وإنما أكد الشفاعة بما يؤكد به الاثنان ، فصاعداً؛ لأنها مصدر يطلق على الواحد ، والاثنين ، والجماعة ، ثم وصفه بسعة الملك ، فقال : { لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض } أي : يملكهما ، ويملك ما فيهما ، ويتصرف في ذلك كيف يشاء ، ويفعل ما يريد { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } لا إلى غيره ، وذلك بعد البعث .
{ وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة } انتصاب { وحده } على الحال عند يونس ، وعلى المصدر عند الخليل ، وسيبويه ، والاشمئزاز في اللغة : النفور . قال أبو عبيدة : اشمأزت نفرت ، وقال المبرد : انقبضت . وبالأوّل قال قتادة ، وبالثاني قال مجاهد ، والمعنى متقارب . وقال المؤرّج : أنكرت ، وقال أبو زيد : اشمأزّ الرجل ذعر من الفزع ، والمناسب للمقام تفسير اشمأزت بانقبضت ، وهو في الأصل : الازورار ، وكان المشركون إذا قيل لهم : لا إله إلا الله انقبضوا ، كما حكاه الله عنهم في قوله : { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } [ الإسراء : 46 ] ، ثم ذكر سبحانه استبشارهم بذكر أصنامهم ، فقال : { وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي : يفرحون بذلك ، ويبتهجون به ، والعامل في « إذا » في قوله : { وَإِذَا ذُكِرَ الله } الفعل الذي بعدها ، وهو : اشمأزت ، والعامل في إذا في قوله : { وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ } الفعل العامل في إذا الفجائية ، والتقدير : فاجئوا الاستبشار وقت ذكر الذين من دونه . ولما لم يقبل المتمردون من الكفار ما جاءهم به من الدعاء إلى الخير ، وصمموا على كفرهم ، أمره الله سبحانه : أن يردّ الأمر إليه ، فقال : { قُلِ اللهم فَاطِرَ السموات والأرض عَالِمَ الغيب والشهادة أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ، وقد تقدّم تفسير فاطر السماوات ، وتفسير عالم الغيب ، والشهادة ، وهما منصوبان على النداء ، ومعنى { تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ } : تجازي المحسن بإحسانه ، وتعاقب المسيء بإساءته ، فإنه بذلك يظهر من هو المحقّ ، ومن هو المبطل ، ويرتفع عنده خلاف المختلفين ، وتخاصم المتخاصمين .
ثم لما حكى عن الكفار ما حكاه من الاشمئزاز عند ذكر الله ، والاستبشار عند ذكر الأصنام ذكر ما يدلّ على شدّة عذابهم ، وعظيم عقوبتهم ، فقال : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الأرض جَمِيعاً } أي : جميع ما في الدنيا من الأموال ، والذخائر { وَمِثْلَهُ مَعَهُ } أي : منضماً إليه { لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوء العذاب يَوْمَ القيامة } أي : من سوء عذاب ذلك اليوم ، وقد مضى تفسير هذا في آل عمران { وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } أي : ظهر لهم من عقوبات الله ، وسخطه ، وشدّة عذابه ما لم يكن في حسابهم ، وفي هذا وعيد عظيم ، وتهديد بالغ ، وقال مجاهد : عملوا أعمالاً توهموا أنها حسنات ، فإذا هي سيئات ، وكذا قال السدّي . وقال سفيان الثوري : ويل لأهل الرياء ويل لأهل الرياء ويل لأهل الرياء هذه آيتهم ، وقصتهم . وقال عكرمة بن عمار : جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعاً شديداً ، فقيل له : ما هذا الجزع؟ قال : أخاف آية من كتاب الله { وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } ، فأنا أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب . { وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } أي : مساوىء أعمالهم من الشرك ، وظلم أولياء الله ، و «ما» يحتمل أن تكون مصدرية ، أي : سيئات كسبهم ، وأن تكون موصولة ، أي : سيئات الذي كسبوه { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } أي : أحاط بهم ، ونزل بهم ما كانوا يستهزئون به من الإنذار الذي كان ينذرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت } الآية قال : قست ، ونفرت { قُلُوبٍ } هؤلاء الأربعة { الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة } أبو جهل بن هشام ، والوليد بن عقبة ، وصفوان ، وأبيّ بن خلف { وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ } اللات ، والعزى { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } . وأخرج مسلم ، وأبو داود ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته : " اللَّهم ربّ جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما أختلف فيه من الحقّ بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " .
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
قوله : { فَإِذَا مَسَّ الإنسان } المراد بالإنسان هنا : الجنس باعتبار بعض أفراده ، أو غالبها . وقيل : المراد به الكفار فقط ، والأوّل أولى ، ولا يمنع من حمله على الجنس خصوص سببه ، لأن الاعتبار بعموم اللفظ ، وفاء بحقّ النظم القرآني ، ووفاء بمدلوله ، والمعنى : أن شأن غالب نوع الإنسان أنه إذا مسه ضرّ من مرض ، أو فقر ، أو غيرهما دعا الله ، وتضرع إليه في رفعه ، ودفعه { ثُمَّ إِذَا خولناه نِعْمَةً مّنَّا } أي : أعطيناه نعمة كائنة من عندنا { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ } مني بوجوه المكاسب ، أو على خير عندي ، أو على علم من الله بفضلي . وقال الحسن : على علم علمني الله إياه . وقيل : قد علمت أني إذا أوتيت هذا في الدنيا أن لي عند الله منزلة ، وجاء بالضمير في أوتيته مذكراً مع كونه راجعاً إلى النعمة؛ لأنها بمعنى : الإنعام . وقيل : إن الضمير عائد إلى ما ، وهي : موصولة ، والأوّل أولى { بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ } هذا ردّ لما قاله ، أي : ليس ذلك الذي أعطيناك لما ذكرت ، بل هو محنة لك ، واختبار لحالك أتشكر أم تكفر؟ قال الفراء : أنث الضمير في قوله : «هي» لتأنيث الفتنة ، ولو قال : بل هو فتنة لجاز . وقال النحاس : بل عطيته فتنة . وقيل : تأنيث الضمير باعتبار لفظ الفتنة ، وتذكير الأوّل في قوله : { أُوتِيتُهُ } باعتبار معناها : { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أن ذلك استدراج لهم من الله ، وامتحان لما عندهم من الشكر ، أو الكفر .
{ قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي : قال هذه الكلمة التي قالوها ، وهي قولهم : إنما أوتيته على علم الذين من قبلهم كقارون ، وغيره ، فإن قارون قال : { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِى } [ القصص : 78 ] { فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } يجوز أن تكون " ما " هذه نافية ، أي : لم يغن عنهم ما كسبوا من متاع الدنيا شيئاً ، وأن تكون استفهامية ، أي : أيّ شيء أغنى عنهم ذلك { فأصابهم سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } أي : جزاء سيئات كسبهم ، أو أصابهم سيئات هي جزاء كسبهم ، وسمي الجزاء سيئات لوقوعها في مقابلة سيئاتهم ، فيكون ذلك من باب المشاكلة كقوله : { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] . ثم أوعد سبحانه الكفار في عصره ، فقال : { والذين ظَلَمُواْ مِنْ هَؤُلاَء } الموجودين من الكفار { سَيُصِيبُهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } كما أصاب من قبلهم ، وقد أصابهم في الدنيا ما أصابهم من القحط ، والقتل ، والأسر ، والقهر { وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي : بفائتين على الله بل مرجعهم إليه يصنع بهم ما شاء من العقوبة . { أَوَ لَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء } أي : يوسع الرزق لمن يشاء أن يوسعه له { وَيَقْدِرُ } أي : يقبضه لمن يشاء أن يقبضه ، ويضيقه عليه .
قال مقاتل : وعظهم الله ، ليعتبروا في توحيده ، وذلك حين مطروا بعد سبع سنين ، فقال : أو لم يعلموا أن الله يوسع الرزق لمن يشاء ، ويقتر على من يشاء { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ } أي : في ذلك المذكور لدلالات عظيمة ، وعلامات جليلة { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } وخصّ المؤمنين؛ لأنهم المنتفعون بالآيات المتفكرون فيها . ثم لما ذكر سبحانه ما ذكره من الوعيد عقبه بذكر سعة رحمته ، وعظيم مغفرته ، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم : أن يبشرهم بذلك ، فقال : { قُلْ ياعِبَادِي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } المراد بالإسراف : الإفراط في المعاصي ، والاستكثار منها ، ومعنى لا تقنطوا : لا تيأسوا من رحمة الله من مغفرته . ثم لما نهاهم عن القنوط أخبرهم بما يدفع ذلك ، ويرفعه ، ويجعل الرجاء مكان القنوط ، فقال : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } .
واعلم أن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله سبحانه لاشتمالها على أعظم بشارة ، فإنه أوّلاً أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم ، ومزيد تبشيرهم ، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي ، والاستكثار من الذنوب ، ثم عقب ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب ، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب الأولى ، وبفحوى الخطاب ، ثم جاء بما لا يبقي بعده شك ، ولا يتخالج القلب عند سماعه ظنّ ، فقال : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب } ، فالألف ، واللام قد صيرت الجمع الذي دخلت عليه للجنس الذي يستلزم استغراق أفراده ، فهو في قوّة إن الله يغفر كلّ ذنب كائناً ما كان ، إلا ما أخرجه النصّ القرآني ، وهو : الشرك { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 ، 116 ] ، ثم لم يكتف بما أخبر عباده به من مغفرة كل ذنب ، بل أكد ذلك بقوله : { جَمِيعاً } فيا لها من بشارة ترتاح لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم الصادقين في رجائه ، الخالعين لثياب القنوط الرافضين لسوء الظنّ بمن لا يتعاظمه ذنب ، ولا يبخل بمغفرته ، ورحمته على عباده المتوجهين إليه في طلب العفو الملتجئين به في مغفرة ذنوبهم ، وما أحسن ما علل سبحانه به هذا الكلام قائلاً : إنه هو الغفور الرحيم ، أي : كثير المغفرة ، والرحمة عظيمهما بليغهما واسعهما ، فمن أبى هذا التفضل العظيم ، والعطاء الجسيم ، وظنّ أن تقنيط عباد الله ، وتأييسهم من رحمته أولى بهم مما بشرهم الله به ، فقد ركب أعظم الشطط ، وغلط أقبح الغلط ، فإن التبشير ، وعدم التقنيط الذي جاءت به مواعيد الله في كتابه العزيز ، والمسلك الذي سلكه رسوله صلى الله عليه وسلم كما صح عنه من قوله : « يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا » وإذا تقرّر لك هذا ، فاعلم أن الجمع بين هذه الآية ، وبين قوله :
{ إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 ، 116 ] هو : أن كلّ ذنب كائناً ما عدا الشرك بالله مغفور لمن شاء الله أن يغفر له ، على أنه يمكن أن يقال : إن إخباره لنا بأنه يغفر الذنوب جميعاً يدل على أنه يشاء غفرانها جميعاً ، وذلك يستلزم : أنه يشاء المغفرة لكلّ المذنبين من المسلمين ، فلم يبق بين الآيتين تعارض من هذه الحيثية . وأما ما يزعمه جماعة من المفسرين من تقييد هذه الآية بالتوبة ، وأنها لا تغفر إلا ذنوب التائبين ، وزعموا أنهم قالوا ذلك للجمع بين الآيات . فهو : جمع بين الضب ، والنون ، وبين الملاح ، والحادي ، وعلى نفسها براقش تجني ، ولو كانت هذه البشارة العظيمة مقيدة بالتوبة لم يكن لها كثير موقع ، فإن التوبة من المشرك يغفر الله له بها ما فعله من الشرك بإجماع المسلمين ، وقد قال : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 ، 116 ] ، فلو كانت التوبة قيداً في المغفرة لم يكن للتنصيص على الشرك فائدة ، وقد قال سبحانه : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } [ الرعد : 6 ] قال الواحدي : المفسرون كلهم قالوا : إن هذه الآية في قوم خافوا إن أسلموا أن لا يغفر لهم ما جنوا من الذنوب العظام ، كالشرك ، وقتل النفس ، ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم .
قلت : هب أنها في هؤلاء القوم ، فكان ماذا؟ ، فإن الاعتبار بما اشتملت عليه من العموم لا بخصوص السبب كما هو متفق عليه بين أهل العلم ، ولو كانت الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية مقيدة بأسبابها غير متجاوزة لها لارتفعت أكثر التكاليف عن الأمة إن لم ترتفع كلها ، واللازم باطل بالإجماع ، فالملزوم مثله .
وفي السنة المطهرة من الأحاديث الثابتة في الصحيحين ، وغيرهما في هذا الباب ما إن عرفه المطلع عليه حقّ معرفته ، وقدره حقّ قدره علم صحة ما ذكرناه ، وعرف حقية ما حررناه .
قرأ الجمهور : { يا عبادي } بإثبات الياء ، وصلا ، ووقفا ، وروى أبو بكر عن عاصم : أنه يقف بغير ياء . وقرأ الجمهور : { تقنطوا } بفتح النون . وقرأ أبو عمرو ، والكسائي بكسرها . { وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } أي : ارجعوا إليه بالطاعة لما بشرهم سبحانه بأنه يغفر الذنوب جميعاً ، أمرهم بالرجوع إليه بفعل الطاعات ، واجتناب المعاصي ، وليس في هذا ما يدلّ على تقييد الآية الأولى بالتوبة لا بمطابقة ، ولا تضمن ، ولا التزام ، بل غاية ما فيها : أنه بشّرهم بتلك البشارة العظمى ، ثم دعاهم إلى الخير ، وخوّفهم من الشرّ على أنه يمكن أن يقال : إن هذه الجملة مستأنفة خطاباً للكفار الذين لم يسلموا بدليل قوله : { وَأَسْلِمُواْ لَهُ } جاء بها لتحذير الكفار ، وإنذارهم بعد ترغيب المسلمين بالآية الأولى ، وتبشيرهم ، وهذا ، وإن كان بعيداً ، ولكنه يمكن أن يقال به ، والمعنى على ما هو الظاهر : أن الله جمع لعباده بين التبشير العظيم ، والأمر بالإنابة إليه ، والإخلاص له ، والاستسلام لأمره ، والخضوع لحكمه .
وقوله : { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب } أي : عذاب الدنيا كما يفيده قوله : { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ } ، فليس في ذلك ما يدلّ على ما زعمه الزاعمون ، وتمسك به القانطون المقنطون ، والحمد لله رب العالمين .
{ واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ } يعني : القرآن ، يقول : أحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، والقرآن كله حسن . قال الحسن : التزموا طاعته ، واجتنبوا معاصيه . وقال السدّي : الأحسن ما أمر الله به في كتابه . وقال ابن زيد : يعني : المحكمات ، وكلوا علم المتشابه إلى عالمه . وقيل : الناسخ دون المنسوخ . وقيل : العفو دون الانتقام بما يحق فيه الانتقام . وقيل : أحسن ما أنزل إليكم من أخبار الأمم الماضية { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } أي : من قبل أن يفاجئكم العذاب ، وأنتم غافلون عنه لا تشعرون به . وقيل : أراد أنهم يموتون بغتة ، فيقعون في العذاب . والأوّل أولى ، لأن الذي يأتيهم بغتة هو : العذاب في الدنيا بالقتل ، والأسر ، والقهر ، والخوف ، والجدب ، لا عذاب الآخرة ، ولا الموت ، لأنه لم يسند الإتيان إليه . { أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتى ياحسرتى على مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ الله } قال البصريون : أي حذراً أن تقول . وقال الكوفيون : لئلا تقول . قال المبرد : بادروا خوف أن تقول ، أو حذراً من أن تقول نفس . وقال الزجاج : خوف أن تصيروا إلى حال تقولون فيها : يا حسرتا على ما فرّطت في جنب الله . قيل : والمراد بالنفس هنا : النفس الكافرة . وقيل : المراد به التكثير كما في قوله : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ } [ التكوير : 14 ] قرأ الجمهور : { يا حسرتا } بالألف بدلاً من الياء المضاف إليها ، والأصل : يا حسرتي ، وقرأ ابن كثير : ( يا حسرتاه ) بهاء السكت وقفا ، وقرأ أبو جعفر : ( يا حسرتي ) بالياء على الأصل . والحسرة : الندامة ، ومعنى { على مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ الله } : على ما فرّطت في طاعة الله ، قاله الحسن . وقال الضحاك : على ما فرّطت في ذكر الله ، ويعني به : القرآن ، والعمل به . وقال أبو عبيدة : { فِى جَنبِ الله } أي : في ثواب الله . وقال الفراء : الجنب القرب ، والجوار ، أي : في قرب الله ، وجواره ، ومنه قوله : { والصاحب بالجنب } [ النساء : 36 ] ، والمعنى على هذا القول ، على ما فرّطت في طلب جنب الله ، أي : في طلب جواره ، وقربه ، وهو : الجنة ، وبه قال ابن الأعرابي ، وقال الزجاج : أي فرّطت في الطريق الذي هو : طريق الله من توحيده ، والإقرار بنبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا ، فالجنب بمعنى : الجانب ، أي : قصرت في الجانب الذي يؤدّي إلى رضا الله ، ومنه قول الشاعر :
للناس جنب والأمير جنب ... أي : الناس من جانب ، والأمير من جانب { وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين } أي : وما كنت إلا من المستهزئين بدين الله في الدنيا ، ومحل الجملة النصب على الحال .
قال قتادة : لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ المتقين } أي : لو أن الله أرشدني إلى دينه لكنت ممن يتقي الشرك ، والمعاصي ، وهذا من جملة ما يحتج به المشركون من الحجج الزائفة ، ويتعللون به من العلل الباطلة كما في قوله : { سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكْنَا } [ الأنعام : 148 ] ، فهي : كلمة حقّ يريدون بها باطلاً . ثم ذكر سبحانه مقالة أخرى مما قالوا ، فقال : { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً } أي : رجعة إلى الدنيا { فَأَكُونَ مِنَ المحسنين } المؤمنين بالله الموحدين له ، المحسنين في أعمالهم ، وانتصاب أكون إما لكونه معطوفاً على كرّة ، فإنها مصدر ، وأكون في تأويل المصدر كما في قول الشاعر :
للبس عباءة وتقرّ عيني ... أحبّ إليّ من لبس الشفوف
وأنشد الفرّاء على هذا :
فما لك منها غير ذكرى وخشية ... وتسأل عن ركبانها أين يمموا
وإما لكونه جواب التمني المفهوم من قوله : { لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً } . ثم ذكر سبحانه جوابه على هذه النفس المتمنية المتعللة بغير علة ، فقال : { بلى قَدْ جَاءتْكَ ءاياتى فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت وَكُنتَ مِنَ الكافرين } . المراد بالآيات هي : الآيات التنزيلية ، وهو : القرآن ، ومعنى التكذيب بها قوله : إنها ليس من عند الله ، وتكبر عن الإيمان بها ، وكان مع ذلك التكذيب ، والاستكبار من الكافرين بالله . وجاء سبحانه بخطاب المذكر في قوله : جاءتك ، وكذّبت ، واستكبرت ، وكنت ، لأن النفس تطلق على المذكر ، والمؤنث . قال المبرد : تقول العرب نفس واحد ، أي : إنسان واحد ، وبفتح التاء في هذه المواضع قرأ الجمهور . وقرأ الجحدري ، وأبو حيوة ، ويحيى بن يعمر بكسرها في جميعها ، وهي قراءة أبي بكر ، وابنته عائشة ، وأمّ سلمة ، ورويت عن ابن كثير { وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } ، أي : ترى الذين كذبوا على الله بأن له شركاء ، وصاحبة ، وولدا وجوههم مسودّة لما أحاط بهم من العذاب ، وشاهدوه من غضب الله ، ونقمته ، وجملة : { وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } في محل نصب على الحال . قال الأخفش : ترى غير عامل في وجوههم مسودّة ، إنما هو : مبتدأ وخبر ، والأولى أن ترى إن كانت من الرؤية البصرية ، فجملة : { وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } حالية ، وإن كانت قلبية ، فهي في محل نصب على أنها المفعول الثاني لترى ، والاستفهام في قوله : { أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْمُتَكَبّرِينَ } للتقرير ، أي : أليس فيها مقام للمتكبرين عن طاعة الله ، والكبر هو : بطر الحقّ ، وغمط الناس كما ثبت في الحديث الصحيح .
{ وَيُنَجّى الله الذين اتقوا } أي : اتقوا الشرك ، ومعاصي الله ، والباء في : { بِمَفَازَتِهِمْ } متعلقة بمحذوف هو : حال من الموصول ، أي : ملتبسين بمفازتهم .