كتاب : مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
المؤلف : محمد بن أحمد الخطيب الشربيني
الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ ( كَبُغَاةٍ ) أَيْ كَقِتَالِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ حَقَنَ دِمَاءَهُمْ كَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ حَقَنَ دِمَاءَ الْبُغَاةِ .
أَمَّا إذَا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ فَحُكْمُهُ مَذْكُورٌ فِي الْجِزْيَةِ .
تَنْبِيهٌ : تَشْبِيهُ الْمُصَنِّفِ لَهُمْ بِالْبُغَاةِ فِي الْمُقَاتَلَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَا يُلْحَقُونَ بِهِمْ فِي نَفْيِ ضَمَانِ مَا يُتْلِفُونَهُ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَهُوَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّا أَسْقَطْنَا الضَّمَانَ عَنْ الْبُغَاةِ لِاسْتِمَالَةِ قُلُوبِهِمْ وَرَدِّهِمْ إلَى الطَّاعَةِ ؛ لِئَلَّا يُنَفِّرَهُمْ الضَّمَانُ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ ، وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ ؟ وَجْهَانِ : فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا بِلَا تَرْجِيحٍ ، أَرْجَحُهُمَا كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : الْوُجُوبُ .
وَقَالَ : إنَّهُ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ ، وَخَرَجَ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ غَيْرُهُمْ مِنْ الْمُعَاهِدِينَ وَالْمُؤَمَّنِينَ فَيَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ وَلَا يُقْبَلُ عُذْرُهُمْ إلَّا فِي الْإِكْرَاهِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ فِي دَعْوَاهُمْ الْإِكْرَاهَ كَمَا مَرَّ عَنْ الشَّيْخَيْنِ .
فَرْعٌ : لَوْ اقْتَتَلَ طَائِفَتَانِ بَاغِيَتَانِ مَنَعَهُمَا الْإِمَامُ فَلَا يُعِينُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ مَنْعِهِمَا قَاتَلَ أَشَرَّهُمَا بِالْأُخْرَى الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ ، وَإِنْ رَجَعَتْ لَمْ يُفَاجِئْ الْأُخْرَى بِالْقِتَالِ حَتَّى يَدْعُوَهَا إلَى الطَّاعَةِ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِاسْتِعَانَتِهِ بِهَا فِي أَمَانِهِ ، فَإِنْ اسْتَوَتَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : ضَمَّ إلَيْهِ أَقَلَّهُمَا جَمْعًا ثُمَّ أَقْرَبَهُمَا دَارًا ثُمَّ يَجْتَهِدُ فِيهِمَا وَقَاتَلَ بِالْمَضْمُومَةِ إلَيْهِ مِنْهُمَا الْأُخْرَى غَيْرَ قَاصِدٍ إعَانَتَهَا ، بَلْ قَاصِدًا دَفْعَ الْأُخْرَى ، وَلَوْ غَزَا الْبُغَاةُ مَعَ الْإِمَامِ مُشْرِكِينَ فَكَأَهْلِ الْعَهْدِ فِي حُكْمِ الْغَنَائِمِ فَيُعْطَى الْقَاتِلُ مِنْهُمْ السَّلَبَ كَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ ، وَلَوْ عَاهَدَ الْبُغَاةُ مُشْرِكًا اجْتَنَبْنَاهُ بِأَنْ لَا نَقْصِدَهُ بِمَا نَقْصِدُ بِهِ الْحَرْبِيَّ غَيْرَ الْمُعَاهِدِ .
وَلَوْ قَتَلَ عَادِلٌ عَادِلًا فِي الْقِتَالِ .
وَقَالَ : ظَنَنْتُهُ بَاغِيًا حَلَفَ وَوَجَبَتْ الدِّيَةُ دُونَ الْقِصَاصِ لِلْعُذْرِ ، وَلَوْ تَعَمَّدَ عَادِلٌ قَتْلَ بَاغٍ أَمَّنَهُ عَادِلٌ وَلَوْ كَانَ الْمُؤَمِّنُ لَهُ عَبْدًا أَوْ امْرَأَةً اُقْتُصَّ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِأَمَانِهِ لَزِمَهُ الدِّيَةُ .
[ فَصْلٌ ] شَرْطُ الْإِمَامِ كَوْنُهُ مُسْلِمًا مُكَلَّفًا حُرًّا ذَكَرًا قُرَشِيًّا مُجْتَهِدًا شُجَاعًا ذَا رَأْيٍ وَسَمْعٍ وَبَصَرٍ وَنُطْقٍ .
وَلَمَّا قَدَّمَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْبَغْيَ هُوَ الْخُرُوجُ عَلَى الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ الْقَائِمُ بِخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا فَيَالَهَا رُتْبَةً مَا أَسْنَاهَا وَمَرْتَبَةً مَا أَعْلَاهَا احْتَاجَ إلَى تَعْرِيفِهِ فَعَقَدَ لَهُ فَصْلًا ، فَقَالَ [ فَصْلٌ ] فِي شُرُوطِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَبَيَانِ انْعِقَادِ طُرُقِ الْإِمَامَةِ .
وَهِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَالْقَضَاءِ ، إذْ لَا بُدَّ لِلْأُمَّةِ مِنْ إمَامٍ يُقِيمُ الدِّينَ وَيَنْصُرُ السُّنَّةَ وَيُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنْ الظَّالِمِ وَيَسْتَوْفِي الْحُقُوقَ وَيَضَعُهَا مَوَاضِعَهَا ، وَقَدَّمَا فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ الْكَلَامَ عَلَى الْإِمَامَةِ عَلَى أَحْكَامِ الْبُغَاةِ ، وَمَا فِي الْكِتَابِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ ، وَقَدْ بَدَأَ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ : الشُّرُوطُ بِقَوْلِهِ ( شَرْطُ الْإِمَامِ ) الْأَعْظَمِ هُوَ مُفْرَدٌ مُضَافٌ فَيَعُمُّ كُلَّ شَرْطٍ : أَيْ شُرُوطِهِ حَالَ عَقْدِ الْإِمَامَةِ أَوْ الْعَهْدِ بِهَا ، أُمُورٌ : أَحَدُهَا ( كَوْنُهُ مُسْلِمًا ) لِيُرَاعِيَ مَصْلَحَةَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ ، فَلَا تَصِحُّ تَوْلِيَةُ كَافِرٍ وَلَوْ عَلَى كَافِرٍ ثَانِيهَا كَوْنُهُ ( مُكَلَّفًا ) لِيَلِيَ أَمْرَ النَّاسِ ، فَلَا تَصِحُّ إمَامَةُ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ بِإِجْمَاعٍ ؛ لِأَنَّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فِي حَضَانَةِ غَيْرِهِ ، فَكَيْفَ يَلِي أَمْرَ الْأُمَّةِ ؟ وَفِي الْحَدِيثِ { نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ إمَارَةِ الصِّبْيَانِ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ثَالِثُهَا كَوْنُهُ ( حُرًّا ) لِيَكْمُلَ وَيُهَابَ ، بِخِلَافِ مَنْ فِيهِ رِقٌّ ، وَلِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِخِدْمَةِ غَيْرِهِ ، وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَمِعُوا وَأَطِيعُوا ، وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ } فَمَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى ، رَابِعُهَا كَوْنُهُ ( ذَكَرًا ) لِيَتَفَرَّغَ وَيَتَمَكَّنَ مِنْ مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ ، فَلَا تَصِحُّ وِلَايَةُ امْرَأَةٍ ، لِمَا فِي الصَّحِيحِ { لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً } وَلَا وِلَايَةُ خُنْثَى
وَإِنْ بَانَتْ ذُكُورَتُهُ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي تَوْلِيَةِ الْقَاضِي فَالْإِمَامُ أَوْلَى .
خَامِسُهَا كَوْنُهُ ( قُرَشِيًّا ) لِخَبَرِ النَّسَائِيّ { الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ } وَبِهِ أَخَذَ الصَّحَابَةُ فَمَنْ بَعْدَهُمْ .
هَذَا عِنْدَ تَيَسُّرِ قُرَشِيٍّ لِلشُّرُوطِ ، فَإِنْ عُدِمَ فَمُنْتَسِبٌ إلَى كِنَانَةَ ، فَإِنْ عُدِمَ فَرَجُلٌ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ عُدِمَ فَرَجُلٌ جُرْهُمِيٌّ كَمَا فِي التَّتِمَّةِ .
وَجُرْهُمُ أَصْلُ الْعَرَبِ ، وَمِنْهُمْ تَزَوَّجَ سَيِّدُنَا إسْمَاعِيلُ حِينَ أَنْزَلَهُ أَبُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضَ مَكَّةَ ، فَإِنْ عُدِمَ فَرَجُلٌ مِنْ وَلَدِ إِسْحَاقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إلَى غَيْرِهِمْ ، وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ هَاشِمِيًّا بِاتِّفَاقٍ ، فَإِنَّ الصِّدِّيقَ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ .
سَادِسُهَا : كَوْنُهُ عَدْلًا ، وَلَوْ ذَكَرَهُ بَدَلَ مُسْلِمًا لَعُلِمَ مِنْهُ كَوْنُهُ مُسْلِمًا .
قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ : وَإِذَا تَعَذَّرَتْ الْعَدَالَةُ فِي الْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ قَدَّمْنَا أَقَلَّهُمْ فِسْقًا .
سَابِعُهَا : كَوْنُهُ عَالِمًا ( مُجْتَهِدًا ) لِيَعْرِفَ الْأَحْكَامَ وَيُعَلِّمَ النَّاسَ وَلَا يَحْتَاجَ إلَى اسْتِفْتَاءِ غَيْرِهِ فِي الْحَوَادِثِ لِأَنَّهُ بِالْمُرَاجَعَةِ وَالسُّؤَالِ يَخْرُجُ عَنْ رُتْبَةِ الِاسْتِقْلَالِ ، ثَامِنُهَا : كَوْنُهُ ( شُجَاعًا ) بِتَثْلِيثِ الْمُعْجَمَةِ ، وَالشَّجَاعَةُ قُوَّةُ الْقَلْبِ عِنْدَ الْبَأْسِ لِيَنْفَرِدَ بِنَفْسِهِ وَيُدَبِّرَ الْجُيُوشَ وَيَقْهَرَ الْأَعْدَاءَ وَيَفْتَحَ الْحُصُونَ .
تَاسِعُهَا : كَوْنُهُ ( ذَا رَأْيٍ ) يُفْضِي إلَى سِيَاسَةِ الرَّعِيَّةِ وَتَدْبِيرِ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَهُوَ مِلَاكُ الْأُمُورِ .
قَالَ الْمُتَنَبِّي : الرَّأْيُ قَبْلَ شَجَاعَةِ الشُّجْعَانِ هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ الْمَحَلُّ الثَّانِي فَإِذَا هُمَا اجْتَمَعَا لِنَفْسٍ مَرَّةً بَلَغَتْ مِنْ الْعَلْيَاءِ كُلَّ مَكَانِ وَلَرُبَّمَا قَهَرَ الْفَتَى أَقْرَانَهُ بِالرَّأْيِ لَا بِتَطَاوُلِ الْأَقْرَانِ وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي سَدَادِ الرَّأْيِ ( وَ ) .
عَاشِرُهَا : كَوْنُهُ ذَا ( سَمْعٍ وَبَصَرٍ وَنُطْقٍ ) لِيَتَأَتَّى مِنْهُ فَصْلُ الْأُمُورِ ، وَلَا يَضُرُّ ثِقَلُ السَّمْعِ وَالتَّمْتَمَةُ وَلَا كَوْنُهُ أَعْشَى الْعَيْنِ لِأَنَّ عَجْزَهُ حَالَ الِاسْتِرَاحَةِ وَيُرْجَى زَوَالُهُ .
وَأَمَّا ضَعْفُ الْبَصَرِ فَإِنْ مَنَعَ تَمْيِيزَ الْأَشْخَاصِ مُنِعَ ، وَإِلَّا فَلَا تَنْبِيهٌ : فُهِمَ مِنْ اشْتِرَاطِهِ الْبَصَرَ جَوَازُ كَوْنِهِ أَعْوَرَ وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الرُّويَانِيُّ وَمِنْ اقْتِصَارِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فَقْدُ شَمٍّ وَذَوْقٍ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَيْضًا أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ نَقْصٌ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ حَرَكَةِ النُّهُوضِ كَالنَّقْصِ فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ كَمَا صَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَعْصُومًا ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ لِلْأَنْبِيَاءِ ، وَلَا يَضُرُّ قَطْعُ ذَكَرٍ وَأُنْثَيَيْنِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ كَمَا تُعْتَبَرُ فِي الِابْتِدَاءِ تُعْتَبَرُ فِي الدَّوَامِ إلَّا الْعَدَالَةَ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ فِي الْأَصَحِّ وَإِلَّا الْجُنُونَ الْمُتَقَطِّعَ ، إذَا كَانَ زَمَنُ الْإِفَاقَةِ أَكْثَرَ .
قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَإِلَّا فِي قَطْعِ إحْدَى الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الدَّوَامِ ، إذْ يُغْتَفَرُ فِي الدَّوَامِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الِابْتِدَاءِ ، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَنْعَزِلُ بِالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَالْخَرَسِ وَالْمَرَضِ الَّذِي يُنْسِيهِ الْعُلُومَ .
وَتَنْعَقِدُ الْإِمَامَةُ بِالْبَيْعَةِ ، وَالْأَصَحُّ بَيْعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ الَّذِينَ يَتَيَسَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ ، وَشَرْطُهُمْ صِفَةُ الشُّهُودِ وَبِاسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ ، فَلَوْ جَعَلَ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ جَمْعٍ فَكَاسْتِخْلَافٍ فَيَرْتَضُونَ أَحَدَهُمْ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ انْعِقَادِ طُرُقِ الْإِمَامَةِ بِقَوْلِهِ ( وَتَنْعَقِدُ الْإِمَامَةُ ) بِثَلَاثَةِ طُرُقٍ .
أَحَدُهَا ( بِالْبَيْعَةِ ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ كَمَا بَايَعَ الصَّحَابَةُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَاخْتُلِفَ فِي عَدَدِ الْمُبَايِعِ ( وَالْأَصَحُّ ) لَا يَتَعَيَّنُ عَدَدٌ ، بَلْ الْمُعْتَبَرُ ( بَيْعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ الَّذِينَ يَتَيَسَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ ) لِأَنَّ الْأَمْرَ يَنْتَظِمُ بِهِمْ وَيَتْبَعُهُمْ سَائِرُ النَّاسِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ سَائِرِ الْأَقْطَارِ الْبَعِيدَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ عَدَدٌ كَمَا يُوهِمُهُ كَلَامُهُ ، بَلْ لَوْ تَعَلَّقَ الْحَلُّ وَالْعَقْدُ بِوَاحِدٍ مُطَاعٍ كَفَتْ بَيْعَتُهُ ، وَلَزِمَهُ الْمُوَافَقَةُ وَالْمُتَابَعَةُ ، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَقَلُّ الْجَمَاعَةِ ، وَقِيلَ مِنْ ثَلَاثَةٍ لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ ، وَقِيلَ مِنْ أَرْبَعَةٍ لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ نِصَابِ الشَّهَادَةِ ، وَقِيلَ مِنْ خَمْسَةٍ غَيْرِ الْبَائِعِ كَأَهْلِ الشُّورَى ، وَقِيلَ مِنْ أَرْبَعِينَ لِأَنَّهُ أَشَدُّ خَطَرًا مِنْ الْجُمُعَةِ ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ لِانْعِقَادِهَا إشْهَادُ شَاهِدَيْنِ أَوْ لَا ؟ حَكَى فِي الرَّوْضَةِ عَنْ الْإِمَامِ عَنْ الْأَصْحَابِ الْأَوَّلَ لِئَلَّا يُدْعَى عَقْدٌ سَابِقٌ ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ لَيْسَتْ دُونَ النِّكَاحِ ، وَقِيلَ إنْ عَقَدَهَا وَاحِدٌ اُشْتُرِطَ الْإِشْهَادُ ، أَوْ جَمْعٌ فَلَا ، وَجَرَى عَلَى هَذَا ابْنُ الْمُقْرِي ( وَشَرْطُهُمْ ) أَيْ الْمُبَايِعِينَ ( صِفَةُ الشُّهُودِ ) مِنْ الْعَدَالَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَأْتِي .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَمَا فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا مِنْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُبَايِعُ مُجْتَهِدًا إنْ اتَّحَدَ ، وَأَنْ يَكُونَ فِيهِ مُجْتَهِدٌ إنْ تَعَدَّدَ مُفَرَّعٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ ، وَالْمُرَادُ بِالْمُجْتَهِدِ هُنَا الْمُجْتَهِدُ بِشُرُوطِ الْإِمَامَةِ لَا أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا مُطْلَقًا
كَمَا صَرَّحَ بِهِ الزَّنْجَانِيُّ فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ ( وَ ) ثَانِيهِمَا يَنْعَقِدُ ( بِاسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ ) شَخْصًا عَيَّنَهُ فِي حَيَاتِهِ لِيَكُونَ خَلِيفَتَهُ بَعْدَهُ ، وَيُعَبِّرُ عَنْهُ بِعَهِدْتُ إلَيْهِ كَمَا عَهِدَ أَبُو بَكْرٍ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ، بِقَوْلِهِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، هَذَا مَا عَهِدَ أَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ آخِرِ عَهْدِهِ مِنْ الدُّنْيَا وَأَوَّلِ عَهْدِهِ بِالْآخِرَةِ فِي الْحَالَةِ الَّتِي يُؤْمِنُ فِيهَا الْكَافِرُ وَيَتَّقِي فِيهَا الْفَاجِرُ ، إنِّي اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، فَإِنْ بَرَّ وَعَدَلَ فَذَاكَ عِلْمِي بِهِ وَعِلْمِي فِيهِ ، وَإِنْ جَارَ وَبَدَّلَ فَلَا عِلْمَ لِي بِالْغَيْبِ ، وَالْخَيْرَ أَرَدْتُ ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا اكْتَسَبَ { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِ .
تَنْبِيهٌ : لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ جَامِعًا لِشُرُوطِ الْإِمَامَةِ ، فَلَا عِبْرَةَ بِاسْتِخْلَافِ الْجَاهِلِ وَالْفَاسِقِ ، وَأَنْ يَقْبَلَ الْخَلِيفَةَ فِي حَيَاةِ الْإِمَامِ ، وَإِنْ تَرَاخَى عَنْ الِاسْتِخْلَافِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّوْضَةِ ، وَإِنْ بَحَثَ الْبُلْقِينِيُّ اشْتِرَاطَ الْفَوْرِ ، فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْ الْحَيَاةِ رَجَعَ ذَلِكَ إلَى الْإِيصَاءِ وَسَيَأْتِي حُكْمُهُ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى الْأَصْلَحَ لِلْإِمَامَةِ بِأَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِ ، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ وَاحِدٌ وَلَّاهُ ، وَلَهُ جَعْلُ الْخِلَافَةِ لِزَيْدٍ ، ثُمَّ بَعْدَهُ لِعَمْرٍو ، ثُمَّ بَعْدَهُ لِبَكْرٍ ، وَتَنْتَقِلُ عَلَى مَا رَتَّبَ كَمَا رَتَّبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَرَاءَ جَيْشِ مُؤْتَةَ ، فَإِنْ مَاتَ الْأَوَّلُ فِي حَيَاةِ الْخَلِيفَةِ فَالْخِلَافَةُ لِلثَّانِي ، وَإِنْ مَاتَ الثَّانِي أَيْضًا فَهِيَ لِلثَّالِثِ ، وَإِنْ مَاتَ الْخَلِيفَةُ وَبَقِيَ الثَّلَاثَةُ أَحْيَاءً وَانْتَصَبَ الْأَوَّلُ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا إلَى غَيْرِ الْأَخِيرَيْنِ ، لِأَنَّهَا لَمَّا انْتَهَتْ
إلَيْهِ صَارَ أَمْلَكَ بِهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ وَلَمْ يَعْهَدْ إلَى أَحَدٍ ، فَلَيْسَ لِأَهْلِ الْبَيْعَةِ أَنْ يُبَايِعُوا غَيْرَ الثَّانِي وَيُقَدَّمُ عَهْدُ الْأَوَّلِ عَلَى اخْتِيَارِهِمْ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِخْلَافِ رِضَا أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ : بَلْ إذَا ظَهَرَ لَهُ وَاحِدٌ جَازَ بَيْعَتُهُ مِنْ غَيْرِ حُضُورٍ غَيْرِهِ وَلَا مُشَاوَرَةِ أَحَدٍ كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ وَقَطَعَ بِهِ الْإِمَامُ ، ( فَلَوْ جَعَلَ ) الْإِمَامُ ( الْأَمْرَ ) فِي الْخِلَافَةِ ( شُورَى ) هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّشَاوُرِ ( بَيْنَ جَمْعٍ فَكَاسْتِخْلَافٍ ) حُكْمُهُ إلَّا أَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ ( فَيَرْتَضُونَ أَحَدَهُمْ ) بَعْدَ مَوْتِ الْإِمَامِ فَيُعَيِّنُونَهُ لِلْخِلَافَةِ كَمَا جَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ : عَلِيٍّ ، وَالزُّبَيْرِ ، وَعُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَطَلْحَةَ ، فَاتَّفَقُوا عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَّا قَبْلَ مَوْتِهِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُعَيِّنُوهُ إلَّا بِإِذْنِهِ ، فَإِنْ خَافُوا تَفَرُّقَ الْأَمْرِ وَانْتِشَارَهُ بَعْدَهُ اسْتَأْذَنُوهُ ، وَلَوْ امْتَنَعَ أَهْلُ الشُّورَى مِنْ الِاخْتِيَارِ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْهَدْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ امْتَنَعَ الْمَعْهُودُ إلَيْهِ مِنْ الْقَبُولِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ أَوْصَى بِهَا جَازَ كَمَا لَوْ اسْتَخْلَفَ ، لَكِنَّ قَبُولَ الْمُوصَى لَهُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ يَخْرُجُ عَنْ الْوِلَايَةِ وَيَتَعَيَّنُ مَنْ اخْتَارَهُ لِلْخِلَافَةِ بِالِاسْتِخْلَافِ أَوْ الْوَصِيَّةِ مَعَ الْقَبُولِ ، فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُعَيِّنَ غَيْرَهُ ، وَإِنْ اسْتَعْفَى الْخَلِيفَةُ أَوْ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ الْقَبُولِ لَمْ يَنْعَزِلْ حَتَّى يُعْفَى وَيُوجَدَ غَيْرُهُ ، فَإِنْ وُجِدَ غَيْرُهُ جَازَ اسْتِعْفَاؤُهُ وَإِعْفَاؤُهُ وَخَرَجَ مِنْ الْعَهْدِ بِاسْتِجْمَاعِهِمَا ، وَإِلَّا امْتَنَعَ وَبَقِيَ الْعَهْدُ لَازِمًا ، وَيَجُوزُ الْعَهْدُ إلَى
الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ كَمَا يَجُوزُ إلَى غَيْرِهِمَا كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ وَابْنُ الْمُقْرِي ، وَقِيلَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ كَالتَّزْكِيَةِ وَالْحُكْمِ ، وَقِيلَ : تَجُوزُ لِلْوَالِدِ دُونَ الْوَلَدِ ، لِشِدَّةِ الْمَيْلِ إلَيْهِ .
وَبِاسْتِيلَاءِ جَامِعِ الشُّرُوطِ ، وَكَذَا فَاسِقٌ وَجَاهِلٌ فِي الْأَصَحِّ .
فَرْعٌ : لَوْ صَلَحَ لِلْإِمَامَةِ وَاحِدٌ فَقَطْ تَعَيَّنَ ، أَوْ اثْنَانِ اُسْتُحِبَّ لِأَهْلِ الْعَقْدِ وَالْحَلِّ تَقْدِيمُ أَسَنِّهِمَا فِي الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ إنْ كَثُرَتْ الْحُرُوبُ كَأَنْ ظَهَرَ أَهْلُ الْفَسَادِ أَوْ الْبُغَاةِ فَالْأَشْجَعُ أَحَقُّ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَعَتْ إلَى زِيَادَةِ الشَّجَاعَةِ ، أَوْ كَثُرَتْ الْبِدَعُ فَالْأَعْلَمُ أَحَقُّ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَعَتْ إلَى زِيَادَةِ الْعِلْمِ ، فَإِنْ اسْتَوَيَا أَقُرِعَ وَإِنْ لَمْ يَتَنَازَعَا كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ الْمُقْرِي لِأَنَّ فَيْأَهُمَا لِلْمُسْلِمِينَ لَا لَهُمَا لِعَدَمِ التَّرْجِيحِ ، وَقِيلَ يُقَدِّمُ أَهْلُ الْعَقْدِ وَالْحَلِّ مَنْ شَاءُوا بِلَا قُرْعَةٍ ، وَلَوْ تَنَازَعَاهَا لَمْ يَقْدَحْ فِيهِمَا تَنَازُعُهَا ؛ لِأَنَّ طَلَبَهَا لَيْسَ مَكْرُوهًا ( وَ ) ثَالِثُهَا ( بِاسْتِيلَاءِ ) شَخْصٍ مُتَغَلِّبٍ عَلَى الْإِمَامَةِ ( جَامِعِ الشُّرُوطِ ) الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْإِمَامَةِ عَلَى الْمُلْكِ بِقَهْرٍ وَغَلَبَةٍ بَعْدَ مَوْتِ الْإِمَامِ لَيَنْتَظِمَ شَمْلُ الْمُسْلِمِينَ .
أَمَّا الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْحَيِّ فَإِنْ كَانَ الْحَيُّ مُتَغَلِّبًا انْعَقَدَتْ إمَامَةُ الْمُتَغَلِّبِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ إمَامًا بِبَيْعَةٍ أَوْ عَهْدٍ لَمْ تَنْعَقِدْ إمَامَةُ الْمُتَغَلِّبِ عَلَيْهِ ( وَكَذَا فَاسِقٌ وَجَاهِلٌ ) تَنْعَقِدُ إمَامَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعَ وُجُودِ بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ بِالِاسْتِيلَاءِ ( فِي الْأَصَحِّ ) وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا بِذَلِكَ لِمَا مَرَّ .
وَالثَّانِي الْمَنْعُ لِفَقْدِ الشُّرُوطِ .
تَنْبِيهٌ : كَلَامُهُ يُفْهِمُ أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا يَجْرِي فِي حَالِ اجْتِمَاعِ الْفِسْقِ وَالْجَهْلِ ، لَكِنَّ عِبَارَةَ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا مُشْعِرَةٌ بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ عِنْدَ انْفِرَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا ، وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا قَالَهُ الدَّمِيرِيُّ ، فَإِنْ جَعَلْتُ الْوَاوَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِمَعْنَى أَوْ كَمَا قَرَّرْتُ بِهِ كَلَامَهُ فَلَا مُخَالَفَةَ ، وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ بِالْفِسْقِ وَالْجَهْلِ ، بَلْ سَائِرُ الشُّرُوطِ إذَا فُقِدَ وَاحِدٌ مِنْهَا كَذَلِكَ كَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ
.
قَالَ الدَّمِيرِيُّ : وَلِيَ الْأَكْنَانَ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ حِينَ مَاتَ أَبُوهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَضَعُوا التَّاجَ عَلَى بَطْنِ أُمِّهِ وَعَقَدُوا لِحَمْلِهَا اللِّوَاءَ فَوَلَدَتْ ذَكَرًا فَمَلَكَهُمْ إلَى أَنْ مَاتَ ، نَعَمْ الْكَافِرُ إذَا تَغَلَّبَ لَا تَنْعَقِدُ إمَامَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } وَقَوْلِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ : وَلَوْ اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى إقْلِيمٍ فَوَلَّوْا الْقَضَاءَ رَجُلًا مُسْلِمًا ، فَاَلَّذِي يَظْهَرُ انْعِقَادُهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ ، فَإِنَّهُ قَالَ : لَوْ اُبْتُلِيَ النَّاسُ بِوِلَايَةِ صَبِيٍّ مُمَيِّزٍ يَرْجِعُ لِلْعُقَلَاءِ أَوْ امْرَأَةٍ هَلْ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُمَا لِعَامٍّ فِيمَا يُوَافِقُ الْحَقَّ كَتَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ وَالْوُلَاةِ ؟ فِيهِ وَقْفَةٌ ا هـ فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ وَقْفَةٌ فِي ذَلِكَ فَالْكَافِرُ أَوْلَى .
قُلْتُ : لَوْ ادَّعَى دَفْعَ زَكَاةٍ إلَى الْبُغَاةِ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ ، أَوْ جِزْيَةٍ فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ ، وَكَذَا خَرَاجٍ فِي الْأَصَحِّ ، وَيُصَدَّقُ فِي حَدٍّ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ بِبَيِّنَةٍ ، وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي الْبَدَنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فُرُوعٌ : تَجِبُ طَاعَةُ الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ جَائِرًا فِيمَا يَجُوزُ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ لِخَبَرِ { اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعُ الْأَطْرَافِ } وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ نَصْبِهِ اتِّحَادُ الْكَلِمَةِ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِوُجُوبِ الطَّاعَةِ ، وَتَجِبُ نَصِيحَتُهُ لِلرَّعِيَّةِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ ، وَلَا يَجُوزُ عَقْدُهَا لِإِمَامَيْنِ فَأَكْثَر وَلَوْ بِأَقَالِيمَ وَلَوْ تَبَاعَدَتْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ اخْتِلَالِ الرَّأْيِ وَتَفَرُّقِ الشَّمْلِ ، فَإِنْ عُقِدَتْ لِاثْنَيْنِ مَعًا بَطَلَتَا أَوْ مُرَتَّبًا انْعَقَدَتْ لِلسَّابِقِ كَمَا فِي النِّكَاحِ عَلَى امْرَأَةٍ ، وَيُعَزَّرُ الثَّانِي وَمُبَايِعُوهُ إنْ عَلِمُوا بِبَيْعَةِ السَّابِقِ لِارْتِكَابِهِمْ مُحَرَّمًا .
فَإِنْ قِيلَ وَرَدَ : فِي مُسْلِمٍ { إذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخِرَ مِنْهُمَا } فَكَيْفَ يُقَالُ بِالتَّعْزِيرِ فَقَطْ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ لَا تُطِيعُوهُ فَيَكُونُ كَمَنْ قُتِلَ ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أَنَّهُ إنْ أَصَرَّ فَهُوَ بَاغٍ يُقَاتَلُ ، فَإِنْ عُلِمَ سَبْقٌ وَجَهْلٌ بَطَلَ الْعَقْدَانِ كَمَا مَرَّ نَظِيرُهُ مِنْ الْجُمُعَةِ وَالنِّكَاحِ ، وَإِنْ عَلِمَ السَّابِقُ ثُمَّ نَسِيَ وَقَفَ الْأَمْرُ رَجَاءَ الِانْكِشَافِ ، فَإِنْ أَضَرَّ الْوَقْفُ بِالْمُسْلِمِينَ عُقِدَ لِأَحَدِهِمَا لَا لِغَيْرِهِمَا ؛ لِأَنَّ عَقْدَهَا لَهُمَا أَوْجَبَ صَرْفُهَا عَنْ غَيْرِهِمَا وَإِنْ بَطَلَ عَقْدَاهُمَا بِالْإِضْرَارِ ، وَخَالَفَ الْبُلْقِينِيُّ الشَّيْخَيْنِ فِي ذَلِكَ وَقَالَ بِجَوَازِ عَقْدِهَا لِغَيْرِهِمَا ، وَالْحَقُّ فِي الْإِمَامَةِ لِلْمُسْلِمِينَ لَا لَهُمَا ، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى أَحَدِهِمَا السَّبَقَ وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ بَطَلَ حَقُّهُ وَلَا يَثْبُتُ الْحَقُّ لِلْآخَرِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَيَجُوزُ تَسْمِيَةُ الْإِمَامِ خَلِيفَةً ، وَخَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ .
قَالَ الْبَغَوِيّ : وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا ، وَأَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَلَا يَجُوزُ
تَسْمِيَتُهُ بِخَلِيفَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يُسْتَخْلَفُ مَنْ يَغِيبُ وَيَمُوتُ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : وَلَا يُسَمَّى أَحَدٌ خَلِيفَةَ اللَّهِ بَعْدَ آدَمَ وَدَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ، وَعَنْ ابْنِ مُلَيْكَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : يَا خَلِيفَةَ اللَّهِ فَقَالَ أَنَا خَلِيفَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا رَاضٍ بِذَلِكَ ، وَلَا يَجُوزُ خَلْعُ الْإِمَامِ مَا لَمْ تَخْتَلَّ الصِّفَاتُ فِيهِ ، وَلَا يَصِيرُ الشَّخْصُ إمَامًا بِتَفَرُّدِهِ بِشُرُوطِ الْإِمَامَةِ فِي وَقْتِهِ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ الطُّرُقِ كَمَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ الْجُمْهُورِ ، وَقِيلَ يَصِيرُ عَنْ غَيْرِ عَقْدٍ ، حَكَاهُ الْقَمُولِيُّ .
قَالَ : وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَلْحَقَ الْقَاضِيَ بِالْإِمَامِ فِي ذَلِكَ .
وَقَالَ الْإِمَامُ : لَوْ شَغَرَ الزَّمَانُ عَنْ الْإِمَامِ انْتَقَلَتْ أَحْكَامُهُ إلَى أَعْلَمِ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ ( قُلْتُ ) كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ فِيمَا لَوْ عَادَ الْبَلَدُ مِنْ الْبُغَاةِ إلَيْنَا ( لَوْ ادَّعَى ) بَعْضُ أَهْلِهِ ( دَفْعَ زَكَاةٍ إلَى الْبُغَاةِ صُدِّقَ ) بِلَا يَمِينٍ إنْ لَمْ يُتَّهَمْ وَ ( بِيَمِينِهِ ) إنْ اُتُّهِمَ لِبِنَائِهَا عَلَى الْمُوَاسَاةِ ، وَالْمُسْلِمُ مُؤْتَمَنٌ فِي أَمْرِ دِينِهِ .
تَنْبِيهٌ : الْيَمِينُ هُنَا مُسْتَحَبَّةٌ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ فِي الزَّكَاةِ وَإِنْ صَحَّحَ فِي تَصْحِيحِ التَّنْبِيهِ هُنَا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ ، وَجَرَى عَلَيْهِ الدَّمِيرِيُّ ( أَوْ ) ذِمِّيٌّ ادَّعَى دَفْعَ ( جِزْيَةٍ فَلَا ) يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ ( عَلَى الصَّحِيحِ ) لِأَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ السَّكَنِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ادَّعَى الْمُسْتَأْجِرُ دَفْعَ الْأُجْرَةِ .
وَالثَّانِي يُصَدَّقُ كَالْمُزَكِّي ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الذِّمِّيَّ غَيْرُ مُؤْتَمَنٍ فِيمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِلْعَدَاوَةِ الظَّاهِرَةِ ( وَكَذَا خَرَاجٌ ) لِأَرْضٍ دَفَعَهُ الْمُسْلِمُ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ لِقَاضِي الْبُغَاةِ لَا يُصَدَّقُ فِي
دَفْعِهِ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّهُ أُجْرَةٌ .
وَالثَّانِي يُصَدَّقُ كَالزَّكَاةِ .
أَمَّا الْكَافِرُ إذَا ادَّعَى دَفْعَ الْخَرَاجِ فَلَا يُصَدَّقُ جَزْمًا ( وَيُصَدَّقُ ) الشَّخْصُ ( فِي ) إقَامَةِ ( حَدٍّ ) أَنَّهُ أُقِيمَ عَلَيْهِ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : بِلَا يَمِينٍ ، لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ( إلَّا أَنْ يَثْبُتَ ) الْحَدُّ ( بِبَيِّنَةٍ ، وَ ) الْحَالُ أَنَّهُ ( لَا أَثَرَ لَهُ ) أَيْ الْحَدِّ ( فِي الْبَدَنِ ) فَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ إقَامَتِهِ وَلَا قَرِينَةَ تَدْفَعُهُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ ثُبُوتِهِ بِالْبَيِّنَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ أَنَّ الْمُقِرَّ بِالْحَدِّ لَوْ رَجَعَ قَبْلَ رُجُوعِهِ وَإِنْكَارِهِ بَقَاءَ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الرُّجُوعِ .
تَنْبِيهٌ : كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَذْكُرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ قَبْلَ الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ الْإِمَامَةِ .
خَاتِمَةٌ : لَا يَنْعَزِلُ إمَامٌ أَسَرَهُ كُفَّارٌ أَوْ بُغَاةٌ لَهُمْ إمَامٌ إلَّا إنْ وَقَعَ الْيَأْسُ وَلَمْ يَعُدْ إلَى إمَامَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْبُغَاةِ إمَامٌ لَمْ يَنْعَزِلْ الْإِمَامُ الْمَأْسُورُ ، وَإِنْ وَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ خَلَاصِهِ وَيَسْتَنِيبُ عَنْ نَفْسِهِ إنْ قَدَرَ عَلَى الِاسْتِنَابَةِ وَإِلَّا اُسْتُنِيبَ عَنْهُ ، فَلَوْ خَلَعَ الْإِمَامُ نَفْسَهُ أَوْ مَاتَ لَمْ يَصِرْ الْمُسْتَنَابُ إمَامًا .
قَالَ الدَّمِيرِيُّ : كَانَ الْمُعْتَصِمُ بِاَللَّهِ يُدْعَى الْمُثَمَّنَ ، لِأَنَّهُ كَانَ ثَامِنَ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَمِائَةٍ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَعْبَانَ ، وَهُوَ الشَّهْرُ الثَّامِنُ مِنْ السَّنَةِ ، وَفَتَحَ ثَمَانِ فُتُوحَاتٍ ، وَوَقَفَ ثَمَانِيَةُ مُلُوكٍ وَثَمَانِيَةُ أَعْدَاءٍ بِبَابِهِ ، وَعَاشَ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ سَنَةً ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ ثَمَانِ سِنِينَ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ .
وَخَلَّفَ ثَمَانِ بَنِينَ ، وَثَمَانِ بَنَاتٍ ، وَثَمَانِيَةَ آلَافِ دِينَارٍ ، وَثَمَانِيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَثَمَانِيَةَ آلَافِ فَرَسٍ ، وَثَمَانِيَةَ آلَافِ بَعِيرٍ وَبَغْلٍ وَدَابَّةٍ : وَثَمَانِيَةَ آلَافِ خَيْمَةٍ ، وَثَمَانِيَةَ آلَافِ عَبْدٍ ، وَثَمَانِيَةَ آلَافِ أَمَةٍ ، وَثَمَانِيَةَ قُصُورٍ ، وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمَهُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَحْرُفٍ ، وَكَانَتْ غِلْمَانُهُ الْأَتْرَاكُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفًا .
كِتَابُ الرِّدَّةِ هِيَ : قَطْعُ الْإِسْلَامِ بِنِيَّةِ أَوْ قَوْلِ كُفْرٍ أَوْ فِعْلٍ ، سَوَاءٌ قَالَهُ اسْتِهْزَاءً أَوْ عِنَادًا أَوْ اعْتِقَادًا .
كِتَابُ الرِّدَّةِ أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا ( هِيَ ) لُغَةً الرُّجُوعُ عَنْ الشَّيْءِ إلَى غَيْرِهِ ، وَهِيَ أَفْحَشُ الْكُفْرِ وَأَغْلَظُهُ حُكْمًا ، مُحْبِطَةٌ لِلْعَمَلِ إنْ اتَّصَلَتْ بِالْمَوْتِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ } الْآيَةَ ، وَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ حَجَّهُ الَّذِي حَجَّهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ وَجَرَى عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ ، وَنَقَلَ فِي الْمُهِمَّاتِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حُبُوطَ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ بِمُجَرَّدِ الرِّدَّةِ ، وَقَالَ : إنَّهُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
ثُمَّ قَالَ : وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ نَفِيسَةٌ مُهِمَّةٌ غَفَلَ عَنْهَا الْأَصْحَابُ ا هـ .
وَلَيْسَ فِي هَذَا مُخَالَفَةٌ لِكَلَامِهِمْ ، فَإِنَّ كَلَامَهُمْ أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُحْبِطُ نَفْسَ الْعَمَلِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَأْخَذَ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ فِي لُزُومِ الْحَجِّ بَعْدَ الرِّدَّةِ حُبُوطَ الْعَمَلِ وَكَلَامُ النَّصِّ فِي حُبُوطِ ثَوَابِ الْعَمَلِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ ثَوَابِ الْعَمَلِ سُقُوطُ الْعَمَلِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ صَحِيحَةٌ مُسْقِطَةٌ لِلْقَضَاءِ مَعَ كَوْنِهَا لَا ثَوَابَ فِيهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ .
وَشَرْعًا ( قَطْعُ ) اسْتِمْرَارِ ( الْإِسْلَامِ ) وَدَوَامِهِ ، وَيَحْصُلُ قَطْعُهُ بِأُمُورٍ ( بِنِيَّةِ ) كُفْرٍ ، وَذِكْرُ النِّيَّةِ مَزِيدٌ عَلَى الْمُحَرَّرِ وَالشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ لِيَدْخُلَ مَنْ عَزَمَ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّهُ يُكَفَّرُ حَالًا ، لَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا التَّعْبِيرُ بِالْعَزْمِ ، فَقَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إنَّ النِّيَّةَ قَصْدُ الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ ، فَإِنْ قَصَدَهُ وَتَرَاخَى عَنْهُ فَهُوَ عَزْمٌ ، وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ التَّعْبِيرُ بِالْعَزْمِ ( أَوْ ) قَطْعِ الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ ( قَوْلِ كُفْرٍ أَوْ فِعْلٍ ) مُكَفِّرٍ فَقَوْلُهُ " قَطْعُ " جِنْسٌ يَشْمَلُ
قَطْعَ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَعَانِي ، وَقَوْلُهُ : " الْإِسْلَامِ " فَصْلٌ يَخْرُجُ بِهِ قَطْعُ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ كُفْرًا ، وَقَوْلُهُ : بِنِيَّةِ إلَخْ أَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّ الْقَطْعَ يَكُونُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الرِّدَّةَ تَحْصُلُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ قَطْعٌ كَمَا لَوْ تَرَدَّدَ فِي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْإِسْلَامِ أَوْ يَبْقَى فَإِنَّهُ رِدَّةٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي ، وَكَذَا مَنْ عَلَّقَ بَيْنَ مُرْتَدِّينَ فَإِنَّهُ مُرْتَدٌّ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ ، وَهَذَا الثَّانِي غَيْرُ وَارِدٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْتَدَّ ، وَإِنَّمَا أُلْحِقَ بِالْمُرْتَدِّ حُكْمًا وَلَا يُرَدُّ الْكَافِرُ الْمُنْتَقِلُ مِنْ دِينٍ إلَى آخَرَ وَإِنْ كَانَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامُ ، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُرْتَدًّا شَرْعًا ، وَإِنَّمَا يُعْطَى حُكْمَ الْمُرْتَدِّ .
ثُمَّ قَسَّمَ الْقَوْلَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ بِقَوْلِهِ ( سَوَاءٌ قَالَهُ اسْتِهْزَاءً أَوْ عِنَادًا أَوْ اعْتِقَادًا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } وَكَانَ الْأَوْلَى تَأْخِيرَ الْقَوْلِ فِي كَلَامِهِ عَنْ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّ التَّقْسِيمَ فِيهِ ، وَخَرَجَ بِذَلِكَ مَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إلَى الْكُفْرِ ، أَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُرْتَدًّا ، وَكَذَا الْكَلِمَاتُ الصَّادِرَةُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ فِي حَالِ غَيْبَتِهِمْ ، فَفِي أَمَالِي الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ الْوَلِيَّ إذَا قَالَ : أَنَا اللَّهُ عُزِّرَ التَّعْزِيرَ الشَّرْعِيَّ ، وَلَا يُنَافِي الْوِلَايَةَ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْصُومِينَ ، وَيُنَافِي هَذَا قَوْلَ الْقُشَيْرِيِّ : مِنْ شَرْطِ الْوَلِيِّ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا ، كَمَا أَنَّ مِنْ شَرْطِ النَّبِيِّ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ لِلشَّرْعِ عَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ فَهُوَ مَغْرُورٌ مُخَادِعٌ ، فَالْوَلِيُّ الَّذِي تَوَالَتْ أَفْعَالُهُ عَلَى الْمُوَافَقَةِ ، وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ سُرَيْجٍ عَنْ
الْحُسَيْنِ الْحَلَّاجِ لِمَا قَالَ : أَنَا الْحَقُّ فَتَوَقَّفَ فِيهِ وَقَالَ : هَذَا رَجُلٌ خَفِيَ عَلَيَّ أَمْرُهُ وَمَا أَقُولُ فِيهِ شَيْئًا ، وَأَفْتَى بِكُفْرِهِ بِذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو عَمْرٍو وَالْجُنَيْدُ وَفُقَهَاءُ عَصْرِهِ ، وَأَمَرَ الْمُقْتَدِرُ بِضَرْبِهِ أَلْفَ سَوْطٍ ، فَإِنْ مَاتَ ، وَإِلَّا ضُرِبَ أَلْفًا أُخْرَى ، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ ثُمَّ يُضْرَبُ عُنُقُهُ ، فَفُعِلَ بِهِ جَمِيعَ ذَلِكَ لِسِتٍّ بَقَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ ، وَالنَّاسُ مَعَ ذَلِكَ مُخْتَلِفُونَ فِي أَمْرِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُبَالِغُ فِي تَعْظِيمِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَفِّرُهُ لِأَنَّهُ قُتِلَ بِسَيْفِ الشَّرْعِ ، وَجَرَى ابْنُ الْمُقْرِي تَبَعًا لِغَيْرِهِ عَلَى كُفْرِ مَنْ شَكَّ فِي كُفْرِ طَائِفَةِ ابْنِ عَرَبِيٍّ الَّذِينَ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ الِاتِّحَادُ وَهُوَ بِحَسَبِ مَا فَهِمُوهُ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ ، وَلَكِنَّ كَلَامَ هَؤُلَاءِ جَارٍ عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ ، إذَا اللَّفْظُ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ حَقِيقَةٌ فِي مَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيِّ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ ، وَالْمُعْتَقِدُ مِنْهُمْ لِمَعْنَاهُ مُعْتَقِدٌ لِمَعْنًى صَحِيحٍ .
وَأَمَّا مَنْ اعْتَقَدَ ظَاهِرَهُ مِنْ جَهَلَةِ الصُّوفِيَّةِ فَإِنَّهُ يَعْرِفُ ، فَإِنْ اسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ تَعْرِيفِهِ صَارَ كَافِرًا ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا أَيْضًا فِي كِتَابِ السِّيَرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَخَرَجَ أَيْضًا مَا إذَا حَكَى الشَّاهِدُ لَفْظَ الْكُفْرِ ، لَكِنَّ الْغَزَالِيَّ ذَكَرَ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حِكَايَتُهُ إلَّا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَلْيُتَفَطَّنْ لَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ : أَوْ قَوْلُ كُفْرٍ فِيهِ دَوْرٌ ، فَإِنَّ الرِّدَّةَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْكُفْرِ فَكَيْفَ يَقُولُ أَوْ قَوْلُ كُفْرٍ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُفْرِ فِي الْحَدِّ الْكُفْرُ الْأَصْلِيُّ .
فَمَنْ نَفَى الصَّانِعَ
تَنْبِيهٌ : كَانَ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ بِنِيَّةِ كُفْرٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ لِيَكُونَ حَذْفَ لَفْظَةِ كُفْرٍ مِنْ الْآخَر لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ ، وَتَعْبِيرُهُ لَا يَتَنَاوَلُ كُفْرَ الْمُنَافِقِ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ إسْلَامٌ صَحِيحٌ ( فَمَنْ نَفَى ) أَيْ أَنْكَرَ الصَّانِعَ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ، وَهُمْ الدَّهْرِيَّةُ الزَّاعِمُونَ أَنَّ الْعَالَمَ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا كَذَلِكَ بِلَا صَانِعٍ .
فَإِنْ قِيلَ : إطْلَاقُ ( الصَّانِعِ ) عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَرِدْ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ عِبَارَاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُجَوِّزِينَ الْإِطْلَاقَ بِالِاشْتِقَاقِ ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ أَسْمَاءَهُ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ : .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْبَيْهَقِيَّ رَوَاهُ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ ، وَقَالَ تَعَالَى : { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ صَنَعَ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ } رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي أَوَائِلِ الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَقَالَ : إنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ أَوْ نَفَى مَا هُوَ ثَابِتٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْإِجْمَاعِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ ، أَوْ أَثْبَتَ مَا هُوَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ بِالْإِجْمَاعِ كَحُدُوثِهِ أَوْ قِدَمِ الْعَالَمِ كَمَا قَالَهُ الْفَلَاسِفَةُ قَالَ الْمُتَوَلِّي : أَوْ أَثْبَتَ لَهُ لَوْنًا ، أَوْ اتِّصَالًا ، أَوْ انْفِصَالًا .
تَنْبِيهٌ : اُخْتُلِفَ فِي كُفْرِ الْمُجَسِّمَةِ .
قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : الْمَشْهُورُ عَدَمُ كُفْرِهِمْ ، وَجَزَمَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي صِفَةِ الْأَئِمَّةِ بِكُفْرِهِمْ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي خَادِمِهِ : وَعِبَارَةُ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ مَنْ جَسَّمَ تَجْسِيمًا صَرِيحًا ، وَكَأَنَّهُ احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ صَرِيحًا عَمَّنْ يُثْبِتُ الْجِهَةَ فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ ، وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ : إنَّهُ الْأَصَحُّ ، وَقَالَ فِي قَوَاعِدِهِ : إنَّ الْأَشْعَرِيَّ رَجَعَ عِنْدَ مَوْتِهِ عَنْ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالصِّفَاتِ لَيْسَ جَهْلًا بِالْمَوْصُوفَاتِ ا هـ .
وَأُوِّلَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ بِتَكْفِيرِ الْقَائِلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ بِأَنَّ الْمُرَادَ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ لَا الْإِخْرَاجُ عَنْ الْمِلَّةِ ، قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ ، لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمُعْتَزِلَةِ وَمُنَاكَحَتِهِمْ وَمُوَارَثَتِهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ كَفَّرَ أَصْحَابُنَا مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ فَعَّالَةٌ ، فَهَلَّا كَانَتْ الْمُعْتَزِلَةُ كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ صَاحِبَ الْكَوَاكِبِ اعْتَقَدَ فِيهَا مَا يَعْتَقِدُ فِي الْإِلَهِ مِنْ أَنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ فِي جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ كُلِّهَا بِخِلَافِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : الْعَبْدُ يَخْلُقُ أَفْعَالَ نَفْسِهِ فَقَطْ .
أَوْ الرُّسُلَ أَوْ كَذَّبَ رَسُولًا
( أَوْ ) نَفَى ( الرُّسُلَ ) بِأَنْ قَالَ : لَمْ يُرْسِلْهُمْ اللَّهُ ، أَوْ نَفَى نُبُوَّةَ نَبِيٍّ ، أَوْ ادَّعَى نُبُوَّةً بَعْدَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ صَدَّقَ مُدَّعِيهَا أَوْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْوَدُ أَوْ أَمْرَدُ أَوْ غَيْرُ قُرَشِيٍّ ، أَوْ قَالَ النُّبُوَّةُ مُكْتَسَبَةٌ أَوْ تُنَالُ رُتْبَتُهَا بِصَفَاءِ الْقُلُوبِ أَوْ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يَدَّعِ نُبُوَّةً ( أَوْ كَذَّبَ رَسُولًا ) أَوْ نَبِيًّا أَوْ سَبَّهُ أَوْ اسْتَخَفَّ بِهِ أَوْ بِاسْمِهِ أَوْ بِاسْمِ اللَّهِ أَوْ أَمْرِهِ أَوْ وَعْدِهِ أَوْ وَعِيدِهِ ، أَوْ جَحَدَ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ مُجْمَعًا عَلَى ثُبُوتِهَا ، أَوْ زَادَ فِيهِ آيَةً مُعْتَقِدًا أَنَّهَا مِنْهُ ، أَوْ اسْتَخَفَّ بِسُنَّةٍ كَمَا لَوْ قِيلَ لَهُ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَكَلَ لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَةَ ، فَقَالَ لَيْسَ هَذَا بِأَدَبٍ أَوْ قِيلَ لَهُ قَلِّمْ أَظْفَارَكَ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ ، فَقَالَ لَا أَفْعَلُ وَإِنْ كَانَ سُنَّةً وَقَصَدَ الِاسْتِهْزَاءَ بِذَلِكَ كَمَا صَوَّبَهُ الْمُصَنِّفُ ، أَوْ قَالَ : لَوْ أَمَرَنِي اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِكَذَا لَمْ أَفْعَلْ ، أَوْ لَوْ جَعَلَ اللَّهُ الْقِبْلَةَ هُنَا لَمْ أُصَلِّ إلَيْهَا ، أَوْ لَوْ اتَّخَذَ اللَّهُ فُلَانًا نَبِيًّا لَمْ أُصَدِّقْهُ ، أَوْ لَوْ شَهِدَ عِنْدِي نَبِيٌّ بِكَذَا أَوْ مَلَكٌ لَمْ أَقْبَلْهُ ، أَوْ قَالَ : إنْ كَانَ مَا قَالَهُ الْأَنْبِيَاءُ صِدْقًا نَجَوْنَا ، أَوْ لَا أَدْرِي النَّبِيُّ إنْسِيٌّ أَوْ جِنِّيٌّ ، أَوْ قَالَ : إنَّهُ جِنٌّ ، أَوْ صَغَّرَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ احْتِقَارًا ، أَوْ صَغَّرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى ، أَوْ قَالَ : لَا أَدْرِي مَا الْإِيمَانُ احْتِقَارًا .
أَوْ قَالَ لِمَنْ حَوْقَلَ لَا حَوْلَ لَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ ، أَوْ لَوْ أَوْجَبَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَيَّ مَعَ مَرَضِي هَذَا لَظَلَمَنِي ، أَوْ قَالَ الْمَظْلُومُ هَذَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ فَقَالَ الظَّالِمُ : أَنَا أَفْعَلُ بِغَيْرِ تَقْدِيرِهِ ، أَوْ أَشَارَ بِالْكُفْرِ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ عَلَى كَافِرٍ أَرَادَ الْإِسْلَامَ بِأَنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِاسْتِمْرَارِهِ عَلَى
الْكُفْرِ ، أَوْ لَمْ يُلَقَّنْ الْإِسْلَامَ طَالِبُهُ مِنْهُ ، أَوْ اسْتَمْهَلَ مِنْهُ تَلْقِينَهُ كَأَنْ قَالَ لَهُ : اصْبِرْ سَاعَةً لِأَنَّهُ اخْتَارَ الْكُفْرَ عَلَى الْإِسْلَامِ كَمَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَأَقَرَّهُ ، أَوْ كَفَّرَ مُسْلِمًا بِلَا تَأْوِيلٍ لِلْكُفْرِ بِكُفْرِ النِّعْمَةِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَأَقَرَّهُ .
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الدَّالُّ عَلَيْهِ الْخَبَرُ وَإِنْ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : إنَّ الْخَبَرَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ ، وَفِي الْأَذْكَارِ : يَحْرُمُ تَحْرِيمًا مُغَلَّظًا ، أَوْ نُودِيَ بِيَا يَهُودِيُّ أَوْ نَحْوِهِ فَأَجَابَ وَإِنْ نُظِرَ فِيهِ فِي الرَّوْضَةِ أَوْ قِيلَ لَهُ أَلَسْتَ مُسْلِمًا ، فَقَالَ لَا ، أَوْ سَمَّى اللَّهَ عَلَى شُرْبِ خَمْرٍ ، أَوْ زِنًا اسْتِخْفَافًا بِاسْمِهِ تَعَالَى ، أَوْ قَالَ لَا أَخَافُ الْقِيَامَةَ وَقَالَ ذَلِكَ اسْتِخْفَافًا كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، أَوْ كَذَّبَ الْمُؤَذِّنَ فِي أَذَانِهِ كَأَنْ قَالَ لَهُ تَكْذِبُ ، أَوْ قَالَ : قَصْعَةٌ مِنْ ثَرِيدٍ خَيْرٌ مِنْ الْعِلْمِ ، أَوْ قَالَ لِمَنْ قَالَ أَوْدَعْتُ اللَّهَ مَالِي أَوْدَعْتَهُ مَنْ لَا يَتْبَعُ السَّارِقَ إذَا سَرَقَ وَقَالَ ذَلِكَ اسْتِخْفَافًا كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، أَوْ قَالَ تَوَفَّنِي إنْ شِئْتَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا ، أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ كَالنَّصَارَى ، أَوْ شَكَّ فِي كُفْرِهِمْ ، أَوْ قَالَ : أَخَذْتَ مَالِي وَوَلَدِي فَمَاذَا تَصْنَعُ أَيْضًا ؟ أَوْ مَاذَا بَقِيَ لَمْ تَفْعَلْهُ ؟ أَوْ أَعْطَى مَنْ أَسْلَمَ مَالًا ، فَقَالَ مُسْلِمٌ : لَيْتَنِي كُنْتُ كَافِرًا فَأُسْلِمَ فَأُعْطَى مَالًا ، أَوْ قَالَ مُعَلِّمُ الصِّبْيَانِ مَثَلًا : الْيَهُودُ خَيْرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ يُنْصِفُونَ مُعَلِّمِي صِبْيَانِهِمْ .
أَوْ حَلَّلَ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ كَالزِّنَا وَعَكْسَهُ ، أَوْ نَفَى وُجُوبَ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ أَوْ عَكْسَهُ .
( أَوْ حَلَّلَ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ كَالزِّنَا ) وَاللِّوَاطِ وَالظُّلْمِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، وَمِنْ هَذَا لَوْ اعْتَقَدَ حَقِّيَّةِ الْمَكْسِ ، وَيَحْرُمُ تَسْمِيَتُهُ حَقًّا .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَلَمْ يَسْتَحْسِنْ الْإِمَامُ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِ مَنْ خَالَفَ حُكْمَ الْإِجْمَاعِ ، وَنَحْنُ لَا نُكَفِّرُ مَنْ رَدَّ أَصْلَ الْإِجْمَاعِ ، وَإِنَّمَا نُبْدِعُهُ وَنُضَلِّلُهُ .
وَأَجَابَ الزَّنْجَانِيُّ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ مُسْتَحِلَّ الْخَمْرِ لَا يَكْفُرُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ فَقَطْ بَلْ لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا ثَبَتَ ضَرُورَةً أَنَّهُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِجْمَاعُ وَالنَّصُّ عَلَيْهِ .
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : الْحَقُّ أَنَّ الْمَسَائِلَ الْإِجْمَاعِيَّةَ إنْ صَحِبَهَا التَّوَاتُرُ كَالصَّلَاةِ كَفَرَ مُنْكِرُهَا لِمُخَالَفَةِ التَّوَاتُرِ لَا لِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهَا التَّوَاتُرُ لَا يَكْفُرُ ( وَعَكْسُهُ ) بِأَنْ حَرَّمَ حَلَالًا بِالْإِجْمَاعِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ ( أَوْ نَفَى وُجُوبَ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ ) كَأَنْ نَفَى وُجُوبَ رَكْعَةٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ( أَوْ عَكْسَهُ ) بِأَنْ اعْتَقَدَ وُجُوبَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِالْإِجْمَاعِ كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ أَوْ وُجُوبِ صَوْمِ يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ .
أَوْ عَزَمَ عَلَى الْكُفْرِ غَدًا أَوْ تَرَدَّدَ فِيهِ كَفَرَ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ قَالَ أَوْ نَفَى مَشْرُوعِيَّةَ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ لَشَمِلَ إنْكَارَ الْمُجْمَعِ عَلَى نَدْبِهِ ، فَقَدْ صَرَّحَ الْبَغَوِيّ فِي تَعْلِيقِهِ بِتَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ مُجْمَعًا عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ مِنْ السُّنَنِ كَالرَّوَاتِبِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ ، وَهُوَ لِأَجْلِ تَكْذِيبِ التَّوَاتُرِ ، وَيَتَعَيَّنُ فِيمَا ذُكِرَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَصٌّ ، بِخِلَافِ مَا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا الْخَوَاصُّ وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَصٌّ : كَاسْتِحْقَاقِ بِنْتِ الِابْنِ السُّدُسَ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ فَلَا يَكْفُرُ مُنْكِرُهُ لِلْعُذْرِ بَلْ يُعَرَّفُ الصَّوَابَ لِيَعْتَقِدَهُ ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَعْرِفُهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ إذَا جَحَدَهُ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَوَّلًا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ ، وَإِلَّا فَلَا يُكَفَّرُ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُحَلِّلُ وَالْمُحَرِّمُ وَالنَّافِي وَالْمُثْبِتُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ خَفَاؤُهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ كَمَنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ بَعِيدًا عَنْ الْعُلَمَاءِ ( أَوْ عَزَمَ عَلَى الْكُفْرِ غَدًا ) مَثَلًا أَوْ عَلَّقَهُ عَلَى شَيْءٍ ( أَوْ تَرَدَّدَ فِيهِ ) حَالًّا بِطَرَيَانِ شَكٍّ يُنَاقِضُ جَزْمَ النِّيَّةِ بِالْإِسْلَامِ ، وَهَذَا وَارِدٌ عَلَى الْحَدِّ كَمَا مَرَّ ، إذْ لَا قَطْعَ فِيهِ ( كَفَرَ ) جَوَابٌ لِجَمِيعِ مَا مَرَّ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ ، فَإِنْ لَمْ يُنَاقِضْ جَزْمَ النِّيَّةِ بِهِ كَاَلَّذِي يَجْرِي فِي الْكَنِّ فَهُوَ مِمَّا يُبْتَلَى بِهِ الْمُوَسْوَسُ وَلَا اعْتِبَارَ بِهِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ، وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ : بِكَذِبَ رَسُولًا عَمَّا لَوْ كَذَبَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُكَفَّرُ خِلَافًا لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ قَالَ : يَكْفُرُ بِذَلِكَ وَيُرَاقُ دَمُهُ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَهَذِهِ زَلَّةٌ ، وَلَمْ أَرَ مَا قَالَهُ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَصْحَابِ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يُعَزَّرُ وَلَا يُقْتَلُ وَلَا يَكْفُرُ .
وَالْفِعْلُ الْمُكَفِّرُ مَا تَعَمَّدَهُ اسْتِهْزَاءً صَرِيحًا بِالدِّينِ أَوْ جُحُودًا لَهُ كَإِلْقَاءِ مُصْحَفٍ بِقَاذُورَةٍ وَسُجُودٍ لِصَنَمٍ أَوْ شَمْسٍ .
( وَالْفِعْلُ الْمُكَفِّرُ مَا تَعَمَّدَهُ ) صَاحِبُهُ ( اسْتِهْزَاءً صَرِيحًا بِالدِّينِ أَوْ جُحُودًا لَهُ كَإِلْقَاءِ مُصْحَفٍ ) وَهُوَ اسْمٌ لِلْمَكْتُوبِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ ( بِقَاذُورَةٍ ) بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الِاسْتِخْفَافِ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالِاسْتِخْفَافُ بِالْكَلَامِ اسْتِخْفَافٌ بِالْمُتَكَلِّمِ ، وَيَلْتَحِقُ بِالْمُصْحَفِ كُتُبُ الْحَدِيثِ .
قَالَ الرُّويَانِيُّ : أَوْ أَوْرَاقُ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ ( وَسُجُودٍ لِصَنَمٍ ) قَالَ ابْنُ الْمُقْرِي فِي هَذَا : وَفِي إلْقَاءِ الْمُصْحَفِ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتِخْفَافًا - أَيْ عَلَى وَجْهٍ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ وَكَأَنَّهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا احْتَرَزَ بِهِ فِي سُجُودِ الصَّنَمِ عَمَّا لَوْ سَجَدَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَكْفُرُ كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ النَّصِّ وَإِنْ زَعَمَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْمَشْهُورَ خِلَافُهُ ، وَفِي إلْقَاءِ الْمُصْحَفِ عَمَّا لَوْ أَلْقَاهُ فِي قَذَرٍ خِيفَةَ أَخْذِ الْكَافِرِ لَهُ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِهِ وَإِنْ حَرُمَ عَلَيْهِ ( أَوْ ) سُجُودٍ لِ ( شَمْسٍ ) أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ ، وَكَذَا السِّحْرُ الَّذِي فِيهِ عِبَادَةُ كَوْكَبٍ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ لِلَّهِ شَرِيكًا .
تَنْبِيهٌ : يُكَفَّرُ مَنْ نَسَبَ الْأُمَّةَ إلَى الضَّلَالِ أَوْ الصَّحَابَةَ إلَى الْكُفْرِ أَوْ أَنْكَرَ إعْجَازَ الْقُرْآنِ أَوْ غَيَّرَ شَيْئًا مِنْهُ ، أَوْ أَنْكَرَ الدَّلَالَةَ عَلَى اللَّهِ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِأَنْ قَالَ : لَيْسَ فِي خَلْقِهِمَا دَلَالَةٌ عَلَيْهِ تَعَالَى ، أَوْ أَنْكَرَ بَعْثَ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ بِأَنْ يَجْمَعَ أَجْزَاءَهُمْ الْأَصْلِيَّةَ وَيُعِيدَ الْأَرْوَاحَ إلَيْهَا أَوْ أَنْكَرَ الْجَنَّةَ أَوْ النَّارَ أَوْ الْحِسَابَ أَوْ الثَّوَابَ أَوْ الْعِقَابَ أَوْ أَقَرَّ بِهَا ، لَكِنْ قَالَ : الْمُرَادُ بِهَا غَيْرُ مَعَانِيهَا ، أَوْ قَالَ إنِّي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ .
وَأَكَلْتُ مِنْ ثِمَارِهَا وَعَانَقْتُ حُورَهَا ، أَوْ قَالَ : الْأَئِمَّةُ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ، هَذَا إنْ عَلِمَ مَعْنَى مَا قَالَهُ لَا إنْ جَهِلَ ذَلِكَ لِقُرْبِ إسْلَامِهِ
أَوْ بُعْدِهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَكْفُرُ لِعُذْرِهِ كَمَا مَرَّ ، وَلَا إنْ قَالَ مُسْلِمٌ لِمُسْلِمٍ : سَلَبَهُ اللَّهُ الْإِيمَانَ ، أَوْ لِكَافِرٍ : لَا رَزَقَهُ اللَّهُ الْإِيمَانَ ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ دُعَاءٍ بِتَشْدِيدِ الْأَمْرِ وَالْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ ، وَلَا إنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ وَشَرِبَ مَعَهُمْ الْخَمْرَ وَأَكَلَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ ، وَلَا إنْ قَالَ الطَّالِبُ لِيَمِينِ خَصْمِهِ وَقَدْ أَرَادَ الْخَصْمُ أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا أُرِيدُ الْحَلِفَ بِهِ بَلْ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ ، وَلَا إنْ قَالَ رُؤْيَتِي إيَّاكَ كَرُؤْيَةِ مَلَكِ الْمَوْتِ ، وَلَا إنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى ضَرْبِ الدُّفِّ أَوْ الْقَصَبِ ، أَوْ قِيلَ لَهُ تَعْلَمُ الْغَيْبَ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، أَوْ خَرَجَ لِسَفَرٍ فَصَاحَ الْعَقْعَقُ فَرَجَعَ ، وَلَا إنْ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ مُتَعَمِّدًا أَوْ بِنَجِسٍ أَوْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَلَمْ يَسْتَحِلَّ ذَلِكَ ، وَلَا إنْ تَمَنَّى حِلَّ مَا كَانَ حَلَالًا فِي زَمَنٍ قَبْلَ تَحْرِيمِهِ كَأَنْ تَمَنَّى أَنْ لَا يُحَرِّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ أَوْ الْمُنَاكَحَةَ بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ أَوْ الظُّلْمَ أَوْ الزِّنَا أَوْ قَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَلَا إنْ شَدَّ الزُّنَّارَ عَلَى وَسَطِهِ أَوْ وَضَعَ قَلَنْسُوَةَ الْمَجُوسِ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ شَدَّ عَلَى وَسَطِهِ زُنَّارًا وَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِتَخْلِيصِ الْأُسَارَى ، وَلَا إنْ قَالَ : النَّصْرَانِيَّةُ خَيْرٌ مِنْ الْمَجُوسِيَّةِ أَوْ الْمَجُوسِيَّةُ شَرٌّ مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ ، وَلَا إنْ قَالَ : لَوْ أَعْطَانِي اللَّهُ الْجَنَّةَ مَا دَخَلْتُهَا ، صَرَّحَ بِذَلِكَ كُلِّهِ فِي الرَّوْضَةِ ، وَفِيهَا أَيْضًا لَوْ قَالَ فُلَانٌ فِي عَيْنِي كَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ فِي عَيْنِ اللَّهِ أَوْ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ كَفَرَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنْ أَرَادَ الْجَارِحَةَ كَفَرَ ، وَإِلَّا فَلَا .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّجَسُّمِ ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّا لَا نُكَفِّرُ الْمُجَسِّمَةَ ، وَفِيهَا أَيْضًا عَنْ
الْقَاضِي عِيَاضٍ : أَنَّهُ لَوْ شُفِيَ مَرِيضٌ ثُمَّ قَالَ لَقِيتُ فِي مَرَضِي هَذَا مَا لَوْ قَتَلْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا لَمْ أَسْتَوْجِبْهُ ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : يَكْفُرُ وَيُقْتَلُ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ النِّسْبَةَ إلَى الْجَوْرِ ، وَقَالَ آخَرُونَ لَا يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ وَيُسْتَتَابُ وَيُعَزَّرُ ا هـ .
وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ : الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ ، وَقَالَ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ فِي مَسْأَلَةٍ : لَوْ أَعْطَانِي اللَّهُ الْجَنَّةَ مَا دَخَلْتُهَا أَنَّهُ يَكْفُرُ ، وَالْأَوْلَى كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : أَنَّهُ إنْ قَالَ ذَلِكَ اسْتِخْفَافًا أَوْ اسْتِغْنَاءً كَفَرَ ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَلَا .
وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ صَلَّى بِنَجِسٍ : مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ مِنْ كُفْرِ مَنْ اسْتَحَلَّ الصَّلَاةَ بِنَجِسٍ مَمْنُوعٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهَا ، بَلْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى الْجَوَازِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي مَجْمُوعِهِ ا هـ .
وَحَيْثُ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَكْفُرُ .
فَائِدَةٌ : لَا بِدَعَ وَلَا إشْكَالَ فِي الْعِبَارَةِ الْمَعْزُوَّةِ إلَى إمَامِنَا الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ عُمَرَ ، وَصَحَّتْ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهِيَ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْأَشْعَرِيَّةِ ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إنْكَارُهَا .
قَالَ الدَّمِيرِيُّ : وَهُوَ عَجِيبٌ لِأَنَّهَا صَحَّتْ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ شَيْخُ شَيْخِ شَيْخِ شَيْخِهِ ، وَالْقَائِلُونَ بِجَوَازِ قَوْلِهَا اخْتَلَفُوا فِي الْوُجُوبِ ، وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ لَهَا مَحَامِلَ كَثِيرَةً ، وَالصَّوَابُ عَدَمُ الِاحْتِيَاجِ إلَى تِلْكَ الْمَحَامِلِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ أَنَا مُؤْمِنٌ هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ أَوْ دَلِيلُ الْجَوَابِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا ، فَمَعْنَاهُ أَنَا مُؤْمِنٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَحِينَئِذٍ لَا حَاجَةَ إلَى تَأْوِيلٍ : بَلْ تَعْلِيقُهُ وَاضِحٌ مَأْمُورٌ
بِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } .
وَلَا تَصِحُّ رِدَّةُ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَمُكْرَهٍ .
وَيُعْتَبَرُ فِيمَنْ يَصِيرُ مُرْتَدًّا بِشَيْءٍ مِمَّا مَرَّ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا مُخْتَارًا ( وَ ) حِينَئِذٍ ( لَا تَصِحُّ رِدَّةُ صَبِيٍّ ) وَلَوْ مُمَيِّزًا ( وَ ) لَا رِدَّةَ ( مَجْنُونٍ ) لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِمَا ، فَلَا اعْتِدَادَ بِقَوْلِهِمَا وَاعْتِقَادِهِمَا .
تَنْبِيهٌ : الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا حُكْمُ الرِّدَّةِ وَإِلَّا فَالرِّدَّةُ فِعْلُ مَعْصِيَةٍ كَالزُّنَاةِ فَكَيْفَ يُوصَفُ بِالصِّحَّةِ عَدَمُهَا ؟ ( وَ ) لَا رِدَّةَ ( مُكْرَهٍ ) وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَإِنْ رَضِيَ بِقَلْبِهِ فَمُرْتَدٌّ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ تَجَرَّدَ قَلْبُهُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ عَلَى التَّلَفُّظِ عَنْ اعْتِقَادِ إيمَانٍ وَكُفْرٍ ، فَفِي كَوْنِهِ مُرْتَدًّا وَجْهَانِ : وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ مُرْتَدًّا لِأَنَّ الْإِيمَانَ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْإِكْرَاهِ ، وَقَوْلُ الْمُكْرَهِ مُلْغًى مَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ اخْتِيَارٌ لِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ فَإِنَّ الْعِصْمَةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْإِكْرَاهِ ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ اخْتِيَارٌ لِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ طَلَاقٌ .
وَلَوْ ارْتَدَّ فَجُنَّ لَمْ يُقْتَلْ فِي جُنُونِهِ .
( وَلَوْ ارْتَدَّ ) وَلَمْ يُسْتَتَبْ ( فَجُنَّ لَمْ يُقْتَلْ فِي جُنُونِهِ ) لِأَنَّهُ قَدْ يَعْقِلُ وَيَعُودُ إلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ قُتِلَ مَجْنُونًا لَمْ يَجِبْ عَلَى قَاتِلِهِ شَيْءٌ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ التَّهْذِيبِ وَأَقَرَّاهُ ، وَقَضِيَّةُ هَذَا أَنَّ التَّأْخِيرَ مُسْتَحَبٌّ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ ، فَإِنَّ تَصْحِيحَ وُجُوبِ التَّوْبَةِ يَنْفِيهِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَظَاهِرُ نَصِّ الْأُمِّ يَقْتَضِي وُجُوبَ التَّأْخِيرِ وَهُوَ الْوَجْهُ ا هـ .
وَعَلَى هَذَا يُعَزَّرُ قَاتِلُهُ لِتَفْوِيتِهِ الِاسْتِتَابَةَ الْوَاجِبَةَ ، وَيُحْمَلُ قَوْلُ الْمُهَذَّبِ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ : أَيْ مِنْ قِصَاصٍ أَوْدِيَةٍ .
تَنْبِيهٌ : أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِالتَّعْبِيرِ بِالْفَاءِ إلَى تَعَقُّبِ الْجُنُونِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا إذَا ارْتَدَّ وَاسْتُتِيبَ فَلَمْ يَتُبْ ، ثُمَّ جُنَّ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ ، وَلَوْ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ حَدَّ اللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ جُنَّ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ احْتِيَاطًا لِأَنَّهُ قَدْ يَرْجِعُ عَنْ الْإِقْرَارِ ، فَلَوْ اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَجِبْ فِيهِ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ أَقَرَّ بِقَذْفٍ ، أَوْ قِصَاصٍ ، ثُمَّ جُنَّ فَإِنَّهُ يُسْتَوْفَى مِنْهُ فِي جُنُونِهِ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِرُجُوعِهِ .
وَالْمَذْهَبُ صِحَّةُ رِدَّةِ السَّكْرَانِ وَإِسْلَامِهِ .
( وَالْمَذْهَبُ صِحَّةُ رِدَّةِ السَّكْرَانِ ) الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ كَطَلَاقِهِ وَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ ، وَفِي صِحَّةِ اسْتِتَابَتِهِ حَالَ سُكْرِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا نَعَمْ كَمَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورِ ، وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ النَّصِّ .
وَقَالَ الْعِمْرَانِيُّ : إنَّهُ الْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ وَالْإِسْنَوِيُّ إنَّهُ الْمُفْتَى بِهِ ، لَكِنْ يُنْدَبُ تَأْخِيرُهَا إلَى الْإِفَاقَةِ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ صِحَّةِ تَوْبَتِهِ ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي الْقَائِلُ بِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَزُولُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ .
أَمَّا غَيْرُ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ كَأَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِهَا فَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالِارْتِدَادِ كَمَا فِي طَلَاقِهِ وَغَيْرِهِ ( وَ ) الْمَذْهَبُ صِحَّةُ ( إسْلَامِهِ ) عَنْ رِدَّتِهِ ، وَلَوْ ارْتَدَّ صَاحِيًا ثُمَّ أَسْلَمَ مُعَامَلَةً لِأَقْوَالِهِ مُعَامَلَةَ الصَّاحِي .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ الِاعْتِدَادِ بِإِسْلَامِهِ فِي السُّكْرِ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدٍ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ وَلَيْسَ مُرَادًا ، فَقَدْ حَكَى ابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ النَّصِّ : أَنَّهُ إذَا أَفَاقَ عَرَضْنَا عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ ، فَإِنْ وَصَفَهُ كَانَ مُسْلِمًا مِنْ حِينِ وَصْفِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ وَصَفَ الْكُفْرَ كَانَ كَافِرًا مِنْ الْآنَ لِأَنَّ إسْلَامَهُ صَحَّ ، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ .
وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالرِّدَّةِ مُطْلَقًا ، وَقِيلَ يَجِبُ التَّفْصِيلِ ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ شَهِدُوا بِرِدَّةٍ فَأَنْكَرَ حُكِمَ بِالشَّهَادَةِ فَلَوْ
( وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالرِّدَّةِ مُطْلَقًا ) أَيْ : عَلَى وَجْهِ الْإِطْلَاقِ وَيُقْضَى بِهَا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا .
تَبَعًا لِلْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ لِخَطَرِهَا لَا يُقَدَّمُ الشَّاهِدُ بِهَا إلَّا عَنْ بَصِيرَةٍ ( وَقِيلَ يَجِبُ التَّفْصِيلُ ) أَيْ : اسْتِفْسَارُ الشَّاهِدِ بِهَا لِاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِي التَّكْفِيرِ ، وَالْحُكْمِ بِالرِّدَّةِ عَظِيمٌ فَيُحْتَاطُ لَهُ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ .
وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ : إنَّهُ الْمَعْرُوفُ عَقْلًا وَنَقْلًا .
قَالَ : وَمَا نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ بَحَثَ لَهُ .
وَقَالَ الدَّمِيرِيُّ : وَاَلَّذِي صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ تَبِعَ فِيهِ الْإِمَامَ وَهُوَ لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْ أَحَدٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَخْرِيجِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَدُلُّ عَلَى التَّفْصِيلِ مَا قَالَاهُ فِيمَنْ مَاتَ عَنْ ابْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ .
فَقَالَ أَحَدُهُمَا : ارْتَدَّ فَمَاتَ كَافِرًا أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ سَبَبِ كُفْرِهِ خِلَافًا لِمَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ : مِنْ عَدَمِ التَّفْصِيلِ كَمَا سَيَأْتِي ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ كُفْرًا .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ هُنَا حَيٌّ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِخِلَافِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ : وَلَمَّا كَانَتْ الشَّهَادَةُ عِنْدَ مَنْ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ كَالشَّافِعِيِّ قُبِلَتْ مُطْلَقَةً ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ الْقَاضِي : تَلَفَّظْ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَا حَاجَةَ إلَى السُّؤَالِ عَنْ السَّبَبِ ، فَإِنْ امْتَنَعَ كَانَ امْتِنَاعُهُ قَرِينَةً لَا يَحْتَاجُ الشَّاهِدُ مَعَهَا إلَى ذِكْرِ السَّبَبِ ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ مَنْ لَا يَقْبَلُ التَّوْبَةَ كَالْمَالِكِيِّ فَلَا تُقْبَلُ إلَّا مُفَصَّلَةً ، وَاعْتَرَضَ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ مَنْ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ فَيَبْقَى فِيهِ عَارٌ عَلَى الْإِنْسَانِ ، وَبِهَذَا يُرَدُّ عَلَى الْجَوَابِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَحِينَئِذٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفْصِيلِ وَهُوَ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَوْجَهُ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : إذَا
شَهِدَا بِأَنَّهُ ارْتَدَّ عَنْ الْإِيمَانِ ، فَلَوْ شَهِدَا بِأَنَّهُ ارْتَدَّ وَلَمْ يَقُولَا عَنْ الْإِيمَانِ أَوْ قَالَا : كَفَرَ وَلَمْ يَقُولَا : بِاَللَّهِ لَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ قَطْعًا ( فَعَلَى الْأَوَّلِ ) وَهُوَ قَبُولُهَا مُطْلَقًا ( لَوْ شَهِدُوا ) الْمُرَادُ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ عَلَى شَخْصٍ ( بِرِدَّةٍ ) وَلَمْ يَفْصِلُوا ( فَأَنْكَرَ ) الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ( حُكِمَ ) عَلَيْهِ ( بِالشَّهَادَةِ ) وَلَا يَنْفَعُهُ إنْكَارُهُ : بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسْلِمًا ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ قَامَتْ وَالتَّكْذِيبُ وَالْإِنْكَارُ لَا يَرْفَعُهُ كَمَا لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِالزِّنَا فَأَنْكَرَهُ أَوْ كَذَّبَهُمْ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ ، فَإِنْ أَتَى بِمَا يُصَيِّرُهُ مُسْلِمًا قَبْلَ الْحُكْمِ امْتَنَعَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالشَّهَادَةِ بِالرِّدَّةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَلَكِنْ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ بَيْنُونَةِ زَوْجَاتِهِ إذَا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهِنَّ أَوْ بَعْدَهُ وَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ ، وَهَلْ يَنْعَزِلُ عَنْ وَظَائِفِهِ الَّتِي يُعْتَبَرُ فِيهَا الْإِسْلَامُ أَوْ لَا ؟ خِلَافٌ وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ .
تَنْبِيهٌ : شَمِلَ قَوْلُهُ : شَهِدُوا بِرِدَّةٍ مَا إذَا شَهِدُوا عَلَى إنْشَائِهِ أَوْ إقْرَارِهِ فَأَنْكَرَ .
قَالَ فِي الْمَطْلَبِ : وَيُشْبِهُ فِيمَا إذَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِهِ بِالرِّدَّةِ فَأَنْكَرَ فَإِنَّهُ يَنْفَعُهُ كَمَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى إقْرَارِهِ بِالزِّنَا فَأَنْكَرَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِمَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ رُجُوعِهِ ، وَقَوْلُهُ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَوَّلِ ، بَلْ الْحُكْمُ كَذَلِكَ إذَا شَرَطْنَا التَّفْصِيلَ ، فَكَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ أَوْ يُطْلِقَ التَّفْرِيعَ .
وَلَوْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَطَلَبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ الْقَاضِي الْحُكْمَ بِعِصْمَةِ دَمِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ بَيِّنَةُ زُورٍ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى قَبُولَ تَوْبَتِهِ فَلِلْقَاضِي تَجْدِيدُ إسْلَامِهِ ، وَالْحُكْمُ
بِعِصْمَةِ دَمِهِ كَمَا أَفْتَى بِهِ جَمْعٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَصَوَّبَهُ .
وَإِنْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : لَيْسَ لِلْحَاكِمِ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ اعْتِرَافِهِ أَوْ إقَامَةِ بَيِّنَةٍ عَلَيْهِ ، وَهَلْ يَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ مَثَلًا أَنْ يَشْهَدَ بِالْكُفْرِ أَوْ بِالتَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ أَوْ بِمَا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّوْبَةَ وَيَحُدُّ بِالتَّعْرِيضِ وَيُعَزِّرُ بِأَبْلَغَ مَا يُوجِبُهُ الشَّافِعِيُّ ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ الْمَنْعُ ، فَإِنْ عَلِمَ الشَّاهِدُ أَنَّ لِسَانَهُ سَبَقَ إلَى كَلِمَةِ كُفْرٍ وَلَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ قَطْعًا ، وَقَدْ حَكَى الرَّافِعِيُّ مِثْلَهُ مِنْ الطَّلَاقِ ( فَلَوْ ) صَدَّقَ شَخْصٌ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِرِدَّةٍ وَلَكِنْ .
قَالَ : كُنْتُ مُكْرَهًا وَاقْتَضَتْهُ قَرِينَةٌ كَأَسْرِ كُفَّارٍ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَلَوْ قَالَا : لَفَظَ لَفْظَ كُفْرٍ فَادَّعَى إكْرَاهًا صُدِّقَ مُطْلَقًا .
( قَالَ : كُنْتُ مُكْرَهًا وَاقْتَضَتْهُ قَرِينَةٌ ) مُشْعِرَةٌ بِذَلِكَ ( كَأَسْرِ كُفَّارٍ ) لَهُ ( صُدِّقَ بِيَمِينِهِ ) عَمَلًا بِالْقَرِينَةِ الْمُشْعِرَةِ بِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا حَلَفَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ مُخْتَارًا ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : أَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ مُسْتَحَبَّةٌ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ تَقْتَضِهِ قَرِينَةٌ بِأَنْ كَانَ فِي دَارِ كُفْرٍ وَسَبِيلُهُ مُخَلًّى ( فَلَا ) يُقْبَلُ قَوْلُهُ ، فَيُحْكَمُ بِبَيْنُونَةِ زَوْجِهِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَيُطَالَبُ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ لِانْتِفَاءِ الْقَرِينَةِ ( وَلَوْ ) لَمْ يَقُلْ الشَّاهِدَانِ ارْتَدَّ وَلَكِنْ ( قَالَا لَفَظَ لَفْظَ كُفْرٍ ) أَوْ فَعَلَ فِعْلَهُ ( فَادَّعَى إكْرَاهًا ) بَعْدَ أَنْ صَدَّقَهُمَا عَلَى ذَلِكَ ( صُدِّقَ ) بِيَمِينِهِ ( مُطْلَقًا ) بِقَرِينَةٍ وَدُونِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَكْذِيبُ الْبَيِّنَةِ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يُنَافِي الرِّدَّةَ وَلَا يُنَافِي التَّلَفُّظَ بِكَلِمَةِ الرِّدَّةِ وَلَا الْفِعْلَ الْمُكَفِّرَ ، وَيُنْدَبُ أَنْ يُجَدِّدَ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ قُتِلَ قَبْلَ الْيَمِينِ فَهَلْ يَضْمَنُ لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَمْ تَثْبُتْ ، أَوْ لَا ؟ لِأَنَّ لَفْظَ الرِّدَّةِ وُجِدَ وَالْأَصْلُ الِاخْتِيَارُ : قَوْلَانِ أَوْجَهُهُمَا كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الثَّانِي .
تَنْبِيهٌ : اسْتَشْكَلَ الرَّافِعِيُّ تَصْوِيرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّهُ إنْ اُعْتُبِرَ تَفْصِيلُ الشَّهَادَةِ ، فَمِنْ الشَّرَائِطِ الِاخْتِيَارُ فَدَعْوَى الْإِكْرَاهِ تَكْذِيبٌ لِلشَّاهِدِ ، أَوَّلًا فَالِاكْتِفَاءُ بِالْإِطْلَاقِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا شَهِدَا بِالرِّدَّةِ لِتَضَمُّنِهِ حُصُولَ الشَّرَائِطِ .
أَمَّا إذَا قَالَ إنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَذَا فَيَبْعُدُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ وَيَقْنَعَ بِأَنَّ الْأَصْلَ الِاخْتِيَارُ .
.
وَأُجِيبَ بِاخْتِيَارِ الْأَوَّلِ وَيُمْنَعُ قَوْلُهُ : فَمِنْ الشَّرَائِطِ : الِاخْتِيَارُ ، وَبِاخْتِيَارِ الثَّانِي ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقْنَعَ بِالْأَصْلِ الْمَذْكُورِ لِاعْتِضَادِهِ بِسُكُوتِ الشُّهُودِ عَلَيْهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الدَّفْعِ .
فَإِنْ قِيلَ : فِي الرَّوْضَةِ
وَأَصْلِهَا فِي الْإِكْرَاهِ فِي الطَّلَاقِ أَنَّهُ لَوْ تَلَفَّظَ بِهِ ، ثُمَّ قَالَ : كُنْتُ مُكْرَهًا وَأَنْكَرَتْ زَوْجَتُهُ ذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا أَوْ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةً أُخْرَى ، فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ كَمَا قَالَ بِهِ الْبُلْقِينِيُّ أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَقَّ هُنَا لِلَّهِ تَعَالَى فَسُومِحَ فِيهِ بِخِلَافِهِ فِي الطَّلَاقِ ، فَإِنَّ الْحَقَّ فِيهِ لِآدَمِيٍّ فَشَدَّدَ فِيهِ .
وَلَوْ مَاتَ مَعْرُوفٌ بِالْإِسْلَامِ عَنْ ابْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : ارْتَدَّ فَمَاتَ كَافِرًا ، فَإِنْ بَيَّنَ سَبَبَ كُفْرِهِ لَمْ يَرِثْهُ ، وَنَصِيبُهُ فَيْءٌ وَكَذَا إنْ أَطْلَقَ فِي الْأَظْهَرِ .
( وَلَوْ مَاتَ ) مَنْ هُوَ ( مَعْرُوفٌ بِالْإِسْلَامِ عَنْ ابْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا ) أَيْ الِابْنَيْنِ ( ارْتَدَّ ) أَيْ الْأَبُ ( فَمَاتَ كَافِرًا ) وَأَنْكَرَ الْآخَرُ ( فَإِنْ بَيَّنَ سَبَبَ كُفْرِهِ ) كَأَنْ قَالَ تَكَلَّمَ بِمَا يُوجِبُ الْكُفْرَ أَوْ سَجَدَ لِصَنَمٍ ( لَمْ يَرِثْهُ وَنَصِيبُهُ فَيْءٌ ) لِبَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُورَثُ ( وَكَذَا ) يَكُونُ نَصِيبُهُ فَيْئًا ( إنْ أَطْلَقَ ) أَيْ : لَمْ يُبَيِّنْ سَبَبَ كُفْرِهِ ( فِي الْأَظْهَرِ ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِكُفْرِهِ فَعُومِلَ بِمُقْتَضَى إقْرَارِهِ فَلَمْ يَرِثْ مِنْهُ ، وَهَذَا التَّرْجِيحُ تَبِعَ فِيهِ الْمُحَرَّرَ ، وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ وَالرَّوْضَةِ أَنَّهُ يَسْتَفْصِلُ ، فَإِنْ ذَكَرَ مَا هُوَ كُفْرٌ كَانَ كَافِيًا ، وَإِنْ ذَكَرَ مَا لَيْسَ كُفْرًا كَأَنْ قَالَ : كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ صُرِفَ إلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا وَقَفَ الْأَمْرُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ، وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَأَقَرَّهُ .
فُرُوعٌ : لَوْ ارْتَدَّ أَسِيرٌ أَوْ غَيْرُهُ مُخْتَارًا ثُمَّ صَلَّى فِي دَارِ الْحَرْبِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ، لَا إنْ صَلَّى فِي دَارِنَا ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ فِي دَارِنَا قَدْ تَكُونُ تَقِيَّةً بِخِلَافِهَا فِي دَارِهِمْ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ اعْتِقَادٍ صَحِيحٍ ، وَلَوْ صَلَّى كَافِرٌ أَصْلِيٌّ وَلَوْ فِي دَارِهِمْ لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ ؛ لِأَنَّ عَلَقَةَ الْإِسْلَامِ بَاقِيَةٌ فِيهِ وَالْعَوْدُ أَهْوَنُ مِنْ الِابْتِدَاءِ فَسُومِحَ فِيهِ إلَّا أَنْ يُسْمَعَ تَشَهُّدُهُ فِي الصَّلَاةِ فَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : إسْلَامُهُ حِينَئِذٍ بِاللَّفْظِ وَالْكَلَامُ فِي خُصُوصِ الصَّلَاةِ الدَّالَّةِ بِالْقَرِينَةِ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّ فَائِدَةَ ذَلِكَ رَفْعُ إيهَامِ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلشَّهَادَةِ فِيهَا لِاحْتِمَالِ الْحِكَايَةِ .
وَلَوْ أُكْرِهَ أَسِيرٌ أَوْ غَيْرُهُ عَلَى الْكُفْرِ بِبِلَادِ الْحَرْبِ لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ كَمَا مَرَّ ، فَإِنْ مَاتَ هُنَاكَ وَرِثَهُ وَارِثُهُ الْمُسْلِمُ ، فَإِنْ قَدِمَ عَلَيْنَا عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ اسْتِحْبَابًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ مُخْتَارًا كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ بِدَارِنَا ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِسْلَامِ بَعْدَ عَرْضِهِ عَلَيْهِ حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ مِنْ حِينِ كُفْرِهِ الْأَوَّلِ ، لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا مِنْ حِينَئِذٍ ، فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الْعَرْضِ وَالتَّلَفُّظِ بِالْإِسْلَامِ فَهُوَ مُسْلِمٌ كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ قُدُومِهِ عَلَيْنَا .
وَتَجِبُ اسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ ، وَفِي قَوْلٍ تُسْتَحَبُّ كَالْكَافِرِ ، وَهِيَ فِي الْحَالِ ، وَفِي قَوْلٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَإِنْ أَصَرَّا قُتِلَا ، وَإِنْ أَسْلَمَ صَحَّ وَتُرِكَ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا ، فَقَالَ : ( وَتَجِبُ اسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ ) قَبْلَ قَتْلِهِمَا لِأَنَّهُمَا كَانَا مُحْتَرَمَيْنِ بِالْإِسْلَامِ ، فَرُبَّمَا عَرَضَتْ لَهُمَا شُبْهَةٌ فَيَسْعَى فِي إزَالَتِهَا ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الرِّدَّةَ تَكُونُ عَنْ شُبْهَةٍ عُرِضَتْ ، وَثَبَتَ وُجُوبُ الِاسْتِتَابَةِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ رُومَانَ ارْتَدَّتْ { فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ ، فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ } .
وَلَا يُعَارِضُ هَذَا : النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ لِأَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَرْبِيَّاتِ وَهَذَا عَلَى الْمُرْتَدَّاتِ ؛ وَلِهَذَا نَصَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْمَرْأَةِ إشَارَةً إلَى الْخِلَافِ ، لَكِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُعَبِّرَ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ إنْ لَمْ يَتُبْ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً ، لِأَنَّ خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَتْلِهَا ، لَا فِي اسْتِتَابَتِهَا ، فَإِنَّهُ قَالَ : تُحْبَسُ وَتُضْرَبُ إلَى أَنْ تَمُوتَ أَوْ تُسْلِمَ ( وَفِي قَوْلٍ تُسْتَحَبُّ ) اسْتِتَابَتُهُ ( كَالْكَافِرِ ) الْأَصْلِيِّ .
فَإِنْ قِيلَ : يَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَتِبْ الْعُرَنِيِّينَ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُمْ حَارَبُوا ، وَالْمُرْتَدُّ إذَا حَارَبَ لَا يُسْتَتَابُ ( وَهِيَ ) أَيْ : الِاسْتِتَابَةُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ( فِي الْحَالِ ) فِي الْأَظْهَرِ ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهَا حَدٌّ ، فَلَا يُؤَخَّرُ كَسَائِرِ الْحُدُودِ ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ السَّكْرَانَ يُسَنُّ تَأْخِيرُهُ إلَى الصَّحْوِ ، وَلَوْ سَأَلَ الْمُرْتَدُّ إزَالَةَ شُبْهَةٍ نُوظِرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ لَا قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَنْحَصِرُ ، وَهَذَا مَا صَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ كَمَا فِي نُسَخِ الرَّافِعِيِّ الْمُعْتَمَدَةِ وَهُوَ الصَّوَابُ ، وَوَقَعَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الرَّوْضَةِ تَبَعًا لِنُسَخِ
الرَّافِعِيِّ السَّقِيمَةِ أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ الْمُنَاظَرَةُ أَوَّلًا ، وَالْمَحْكِيُّ عَنْ النَّصِّ عَدَمُهَا ، وَإِنْ شَكَّا قَبْلَ الْمُنَاظَرَةِ جُوعًا أُطْعِمَ ، ثُمَّ نُوظِرَ ( وَفِي قَوْلٍ ) يُمْهَلُ فِيهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ ( ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ) لِأَثَرٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي ذَلِكَ ، وَأَخَذَ بِهِ الْإِمَامُ مَالِكٌ .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : يُدْعَى إلَى الْإِسْلَامِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَإِنْ أَبَى قُتِلَ ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ شَهْرَيْنِ .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ : يُسْتَتَابُ أَبَدًا ، وَعَلَى التَّأْخِيرِ يُحْبَسُ مُدَّةَ الْإِمْهَالِ وَلَا يُخَلَّى سَبِيلُهُ ( فَإِنْ ) لَمْ يَتُبْ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ عَنْ الرِّدَّةِ : بَلْ ( أَصَرَّا ) عَلَيْهَا ( قُتِلَا ) وُجُوبًا ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَيَقْتُلُهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ إنْ كَانَ حُرًّا لِأَنَّهُ قَتْلٌ مُسْتَحَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَكَانَ لِلْإِمَامِ وَلِمَنْ أَذِنَ لَهُ كَرَجْمِ الزَّانِي ، هَذَا إنْ لَمْ يُقَاتِلْ ، فَإِنْ قَاتَلَ جَازَ قَتْلُهُ لِكُلِّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، وَيَجُوزُ لِلسَّيِّدِ قَتْلُ رَقِيقِهِ الْمُرْتَدِّ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَيُقْتَلُ بِضَرْبِ الْعُنُقِ دُونَ الْإِحْرَاقِ وَنَحْوِهِ لِلْأَمْرِ بِإِحْسَانِ الْقِتْلَةِ ، فَإِنْ خَالَفَ وَقَتَلَهُ بِغَيْرِهِ أَوْ قَتَلَهُ غَيْرُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ عُزِّرَ الْأَوَّلُ لِعُدُولٍ عَنْ الْمَأْمُورِ بِهِ .
وَالثَّانِي لِافْتِيَاتِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ ، نَعَمْ إنْ قَتَلَهُ مُرْتَدٌّ قُتِلَ بِهِ كَمَا مَرَّ فِي الْجِنَايَاتِ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلَا يُدْفَنُ الْمُرْتَدُّ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ لِخُرُوجِهِ بِالرِّدَّةِ عَنْهُمْ ، وَلَا فِي مَقَابِرِ الْكُفَّارِ لِمَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنْ حُرْمَةِ الْإِسْلَامِ ا هـ .
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ حُرْمَةَ الْإِسْلَامِ انْقَطَعَتْ بِمَوْتِهِ كَافِرًا فَلَا مَانِعَ مِنْ دَفْنِهِ فِي مَقَابِرِ الْكُفَّارِ ، فَقَدْ مَرَّ أَنَّ الرِّدَّةَ
أَفْحَشُ الْكُفْرِ ( وَإِنْ ) كَانَ كُلٌّ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ارْتَدَّا إلَى دِينٍ لَا تَأْوِيلَ لِأَهْلِهِ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَمُنْكِرِي النُّبُوَّاتِ ، وَمَنْ يُقِرُّ بِالتَّوْحِيدِ وَيُنْكِرُ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ( أَسْلَمَ صَحَّ ) إسْلَامُهُ إذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ .
قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ فِي مُخْتَصَرِ الْكِفَايَةِ : وَهُمَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهُ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَنْ أَفْتَى مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِلَفْظِ أَشْهَدُ فِي الشَّهَادَتَيْنِ ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ .
وَقَالَ الزَّنْكَلُونِيُّ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ : وَهُمَا لَا إلَهُ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ .
وَظَاهِرُهُ أَنَّ لَفْظَةَ أَشْهَدُ لَا تُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَتَيْنِ ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَنْ أَفْتَى بِعَدَمِ الِاشْتِرَاطِ ، وَهِيَ وَاقِعَةٌ حَالًا اخْتَلَفَ الْمُفْتُونَ فِي الْإِفْتَاءِ فِي عَصْرِنَا فِيهَا ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ النَّقِيبِ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَمَالِ ، وَمَا قَالَهُ الزَّنْكَلُونِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى أَقَلَّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِسْلَامُ ، فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَرْتِيبِ الشَّهَادَتَيْنِ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِاَللَّهِ ثُمَّ بِرَسُولِهِ ، فَإِنْ عَكَسَ لَمْ يَصِحَّ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَرْتِيبِ الْوُضُوءِ ، وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ : إنَّ الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمَا لَا تُشْتَرَطُ .
فَلَوْ تَأَخَّرَ الْإِيمَانُ بِالرِّسَالَةِ عَنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مُدَّةً طَوِيلَةً صَحَّ .
قَالَ : وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَدْعُوِّ إلَى دِينِ الْحَقِّ أَنْ يَدُومَ ، وَلَا يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ فَكَأَنَّ الْعُمْرَ كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَجْلِسِ ( وَ ) إذَا قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا ذَلِكَ ( تُرِكَ ) وَلَوْ كَانَ
زِنْدِيقًا ، أَوْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ مُضِيُّ مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } نَعَمْ يُعَزَّرُ مَنْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ لِزِيَادَةِ تَهَاوُنِهِ بِالدِّينِ فَيُعَزَّرُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَمَا بَعْدَهَا ، وَلَا يُعَزَّرُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَحَكَى ابْنُ يُونُسَ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّمَا يُعَزَّرُ فِي الثَّالِثَةِ ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الرَّابِعَةِ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَعُدَّ هَذَا مِنْ هَفَوَاتِهِ ا هـ .
وَلَا يَصِحُّ هَذَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْسُوبٌ لِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ .
وَقِيلَ لَا يُقْبَلُ إسْلَامُهُ إنْ ارْتَدَّ إلَى كُفْرٍ خَفِيٍّ كَزَنَادِقَةٍ وَبَاطِنِيَّةٍ .
تَنْبِيهٌ : كَانَ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يُثَنِّيَ أَسْلَمَ ، وَتَرَكَ لِيُوَافِقَ مَا قَبْلَهُ ، وَلَكِنْ يَحْصُلُ بِمَا قَدَّرْتُهُ ( وَقِيلَ لَا يُقْبَلُ ) أَيْ : لَا يَصِحُّ ( إسْلَامُهُ إنْ ارْتَدَّ إلَى كُفْرٍ خَفِيٍّ كَزَنَادِقَةٍ ) وَهُمْ مَنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ ، وَيُخْفِي الْكُفْرَ كَمَا قَالَاهُ هُنَا وَفِي الْفَرَائِضِ وَصِفَةِ الْأَئِمَّةِ ، وَقَالَا فِي اللِّعَانِ : هُمْ مَنْ لَا يَنْتَحِلُ دِينًا ، وَصَوَّبَهُ فِي الْمُهِمَّاتِ ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إنَّهُ الْأَقْرَبُ فَإِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُنَافِقُ وَقَدْ غَايَرُوا بَيْنَهُمَا ( وَ ) قِيلَ : لَا يُقْبَلُ إسْلَامُهُ إنْ ارْتَدَّ إلَى كُفْرٍ ( بَاطِنِيَّةٍ ) وَهُمْ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ لِلْقُرْآنِ بَاطِنًا وَأَنَّهُ الْمُرَادُ مِنْهُ دُونَ الظَّاهِرِ ، وَقِيلَ هُمْ ضَرْبٌ مِنْ الزَّنَادِقَةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ شَيْئًا ثُمَّ خَلَقَ مِنْهُ شَيْئًا آخَرَ يُدَبِّرُ الْعَالَمَ ، وَسَمَّوْا الْأَوَّلَ الْعَقْلَ ، وَالثَّانِيَ النَّفْسَ ، وَإِنْ كَانَ ارْتَدَّ إلَى دِينٍ يَزْعُمُ أَهْلُهُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثٌ إلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً ، أَوْ إلَى دِينِ مَنْ يَقُولُ رِسَالَتُهُ حَقٌّ ، لَكِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ بَعْدُ ، أَوَجَحَدَ فَرْضًا أَوْ تَحْرِيمًا لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولٌ إلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ ، وَيَرْجِعُ الثَّانِي عَمَّا اعْتَقَدَهُ ، وَلَا يَكْفِي شَهَادَةُ الْفَلْسَفِيِّ ، وَهُوَ النَّافِي لِاخْتِيَارِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ اللَّهَ عِلَّةُ الْأَشْيَاءِ وَمَبْدَؤُهَا حَتَّى يَشْهَدَ بِالِاخْتِرَاعِ وَالْإِحْدَاثِ مِنْ الْعَدَمِ ، وَلَا يَكْفِي الطَّبَائِعِيُّ الْقَائِلُ بِنِسْبَةِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ إلَى الطَّبِيعَةِ لَا إلَهُ إلَّا الْمُحْيِي الْمُمِيتِ حَتَّى يَقُولَ لَا إلَهُ إلَّا اللَّهُ وَنَحْوُهُ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الَّتِي لَا تَأْوِيلَ لَهُ فِيهَا .
وَأَمَّا الْبَرْهَمِيُّ وَهُوَ مُوَحِّدٌ يُنْكِرُ الرُّسُلَ فَإِنْ قَالَ مَعَ لَا إلَهُ إلَّا اللَّهُ : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ مِنْ
الرُّسُلِ ، لَا إنْ قَالَ عِيسَى وَمُوسَى وَكُلُّ نَبِيٍّ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إقْرَارٌ بِرِسَالَةِ مَنْ قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ شَهِدَ لَهُمْ وَصَدَّقَهُمْ .
فَإِنْ قِيلَ : كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِدَ لَهُمْ وَصَدَّقَهُمْ فَقَدْ شَهِدُوا لَهُ وَبَشَّرُوا بِهِ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّ شَرِيعَتَهُ نَاسِخَةٌ لِمَا قَبْلَهَا بَاقِيَةٌ ، بِخِلَافِ شَرِيعَةِ غَيْرِهِ ، وَالْمُعَطِّلُ إذَا قَالَ : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ قِيلَ يَكُونُ مُؤْمِنًا ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْمُرْسِلَ وَالرَّسُولَ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ كَغَيْرِهِ ، وَلَوْ أَقَرَّ يَهُودِيٌّ بِرِسَالَةِ عِيسَى لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْإِسْلَامِ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِبَعْضِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، وَتُقْبَلُ تَوْبَةُ مُكَذِّبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَا قَاذِفِهِ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ : إنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا ، وَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ .
وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ : يُجْلَدُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ ارْتَفَعَتْ بِإِسْلَامِهِ وَبَقِيَ جَلْدُهُ .
فَائِدَةٌ : يَصِحُّ الْإِسْلَامُ بِسَائِرِ اللُّغَاتِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ ، وَبِإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ .
نَعَمْ لَوْ لُقِّنَ الْعَجَمِيُّ الْكَلِمَةَ الْعَرَبِيَّةَ فَقَالَهَا وَلَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهَا لَمْ يَكْفِ ، وَيُسَنُّ امْتِحَانُ الْكَافِرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِتَقْرِيرِهِ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلَوْ قَالَ بَدَلَ : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فِي الشَّهَادَتَيْنِ أَحْمَدُ أَوْ أَبُو الْقَاسِمِ رَسُولُ اللَّهِ كَفَاهُ ، وَلَوْ قَالَ : النَّبِيُّ بَدَلَ : رَسُولُ اللَّهِ كَفَاهُ لَا الرَّسُولُ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَرَسُولِ اللَّهِ ، فَلَوْ قَالَ : آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ كَفَى ، بِخِلَافِ آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ الرَّسُولِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ لَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَالرَّسُولُ قَدْ يَكُونُ لِغَيْرِهِ ، وَبِخِلَافِ آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ
كَمَا فُهِمَ بِالْأَوْلَى .
تَنْبِيهٌ : غَيْرُ وَسِوَى وَمَا عَدَا وَنَحْوُهَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ كَإِلَّا فِي الِاكْتِفَاءِ بِهَا كَقَوْلِهِ : لَا إلَهَ غَيْرُ اللَّهِ ، أَوْ سِوَى اللَّهِ ، أَوْ مَا عَدَا اللَّهَ ، أَوْ خَلَا اللَّهَ .
وَلَوْ قَالَ كَافِرٌ : أَنَا مِنْكُمْ ، أَوْ مِثْلُكُمْ ، أَوْ مُسْلِمٌ أَوْ وَلِيُّ مُحَمَّدٍ ، أَوْ أُحِبُّهُ ، أَوْ أَسْلَمْتُ ، أَوْ آمَنْتُ لَمْ يَكُنْ اعْتِرَافًا بِالْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ أَنَا مِنْكُمْ أَوْ مِثْلُكُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ ، فَإِنْ قَالَ : آمَنْتُ أَوْ أَسْلَمْتُ ، أَوْ أَنَا مُؤْمِنٌ أَوْ مُسْلِمٌ مِثْلُكُمْ ، أَوْ أَنَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ دِينُكُمْ حَقٌّ ، أَوْ قَالَ : أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مَنْ يُخَالِفُ الْإِسْلَامَ ، أَوْ اعْتَرَفَ مَنْ كَفَرَ بِإِنْكَارِي وُجُوبَ شَيْءٍ بِوُجُوبِهِ ، فَفِيهِ طَرِيقَتَانِ : إحْدَاهُمَا وَهِيَ مَا عَلَيْهَا الْجُمْهُورُ ، وَهِيَ الرَّاجِحَةُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ اعْتِرَافًا بِالْإِسْلَامِ .
وَالثَّانِيَةُ وَنَسَبَهَا الْإِمَامُ لِلْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ يَكُونُ اعْتِرَافًا بِهِ ، وَلَوْ قَالَ : أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مِلَّةٍ تُخَالِفُ الْإِسْلَامَ لَمْ يَكْفِ عَلَى الطَّرِيقَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفِي التَّعْطِيلَ الَّذِي يُخَالِفُ الْإِسْلَامَ ، وَهُوَ لَيْسَ بِمِلَّةٍ ، وَلَوْ قَالَ : لَا رَحْمَنَ ، أَوْ لَا بَارِئَ إلَّا اللَّهُ ، أَوْ مَنْ آمَنَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَكْفِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ خِلَافًا لِلْحَلِيمِيِّ ، وَمَنْ قَالَ : آمَنْتُ بِاَلَّذِي لَا إلَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ الْوَثَنَ ، وَكَذَا لَا إلَهُ إلَّا الْمَلِكُ أَوْ الرَّزَّاقُ ، لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ السُّلْطَانَ الَّذِي يَمْلِكُ أَمْرَ الْجُنْدِ وَيُرَتِّبُ أَرْزَاقَهُمْ ، فَإِنْ قَالَ : آمَنْتُ بِاَللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى دِينٍ قَبْل ذَلِكَ صَارَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ فَيَأْتِي بِالشَّهَادَةِ الْأُخْرَى ، وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا لَمْ يَضُرَّ مُؤْمِنًا حَتَّى يَضُمَّ إلَيْهِ : وَكَفَرْتُ بِمَا كُنْتُ أَشْرَكْتُ بِهِ ، وَمَنْ
قَالَ بِقِدَمِ غَيْرِ اللَّهِ كَفَى لِلْإِيمَانِ بِاَللَّهِ أَنْ يَقُولَ لَا قَدِيمَ إلَّا اللَّهُ كَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ يَكْفِيهِ أَيْضًا : اللَّهُ رَبِّي .
وَوَلَدُ الْمُرْتَدِّ إنْ انْعَقَدَ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا ، وَأَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ فَمُسْلِمٌ ، أَوْ مُرْتَدَّانِ فَمُسْلِمٌ ، وَفِي قَوْلٍ مُرْتَدٌّ ، وَفِي قَوْلٍ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ قُلْتُ : الْأَظْهَرُ مُرْتَدٌّ ، وَنَقَلَ الْعِرَاقِيُّونَ الِاتِّفَاقَ عَلَى كُفْرِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ،
( وَوَلَدُ الْمُرْتَدِّ إنْ انْعَقَدَ قَبْلَهَا ) أَيْ الرِّدَّةِ ( أَوْ ) انْعَقَدَ ( بَعْدَهَا ) أَيْ فِيهَا ( وَأَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ فَمُسْلِمٌ ) ذَلِكَ الْوَلَدُ بِالتَّبَعِيَّةِ لِلْمُسْلِمِ تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ ( أَوْ ) وَأَبَوَاهُ ( مُرْتَدَّانِ فَمُسْلِمٌ ) أَيْضًا لِبَقَاءِ عَلَقَةِ الْإِسْلَامِ فِيهِمَا وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ كُفْرٌ ، وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ الْمُحَرَّرُ تَبَعًا لِجَمْعٍ ، وَعَلَيْهِ لَا يَسْتَرِقُّ ( وَفِي قَوْلٍ ) هُوَ ( مُرْتَدٌّ ) تَبَعًا لَهُمَا ، وَعَلَى هَذَا لَا يُسْتَرَقُّ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ كَمَا لَا يُسْتَرَقُّ أَبَوَاهُ ، وَلَا يُقْتَلُ حَتَّى يَبْلُغَ وَيُسْتَتَابَ ، فَإِنْ أَصَرَّ قُتِلَ ( وَفِي قَوْلٍ ) هُوَ ( كَافِرٌ أَصْلِيٌّ ) لِتَوَلُّدِهِ بَيْنَ كَافِرَيْنِ وَلَمْ يُبَاشِرْ الرِّدَّةَ حَتَّى يَغْلُظَ عَلَيْهِ ( قُلْتُ : الْأَظْهَرُ ) هُوَ ( مُرْتَدٌّ ) إذَا لَمْ يَكُنْ فِي أُصُولِ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ ( وَنَقَلَ الْعِرَاقِيُّونَ ) الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَغَيْرُهُمْ ( الِاتِّفَاقَ عَلَى كُفْرِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) .
فَإِنْ كَانَ فِي أُصُولِ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لَهُ كَمَا مَرَّ ذَلِكَ فِي بَابِ اللَّقِيطِ .
تَنْبِيهٌ : مَا ادَّعَاهُ مَنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ اعْتَمَدَ فِيهِ قَوْلَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ كَمَا قَالَهُ فِي الرَّوْضَةِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الصَّيْمَرِيَّ شَيْخَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ كِبَارِهِمْ ، وَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّهُ مُسْلِمٌ ، وَلَمْ يَحْكِ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ غَيْرَهُ ، وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ إنَّ نُصُوصَ الشَّافِعِيِّ قَاضِيَةٌ بِهِ ، وَأَطَالَ فِي بَيَانِهِ ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ الزَّرْكَشِيُّ ، وَفِي تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ بِمُرْتَدٍّ وَكَافِرٍ أَصْلِيٍّ تَسَمُّحٌ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ فَهُوَ عَلَى حُكْمِ الْكُفْرِ ، وَسَكَتَ الْأَصْحَابُ هُنَا عَمَّا لَوْ أَشْكَلَ عُلُوقُهُ هَلْ هُوَ قَبْلَ الرِّدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الدَّمِيرِيُّ أَنَّهُ عَلَى الْأَقْوَالِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ حَادِثٍ تَقْدِيرُهُ بِأَقْرَبِ زَمَانٍ ، وَيَدُلُّ
لَهُ كَلَامُهُمْ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْحَمْلِ ، وَأَوْلَادِ الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَفَّرْنَاهُمْ الظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الدَّمِيرِيُّ أَيْضًا أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ مَا لَمْ يَعْتَقِدُوا بَعْدَ بُلُوغِهِمْ كُفْرًا ؛ لِأَنَّهُمْ وُلِدُوا عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَاعْتِقَادُ الْأَبِ لَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي اللَّقِيطِ حُكْمُ أَطْفَالِ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ .
وَفِي زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ مَالِهِ بِهَا أَقْوَالٌ : أَظْهَرُهَا إنْ هَلَكَ مُرْتَدًّا بَانَ زَوَالُهُ بِهَا ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَزُلْ ، وَعَلَى الْأَقْوَالِ يُقْضَى مِنْهُ دَيْنٌ لَزِمَهُ قَبْلَهَا .
( وَفِي زَوَالِ مِلْكِهِ ) أَيْ الْمُرْتَدِّ ( عَنْ مَالِهِ ) الْحَاصِلِ قَبْلَهَا أَوْ فِيهَا بِنَحْوِ اصْطِيَادٍ ( بِهَا ) أَيْ : الرِّدَّةِ ( أَقْوَالٌ : أَظْهَرُهَا ) الْوَقْفُ كَبُضْعِ زَوْجَتِهِ سَوَاءٌ الْتَحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَمْ لَا فَعَلَيْهِ ( إنْ هَلَكَ مُرْتَدًّا بَانَ زَوَالُهُ بِهَا ) أَيْ الرِّدَّةِ فَمَا مَلَكَهُ فَيْءٌ وَمَا تَمَلَّكَهُ مِنْ احْتِطَابٍ وَنَحْوِهِ بَاقٍ عَلَى الْإِبَاحَةِ ( وَإِنْ أَسْلَمَ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَزُلْ ) لِأَنَّ بُطْلَانَ أَعْمَالِهِ تَتَوَقَّفُ عَلَى هَلَاكِهِ عَلَى الرِّدَّةِ فَكَذَا زَوَالُ مِلْكِهِ ، وَالثَّانِي يَزُولُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ لِزَوَالِ الْعِصْمَةِ بِرِدَّتِهِ فَمَالُهُ أَوْلَى .
وَالثَّالِثُ لَا يَزُولُ ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُنَافِي الْمِلْكَ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ ( وَ ) يَتَفَرَّعُ ( عَلَى ) هَذِهِ ( الْأَقْوَالِ ) أَنَّهُ ( يُقْضَى مِنْهُ ) أَيْ : مَالِ الْمُرْتَدِّ ( دَيْنٌ لَزِمَهُ قَبْلَهَا ) بِإِتْلَافٍ أَوْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّا إنْ قُلْنَا بِبَقَاءِ مِلْكِهِ أَوْ مَوْقُوفٌ فَوَاضِحٌ ، وَإِنْ قُلْنَا : بِزَوَالِهِ فَهِيَ لَا تَزِيدُ عَلَى الْمَوْتِ ، وَالدَّيْنُ يُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ ، فَكَذَا عَلَى حَقِّ الْفَيْءِ ، وَإِذَا مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وُفِّيَ ، ثُمَّ إنْ بَقِيَ شَيْءٌ صُرِفَ لِبَيْتِ الْمَالِ ، وَهَلْ يَنْتَقِلُ جَمِيعُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ فَيْئًا مُتَعَلِّقًا بِهِ الدَّيْنُ كَمَا تُنْقَلُ التَّرِكَةُ لِلْوَرَثَةِ كَذَلِكَ ، أَوْ لَا يَنْتَقِلُ لِلْفَيْءِ إلَّا الْفَاضِلُ عَنْ الدَّيْنِ ؟ الْقِيَاسُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ مُخْتَصَرِ التَّبْرِيزِيِّ الثَّانِيَ .
وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْهُ ، وَالْأَصَحُّ يَلْزَمُهُ غُرْمُ إتْلَافِهِ فِيهَا ، وَنَفَقَةُ زَوْجَاتٍ وُقِفَ نِكَاحُهُنَّ وَقَرِيبٍ ، وَإِذَا وَقَفْنَا مِلْكَهُ فَتَصَرُّفُهُ إنْ احْتَمَلَ الْوَقْفَ كَعِتْقٍ وَتَدْبِيرٍ وَوَصِيَّةٍ مَوْقُوفٌ ، إنْ أَسْلَمَ نَفَذَ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَبَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَرَهْنُهُ وَكِتَابَتُهُ بَاطِلَةٌ ، وَفِي الْقَدِيم مَوْقُوفَةٌ ، وَعَلَى الْأَقْوَالِ يُجْعَلُ مَالُهُ مَعَ عَدْلٍ ، وَأَمَتُهُ عِنْدَ امْرَأَةٍ ثِقَةٌ ، وَيُؤَدِّي مُكَاتَبُهُ النُّجُومَ إلَى الْقَاضِي .
تَنْبِيهٌ : هَلْ يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ ضَرْبِ الْقَاضِي ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ، وَقِيلَ قَوْلَانِ .
قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ : أَصَحُّهُمَا الثَّانِي ، وَجَزَمَ بِهِ جَمَاعَةٌ .
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إنَّ الْجُمْهُورَ عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ ، وَعَلَى الثَّانِي هَلْ هُوَ كَحَجْرِ الْفَلَسِ ، أَوْ السَّفَهِ ، أَوْ الْمَرَضِ ؟ .
فِيهِ أَوْجُهٌ : أَصَحُّهَا أَوَّلُهَا ( وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ ) أَيْ : الْمُرْتَدِّ زَمَنَ اسْتِتَابَتِهِ ( مِنْهُ ) أَيْ مَالِهِ ، وَتُجْعَلُ حَاجَتُهُ لِلنَّفَقَةِ كَحَاجَةِ الْمَيِّتِ إلَى التَّجْهِيزِ بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ ( وَالْأَصَحُّ يَلْزَمُهُ غُرْمُ إتْلَافِهِ ) مَالِ غَيْرِهِ ( فِيهَا ) أَيْ الرِّدَّةِ حَتَّى لَوْ ارْتَدَّ جَمْعٌ وَامْتَنَعُوا عَنْ الْإِمَامِ وَلَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ إلَّا بِقِتَالٍ ، فَمَا أَتْلَفُوا فِي الْقِتَالِ إذَا أَسْلَمُوا ضَمِنُوهُ عَلَى الْأَظْهَرِ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا وَإِنْ صَحَّحَ فِي الْبَيَانِ عَدَمَ الضَّمَانِ ( وَ ) الْأَصَحُّ يَلْزَمُهُ ( نَفَقَةُ زَوْجَاتٍ وُقِفَ نِكَاحُهُنَّ وَقَرِيبٍ ) لِأَنَّهَا حُقُوقٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ هَذَا هُوَ الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ .
وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ .
تَنْبِيهٌ : هَذَا الْخِلَافُ مُفَرَّعٌ عَلَى الْقَوْلِ بِزَوَالِ مِلْكِهِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ ، فَإِنْ قُلْنَا بِبَقَاءِ مِلْكِهِ أَوْ مَوْقُوفٌ لَزِمَهُ ذَلِكَ قَطْعًا ، وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ نَفَقَةِ الرَّقِيقِ .
قَالَ فِي الْمَطْلَبِ : وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْهُ مُطْلَقًا ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ إذَا قُلْنَا بِزَوَالِ مِلْكِهِ كَالزَّوْجَةِ ( وَإِذَا وَقَفْنَا مِلْكَهُ ) وَهُوَ الْأَظْهَرُ كَمَا مَرَّ وَفَرَّعْنَا عَلَيْهِ ( فَتَصَرُّفُهُ ) الْوَاقِعُ مِنْهُ فِي رِدَّتِهِ ( إنْ احْتَمَلَ ) أَيْ : قَبِلَ ( الْوَقْفَ ) بِأَنْ قَبِلَ التَّعْلِيقَ ( كَعِتْقٍ وَتَدْبِيرٍ وَوَصِيَّةٍ مَوْقُوفٌ ) لُزُومُهُ
كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ( إنْ أَسْلَمَ نَفَذَ ) بِمُعْجَمَةٍ : أَيْ : بَانَ نُفُوذُهُ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ مَاتَ مُرْتَدًّا ( فَلَا ) يَنْفُذُ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يَضُرُّهُ ( وَبَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَرَهْنُهُ وَكِتَابَتُهُ ) وَنَحْوُهَا مِمَّا لَا يَقْبَلُ الْوَقْفَ ( بَاطِلَةٌ ) بِنَاءً عَلَى بُطْلَانِ وَقْفِ الْعُقُودِ وَهُوَ الْجَدِيدُ ( وَفِي الْقَدِيمِ ) هِيَ ( مَوْقُوفَةٌ ) بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْعُقُودِ ، فَإِنْ أَسْلَمَ حُكِمَ بِصِحَّتِهَا ، وَإِلَّا فَلَا .
تَنْبِيهٌ : مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابَةِ مِنْ أَنَّهَا عَلَى قَوْلَيْ وَقْفِ الْعُقُودِ حَتَّى تَبْطُلَ عَلَى الْجَدِيدِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُحَرَّرِ هُنَا وَفِي الْكِتَابَةِ ، وَصَوَّبَهُ فِي الرَّوْضَةِ هُنَا ، وَإِنْ رَجَّحَا فِي الشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ صِحَّتَهَا ، وَرَجَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ ( وَعَلَى الْأَقْوَالِ ) السَّابِقَةِ ( يُجْعَلُ مَالُهُ مَعَ ) أَيْ : عِنْدَ ( عَدْلٍ ) يَحْفَظُهُ ( وَأَمَتُهُ عِنْدَ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ ) أَوْ مَنْ يَحِلُّ لَهُ الْخَلْوَةُ بِهَا كَالْمَحْرَمِ احْتِيَاطًا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ بِهِ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ يُفْهَمُ كَلَامُهُ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالْجَعْلِ الْمَذْكُورِ عَلَى قَوْلِ بَقَاءِ مِلْكِهِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ عَلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْ ضَرْبِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَيُؤَدِّي مُكَاتَبُهُ النُّجُومَ إلَى الْقَاضِي ) حِفْظًا لَهَا وَيُعْتَقُ بِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْبِضْهَا الْمُرْتَدُّ ، لِأَنَّ قَبْضَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، وَلَوْ أَدَّى فِي الرِّدَّةِ زَكَاةً وَجَبَتْ عَلَيْهِ قَبْلَهَا ثُمَّ أَسْلَمَ قَالَ الْقَفَّالُ : يَنْبَغِي أَنْ لَا تَسْقُطَ ، وَلَكِنْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى السُّقُوطِ ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّيَّةِ هُنَا التَّمْيِيزُ .
خَاتِمَةٌ : لَوْ امْتَنَعَ مُرْتَدُّونَ بِنَحْوِ حِصْنٍ بَدَأْنَا بِقِتَالِهِمْ ؛ لِأَنَّ كُفْرَهُمْ أَغْلَظُ كَمَا مَرَّ ، وَلِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ ، وَاتَّبَعْنَا مُدْبِرَهُمْ ، وَذَفَفْنَا عَلَى جَرِيحِهِمْ ، وَاسْتَتَبْنَا أَسِيرَهُمْ ، وَعَلَيْهِمْ
ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ فِي حَالِ الْقِتَالِ كَمَا مَرَّ وَيُقَدَّمُ الْقِصَاصُ عَلَى قَتْلِ الرِّدَّةِ ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ حَيْثُ لَزِمَتْهُ فِي مَالِهِ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ لَا عَاقِلَةَ لَهُ مُعَجَّلَةً فِي الْعَمْدِ وَمُؤَجَّلَةً فِي غَيْرِهِ ، فَإِنْ مَاتَ حَلَّتْ ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ ، وَلَا يَحِلُّ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ بِالرِّدَّةِ ، وَلَوْ وَطِئَ مُرْتَدَّةً بِشُبْهَةٍ كَأَنْ وَطِئَهَا مُكْرَهَةً ، أَوْ اسْتَخْدَمَ الْمُرْتَدُّ أَوْ الْمُرْتَدَّةُ إكْرَاهًا فَوُجُوبُ الْمَهْرِ وَالْأُجْرَةِ مَوْقُوفَانِ ، وَلَوْ أَتَى فِي رِدَّتِهِ مَا يُوجِبُ حَدًّا كَأَنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ ، أَوْ قَذَفَ ، أَوْ شَرِبَ خَمْرًا حُدَّ ثُمَّ قُتِلَ .
كِتَابُ الزِّنَا إيلَاجُ الذَّكَرِ بِفَرْجٍ مُحَرَّمٍ لَعَيْنِهِ خَالٍ عَنْ الشُّبْهَةِ مُشْتَهًى يُوجِبُ الْحَدَّ .
كِتَابُ الزِّنَا هُوَ بِالْقَصْرِ لُغَةٌ حِجَازِيَّةٌ ، وَبِالْمَدِّ لُغَةٌ تَمِيمِيَّةٌ ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْمِلَلِ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، وَهُوَ مِنْ أَفْحَشِ الْكَبَائِرِ ، وَلَمْ يَحِلَّ فِي مِلَّةٍ قَطُّ ، وَلِهَذَا كَانَ حَدُّهُ أَشَدَّ الْحُدُودِ ، لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الْأَعْرَاضِ وَالْأَنْسَابِ .
وَالْأَصْلُ فِي الْبَابِ قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } وَالشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا - وَهَذِهِ نُسِخَ لَفْظُهَا وَبَقِيَ حُكْمُهَا ، وَقَدْ رَجَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةُ وَلَهُ حُكْمَانِ يَخْتَصَّانِ بِهِ : اشْتِرَاطُ أَرْبَعَةٍ فِي الشَّهَادَةِ ، وَإِيجَابُ مِائَةِ جَلْدَةٍ ، وَحَقِيقَتُهُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَدِّ ( إيلَاجُ ) حَشَفَةٍ أَوْ قَدْرِهَا مِنْ ( الذَّكَرِ ) الْمُتَّصِلِ الْأَصْلِيِّ مِنْ الْآدَمِيِّ الْوَاضِحِ ، وَلَوْ أَشَلَّ وَغَيْرَ مُنْتَشِرٍ وَكَانَ مَلْفُوفًا فِي خِرْقَةٍ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ مَا جَزَمَ بِهِ فِي التَّحْقِيقِ فِي بَابِ الْغُسْلِ ، وَصَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ خِلَافًا لِلدَّيْلَمِيِّ ( بِفَرْجٍ ) أَيْ : قُبُلِ أُنْثَى وَلَوْ غَوْرَاءَ كَمَا بَحَثَهُ الزَّرْكَشِيُّ فَارِقًا بَيْنَ مَا هُنَا وَمَا فِي بَابِ التَّحْلِيلِ مِنْ عَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِالْإِيلَاجِ فِيهَا بِبِنَاءِ التَّحْلِيلِ عَلَى تَكْمِيلِ اللَّذَّةِ ( مُحَرَّمٍ ) فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ( لَعَيْنِهِ ) أَيْ : الْإِيلَاجُ ( خَالٍ عَنْ الشُّبْهَةِ ) الْمُسْقِطَةِ لِلْحَدِّ ( مُشْتَهًى ) طَبْعًا بِأَنْ كَانَ فَرْجُ آدَمِيٍّ حَيٍّ ، وَقَوْلُهُ ( يُوجِبُ الْحَدَّ ) هُوَ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ إيلَاجٌ ، وَالْحَدُّ هُوَ الْجَلْدُ وَالتَّغْرِيبُ عَلَى غَيْرِ الْمُحْصَنِ ، وَالرَّجْمُ عَلَى الْمُحْصَنِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ، وَخَرَجَ بِمُتَّصِلٍ مَنْ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرًا مَقْطُوعًا فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا ، وَبِالْأَصْلِيِّ الزَّائِدِ ، وَبِالْآدَمِيِّ وَالْوَاضِحُ مَنْ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَ بَهِيمَةٍ أَوْ مُشْكِلٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا ، وَبِنَفْسِ الْأَمْرِ مَا لَوْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ ظَانًّا أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ فَلَا حَدَّ
، وَمَا بَقِيَ مِنْ مُحْتَرَزَاتِ قُيُودِ الْحَدِّ يَأْتِي فِي الْمَتْنِ ، وَبِمَا تَقَرَّرَ عُلِمَ مَا فِي الْحَدِّ مِنْ الْإِجْحَافِ ، قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ : وَفِيهِ زِيَادَةٌ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا ، وَهِيَ قَوْلُهُ : خَالٍ عَنْ الشُّبْهَةِ لِخُرُوجِ الشُّبْهَةِ بِقَيْدِ التَّحْرِيمِ ، فَإِنَّ وَطْءَ الشُّبْهَةِ لَا يُوصَفُ بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ ا هـ .
لَكِنَّ الشُّبْهَةَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : شُبْهَةُ فَاعِلٍ كَأَنْ يَكُونَ جَاهِلًا ، وَشُبْهَةُ مَحَلٍّ كَظَنٍّ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ ، وَشُبْهَةُ جِهَةٍ كَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ ، وَاَلَّذِي لَا يُوصَفُ بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ .
وَدُبُرُ ذَكَرٍ وَأُنْثَى كَقُبُلٍ عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَلَا حَدَّ بِمُفَاخَذَةٍ وَوَطْءِ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ فِي حَيْضٍ وَصَوْمٍ وَإِحْرَامٍ .
تَنْبِيهٌ : قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : لَوْ ثَنَى ذَكَرَهُ وَأَدْخَلَ قَدْرَ الْحَشَفَةِ ، فَفِي تَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ تَوَقُّفٌ ، وَإِلَّا رُجِّحَ التَّرْتِيبُ إنْ أَمْكَنَ ا هـ .
وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ فِي الْحَشَفَةِ حَيْثُ كَانَتْ مَوْجُودَةً أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ إدْخَالُ غَيْرِهَا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : قَدْرُ الْحَشَفَةِ مِنْ مَقْطُوعِهَا ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ( وَدُبُرُ ذَكَرٍ وَ ) دُبُرُ ( أُنْثَى ) أَجْنَبِيَّةٍ ( كَقُبُلٍ ) لِلْأُنْثَى فَيَجِبُ بِالْإِيلَاجِ فِي كُلٍّ مِنْ الدُّبُرَيْنِ الْمُسَمَّى بِاللِّوَاطِ الْحَدُّ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) فَيُرْجَمُ الْمُحْصَنُ وَيُجْلَدُ غَيْرُهُ وَيُغَرَّبُ ؛ لِأَنَّهُ زِنًى بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } وَقَالَ تَعَالَى : { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ } .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا أَتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُمَا زَانِيَانِ } وَفِي قَوْلٍ يُقْتَلُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ لِحَدِيثِ { مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَ الْحَاكِمُ إسْنَادَهُ .
وَعَلَى هَذَا يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ كَالْمُرْتَدِّ .
وَقِيلَ إنَّ وَاجِبَهُ التَّعْزِيرُ فَقَطْ كَإِتْيَانِ الْبَهِيمَةِ .
تَنْبِيهٌ : شَمِلَ إطْلَاقُهُ دُبُرَ عَبْدِهِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ .
هَذَا حُكْمُ الْفَاعِلِ .
وَأَمَّا الْمَفْعُولِ بِهِ فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مُكْرَهًا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَلَا مَهْرَ لَهُ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ بُضْعِ الرَّجُلِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ وَإِنْ كَانَ مُكَلَّفًا مُخْتَارًا جُلِدَ وَغُرِّبَ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ، سَوَاءٌ أَكَانَ رَجُلًا أَمْ امْرَأَةً ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ إحْصَانٌ .
وَقِيلَ تُرْجَمُ الْمَرْأَةُ الْمُحْصَنَةُ .
أَمَّا وَطْءُ زَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ فِي دُبُرِهَا فَالْمَذْهَبُ أَنَّ وَاجِبَهُ التَّعْزِيرُ إنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْفِعْلُ ، فَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ فَلَا تَعْزِيرَ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ
وَالرُّويَانِيُّ ، وَالزَّوْجَةُ وَالْأَمَةُ فِي التَّعْزِيرِ مِثْلُهُ سَوَاءٌ ، وَاحْتُرِزَ بِإِيلَاجٍ عَمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ ( وَلَا حَدَّ بِمُفَاخَذَةٍ ) بِإِعْجَامِ الذَّالِ ، وَلَا بِإِيلَاجِ بَعْضِ الْحَشَفَةِ ، وَلَا بِإِيلَاجِهَا فِي غَيْرِ فَرْجٍ كَسُرَّةٍ ، وَلَا بِمُقَدَّمَاتِ وَطْءٍ ، وَلَا بِإِتْيَانِ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ لِعَدَمِ الْإِيلَاجِ يُعَزَّرَانِ ، وَلَا بِاسْتِمْنَائِهِ بِيَدِهِ ، بَلْ يُعَزَّرُ .
أَمَّا بِيَدِ مَنْ يَحِلُّ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فَمَكْرُوهٌ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْعَزْلِ ( وَ ) اُحْتُرِزَ بِمُحَرَّمٍ لِعَيْنِهِ عَنْ ( وَطْءِ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ فِي حَيْضٍ ) وَنِفَاسٍ ( وَصَوْمٍ وَإِحْرَامٍ ) وَاسْتِبْرَاءٍ فَلَا حَدَّ بِهِ ، فَإِنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِأُمُورٍ عَارِضَةٍ .
وَكَذَا أَمَتِهِ الْمُزَوَّجَةِ وَالْمُعْتَدَّةِ ، وَكَذَا مَمْلُوكَتِهِ الْمَحْرَمِ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ يَخْرُجُ بِمُحَرَّمٍ وَطْءُ حَرْبِيَّةٍ بِقَصْدِ الْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُهَا بِذَلِكَ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَمَا حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنْ الْقَفَّالِ فِي بَابِ السَّرِقَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى سَرِقَةِ الْعَيْنِ ، وَذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ هُنَاكَ مِنْ غَيْرِ نِسْبَةٍ إلَى الْقَفَّالِ ، وَاحْتُرِزَ بِخَالٍ عَنْ الشُّبْهَةِ الْمَحَلُّ الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ ( وَكَذَا أَمَتِهِ الْمُزَوَّجَةِ ) وَالْمُشْتَرَكَةِ ( وَالْمُعْتَدَّةِ ) مِنْ غَيْرِهِ وَالْمَجُوسِيَّةَ وَالْوَثَنِيَّةَ وَالْمُسْلِمَةَ وَهُوَ ذِمِّيٌّ فَلَا حَدَّ بِوَطْئِهَا جَزْمًا ، وَقِيلَ فِي الْأَظْهَرِ ( وَكَذَا مَمْلُوكَتِهِ الْمَحْرَمِ ) بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ كَأُخْتِهِ مِنْهُمَا أَوْ بِمُصَاهَرَةٍ كَمَوْطُوءَةِ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ فَلَا حَدَّ بِوَطْئِهَا فِي الْأَظْهَرِ كَمَا سَيَأْتِي لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ ذَلِكَ فِيمَنْ يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا كَأُخْتِهِ .
أَمَّا مَنْ لَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا كَالْأُمِّ وَالْجَدَّةِ فَهُوَ زَانٍ قَطْعًا كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَاحْتُرِزَ عَنْ شُبْهَةِ الْفَاعِلِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ .
وَمُكْرَهٍ فِي الْأَظْهَرِ .
( وَمُكْرَهٍ ) فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } وَقَوْلُهُ ( فِي الْأَظْهَرِ ) رَاجِعٌ لِلْمَسْأَلَتَيْنِ كَمَا تَقَرَّرَ ، لَكِنَّهُ عَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا فِي الْمُكْرَهِ بِالْأَصَحِّ ، وَعَبَّرَ فِي الْمُحَرَّرِ عَنْ شُبْهَةِ الْفَاعِلِ بِمَا إذَا وَجَدَ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ فَوَطِئَهَا عَلَى ظَنٍّ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ .
وَالثَّانِي يُحَدُّ فِيهِمَا .
أَمَّا الْأُولَى فَلِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يُسْتَبَاحُ بِحَالٍ فَأَشْبَهَ اللِّوَاطَ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّ وَطْءَ أَمَتِهِ الْمُحَرَّمَ فِي دُبُرِهَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، وَهُوَ كَذَلِكَ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ وَإِنْ نَقَلَ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ أَنَّهُ يُوجِبُهُ ، وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّ انْتِشَارَ الْآلَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِشَهْوَةٍ وَاخْتِيَارٍ ، وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ التَّرَدُّدُ فِي تَصْوِيرِ الْإِكْرَاهِ فِي الزِّنَا ، وَالصَّحِيحُ تَصْوِيرُهُ ؛ لِأَنَّ الِانْتِشَارَ تَقْتَضِيهِ الطَّبِيعَةُ عِنْدَ الْمُلَابَسَةِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الرَّجُلِ .
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ قَطْعًا .
قَالَهُ فِي الْوَسِيطِ .
فَائِدَةٌ : فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ أَنَّ عُمَرَ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ جَهَدَهَا الْعَطَشُ فَمَرَّتْ عَلَى رَاعٍ فَاسْتَسْقَتْهُ فَأَبَى أَنْ يَسْقِيَهَا إلَّا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا فَفَعَلَتْ فَشَاوَرَ النَّاسَ فِي رَجْمِهَا .
فَقَالَ عَلِيٌّ : هَذِهِ مُضْطَرَّةٌ أَرَى أَنْ يُخَلَّى سَبِيلُهَا فَفَعَلَ ، وَكَانَ الْأَوْلَى تَأْخِيرَ الْمُكْرَهِ إلَى قَوْلِهِ : وَشَرْطُهُ التَّكْلِيفُ فَيَقُولُ وَالِاخْتِيَارُ ، وَتَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ يُوهِمُ عَدَمَ الْخِلَافِ فِي أَمَتِهِ الْمُزَوَّجَةِ وَالْمُعْتَدَّةِ وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ الْخِلَافُ الَّذِي فِي الْمُحَرَّمِ جَارٍ فِيهَا .
وَكَذَا كُلُّ جِهَةٍ أَبَاحَهَا عَالِمٌ كَنِكَاحٍ بِلَا شُهُودٍ عَلَى الصَّحِيحِ .
فَرْعٌ : لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا أَمَتُهُ الْمُشْتَرَكَةُ فَبَانَتْ أَجْنَبِيَّةً حُدَّ كَمَا رَجَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ احْتِمَالَيْنِ نَقَلَهُمَا تَبَعًا لِبَعْضِ نُسَخِ الرَّافِعِيِّ عَنْ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ عَلِمَ التَّحْرِيمَ فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ الِامْتِنَاعُ ، وَقِيلَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : إنَّهُ أَظْهَرُ الِاحْتِمَالَيْنِ لِأَنَّهُ ظَنَّ مَا لَوْ تَحَقَّقَ رُفِعَ عَنْهُ الْحَدُّ ، وَاحْتُرِزَ عَنْ شُبْهَةِ الطَّرِيقِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ ( وَكَذَا كُلُّ جِهَةٍ أَبَاحَهَا ) أَيْ : قَالَ بِالْوَطْءِ بِهَا ( عَالِمٌ كَنِكَاحٍ بِلَا شُهُودٍ ) فَقَطْ كَمَا قَالَ بِهِ مَالِكٌ ، أَوْ بِلَا وَلِيٍّ فَقَطْ كَمَا قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ ، أَوْ بِوَلِيٍّ وَشُهُودٍ ، وَلَكِنَّهُ مُؤَقَّتٌ وَهُوَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ كَمَا قَالَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ لَا حَدَّ بِالْوَطْءِ فِيهِ ( عَلَى الصَّحِيحِ ) وَإِنْ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ لِشُبْهَةِ الْخِلَافِ ، وَقِيلَ : يَجِبُ عَلَى مُعْتَقِدِ التَّحْرِيمِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَقِيلَ يَجِبُ عَلَى مُعْتَقِدِ الْإِبَاحَةِ أَيْضًا كَمَا يُحَدُّ الْحَنَفِيُّ عَلَى شُرْبِ النَّبِيذِ ، وَفِي قَوْلٍ : يَجِبُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ نَسْخُهُ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَجَعَ عَنْهُ كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي النِّكَاحِ الْمَذْكُورِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَنْ لَا يُقَارِنَهُ حُكْمٌ ، فَإِنْ حَكَمَ شَافِعِيٌّ بِبُطْلَانِهِ حُدَّ قَطْعًا ، أَوْ حَنَفِيٌّ أَوْ مَالِكِيٌّ بِصِحَّتِهِ لَمْ يُحَدَّ قَطْعًا ، وَالضَّابِطُ فِي الشُّبْهَةِ قُوَّةُ الْمُدْرَكِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ لَا عَيْنِ الْخِلَافِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخَانِ ، فَلَوْ وَطِئَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ حُدَّ عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَإِنْ حُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ حِلُّ ذَلِكَ .
وَيَجِبُ فِي الْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ .
قَالَ الْقَاضِي : إلَّا فِي الدَّنِيئَةِ فَلَا حَدَّ فِيهَا لِخِلَافِ مَالِكٍ فِيهِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ الشُّبْهَةِ مَنْ زَنَى بِجَارِيَةِ بَيْتِ الْمَالِ فَيَجِبُ الْحَدُّ
بِوَطْئِهَا كَمَا فِي سِيَرِ الرَّوْضَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحَقُّ فِي بَيْتِ الْمَالِ النَّفَقَةُ لَا الْإِعْفَافُ ، وَاحْتُرِزَ بِمُشْتَهًى عَمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ .
وَلَا بِوَطْءِ مَيِّتَةٍ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَا بَهِيمَةٍ فِي الْأَظْهَرِ .
( وَلَا ) حَدَّ ( بِوَطْءِ مَيِّتَةٍ فِي الْأَصَحِّ ) وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً فِي الْحَيَاةِ خِلَافًا لِمَا فِي نُكَتِ الْوَسِيطِ .
لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَنْفِرُ الطَّبْعُ عَنْهُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الزَّجْرِ عَنْهُ بِحَدٍّ كَشُرْبِ الْبَوْلِ بَلْ يُعَزَّرُ .
وَالثَّانِي : يُحَدُّ بِهِ كَوَطْءِ الْحَيَّةِ ، وَلَا يَجِبُ فِيهِ مَهْرٌ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَسْتَأْنِفُ مِلْكًا ( وَلَا ) بِوَطْءِ ( بَهِيمَةٍ فِي الْأَظْهَرِ ) لِأَنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَأْبَاهُ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى زَاجِرٍ بِحَدٍّ بَلْ يُعَزَّرُ ، وَفِي النَّسَائِيّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : لَيْسَ عَلَى الَّذِي يَأْتِي الْبَهِيمَةَ حَدٌّ ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ ، وَالثَّانِي يُقْتَلُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوهَا مَعَهُ } رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَ إسْنَادَهُ ، وَالثَّالِثُ : يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَا فَيُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِهِ .
وَأَمَّا الْبَهِيمَةُ الْمَفْعُولُ بِهَا فَفِيهَا أَوْجُهٌ : أَصَحُّهَا لَا تُذْبَحُ ، وَقِيلَ : تُذْبَحُ إنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً ، وَقِيلَ تُذْبَحُ مُطْلَقًا لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي عِلَّةِ ذَلِكَ : فَقِيلَ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَأْتِيَ بِوَلَدٍ مُشَوَّهِ الْخَلْقِ ، فَعَلَى هَذَا لَا تُذْبَحُ إلَّا إذَا كَانَتْ أُنْثَى ، وَقَدْ أَتَاهَا فِي الْفَرْجِ ، وَقِيلَ إنَّ فِي بَقَائِهَا تِذْكَارًا لِلْفَاحِشَةِ فَيُعَيَّرُ بِهَا هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ ، فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَإِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً وَذُبِحَتْ حَلَّ أَكْلُهَا عَلَى الْأَصَحِّ ، وَحَيْثُ وَجَبَ الذَّبْحُ وَالْبَهِيمَةُ لِغَيْرِ الْفَاعِلِ لَزِمَهُ لِمَالِكِهَا إنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا حَيَّةً وَمَذْبُوحَةً ، وَإِلَّا لَزِمَهُ جَمِيعُ الْقِيمَةِ ، وَقِيلَ : لَا شَيْءَ لِصَاحِبِهَا لِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ قَتْلَهَا لِلْمَصْلَحَةِ ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ شَرْطَ الشُّبْهَةِ : أَنْ تَكُونَ قَوِيَّةَ الْمُدْرَكِ مُسْقِطَةً لِلْحَدِّ لِيَخْرُجَ أَيْضًا شُبْهَةُ مَنْ اُسْتُؤْجِرَتْ لِلزِّنَا
فَلِذَلِكَ قَالَ :
وَيُحَدُّ فِي مُسْتَأْجَرَةٍ .
( وَيُحَدُّ فِي ) وَطْءِ ( مُسْتَأْجَرَةٍ ) لِلزِّنَا بِهَا لِانْتِفَاءِ الْمِلْكِ وَالْعَقْدِ ، وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ بَاطِلٌ وَلَا يُورِثُ شُبْهَةً مُؤَثِّرَةً كَمَا لَوْ اشْتَرَى خَمْرًا فَشَرِبَهَا ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ شُبْهَةٌ ، وَعُورِضَ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ شُبْهَةً لَثَبَتَ النَّسَبُ ، وَلَا يَثْبُتُ اتِّفَاقًا .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَمْ يُرَاعَ خِلَافُهُ هُنَا كَمَا مَرَّ فِي نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ ؟ أُجِيبَ بِضَعْفِ مُدْرَكِهِ هُنَا .
وَمُبِيحَةٍ وَمَحْرَمٍ ، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا .
( وَ ) يُحَدُّ أَيْضًا فِي وَطْءِ ( مُبِيحَةٍ ) فَرْجَهَا لِلْوَطْءِ ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ لَا يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ .
وَتُحَدُّ هِيَ أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ( وَ ) فِي وَطْءِ ( مَحْرَمٍ ) بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ ( وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا ) لِأَنَّهُ وَطْءٌ صَادَفَ مَحَلًّا لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةٌ وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِتَحْرِيمِهِ ا هـ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَدُّ .
تَنْبِيهٌ : أَشَارَ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا إلَى خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ قَالَ : لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ صُورَةَ الْعَقْدِ شُبْهَةٌ .
وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ : يُقْتَلُ وَيُؤْخَذُ مَالُهُ لِحَدِيثٍ فِيهِ صَحَّحَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ .
فُرُوعٌ : لَوْ ادَّعَى الْجَهْلَ بِتَحْرِيمِ الْمَوْطُوءَةِ بِنَسَبٍ لَمْ يُصَدَّقْ لِبُعْدِ الْجَهْلِ بِذَلِكَ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إلَّا إنْ جَهِلَ مَعَ ذَلِكَ النَّسَبَ وَلَمْ يَظْهَرْ لَنَا كَذِبُهُ فَالظَّاهِرُ تَصْدِيقُهُ ، أَوْ بِتَحْرِيمِهَا بِرَضَاعٍ فَقَوْلَانِ ، أَظْهَرُهُمَا كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ تَصْدِيقُهُ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ ، أَوْ بِتَحْرِيمِهَا بِكَوْنِهَا مُزَوَّجَةً أَوْ مُعْتَدَّةً وَأَمْكَنَ جَهْلُهُ بِذَلِكَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ ، وَحُدَّتْ هِيَ دُونَهُ إنْ عَلِمَتْ تَحْرِيمَ ذَلِكَ ، وَيُحَدُّ فِي وَطْءِ نِكَاحِ أُخْتٍ نَكَحَهَا عَلَى أُخْتِهَا ، وَفِي وَطْءِ مَنْ ارْتَهَنَهَا ، وَفِي وَطْءِ مُسْلِمَةٍ نَكَحَهَا وَهُوَ كَافِرٌ ، وَوَطِئَ عَالِمًا بِالْحَالِ ، وَفِي وَطْءِ وَثَنِيَّةٍ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ نَكَحَهُمَا مُسْلِمٌ ، وَيُحَدُّ فِي وَطْءِ مُطَلَّقَتِهِ ثَلَاثًا وَذَاتِ زَوْجٍ وَمُلَاعَنَةٍ وَمُعْتَدَّةٍ لِغَيْرِهِ وَمُرْتَدَّةٍ ، وَلَوْ زَنَى مُكَلَّفٌ بِمَجْنُونَةٍ أَوْ نَائِمَةٍ أَوْ مُرَاهِقَةٍ حُدَّ ، وَلَوْ مَكَّنَتْ مُكَلَّفَةٌ مَجْنُونًا أَوْ مُرَاهِقًا أَوْ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَ نَائِمٍ حُدَّتْ ، وَلَا تُحَدُّ خَلِيَّةٌ حُبْلَى لَمْ تُقِرَّ بِالزِّنَا أَوْ وَلَدَتْ وَلَمْ تُقِرَّ بِهِ ، لِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَجِبُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَشَرْطُهُ التَّكْلِيفُ إلَّا السَّكْرَانَ ، وَعِلْمُ تَحْرِيمِهِ .
( وَشَرْطُهُ ) أَيْ إيجَابِ حَدِّ الزِّنَا رَجْمًا كَانَ أَوْ جَلْدًا فِي الْفَاعِلِ أَوْ الْمَفْعُولِ بِهِ ( التَّكْلِيفُ ) فَلَا حَدَّ عَلَى صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُمَا ، وَلَكِنْ يُؤَدِّبُهُمَا وَلِيُّهُمَا بِمَا يَزْجُرُهُمَا ، وَلَوْ زَنَى وَعِنْدَهُ أَنَّهُ غَيْرُ بَالِغٍ فَبَانَ بَالِغًا هَلْ يُحَدُّ أَوْ لَا ؟ حَكَى الرُّويَانِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَزَادَ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْمُحَرَّرِ وَالشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ قَوْلَهُ ( إلَّا السَّكْرَانَ ) فَإِنَّهُ يُحَدُّ وَهُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ ( وَعِلْمُ تَحْرِيمِهِ ) فَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ جَهِلَ تَحْرِيمَ الزِّنَا لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بُعْدِهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ ، لَكِنْ إنَّمَا يُقْبَلُ مِنْهُ بِيَمِينِهِ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ فِي الدَّعَاوَى ، فَإِنْ نَشَأَ بَيْنَهُمْ وَادَّعَى الْجَهْلَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ كَلَامُهُ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ وَجَهِلَ الْحَدَّ أَنَّهُ يُحَدُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ ، وَبَقِيَ مِنْ الشُّرُوطِ الْتِزَامُ الْأَحْكَامِ لِيَخْرُجَ الْحَرْبِيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ .
وَأَمَّا الِاخْتِيَارُ فَعُلِمَ مِمَّا مَرَّ .
وَحَدُّ الْمُحْصَنِ : الرَّجْمُ ، وَهُوَ : مُكَلَّفٌ حُرٌّ ، وَلَوْ ذِمِّيٌّ غَيَّبَ حَشَفَتَهُ بِقُبُلٍ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ ، لَا فَاسِدٍ فِي الْأَظْهَرِ ، وَالْأَصَحُّ اشْتِرَاطُ التَّغْيِيبِ حَالَ حُرِّيَّتِهِ وَتَكْلِيفِهِ ، وَأَنَّ الْكَامِلَ الزَّانِيَ بِنَاقِصٍ مُحْصَنٌ .
( وَحَدُّ ) الزَّانِي ( الْمُحْصَنِ ) مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ ( الرَّجْمُ ) حَتَّى يَمُوتَ بِالْإِجْمَاعِ وَتَظَافُرِ الْأَخْبَارِ فِيهِ كَرَجْمِ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ ، وَلَا يُجْلَدُ مَعَ الرَّجْمِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ لَا رَجْمَ عَلَى الْمَوْطُوءِ فِي دُبُرِهِ ، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِيلَاجُ فِي دُبُرِهِ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ حَتَّى يَصِيرَ بِهِ مُحْصَنًا فَحَدُّهُ كَحَدِّ الْبِكْرِ ، وَالْإِحْصَانُ لُغَةً الْمَنْعُ .
وَشَرْعًا جَاءَ بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعِفَّةِ وَالتَّزْوِيجِ ، وَوَطْءُ الْمُكَلَّفِ الْحُرِّ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْمُحْصَنُ ( مُكَلَّفٌ ) لَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ التَّكْلِيفِ فِي الْإِحْصَانِ بَعْدَ اشْتِرَاطِهِ فِي مُطْلَقِ وُجُوبِ الْحَدِّ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ أَوْ سَكْرَانَ عَلَى طَرِيقَتِهِ ( حُرٌّ ) فَالرَّقِيقُ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ وَلَوْ مُكَاتَبًا وَمُبَعَّضًا وَمُسْتَوْلَدَةً ، لِأَنَّهُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْحُرِّ ، وَالرَّجْمُ لَا نِصْفَ لَهُ ( وَلَوْ ) هُوَ ( ذِمِّيٌّ ) أَوْ مُرْتَدٌّ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ الْيَهُودِيَّيْنِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ زَادَ أَبُو دَاوُد : وَكَانَا قَدْ أَحْصَنَا .
تَنْبِيهٌ : عَقْدُ الذِّمَّةِ شَرْطٌ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الذِّمِّيِّ لَا لِكَوْنِهِ مُحْصَنًا ، فَلَوْ غَيَّبَ حَرْبِيٌّ حَشَفَتَهُ فِي حَالِ حِرَابَتِهِ فِي نِكَاحٍ وَصَحَّحْنَا أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ فَهُوَ مُحْصَنٌ حَتَّى لَوْ عُقِدَتْ لَهُ ذِمَّةٌ فَزَنَى رُجِمَ وَمِثْلُ الذِّمِّيِّ الْمُرْتَدُّ ، وَخَرَجَ بِهِ الْمُسْتَأْمَنُ فَإِنَّا لَا نُقِيمُ عَلَيْهِ حَدَّ الزِّنَى عَلَى الْمَشْهُورِ ( غَيَّبَ ) الْمُكَلَّفُ وَهُوَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ قَبْلَ أَنْ يَزْنِيَ ( حَشَفَتَهُ ) مِنْ ذَكَرِهِ الْأَصْلِيِّ الْعَامِلِ وَلَوْ مَعَ لَفِّ خِرْقَةٍ خِلَافًا لِمَا فِي الْمَطْلَبِ ، أَوْ غَيَّبَهَا غَيْرُهُ وَهُوَ نَائِمٌ : أَوْ غَيَّبَ قَدْرَهَا إنْ فَقَدَهَا ( بِقُبُلٍ ) أَوْ وَطِئَتْ الْأُنْثَى فِيهِ ( فِي
نِكَاحٍ صَحِيحٍ ) ، لِأَنَّ الشَّهْوَةَ مُرَكَّبَةٌ فِي النُّفُوسِ ، فَإِذَا وَطِئَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَلَوْ كَانَتْ الْمَوْطُوءَةُ فِي عِدَّةِ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ وَطِئَهَا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَوْ فِي حَيْضٍ أَوْ إحْرَامٍ فَقَدْ اسْتَوْفَاهَا ، فَحَقُّهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْحَرَامِ ، وَلِأَنَّهُ يَكْمُلُ طَرِيقُ الْحِلِّ بِدَفْعِ الْبَيْنُونَةِ بِطَلْقَةٍ أَوْ رِدَّةٍ ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ : حَشَفَتَهُ عَمَّا لَوْ غَيَّبَ بَعْضَهَا ، وَأَمَّا مَفْقُودُهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يُغَيِّبَ قَدْرَهَا ، وَبِالْقُبُلِ وَهُوَ مِنْ زِيَادَتِهِ عَلَى الْمُحَرَّرِ عَنْ الدُّبُرِ ، فَلَا يَحْصُلُ الْإِحْصَانُ بِالْوَطْءِ فِيهِ ، وَبِالنِّكَاحِ عَنْ مِلْكِ الْيَمِينِ وَوَطْءِ الشُّبْهَةِ ، وَبِالصَّحِيحِ عَنْ الْفَاسِدِ كَمَا قَالَ ( لَا ) فِي نِكَاحٍ ( فَاسِدٍ ) ، فَإِنَّهُ فِيهِ غَيْرُ مُحْصَنٍ ( فِي الْأَظْهَرِ ) لِأَنَّهُ حَرَامٌ ، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ صِفَةُ كَمَالٍ وَالثَّانِي وَعُزِيَ لِلْقَدِيمِ وَهُوَ مُحْصَنٌ ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ كَالصَّحِيحِ فِي الْعِدَّةِ وَالنَّسَبِ فَكَذَا فِي الْإِحْصَانِ .
وَالْجُمْهُورُ قَطَعُوا بِالْمَنْعِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ .
تَنْبِيهٌ : هَذِهِ الشُّرُوطُ كَمَا تُعْتَبَرُ فِي الْوَاطِئِ تُعْتَبَرُ أَيْضًا فِي الْمَوْطُوءَةِ ( وَالْأَصَحُّ ) الْمَنْصُوصُ ( اشْتِرَاطُ التَّغْيِيبِ ) لِحَشَفَةِ الرَّجُلِ أَوْ قَدْرِهَا عِنْدَ قَطْعِهَا ( حَالَ حُرِّيَّتِهِ ) الْكَامِلَةِ ( وَتَكْلِيفِهِ ) فَلَا يَجِبُ الرَّجْمُ عَلَى مَنْ وَطِئَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَهُوَ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ رَقِيقٌ ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ وُقُوعُهُ فِي حَالِ الْكَمَالِ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِأَكْمَلِ الْجِهَاتِ وَهُوَ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ ، فَاعْتُبِرَ حُصُولُهُ مِنْ كَامِلٍ حَتَّى لَا يُرْجَمَ مِنْ وَطْءٍ وَهُوَ نَاقِصٌ كَمَا مَرَّ ، ثُمَّ زَنَى وَهُوَ كَامِلٌ فَيُرْجَمُ مَنْ كَانَ كَامِلًا فِي الْحَالَيْنِ وَإِنْ تَخَلَّلَهُمَا نَقْصٌ كَجُنُونٍ وَرِقٍّ ، فَالْعِبْرَةُ بِالْكَمَالِ فِي الْحَالَيْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : يُرَادُ إدْخَالُ الْمَرْأَةِ حَشَفَةَ الرَّجُلِ وَهُوَ نَائِمٌ وَإِدْخَالُهُ فِيهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ الْإِحْصَانُ
لِلنَّائِمِ أَيْضًا كَمَا مَرَّ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ عِنْدَ الْفِعْلِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ اسْتِصْحَابًا لِحَالِهِ قَبْلَ النَّوْمِ ، وَالثَّانِي : لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ وَطْءٌ يَحْصُلُ بِهِ التَّحْلِيلُ فَكَذَا الْإِحْصَانُ .
تَنْبِيهٌ : سَكَتُوا عَنْ شَرْطِ الِاخْتِيَارِ هُنَا ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ ، حَتَّى لَوْ وُجِدَتْ الْإِصَابَةُ وَالزَّوْجُ مُكْرَهٌ عَلَيْهَا وَقُلْنَا بِتَصَوُّرِ الْإِكْرَاهِ حَصَلَ التَّحْصِينُ وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : فِيهِ نَظَرٌ ( وَ ) الْأَصَحُّ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَلَكِنَّهُ قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : وَالْأَظْهَرُ ( أَنَّ الْكَامِلَ ) مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ ( الزَّانِي بِنَاقِصٍ ) كَصَغِيرَةٍ ( مُحْصَنٌ ) ، أَنَّهُ حُرٌّ مُكَلَّفٌ وَطِئَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَأَشْبَهَ مَا إذَا كَانَا كَامِلَيْنِ ، وَالثَّانِي : لَا يَكُونُ بِذَلِكَ مُحْصَنًا ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يُصَيِّرُ أَحَدَ الْوَاطِئَيْنِ مُحْصَنًا ، فَكَذَلِكَ الْآخَر كَمَا لَوْ وَطِئَ بِالشُّبْهَةِ .
تَنْبِيهٌ : عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ لَا يُفْهَمُ الْمُرَادُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ بِنَاقِصٍ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالزَّانِي أَوْ بِالْكَامِلِ ، فَإِنْ عَلَّقْتَهُ بِالْأَوَّلِ فَسَدَ الْمَعْنَى ، إذْ يَقْتَضِي حِينَئِذٍ أَنَّ الْكَامِلَ إذَا زَنَى بِنَاقِصٍ مُحْصَنٍ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، وَإِنْ عَلَّقْتَهُ بِالثَّانِي يَصِيرُ قَوْلُهُ : الزَّانِي سَائِبًا ، فَلَوْ قَالَ : وَإِنَّ الْكَامِلَ بِنَاقِصٍ مُحْصَنٌ لَكَانَ أَخْصَرَ وَأَقْرَبَ إلَى الْمُرَادِ ، وَمِنْ الشُّرَّاحِ مَنْ أَجَابَ بِأَنَّ قَوْلَهُ : بِنَاقِصٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ : وَإِنَّ الْكَامِلَ الزَّانِيَ إذَا كَانَ كَمَالُهُ بِنَاقِصٍ مُحْصَنٌ ، وَغَيَّرَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ لَفْظَةَ الزَّانِي بِالْبَانِي أَيْ : النَّاكِحِ وَادَّعَى صِحَّةَ الْعِبَارَةِ بِذَلِكَ وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إنَّمَا يُقَالُ : بَنَى عَلَى أَهْلِهِ ، لَا بَنَى بِهِمْ كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَالْبِكْرُ الْحُرُّ مِائَةُ جَلْدَةٍ
( وَالْبِكْرُ ) وَهُوَ غَيْرُ الْمُحْصَنِ الْمُكَلَّفِ ( الْحُرُّ ) مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ حَدُّهُ ( مِائَةُ جَلْدَةٍ ) لِآيَةِ - { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } - وَلَاءً ، فَلَوْ فَرَّقَهَا نُظِرَ ، فَإِنْ لَمْ يَزُلْ الْأَلَمُ لَمْ يَضُرَّ ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ خَمْسِينَ لَمْ يَضُرَّ ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ ضَرَّ ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْخَمْسِينَ حَدُّ الرَّقِيقِ ، وَسُمِّيَ جَلْدًا لِوُصُولِهِ إلَى الْجِلْدِ .
وَتَغْرِيبُ عَامٍ إلَى مَسَافَةِ قَصْرٍ فَمَا فَوْقَهَا ، وَإِذَا عَيَّنَ الْإِمَامُ جِهَةً فَلَيْسَ لَهُ طَلَبُ غَيْرِهَا فِي الْأَصَحِّ .
( وَتَغْرِيبُ عَامٍ ) لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِذَلِكَ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ عَطْفُهُ التَّغْرِيبَ بِالْوَاوِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّرْتِيبُ بَيْنَهُمَا ، فَلَوْ قُدِّمَ التَّغْرِيبُ عَلَى الْجَلْدِ جَازَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ، وَإِنْ نَازَعَ فِيهِ الْأَذْرَعِيُّ .
وَقَالَ : إنَّهُ خِلَافُ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ السَّلَفُ ، وَأَفْهَمَ لَفْظُ التَّغْرِيبِ : أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَغْرِيبِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ الْإِمَامُ تَغْرِيبَهُ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ وَغَابَ سَنَةً ثُمَّ عَادَ لَمْ يَكْفِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّنْكِيلُ وَلَمْ يَحْصُلْ ، وَابْتِدَاءُ الْعَامِ مِنْ حُصُولِهِ فِي بَلَدِ التَّغْرِيبِ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ : أَجَابَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ خُرُوجِهِ مِنْ بَلَدِ الزِّنَا ، وَلَوْ ادَّعَى الْمَحْدُودُ انْقِضَاءَ الْعَامِ وَلَا بَيِّنَةَ صُدِّقَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَحْلِفُ اسْتِحْبَابًا .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُثْبِتَ فِي دِيوَانِهِ أَوَّلَ زَمَانِ التَّغْرِيبِ ، وَيُغَرَّبُ ( إلَى مَسَافَةِ قَصْرٍ ) ، لِأَنَّ مَا دُونَهَا فِي حُكْمِ الْحَضَرِ لِتَوَصُّلِ الْأَخْبَارِ فِيهَا إلَيْهِ ؛ وَالْمَقْصُودُ إيحَاشُهُ بِالْبُعْدِ عَنْ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ ( فَمَا فَوْقَهَا ) إنْ رَآهُ الْإِمَامُ لِأَنَّ عُمَرَ غَرَّبَ إلَى الشَّامِ ، وَعُثْمَانَ إلَى مِصْرَ ، وَعَلِيًّا إلَى الْبَصْرَةِ ، وَلْيَكُنْ تَغْرِيبُهُ إلَى بَلَدٍ مُعَيَّنٍ فَلَا يُرْسِلُهُ الْإِمَامُ إرْسَالًا ( وَإِذَا عَيَّنَ الْإِمَامُ جِهَةً فَلَيْسَ لَهُ ) أَيْ الْمُغَرَّبِ ( طَلَبُ غَيْرِهَا فِي الْأَصَحِّ ) ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَلْيَقُ بِالزَّجْرِ ، وَمُعَامَلَةٌ لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ ، وَالثَّانِي : لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إيحَاشُهُ بِالْبُعْدِ عَنْ الْوَطَنِ .
وَيُغَرَّبُ غَرِيبٌ مِنْ بَلَدِ الزِّنَا إلَى غَيْرِ بَلَدِهِ ، فَإِنْ عَادَ إلَى بَلَدِهِ مُنِعَ فِي الْأَصَحِّ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ غُرِّبَ عَلَى الْأَوَّلِ إلَى بَلَدٍ مُعَيَّنٍ ، فَهَلْ يُمْنَعُ مِنْ الِانْتِقَالِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا كَمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ لَا يُمْنَعُ ، لِأَنَّهُ امْتَثَلَ وَالْمَنْعُ مِنْ الِانْتِقَالِ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ، وَمَا صَحَّحَهُ الرُّويَانِيُّ مِنْ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُقِيمَ بِبَلَدِ الْغُرْبَةِ لِيَكُونَ كَالْحَبْسِ لَهُ ، فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ كَالنُّزْهَةِ يُحْمَلُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِبَلَدِ الْغُرْبَةِ غَيْرُ بَلَدِهِ ، لِأَنَّ مَا عَدَاهُ بِلَادُ غُرْبَةٍ ، وَبِقَوْلِهِ : فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ أَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ جَوَانِبِهَا ، بَلْ فِي غَيْرِ جَانِبِ بَلَدِهِ فَقَطْ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ جَارِيَةً يَتَسَرَّى بِهَا مَعَ نَفَقَةٍ يَحْتَاجُهَا ، وَكَذَا مَالٌ يَتَّجِرُ فِيهِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ أَهْلَهُ وَعَشِيرَتَهُ ، فَإِنْ خَرَجُوا مَعَهُ لَمْ يُمْنَعُوا ، وَلَا يُعْتَقَلُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي غُرِّبَ إلَيْهِ كَمَا قَالَاهُ ، لَكِنْ يُحْفَظُ بِالْمُرَاقَبَةِ وَالتَّوْكِيلِ بِهِ لِئَلَّا يَرْجِعَ إلَى بَلْدَتِهِ أَوْ إلَى مَا دُونَ الْمَسَافَةِ مِنْهَا ، لَا لِئَلَّا يَنْتَقِلَ إلَى بَلَدٍ آخَرَ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ لَوْ انْتَقَلَ إلَى بَلَدٍ آخَرَ لَمْ يُمْنَعْ ، فَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى الِاعْتِقَالِ خَوْفًا مِنْ رُجُوعِهِ إلَى مَا ذُكِرَ اُعْتُقِلَ ، وَكَذَا إنْ خِيفَ مِنْ تَعَرُّضِهِ لِلنِّسَاءِ وَإِفْسَادِهِنَّ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ ، كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ كَفًّا لَهُ عَنْ الْفَسَادِ ، وَلَوْ عَادَ إلَى الْبَلَدِ الَّذِي غُرِّبَ مِنْهُ أَوْ إلَى دُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ مِنْهُ رُدَّ وَاسْتُؤْنِفَتْ الْمُدَّةُ عَلَى الْأَصَحِّ ، إذْ لَا يَجُوزُ .
تَفْرِيقُ سَنَةِ التَّغْرِيبِ فِي الْحُرِّ ، وَلَا نِصْفِهَا فِي غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِيحَاشَ لَا يَحْصُلُ مَعَهُ ، وَقَضِيَّةُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لِلتَّغْرِيبِ الْبَلَدُ الَّذِي غُرِّبَ إلَيْهِ وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَعِبَارَةُ صَاحِبِ
الذَّخَائِرِ رُدَّ إلَى الْغُرْبَةِ ، ثُمَّ نُقِلَ عَنْ الْمُهَذَّبِ مَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ يُرَدُّ إلَى الْبَلَدِ الَّذِي غُرِّبَ إلَيْهِ ، وَأَشَارَ إلَى تَفَرُّدِهِ بِهِ وَلَمْ يَقِفْ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَلَى نَقْلٍ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ : الْأَشْبَهُ أَنْ يُقَالَ إنْ قُلْنَا بِالِاسْتِئْنَافِ لَمْ يَتَعَيَّنْ .
ذَلِكَ الْبَلَدُ ( وَيُغَرَّبُ ) زَانٍ ( غَرِيبٌ ) لَهُ بَلَدٌ ( مِنْ بَلَدِ الزِّنَا ) تَنْكِيلًا وَإِبْعَادًا عَنْ مَوْضِعِ الْفَاحِشَةِ ( إلَى غَيْرِ بَلَدِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ إيحَاشُهُ وَعُقُوبَتُهُ وَعَوْدُهُ إلَى وَطَنِهِ يَأْبَاهُ ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَلَدِهِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ فَمَا فَوْقَهَا لِيَحْصُلَ مَا ذُكِرَ ( فَإِنْ عَادَ إلَى بَلَدِهِ ) الْأَصْلِيِّ ( مُنِعَ مِنْهُ فِي الْأَصَحِّ ) مُعَارَضَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ وَهُوَ احْتِمَالٌ لِلْغَزَالِيِّ لَا وَجْهَ كَمَا يُوهِمُهُ كَلَامُ الْمَتْنِ .
وَلَوْ زَنَى الْغَرِيبُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي غُرِّبَ إلَيْهِ غُرِّبَ إلَى بَلَدٍ آخَرَ وَدَخَلَتْ مُدَّةُ بَقِيَّةِ الْأَوَّلِ فِي مُدَّةِ الثَّانِي لِتَجَانُسِ الْحَدَّيْنِ ، وَلَوْ زَنَى الْمُسَافِرُ فِي طَرِيقِهِ غُرِّبَ إلَى غَيْرِ مَقْصَدِهِ لِمَا مَرَّ ، وَنَازَعَ فِي ذَلِكَ الْبُلْقِينِيُّ .
وَقَالَ لَا يُحْجَرُ عَلَى الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ ، بَلْ إذَا رَأَى تَغْرِيبَهُ فِي جِهَةِ مَقْصَدِهِ لَمْ يُمْنَعْ ، وَمَنْ لَا وَطَنَ لَهُ كَالْمُهَاجِرِ إلَيْنَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَتَوَطَّنْ بَلَدًا يُمْهَلُ حَتَّى يَتَوَطَّنَ ثُمَّ يُغَرَّبَ ، وَهَذَا لَا يُنَافِيهِ قَوْلُ الْقَاضِي : إنَّهُ يُغَرَّبُ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي قَصَدَهُ ، وَيُغَرَّبُ الْبَدَوِيُّ عَنْ حِلَّتِهِ وَقَوْمِهِ .
وَلَا تُغَرَّبُ امْرَأَةٌ وَحْدَهَا فِي الْأَصَحِّ ، بَلْ مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ وَلَوْ بِأُجْرَةٍ .
( وَلَا تُغَرَّبُ امْرَأَةٌ ) زَانِيَةٌ ( وَحْدَهَا فِي الْأَصَحِّ بَلْ مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ ) لِخَبَرِ { لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ إلَّا وَمَعَهَا زَوْجٌ أَوْ مَحْرَمٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ } وَلِأَنَّ الْقَصْدَ تَأْدِيبُهَا ، وَالزَّانِيَةُ إذَا خَرَجَتْ وَحْدَهَا هَتَكَتْ جِلْبَابَ الْحَيَاءِ ، وَالثَّانِي تُغَرَّبُ وَحْدَهَا لِأَنَّهُ سَفَرٌ وَاجِبٌ عَلَيْهَا فَأَشْبَهَ سَفَرَ الْهِجْرَةِ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ الْأُمِّ .
وَقَالَ إنَّ النَّهْيَ عَنْ سَفَرِهَا وَحْدُهَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يَلْزَمُهَا ( وَلَوْ ) لَمْ يَخْرُجْ الزَّوْجُ أَوْ الْمَحْرَمُ إلَّا ( بِأُجْرَةٍ ) لَزِمَهَا ذَلِكَ وَهُوَ فِي مَالِهَا عَلَى الْأَصَحِّ إذَا كَانَ لَهَا مَالٌ لِأَنَّهَا مِمَّا يُتِمُّ بِهَا الْوَاجِبُ كَأُجْرَةِ الْجَلَّادِ ، وَلِأَنَّهَا مِنْ مُؤَنِ سَفَرِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ فَعَلَى بَيْتِ الْمَالِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا كَانَ الطَّرِيقُ أَمْنًا ، وَإِلَّا فَلَا تُغَرَّبُ وَحْدَهَا جَزْمًا ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِالنِّسْوَةِ الثِّقَاتِ وَهُوَ كَذَلِكَ مَعَ عَدَمِ أَمْنِ الطَّرِيقِ .
وَأَمَّا مَعَ أَمْنِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ ، أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ يَكْفِي قِيَاسًا عَلَى الزَّوْجِ وَالْمَحْرَمِ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَرُبَّمَا اكْتَفَى بَعْضُهُمْ بِوَاحِدَةٍ ثِقَةٍ ا هـ .
وَالِاكْتِفَاءُ بِهَا هُوَ مَا فِي الشَّامِلِ وَغَيْرِهِ .
وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : إنَّهُ الْأَصَحُّ وَالْبُلْقِينِيُّ : إنَّهُ الْمُعْتَمَدُ ، وَصَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فِي مَجْمُوعِهِ فِي نَظِيرِهِ مِنْ الْحَجِّ مَعَ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي فَهَذَا أَوْلَى وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الرَّجُلَ يُغَرَّبُ وَحْدَهُ وَلَوْ أَمْرَدَ ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ : إنَّ الْأَمْرَدَ الْحَسَنَ الَّذِي يُخَافُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ يَحْتَاجُ إلَى مَحْرَمٍ أَوْ نَحْوِهِ .
فَإِنْ امْتَنَعَ بِأُجْرَةٍ لَمْ يُجْبَرْ فِي الْأَصَحِّ .
( فَإِنْ امْتَنَعَ ) مَنْ ذُكِرَ مِنْ الْخُرُوجِ وَلَوْ ( بِأُجْرَةٍ لَمْ يُجْبَرْ فِي الْأَصَحِّ ) كَمَا فِي الْحَجِّ ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَغْرِيبَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ وَلَا يَأْثَمْ بِامْتِنَاعِهِ كَمَا بَحَثَهُ فِي الْمَطْلَبِ وَالثَّانِي يُجْبَرُ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ فِي إقَامَةِ الْوَاجِبِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يُؤَخَّرُ تَغْرِيبُهُمَا إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ .
وَالْعَبْدِ خَمْسُونَ ، وَيُغَرَّبُ نِصْفَ سَنَةٍ ، وَفِي قَوْلٍ سَنَةً ، وَفِي قَوْلٍ لَا يُغَرَّبُ .
( وَ ) حَدُّ غَيْرِ الْحُرِّ مِنْ ( الْعَبْدِ ) أَوْ غَيْرِهِ إذَا كَانَ مُكَلَّفًا ( خَمْسُونَ ) جَلْدَةً ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } وَالْمُرَادُ الْجَلْدُ لِأَنَّ الرَّجْمَ قَتْلٌ وَالْقَتْلُ لَا يَتَنَصَّفُ ، وَرَوَى مَالِكٌ وَأَحْمَدُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : " أَنَّهُ أُتِيَ بِعَبْدٍ وَأَمَةٍ زَنَيَا فَجَلَدَهُمَا خَمْسِينَ خَمْسِينَ " إذْ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِجَامِعِ الرِّقِّ ، وَلَوْ عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِمَنْ فِيهِ رِقٌّ لَعَمَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَالْمُكَاتَبَ وَأُمَّ الْوَلَدِ وَالْمُبَعَّضَ ، وَاسْتَغْنَى عَمَّا قَدَّرْتُهُ ، وَقِيلَ : إنَّ الْحَدَّ يُقَسَّطُ عَلَى الْمُبَعَّضِ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ فَيَكُونُ عَلَى حُرٍّ النِّصْفُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْجَلْدِ ( وَيُغَرَّبُ ) مَنْ فِيهِ رِقٌّ ( نِصْفَ سَنَةٍ ) لِعُمُومِ الْآيَةِ ، وَلِأَنَّهُ يَتَبَعَّضُ فَأَشْبَهَ الْجَلْدَ ، وَعَلَى التَّقْسِيطِ فِي الْمُبَعَّضِ يُغَرَّبُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ ( وَفِي قَوْلٍ ) يُغَرَّبُ مَنْ فِيهِ رِقٌّ ( سَنَةً ) لِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالطَّبْعِ لَا يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْحُرِّ وَغَيْرِهِ كَمُدَّةِ الْعُنَّةِ وَالْإِيلَاءِ ( وَفِي قَوْلٍ لَا يُغَرَّبُ ) لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ حَقِّ السَّيِّدِ ، وَلِأَنَّ الرَّقِيقَ لَا أَهْلَ لَهُ فَلَا يَسْتَوْحِشُ بِالتَّغْرِيبِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ إذَا أَلِفَ مَوْضِعًا شَقَّ عَلَيْهِ فِرَاقُهُ ، وَلَا يُبَالِي بِحَقِّ السَّيِّدِ فِي الْعُقُوبَاتِ كَمَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ وَيُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ ، وَالْأَشْبَهُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي تَغْرِيبِ الْأَمَةِ خُرُوجُ مَحْرَمٍ مَعَهَا كَالْحُرَّةِ وَمُؤْنَةِ الْمُغَرَّبِ فِي مُدَّةٍ تَغْرِيبِهِ عَلَى نَفْسِهِ إنْ كَانَ حُرًّا ، وَعَلَى سَيِّدِهِ إنْ كَانَ رَقِيقًا ، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى مُؤْنَةِ الْحَضَرِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ زَنَى الْعَبْدُ الْمُؤَجَّرُ حُدَّ ، وَهَلْ يُغَرَّبُ فِي الْحَالِ وَيَثْبُتُ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ أَوْ يُؤَخَّرُ إلَى مُضِيِّ الْمُدَّةِ ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الدَّارِمِيُّ ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَيَقْرُبُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ طُولِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَقِصَرِهَا قَالَ : وَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءُ ذَلِكَ فِي الْأَجِيرِ الْحُرِّ أَيْضًا ا هـ .
وَالْأَوْجَهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّهُ لَا يُغَرَّبُ إنْ تَعَذَّرَ عَمَلُهُ فِي الْغُرْبَةِ كَمَا لَا يُحْبَسُ لِغَرِيمِهِ إنْ تَعَذَّرَ عَمَلُهُ فِي الْحَبْسِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ آدَمِيٍّ وَهَذَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ إذَا تَوَجَّهَ عَلَيْهَا حَبْسٌ فَإِنَّهَا تُحْبَسُ وَلَوْ فَاتَ التَّمَتُّعُ عَلَى الزَّوْجِ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِيمَا ذُكِرَ بَيْنَ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَقَوْلُ الْبُلْقِينِيُّ لَا حَدَّ عَلَى الرَّقِيقِ الْكَافِرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ الْأَحْكَامَ بِالذِّمَّةِ إذْ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالْمُعَاهَدِ وَالْمُعَاهَدُ لَا يُحَدُّ مَرْدُودٌ لِقَوْلِ الْأَصْحَابِ لِلْكَافِرِ أَنْ يَحُدَّ عَبْدَهُ الْكَافِرَ ، وَلِأَنَّ الرَّقِيقَ تَابِعٌ لِسَيِّدِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُ بِخِلَافِ الْمُعَاهَدِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ لُزُومِ الْجِزْيَةِ عَدَمُ الْحَدِّ كَمَا فِي الْمَرْأَةِ الذِّمِّيَّةِ .
وَيَثْبُتُ بِبَيِّنَةٍ .
( وَيَثْبُتُ ) الزِّنَا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ ( بِبَيِّنَةٍ ) عَلَيْهِ وَهِيَ أَرْبَعَةُ شُهُودٍ لِآيَةِ { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ } .
تَنْبِيهٌ : أَطْلَقَ الْبَيِّنَةَ وَيُشْتَرَطُ فِيهَا التَّفْصِيلُ فَتُذْكَرُ بِمَنْ زَنَى لِجَوَازِ أَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ بِوَطْئِهَا ، وَالْكَيْفِيَّةُ لِاحْتِمَالِ إرَادَةِ الْمُبَاشِرِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ ، وَتَتَعَرَّضُ لِلْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا وَقْتَ الزِّنَا فَيَقُولُونَ : رَأَيْنَاهُ أَدْخَلَ ذَكَرَهُ أَوْ قَدْرَ حَشَفَتِهِ مِنْهُ فِي فَرْجِ فُلَانَةَ عَلَى وَجْهِ الزِّنَا ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ زَنَى بِهَا زِنًا يُوجِبُ الْحَدَّ إذَا كَانُوا عَارِفِينَ بِأَحْكَامِهِ ، وَيُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ لَفْظِ أَشْهَدُ عَلَى أَنَّهُ زَنَى وَيَذْكُرُ الْمَوْضِعُ ، فَإِنَّهُمْ لَوْ اخْتَلَفُوا فِيهِ بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ .
أَوْ إقْرَارٍ مَرَّةً .
( أَوْ إقْرَارٍ ) حَقِيقِيٍّ وَلَوْ ( مَرَّةً ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ بِإِقْرَارِهِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
تَنْبِيهٌ : أَشَارَ بِقَوْلِهِ : مَرَّةً إلَى خِلَافِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ حَيْثُ اعْتَبَرَا الْإِقْرَارَ أَرْبَعًا لِحَدِيثِ مَاعِزٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَأَجَابَ أَئِمَّتُنَا بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَرَّرَهُ عَلَى مَاعِزٍ فِي خَبَرِهِ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي عَقْلِهِ وَلِهَذَا قَالَ : { أَبِكَ جُنُونٌ } ، وَلَمْ يُكَرِّرْهُ فِي خَبَرِ الْغَامِدِيَّةِ ، وَيُعْتَبَرُ كَوْنُ الْإِقْرَارِ مُفَصِّلًا كَالشَّهَادَةِ فَلَا يَسْتَوْفِي الْقَاضِي الْحَدَّ بِعِلْمِهِ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْقَضَاءِ ، بِخِلَافِ سَيِّدِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِيهِ مِنْ الْعَبْدِ بِعِلْمِهِ ، أَمَّا الْإِقْرَارُ التَّقْدِيرِيُّ وَهُوَ الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ بَعْدَ نُكُولِ الْخَصْمِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَا وَلَكِنْ يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ ، وَأَوْرَدَ عَنْ طَرِيقٍ آخَرَ مُخْتَصٍّ بِالْمَرْأَةِ وَهُوَ مَا إذَا قَذَفَهَا الزَّوْجُ وَلَاعَنَ وَلَمْ تُلَاعِنْ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ كَمَا ذَكَرَاهُ فِي بَابِهِ .
فُرُوعٌ : يَكْفِي فِي ثُبُوتِ الْحَدِّ إشَارَةُ الْأَخْرَسِ بِالْإِقْرَارِ بِالزِّنَا ، وَإِنْ رُئِيَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّانِ تَحْتَ لِحَافٍ عُزِّرَا وَلَمْ يُحَدَّا ، وَيُقَامُ الْحَدُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ إنْ لَمْ يُخَفْ فِتْنَةً فِي نَحْوِ رِدَّةِ الْمَحْدُودَةِ وَالْتِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَيُسَنُّ لِلزَّانِي وَلِكُلِّ مَنْ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً السَّتْرُ عَلَى نَفْسِهِ لِخَبَرِ { مَنْ أَتَى مِنْ هَذِي الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّ مَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ } رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ .
فَإِظْهَارُهَا لِيُحَدَّ أَوْ يُعَزَّرَ خِلَافُ الْمُسْتَحَبِّ ، وَأَمَّا التَّحَدُّثُ بِهَا تَفَكُّهًا فَحَرَامٌ قَطْعًا لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ ، وَأَيْضًا فَقَدْ يُسَنُّ لَهُ سِتْرُ ذَلِكَ بِتَرْكِ الشَّهَادَةِ إنْ رَآهُ مَصْلَحَةً ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِتَرْكِهَا إيجَابُ حَدٍّ عَلَى الْغَيْرِ كَأَنْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ بِالزِّنَا أَثِمَ الرَّابِعُ بِالتَّوَقُّفِ ، وَيَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ ، أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ آدَمِيٍّ كَقَتْلٍ أَوْ قَذْفٍ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَرِّبَهُ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ لِمَا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ التَّضْيِيقِ .
وَيَحْرُمُ الْعَفْوُ عَنْ حَدِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّفَاعَةُ فِيهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُسَامَةَ لَمَّا كَلَّمَهُ فِي شَأْنِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ { أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ؟ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ فَقَالَ : إنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَاَيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا } رَوَاهُ الشَّيْخَانِ .
وَلَوْ أَقَرَّ ثُمَّ رَجَعَ سَقَطَ .
( وَلَوْ أَقَرَّ ) بِالزِّنَا ( ثُمَّ رَجَعَ ) عَنْهُ ( سَقَطَ ) الْحَدُّ عَنْهُ ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَّضَ لِمَاعِزٍ بِالرُّجُوعِ بِقَوْلِهِ : { لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ } فَلَوْ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْحَدُّ لِمَا كَانَ لَهُ مَعْنًى ، وَلِأَنَّهُمْ لَمَّا رَجَمُوهُ قَالَ : رُدُّونِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَسْمَعُوا ، وَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَالَ : { هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ؟ } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ ، لَكِنْ لَوْ قُتِلَ بَعْدَ الرُّجُوعِ لَمْ يَقْتَصَّ مِنْ قَاتِلِهِ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ بِالرُّجُوعِ وَيَضْمَنُ بِالدِّيَةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُقْرِي ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِهَا يُجَامِعُ الشُّبْهَةَ وَيَحْصُلُ الرُّجُوعُ بِقَوْلِهِ : كَذَبْتُ ، أَوْ رَجَعْتُ عَمَّا أَقْرَرْتُ بِهِ أَوْ مَا زَنَيْتُ أَوْ كُنْتُ فَاخَذْتُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، وَسَوَاءٌ رَجَعَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْحَدِّ أَوْ قَبْلَهُ ، فَإِنْ رَجَعَ فِي أَثْنَائِهِ فَكَمَّلَ الْإِمَامُ مُتَعَدِّيًا بِأَنْ كَانَ يَعْتَقِدُ سُقُوطَهُ بِالرُّجُوعِ فَمَاتَ بِذَلِكَ ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ مَاتَ بِمَضْمُونٍ وَغَيْرِهِ ، أَوْ تُوَزَّعُ الدِّيَةُ عَلَى السِّيَاطِ ؟ قَوْلَانِ : أَقْرَبُهُمَا كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الثَّانِي كَمَا لَوْ ضَرَبَهُ زَائِدًا عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ وَيُسَنُّ لِمَنْ أَقَرَّ بِزِنًا أَوْ شَرِبَ مُسْكِرًا الرُّجُوعُ كَمَا يَسْتَتِرُ ابْتِدَاءً كَمَا رَجَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ .
فُرُوعٌ : لَوْ قَالَ : زَنَيْتُ بِفُلَانَةَ فَأَنْكَرَتْ .
وَقَالَتْ : كَانَ تَزَوَّجَنِي فَمُقِرٌّ بِالزِّنَا وَقَاذِفٌ لَهَا فَيَلْزَمُهُ حَدُّ الزِّنَا وَحَدُّ الْقَذْفِ ، فَإِنْ رَجَعَ سَقَطَ حَدُّ الزِّنَا وَحْدَهُ ، وَإِنْ زَنَيْتُ بِهَا مُكْرَهَةً لَزِمَهُ حَدُّ الزِّنَا لَا الْقَذْفُ وَلَزِمَهُ لَهَا مَهْرٌ ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ سَقَطَ الْحَدُّ لَا الْمَهْرُ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ ، وَلَوْ شَهِدُوا بِإِقْرَارِهِ بِالزِّنَا فَكَذَّبَهُمْ لَمْ يُقْبَلْ تَكْذِيبُهُ ، لِأَنَّهُ تَكْذِيبٌ لِلشُّهُودِ وَالْقَاضِي .
وَلَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَا ثُمَّ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا ثُمَّ رَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ هَلْ يُحَدُّ ؟ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا يُحَدُّ لِبَقَاءِ حُجَّةِ الْبَيِّنَةِ ، كَمَا لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةٌ فَرَدَّ أَرْبَعَةً ، وَثَانِيهِمَا لَا إذْ لَا أَثَرَ لِلْبَيِّنَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ .
وَقَدْ بَطَلَ وَنَقَلَهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ فِي ذَلِكَ وَفِي عَكْسِهْ .
وَقَالَ : الْأَصَحُّ عِنْدِي اعْتِبَارُ أَسْبَقِهِمَا ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ شَيْخِي : أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَى الْبَيِّنَةِ حَيْثُ وُجِدَتْ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ فِي هَذَا الْبَابِ أَقْوَى كَمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ فِي الْمَالِ أَقْوَى ، إلَّا إذَا أُسْنِدَ الْحُكْمُ لِلْإِقْرَارِ ، فَإِنَّهُ يُعْمَلُ بِهِ ، قُدِّمَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ أَوْ تَأَخَّرَتْ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ يُفْهِمُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ عَدَمَ سُقُوطِ الْحَدِّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ فَلَا يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ كَمَا لَا يَسْقُطُ هُوَ وَلَا الثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ بِالتَّوْبَةِ ، لَكِنْ اُسْتُثْنِيَ مِنْهُ صُورَتَانِ : الْأُولَى مَا إذَا أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ، ثُمَّ ادَّعَى الزَّوْجِيَّةَ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْإِمَامِ فِي السَّرِقَةِ مِمَّا يُخَالِفُهُ مَرْدُودٌ ، الثَّانِيَة : الْإِسْلَامُ فَإِذَا ثَبَتَ زِنَا الذِّمِّيِّ بِبَيِّنَةٍ ثُمَّ أَسْلَمَ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ : كَمَا ذَكَرَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ آخِرَ السِّيَرِ .
وَلَوْ قَالَ لَا تَحُدُّونِي أَوْ هَرَبَ فَلَا فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَوْ قَالَ ) الْمُقِرُّ بِالزِّنَا ( لَا تَحُدُّونِي أَوْ هَرَبَ ) مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ ( فَلَا ) يَسْقُطُ عَنْهُ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِالْإِقْرَارِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالرُّجُوعِ ، وَلَكِنْ يُكَفُّ عَنْهُ فِي الْحَالِ وَلَا يُتْبَعُ ، فَإِنْ رَجَعَ فَذَاكَ وَإِلَّا حُدَّ ، وَإِنْ لَمْ يُكَفَّ عَنْهُ فَمَاتَ فَلَا ضَمَانَ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمْ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ شَيْئًا ، وَالثَّانِي يَسْقُطُ لِإِشْعَارِهِ بِالرُّجُوعِ .
تَنْبِيهٌ : لَا يُشْتَرَطُ حَيَاةُ الشُّهُودِ وَلَا حُضُورُهُمْ حَالَةَ الْحُكْمِ ، وَلَا قُرْبَ عَهْدِ الزِّنَا فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِهِ ، وَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ .
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ مُسْقِطِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا .
وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِزِنَاهَا وَأَرْبَعُ نِسْوَةٍ أَنَّهَا عَذْرَاءُ لَمْ تُحَدَّ هِيَ وَلَا قَاذِفُهَا .
شَرَعَ فِي مُسْقِطِ الْبَيِّنَةِ فَقَالَ : ( وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ ) مِنْ الرِّجَالِ ( بِزِنَاهَا وَأَرْبَعُ نِسْوَةٍ ) أَوْ رَجُلَانِ ، كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ كَمَا قَالَهُ غَيْرُهُ .
( أَنَّهَا عَذْرَاءُ ) بِمُعْجَمَةٍ : أَيْ : بِكْرٌ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَعَذُّرِ جِمَاعِهَا وَصُعُوبَتِهِ ( لَمْ تُحَدَّ هِيَ ) لِشُبْهَةِ بَقَاءِ الْعُذْرَةِ ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهَا أَنَّهَا لَمْ تُوطَأْ ( وَلَا قَاذِفُهَا ) لِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِزِنَاهَا ، وَاحْتِمَالُ عَوْدِ بَكَارَتِهَا لِتَرْكِ الْمُبَالَغَةِ فِي الِافْتِضَاضِ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ غَوْرَاءَ يُمْكِنُ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ مَعَ بَقَاءِ الْبَكَارَةِ ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ حُدَّتْ لِثُبُوتِ الزِّنَا وَعَدَمِ التَّنَافِي ا هـ .
وَتَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّحْلِيلِ : أَنَّ التَّحْلِيلَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَكْمِيلِ اللَّذَّةِ ، وَلَا الشُّهُودُ أَيْضًا .
لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ } قَالَ الْقَاضِي : وَتَسْقُطُ حَضَانَتُهَا بِلَا خِلَافٍ .
تَنْبِيهٌ : مَا أَطْلَقَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ مِنْ عَدَمِ حَدِّ قَاذِفِهَا قَيَّدَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ بِمَا إذَا كَانَ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ زَمَنٌ بَعِيدٌ يُمْكِنُ عَوْدُ الْعُذْرَةِ فِيهِ ، فَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهَا زَنَتْ السَّاعَةَ وَشَهِدْنَ بِأَنَّهَا عَذْرَاءُ وَجَبَ الْحَدُّ ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا وَأَرْبَعٌ بِأَنَّهَا رَتْقَاءُ فَلَيْسَ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا ، وَلَا عَلَيْهِمْ حَدُّ الْقَذْفِ لِأَنَّهُمْ رَمَوْا مَنْ لَا يُمْكِنُ جِمَاعُهُ .
وَلَوْ عَيَّنَ شَاهِدٌ زَاوِيَةً لِزِنَاهُ ، وَالْبَاقُونَ غَيْرَهَا لَمْ يَثْبُتْ .
( وَلَوْ عَيَّنَ شَاهِدٌ ) مِنْ الْأَرْبَعَةِ ( زَاوِيَةً ) مِنْ زَوَايَا الْبَيْتِ ( لِزِنَاهُ ، وَ ) عَيَّنَ ( الْبَاقُونَ ) مِنْهُمْ زَاوِيَةً ( غَيْرَهَا لَمْ يَثْبُتْ ) أَيْ : الْحَدُّ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى زَنْيَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ بَعْضُهُمْ : زَنَى بِالْغَدَاةِ ، وَبَعْضُهُمْ : بِالْعَشِيِّ .
وَيَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ مِنْ حُرٍّ وَمُبَعَّضٍ .
تَنْبِيهٌ : سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ عَدَمُ سُقُوطِهِ ، وَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الشُّهُودِ فِي الْأَظْهَرِ لِأَنَّ عَدَدَهُمْ لَمْ يُتِمَّ فِي زَنْيَةٍ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَلَا يَبْعُدُ عَدَمُ الْحَدِّ عَلَى الشُّهُودِ إذَا تَقَارَبَتْ الزَّوَايَا لِإِمْكَانِ الزَّحْفِ مَعَ دَوَامِ الْإِيلَاجِ ( وَ ) بَعْدَ ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَا ( يَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ ) الْأَعْظَمُ ( أَوْ نَائِبُهُ ) فِيهِ ( مِنْ ) زَانٍ ( حُرٍّ ) لِلِاتِّبَاعِ ( وَ ) مِنْ ( مُبَعَّضٍ ) لِأَنَّهُ وِلَايَةٌ لِلسَّيِّدِ عَلَى الْحُرِّ مِنْهُ ، وَالْحَدُّ مُتَعَلِّقٌ بِجُمْلَتِهِ .
تَنْبِيهٌ : فِي مَعْنَى الْمُبَعَّضِ الْعَبْدُ الْمَوْقُوفُ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ بِنَاءً عَلَى الْأَظْهَرِ أَنَّ الْمُلْكَ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَعَبْدُ بَيْتِ الْمَالِ ، وَعَبْدُ مَحْجُورِهِ ، وَمُسْتَوْلَدَةُ الْكَافِرِ ، وَالْعَبْدُ الْمُوصَى بِإِعْتَاقِهِ إذَا زَنَى بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ، وَقَبْلَ إعْتَاقِهِ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ : كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَكْسَابَهُ لَهُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَمُعْتَبَرُ الْحُرِّيَّةِ حَالَ الْوُجُوبِ ، وَلَوْ زَنَى ذِمِّيٌّ حُرٌّ ثُمَّ نَقَضَ الْعَهْدَ وَاسْتُرِقَّ أَقَامَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ الْحَدَّ دُونَ سَيِّدِهِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ، وَخَرَجَ بِالْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ غَيْرُهُ ، فَلَوْ اسْتَوْفَى الْجَلْدَ وَاحِدٌ مِنْ النَّاسِ لَمْ يَقَعْ حَدًّا وَلَزِمَهُ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَخْتَلِفُ وَقْتًا وَمَحَلًّا فَلَا يَقَعُ حَدٌّ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ ، بِخِلَافِ الْقَطْعِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : وَإِنَّمَا لَمْ يُفَوِّضْ لِأَوْلِيَاءِ الْمَزْنِيِّ بِهَا ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ لَا يَسْتَوْفُونَهُ خَوْفًا مِنْ الْعَارِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَلَا بُدَّ فِي إقَامَةِ الْحُدُودِ مِنْ النِّيَّةِ حَتَّى لَوْ ضُرِبَ لِمُصَادَرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَعَلَيْهِ حُدُودٌ لَمْ يُحْسَبْ مِنْهَا .
وَقَالَ الْقَفَّالُ : لَا يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى نِيَّةٍ حَتَّى لَوْ حُدَّ بِنِيَّةِ الشُّرْبِ فَظَهَرَ أَنَّهُ حَدَّهُ لِلزِّنَا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخْطَأَ مِنْ يَدِهِ الْيُمْنَى إلَى الْيُسْرَى فِي السَّرِقَةِ أَجْزَأَ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ الْإِمَامَ جَلَدَ رَجُلًا مِائَةً ظُلْمًا فَبَانَ أَنَّ عَلَيْهِ حَدَّ الزِّنَا سَقَطَ عَنْهُ ، كَمَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا فَبَانَ أَنَّهُ قَاتِلُ أَبِيهِ ا هـ .
وَالْأَشْبَهُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ مَا قَالَهُ الْقَاضِي فِي صُوَرِ جَلْدِهِ ظُلْمًا ، وَأَمَّا مَا قَبْلَهَا فَالْإِجْزَاءُ فِيهِ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْحَدَّ ، فَلَا عِبْرَةَ بِظَنِّهِ أَنَّهُ عَنْ الشُّرْبِ .
وَيُسْتَحَبُّ حُضُورُ الْإِمَامِ ، وَشُهُودِهِ .
فَرْعٌ : لَوْ زَنَى الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ لَمْ يَنْعَزِلْ ، وَيُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ مَنْ وَلِيَ الْحُكْمَ عَنْهُ كَمَا قَالَهُ الْقَفَّالُ ( وَيُسْتَحَبُّ ) عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ سَوَاءٌ أُثْبِتَ بِالْبَيِّنَةِ أَمْ بِالْإِقْرَارِ ( حُضُورُ الْإِمَامِ ، وَ ) حُضُورُ ( شُهُودِهِ ) أَيْ : الزِّنَا إنْ ثَبَتَ بِهِمْ لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنَّهُ قَالَ بِوُجُوبِ حُضُورِهِمْ .
لَنَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ الْغَامِدِيَّةَ وَمَاعِزًا وَلَمْ يَحْضُرْهُمَا ، وَقَالَ لِأُنَيْسٍ : { فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } ، وَلَمْ يَقُلْ فَأَعْلِمْنِي حَتَّى أَحْضُرَ ، وَلَا قَالَ لَهُ : أَحْضِرْ مَعَكَ جَمْعًا ، وَقِيَاسًا عَلَى الْجَلْدِ .
وَيُسَنُّ حُضُورُ جَمْعٍ مِنْ الرِّجَالِ الْمُسْلِمِينَ الْأَحْرَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَأَقَلُّهُمَا أَرْبَعَةٌ عَدَدُ شُهُودِ الزِّنَا ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَبْدَأَ الْإِمَامُ بِالرَّجْمِ ، ثُمَّ النَّاسُ إنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ ، وَإِنْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ بَدَأَ بِهِ الشُّهُودُ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَتُعْرَضُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ قَبْلَ رَجْمِهِ لِتَكُونَ خَاتِمَةَ أَمْرِهِ ، فَإِنْ حَضَرَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُمِرَ بِهَا ، وَإِنْ تَطَوَّعَ مُكِّنَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ ، وَإِنْ اسْتَسْقَى مَاءً سُقِيَ ، وَإِنْ اسْتَطْعَمَ لَمْ يُطْعَمْ ، لِأَنَّ الشُّرْبَ لِعَطَشٍ سَابِقٍ وَالْأَكْلَ لِشِبَعٍ مُسْتَقْبَلٍ .
وَيَحُدُّ الرَّقِيقَ سَيِّدُهُ
( وَيَحُدُّ الرَّقِيقَ سَيِّدُهُ ) بِنَفْسِهِ أَوْ نَائِبُهُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِقَدْرِ الْحَدِّ وَكَيْفِيَّتِهِ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْإِمَامُ لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد { أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَفِي خَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَحُدَّهَا لَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا } بِالْمُثَلَّثَةِ : أَيْ : لَا يُوَبِّخُهَا وَلَا يُعَيِّرُهَا ، وَقِيلَ لَا يُبَالِغُ فِي جَلْدِهَا حَتَّى يُدْمِيَهَا ، وَيُسَنُّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَبِيعَ الْأَمَةَ إذَا زَنَتْ ثَالِثَةً لِخَبَرٍ وَرَدَ بِذَلِكَ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ لِمُشْتَرِيهَا .
أَوْ الْإِمَامُ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ كَانَ السَّيِّدُ امْرَأَةً هَلْ تُقِيمُهُ هِيَ أَوْ وَلِيُّهَا أَوْ السُّلْطَانُ ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ : أَصَحُّهَا أَوَّلُهَا كَمَا شَمِلَهُ إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِ السَّفِيهُ فَلَا يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى رَقِيقِهِ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ لِخُرُوجِهِ عَنْ أَهْلِيَّةِ الِاسْتِصْلَاحِ وَالْوِلَايَةِ وَشَمِلَ إطْلَاقُهُ الْحَدَّ حَدَّ الزِّنَا وَبَاقِيَ الْحُدُودِ حَتَّى الْقَطْعِ ، وَقَتْلِ الرِّدَّةِ وَالْمُحَارَبَةِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِإِطْلَاقِ الْخَبَرِ السَّابِقِ ، وَلَوْ كَانَ الرَّقِيقُ مُشْتَرَكًا حَدَّهُ مُلَّاكُهُ بِتَوْزِيعِ السِّيَاطِ عَلَى الْمِلْكِ ، وَيُفَوِّضُ الْمُنْكَسِرُ إلَى أَحَدِهِمْ أَوْ غَيْرِهِمْ ، وَفِي جَوَازِ إقَامَةِ الْوَلِيِّ مِنْ أَبٍ وَجَدٍّ وَحَاكِمٍ وَوَصِيٍّ وَقَيِّمٍ فِي رَقِيقِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ مِنْ طِفْلٍ وَسَفِيهٍ وَمَجْنُونٍ وَجْهَانِ قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ : وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ : إنْ قُلْنَا : الْحَدُّ إصْلَاحٌ فَلَهُ إقَامَتُهُ ، أَوْ وِلَايَةٌ فَفِيهِ الْخِلَافُ ، وَقَضِيَّتُهُ تَرْجِيحُ الْجَوَازِ ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوَاعِدِهِ : وَإِنَّمَا يُقِيمُ السَّيِّدُ الْحَدَّ عَلَى عَبْدِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَيُشْكِلُ بِمَا إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ السَّيِّدَ فَإِنَّهُمْ أَجَازُوا لَهُ اسْتِيفَاءَهُ ( أَوْ ) يَحُدُّهُ ( الْإِمَامُ ) لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ فَأَيَّهُمَا فَعَلَ وَقَعَ الْمَوْقِعَ ، وَلَكِنَّ السَّيِّدَ أَوْلَى كَمَا صَحَّحَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ لِثُبُوتِ الْحَدِيثِ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ .
فَإِنْ تَنَازَعَا فَالْأَصَحُّ الْإِمَامُ .
تَنْبِيهٌ : الْعِبْرَةُ بِكَوْنِهِ سَيِّدًا حَالَ إقَامَةِ الْحَدِّ ، فَإِذَا زَنَى الرَّقِيقُ فَبَاعَهُ سَيِّدُهُ كَانَ إقَامَةُ الْحَدِّ لِمُشْتَرِيهِ ( فَإِنْ تَنَازَعَا ) أَيْ الْإِمَامُ وَالسَّيِّدُ فِي حَدِّ الرَّقِيقِ ( فَالْأَصَحُّ ) مِنْ احْتِمَالَاتٍ لِلْإِمَامِ يَحُدُّهُ ( الْإِمَامُ ) الْأَعْظَمُ أَوْ نَائِبُهُ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ ، وَالثَّانِي السَّيِّدُ لِغَرَضِ إصْلَاحِ مِلْكِهِ .
وَالثَّالِثُ إنْ كَانَ جَلْدًا فَالسَّيِّدُ ، أَوْ قَطْعًا أَوْ قَتْلًا فَالْإِمَامُ .
وَأَنَّ السَّيِّدَ يُغَرِّبُهُ ، وَأَنَّ الْمُكَاتَبَ كَحُرٍّ ، وَأَنَّ الْفَاسِقَ وَالْكَافِرَ وَالْمُكَاتَبَ يَحُدُّونَ عَبِيدَهُمْ ، وَأَنَّ السَّيِّدَ يُعَزَّرُ وَيَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ بِالْعُقُوبَةِ .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِ مَا لَوْ زَنَى ذِمِّيٌّ ثُمَّ نَقَضَ الْعَهْدَ ثُمَّ اُسْتُرِقَّ فَإِنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يُقِيمُهُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا يَوْمَئِذٍ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ مَرَّ أَنَّ الرَّقِيقَ لَوْ زَنَى ثُمَّ بَاعَهُ سَيِّدُهُ كَانَ لِلْمُشْتَرِي إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ حَالَ الزِّنَا فَالْعِبْرَةُ بِحَالَةِ الِاسْتِيفَاءِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْحَدِّ هُنَا يَثْبُتُ لِلْإِمَامِ أَوَّلًا .
وَاسْتِرْقَاقُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاؤُهُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِسَيِّدِهِ ابْتِدَاءً .
وَأَمَّا فِيمَا مَرَّ فَثَبَتَ لِلسَّيِّدِ ، وَهُوَ لِلِاسْتِصْلَاحِ ، وَلَا وَجْهَ لِإِقَامَةِ الْبَائِعِ الْحَدَّ عَلَيْهِ لِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ فَصَارَ الِاسْتِيفَاءُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُشْتَرِي ( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّ السَّيِّدَ يُغَرِّبُهُ ) كَمَا يَجْلِدُهُ لِانْدِرَاجِهِ فِي خَبَرِ { أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَالثَّانِي لَا ، لِعَدَمِ ذِكْرِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمَارِّ ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ الْجَلْدَ فَقَطْ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ سُكُوتَهُ فِي الْحَدِيثِ لَا يُنَافِيهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ .
تَنْبِيهٌ : مُؤْنَةُ تَغْرِيبِ الرَّقِيقِ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، فَإِنْ فُقِدَ فَعَلَى السَّيِّدِ ، وَعَلَيْهِ مُؤْنَتُهُ فِي زَمَنِ التَّغْرِيبِ ، وَقِيلَ فِي بَيْتِ الْمَالِ ( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّ ) الزَّانِيَ ( الْمُكَاتَبَ ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ ( كَحُرٍّ ) فَلَا يَسْتَوْفِيهِ إلَّا الْإِمَامُ لِخُرُوجِهِ عَنْ قَبْضَةِ السَّيِّدِ بِالْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ كَالْقِنِّ ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ عَجَزَ فُرِّقَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ هَلْ لِلسَّيِّدِ الِاسْتِيفَاءُ أَوْ لَا ؟ فِيهِ نَظَرٌ يُعْرَفُ مِمَّا مَرَّ فِيمَا إذَا زَنَى الذِّمِّيُّ ثُمَّ نَقَضَ الْعَهْدَ وَاسْتُرِقَّ .
أَمَّا الْمُكَاتَبُ كِتَابَةً فَاسِدَةً فَكَالْقِنِّ ( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّ ) السَّيِّدَ ( الْفَاسِقَ
وَالْكَافِرَ وَالْمُكَاتَبَ ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ ( يَحُدُّونَ عَبِيدَهُمْ ) لِعُمُومِ { أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى عَبْدِهِ بِطَرِيقِ الْمِلْكِ لِغَرَضِ الِاسْتِصْلَاحِ كَالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
وَالثَّانِي لَا ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُقِيمُهُ بِالْوِلَايَةِ وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا .
تَنْبِيهٌ : سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ السَّيِّدِ الْمُبَعَّضِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ تَوْجِيهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ كَالْمُكَاتَبِ بَلْ أَوْلَى وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْبُلْقِينِيُّ وَقَالَ : قَضِيَّةُ النَّصِّ الْمَنْعُ ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْكَافِرِ إذَا كَانَ عَبْدُهُ كَافِرًا .
أَمَّا إذَا كَانَ مُسْلِمًا فَلَيْسَ لَهُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِحَالٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ كَجٍّ .
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إنَّهُ الْأَصَحُّ الْمُخْتَارُ ( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّ السَّيِّدَ يُعَزِّرُ ) رَقِيقَهُ .
وَالثَّانِي لَا ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْبُوطٍ ، فَاخْتُصَّ بِالْإِمَامِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى .
أَمَّا حُقُوقُ نَفْسِهِ ، وَكَذَا حُقُوقُ غَيْرِهِ فَيَسْتَوْفِيهَا قَطْعًا ( وَ ) الْأَصَحُّ أَنَّ السَّيِّدَ ( يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ ) عَلَى رَقِيقِهِ ( بِالْعُقُوبَةِ ) لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ فَمَلَكَ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ بِهِ كَالْإِمَامِ .
وَالثَّانِي لَا ، لِأَنَّ سَمَاعَهَا مُخْتَصٌّ بِالْحُكَّامِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَهُ النَّظَرُ فِي تَزْكِيَةِ الْبَيِّنَةِ ، وَلَا بُدَّ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا مِنْ عِلْمِهِ بِصِفَاتِ الشُّهُودِ وَأَحْكَامِ الْحُدُودِ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِغَيْرِهَا ، فَلَوْ سَمِعَ الْبَيِّنَةَ بِزِنَاهُ عَالِمًا بِأَحْكَامِهَا ، أَوْ قَضَى بِمَا شَاهَدَهُ مِنْ زِنَاهُ جَازَ ، وَخَرَجَ بِكَوْنِهِ عَالِمًا بِأَحْكَامِ الْبَيِّنَةِ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا فَلَا يَسْمَعُهَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِسَمَاعِهَا ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ وَالْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ وَالْمَرْأَةِ سَمَاعُهَا لِعَدَمِ
أَهْلِيَّتِهِمْ لِسَمَاعِهَا ، فَلَا يَحُدُّونَ بِبَيِّنَةٍ بَلْ بِإِقْرَارٍ أَوْ بِمُشَاهَدَةٍ مِنْهُمْ .
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَيُشْبِهُ أَنْ يَخْتَصَّ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ وَجُرْحُهَا وَتَعْدِيلُهَا بِالرَّجُلِ الْعَدْلِ لَا مُطْلَقًا .
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ : إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ السَّيِّدَ هُنَا بَعْدَ ذِكْرِهِ الْكَافِرَ وَالْمُكَاتَبَ يُوهِمُ طَرْدَ ذَلِكَ فِيهِمْ وَهُوَ مَمْنُوعٌ ، وَقَدْ صَرَّحَ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِاعْتِبَارِ الْأَهْلِيَّةِ فِي سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ ، وَعَلَى هَذَا فَيَخْرُجُ الْفَاسِقُ وَالْمُكَاتَبُ ا هـ .
وَقَالَ شَيْخِي : الْمُرَادُ بِكَوْنِ فِيهِ أَهْلِيَّةُ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ أَنْ يَعْرِفَ أَحْكَامَ الْحُدُودِ وَصِفَاتِ الشُّهُودِ ، وَعَلَى هَذَا فَيَسْمَعُهَا الْفَاسِقُ وَغَيْرُهُ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ .
تَنْبِيهٌ : هَلْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَوَلَّى لِعَانَ عَبْدِهِ فِيمَا إذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ الْمَمْلُوكَةَ لِسَيِّدِهِ بِأَنْ يُلَاعِنَ بَيْنَهُمَا ؟ وَجْهَانِ : أَظْهَرُهُمَا الْجَوَازُ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ أَصْلِ الرَّوْضَةِ .
وَالرَّجْمُ بِمَدَرٍ وَحِجَارَةٍ مُعْتَدِلَةٍ ، وَلَا يُحْفَرُ لِلرَّجُلِ ، وَالْأَصَحُّ اسْتِحْبَابُهُ لِلْمَرْأَةِ إنْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ ، وَلَا يُؤَخَّرُ لِمَرَضٍ وَحَرٍّ وَبَرْدٍ مُفْرِطَيْنِ ، وَقِيلَ يُؤَخَّرُ إنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ
ثُمَّ أَخَذَ فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ وَالْآلَةِ الَّتِي يُرْجَمُ بِهَا فَقَالَ ( وَالرَّجْمُ ) لِلْمُحْصَنِ إلَى مَوْتِهِ ( بِمَدَرٍ ) أَيْ : طِينٍ مُتَحَجِّرٍ ( وَحِجَارَةٍ مُعْتَدِلَةٍ ) أَيْ : مِلْءَ الْكَفِّ كَمَا اخْتَارَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ، لَا بِحَصَيَاتٍ خَفِيفَةٍ لِئَلَّا يَطُولَ تَعْذِيبُهُ ، وَلَا بِصَخْرَاتٍ تُذَفِّفُهُ فَيَفُوتُ التَّنْكِيلُ الْمَقْصُودُ : كَذَا قَالَاهُ تَبَعًا لِلْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ ، وَنَازَعَ فِي ذَلِكَ الْبُلْقِينِيُّ وَقَالَ يُرْمَى بِالْخَفِيفِ وَالثَّقِيلِ عَلَى حَسَبِ مَا يَجِدُهُ الرَّامِي وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ ، وَالِاخْتِيَارُ فِي حَجَرِ الرَّمْيِ كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنْ يَكُونَ مِلْءَ الْكَفِّ .
تَنْبِيهٌ : جَمِيعُ بَدَنِ الْمُحْصَنِ .
مَحَلٌّ لِلرَّجْمِ الْمُقَاتَلِ وَغَيْرِهَا ، لَكِنْ يَخْتَارُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْ يَتَوَقَّى الْوَجْهَ ، وَيَكُونَ مَوْقِفُ الرَّامِي بِحَيْثُ لَا يَبْعُدُ عَنْهُ فَيُخْطِئَهُ وَلَا يَدْنُو مِنْهُ فَيُؤْلِمَهُ .
قَالَ : وَالْأَوْلَى لِمَنْ حَضَرَ أَنْ يَرْجُمَهُ إنْ رُجِمَ بِالْبَيِّنَةِ وَأَنْ يَمْسِكَ عَنْهُ إنْ رُجِمَ بِالْإِقْرَارِ .
قَالَ : وَيَنْبَغِي : أَيْ : يَجِبُ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَةَ الرَّجُلِ وَجَمِيعَ بَدَنِ الْحُرَّةِ عِنْدَ الرَّجْمِ ، وَلَا يُرْبَطُ وَلَا يُقَيَّدُ ( وَلَا يُحْفَرُ لِلرَّجُلِ ) عِنْدَ رَجْمِهِ سَوَاءٌ أَثَبَتَ زِنَاهُ بِبَيِّنَةٍ أَمْ بِإِقْرَارٍ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ، وَفَصَّلَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ بَيْنَ أَنْ يَثْبُتَ زِنَاهُ بِبَيِّنَةٍ ، فَيُسَنُّ أَنْ يُحْفَرَ لَهُ حُفْرَةٌ يَنْزِلُ فِيهَا إلَى وَسَطِهِ لِتَمْنَعَهُ مِنْ الْهَرَبِ ، أَوْ بِإِقْرَارٍ فَلَا يُسَنُّ ( وَالْأَصَحُّ اسْتِحْبَابُهُ ) أَيْ الْحَفْرِ ( لِلْمَرْأَةِ ) إلَى صَدْرِهَا ( إنْ ثَبَتَ ) زِنَاهَا ( بِبَيِّنَةٍ ) لِئَلَّا تَنْكَشِفَ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ الشُّهُودِ عَدَمُ الرُّجُوعِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ لِيُمْكِنَهَا الْهَرَبُ إنْ رَجَعَتْ .
وَالثَّانِي يُحْفَرُ لَهَا مُطْلَقًا فَقَدْ ثَبَتَ الْحَفْرُ فِي قِصَّةِ الْغَامِدِيَّةِ مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ مُقِرَّةً .
وَأَجَابَ
الْأَوَّلُ : بِأَنَّ ذَلِكَ فُعِلَ بَيَانًا لِلْجَوَازِ ( وَلَا يُؤَخَّرُ ) الرَّجْمُ ( لِمَرَضٍ وَحَرٍّ وَبَرْدٍ مُفْرِطَيْنِ ) سَوَاءٌ أَثَبَتَ زِنَاهُ بِبَيِّنَةٍ أَمْ بِإِقْرَارٍ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ مُسْتَوْفَاةٌ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّحِيحِ ( وَقِيلَ يُؤَخَّرُ إنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ ) كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ، وَصَحَّحَهُ جَمْعٌ مِنْهُمْ صَاحِبُ التَّنْبِيهِ وَالْقَاضِي الْحُسَيْنُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ رُجُوعُهُ لِلنَّدْبِ إلَيْهِ .
تَنْبِيهٌ : كَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي وُجُوبَ التَّأْخِيرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ : إنَّمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ .
قَالَ : وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ هُنَا وَتَعَرَّضُوا لَهُ فِي الْجَلْدِ ا هـ .
وَيَجِبُ التَّأْخِيرُ فِي صُورَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا الْحَامِلُ ، فَتُؤَخَّرُ إلَى الْوَضْعِ وَانْقِضَاءِ مُدَّةِ الرَّضَاعِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَمْلُ مِنْ زِنًا أَمْ مِنْ غَيْرِهِ .
الثَّانِيَةُ : إذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا ثُمَّ جُنَّ لَا يُحَدُّ فِي جُنُونِهِ بَلْ يُؤَخَّرُ حَتَّى يُفِيقَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْجِعُ بِخِلَافِ مَا لَوْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ ثُمَّ جُنَّ ، قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الرِّدَّةِ .
وَيُؤَخَّرُ الْجَلْدُ لِمَرَضٍ ، فَإِنْ لَمْ يُرْجَ بُرْؤُهُ جُلِدَ لَا بِسَوْطٍ بَلْ بِعِثْكَالٍ عَلَيْهِ مِائَةُ غُصْنٍ ، فَإِنْ كَانَ خَمْسُونَ ضُرِبَ بِهِ مَرَّتَيْنِ ، وَتَمَسُّهُ الْأَغْصَانُ أَوْ يَنْكَبِسُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ لِيَنَالَهُ بَعْضُ الْأَلَمِ ، فَإِنْ بَرَأَ أَجْزَأَهُ .
( وَيُؤَخَّرُ الْجَلْدُ ) وَإِنْ لَمْ يَهْلِكْ غَالِبًا ( لِمَرَضٍ ) يُرْجَى بُرْؤُهُ ، كَالْحُمَّى وَالصُّدَاعِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الرَّدْعُ لَا الْقَتْلُ ، وَقَدْ يُفْضِي الْجَلْدُ حِينَئِذٍ إلَى الْقَتْلِ .
تَنْبِيهٌ : فِي مَعْنَى الْمَرَضِ النِّفَاسُ : وَمَنْ بِهِ جُرْحٌ أَوْ ضَرْبٌ وَكَذَا الْحَامِلُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُخْتَصَرِ ( فَإِنْ لَمْ يُرْجَ بُرْؤُهُ ) مِنْهُ لِزَمَانَةٍ أَوْ كَانَ نِضْوًا ( جُلِدَ ) وَلَا يُؤَخَّرُ إذْ لَا غَايَةَ تُنْتَظَرُ ، لَكِنْ ( لَا بِسَوْطٍ ) لِئَلَّا يَهْلِكَ ( بَلْ بِعِثْكَالٍ ) وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْبَلَحُ بِمَنْزِلَةِ الْعُنْقُودِ مِنْ الْكَرْمِ ( عَلَيْهِ مِائَةُ غُصْنٍ ) وَهِيَ الشَّمَارِيخُ يُضْرَبُ بِهِ مَرَّةً إذَا كَانَ حُرًّا .
لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ : أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ اشْتَكَى حَتَّى أَضْنَى فَعَادَ جِلْدُهُ عَلَى عَظْمِهِ فَوَقَعَ عَلَى جَارِيَةٍ لِبَعْضِهِمْ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذُوا لَهُ شِمْرَاخًا فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً ( فَإِنْ كَانَ ) عَلَيْهِ ( خَمْسُونَ ) غُصْنًا ( ضُرِبَ بِهِ مَرَّتَيْنِ ) لِتَكْمُلَ الْمِائَةُ ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا ضُرِبَ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ .
تَنْبِيهٌ : الْعِثْكَالُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا .
وَيُقَالُ عُثْكُولٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَإِثْكَالٌ بِإِبْدَالِهَا هَمْزَةً مَعَ ضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا ، وَلَا يُطْلَقُ إلَّا عَلَى شِمْرَاخِ النَّخْلِ مَا دَامَ رَطْبًا .
أَمَّا إذَا يَبِسَ فَهُوَ عُرْجُونٌ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ الْعِثْكَالُ بَلْ يُضْرَبُ بِهِ أَوْ بِالنِّعَالِ أَوْ بِأَطْرَافِ الثِّيَابِ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ، وَإِنْ نَازَعَ الْبُلْقِينِيُّ فِي الضَّرْبِ بِالنِّعَالِ ( وَتَمَسُّهُ ) أَيْ : الْمَجْلُودَ ( الْأَغْصَانُ ) جَمِيعُهَا ( أَوْ يَنْكَبِسُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ لِيَنَالَهُ بَعْضُ الْأَلَمِ ) لِئَلَّا تَبْطُلَ حِكْمَةُ الْحَدِّ ، فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ أَوْ شَكَّ فِيهِ لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ اكْتَفَوْا فِي
الْأَيْمَانِ بِالضَّرْبِ غَيْرِ الْمُؤْلِمِ ، فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ ، وَالضَّرْبُ غَيْرُ الْمُؤْلِمِ يُسَمَّى ضَرْبًا ، وَالْحُدُودُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الزَّجْرِ ، وَهُوَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْإِيلَامِ ( فَإِنْ بَرَأَ ) بِفَتْحِ الرَّاءِ الْمَجْلُودُ بَعْدَ أَنْ ضُرِبَ بِمَا ذُكِرَ ( أَجْزَأَهُ ) الضَّرْبُ بِهِ وَلَا يُعَادُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمَعْضُوبُ إذَا حَجَّ عَنْهُ ثُمَّ شُفِيَ وَجَبَ عَلَيْهِ إعَادَتُهُ ، فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْحُدُودَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الدَّرْءِ ، فَإِنْ بَرِئَ قَبْلَ ذَلِكَ حُدَّ حَدَّ الْأَصِحَّاءِ ، أَوْ فِي الْأَثْنَاءِ كَمُلَ حَدُّ الْأَصِحَّاءِ ، وَاعْتَدَّ بِمَا مَضَى كَمَا بَحَثَهُ الزَّرْكَشِيُّ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَدَرَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقِيَامِ فَلَوْ ضُرِبَ بِمَا ذُكِرَ مَنْ يُرْجَى بُرْؤُهُ فَبَرَأَ لَمْ يُجْزِهِ ، وَيُخَيَّرُ مَنْ لَهُ حَدُّ قَذْفٍ عَلَى مَرِيضٍ بَيْنَ الضَّرْبِ بِعِثْكَالٍ وَنَحْوِهِ وَبَيْنَ الصَّبْرِ إلَى بُرْئِهِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي تَبَعًا لِلْإِسْنَوِيِّ ، وَقِيلَ يُجْلَدُ بِالسِّيَاطِ ، سَوَاءٌ أُرْجِيَ بُرْؤُهُ أَمْ لَا ، لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُضَايَقَةِ ، وَرَجَّحَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ، وَأَسْقَطَهُ ابْنُ الْمُقْرِي هُنَاكَ .
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ : إنَّهُ خِلَافُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ .
وَلَا جَلْدَ فِي حَرٍّ وَبَرْدٍ مُفْرِطَيْنِ ، وَإِذَا جَلَدَ الْإِمَامُ فِي مَرَضٍ أَوْ حَرٍّ وَبَرْدٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَى النَّصِّ فَيَقْتَضِي أَنَّ التَّأْخِيرَ مُسْتَحَبٌّ .
( وَلَا جَلْدَ فِي ) مَرَضٍ أَوْ ( حَرٍّ وَبَرْدٍ مُفْرِطَيْنِ ) أَيْ : شَدِيدَيْنِ ، بَلْ يُؤَخَّرُ إلَى الْبُرْءِ وَاعْتِدَالِ الْوَقْتِ خَشْيَةَ الْهَلَاكِ ، وَكَذَا الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ كَانَ فِي بِلَادٍ لَا يَنْفَكُّ حَرُّهَا أَوْ بَرْدُهَا لَمْ يُؤَخَّرْ وَلَمْ يُنْقَلْ إلَى الْبِلَادِ الْمُعْتَدِلَةِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ : لِمَا فِيهِ .
تَأْخِيرُ الْحَدِّ وَلُحُوقُ الْمَشَقَّةِ ، وَقُوبِلَ إفْرَاطُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ بِتَخْفِيفِ الضَّرْبِ لِيَسْلَمَ مِنْ الْقَتْلِ كَمَا فِي الْمَرَضِ الْمُلَازِمِ ( وَإِذَا جَلَدَ الْإِمَامُ فِي مَرَضٍ أَوْ حَرٍّ وَبَرْدٍ ) مُفْرِطَيْنِ فَمَاتَ الْمَجْلُودُ سِرَايَةً ( فَلَا ضَمَانَ عَلَى النَّصِّ ) فِي الْأُمِّ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ مِنْ وَاجِبٍ أُقِيمَ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ خَتَنَهُ فِي حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ مُفْرِطٍ ضَمِنَ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُخْتَصَرِ ، فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْجَلْدَ ثَبَتَ بِالنَّصِّ ، وَالْخِتَانَ بِالِاجْتِهَادِ فَأَشْبَهَ التَّعْزِيرَ ، وَاقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى عَدَمِ الضَّمَانِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَرَضِ قَدْ يُشْعِرُ بِوُجُوبِهِ إذَا كَانَ الزَّانِي نِضْوَ الْخَلْقِ لَا يَحْتَمِلُ السِّيَاطَ فَجَلَدَهُ بِهَا فَمَاتَ وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ : لِأَنَّ جَلْدَ مِثْلِهِ بِالْعُثْكَالِ لَا بِالسِّيَاطِ ، وَحُكِيَ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ عَدَمُ الضَّمَانِ ، وَخَرَجَ بِالْإِمَامِ السَّيِّدُ فَلَا يَضْمَنُ رَقِيقَهُ جَزْمًا ( فَيَقْتَضِي ) نَصُّ الْأُمِّ ( أَنَّ التَّأْخِيرَ مُسْتَحَبٌّ ) وَهُوَ مَا قَالَ الْإِمَامُ ، لَكِنْ صَحَّحَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ وُجُوبَ التَّأْخِيرِ سَوَاءٌ أَقُلْنَا بِالضَّمَانِ أَمْ لَا .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَهُوَ الْمَجْزُومُ بِهِ فِي الْحَاوِي وَالْمُهَذَّبِ وَغَيْرِهِمَا .
خَاتِمَةٌ : لِلْمَقْتُولِ حَدًّا بِالرَّجْمِ أَوْ غَيْرِهِ حُكْمُ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غُسْلٍ وَتَكْفِينٍ وَصَلَاةٍ وَغَيْرِهَا كَتَارِكِ الصَّلَاةِ إذَا قُتِلَ ، وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى الْجُهَنِيَّةِ ، وَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْغَامِدِيَّةِ وَدَفَنَهَا ، وَفِي رِوَايَةٍ صَلَّى هُوَ عَلَيْهَا أَيْضًا .
.
كِتَابُ حَدِّ الْقَذْفِ شَرْطُ حَدِّ الْقَذْفِ : التَّكْلِيفُ
كِتَابُ حَدِّ الْقَذْفِ وَهُوَ بِمُعْجَمَةٍ ( لُغَةً : الرَّمْيُ ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الرَّمْيُ بِالزِّنَا فِي مَعْرَضِ التَّعْيِيرِ ) لِيُخْرِجَ الشَّهَادَةَ بِالزِّنَا فَلَا حَدَّ فِيهَا إلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِهِ دُونَ أَرْبَعَةٍ كَمَا سَيَأْتِي ، وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ الْمُوبِقَاتِ ، فَفِي الْحَدِيثِ { مِنْ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ قَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ } سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ ، رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { قَذْفُ الْمُحْصَنَةِ يُحْبِطُ عَمَلَ مِائَةِ سَنَةٍ } ، وَاسْتَغْنَى الْمُصَنِّفُ بِبَيَانِ الْقَذْفِ فِي اللِّعَانِ عَنْ إعَادَتِهِ هُنَا .
وَالْحَدُّ شَرْعًا : عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الزِّنَا ، أَوْ لِآدَمِيٍّ كَمَا فِي الْقَذْفِ .
وَسُمِّيَتْ الْحُدُودُ حُدُودًا ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَدَّهَا وَقَدَّرَهَا ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَجَاوَزَهَا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } وَقِيلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْحَدَّ فِي اللُّغَةِ : الْمَنْعُ ، وَهِيَ تَمْنَعُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْفَوَاحِشِ .
وَالْأَصْلُ فِي الْبَابِ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } الْآيَةَ ، وَصَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ بَرَاءَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا جَلَدَ مَنْ قَذَفَهَا .
وَالْحِكْمَةُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِالْقَذْفِ دُونَ التَّسَابٍّ بِالْكُفْرِ أَنَّ الْمَسْبُوبَ بِالْكُفْرِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ ذَلِكَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَتَيْنِ ، بِخِلَافِ الزَّانِي فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْيِ الزِّنَا عَنْهُ .
إلَّا السَّكْرَانَ الِاخْتِيَارُ ، وَيُعَزَّرُ الْمُمَيِّزُ ، وَلَا يُحَدُّ بِقَذْفِ الْوَلَدِ وَإِنْ سَفَلَ .
وَلِلْقَاذِفِ شُرُوطٌ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّف بِقَوْلِهِ ( شَرْطُ حَدِّ الْقَاذِفِ ) أَيْ : الْمَحْدُودِ بِسَبَبِ الْقَذْفِ ( التَّكْلِيفُ ) فَلَا حَدَّ عَلَى صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ لِرَفْعِ الْقَلَمِ عَنْهُمَا ، وَعَدَم حُصُولِ الْإِيذَاءِ بِقَذْفِهِمَا ، وَزَادَ عَلَى الْمُحَرَّرِ قَوْلَهُ ( إلَّا السَّكْرَانَ ) فَإِنَّهُ مُسْتَثْنًى عِنْدَهُ مِنْ التَّكْلِيفِ ، وَمَعَ ذَلِكَ يُحَدُّ ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الرَّوْضَةِ ، هَذَا وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ ( وَالِاخْتِيَارُ ) فَلَا حَدَّ عَلَى مُكْرَهٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ لِرَفْعِ الْقَلَمِ عَنْهُ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْأَذَى بِذَلِكَ لِإِجْبَارِهِ عَلَيْهِ ، وَلَا عَلَى مُكْرِهٍ بِكَسْرِهَا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَتْلِ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ جَعْلُ يَدِ الْمُكْرَهِ كَالْآلَةِ لَهُ بِأَنْ يَأْخُذَ يَدَهُ فَيَقْتُلُ بِهَا ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَ لِسَانَ غَيْرِهِ فَيَقْذِفُ بِهِ .
تَنْبِيهٌ : سَكَتَ عَنْ شُرُوطٍ أُخَرَ ، وَهِيَ الْتِزَامُ الْأَحْكَامِ ، وَالْعِلْمُ بِالتَّحْرِيمِ وَعَدَمُ إذْنِ الْمَقْذُوفِ ، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ أَصْلٍ ، فَلَا حَدَّ عَلَى حَرْبِيٍّ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ الْأَحْكَامَ ، وَلَا جَاهِلٍ بِالتَّحْرِيمِ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ ، أَوْ بُعْدِهِ عَنْ الْعُلَمَاءِ ، وَلَا عَلَى مَنْ قَذَفَ غَيْرَهُ بِإِذْنِهِ كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ ، وَإِنْ ادَّعَى الْإِمَامُ أَنَّ الْجَمَاهِيرَ أَجْمَعُوا عَلَى حَدِّهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهَا لَا يَجِبُ ضَمَانُهَا ، وَلَا عَلَى أَصْلٍ : كَمَا سَيَأْتِي ، وَيَسْقُطُ أَيْضًا حَدُّ الْقَذْفِ عَنْ الْقَاذِفِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِزِنَا الْمَقْذُوفِ وَبِإِقْرَارِهِ وَبِعَفْوِهِ وَبِاللِّعَانِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ ( وَيُعَزَّرُ ) الْقَاذِفُ ( الْمُمَيِّزُ ) مِنْ صَبِيٍّ ، أَوْ مَجْنُونٍ لَهُ نَوْعُ تَمْيِيزٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ لِلزَّجْرِ وَالتَّأْدِيبِ ، فَإِنْ لَمْ يُعَزَّرْ الصَّبِيُّ حَتَّى بَلَغَ سَقَطَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لِلزَّجْرِ وَالتَّأْدِيبِ ، وَقَدْ حَدَثَ سَبَبٌ أَقْوَى مِنْهُ وَهُوَ التَّكْلِيفُ كَمَا قَالَاهُ فِي اللِّعَانِ ،
وَقِيَاسُهُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمَجْنُونُ إذَا أَفَاقَ كَذَلِكَ ( وَلَا يُحَدُّ ) الْأَصْلُ وَلَوْ أُنْثَى ( بِقَذْفِ الْوَلَدِ وَإِنْ سَفَلَ ) كَمَا لَا يُقْتَلُ بِهِ .
تَنْبِيهٌ : اقْتِصَارُهُ عَلَى نَفْيِ الْحَدِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُعَزَّرُ ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ لِلْإِيذَاءِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَالُوا فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ : إنَّ الْأَصْلَ لَا يُحْبَسُ فِي وَفَاءِ دَيْنِ فَرْعِهِ مَعَ أَنَّ الْحَبْسَ تَعْزِيرٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّ حَبْسَهُ لِلدَّيْنِ قَدْ يَطُولُ زَمَنُهُ فَيَشُقَّ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ هُنَا فَإِنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ بِقِيَامٍ مِنْ مَجْلِسٍ وَنَحْوِهِ وَحَيْثُ ثَبَتَ فَهُوَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِحَقِّ الْوَلَدِ ، وَكَمَا لَا يُحَدُّ بِقَذْفِ وَلَدِهِ لَا يُحَدُّ بِقَذْفِ مَنْ وَرِثَهُ الْوَلَدُ وَلَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ ، كَمَا لَوْ قَذَفَ امْرَأَةً لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ ثُمَّ مَاتَتْ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ ابْتِدَاءٌ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ انْتِهَاءٌ كَالْقِصَاصِ ، فَإِنْ شَارَكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ كَأَنْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ آخَرُ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ لَهُ الِاسْتِيفَاءُ لِأَنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ يَسْتَوْفِيهِ جَمِيعَهُ .
فَرْعٌ : قَالَ فِي الْحَاوِي فِي بَابِ اللِّعَانِ : لَوْ قَالَ لِابْنِهِ أَنْتَ وَلَدُ زِنًا كَانَ قَاذِفًا لِأُمِّهِ .
قَالَ الدَّمِيرِيُّ : وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ حَسَنَةٌ ذَكَرَهَا ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ بَحْثًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ فِيهَا عَلَى نَقْلٍ ، وَزَادَ أَنَّهُ يُعَزَّرُ لِلْمَشْتُومِ .
قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ : لَوْ قَذَفَ شَخْصٌ آخَرَ فِي خَلْوَةٍ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ إلَّا اللَّهُ وَالْحَفَظَةُ لَمْ يَكُنْ كَبِيرَةً مُوجِبَةً لِلْحَدِّ لِخُلُوِّهِ عَنْ مَفْسَدَةِ الْإِيذَاءِ ، وَلَا يُعَاقَبُ فِي الْآخِرَةِ إلَّا عِقَابَ مَنْ كَذَبَ كِذْبًا لَا ضَرَرَ فِيهِ .
فَائِدَةٌ : اخْتَارَ الْمُصَنِّفُ وَالْغَزَالِيُّ أَنَّ الْغَيْبَةَ بِالْقَلْبِ إذَا أَدْرَكَهَا الْمَلَكَانِ الْحَافِظَانِ كَمَا لَوْ تَلَفَّظَ بِهَا وَيُدْرِكَانِ ذَلِكَ بِالشَّمِّ ، وَلَعَلَّ هَذَا فِيمَا إذَا صَمَّمَ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِلَّا فَمَا يَخْطِرُ عَلَى الْقَلْبِ مَغْفُورٌ ، وَإِذَا عُرِفَ شَرْطُ حَدِّ الْقَذْفِ .
فَالْحُرُّ ثَمَانُونَ ، وَالرَّقِيقُ أَرْبَعُونَ .
( فَالْحُرُّ ) الْقَاذِفُ حَدُّهُ ( ثَمَانُونَ ) جَلْدَةً الْآيَةَ { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } إذْ الْمُرَادُ فِيهَا الْأَحْرَارُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا : { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَقْذِفْ ( وَالرَّقِيقُ ) الْقَاذِفُ وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُبَعَّضُ حَدُّ كُلٍّ مِنْهُمْ ( أَرْبَعُونَ ) جَلْدَةً عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْحُرِّ بِالْإِجْمَاعِ ، وَهَذَا مِنْ أَمْثِلَةِ تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ بِالْإِجْمَاعِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ كَوْنِ حَدِّهِ أَرْبَعِينَ إذَا قَذَفَ فِي حَالِ رِقِّهِ ، فَلَوْ قَذَفَ وَهُوَ حُرٌّ مُلْتَزِمٌ ثُمَّ الْتَحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَاسْتُرِقَّ فَحَدُّهُ ثَمَانُونَ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْقَذْفِ .
وَ الْمَقْذُوفِ : الْإِحْصَانُ وَسَبَقَ فِي اللِّعَانِ .
( وَ ) شَرْطُ ( الْمَقْذُوفِ ) أَيْ : الَّذِي يُحَدُّ قَاذِفُهُ ( الْإِحْصَانُ ) أَيْ كَوْنُهُ مُحْصَنًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } فَقَيَّدَ إيجَابَ الثَّمَانِينَ بِذَلِكَ ( وَسَبَقَ فِي ) كِتَابِ ( اللِّعَانِ ) بَيَانُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ ، وَبَيَانُ شَرْطِ الْمَقْذُوفِ فَلَا حَاجَةَ لِذِكْرِهِ هُنَا .
وَلَوْ شَهِدَ دُونَ أَرْبَعَةٍ بِزِنًا حُدُّوا فِي الْأَظْهَرِ .
( وَلَوْ ) ( شَهِدَ ) فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ ( دُونَ أَرْبَعَةٍ ) مِنْ الرِّجَالِ ( بِزِنًا ) ( حُدُّوا فِي الْأَظْهَرِ ) لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَدَّ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنَا كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ ، وَلِئَلَّا يَتَّخِذَ صُورَةَ الشَّهَادَةِ ذَرِيعَةً إلَى الْوَقِيعَةِ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ ، وَالثَّانِي الْمَنْعُ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا شَاهِدِينَ لَا هَاتِكِينَ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا شَهِدُوا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي .
أَمَّا لَوْ شَهِدُوا فِي غَيْرِهِ فَقَاذِفُونَ جَزْمًا وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ وَغَيْرِهِ .
وَكَذَا أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَعَبِيدٍ وَكَفَرَةٍ عَلَى الْمَذْهَبِ .
فَرْعٌ : لَوْ شَهِدَ الزَّوْجُ بِزِنَا زَوْجَتِهِ كَانَ قَاذِفًا لَهَا فَيُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُ بِزِنَاهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لِلتُّهْمَةِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ شَهِدَ عَلَيْهَا دُونَ أَرْبَعَةٍ حُدُّوا لِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ ( وَكَذَا أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَعَبِيدٍ وَكَفَرَةٍ ) أَهْلِ ذِمَّةٍ فَإِنَّهُمْ فِي كُلٍّ مِنْ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ يُحَدُّونَ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَلَمْ يَقْصِدُوا إلَّا الْقَذْفَ .
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي فِي حَدِّهِمْ الْقَوْلَانِ تَنْزِيلًا لِنَقْصِ الصِّفَةِ مَنْزِلَةَ نَقْصِ الْعَدَدِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ إذَا كَانُوا فِي ظَاهِرِ الْحَالِ بِصِفَةِ الشُّهُودِ ثُمَّ بَانُوا كُفَّارًا أَوْ عَبِيدًا ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا عَلِمَ حَالَهُمْ لَا يُصْغِي إلَيْهِمْ فَيَكُونُ قَوْلُهُمْ قَذْفًا مَحْضًا قَطْعًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْرِضِهِ شَهَادَةٌ .
وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى إقْرَارِهِ فَلَا ، وَلَوْ تَقَاذَفَا فَلَيْسَ تَقَاصًّا .
فُرُوعٌ : لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ بِفِسْقٍ وَلَوْ مَقْطُوعًا بِهِ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ لَمْ يُحَدُّوا وَفَارِقُ مَا مَرَّ فِي نَقْصِ الْعَدَدِ بِأَنَّ نَقْصَ الْعَدَدِ مُتَيَقَّنٌ ، وَفِسْقُهُمْ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالظَّنِّ وَالِاجْتِهَادِ ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ ، وَلَوْ شَهِدَ دُونَ أَرْبَعَةٍ بِالزِّنَا فَحُدُّوا وَعَادُوا مَعَ رَابِعٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ كَالْفَاسِقِ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ ثُمَّ يَتُوبُ وَيُعِيدُهَا لَمْ تُقْبَلْ ، وَلَوْ شَهِدَ بِالزِّنَا عَبِيدٌ وَحُدُّوا فَعَادُوا بَعْدَ الْعِتْقِ قُبِلَتْ لِعَدَمِ اتِّهَامِهِمْ ، وَلَوْ شَهِدَ بِهِ خَمْسَةٌ .
فَرَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ شَهَادَتِهِ لَمْ يُحَدَّ لِبَقَاءِ النِّصَابِ ، أَوْ اثْنَانِ مِنْهُمْ حُدَّا لِأَنَّهُمَا أَلْحَقَا بِهِ الْعَارَ دُونَ الْبَاقِينَ لِتَمَامِ النِّصَابِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ مَعَ عَدَمِ تَقْصِيرِهِمْ ، وَلَوْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ حُدَّ وَحْدَهُ دُونَ الْبَاقِينَ لِمَا ذُكِرَ ( وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى إقْرَارِهِ ) بِزِنًا ( فَلَا ) حَدَّ عَلَيْهِ جَزْمًا ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ : قَدْ أَقْرَرْت بِأَنَّكَ زَنَيْتَ وَهُوَ فِي مَعْرِضِ الْقَذْفِ وَالتَّعْيِيرِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، فَكَذَا هُنَا .
تَنْبِيهٌ : شَاهِدُ الْجُرْحِ بِالزِّنَا لَيْسَ بِقَاذِفٍ لِلْحَاجَةِ وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ غَيْرُهُ كَمَا صَوَّبَهُ الْمُصَنِّفُ خِلَافًا لِلرَّافِعِيِّ حَيْثُ جَعَلَ عَدَمَ مُوَافَقَةِ غَيْرِهِ كَنَقْصِ الْعَدَدِ ( وَلَوْ تَقَاذَفَا ) أَيْ قَذَفَ كُلٌّ مِنْ شَخْصَيْنِ صَاحِبَهُ ( فَلَيْسَ ) ذَلِكَ ( تَقَاصًّا ) فَلَا يَسْقُطُ حَدُّ هَذَا لِحَدِّ هَذَا ، بَلْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَحُدَّ الْآخَرُ ؛ لِأَنَّ التَّقَاصَّ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْحَدَّانِ لَا يَتَّفِقَانِ فِي الصِّفَةِ ، إذْ لَا يُعْلَمُ التَّسَاوِي لِاخْتِلَافِ الْقَاذِفِ وَالْمَقْذُوفِ فِي الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ وَالْخِلْقَةِ غَالِبًا .
وَلَوْ اسْتَقَلَّ الْمَقْذُوفُ بِالِاسْتِيفَاءِ لَمْ يَقَعْ الْمَوْقِعَ .
( وَلَوْ اسْتَقَلَّ الْمَقْذُوفُ بِالِاسْتِيفَاءِ ) لِلْحَدِّ مِنْ قَاذِفِهِ وَلَوْ بِإِذْنِهِ ( لَمْ يَقَعْ الْمَوْقِعَ ) عَلَى الصَّحِيحِ ، لِأَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ مِنْ مَنْصِبِ الْإِمَامِ فَيُتْرَكُ حَتَّى يَبْرَأَ ثُمَّ يُحَدَّ ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ صُورَتَانِ : الْأُولَى لَوْ قَذَفَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ فَلَهُ أَنْ يَحُدَّهُ كَمَا صَرَّحَا بِهِ آخِرَ بَابِ الزِّنَا وَالثَّانِيَةُ إذَا بَعُدَ عَنْ السُّلْطَانِ فِي بَادِيَةٍ وَقَدَرَ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَجَاوُزٍ جَازَ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ .
خَاتِمَةٌ : إذَا سَبَّ إنْسَانٌ إنْسَانًا جَازَ لِلْمَسْبُوبِ أَنْ يَسُبَّ السَّابَّ بِقَدْرِ مَا سَبَّهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسُبَّ أَبَاهُ وَلَا أُمَّهُ .
وَرُوِيَ أَنَّ زَيْنَبَ لَمَّا سَبَّتْ عَائِشَةَ { قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبِّيهَا } كَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ { دُونَكِ فَانْتَصِرِي فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهَا حَتَّى يَبِسَ رِيقُهَا فِي فِيهَا فَتَهَلَّلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَإِنَّمَا يَجُوزُ السَّبُّ بِمَا لَيْسَ كَذِبًا وَلَا قَذْفًا كَقَوْلِهِ : يَا ظَالِمُ يَا أَحْمَقُ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَكَادُ يَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ ، وَإِذَا انْتَصَرَ بِسَبِّهِ فَقَدْ اسْتَوْفَى ظِلَامَتَهُ وَبَرِئَ الْأَوَّلُ مِنْ حَقِّهِ وَبَقِيَ عَلَيْهِ إثْمُ الِابْتِدَاءِ أَوْ الْإِثْمُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَيَجُوزُ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى ظَالِمِهِ كَمَا قَالَهُ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى : { لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إلَّا مَنْ ظُلِمَ } قَالَ بِأَنْ يُخْبِرَ عَنْ ظُلْمِ ظَالِمِهِ وَيَدْعُوَ عَلَيْهِ ا هـ .
وَيُخَفَّفَ عَنْ الظَّالِمِ بِدُعَاءِ الْمَظْلُومِ ، لِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ لِيَظْلِمَ مَظْلَمَةً ، فَلَا يَزَالُ الْمَظْلُومُ يَشْتِمُ الظَّالِمَ وَيُنْقِصُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدْ اسْتَنْصَرَ } وَفِي كِتَابِ اللَّطَائِفِ لِلْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَتْ صَوَّامَةً قَوَّامَةً سَرَقَتْ لَهَا امْرَأَةٌ دَجَاجَةً فَنَبَتَ رِيشُ الدَّجَاجَةِ فِي وَجْهِ السَّارِقَةِ وَعَجَزُوا عَنْ إزَالَتِهِ عَنْ وَجْهِهَا فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ بَعْضَ عُلَمَائِهِمْ ، فَقَالُوا لَا يَزُولُ هَذَا الرِّيشُ إلَّا بِدُعَائِهَا عَلَيْهَا ، قَالَ فَأَتَتْهَا
عَجُوزٌ وَذَكَّرَتْهَا بِدَجَاجَتِهَا فَلَمْ تَزَلْ بِهَا إلَى أَنْ دَعَتْ عَلَى سَارِقِهَا دَعْوَةً فَسَقَطَ مِنْ وَجْهِهَا رِيشَةٌ فَلَمْ تَزَلْ تُكَرِّرُ ذَلِكَ حَتَّى سَقَطَ جَمِيعُ الرِّيشِ ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّحْلِيلِ مِنْ الظُّلَامَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَيْ : هَلْ الْأَفْضَلُ التَّحْلِيلُ أَوْ لَا ؟ فَكَانَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ لَا يُحَلِّلُ أَحَدًا مِنْ عِرْضٍ وَلَا مَالٍ ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَابْنُ سِيرِينَ يُحَلِّلَانِ مِنْهُمَا ، وَرَأَى مَالِكٌ التَّحْلِيلَ مِنْ الْعِرْضِ دُونَ الْمَالِ ، وَلَوْ سَمِعَ الْإِمَامُ رَجُلًا يَقُولُ زَنَيْتُ بِرَجُلٍ لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ مَجْهُولٌ وَلَا يُطَالِبُهُ بِتَعْيِينِهِ لِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ ، وَإِنْ سَمِعَهُ يَقُولُ زَنَى فُلَانٌ لَزِمَهُ أَنْ يَعْلَمَ الْمَقْذُوفَ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ حَقٌّ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَعَلَى الْإِمَامِ إعْلَامُهُ كَمَا لَوْ ثَبَتَ لَهُ عِنْدَهُ مَالٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ .
كِتَابُ قَطْعِ السَّرِقَةِ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهِ فِي الْمَسْرُوقِ أُمُورٌ : كَوْنُهُ رُبُعَ دِينَارٍ خَالِصًا أَوْ قِيمَتَهُ ، وَلَوْ سَرَقَ رُبُعًا سَبِيكَةً لَا يُسَاوِي رُبُعًا مَضْرُوبًا فَلَا قَطْعَ فِي الْأَصَحِّ .
كِتَابُ قَطْعِ السَّرِقَةِ لَوْ قَالَ كِتَابُ السَّرِقَةِ كَمَا فَعَلَ فِي الزِّنَا لَكَانَ أَخَصْرَ وَأَعَمَّ لِتَنَاوُلِهِ أَحْكَامَ نَفْسِ السَّرِقَةِ ، وَهِيَ بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ الرَّاءِ ، وَيَجُوزُ إسْكَانُهَا مَعَ فَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا ، وَيُقَالُ أَيْضًا السَّرِقُ بِكَسْرِ الرَّاءِ لُغَةً : أَخْذُ الْمَالِ خُفْيَةً ( وَشَرْعًا : أَخْذُهُ خُفْيَةً ظُلْمًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ بِشُرُوطٍ ) تَأْتِي .
وَالْأَصْلُ فِي الْقَطْعِ بِهَا قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قَوْله تَعَالَى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَالْأَخْبَارُ الشَّهِيرَةُ ، وَلَمَّا نَظَمَ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيُّ الْبَيْتَ الَّذِي شَكَّكَ عَلَى الشَّرِيعَةِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ ، وَهُوَ : يَدٌ بِخَمْسِ مِئِينَ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ مَا بَالُهَا قُطِعَتْ فِي رُبُعِ دِينَارٍ أَجَابَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ بِقَوْلِهِ : وِقَايَةُ النَّفْسِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصُهَا ذُلُّ الْخِيَانَةِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِي وَهُوَ جَوَابٌ بَدِيعٌ مَعَ اخْتِصَارٍ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْيَدَ لَوْ كَانَتْ تُودِي بِمَا قُطِعَ فِيهِ لَكَثُرَتْ الْجِنَايَاتُ عَلَى الْأَطْرَافِ لِسُهُولَةِ الْغُرْمِ فِي مُقَابَلَتِهَا فَغُلِّظَ الْغُرْمُ حِفْظًا لَهَا .
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ لَمَّا سُئِلَ عَنْ هَذَا : لَمَّا كَانَتْ أَمِينَةً كَانَتْ ثَمِينَةً ، فَلَمَّا خَانَتْ هَانَتْ .
وَأَرْكَانُ الْقَطْعِ ثَلَاثَةٌ : مَسْرُوقٌ وَسَرِقَةٌ وَسَارِقٌ ، وَبَدَأَ بِشُرُوطِ الْأَوَّلِ .
فَقَالَ : ( يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهِ ) أَيْ : الْقَطْعِ ( فِي الْمَسْرُوقِ أُمُورٌ ) الْأَوَّلُ ( كَوْنُهُ رُبُعَ دِينَارٍ ) فَأَكْثَرَ وَلَوْ كَانَ الرُّبُعُ لِجَمَاعَةٍ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ { لَا تُقْطَعُ يَدُ سَارِقٍ إلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا } ثُمَّ وَصَفَ رُبُعَ الدِّينَارِ بِكَوْنِهِ ( خَالِصًا ) لِأَنَّ الرُّبُعَ الْمَغْشُوشَ لَيْسَ بِرُبُعِ دِينَارٍ حَقِيقَةً ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَغْشُوشِ رُبُعٌ خَالِصٌ وَجَبَ الْقَطْعُ ، وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ : ( أَوْ قِيمَتَهُ ) عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّقْوِيمِ هُوَ الذَّهَبُ الْخَالِصُ حَتَّى لَوْ
سَرَقَ دَرَاهِمَ أَوْ غَيْرَهَا قُوِّمَتْ بِهِ ، وَيُعْتَبَرُ النِّصَابُ وَقْتَ إخْرَاجِهِ مِنْ الْحِرْزِ ، فَلَوْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ الْقَطْعُ ، وَقَالَ ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ : يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ الْقَلِيلِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ النِّصَابُ لِعُمُومِ الْآيَةِ ، وَفِي الصَّحِيحِ { لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ } .
وَأُجِيبَ عَنْ الْآيَةِ بِأَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِالْحَدِيثِ الْمَارِّ ، وَعَمَّا فِي الصَّحِيحِ بِأَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا مَا قَالَهُ الْأَعْمَشُ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهَا بَيْضَةُ الْحَدِيدِ ، وَالْحَبْلُ يُسَاوِي دَرَاهِمَ كَحَبْلِ السَّفِينَةِ ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ .
الثَّانِي حَمْلُهُ عَلَى جِنْسِ الْبِيضِ وَالْحِبَالِ .
الثَّالِثُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ سَبَبًا وَتَدْرِيجًا مِنْ هَذَا إلَى مَا تُقْطَعُ فِيهِ يَدُهُ .
تَنْبِيهٌ : يُعْتَبَرُ فِي التَّقْوِيمِ الْقَطْعُ مَعَ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَنَدُهَا الظَّنَّ ( وَ ) عَلَى أَنَّ التَّقْوِيمَ يُعْتَبَرُ بِالْمَضْرُوبِ ( لَوْ سَرَقَ رُبُعًا ) مِنْ دِينَارٍ ( سَبِيكَةً ) هُوَ صِفَةُ رُبُعًا عَلَى تَأْوِيلِهِ بِمَسْبُوكًا ، وَبِذَلِكَ انْدَفَعَ مَا قِيلَ إنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِرُبُعٍ لِاخْتِلَافِهِمَا بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ أَوْ حُلِيًّا أَوْ نَحْوَهُ كَقِرَاضَةٍ ( لَا يُسَاوِي رُبُعًا مَضْرُوبًا فَلَا قَطْعَ ) بِهِ ( فِي الْأَصَحِّ ) وَإِنْ سَاوَاهُ غَيْرُ مَضْرُوبٍ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْخَبَرِ لَفْظُ الدِّينَارِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْمَضْرُوبِ ، وَالثَّانِي يُنْظَرُ إلَى الْوَزْنِ فَيُقْطَعُ وَلَا حَاجَةَ لِتَقْوِيمِهِ لِبُلُوغِ عَيْنِ الذَّهَبِ قَدْرَ النِّصَابِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ : إنَّهُ ظَاهِرُ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ : لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ ، وَمَعَ هَذَا فَالْمُعْتَمَدُ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ هُنَا ، وَجَرَى عَلَيْهِ فِي الرَّوْضَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ الرَّافِعِيُّ فِي
الشَّرْحَيْنِ بِتَرْجِيحٍ ، وَيَتَفَرَّعْ عَلَى الْخِلَافِ مَا لَوْ سَرَقَ خَاتَمًا وَزْنُهُ دُونَ رُبُعٍ وَقِيمَتُهُ بِالصَّنْعَةِ تَبْلُغُ رُبُعًا ، وَقَضِيَّةُ تَرْجِيحِ الْكِتَابِ وُجُوبُ الْقَطْعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَكِنْ قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ : الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ ، مَعَ تَصْحِيحِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ عَدَمَ الْقَطْعِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَهَذَا غَلَطٌ فَاحِشٌ لِأَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ هَذِهِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا فِي تَصْحِيحِ عَدَمِ الْقَطْعِ ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ : وَالْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْوَزْنِ أَوْ بِالْقِيمَةِ وَهُوَ لَا يَسْتَقِيمُ .
وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ : لَيْسَ بِغَلَطٍ بَلْ فِقْهٌ مُسْتَقِيمٌ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ ، فَإِنَّ الْوَزْنَ فِي الذَّهَبِ لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ مَعَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَضْرُوبًا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ رُبُعَ دِينَارٍ مَضْرُوبٍ فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي فِي السَّبِيكَةِ ، فَأَمَّا إذَا نَقَصَ الْوَزْنُ وَلَكِنَّ قِيمَتَهُ تُسَاوِي رُبُعَ دِينَارٍ مَضْرُوبٍ ، فَهَذَا يَضْعُفُ فِيهِ الِاكْتِفَاءَ بِالْقِيمَةِ فَاسْتَقَامَ مَا فِي الرَّوْضَةِ ، وَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِيهِ إلْبَاسٌ وَكَانَ اللَّائِقُ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الرَّوْضَةِ ا هـ وَبِذَلِكَ عُلِمَ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا : أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ اعْتِبَارِ الْوَزْنِ وَالْقِيمَةِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ لَمْ تُعْرَفْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ بِالدَّنَانِيرِ قُوِّمَ بِالدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ قُوِّمَتْ الدَّرَاهِمُ بِالدَّنَانِيرِ قَالَهُ الدَّارِمِيُّ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَكَانِ السَّرِقَةِ دَنَانِيرُ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : فَالْمُتَّجَهُ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ إلَيْهِ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ أَنَّ سَبِيكَةَ الذَّهَبِ تُقَوَّمُ بِالدَّنَانِيرِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَقْوِيمُ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ خِلَافًا لِلدَّارِمِيِّ فِي قَوْلِهِ : يُقَوَّمُ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ الدَّرَاهِمُ بِالدَّنَانِيرِ ، وَيُرَاعَى فِي الْقِيمَةِ الْمَكَانُ وَالزَّمَانُ لِاخْتِلَافِهَا بِهِمَا ، وَلَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ
نَقْدَانِ خَالِصَانِ مِنْ الذَّهَبِ وَتَفَاوَتَا قِيمَةً اُعْتُبِرَتْ الْقِيمَةُ بِالْأَغْلَبِ مِنْهُمَا فِي زَمَانِ السَّرِقَةِ ، فَإِنْ اسْتَوَيَا اسْتِعْمَالًا فَبِأَيِّهِمَا يُقَوَّمُ ؟ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا بِالْأَدْنَى اعْتِبَارًا بِعُمُومِ الظَّاهِرِ ، وَالثَّانِي بِالْأَعْلَى فِي الْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ لِلشُّبْهَةِ : نَقَلَ ذَلِكَ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ وَاسْتَحْسَنَهُ وَأَطْلَقَ الدَّارِمِيُّ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْأَدْنَى ، وَلَا يُشْتَرَطُ عِلْمُ السَّارِقِ بُلُوغَ مَا سَرَقَهُ نِصَابًا .
وَلَوْ سَرَقَ دَنَانِيرَ ظَنَّهَا فُلُوسًا لَا تُسَاوِي رُبُعًا قُطِعَ ، وَكَذَا ثَوْبٌ رَثٌّ فِي جَيْبِهِ تَمَامُ رُبُعٍ جَهِلَهُ فِي الْأَصَحِّ .
( وَ ) حِينَئِذٍ ( لَوْ سَرَقَ دَنَانِيرَ ظَنَّهَا فُلُوسًا لَا تُسَاوِي ) أَيْ لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهَا ( رُبُعًا ) مِنْ دِينَارٍ ( قُطِعَ ) لِأَنَّهُ قَصَدَ سَرِقَةَ عَيْنِهَا وَهِيَ تُسَاوِي رُبُعًا ، وَلِوُجُودِ الِاسْمِ ، وَلَا عِبْرَةَ بِالظَّنِّ الْبَيِّنِ خَطَؤُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ سَرَقَ مِنْ دَارٍ وَهُوَ يَظُنُّهَا لَهُ وَالْمَالُ مِلْكُهُ فَبَانَ خِلَافُهُ فَإِنَّهُ لَا قَطْعَ كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَرَجَّحَهُ ، فَهَلَّا أُلْحِقَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ بِمَا فِي الْمَتْنِ كَمَا قَالَ بِهِ فِي التَّهْذِيبِ ؟ .
أُجِيبَ أَنَّ ظَنَّ الْمِلْكِ شُبْهَةٌ وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِهَا ، بِخِلَافِ الْفُلُوسِ فَإِنَّهُ قَصَدَ السَّرِقَةَ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ سَرَقَ فُلُوسًا ظَنَّهَا دَنَانِيرَ ، وَلَوْ لَمْ تَبْلُغْ قِيمَةُ الْفُلُوسِ نِصَابًا فَإِنَّهُ لَا قَطْعَ جَرْيًا مَعَ الِاسْمِ وُجُودًا وَعَدَمًا ( وَكَذَا ثَوْبٌ رَثٌّ ) بِمُثَلَّثَةٍ فِيهِمَا قِيمَتُهُ دُونَ رُبُعٍ ( فِي جَيْبِهِ تَمَامُ رُبُعٍ جَهِلَهُ ) السَّارِقُ يُقْطَعُ بِهِ ( فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ نِصَابًا مِنْ حِرْزٍ عَلَى قَصْدِ السَّرِقَةِ ، وَالْجَهْلُ بِجِنْسِ الْمَسْرُوقِ لَا يُؤَثِّرُ كَالْجَهْلِ بِصِفَتِهِ ، وَالثَّانِي لَا يُقْطَعُ نَظَرًا إلَى الْجَهْلِ .
وَلَوْ أَخْرَجَ نِصَابًا مِنْ حِرْزٍ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ تَخَلَّلَ عِلْمُ الْمَالِكِ وَإِعَادَةُ الْحِرْزِ فَالْإِخْرَاجُ الثَّانِي سَرِقَةٌ أُخْرَى ، وَإِلَّا قُطِعَ فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَوْ أَخْرَجَ نِصَابًا مِنْ حِرْزٍ ) فِي ( مَرَّتَيْنِ ) مَثَلًا كُلٌّ مِنْهُمَا دُونَ نِصَابٍ بِأَنْ أَخْرَجَ مَرَّةً بَعْضَهُ وَمَرَّةً بَاقِيَهُ ( فَإِنْ تَخَلَّلَ ) بَيْنَهُمَا ( عِلْمُ الْمَالِكِ وَإِعَادَةُ الْحِرْزِ ) بِأَنْ أَعَادَهُ الْمَالِكُ بِنَفْسِهِ أَوْ مَأْذُونِهِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَةِ الرَّوْضَةِ بِإِغْلَاقِ بَابِهِ أَوْ سَدِّ نَقْبِهِ أَوْ نَحْوِهِ ( فَالْإِخْرَاجُ الثَّانِي سَرِقَةٌ أُخْرَى ) فَلَا قَطْعَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الْأُخْرَى وَلَمْ تَبْلُغْ نِصَابًا ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يَتَخَلَّلْ عِلْمُ الْمَالِكِ وَلَمْ يَعْدُ الْحِرْزَ بِأَنْ انْتَفَيَا ( قُطِعَ فِي الْأَصَحِّ ) وَإِنْ اُشْتُهِرَ هَتْكُ الْحِرْزُ خِلَافًا لِلْبُلْقِينِيِّ ؛ إبْقَاءً لِلْحِرْزِ بِالنِّسْبَةِ لِلْآخِذِ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ نِصَابًا كَامِلًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ فَأَشْبَهَ مَا إذَا أَخْرَجَهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الشَّخْصِ يَنْبَنِي عَلَى فِعْلِهِ ، وَلِهَذَا لَوْ جَرَحَ شَخْصًا ثُمَّ قَتَلَهُ دَخَلَ الْأَرْشُ فِي دِيَةِ النَّفْسِ ، وَلَوْ جُرِحَ وَاحِدٌ وَقُتِلَ آخَرُ لَمْ يَدْخُلْ .
وَالثَّانِي لَا قَطْعَ لِأَنَّهُ أَخَذَ النِّصَابَ مِنْ حِرْزٍ مَهْتُوكٍ .
وَالثَّالِثُ إنْ اُشْتُهِرَ هَتْكُ الْحِرْزِ بَيْنَ الْمَرَّتَيْنِ لَمْ يُقْطَعْ ، وَإِلَّا قُطِعَ ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ الْمَالِكُ وَأَعَادَ الْحِرْزَ غَيْرُهُ أَوْ عَلِمَ وَلَمْ يُعِدْهُ قُطِعَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْمَتْنِ ، إذْ الْمَسْأَلَتَانِ دَاخِلَتَانِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ : وَإِلَّا ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا أَدْخَلْتهمَا .
قُلْت : إنَّمَا أَخَّرْتهمَا تَبَعًا لِلزَّرْكَشِيِّ لِاخْتِصَاصِ الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ بِالصُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَاعْتَمَدَ الْبُلْقِينِيُّ فِيهِمَا عَدَمَ الْقَطْعِ وَرَأَى الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ الْقَطْعَ فِي الثَّانِيَةِ وَفِي الثَّالِثَةِ عَدَمَ الْقَطْعِ أَيْضًا .
تَنْبِيهٌ : نَاقَشَ الرَّافِعِيُّ الْوَجِيزَ فِي إيرَادِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُنَا .
وَقَالَ : لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالنِّصَابِ فَإِنَّ النَّظَرَ فِيهَا إلَى كَيْفِيَّةِ الْإِحْرَاجِ فَإِيرَادُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَلْيَقُ ، ثُمَّ
خَالَفَ فِي الْمُحَرَّرِ فَذَكَرَهَا وَالْأَلْيَقُ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ : وَلَوْ نَقَّبَ وَعَادَ فِي لَيْلَةٍ أُخْرَى فَسَرَقَ قُطِعَ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي السَّرِقَةِ أَخْذُ السَّارِقِ النِّصَابَ بِيَدِهِ مِنْ الْحِرْزِ .
وَلَوْ نَقَّبَ وِعَاءَ حِنْطَةٍ وَنَحْوِهَا فَانْصَبَّ نِصَابٌ قُطِعَ فِي الْأَصَحِّ .
( وَ ) حِينَئِذٍ ( لَوْ نَقَّبَ وِعَاءَ ) أَيْ طَرَفَ ( حِنْطَةٍ وَنَحْوِهَا ) كَوِعَاءِ زَيْتٍ ( فَانْصَبَّ نِصَابٌ ) أَيْ : شَيْءٌ مُقَوَّمٌ بِرُبُعِ دِينَارٍ ( قُطِعَ ) بِهِ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ ، وَالثَّانِي لَا قَطْعَ لِأَنَّهُ خَرَجَ بِسَبَبِهِ ، وَالسَّبَبُ ضَعِيفٌ لَا يُقْطَعُ بِهِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا انْصَبَّ النِّصَابُ عَلَى التَّدْرِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ ، فَإِنْ انْصَبَّ دَفْعَةً قُطِعَ قَطْعًا وَمِنْ صُوَرِ مَسْأَلَةِ الْمَتْنِ طَرُّ الْجَيْبِ وَالْكُمِّ ، وَيُلْغَزُ بِذَلِكَ ، وَيُقَالُ لَنَا شَخْصٌ قُطِعَ بِسَرِقَةٍ وَلَمْ يَدْخُلْ حِرْزًا وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ مَالًا ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي السَّارِقِ الِاتِّحَادُ .
وَلَوْ اشْتَرَكَا فِي إخْرَاجِ نِصَابَيْنِ قُطِعَا ، وَإِلَّا فَلَا .
( وَ ) حِينَئِذٍ ( لَوْ اشْتَرَكَا ) أَيْ سَارِقَانِ مُكَلَّفَانِ ( فِي إخْرَاجِ نِصَابَيْنِ ) فَأَكْثَرَ مِنْ حِرْزٍ ( قُطِعَا ) ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَرَقَ نِصَابًا ، وَقَيَّدَهُ الْقَمُولِيُّ بِمَا إذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُطِيقُ حَمْلَ مَا يُسَاوِي نِصَابًا .
أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يُطِيقُ ذَلِكَ وَالْآخَرُ يُطِيقُ حَمْلَ مَا فَوْقَهُ فَلَا يُقْطَعُ الْأَوَّلُ ، وَالظَّاهِرُ الْقَطْعُ كَمَا أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي إخْرَاجِ نِصَابَيْنِ فَلَا نَظَرَ إلَى ضَعْفِهِ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ كَانَ الْمُخْرَجُ أَقَلَّ مِنْ نِصَابَيْنِ ( فَلَا ) قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَسْرِقْ نِصَابًا ، وَخَرَجَ بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِخْرَاجِ مَا لَوْ تَمَيَّزَا فِيهِ فَيُقْطَعُ مَنْ مَسْرُوقُهُ نِصَابٌ دُونَ مَنْ مَسْرُوقُهُ أَقَلُّ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَا إذَا كَانَا مُسْتَقِلِّينَ ، فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ تَبَعًا لِلْأَذْرَعِيِّ : فَالظَّاهِرُ قَطْعُ الْمُكَلَّفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُخْرَجُ نِصَابًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَالْآلَةِ لَهُ ا هـ .
وَيُؤْخَذُ مِنْ التَّعْلِيلِ أَنَّ مَحَلَّهُ إذَا أَذِنَ لَهُ الْمُكَلَّفُ .
وَلَوْ سَرَقَ خَمْرًا وَخِنْزِيرًا وَكَلْبًا وَجِلْدَ مَيِّتَةٍ بِلَا دَبْغٍ فَلَا قَطْعَ ، فَإِنْ بَلَغَ إنَاءُ الْخَمْرِ نِصَابًا قُطِعَ عَلَى الصَّحِيحِ .
وَيُشْتَرَطُ فِي الْمَسْرُوقِ كَوْنُهُ مُحْتَرَمًا ( وَ ) حِينَئِذٍ ( لَوْ سَرَقَ ) أَيْ : أَخْرَجَ ، وَلَوْ عَبَّرَ بِهِ كَانَ أَوْلَى مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ ( خَمْرًا ) وَلَوْ مُحْتَرَمَةً ( وَخِنْزِيرًا وَكَلْبًا ) وَلَوْ مُقْتَنَى ( وَجِلْدَ مَيِّتَةٍ بِلَا دَبْغٍ فَلَا قَطْعَ ) لِأَنَّ مَا ذُكِرَ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ : بِلَا دَبْغٍ الْمَدْبُوغُ فَيُقْطَعُ بِهِ حَتَّى لَوْ دَبَغَهُ السَّارِقُ فِي الْحِرْزِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ وَهُوَ يُسَاوِي نِصَابَ سَرِقَةٍ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِهِ إذَا قُلْنَا : بِأَنَّهُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا دَبَغَهُ الْغَاصِبُ وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ وَمِثْلُهُ مَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : إذَا صَارَ الْخَمْرُ خَلًّا بَعْدَ وَضْعِ السَّارِقِ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَبْلَ إخْرَاجِهِ مِنْ الْحِرْزِ ( فَإِنْ بَلَغَ إنَاءُ الْخَمْرِ نِصَابًا قُطِعَ ) بِهِ ( عَلَى الصَّحِيحِ ) لِأَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ كَمَا إذَا سَرَقَ إنَاءً فِيهِ بَوْلٌ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِاتِّفَاقٍ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَالثَّانِي الْمَنْعُ لِأَنَّ مَا فِيهِ مُسْتَحِقُّ الْإِرَاقَةِ فَيَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَفْعِهِ ، وَقَضِيَّةُ هَذِهِ الْعِلَّةِ أَنَّ الْخَمْرَ لَوْ كَانَتْ مُحْتَرَمَةً أَنَّهُ يُقْطَعُ قَطْعًا لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَحَقَّةِ الْإِرَاقَةِ ، وَأَنَّهُ لَوْ أَرَاقَ الْخَمْرَ فِي الْحِرْزِ ثُمَّ خَرَجَ بِالْإِنَاءِ أَنَّهُ يُقْطَعُ قَطْعًا ، وَأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِذِمِّيٍّ وَلَمْ يُظْهِرْ شُرْبَهَا وَلَا بَيْعَهَا أَنَّهُ يُقْطَعُ قَطْعًا ، فَإِنْ أَظْهَر ذَلِكَ جَاءَ الْخِلَافُ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ أَيْضًا إذَا قَصَدَ بِإِخْرَاجِ ذَلِكَ السَّرِقَةَ .
أَمَّا لَوْ قَصَدَ تَغْيِيرَهَا بِدُخُولِهِ أَوْ بِإِخْرَاجِهَا فَلَا قَطْعَ قَطْعًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الثَّانِيَةِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ وَاقْتَضَاهُ كَلَامُهُ فِي الْأُولَى ، وَسَوَاءٌ أَخْرَجَهَا فِي الْأُولَى أَوْ دَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ بِقَصْدِ السَّرِقَةِ أَمْ لَا كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الرَّوْضِ فِيهِمَا وَكَلَامِ أَصْلِهِ فِي الثَّانِيَةِ .
وَلَا قَطْعَ فِي طُنْبُورٍ وَنَحْوِهِ ، وَقِيلَ : إنْ بَلَغَ مُكَسَّرُهُ نِصَابًا قُطِعَ .
قُلْت : الثَّانِي أَصَحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَلَا قَطْعَ ) فِي أَخْذِ مَا سَلَّطَ الشَّرْعُ عَلَى كَسْرِهِ كَمَا ( فِي طُنْبُورٍ ) بِضَمِّ الطَّاءِ ، وَيُقَالُ فِيهِ أَيْضًا طِنْبَارٌ : فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ ( وَنَحْوِهِ ) كَمِزْمَارٍ وَصَنَمٍ وَصَلِيبٍ ، لِأَنَّ التَّوَصُّلَ إلَى إزَالَةِ الْمَعْصِيَةِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَصَارَ شُبْهَةً كَإِرَاقَةِ الْخَمْرِ ( وَقِيلَ : إنْ بَلَغَ مُكَسَّرُهُ نِصَابًا قُطِعَ ) لِأَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ حِرْزِهِ ( قُلْت ) هَذَا ( الثَّانِي أَصَحُّ ) عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) .
وَيَشْهَدُ لَهُ جَزْمُ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ فِيمَا إذَا سَرَقَ مَا لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ الْكُتُبِ أَنَّهُ يُقْطَعُ إذَا كَانَ الْجِلْدُ وَالْقِرْطَاسُ يَبْلُغُ نِصَابًا .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا لَمْ يَقْصِدْ التَّغْيِيرَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ ، فَإِنْ قَصَدَ بِإِخْرَاجِهِ تَيْسِيرَ تَغْيِيرٍ فَلَا قَطْعَ قَطْعًا ، وَمَا إذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ فَإِنْ كَانَ لِذِمِّيٍّ قُطِعَ قَطْعًا ، وَيُقْطَعُ بِسَرِقَةِ إنَاءِ النَّقْدِ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إلَّا إنْ أَخْرَجَهُ مِنْ الْحِرْزِ لِيُشْهِرَهُ بِالْكَسْرِ ، وَلَوْ كَسَرَ إنَاءَ الْخَمْرِ أَوْ الطُّنْبُورِ وَنَحْوَهُ أَوْ إنَاءَ النَّقْدِ فِي الْحِرْزِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ قُطِعَ إنْ بَلَغَ نِصَابًا كَحُكْمِ الصَّحِيحِ .
الثَّانِي كَوْنُهُ مِلْكًا لِغَيْرِهِ .
( الثَّانِي ) مِنْ شُرُوطِ الْمَسْرُوقِ ( كَونه مِلْكًا لِغَيْرِهِ ) أَيْ : السَّارِقِ فَلَا يُقْطَعُ لِسَرِقَةِ مَالِهِ الَّذِي بِيَدِ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مَرْهُونًا أَوْ مُؤَجَّرًا ، وَلَوْ سَرَقَ مَا اشْتَرَاهُ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ وَلَوْ قَبْلَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ أَوْ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ أَوْ سَرَقَ مَا اُتُّهِبَ لَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ لَمْ يُقْطَعْ فِيهِمَا ، وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةِ وَارِدَةٌ عَلَى قَوْلِهِ مِلْكًا لِغَيْرِهِ وَعَدَمِ الْقَطْعِ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ ، وَلَوْ سَرَقَ مَعَ مَا اشْتَرَاهُ مَالًا آخَرَ بَعْدَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ لَمْ يُقْطَعْ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ ، وَلَوْ سَرَقَ الْمُوصَى لَهُ بِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ بَعْدَهُ وَقَبْلَ الْقَبُولِ قُطِعَ فِي الصُّورَتَيْنِ .
أَمَّا الْأُولَى فَلِأَنَّ الْقَبُولَ لَمْ يَقْتَرِنْ ، بِالْوَصِيَّةِ ، وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا لَا يَحْصُلُ بِالْمَوْتِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ مَرَّ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِالْهِبَةِ بَعْدَ الْقَبُولِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ مُقَصِّرٌ بِعَدَمِ الْقَبُولِ مَعَ تُمَكِّنهُ مِنْهُ بِخِلَافِهِ فِي الْهِبَةِ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَبْضِ ، وَأَيْضًا الْقَبُولُ وُجِدَ ثَمَّ ، وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا ، وَلَوْ سَرَقَ الْمُوصَى بِهِ فَقِيرٌ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَالْوَصِيَّةُ لِلْفُقَرَاءِ لَمْ يُقْطَعْ كَسَرِقَةِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بِخِلَافِ مَا لَوْ سَرَقَهُ الْغَنِيُّ .
فَلَوْ مَلَكَهُ بِإِرْثٍ وَغَيْرِهِ قَبْلَ إخْرَاجِهِ مِنْ الْحِرْزِ ، أَوْ نَقَصَ فِيهِ عَنْ نِصَابٍ بِأَكْلٍ وَغَيْرِهِ لَمْ يُقْطَعْ .
تَنْبِيهٌ : أَرَادَ الْمُصَنِّفُ كَوْنَ الْمَسْرُوقِ مِلْكَ غَيْرِهِ حَالَةَ أَخْرَجَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ( فَلَوْ مَلَكَهُ ) أَيْ الْمَسْرُوقَ أَوْ بَعْضَهُ ( بِإِرْثٍ وَغَيْرِهِ ) كَشِرَاءٍ ( قَبْلَ إخْرَاجِهِ مِنْ الْحِرْزِ ، أَوْ ) لَمْ يَمْلِكْهُ وَلَكِنْ ( نَقَصَ فِيهِ ) أَيْ : الْحِرْزِ ( عَنْ نِصَابٍ بِأَكْلٍ ) لِبَعْضِهِ ( وَغَيْرِهِ ) كَإِحْرَاقٍ ( لَمْ يُقْطَعْ ) أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِأَنَّهُ مَا أَخْرَجَ إلَّا مِلْكَهُ .
وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ مِنْ الْحِرْزِ نِصَابًا ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ قَبْلَ إخْرَاجِهِ عَمَّا لَوْ طَرَأَ ذَلِكَ بَعْدَهُ فَإِنَّ الْقَطْعَ لَا يَسْقُطُ ، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُوبَةِ بِحَالِ الْجِنَايَةِ ، نَعَمْ لَوْ طَرَأَ الْمِلْكُ بَعْدَهُ وَقَبْلَ الرَّفْعِ إلَى الْحَاكِمِ لَمْ يُقْطَعْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقَطْعِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّعْوَى بِالْمَسْرُوقِ وَالْمُطَالَبَةِ بِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا سَيَأْتِي .
تَنْبِيهٌ : كَانَ الْأَوْلَى ذِكْرَ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ ، وَكَانَ الْمُقْتَضِي لِذِكْرِهَا هُنَا مُشَارَكَتَهَا لِمَا قَبْلَهَا فِي النَّظَرِ بِحَالَةِ الْإِخْرَاجِ .
وَكَذَا إنْ ادَّعَى مِلْكَهُ عَلَى النَّصِّ .
( وَكَذَا ) لَا يُقْطَعُ السَّارِقُ ( إنْ ادَّعَى مِلْكَهُ ) أَيْ الْمَسْرُوقَ أَوْ مِلْكَ بَعْضِهِ ( عَلَى النَّصِّ ) وَلَمْ يُسْنَدْ الْمِلْكُ إلَى مَا بَعْدَ السَّرِقَةِ وَبَعْدَ الرَّفْعِ إلَى الْحَاكِمِ وَثَبَتَتْ السَّرِقَةُ بِالْبَيِّنَةِ لِاحْتِمَالِ صِدْقِهِ فَصَارَ شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْقَطْعِ ، وَيُرْوَى عَنْ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمَّاهُ السَّارِقَ الظَّرِيفَ أَيْ : الْفَقِيهَ ، وَفِي وَجْهٍ أَوْ قَوْلٍ مُخَرَّجٍ يُقْطَعُ لِئَلَّا يَتَّخِذَ النَّاسُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً لِدَفْعِ الْحَدِّ ، وَحُمِلَ النَّصُّ عَلَى مَا إذَا أَقَامَ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي دَعْوَى مِلْكِ الْحِرْزِ أَوْ مَالِكِ السَّرِقَةِ إذَا كَانَ مَجْهُولَ النَّسَبِ ، أَوْ أَنَّهُ أَخَذَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ ، أَوْ أَنَّهُ أَخَذَهُ وَهُوَ دُونَ نِصَابٍ ، أَوْ أَنَّهُ مِلْكُ أَبِيهِ أَوْ مِلْكُ سَيِّدِهِ ، أَوْ كَانَ الْحِرْزُ مَفْتُوحًا ، أَوْ كَانَ صَاحِبُهُ مُعْرِضًا عَنْ الْمُلَاحَظَةِ ، أَوْ كَانَ نَائِمًا ، وَخَرَجَ بِدَعْوَى الْمِلْكِ مَا لَوْ ادَّعَى عَدَمَ السَّرِقَةِ ، وَقَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَا يَسْقُطُ الْقَطْعُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ كَجٍّ ، وَإِنَّمَا قُبِلَتْ دَعْوَى الْمِلْكِ فِي مُقَابَلَةِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا تَكْذِيبُ الْبَيِّنَةِ بِخِلَافِ نَفْيِ السَّرِقَةِ .
تَنْبِيهٌ : هَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَطْعِ .
أَمَّا الْمَالُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ أَوْ يَمِينٍ مَرْدُودَةٍ ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ .
وَلَوْ أَقَرَّ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ أَنَّ الْمَالَ الْمَسْرُوقَ مِلْكٌ لِلسَّارِقِ ، لَمْ يُقْطَعْ وَإِنْ كَذَّبَهُ السَّارِقُ ، وَلَوْ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالِ رَجُلٍ فَأَنْكَرَ الْمُقِرُّ لَهُ وَلَمْ يَدَّعِهِ لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ يُتْرَكُ فِي يَدِهِ كَمَا مَرَّ فِي الْإِقْرَارِ .
وَلَوْ سَرَقَا وَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا لَهُ أَوْ لَهُمَا فَكَذَّبَهُ الْآخَرُ لَمْ يُقْطَعْ الْمُدَّعِي ، وَقُطِعَ الْآخَرُ فِي الْأَصَحِّ .
( وَ ) عَلَى النَّصِّ ( لَوْ سَرَقَا ) أَيْ اثْنَانِ مَالًا نِصَابَيْنِ فَأَكْثَرَ ( وَادَّعَاهُ ) أَيْ الْمَسْرُوقَ ( أَحَدُهُمَا لَهُ أَوْ لَهُمَا فَكَذَّبَهُ الْآخَرُ لَمْ يُقْطَعْ الْمُدَّعِي ) لِمَا مَرَّ ( وَقُطِعَ الْآخَرُ فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ نِصَابٍ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ ، وَالثَّانِي لَا يُقْطَعُ الْمُكَذِّبُ لِدَعْوَى رَفِيقِهِ الْمِلْكَ لَهُ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَوْ صَدَّقَهُ لَمْ يُقْطَعْ كَالْمُدَّعِي ، وَبِهِ صَرَّحَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ سَكَتَ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ ، أَوْ قَالَ : لَا أَدْرِي أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ وَهُوَ كَذَلِكَ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ .
وَإِنْ سَرَقَ مِنْ حِرْزِ شَرِيكِهِ مُشْتَرَكًا فَلَا قَطْعَ فِي الْأَظْهَرِ ، وَإِنْ قَلَّ نَصِيبُهُ .
( وَإِنْ سَرَقَ مِنْ حِرْزِ شَرِيكِهِ ) مَالًا ( مُشْتَرَكًا ) بَيْنَهُمَا ( فَلَا قَطْعَ ) بِهِ ( فِي الْأَظْهَرِ وَإِنْ قَلَّ نَصِيبُهُ ) لِأَنَّ لَهُ فِي كُلِّ جُزْءٍ حَقًّا شَائِعًا وَذَلِكَ شُبْهَةٌ فَأَشْبَهَ وَطْءَ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ ، وَالثَّانِي يُقْطَعُ إذْ لَا حَقَّ لَهُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا خَلَصَ لَهُ مِنْ مَالِ شَرِيكِهِ نِصَابُ السَّرِقَةِ ، وَإِلَّا لَمْ يُقْطَعْ قَطْعًا ، وَقَضِيَّةُ قَوْلِهِ مُشْتَرَكًا أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ مِنْ مَالِ شَرِيكِهِ الَّذِي لَيْسَ بِمُشْتَرَكٍ أَنَّهُ يُقْطَعُ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا اخْتَلَفَ حِرْزُهُمَا وَإِلَّا فَلَا .
قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ : وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يُحْمَلُ إطْلَاقُ الْقَفَّالِ الْقَطْعَ .
الثَّالِثُ عَدَمُ شُبْهَةٍ فِيهِ ، فَلَا قَطْعَ بِسَرِقَةِ مَالِ أَصْلٍ وَفَرْعٍ وَسَيِّدٍ .
( الثَّالِثُ ) مِنْ شُرُوطِ الْمَسْرُوقِ ( عَدَمُ شُبْهَةٍ فِيهِ ) لِحَدِيثِ { ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } صَحَّحَ الْحَاكِمُ إسْنَادَهُ ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ شُبْهَةُ الْمِلْكِ كَمَنْ سَرَقَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَمَا مَرَّ ، أَوْ شُبْهَةُ الْفَاعِلِ كَمَنْس أَخَذَ مَالًا عَلَى صُورَةِ السَّرِقَةِ يَظُنُّ أَنَّهُ مِلْكُهُ أَوْ مِلْكُ أَصْلَهُ أَوْ فَرْعِهِ أَوْ شُبْهَةُ الْمَحَلِّ كَسَرِقَةِ الِابْنِ مَالَ أُصُولِهِ ، أَوْ أَحَدِ الْأُصُولِ مَالَ فَرْعِهِ كَمَا قَالَ ( فَلَا قَطْعَ بِسَرِقَةِ مَالِ أَصْلٍ ) لِلسَّارِقِ وَإِنْ عَلَا ( وَفَرْعٍ ) لَهُ وَإِنْ سَفَلَ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الِاتِّحَادِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ دِيَتُهُمَا كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَلِأَنَّ مَالَ كُلٍّ مِنْهُمَا مَرْصَدٌ لِحَاجَةِ الْآخَرِ ، وَمِنْهَا أَنْ لَا تُقْطَعَ يَدُهُ بِسَرِقَةِ ذَلِكَ الْمَالِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَقَارِبِ ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ السَّارِقُ مِنْهُمَا حُرًّا أَوْ عَبْدًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الزَّرْكَشِيُّ تَفَقُّهًا مُؤَيِّدًا لَهُ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّهُ وَطِئَ لَوْ الرَّقِيقُ أَمَةَ فَرْعِهِ لَمْ يُحَدَّ لِلشُّبْهَةِ ( وَ ) لَا قَطْعَ أَيْضًا بِسَرِقَةِ رَقِيقٍ مَالِ ( سَيِّدٍ ) لَهُ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَلِشُبْهَةِ اسْتِحْقَاقِ الْمَنْفَعَةِ ، وَيَدُهُ كَيَدِ سَيِّدِهِ ، وَالْمُبَعَّضُ كَالْقِنِّ ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَعْجِزُ فَيَصِيرُ كَمَا كَانَ .
قَاعِدَةٌ : مَنْ لَا يُقْطَعُ بِمَالٍ لَا يُقْطَعُ بِهِ رَقِيقُهُ ، فَكَمَا لَا يُقْطَعُ الْأَصْلُ بِسَرِقَةِ مَالِ الْفَرْعِ وَبِالْعَكْسِ لَا يُقْطَعُ رَقِيقُ أَحَدِهِمَا بِسَرِقَةِ مَالِ الْآخَرِ ، وَلَا يُقْطَعُ السَّيِّدُ بِسَرِقَةِ مَالِ مُكَاتَبِهِ ، وَلَا بِمَالِ مَا مَلَكَهُ الْمُبَعَّضُ بِبَعْضِهِ الْحُرِّ كَمَا جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُمَا ؛ لِأَنَّ مَا مَلَكَهُ بِالْحُرِّيَّةِ فِي الْحَقِيقَةِ لِجَمِيعِ بَدَنِهِ فَصَارَ شُبْهَةً .
وَقِيلَ يُقْطَعُ بِهِ كَمَالِ الشَّرِيكِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ، وَيُحَدُّ زَانٍ بِأَمَةِ سَيِّدِهِ ، إذْ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِي
بُضْعِهَا .
فُرُوعٌ : لَوْ سَرَقَ طَعَامًا زَمَنَ الْقَحْطِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ لَمْ يُقْطَعْ ، وَكَذَا مَنْ أُذِنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ إلَى دَارٍ أَوْ حَانُوتٍ لِشِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ فَسَرَقَ كَمَا رَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي ، وَيُقْطَعُ بِسَرِقَةِ حَطَبٍ وَحَشِيشٍ وَنَحْوِهِمَا كَصَيْدٍ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ ، وَلَا أَثَرَ لِكَوْنِهَا مُبَاحَةَ الْأَصْلِ .
وَيُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مُعَرَّضٍ لِلتَّلَفِ كَهَرِيسَةٍ وَفَوَاكِهَ ، وَبُقُولٍ كَذَلِكَ ، وَبِمَاءٍ وَتُرَابٍ وَمُصْحَفٍ وَكُتُبِ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ، وَكُتُبِ شِعْرٍ نَافِعٍ مُبَاحٍ لِمَا مَرَّ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَافِعًا مُبَاحًا قُوِّمَ الْوَرَقُ وَالْجِلْدُ ، فَإِنْ بَلَغَا نِصَابًا قُطِعَ وَإِلَّا فَلَا .
وَلَوْ قُطِعَ بِسَرِقَةِ عَيْنٍ ثُمَّ سَرَقَهَا ثَانِيًا مِنْ مَالِكِهَا الْأَوَّلِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ قُطِعَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ عُقُوبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ فِي عَيْنٍ فَتَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ ، كَمَا لَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَحُدَّ ثُمَّ زَنَى بِهَا ثَانِيًا .
وَلَوْ سَرَقَ مَالَ غَرِيمِهِ الْجَاحِدِ لِدَيْنِهِ الْحَالِّ أَوْ الْمُمَاطِلِ وَأَخَذَهُ بِقَصْدِ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مَأْذُونٌ لَهُ فِي أَخْذِهِ وَإِلَّا قُطِعَ ، وَغَيْرُ جِنْسِ حَقِّهِ كَجِنْسِ حَقِّهِ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يُقْطَعُ بِزَائِدٍ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِ أَخَذَهُ مَعَهُ وَإِنْ بَلَغَ الزَّائِدُ نِصَابًا وَهُوَ مُسْتَقِلٌّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الدُّخُولِ وَالْأَخْذِ لَمْ يَبْقَ الْمَالُ مُحَرَّزًا عَنْهُ .
وَالْأَظْهَرُ قَطْعُ أَحَدِ زَوْجَيْنِ بِالْآخَرِ .
( وَالْأَظْهَرُ قَطْعُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ بِالْآخَرِ ) أَيْ بِسَرِقَةِ مَالِهِ الْمُحَرَّزِ عَنْهُ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْأَخْبَارِ ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عُقِدَ عَلَى مَنْفَعَةٍ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي دَرْءِ الْحَدِّ كَالْإِجَارَةِ لَا يَسْقُطُ بِهَا الْحَدُّ عَنْ الْأَجِيرِ أَوْ الْمُسْتَأْجِرِ إذَا سَرَقَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ ، وَيُفَارِقُ الْعَبْدُ الزَّوْجَةَ بِأَنَّ مُؤْنَتَهَا عَلَى الزَّوْجِ عِوَضٌ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَنَحْوِهِ ، بِخِلَافِ مُؤْنَةِ الْعَبْدِ .
وَالثَّانِي لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلشُّبْهَةِ فَإِنَّهَا تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ وَهُوَ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهَا .
وَالثَّالِثُ يُقْطَعُ الزَّوْجُ دُونَهَا ؛ لِأَنَّ لَهَا حُقُوقًا فِي مَالِهِ بِخِلَافِهِ وَمَالَ إلَيْهِ الْأَذْرَعِيُّ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الزَّوْجَةُ إذَا لَمْ تَسْتَحِقَّ عَلَى الزَّوْجِ شَيْئًا حِين السَّرِقَةِ .
أَمَّا إذَا كَانَتْ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ .
قَالَ فِي الْمَطْلَبِ : فَالْمُتَّجَهُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ إذَا أَخَذْتَ بِقَصْدِ الِاسْتِيفَاءِ كَمَا فِي حَقِّ رَبِّ الدَّيْنِ الْحَالِّ إذَا سَرَقَ نِصَابًا مِنْ الْمَدْيُونِ ا هـ .
وَمَحَلُّهُ أَخْذًا مِمَّا مَرَّ أَنْ يَكُونَ جَاحِدًا أَوْ مُمَاطِلًا ، وَقَدْ يُقَالُ : لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا إذْ الْكَلَامُ فِي السَّرِقَةِ وَالْأَخْذِ بِقَصْدِ الِاسْتِيفَاءِ لَيْسَ بِسَرِقَةٍ .
أَمَّا لَوْ كَانَ الْمَالُ فِي مَسْكَنِهِمَا بِلَا إحْرَازٍ فَلَا قَطْعَ قَطْعًا .
وَمَنْ سَرَقَ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ ، إنْ فُرِزَ لِطَائِفَةٍ لَيْسَ هُوَ مِنْهُمْ قُطِعَ ، وَإِلَّا فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ فِي الْمَسْرُوقِ كَمَالِ مَصَالِحَ وَكَصَدَقَةٍ وَهُوَ فَقِيرٌ فَلَا ، وَإِلَّا قُطِعَ .
( وَمَنْ سَرَقَ ) وَهُوَ مُسْلِمٌ ( مَالَ بَيْتِ الْمَالِ ، إنْ فُرِزَ ) بِفَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَرَاءٍ مُهْمَلَةٍ خَفِيفَةٍ مَكْسُورَةٍ وَزَايٍ مُعْجَمَةٍ ( لِطَائِفَةٍ ) كَذَوِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينِ وَكَانَ مِنْهُمْ أَوْ أَصْلُهُ أَوْ فَرْعُهُ فَلَا قَطْعَ ، أَوْ فُرِزَ لِطَائِفَةٍ ( لَيْسَ هُوَ مِنْهُمْ قُطِعَ ) إذْ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يُفْرَزْ لِطَائِفَةٍ ( فَلَا ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ فِي الْمَسْرُوقِ كَمَالِ مَصَالِحَ ) بِالنِّسْبَةِ لِمُسْلِمٍ فَقِيرٍ جَزْمًا ، أَوْ غَنِيٍّ عَلَى الْأَصَحِّ ( وَكَصَدَقَةٍ وَهُوَ فَقِيرٌ ) أَوْ غَارِمٌ لِذَاتِ الْبَيْنِ ، أَوْ غَازٍ ( فَلَا ) يُقْطَعُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ .
أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِأَنَّ لَهُ حَقًّا وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا كَمَا مَرَّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُصْرَفُ فِي عِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ وَالرِّبَاطَاتِ وَالْقَنَاطِرِ فَيَنْتَفِعُ بِهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِهِمْ ، فَخِلَافُ الذِّمِّيِّ يُقْطَعُ بِذَلِكَ ، وَلَا نَظَرَ إلَى إنْفَاقِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ لِلضَّرُورَةِ وَبِشَرْطِ الضَّمَانِ ، كَمَا يُنْفِقُ عَلَى الْمُضْطَرِّ بِشَرْطِ الضَّمَانِ وَانْتِفَاعِهِ بِالْقَنَاطِرِ وَالرِّبَاطَاتِ بِالتَّبَعِيَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَاطِنٌ بِدَارِ الْإِسْلَامِ ، لَا لِاخْتِصَاصِهِ بِحَقٍّ فِيهَا .
وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِاسْتِحْقَاقِهِ ، بِخِلَافِ الْغَنِيِّ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ لِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ إلَّا إذَا كَانَ غَازِيًا ، أَوْ غَارِمًا لِذَاتِ الْبَيْنِ فَلَا يُقْطَعُ لِمَا مَرَّ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ ( قُطِعَ ) لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ .
وَالثَّانِي لَا يُقْطَعُ مُطْلَقًا غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا سَرَقَ مَالَ الصَّدَقَةِ أَوْ الْمَصَالِحِ ؛ لِأَنَّهُ مَرْصَدٌ لِلْحَاجَةِ وَالْفَقِيرُ يُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْهُ ، وَالْغَنِيُّ يُعْطِي مِنْهُ مَا يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ حِمَالَةٌ يَتَحَمَّلُهَا .
وَالثَّالِثُ يُقْطَعُ مُطْلَقًا كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ .
تَنْبِيهٌ : مَنْ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ بَيْتِ
الْمَالِ لَا يُقْطَعُ أَصْلُهُ أَوْ فَرْعُهُ أَوْ رَقِيقُهُ بِسَرِقَتِهِ مِنْهُ .
وَخَرَجَ بِبَيْتِ الْمَالِ مَا لَوْ سَرَقَ مُسْتَحِقُّ الزَّكَاةِ مِنْ مَالِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا وَجَبَتْ فِيهِ قُطِعَ ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُ وَكَانَ مُتَعَيِّنًا لِلصَّرْفِ وَقُلْنَا بِالْأَصَحِّ : إنَّهَا تَتَعَلَّقُ تَعَلُّقَ الشَّرِكَةِ فَلَا قَطْعَ كَالْمَالِ الْمُشْتَرَكِ .
وَالْمَذْهَبُ قَطْعُهُ بِبَابِ مَسْجِدٍ وَجِذْعِهِ لَا حُصْرِهِ ، وَقَنَادِيلَ تُسْرَجُ .
قَالَهُ الْبَغَوِيّ وَصَاحِبُ الْكَافِي ( وَالْمَذْهَبُ ) الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ ( قَطْعُهُ ) أَيْ : الْمُسْلِمِ ( بِ ) سَرِقَةِ ( بَابِ مَسْجِدٍ وَجِذْعِهِ ) بِإِعْجَامِ الذَّالِ وَتَأْزِيرِهِ وَسَوَارِيهِ وَسُقُوفِهِ وَقَنَادِيلَ زِينَةٍ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْبَابَ لِلتَّحْصِينِ ، وَالْجِذْعَ وَنَحْوَهُ لِلْعِمَارَةِ ، وَلِعَدَمِ الشُّبْهَةِ فِي الْقَنَادِيلِ ، وَيَلْحَقُ بِهَذَا سِتْرُ الْكَعْبَةِ فَيُقْطَعُ سَارِقُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ إنْ خِيطَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُحْرِزٌ ( لَا ) بِسَرِقَةِ ( حُصْرِهِ ) الْمُعَدَّةِ لِلِاسْتِعْمَالِ وَلَا سَائِرِ مَا يُفْرَشُ فِيهِ ( وَ ) لَا ( قَنَادِيلَ تُسْرَجُ ) لِأَنَّ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُ فِيهِ حَقٌّ كَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَخَرَجَ بِالْمُعَدَّةِ حُصْرُ الزِّينَةِ فَيُقْطَعُ بِهَا كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُلَقَّنِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سِتْرُ الْمِنْبَرِ كَذَلِكَ إنْ خِيطَ عَلَيْهِ .
وَأَنْ يَكُونَ بَلَاطَ الْمَسْجِدِ حُصْرَهُ الْمُعَدَّةَ لِلِاسْتِعْمَالِ .
أَمَّا الذِّمِّيُّ فَيُقْطَعُ بِذَلِكَ قَطْعًا لِعَدَمِ الشُّبْهَةِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ الْعَامِّ .
أَمَّا الْخَاصُّ بِطَائِفَةٍ فَيَخْتَصُّ الْقَطْعُ بِغَيْرِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إذَا خَصَّ الْمَسْجِدَ بِطَائِفَةٍ اخْتَصَّ بِهَا وَهُوَ الرَّاجِحُ .
وَلَوْ سَرَقَ شَخْصٌ الْمُصْحَفَ الْمَوْقُوفَ عَلَى الْقِرَاءَةِ لَمْ يُقْطَعْ إذَا كَانَ قَارِئًا ؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ حَقًّا ، وَكَذَا إنْ كَانَ غَيْرَ قَارِئٍ لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَعَلَّمَ مِنْهُ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : أَوْ يَدْفَعُهُ إلَى مَنْ يَقْرَأُ فِيهِ لِاسْتِمَاعِ الْحَاضِرِينَ .
وَلَوْ سَرَقَ الْخَطِيبُ الْمِنْبَرَ ، أَوْ الْمُؤَذِّنُ الدَّكَّةَ يَنْبَغِي عَدَمُ الْقَطْعِ وَلَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ ، بَلْ يَنْبَغِي عَدَمُ الْقَطْعِ لِغَيْرِهِمَا أَيْضًا ، لِأَنَّ النَّفْعَ لَا يَخْتَصُّ بِهِمَا .
وَالْأَصَحُّ قَطْعُهُ بِمَوْقُوفٍ .
وَلَوْ سَرَقَ بَكْرَةَ بِئْرٍ مُسَبَّلَةً لَمْ يَقْطَعْ كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْبَحْرِ وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى كَلَامِ الرَّوْضَةِ الْقَطْعَ ؛ لِأَنَّهَا لِمَنْفَعَةِ النَّاسِ .
قَالَ صَاحِبُ الْبَحْرِ : وَعِنْدِي أَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهَا أَيْضًا ، لِأَنَّ لَهُ فِيهِ حَقًّا ا هـ .
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِمَا سَيَأْتِي أَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يُقْطَعُ بِالْأَخْذِ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَى الْأُمُورِ الْعَامَّةِ ( وَالْأَصَحُّ قَطْعُهُ بِمَوْقُوفٍ ) عَلَى غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَالُ مُحْرِزٍ ، سَوَاءٌ أَقُلْنَا : الْمِلْكُ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى أَمْ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَوْ لِلْوَاقِفِ .
وَالثَّانِي الْمَنْعُ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَالْمُبَاحَاتِ ، وَإِنْ كَانَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَوْ الْوَاقِفِ فَلِضَعْفِ الْمِلْكِ .
أَمَّا إذَا كَانَ لَهُ فِيهِ اسْتِحْقَاقٌ أَوْ شُبْهَةُ اسْتِحْقَاقٍ كَمَنْ سَرَقَ مَنْ وُقِفَ عَلَى جَمَاعَةٍ هُوَ مِنْهُمْ أَوْ سَرَقَ مِنْهُ أَبُو الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَوْ ابْنُهُ ، أَوْ وُقِفَ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَسَرَقَ فَقِيرٌ فَلَا قَطْعَ قَطْعًا .
قَالَ الرُّويَانِيُّ : وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِالْمَوْقُوفِ عَمَّا لَوْ سَرَقَ مِنْ غَلَّةِ الْمَوْقُوفِ فَيُقْطَعُ قَطْعًا ، وَلَوْ سَرَقَ مَالًا مَوْقُوفًا عَلَى الْجِهَاتِ الْعَامَّةِ أَوْ عَلَى وُجُوهِ الْخَيْرِ لَا يُقْطَعُ وَإِنْ كَانَ السَّارِقُ ذِمِّيًّا ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَلْمُسْلَمِينَ .
وَأُمِّ وَلَدٍ سَرَقَهَا نَائِمَةً ، أَوْ مَجْنُونَةً .
( وَ ) الْأَصَحُّ قَطْعُهُ بِسَرِقَةِ ( أُمِّ وَلَدٍ سَرَقَهَا ) حَالَ كَوْنِهَا ( نَائِمَةً ، أَوْ مَجْنُونَةً ) أَوْ عَمْيَاءَ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ ، أَوْ مُكْرَهَةً كَمَا قَالَهُ فِي الْبَيَانِ ، أَوْ أَعْجَمِيَّةً لَا تُمَيِّزُ بَيْنَ سَيِّدِهَا وَغَيْرِهِ فِي وُجُوبِ طَاعَتِهِ ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْقِيمَةِ كَالْقِنِّ .
وَالثَّانِي لَا لِنُقْصَانِ الْمِلْكِ ، وَخَرَجَ بِمَا ذَكَرَ مَا إذَا كَانَتْ عَاقِلَةً بَصِيرَةً مُسْتَيْقِظَةً فَإِنَّهُ لَا قَطْعَ لِقُدْرَتِهَا عَلَى الِامْتِنَاعِ ، وَمِثْلُ أُمِّ الْوَلَدِ فِيمَا ذُكِرَ وَلَدُهَا الصَّغِيرُ مِنْ زَوْجٍ أَوْ زِنًا ، وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَنْذُورُ إعْتَاقُهُ وَالْمُوصَى بِعِتْقِهِ ، وَلَوْ سَرَقَ عَبْدًا صَغِيرًا ، أَوْ مَجْنُونًا ، أَوْ بَالِغًا أَعْجَمِيًّا لَا يُمَيِّزُ قُطِعَ قَطْعًا إذَا كَانَ مُحَرَّزًا ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْمُصَنِّفُ أُمَّ الْوَلَدِ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْوَجْهَيْنِ وَخَرَجَ بِأُمِّ الْوَلَدِ الْمُكَاتَبُ وَالْمُبَعَّضُ فَلَا قَطْعَ بِسَرِقَتِهِمَا قَطْعًا ؛ لِأَنَّ مَظِنَّةَ الْحُرِّيَّةِ شُبْهَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ الْقَطْعِ .
الرَّابِعُ كَوْنُهُ مُحَرَّزًا بِمُلَاحَظَةِ أَوْ حَصَانَةِ مَوْضِعِهِ ، فَإِنْ كَانَ بِصَحْرَاءَ أَوْ مَسْجِدٍ اُشْتُرِطَ دَوَامُ لِحَاظٍ ، وَإِنْ كَانَ بِحِصْنٍ كَفَى لِحَاظٌ مُعْتَادٌ ، وَإِصْطَبْلٌ حِرْزُ دَوَابَّ ، لَا آنِيَةٍ وَثِيَابٍ ، وَعَرْصَةُ دَارٍ ، وَصُفَّتُهَا حِرْزُ آنِيَةٍ وَثِيَابِ بِذْلَةٍ ، لَا حُلِيٍّ ، وَنَقْدٍ .
( الرَّابِعُ ) مِنْ شُرُوطِ الْمَسْرُوقِ ( كَوْنُهُ مُحَرَّزًا ) بِالْإِجْمَاعِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ فَلَا قَطْعَ بِسَرِقَةِ مَا لَيْسَ مُحَرَّزًا لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد { لَا قَطْعَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَاشِيَةِ إلَّا فِيمَا أَوَاهُ الْمُرَاحُ } وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَعْظُمُ بِمُخَاطَرَةِ أَخَذَهُ مِنْ الْحِرْزِ ، فَحُكِمَ بِالْقَطْعِ زَجْرًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَرَّأَهُ الْمَالِكُ وَمَكَّنَهُ مِنْ تَضْيِيعِهِ ، وَالْإِحْرَازُ يَكُونُ إمَّا ( بِمُلَاحَظَةٍ ) لِلْمَسْرُوقِ ( أَوْ حَصَانَةِ مَوْضِعِهِ ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ : مِنْ التَّحْصِينِ وَهُوَ الْمَنْعُ ، وَالْمُحَكَّمُ فِي الْحِرْزِ الْعُرْفُ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحَدَّ فِي الشَّرْعِ ، وَلَا فِي اللُّغَةِ ، فَرَجَعَ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ كَالْقَبْضِ وَالْإِحْيَاءِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْوَالِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ ، فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ حِرْزًا فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ بِحَسَبِ صَلَاحِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَفَسَادِهَا وَقُوَّةِ السُّلْطَانِ وَضَعْفِهِ ، وَضَبَطَهُ الْغَزَالِيُّ بِمَا لَا يُعَدُّ صَاحِبُهُ مُضَيِّعًا .
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْأَحْرَازُ تَخْتَلِفُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ بِاخْتِلَافِ نَفَاسَةِ الْمَالِ وَخِسَّتِهِ ، وَبِاخْتِلَافِ سَعَةِ الْبَلَدِ وَكَثْرَةِ دُعَّارِهِ وَعَكْسِهِ ، وَبِاخْتِلَافِ الْوَقْتِ أَمْنًا وَعَكْسِهِ ، وَبِاخْتِلَافِ السُّلْطَانِ عَدْلًا وَغِلْظَةً عَلَى الْمُفْسِدِينَ وَعَكْسَهُ ، وَبِاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَإِحْرَازُ اللَّيْلِ أَغْلَظُ .
فَإِنْ قِيلَ : يَرُدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ حَصْرُ الْحِرْزِ فِيمَا ذَكَرَ النَّائِمَ عَلَى ثَوْبِهِ فَإِنَّهُ لَا مُلَاحَظَةَ مِنْهُ ، وَلَيْسَ الثَّوْبُ بِمَوْضِعٍ حَصِينٍ مَعَ أَنَّ سَارِقَهُ يُقْطَعُ ، وَقَاطِعُ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ إذَا أَخَذَ الْمَالَ وَهُوَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ .
أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ النَّوْمَ عَلَى الثَّوْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمُلَاحَظَةِ ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى سَارِقًا .
تَنْبِيهٌ : تَعْبِيرُهُ " بِأَوْ " يَقْتَضِي الِاكْتِفَاءَ بِالْحَصَانَةِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةٍ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ،
فَإِنَّهُ سَيُصَرِّحُ بِخِلَافِهِ فِي قَوْلِهِ : فَإِنْ كَانَ بِحِصْنٍ كَفَى لِحَاظٌ مُعْتَادٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ اللَّحْظِ لَا بُدَّ مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي غَيْرِ الْحِصْنِ إلَى دَوَامِهِ ، وَيَكْتَفِي فِي الْحِصْنِ بِالْمُعْتَادِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الرَّافِعِيُّ : لَا تَكْفِي حَصَانَةُ الْمَوْضِعِ عَنْ أَصْلِ الْمُلَاحَظَةِ ، حَتَّى إنَّ الدَّارَ الْبَعِيدَةَ عَنْ الْبَلَدِ لَا تَكُونُ حِرْزًا وَإِنْ تَنَاهَتْ فِي الْحَصَانَةِ ( فَإِنْ كَانَ ) الْمَسْرُوقُ ( بِصَحْرَاءَ أَوْ مَسْجِدٍ ) أَوْ شَارِعٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا لَا حَصَانَةَ لَهُ ( اُشْتُرِطَ دَوَامُ لِحَاظٍ ) بِكَسْرِ اللَّامِ ، وَهُوَ الْمُرَاعَاةُ ، مَصْدَرُ لَاحَظَهُ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ مُحْرِزٌ عُرْفًا .
وَأَمَّا بِفَتْحِ اللَّامِ فَهُوَ كَمَا فِي الصِّحَاحِ : مُؤَخِّرُ الْعَيْنِ مِنْ جَانِبِ الْأُذُنِ ، بِخِلَافِ الَّذِي مِنْ جَانِبِ الْأَنْفِ ، فَيُسَمَّى الْمُوقَ ، يُقَالُ : لَحَظَهُ إذَا نَظَرَ إلَيْهِ بِمُؤَخَّرِ عَيْنِهِ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّ الْفَتَرَاتِ الْعَارِضَةَ فِي الْعَادَةِ تَقْدَحُ فِي هَذَا اللِّحَاظِ ، فَلَوْ تُغْفِلُهُ وَأَخَذَ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ لَمْ يُقْطَعْ ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ ، وَأَنَّ السَّارِقَ مِنْهُ يُقْطَعُ ، فَيَنْبَغِي التَّعْبِيرُ بِاللِّحَاظِ الْمُعْتَادِ فِي مِثْلِهِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ ( وَإِنْ كَانَ بِحِصْنٍ ) كَخَانٍ وَبَيْتٍ وَحَانُوتٍ ( كَفَى لِحَاظٌ مُعْتَادٌ ) فِي مِثْلِهِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهُ عَمَلًا بِالْعُرْفِ ، وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا مَرَّ أَنَّ حِرْزَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ ( وَ ) حِينَئِذٍ ( إصْطَبْلٌ ) وَهُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ ، وَهِيَ هَمْزَةُ قَطْعٍ أَصْلِيٍّ ، وَكَذَا بَقِيَّةُ حُرُوفِهِ : بَيْتُ الْخَيْلِ وَنَحْوُهَا ( حِرْزُ دَوَابَّ ) وَإِنْ كَانَتْ نَفِيسَةً كَثِيرَةً الثَّمَنِ ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جَعَلَ حِرْزَ الْمَاشِيَةِ الْمُرَاحَ } فَكَذَا الْإِصْطَبْلُ .
تَنْبِيهٌ : قَيَّدَ فِي الْوَسِيطِ الْإِصْطَبْلَ بِكَوْنِهِ مُتَّصِلًا بِالدُّورِ ، فَإِنْ كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْهَا فَلَا بُدَّ مِنْ اللِّحَاظِ الدَّائِمِ وَإِنْ لَمْ يُفْهِمْهُ
كَلَامُ الْمُصَنِّفِ ( لَا آنِيَةٍ وَثِيَابٍ ) وَلَوْ خَسِيسَةً ، فَلَيْسَ الْإِصْطَبْلُ حِرْزًا لَهَا ؛ لِأَنَّ إخْرَاجَ الدَّوَابِّ مِمَّا يَظْهَرُ وَيَبْعُدُ الِاجْتِرَاءُ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا يَخِفُّ وَيَسْهُلُ حَمْلُهُ .
وَيُسْتَثْنَى مِنْهَا كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ آنِيَةُ الْإِصْطَبْلِ كَالسَّطْلِ وَثِيَابِ الْغُلَامِ ، وَآلَاتِ الدَّوَابِّ مِنْ سُرُوجٍ وَبَرَاذِعَ وَلُجُمٍ وَرِحَالِ جِمَالٍ وَقِرْبَةِ السَّقَّاءِ وَالرَّاوِيَةِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِوَضْعِهِ فِي إصْطَبْلَاتِ الدَّوَابِّ .
تَنْبِيهٌ : الْمَتْبَنُ حِرْزٌ لِلتِّبْنِ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِالدُّورِ كَمَا مَرَّ فِي الْإِصْطَبْلِ ( وَعَرْصَةُ ) أَيْ : صَحْنُ ( دَارٍ ، وَصُفَّتُهَا حِرْزُ آنِيَةٍ ) خَسِيسَةٍ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ ( وَثِيَابِ بِذْلَةٍ ) أَيْ : مِهْنَةٍ وَنَحْوِهَا كَالْبُسُطِ وَالْأَوَانِي لِقَضَاءِ الْعُرْفِ بِذَلِكَ .
أَمَّا النَّفِيسَةُ فَحِرْزُهَا الْبُيُوتُ وَالْخَانَاتُ وَنَحْوُهَا كَالْأَسْوَاقِ الْمُعَيَّنَةِ ، فَإِذَا سَرَقَ الْمَتَاعَ مِنْ الدَّكَاكِينِ وَهُنَاكَ حَارِسٌ بِاللَّيْلِ قُطِعَ ( لَا ) حِرْزَ ( حُلِيٍّ ، وَ ) لَا ( نَقْدٍ ) وَثِيَابٍ وَأَوَانٍ نَفِيسَةٍ ، فَلَيْسَتْ الْعَرْصَةُ وَالصُّفَّةُ حِرْزًا لَهَا ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيهَا الْإِحْرَازُ فِي الْبُيُوتِ الْمُغْلَقَةِ فِي الدُّورِ وَنَحْوِهَا كَالْمَخَازِنِ .
فُرُوعٌ : لَوْ ضَمَّ الْعَطَّارُ أَوْ الْبَقَّالُ وَنَحْوُهُ الْأَمْتِعَةَ وَرَبَطَهَا بِحَبْلٍ عَلَى بَابِ الْحَانُوتِ أَوْ أَرْخَى عَلَيْهَا شَبَكَةً أَوْ خَالَفَ لَوْحَيْنِ عَلَى بَابِ حَانُوتِهِ كَانَتْ مُحَرَّزَةً بِذَلِكَ فِي النَّهَارِ ؛ لِأَنَّ الْجِيرَانَ وَالْمَارَّةَ يَنْظُرُونَهَا وَفِيمَا فَعَلَ مَا يُنَبِّهُهُمْ مَا قَصَدَهَا السَّارِقُ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَتْ مُحَرَّزَةً .
وَأَمَّا فِي اللَّيْلِ فَمُحَرَّزَةٌ بِذَلِكَ ، لَكِنْ مَعَ حَارِسٍ ، وَالْبَقْلُ وَنَحْوُهُ كَالْفُجْلِ إنْ ضُمَّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ وَتُرِكَ عَلَى بَابِ الْحَانُوتِ وَطُرِحَ عَلَيْهِ حَصِيرٌ أَوْ نَحْوُهَا فَهُوَ مُحَرَّزٌ بِحَارِسٍ وَإِنْ رَقَدَ سَاعَةً وَدَارَ عَلَى مَا يَحْرُسُهُ
أُخْرَى ، وَالْأَمْتِعَةُ النَّفِيسَةُ الَّتِي تُتْرَكُ عَلَى الْحَوَانِيتِ فِي لَيَالِي الْأَعْيَادِ وَنَحْوِهَا لِتَزْيِينِ الْحَوَانِيتِ وَتُسْتَرُ بِنِطْعٍ وَنَحْوِهِ مُحَرَّزَةٌ بِحَارِسٍ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ السُّوقِ يَعْتَادُونَ ذَلِكَ فَيُقَوَّى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ ، بِخِلَافِ سَائِرِ اللَّيَالِي ، وَالثِّيَابُ الْمَوْضُوعَةُ عَلَى بَابِ حَانُوتِ الْقَصَّارِ وَنَحْوُهُ كَأَمْتِعَةِ الْعَطَّارِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى بَابِ حَانُوتِهِ فِيمَا مَرَّ ، وَالْقُدُورُ الَّتِي يُطْبَخُ فِيهَا فِي الْحَوَانِيتِ مُحَرَّزَةٌ بِسِدَدٍ تُنْصَبُ عَلَى بَابِ الْحَانُوتِ لِلْمَشَقَّةِ فِي نَقْلِهَا إلَى بِنَاءِ وَإِغْلَاقِ بَابٍ عَلَيْهَا ، وَالْحَانُوتُ الْمُغْلَقُ بِلَا حَارِسٍ حِرْزٌ لِمَتَاعِ الْبَقَّالِ فِي زَمَنِ الْأَمْنِ وَلَوْ لَيْلًا لِانْتِفَاعِ الْبَزَّازِ لَيْلًا ، بِخِلَافِ الْحَانُوتِ الْمَفْتُوحِ وَالْمُغْلَقِ زَمَنَ الْخَوْفِ وَحَانُوتِ مَتَاعِ الْبَزَّازِ لَيْلًا ، وَالْأَرْضُ حِرْزٌ لِلْبَذْرِ ، وَالزَّرْعِ لِلْعَادَةِ ، وَقِيلَ لَيْسَتْ حِرْزًا إلَّا بِحَارِسٍ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَقَدْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ عُرْفِ النَّوَاحِي ، فَيَكُونُ مُحْرَزًا فِي نَاحِيَةٍ بِحَارِسٍ ، وَفِي غَيْرِهَا مُطْلَقًا ا هـ .
وَهَذَا أَوْجَهُ ، وَالتَّحْوِيطُ بِلَا حَارِسٍ لَا يُحَرِّزُ الثِّمَارَ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْأَشْجَارِ إلَّا إنْ اتَّصَلَتْ بِجِيرَانٍ يُرَاقِبُونَهَا عَادَةً ، وَأَشْجَارُ أَفْنِيَةِ الدُّورِ مُحْرَزَةٌ بِلَا حَارِسٍ ، بِخِلَافِهَا فِي الْبَرِيَّةِ ، وَالثَّلْجُ فِي الْمُثَلِّجَةِ ، وَالْجَمْدُ فِي الْمُجَمِّدَةَ ، وَالتِّبْنُ فِي الْمَتْبَنِ ، وَالْحِنْطَةُ فِي الْمَطَامِيرِ ، كُلٌّ مِنْهَا فِي الصَّحْرَاءِ غَيْرُ مُحْرَزٍ إلَّا بِحَارِسٍ ، وَأَبْوَابُ الدُّورِ وَالْبُيُوتِ الَّتِي فِيهَا ، وَالْحَوَانِيتُ بِمَا عَلَيْهَا مِنْ مَغَالِيقَ وَحُلُقٍ وَمَسَامِيرَ مُحْرَزَةٌ بِتَرْكِيبِهَا وَلَوْ مَفْتُوحَةً أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ أَحَدٌ ، وَمِثْلُهَا كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ سُقُوفُ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ وَرُخَامُهَا وَالْآجُرُّ مُحْرَزٌ بِالْبِنَاءِ وَالْحَطَبِ وَطَعَامُ الْبَيَّاعِينَ مُحْرَزٌ بِشَدِّ
بَعْضِ كُلٍّ مِنْهَا إلَى بَعْضٍ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ إلَّا بِحَلِّ الرِّبَاطِ أَوْ بِفَتْقِ بَعْضِ الْغَرَائِرِ حَيْثُ اُعْتِيدَ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُعْتَدْ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ بَابٌ مُغْلَقٌ .
وَلَوْ نَامَ بِصَحْرَاءَ أَوْ مَسْجِدٍ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ تَوَسَّدَ مَتَاعًا فَمُحْرَزٌ ، فَلَوْ انْقَلَبَ فَزَالَ عَنْهُ فَلَا ، وَثَوْبٌ وَمَتَاعٌ وَضَعَهُ بِقُرْبِهِ بِصَحْرَاءَ إنْ لَاحَظَهُ مُحْرَزٌ ، وَإِلَّا فَلَا .
( وَلَوْ نَامَ بِصَحْرَاءَ أَوْ مَسْجِدٍ ) وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَوْضِعٍ مُبَاحٍ كَشَارِعٍ ( عَلَى ثَوْبٍ ) أَوْ لَابَسَا لَعِمَامَتِهِ ، أَوْ غَيْرِهَا كَمَدَاسِهِ وَخَاتَمِهِ ( أَوْ تَوَسَّدَ ) أَيْ : وَضَعَ ( مَتَاعًا ) تَحْتَ رَأْسِهِ أَوْ اتَّكَأَ عَلَيْهِ ( فَمُحْرَزٌ ) فَيُقْطَعُ السَّارِقُ بِدَلِيلِ الْأَمْرِ بِقَطْعِ سَارِقِ رِدَاءِ صَفْوَانَ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : وَرِدَاؤُهُ كَانَ مُحْرَزًا بِاضْطِجَاعِهِ عَلَيْهِ ، وَلِقَضَاءِ الْعُرْفِ بِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يُقْطَعُ بِتَغْيِيبِهِ عَنْهُ وَلَوْ بِدَفْنِهِ إذْ إحْرَازُ مِثْلِهِ بِالْمُعَايَنَةِ ، فَإِذَا غَيَّبَهُ عَنْ عَيْنِ الْحَارِسِ بِحَيْثُ لَوْ نُبِّهَ لَهُ لَمْ يَرَهُ كَأَنْ دَفَنَهُ فِي تُرَابٍ ، أَوْ وَارَاهُ تَحْتَ ثَوْبِهِ أَوْ حَالَ بَيْنَهُمَا جِدَارٌ فَقَدْ أَخْرَجَهُ مِنْ حِرْزِهِ .
تَنْبِيهٌ : اسْتَثْنَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِيمَا لَوْ تَوَسَّدَ شَيْئًا لَا يُعَدُّ التَّوَسُّدُ حِرْزًا لَهُ كَمَا لَوْ تَوَسَّدَ كَيْسًا فِيهِ نَقْدٌ أَوْ جَوْهَرٌ وَنَامَ فَلَيْسَ بِمُحْرَزٍ حَتَّى يَشُدَّهُ بِسَوْطِهِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : أَيْ : تَحْتَ الثِّيَابِ وَقَيَّدَ الْمَرْوَزِيُّ الْقَطْعَ بِأَخْذِ الْخَاتَمِ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُخَلْخَلًا فِي يَدٍ ، أَوْ كَانَ فِي الْأُنْمُلَةِ الْعُلْيَا وَإِلَّا فَلَا قَطْعَ ( فَلَوْ انْقَلَبَ ) فِي نَوْمِهِ ( فَزَالَ عَنْهُ ) أَيْ الثَّوْبُ ( فَلَا ) يَكُونُ حِينَئِذٍ مُحْرَزًا فَلَا يُقْطَعُ سَارِقُهُ ، وَلَوْ قَلَبَهُ السَّارِقُ عَنْ الثَّوْبِ ثُمَّ أَخَذَهُ لَمْ يُقْطَعْ أَيْضًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْبَغَوِيِّ وَأَقَرَّهُ لِمَا مَرَّ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَهَذَا عِنْدَنَا شَاذٌّ مَرْدُودٌ لَا وَجْهَ لَهُ ، وَاَلَّذِي نَعْتَقِدُهُ الْقَطْعَ بِخِلَافِهِ ، لِأَنَّهُ أَزَالَ الْحِرْزَ ثُمَّ أَخَذَ النِّصَابَ فَصَارَ كَمَا لَوْ نَقَبَ الْحَائِطَ أَوْ كَسَرَ الْبَابَ أَوْ فَتَحَهُ وَأَخَذَ النِّصَابَ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِاتِّفَاقٍ ا هـ .
وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْمَالَ ثُمَّ لَمَّا أَخَذَهُ كَانَ مُحْرَزًا فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِهِ هُنَا فَإِنَّهُ مَنْسُوبٌ لِتَقْصِيرٍ ،
وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ أَيْضًا مِنْ أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ جَمَلًا وَصَاحِبُهُ نَائِمٌ عَلَيْهِ فَأَلْقَاهُ عَنْهُ وَهُوَ نَائِمٌ وَأَخَذَ الْجَمَلَ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْجُوَيْنِيُّ وَابْنُ الْقَطَّانِ ( وَثَوْبٌ وَمَتَاعٌ ) لِشَخْصٍ ( وَضَعَهُ ) أَيْ : كُلًّا مِنْهُمَا ( بِقُرْبِهِ بِصَحْرَاءَ ) أَوْ نَحْوِ شَارِعٍ كَمَسْجِدٍ ( إنْ لَاحَظَهُ ) بِنَظَرِهِ كَمَا مَرَّ ( مُحْرَزٌ ) لِقَضَاءِ الْعُرْفِ بِذَلِكَ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يُلَاحِظْهُ ، بَلْ نَامَ أَوْ وَلَّاهُ ظَهْرَهُ أَوْ ذَهَلَ عَنْهُ ( فَلَا ) يَكُونُ مُحْرَزًا .
تَنْبِيهٌ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عُلِمَتْ مِنْ قَوْلِهِ سَابِقًا : فَإِنْ كَانَ بِصَحْرَاءَ إلَخْ لَكِنْ زَادَ هُنَا قَيْدَ الْقُرْبِ لِيُخْرِجَ مَا لَوْ وَضَعَهُ بَعِيدًا بِحَيْثُ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ فَإِنَّ هَذَا تَضْيِيعٌ لَا إحْرَازٌ .
وَيُشْتَرَطُ مَعَ الْمُلَاحَظَةِ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَوْضِعِ ازْدِحَامٌ لِلطَّارِقِينَ .
نَعَمْ إنْ كَثُرَ الْمُلَاحِظُونَ عَادَلَ كَثْرَةَ الطَّارِقِينَ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ الْإِمَامِ وَأَقَرَّاهُ .
الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمُلَاحَظُ فِي مَوْضِعٍ بِحَيْثُ يَرَاهُ السَّارِقُ حَتَّى يَمْتَنِعَ مِنْ السَّرِقَةِ إلَّا بِتَغَفُّلِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَرَاهُ فَلَا قَطْعَ ، إذْ لَا حِرْزَ يَظْهَرُ لِلسَّارِقِ حَتَّى يَمْتَنِعَ مِنْ السَّرِقَةِ ، قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ : وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُفَرَّقَ فِيمَا ذَكَرْنَا بَيْنَ كَوْنِ الصَّحْرَاءِ مَوَاتًا أَوْ غَيْرَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : قَيَّدَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ بِالْمَوْضِعِ الْمُبَاحِ وَجَرَى عَلَيْهِ الْقَاضِي أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُبَاحِ مُقَابِلُ الْحَرَامِ ، لَا مَا لَيْسَ مَمْلُوكًا فَلَا مُنَافَاةَ .
وَشَرْطُ الْمُلَاحِظِ قُدْرَتُهُ عَلَى مَنْعِ سَارِقٍ بِقُوَّةٍ أَوْ اسْتِغَاثَةٍ .
( وَشَرْطُ الْمُلَاحِظِ ) لِمَتَاعٍ كَثَوْبٍ وَنَحْوِهِ ( قُدْرَتُهُ عَلَى مَنْعِ سَارِقٍ ) مِنْ الْأَخْذِ لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ ( بِقُوَّةٍ أَوْ اسْتِغَاثَةٍ ) فَإِنْ كَانَ الْمُلَاحِظُ ضَعِيفًا لَا يُبَالِي السَّارِقُ بِهِ لِقُوَّتِهِ وَالْمَوْضِعُ بَعِيدٌ عَنْ الْغَوْثِ فَلَيْسَ بِحِرْزٍ ، وَإِنْ كَانَ السَّارِقُ ضَعِيفًا أَيْضًا وَأَخَذَهُ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ الْمُلَاحِظُ وَلَوْ شَعَرَ بِهِ لَطَرَدَهُ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ عَلَى الظَّاهِرِ عِنْدَ الْإِمَامِ ، وَإِنْ كَانَ لَوْ أَخَذَهُ قَوِيٌّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُقْطَعُ .
وَدَارٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الْعِمَارَةِ إنْ كَانَ بِهَا قَوِيٌّ يَقْظَانُ حِرْزٌ مَعَ فَتْحِ الْبَابِ وَإِغْلَاقِهِ ، وَإِلَّا فَلَا .
( وَدَارٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الْعِمَارَةِ ) كَكَوْنِهَا بِأَطْرَافِ الْخَرَابِ الْبَسَاتِينِ ( إنْ كَانَ بِهَا ) مُلَاحِظٌ ( قَوِيٌّ يَقْظَانُ حِرْزٌ ) لِمَا فِيهَا ( مَعَ فَتْحِ الْبَابِ وَإِغْلَاقِهِ ) لِاقْتِضَاءِ الْعُرْفِ ذَلِكَ ( وَإِلَّا ) صَادِقٌ بِأَرْبَعِ صُوَرٍ : بِأَنْ لَا يَكُونَ بِهَا أَحَدٌ وَالْبَابُ مُغْلَقٌ أَوْ فِيهَا أَحَدٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يُبَالِي بِهِ كَمَا قَيَّدَهُ فِي الْمُحَرَّرِ وَهِيَ بَعِيدَةٌ عَنْ الْغَوْثِ أَوْ فِيهَا قَوِيٌّ نَائِمٌ وَالْبَابُ مَفْتُوحٌ ، أَوْ قَوِيٌّ نَائِمٌ وَهُوَ مُغْلَقٌ ( فَلَا ) تَكُونُ حِرْزًا ، وَالصُّورَةُ الْأَخِيرَةُ فِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ حِرْزًا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَبَعًا لِلْمُحَرَّرِ .
وَالثَّانِي أَنَّهَا حِرْزٌ ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ ، وَالْأَقْوَى فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ .
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إنَّهُ الْمَنْقُولُ فِي الذَّخَائِرِ وَغَيْرُهُ عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَلَمْ يَذْكُرُوا سِوَاهُ ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِكَلَامِ الْأَصْحَابِ فِي الْخَيْمَةِ كَمَا سَيَأْتِي .
وَمُتَّصِلَةٌ حِرْزٌ مَعَ إغْلَاقِهِ وَحَافِظٍ وَلَوْ نَائِمٌ ، وَمَعَ فَتْحِهِ وَنَوْمِهِ غَيْرُ حِرْزٍ لَيْلًا ، وَكَذَا نَهَارًا فِي الْأَصَحِّ .
وَالدَّارُ الْمُغْلَقَةُ أَوْلَى بِالْإِحْرَازِ مِنْ الْخَيْمَةِ ( وَ ) دَارٌ ( مُتَّصِلَةٌ ) بِالْعِمَارَةِ بِدُورٍ آهِلَةٍ ( حِرْزٌ ) لِمَا فِيهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ( مَعَ إغْلَاقِهِ ) أَيْ : الْبَابِ ( وَ ) مَعَ ( حَافِظٍ ) قَوِيٍّ أَوْ ضَعِيفٍ ( وَلَوْ ) هُوَ ( نَائِمٌ ) وَلَوْ فِي زَمَنِ خَوْفٍ لِأَنَّ السَّارِقَ عَلَى خَطَرٍ مِنْ اطِّلَاعِهِ وَتَنَبُّهِهِ بِحَرَكَاتِهِ وَاسْتِغَاثَتِهِ بِالْجِيرَانِ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الضَّعِيفُ كَالْعَدَمِ .
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ : لَوْ عَجَزَ الضَّعِيفُ عَنْ الِاسْتِغَاثَةِ فَيَتَّجِهُ أَنْ يَكُونَ كَالْعَدَمِ ا هـ .
وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ الْأَذْرَعِيِّ عَلَى هَذَا فَيَكُونُ ظَاهِرًا ( وَ ) الدَّارُ الْمُتَّصِلَةُ ( مَعَ فَتْحِهِ ) أَيْ الْبَابِ ( وَنَوْمِهِ ) أَيْ الْحَافِظِ ( غَيْرُ حِرْزٍ لَيْلًا ) جَزْمًا لِأَنَّهُ مُضَيِّعٌ ( وَكَذَا نَهَارًا فِي الْأَصَحِّ ) كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَحَدٌ وَالْبَابُ مَفْتُوحٌ ، وَالثَّانِي يَكُونُ حِرْزًا اعْتِمَادًا عَلَى نَظَرِ الْجِيرَانِ وَمُرَاقَبَتِهِمْ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي زَمَنِ الْأَمْنِ النَّهْبُ وَغَيْرُهُ ، وَإِلَّا فَالْأَيَّامُ كَاللَّيَالِيِ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَنْقُولِ فِي الدَّارِ حَتَّى لَا يَرِدَ عَلَيْهِ الْبَابُ الْمَفْتُوحُ نَفْسُهُ ، وَالْأَبْوَابُ الْمَنْصُوبَةُ الدَّاخِلَةُ فَإِنَّهَا بِتَرْكِيبِهَا فِي حِرْزٍ وَإِنْ لَمْ تُغْلَقْ ، وَكَذَا حِلَقُهَا الْمُسَمَّرَةُ وَسَقْفُهَا وَرُخَامُهَا كَمَا مَرَّ .
وَكَذَا يَقْظَانُ تَغَفَّلَهُ سَارِقٌ فِي الْأَصَحِّ ، فَإِنْ خَلَتْ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا حِرْزٌ نَهَارًا زَمَنَ أَمْنٍ وَإِغْلَاقِهِ ، فَإِنْ فُقِدَ شَرْطٌ فَلَا .
( وَكَذَا يَقْظَانُ ) فِي دَارٍ ( تَغَفَّلَهُ سَارِقٌ ) وَسَرَقَ فَلَيْسَتْ بِحِرْزٍ ( فِي الْأَصَحِّ ) فَلَا قَطْعَ لِتَقْصِيرِهِ بِإِهْمَالِ الْمُرَاقَبَةِ مَعَ فَتْحِ الْبَابِ ، وَالثَّانِي أَنَّهَا حِرْزٌ لِعُسْرِ الْمُرَاقَبَةِ دَائِمًا .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُبَالِغْ فِي الْمُلَاحَظَةِ ، فَإِنْ بَالَغَ فِيهَا فَانْتَهَزَ السَّارِقُ فُرْصَةً قُطِعَ بِلَا خِلَافٍ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ، وَأَلْحَقَ بِالْبَابِ الْمُغْلَقِ مَا كَانَ مَرْدُودًا وَنَامَ خَلْفَهُ بِحَيْثُ لَوْ فَتَحَهُ لَأَصَابَهُ ، وَانْتَبَهَ كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَمَا لَوْ نَامَ أَمَامَهُ بِحَيْثُ لَوْ فَتَحَ لَانْتَبَهَ بِصَرِيرِهِ كَمَا قَالَهُ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ مَا بَعْدَ الْفَجْرِ إلَى الْإِسْفَارِ حُكْمَ اللَّيْلِ وَمَا بَعْدَ الْغُرُوبِ وَقَبْلَ انْقِطَاعِ الطَّارِقِ حُكْمَ النَّهَارِ ( فَإِنْ خَلَتْ ) أَيْ الدَّارُ الْمُتَّصِلَةُ مِنْ حَافِظٍ فِيهَا ( فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا حِرْزٌ نَهَارًا زَمَنَ أَمْنٍ وَإِغْلَاقِهِ ) أَيْ : الْبَابِ ( فَإِنْ فُقِدَ شَرْطٌ ) مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ بِأَنْ كَانَ الْبَابُ مَفْتُوحًا أَوْ الزَّمَنُ زَمَنَ خَوْفٍ أَوْ الْوَقْتُ لَيْلًا ( فَلَا ) تَكُونُ هَذِهِ الدَّارُ حِينَئِذٍ حِرْزًا .
تَنْبِيهٌ : عَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ أَيْضًا بِالْمَذْهَبِ وَفِي الشَّرْحِ وَالْمُحَرَّرِ بِالظَّاهِرِ وَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ مُقَابِلٌ : وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الدَّارَ الْمُغْلَقَةَ نَهَارًا حِرْزٌ مَا لَوْ أَغْلَقَ الْبَابَ نَهَارًا وَوَضَعَ الْمِفْتَاحَ فِي شَقٍّ قَرِيبٍ مِنْ الْبَابِ فَبَحَثَ عَنْهُ السَّارِقُ وَأَخَذَهُ وَفَتَحَ الْبَابَ فَإِنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ كَمَا أَفْتَى بِهِ الْبُلْقِينِيُّ ، لِأَنَّ وَضْعَ الْمِفْتَاحِ هُنَاكَ تَفْرِيطٌ فَيَكُونُ شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْحَدِّ .
وَخَيْمَةٌ بِصَحْرَاءَ إنْ لَمْ تُشَدَّ أَطْنَابُهَا وَتُرْخَى أَذْيَالُهَا فَهِيَ وَمَا فِيهَا كَمَتَاعٍ بِصَحْرَاءَ ، وَإِلَّا فَحِرْزٌ بِشَرْطِ حَافِظٍ قَوِيٍّ فِيهَا وَلَوْ نَائِمٌ .
( وَخَيْمَةٌ بِصَحْرَاءَ ) وَسَبَقَ مَعْنَى الْخَيْمَةِ فِي بَابِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ ( إنْ لَمْ تُشَدَّ أَطْنَابُهَا وَتُرْخَى أَذْيَالُهَا ) بِالْمُعْجَمَةِ ( فَهِيَ وَمَا فِيهَا كَمَتَاعٍ بِصَحْرَاءَ ) فَيَأْتِي فِيهَا مَا تَقَدَّمَ ، فَلَوْ كَانَتْ مَضْرُوبَةً بَيْنَ الْعَمَائِرِ فَهِيَ كَمَتَاعٍ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي السُّوقِ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ شُدَّتْ أَطْنَابُهَا وَأُرْخِيَتْ أَذْيَالُهَا ( فَحِرْزٌ ) لِمَا فِيهَا ( بِشَرْطِ حَافِظٍ قَوِيٍّ ) أَوْ ضَعِيفٍ يُبَالِي بِهِ ( فِيهَا ) أَوْ بِقُرْبِهَا ( وَلَوْ ) هُوَ ( نَائِمٌ ) فِيهَا أَوْ بِقُرْبِهَا كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا لِحُصُولِ الْإِحْرَازِ عَادَةً ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا وَلَا بِقُرْبِهَا أَحَدٌ أَوْ كَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَبَعِيدٌ عَنْ الْغَوْثِ فَلَيْسَتْ حِرْزًا ، نَعَمْ إنْ كَانَ مُسْتَيْقِظًا لَمْ يُعْتَبَرْ الْقُرْبُ : بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ بِمَوْضِعٍ تَحْصُلُ مِنْهُ الْمُلَاحَظَةُ وَيَرَاهُ السَّارِقُ بِحَيْثُ يَنْزَجِرُ بِهِ .
قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ : وَصَحَّحَ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ إسْبَالُ بَابِهَا إذَا كَانَ مَنْ فِيهَا نَائِمًا .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ مَرَّ أَنَّ بَابَ الدَّارِ إذَا كَانَ مَفْتُوحًا وَالْحَافِظُ فِيهَا نَائِمٌ لَمْ تَكُنْ حِرْزًا فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ : بِأَنَّ الْخَيْمَةَ تُهَابُ غَالِبًا فَاكْتَفَى فِيهَا بِذَلِكَ بِخِلَافِ الدَّارِ ، فَلَوْ شُدَّتْ أَطْنَابُهَا وَلَمْ تُرْخَ أَذْيَالُهَا فَهِيَ مُحْرَزَةٌ دُونَ مَا فِيهَا فَيُعْتَبَرُ فِي نَفْسِ الْخَيْمَةِ أَمْرَانِ : حَافِظٌ وَشَدُّ أَطْنَابِهَا وَفِيمَا فِيهَا ثَلَاثَةٌ : هَذَانِ ، وَإِرْخَاءُ أَذْيَالِهَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مُسَاوَاةَ حُكْمِ الْخَيْمَةِ وَمَا فِيهَا .
وَأَوْرَدَ عَلَى إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ مَا لَوْ كَانَ فِيهَا نَائِمٌ فَنَحَّاهُ السَّارِقُ ثُمَّ سَرَقَ فَلَا قَطْعَ كَمَا مَرَّ فِي الثَّوْبِ الْمَفْرُوشِ تَحْتَهُ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ وَتُرْخَى بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ بِخَطِّهِ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ مِنْ عَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ : أَيْ : انْتَفَى الشَّدُّ وَالْإِرْخَاءُ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ
صَرَّحَ بِالنَّافِي فِي الْمَعْطُوفِ كَالْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِ كَانَ أَوْضَحَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا عَطْفًا عَلَى تُشَدُّ وَعَلَيْهِ فَيَجِبُ حَذْفُ الْأَلِفِ لِلْجَازِمِ .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّهَا حُذِفَتْ وَأَنَّ الْمَوْجُودَةَ تَوَلَّدَتْ مِنْ إشْبَاعِ فَتْحَةِ الْخَاءِ كَمَا قِيلَ بِإِشْبَاعِ الْكَسْرِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ : إذَا الْعَجُوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِي وَلَا تَرْضَاهَا وَلَا تَمَلَّقِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ .
وَمَاشِيَةٌ بِأَبْنِيَةٍ مُغْلَقَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِالْعِمَارَةِ مُحْرَزَةٌ بِلَا حَافِظٍ .
( وَمَاشِيَةٌ ) مِنْ إبِلٍ وَخَيْلٍ وَبِغَالٍ وَحَمِيرٍ وَغَيْرِهَا ( بِأَبْنِيَةٍ مُغْلَقَةٍ ) أَبْوَابُهَا ( مُتَّصِلَةٍ بِالْعِمَارَةِ مُحْرَزَةٌ ) بِهَا وَلَوْ ( بِلَا حَافِظٍ ) لِلْعُرْفِ كَذَا أَطْلَقُوهُ ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا أَحَاطَتْ بِهِ الْمَنَازِلُ الْأَهْلِيَّةُ ، فَأَمَّا إذَا اتَّصَلَتْ بِالْعِمَارَةِ وَلَهَا جَانِبٌ آخَرُ مِنْ جِهَةِ الْبَرِيَّةِ فَإِنَّهَا تُلْحَقُ بِالْبَرِيَّةِ وَسَيَأْتِي ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ : مُغْلَقَةٍ ، مَا لَوْ كَانَ الْبَابُ مَفْتُوحًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْحَافِظِ وَلَوْ كَانَ نَائِمًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُعْتَمَدِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَيَّدَ الْمُصَنِّف سَابِقًا الدَّارَ الْمُتَّصِلَةَ بِالْعِمَارَةِ بِكَوْنِهَا مُحْرَزَةً نَهَارًا زَمَنَ أَمْنٍ ، وَلَا يَظْهَرُ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ يَتَسَامَحُ فِي أَمْرِ الْمَاشِيَةِ دُونَ غَيْرِهَا .
وَبِبَرِّيَّةٍ يُشْتَرَطُ حَافِظٌ وَلَوْ نَائِمٌ .
( وَ ) مَاشِيَةٌ بِأَبْنِيَةٍ مُغْلَقَةٍ ( بِبَرِّيَّةٍ يُشْتَرَطُ ) فِي إحْرَازِهَا لِمَا فِيهَا ( حَافِظٌ ) قَوِيٌّ أَوْ ضَعِيفٌ يُبَالِي بِهِ ( وَلَوْ ) هُوَ ( نَائِمٌ ) فَإِنْ كَانَ الْبَابُ مَفْتُوحًا اُشْتُرِطَ حَافِظٌ مُسْتَيْقِظٌ ، وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ أَوَّلًا : مُغْلَقَةٍ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَوْمَهُ بِالْبَابِ الْمَفْتُوحِ كَافٍ ، وَيَكْفِي كَوْنُ الْمُرَاحِ مِنْ حَطَبٍ أَوْ حَشِيشٍ أَوْ نَحْوِهِ ، وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْمُرَاحِ بِالْبَرِيَّةِ اجْتِمَاعَهَا فِيهِ بِحَيْثُ يَحُسُّ بَعْضُهَا بِحَرَكَةِ بَعْضٍ وَأَنْ يَكُونَ مَعَهَا حَافِظٌ ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَيْقِظًا كَفَى ، فَإِنْ نَامَ احْتَاجَ إلَى شَرْطٍ ثَالِثٌ وَهُوَ مَا يُوقِظُهُ إنْ أُرِيدَ سَرِقَتُهَا كَكِلَابٍ تَنْبَحُ أَوْ أَجْرَاسٍ تَتَحَرَّكُ ، فَإِنْ أَخَلَّ بِهَذَا عِنْدَ نَوْمِهِ لَمْ تَكُنْ مُحْرَزَةً ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْأَذْرَعِيُّ : فَإِنْ كَانَ الْحَافِظُ ضَعِيفًا لَمْ يُبَالِ بِهِ السَّارِقُ وَلَا يَلْحَقُهُ غَوْثٌ فَكَالْعَدِمِ كَمَا مَرَّ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ بِأَبْنِيَةٍ يَقْتَضِي اعْتِبَارَ إحْرَازِ الْمَاشِيَةِ بِهِ وَلَيْسَ مُرَادًا فَقَدْ جَزَمَا بِأَنَّ الْإِبِلَ الْمُنَاخَةَ الْمَعْقُولَةَ مُحْرَزَةٌ بِحَافِظٍ عِنْدَهَا وَلَوْ نَائِمًا لِأَنَّ فِي حَلِّ عِقَالِهَا مَا يُوقِظُهُ ، وَلِأَنَّ الرُّعَاةَ إذَا أَرَادُوا أَنْ يَنَامُوا عَقَلُوا إبِلَهُمْ .
وَإِبِلٌ بِصَحْرَاءَ مُحْرَزَةٌ بِحَافِظٍ يَرَاهَا .
( وَإِبِلٌ ) وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا مِنْ خَيْلٍ وَنَحْوِهَا ( بِصَحْرَاءَ ) تَرْعَى فِي مَرْعًى خَالٍ عَنْ الْمَارِّينَ ( مُحْرَزَةٌ بِحَافِظٍ ) أَيْ : مَعَهَا ( يَرَاهَا ) وَيَبْلُغُهَا صَوْتُهُ ، فَإِنْ نَامَ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا أَوْ اسْتَتَرَ عَنْهُ بَعْضُهَا فَمُضَيِّعٌ لَهَا فِي الْأَوَّلِينَ ، وَلِبَعْضِهَا الْمُسْتَتَرِ فِي الْأَخِيرَةِ ، فَإِنْ لَمْ تَخْلُ الْمَرْعَى عَنْ الْمَارِّينَ حَصَلَ الْإِحْرَازُ بِنَظَرِهِمْ ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الرَّافِعِيُّ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ ، وَإِنْ بَعُدَ عَنْ بَعْضِهَا وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ الْبَعْضَ صَوْتُهُ فَوَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ غَيْرُ مُحْرَزٍ لِعَدَمِ بُلُوغِ الصَّوْتِ لَهُ ، وَالثَّانِي وَهُوَ الظَّاهِرُ وَرَجَّحَهُ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ وَعَزَاهُ الْقَمُولِيُّ وَابْنُ الرِّفْعَةِ إلَى الْأَكْثَرِينَ : مُحْرَزًا اكْتِفَاءً بِالنَّظَرِ لِإِمْكَانِ الْعَدُوِّ إلَى مَا لَمْ يَبْلُغْهُ .
وَمَقْطُورَةٌ يُشْتَرَطُ الْتِفَاتُ قَائِدِهَا إلَيْهَا كُلَّ سَاعَةٍ بِحَيْثُ يَرَاهَا ، وَأَنْ لَا يَزِيدَ قِطَارٌ عَلَى تِسْعَةٍ .
( وَ ) إبِلٌ أَوْ بِغَالٌ ( مَقْطُورَةٌ ) يَقُودُهَا قَائِدٌ ( يُشْتَرَطُ ) فِي إحْرَازِهَا ( الْتِفَاتُ قَائِدِهَا ) أَوْ رَاكِبِ أَوَّلِهَا ( إلَيْهَا كُلَّ سَاعَةٍ بِحَيْثُ يَرَاهَا ) جَمِيعَهَا لِأَنَّهَا تُعَدُّ مُحْرَزَةً بِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ يَسُوقُهَا سَائِقٌ فَمُحْرَزَةٌ إنْ انْتَهَى نَظَرُهُ إلَيْهَا ، وَفِي مَعْنَاهُ الرَّاكِبُ لِآخِرِهَا ، فَإِنْ كَانَ لَا يَرَى الْبَعْضَ لِحَائِلِ جَبَلٍ أَوْ بِنَاءٍ فَذَلِكَ الْبَعْضُ غَيْرُ مُحْرَزٍ ، فَإِنْ رَكِبَ غَيْرَ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ فَهُوَ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ كَسَائِقٍ وَلِمَا فِي خَلْفِهِ كَقَائِدٍ .
قَالَا : وَقَدْ يَسْتَغْنِي بِنَظَرِ الْمَارَّةِ عَنْ نَظَرِهِ إنْ كَانَ يُسَيِّرُهَا فِي سُوقٍ وَنَحْوِهِ ، وَفِي اشْتِرَاطِ بُلُوغِ الصَّوْتِ لَهَا مَا سَبَقَ قَرِيبًا ( وَ ) يُشْتَرَطُ ( أَنْ لَا يَزِيدَ قِطَارٌ ) وَهُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ مَا كَانَ بَعْضُهُ إثْرَ بَعْضٍ ( عَلَى تِسْعَةٍ ) بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ أَوَّلُهُ لِلْعَادَةِ الْغَالِبَةِ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ زَادَ فَكَغَيْرِ الْمَقْطُورَةِ .
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : كَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْوَسِيطِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ ، وَالصَّحِيحُ سَبْعَةٌ بِالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَ السِّينِ وَعَلَيْهِ الْعُرْفُ ، وَاعْتَرَضَهُ الْأَذْرَعِيُّ بِأَنَّ الْمَنْقُولَ تِسْعَةٌ بِالْمُثَنَّاةِ فِي أَوَّلِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْفُورَانِيُّ وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْعِمْرَانِيُّ ، وَكَذَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ وَالْغَزَالِيُّ فِي الْوَجِيزِ وَالْوَسِيطِ ، وَنَسَبَهُ فِي الْوَسِيطِ إلَى الْأَصْحَابِ ، قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَالْأَحْسَنُ التَّوَسُّطُ ، ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ ، فَقَالَ فِي الصَّحْرَاءِ لَا يَتَقَيَّدُ الْقِطَارُ بِعَدَدٍ ، وَفِي الْعُمْرَانِيِّ يُعْتَبَرُ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنْ يَجْعَلَ قِطَارًا وَهُوَ مَا بَيْنَ سَبْعَةٍ إلَى عَشَرَةٍ ، وَصَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ .
وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ : التَّقْيِيدُ بِالتِّسْعِ أَوْ السَّبْعِ لَيْسَ بِمُعْتَمَدٍ ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ وَلَا كَثِيرٌ مِنْ الْأَصْحَابِ ، مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَأَتْبَاعُهُ ، وَذَكَرَ الْأَذْرَعِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ نَحْوَهُ .
قَالَا وَالْأَشْبَهُ الرُّجُوعُ فِي كُلِّ مَكَان إلَى عُرْفِهِ ، وَبِهِ صَرَّحَ صَاحِبُ الْوَافِي .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ التَّقْطِيرَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِعَدَدٍ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَهُمْ الْجُمْهُورِ ، وَكَذَا أَطْلَقَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ ، وَسَبَبُ اضْطِرَابِ الْأَصْحَابِ فِي عَدَدِ الْقِطَارِ اضْطِرَابُ الْعُرْفِ .
وَغَيْرُ مَقْطُورَةٍ لَيْسَتْ مُحْرَزَةً فِي الْأَصَحِّ .
( وَ ) إبِلٌ ( غَيْرُ مَقْطُورَةٍ ) كَأَنْ كَانَتْ تُسَاقُ ( لَيْسَتْ مُحْرَزَةً فِي الْأَصَحِّ ) وَفِي الْمُحَرَّرِ الْأَشْبَهُ أَنَّ الْإِبِلَ لَا تَسِيرُ كَذَلِكَ غَالِبًا .
وَالثَّانِي مُحْرَزَةٌ بِسَائِقِهَا الْمُنْتَهِي نَظَرُهُ إلَيْهَا كَالْمَقْطُورَةِ الْمَسُوقَةِ ، وَرَجَّحَهُ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إنَّهُ الْمَذْهَبُ وَنَقَلَهُ عَنْ الْأَكْثَرِينَ .
وَقَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : إنَّ الْفَتْوَى عَلَى مَا فِي الْمِنْهَاجِ وَالْمُحَرَّرِ ، فَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأُمِّ .
قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ : وَالْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ وَالْغَنَمُ السَّائِرَةُ كَالْإِبِلِ السَّائِرَةِ إذَا لَمْ تَكُنْ مَقْطُورَةً وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الْقَطْرَ فِيهَا ، لَكِنَّهُ مُعْتَادٌ فِي الْبِغَالِ ، وَيَخْتَلِفُ عَدَدُ الْغَنَمِ الْمُحْرَزَةِ بِحَارِسٍ وَاحِدٍ بِالْبَلَدِ وَالصَّحْرَاءِ ا هـ .
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي أَنَّ الْبِغَالَ كَالْإِبِلِ تَقْطِيرًا وَعَدَمِهِ ، وَعَلَى أَنَّ غَيْرَهُمَا مِنْ الْمَاشِيَةِ مَعَ التَّقْطِيرِ وَعَدَمِهِ مِثْلُهُمَا مَعَ التَّقْطِيرِ وَهُوَ الْأَوْجَهُ .
فُرُوعٌ : الْمَتَاعُ الَّذِي عَلَى الدَّابَّةِ الْمُحْرَزَةِ مُحْرَزٌ يُقْطَعُ سَارِقُهُ سَوَاءٌ سَرَقَهُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الدَّابَّةِ .