كتاب : مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
المؤلف : محمد بن أحمد الخطيب الشربيني
وَلَوْ قَالَ عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِي ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا ، أَوْ عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى أَوْ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ فَهُوَ لِلتَّرْتِيبِ .
( وَلَوْ قَالَ ) : وَقَفْت كَذَا ( عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِي ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا ، أَوْ ) قَالَ : وَقَفْت كَذَا ( عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى ) مِنْهُمْ ( أَوْ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ ) مِنْهُمْ أَوْ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْهُمْ ( فَهُوَ لِلتَّرْتِيبِ ) فِيمَا ذُكِرَ لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ ، فَلَا يَأْخُذُ بَطْنٌ وَهُنَاكَ بَطْنٌ أَقْرَبُ مِنْهُ آخَرُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ .
تَنْبِيهٌ : لَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ مَا تَنَاسَلُوا بِالْأُولَى مَعَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِيهَا ، بَلْ إنْ ذَكَرَهُ فِيهَا وَفِي الْبَقِيَّةِ لَمْ يَكُنْ التَّأْبِيدُ وَالتَّرْتِيبُ خَاصَّيْنِ بِالطَّبَقَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ وَإِلَّا اُخْتُصَّا بِهِمَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ وَيَكُونُ بَعْدَهُمَا مُنْقَطِعُ الْآخِرِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَقَدْ يَتَوَقَّفُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى بَعْدَ الْبَطْنِ الثَّالِثِ لِعَدَمِ ذِكْرِ ثُمَّ فِيهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ مَا تَنَاسَلُوا يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ بِالصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَهِيَ تَقْدِيمُ الْأَوْلَادِ ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ فَيَتِمُّ ذَلِكَ : فِي كُلِّ بَطْنٍ وَلَا بَأْسَ بِهِ ا هـ .
وَقَدْ مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ ، وَلَوْ جَاءَ بِثُمَّ لِلْبَطْنِ الثَّانِي وَبِالْوَاوِ فِيمَا بَعْدَهُ مِنْ الْبُطُونِ كَأَنْ قَالَ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِي كَانَ التَّرْتِيبُ لِلْبَطْنِ الثَّانِي دُونَهُمْ عَمَلًا بِثُمَّ وَبِالْوَاوِ فِيهِمْ وَإِنْ عَكَسَ بِأَنْ جَاءَ بِالْوَاوِ فِي الْبَطْنِ الثَّانِي وَبِثُمَّ فِيمَا بَعْدَهُ كَانَ التَّرْتِيبُ لَهُمْ دُونَهُ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ بِكَسْرِ اللَّامِ فِيهِمَا بِخَطِّهِ ، وَهُوَ إمَّا عَلَى الْبَدَلِ وَإِمَّا عَلَى إضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ وَقَفْته عَلَى الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ .
وَلَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْأَوْلَادِ فِي الْأَصَحِّ
( وَلَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْأَوْلَادِ فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَلَدِ حَقِيقَةً ؛ إذْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي وَلَدِ وَلَدِ الشَّخْصِ : لَيْسَ وَلَدَهُ .
وَالثَّانِي : يَدْخُلُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا بَنِي آدَمَ } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا } فَإِنْ قِيلَ : كَانَ يَنْبَغِي تَرْجِيحُ هَذَا عَلَى قَاعِدَةِ الشَّافِعِيِّ فِي حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ شَرْطَهُ عَلَى قَاعِدَةِ إرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَهُ ، وَالْكَلَامُ هُنَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ .
وَالثَّالِثُ : يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْبَنِينَ لِانْتِسَابِهِمْ إلَيْهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ } دُونَ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا وُجِدَ النَّوْعَانِ ، فَلَوْ قَالَ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا أَوْلَادُ أَوْلَادٍ حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِمْ لِوُجُودِ الْقَرِينَةِ وَصِيَانَةً لِكَلَامِ الْمُكَلِّفِ عَنْ الْإِلْغَاءِ ، فَلَوْ حَدَثَ لَهُ وَلَدٌ فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا : الصَّرْفُ لَهُ لِوُجُودِ الْحَقِيقَةِ ، وَأَنَّهُ يُصْرَفُ لَهُمْ مَعَهُ كَالْأَوْلَادِ فِي الْوَقْفِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَخْتَصَّ بِذَلِكَ ، وَالْأَوْجَهُ الْأَوَّلُ ، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا عِنْدَ : الْإِطْلَاقِ ، فَلَوْ أَرَادَ جَمِيعُهُمْ دَخَلَ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ قَطْعًا ، أَوْ قَالَ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي لِصُلْبِي لَمْ يَدْخُلُوا قَطْعًا ، وَلَوْ قَالَ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا وَلَدٌ فَقَطْ اُخْتُصَّ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ .
وَيَدْخُلُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالنَّسْلِ وَالْعَقِبِ وَأَوْلَادِ الْأَوْلَادِ إلَّا أَنْ يَقُولَ عَلَى مَنْ يَنْتَسِبُ إلَيَّ مِنْهُمْ .
( وَيَدْخُلُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ ) قَرِيبُهُمْ وَبَعِيدُهُمْ ( فِي الْوَقْفِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَ ) عَلَى ( النَّسْلِ ، وَ ) عَلَى ( الْعَقِبِ ) بِكَسْرِ الْقَافِ بِخَطِّهِ ، وَيَجُوزُ إسْكَانُهَا ، وَهُوَ وَلَدُ الرَّجُلِ الَّذِي يَبْقَى بَعْدَهُ قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ ( وَ ) عَلَى ( أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ ) لِصِدْقِ اللَّفْظِ بِهِمْ .
أَمَّا فِي الذُّرِّيَّةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ } إلَى أَنْ ذَكَرِ عِيسَى ، وَلَيْسَ هُوَ إلَّا وَلَدُ الْبِنْتِ وَالنَّسْلُ وَالْعَقِبُ فِي مَعْنَاهُ ( إلَّا أَنْ يَقُولَ عَلَى مَنْ يَنْتَسِبُ إلَيَّ مِنْهُمْ ) أَيْ مِنْ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ ، فَلَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُنْسَبُونَ إلَيْهِ ، بَلْ إلَى آبَائِهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ : { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ : إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ } .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّ أَوْلَادَ بَنَاتِهِ يُنْسَبُونَ إلَيْهِ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي النِّكَاحِ .
فَإِنْ قِيلَ قَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ دُخُولُ أَوْلَادِ الْبَنِينَ .
سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَاقِفُ رَجُلًا أَمْ امْرَأَةً ، وَهُوَ مُشْكِلٌ فِي الْمَرْأَةِ لِقَوْلِهِمْ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ إنَّهُ لَا مُشَارَكَةَ بَيْنَ الْأُمِّ وَالِابْنِ فِي النَّسَبِ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّ ذِكْرَ الِانْتِسَابِ فِي الْمَرْأَةِ هُنَا لِبَيَانِ الْوَاقِعِ لَا لِلْإِخْرَاجِ ، فَيَدْخُلُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ أَيْضًا وَإِلَّا يَلْزَمُ إلْغَاءُ الْوَقْفِ أَصْلًا ، فَالْعِبْرَةُ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ اللُّغَوِيَّةِ لَا الشَّرْعِيَّةِ ، وَيَكُونُ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ مَحْمُولًا عَلَى وَقْفِ الرَّجُلِ .
تَنْبِيهٌ : يَدْخُلُ الْخُنْثَى فِي الْوَقْفِ عَلَى الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ ، وَالِاشْتِبَاهُ إنَّمَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ .
نَعَمْ إنَّمَا يُعْطِي الْمُتَيَقِّنَ إذَا فَاضَلَ بَيْنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَيُوقَفُ الْبَاقِي إلَى الْبَيَانِ ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ عَلَى أَحَدِهِمَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مِنْ الصِّنْفِ الْآخَرِ ، وَظَاهِرُ هَذَا كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ
أَنَّ الْمَالَ يُصْرَفُ إلَى مَنْ عَيَّنَهُ مِنْ الْبَنِينَ أَوْ الْبَنَاتِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ اسْتِحْقَاقَهُمْ لِنَصِيبِ الْخُنْثَى ، بَلْ يُوقَفُ نَصِيبُهُ إلَى الْبَيَانِ كَمَا فِي الْمِيرَاثِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْمُسْلِمِ ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْأَوْلَادِ الْمَنْفِيُّ بِاللِّعَانِ عَلَى الصَّحِيحِ لِانْتِفَاءِ نَسَبِهِ عَنْهُ ، فَلَوْ اسْتَلْحَقَهُ بَعْدَ نَفْيِهِ دَخَلَ جَزْمًا ، وَالْمُسْتَحَقُّونَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ حِمْلًا عِنْدَ الْوَقْفِ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الِانْفِصَالِ لَا يُسَمَّى وَلَدًا ، فَلَا يَسْتَحِقُّ غَلَّةَ مُدَّةِ الْحَمْلِ ، فَلَوْ كَانَ الْمَوْقُوفُ نَخْلَةً فَخَرَجَتْ ثَمَرَتُهَا قَبْلَ خُرُوجِ الْحَمْلِ لَا يَكُونُ لَهُ مِنْ تِلْكَ الثَّمَرَةِ شَيْءٌ .
فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا اسْتَحَقَّ كَالْمِيرَاثِ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَا تَسْمِيَتُهُ وَلَدًا ، وَهُوَ لَا يُسَمَّى كَمَا مَرَّ بِخِلَافِ الْإِرْثِ .
وَأَمَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ : فَيَسْتَحِقُّ قَطْعًا ، وَكَذَا الْأَوْلَادُ الْحَادِثُ عُلُوقُهُمْ بَعْدَ الْوَقْفِ يَسْتَحِقُّونَ إذَا انْفَصَلُوا عَلَى الصَّحِيحِ ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ دَخَلَ فِيهِمْ الْبَنَاتُ ؛ لِأَنَّهُ يُعَبِّرُ بِهِ عَنْ الْقَبِيلَةِ ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ ، وَلَا يَدْخُلُ الْأَخَوَاتُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْإِخْوَةِ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فِي آخِرِ الْوَصِيَّةِ ، وَإِنْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ بِدُخُولِهِنَّ .
وَلَوْ وَقَفَ عَلَى مَوَالِيهِ وَلَهُ مُعْتِقٌ وَمُعْتَقٌ قُسِمَ بَيْنَهُمَا ، وَقِيلَ يَبْطُلُ ، وَالصِّفَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى جُمَلٍ مَعْطُوفَةٍ تُعْتَبَرُ فِي الْكُلِّ كَوَقَفْت عَلَى مُحْتَاجِي أَوْلَادِي وَأَحْفَادِي وَإِخْوَتِي ، وَكَذَا الْمُتَأَخِّرَةُ عَلَيْهَا ، وَالِاسْتِثْنَاءُ إذَا عُطِفَ بِوَاوٍ : كَقَوْلِهِ عَلَى أَوْلَادِي وَأَحْفَادِي وَإِخْوَتِي الْمُحْتَاجِينَ أَوْ إلَّا أَنْ يَفْسُقَ بَعْضُهُمْ .
( وَلَوْ وَقَفَ عَلَى مَوَالِيهِ وَلَهُ مُعْتِقٌ ) بِكَسْرِ التَّاءِ ( وَمُعْتَقٌ ) بِفَتْحِ التَّاءِ ( قُسِمَ ) الْمَوْقُوفُ ( بَيْنَهُمَا ) نِصْفَيْنِ عَلَى الصِّنْفَيْنِ لَا عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ عَلَى الرَّاجِحِ ( وَقِيلَ يَبْطُلُ ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِجْمَالِ ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْعُمُومِ لِاخْتِلَافِ مَعْنَاهُمَا ، وَتَرْجِيحُ الْأَوَّلِ مِنْ زِيَادَتِهِ ، وَصَحَّحَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ أَيْضًا ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي الْبُوَيْطِيِّ ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ : وَلَهُ مُعْتِقٌ وَمُعْتَقٌ مَا إذَا لَمْ يُوجَدْ إلَّا أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ قَطْعًا ، فَلَوْ طَرَأَ الْآخَرُ بَعْدَهُ لَمْ يَدْخُلْ وَإِنْ بَحَثَ ابْنُ النَّقِيبِ دُخُولَهُ قِيَاسًا عَلَى الْأَوْلَادِ .
أُجِيبَ عَنْ الْقِيَاسِ بِأَنَّ إطْلَاقَ الْمَوْلَى عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ ، وَقَدْ دَلَّتْ الْقَرِينَةُ ، وَهِيَ الِانْحِصَارُ فِي الْمَوْجُودِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ ، فَصَارَ الْمَعْنَى الْآخَرُ غَيْرَ مُرَادٍ .
وَأَمَّا مَعَ الْقَرِينَةِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِمَا احْتِيَاطًا أَوْ عُمُومًا عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ مُقَرَّرٍ فِي الْأُصُولِ ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ عَلَى الْإِخْوَةِ ، فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ وَاحِدَةٌ ، وَإِطْلَاقُ الِاسْمِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَوَاطِئِ ، فَمَنْ صَدَقَ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْمُ اسْتَحَقَّ مِنْ الْوَقْفِ إلَّا أَنْ يُقَيِّدَ الْوَاقِفُ بِالْمَوْجُودِينَ حَالَ الْوَقْفِ فَيُتْبَعُ تَقْيِيدُهُ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ يَخْتَصُّ بِحَالَةِ الْجَمْعِ ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الْإِمَامِ لَا يَتَّجِهُ التَّشْرِيكُ فِي الْأَفْرَادِ كَوَقَفْت عَلَى مَوْلَايَ وَيَنْقَدِحُ مُرَاجَعَةُ الْوَاقِفِ ، لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ ابْنِ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ كَأَصْلِهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْمَوَالِي ، وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ ، وَإِذَا اقْتَضَى الْحَالُ الصَّرْفَ إلَى الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ بِتَصْرِيحٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَنْ يَعْتِقُ بِمَوْتِهِ فِي الْأَصَحِّ
كَمَا ذَكَرَهُ فِي الرَّوْضَةِ فِي الْوَصَايَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ الْمَوَالِي لَا حَالَ الْوَصِيَّةِ وَلَا حَالَ الْمَوْتِ ، وَقَضِيَّةُ التَّقْيِيدِ بِالْمَوْتِ أَنَّ مَنْ عَتَقَ فِي حَيَاتِهِ وَلَوْ بَعْدَ الْوَقْفِ يَدْخُلُ ( وَالصِّفَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى جُمَلٍ ) أَوْ مُفْرَدَاتٍ ( مَعْطُوفَةٍ ) لَمْ يَتَخَلَّلْهَا كَلَامٌ طَوِيلٌ ( تُعْتَبَرُ ) تِلْكَ الصِّفَةُ ( فِي الْكُلِّ ) مِنْ تِلْكَ الْجُمَلِ أَوْ الْمُفْرَدَاتِ ( كَوَقَفْت عَلَى مُحْتَاجِي أَوْلَادِي وَأَحْفَادِي ) وَهُمْ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ ( وَإِخْوَتِي ، وَكَذَا ) الصِّفَةُ ( الْمُتَأَخِّرَةُ عَلَيْهَا ) أَيْ عَنْهَا كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ ( وَالِاسْتِثْنَاءُ ) يُعْتَبَرَانِ فِي الْكُلِّ ( إذَا عُطِفَ ) فِيهِمَا ( بِوَاوٍ كَقَوْلِهِ ) فِي الْمُتَأَخِّرَةِ وَقَفْت ( عَلَى أَوْلَادِي وَأَحْفَادِي وَإِخْوَتِي الْمُحْتَاجِينَ ) وَالْمُحْتَاجُ مَنْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ كَمَا أَفْتَى بِهِ الْقَفَّالُ ، وَإِنْ بَحَثَ الزَّرْكَشِيُّ مُرَاجَعَةَ الْوَاقِفِ إنْ أَمْكَنَ ( وَإِلَّا أَنْ يَفْسُقَ بَعْضُهُمْ ) لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ اشْتِرَاكُ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْمُتَعَلِّقَاتِ كَالصِّفَةِ وَغَيْرِهَا ، وَكَذَا الِاسْتِثْنَاءُ بِجَامِعِ عَدَمِ الِاسْتِقْلَالِ ، وَإِنْ عَطَفَ مَا ذَكَرَ مِنْ الْمُتَعَاطِفَاتِ بِثُمَّ أَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِكَلَامٍ طَوِيلٍ اُخْتُصَّتْ الصِّفَةُ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَعْطُوفِ الْأَخِيرِ فَالشَّرْطُ فِي عَوْدِهِمَا لِلْجَمِيعِ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ ، وَأَنْ لَا يَتَخَلَّلَ كَلَامٌ طَوِيلٌ كَمَا نَقَلَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْإِمَامِ وَأَقَرَّهُ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَمَا نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ إنَّمَا هُوَ احْتِمَالٌ لَهُ وَالْمَذْهَبُ خِلَافُهُ وَقَدْ صَرَّحَ هُوَ فِي الْبُرْهَانِ بِأَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ الْعَوْدُ إلَى الْجَمِيعِ وَإِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِثُمَّ .
قَالَ فِي الْمُخْتَارِ : إنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْوَاوِ بَلْ الضَّابِطُ وُجُودُ عَاطِفٍ جَامِعٍ بِالْوَضْعِ كَالْوَاوِ وَالْفَاءِ وَثُمَّ ا هـ .
وَهَذَا الْمُخْتَارُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَتَقْدِيمُ
الصِّفَةِ عَلَى الْمُتَعَاطِفَاتِ كَتَأْخِيرِهَا عَنْهَا فِي عَوْدِهَا إلَى الْجَمِيعِ ، وَكَذَا الْمُتَوَسِّطَةُ ، وَإِنْ قَالَ السُّبْكِيُّ : الظَّاهِرُ اخْتِصَاصُهَا بِمَا وَلِيَتْهُ ا هـ .
وَمِثْلُهَا فِيمَا ذُكِرَ الِاسْتِثْنَاءُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ عَوْدَ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْجُمَلِ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْعَطْفِ ، فَقَدْ نَقَلَ الرَّافِعِيُّ فِي الْأَيْمَانِ أَنَّهُ يَعُودُ إلَيْهَا بِلَا عَطْفٍ حَيْثُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ لَوْ قَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْتِ طَالِقٌ عَبْدِي حُرٌّ لَمْ تَطْلُقْ وَلَمْ يَعْتِقْ .
تَنْبِيهٌ : مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِثَالٌ لِعَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ لَا الْجُمَلِ إلَّا أَنْ يُقَدَّرَ لِكُلٍّ مِنْ الْمَعْطُوفَاتِ عَامِلٌ ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى زَوْجَاتِهِ أَوْ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَبَنَاتِهِ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْنَ فَتَزَوَّجَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ خَرَجَتْ ، وَلَا تَعُودُ إذَا طَلُقَتْ أَوْ فَارَقَتْ بِفَسْخٍ أَوْ وَفَاةٍ ، فَإِنْ قِيلَ : لَوْ وَقَفَ عَلَى بَنَاتِهِ الْأَرَامِلِ فَتَزَوَّجَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ ثُمَّ طَلُقَتْ عَادَ اسْتِحْقَاقُهَا ، فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ فِي الْبَنَاتِ أَثْبَتَ اسْتِحْقَاقَ الْبَنَاتِ الْأَرَامِلِ ، وَبِالطَّلَاقِ صَارَتْ أَرْمَلَةً ، وَهُنَا جَعَلَهَا مُسْتَحِقَّةً إلَّا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَبِالطَّلَاقِ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا تَزَوَّجَتْ ، وَمُقْتَضَى هَذَا وَكَلَامُ ابْنِ الْمُقْرِي ، وَأَصْلُهُ مَنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ أَصْلًا أَرْمَلَةٌ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهَا الَّتِي فَارَقَهَا زَوْجُهَا ، وَفِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الرَّوْضَةِ أَنَّهُ الْأَصَحُّ ، وَعَلَى هَذَا فَلَا سُؤَالَ .
.
فَصْلٌ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْمِلْكَ فِي رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ يَنْتَقِلُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى : أَيْ يَنْفَكُّ عَنْ اخْتِصَاصِ الْآدَمِيِّ ، فَلَا يَكُونُ لِلْوَاقِفِ وَلَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الْوَقْفِ الْمَعْنَوِيَّةِ ( الْأَظْهَرُ أَنَّ الْمِلْكَ فِي رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ ) عَلَى مُعَيَّنٍ أَوْ جِهَةٍ ( يَنْتَقِلُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ) وَفَسَّرَ الْمُصَنِّفُ انْتِقَالَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ ( أَيْ يَنْفَكُّ عَنْ اخْتِصَاصِ الْآدَمِيِّ ) ذَكَرًا وَأُنْثَى ، وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ .
قَالَ الْإِمَامُ فِي الشَّامِلِ : لَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّ الْعِبَادِ مِلْكُ الرِّقَابِ وَإِنْ أُطْلِقَ تَوَسُّعًا ، فَالْمَالِكُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَوْلُهُ ( فَلَا يَكُونُ لِلْوَاقِفِ وَلَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ) أَشَارَ بِهِ إلَى الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ .
وَجْهُ بَقَاءِ الْمِلْكِ لِلْوَاقِفِ أَنَّهُ حَبَسَ الْأَصْلَ وَسَبَّلَ الثَّمَرَةَ ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ ، وَوَجْهُ الثَّالِثِ الْإِلْحَاقُ بِالصَّدَقَةِ .
فَإِنْ قِيلَ الْوَقْفُ يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، وَهُوَ يَدُلُّ لِهَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ ، وَأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالثُّبُوتِ هُوَ الرِّيعُ ، وَهُوَ حَقٌّ آدَمِيٌّ ، وَلَوْ جَعَلَ الْبُقْعَةَ مَسْجِدًا أَوْ مَقْبَرَةً انْفَكَّ عَنْهَا اخْتِصَاصُ الْآدَمِيِّ قَطْعًا ، وَمِثْلُهَا الرِّبَاطُ وَالْمَدْرَسَةُ وَنَحْوُهُمَا .
وَمَنَافِعُهُ مِلْكٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ يَسْتَوْفِيهَا بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ بِإِعَارَةٍ وَإِجَارَةٍ ، وَيَمْلِكُ الْأُجْرَةَ
( وَمَنَافِعُهُ ) أَيْ الْمَوْقُوفُ عَلَى مُعَيَّنٍ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ( مِلْكٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ) وَفَسَّرَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْمِلْكَ بِقَوْلِهِ ( يَسْتَوْفِيهَا بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ بِإِعَارَةٍ وَإِجَارَةٍ ) كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ ، وَلَكِنْ لَا يُؤَجِّرُ إلَّا إذَا كَانَ نَاظِرًا أَوْ أَذِنَ لَهُ النَّاظِرُ فِي ذَلِكَ .
نَعَمْ لِلنَّاظِرِ مَنْعُهُ مِنْ سُكْنَى الدَّارِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَيْهِ لِيُؤَجِّرَهَا لِلْعِمَارَةِ إنْ اقْتَضَاهَا الْحَالُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَمْنَعْهُ لَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى الْخَرَابِ ، وَفُهِمَ مِنْ تَجْوِيزِ الْإِعَارَةِ الْإِجَارَةُ بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ، وَبِهِ صَرَّحَ الْإِمَامُ ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ كَالْفُقَرَاءِ لَمْ يَمْلِكْ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةَ بَلْ الِانْتِفَاعَ ، أَوْ قُيِّدَ بِشَيْءٍ كَمَا لَوْ وَقَفَ دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا مُعَلِّمُ الصِّبْيَانِ بِالْقَرْيَةِ مَثَلًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْكِنَهَا غَيْرَهُ بِأُجْرَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا ، وَقَضِيَّةُ هَذَا مَنْعُ إعَارَتِهَا .
وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ بِالْمُسَامَحَةِ بِإِعَارَةِ بَيْتِ الْمُدَرِّسِ وَنَحْوِهِ .
وَقَدْ نُقِلَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا وَلِيَ دَارَ الْحَدِيثِ وَفِيهَا قَاعَةٌ لِلشَّيْخِ لَمْ يَسْكُنْهَا وَأَسْكَنَهَا غَيْرَهُ ، فَلَوْ قَالَ الْوَاقِفُ : لِتُشْغَلْ وَيُعْطَى الْمُعَلِّمُ غَلَّتَهَا لَمْ يَسْكُنْهَا كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا عَنْ فَتَاوَى الْقَفَّالِ وَغَيْرِهِ ، وَلَوْ حَصَلَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ نَقْصٌ فِي عَيْنِ الْمَوْقُوفِ كَرَصَاصِ الْحَمَّامِ وَاسْتَوْفَى الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْأُجْرَةَ لَزِمَهُ قِيمَةُ مَا أَذْهَبَتْهُ النَّارُ مِنْ الرَّصَاصِ مِمَّا قَبَضَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ وَصَرَفَهُ فِي مِثْلِهِ ، قَالَهُ فِي الْمَطْلَبِ تَفَقُّهًا .
قَالَ الدَّمِيرِيُّ : وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ قَوْلُهُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَنَّ الْوَاقِفَ لَا يَنْتَفِعُ بِشَيْءٍ مِنْ الْوَقْفِ لَكِنْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا لَوْ وَقَفَ شَخْصٌ مِلْكَهُ مَسْجِدًا أَوْ مَقْبَرَةً أَوْ بِئْرًا فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ وَيُدْفَنَ
فِيهِ وَيَسْتَقِيَ مِنْهُ ( وَيَمْلِكُ الْأُجْرَةَ ) لِلْمَوْقُوفِ كَمَا لَوْ أَجَرَ مِلْكَهُ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْمَنَافِعِ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ يُفْهِمُ هَذَا أَنَّ النَّاظِرَ لَوْ أَجَرَ الْوَقْفَ سِنِينَ بِأُجْرَةٍ مُعَجَّلَةٍ أَنَّ لَهُ صَرْفَهَا إلَيْهِ فِي الْحَالِ ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُرَاجِعْهُ .
وَفَوَائِدُهُ كَثَمَرَةٍ وَصُوفٍ وَلَبَنٍ ، وَكَذَا
( وَ ) يَمْلِكُ أَيْضًا ( فَوَائِدُهُ ) الْحَاصِلَةَ بَعْدَ الْوَقْفِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَوْ شَرَطَ أَنَّهَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ( كَثَمَرَةٍ ) وَأَغْصَانِ خِلَافٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُعْتَادُ قَطْعُهُ ، لِأَنَّهَا كَالثَّمَرَةِ ، بِخِلَافِ مَا لَا يُعْتَادُ قَطْعُهُ .
نَعَمْ إنْ شَرَطَ قَطْعَ الْأَغْصَانِ الَّتِي لَا يُعْتَادُ قَطْعُهَا مَعَ ثِمَارِهَا كَانَتْ لَهُ ، قَالَهُ الْإِمَامُ .
أَمَّا الثَّمَرَةُ الْمَوْجُودَةُ حَالَ الْوَقْفِ ، فَهِيَ لِلْوَاقِفِ إنْ كَانَتْ مُؤَبَّرَةً وَإِلَّا فَقَوْلَانِ .
قَالَهُ الدَّارِمِيُّ ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ( وَصُوفٍ ) وَشَعَرٍ وَوَبَرٍ وَرِيشٍ ( وَلَبَنٍ وَكَذَا ) .
الْوَلَدُ فِي الْأَصَحِّ ، وَالثَّانِي يَكُونُ وَقْفًا
( الْوَلَدُ ) الْحَادِثُ بَعْدَ الْوَقْفِ يَمْلِكُهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَوْ عِنْدَ شَرْطِ الْوَلَدِ لَهُ ( فِي الْأَصَحِّ ) كَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ ( وَالثَّانِي : يَكُونُ وَقْفًا ) تَبَعًا لِأُمِّهِ ، وَلَوْ كَانَتْ حَامِلًا عِنْدَ الْوَقْفِ فَوَلَدُهَا وَقْفٌ عَلَى الثَّانِي ، وَكَذَا عَلَى الْأَوَّلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ، وَمِثْلُهُ الصُّوفُ وَنَحْوُهُ كَمَا بَحَثَهُ شَيْخُنَا تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ مِلْكِهِ لِوَلَدِ الْأَمَةِ إذَا كَانَ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ زِنًا ، فَإِنْ كَانَ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ فَهُوَ حُرٌّ ، وَعَلَى الْوَاطِئِ قِيمَتُهُ وَتَكُونُ مِلْكًا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إنْ جَعَلْنَا الْوَلَدَ مِلْكًا لَهُ ، وَإِلَّا فَيُشْتَرَى بِهَا عَبْدٌ وَيُوقَفُ كَمَا قَالَاهُ ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ إنَّمَا يُشْتَرَى بِهِ عَبْدٌ إذَا كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا وَإِلَّا فَأُنْثَى كَمَا لَوْ قُتِلَ الْمَوْقُوفُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ حِينَ انْعِقَادِهِ لَمْ يَكُنْ صَالِحًا لِلْوَقْفِيَّةِ بِخِلَافِ الْأَمَةِ الْمَوْقُوفَةِ إذَا قُتِلَتْ فَشِرَاءُ الْعَبْدِ بِالْقِيمَةِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الْأَمَةِ وَيُكْسِبُهُ مَا لَا تُكْسِبُهُ فَهُوَ أَصْلَحُ لِلْوَقْفِ ، وَخَرَجَ بِعِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَقْفُ دَابَّةٍ لِرُكُوبٍ فَفَوَائِدُهَا مِنْ دَرٍّ وَنَحْوِهِ لِلْوَاقِفِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي الْوَقْفِ وَالْحَيَوَانُ الْمَوْقُوفُ لِلْإِنْزَاءِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْإِنْزَاءِ .
نَعَمْ لَوْ عَجَزَ عَنْ الْإِنْزَاءِ جَازَ اسْتِعْمَالُ الْوَاقِفِ لَهُ فِي غَيْرِهِ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ .
وَلَوْ مَاتَتْ الْبَهِيمَةُ اخْتَصَّ بِجِلْدِهَا
( وَلَوْ مَاتَتْ الْبَهِيمَةُ ) الْمَوْقُوفَةُ ( اخْتَصَّ بِجِلْدِهَا ) لِأَنَّهُ أَوْلَى بِهَا مِنْ غَيْرِهِ ، فَإِنْ انْدَبَغَ وَلَوْ بِنَفْسِهِ كَمَا بَحَثَهُ شَيْخُنَا عَادَ وَقْفًا ، قَالَ فِي الدَّقَائِقِ : وَعَبَّرْت بِالِاخْتِصَاصِ ؛ لِأَنَّ النَّجِسَ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ ، وَإِنْ قَطَعَ بِمَوْتِ الْبَهِيمَةِ الْمَوْقُوفَةِ الْمَأْكُولَةِ جَازَ ذَبْحُهَا لِلضَّرُورَةِ ، وَهَلْ يَفْعَلُ الْحَاكِمُ بِلَحْمِهَا مَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً أَوْ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ دَابَّةٌ مِنْ جِنْسِهَا وَتُوقَفُ ؟ وَجْهَانِ رَجَّحَ الْأَوَّلَ ابْنُ الْمُقْرِي وَالثَّانِيَ : صَاحِبُ الْأَنْوَارِ ، وَهُوَ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَوْلَى بِالتَّرْجِيحِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ بِمَوْتِهَا لَمْ يَجُزْ ذَبْحُهَا وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ الِانْتِفَاعِ كَمَا لَا يَجُوزُ إعْتَاقُ الْعَبْدِ الْمَوْقُوفِ .
وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الرَّوْضَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا حَيَّةً ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا صَحَّحَهُ الْمَحَامِلِيُّ وَالْجُرْجَانِيُّ ، وَإِنْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ بِالْجَوَازِ .
وَلَهُ مَهْرُ الْجَارِيَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ إنْ صَحَّحْنَاهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
( وَلَهُ ) أَيْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ( مَهْرُ ) وَطْءِ ( الْجَارِيَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ ) أَوْ زَنَى بِهَا مُكْرَهَةً أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزَةٍ ( أَوْ نِكَاحٍ إنْ صَحَّحْنَاهُ ) أَيْ نِكَاحَهَا ( وَهُوَ الْأَصَحُّ ) إذَا زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ مِنْ غَيْرِ الْوَاقِفِ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَأَذِنَ لَهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَوَائِدِ كَالثَّمَرَةِ ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْوَاقِفِ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَطْءُ الْأَمَةِ الْمَوْقُوفَةِ ، وَلَا يَلْزَمُ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ الْإِذْنُ فِي تَزْوِيجِهَا وَإِنْ طَلَبَتْهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا بَلْ لَوْ وُقِفَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ انْفَسَخَ نِكَاحُهُ إنْ قَبِلَ الْوَقْفَ عَلَى الْقَوْلِ بِاشْتِرَاطِ الْقَبُولِ ، وَلَا يَحِلُّ نِكَاحُهَا لِلْوَاقِفِ أَيْضًا .
وَإِذَا وَطِئَهَا الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ وَلَا قِيمَةُ وَلَدِهَا الْحَادِثِ بِتَلَفِهِ أَوْ بِانْعِقَادِهِ حُرًّا ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ وَلَدُ الْمَوْقُوفَةِ الْحَادِثُ لَهُ ، وَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ حَيْثُ لَا شُبْهَةَ كَالْوَاقِفِ ، وَلَا أَثَرَ لِمِلْكِهِ الْمَنْفَعَةَ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِمَنْفَعَةِ أَمَةٍ إذَا وَطِئَهَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ إنْ صَحَّحْنَاهُ لَا مَفْهُومَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَصِحَّ كَانَ وَطْءَ شُبْهَةٍ ، وَقَدْ قَالَ : إنَّ الْمَهْرَ لَهُ فِي ذَلِكَ .
أَمَّا إذَا زَنَى بِهَا مُطَاوِعَةً وَهِيَ مُمَيِّزَةٌ فَلَا مَهْرَ لَهَا .
وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قِيمَةَ الْعَبْدِ الْمَوْقُوفِ إذَا أُتْلِفَ بَلْ يُشْتَرَى بِهَا عَبْدٌ لِيَكُونَ وَقْفًا مَكَانَهُ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَبَعْضُ عَبْدٍ .
( وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ ) أَيْ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ وَكَذَا الْوَاقِفُ ( لَا يَمْلِكُ قِيمَةَ الْعَبْدِ ) مَثَلًا ( الْمَوْقُوفِ إذَا ) تَلِفَ تَحْتَ يَدٍ ضَامِنَةٍ لِرَقَبَتِهِ أَوْ ( أُتْلِفَ ) سَوَاءٌ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ أَمْ الْوَاقِفُ أَمْ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ تَعَدِّيًا .
أَمَّا إذَا أَتْلَفَهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بِلَا تَعَدٍّ فَلَا ضَمَانَ ، وَمِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ الْكِيزَانُ الْمُسَبَّلَةُ عَلَى أَحْوَاضِ الْمَاءِ ، وَكَذَا الْكُتُبُ الْمَوْقُوفَةُ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ مَثَلًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنْهَا بِلَا تَعَدٍّ ، وَإِنْ تَعَدَّى ضَمِنَ ، وَمِنْ التَّعَدِّي اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ مَا وُقِفَ لَهُ ( بَلْ يُشْتَرَى بِهَا ) أَيْ بِالْقِيمَةِ ( عَبْدٌ ) مِثْلُهُ فَلَا يُشْتَرَى أَمَةٌ بِقِيمَتِهِ وَلَا عَبْدٌ بِقِيمَةِ أَمَةٍ وَلَا صَغِيرٌ بِقِيمَةِ كَبِيرٍ وَلَا عَكْسُهُ عَلَى أَقْوَى الْوَجْهَيْنِ كَمَا رَجَّحَهُ الْمُصَنِّفُ ( لِيَكُونَ وَقْفًا مَكَانَهُ ) مُرَاعَاةً لِغَرَضِ الْوَاقِفِ مِنْ اسْتِمْرَارِ الثَّوَابِ وَتَعَلُّقِ حَقِّ الْبَطْنِ الثَّانِي وَمَا بَعْدَهُ بِهِ .
تَنْبِيهٌ : الَّذِي يَتَوَلَّى الشِّرَاءَ وَالْوَقْفَ هُوَ الْحَاكِمُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِلْوَقْفِ نَاظِرٌ خَاصٌّ أَوْ لَا ، وَهُوَ كَذَلِكَ خِلَافًا لِلزَّرْكَشِيِّ فِي الشِّقِّ الْأَوَّلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَوْقُوفَ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ لِيَكُونَ وَقْفًا إلَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ وَقْفًا حَتَّى يَقِفَهُ الْحَاكِمُ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَبْنِيِّ فِي عِمَارَةِ الْجُدْرَانِ الْمَوْقُوفَةِ وَتَرْمِيمِهَا حَيْثُ يَصِيرُ وَقْفًا بِالْبِنَاءِ لِجِهَةِ الْوَقْفِ ، بِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَوْقُوفَ مِثْلًا قَدْ فَاتَ بِالْكُلِّيَّةِ وَالْأَرْضُ الْمَوْقُوفَةُ بَاقِيَةٌ وَالطِّينُ وَالْحَجَرُ الْمَبْنِيُّ بِهِمَا كَالْوَصْفِ التَّابِعِ ( فَإِنْ تَعَذَّرَ ) شِرَاءُ عَبْدٍ بِقِيمَةِ التَّالِفِ ( فَبَعْضُ عَبْدٍ ) ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ الْوَاقِفِ بِخِلَافِ الْأُضْحِيَّةِ حَيْثُ لَا يُشْتَرَى بِقِيمَتِهَا شِقْصُ شَاةٍ لِتَعَذُّرِ التَّضْحِيَةِ
بِهِ ، وَقِيلَ : يَمْلِكُ الْقِيمَةَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَهُ ، وَيَنْتَهِي الْوَقْفُ لَهُ .
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي : الْقَطْعُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِهَا إلَخْ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الشِّقْصُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يَبْقَى الْبَدَلُ إلَى أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ شِرَاءِ شِقْصٍ .
ثَانِيهَا : يَكُونُ مِلْكًا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ .
ثَالِثُهَا : يَكُونُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَى الْوَاقِفِ ، وَهَذَا أَقْرَبُهَا ، وَلَوْ جَنَى الْمَوْقُوفُ جِنَايَةً تُوجِبُ قِصَاصًا اُقْتُصَّ مِنْهُ ، وَفَاتَ الْوَقْفُ كَمَا لَوْ مَاتَ ، وَإِنْ وَجَبَ بِجِنَايَتِهِ مَالٌ أَوْ قِصَاصٌ وَعُفِيَ عَلَى مَالٍ فَدَاهُ الْوَاقِفُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ وَالْأَرْشِ ، وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ الْمَالُ بِرَقَبَتِهِ لِتَعَذُّرِ بَيْعِهِ وَلَهُ إنْ تَكَرَّرَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهُ حُكْمُ أُمِّ الْوَلَدِ ، وَإِنْ مَاتَ الْوَاقِفُ ثُمَّ جَنَى الْعَبْدُ أُفْدِيَ مِنْ كَسْبِهِ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَالْحُرِّ الْمُعْسِرِ وَلَا يُفْتَدَى مِنْ تَرِكَةِ الْوَاقِفِ ؛ لِأَنَّهَا انْتَقَلَتْ إلَى الْوَارِثِ .
وَلَوْ جَفَّتْ الشَّجَرَةُ لَمْ يَنْقَطِعْ الْوَقْفُ عَلَى الْمَذْهَبِ ، بَلْ يُنْتَفَعُ بِهَا جِذْعًا ، وَقِيلَ تُبَاعُ ، وَالثَّمَنُ كَقِيمَةِ الْعَبْدِ .
( وَلَوْ ) تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَةُ الْمَوْقُوفِ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ كَأَنْ ( جَفَّتْ الشَّجَرَةُ ) أَوْ قَلَعَهَا رِيحٌ أَوْ سَيْلٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ وَلَمْ يُمْكِنْ إعَادَتُهَا إلَى مَغْرِسِهَا قَبْلَ جَفَافِهَا ( لَمْ يَنْقَطِعْ الْوَقْفُ عَلَى الْمَذْهَبِ ) وَإِنْ امْتَنَعَ وَقْفُهَا ابْتِدَاءً لِقُوَّةِ الدَّوَامِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ عَبَّرَ كَالْمُحَرَّرِ وَالرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا بِالْأَصَحِّ كَانَ أَوْلَى ، فَإِنَّ الْمُقَابِلَ وَجْهٌ يَقُولُ : إنَّ الْوَقْفَ يَنْقَطِعُ وَيَنْقَلِبُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ أَوْ وَارِثِهِ لَا طَرِيقَةً ( بَلْ يُنْتَفَعُ بِهَا ) حَالَ كَوْنِهَا ( جِذْعًا ) بِإِجَارَةٍ وَغَيْرِهَا إدَامَةً لِلْوَقْفِ فِي عَيْنِهَا وَلَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ لِلْخَبَرِ السَّابِقِ أَوَّلَ الْبَابِ ( وَقِيلَ تُبَاعُ ) لِتَعَذُّرِ الِانْتِفَاعِ كَمَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ ( وَالثَّمَنُ ) عَلَى هَذَا حُكْمُهُ ( كَقِيمَةِ الْعَبْدِ ) الْمُتْلَفِ عَلَى مَا سَبَقَ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الِانْتِفَاعُ بِهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهَا بِإِحْرَاقٍ أَوْ نَحْوِهِ فَفِيهِ خِلَافٌ .
قِيلَ : تَصِيرُ مِلْكًا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ، لَكِنَّهَا لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ بَلْ يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهَا كَأُمِّ الْوَلَدِ وَلَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ ، وَصَحَّحَ هَذَا ابْنُ الرِّفْعَةِ وَالْقَمُولِيُّ وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ وَنَقْلِهِ أَصْلَهُ عَنْ اخْتِيَارِ الْمُتَوَلِّي ، وَلَكِنْ اقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ كَالْحَاوِي الصَّغِيرِ يَقْتَضِي أَنَّهَا لَا تَصِيرُ مِلْكًا بِحَالٍ .
قَالَ شَيْخُنَا : وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ الْمُوَافِقُ لِلدَّلِيلِ وَكَلَامِ الْجُمْهُورِ ا هـ .
وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : يَلْزَمُ عَلَيْهِ التَّنَافِي إذْ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يَبْطُلُ وَتَعُودُ مِلْكًا مُتَنَافِيَانِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى عَوْدِهِ مِلْكًا أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَوْ بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهِ كَالْإِحْرَاقِ ، وَمَعْنَى عَدَمِ بُطْلَانِ الْوَقْفِ أَنَّهُ مَا دَامَ بَاقِيًا لَا يُفْعَلُ بِهِ مَا يُفْعَلُ بِسَائِرِ الْأَمْلَاكِ مِنْ بَيْعٍ وَنَحْوِهِ كَمَا مَرَّ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ
بَقَاءِ الْوَقْفِ وَعَوْدِهِ مِلْكًا ، بَلْ قِيلَ : إنَّ الْمَوْقُوفَ مِلْكٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فِي حَالِ الِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَلَوْ كَانَ الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ مَوْقُوفًا فِي أَرْضٍ مُسْتَأْجَرَةٍ وَصَارَ الرِّيعُ لَا يَفِي بِالْأُجْرَةِ أَوْ يَفِي بِهَا فَقَطْ .
أَفْتَى ابْنُ الْأُسْتَاذِ بِأَنَّهُ يَلْتَحِقُ بِمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهِ : أَيْ بِإِحْرَاقٍ وَنَحْوِهِ فَيُقْلَعُ ، وَيُنْتَفَعُ بِعَيْنِهِ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا صُرِفَ إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ا هـ .
وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ مَا مَرَّ .
ثُمَّ قَالَ : وَإِنْ كَانَ الْغِرَاسُ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهِ بَعْدَ الْقَلْعِ وَانْتَهَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ ، وَاخْتَارَ الْمُؤَجِّرُ قَلْعَهُ فَيَظْهَرُ عَدَمُ صِحَّةِ الْوَاقِفِ ابْتِدَاءً ا هـ .
وَهَذَا مَمْنُوعٌ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ يَصِحُّ وَقْفُ الرَّيَاحِينِ الْمَغْرُوسَةِ وَعَلَّلَ بِأَنَّهَا تَبْقَى مُدَّةً .
وَلَوْ اشْتَرَى بِنَاءً عَلَى أَرْضٍ مُحْتَكَرَةٍ وَلَمْ يَسْتَأْجِرْهَا ثُمَّ وَقَفَ الْبِنَاءَ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنْ كَانَ ثَمَّ رِيعٌ وَجَبَتْ مِنْهُ الْأُجْرَةُ وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْ الْوَاقِفَ أُجْرَةٌ لِمَا بَعْدَ الْوَقْفِ ، وَلِلْمَالِكِ مُطَالَبَتُهُ بِالتَّفْرِيعِ ا هـ .
وَإِذَا قَلَعَ يَأْتِي فِيهِ التَّفْصِيلُ الْمُتَقَدِّمُ ، وَإِذَا انْقَلَعَتْ أَشْجَارُ الْمَوْقُوفِ أَوْ انْهَدَمَ بِنَاؤُهُ أُجِرَتْ أَرْضُهُ لِمَا لَا يُرَادُ دَوَامُهُ كَزَرْعِهَا أَوْ لِمَا يُرَادُ كَغَرْسٍ ، وَشَرْطُ قَلْعِهِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ وَغُرِسَتْ الْأَرْضُ أَوْ بُنِيَتْ بِأُجْرَتِهَا الْحَاصِلَةِ بِإِيجَارِهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ .
وَالْأَصَحُّ جَوَازُ بَيْعِ حُصْرِ الْمَسْجِدِ إذَا بَلِيَتْ وَجُذُوعِهِ إذَا انْكَسَرَتْ وَلَمْ تَصْلُحْ إلَّا لِلْإِحْرَاقِ .
( وَالْأَصَحُّ جَوَازُ بَيْعِ حُصْرِ الْمَسْجِدِ ) الْمَوْقُوفَةِ ( إذَا بَلِيَتْ وَجُذُوعِهِ إذَا انْكَسَرَتْ ) أَوْ أَشْرَفَتْ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ، وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ لَفُهِمَ حُكْمُ الْمُنْكَسِرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ( وَلَمْ تَصْلُحْ إلَّا لِلْإِحْرَاقِ ) لِئَلَّا تَضِيعَ وَيَضِيقَ الْمَكَانُ بِهَا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ فَتَحْصِيلُ نَزْرٍ يَسِيرٍ مِنْ ثَمَنِهَا يَعُودُ إلَى الْوَقْفِ أَوْلَى مِنْ ضَيَاعِهَا وَلَا تَدْخُلُ بِذَلِكَ تَحْتَ بَيْعِ الْوَقْفِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومَةِ ، وَهَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ : وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَعَلَى هَذَا يُصْرَفُ ثَمَنُهَا فِي مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَالْقِيَاسُ أَنْ يُشْتَرَى بِثَمَنِ الْحَصِيرِ حَصِيرٌ لَا غَيْرُهَا .
قَالَ : وَيُشْبِهُ أَنَّهُ مُرَادُهُمْ ا هـ .
وَهُوَ ظَاهِرٌ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَالْأَوَّلُ وَكَالْحُصْرِ فِي ذَلِكَ نُحَاتَةُ الْخَشَبِ وَأَسْتَارُ الْكَعْبَةِ إذَا لَمْ يَبْقَ فِيهَا نَفْعٌ وَلَا جَمَالٌ .
وَالثَّانِي : لَا يُبَاعُ مَا ذُكِرَ إدَامَةً لِلْوَقْفِ فِي عَيْنِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي طَبْخِ جِصٍّ أَوْ آجُرٍّ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَقَدْ تَقُومُ قِطْعَةٌ مِنْ الْجُذُوعِ مَقَامَ آجُرَّةٍ وَقَدْ تَقُومُ النَّحَاتَةُ مَقَامَ التُّرَابِ وَيَخْتَلِطُ بِهِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مَقَامَ التِّبْنِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الطِّينِ ، وَجَرَى عَلَى هَذَا جَمْعٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ لَا نَظَرَ لِإِمْكَانِ الِانْتِفَاعِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ لِنُدْرَةِ اصْطِنَاعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِبَعْضِ الْمَسَاجِدِ فَضْلًا عَنْ جَمِيعِهَا .
أَمَّا الْحُصْرُ الْمَوْهُوبَةُ أَوْ الْمُشْتَرَاةُ لِلْمَسْجِدِ ، فَإِنَّهَا تُبَاعُ لِلْحَاجَةِ وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ إلَّا لِلْإِحْرَاقِ عَمَّا إذَا أَمْكَنَ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا أَلْوَاحٌ أَوْ أَبْوَابٌ فَلَا تُبَاعُ قَطْعًا .
تَنْبِيهٌ : جِدَارُ الدَّارِ الْمَوْقُوفَةِ الْمُنْهَدِمُ إذَا تَعَذَّرَ بِنَاؤُهُ كَالتَّالِفِ فَيَأْتِي فِيهِ مَا مَرَّ .
وَلَوْ انْهَدَمَ مَسْجِدٌ وَتَعَذَّرَتْ إعَادَتُهُ لَمْ يُبَعْ بِحَالٍ .
( وَلَوْ انْهَدَمَ مَسْجِدٌ وَتَعَذَّرَتْ إعَادَتُهُ ) أَوْ تَعَطَّلَ بِخَرَابِ الْبَلَدِ مَثَلًا ( لَمْ ) يَعُدْ مِلْكًا وَلَمْ ( يُبَعْ بِحَالٍ ) كَالْعَبْدِ إذَا عَتَقَ ثُمَّ زَمِنَ وَلَمْ يَنْقَضِ إنْ لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِ لِإِمْكَانِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَلِإِمْكَانِ عَوْدِهِ كَمَا كَانَ قَالَ الْمُتَوَلِّي وَتُصْرَفُ غَلَّةُ وَقْفِهِ لِأَقْرَبِ الْمَسَاجِدِ إلَيْهِ : أَيْ إذَا لَمْ يُتَوَقَّعْ عَوْدُهُ وَإِلَّا حُفِظَ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْمَاوَرْدِيُّ تُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ .
وَمِنْ قَوْلِ الرُّويَانِيِّ : إنَّهُ كَمُنْقَطِعِ الْآخِرِ ، فَإِنْ خِيفَ عَلَيْهِ نُقِضَ وَبَنَى الْحَاكِمُ بِنَقْضِهِ مَسْجِدًا آخَرَ إنْ رَأَى ذَلِكَ وَإِلَّا حِفْظُهُ وَبِنَاؤُهُ بِقُرْبِهِ أَوْلَى وَلَا يَبْنِي بِهِ بِئْرًا كَمَا لَا يَبْنِي بِنَقْضِ بِئْرٍ خَرِبَتْ مَسْجِدًا بَلْ بِئْرًا أُخْرَى مُرَاعَاةً لِغَرَضِ الْوَاقِفِ مَا أَمْكَنَ وَلَوْ وَقَفَ عَلَى قَنْطَرَةٍ وَانْحَرَقَ الْوَادِي وَتَعَطَّلَتْ الْقَنْطَرَةُ وَاحْتِيجَ إلَى قَنْطَرَةٍ أُخْرَى جَازَ نَقْلُهَا إلَى مَحَلِّ الْحَاجَةِ ، وَغَلَّةِ وَقْفِ الثَّغْرِ وَهُوَ الطَّرَفُ الْمُلَاصِقُ مِنْ بِلَادِنَا بِلَادَ الْكُفَّارِ إذَا حَصَلَ فِيهِ الْأَمْنُ يَحْفَظُهُ النَّاظِرُ لِاحْتِمَالِ عَوْدِهِ ثَغْرًا وَيَدَّخِرُ مِنْ زَائِدِ غَلَّةِ الْمَسْجِدِ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مَا يُعَمِّرُهُ بِتَقْدِيرِ هَدْمِهِ وَيَشْتَرِي لَهُ بِالْبَاقِي عَقَارًا وَيَقِفُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَحْفَظُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَى عِمَارَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ وَقَفَ عَلَيْهَا .
فَرْعٌ : تَقَدَّمَ عِمَارَةُ الْمَوْقُوفِ عَلَى حَقِّ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حِفْظِ الْوَقْفِ وَيُصْرَفُ رِيعُ الْمَوْقُوفِ عَلَى الْمَسْجِدِ وَقْفًا مُطْلَقًا أَوْ عَلَى عِمَارَتِهِ فِي الْبِنَاءِ وَالتَّجْصِيصِ الْمُحْكَمِ وَالسُّلَّمِ وَالْبَوَارِي لِلتَّظْلِيلِ بِهَا وَالْمَكَانِسِ لِيُكْنَسَ بِهَا وَالْمَسَاحِي لِيُنْقَلَ بِهَا التُّرَابُ ، وَفِي ظُلَّةٍ تَمْنَعُ إفْسَادَ خَشَبِ الْبَابِ بِمَطَرٍ وَنَحْوِهِ إنْ لَمْ يَضُرَّ بِالْمَارَّةِ ، وَفِي أُجْرَةِ قَيِّمٍ لَا مُؤَذِّنٍ وَإِمَامٍ وَحُصْرٍ وَدَهْنٍ ؛ لِأَنَّ الْقَيِّمَ يَحْفَظُ الْعِمَارَةَ بِخِلَافِ الْبَاقِي .
فَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ لِمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ صُرِفَ مِنْ رِيعِهِ لِمَنْ ذُكِرَ لَا فِي التَّزْوِيقِ وَالنَّقْشِ ، بَلْ لَوْ وَقَفَ عَلَيْهَا لَمْ يَصِحَّ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ وَلَا يُصْرَفُ لِحَشِيشِ السَّقْفِ مَا عُيِّنَ لِحَشِيشِ الْحُصْرِ وَلَا عَكْسُهُ ، وَلِأَهْلِ الْوَقْفِ الْمُهَايَأَةُ لَا قِسْمَتُهُ ، وَإِنْ قُلْنَا : الْقِسْمَةُ إفْرَازٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْيِيرِ شَرْطِ الْوَاقِفِ وَلَا تَغْيِيرُهُ عَنْ هَيْئَتِهِ كَجَعْلِ الْبُسْتَانِ دَارًا أَوْ حَمَّامًا إلَّا أَنْ يَشْرِطَ الْوَاقِفُ الْعَمَلَ بِالْمَصْلَحَةِ فَيَجُوزُ التَّغْيِيرُ بِحَسْبِهَا عَمَلًا بِشَرْطِهِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَاَلَّذِي أَرَاهُ تَغْيِيرُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا لَا يُغَيِّرُ مُسَمَّى الْوَقْفِ .
وَأَنْ لَا يُزِيلَ شَيْئًا مِنْ عَيْنِهِ بَلْ يُنْقَلَ نَقْضُهُ مِنْ جَانِبٍ إلَى جَانِبٍ .
وَأَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْوَقْفِ ، وَعَلَيْهِ فَفَتْحُ شُبَّاكِ الطَّبَرَسِيَّةِ فِي جِدَارِ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ لَا يَجُوزُ إذْ لَا مَصْلَحَةَ لِلْجَامِعِ فِيهِ ، وَكَذَا فَتْحُ أَبْوَابِ الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا هُوَ لِمَصْلَحَةِ السُّكَّانِ .
فَصْلٌ إنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ اُتُّبِعَ ، وَإِلَّا فَالنَّظَرُ لِلْقَاضِي عَلَى الْمَذْهَبِ .
فَصْلٌ فِي بَيَانِ النَّظَرِ عَلَى الْوَقْفِ ، وَشَرْطِ النَّاظِرِ وَوَظِيفَتِهِ ( إنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ ) عَلَى وَقْفِهِ ( لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ ) وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ ( اُتُّبِعَ ) شَرْطُهُ سَوَاءٌ أَفَوَّضَهُ لَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ أَمْ أَوْصَى بِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَقَرِّبُ بِالصَّدَقَةِ فَيُتْبَعُ شَرْطُهُ كَمَا يُتْبَعُ فِي مَصَارِفِهَا وَغَيْرِهَا ، وَلَوْ جَعَلَ وِلَايَةَ وَقْفِهِ لِفُلَانٍ فَإِنْ مَاتَ فَلِفُلَانٍ جَازَ " وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَلِي أَمْرَ صَدَقَتِهِ ، ثُمَّ جَعَلَهُ إلَى حَفْصَةَ تَلِيهِ مَا عَاشَتْ ، ثُمَّ يَلِيهِ أُولُو الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَلِقَبُولِ الْمَشْرُوطِ لَهُ النَّظَرُ حُكْمُ قَبُولِ الْوَكِيلِ بِجَامِعِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّصَرُّفِ وَفِي جَوَازِ الِامْتِنَاعِ مِنْهُمَا بَعْدَ قَبُولِهِمَا فَلَا يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ لَفْظًا ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ لِأَحَدٍ ( فَالنَّظَرُ لِلْقَاضِي عَلَى الْمَذْهَبِ ) ؛ لِأَنَّ لَهُ النَّظَرَ الْعَامَّ فَكَانَ أَوْلَى بِالنَّظَرِ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْوَقْفِ لِلَّهِ تَعَالَى .
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي يَنْبَنِي عَلَى أَقْوَالِ الْمِلْكِ ، وَالْخِلَافُ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا وَجْهَانِ وَلَوْ بَنَى مَسْجِدًا بِبَلَدٍ وَوَقَفَ عَلَيْهِ وَقْفًا بِبَلَدٍ آخَرَ وَلَمْ يَشْرِطْ النَّظَرَ لِأَحَدٍ وَقُلْنَا بِالْمَذْهَبِ إنَّ النَّظَرَ لِلْحَاكِمِ كَانَ النَّظَرُ عَلَى الْمَسْجِدِ لِحَاكِمِ بَلَدِهِ وَعَلَى الْمَوْقُوفِ لِحَاكِمِ بَلَدِهِ .
وَوَقَعَ بَعْدَ تَوْلِيَةِ الْقُضَاةِ الْأَرْبَعَةِ فَتْوَى فِيمَنْ شَرَطَ النَّظَرَ لِزَيْدٍ ثُمَّ لِحَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ بِدِمَشْقَ ، وَأَفْتَى الْفَزَارِيّ بِأَنَّ النَّظَرَ الْمَشْرُوطَ لِلْحَاكِمِ لَا يَخْتَصُّ بِحَاكِمٍ مُعَيَّنٍ وَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ ، وَاخْتَارَ السُّبْكِيُّ اخْتِصَاصَ الشَّافِعِيِّ بِالنَّظَرِ فِي الْأَوْقَافِ الَّتِي شُرِطَتْ لِلْحَاكِمِ ، وَاَلَّتِي سُكِتَ عَنْ نَظَرِهَا ، وَاَلَّتِي آلَ نَظَرُهَا إلَى الْحَاكِمِ .
قَالَ : لِأَنَّ الْقَاضِيَ الشَّافِعِيُّ هُوَ الْمَفْهُومُ عُرْفًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ، فَمَتَى قِيلَ
: الْقَاضِي مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ فَهُوَ الشَّافِعِيُّ ، وَإِنْ أُرِيدَ غَيْرُهُ قَيَّدُوهُ ، وَقَدْ اسْتَقَرَّ ذَلِكَ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَبُسِطَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ .
وَشَرْطُ النَّاظِرِ الْعَدَالَةُ وَالْكِفَايَةُ ، وَالِاهْتِدَاءُ إلَى التَّصَرُّفِ .
( وَشَرْطُ النَّاظِرِ الْعَدَالَةُ ) وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنِينَ رُشَدَاءَ ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ وِلَايَةٌ كَمَا فِي الْوَصِيِّ وَالْقَيِّمِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَيُعْتَبَرُ فِي مَنْصُوبِ الْحَاكِمِ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى فِي مَنْصُوبِ الْوَاقِفِ بِالظَّاهِرَةِ كَمَا فِي الْأَبِ وَإِنْ افْتَرَقَا فِي وُفُورِ شَفَقَةِ الْأَبِ ، وَخَالَفَ الْأَذْرَعِيُّ فَاعْتَبَرَ فِيهِ الْبَاطِنَةَ أَيْضًا ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ ( وَ ) شَرْطُهُ أَيْضًا ( الْكِفَايَةُ ) وَفَسَّرَهَا فِي الذَّخَائِرِ بِقُوَّةِ الشَّخْصِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيمَا هُوَ نَاظِرٌ عَلَيْهِ ، فَإِنْ اخْتَلَّتْ إحْدَاهُمَا نَزَعَ الْحَاكِمُ الْوَقْفَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ لَهُ النَّظَرُ الْوَاقِفَ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّ الْحَاكِمَ يَتَوَلَّاهُ اسْتِقْلَالًا فَيُوَلِّيه مَنْ أَرَادَ ، وَأَنَّ النَّظَرَ لَا يُنْتَقَلُ لِمَنْ بَعْدَهُ إذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لِإِنْسَانٍ بَعْدَ آخَرَ : أَيْ إلَّا أَنْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الْوَاقِفُ كَمَا قَالَهُ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ ، فَإِنْ زَالَ الِاخْتِلَالُ عَادَ نَظَرُهُ إنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْوَقْفِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَتَاوِيهِ وَإِنْ اقْتَضَى كَلَامُ الْإِمَامِ خِلَافَهُ ، وَمَا فِي الْفَتَاوَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ عَزْلُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ مِنْ نَفْسِهِ إذَا تَعَيَّنَ .
تَنْبِيهٌ : فِي ذِكْرِ الْكِفَايَةِ كِفَايَةٌ عَنْ قَوْلِهِ ( وَالِاهْتِدَاءُ إلَى التَّصَرُّفِ ) وَلِذَلِكَ حَذَفَهُ مِنْ الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا ، وَحِينَئِذٍ فَعَطْفُ الِاهْتِدَاءِ عَلَى الْكِفَايَةِ مِنْ عَطْفِ التَّفْسِيرِ ، أَوْ يُقَالُ : أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِ الْمُهِمَّ مِنْ الْكِفَايَةِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ النَّظَرُ عَلَى مَوَاضِعَ ، فَأَثْبَتَ أَهْلِيَّتَهُ فِي مَكَان ثَبَتَ فِي بَاقِي الْأَمَاكِنِ مِنْ حَيْثُ الْأَمَانَةُ وَلَا يَثْبُتُ مِنْ حَيْثُ الْكِفَايَةُ إلَّا إنْ ثَبَتَتْ أَهْلِيَّتُهُ فِي سَائِرِ الْأَوْقَافِ ، قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ ، وَهُوَ كَمَا قَالَ
الدَّمِيرِيُّ ظَاهِرٌ إذَا كَانَ الْبَاقِي فَوْقَ مَا أَثْبَتَ أَهْلِيَّتَهُ فِيهِ ، أَوْ مِثْلَهُ بِكَثْرَةِ مَصَارِفِهِ وَأَعْمَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَلَا ، وَلَا يَتَصَرَّفُ النَّاظِرُ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ وَالِاحْتِيَاطِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ فِي مَصَالِحِ الْغَيْرِ فَأَشْبَهَ وَلَيَّ الْيَتِيمِ .
وَوَظِيفَتُهُ الْعِمَارَةُ وَالْإِجَارَةُ وَتَحْصِيلُ الْغَلَّةِ وَقِسْمَتُهَا فَإِنْ فَوَّضَ إلَيْهِ بَعْضَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَمْ يَتَعَدَّهُ .
( وَوَظِيفَتُهُ ) عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَوْ تَفْوِيضِ جَمِيعِ الْأُمُورِ ( الْعِمَارَةُ وَالْإِجَارَةُ وَتَحْصِيلُ الْغَلَّةِ وَقِسْمَتُهَا ) عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَحِفْظُ الْأُصُولِ وَالْغَلَّاتِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ ؛ لِأَنَّهُ الْمَعْهُودُ فِي مِثْلِهِ .
تَنْبِيهٌ : أَفْتَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّ الْمُدَرِّسَ هُوَ الَّذِي يُنْزِلُ الْفُقَهَاءَ وَيُقَرِّرُ جَامِكِيَّاتِهِمْ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلنَّاظِرِ إلَّا تَحْصِيلُ الرِّيعِ وَقَسْمُهُ عَلَى الْمُنْزَلِينَ ، وَهَذَا قَدْ يُخَالِفُهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ بَعْدُ : وَلِلْوَاقِفِ عَزْلُ مَنْ وَلَّاهُ وَنَصْبُ غَيْرِهِ ، وَالنَّاظِرُ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَاقِفِ ، فَإِنَّهُ قَدْ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فَكَيْفَ يُقَالُ : بِتَقْدِيمِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ ، وَكَيْفَ يُقَالُ النَّاظِرُ يُوَلِّي الْمُدَرِّسَ وَهُوَ يُنْزِلُ الطَّلَبَةَ فَالْمُدَرِّسُ فَرْعُ النَّاظِرِ فَكَيْفَ يُقَدَّمُ الْفَرْعُ عَلَى الْأَصْلِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا صَوَّبَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ ( فَإِنْ فَوَّضَ إلَيْهِ بَعْضَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَمْ يَتَعَدَّهُ ) اتِّبَاعًا لِلشَّرْطِ كَالْوَكِيلِ .
؛
وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ شَيْئًا مِنْ الرِّيعِ جَازَ وَإِنْ زَادَ عَلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ النَّظَرُ لَهُ وَشَرَطَ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ أُجْرَةً فَلَا أُجْرَةَ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ كَالْغَسَّالِ وَنَحْوِهِ ، فَلَوْ رَفَعَ النَّاظِرُ الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ لِيُقَرِّرَ لَهُ أُجْرَةً فَهُوَ كَمَا إذَا تَبَرَّمَ الْوَلِيُّ بِحِفْظِ مَالِ الطِّفْلِ فَرَفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي لِيُثْبِتَ لَهُ أُجْرَةً .
وَلَوْ ادَّعَى مُتَوَلِّي الْوَقْفِ صَرْفَ الرِّيعِ لِلْمُسْتَحِقِّينَ ، فَإِنْ كَانُوا مُعَيَّنِينَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ وَلَهُمْ مُطَالَبَتُهُ بِالْحِسَابِ ، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مُعَيَّنِينَ فَهَلْ لِلْإِمَامِ مُطَالَبَتُهُ بِالْحِسَابِ أَوْ لَا ؟ وَجْهَانِ : حَكَاهُمَا شُرَيْحٌ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ ، أَوْجَهُهُمَا الْأَوَّلُ وَيُصَدَّقُ فِي قَدْرِ مَا أَنْفَقَهُ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ ، فَإِنْ اتَّهَمَهُ الْحَاكِمُ حَلَّفَهُ ، وَالْمُرَادُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ إنْفَاقُهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْعَادَةِ ، وَفِي مَعْنَاهُ الصَّرْفُ إلَى الْفُقَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْجِهَاتِ الْعَامَّةِ ، بِخِلَافِ إنْفَاقِهِ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ فَلَا يُصَدَّقُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ .
وَلَوْ فَوَّضَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لِاثْنَيْنِ لَمْ يَسْتَقِلَّ أَحَدُهُمَا بِالتَّصَرُّفِ مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ ، وَلَوْ جَعَلَ النَّظَرَ لِعَدْلَيْنِ مِنْ أَوْلَادِهِ وَلَيْسَ فِيهِمْ إلَّا عَدْلٌ نَصَّبَ الْحَاكِمُ آخَرَ ، وَإِنْ شَرَطَهُ لِلْأَرْشَدِ مِنْ أَوْلَادِهِ فَالْأَرْشَدُ ، فَأَثْبَتَ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّهُ الْأَرْشَدُ اشْتَرَكُوا فِي النَّظَرِ بِلَا اسْتِقْلَالٍ إنْ وُجِدَتْ الْأَهْلِيَّةُ فِيهِمْ ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَدِيَّةَ قَدْ سَقَطَتْ بِتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ فِيهَا وَبَقِيَ أَصْلُ الرُّشْدِ ، وَإِنْ وُجِدَتْ الْأَرْشَدِيَّةُ فِي بَعْضٍ مِنْهُمْ اُخْتُصَّ بِالنَّظَرِ عَمَلًا بِالْبَيِّنَةِ ، وَيَدْخُلُ فِي الْأَرْشَدِ مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ الْأَرْشَدُ مِنْ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ لِصِدْقِهِ بِهِ .
وَلَوْ قَالَ الْوَاقِفُ : جَعَلْت النَّظَرَ لِفُلَانٍ ، وَلَهُ أَنْ يُفَوِّضَ النَّظَرَ إلَى مَنْ أَرَادَ فَفَوَّضَ النَّظَرَ إلَى شَخْصٍ فَهَلْ يَزُولُ نَظَرُ الْمُفَوِّضِ ، أَوْ يَكُونُ الْمُفَوَّضُ إلَيْهِ وَكِيلًا عَنْ الْمُفَوِّضِ ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الْمُفَوِّضُ هَلْ يَبْقَى النَّظَرُ لِلْمُفَوَّضِ إلَيْهِ ، أَوْ مَاتَ الْمُفَوَّضُ إلَيْهِ هَلْ يَعُودُ لِلْمُفَوِّضِ أَوْ لَا ؟ يَدُلُّ لِلْأَوَّلِ مَا فِي فَتَاوَى الْمُصَنِّفِ إذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لِإِنْسَانٍ وَجَعَلَ لَهُ أَنْ يُسْنِدَ إلَى مَنْ شَاءَ ، وَكَذَلِكَ سَنَدٌ بَعْدَ سَنَدٍ فَأَسْنَدَ إلَى إنْسَانٍ فَهَلْ لِلْمُسْنِدِ عَزْلُ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ أَوْ لَا وَهَلْ يَعُودُ النَّظَرُ إلَى الْمُسْنَدِ أَوْ لَا ؟ وَلَوْ أَسْنَدَ الْمُسْنَدُ أَوْ الْمُسْنَدُ إلَيْهِ إلَى ثَالِثٍ فَهَلْ لِلْأَوَّلِ عَزْلُهُ أَوْ لَا ؟ أَجَابَ لَيْسَ لِلْمُسْنِدِ عَزْلُ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ وَلَا مُشَارَكَتُهُ ، وَلَا يَعُودُ النَّظَرُ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ وَلَا لِلثَّانِي عَزْلُ الثَّالِثِ الَّذِي أَسْنَدَ إلَيْهِ الثَّانِي .
وَلِلْوَاقِفِ عَزْلُ مَنْ وَلَّاهُ ، وَنَصْبُ غَيْرِهِ .
( وَلِلْوَاقِفِ ) النَّاظِرِ ( عَزْلُ مَنْ ) أَيِّ شَخْصٍ ( وَلَّاهُ ) النَّظَرَ ( وَنَصْبُ غَيْرِهِ ) مَكَانَهُ كَمَا يَعْزِلُ الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ وَيُنَصِّبُ غَيْرَهُ وَكَانَ الْمُتَوَلِّي نَائِبًا عَنْهُ .
أَمَّا غَيْرُ النَّاظِرِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ تَوْلِيَةٌ وَلَا عَزْلٌ بَلْ هِيَ لِلْحَاكِمِ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ يَقْتَضِي كَلَامُهُ أَنَّ لَهُ الْعَزْلَ بِلَا سَبَبٍ ، وَبِهِ صَرَّحَ السُّبْكِيُّ فِي فَتَاوِيهِ فَقَالَ : إنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَاقِفِ وَلِلنَّاظِرِ الَّذِي مِنْ جِهَتِهِ عَزْلُ الْمُدَرِّسِ وَنَحْوِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي الْوَقْفِ لِمَصْلَحَةٍ وَلِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ ؛ لِأَنَّهُ كَالْوَكِيلِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي إسْكَانِ هَذِهِ الدَّارِ لِفَقِيرٍ ، فَلَهُ أَنْ يُسْكِنَهَا مَنْ شَاءَ مِنْ الْفُقَرَاءِ ، وَإِذَا سَكَنَهَا فَقِيرٌ مُدَّةً فَلَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ وَيُسَكِّنَ غَيْرَهُ لِمَصْلَحَةٍ وَلِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ وَلَيْسَ تَعْيِينُهُ لِذَلِكَ يُصَيِّرُهُ كَأَنَّهُ مُرَادُ الْوَاقِفِ حَتَّى يَمْتَنِعَ تَغْيِيرُهُ وَبَسَطَ فِي ذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ قُبَيْلَ بَابِ الْقِسْمَةِ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ وَلِيُّ الْأَمْرِ إسْقَاطَ بَعْضِ الْأَجْنَادِ الْمُثَبَّتِينَ فِي الدِّيوَانِ بِسَبَبٍ جَازَ ، أَوْ بِغَيْرِ سَبَبٍ فَلَا ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي النَّظَرِ الْعَامِّ فَفِي النَّظَرِ الْخَاصِّ الْمُقْتَضِي لِلِاحْتِيَاطِ أَوْلَى .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَجْنَادَ الْمُثَبَّتِينَ فِي الدِّيوَانِ قَدْ رَبَطُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ ، وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ، وَمَنْ شَرَعَ فِيهِ أَوْ رَبَطَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ بِغَيْرِ سَبَبٍ ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ ، فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ .
وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ : عَزْلُ النَّاظِرِ لِلْمُدَرِّسِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ مُسَوِّغٍ لَا يَنْفُذُ وَيَكُونُ قَادِحًا فِي نَظَرِهِ .
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي خَادِمِهِ : لَا يَبْعُدُ أَنْ يَنْفُذَ وَإِنْ كَانَ عَزْلُهُ غَيْرَ جَائِزٍ .
وَقَالَ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمِنْهَاجِ فِي بَابِ الْقَضَاءِ : لَا يَنْعَزِلُ أَصْحَابُ الْوَظَائِفِ الْخَاصَّةِ كَالْإِمَامَةِ
وَالْإِقْرَاءِ وَالتَّصَوُّفِ وَالتَّدْرِيسِ وَالطَّلَبِ وَالنَّظَرِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ كَمَا أَفْتَى بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ ابْنُ رَزِينٍ فَقَالَ : مَنْ تَوَلَّى تَدْرِيسًا لَا يَجُوزُ عَزْلُهُ بِمِثْلِهِ وَلَا بِدُونِهِ وَلَا يَنْعَزِلُ بِذَلِكَ ا هـ .
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ .
إلَّا أَنْ يَشْرِطَ نَظَرَهُ حَالَ الْوَقْفِ .
ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُصَنِّفُ مِنْ جَوَازِ الْعَزْلِ قَوْلَهُ ( إلَّا أَنْ يَشْرِطَ ) الْوَاقِفُ لِشَخْصٍ ( نَظَرَهُ حَالَ الْوَقْفِ ) فَلَيْسَ لَهُ عَزْلُهُ وَلَوْ لِمَصْلَحَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَغْيِيرَ لِمَا شَرَطَهُ كَمَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا نَظَرَ لَهُ حِينَئِذٍ ، وَلَيْسَ لَهُ عَزْلُ مَنْ شَرَطَ تَدْرِيسَهُ أَوْ فَوَّضَ إلَيْهِ حَالَ الْوَقْفِ وَلَوْ لِمَصْلَحَةٍ ، كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ الْفُقَرَاءِ لَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهُمْ بِالْأَغْنِيَاءِ ، بِخِلَافِ مَنْ جَعَلَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ الْوَقْفِ ، فَإِنَّ لَهُ عَزْلَهُ كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ وَأَقَرَّاهُ ، لَكِنْ يَنْبَغِي كَمَا قَالَ شَيْخُنَا : تَقْيِيدُهُ فِي تَفْوِيضِ التَّدْرِيسِ بِمَا إذَا كَانَتْ جُنْحَةً ، وَلَوْ عَزَلَ النَّاظِرُ بِالشَّرْطِ نَفْسَهُ أَوْ فَسَقَ فَتَوْلِيَةُ غَيْرِهِ إلَى الْحَاكِمِ لَا إلَى الْوَاقِفِ ، إذْ لَا نَظَرَ لَهُ بَعْدَ أَنْ جَعَلَ النَّظَرَ فِي حَالِ الْوَقْفِ لِغَيْرِهِ ، فَإِنْ شَرَطَ النَّظَرَ حَالَ الْوَقْفِ لِزَيْدٍ بَعْدَ انْتِقَالِ الْوَقْفِ مِنْ عَمْرٍو إلَى الْفُقَرَاءِ ، فَعَزَلَ زَيْدٌ نَفْسَهُ مِنْ النَّظَرِ ، أَوْ اسْتَنَابَ فِيهِ غَيْرَهُ قَبْلَ انْتِقَالِ الْوَقْفِ مِنْ عَمْرٍو إلَى الْفُقَرَاءِ لَمْ يَصِحَّ الْعَزْلُ وَلَا الِاسْتِنَابَةُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ نَاظِرٍ فِي الْحَالِ ، وَلَا يَمْلِكُ الْوَاقِفُ عَزْلَ زَيْدٍ فِي الْحَالِ وَلَا مَنْ بَعْدَهُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ .
وَإِذَا أَجَّرَ النَّاظِرُ فَزَادَتْ الْأُجْرَةُ فِي الْمُدَّةِ أَوْ ظَهَرَ طَالِبٌ بِالزِّيَادَةِ لَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ فِي الْأَصَحِّ .
( وَإِذَا أَجَّرَ النَّاظِرُ ) الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ عَلَى غَيْرِهِ مُدَّةً بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ ( فَزَادَتْ الْأُجْرَةُ فِي الْمُدَّةِ أَوْ ظَهَرَ طَالِبٌ بِالزِّيَادَةِ ) عَلَيْهَا ( لَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ جَرَى بِالْغِبْطَةِ فِي وَقْتِهِ فَأَشْبَهَ مَا إذَا بَاعَ الْوَلِيُّ مَالَ الطِّفْلِ ثُمَّ ارْتَفَعَتْ الْقِيَمُ بِالْأَسْوَاقِ ، أَوْ ظَهَرَ طَالِبٌ بِالزِّيَادَةِ .
وَالثَّانِي : يَنْفَسِخُ إذَا كَانَ لِلزِّيَادَةِ وَقْعٌ وَالطَّالِبُ ثِقَةٌ لِتَبَيُّنِ وُقُوعِهِ عَلَى خِلَافِ الْغِبْطَةِ .
أَمَّا إذَا أَجَّرَ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ قَطْعًا وَلَوْ بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ أَجَّرَ الْمُطْلَقُ بِهِ أَوْ أَجَّرَ النَّاظِرُ الْمَوْقُوفَ عَلَى غَيْرِهِ بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ قَطْعًا ، وَأَفْتَى ابْنُ الصَّلَاحِ فِيمَا إذَا أَجَّرَ النَّاظِرُ الْوَقْفَ مُدَّةً مَعْلُومَةً بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ حَالَةَ الْعَقْدِ ، ثُمَّ تَغَيَّرَتْ الْأَحْوَالُ وَطَرَأَتْ أَسْبَابٌ تُوجِبُ زِيَادَةَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ أَنَّهُ يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ الْعَقْدِ ، وَيَتَبَيَّنُ خَطَأُ الشَّاهِدَيْنِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ تَقْوِيمَ الْمَنَافِعِ فِي مُدَّةٍ مُمْتَدَّةٍ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا اسْتَمَرَّ الْحَالُ الْمَوْجُودَةُ حَالَةَ التَّقْوِيمِ الَّتِي هِيَ حَالَةُ الْعَقْدِ ، وَلَيْسَ هَذَا التَّقْوِيمُ كَتَقْوِيمِ السِّلْعَةِ الْحَاضِرَةِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَهَذَا مُشْكِلٌ جِدًّا ، وَاَلَّذِي يَقَعُ فِي النَّفْسِ إنَّمَا يَنْظُرُ إلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَيْهَا الرَّغَبَاتُ حَالَةَ الْعَقْدِ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا عَسَاهُ يَتَجَدَّدُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ إجَارَةِ الْأَوْقَافِ وَالزَّهَادَةِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا لَا تَبْقَى عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَطَالَ فِي رَدِّ ذَلِكَ وَمَا قَالَهُ لَا خَفَاءَ فِيهِ .
خَاتِمَةٌ : نَفَقَةُ الْمَوْقُوفِ وَمُؤَنُ تَجْهِيزِهِ وَعِمَارَتِهِ مِنْ حَيْثُ شَرَطَهَا الْوَاقِفُ مِنْ مَالِهِ أَوْ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ ، وَإِلَّا فَمِنْ مَنَافِعِ الْمَوْقُوفِ كَكَسْبِ الْعَبْدِ وَغَلَّةِ الْعَقَارِ ، فَإِذَا تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ فَالنَّفَقَةُ وَمُؤَنُ التَّجْهِيزِ لَا الْعِمَارَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَلَوْ انْدَرَسَ شَرْطُ الْوَاقِفِ ، وَجُهِلَ التَّرْتِيبُ بَيْنَ أَرْبَابِ الْوَقْفِ أَوْ الْمَقَادِيرِ بِأَنْ لَمْ يُعْلَمْ هَلْ سَوَّى الْوَاقِفُ بَيْنَهُمْ أَوْ فَاضَلَ ، قُسِّمَتْ الْغَلَّةُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ ، وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي شَرْطِهِ وَلَا بَيِّنَةَ ، وَلِأَحَدِهِمْ يَدٌ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ لِاعْتِضَادِ دَعْوَاهُ بِالْيَدِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ حَيًّا عُمِلَ بِقَوْلِهِ بِلَا يَمِينٍ ، أَوْ مَيِّتًا فَوَارِثُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَنَاظِرُهُ مِنْ جِهَةِ الْوَاقِفِ لَا الْمَنْصُوبِ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ ، وَلَوْ وُجِدَ الْوَارِثُ وَالنَّاظِرُ ، فَالنَّاظِرُ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ : وَلَوْ وَقَفَ عَلَى قَبِيلَةٍ كَالطَّالِبِينَ أَجْزَأَ ثَلَاثَةً مِنْهُمْ ، فَإِنْ قَالَ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِ عَلِيٍّ وَجَعْفَرٍ وَعَقِيلٍ اشْتَرَطَ ثَلَاثَةً مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ ، وَيَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ الْغُرَبَاءُ وَفُقَرَاءُ أَهْلِ الْبَلَدِ ، وَلِلنَّاظِرِ الِاقْتِرَاضُ فِي عِمَارَةِ الْوَقْفِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ ، وَلَوْ نَبَتَتْ شَجَرَةٌ بِمَقْبَرَةٍ فَثَمَرَتُهَا مُبَاحَةٌ لِلنَّاسِ تَبَعًا لِلْمَقْبَرَةِ وَصَرْفُهَا إلَى مَصَالِحِ الْمَقْبَرَةِ أَوْلَى مِنْ تَبْقِيَتِهَا لِلنَّاسِ لَا ثَمَرَ شَجَرَةٍ غُرِسَتْ لِلْمَسْجِدِ فِيهِ ، فَلَيْسَتْ مُبَاحَةً بِلَا عِوَضٍ ، بَلْ يَصْرِفُ الْإِمَامُ عِوَضَهَا لِمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ ، وَإِنَّمَا خَرَجَتْ الشَّجَرَةُ عَنْ مِلْكِ غَارِسِهَا هُنَا بِلَا لَفْظٍ لِلْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ ، وَخَرَجَ بِغَرْسِهَا لِلْمَسْجِدِ غَرْسُهَا مُسَبَّلَةً ، فَيَجُوزُ أَكْلُهَا بِلَا عِوَضٍ ، وَكَذَا إنْ جُهِلَتْ نِيَّتُهُ حَيْثُ جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ وَتُقْطَعُ الشَّجَرَةُ مِنْ الْمَسْجِدِ إنْ رَآهُ الْإِمَامُ بَلْ إنْ جَعَلَ الْبُقْعَةَ
مَسْجِدًا وَفِيهَا شَجَرَةٌ فَلِلْإِمَامِ قَطْعُهَا ، وَإِنْ أَدْخَلَهَا الْوَاقِفُ فِي الْوَقْفِ ، وَالْوَقْفُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ مَا وُقِفَ لَهُ ضَمِنَهُ ، فَإِنْ انْكَسَرَ الْقِدْرُ بِلَا تَعَدٍّ ، فَإِنْ تَطَوَّعَ أَحَدٌ بِإِصْلَاحِهِ فَذَاكَ وَإِلَّا أُعِيدَ صَغِيرًا بِبَعْضِهِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَقَصْعَةٌ أَوْ مِغْرَفَةٌ أَوْ نَحْوُهَا وَلَا حَاجَةَ إلَى إنْشَاءِ وَقْفٍ ، وَلَوْ وَقَفَ دُهْنًا لِإِسْرَاجِ الْمَسْجِدِ بِهِ أُسْرِجَ كُلَّ اللَّيْلِ إلَّا أَنْ لَا يُتَوَقَّعَ حُضُورُ أَحَدٍ يَنْتَفِعُ بِهِ انْتِفَاعًا جَائِزًا .
قَالَ الدَّمِيرِيُّ : وَاقِعَةً عَنْ السُّبْكِيّ : قَالَ لِي ابْنُ الرِّفْعَةِ : أَفْتَيْت بِبُطْلَانِ خِزَانَةِ كُتُبٍ وَقَفَهَا وَاقِفٌ لِتَكُونَ فِي مَكَان مُعَيَّنٍ فِي مَدْرَسَةِ الصَّالِحِيَّةِ بِمِصْرَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَكَانَ مُسْتَحَقٌّ لِغَيْرِ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَنَظِيرُهُ إحْدَاثُ مِنْبَرٍ فِي مَسْجِدٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَكَذَا إحْدَاثُ كُرْسِيِّ مُصْحَفٍ مُؤَبَّدٍ يُقْرَأُ فِيهِ كَمَا يُفْعَلُ بِالْجَامِعِ الْأَزْهَرِ وَغَيْرِهِ لَا يَصِحُّ وَقْفُهُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ اسْتِحْقَاقِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ لِغَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ قَالَ : وَالْعَجَبُ مِنْ قُضَاةٍ يُثْبِتُونَ وَقْفَ ذَلِكَ شَرْعًا " وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا " وَسُئِلَ السُّبْكِيُّ عَنْ رَجُلٍ وَقَفَ أَرْضًا بِهَا أَشْجَارُ مَوْزٍ وَالْعَادَةُ أَنَّ شَجَرَ الْمَوْزِ لَا يَبْقَى أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ فَزَالَتْ الْأَشْجَارُ بَعْدَ أَنْ نَبَتَتْ مِنْ أُصُولِهَا أَشْجَارٌ ثُمَّ أَشْجَارٌ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ .
فَأَجَابَ : الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ أُصُولِ الْمَوْزِ وَفِرَاخِهِ وَقْفٌ وَمَا نَبَتَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْفِرَاخِ يَنْسَحِبُ عَلَيْهِ حُكْمُ الْوَقْفِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إنْشَاءِ وَقْفٍ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَوْقُوفِ إذَا قَتَلَهُ وَاشْتَرَى بِقِيمَتِهِ عَبْدًا آخَرَ فَإِنَّهُ يُحْتَاجُ إلَى إنْشَاءِ وَقْفٍ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ فَاتَ بِالْكُلِّيَّةِ وَالْأَرْضُ الْمَوْقُوفَةُ بَاقِيَةٌ .
كِتَابُ الْهِبَةِ التَّمْلِيكُ بِلَا عِوَضٍ هِبَةٌ
كِتَابُ الْهِبَةِ تُقَالُ لِمَا يَعُمُّ الْهَدِيَّةَ وَالصَّدَقَةَ ، وَلِمَا يُقَابِلُهُمَا ، وَاسْتُعْمِلَ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِهَا وَالثَّانِي : فِي أَرْكَانِهَا وَسَيَأْتِي .
وَالْأَصْلُ فِيهَا عَلَى الْأَوَّلِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } وَقَوْلُهُ { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } وقَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ } قِيلَ الْمُرَادُ مِنْهَا الْهِبَةُ ، وَأَخْبَارٌ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ } أَيْ ظِلْفَهَا ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْهِبَةِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } وَالْهِبَةُ : بِرٌّ ، وَلِأَنَّهَا سَبَبُ التَّوَادِّ وَالتَّحَابِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَهَادَوْا تَحَابُّوا } وَقَبِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةَ الْمُقَوْقَسِ الْكَافِرِ وَتَسَرَّى مِنْ جُمْلَتِهَا بِمَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ وَأَوْلَدَهَا ، وَقَبِلَ هَدِيَّةَ النَّجَاشِيِّ الْمُسْلِمِ وَتَصَرَّفَ فِيهَا وَهَادَاهُ أَيْضًا " وَقَدْ يُعْرَضُ لَهَا أَسْبَابٌ تُخْرِجُهَا عَنْ ذَلِكَ : مِنْهَا الْهِبَةُ لِأَرْبَابِ الْوِلَايَاتِ وَالْعُمَّالِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ مِنْ أَهْلِ وِلَايَاتِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَتْ لَهُ عَادَةٌ بِذَلِكَ قَبْلَ الْوِلَايَةِ كَمَا هُوَ مُحَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ كَانَ الْمُتَّهَبُ يَسْتَعِينُ بِذَلِكَ عَلَى مَعْصِيَةٍ ، وَصَرْفُهَا فِي الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ أَفْضَلُ مِنْ صَرْفِهَا فِي غَيْرِهِمْ لِمَا فِي الْأَوَّلِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ ، وَلِمَا رُوِيَ فِي الثَّانِي مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ } وَالصَّرْفُ إلَى الْأَوَّلِ أَفْضَلُ .
ثُمَّ شَرَعَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْرِيفِهَا بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ ، فَقَالَ ( التَّمْلِيكُ ) لِعَيْنٍ ( بِلَا عِوَضٍ ) فِي حَالِ الْحَيَاةِ تَطَوُّعًا ( هِبَةٌ ) فَخَرَجَ بِالتَّمْلِيكِ الْعَارِيَّةُ
وَالضِّيَافَةُ وَالْوَقْفُ ، وَبِالْعَيْنِ الدَّيْنُ وَالْمَنْفَعَةُ وَسَيَأْتِي حُكْمُهُمَا ، وَبِنَفْيِ الْعِوَضِ مَا فِيهِ عِوَضٌ كَالْبَيْعِ وَلَوْ بِلَفْظِ الْهِبَةِ ، وَبِالْحَيَاةِ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ فِيهَا إنَّمَا يَتِمُّ بِالْقَبُولِ وَهُوَ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَبِالتَّطَوُّعِ الْوَاجِبِ مِنْ زَكَاةٍ وَكَفَّارَةٍ وَنَحْوِهِمَا ، وَكَانَ الْأَوْلَى فِي تَعْرِيفِ الْهِبَةِ كَمَا فِي الْحَاوِي الصَّغِيرِ الْهِبَةُ تَمْلِيكٌ إلَخْ ، فَإِنَّ الْهِبَةَ هِيَ الْمُحَدَّثُ عَنْهَا .
فَإِنْ قِيلَ : يُرَدُّ عَلَى حَصْرِ الْهِبَةِ فِي التَّمْلِيكِ مَا لَوْ أُهْدِيَ إلَى غَنِيٍّ مِنْ لَحْمِ أُضْحِيَّةٍ أَوْ هَدْيٍ أَوْ عَقِيقَةٍ ، فَإِنَّهُ هِبَةٌ وَلَا تَمْلِيكَ فِيهِ ، وَمَا لَوْ وَقَفَ شَيْئًا فَإِنَّهُ تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ وَلَيْسَ بِهِبَةٍ .
أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِمَنْعِ أَنَّهُ لَا تَمْلِيكَ فِيهِ ، بَلْ فِيهِ تَمْلِيكٌ .
لَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ بَابِ الْأُضْحِيَّةِ ، وَعَنْ الثَّانِي : بِأَنَّهُ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ ، وَإِطْلَاقُهُمْ التَّمْلِيكَ إنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الْأَعْيَانَ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّ الْهِبَةَ بِثَوَابٍ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْهِبَةِ لِوُجُودِ الْعِوَضِيَّةِ ، وَبِهِ صَرَّحَ الزُّبَيْرِيُّ .
فَإِنْ مَلَّكَ مُحْتَاجًا لِثَوَابِ الْآخِرَةِ فَصَدَقَةٌ ، فَإِنْ نَقَلَهُ إلَى مَكَانِ الْمَوْهُوبِ لَهُ إكْرَامًا لَهُ فَهَدِيَّةٌ .
ثُمَّ قَسَّمَ التَّمْلِيكَ الْمَذْكُورَ إلَى الصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ بِقَوْلِهِ ( فَإِنْ مَلَّكَ ) بِلَا عِوَضٍ ( مُحْتَاجًا ) شَيْئًا ( لِثَوَابِ الْآخِرَةِ ) أَيْ لِأَجْلِهَا ( فَصَدَقَةٌ ) أَيْ فَلَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ ، وَالتَّحْقِيقُ ، كَمَا قَالَ السُّبْكِيُّ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْحَاجَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ قَالَ السُّبْكِيُّ : فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ : إمَّا الْحَاجَةُ أَوْ قَصْدُ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْغَنِيِّ جَائِزَةٌ ، وَيُثَابُ عَلَيْهَا إذَا قَصَدَ الْقُرْبَةَ ، فَخَرَجَ بِذَلِكَ مَا لَوْ مَلَّكَ غَنِيًّا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ( فَإِنْ نَقَلَهُ ) بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ مَعَ قَصْدِ الثَّوَابِ ( إلَى مَكَانِ الْمَوْهُوبِ لَهُ إكْرَامًا لَهُ فَهَدِيَّةٌ ) أَيْضًا ، أَوْ بِدُونِ قَصْدِ الثَّوَابِ فَهَدِيَّةٌ فَقَطْ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ : وَإِنْ نَقَلَهُ بِالْوَاوِ وَهِيَ أَوْلَى ، فَإِنَّ الْفَاءَ تَوَهُّمٌ لَوْلَا مَا قَدَّرْتُهُ أَنَّ الْهَدِيَّةَ قِسْمٌ مِنْ الصَّدَقَةِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ هِيَ قَسِيمُهَا ، وَإِذَا انْضَمَّ إلَى تَمْلِيكِ الْمُحْتَاجِ بِقَصْدِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ النَّقْلُ إلَى مَكَانِهِ فَتَكُونُ هَدِيَّةً وَصَدَقَةً ، وَقَدْ تَجْتَمِعُ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ فِيمَا لَوْ مَلَّكَ مُحْتَاجًا لِثَوَابِ الْآخِرَةِ بِلَا عِوَضٍ وَنَقَلَهُ إلَيْهِ إكْرَامًا بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِكْرَامَ لَيْسَ شَرْطًا فَالشَّرْطُ هُوَ النَّقْلُ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَقَدْ يُقَالُ : اُحْتُرِزَ بِهِ عَنْ الرِّشْوَةِ .
وَلَا يَقَعُ اسْمُ الْهَدِيَّةِ عَلَى الْعَقَارِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ صَرَّحُوا فِي بَابِ النَّذْرِ أَنَّ الشَّخْصَ لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذَا الْبَيْتَ مَثَلًا صَحَّ وَبَاعَهُ وَنَقَلَ ثَمَنَهُ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُمْ تَوَسَّعُوا فِيهِ بِتَخْصِيصِهِ بِالْإِهْدَاءِ إلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ وَتَعْمِيمِهِ فِي الْمَنْقُولِ وَغَيْرِهِ .
وَشَرْطُ الْهِبَةِ إيجَابٌ وَقَبُولٌ لَفْظًا .
وَأَمَّا تَعْرِيفُهَا بِالْمَعْنَى الثَّانِي ، وَهُوَ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ .
فَأَرْكَانُهَا ثَلَاثَةٌ : عَاقِدٌ وَصِيغَةُ وَمَوْهُوبٌ ، وَقَدْ أَخَذَ الْمُصَنِّفُ فِي بَيَانِ بَعْضِ ذَلِكَ فَقَالَ ( وَشَرْطُ الْهِبَةِ ) لِتَتَحَقَّقَ عَاقِدَانِ كَالْبَيْعِ ، وَهَذَا هُوَ الرُّكْنُ الْأَوَّلُ ، وَلَهُمَا شُرُوطٌ ، فَيُشْتَرَطُ فِي الْوَاهِبِ الْمِلْكُ ، وَإِطْلَاقُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ ، فَلَا تَصِحُّ مِنْ وَلِيٍّ فِي مَالِ مَحْجُورِهِ وَلَا مِنْ مُكَاتَبٍ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الْمِلْكِ لِمَا يُوهَبُ لَهُ مِنْ تَكْلِيفٍ وَغَيْرِهِ ، وَسَيَأْتِي أَنَّ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ يَقْبَلُ لَهُ وَلِيُّهُ فَلَا تَصِحُّ لِحَمْلٍ وَلَا لِبَهِيمَةٍ وَلَا لِرَقِيقِ نَفْسِهِ ، فَإِنْ أَطْلَقَ الْهِبَةَ لَهُ فَهِيَ لِسَيِّدِهِ ، وَ ( إيجَابٌ وَقَبُولٌ لَفْظًا ) مِنْ النَّاطِقِ مَعَ التَّوَاصُلِ الْمُعْتَادِ كَالْبَيْعِ .
وَهَذَا هُوَ الرُّكْنُ الثَّانِي ، وَمِنْ صَرِيحِ الْإِيجَابِ وَهَبْتُك وَمَنَحْتُك وَمَلَّكْتُك بِلَا ثَمَنٍ ، وَمِنْ صَرِيحِ الْقَبُولِ قَبِلْت وَرَضِيت ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ اعْتِبَارِهِمَا مَسَائِلُ : مِنْهَا الْهِبَةُ الضِّمْنِيَّةُ كَأَنْ يَقُولَ لِغَيْرِهِ : أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي ، فَفَعَلَ فَيَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ هِبَةً وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ وَلَا يَحْتَاجُ لِلْقَبُولِ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ نَوْبَتَهَا مِنْ ضَرَّتِهَا لَمْ يُحْتَجْ لِقَبُولِهَا عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقَسْمِ وَالنُّشُوزِ .
وَمِنْهَا مَا يَخْلَعُهُ السُّلْطَانُ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبُولُ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ اشْتَرَى حُلِيًّا لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَزَيَّنَهُ بِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ تَمْلِيكًا لَهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَاهُ لِزَوْجَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مِلْكًا لَهَا كَمَا قَالَهُ الْقَفَّالُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ لَهُ وِلَايَةً عَلَى الصَّغِيرِ بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ كَذَا ذَكَرَهُ السُّبْكِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ
الْمُلَقَّنِ ، وَيَرُدُّ هَذَا قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا ، فَإِنْ وَهَبَ لِلصَّغِيرِ وَنَحْوِهِ وَلِيٌّ غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ قَبِلَ لَهُ الْحَاكِمُ ، وَإِنْ كَانَ أَبًا أَوْ جَدًّا تَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ قَالَ : اشْتَرِ لِي بِدَرَاهِمِك لَحْمًا فَاشْتَرَاهُ وَصَحَّحْنَاهُ لِلسَّائِلِ ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ تَكُونُ هِبَةً لَا قَرْضًا ، وَيَقْبَلُ الْهِبَةَ لِلصَّغِيرِ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلْقَبُولِ الْوَلِيُّ ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ انْعَزَلَ الْوَصِيُّ وَمِثْلُهُ الْقَيِّمُ وَأَثِمَا لِتَرْكِهِمَا الْأَحَظَّ ، بِخِلَافِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لِكَمَالِ شَفَقَتِهِمَا وَيَقْبَلُهَا السَّفِيهُ نَفْسُهُ وَكَذَا الرَّقِيقُ لَا سَيِّدُهُ وَإِنْ وَقَعَتْ لَهُ .
أَمَّا الْأَخْرَسُ فَيَكْفِيهِ الْإِشَارَةُ الْمُفْهِمَةُ ، وَفِي الذَّخَائِرِ أَنَّ انْعِقَادَ الْهِبَةِ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ وَبِالِاسْتِيجَابِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْبَيْعِ : أَيْ فَتَصِحُّ وَمِنْ الْكِنَايَةِ الْكِتَابَةُ ، وَاخْتَارَ فِي الْمَجْمُوعِ صِحَّتَهَا بِالْمُعَاطَاةِ وَقَوْلُهُ لِغَيْرِهِ كَسَوْتُك هَذَا الثَّوْبَ كِنَايَةٌ فِي الْهِبَةِ ، فَإِنْ قَالَ الْوَاهِبُ : لَمْ أُرِدْهَا صَدَقَ ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لِلْعَارِيَّةِ فَلَا يَكُونُ صَرِيحًا فِي الْهِبَةِ كَالْبَيْعِ ، وَهَلْ يَصِحُّ قَبُولُ بَعْضِ الْمَوْهُوبِ أَوْ قَبُولُ أَحَدِ شَخْصَيْنِ نِصْفَ مَا وَهَبَ لَهُمَا وَجْهَانِ : أَوْجَهُهُمَا ، كَمَا قَالَ شَيْخِي تَبَعًا لِبَعْضِ الْيَمَانِيِّينَ الصِّحَّةُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَاغْتُفِرَ فِيهَا مَا لَمْ يُغْتَفَرْ فِيهِ ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ .
إنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَيْسَ بِقَادِحٍ .
وَلَا يُشْتَرَطَانِ فِي الْهَدِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ ، بَلْ يَكْفِي الْبَعْثُ مِنْ هَذَا وَالْقَبْضُ مِنْ ذَاكَ .
( وَلَا يُشْتَرَطَانِ ) أَيْ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ ( فِي الْهَدِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ ) وَلَوْ فِي غَيْرِ الْمَطْعُومِ ( بَلْ يَكْفِي الْبَعْثُ مِنْ هَذَا ) أَيْ الْمُهْدِي ، وَيَكُونُ كَالْإِيجَابِ ( وَالْقَبْضُ مِنْ ذَاكَ ) أَيْ الْمُهْدَى إلَيْهِ وَيَكُونُ كَالْقَبُولِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ النَّاسُ فِي الْأَعْصَارِ ، وَقَدْ أَهْدَى الْمُلُوكُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِسْوَةَ وَالدَّوَابَّ وَالْجَوَارِيَ كَمَا مَرَّ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ } رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَعَنْ أَبَوَيْهَا ، وَلَمْ يُنْقَلْ إيجَابٌ وَلَا قَبُولٌ .
وَالثَّانِي : يُشْتَرَطَانِ كَالْهِبَةِ ، وَحُمِلَ مَا جَرَى عَلَيْهِ النَّاسُ عَلَى الْإِبَاحَةِ رُدَّ بِتَصَرُّفِهِمْ فِي الْمَبْعُوثِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ .
وَالْفُرُوجُ لَا تُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ .
تَنْبِيهٌ : سُكُوتُ الْمُصَنِّفِ عَنْ احْتِيَاجِ الصَّدَقَةِ إلَى الصِّيغَةِ يُشْعِرُ بِعَدَمِ افْتِقَارِهَا إلَيْهَا قَطْعًا .
وَقَالَ الْإِمَامُ : إنَّهُ الظَّاهِرُ لَكِنْ قَالَ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا : إنَّ الصَّدَقَةَ كَالْهَدِيَّةِ بِلَا فَرْقٍ .
فَإِنْ قِيلَ : بَلْ كَلَامُهُ إنَّمَا يُشْعِرُ بِاشْتِرَاطِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ وَلَمْ يَسْتَثْنِ إلَّا الْهَدِيَّةَ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْهِبَةِ فِي قَوْلِهِ وَشَرْطُ الْهِبَةِ إيجَابٌ وَقَبُولٌ الْهِبَةُ الْخَاصَّةُ الْمُقَابِلَةُ لِلْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ لَا الْهِبَةُ الْعَامَّةُ الْمُرَادَةُ أَوَّلَ الْبَابِ ، وَقَوْلُهُ لَفْظًا تَأْكِيدٌ وَنَصْبُهُ بِنَزْعِ الْخَافِضِ الْبَاءِ .
فَرْعٌ : لَوْ خَتَنَ شَخْصٌ وَلَدَهُ وَاتَّخَذَ دَعْوَةً ، فَأُهْدِيَ إلَيْهِ وَلَمْ يُسَمِّ أَصْحَابَ الْهَدَايَا الِابْنُ وَلَا الْأَبُ ، حُكِيَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهَا لِلِابْنِ وَصَحَّحَهُ الْعَبَّادِيُّ وَصَاحِبُ الْكَافِي وَجَزَمَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ .
وَالثَّانِي وَيُحْكَى عَنْ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ : إنَّهُ أَقْوَى وَأَصَحُّ أَنَّهَا لِلْأَبِ ، وَلَوْ غَرَسَ شَجَرًا وَقَالَ عِنْدَ غَرْسِهِ : غَرَسْته لِطِفْلِي لَمْ يَمْلِكْهُ ، فَإِنْ قَالَ : جَعَلْته لَهُ صَارَ مِلْكَهُ : أَيْ إذَا قَبِلَهُ لَهُ كَمَا مَرَّ .
وَلَوْ قَالَ أَعَمَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ فَإِذَا مِتَّ فَهِيَ لِوَرَثَتِك فَهِيَ هِبَةٌ ، وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى أَعَمَرْتُك فَكَذَا فِي الْجَدِيدِ ، وَلَوْ قَالَ فَإِذَا مِتُّ عَادَتْ إلَيَّ فَكَذَا فِي الْأَصَحِّ ، وَلَوْ قَالَ : أَرْقَبْتُكَ أَوْ جَعَلْتُهَا لَك رُقْبَى : أَيْ إنْ مِتَّ قَبْلِي عَادَتْ إلَيَّ ، وَإِنْ مِتُّ قَبْلَك اسْتَقَرَّتْ لَك فَالْمَذْهَبُ طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ .
وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الصِّيغَةِ وَتَوْقِيتُهَا إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ بِقَوْلِهِ ( وَلَوْ قَالَ : أَعَمَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ ) مَثَلًا : أَيْ جَعَلْتُهَا لَك عُمْرَك أَوْ حَيَاتَك أَوْ مَا عِشْت أَوْ حَيِيت أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ( فَإِذَا مِتَّ ) بِفَتْحِ التَّاءِ ( فَهِيَ لِوَرَثَتِك ) أَوْ لِعَقِبِك كَمَا فِي الرَّوْضَةِ ( فَهِيَ هِبَةٌ ) حُكْمًا ، وَلَكِنَّهُ طَوَّلَ الْعِبَارَةَ فَيُعْتَبَرُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَتَلْزَمُ بِالْقَبْضِ ، فَإِذَا مَاتَ كَانَتْ لِوَرَثَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَلِبَيْتِ الْمَالِ وَلَا تَعُودُ لِلْوَاهِبِ بِحَالٍ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ { أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيهَا لَا تَرْجِعُ إلَى الَّذِي أَعْطَاهَا } ( وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى ) قَوْلِهِ : ( أَعَمَرْتُك ) هَذِهِ الدَّارَ مَثَلًا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا بَعْدَ مَوْتِهِ ( فَكَذَا ) هِيَ هِبَةٌ ( فِي الْجَدِيدِ ) لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ { الْعُمْرَى مِيرَاثٌ لِأَهْلِهَا } وَلَيْسَ فِي جَعْلِهَا لَهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ مَا يُنَافِي انْتِقَالَهَا إلَى وَرَثَتِهِ ، فَإِنَّ الْأَمْلَاكَ كُلَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِحَيَاتِهِ وَالْقَدِيمُ بُطْلَانُهُ كَمَا لَوْ قَالَ : أَعَمَرْتُك سَنَةً ( وَ ) عَلَى الْجَدِيدِ ( لَوْ قَالَ ) مَعَ قَوْلِهِ أَعْمَرْتُكَهَا : ( فَإِذَا مِتَّ عَادَتْ إلَيَّ ) أَوْ إلَى وَارِثِيَّ ( فَكَذَا ) هِيَ هِبَةٌ وَإِعْمَارٌ صَحِيحٌ ( فِي الْأَصَحِّ ) وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَيَلْغُو ذِكْرُ الشَّرْطِ لِإِطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ فَهَلَّا بَطَلَتْ الْعُمْرَى كَالْبَيْعِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ شُرُوطَ الْبَيْعِ تُقَابَلُ بِبَعْضِ الثَّمَنِ ، فَإِذَا بَطَلَتْ يَسْقُطْ مَا يُقَابِلُهَا فَيَصِيرُ الثَّمَنُ مَجْهُولًا فَيَبْطُلُ ، وَالْعُمْرَى لَا ثَمَنَ فِيهَا فَلِذَلِكَ صَحَّتْ ، وَبِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَقْتَضِي فَسْخًا مُنْتَظَرًا وَلَا يَضُرُّ الْهِبَةَ بِدَلِيلِ هِبَةِ الْأَبِ لِابْنِهِ وَيَضُرُّ الْبَيْعَ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَقَضِيَّةُ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَوْ قَيَّدَ الْهِبَةَ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ صَحَّتْ كَالْعُمْرَى وَهُوَ كَذَلِكَ .
فَائِدَةٌ : قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : لَيْسَ لَنَا مَوْضِعٌ يَصِحُّ فِيهِ الْعَقْدُ مَعَ وُجُودِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ الْمُنَافِي لِمُقْتَضَاهُ إلَّا هَذَا .
وَالثَّانِي : يَبْطُلُ الْعَقْدُ لِفَسَادِ الشَّرْطِ ، وَعَلَى الْقَدِيمِ يَبْطُلُ مِنْ بَابِ أَوْلَى كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُحَرَّرِ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ يَقْتَضِي كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ جَعَلْتُهَا لَك عُمْرِي أَوْ عُمْرَ زَيْدٍ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِخُرُوجِهِ عَنْ اللَّفْظِ الْمُعْتَادِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْقِيتِ الْمِلْكِ ، فَإِنَّ الْوَاهِبَ أَوْ زَيْدًا قَدْ يَمُوتُ أَوَّلًا بِخِلَافِ الْعَكْسِ ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْلِكُ إلَّا مُدَّةَ حَيَاتِهِ فَكَأَنْ لَا تَوْقِيتَ ، وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْعُمْرَى كَإِذَا مِتُّ أَوْ جَاءَ فُلَانٌ أَوْ رَأْسُ الشَّهْرِ فَهَذِهِ الدَّارُ لَك عُمْرَك ، فَلَوْ قَالَ : إنْ مِتُّ فَهِيَ لَك عُمْرَك فَوَصِيَّةٌ يُعْتَبَرُ خُرُوجُهَا مِنْ الثُّلُثِ ( وَلَوْ قَالَ : أَرْقَبْتُك ) هَذِهِ الدَّارَ مَثَلًا ( أَوْ جَعَلْتُهَا لَك رُقْبَى ) وَفَسَّرَ الْمُصَنِّفُ مُدَّةَ طُولِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( أَيْ إنْ مِتَّ قَبْلِي عَادَتْ إلَيَّ ، وَإِنْ مِتُّ قَبْلَك اسْتَقَرَّتْ لَك فَالْمَذْهَبُ طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ الْجَدِيدِ ) وَهُوَ الصِّحَّةُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ ( وَالْقَدِيمِ ) وَهُوَ عَدَمُ الصِّحَّةِ ، وَمُقَابِلُ الْمَذْهَبِ الْقَطْعُ بِالْبُطْلَانِ ، وَلَا يَحْتَاجُ لِلتَّفْسِيرِ فِي عَقْدِ الرُّقْبَى بَلْ يَكْفِي الِاقْتِصَارُ عَلَى أَرْقَبْتُك .
نَعَمْ إنْ عَقَدَهَا بِلَفْظِ الْهِبَةِ كَوَهَبْتُهَا لَك عُمْرَك اُحْتِيجَ لِلتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ .
وَالْعُمْرَى وَالرُّقْبَى كَانَا عَقْدَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي عَطِيَّتَيْنِ مَخْصُوصَتَيْنِ ، فَالْعُمْرَى مِنْ الْعُمْرِ ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهَا عُمْرَهُ ، وَالرُّقْبَى مِنْ الرُّقُوبِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْقُبُ مَوْتَ صَاحِبِهِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَصِحَّةُ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى بَعِيدٌ عَنْ الْقِيَاسِ .
لَكِنَّ الْحَدِيثَ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ أَصْلٍ وَكُلِّ قِيَاسٍ ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِمَا أَمْرٌ وَنَهْيٌ ، فَلَوْ قِيلَ بِتَحْرِيمِهِمَا لِلنَّهْيِ وَصِحَّتِهِمَا
لِلْحَدِيثِ ، كَمَا قُلْنَا فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ لَمْ يَبْعُدْ وَبُسِطَ ذَلِكَ ، وَلَا بُدَّ فِي الرُّقْبَى مِنْ الْقَبُولِ وَالْقَبْضِ كَمَا مَرَّ فِي الْعُمْرَى ، وَلَوْ جَعَلَ رَجُلَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا دَارِهِ لِلْآخَرِ رُقْبَى عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ قَبْلَ الْآخَرِ عَادَتْ لِلْآخَرِ فَرُقْبَى مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
وَمَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ هِبَتُهُ ، وَمَا لَا كَمَجْهُولٍ وَمَغْصُوبٍ وَضَالٍّ فَلَا إلَّا حَبَّتَيْ حِنْطَةٍ وَنَحْوِهِمَا .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الثَّالِثِ ضَابِطًا لَهُ بِضَابِطٍ ، فَقَالَ ( وَ ) كُلُّ ( مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ هِبَتُهُ ) بِالْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ بَابَهَا أَوْسَعُ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ حَذَفَ الْمُصَنِّفُ التَّاءَ مِنْ جَازَ هِبَتُهُ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ تَأْنِيثَ الْهِبَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ أَوْ لِمُشَاكَلَةِ جَازَ بَيْعُهُ .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الضَّابِطِ مَسَائِلُ : مِنْهَا الْجَارِيَةُ الْمَرْهُونَةُ إذَا اسْتَوْلَدَهَا الرَّاهِنُ أَوْ أَعْتَقَهَا ، وَهُوَ مُعْسِرٌ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا لِلضَّرُورَةِ ، وَلَا يَجُوزُ هِبَتُهَا لَا مِنْ الْمُرْتَهِنِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ .
وَمِنْهَا بَيْعُ الْمَوْصُوفِ سَلَمًا فِي الذِّمَّةِ جَائِزٌ ، وَيَمْتَنِعُ هِبَتُهُ كَوَهَبْتُكَ دِينَارًا فِي ذِمَّتِي ثُمَّ يُعَيِّنُهُ فِي الْمَجْلِسِ .
وَمِنْهَا الْمُكَاتَبُ يَصِحُّ بَيْعُهُ مَا فِي يَدِهِ وَلَا تَصِحُّ هِبَتُهُ .
وَمِنْهَا الْقَيِّمُ وَالْوَصِيُّ عَلَى مَالِ الطِّفْلِ يَصِحُّ مِنْهُمَا بَيْعُ مَالِهِ لَا هِبَتُهُ .
وَمِنْهَا هِبَةُ الْمَنَافِعِ فَإِنَّهَا تُبَاعُ بِالْإِجَارَةِ ، وَفِي هِبَتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَمْلِيكٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا وَهَبَ مَنَافِعَهُ عَارِيَّةً وَهُوَ مَا جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ وَرَجَّحَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَالثَّانِي : أَنَّهَا تَمْلِيكٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا وَهَبَ مَنَافِعَهُ أَمَانَةً ، وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَالسُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ ( وَ ) كُلُّ ( مَا لَا ) يَجُوزُ بَيْعُهُ ( كَمَجْهُولٍ وَمَغْصُوبٍ ) لِغَيْرِ قَادِرٍ عَلَى انْتِزَاعِهِ ( وَضَالٍّ ) وَآبِقٍ ، ( فَلَا ) تَجُوزُ هِبَتُهُ بِجَامِعِ أَنَّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الضَّابِطِ مَسَائِلُ : مِنْهَا مَا اسْتَثْنَاهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( إلَّا حَبَّتَيْ حِنْطَةٍ وَنَحْوِهِمَا ) مِنْ الْمُحَقَّرَاتِ كَشَعِيرٍ ، فَإِنَّهُمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا كَمَا مَرَّ فِي الْبَيْعِ وَتَجُوزُ هِبَتُهُمَا لِانْتِفَاءِ الْمُقَابِلِ فِيهِمَا ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِمَّا زَادَهُ عَلَى الْمُحَرَّرِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الرَّوْضَةِ .
وَقَالَ
ابْنُ النَّقِيبِ : إنَّهُ سَبْقُ قَلَمٍ ، فَفِي الرَّافِعِيِّ فِي تَعْرِيفِ اللُّقَطَةِ أَنَّ مَا لَا يُتَمَوَّلُ كَحَبَّةِ حِنْطَةٍ وَزَبِيبَةٍ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ .
لَكِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَغَيْرُهُ إنَّ الصَّحِيحَ الْمُخْتَارَ مَا فِي الْمَتْنِ وَهُوَ كَذَلِكَ .
وَمِنْهَا إذَا لَمْ تَعْلَمُ الْوَرَثَةُ مِقْدَارَ مَا لِكُلٍّ مِنْهُمْ مِنْ الْإِرْثِ ، كَمَا لَوْ خَلَّفَ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا خُنْثَى .
وَقَدْ ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي الْفَرَائِضِ أَنَّهُ لَوْ اصْطَلَحَ الَّذِينَ وَقَفَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ عَلَى تَسَاوٍ أَوْ تَفَاوُتٍ جَازَ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَلَا بُدَّ أَنْ يَجْرِيَ بَيْنَهُمْ تَوَاهُبٌ ، وَهَذَا التَّوَاهُبُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ جَهَالَةٍ وَلَكِنَّهَا تُحْتَمَلُ لِلضَّرُورَةِ .
وَمِنْهَا مَا إذَا اخْتَلَطَ حَمَامُ بُرْجَيْنِ فَوَهَبَ صَاحِبُ أَحَدِهِمَا نَصِيبَهُ لِلْآخَرِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ عَلَى الصَّحِيحِ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ لِلضَّرُورَةِ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ اخْتَلَطَتْ حِنْطَتُهُ بِحِنْطَةِ غَيْرِهِ ، أَوْ مَائِعُهُ بِمَائِعِ غَيْرِهِ ، أَوْ ثَمَرَتُهُ بِثَمَرَةِ غَيْرِهِ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ قَالَ : أَنْتَ فِي حِلٍّ مِمَّا تَأْخُذُ مِنْ مَالِي أَوْ تُعْطِي أَوْ تَأْكُلُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ دُونَ الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ إبَاحَةٌ ، وَهِيَ تَصِحُّ مَجْهُولَةً بِخِلَافِهِمَا .
وَمِنْهَا صُوفُ الشَّاةِ الْمَجْعُولَةِ أُضْحِيَّةً وَلَبَنُهَا كَمَا قَالَهُ الرُّويَانِيُّ وَمِنْهَا الطَّعَامُ الْمَغْنُومُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ تَجُوزُ هِبَتُهُ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ مَا دَامُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، كَمَا يَجُوزُ لَهُمْ أَكْلُهُ هُنَاكَ ، وَلَا يَصِحُّ لَهُمْ تَبَايُعُهُ قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ ، وَهَذِهِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا تُسْتَثْنَى ؛ لِأَنَّ الْآخِذَ لَا يَمْلِكُ الْمَأْخُوذَ حَتَّى يُمَلِّكَهُ لِغَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُبَاحٌ لِلْغَانِمِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ .
وَمِنْهَا الثِّمَارُ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ تَجُوزُ هِبَتُهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ، وَكَذَا الزَّرْعُ الْأَخْضَرُ قَبْلَ اشْتِدَادِ الْحَبِّ .
وَمِنْهَا
مَا لَوْ وَهَبَ الْأَرْضَ مَعَ بَذْرٍ أَوْ زَرْعٍ لَا يُفَرَّدُ بِالْعَقْدِ ، فَإِنَّ الْهِبَةَ تَصِحُّ فِي الْأَرْضِ وَتُفَرَّقُ الصَّفْقَةُ هُنَا عَلَى الْأَرْجَحِ ، وَالْجَهَالَةُ فِي الْبَذْرِ لَا تَضُرُّ فِي الْأَرْضِ إذْ لَا ثَمَنَ وَلَا تَوْزِيعَ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ بَاعَ الْمُتَحَجِّرُ مَا تَحَجَّرَهُ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّمَلُّكِ لَا يُبَاعُ وَتَجُوزُ هِبَتُهُ ، قَالَهُ الدَّارِمِيُّ : وَلَوْ وَهَبَ مَرْهُونًا أَوْ كَلْبًا وَلَوْ مُعَلَّمًا ، أَوْ خَمْرًا وَلَوْ مُحْتَرَمَةً ، أَوْ جِلْدَ مَيْتَةٍ قَبْلَ الدِّبَاغِ ، أَوْ دُهْنًا نَجِسًا لَمْ يَصِحَّ كَالْبَيْعِ ، وَمَا قَالَهُ فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ الْأَوَانِي مِنْ أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ تَصِحُّ هِبَتُهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَقْلِ الْيَدِ لَا عَلَى التَّمْلِيكِ كَمَا صَرَّحَ هُنَا بِأَنَّ هِبَتَهُ لَا تَصِحُّ .
وَهِبَةُ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ إبْرَاءٌ وَلِغَيْرِهِ بَاطِلَةٌ فِي الْأَصَحِّ .
( وَهِبَةُ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ إبْرَاءٌ ) لَهُ مِنْهُ لَا يَحْتَاجُ قَبُولًا نَظَرًا لِلْمَعْنَى .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ صَرِيحٌ فِي الْإِبْرَاءِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ قَالَ فِي الذَّخَائِرِ : إنَّهُ كِنَايَةٌ ، وَتَرْكُ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ كِنَايَةُ إبْرَاءٍ ( وَ ) هِبَتُهُ ( لِغَيْرِهِ ) وَهُوَ مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ ( بَاطِلَةٌ فِي الْأَصَحِّ ) وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَإِنَّمَا يُقْبَضُ مِنْ الدُّيُونِ عَيْنٌ لَا دَيْنٌ ، وَالْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا وَرَدَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي : صَحِيحَةٌ وَنُقِلَ عَنْ نَصِّ الْأُمِّ وَصَحَّحَهُ جَمْعٌ تَبَعًا لِلنَّصِّ كَمَا مَرَّ فِي بَيْعِهِ عَلَى مَا صَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ قِيلَ بَلْ أَوْلَى ، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ أَنَّ هِبَةَ مَا فِي الذِّمَّةِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، بِخِلَافِ بَيْعِ مَا فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ ، وَلِهَذَا لَمْ يَخْتَلِفْ تَرْجِيحُ الشَّيْخَيْنِ فِي بُطْلَانِ هِبَةِ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ ، وَاخْتُلِفَ فِي تَرْجِيحِ الْبَيْعِ لَهُ ، وَعَلَى هَذَا يُسْتَثْنَى مِنْ طَرْدِ الْقَاعِدَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا تَجُوزُ هِبَتُهُ .
فَرْعٌ : تَمْلِيكُ الْمِسْكِينِ الدَّيْنَ الَّذِي عَلَيْهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ عَنْ الزَّكَاةِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا عَلَيْهِ إبْدَالٌ وَهُوَ لَا يَجُوزُ ، وَفِيمَا عَلَى غَيْرِهِ تَمْلِيكٌ وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا .
وَلَا يُمْلَكُ مَوْهُوبٌ إلَّا بِقَبْضٍ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ .
( وَلَا يُمْلَكُ مَوْهُوبٌ ) بِالْهِبَةِ الصَّحِيحَةِ غَيْرِ الضِّمْنِيَّةِ وَذَاتِ الثَّوَابِ الشَّامِلَةِ لِلْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ ( إلَّا بِقَبْضٍ ) ، فَلَا يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ لِمَا رَوَى الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَى إلَى النَّجَاشِيِّ ثَلَاثِينَ أُوقِيَّةً مِسْكًا ثُمَّ قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ إنِّي لَأَرَى النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ وَلَا أَرَى الْهَدِيَّةَ الَّتِي قَدْ أُهْدِيَتْ إلَيْهِ إلَّا تُسْتَرَدُّ فَإِذَا رُدَّتْ إلَيَّ فَهِيَ لَكِ فَكَانَ كَذَلِكَ } لِأَنَّهُ عَقْدُ إرْفَاقٍ كَالْقَرْضِ فَلَا يُمْلَكُ إلَّا بِالْقَبْضِ ، وَخَرَجَ بِالصَّحِيحَةِ الْفَاسِدَةُ ، فَلَا تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ وَالْمَقْبُوضُ بِهَا غَيْرُ مَضْمُونٍ كَالْهِبَةِ الصَّحِيحَةِ إذْ الْأَصْلُ أَنَّ فَاسِدَ كُلِّ عَقْدٍ كَصَحِيحِهِ ، وَبِغَيْرِ الضِّمْنِيَّةِ الضِّمْنِيَّةُ ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي مَجَّانًا ، فَإِنَّهُ يُعْتَقُ عَنْهُ وَيَسْقُطُ الْقَبْضُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَمَا يَسْقُطُ الْقَبُولُ إذَا كَانَ الْتِمَاسُ الْعِتْقِ بِعِوَضٍ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي بَابِ الْكَفَّارَةِ ، وَبِغَيْرِ ذَاتِ الثَّوَابِ ذَاتُهُ ، فَإِنَّهُ إذَا سَلَّمَ الثَّوَابَ اسْتَقَلَّ بِالْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهَا بَيْعٌ .
تَنْبِيهٌ : شَمَلَ كَلَامُهُ هِبَةَ الْأَبِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ أَنَّهَا لَا تُمْلَكُ إلَّا بِالْقَبْضِ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِهِمْ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ خِلَافًا لِمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ ( بِإِذْنِ الْوَاهِبِ ) فِيهِ إنْ لَمْ يَقْبِضْهُ الْوَاهِبُ سَوَاءٌ أَكَانَ فِي يَدِ الْمُتَّهَبِ أَمْ لَا ، فَلَوْ قَبَضَ بِلَا إذْنٍ وَلَا إقْبَاضٍ لَمْ يَمْلِكْهُ وَدَخَلَ فِي ضَمَانِهِ سَوَاءٌ أَقَبَضَهُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ أَمْ بَعْدَهُ ، وَلَا بُدَّ مِنْ إمْكَانِ السَّيْرِ إلَيْهِ إنْ كَانَ غَائِبًا ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْقَبْضِ فِي بَابِ الْبَيْعِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَكْفِي الْإِتْلَافُ وَلَا الْوَضْعُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقِّ الْقَبْضِ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الْأَكْلِ أَوْ الْعِتْقِ
عَنْهُ فَأَكَلَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ كَانَ قَبْضًا ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ مِنْ الْمَوْهُوبِ قَبْلَ قَبْضِهِ لِلْوَاهِبِ لِبَقَائِهِ عَنْ مِلْكِهِ وَقَبْضُ الْمُشَاعِ بِقَبْضِ الْجَمِيعِ مَنْقُولًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ، فَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا وَمَنَعَ مِنْ الْقَبْضِ شَرِيكَهُ وَوَكَّلَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي قَبْضِ نَصِيبِهِ صَحَّ ، فَإِنْ لَمْ يُوَكِّلْهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبَضَ لَهُ الْحَاكِمُ وَيَكُونُ فِي يَدِهِ لَهُمَا ، وَيَصِحُّ بَيْعُ الْوَاهِبِ لِلْمَوْهُوبِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَإِنْ ظَنَّ لُزُومَ الْهِبَةِ بِالْعَقْدِ ، وَلَيْسَ الْإِقْرَارُ بِالْهِبَةِ وَلَوْ مَعَ الْمِلْكِ إقْرَارًا بِقَبْضِ الْمَوْهُوبِ لِجَوَازِ أَنْ يَعْتَقِدَ لُزُومَهَا بِالْعَقْدِ ، وَالْإِقْرَارُ يُحْمَلُ عَلَى الْيَقِينِ إلَّا إنْ قَالَ : وَهَبْته لَهُ وَخَرَجْت مِنْهُ إلَيْهِ وَكَانَ فِي يَدِ الْمُتَّهَبِ وَإِلَّا فَلَا ، وَقَوْلُهُ : وَهَبْته وَأَقْبَضْته لَهُ إقْرَارٌ بِالْهِبَةِ وَالْقَبْضِ ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ صُدِّقَ الْوَاهِبُ ، فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَقَالَ الْوَاهِبُ : رَجَعْت قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ وَقَالَ الْمُتَّهَبُ : بَلْ بَعْدَهُ صُدِّقَ الْمُتَّهَبُ بِيَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ وَلَوْ أَقَبَضَهُ ، وَقَالَ قَصَدْت بِهِ الْإِيدَاعَ أَوْ الْعَارِيَّةَ وَأَنْكَرَ الْمُتَّهَبُ صُدِّقَ الْوَاهِبُ كَمَا فِي الِاسْتِقْصَاءِ .
فَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا بَيْنَ الْهِبَةِ وَالْقَبْضِ قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ ، وَقِيلَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ .
( فَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا ) أَيْ الْوَاهِبُ أَوْ الْمَوْهُوبُ لَهُ ( بَيْنَ الْهِبَةِ وَالْقَبْضِ ) لَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ ، وَ ( قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ ) أَيْ وَارِثُ الْوَاهِبِ فِي الْإِقْبَاضِ وَالْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ وَوَارِثُ الْمُتَّهَبِ فِي الْقَبْضِ ( وَقِيلَ : يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ ) لِجَوَازِهِ كَالْوَكَالَةِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ : بِأَنَّهَا تُؤَوَّلُ إلَى اللُّزُومِ فَلَمْ يَنْفَسِخْ بِالْمَوْتِ كَالْبَيْعِ الْجَائِزِ بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ وَيَقْبِضَانِ إذَا أَفَاقَا ، وَلِوَلِيِّ الْمَجْنُونِ قَبْضُهَا قَبْلَ الْإِفَاقَةِ .
فَرْعٌ : لَوْ رَجَعَ الْوَاهِبُ الشَّامِلُ لِلْمُهْدِي وَالْمُتَصَدِّقُ أَوْ وَارِثُهُ فِي الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ أَوْ مَاتَ هُوَ أَوْ الْمُتَّهَبُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِيهِمَا بَطَلَ الْإِذْنُ فَلَيْسَ لِلرَّسُولِ إيصَالُ الْهِبَةِ إلَى الْمُتَّهَبِ أَوْ وَارِثِهِ إلَّا بِإِذْنٍ جَدِيدٍ .
وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ أَنْ يَكُونَ جُنُونُ الْوَاهِبِ وَإِغْمَاؤُهُ وَالْحَجْرُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ .
وَيُسَنُّ لِلْوَالِدِ الْعَدْلُ فِي عَطِيَّةِ أَوْلَادِهِ بِأَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَقِيلَ كَقِسْمَةِ الْإِرْثِ .
( وَيُسَنُّ لِلْوَالِدِ ) وَإِنْ عَلَا ( الْعَدْلُ فِي عَطِيَّةِ أَوْلَادِهِ بِأَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ) ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : { وَهَبَنِي أَبِي هِبَةً فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ : لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمَّ هَذَا أَعْجَبَهَا أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى الَّذِي وَهَبْتُ لِابْنِهَا ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا بَشِيرُ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : كُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَارْجِعْهُ } وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ " اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ " وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ قَالَ " فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي " وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ " لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ إنَّ لِبَنِيكَ مِنْ الْحَقِّ أَنْ تَعْدِلَ بَيْنَهُمْ " وَلِئَلَّا يُفْضِيَ بِهِمْ الْأَمْرُ إلَى الْعُقُوقِ أَوْ التَّحَاسُدِ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ تَرْكَ هَذَا خِلَافُ الْأَوْلَى ، وَالْمَجْزُومُ بِهِ فِي الرَّافِعِيِّ الْكَرَاهَةُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ، بَلْ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : إنَّ تَرْكَهُ حَرَامٌ ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ " لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ " وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ ، وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِرِوَايَةِ { فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي } ؛ وَلِأَنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَضَّلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنْ أَوْلَادِهِ ، وَفَضَّلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ابْنًا عَاصِمًا بِشَيْءٍ ، وَفَضَّلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا بَعْضَ وَلَدِهِ عَلَى بَعْضٍ ( وَقِيلَ : كَقِسْمَةِ الْإِرْثِ ) فَيُضَعَّفُ حَظُّ الذَّكَرِ كَالْمِيرَاثِ كَمَا أَعْطَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْوَارِثَ رَضِيَ بِمَا فَرَضَ
اللَّهُ لَهُ بِخِلَافِ هَذَا ، بَلْ قِيلَ : إنَّ الْأَوْلَى أَنْ تُفَضَّلَ الْأُنْثَى حَكَاهُ ابْنُ جَمَاعَةِ الْمَقْدِسِيِّ فِي شَرْحِ الْمِفْتَاحِ ؛ وَلِأَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى إنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْمِيرَاثِ بِالْعُصُوبَةِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ بِالرَّحِمِ فَهُمَا سَوَاءٌ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأُمِّ ، وَلَوْ كَانَ فِي أَوْلَادِهِ خُنْثَى فَحُكْمُهُ حُكْمُ الذَّكَرِ لَا الْأُنْثَى حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الْوَجْهَانِ قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ فِي نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَهُوَ خِلَافُ قِيَاسِ الْمِيرَاثِ مِنْ وَقْفِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي الْحَاجَةِ أَوْ عَدَمِهَا وَإِلَّا فَلَا كَرَاهَةَ ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ تَفْضِيلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِيمَا مَرَّ ، وَيُسْتَثْنَى الْعَاقُّ وَالْفَاسِقُ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ يَصْرِفُهُ فِي الْمَعَاصِي فَلَا يُكْرَهُ حِرْمَانُهُ ، وَيُسَنُّ أَيْضًا أَنْ يُسَوِّيَ الْوَلَدُ إذَا وَهَبَ لِوَالِدَيْهِ شَيْئًا ، وَيُكْرَهُ لَهُ تَرْكُ التَّسْوِيَةِ كَمَا مَرَّ فِي الْأَوْلَادِ ، فَإِنْ فَضَّلَ أَحَدَهُمَا فَالْأُمُّ أَوْلَى لِخَبَرِ { إنَّ لَهَا ثُلُثَيْ الْبِرِّ } وَالْإِخْوَةُ وَنَحْوُهُمْ لَا يَجْرِي فِيهِمْ هَذَا الْحُكْمُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ مَطْلُوبَةٌ لَكِنْ دُونَ طَلَبِهَا فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ .
رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { حَقُّ كَبِيرِ الْإِخْوَةِ عَلَى صَغِيرِهِمْ كَحَقِّ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ } وَفِي رِوَايَةٍ { الْأَكْبَرُ مِنْ الْإِخْوَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ } .
وَلِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِي هِبَةِ وَلَدِهِ وَكَذَا لِسَائِرِ الْأُصُولِ عَلَى الْمَشْهُورِ .
( وَلِلْأَبِ الرُّجُوعُ ) عَلَى التَّرَاخِي ( فِي هِبَةِ وَلَدِهِ ) الشَّامِلَةِ لِلْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ وَكَذَا لِبَعْضِهَا كَمَا فُهِمَ بِالْأُولَى مِنْ دُونِ حُكْمِ حَاكِمٍ ( وَكَذَا لِسَائِرِ الْأُصُولِ ) مِنْ الْجِهَتَيْنِ وَلَوْ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ ( عَلَى الْمَشْهُورِ ) سَوَاءٌ أَقَبَضَهَا الْوَلَدُ أَمْ لَا ، غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا ، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ، لِخَبَرِ { لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ .
وَالْوَالِدُ يَشْمَلُ كُلَّ الْأُصُولِ إنْ حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَإِلَّا أُلْحِقَ بِهِ بَقِيَّةُ الْأُصُولِ بِجَامِعِ أَنَّ لِكُلٍّ وِلَادَةً كَمَا فِي النَّفَقَةِ وَحُصُولِ الْعِتْقِ وَسُقُوطِ الْقَوَدِ وَالثَّانِي : لَا رُجُوعَ لِغَيْرِ الْأَبِ مُسْتَدِلًّا بِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَقُصِرَ الْوَالِدُ عَلَى الْأَبِ وَعَمَّمَهُ الْأَوَّلُ ، وَعَبْدُ الْوَلَدِ غَيْرُ الْمُكَاتَبِ كَالْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لِعَبْدِ الْوَلَدِ هِبَةٌ لِلْوَلَدِ بِخِلَافِ عَبْدِهِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ .
نَعَمْ إنْ انْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ فَقَدْ بَانَ بِآخِرِ الْأَمْرِ أَنَّ الْمِلْكَ لِلْوَلَدِ فَهُوَ كَهِبَةِ اثْنَيْنِ لِوَلَدٍ تَنَازَعَا فِيهِ ثُمَّ أُلْحِقَ بِأَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ لِثُبُوتِ بُنُوَّتِهِ ، وَهِبَتُهُ لِمُكَاتَبِ نَفْسِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَلَوْ وَهَبَ شَيْئًا لِوَلَدِهِ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَرِثْهُ الْوَلَدُ لِمَانِعٍ قَامَ بِهِ ، وَإِنَّمَا وَرِثَهُ جَدُّ الْوَلَدِ لَمْ يَرْجِعْ فِي الْهِبَةِ الْجَدُّ الْحَائِزُ لِلْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تُورَثُ وَحْدَهَا إنَّمَا تُورَثُ بِتَبَعِيَّةِ الْمَالِ وَهُوَ لَا يَرِثُهُ .
وَيُكْرَهُ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ لِأَوْلَادِهِ إنْ عَدَلَ بَيْنَهُمْ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ كَأَنْ يَسْتَعِينُوا بِمَا أَعْطَاهُ لَهُمْ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَأَصَرُّوا عَلَيْهَا بَعْدَ إنْذَارِهِ لَهُمْ بِالرُّجُوعِ فَلَا يُكْرَهُ ، وَهَلْ يُكْرَهُ تَخْصِيصُ الْبَعْضِ بِالرُّجُوعِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ
كَالْهِبَةِ أَوْ لَا ؟ لِأَنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ فِي الْإِعْطَاءِ .
وَجْهَانِ حَكَاهُمَا فِي الْبَحْرِ : أَوْجَهُهُمَا الْكَرَاهَةُ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الرُّجُوعِ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا .
أَمَّا الْهِبَةُ لِوَلَدِهِ الرَّقِيقِ فَهِبَةٌ لِسَيِّدِهِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ ، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا فِي هِبَةِ الْأَعْيَانِ .
أَمَّا لَوْ وَهَبَ وَلَدَهُ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ جَزْمًا ، سَوَاءٌ أَقُلْنَا إنَّهُ تَمْلِيكٌ أَمْ إسْقَاطٌ ، إذْ لَا بَقَاءَ لِلدَّيْنِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَهَبَهُ شَيْئًا فَتَلِفَ .
وَشَرْطُ رُجُوعِهِ بَقَاءُ الْمَوْهُوبِ فِي سَلْطَنَةِ الْمُتَّهَبِ فَيَمْتَنِعُ بِبَيْعِهِ وَوَقْفِهِ ، لَا بِرَهْنِهِ وَهِبَتِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَتَعْلِيقِ عِتْقِهِ وَتَزْوِيجِهَا وَزِرَاعَتِهَا ، وَكَذَا الْإِجَارَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ .
( وَشَرْطُ رُجُوعِهِ ) أَيْ الْأَبِ أَوْ أَحَدِ سَائِرِ الْأُصُولِ ( بَقَاءُ الْمَوْهُوبِ فِي سَلْطَنَةِ ) أَيْ وِلَايَةِ ( الْمُتَّهَبِ ) وَهُوَ الْوَلَدُ ، وَيَدْخُلُ فِي السَّلْطَنَةِ مَا لَوْ أَبِقَ الْمَوْهُوبُ أَوْ غَصَبَ فَيَثْبُتُ الرُّجُوعُ فِيهِمَا ، وَيَخْرُجُ بِهَا مَا لَوْ جَنَى الْمَوْهُوبُ أَوْ أَفْلَسَ الْمُتَّهَبُ وَحُجِرَ عَلَيْهِ فَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِيهِمَا .
نَعَمْ إنْ قَالَ : أَنَا أُؤَدِّي أَرْشَ الْجِنَايَةِ وَأَرْجِعُ مُكِّنَ فِي الْأَصَحِّ .
فَإِنْ قِيلَ : سَيَأْتِي أَنَّهُ لَوْ رَهَنَهُ وَقَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ وَقَالَ : أَنَا أَبْذُلُ قِيمَتَهُ وَأَرْجِعُ لَمْ يُمَكَّنْ ، فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْ خُرُوجِ دَرَاهِمِهِ مُسْتَحَقَّةً فَيَفُوتُ الرَّهْنُ ؛ لِأَنَّهُ فَسَخَ الْعَقْدَ وَلَا يَقَعُ مَوْقُوفًا ، بِخِلَافِ بَذْلِ الْأَرْشِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَقْدٍ فَجَازَ أَنْ يَقَعَ مَوْقُوفًا ، فَإِنْ سَلَّمَ مَا بَذَلَهُ وَإِلَّا رَجَعَ إلَيْهِ ، وَأَيْضًا لِمَا فِي الرُّجُوعِ بَعْدَ الرَّهْنِ مِنْ إبْطَالِ تَصَرُّفِ الْمُتَّهَبِ .
نَعَمْ لَهُ أَنْ يَفْدِيَهُ بِكُلِّ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ لَكِنْ بِشَرْطِ رِضَا الْغَرِيمِ ، وَخَرَجَ بِحَجْرِ الْفَلَسِ : حَجْرُ السَّفَهِ فَلَا يُمْنَعُ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ ، وَيَمْتَنِعُ أَيْضًا الرُّجُوعُ فِي صُوَرٍ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بَعْضَهَا فِي قَوْلِهِ ( فَيَمْتَنِعُ ) الرُّجُوعُ فِي الْمَوْهُوبِ بِزَوَالِ السَّلْطَنَةِ ، سَوَاءٌ أَزَالَتْ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ ( بِبَيْعِهِ ) كُلِّهِ ( وَوَقْفِهِ ) وَعِتْقِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَمْ لَا ، كَأَنْ كَاتَبَ الْمَوْهُوبَ أَوْ اسْتَوْلَدَ الْأَمَةَ .
أَمَّا لَوْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بَعْضُهُ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي الْبَاقِي .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ بِالْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ مِنْ أَبِيهِ الْوَاهِبِ ، وَهُوَ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا ظَاهِرٌ ( لَا بِرَهْنِهِ وَ ) لَا ( هِبَتِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ) فِيهِمَا لِبَقَاءِ السَّلْطَنَةِ ، وَقِيَاسُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ أَوْ
لَهُمَا ثُبُوتُ الرُّجُوعِ لِبَقَاءِ سَلْطَنَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ لِزَوَالِهَا ( وَ ) لَا ( تَعْلِيقِ عِتْقِهِ ) وَلَا تَدْبِيرِهِ ( وَ ) لَا ( تَزْوِيجِهَا ) الْجَارِيَةَ ( و ) لَا ( زِرَاعَتِهَا ) أَيْ الْأَرْضِ فَلَا يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ بِكُلٍّ مِنْهَا لِبَقَاءِ السَّلْطَنَةِ ( وَكَذَا الْإِجَارَةُ ) لَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ بَاقِيَةٌ بِحَالِهَا وَمَوْرِدُ الْإِجَارَةِ الْمَنْفَعَةُ ، وَعَلَى هَذَا فَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا يَسْتَوْفِي الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنْفَعَةَ ، وَمُقَابِلُ الْمَذْهَبِ قَوْلُ الْإِمَامِ إنْ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُ الْمُؤَجَّرِ فَفِي الرُّجُوعِ تَرَدُّدٌ .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ الرُّجُوعِ مَعَ بَقَاءِ السَّلْطَنَةِ مَا إذَا مَنَعَ مَانِعٌ مِنْ الرُّجُوعِ وَذَلِكَ فِي صُوَرٍ .
مِنْهَا مَا لَوْ جُنَّ الْأَبُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ حَالَ جُنُونِهِ ، وَلَا رُجُوعَ لِوَلِيِّهِ ، بَلْ إذَا أَفَاقَ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ أَحْرَمَ وَالْمَوْهُوبُ صَيْدٌ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي الْحَالِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ يَدِهِ عَلَى الصَّيْدِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ ارْتَدَّ الْوَالِدُ وَفَرَّعْنَا عَلَى وَقْفِ مِلْكِهِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ لِأَنَّ الرُّجُوعَ لَا يَقْبَلُ الْوَقْفَ كَمَا لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ ، فَلَوْ حَلَّ : أَيْ مِنْ إحْرَامِهِ أَوْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ وَالْمَوْهُوبُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْوَلَدِ رَجَعَ ، وَلَوْ وَهَبَ لِوَلَدِهِ شَيْئًا وَوَهَبَهُ الْوَلَدُ لِوَلَدِهِ لَمْ يَرْجِعْ الْأَوَّلُ فِي الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنْهُ ، وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ ابْنِهِ أَوْ انْتَقَلَ بِمَوْتِهِ إلَيْهِ لَمْ يَرْجِعْ الْأَبُ قَطْعًا ؛ لِأَنَّ ابْنَهُ لَا رُجُوعَ لَهُ ، فَالْأَبُ أَوْلَى ، وَلَوْ وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ فَوَهَبَهُ الْوَلَدُ لِأَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ ، لَمْ يَثْبُتْ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّ الْوَاهِبَ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فَالْأَبُ أَوْلَى ، وَلَوْ وَهَبَهُ الْوَلَدُ لِجَدِّهِ ثُمَّ الْجَدُّ
لِوَلَدِ وَلَدِهِ فَالرُّجُوعُ لِلْجَدِّ فَقَطْ .
وَلَوْ زَالَ مِلْكُهُ وَعَادَ لَمْ يَرْجِعْ فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَوْ زَالَ مِلْكُهُ ) أَيْ الْوَلَدِ عَنْ الْمَوْهُوبِ ( وَعَادَ ) إلَيْهِ بِإِرْثٍ أَمْ لَا ( لَمْ يَرْجِعْ ) أَيْ الْأَصْلُ مِنْ الْجِهَتَيْنِ فِيهِ ( فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنْ الْأَصْلِ حَتَّى يَرْجِعَ فِيهِ ، وَالثَّانِي : يَرْجِعُ نَظَرًا إلَى مِلْكِهِ السَّابِقِ .
تَنْبِيهٌ : شَمَلَ كَلَامُهُ مَا لَوْ عَادَ مِلْكُ الْمَوْهُوبِ لِلْوَلَدِ بِالْإِقَالَةِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ زَالَ عَنْهُ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ .
نَعَمْ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ وَهَبَ لَهُ عَصِيرًا ثُمَّ تَخَمَّرَ ثُمَّ تَخَلَّلَ ، فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الْكَائِنَ فِي الْخَلِّ سَبَبُهُ مِلْكُ الْعَصِيرِ ، وَمَا لَوْ كَاتَبَهُ ثُمَّ عَجَزَ فَلَهُ الرُّجُوعُ ، وَاسْتَثْنَى الدَّمِيرِيُّ مَا لَوْ وَهَبَهُ صَيْدًا فَأَحْرَمَ الْوَلَدُ وَلَمْ يُرْسِلْهُ ثُمَّ تَحَلَّلَ ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْوَلَدِ قَدْ زَالَ عَنْهُ بِالْإِحْرَامِ وَلَمْ يَعُدْ بِالتَّحَلُّلِ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ ، وَلَوْ زَرَعَ الْوَلَدُ الْحَبَّ أَوْ فَرَّخَ الْبَيْضَ لَمْ يَرْجِعْ الْأَصْلُ فِيهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي وَإِنْ جَزَمَ الْبُلْقِينِيُّ بِخِلَافِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ صَارَ مُسْتَهْلَكًا .
وَلَوْ زَادَ رَجَعَ فِيهِ بِزِيَادَتِهِ الْمُتَّصِلَةِ لَا الْمُنْفَصِلَةِ .
( وَلَوْ زَادَ ) الْمَوْهُوبُ ( رَجَعَ ) الْأَصْلُ ( فِيهِ بِزِيَادَتِهِ الْمُتَّصِلَةِ ) كَسِمَنٍ وَحَرْثِ أَرْضٍ لِزِرَاعَةٍ ؛ لِأَنَّهَا تَتْبَعُ الْأَصْلَ .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِ صُورَتَانِ : الْأُولَى : مَا لَوْ وَهَبَ أَمَةً أَوْ بَهِيمَةً حَائِلًا ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا وَهِيَ حَامِلٌ لَمْ يَرْجِعْ إلَّا فِي الْأُمِّ دُونَ الْحَمْلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ يُعْلَمُ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ، وَيَرْجِعُ فِي الْأُمِّ ، وَلَوْ قَبْلَ الْوَضْعِ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ صَحَّحَهُ الْقَاضِي ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا أَجَابَ بِهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ .
الثَّانِيَةُ : مَا لَوْ وَهَبَهُ نَخْلًا فَأَطْلَعَتْ ثَمَرًا غَيْرَ مُؤَبَّرٍ ، فَلَا يَرْجِعُ فِيهِ عَلَى الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعَاوَضَةَ وَلَا تَرَاضٍ كَالصَّدَاقِ قَالَهُ الْحَاوِي فِي بَابِ بَيْعِ الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ ، لَكِنْ فِي الرَّوْضَةِ فِي التَّفْلِيسِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ مَا يَقْتَضِي تَرْجِيحَ التَّبَعِيَّةِ : أَيْ تَبَعِيَّةِ الطَّلْعِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ قِيَاسًا عَلَى الْحَمْلِ ( لَا ) الزِّيَادَةِ ( الْمُنْفَصِلَةِ ) كَالْوَلَدِ الْحَادِثِ وَالْكَسْبِ فَلَا يَرْجِعُ الْأَصْلُ فِيهَا بَلْ تَبْقَى لِلْمُتَّهَبِ لِحُدُوثِهِ عَلَى مِلْكِهِ ، بِخِلَافِ الْحَمْلِ الْمُقَارِنِ لِلْهِبَةِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ فِيهِ وَإِنْ انْفَصَلَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوْهُوبِ ، وَلَوْ كَانَ الْحَمْلُ مُقَارِنًا لِلْهِبَةِ ثُمَّ رَجَعَ فِي الْأُمِّ فَقَطْ كَانَ رُجُوعًا فِي الْحَمْلِ أَيْضًا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ ، وَلَوْ صَبَغَ الْوَلَدُ الثَّوْبَ أَوْ قَصَّرَهُ أَوْ طَحَنَ الْحِنْطَةَ أَوْ نَسَجَ الْغَزْلَ شَارَكَ وَالِدَهُ بَعْدَ الرُّجُوعِ فِي الثَّوْبِ بِمَا زَادَ عَلَى قِيمَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ تَزِدْ فَلَا شَرِكَةَ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ : أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَوْ تَعَلَّمَ عِنْدَ الْوَلَدِ صَنْعَةً فَزَادَتْ قِيمَتُهُ يَفُوزُ بِهَا الْوَالِدُ ، وَبِهِ صَرَّحَا هُنَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فَذَكَرَا مِنْ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ تَعَلُّمَ الْحِرْفَةِ وَحَرْثَ الْأَرْضِ ، لَكِنْ ذَكَرَا فِي بَابِ التَّفْلِيسِ أَنَّ
تَعَلُّمَ الْحِرْفَةِ كَالْعَيْنِ ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ شَرِيكًا فِيهَا بِمَا زَادَ كَالْقِصَارَةِ .
وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ الزَّرْكَشِيُّ بِأَنَّ مَا هُنَا تَعَلُّمٌ لَا مُعَالَجَةَ لِلسَّيِّدِ فِيهِ ، وَمَا هُنَاكَ تَعَلُّمٌ فِيهِ مُعَالَجَةٌ مِنْهُ ، وَلَوْ رَجَعَ الْأَصْلُ فِي الْأَرْضِ الَّتِي وَهَبَهَا لِلْوَلَدِ ، وَقَدْ غَرَسَ الْوَلَدُ ، أَوْ بَنَى تَخَيَّرَ الْأَصْلَ بَعْدَ رُجُوعِهِ فِي الْغَرْسِ ، أَوْ الْبِنَاءَ بَيْنَ قَلْعِهِ بِأَرْشِ نَقْصِهِ ، أَوْ تَمَلُّكَهُ بِقِيمَتِهِ أَوْ تَبْقِيَتَهُ بِأُجْرَةٍ كَالْعَارِيَّةِ ، وَلَوْ نَقَصَ الْمَوْهُوبُ رَجَعَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَرْشِ نَقْصٍ .
فَرْعٌ : لَوْ وَهَبَ لِوَلَدِهِ عَيْنًا وَأَقْبَضَهُ إيَّاهَا فِي الصِّحَّةِ فَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ لِبَاقِي الْوَرَثَةِ أَنَّ أَبَاهُ رَجَعَ فِيمَا وَهَبَهُ لَهُ وَلَمْ تَذْكُرْ مَا رَجَعَ فِيهِ لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهَا وَلَمْ تُنْزَعْ الْعَيْنُ مِنْهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمَرْجُوعِ فِيهِ .
وَيَحْصُلُ الرُّجُوعُ بِرَجَعْت فِيمَا وَهَبْتُ أَوْ اسْتَرْجَعْتُهُ أَوْ رَدَدْتُهُ إلَى مِلْكِي أَوْ نَقَضْتُ الْهِبَةَ .
( وَيَحْصُلُ الرُّجُوعُ بِرَجَعْتُ فِيمَا وَهَبْتُ أَوْ اسْتَرْجَعْتُهُ أَوْ رَدَدْتُهُ إلَى مِلْكِي أَوْ نَقَضْتُ الْهِبَةَ ) أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، كَأَبْطَلْتُهَا وَفَسَخْتُهَا ، وَكُلُّ هَذِهِ صَرَائِحُ ، وَيَحْصُلُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ كَأَخَذْتُهُ وَقَبَضْتُهُ ، وَكُلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ رُجُوعُ الْبَائِعِ بَعْدَ فَلَسِ الْمُشْتَرِي يَحْصُلُ بِهِ الرُّجُوعُ هُنَا .
لَا بِبَيْعِهِ وَوَقْفِهِ وَهِبَتِهِ وَإِعْتَاقِهِ وَوَطْئِهَا فِي الْأَصَحِّ .
تَنْبِيهٌ : الْمَوْهُوبُ بَعْدَ الرُّجُوعِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِرْدَادٍ لَهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْوَلَدِ بِخِلَافِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ فَسْخِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَخَذَهُ بِحُكْمِ الضَّمَانِ ، وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا مُنَجَّزًا .
فَلَوْ قَالَ : إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ رَجَعْت لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الْفُسُوخَ لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ كَالْعُقُودِ ، وَ ( لَا ) يَحْصُلُ الرُّجُوعُ ( بِبَيْعِهِ ) أَيْ مَا وَهَبَهُ الْأَصْلُ لِوَلَدِهِ ( وَ ) لَا ( وَقْفِهِ وَ ) لَا ( هِبَتِهِ وَ ) لَا ( إعْتَاقِهِ وَ ) لَا ( وَطْئِهَا ) لِكَمَالِ مِلْكِ الْوَلَدِ وَنُفُوذِ تَصَرُّفِهِ ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَا ذُكِرَ ، وَقَوْلُهُ : ( فِي الْأَصَحِّ ) رَاجِعٌ لِلْخَمْسِ صُوَرٍ .
وَالثَّانِي : يَحْصُلُ الرُّجُوعُ بِكُلٍّ مِنْهَا كَمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ الْبَائِعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ ضَعِيفٌ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُ الْوَالِدَ بِالْإِتْلَافِ وَالِاسْتِيلَادِ الْقِيمَةُ وَبِالْوَطْءِ الْمَهْرُ ، وَتَلْغُو الْبَقِيَّةُ ، وَتَحْرُمُ بِهِ الْأَمَةُ عَلَى الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهَا مَوْطُوءَةُ وَالِدِهِ ، وَتُحَرَّمُ مَوْطُوءَةُ الْوَلَدِ الَّتِي وَطِئَهَا الْوَالِدُ عَلَيْهِمَا مَعًا كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوَانِعِ النِّكَاحِ ، وَلَوْ تَفَاسَخَ الْمُتَوَاهِبَانِ الْهِبَةَ أَوْ تَقَايَلَا حَيْثُ لَا رُجُوعَ لَمْ تَنْفَسِخْ كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ .
فُرُوعٌ : أَحَدُهَا : لَوْ بَاعَ الْوَلَدُ الْعَيْنَ الْمَوْهُوبَةَ مِنْ أَبِيهِ ثُمَّ ادَّعَى الْأَبُ أَنَّهُ رَجَعَ فِيهَا قَبْلَ الْبَيْعِ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ
ثَانِيهَا : لَوْ جَهَّزَ شَخْصٌ ابْنَتَهُ بِأَمْتِعَةٍ لَمْ تَمْلِكْهَا إلَّا بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ إنْ كَانَتْ بَالِغَةً ، وَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى أَمْتِعَةَ بَيْتِهَا لَمْ تَمْلِكْهَا بِذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً وَاشْتَرَى بِنِيَّتِهَا فَتَمْلِكُ بِذَلِكَ ، ثُمَّ إنْ أَنْقَدَ الثَّمَنَ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ رَجَعَ وَإِلَّا فَلَا .
ثَالِثُهَا : لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْوَالِدِ عَيْنٌ وَأَقَرَّ بِأَنَّهَا فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ ، وَهِيَ مِلْكُ وَلَدِهِ ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُقِرَّ بِهِ كَانَ هِبَةً مِنْهُ وَأَنَّهُ رَجَعَ فِيهِ وَكَذَّبَهُ الْوَلَدُ صُدِّقَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَلَا رُجُوعَ لِلْأَبِ ، وَالْمُعْتَمَدُ مَا أَفْتَى بِهِ الْقُضَاةُ الثَّلَاثَةُ أَبُو الطَّيِّبِ ، وَالْمَاوَرْدِيُّ ، وَالْهَرَوِيُّ مِنْ أَنَّ الْأَبَ هُوَ الْمُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ ، وَصَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ .
رَابِعُهَا : لَوْ تَصَدَّقَ عَلَى غَيْرِهِ بِثَوْبٍ فَظَنَّ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ أَوْ أَعَارَهُ لَهُ مَلَكَهُ اعْتِبَارًا بِنِيَّةِ الدَّافِعِ ، فَلَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ الْمَدْفُوعُ لَهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَخْذُهُ لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ .
وَلَا رُجُوعَ لِغَيْرِ الْأُصُولِ فِي هِبَةٍ مُقَيَّدَةٍ بِنَفْيِ الثَّوَابِ .
( وَلَا رُجُوعَ لِغَيْرِ الْأُصُولِ فِي هِبَةٍ مُقَيَّدَةٍ بِنَفْيِ الثَّوَابِ ) أَيْ الْعِوَضِ لِلْحَدِيثِ الْمَارِّ ؛ وَلِأَنَّهُ بَذَلَ مَالَهُ مَجَّانًا كَالْمُتَصَدِّقِ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ كَلَامُهُ صِحَّةَ الْهِبَةِ إذَا قُيِّدَتْ بِنَفْيِ الثَّوَابِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ فَلَهُ إسْقَاطُهُ .
وَمَتَى وَهَبَ مُطْلَقًا فَلَا ثَوَابَ إنْ وَهَبَ لِدُونِهِ ، وَكَذَا لِأَعْلَى مِنْهُ فِي الْأَظْهَرِ ، وَلِنَظِيرِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ ، فَإِنْ وَجَبَ فَهُوَ قِيمَةُ الْمَوْهُوبِ فِي الْأَصَحِّ .
( وَمَتَى وَهَبَ ) شَيْئًا ( مُطْلَقًا ) عَنْ تَقْيِيدِهِ بِثَوَابٍ وَعَدَمِهِ ( فَلَا ثَوَابَ ) أَيْ لَا عِوَضَ ( إنْ وَهَبَ لِدُونِهِ ) فِي الْمَرْتَبَةِ ، كَالْمَلِكِ لِرَعِيَّتِهِ ، وَالْأُسْتَاذِ لِغُلَامِهِ ، إذْ لَا تَقْتَضِيه لَفْظًا وَلَا عَادَةً .
تَنْبِيهٌ : أَلْحَقَ الْمَاوَرْدِيُّ بِذَلِكَ سَبْعَةَ أَنْوَاعٍ : هِبَةَ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ الصِّلَةُ ، وَهِبَةَ الْعَدُوِّ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ التَّالِفُ ، وَهِبَةَ الْغَنِيِّ لِلْفَقِيرِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْعُهُ ، وَالْهِبَةَ لِلْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ الْقُرْبَةُ وَالتَّبَرُّكُ ، وَهِبَةَ الْمُكَلَّفِ لِغَيْرِهِ لِعَدَمِ صِحَّةِ الِاعْتِيَاضِ مِنْهُ ، وَالْهِبَةَ لِلْأَصْدِقَاءِ وَالْإِخْوَانِ لِأَنَّ الْقَصْدَ تَأَكُّدُ الْمَوَدَّةِ ، وَالْهِبَةَ لِمَنْ أَعَانَ بِجَاهِهِ أَوْ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مُكَافَأَتُهُ ، وَزَادَ الدَّارِمِيُّ هَدِيَّةَ الْمُتَعَلِّمِ لِمُعَلِّمِهِ ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيُّ ( وَكَذَا ) إنْ وَهَبَ مُطْلَقًا الدُّونَ ( لِأَعْلَى مِنْهُ ) كَهِبَةِ الْغُلَامِ لِأُسْتَاذِهِ ، فَلَا ثَوَابَ ( فِي الْأَظْهَرِ ) كَمَا لَوْ أَعَارَهُ دَارًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إلْحَاقًا لِلْأَعْيَانِ بِالْمَنَافِعِ .
وَالثَّانِي يَجِبُ الثَّوَابُ لِاطِّرَادِ الْعَادَةُ بِذَلِكَ ( وَ ) كَذَا إنْ وَهَبَ مُطْلَقًا ( لِنَظِيرِهِ ) فَلَا ثَوَابَ أَيْضًا ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) الْمَقْطُوعِ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ مِثْلِهِ : الصِّلَةُ وَتَأَكُّدُ الصَّدَاقَةِ ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ ، وَالْهَدَايَا فِي ذَلِكَ كَالْهِبَةِ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ تَفَقُّهًا ، وَنَقَلَهُ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ تَصْرِيحِ الْبَنْدَنِيجِيِّ .
وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَثَوَابُهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجِبُ الْعِوَضُ فِيهَا مُطْلَقًا .
قَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ : وَنُقِلَ عَنْ تَصْرِيحِ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِ ( فَإِنْ وَجَبَ ) فِي الْهِبَةِ مُطْلَقًا ثَوَابٌ عَلَى الْمَرْجُوحِ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ ( فَهُوَ قِيمَةُ الْمَوْهُوبِ ) أَيْ قَدْرُهَا ( فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ
إذَا اقْتَضَى الْعِوَضَ وَلَمْ يُسَمَّ فِيهِ شَيْءٌ تَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ ، وَعَلَى هَذَا ، فَالْأَصَحُّ اعْتِبَارُ قِيمَةِ وَقْتِ الْقَبْضِ لَا وَقْتِ الثَّوَابِ ، وَالثَّانِي : يَلْزَمُهُ مَا يُعَدُّ ثَوَابًا لِمِثْلِهِ عَادَةً .
فَإِنْ لَمْ يُثِبْهُ فَلَهُ الرُّجُوعُ ، وَلَوْ وَهَبَ بِشَرْطِ ثَوَابٍ مَعْلُومٍ فَالْأَظْهَرُ صِحَّةُ الْعَقْدِ ، وَيَكُونُ بَيْعًا عَلَى الصَّحِيحِ ، أَوْ مَجْهُولٍ فَالْمَذْهَبُ بُطْلَانُهُ .
( فَإِنْ لَمْ يُثِبْهُ ) هُوَ وَلَا غَيْرُهُ ( فَلَهُ ) أَيْ الْوَاهِبِ ( الرُّجُوعُ ) فِي الْمَوْهُوبِ إنْ بَقِيَ ، وَبِبَدَلِهِ إنْ تَلِفَ ، وَلَوْ أَهْدَى شَخْصٌ لِآخَرَ عَلَى أَنْ يَقْضِيَ لَهُ حَاجَةً أَوْ يَخْدُمَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهَا إنْ بَقِيَتْ وَبَدَلُهَا إنْ تَلِفَتْ كَمَا قَالَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ ( وَلَوْ وَهَبَ ) شَخْصًا شَيْئًا ( بِشَرْطِ ثَوَابٍ مَعْلُومٍ ) عَلَيْهِ ، كَوَهَبْتُكَ هَذَا عَلَى أَنْ تُثِيبَنِي كَذَا ( فَالْأَظْهَرُ صِحَّةُ ) هَذَا ( الْعَقْدِ ) نَظَرًا لِلْمَعْنَى فَإِنَّهُ مُعَاوَضَةٌ بِمَالٍ مَعْلُومٍ فَصَحَّ كَمَا لَوْ قَالَ بِعْتُك .
وَالثَّانِي : بُطْلَانُهُ نَظَرًا إلَى اللَّفْظِ لِتَنَاقُضِهِ ، فَإِنَّ لَفْظَ الْهِبَةِ يَقْتَضِي التَّبَرُّعَ ( وَيَكُونُ بَيْعًا عَلَى الصَّحِيحِ ) نَظَرًا إلَى الْمَعْنَى ، فَعَلَى هَذَا تَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ مِنْ الشُّفْعَةِ وَالْخِيَارَيْنِ وَغَيْرِهِمَا .
قَالَ فِي التَّنْقِيحِ بِلَا خِلَافٍ : وَغَلَطَ الْغَزَالِيُّ فِي إشَارَتِهِ إلَى خِلَافٍ فِيهِ ا هـ .
وَمَا صَحَّحَاهُ فِي بَابِ الْخِيَارِ مِنْ أَنَّهُ لَا خِيَارَ فِي الْهِبَةِ ذَاتِ الثَّوَابِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِبَيْعٍ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ هُنَاكَ .
وَالثَّانِي : يَكُونُ هِبَةً نَظَرًا إلَى اللَّفْظِ فَلَا يَلْزَمُ قَبْلَ الْقَبْضِ ( أَوْ ) بِشَرْطِ ثَوَابٍ ( مَجْهُولٍ ) كَوَهَبْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِثَوْبٍ ( فَالْمَذْهَبُ بُطْلَانُهُ ) أَيْ الْعَقْدِ لِتَعَذُّرِ صِحَّتِهِ بَيْعًا لِجَهَالَةِ الْعِوَضِ وَلِتَعَذُّرِ صِحَّتِهِ هِبَةً لِذِكْرِ الثَّوَابِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَا تَقْتَضِيه ، وَقِيلَ : يَصِحُّ هِبَةً بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تَقْتَضِيهِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ قَالَ الْمُتَّهَبُ لِلْوَاهِبِ : وَهَبْتَنِي بِلَا ثَوَابٍ ، وَقَالَ الْوَاهِبُ : بَلْ بِثَوَابٍ صُدِّقَ الْمُتَّهَبُ ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ مَلَكَهُ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ ذِكْرِ الْبَدَلِ .
وَلَوْ بَعَثَ هَدِيَّةً فِي ظَرْفٍ فَإِنْ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِرَدِّهِ كَقَوْصَرَّةِ تَمْرٍ فَهُوَ هَدِيَّةٌ أَيْضًا ، وَإِلَّا فَلَا ، وَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ إلَّا فِي أَكْلِ الْهَدِيَّةِ مِنْهُ إنْ اقْتَضَتْهُ الْعَادَةُ .
( وَلَوْ بَعَثَ ) شَخْصٌ لِآخَرَ ( هَدِيَّةً فِي ظَرْفٍ ) وَهُوَ الْوِعَاءُ ( فَإِنْ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِرَدِّهِ كَقَوْصَرَّةِ تَمْرٍ ) وَهِيَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ عَلَى الْأَفْصَحِ : وِعَاءُ التَّمْرِ ، وَلَا تُسَمَّى بِذَلِكَ إلَّا وَفِيهَا التَّمْرُ وَإِلَّا فَهِيَ زِنْبِيلٌ ( فَهُوَ ) أَيْ الظَّرْفُ ( هَدِيَّةٌ أَيْضًا ) تَحْكِيمًا لِلْعُرْفِ الْمُطَّرِدِ ، وَمِثْلُهُ عُلَبُ الْحَلْوَاءِ وَالْفَاكِهَةِ وَنَحْوِهِمَا ( وَإِلَّا ) بِأَنْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِرَدِّ الظَّرْفِ أَوْ اضْطَرَبَتْ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ الْمُقْرِي ( فَلَا ) يَكُونُ هَدِيَّةً بَلْ أَمَانَةً فِي يَدِهِ كَالْوَدِيعَةِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَيُشْبِهُ أَنْ تَخْتَلِفَ الْعَادَةُ فِي رَدِّ الظُّرُوفِ بِاخْتِلَافِ طَبَقَاتِ النَّاسِ وَعَادَةِ الْبِلَادِ وَمَا يُحْمَلُ مِنْهَا إلَى الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ دُونَ مُهَادَاةِ أَهْلِ الْبَلَدِ ، وَكَذَا الْإِهْدَاءُ إلَى الْمُلُوكِ ، وَلَا سِيَّمَا مَا يُحْمَلُ إلَيْهِمْ مِنْ النَّوَاحِي الْبَعِيدَةِ ، فَإِنَّ الْعَادَةَ أَنْ لَا تُرَدَّ ظُرُوفُهُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ عُرْفُهَا ، وَفِي كُلِّ قَوْمٍ عُرْفُهُمْ بِاخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ .
تَنْبِيهٌ : أَلْحَقَ الْمُتَوَلِّي بِذَلِكَ الْكِتَابَ الَّذِي يَكْتُبُهُ الْإِنْسَانُ لِصَاحِبِهِ : أَيْ سَوَاءٌ كَانَ غَائِبًا أَمْ حَاضِرًا ، فَإِنَّ الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ يَمْلِكُهُ ، فَإِنَّهُ هَدِيَّةٌ إلَّا أَنْ يَكْتُبَ فِيهِ أَنْ اُكْتُبْ لِي الْجَوَابَ عَلَى ظَهْرِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ وَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ إلَيْهِ ( وَ ) إذَا لَمْ يَكُنْ الظَّرْفُ هَدِيَّةً ( يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ ) لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِمِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ( إلَّا فِي أَكْلِ الْهَدِيَّةِ مِنْهُ إنْ اقْتَضَتْهُ الْعَادَةُ ) عَمَلًا بِهَا ، وَيَكُونُ عَارِيَّةً حِينَئِذٍ .
قَالَ الْقَاضِي : وَيُسْتَحَبُّ لَهُ رَدُّهُ حَالًا لِخَبَرِ { اسْتَبِقُوا الْهَدَايَا بِرَدِّ الظُّرُوفِ } قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالِاسْتِحْبَابُ الْمَذْكُورُ حَسَنٌ ، وَفِي جَوَازِ حَبْسِهِ بَعْدَ تَفْرِيغِهِ نَظَرٌ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ رِضَا الْمُهْدِي بِهِ ، وَهَلْ يَكُونُ إبْقَاؤُهَا فِيهِ
مَعَ إمْكَانِ تَفْرِيغِهِ عَلَى الْعَادَةِ مُضَمِّنًا ؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ لَا لَفْظًا وَلَا عُرْفًا أَمْ لَا ؟ وَفِي كَلَامِ الْقَاضِي مَا يُفْهِمُ الْأَوَّلَ وَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ .
وَأَمَّا الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فَلَا أَعْرِفُ لَهُ أَصْلًا .
وَلَوْ خَلَصَ شَخْصٌ آخَرُ مِنْ يَدِ ظَالِمٍ ثُمَّ أَنْفَذَ إلَيْهِ شَيْئًا هَلْ يَكُونُ رِشْوَةً أَوْ هَدِيَّةً .
قَالَ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ : يُنْظَرُ إنْ كَانَ أَهْدَى إلَيْهِ مَخَافَةَ أَنَّهُ رُبَّمَا لَوْ لَمْ يَبَرَّهُ بِشَيْءٍ لَنَقَضَ جَمِيعَ مَا فَعَلَهُ كَانَ رِشْوَةً ، وَإِنْ كَانَ يَأْمَنُ خِيَانَتَهُ بِأَنْ لَا يَنْقُضَ ذَلِكَ بِحَالٍ كَانَ هِبَةً .
خَاتِمَةٌ : أَفْضَلُ الْبِرِّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا وَفِعْلِ مَا يَسُرُّهُمَا مِنْ الطَّاعَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَغَيْرِهَا مِمَّا لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ قَالَ تَعَالَى { وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } وَمِنْ بِرِّهِمَا الْإِحْسَانُ إلَى صَدِيقِهِمَا ، لِخَبَرِ مُسْلِمٍ { إنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ } وَمِنْ الْكَبَائِرِ عُقُوقُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ أَنْ يُؤْذِيَهُ أَذًى لَيْسَ بِالْهَيِّنِ مَا لَمْ يَكُنْ مَا أَذَاهُ بِهِ وَاجِبًا .
قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَإِذَا كَانَ فِي مَالِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ شُبْهَةٌ وَدَعَاهُ لِلْأَكْلِ مِنْهُ فَلْيَتَلَطَّفْ فِي الِامْتِنَاعِ ، فَإِنْ عَجَزَ فَلْيَأْكُلْ وَيُقَلِّلْ بِتَصْغِيرِ اللُّقْمَةِ وَتَطْوِيلِ الْمَضْغَةِ .
قَالَ : وَكَذَا إذَا أَلْبَسَهُ ثَوْبًا مِنْ شُبْهَةٍ وَكَانَ يَتَأَذَّى بِرَدِّهِ فَلْيَقْبَلْهُ وَلْيَلْبَسْهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَنْزِعُهُ إذَا غَابَ ، وَيَجْتَهِدُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ فِيهِ إلَّا بِحَضْرَتِهِ .
وَصِلَةُ الْقَرَابَةِ ، وَهِيَ فِعْلُكَ مَعَ قَرِيبِكَ مَا تُعَدُّ بِهِ وَاصِلًا مَأْمُورٌ بِهَا وَتَحْصُلُ بِالْمَالِ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَالزِّيَارَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ بِالسَّلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَيَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُ وَفَاءِ الْعَهْدِ كَمَا يَتَأَكَّدُ كَرَاهَةُ إخْلَافِهِ .
وَيُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا وَهَبَهُ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ .
قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ : لَوْ طَلَبَ إنْسَانٌ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَهَبَهُ مَالًا فِي مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ فَاسْتَحْيَا مِنْهُمْ ، وَلَوْ كَانَ فِي خَلْوَةٍ مَا أَعْطَاهُ لَهُ فَوَهَبَهُ مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ كَالْمُصَادَرِ ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ وُهِبَ لَهُ شَيْءٌ لِاتِّقَاءِ شَرِّهِ أَوْ سِعَايَتِهِ .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِهِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَدِيَّةٍ حَتَّى يَأْمُرَ صَاحِبَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا لِلشَّاةِ الَّتِي أُهْدِيَتْ إلَيْهِ يَعْنِي الْمَسْمُومَةَ بِخَيْبَرَ } وَهَذَا أَصْلٌ لِمَا يَفْعَلُهُ الْمُلُوكُ فِي ذَلِكَ وَيَلْحَقُ بِهِمْ مَنْ فِي مَعْنَاهُمْ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ } ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ ، أَوْ أَنَّ الْعِصْمَةَ لَا تُنَافِي تَعَاطِي الْأَسْبَابِ ، كَمَا أَنَّ إخْبَارَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ يُظْهِرُهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ لَا يُنَافِي جِهَادَهُ وَأَمْرَهُ بِالْقِتَالِ ، فَمِنْ تَمَامِ التَّوَكُّلِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ السَّلَفِ سُلُوكُ الْأَسْبَابِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ .
كِتَابُ اللُّقَطَةِ
كِتَابُ اللُّقَطَةِ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ .
وَحَكَى ابْنُ مَالِكٍ فِيهَا أَرْبَعَ لُغَاتٍ : لُقَاطَةٌ ، وَلُقْطَةٌ بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ الْقَافِ ، وَلُقَطَةٌ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ ، وَلَقَطٌ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْقَافِ بِلَا هَاءٍ ، وَنَظَمَهَا فِي بَيْتٍ ، فَقَالَ : لُقَاطَةٌ وَلُقْطَةٌ وَلُقَطَهْ لَقَطٌ مَا لَاقِطٌ قَدْ لَقَطَهْ وَيُقَالُ : اللُّقَطَةُ بِفَتْحِ الْقَافِ اسْمٌ لِلْمُلْتَقِطِ بِكَسْرِهَا أَيْضًا ، وَهِيَ لُغَةً مَا وُجِدَ عَلَى تَطَلُّبٍ قَالَ تَعَالَى { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ } وَشَرْعًا : مَا وُجِدَ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ مِنْ مَالٍ أَوْ مُخْتَصٍّ ضَائِعٍ مِنْ مَالِكِهِ بِسُقُوطٍ أَوْ غَفْلَةٍ وَنَحْوِهَا لِغَيْرِ حَرْبِيٍّ لَيْسَ بِمُحْرَزٍ وَلَا مُمْتَنِعٍ بِقُوَّتِهِ وَلَا يَعْرِفُ الْوَاجِدُ مَالِكَهُ ، فَخَرَجَ بِغَيْرِ الْمَمْلُوكِ مَا وُجِدَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ ، فَإِنَّهُ لِمَالِكِ الْأَرْضِ إنْ ادَّعَاهُ ، وَإِلَّا فَلِمَنْ مَلَكَ مِنْهُ ، وَهَكَذَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الْمُحْيِي ، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لُقَطَةً ، وَبِسُقُوطٍ أَوْ غَفْلَةٍ مَا إذَا أَلْقَتْ الرِّيحُ ثَوْبًا فِي حِجْرِهِ مَثَلًا أَوْ أَلْقَى فِي حِجْرِهِ هَارِبٌ كِيسًا وَلَمْ يَعْرِفْهُ ، فَهُوَ مَالٌ ضَائِعٌ يَحْفَظُهُ ، وَلَا يَتَمَلَّكُهُ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَالِ الضَّائِعِ ، بِأَنَّ الضَّائِعَ مَا يَكُونُ مُحْرَزًا بِحِرْزِ مِثْلِهِ كَالْمَوْجُودِ فِي مُودَعِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْمُغْلَقَةِ ، وَلَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ ، وَاللُّقَطَةُ مَا وُجِدَ ضَائِعًا بِغَيْرِ حِرْزٍ ، وَاشْتِرَاطُ الْحِرْزِ فِيهِ دُونَهَا إنَّمَا هُوَ لِلْغَالِبِ ، وَإِلَّا فَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ مُحْرَزًا كَمَا مَرَّ فِي إلْقَاءِ الْهَارِبِ ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مُحْرَزًا كَمَا لَوْ وَجَدَ دِرْهَمًا فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أَوْ فِي بَيْتِهِ وَلَا يَدْرِي أَهُوَ لَهُ أَوْ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتَهُ ، فَعَلَيْهِ كَمَا قَالَ الْقَفَّالُ أَنْ يُعَرِّفَهُ لِمَنْ يَدْخُلُ بَيْتَهُ ، وَبِغَيْرِ حَرْبِيٍّ مَا وُجِدَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَلَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ يُخَمَّسُ ،
وَلَيْسَ لُقَطَةً ، وَمَا خَرَجَ بِبَقِيَّةِ الْحَدِّ وَاضِحٌ ، وَدَخَلَ فِيهِ صِحَّةُ الْتِقَاطِ الْهَدْيِ ، وَفَائِدَتُهُ : جَوَازُ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالنَّحْرِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ وَالْمَوْقُوفُ وَفَائِدَتُهُ تَمَلُّكُ مَنَافِعِهِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ .
يُرَدُّ عَلَيْهِ وَلَدُ اللُّقَطَةِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِضَائِعٍ ، وَالرِّكَازُ الَّذِي هُوَ دَفِينُ الْإِسْلَامِ يَصِحُّ لَقْطُهُ ، وَلَيْسَ مَالًا ضَائِعًا وَالْخَمْرُ غَيْرُ الْمُحْتَرَمَةِ ، فَيَصِحُّ الْتِقَاطُهَا وَلَا مَالَ وَلَا اخْتِصَاصَ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ اللُّقَطَةَ بَعْدَ الْهِبَةِ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ ، وَذَكَرَهُمَا فِي التَّنْبِيهِ بَعْدَ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ مِنْ الشَّارِعِ ، وَلَوْ ذُكِرَتْ عَقِبَ الْقَرْضِ لَكَانَ مُنَاسِبًا ؛ لِأَنَّهُ يَسْلُكُ بِهَا مَسْلَكَهُ ، وَالشَّرْعُ أَقْرَضَهُ الْمُلْتَقَطَةَ .
وَالْأَصْلُ فِيهَا قَبْلَ الْإِجْمَاعِ الْآيَاتُ الْآمِرَةُ بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ إذْ فِي أَخْذِهَا لِلْحِفْظِ وَالرَّدِّ بِرٌّ وَإِحْسَانٌ ، وَخَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ لُقَطَةِ الذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ ، فَقَالَ : اعْرَفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً ، فَإِنْ لَمْ تُعَرِّفْهَا فَاسْتَنْفِقْهَا وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ ، فَأَدِّهَا إلَيْهِ ، وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا ، وَسُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ ، فَقَالَ : مَا لَك وَلَهَا دَعْهَا فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا ، وَسُئِلَ عَنْ الشَّاةِ فَقَالَ : خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَك أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ } وَفِي الِالْتِقَاطِ مَعْنَى الْأَمَانَةِ وَالْوِلَايَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُلْتَقِطَ أَمِينٌ فِيمَا الْتَقَطَهُ ، وَالشَّرْعُ وَلَّاهُ حِفْظَهُ كَالْوَلِيِّ فِي مَالِ الطِّفْلِ ، وَفِيهِ مَعْنَى الِاكْتِسَابِ مِنْ حَيْثُ إنَّ لَهُ التَّمَلُّكَ بَعْدَ التَّعْرِيفِ ، وَهُوَ الْمُغَلَّبُ ؛ لِأَنَّهُ مَآلُ
الْأَمْرِ .
يُسْتَحَبُّ الِالْتِقَاطُ لِوَاثِقٍ بِأَمَانَةِ نَفْسِهِ ، وَقِيلَ يَجِبُ ، وَلَا يُسْتَحَبُّ لِغَيْرِ وَاثِقٍ ، وَيَجُوزُ فِي الْأَصَحِّ .
وَأَرْكَانُهَا ثَلَاثَةٌ : الْتِقَاطٌ وَمُلْتَقِطٌ بِكَسْرِ الْقَافِ وَمُلْتَقَطٌ بِفَتْحِهَا .
وَقَدْ شَرَعَ فِي الْأَوَّلِ ، فَقَالَ : ( يُسْتَحَبُّ الِالْتِقَاطُ لِوَاثِقٍ بِأَمَانَةِ نَفْسِهِ ) وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الْمُخْتَصَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْبِرِّ ، وَفِي خَبَرِ مُسْلِمٍ { وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } وَيُكْرَهُ تَرْكُهُ كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ لِئَلَّا يَقَعَ فِي يَدِ خَائِنٍ ، وَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ أَوْ كَسْبٌ وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يَجِبُ ابْتِدَاءً ( وَقِيلَ : يَجِبُ ) عَلَيْهِ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ صِيَانَةً لِلْمَالِ عَنْ الضَّيَاعِ .
وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ : إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ضَيَاعُهُ وَجَبَ وَإِلَّا فَلَا ، وَحَمَلَ النَّصَّيْنِ عَلَى ذَلِكَ ، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ .
وَقَالَ : لَا يَتَحَقَّقُ الْقَوْلُ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَنْ أَحَدٍ وَالنَّقْلُ أَمَانَةٌ ، فَإِنَّا لَوْ سُئِلْنَا عَمَّنْ قَالَ بِهِ لَمْ نَجِدْ مَنْ نَنْقُلُهُ عَنْهُ ( وَلَا يُسْتَحَبُّ ) الِالْتِقَاطُ قَطْعًا ( لِغَيْرِ وَاثِقٍ ) بِأَمَانَةِ نَفْسِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ فِي الْحَالِ آمِنٌ خَشْيَةَ الضَّيَاعِ أَوْ طُرُوِّ الْخِيَانَةِ ( وَ ) لَكِنْ ( يَجُوزُ ) الِالْتِقَاطُ ( فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ خِيَانَتَهُ لَمْ تَتَحَقَّقْ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا ، وَعَلَيْهِ الِاحْتِرَازُ ، وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ خَشْيَةَ اسْتِهْلَاكِهَا .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ كَلَامُهُ كَغَيْرِهِ حُرْمَةَ الِالْتِقَاطِ لِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْخِيَانَةَ ، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ سُرَاقَةَ فَقَالَ : يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُهَا ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِهِ فِي نَظِيرِهِ مِنْ الْوَدِيعَةِ .
وَيُكْرَهُ لِفَاسِقٍ ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَى الِالْتِقَاطِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ اسْتِحْبَابِ الْإِشْهَادِ إذَا لَمْ يَكُنْ السُّلْطَانُ ظَالِمًا يَخْشَى أَنَّهُ إذَا عَلِمَ بِهَا أَخَذَهَا .
( وَيُكْرَهُ ) الِالْتِقَاطُ تَنْزِيهًا كَمَا عَزَاهُ فِي الرَّوْضَةِ ، وَأَصْلِهَا لِلْجُمْهُورِ ( لِفَاسِقٍ ) لِئَلَّا تَدْعُوهُ نَفْسُهُ إلَى الْخِيَانَةِ ، وَقِيلَ تَحْرِيمًا كَمَا فِي الْبَسِيطِ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَهُوَ شَاذٌّ أَوْ مُؤَوَّلٌ .
وَاعْتَرَضَ بِأَنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ ( وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَى الِالْتِقَاطِ ) كَالْوَدِيعَةِ سَوَاءٌ أَكَانَ لِتَمَلُّكٍ أَمْ حِفْظٍ كَمَا يَقْتَضِيه كَلَامُ الرَّافِعِيِّ : لَكِنْ يُسَنُّ ، وَقِيلَ : يَجِبُ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد { مَنْ الْتَقَطَ فَلْيُشْهِدْ ذَا أَوْ ذَوَيْ عَدْلٍ وَلَا يَكْتُمْ وَلَا يُغَيِّبْ } وَحَمَلَهُ الْأَوَّلُ عَلَى النَّدْبِ .
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ ، وَيَذْكُرُ فِي الْإِشْهَادِ بَعْضَ صِفَاتِ اللُّقَطَةِ لِيَكُونَ فِي الْإِشْهَادِ فَائِدَةٌ ، وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ رُبَّمَا طَمِعَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، فَإِذَا أَشْهَدَ أَمِنَ ، وَلَا يَسْتَوْعِبُهَا لِئَلَّا يَتَوَصَّلَ إلَيْهَا كَاذِبٌ ، بَلْ يَصِفُهَا لِلشُّهُودِ بِأَوْصَافٍ يَحْصُلُ بِالْإِشْهَادِ بِهَا فَائِدَةٌ ، وَيُكْرَهُ اسْتِيعَابُهَا كَمَا ذَكَرَهُ الْقَمُولِيُّ عَنْ الْإِمَامِ ، وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ اسْتِحْبَابِ الْإِشْهَادِ إذَا لَمْ يَكُنْ السُّلْطَانُ ظَالِمًا يَخْشَى أَنَّهُ إذَا عَلِمَ بِهَا أَخَذَهَا ، وَإِلَّا فَيَمْتَنِعُ الْإِشْهَادُ ، وَكَذَا التَّعْرِيفُ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي نُكَتِ التَّنْبِيهِ .
وَأَنَّهُ يَصِحُّ الْتِقَاطُ الْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ وَالذِّمِّيِّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُنْزَعُ مِنْ الْفَاسِقِ وَيُوضَعُ عِنْدَ عَدْلٍ ، وَأَنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ تَعْرِيفُهُ ، بَلْ يُضَمُّ إلَيْهِ رَقِيبٌ ، وَيَنْزِعُ الْوَلِيُّ لُقَطَةَ الصَّبِيِّ وَيُعَرِّفُ وَيَتَمَلَّكُهَا لِلصَّبِيِّ إنْ رَأَى ذَلِكَ حَيْثُ يَجُوزُ الِاقْتِرَاضُ لَهُ ، وَيَضْمَنُ الْوَلِيُّ إنْ قَصَّرَ فِي انْتِزَاعِهِ حَتَّى تَلِفَ فِي يَدِ الصَّبِيِّ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الثَّانِي وَالْمُغَلَّبُ فِيهِ الِاكْتِسَابُ لَا الْوِلَايَةُ ؛ لِأَنَّهُ مَآلُ الْأَمْرِ كَمَا مَرَّ ، فَقَالَ : ( وَ ) الْمَذْهَبُ ( أَنَّهُ يَصِحُّ الْتِقَاطُ الْفَاسِقِ ) وَالْمُرْتَدِّ إنْ قُلْنَا : لَا يَزُولُ مِلْكُهُ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ وَالسَّفِيهِ ( وَالصَّبِيِّ ) وَالْمَجْنُونِ ( وَالذِّمِّيِّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ) وَفِي مَعْنَاهُ الْمُسْتَأْمَنُ وَالْمُعَاهَدُ كَمَا بَحَثَهُ الزَّرْكَشِيُّ كَاصْطِيَادِهِمْ وَاحْتِطَابِهِمْ ، وَشَرَطَ الْإِمَامُ فِي صِحَّةِ الْتِقَاطِ الصَّبِيِّ التَّمْيِيزَ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَمِثْلُهُ الْمَجْنُونُ ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي تَخْرِيجُهُ عَلَى أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي اللُّقَطَةِ الِاكْتِسَابُ ، فَيَصِحُّ ، أَوْ الْوِلَايَةُ وَالْأَمَانَةُ ، فَلَا يَصِحُّ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالْمُرَادُ بِالْفَاسِقِ الَّذِي يُوجِبُ فِسْقُهُ حَجْرًا عَلَيْهِ فِي مَالِهِ ا هـ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : لَا يُقَالُ إنَّ مَسْأَلَةَ الْفَاسِقِ مُكَرَّرَةٌ مَعَ قَوْلِهِ قَبْلَهُ وَيُكْرَهُ لِفَاسِقٍ .
فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالصِّحَّةِ هُنَا أَنَّ أَحْكَامَ اللُّقَطَةِ هَلْ تَثْبُتُ لَهُ وَإِنْ مَنَعْنَاهُ الْأَخْذَ .
أَمَّا الْتِقَاطُ الذِّمِّيِّ بِدَارِ الْكُفَّارِ فَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُنَا ، وَخَرَجَ بِهِ الْحَرْبِيُّ يَجِدُهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّهَا تُنْزَعُ مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ : أَيْ ، وَمَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ كَانَ لَهُ تَعْرِيفُهَا وَتَمَلُّكُهَا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ ، وَقِيلَ : تَكُونُ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ .
قَالَهُ الْمَحَامِلِيُّ .
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَتُرَدُّ لُقَطَتُهُ عَلَى الْإِمَامِ وَتَكُونُ فَيْئًا إنْ مَاتَ مُرْتَدًّا ، فَإِنْ أَسْلَمَ فَحُكْمُهُ كَالْمُسْلِمِ ( ثُمَّ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ ) أَيْ الْمُلْتَقَطُ ( يُنْزَعُ ) أَيْ يَنْزِعُهُ الْقَاضِي ( مِنْ الْفَاسِقِ ، وَيُوضَعُ عِنْدَ عَدْلٍ ) لِأَنَّ مَالَ وَلَدِهِ لَا يُقَرُّ فِي يَدِهِ فَكَيْفَ مَالُ الْأَجَانِبِ ، وَالثَّانِي : لَا ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ التَّمَلُّكِ : أَيْ إنْ أُمِنَتْ غَائِلَتُهُ ، وَلَكِنْ يُضَمُّ إلَيْهِ عَدْلٌ مُشْرِفٌ ، وَأُجْرَةُ الْعَدْلِ عَلَى
الْقَوْلَيْنِ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَمَا فِي الْأَنْوَارِ تَبَعًا لِلدَّارِمِيِّ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَمِنْ الْوَاجِدِ الْفَاسِقِ ( وَ ) الْأَظْهَرُ ( أَنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ تَعْرِيفُهُ بَلْ يُضَمُّ إلَيْهِ ) عَدْلٌ ( رَقِيبٌ ) خَشْيَةً مِنْ التَّفْرِيطِ فِي التَّعْرِيفِ ، وَالثَّانِي : يُعْتَمَدُ مِنْ غَيْرِ رَقِيبٍ ؛ لِأَنَّهُ الْمُلْتَقِطُ .
قَالَ فِي الْكِفَايَةِ : وَمُؤْنَةُ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ أَنَّ الْفَاسِقَ يُعَرِّفُ ، وَالْعَدْلُ يُرَاقِبُهُ ، وَفِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْأَمِينَ هُوَ الَّذِي يُعَرِّفُ ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ وَالْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُمَا : يَجْتَمِعَانِ عَلَى التَّعْرِيفِ ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَإِذَا تَمَّ التَّعْرِيفُ ، فَلِلْمُلْتَقِطِ التَّمَلُّكُ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَيُشْهِدُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ بِغُرْمِهَا إذَا جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِذَا لَمْ يَتَمَلَّكْهَا تُرِكَتْ بِيَدِ الْأَمِينِ .
تَنْبِيهٌ : اقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْفَاسِقِ قَدْ يُوهِمُ أَنَّهُ لَا يَنْزِعُ مِنْ يَدِ الذِّمِّيِّ بَلْ يُقَرُّ فِي يَدِهِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، فَفِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا إلْحَاقُهُ بِالْفَاسِقِ ، وَيَلْحَقُ بِهِ أَيْضًا الْمُرْتَدُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ وَالْمُعَاهَدُ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلَوْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ أَمِينًا لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا لَمْ تُنْزَعْ مِنْهُ ، وَعَضَّدَهُ الْحَاكِمُ بِأَمِينٍ يَقْوَى بِهِ عَلَى الْحِفْظِ وَالتَّعْرِيفِ ( وَيَنْزِعُ الْوَلِيُّ ) وُجُوبًا ( لُقَطَةَ الصَّبِيِّ ) وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ لِحَقِّهِمْ وَحَقِّ الْمَالِكِ ، وَتَكُونُ يَدُهُ نَائِبَةً عَنْهُمْ كَمَا نَابَ عَنْهُمْ فِي مَالِهِمْ ( وَيُعَرِّفُ ) هَا الْوَلِيُّ لَا مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ بَلْ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ لِيَبِيعَ جُزْءًا مِنْ اللُّقَطَةِ لِمُؤْنَةِ التَّعْرِيفِ ، وَهَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ كَوْنِ مُؤْنَةِ التَّعْرِيفِ عَلَى الْمُتَمَلِّكِ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ تَعْرِيفَ الصَّبِيِّ لَا يَصِحُّ ،
وَمِثْلُهُ الْمَجْنُونُ ، وَأَمَّا السَّفِيهُ ، فَيَصِحُّ تَعْرِيفُهُ ، وَلَا بُدَّ مِنْ إذْنِ وَلِيِّهِ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ ( وَيَتَمَلَّكُهَا لِلصَّبِيِّ ) وَنَحْوِهِ ( إنْ رَأَى ذَلِكَ ) مَصْلَحَةً ( حَيْثُ يَجُوزُ الِاقْتِرَاضُ لَهُ ) ؛ لِأَنَّ التَّمَلُّكَ فِي مَعْنَى الِاقْتِرَاضِ فَإِنْ لَمْ يَرَهُ مَصْلَحَةً لَهُ حَفِظَهُ أَمَانَةً أَوْ دَفَعَهُ إلَى الْقَاضِي ( وَ ) عَلَى صِحَّةِ الْتِقَاطِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ ( يَضْمَنُ الْوَلِيُّ إنْ قَصَّرَ فِي انْتِزَاعِهِ ) أَيْ الْمُلْتَقَطِ ( حَتَّى تَلِفَ فِي يَدِ الصَّبِيِّ ) وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ أَوْ أَتْلَفَهُ كُلٌّ مِنْهُمْ لِتَقْصِيرِهِ كَمَا لَوْ قَصَّرَ فِي حِفْظِ مَا احْتَطَبَهُ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : إلَّا أَنْ يَكُونَ وَلِيَهُ الْحَاكِمُ فَالْأَشْبَهُ عَدَمُ ضَمَانِهِ ا هـ .
وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ فِي انْتِزَاعِهَا ضَمِنَ الصَّبِيُّ ، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ بِالْإِتْلَافِ لَا بِالتَّلَفِ بِلَا تَقْصِيرٍ ، وَيَعْرِفُ التَّالِفُ الْمَضْمُونَ وَيُتَمَلَّكُ لِلصَّبِيِّ وَنَحْوِهِ الْقِيمَةُ بَعْدَ قَبْضِ الْحَاكِمِ لَهَا .
أَمَّا مَا فِي الذِّمَّةِ ، فَلَا يُمْكِنُ تَمَلُّكُهُ لَهُمْ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا الْوَلِيُّ حَتَّى بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ أَوْ رَشَدَ السَّفِيهُ كَانَ كَمَا لَوْ وَجَدَهَا بَعْدَ زَوَالِ الْحَجْرِ سَوَاءٌ اسْتَأْذَنَ الْحَاكِمَ ، فَأَقَرَّهَا فِي يَدِهِ أَمْ لَا كَمَا هُوَ أَحَدُ احْتِمَالَيْنِ لِلصَّيْمَرِيِّ يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ .
وَالْأَظْهَرُ بُطْلَانُ الْتِقَاطِ الْعَبْدِ وَلَا يُعْتَدُّ بِتَعْرِيفِهِ فَلَوْ أَخَذَهُ سَيِّدُهُ مِنْهُ كَانَ الْتِقَاطًا .
( وَالْأَظْهَرُ بُطْلَانُ الْتِقَاطِ الْعَبْدِ ) إذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ السَّيِّدُ ، وَلَمْ يَنْهَهُ ؛ لِأَنَّ اللُّقَطَةَ أَمَانَةٌ وَوِلَايَةٌ ابْتِدَاءً وَتَمْلِيكٌ انْتِهَاءً ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهِمَا ، وَالثَّانِي : صِحَّتُهُ وَيَكُونُ لِسَيِّدِهِ كَاحْتِطَابِهِ وَاصْطِيَادِهِ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ كَقَوْلِهِ مَتَى وَجَدْتَ لُقَطَةً ، فَأْتِنِي بِهَا صَحَّ جَزْمًا ، وَإِنْ نَهَاهُ امْتَنَعَ جَزْمًا عِنْدَ الْإِصْطَخْرِيِّ ، وَقَوَّاهُ الْمُصَنِّفُ وَطَرَدَ غَيْرُهُ فِيهِ الْقَوْلَيْنِ ، وَالْإِذْنُ فِي الِاكْتِسَابِ إذْنٌ فِي الِالْتِقَاطِ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الزَّرْكَشِيّ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ بُطْلَانِ الْتِقَاطِ الْعَبْدِ نُثَارُ الْوَلِيمَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ ، وَيَمْلِكُهُ سَيِّدُهُ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ آخِرَ الْوَلِيمَةِ ، وَكَذَا الْحَقِيرُ كَتَمْرَةٍ وَزَبِيبَةٍ ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُسْتَثْنَى مِنْ اللُّقَطَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا تَعْرِيفَ فِيهِ وَلَا تَمَلُّكَ ، فَهُوَ كَالِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ ( وَ ) عَلَى بُطْلَانِ الْتِقَاطِهِ ( لَا يُعْتَدُّ بِتَعْرِيفِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَقِطٍ ، وَيَضْمَنُ الْمُلْتَقَطَ فِي رَقَبَتِهِ ، وَعَلَى صِحَّةِ الْتِقَاطِهِ يُعْتَدُّ بِتَعْرِيفِهِ ، وَلَوْ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ لِنَفْسِهِ بَلْ يَتَمَلَّكُهُ لِسَيِّدِهِ بِإِذْنِهِ ، وَلَا يَصِحُّ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَالْمُدَبَّرُ وَمُعَلَّقُ الْعِتْقِ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ كَالْقِنِّ إلَّا أَنَّ الضَّمَانَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ يَتَعَلَّقُ بِسَيِّدِهَا لَا بِرَقَبَتِهَا عَلِمَ سَيِّدُهَا أَمْ لَا ( فَإِنْ أَخَذَهُ ) أَيْ الْمُلْتَقَطَ ( سَيِّدُهُ ) أَوْ أَجْنَبِيٌّ ( مِنْهُ ) أَيْ الْعَبْدِ ( كَانَ الْتِقَاطًا ) لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ السَّيِّدُ لِلْأَجْنَبِيِّ ، وَيَسْقُطُ عَنْ الْعَبْدِ الضَّمَانُ ، وَفِي مَعْنَى أَخْذِ السَّيِّدِ إقْرَارُهُ اللُّقَطَةَ فِي يَدِ الْعَبْدِ إنْ كَانَ أَمِينًا إذْ يَدُهُ كَيَدِهِ ، فَإِنْ اسْتَحْفَظَهُ ، وَهُوَ غَيْرُ أَمِينٍ أَوْ أَهَمَلَهُ تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِالْعَبْدِ
وَسَائِرِ أَمْوَالِ السَّيِّدِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ لَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ ، وَلَوْ أَفْلَسَ السَّيِّدُ قُدِّمَ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ فِي الْعَبْدِ عَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ أَخَذَهُ سَيِّدُهُ قَدْ يُفْهِمُ أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ بَعْدَ أَنْ الْتَقَطَ لَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَلِلْعَتِيقِ تَمَلُّكُهَا وَكَأَنَّهُ الْتَقَطَ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ .
قُلْتُ : الْمَذْهَبُ صِحَّةُ الْتِقَاطِ الْمُكَاتَبِ كِتَابَةً صَحِيحَةً .
( قُلْتُ ) كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ : فِي الشَّرْحِ ( الْمَذْهَبُ صِحَّةُ الْتِقَاطُ الْمُكَاتَبِ كِتَابَةً صَحِيحَةً ) كَالْحُرِّ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِالْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ ، فَيُعَرِّفُ وَيَتَمَلَّكُ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَصِحُّ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّبَرُّعِ وَالْحِفْظِ ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ ، فَهُوَ كَالْقِنِّ لَكِنْ لَا يَأْخُذُهَا السَّيِّدُ مِنْهُ ، وَإِنْ أَوْهَمَتْهُ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ بَلْ يَأْخُذُهَا الْقَاضِي وَيَحْفَظُهَا إذْ لَا وِلَايَةَ لِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ وَالطَّرِيقُ الثَّانِي الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ كَالْحُرِّ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ تَمَلَّكَهَا الْمُكَاتَبُ بَعْدَ تَعْرِيفِهَا ، فَإِنْ تَلِفَتْ كَانَ بَدَلُهَا فِي كَسْبِهِ وَلَا يُقَدَّمُ مَالِكُهَا بِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ اسْتَظْهَرَهُ شَيْخُنَا ، وَيَنْبَغِي جَرَيَانُهُمَا كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : فِي الْحُرِّ الْمُفْلِسِ أَوْ الْمَيِّتِ ، فَلَوْ عَجَّزَ نَفْسَهُ قَبْلَ تَمَلُّكِ اللُّقَطَةِ لَمْ يَأْخُذْهَا السَّيِّدُ ؛ لِأَنَّ الْتِقَاطَ الْمُكَاتَبِ لَا يَقَعُ لِسَيِّدِهِ ، وَلَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ الْتِقَاطُهُ اكْتِسَابًا ، لِأَنَّ لَهُ يَدًا كَالْحُرِّ ، فَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ وَلَا لِغَيْرِهِ أَخْذُهَا مِنْهُ بَلْ يَحْفَظُهَا الْحَاكِمُ لِلْمَالِكِ .
أَمَّا الْمُكَاتَبُ كِتَابَةً فَاسِدَةً ، فَلَا يَصِحُّ الْتِقَاطُهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ كَالْقِنِّ .
وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ ، وَهِيَ لَهُ وَلِسَيِّدِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ مُهَايَأَةً فَلِصَاحِبِ النَّوْبَةِ فِي الْأَظْهَرِ ، وَكَذَا حُكْمُ سَائِرِ النَّادِرِ مِنْ الْأَكْسَابِ وَالْمُؤَنِ إلَّا أَرْشَ الْجِنَايَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَ ) الْمَذْهَبُ صِحَّةُ الْتِقَاطِ ( مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ ) وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ ؛ لِأَنَّهُ كَالْحُرِّ فِي الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ وَالذِّمَّةِ ، وَقِيلَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْقِنِّ ( وَ ) عَلَى الْأَوَّلِ ( هِيَ ) أَيْ اللُّقَطَةُ ( لَهُ وَلِسَيِّدِهِ ) فَيُعَرِّفَانِهَا وَيَتَمَلَّكَانِهَا .
هَذَا إنْ لَمْ تَكُنْ مُهَايَأَةً ( فَإِنْ كَانَتْ مُهَايَأَةً ) بِالْهَمْزِ : أَيْ مُنَاوَبَةً ( فَلِصَاحِبِ النَّوْبَةِ فِي الْأَظْهَرِ ) بِنَاءً عَلَى دُخُولِ الْكَسْبِ النَّادِرِ فِي الْمُهَايَأَةِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ، وَالثَّانِي : تَكُونُ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ دُخُولِهِ فِيهَا ، فَعَلَى الْأَظْهَرِ مَنْ وَقَعَتْ فِي نَوْبَتِهِ عَرَّفَهَا وَتَمَلَّكَهَا ، وَالِاعْتِبَارُ بِوَقْتِ الِالْتِقَاطِ عَلَى الْأَصَحِّ .
تَنْبِيهٌ : هَلْ يُحْتَاجُ إلَى إذْنِ السَّيِّدِ فِيمَا إذَا كَانَتْ مُهَايَأَةً وَفِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ مُهَايَأَةً أَوْ لَا ؟ لَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ فِي نَوْبَةِ سَيِّدِهِ كَالْقِنِّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إذْنِهِ .
وَأَمَّا فِي نَوْبَةِ نَفْسِهِ ، فَهُوَ كَالْحُرِّ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ مُهَايَأَةً فَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنٍ تَغْلِيبًا لِلْحُرِّيَّةِ ( وَكَذَا حُكْمُ سَائِرِ ) أَيْ بَاقِي ( النَّادِرِ مِنْ الْأَكْسَابِ ) الْحَاصِلَةِ لِلْمُبَعِّضِ كَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَالرِّكَازِ وَالصَّدَقَةِ ، وَكَذَا زَكَاةُ الْفِطْرِ فِي الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُهَايَأَةِ أَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا وَقَعَ فِي نَوْبَتِهِ ( وَ ) حُكْمُ النَّادِرِ مِنْ ( الْمُؤَنِ ) كَأُجْرَةِ طَبِيبٍ وَثَمَنِ دَوَاءٍ وَأُجْرَةِ حَمَّامٍ إلْحَاقًا لِلْغُرْمِ بِالْغُنْمِ فَالْأَكْسَابُ لِمَنْ حَصَلَتْ فِي نَوْبَتِهِ ، وَالْمُؤَنُ عَلَى مَنْ وَجَدَ سَبَبَهَا فِي نَوْبَتِهِ فِي الْأَظْهَرِ فِيهِمَا ، وَمُقَابِلُهُ يَشْتَرِكَانِ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ النَّادِرَةَ مَجْهُولَةٌ ، وَرُبَّمَا لَا تَخْطُرُ بِالْبَالِ عِنْدَ التَّهَايُؤِ ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إدْخَالِهَا ( إلَّا أَرْشَ الْجِنَايَةِ ) الْمَوْجُودَةِ مِنْ الْمُبَعَّضِ أَوْ عَلَيْهِ كَمَا شَمَلَتْهُ عِبَارَةُ
الْمُصَنِّفِ ، وَبَحَثَهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي نَوْبَةِ أَحَدِهِمَا فَلَا يَخْتَصُّ أَرْشُهَا بِصَاحِبِ النَّوْبَةِ بَلْ يَكُونُ الْأَرْشُ بَيْنَ الْمُبَعَّضِ وَالسَّيِّدِ جَزْمًا ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِأَنَّ الْأَرْشَ يَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ فِي بَابِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُهَايَأَةً فَيَشْتَرِكَانِ فِي سَائِرِ النَّادِرِ مِنْ الْأَكْسَابِ وَالْمُؤَنِ .
فَصْلٌ الْحَيَوَانُ الْمَمْلُوكُ الْمُمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ بِقُوَّةٍ كَبَعِيرٍ وَفَرَسٍ أَوْ بِعَدْوٍ كَأَرْنَبٍ وَظَبْيٍ ، أَوْ طَيَرَانٍ كَحَمَامٍ إنْ وُجِدَ بِمَفَازَةٍ فَلِلْقَاضِي الْتِقَاطُهُ لِلْحِفْظِ وَكَذَا لِغَيْرِهِ فِي الْأَصَحِّ ، وَيَحْرُمُ الْتِقَاطُهُ لِتَمَلُّكٍ ، وَإِنْ وُجِدَ بِقَرْيَةٍ فَالْأَصَحُّ جَوَازُ الْتِقَاطِهِ لِلتَّمَلُّكِ ، وَمَا لَا يَمْتَنِعُ مِنْهَا كَشَاةٍ يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ لِلتَّمَلُّكِ فِي الْقَرْيَةِ وَالْمَفَازَةِ ، وَيَتَخَيَّرُ آخِذُهُ مِنْ مَفَازَةٍ فَإِنْ شَاءَ عَرَّفَهُ وَتَمَلَّكَهُ أَوْ بَاعَهُ وَحَفِظَ ثَمَنَهُ وَعَرَّفَهَا ثُمَّ تَمَلَّكَهُ أَوْ أَكَلَهُ وَغَرِمَ قِيمَتَهُ إنْ ظَهَرَ مَالِكُهُ ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ الْعُمْرَانِ فَلَهُ الْخَصْلَتَانِ الْأُولَيَانِ لَا الثَّالِثَةُ فِي الْأَصَحِّ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَلْتَقِطَ عَبْدًا لَا يُمَيِّزُ .
فَصْلٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْمُلْتَقَطِ ، وَهُوَ الرُّكْنُ الثَّالِثُ ، وَالْمُلْتَقَطُ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : حَيَوَانٌ ، وَثَانِيهِمَا جَمَادٌ ، وَقَدْ شَرَعَ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ ، فَقَالَ : ( الْحَيَوَانُ الْمَمْلُوكُ ) بِأَثَرٍ يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ كَوَسْمٍ وَتَعْلِيقِ قُرْطٍ ( الْمُمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ ) كَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ ، ثُمَّ فَصَّلَ امْتِنَاعَ الْحَيَوَانِ بِقَوْلِهِ ( بِقُوَّةٍ ) يَمْتَنِعُ بِهَا ( كَبَعِيرٍ ) كَبِيرٍ ( وَفَرَسٍ ) وَبَغْلٍ وَحِمَارٍ ( أَوْ ) يَمْتَنِعُ ( بِعَدْوٍ ) أَيْ جَرْيٍ ( كَأَرْنَبٍ وَظَبْيٍ أَوْ ) يَمْتَنِعُ بِسَبَبِ ( طَيَرَانٍ كَحَمَامٍ ) وَهُوَ كُلُّ مَا عَبَّ وَهَدَرَ كَقُمْرِيٍّ وَيَمَامٍ ( إنْ وُجِدَ ) هَذَا الْحَيَوَانُ ( بِمَفَازَةٍ ) وَهِيَ الْمُهْلِكَةُ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ عَلَى الْقَلْبِ تَفَاؤُلًا بِالْفَوْزِ ( فَلِلْقَاضِي ) أَوْ مَنْصُوبِهِ ( الْتِقَاطُهُ لِلْحِفْظِ ) عَلَى مَالِكِهِ لَا لِلتَّمَلُّكِ ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً عَلَى أَمْوَالِ الْغَائِبِينَ ، وَكَانَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَظِيرَةٌ يَحْفَظُ فِيهَا الضَّوَالَّ .
رَوَاهُ مَالِكٌ ( وَكَذَا لِغَيْرِهِ ) أَيْ الْقَاضِي مِنْ الْآحَادِ الْتِقَاطُهُ لِلْحِفْظِ أَيْضًا ( فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ فِي الْأُمِّ لِئَلَّا يَأْخُذَهُ خَائِنٌ ، وَالثَّانِي لَا ، إذْ لَا وِلَايَةَ لِلْآحَادِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ كَمَا قَالَهُ الدَّارِمِيُّ إذَا لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ فَإِنْ عَرَفَهُ ، وَأَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ عَلَيْهِ كَانَ فِي يَدِهِ أَمَانَةً جَزْمًا حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ أَخْذِ الْحَاكِمِ إذَا خَشِيَ عَلَيْهِ الضَّيَاعَ .
أَمَّا إذَا أُمِنَ عَلَيْهِ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُ حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهُ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَهَذَا أَحْسَنُ فِي غَيْرِ الْحَاكِمِ ا هـ .
وَهُوَ ظَاهِرٌ ( وَيَحْرُمُ الْتِقَاطُهُ ) أَيْ الْحَيَوَانِ الْمُمْتَنِعِ فِي الْأَمْنِ ( لِتَمَلُّكٍ ) عَلَى كُلِّ أَحَدٍ لِمَا مَرَّ فِي حَدِيثِ زَيْدٍ فِي ضَالَّةِ الْإِبِلِ { مَا لَكَ وَلَهَا دَعْهَا } ، وَقِيسَ الْبَاقِي
عَلَيْهَا بِجَامِعِ إمْكَانِ رَعْيِهَا فِي الْبَرِّيَّةِ بِلَا رَاعٍ ، فَمَنْ أَخَذَهُ لِلتَّمَلُّكِ ضَمِنَهُ ، وَلَا يَبْرَأُ بِرَدِّهِ إلَى مَوْضِعِهِ ، وَيَبْرَأُ بِدَفْعِهِ إلَى الْقَاضِي عَلَى الْأَصَحِّ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ .
أَمَّا زَمَنُ النَّهْبِ وَالْفَسَادِ ، فَيَجُوزُ أَخْذُهُ لِلتَّمَلُّكِ فِي صَحْرَاءَ وَغَيْرِهَا .
تَنْبِيهٌ : تَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ أَوَّلًا بِالْمَمْلُوكِ يُخْرِجُ صُوَرًا : مِنْهَا الْكَلْبُ .
وَمِنْهَا الْهَدْيُ .
وَمِنْهَا الْمَوْقُوفُ .
وَمِنْهَا الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهِ أَبَدًا ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ ( وَإِنْ وُجِدَ بِقَرْيَةٍ ) أَوْ بَلْدَةٍ أَوْ مَا قَرُبَ مِنْ ذَلِكَ ( فَالْأَصَحُّ جَوَازُ الْتِقَاطِهِ لِلتَّمَلُّكِ ) ؛ لِأَنَّهُ فِي الْعُمْرَانِ يَضِيعُ بِامْتِدَادِ الْيَدِ الْخَائِنَةِ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْمَفَازَةِ ، فَإِنَّ طُرُوقَهَا لَا يَعُمُّ .
وَالثَّانِي الْمَنْعُ كَالْمَفَازَةِ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ سِيَاقَهُ يَقْتَضِي الْمَفَازَةَ بِدَلِيلِ { دَعْهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ } .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ جَوَازِ الِالْتِقَاطِ لِلتَّمَلُّكِ صُوَرٌ : مِنْهَا لُقَطَةُ الْحَرَمِ كَمَا سَيَأْتِي .
وَمِنْهَا الْجَارِيَةُ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ ، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَلَّكُهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اقْتِرَاضُهَا ( وَمَا ) أَيْ وَالْحَيَوَانُ الَّذِي ( لَا يَمْتَنِعُ مِنْهَا ) أَيْ صِغَارِ السِّبَاعِ ( كَشَاةٍ ) وَعِجْلٍ وَفَصِيلٍ مِنْ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ وَكَسَيْرِ خَيْلٍ وَإِبِلٍ ( يَجُوزُ ) لِقَاضٍ وَغَيْرِهِ ( الْتِقَاطُهُ لِلتَّمَلُّكِ فِي الْقَرْيَةِ ) وَنَحْوِهَا ( وَالْمَفَازَةِ ) صَوْنًا لَهُ عَنْ الْخَوَنَةِ وَالسِّبَاعِ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي الشَّاةِ { هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ } ( وَيَتَخَيَّرُ ) فِيمَا لَا يَمْتَنِعُ ( آخِذُهُ ) بِمَدِّ الْهَمْزَةِ بِخَطِّهِ ( مِنْ مَفَازَةٍ ) بَيْنَ ثَلَاثِ خِصَالٍ كَمَا بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ ( فَإِنْ شَاءَ عَرَّفَهُ وَتَمَلَّكَهُ ) وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مُدَّةَ التَّعْرِيفِ ، فَإِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ اسْتَأْذَنَ الْحَاكِمَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ أَشْهَدَ كَمَا
سَبَقَ فِي نَظِيرِهِ ( أَوْ ) أَيْ وَإِنْ شَاءَ ( بَاعَهُ ) مُسْتَقِلًّا إنْ لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا ، وَبِإِذْنِهِ إنْ وَجَدَهُ فِي الْأَصَحِّ ( وَحَفِظَ ثَمَنَهُ وَعَرَّفَهَا ) أَيْ اللُّقَطَةَ الَّتِي بَاعَهَا ، وَكَانَ تَعْرِيفُهَا بِمَكَانٍ يَصْلُحُ لِلتَّعْرِيفِ ( ثُمَّ تَمَلَّكَهُ ) أَيْ الثَّمَنَ .
تَنْبِيهٌ : إنَّمَا لَمْ يَقُلْ وَعَرَّفَهُ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ عَوْدُ الضَّمِيرِ لِلثَّمَنِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُعَرَّفُ ( أَوْ ) أَيْ وَإِنْ شَاءَ ( أَكَلَهُ ) مُتَمَلِّكًا لَهُ ( وَغَرِمَ قِيمَتَهُ إنْ ظَهَرَ مَالِكُهُ ) وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ التَّعْرِيفَ فِي الْخَصْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ دُونَ الثَّالِثَةِ كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ بَعْدَ أَكْلِهَا تَعْرِيفُهُ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ ، وَصَحَّحَهُ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : لَكِنْ الَّذِي يُفْهِمُهُ إطْلَاقُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يَجِبُ أَيْضًا قَالَ : وَلَعَلَّ مُرَادَ الْإِمَامِ أَنَّهَا لَا تُعَرَّفُ بِالصَّحْرَاءِ لَا مُطْلَقًا ا هـ .
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ .
تَنْبِيهٌ : التَّخْيِيرُ بَيْنَ هَذِهِ الْخِصَالِ لَيْسَ تَشَهِّيًا ، بَلْ عَلَيْهِ فِعْلُ الْأَحَظِّ كَمَا بَحَثَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ قِيَاسًا عَلَى مَا يُمْكِنُ تَجْفِيفُهُ ، وَزَادَ الْمَاوَرْدِيُّ خَصْلَةً رَابِعَةً ، وَهِيَ تَمَلُّكُهُ فِي الْحَالِ وَتَبْقِيَتُهُ حَيًّا لِدَرٍّ وَنَسْلٍ قَالَ : لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَبَاحَ تَمَلُّكَهُ مَعَ اسْتِهْلَاكِهِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَسْتَبِيحَ تَمَلُّكَهُ مَعَ اسْتِبْقَائِهِ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ مَنْعُهَا ؛ لِأَنَّ الْأُولَى عُلِّلَتْ بِالْقِيَاسِ عَلَى غَيْرِهَا .
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ ؛ فَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ الْأَكْلُ فَالْبَيْعُ أَوْلَى .
وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَبِالْإِجْمَاعِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَالْقِيمَةُ الْمُعْتَبَرَةُ قِيمَةُ يَوْمِ الْأَخْذِ إنْ أُخِذَ لِلْأَكْلِ وَقِيمَةُ يَوْمِ التَّمَلُّكِ إنْ أُخِذَ لِلتَّعْرِيفِ كَمَا حَكَاهُ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ ، وَأَقَرَّاهُ ( فَإِنْ أَخَذَ مِنْ الْعُمْرَانِ ، فَلَهُ الْخَصْلَتَانِ الْأُولَيَانِ ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَبِمُثَنَّاةٍ
تَحْتِيَّةٍ ، وَهُمَا الْإِمْسَاكُ وَالْبَيْعُ ( لَا الثَّالِثَةُ ) وَهِيَ الْأَكْلُ ( فِي الْأَصَحِّ ) وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالْأَظْهَرِ .
وَالثَّانِي لَهُ الْأَكْلُ أَيْضًا كَمَا فِي الصَّحْرَاءِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ إنَّمَا أُبِيحَ لَهُ الْأَكْلُ فِي الصَّحْرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَجِدُ فِيهَا مَنْ يَشْتَرِيهِ بِخِلَافِ الْعُمْرَانِ ، وَيَشُقُّ النَّقْلُ إلَيْهِ .
أَمَّا غَيْرُ الْمَأْكُولِ كَالْجَحْشِ الصَّغِيرِ ، فَفِيهِ الْخَصْلَتَانِ الْأُولَيَانِ ، وَلَا يَجُوزُ تَمَلُّكُهُ فِي الْحَالِ بَلْ بَعْدَ تَعْرِيفِهِ ، وَإِذَا أَمْسَكَ لُقَطَةَ الْحَيَوَانِ ، وَتَبَرَّعَ بِالْإِنْفَاقِ ، فَذَاكَ ، وَإِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ أَنْفَقَ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ أَشْهَدَ .
تَنْبِيهٌ : الْمُرَادُ بِالْعُمْرَانِ الشَّارِعُ وَالْمَسَاجِدُ وَنَحْوُهَا ؛ لِأَنَّهَا مَعَ الْمَوَاتِ مَحَالُّ اللُّقَطَةِ كَمَا عُلِمَ مِنْ تَعْرِيفِ اللُّقَطَةِ ( وَيَجُوزُ أَنْ يَلْتَقِطَ عَبْدًا لَا يُمَيِّزُ ) فِي زَمَنِ أَمْنٍ أَوْ نَهْبٍ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَمُمَيِّزًا وَقْتَ نَهْبٍ بَلْ قَدْ يَجِبُ الِالْتِقَاطُ إنْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِحِفْظِ رُوحِهِ ، وَلَا يَجُوزُ الْتِقَاطُ الْمُمَيِّزِ فِي الْأَمْنِ لَا فِي مَفَازَةٍ وَلَا فِي غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَدِلُّ فِيهِ عَلَى سَيِّدِهِ ، فَيَصِلُ إلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ صُورَةُ الْتِقَاطِ الْعَبْدِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ مُشْكِلَةٌ لِمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ اللَّقِيطِ أَنَّ مَنْ لَا يُعْرَفُ رِقُّهُ وَلَا حُرِّيَّتُهُ أَنَّهُ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ ، فَكَيْفَ يُلْتَقَطُ ، وَإِنْ عُرِفَ رِقُّهُ بِبَيِّنَةٍ عُرِفَ مَالِكُهُ ، فَكَيْفَ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الرِّقَّ يُعْرَفُ بِعَلَامَةٍ كَعَلَامَةِ الْحَبَشَةِ وَالزِّنْجِ أَوْ أَنَّهُ عُرِفَ رَقِّهِ وَجُهِلَ مَالِكُهُ ، ثُمَّ وَجَدَهُ ضَالًّا ، وَكَذَلِكَ يَأْتِي هَذَا فِي مَعْرِفَةِ كَوْنِ الْأَمَةِ مَجُوسِيَّةً .
تَنْبِيهٌ : خَرَجَ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ عَبْدًا الْأَمَةُ ، فَإِنَّهَا إنْ حَلَّتْ لِلْمُلْتَقِطِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْتَقِطَهَا لِلتَّمَلُّكِ بَلْ لِلْحِفْظِ ، وَإِنْ لَمْ تَحِلَّ لَهُ كَمَجُوسِيَّةٍ وَمَحْرَمٍ
جَازَ لَهُ الْتِقَاطُهَا ، وَقَدْ مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّ فِي الْتِقَاطِ الرَّقِيقِ الْخَصْلَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مُدَّةَ الْحِفْظِ مِنْ كَسْبِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ ، فَعَلَى مَا مَرَّ آنِفًا فِي غَيْرِ الرَّقِيقِ ، وَإِذَا بِيعَ ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمَالِكُ ، وَقَالَ : كُنْتُ أَعْتَقْتُهُ قُبِلَ قَوْلُهُ ، وَحُكِمَ بِفَسَادِ الْبَيْعِ عَلَى الْأَظْهَرِ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ وَالتَّقْيِيدُ بِالْعِتْقِ قَدْ يُوهِمُ عَدَمَ تَصْدِيقِهِ فِيمَا عَدَاهُ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لِأَجْلِ مَا يُتَخَيَّلُ مِنْ قُوَّةِ الْعِتْقِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ الْمُزِيلَةِ لِلْمِلْكِ كَذَلِكَ كَمَا ذَكَرَاهُ قُبَيْلَ الصَّدَاقِ .
وَيَلْتَقِطَ غَيْرَ الْحَيَوَانِ فَإِنْ كَانَ يَسْرُعُ فَسَادُهُ كَهَرِيسَةٍ فَإِنْ شَاءَ بَاعَهُ وَعَرَّفَهُ لِيَتَمَلَّكَ ثَمَنَهُ وَإِنْ شَاءَ تَمَلَّكَهُ فِي الْحَالِ وَأَكَلَهُ ، وَقِيلَ إنْ وَجَدَهُ فِي عُمْرَانٍ وَجَبَ الْبَيْعُ ، وَإِنْ أَمْكَنَ بَقَاؤُهُ بِعِلَاجٍ كَرُطَبٍ يَتَجَفَّفُ فَإِنْ كَانَتْ الْغِبْطَةُ فِي بَيْعِهِ بِيعَ ، أَوْ فِي تَجْفِيفِهِ وَتَبَرَّعَ بِهِ الْوَاجِدُ جَفَّفَهُ ، وَإِلَّا بِيعَ بَعْضُهُ لِتَجْفِيفِ الْبَاقِي .
ثُمَّ شَرَعَ فِي النَّوْعِ الثَّانِي ، فَقَالَ : ( وَ ) أَنْ ( يَلْتَقِطَ غَيْرَ الْحَيَوَانِ ) وَهُوَ الْجَمَادُ سَوَاءٌ أَكَانَ مَالًا كَالنُّقُودِ وَالثِّيَابِ أَمْ غَيْرَ مَالٍ كَجِلْدِ مَيْتَةٍ لَمْ يُدْبَغْ وَخَمْرٍ مُحْتَرَمَةٍ لِلِاخْتِصَاصِ أَوْ الْحِفْظِ ( فَإِنْ كَانَ ) مِمَّا ( يَسْرُعُ فَسَادُهُ كَهَرِيسَةٍ ) وَعِنَبٍ لَا يَتَزَبَّبُ وَرُطَبٍ لَا يَتَتَمَّرُ تَخَيَّرَ آخِذُهُ بَيْنَ خَصْلَتَيْنِ ( فَإِنْ شَاءَ بَاعَهُ ) اسْتِقْلَالًا إنْ لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا وَبِإِذْنِهِ إنْ وَجَدَهُ آخِذًا مِمَّا مَرَّ ( وَعَرَّفَهُ ) أَيْ الْمَبِيعَ بَعْدَ بَيْعِهِ ( لِيَتَمَلَّكْ ثَمَنَهُ ) بَعْدَ التَّعْرِيفِ وَلَا يُعَرِّفُ الثَّمَنَ ، وَهَذِهِ الْخَصْلَةُ أَوْلَى مِنْ الْخَصْلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ ( وَإِنْ شَاءَ تَمَلَّكَهُ فِي الْحَالِ وَأَكَلَهُ ) وَغَرِمَ قِيمَتَهُ سَوَاءٌ أَوَجَدَهُ فِي مَفَازَةٍ أَمْ عُمْرَانٍ ( وَقِيلَ : إنْ وَجَدَهُ فِي عُمْرَانٍ وَجَبَ الْبَيْعُ ) لِتَيَسُّرِهِ أَوْ امْتَنَعَ الْأَكْلُ ، وَهُوَ قِيَاسُ مَا سَبَقَ فِي الشَّاةِ مِنْ تَصْحِيحِ مَنْعِ الْأَكْلِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِالْأَوَّلِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّاةِ بِأَنَّ الطَّعَامَ قَدْ يَفْسُدُ قَبْلَ أَنْ يَظْفَرَ بِالْمُشْتَرِي ، فَتَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى أَكْلِهِ ، وَإِذَا جَوَّزْنَا الْأَكْلَ ، فَأَكَلَ وَجَبَ التَّعْرِيفُ فِي الْعُمْرَانِ بَعْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ .
قَالَ الْإِمَامُ : فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ ، وَلَا يَجِبُ إفْرَازُ الْقِيمَةِ الْمَغْرُومَةِ مِنْ مَالِهِ .
نَعَمْ لَا بُدَّ مِنْ إفْرَازِهَا عِنْدَ تَمَلُّكِهَا ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الدَّيْنِ لَا يَصِحُّ ، قَالَهُ الْقَاضِي ( وَإِنْ أَمْكَنَ بَقَاؤُهُ ) أَيْ مَا يَسْرُعُ فَسَادُهُ .
لَكِنْ ( بِعِلَاجٍ ) فِيهِ ( كَرُطَبٍ يَتَجَفَّفُ ) أَيْ يُمْكِنُ تَجْفِيفُهُ وَلَبَنٍ يَصِيرُ أَقِطًا ( فَإِنْ كَانَتْ الْغِبْطَةُ فِي بَيْعِهِ بِيعَ ) جَمِيعُهُ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ إنْ وَجَدَهُ ، وَإِلَّا اسْتِقْلَالًا كَمَا يُؤْخَذُ مِمَّا مَرَّ ( أَوْ ) كَانَتْ الْغِبْطَةُ ( فِي تَجْفِيفِهِ وَتَبَرَّعَ بِهِ الْوَاجِدُ ) لَهُ أَوْ غَيْرُهُ ( جَفَّفَهُ ) ؛
لِأَنَّهُ مَالُ غَيْرِهِ فَرُوعِيَ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ ( وَإِلَّا بِيعَ بَعْضُهُ ) بِقَدْرِ مَا يُسَاوِي التَّجْفِيفَ ( لِتَجْفِيفِ الْبَاقِي ) طَلَبًا لِلْأَحَظِّ ، وَخَالَفَ هَذَا الْحَيَوَانُ حَيْثُ بِيعَ جَمِيعُهُ ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ تَتَكَرَّرُ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَأْكُلَ نَفْسَهُ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : الْوَاجِدُ لَيْسَ بِقَيْدٍ كَمَا تَقَرَّرَ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ مُرَاعَاةَ الْأَغْبَطِ وَاجِبَةٌ ، وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ مُصَرِّحٌ بِهِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِعَمَلِ الْأَغْبَطِ فِي ظَنِّهِ بَلْ يُرَاجِعُ الْقَاضِيَ ، فَإِنْ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ بِيعَ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ لِمَا فِي الْبَيْعِ مِنْ قِلَّةِ الْكُلْفَةِ .
وَمَنْ أَخَذَ لُقَطَةً لِلْحِفْظِ أَبَدًا فَهِيَ أَمَانَةٌ ، فَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الْقَاضِي لَزِمَهُ الْقَبُولُ وَلَمْ يُوجِبْ الْأَكْثَرُونَ التَّعْرِيفَ ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ ، فَلَوْ قَصَدَ بَعْدَ ذَلِكَ خِيَانَةً لَمْ يَصِرْ ضَامِنًا فِي الْأَصَحِّ ، وَإِنْ أَخَذَ بِقَصْدِ الْخِيَانَةِ فَضَامِنٌ ، وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَهُ أَنْ يُعَرِّفَ وَيَتَمَلَّكَ عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَإِنْ أَخَذَ لِيُعَرِّفَ وَيَتَمَلَّكَ فَأَمَانَةٌ مُدَّةَ التَّعْرِيفِ ، وَكَذَا بَعْدَهَا مَا لَمْ يَخْتَرْ التَّمَلُّكَ فِي الْأَصَحِّ .
( وَمَنْ أَخَذَ لُقَطَةً لِلْحِفْظِ أَبَدًا ) وَهُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ ( فَهِيَ أَمَانَةٌ ) فِي يَدِهِ ، وَكَذَا دَرُّهَا وَنَسْلُهَا ؛ لِأَنَّهُ يَحْفَظُهَا لِمَالِكِهَا فَأَشْبَهَ الْمُودَعَ ( فَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الْقَاضِي لَزِمَهُ الْقَبُولُ ) حِفْظًا لَهَا عَلَى صَاحِبِهَا ، وَكَذَا مَنْ أَخَذَ لِلتَّمَلُّكِ ، ثُمَّ بَدَا لَهُ ، فَإِنْ أَرَادَ دَفْعَهَا إلَى الْحَاكِمِ يَلْزَمْهُ الْقَبُولُ بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لَا يَلْزَمُهُ الْقَبُولُ لِقُدْرَةِ الْمُودِعِ عَلَى الرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ ( وَلَمْ يُوجِبْ الْأَكْثَرُونَ ) مِنْ الْأَصْحَابِ ( التَّعْرِيفَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ) وَهِيَ أَخْذُ اللُّقَطَةِ لِلْحِفْظِ أَبَدًا ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا أَوْجَبَهُ لَمَّا جَعَلَ لَهُ التَّمَلُّكَ بَعْدَهُ ، وَرَجَّحَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا وُجُوبَهُ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ، وَقَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ : إنَّهُ الْأَقْوَى الْمُخْتَارُ ، وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إشَارَةٌ إلَيْهِ بِعَزْوِهِ عَدَمَ التَّعْرِيفِ إلَى الْأَكْثَرِينَ ، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى الْأَصَحِّ كَعَادَتِهِ .
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : الصَّحِيحُ الْوُجُوبُ ؛ لِأَنَّ كِتْمَانَهَا يُفَوِّتُهَا عَلَى صَاحِبِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : مَالِكُهَا يَنْشُدُهَا فَيَعْلَمُ بِهِ آخِذُهَا لِلْحِفْظِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهَا قَدْ تَسْقُطُ مِنْ عَابِرِ سَبِيلٍ وَمِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ لِعَارِضِ مَرَضٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ غَيْرِهَا ، وَإِنْ أَرَادَ التَّخَلُّصَ مِنْ تَعَبِ التَّعْرِيفِ دَفَعَهَا إلَى حَاكِمٍ أَمِينٍ ، وَإِذَا عَرَّفَهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ قَصْدُ التَّمَلُّكِ عَرَّفَهَا سَنَةً مِنْ يَوْمئِذٍ ، وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا عَرَّفَهُ قَبْلُ عَلَى الْأَصَحِّ سَوَاءٌ قُلْنَا بِوُجُوبِ التَّعْرِيفِ أَمْ لَا ( فَلَوْ قَصَدَ بَعْدَ ذَلِكَ ) الْأَخْذَ الَّذِي لِلْحِفْظِ أَبَدًا ، وَكَذَا بَعْدَ الْأَخْذِ لِلتَّمَلُّكِ ( خِيَانَةً ) فِيمَا الْتَقَطَهُ ( لَمْ يَصِرْ ) بِمُجَرَّدِ قَصْدِ الْخِيَانَةِ ( ضَامِنًا فِي الْأَصَحِّ ) حَتَّى يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ الْقَصْدُ بِالْفِعْلِ كَالْمُودَعِ .
وَالثَّانِي : يَضْمَنُ ، وَخَرَجَ بِقَصْدِ مَا لَوْ فَعَلَ الْخِيَانَةَ ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ ضَامِنًا جَزْمًا .
تَنْبِيهٌ : مَتَى صَارَ الْمُلْتَقِطُ ضَامِنًا فِي الدَّوَامِ بِحَقِيقَةِ الْخِيَانَةِ أَوْ بِقَصْدِهَا ثُمَّ أَقْلَعَ وَأَرَادَ أَنْ يُعَرِّفَهَا وَيَتَمَلَّكَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَصَدَ الْخِيَانَةَ ابْتِدَاءً كَمَا قَالَ ( وَإِنْ أَخَذَ بِقَصْدِ الْخِيَانَةِ فَضَامِنٌ ) عَمَلًا بِقَصْدِهِ الْمُقَارِنِ لِفِعْلِهِ ( وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَهُ ) أَيْ الْأَخْذِ خِيَانَةً ( أَنْ يُعَرِّفَ وَيَتَمَلَّكَ ) بَعْدَ التَّعْرِيفِ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) نَظَرًا لِلِابْتِدَاءِ كَالْغَاصِبِ ، وَفِي وَجْهٍ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِي لَهُ ذَلِكَ نَظَرًا لِوُجُودِ صُورَةِ الِالْتِقَاطِ ، وَلَوْ سَلَّمَهَا لِلْحَاكِمِ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْغَاصِبِ ( وَإِنْ أَخَذَ لِيُعَرِّفَ وَيَتَمَلَّكَ ) بَعْدَ التَّعْرِيفِ ( فَأَمَانَةٌ مُدَّةَ التَّعْرِيفِ ) كَالْمُودَعِ ( وَكَذَا بَعْدَهَا مَا لَمْ يَخْتَرْ التَّمَلُّكَ فِي الْأَصَحِّ ) كَمَا قَبْلَ مُدَّةِ التَّعْرِيفِ ، وَالثَّانِي : وَبِهِ قَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ : تَصِيرُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ إذَا كَانَ غَرِمَ مِنْ التَّمَلُّكِ مُطَّرِدًا كَالْمُسْتَامِ ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ الْمُسْتَامَ مَأْخُوذٌ لِحَظِّ آخِذِهِ حِينَ أَخَذَهُ بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ .
تَنْبِيهٌ : بَقِيَ مِنْ أَحْوَالِ الْمَسْأَلَةِ مَا إذَا أَخَذَ لَا بِقَصْدِ خِيَانَةٍ وَلَا أَمَانَةٍ أَوْ بِقَصْدِ أَحَدِهِمَا وَنَسِيَهُ وَحُكْمُهُمَا أَنْ لَا تَكُونَ مَضْمُونَةً ، وَلَهُ التَّمَلُّكُ بِشَرْطِهِ اتِّفَاقًا قَالَهُ الْإِمَامُ وَتَابِعَاهُ .
وَيَعْرِفُ جِنْسَهَا وَصِفَتَهَا وَقَدْرَهَا وَعِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ يُعَرِّفُهَا
( وَيَعْرِفُ ) الْمُلْتَقِطُ بِفَتْحِ الْيَاءِ بِخَطِّهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ ، وَهِيَ الْعِلْمُ ( جِنْسَهَا ) أَيْ اللُّقَطَةِ مِنْ نَقْدٍ أَوْ غَيْرِهِ وَنَوْعَهَا مِنْ كَوْنِهَا أَشْرَفِيَّةً أَوْ بُلُّورِيَّةً ( وَصِفَتَهَا ) مِنْ صِحَّةٍ وَتَكَسُّرٍ وَنَحْوِهِمَا ( وَقَدْرَهَا ) بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ ( وَعِفَاصَهَا ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ بِخَطِّهِ ، وَهُوَ الْوِعَاءُ مِنْ جِلْدٍ وَغَيْرِهِ .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَأَصْلُهُ الْجِلْدُ الَّذِي يَلْبِسُ رَأْسَ الْقَارُورَةِ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْوِعَاءِ تَوَسُّعًا ( وَوِكَاءَهَا ) بِكَسْرِ الْوَاوِ وَالْمَدِّ بِخَطِّهِ ، وَهُوَ مَا يُرْبَطُ بِهِ مِنْ خَيْطٍ أَوْ غَيْرِهِ لِخَبَرِ زَيْدٍ السَّابِقِ ، وَقِيسَ بِمَا فِيهِ غَيْرُهُ وَلْيَعْرِفَ صِدْقَ وَاصِفِهَا ، وَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ تَكُونُ عَقِبَ الْأَخْذِ كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ ، وَهِيَ سَنَةٌ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ ، وَفِي الْكَافِي أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ ، وَيَنْدُبُ كَتْبُ الْأَوْصَافِ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَنَّهُ الْتَقَطَهَا فِي وَقْتِ كَذَا ( ثُمَّ يُعَرِّفُهَا ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَالِثِهِ الْمُشَدَّدِ مِنْ التَّعْرِيفِ ، وَهَذَا وَاجِبٌ إنْ قَصَدَ التَّمَلُّكَ قَطْعًا ، وَإِلَّا فَعَلَى مَا سَبَقَ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ التَّعْرِيفِ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ فِي نُكَتِهِ تَبَعًا لِلْجِيلِيِّ مَا لَوْ كَانَ السُّلْطَانُ ظَالِمًا بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَوْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ إذَا عَرَّفَهَا أَخَذَهَا ، فَلَا يَجُوزُ التَّعْرِيفُ حِينَئِذٍ ، بَلْ تَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا يَتَمَلَّكُ بَعْدَ السَّنَةِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ الصَّبَّاغِ أَنَّهُ يَتَمَلَّكُ بَعْدَهَا .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ قَوْلُهُ : ثُمَّ يُعَرِّفُهَا أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُبَادَرَةَ بِالتَّعْرِيفِ عَقِبَ الِالْتِقَاطِ لَا تَجِبُ ، وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ .
وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ : مَحَلُّ جَوَازِ التَّأْخِيرِ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّ الْمُلْتَقِطِ أَنَّهُ يُفَوِّتُ مَعْرِفَةَ الْمَالِكِ بِالتَّأْخِيرِ ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ وَجَبَ الْبِدَارُ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ ا هـ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ ، وَإِذَا لَمْ يُوجِبْ الْمُبَادَرَةَ يَنْبَغِي كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : أَنْ يُؤَرِّخَ وُجْدَانَ اللُّقَطَةِ فِي تَعْرِيفِهِ ، وَيُسْنِدُهُ إلَى وَقْتِهِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ فِي مُعَاوَضَةِ مَا جَرَى مِنْ التَّأْخِيرِ الْمَنْسِيِّ .
الثَّانِي : أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ تَعْرِيفُهَا بِنَفْسِهِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ لَهُ ذَلِكَ بِمَأْذُونِهِ أَيْضًا وَلَكِنْ لَا يُسَلِّمُهَا لَهُ ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُعَرِّفِ عَاقِلًا غَيْرَ مَشْهُورٍ بِالْخَلَاعَةِ وَالْمُجُونِ ، وَهُوَ أَنْ لَا يُبَالِيَ الْإِنْسَانُ بِمَا صَنَعَ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ .
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ إذَا حَصَلَ الْوُثُوقُ بِقَوْلِهِ .
فِي الْأَسْوَاقِ وَأَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهَا سَنَةً عَلَى الْعَادَةِ يُعَرِّفُ أَوَّلًا كُلَّ يَوْمٍ طَرَفَيْ النَّهَارِ ثُمَّ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً ثُمَّ كُلَّ أُسْبُوعٍ ثُمَّ كُلَّ شَهْرٍ ، وَلَا تَكْفِي سَنَةٌ مُتَفَرِّقَةٌ فِي الْأَصَحِّ .
قُلْتُ : الْأَصَحُّ تَكْفِي ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
ثُمَّ أَشَارَ إلَى مَكَانِ التَّعْرِيفِ بِقَوْلِهِ ( فِي الْأَسْوَاقِ ) عِنْدَ قِيَامِهَا فِي بَلَدِ الِالْتِقَاطِ ( وَ ) فِي ( أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ ) عِنْدَ خُرُوجِ النَّاسِ ( وَنَحْوِهَا ) مِنْ الْمَجَامِعِ وَالْمَحَافِلِ وَمَحَالِّ الرِّحَالِ وَمُنَاخِ الْأَسْفَارِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى وُجُودِ صَاحِبِهَا .
وَيَجِبُ التَّعْرِيفُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَجَدَهَا فِيهِ وَلِيُكْثِرَ مِنْهُ فِيهِ ، لِأَنَّ طَلَبَ الشَّيْءِ فِي مَكَانِهِ أَكْثَرُ ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ الْمَسَاجِدُ فَيُكْرَهُ التَّعْرِيفُ فِيهَا كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ وَإِنْ أَفْهَمَ كَلَامُ الرَّوْضَةِ التَّحْرِيمَ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، فَلَا يُكْرَهُ التَّعْرِيفُ فِيهِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ ؛ وَلِأَنَّهُ مَجْمَعُ النَّاسِ ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ وَالْأَقْصَى كَذَلِكَ ، وَلَوْ أَرَادَ سَفَرًا اسْتَنَابَ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ مَنْ يَحْفَظُهَا وَيُعَرِّفُهَا ، فَإِنْ سَافَرَ بِهَا أَوْ اسْتَنَابَ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ مَعَ وُجُودِهِ ضَمِنَ لِتَقْصِيرِهِ ، وَإِنْ الْتَقَطَ فِي الصَّحْرَاءِ وَهُنَاكَ قَافِلَةٌ تَبِعَهَا وَعَرَّفَ فِيهَا إذْ لَا فَائِدَةَ فِي التَّعْرِيفِ فِي الْأَمَاكِنِ الْخَالِيَةِ ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ ، فَفِي بَلْدَةٍ يَقْصِدُهَا قَرُبَتْ أَوْ بَعُدَتْ سَوَاءٌ أَقَصَدَهَا ابْتِدَاءً أَمْ لَا حَتَّى لَوْ قَصَدَ بَعْدَ قَصْدِهِ الْأَوَّلِ بَلْدَةً أُخْرَى ، وَلَوْ بَلْدَتَهُ الَّتِي سَافَرَ مِنْهَا عَرَّفَ فِيهَا ، وَلَا يُكَلَّفُ الْعُدُولَ عَنْهَا إلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ ، وَقَوْلُهُ ( سَنَةً ) أَيْ مِنْ يَوْمِ التَّعْرِيفِ بَيَانٌ لِمُدَّةِ التَّعْرِيفِ لِخَبَرِ زَيْدٍ الْمَارِّ ، وَقِيسَ بِمَا فِيهِ غَيْرُهُ ، وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ السَّنَةَ لَا يَتَأَخَّرُ فِيهَا الْقَوَافِلُ غَالِبًا ، وَتَمْضِي فِيهَا الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ .
قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَرِّفْ سَنَةً لَضَاعَتْ الْأَمْوَالُ عَلَى أَرْبَابِهَا ، وَلَوْ جَعَلَ التَّعْرِيفَ أَبَدًا لَامْتَنَعَ مِنْ الِالْتِقَاطِ ، فَكَأَنَّ فِي السَّنَةِ نَظَرًا لِلْفَرِيقَيْنِ
مَعًا ، وَشَرَطَ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ .
وَأَمَّا الْقَلِيلَةُ ، فَسَتَأْتِي وَلَوْ الْتَقَطَ اثْنَانِ لُقَطَةً عَرَّفَهَا كُلُّ وَاحِدٍ نِصْفَ سَنَةٍ كَمَا قَالَ السُّبْكِيُّ إنَّهُ الْأَشْبَهُ ، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ الرِّفْعَةِ ؛ لِأَنَّهَا لُقَطَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَالتَّعْرِيفُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا لِكُلِّهَا لَا لِنِصْفِهَا ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ التَّمَلُّكِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَيُسْتَثْنَى مِنْ إيجَابِ السَّنَةِ لُقَطَةُ دَارِ الْحَرْبِ ، وَقَضِيَّةُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ الِاكْتِفَاءُ بِتَعْرِيفِهَا هُنَاكَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُعَرِّفُهَا رُدَّتْ إلَى الْمَغْنَمِ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ يُتَصَوَّرُ التَّعْرِيفُ سَنَتَيْنِ ، وَذَلِكَ إذَا قَصَدَ الْحِفْظَ فَعَرَّفَهَا سَنَةً ثُمَّ قَصَدَ التَّمَلُّكَ ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهِ سَنَةً مِنْ حِينَئِذٍ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ السَّنَةَ بِالتَّعْرِيفِ كُلَّ يَوْمٍ ، بَلْ ( عَلَى الْعَادَةِ ) زَمَانًا وَمَكَانًا وَقَدْرًا ( يُعَرِّفُ أَوَّلًا ) أَيْ أَوَّلَ سَنَةِ التَّعْرِيفِ ( كُلَّ يَوْمٍ ) مَرَّتَيْنِ ( طَرَفَيْ النَّهَارِ ) لَا لَيْلًا وَلَا وَقْتَ الْقَيْلُولَةِ ( ثُمَّ ) يُعَرِّفُ ( كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً ثُمَّ كُلَّ أُسْبُوعٍ ) مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ ( ثُمَّ كُلَّ شَهْرٍ ) مَرَّةً تَقْرِيبًا فِي الْجَمِيعِ ، بِحَيْثُ لَا يَنْسَى أَنَّ الْأَخِيرَ تَكْرِيرُ الْأَوَّلِ كَمَا فِي الشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ ، وَإِنَّمَا جَعَلَ التَّعْرِيفَ فِي الْأَزْمِنَةِ الْأُوَلِ أَكْثَرَ ؛ لِأَنَّ تَطَلُّبَ الْمَالِكِ فِيهَا أَكْثَرُ ، وَسَكَتَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا عَنْ بَيَانِ الْمُدَّةِ فِي ذَلِكَ ، وَفِي الْمُهَذَّبِ ذَكَرَ الْأُسْبُوعَ فِي الْمُدَّةِ الْأُولَى .
قَالَ الشَّارِحُ : وَيُقَاسُ بِهَا الثَّانِيَةُ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : قِيلَ وَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ يُعَرِّفُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ، وَلَوْ مَاتَ الْمُلْتَقِطُ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ بَنَى وَارِثُهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا بَحَثَهُ الزَّرْكَشِيُّ ( وَلَا تَكْفِي ) فِي التَّعْرِيفِ ( سَنَةٌ
مُتَفَرِّقَةٌ فِي الْأَصَحِّ ) فِي الْمُحَرَّرِ ، وَعِبَارَتُهُ وَالْأَحْسَنُ ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ السَّنَةِ فِي الْخَبَرِ التَّوَالِي كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا سَنَةً ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَطَعَ التَّعْرِيفَ مُدَّةً اسْتَأْنَفَ وَلَا يَبْنِي ( قُلْتُ : الْأَصَحُّ تَكْفِي ) السَّنَةُ الْمُفَرَّقَةُ فِي التَّعْرِيفِ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِإِطْلَاقِ الْخَبَرِ ، وَكَمَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ سَنَةٍ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَفْرِيقُهَا ، وَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ فِي التَّعْرِيفِ زَمَانَ الْوِجْدَانِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ مَا جَرَى مِنْ التَّأْخِيرِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ .
قَالَ : وَتَسَاهَلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَجَعَلَ التَّأْرِيخَ مُسْتَحَبًّا ، وَيَقُولُ فِي تَعْرِيفِهَا كَمَا فِي التَّنْبِيهِ : مَنْ ضَاعَ لَهُ شَيْءٌ .
فَصْلٌ وَيَذْكُرُ بَعْضَ أَوْصَافِهَا .
فَصْلٌ : وَيَذْكُرُ نَدْبًا ( بَعْضَ أَوْصَافِهَا ) كَمَا يَذْكُرُ جِنْسَهَا ، فَيَقُولُ : مَنْ ضَاعَ لَهُ دَنَانِيرُ أَوْ عِفَاصُهَا أَوْ وِكَاؤُهَا ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الظَّفْرِ بِالْمَالِكِ ، وَلَا يَسْتَوْفِيهَا لِئَلَّا يَعْتَمِدَهَا كَاذِبٌ ، فَإِنْ اسْتَوْفَاهَا حَرُمَ عَلَيْهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْأَذْرَعِيُّ وَضَمِنَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْفَعُهُ إلَى مَنْ يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ بِالصِّفَاتِ ، وَيُفَارِقُ هَذَا مَا مَرَّ أَوَّلَ الْبَابِ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهَا فِي الْإِشْهَادِ لِحَصْرِ الشُّهُودِ وَعَدَمِ التُّهْمَةِ .
وَلَا يَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ التَّعْرِيفِ إنْ أَخَذَ لِحِفْظٍ ، بَلْ يُرَتِّبُهَا الْقَاضِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ يَقْتَرِضُ عَلَى الْمَالِكِ .
( وَلَا يَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ التَّعْرِيفِ إنْ أَخَذَ ) اللُّقَطَةَ ( لِحِفْظٍ ) لَهَا عَلَى مَالِكِهَا بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ التَّعْرِيفِ السَّابِقِ ، إذْ الْحَظُّ لِمَالِكِهَا فَقَطْ ( بَلْ يُرَتِّبُهَا الْقَاضِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ) .
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : قَرْضًا .
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : الْأَقْرَبُ إنَّهُ إنْفَاقٌ ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ ( أَوْ يَقْتَرِضُ عَلَى الْمَالِكِ ) وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْأَصْحَابِ .
أَمَّا إذَا قُلْنَا : لَا يَجِبُ التَّعْرِيفُ ، فَالْمُلْتَقِطُ مُتَبَرِّعٌ إنْ عَرَّفَ ، وَلِلْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَ الْمُلْتَقِطَ بِصَرْفِ الْمُؤْنَةِ مِنْ مَالِهِ لِيَرْجِعَ عَلَى الْمَالِكِ أَوْ يَبِيعَ بَعْضَهَا إنْ رَآهُ كَمَا لَوْ هَرَبَ الْجَمَّالُ .
وَإِنْ أَخَذَ لِتَمَلُّكٍ لَزِمَتْهُ ، وَقِيلَ إنْ لَمْ يَتَمَلَّكْ فَعَلَى الْمَالِكِ .
( وَإِنْ أَخَذَ ) اللُّقَطَةَ ( لِتَمَلُّكٍ ) وَجَبَ عَلَيْهِ تَعْرِيفُهَا جَزْمًا كَمَا مَرَّ ، وَ ( لَزِمَتْهُ ) مُؤْنَةُ التَّعْرِيفِ ، سَوَاءٌ أَتَمَلَّكَهَا أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ الْحَظَّ لَهُ ( وَقِيلَ : إنْ لَمْ يَتَمَلَّكْ ) أَيْ اللُّقَطَةَ كَأَنْ ظَهَرَ مَالِكُهَا ( فَعَلَى الْمَالِكِ ) لِعَوْدِ الْفَائِدَةِ إلَيْهِ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ : أَنَّهُ إذَا تَمَلَّك ثُمَّ ظَهَرَ الْمَالِكُ ، وَرَجَعَ فِيهَا لَمْ يَجِئْ هَذَا الْوَجْهُ ، وَتَعْبِيرُ الرَّوْضَةِ وَالشَّرْحَيْنِ بِظُهُورِ الْمَالِكِ يَشْمَلُ ظُهُورَهُ بَعْدَ التَّمَلُّكِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَهُوَ أَحْسَنُ فَإِنَّهُ مَتَى ظَهَرَ قَبْلَ التَّمَلُّكِ أَوْ بَعْدَهُ رَجَعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ .
قَالَ : فَلَوْ قَالَ الْمِنْهَاجُ وَقِيلَ إنْ ظَهَرَ الْمَالِكُ فَعَلَيْهِ لَكَانَ أَلْخَصَ ا هـ .
وَكَالتَّمَلُّكِ قَصْدُ الِاخْتِصَاصِ ، وَقَصْدُ الِالْتِقَاطِ لِلْخِيَانَةِ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ فِي مُطْلَقِ التَّصَرُّفِ .
أَمَّا لَوْ الْتَقَطَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ أَوْ صِبًى أَوْ جُنُونٍ ، فَلَيْسَ لِوَلِيِّهِ إخْرَاجُ مُؤْنَةِ التَّعْرِيفِ مِنْ مَالِهِ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ، بَلْ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ ، فَيَبِيعُ جُزْءًا مِنْ اللُّقَطَةِ لِمُؤْنَةِ التَّعْرِيفِ ، وَإِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : فِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْحَقِيرَ لَا يُعَرَّفُ سَنَةً بَلْ زَمَنًا يُظَنُّ أَنَّ فَاقِدَهُ يُعْرِضُ عَنْهُ غَالِبًا .
( وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْحَقِيرَ ) أَيْ الْقَلِيلَ الْمُتَمَوَّلَ ، وَلَا يُقَدَّرُ بِشَيْءٍ فِي الْأَصَحِّ ، بَلْ هُوَ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ فَاقِدَهُ لَا يُكْثِرُ أَسَفَهُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَطُولُ طَلَبُهُ لَهُ غَالِبًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى حَقَارَتِهِ وَقُدِّرَ بِالدِّينَارِ وَقُدِّرَ بِالدِّرْهَمِ كَمَا فِي التَّنْبِيهِ لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا " لَا بَأْسَ بِمَا دُونَ الدِّرْهَمِ أَنْ يُسْتَنْفَعَ بِهِ " وَقُدِّرَ بِمَا لَا تُقْطَعُ فِيهِ يَدُ السَّارِقِ ( لَا يُعَرَّفُ سَنَةً ) ؛ لِأَنَّ فَاقِدَهُ لَا يَدُومُ عَلَى طَلَبِهِ سَنَةً بِخِلَافِ الْخَطِيرِ .
وَالثَّانِي : يُعَرَّفُ سَنَةً لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ ؛ وَلِأَنَّهَا جِهَةٌ مِنْ جِهَاتِ التَّمَلُّكِ ، فَاسْتَوَى فِيهَا الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ .
قَالَ : وَيُشْكِلُ عَلَى تَرْجِيحِ الرَّافِعِيِّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَقِيرِ وَغَيْرِهِ قَوْلُهُ : إنَّ الْأَكْثَرَ قَالُوا : إنَّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَالْكَلْبِ الَّذِي فِيهِ مَنْفَعَةٌ يُقْتَنَى لَهَا يُعَرَّفُ سَنَةً ثُمَّ يَخْتَصُّ بِهِ ا هـ .
وَهَذَا لَيْسَ بِمُشْكِلٍ ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ وَنَحْوَهُ مِنْ الِاخْتِصَاصَاتِ يَكْثُرُ عَلَيْهِ الْأَسَفُ ، فَإِنْ فُرِضَ قِلَّتُهُ عَلَيْهِ ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ( بَلْ ) الْأَصَحُّ يُعَرِّفُهُ ( زَمَنًا يُظَنُّ أَنَّ فَاقِدَهُ يُعْرِضُ عَنْهُ غَالِبًا ) وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْمَالِ وَأَمَّا غَيْرُهُ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ .
قَالَ الرُّويَانِيُّ : فَدَانِقُ الْفِضَّةِ يُعَرَّفُ فِي الْحَالِ ، وَدَانِقُ الذَّهَبِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً .
تَنْبِيهٌ : عِبَارَةُ الرَّوْضَةِ وَالشَّرْحَيْنِ مُدَّةً يُظَنُّ فِي مِثْلِهَا طَلَبُ فَاقِدِهَا ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ إعْرَاضُهُ سَقَطَ ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ ظَاهِرَةٌ .
فَإِنْ قِيلَ : كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ : لَا يُعْرِضُ أَوْ يَقُولَ إلَى زَمَنٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّ لَا تُقَدَّرُ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ كَمَا قُدِّرَتْ فِي قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } كَمَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ ، وَبِأَنَّ زَمَنًا مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى سَنَةٍ : أَيْ لَا يُعَرِّفُهَا إلَى سَنَةٍ بَلْ إلَى زَمَنٍ إلَخْ ؛ لِأَنَّ بَلْ لَا تَعْطِفُ الْجُمَلَ ، بَلْ هِيَ مَعَهَا حَرْفُ ابْتِدَاءٍ ، وَقَدْ مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ : بَلْ يُخْلَطَانِ ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ يَكْفِي مَرَّةً ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِهَا عَنْ حَدِّ الْكِتْمَانِ ، وَقِيلَ : لَا يَجِبُ تَعْرِيفُ الْقَلِيلِ أَصْلًا .
أَمَّا مَا لَا يُتَمَوَّلُ : كَحَبَّةِ بُرٍّ وَزَبِيبَةٍ لَمْ يَجِبْ تَعْرِيفُهُ ، وَيَسْتَبِدُّ بِهِ وَاجِدُهُ ، فَقَدْ قِيلَ : إنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ فِي الطَّوَافِ زَبِيبَةً ، فَقَالَ : إنَّ مِنْ الْوَرَعِ مَا يَمْقُتُهُ اللَّهُ { ، وَمَرَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ : لَوْلَا أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا } وَلَكِنْ هَلْ يَزُولُ مِلْكُ صَاحِبِهِ عَنْهُ إذَا وَقَعَ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي الْوَافِي ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ مِلْكَهُ لَا يَزُولُ بِذَلِكَ بِدَلِيلِ مَا قَالُوهُ فِيمَا لَوْ حَمَلَ السَّيْلُ حَبَّةً أَوْ نَوَاةً إلَى أَرْضِ غَيْرِهِ ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ قَلْعُهَا وَإِنْ أَعْرَضَ عَنْهَا ، فَهِيَ لِمَالِكِ الْأَرْضِ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ إلَّا بِالْإِعْرَاضِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ إلَّا بِالْإِعْرَاضِ ، فَكَيْفَ يَسْتَبِدُّ بِهِ وَاجِدُهُ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا مِنْ الْمُبَاحِ الْمُسْتَفَادِ بِالْعَادَةِ كَالشُّرْبِ مِنْ الْأَنْهَارِ .
وَأَمَّا الْتِقَاطُ السَّنَابِلِ وَنَحْوِهَا فِي وَقْتِ الْحَصَادِ ، فَيَجُوزُ إذَا ظَنَّ إعْرَاضَ الْمَالِكِ عَنْهَا أَوْ ظَنَّ رِضَاهُ بِأَخْذِهَا ، وَإِلَّا فَلَا ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْآخِذُ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ أَمْ لَا وَإِنْ خَالَفَ فِي الثَّانِي الزَّرْكَشِيُّ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ يُغْتَفَرُ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ ، وَلَوْ الْتَقَطَ كَلْبًا يُقْتَنَى أَوْ خَمْرًا مُحْتَرَمَةً أَوْ زِبْلًا كَثِيرًا عَرَّفَهُ سَنَةً أَوْ
مَا يَلِيقُ بِهِ ، ثُمَّ اخْتَصَّ بِهِ ، فَإِنْ ظَهَرَ صَاحِبُهُ وَكَانَ بَاقِيًا أَخَذَهُ ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُ .
فَصْلٌ إذَا عَرَّفَ سَنَةً لَمْ يَمْلِكْهَا حَتَّى يَخْتَارَهُ بِلَفْظٍ كَتَمَلَّكْت ، وَقِيلَ تَكْفِي النِّيَّةُ ، وَقِيلَ يَمْلِكُ بِمُضِيِّ السَّنَةِ
فَصْلٌ فِيمَا تُمْلَكُ بِهِ اللُّقَطَةُ ( إذَا عَرَّفَ ) مُلْتَقِطُهَا لِلتَّمَلُّكِ ( سَنَةً ) عَلَى الْعَادَةِ أَوْ دُونَهَا عَلَى مَا مَرَّ جَازَ لَهُ التَّمَلُّكُ ، وَ ( لَمْ يَمْلِكْهَا ) بِذَلِكَ ( حَتَّى يَخْتَارَهُ ) أَيْ التَّمَلُّكَ ( بِلَفْظٍ ) مِنْ نَاطِقٍ يَدُلُّ عَلَى التَّمَلُّكِ ( كَتَمَلَّكْت ) مَا الْتَقَطْتُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ مَالٍ بِبَدَلٍ فَافْتَقَرَ إلَى ذَلِكَ كَالشَّفِيعِ وَيَمْلِكُهُ بِذَلِكَ ، وَلَوْ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ كَالْقَرْضِ ، وَهَذَا فِيمَا يُمَلَّكُ .
وَأَمَّا غَيْرُهُ كَالْكَلْبِ وَالْخَمْرِ ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ اخْتِيَارِ نَقْلِ الِاخْتِصَاصِ الَّذِي كَانَ لِغَيْرِهِ لِنَفْسِهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ .
أَمَّا الْأَخْرَسُ فَتَكْفِي إشَارَتُهُ الْمُفْهِمَةُ كَسَائِرِ عُقُودِهِ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ ، وَكَذَا الْكِنَايَةُ مَعَ النِّيَّةِ ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّ وَلَدَ اللُّقَطَةِ كَاللُّقَطَةِ إنْ كَانَتْ حَامِلًا عِنْدَ الْتِقَاطِهَا ، وَانْفَصَلَ مِنْهَا قَبْلَ تَمَلُّكِهَا ، وَإِلَّا مَلَكَهُ تَبَعًا لِأُمِّهِ ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يُمْلَكُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ لِأُمِّهِ : أَيْ وَتَمَلُّكِهَا ( وَقِيلَ : تَكْفِي ) بَعْدَ التَّعْرِيفِ ( النِّيَّةُ ) أَيْ تَجْدِيدُ قَصْدِ التَّمَلُّكِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ لِفَقْدِ الْإِيجَابِ ( وَقِيلَ ) قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ ( يَمْلِكُ ) اللُّقَطَةَ ( بِمُضِيِّ السَّنَةِ ) بَعْدَ التَّعْرِيفِ اكْتِفَاءً بِقَصْدِهِ عِنْدَ الْأَخْذِ لِلتَّمَلُّكِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ .
تَنْبِيهٌ : لَا فَرْقَ عِنْدَنَا فِي جَوَازِ تَمَلُّكِ اللُّقَطَةِ بَيْنَ الْهَاشِمِيِّ وَغَيْرِهِ ، وَلَا بَيْنَ الْفَقِيرِ وَغَيْرِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ تَمَلُّكُهَا لِمَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ تَمَلُّكُهَا لِلْفَقِيرِ خَشْيَةَ ضَيَاعِهَا عِنْدَ طَلَبِهَا ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ التَّمَلُّكِ مَسَائِلُ لَا يَتَأَتَّى فِيهَا التَّمَلُّكُ .
مِنْهَا الْجَارِيَةُ الَّتِي تَحِلُّ لِلْمُلْتَقِطِ ، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَلَّكُهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ
الْتِقَاطُهَا لِلتَّمَلُّكِ كَمَا مَرَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِقْرَاضُهَا عَلَى الرَّاجِحِ ، فَعَلَى هَذَا تُلْتَقَطُ لِلْحِفْظِ فَقَطْ ، وَفِي تَعْرِيفِهَا الْخِلَافُ السَّابِقُ .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ تُعَرَّفَ ، وَبَعْدَ الْحَوْلِ تُبَاعُ وَيَتَمَلَّكُ ثَمَنَهَا كَمَا لَوْ الْتَقَطَ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ ، فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ وَيَتَمَلَّكُ ثَمَنَهُ بَعْدَ الْمُدَّةِ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَتْبَعُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةَ الْمَالِكِ ، وَقَدْ لَا يَكُونُ لَهُ مَصْلَحَةٌ فِي بَيْعِ الْأَمَةِ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ دَفَعَهَا إلَى الْحَاكِمِ وَتَرَكَ التَّعْرِيفَ وَالتَّمَلُّكَ ثُمَّ نَدِمَ ، وَأَرَادَ أَنْ يُعَرِّفَ وَيَتَمَلَّكَ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ قَالَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ أُخِذَ لِلْخِيَانَةِ كَمَا مَرَّ .
وَمِنْهَا لُقَطَةُ الْحَرَمِ كَمَا سَيَأْتِي .
فَإِنْ تَمَلَّكَ فَظَهَرَ الْمَالِكُ وَاتَّفَقَا عَلَى رَدِّ عَيْنِهَا فَذَاكَ ، وَإِنْ أَرَادَهَا الْمَالِكُ وَأَرَادَ الْمُلْتَقِطُ الْعُدُولَ إلَى بَدَلِهَا أُجِيبَ الْمَالِكُ فِي الْأَصَحِّ .
( فَإِنْ تَمَلَّكَ ) الْمُلْتَقِطُ اللُّقَطَةَ ( فَظَهَرَ الْمَالِكُ ) لَهَا ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ بِحَالِهَا ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقٌّ لَازِمٌ يَمْنَعُ بَيْعَهَا كَمَا فِي الْقَرْضِ ( وَاتَّفَقَا عَلَى رَدِّ عَيْنِهَا ) أَوْ بَدَلَهَا ( فَذَاكَ ) ظَاهِرٌ ، إذْ الْحَقُّ لَا يَعْدُوهُمَا .
وَيَجِبُ عَلَى الْمُلْتَقِطِ رَدُّهَا إلَى مَالِكِهَا إذَا عَلِمَهُ ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقٌّ لَازِمٌ قَبْلَ طَلَبِهِ فِي الْأَصَحِّ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْوَدِيعَةِ ، وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْمُلْتَقِطِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الْعَيْنَ لِغَرَضِ نَفْسِهِ .
أَمَّا إذَا حَصَلَ الرَّدُّ قَبْلَ تَمَلُّكِهَا فَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى مَالِكِهَا كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ( وَإِنْ أَرَادَهَا الْمَالِكُ وَأَرَادَ الْمُلْتَقِطُ الْعُدُولَ إلَى بَدَلِهَا .
أُجِيبَ الْمَالِكُ فِي الْأَصَحِّ ) كَالْقَرْضِ بَلْ أَوْلَى ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ فَأَدِّهَا إلَيْهِ } .
وَالثَّانِي : يُجَابُ الْمُلْتَقِطُ ، لِأَنَّهُ مَلَكَهَا كَمَا قِيلَ بِهِ فِي الْقَرْضِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ جَاءَ الْمَالِكُ ، وَقَدْ بِيعَتْ اللُّقَطَةُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ أَوْ كَانَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ بَاقِيًا كَانَ لَهُ الْفَسْخُ ، وَأَخَذَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَقَطْ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي لِاسْتِحْقَاقِهِ الرُّجُوعَ لَعَيْنِ مَالِهِ مَعَ بَقَائِهِ .
أَمَّا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَقَطْ فَلَا رُجُوعَ لَهُ كَالْبَائِعِ ، وَكَذَا لَوْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ رَهْنٍ أَوْ كِتَابَةٍ ، وَإِذَا رَدَّهَا الْمُلْتَقِطُ سَلِيمَةً أَوْ مَعِيبَةً مَعَ الْأَرْشِ لَزِمَ الْمَالِكَ الْقَبُولُ ، وَيَتَعَيَّنُ رَدُّهَا بِالزَّوَائِدِ الْمُتَّصِلَةِ ، وَإِنْ حَدَثَتْ بَعْدَ التَّمَلُّكِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ ، بَلْ لَوْ حَدَثَتْ قَبْلَهُ ثُمَّ انْفَصَلَتْ رَدَّهَا كَنَظِيرِهِ مِنْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَغَيْرِهِ ، فَلَوْ الْتَقَطَ حَائِلًا فَحَمَلَتْ قَبْلَ تَمَلُّكِهَا ثُمَّ وَلَدَتْ رَدَّ الْوَلَدَ مَعَ الْأُمِّ .
أَمَّا الزَّوَائِدُ الْمُنْفَصِلَةُ الْحَادِثَةُ بَعْدَ التَّمَلُّكِ ، فَهِيَ لِلْمُلْتَقِطِ
لِحُدُوثِهَا عَلَى مِلْكِهِ ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ الْأَمَةَ لَوْ وَلَدَتْ عِنْدَهُ رَقِيقًا أَنَّهُ يَجُوزُ التَّفْرِيقُ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَفِيهِ نَظَرٌ ا هـ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَظِيرُ مَا فِي التَّفْرِيقِ بِالْفَسْخِ ، وَتَقَدَّمَ فِيهِ خِلَافٌ ، وَتَقَدَّمَ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَنَّ الْحَمْلَ الْحَادِثَ بَعْدَ الشِّرَاءِ كَالْمُنْفَصِلِ ، فَيَكُونُ الْحَادِثُ هُنَا بَعْدَ التَّمَلُّكِ لِلْمُلْتَقِطِ .
وَإِنْ تَلِفَتْ غَرِمَ مِثْلَهَا أَوْ قِيمَتَهَا يَوْمَ التَّمَلُّكِ ، وَإِنْ نَقَصَتْ بِعَيْبٍ فَلَهُ أَخْذُهَا مَعَ الْأَرْشِ فِي الْأَصَحِّ .
تَنْبِيهٌ : الِاخْتِصَاصَاتُ كَالْخَمْرِ الْمُحْتَرَمَةِ وَالْكَلْبِ النَّافِعِ فَلَا يَضْمَنُ أَعْيَانَهَا وَلَا مَنَافِعَهَا ( وَإِنْ ) جَاءَ الْمَالِكُ ، وَقَدْ ( تَلِفَتْ ) تِلْكَ اللُّقَطَةُ حِسًّا أَوْ شَرْعًا بَعْدَ التَّمَلُّكِ ( غَرِمَ مِثْلَهَا ) إنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً ( أَوْ قِيمَتَهَا ) إنْ كَانَتْ مُتَقَوِّمَةً ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعِوَضُ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ ، وَالْقِيمَةُ تُعْتَبَرُ ( يَوْمَ التَّمَلُّكِ ) لَهَا ؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ دُخُولِ الْعَيْنِ فِي ضَمَانِهِ ، وَقِيلَ يَوْمَ الْمُطَالَبَةِ بِهَا .
تَنْبِيهٌ : قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : وَقَضِيَّةُ قَوْلِهِمْ إنَّهُ يَمْلِكُ اللُّقَطَةَ كَمِلْكِ الْقَرْضِ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ صُورِيٌّ رَدَّ الْمِثْلَ فِي الْأَصَحِّ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَلَا يَبْعُدُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ ا هـ .
وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ الْمَالِكَ فِي الْقَرْضِ دَفَعَ مَالَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَنَفْسُهُ مُطْمَئِنَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَرُدُّ لَهُ مِثْلَ مَا أَخَذَ .
وَأَمَّا اللُّقَطَةُ : فَالْقِيمَةُ فِيهَا قَدْ تَكُونُ فِي يَوْمِ التَّمَلُّكِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْمَرْدُودِ ، فَيَفُوتُ ذَلِكَ عَلَى الْمَالِكِ ، فَيَتَضَرَّرُ بِهِ ، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ أَظْهَرُ ، وَلَوْ قَالَ الْمُلْتَقِطُ لِلْمَالِكِ بَعْدَ التَّلَفِ : كُنْتُ أَمْسَكْتُهَا لَكَ ، وَقُلْنَا بِالْأَصَحِّ : إنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا إلَّا بِاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ لَمْ يَضْمَنْهَا ، وَكَذَا لَوْ قَالَ : لَمْ أَقْصِدْ شَيْئًا ، فَإِنْ كَذَّبَهُ الْمَالِكُ فِي ذَلِكَ صُدِّقَ الْمُلْتَقِطُ بِيَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ .
أَمَّا التَّلَفُ قَبْلَ التَّمَلُّكِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ ، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى الْمُلْتَقِطِ كَالْمُودَعِ ، وَلَوْ عَيَّنَ الْمُلْتَقِطُ الْبَدَلَ عِنْدَ إبَاحَةِ إتْلَافِ اللُّقَطَةِ كَأَكْلِ الشَّاةِ الْمُلْتَقَطَةِ فِي الْمَفَازَةِ فَتَلِفَتْ سَقَطَ حَقُّ الْمَالِكِ بِتَلَفِ الْقِيمَةِ : أَيْ وَالْمِثْلُ لِلصُّورَةِ كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَى الطَّعَامِ عَنْ نَصِّ الْأَصْحَابِ ، هَذَا كُلُّهُ فِي
الْمَمْلُوكِ .
أَمَّا الِاخْتِصَاصَاتُ كَالْخَمْرِ الْمُحْتَرَمَةِ وَالْكَلْبِ النَّافِعِ ، فَلَا يَضْمَنُ أَعْيَانَهَا وَلَا مَنَافِعَهَا ( وَإِنْ ) جَاءَ ، وَقَدْ ( نَقَصَتْ بِعَيْبٍ ) أَوْ نَحْوِهِ حَدَثَ بَعْدَ تَمَلُّكِهَا ( فَلَهُ ) أَيْ مَالِكُهَا ( أَخْذُهَا مَعَ الْأَرْشِ فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مَضْمُونٌ فَكَذَا الْبَعْضُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْمُقَرَّرَ أَنَّ مَا ضُمِنَ كُلُّهُ بِالتَّلَفِ ضُمِنَ بَعْضُهُ عِنْدَ النَّقْصِ ، وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ هَذَا إلَّا مَسْأَلَةُ الشَّاةِ الْمُعَجَّلَةِ ، فَإِنَّهَا تُضْمَنُ بِالتَّلَفِ ، وَإِنْ نَقَصَتْ لَمْ يَجِبْ أَرْشُهَا .
وَالثَّانِي : لَا أَرْشَ لَهُ ، وَلَهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ : الرُّجُوعُ إلَى بَدَلِهَا سَلِيمَةً ، وَلَوْ أَرَادَ الْمَالِكُ بَدَلَهَا ، وَقَالَ الْمُلْتَقِطُ : أَضُمُّ إلَيْهَا الْأَرْشَ وَأَرُدُّهَا أُجِيبَ الْمُلْتَقِطُ عَلَى الْأَصَحِّ .
وَإِذَا ادَّعَاهَا رَجُلٌ وَلَمْ يَصِفْهَا وَلَا بَيِّنَةَ لَمْ تُدْفَعْ إلَيْهِ ، وَإِنْ وَصَفَهَا وَظَنَّ صِدْقَهُ جَازَ الدَّفْعُ إلَيْهِ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَذْهَبِ ، فَإِنْ دَفَعَ فَأَقَامَ آخَرُ بَيِّنَةً بِهَا حُوِّلَتْ إلَيْهِ ، فَإِنْ تَلِفَتْ عِنْدَهُ فَلِصَاحِبِ الْبَيِّنَةِ تَضْمِينُ الْمُلْتَقِطِ ، وَالْمَدْفُوعِ إلَيْهِ ، وَالْقَرَارُ عَلَيْهِ .
قُلْت : لَا تَحِلُّ لُقَطَةُ الْحَرَمِ لِلتَّمَلُّكِ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَيَجِبُ تَعْرِيفُهَا قَطْعًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَإِذَا ادَّعَاهَا رَجُلٌ ) مَثَلًا ( وَلَمْ يَصِفْهَا ) بِصِفَاتِهَا السَّابِقَةِ ( وَلَا بَيِّنَةَ ) لَهُ بِهَا مِمَّا يَثْبُتُ بِهَا الْمِلْكُ : كَالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهَا لَهُ ( لَمْ تُدْفَعْ إلَيْهِ ) لِحَدِيثِ { لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ } الْحَدِيثَ ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ كَمَا قَالَهُ فِي الْكِفَايَةِ ، وَلَا يَكْفِي إخْبَارُهَا لِلْمُلْتَقِطِ أَوْ عَلِمَ أَنَّهَا لَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ دَفْعُهَا إلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ الْعُهْدَةُ إلَّا إنْ أَلْزَمَهُ بِتَسْلِيمِهَا بِالْوَصْفِ حَاكِمٌ .
( وَإِذَا وَصَفَهَا ) مُدَّعِيهَا ، وَهُوَ وَاحِدٌ بِمَا يُحِيطُ بِجَمِيعِ صِفَاتِهَا ( وَظَنَّ صِدْقَهُ جَازَ ) لَهُ ( الدَّفْعُ إلَيْهِ ) جَزْمًا عَمَلًا بِظَنِّهِ ، بَلْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ ( وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَذْهَبِ ) ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ فَيَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ كَغَيْرِهِ ، وَفِي وَجْهٍ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِي يَجِبُ ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا قَدْ تُعْسَرُ .
أَمَّا إذَا وَصَفَهَا جَمَاعَةٌ ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ : أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهَا لَا تُسَلَّمُ إلَيْهِمْ ، وَلَوْ ادَّعَاهَا اثْنَانِ ، وَأَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِأَنَّهَا لَهُ تَعَارَضَتَا .
تَنْبِيهٌ : احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ وَظَنَّ صِدْقَهُ عَمَّا إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الدَّفْعُ اتِّفَاقًا ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَلَوْ تَلِفَتْ اللُّقَطَةُ فَشَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى وَصْفِهَا ثَبَتَتْ وَدَفَعَ إلَيْهِ بَدَلَهَا كَمَا حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ عَنْ النَّصِّ ، وَلَوْ قَالَ لَهُ الْمَالِكُ : تَعْلَمُ أَنَّهَا لِي فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمَ ذَلِكَ ، قَالَهُ الرَّافِعِيُّ ( فَإِنْ دَفَعَ ) اللُّقَطَةَ لِوَاصِفِهَا بِمُجَرَّدِ الْوَصْفِ مِنْ غَيْرِ إجْبَارِ حَاكِمٍ يَرَاهُ ( فَأَقَامَ آخَرُ بَيِّنَةً بِهَا ) أَيْ بِأَنَّهَا مِلْكُهُ ، وَأَنَّهَا لَا تَعْلَمُ أَنَّهَا انْتَقَلَتْ مِنْهُ ، كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ ( حُوِّلَتْ ) مِنْ الْأَوَّلِ إلَيْهِ ( إلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ تُوجِبُ الدَّفْعَ فَقُدِّمَتْ عَلَى الْوَصْفِ الْمُجَرَّدِ ( فَإِنْ تَلِفَتْ عِنْدَهُ ) أَيْ الْوَاصِفِ لِلُّقَطَةِ ( فَلِصَاحِبِ الْبَيِّنَةِ ) بِأَنَّ اللُّقَطَةَ لَهُ ( تَضْمِينُ الْمُلْتَقِطِ ) ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَسْلِيمُهُ .
أَمَّا إذَا أَلْزَمَهُ بِالدَّفْعِ حَاكِمٌ يَرَاهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ ( وَ ) لَهُ مُطَالَبَةُ ( الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ ) اللُّقَطَةُ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُهُ .
نَعَمْ لَوْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ قَدْ أَتْلَفَهَا الْمُلْتَقِطُ بَعْدَ التَّمَلُّكِ ثُمَّ ادَّعَاهَا
بَعْدُ ، وَوَصَفَهَا فَسَلَّمَ إلَيْهِ الْبَدَلَ ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ ، فَأَقَامَ بَيِّنَةً بِهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ لِتَلَفِهِ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي حَصَلَ فِي يَدِهِ مَالُ الْمُلْتَقِطِ لَا مَالُ الْمُدَّعِي ( وَ ) إذَا كَانَ لَهُ تَغْرِيمُ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ فَ ( الْقَرَارُ عَلَيْهِ ) لِتَلَفِهِ فِي يَدِهِ .
نَعَمْ لَوْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ قَدْ أَقَرَّ لِلْوَاصِفِ بِالْمِلْكِ ، ثُمَّ غَرَّمَ صَاحِبُ الْبَيِّنَةِ الْمُلْتَقِطَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ .
؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ ظَلَمَهُ ، وَالْمَظْلُومُ لَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِ ظَالِمِهِ .
وَلَمَّا كَانَ كَلَامُ الْمُحَرَّرِ فِي تَمَلُّكِ اللُّقَطَةِ شَامِلًا لِلُقَطَةِ الْحَرَمِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ لِإِخْرَاجِهَا بِقَوْلِهِ : ( قُلْتُ ) ، كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ ( لَا تَحِلُّ لُقَطَةُ الْحَرَمِ ) وَفِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا : مَكَّةَ وَحَرَمِهَا ( لِلتَّمَلُّكِ ) بَلْ لِلْحِفْظِ أَبَدًا ( عَلَى الصَّحِيحِ ) الْمَنْصُوصِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ لَا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلَّا مَنْ عَرَّفَهَا } وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ { لَا تَحِلُّ لُقَطَتُهُ إلَّا لِمُنْشِدٍ } قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : أَيْ لِمُعَرِّفٍ ، فَفَرَّقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا ، وَأَخْبَرَ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ إلَّا لِلتَّعْرِيفِ ، وَلَمْ يُوَقِّتْ فِي التَّعْرِيفِ بِسَنَةٍ كَغَيْرِهَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ التَّعْرِيفَ عَلَى الدَّوَامِ ، وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّخْصِيصِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ حَرَمَ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى مَثَابَةً لِلنَّاسِ يَعُودُونَ إلَيْهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْأُخْرَى ، فَرُبَّمَا يَعُودُ مَالِكُهَا مِنْ أَجْلِهَا ، أَوْ يَبْعَثُ فِي طَلَبِهَا ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ مَالَهُ بِهِ مَحْفُوظًا عَلَيْهِ كَمَا غُلِّظَتْ الدِّيَةُ فِيهِ .
وَالثَّانِي : تَحِلُّ .
وَالْمُرَادُ بِالْخَبَرِ تَأْكِيدُ التَّعْرِيفِ لَهَا سَنَةً لِئَلَّا يُظَنَّ الِاكْتِفَاءُ بِتَعْرِيفِهَا فِي الْمَوْسِمِ لِكَثْرَةِ النَّاسِ فِيهِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْمُتَمَوَّلِ .
أَمَّا غَيْرُهُ فَيَسْتَبِدُّ بِهِ وَاجِدُهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَإِنْ لَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ ، وَكَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يُعَبِّرَ كَعِبَارَةِ الرَّوْضَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِيُخْرِجَ حَرَمَ الْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كَحَرَمِ مَكَّةَ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْجُمْهُورِ ، وَصَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَإِنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا الْبُلْقِينِيُّ ، وَلَيْسَتْ لُقَطَةُ عَرَفَةَ ، وَمُصَلَّى إبْرَاهِيمَ كَلُقَطَةِ الْحَرَمِ وَحِكَايَتُهُ الْخِلَافَ
وَجْهَيْنِ مُوَافِقٌ لِلرَّوْضَةِ وَمُخَالِفٌ لِلشَّرْحَيْنِ فِي حِكَايَتِهِ قَوْلَيْنِ ( وَيَجِبُ تَعْرِيفُهَا ) عِنْدَ الْتِقَاطِهَا لِلْحِفْظِ لِلْخَبَرِ الْمَارِّ ، وَقَوْلُهُ ( قَطْعًا ) زِيَادَةٌ عَلَى الرَّافِعِيِّ فِي الشَّرْحِ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) وَلَا يَجِيءُ فِيهِ الْوَجْهُ الْمُتَقَدِّمُ فِيمَنْ الْتَقَطَ لِلْحِفْظِ ، وَنَقَلَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُلْتَقِطَ الْإِقَامَةُ لِلتَّعْرِيفِ أَوْ دَفْعُهَا لِلْحَاكِمِ .
قَالَ ابْنُ الْمُقْرِي : وَقَدْ يَجِيءُ هَذَا التَّخْيِيرُ فِي كُلِّ مَا اُلْتُقِطَ لِلْحِفْظِ .
خَاتِمَةٌ : لَوْ أَخَذَ اللُّقَطَةَ اثْنَانِ ، فَتَرَكَ أَحَدُهُمَا حَقَّهُ مِنْ الِالْتِقَاطِ لِلْآخَرِ لَمْ يَسْقُطْ ، وَإِنْ أَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِأَنَّهُ الْمُلْتَقِطُ وَلَمْ يَسْبِقْ تَارِيخٌ لَهُمَا تَعَارَضَتَا ، وَلَوْ سَقَطَتْ مِنْ الْمُلْتَقِطِ لَهَا فَالْتَقَطَهَا آخَرُ ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِهَا مِنْهُ لِسَبْقِهِ ، وَلَوْ أَمَرَ وَاحِدٌ آخَرَ بِالْتِقَاطِ لُقَطَةٍ رَآهَا فَأَخَذَهَا ، فَهِيَ لِلْآمِرِ إنْ قَصَدَهُ الْآخَرُ وَلَوْ مَعَ نَفْسِهِ وَإِلَّا ، فَهِيَ لَهُ ، وَلَا يُشْكِلُ هَذَا بِمَا مَرَّ فِي الْوَكَالَةِ مِنْ عَدَمِ صِحَّتِهَا فِي الِالْتِقَاطِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي عُمُومِ الِالْتِقَاطِ ، وَهَذَا فِي خُصُوصِ لُقَطَةٍ وُجِدَتْ ، فَالْأَمْرُ بِأَخْذِهَا اسْتِعَانَةٌ مُجَرَّدَةٌ عَلَى تَنَاوُلِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ ، وَإِنْ رَآهَا مَطْرُوحَةً ، فَدَفَعَهَا بِرِجْلِهِ ، وَتَرَكَهَا حَتَّى ضَاعَتْ لَمْ يَضْمَنْهَا ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَحْصُلْ فِي يَدِهِ .
وَلَوْ أَخَذَ خَمْرًا أَرَاقَهَا صَاحِبُهَا فَتَخَلَّلَتْ عِنْدَهُ مَلَكَهَا بِلَا تَعْرِيفٍ لَهَا .
وَقَبْلَ تَخَلُّلِهَا عَلَيْهِ إذَا جَمَعَهَا إرَاقَتُهَا إلَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهَا مُحْتَرَمَةٌ فَيُعَرِّفُهَا كَالْكَلْبِ - الْمُحْتَرَمِ .
كِتَابُ اللَّقِيطِ الْتِقَاطُ الْمَنْبُوذِ فَرْضُ كِفَايَةٍ ، وَيَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ فِي الْأَصَحِّ
فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَجَرِيحٍ وَقَتِيلٍ ، وَيُسَمَّى مَلْقُوطًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُلْقَطُ ، وَمَنْبُوذًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُنْبَذُ إذَا أُلْقِيَ فِي الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ ، وَيُسَمَّى دَعِيًّا أَيْضًا .
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَعَ مَا يَأْتِي قَوْله تَعَالَى { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } وقَوْله تَعَالَى { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ } وَأَرْكَانُ اللَّقِيطِ الشَّرْعِيِّ ثَلَاثَةٌ : الْتِقَاطٌ ، وَلَقِيطٌ ، وَمُلْتَقِطٌ .
وَقَدْ بَدَأَ بِالرُّكْنِ الْأَوَّلِ فَقَالَ ( الْتِقَاطُ ) أَيْ أَخْذُ ( الْمَنْبُوذِ ) بِالْمُعْجَمَةِ ( فَرْضُ كِفَايَةٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } إذْ بِإِحْيَائِهَا يَسْقُطُ الْحَرَجُ عَنْ النَّاسِ فَإِحْيَاؤُهُمْ بِالنَّجَاةِ مِنْ الْعَذَابِ ؛ وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مُحْتَرَمٌ فَوَجَبَ حِفْظُهُ كَالْمُضْطَرِّ إلَى طَعَامِ غَيْرِهِ ، بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْبَالِغَ الْعَاقِلَ رُبَّمَا احْتَالَ لِنَفْسِهِ وَفَارَقَ اللُّقَطَةَ ، حَيْثُ لَا يَجِبُ الْتِقَاطُهَا بِأَنَّ الْمُغَلَّبَ عَلَيْهَا الِاكْتِسَابُ وَالنَّفْسُ تَمِيلُ إلَيْهِ فَاسْتَغْنَى بِذَلِكَ عَنْ الْوُجُوبِ كَالنِّكَاحِ وَالْوَطْءِ فِيهِ ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْمَنْبُوذِ إلَّا وَاحِدٌ لَزِمَهُ أَخْذُهُ ، فَلَوْ لَمْ يَلْتَقِطْهُ حَتَّى عَلِمَ بِهِ غَيْرُهُ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمَا ، كَمَا لَوْ عَلِمَا مَعًا أَوْ عَلَى الْأَوَّلِ فَقَطْ ؟ أَبْدَى ابْنُ الرِّفْعَةِ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ وَاَلَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا ( وَيَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ ) أَيْ الْتِقَاطِهِ ( فِي الْأَصَحِّ ) وَإِنْ كَانَ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَسْتَرِقَّهُ .
وَالثَّانِي لَا يَجِبُ اعْتِمَادًا عَلَى الْأَمَانَةِ كَاللُّقَطَةِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا الْمَالُ ، وَالْإِشْهَادُ فِي التَّصَرُّفِ الْمَالِيِّ مُسْتَحَبٌّ ، وَمِنْ اللَّقِيطِ حُرِّيَّتُهُ وَنَسَبُهُ فَوَجَبَ الْإِشْهَادُ كَمَا فِي النِّكَاحِ ، وَبِأَنَّ اللُّقَطَةَ يَشِيعُ أَمْرُهَا بِالتَّعْرِيفِ ، وَلَا تَعْرِيفَ فِي اللَّقِيطِ وَيَجِبُ الْإِشْهَادُ أَيْضًا عَلَى مَا
مَعَهُ تَبَعًا لَهُ وَلِئَلَّا يَتَمَلَّكَهُ ، وَقَيَّدَ الْمَاوَرْدِيُّ وُجُوبَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا مَعَهُ بِالْمُلْتَقِطِ بِنَفْسِهِ .
أَمَّا مَنْ سَلَّمَهُ الْحَاكِمُ لَهُ فَالْإِشْهَادُ مُسْتَحَبٌّ لَهُ فَقَطْ .
قَالَ شَيْخُنَا وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّانِي وَهُوَ اللَّقِيطُ فَهُوَ صَغِيرٌ مَنْبُوذٌ فِي شَارِعٍ أَوْ مَسْجِدٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَا كَافِلَ لَهُ مَعْلُومٌ وَلَوْ مُمَيِّزًا لِحَاجَتِهِ إلَى التَّعَهُّدِ ، وَإِنْ أَفْهَمَ التَّعْبِيرُ بِالْمَنْبُوذِ اخْتِصَاصَهُ بِغَيْرِ الْمُمَيِّزِ .
فَإِنَّ الْمَنْبُوذَ وَهُوَ الَّذِي يُنْبَذُ دُونَ التَّمْيِيزِ ، وَنَبْذُهُ فِي الْغَالِبِ إمَّا لِكَوْنِهِ مِنْ فَاحِشَةٍ خَوْفًا مِنْ الْعَارِ ، أَوْ لِلْعَجْزِ عَنْ مُؤْنَتِهِ ، فَإِنْ فُقِدَ النَّبْذُ رُدَّ إلَى الْقَاضِي لِقِيَامِهِ مَقَامَ كَافِلِهِ فَيُسَلِّمُهُ إلَى مَنْ يَقُومُ بِهِ ، كَمَا يَقُومُ بِحِفْظِ مَالِ الْغَائِبِينَ ، أَوْ وُجِدَ لَهُ كَافِلٌ وَلَوْ مُلْتَقِطًا رُدَّ إلَيْهِ ، وَخَرَجَ بِالصَّبِيِّ الْبَالِغُ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ الْحِفْظِ .
نَعَمْ الْمَجْنُونُ كَالصَّبِيِّ ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا الصَّبِيَّ ؛ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ ، قَالَهُ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَإِنَّمَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الِالْتِقَاطِ لِمُكَلَّفٍ حُرٍّ مُسْلِمٍ عَدْلٍ رَشِيدٍ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الثَّالِثِ وَهُوَ الْمُلْتَقِطُ فَقَالَ ( وَإِنَّمَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الِالْتِقَاطِ ) أَيْ حَضَانَةُ اللَّقِيطِ ( لِمُكَلَّفٍ حُرٍّ ) ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ، وَلَكِنَّ الْإِنَاثَ أَلْيَقُ بِهَا غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ ( مُسْلِمٍ ) إنْ كَانَ اللَّقِيطُ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ ( عَدْلٍ ) ؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ عَلَى الْغَيْرِ فَاعْتُبِرَ فِيهَا الْأَوْصَافُ الْمَذْكُورَةُ كَوِلَايَةِ الْقَضَاءِ ، فَإِنْ كَانَ مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ بِالدَّارِ فَلِلْكَافِرِ الْتِقَاطُهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ .
تَنْبِيهٌ : مُقْتَضَى كَلَامِهِمْ جَوَازُ الْتِقَاطِ الْيَهُودِيِّ لِلنَّصْرَانِيِّ وَعَكْسَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ كَالْإِرْثِ وَإِنْ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ لَمْ أَرَهُ مَنْقُولًا ، وَقَوْلُهُ ( رَشِيدٍ ) مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِعَدْلٍ كَمَا يُسْتَغْنَى عَنْ مُكَلَّفٍ بِعَدْلٍ ، وَمُرَادُهُ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ وَالظَّاهِرَةُ لِيَدْخُلَ الْمَسْتُورُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ الْآتِي ، وَيُقَدَّمُ عَدْلٌ عَلَى مَسْتُورٍ ، وَلَا تَفْتَقِرُ وِلَايَةُ الِالْتِقَاطِ إلَى إذْنِ الْحَاكِمِ ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ دَفْعُهُ إلَيْهِ .
نَعَمْ لَوْ وَجَدَهُ فَأَعْطَاهُ غَيْرَهُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَدْفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ كَمَا قَالَهُ الدَّارِمِيُّ .
وَلَوْ الْتَقَطَ عَبْدٌ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ اُنْتُزِعَ مِنْهُ ، فَإِنْ عَلِمَهُ فَأَقَرَّهُ عِنْدَهُ أَوْ الْتَقَطَ بِإِذْنِهِ فَالسَّيِّدُ الْمُلْتَقِطُ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي ذِكْرِ مُحْتَرَزَاتِ مَا تَقَدَّمَ فَذَكَرَ مُحْتَرَزَ حُرٍّ فِي قَوْلِهِ ( وَلَوْ الْتَقَطَ ) رَقِيقٌ ( عَبْدٌ ) أَوْ أَمَةٌ مُدَبَّرٌ أَوْ مُعَلَّقٌ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ ، أَوْ أُمُّ وَلَدٍ ، أَوْ مُكَاتَبٌ ( بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ اُنْتُزِعَ ) اللَّقِيطُ ( مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّ الْحَضَانَةَ تَبَرُّعٌ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا ( فَإِنْ عَلِمَهُ ) أَيْ السَّيِّدُ ( فَأَقَرَّهُ عِنْدَهُ ، أَوْ الْتَقَطَ بِإِذْنِهِ فَالسَّيِّدُ ) هُوَ ( الْمُلْتَقِطُ ) وَهُوَ نَائِبُهُ فِي الْأَخْذِ وَالتَّرْبِيَةِ إذْ يَدُهُ كَيَدِهِ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّرْكِ فِي يَدِهِ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَهَذَا قَبْلَ الرَّفْعِ إلَى الْحَاكِمِ .
أَمَّا بَعْدَهُ فَيَدْفَعُهُ إلَى مَنْ يَرَاهُ إذْ لَا حَقَّ لِلسَّيِّدِ فِيهِ ا هـ .
وَفِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ نَظَرٌ إذْ السَّيِّدُ هُوَ الْمُلْتَقِطُ ، وَلَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِلْمُكَاتَبِ الْتَقِطْ لِي فَالسَّيِّدُ هُوَ الْمُلْتَقِطُ ، وَفِي الْمُبَعَّضِ إذَا الْتَقَطَ فِي نَوْبَتِهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا عَدَمُ الصِّحَّةِ كَمَا قَالَهُ الرُّويَانِيُّ ؛ لِأَنَّ الْحَضَانَةَ وِلَايَةٌ ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْمُبَعَّضِ بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّيِّدِ مُهَايَأَةٌ أَوْ الْتَقَطَ فِي نَوْبَةِ السَّيِّدِ فَالْتِقَاطُهُ كَالْقِنِّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَذَكَرَ مُحْتَرِزًا مُكَلَّفٍ عَدْلٍ رَشِيدٍ فِي قَوْلِهِ .
وَلَوْ الْتَقَطَ صَبِيٌّ أَوْ فَاسِقٌ أَوْ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ أَوْ كَافِرٌ مُسْلِمًا اُنْتُزِعَ مِنْهُ .
( وَلَوْ الْتَقَطَ صَبِيٌّ ) أَوْ مَجْنُونٌ ( أَوْ فَاسِقٌ أَوْ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ ) بِسَفَهٍ ( أَوْ كَافِرٌ مُسْلِمًا اُنْتُزِعَ مِنْهُ ) لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَتُهْمَةِ الْفَاسِقِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ وَعَدَمِ وِلَايَةِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَالْمُنْتَزِعُ مِنْهُمْ هُوَ الْحَاكِمُ كَمَا قَالَهُ شَارِحُ التَّعْجِيزِ ، وَخَرَجَ بِمُسْلِمٍ الْمَحْكُومُ بِكُفْرِهِ فَإِنَّهُ يُقَرُّ بِيَدِهِ كَمَا مَرَّ ، وَكَذَا بِيَدِ الْمُسْلِمِ كَمَا سَيَأْتِي .
وَلَوْ ازْدَحَمَ اثْنَانِ عَلَى أَخْذِهِ جَعَلَهُ الْحَاكِمُ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا ، وَإِنْ سَبَقَ وَاحِدٌ فَالْتَقَطَهُ مُنِعَ الْآخَرُ مِنْ مُزَاحَمَتِهِ ، وَإِنْ الْتَقَطَاهُ مَعًا وَهُمَا أَهْلٌ ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُقَدَّمُ غَنِيٌّ عَلَى فَقِيرٍ وَعَدْلٌ عَلَى مَسْتُورٍ .
( وَلَوْ ازْدَحَمَ اثْنَانِ ) كُلٌّ مِنْهُمَا أَهْلٌ لِالْتِقَاطِهِ ( عَلَى أَخْذِهِ ) مُتَعَلِّقٌ بِازْدَحَمَ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَا آخُذُهُ ( جَعَلَهُ الْحَاكِمُ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ مِنْهُمَا أَوْ ) عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ ( مِنْ غَيْرِهِمَا ) ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمَا قَبْلَ أَخْذِهِ فَيَفْعَلُ الْأَحَظَّ لَهُ ( وَإِنْ سَبَقَ وَاحِدٌ ) مِنْهُمَا ( فَالْتَقَطَهُ مُنِعَ الْآخَرُ مِنْ مُزَاحَمَتِهِ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ أَحَدٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ فَالْتَقَطَهُ مَا لَوْ سَبَقَ إلَى الْوُقُوفِ عِنْدَهُ وَلَمْ يَأْخُذْهُ فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ ( وَإِنْ الْتَقَطَاهُ مَعًا ) أَيْ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ فِي مَعْنَى مَعَ ؛ لِأَنَّهَا تَأْتِي بِمَعْنَى جَمِيعٍ ( وَهُمَا أَهْلٌ ) لِالْتِقَاطِهِ ( فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُقَدَّمُ غَنِيٌّ عَلَى فَقِيرٍ ) ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُوَاسِيهِ بِمَالِهِ وَلَوْ تَفَاوَتَا فِي الْغِنَى لَمْ يُقَدَّمْ أَغْنَاهُمَا .
نَعَمْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَخِيلًا وَالْآخَرُ جَوَادًا فَقِيَاسُ تَقْدِيمِ الْغَنِيِّ أَنْ يُقَدَّمَ الْجَوَادُ ؛ لِأَنَّ حِفْظَ اللَّقِيطِ عِنْدَهُ أَكْثَرُ ، وَظَاهِرٌ أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْغَنِيُّ عَلَى الْفَقِيرِ وَإِنْ كَانَ الْغَنِيُّ بَخِيلًا .
وَالثَّانِي يَسْتَوِي الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ اللَّقِيطِ لَا تَجِبُ عَلَى مُلْتَقِطِهِ ( وَ ) يُقَدَّمُ ( عَدْلٌ ) بَاطِنًا بِكَوْنِهِ مُزَكًّى عِنْدَ حَاكِمٍ ( عَلَى مَسْتُورٍ ) أَيْ عَدْلٍ ظَاهِرًا بِأَنْ لَمْ يُعْلَمْ فِسْقُهُ وَلَمْ يُعْلَمْ تَزْكِيَتُهُ عِنْدَ حَاكِمٍ .
أَمَّا الْعَدْلُ عِنْدَ اللَّهِ فَلَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ ، وَيُقَدَّمُ الْحُرُّ عَلَى الْمُكَاتَبِ لِكَمَالِهِ ، وَالْبَلَدِيُّ عَلَى الْبَدَوِيِّ ، وَيَسْتَوِي الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ فِي الْتِقَاطِ الْمَحْكُومِ بِكُفْرِهِ ، وَقِيلَ يُقَدَّمُ الْمُسْلِمُ ، وَقِيلَ الْكَافِرُ ، وَلَا تُقَدَّمُ الْمَرْأَةُ عَلَى الرَّجُلِ وَإِنْ قُدِّمَتْ فِي الْحَضَانَةِ .
فَإِنْ اسْتَوَيَا أُقْرِعَ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ ازْدَحَمَ عَلَى أَخْذِ لَقِيطٍ بِبَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ ظَاعِنٌ إلَى بَادِيَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ وَآخَرُ مُقِيمٌ فَالْمُقِيمُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِهِ وَأَحْوَطُ لِنَسَبِهِ لَا عَلَى ظَاعِنٍ يَظْعَنُ بِهِ إلَى بَلَدٍ أُخْرَى بَلْ يَسْتَوِيَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُنْفَرِدِ نَقْلُهُ إلَى بَلَدِهِ كَمَا سَيَأْتِي ، وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ تَقْدِيمَ قَرَوِيٍّ مُقِيمٍ بِالْقَرْيَةِ عَلَى بَلَدِيٍّ ظَاعِنٍ ، وَنَقَلَهُ عَنْ ابْنِ كَجٍّ ، لَكِنَّ مَنْقُولَ الْأَصْحَابِ أَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ كَمَا نَقَلَهُ هُوَ تَبَعًا لِلرَّافِعِيِّ ، وَيُقَدَّمُ حَضَرِيٌّ عَلَى بَدَوِيٍّ إذَا وَجَدَاهُ بِمَهْلَكَةٍ ، وَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ إذَا وَجَدَاهُ بِمَحَلَّةٍ أَوْ قَبِيلَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَيُقَدَّمُ الْبَصِيرُ عَلَى الْأَعْمَى ، وَالسَّلِيمُ عَلَى الْمَجْذُومِ وَالْأَبْرَصِ إنْ قِيلَ بِأَهْلِيَّتِهِمْ لِلِالْتِقَاطِ ( فَإِنْ اسْتَوَيَا ) فِي الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ وَتَشَاحَّا ( أُقْرِعَ ) بَيْنَهُمَا عَلَى النَّصِّ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ ، وَلَوْ كَانَ اللَّقِيطُ مُمَيِّزًا وَاخْتَارَ أَحَدَهُمَا بِخِلَافِ تَخْيِيرِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ بَيْنَ أَبَوَيْهِ لِتَعْوِيلِهِمْ ثَمَّ عَلَى الْمَيْلِ النَّاشِئِ عَنْ الْوِلَادَةِ وَهُوَ مَعْدُومٌ هُنَا وَلَا يُهَايَأُ بَيْنَهُمَا لِلْإِضْرَارِ بِاللَّقِيطِ وَلَا يُتْرَكُ فِي يَدِهِمَا لِتَعَذُّرِ أَوْ تَعَسُّرِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْحَضَانَةِ ، وَقَدْ كَانَتْ الْقُرْعَةُ فِي الْكَفَالَةِ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا فِي قِصَّةِ مَرْيَمَ ، قَالَ تَعَالَى { إذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } أَيْ اقْتَرَعَتْ الْأَحْبَارُ عَلَى كَفَالَتِهَا بِإِلْقَاءِ أَقْلَامِهِمْ ، وَلَمْ يَرِدْ فِي شَرْعِنَا مَا يُخَالِفُهُ ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ هَلْ يَكُونُ شَرْعًا أَمْ لَا ؟ وَلَيْسَ لِلْقَارِعِ تَرْكُ حَقِّهِ لِلْآخَرِ وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْمَاوَرْدِيُّ ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُنْفَرِدِ نَقْلُهُ إلَى غَيْرِهِ ، وَلَوْ تَرَكَ حَقَّهُ قَبْلَ الْقُرْعَةِ انْفَرَدَ بِهِ الْآخَرُ
وَإِذَا وَجَدَ بَلَدِيٌّ لَقِيطًا بِبَلَدٍ فَلَيْسَ لَهُ نَقْلُهُ إلَى بَادِيَةٍ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ لَهُ نَقْلَهُ إلَى بَلَدٍ آخَرَ .
( وَإِذَا وَجَدَ بَلَدِيٌّ ) أَوْ قَرَوِيٌّ أَوْ بَدَوِيٌّ ( لَقِيطًا بِبَلَدٍ ) أَوْ قَرْيَةٍ ( فَلَيْسَ لَهُ نَقْلُهُ إلَى بَادِيَةٍ ) لِخُشُونَةِ عَيْشِهَا وَتَفْوِيتِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالصَّنْعَةِ ، وَقِيلَ لِضَيَاعِ النَّسَبِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ السَّفَرِ بِهِ لِلنُّقْلَةِ وَغَيْرِهَا كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي وَأَقَرَّاهُ .
نَعَمْ لَوْ قَرُبَتْ الْبَادِيَةُ مِنْ الْبَلَدِ أَوْ الْقَرْيَةِ بِحَيْثُ يَسْهُلُ الْمُرَادُ مِنْهَا جَازَ النَّقْلُ إلَيْهَا لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ ، صَرَّحَ بِهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ .
وَيَمْتَنِعُ أَيْضًا نَقْلُهُ مِنْ بَلْدَةٍ إلَى قَرْيَةٍ لِمَا مَرَّ .
تَنْبِيهٌ : الْبَادِيَةُ خِلَافُ الْحَاضِرَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَةَ الْمُدُنُ وَالْقُرَى وَالرِّيفُ ، وَالْقَرْيَةُ هِيَ الْعِمَارَةُ الْمُجْتَمِعَةُ فَإِنْ كَبُرَتْ سُمِّيَتْ بَلَدًا .
وَإِنْ عَظُمَتْ سُمِّيَتْ مَدِينَةً ، وَالرِّيفُ هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا زَرْعٌ وَخِصْبٌ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّ لَهُ ) أَيْ الْمُلْتَقِطِ ( نَقْلَهُ ) أَيْ اللَّقِيطِ ( إلَى بَلَدٍ آخَرَ ) بِنَاءً عَلَى الْعِلَّةِ الْأُولَى سَوَاءٌ كَانَتْ وَطَنَ الْمُلْتَقِطِ أَمْ لَا سَافَرَ إلَيْهَا لِنَقْلِهِ أَمْ لَا كَمَا يَقْتَضِيهِ إطْلَاقُهُ ، وَصَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي .
وَالثَّانِي يَمْتَنِعُ بِنَاءً عَلَى الْعِلَّةِ الثَّانِيَةِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ عِنْدَ أَمْنِ الطَّرِيقِ وَتَوَاصُلِ الْأَخْبَارِ ، فَإِنْ كَانَ مَخُوفًا ، أَوْ انْقَطَعَتْ الْأَخْبَارُ بَيْنَهُمَا لَمْ يُقَرَّ اللَّقِيطُ فِي يَدِهِ قَطْعًا ، وَلَمْ يُفَرِّقْ الْجُمْهُورُ بَيْنَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَدُونَهَا ، وَجَعَلَ الْمَاوَرْدِيُّ الْخِلَافَ فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ ، وَقَطَعَ فِيمَا دُونَهَا بِالْجَوَازِ وَمَنَعَهُ فِي الْكِفَايَةِ ، فَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ .
وَأَنَّ لِلْغَرِيبِ إذَا الْتَقَطَ بِبَلَدٍ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى بَلَدِهِ ، وَإِنْ وَجَدَهُ بِبَادِيَةٍ فَلَهُ نَقْلُهُ إلَى بَلَدٍ .
( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّ لِلْغَرِيبِ ) الْمُخْتَبَرِ أَمَانَتَهُ ( إذَا الْتَقَطَ بِبَلَدٍ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى بَلَدِهِ ) بِهَاءِ الضَّمِيرِ بِخَطِّهِ لِلْمَعْنَى الْأَصَحِّ لِتَقَارُبِ الْمَعِيشَةِ .
وَالثَّانِي لَا ، لِلْمَعْنَى الثَّانِي وَهُوَ ضَيَاعُ النَّسَبِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْغَرِيبِ الْمُخْتَبَرِ أَمَانَتُهُ كَمَا مَرَّ ، فَإِنْ جُهِلَ حَالُهُ لَمْ يُقَرَّ بِيَدِهِ قَطْعًا مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَا حَاجَةَ لِذِكْرِهَا لِدُخُولِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا ، وَالنَّقْلُ مِنْ بَادِيَةٍ إلَى بَادِيَةٍ وَمِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ كَالنَّقْلِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ ( وَإِنْ وَجَدَهُ ) أَيْ اللَّقِيطُ بَلَدِيٌّ ( بِبَادِيَةٍ ) فِي حِلَّةٍ أَوْ قَبِيلَةٍ ( فَلَهُ نَقْلُهُ إلَى ) قَرْيَةٍ وَإِلَى ( بَلَدٍ ) يَقْصِدُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِهِ .
وَقِيلَ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْعِلَّتَيْنِ ، فَإِنْ كَانَتْ الْبَادِيَةُ فِي مَهْلَكَةٍ فَلَهُ نَقْلُهُ لِمَقْصَدِهِ قَطْعًا .
وَإِنْ وَجَدَهُ بَدَوِيٌّ بِبَلَدٍ فَكَالْحَضَرِيِّ أَوْ بِبَادِيَةٍ أُقِرَّ بِيَدِهِ ، وَقِيلَ إنْ كَانُوا يَنْتَقِلُونَ لِلنُّجْعَةِ لَمْ يُقَرَّ .
( وَإِنْ وَجَدَهُ ) قَرَوِيٌّ أَوْ ( بَدَوِيٌّ بِبَلَدٍ فَكَالْحَضَرِيِّ ) فَإِنْ أَرَادَ الْمُقَامَ بِهِ أُقِرَّ بِيَدِهِ ، أَوْ نَقْلَهُ إلَى بَلَدٍ أَوْ بَادِيَةٍ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ .
( أَوْ ) وَجَدَهُ الْبَدَوِيُّ ( بِبَادِيَةٍ أُقِرَّ بِيَدِهِ ) وَإِنْ كَانَ أَهْلُ حِلَّتِهِ يَنْتَقِلُونَ ؛ لِأَنَّهَا فِي حَقِّهِ كَبَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ ( وَقِيلَ إنْ كَانُوا يَنْتَقِلُونَ لِلنُّجْعَةِ ) بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَهِيَ الِانْتِقَالُ فِي طَلَبِ الْمَرْعَى وَغَيْرِهِ ( لَمْ يُقَرَّ ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَضْيِيعًا لِنَسَبِهِ ، وَالْبَدَوِيُّ سَاكِنُ الْبَادِيَةِ ، وَالْحَضَرِيُّ سَاكِنُ الْحَاضِرَةِ ، وَهِيَ خِلَافُ الْبَادِيَةِ ، وَالْبَلَدِيُّ سَاكِنُ الْبَلَدِ ، وَالْقَرَوِيُّ سَاكِنُ الْقَرْيَةِ .
وَنَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ الْعَامِّ كَوَقْفٍ عَلَى اللُّقَطَاءِ ، أَوْ الْخَاصِّ وَهُوَ مَا اخْتَصَّ بِهِ كَثِيَابٍ مَلْفُوفَةٍ عَلَيْهِ وَمَفْرُوشَةٍ تَحْتَهُ وَمَا فِي جَيْبِهِ مِنْ دَرَاهِمَ وَغَيْرِهَا وَمَهْدِهِ وَدَنَانِيرَ مَنْثُورَةٍ فَوْقَهُ وَتَحْتَهُ .
( وَنَفَقَتُهُ ) أَيْ اللَّقِيطِ وَمُؤْنَةُ حَضَانَتِهِ لَيْسَتْ عَلَى الْمُلْتَقِطِ بَلْ ( فِي مَالِهِ ) كَغَيْرِهِ ( الْعَامِّ كَوَقْفٍ عَلَى اللُّقَطَاءِ ) وَالْوَصِيَّةُ لَهُمْ .
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِمْ وَوُجُودُهُمْ لَا يَتَحَقَّقُ بِخِلَافِ الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْجِهَةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْوُجُودُ وَإِلَّا لَمْ يُصْرَفْ إلَى مَنْ حَدَثَ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ يُتَوَقَّفُ فِي هَذَا الْجَوَابِ ، وَيُقَالُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مَنْ يُمْكِنُ الصَّرْفُ إلَيْهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ الْجِهَةُ وَيَكْفِي إمْكَانُهَا .
تَنْبِيهٌ : إضَافَةُ الْمَالِ إلَى اللَّقِيطِ فِيهِ تَجَوُّزٌ فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ هُوَ مَالَهُ بَلْ مَالُ الْجِهَةِ الْعَامَّةِ ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يُصْرَفُ إلَيْهِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكَهُ لِعُمُومِ كَوْنِهِ لَقِيطًا أَوْ مُوصًى لَهُ ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَالُ لَهُ بِخُصُوصِهِ كَالْوَقْفِ عَلَيْهِ نَفْسِهِ أَوْ الْهِبَةِ أَوْ الْوَصِيَّةِ لَهُ ، وَيَقْبَلُ لَهُ الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ مَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ ( أَوْ ) نَفَقَةُ اللَّقِيطِ فِي مَالِهِ ( الْخَاصِّ ، وَهُوَ مَا اخْتَصَّ بِهِ كَثِيَابٍ مَلْفُوفَةٍ عَلَيْهِ ) وَمَلْبُوسَةٍ لَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ وَأَسْقَطَهُ مِنْ الرَّوْضَةِ لِفَهْمِهِ مِمَّا ذُكِرَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ( وَمَفْرُوشَةٍ تَحْتَهُ ) وَمُغَطًّى بِهَا وَدَابَّةٍ مَشْدُودَةٍ فِي وَسَطِهِ أَوْ عِنَانِهَا بِيَدِهِ أَوْ رَاكِبًا عَلَيْهَا ( وَمَا فِي جَيْبِهِ مِنْ دَرَاهِمَ وَغَيْرِهَا ) كَذَهَبٍ وَحُلِيٍّ ( وَمَهْدِهِ ) وَهُوَ سَرِيرُهُ الَّذِي هُوَ فِيهِ ( وَدَنَانِيرَ مَنْثُورَةٍ فَوْقَهُ وَ ) مَنْثُورَةٍ ( تَحْتَهُ ) ؛ لِأَنَّ لَهُ يَدًا وَاخْتِصَاصًا كَالْبَالِغِ وَالْأَصْلُ الْحُرِّيَّةُ مَا لَمْ يُعْرَفْ غَيْرُهَا .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ التَّخْيِيرُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ مِنْ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ قَالَ فِي التَّوْشِيحِ : لَمْ أَجِدْ فِيهِ نَقْلًا ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْأَفْقَهُ تَقْدِيمُ الْخَاصِّ فَلَا يُنْفَقُ مِنْ
الْعَامِّ إلَّا عِنْدَ فَقْدِ الْخَاصِّ .
وَإِنْ وُجِدَ فِي دَارٍ فَهِيَ لَهُ ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ مَدْفُونٌ تَحْتَهُ وَكَذَا ثِيَابٌ وَأَمْتِعَةٌ مَوْضُوعَةٌ بِقُرْبِهِ فِي الْأَصَحِّ ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَامَ الْمُسْلِمُونَ بِكِفَايَتِهِ قَرْضًا ، وَفِي قَوْلٍ نَفَقَةً .
( وَإِنْ وُجِدَ فِي دَارٍ ) وَنَحْوِهَا كَحَانُوتٍ وَلَا يُعْرَفُ لَهَا مُسْتَحِقٌّ لَيْسَ فِيهَا غَيْرُهُ ( فَهِيَ ) أَيْ الدَّارُ وَنَحْوُهَا ( لَهُ ) لِلْيَدِ وَلَا مُزَاحِمَ وَإِنْ وُجِدَ فِيهَا غَيْرُهُ كَلَقِيطَيْنِ أَوْ لَقِيطٍ وَغَيْرِهِ فَهِيَ لَهُمَا كَمَا لَوْ كَانَا عَلَى دَابَّةٍ فَلَوْ رَكِبَهَا أَحَدُهُمَا وَمَسَكَ الْآخَرُ زِمَامَهَا فَهِيَ لِلرَّاكِبِ فَقَطْ لِتَمَامِ الِاسْتِيلَاءِ ، وَمَا فِي الرَّوْضَةِ عَنْ ابْنِ كَجٍّ مِنْ أَنَّهَا بَيْنَهُمَا .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَجْهٌ ، وَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ أَنَّ الْيَدَ لِلرَّاكِبِ وَلَوْ كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَزِمَامُهَا بِيَدِهِ أَوْ مَرْبُوطَةٌ بِهِ فَهِيَ لَهُ وَكُلُّ مَا عَلَى الدَّابَّةِ الَّتِي حُكِمَ بِأَنَّهَا لَهُ لَهُ ، وَلَا يُحْكَمُ لَهُ بِبُسْتَانٍ وُجِدَ فِيهِ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ كَمَا رَجَّحَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِخِلَافِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ سُكْنَاهَا تَصَرُّفٌ ، وَالْحُصُولُ فِي الْبُسْتَانِ لَيْسَ تَصَرُّفًا وَلَا سُكْنَى ، وَقَضِيَّةُ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّهُ إذَا كَانَ يُسْكَنُ عَادَةً يَكُونُ كَالدَّارِ ، وَلَا يُحْكَمُ لَهُ بِضَيْعَةٍ وُجِدَ فِيهَا ، كَمَا قَالَ فِي الرَّوْضَةِ يَنْبَغِي الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِهَا .
تَنْبِيهٌ : الْمُرَادُ بِكَوْنِ مَا ذُكِرَ لَهُ صَلَاحِيَةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَدَفْعِ الْمُنَازِعِ لَهُ لَا أَنَّهُ طَرِيقٌ لِلْحُكْمِ بِصِحَّةِ مِلْكِهِ ابْتِدَاءً ؛ فَلَا يَسُوغُ لِلْحَاكِمِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّهُ مِلْكُهُ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الزَّرْكَشِيُّ ( وَلَيْسَ لَهُ ) أَيْ اللَّقِيطِ ( مَالٌ مَدْفُونٌ ) وَلَوْ كَانَ ( تَحْتَهُ ) وَفِيهِ رُقْعَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا أَنَّ الدَّفِينَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَ الْعَاقِلَ لَوْ كَانَ جَالِسًا عَلَى أَرْضٍ تَحْتَهَا دَفِينٌ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِهِ ، وَحُكْمُ هَذَا الْمَالِ إنْ كَانَ مِنْ دَفِينِ الْجَاهِلِيَّةِ فَرِكَازٌ وَإِلَّا فَلُقَطَةٌ .
نَعَمْ إنْ حُكِمَ بِأَنَّ الْمَكَانَ لَهُ فَهُوَ لَهُ مَعَ الْمَكَانِ صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَلَوْ وُجِدَ خَيْطٌ مُتَّصِلٌ بِالدَّفِينِ مَرْبُوطٌ
بِبَعْضِ بَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ وَجَبَ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِهِ ، وَلَا شَكَّ فِيهِ إذَا انْضَمَّتْ الرُّقْعَةُ إلَيْهِ ( وَكَذَا ثِيَابٌ وَأَمْتِعَةٌ ) وَدَابَّةٌ ( مَوْضُوعَةٌ بِقُرْبِهِ ) لَيْسَتْ لَهُ ( فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ يَدَهُ لَا تَثْبُتُ إلَّا عَلَى مَا اتَّصَلَ بِهِ ، بِخِلَافِ الْمَوْجُودِ بِقُرْبِ الْمُكَلَّفِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِمِلْكِهِ لَهُ ؛ لِأَنَّ لَهُ رِعَايَةً .
وَالثَّانِي أَنَّهَا عَمَلًا بِالظَّاهِرِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ حُكِمَ بِأَنَّ الْمَكَانَ لَهُ كَانَ ذَلِكَ لَهُ مَعَ الْمَكَانِ كَمَا يُؤْخَذُ مِمَّا مَرَّ ، وَصَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي نُكَتِهِ وَخَرَجَ بِقُرْبِهِ الْبَعِيدَةُ عَنْهُ فَلَا تَكُونُ لَهُ جَزْمًا .
تَنْبِيهٌ : لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِضَبْطِ الْقُرْبِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ فِيهِ الْعُرْفُ ( فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ ) أَيْ اللَّقِيطِ ( مَالٌ ) عَامٌّ وَلَا خَاصٌّ ( فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ) مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ بِلَا رُجُوعٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَقِيَاسًا عَلَى الْبَالِغِ الْمُعْسِرِ بَلْ أَوْلَى .
وَالثَّانِي الْمَنْعُ بَلْ يُقْتَرَضُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ غَيْرِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ مَالٌ ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ) فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ أَوْ كَانَ وَثَمَّ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ كَسَدِّ ثَغْرٍ يَعْظُمُ ضَرَرُهُ لَوْ تُرِكَ أَوْ حَالَتْ الظُّلْمَةُ دُونَهُ اقْتَرَضَ لَهُ الْإِمَامُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي ذِمَّةِ اللَّقِيطِ كَالْمُضْطَرِّ إلَى الطَّعَامِ فَإِنْ تَعَذَّرَ الِاقْتِرَاضُ ( قَامَ الْمُسْلِمُونَ بِكِفَايَتِهِ قَرْضًا ) بِالْقَافِ بِخَطِّهِ حَتَّى يَثْبُتَ لَهُمْ الرُّجُوعُ بِمَا أَنْفَقُوا عَلَى اللَّقِيطِ وَيُقَسِّطُهَا الْإِمَامُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ وَيَجْعَلُ نَفْسَهُ مِنْهُمْ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيعَابُهُمْ لِكَثْرَتِهِمْ قَسَّطَهَا عَلَى مَنْ رَآهُ مِنْهُمْ بِاجْتِهَادِهِ ، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي
اجْتِهَادِهِ تَخَيَّرَ ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ سَيِّدٌ رَجَعُوا عَلَيْهِ أَوْ ظَهَرَ لَهُ إذَا كَانَ حُرًّا مَالٌ أَوْ اكْتَسَبَهُ فَالرُّجُوعُ عَلَيْهِ أَوْ قَرِيبٌ رُجِعَ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ نَفَقَةُ الْقَرِيبِ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَكَيْفَ يُطَالَبُ بِهَا قَرِيبُهُ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ النَّفَقَةَ وَقَعَتْ قَرْضًا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ وَالْحَاكِمُ إذَا اقْتَرَضَ النَّفَقَةَ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ ثَبَتَ الرُّجُوعُ بِهَا ، وَلَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ فِي بَابِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ وَلَا قَرِيبٌ وَلَا كَسْبٌ وَلَا لِلرَّقِيقِ سَيِّدٌ ، فَالرُّجُوعُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ أَوْ الْغَارِمِينَ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ ، وَإِنْ حَصَلَ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ قَبْلَ بُلُوغِهِ وَيَسَارِهِ قُضِيَ مِنْهُ ، وَإِنْ حَصَلَ لَهُ مَالٌ مَعَ بَيْتِ الْمَالِ مَعًا فَمِنْ مَالِهِ وَسَوَاءٌ فِيمَا ذُكِرَ اللَّقِيطُ الْمَحْكُومُ بِإِسْلَامِهِ أَمْ بِكُفْرِهِ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَإِنْ صَحَّحَ فِي الْكِفَايَةِ خِلَافَهُ تَبَعًا لِلْمَاوَرْدِيِّ ( وَفِي قَوْلٍ ) يَقُومُ الْمُسْلِمُونَ بِكِفَايَتِهِ ( نَفَقَةً ) ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ عَاجِزٌ ، وَإِنْ قَامَ بِهَا بَعْضُهُمْ انْدَفَعَ الْحَرَجُ عَنْ الْبَاقِينَ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ قَرْضًا وَنَفَقَةً مَنْصُوبَانِ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ بِالْقَرْضِ وَالنَّفَقَةِ أَوْ عَلَى التَّمْيِيزِ أَيْ مِنْ جِهَةِ الْقَرْضِ وَالنَّفَقَةِ .
وَلِلْمُلْتَقِطِ الِاسْتِقْلَالُ بِحِفْظِ مَالِهِ فِي الْأَصَحِّ وَلَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْهُ إلَّا بِإِذْنِ الْقَاضِي قَطْعًا .
( وَلِلْمُلْتَقِطِ الِاسْتِقْلَالُ بِحِفْظِ مَالِهِ ) أَيْ اللَّقِيطِ ( فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِحِفْظِ الْمَالِكِ فَمَالُهُ أَوْلَى ، وَمَحَلُّهُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ فِي الْعَدْلِ الَّذِي يَجُوزُ إيدَاعُ مَالِ الْيَتِيمِ عِنْدَهُ ، وَالثَّانِي يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْقَاضِي ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَيْسَ لَهُ مُخَاصَمَةُ مَنْ نَازَعَهُ فِيهِ إلَّا بِوِلَايَةٍ مِنْ الْحَاكِمِ ( وَلَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ مَالٍ اللَّقِيطِ ( إلَّا بِإِذْنِ الْقَاضِي ) ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمَالِ لَا تَثْبُتُ لِقَرِيبٍ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَالْأَجْنَبِيُّ أَوْلَى ، فَإِنْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ إذْنِهِ ضَمِنَ وَقَوْلُهُ ( قَطْعًا ) تَبِعَ فِيهِ الْإِمَامَ ، وَلَيْسَ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا بَلْ فِيهِمَا وَجْهٌ حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ أَنَّهُ إنْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ إذْنَ الْقَاضِي لَيْسَ شَرْطًا ، وَقَدْ حَكَى الرَّافِعِيُّ الْخِلَافَ فِي الدَّعَاوَى وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ هُنَا .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ وُجُوبِ مُرَاجَعَةِ الْحَاكِمِ إذَا وَجَدَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ أَنْفَقَ وَأَشْهَدَ وُجُوبًا ، وَقَوْلُ ابْنِ الرِّفْعَةِ " كُلَّ مَرَّةٍ فِيهِ " حَرَجٌ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ ذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ مَعَ الْإِمْكَانِ ضَمِنَ .
فَصْلٌ إذَا وُجِدَ لَقِيطٌ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَفِيهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ أَوْ بِدَارٍ فَتَحُوهَا وَأَقَرُّوهَا بِيَدِ كُفَّارٍ صُلْحًا أَوْ بَعْدَ مِلْكِهَا بِجِزْيَةٍ ، وَفِيهَا مُسْلِمٌ حُكِمَ بِإِسْلَامِ اللَّقِيطِ ، وَإِنْ وُجِدَ بِدَارِ كُفَّارٍ فَكَافِرٌ إنْ لَمْ يَسْكُنْهَا مُسْلِمٌ وَإِنْ سَكَنَهَا مُسْلِمٌ كَأَسِيرٍ وَتَاجِرٍ فَمُسْلِمٌ فِي الْأَصَحِّ .
فَصْلٌ فِي الْحُكْمِ بِإِسْلَامِ اللَّقِيطِ أَوْ كُفْرِهِ بِتَبَعِيَّةِ الدَّارِ وَغَيْرِهَا ( إذَا وُجِدَ لَقِيطٌ بِدَارِ الْإِسْلَامِ ) بِأَنْ سَكَنَهَا الْمُسْلِمُونَ ( وَ ) إنْ كَانَ ( فِيهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ ) أَوْ مُعَاهَدُونَ ؛ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ ( أَوْ ) وُجِدَ لَقِيطًا ( بِدَارٍ فَتَحُوهَا ) ؛ أَيْ الْمُسْلِمُونَ ( وَأَقَرُّوهَا ) قَبْلَ مِلْكِهَا ( بِيَدِ كُفَّارٍ صُلْحًا ) أَيْ عَلَى جِهَتِهِ ، ( أَوْ ) أَقَرَّهَا الْمُسْلِمُونَ بِيَدِ كُفَّارٍ ( بَعْدَ مِلْكِهَا ) عَنْوَةً ( بِجِزْيَةٍ ) أَوْ كَانُوا يَسْكُنُونَهَا ثُمَّ جَلَاهُمْ الْكُفَّارُ عَنْهَا ( وَفِيهَا مُسْلِمٌ ) فِي الصُّوَرِ الْأَرْبَعِ يُمْكِنُ أَنْ يُولَدَ لِلْمُسْلِمِ ذَلِكَ اللَّقِيطُ ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا مُنْتَشِرًا أَوْ تَاجِرًا أَوْ مُجْتَازًا أَوْ نَفَاهُ ( حُكِمَ بِإِسْلَامِ اللَّقِيطِ ) فِي الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ ، وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالدَّارَقُطْنِيّ { الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ } .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ وَفِيهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ لَيْسَ بِقَيْدٍ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا قَدَّرْتُهُ تَبَعًا لِلرَّوْضَةِ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ اللَّقِيطِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُسْلِمٌ ، وَلَيْسَ مُرَادًا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا قَدَّرْتُهُ أَيْضًا ، فَقَدْ قَالَ الدَّارِمِيُّ إنَّمَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ إذَا كَانَ فِي الْقَرْيَةِ مُسْلِمٌ .
أَمَّا لَوْ كَانَ جَمِيعُ مَنْ فِيهَا كُفَّارًا فَهُوَ كَافِرٌ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَيْضًا أَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ دَارَ إسْلَامٍ وَلَيْسَ مُرَادًا ، فَقَدْ صَرَّحَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ أَنَّ الْجَمِيعَ دَارُ إسْلَامٍ ، وَإِذَا وُجِدَ اللَّقِيطُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا مُشْرِكَ فِيهَا كَالْحَرَمِ ، فَهُوَ مُسْلِمٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَإِلَّا فَفِي الظَّاهِرِ ( وَإِنْ وُجِدَ ) اللَّقِيطُ ( بِدَارِ كُفَّارٍ ) وَهِيَ دَارُ الْحَرْبِ ( فَكَافِرٌ ) ذَلِكَ اللَّقِيطُ ( إنْ لَمْ يَسْكُنْهَا مُسْلِمٌ ) إذْ لَا مُسْلِمَ يُحْتَمَلُ إلْحَاقُهُ بِهِ .
ثُمَّ إنْ كَانَ أَهْلُ الْبُقْعَةِ مِلَلًا جُعِلَ مِنْ أَقْرَبِهِمْ إلَى الْإِسْلَامِ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ الْمُجْتَازَ لَا أَثَرَ لَهُ .
لَكِنْ قَالَ الْفُورَانِيُّ إذَا اجْتَازَ بِهَا مُسْلِمٌ فَهُوَ مُسْلِمٌ ، وَيُؤْخَذُ مِمَّا مَرَّ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ كَوْنُهُ مِنْهُ فَهُوَ مُسْلِمٌ ، وَإِلَّا فَلَا ( وَإِنْ سَكَنَهَا مُسْلِمٌ كَأَسِيرٍ وَتَاجِرٍ ) ، يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَلَدَهُ ( فَمُسْلِمٌ فِي الْأَصَحِّ ) تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ ، فَإِنْ أَنْكَرَهُ ذَلِكَ الْمُسْلِمُ قُبِلَ فِي نَفْيِ نَسَبِهِ دُونَ إسْلَامِهِ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ .
وَالثَّانِي كَافِرٌ تَغْلِيبًا لِلدَّارِ .
تَنْبِيهٌ : قَالَ الْإِمَامُ الْخِلَافُ فِي أَسِيرٍ يَنْتَشِرُ إلَّا أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ الْبَلَدِ .
أَمَّا الْمَحْبُوسُ فِي مَطْمُورَةٍ فَيُتَّجَهُ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ كَمَا لَا أَثَرَ لِلْمُجْتَازِ ا هـ .
وَهُوَ ظَاهِرٌ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَحْبُوسِينَ امْرَأَةٌ ، وَحَاصِلُهُ حَيْثُ أَمْكَنَ كَوْنُهُ مِنْهُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ بِهَا وَقْتَ الْعُلُوقِ .
أَمَّا لَوْ طَرَقَهَا مُسْلِمٌ ثُمَّ بَعْدَ شَهْرٍ مَثَلًا وُجِدَ بِهَا مَنْبُوذٌ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ مِنْهُ ، وَلَوْ وُجِدَ اللَّقِيطُ بِبَرِّيَّةٍ فَمُسْلِمٌ حَكَاهُ شَارِحُ التَّعْجِيزِ عَنْ جَدِّهِ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ إذَا كَانَتْ بَرِّيَّةَ دَارِنَا أَوْ بَرِّيَّةً لَا يَدَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا .
أَمَّا بَرِّيَّةُ دَارِ الْحَرْبِ لَا يَطْرُقُهَا مُسْلِمٌ فَلَا ، وَوَلَدُ الذِّمِّيَّةِ مِنْ الزِّنَا بِمُسْلِمٍ .
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ : مُسْلِمٌ ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ شَيْخِي خِلَافُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا مَقْطُوعُ النَّسَبِ عَنْهُ ، وَسَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ .
وَمَنْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ بِالدَّارِ فَأَقَامَ ذِمِّيٌّ بَيِّنَةً بِنَسَبِهِ لَحِقَهُ وَتَبِعَهُ فِي الْكُفْرِ ، وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى الدَّعْوَى فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَتْبَعُهُ فِي الْكُفْرِ ، وَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الصَّبِيِّ بِجِهَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ لَا تُفْرَضَانِ فِي لَقِيطٍ : إحْدَاهُمَا الْوِلَادَةُ ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا وَقْتَ الْعُلُوقِ فَهُوَ مُسْلِمٌ ، فَإِنْ بَلَغَ وَوَصَفَ كُفْرًا فَمُرْتَدٌّ ، وَلَوْ عُلِّقَ بَيْنَ كَافِرَيْنِ ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ، فَإِنْ بَلَغَ وَوَصَفَ كُفْرًا فَمُرْتَدٌّ ، وَفِي قَوْلٍ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ .
( وَ ) تَبَعِيَّةُ الدَّارِ ضَعِيفَةٌ وَحِينَئِذٍ ( مَنْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ بِالدَّارِ فَأَقَامَ ذِمِّيٌّ ) أَوْ مُعَاهَدٌ أَوْ مُسْتَأْمَنٌ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ ( بَيِّنَةً بِنَسَبِهِ لَحِقَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُسْلِمِ النَّسَبُ ( وَتَبِعَهُ فِي الْكُفْرِ ) وَارْتَفَعَ مَا ظَنَنَّاهُ مِنْ إسْلَامِهِ ؛ لِأَنَّ الدَّارَ حُكْمٌ بِالْيَدِ ، وَالْبَيِّنَةُ أَقْوَى مِنْ الْيَدِ الْمُجَرَّدَةِ ، هَذَا إنْ شَهِدَ عَدْلَانِ ، وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعٌ مِنْ النِّسْوَةِ ، فَفِي الْحُكْمِ بِتَبَعِيَّتِهِ فِي الْكُفْرِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الدَّارِمِيُّ ، وَكَذَا لَوْ أَلْحَقَهُ الْقَائِفُ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ الْعِلَّةِ التَّبَعِيَّةُ وَمِنْ قَوْلِهِ ( وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى الدَّعْوَى ) بِأَنَّهُ ابْنُهُ ( فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَتْبَعُهُ فِي الْكُفْرِ ) وَإِنْ لَحِقَهُ فِي النَّسَبِ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ فَلَا نُغَيِّرُهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى كَافِرٍ ، وَيَجُوزُ كَوْنُهُ وَلَدَهُ مِنْ مُسْلِمَةٍ بِوَطْءِ شُبْهَةٍ وَيُحَالُ بَيْنَهُمَا كَمَا يُحَالُ بَيْنَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ إذَا وَصَفَ الْإِسْلَامَ وَبَيْنَ أَبِيهِ .
وَسَيَأْتِي هَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ .
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي فِيهِ قَوْلَانِ ثَانِيهِمَا يَتْبَعُهُ فِي الْكُفْرِ كَالنَّسَبِ ( وَيُحْكَمُ ) أَيْضًا ( بِإِسْلَامِ الصَّبِيِّ بِجِهَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ) غَيْرِ تَبَعِيَّةِ الدَّارِ ( لَا تُفْرَضَانِ فِي اللَّقِيطِ ) وَإِنَّمَا ذُكِرَا فِي بَابِهِ اسْتِطْرَادًا ( إحْدَاهُمَا ) وَهِيَ أَقْوَاهُمَا ( الْوِلَادَةُ ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا وَقْتَ الْعُلُوقِ فَهُوَ ) أَيْ الصَّبِيُّ أَيْ الصَّغِيرُ الشَّامِلُ لِلْأُنْثَى وَالْخُنْثَى ( مُسْلِمٌ ) بِإِجْمَاعٍ وَتَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ ، وَلَا يَضُرُّ مَا يَطْرَأُ بَعْدَ الْعُلُوقِ مِنْهُمَا مِنْ رِدَّةٍ ( فَإِنْ بَلَغَ ) الصَّغِيرُ الْمُسْلِمُ بِالتَّبَعِيَّةِ لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ ( وَوَصَفَ كُفْرًا ) بِأَنْ أَعْرَبَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ ( فَمُرْتَدٌّ ) ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ( وَلَوْ عَلِقَ بَيْنَ كَافِرَيْنِ ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا ) قَبْلَ بُلُوغِهِ ( حُكِمَ
بِإِسْلَامِهِ ) حَالًا سَوَاءٌ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ وَضْعِهِ أَمْ بَعْدَهُ قَبْلَ تَمْيِيزِهِ أَمْ بَعْدَهُ وَقَبْلَ بُلُوغِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا يُوهِمُ قَصْرَهُ عَلَى الْأَبَوَيْنِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ فِي مَعْنَى الْأَبَوَيْنِ الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا وَارِثِينَ وَكَانَ الْأَقْرَبُ حَيًّا .
فَإِنْ قِيلَ إطْلَاقُ ذَلِكَ يَقْتَضِي إسْلَامَ جَمِيعِ الْأَطْفَالِ بِإِسْلَامِ أَبِيهِمْ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي جَدٍّ يُعْرَفُ النَّسَبُ إلَيْهِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ بَيْنَهُمَا التَّوَارُثُ وَبِأَنَّ التَّبَعِيَّةَ فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة حُكْمٌ جَدِيدٌ ، وَإِنَّمَا أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ ، وَالْمَجْنُونُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِكُفْرِهِ كَالصَّغِيرِ فِي تَبَعِيَّةِ أَحَدِ أُصُولِهِ فِي الْإِسْلَامِ إنْ بَلَغَ مَجْنُونًا ، وَكَذَا إنْ بَلَغَ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ فِي الْأَصَحِّ ، وَتَقَدَّمَ عَنْ ابْنِ حَزْمٍ الظَّاهِرِيِّ أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا زَنَى بِكَافِرَةٍ يَكُونُ الْوَلَدُ مُسْلِمًا يَرُدُّهُ قَوْلُهُمْ أَسْلَمَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بَيْنَ كَافِرَيْنِ الْأَصْلِيَّانِ وَالْمُرْتَدَّانِ عَلَى تَرْجِيحِهِ مِنْ أَنَّ وَلَدَ الْمُرْتَدَّيْنِ مُرْتَدٌّ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الرِّدَّةِ .
أَمَّا عَلَى تَرْجِيحِ الرَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَلَا يَدْخُلُ ذَلِكَ ( فَإِنْ بَلَغَ وَوَصَفَ ) بَعْدَ بُلُوغِهِ ( كُفْرًا فَمُرْتَدٌّ ) فِي الْأَظْهَرِ لِسَبْقِ الْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ فَأَشْبَهَ مَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ ارْتَدَّ ( وَفِي قَوْلٍ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ ) ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ وَأُزِيلَ ذَلِكَ بِالْحُكْمِ بِالتَّبَعِيَّةِ ، فَإِذَا اسْتَقَلَّ انْقَطَعَتْ فَيُعْتَبَرُ بِنَفْسِهِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ إذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَصْفُ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ
وَصَفَهُ ثُمَّ وَصَفَ الْكُفْرَ فَمُرْتَدٌّ قَطْعًا ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا تُنْقَضُ الْأَحْكَامُ الْجَارِيَةُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِرِدَّتِهِ مِنْ إرْثٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ حَتَّى لَا يَرُدَّ مَا أَخَذَهُ مِنْ تَرِكَةِ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ ، وَلَا يَأْخُذَ مِنْ تَرِكَةِ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ مَا حَرَمْنَاهُ مِنْهُ ، وَلَا يُحْكَمُ بِأَنَّ إعْتَاقَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَقَعْ مُجْزِئًا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِخِلَافِ مَا إذَا قُلْنَا : إنَّهُ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَقَبْلَ الْإِفْصَاحِ بِشَيْءٍ لَمْ يُنْقَضْ مَا حُكِمَ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ إسْلَامِهِ فِي الصِّبَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُلْنَا : إنَّهُ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ لَوْ أَقَرَّ بِالْكُفْرِ وَإِنْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِلدَّارِ فَبَلَغَ وَأَفْصَحَ بِالْكُفْرِ فَأَصْلِيٌّ لَا مُرْتَدٌّ فَيُقَرُّ عَلَى كُفْرِهِ وَيُنْقَضُ مَا أَمْضَيْنَاهُ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ مِمَّا جَرَى فِي الصِّغَرِ وَبَعْدَ الْبُلُوغِ وَقَبْلَ الْإِفْصَاحِ بِشَيْءٍ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ تَبَعِيَّةُ الدَّارِ ضَعِيفَةُ الْجِهَةِ .
الثَّانِيَةُ إذَا سَبَى مُسْلِمٌ طِفْلًا تَبِعَ السَّابِيَ فِي الْإِسْلَامِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ ، وَلَوْ سَبَاهُ ذِمِّيٌّ لَمْ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ فِي الْأَصَحِّ .
تَنْبِيهٌ : سَبَى الذِّمِّيُّ الصَّبِيَّ أَوْ الْمَجْنُونَ وَبَاعَهُ لِمُسْلِمٍ أَوْ بَاعَهُ الْمُسْلِمُ الَّذِي سَبَاهُ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ فِي جَيْشٍ وَاحِدٍ وَلَوْ دُونَ أَبَوَيْهِ مِنْ مُسْلِمٍ ( الثَّانِيَةُ إذَا سَبَى مُسْلِمٌ طِفْلًا ) أَوْ مَجْنُونًا ( تَبِعَ السَّابِيَ ) لَهُ ( فِي الْإِسْلَامِ ) فَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ( إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ وَلَيْسَ مَعَهُ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْهُ فَتَبِعَهُ كَالْأَبِ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَكَأَنَّ السَّابِيَ لَمَّا أَبْطَلَ حُرِّيَّتَهُ قَلَبَهُ قَلْبًا كُلِّيًّا ، فَعُدِمَ عَمَّا كَانَ وَافْتُتِحَ لَهُ وُجُودٌ تَحْتَ يَدِ السَّابِي وَوِلَايَةٌ فَأَشْبَهَ تَوَلُّدَهُ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ السَّابِي بَالِغًا عَاقِلًا أَمْ لَا .
أَمَّا إذَا سُبِيَ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَتْبَعُ السَّابِيَ جَزْمًا وَمَعَ كَوْنِ أَحَدِ أَبَوَيْ الطِّفْلِ مَعَهُ أَنْ يَكُونَا فِي جَيْشٍ وَاحِدٍ وَغَنِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لَا أَنَّ مَالِكَهُمَا وَاحِدٌ بَلْ يَتْبَعُ أَحَدَ أَبَوَيْهِ فِي دِينِهِ وَإِنْ اخْتَلَفَ سَابِيهِمَا ؛ لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الْأَصْلِ أَقْوَى مِنْ تَبَعِيَّةِ السَّابِي فَكَانَ أَوْلَى بِالِاسْتِتْبَاعِ ، وَلَا يُؤَثِّرُ مَوْتُ الْأَصْلِ بَعْدُ ؛ لِأَنَّ التَّبَعِيَّةَ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي ابْتِدَاءِ السَّبْيِ ( وَلَوْ سَبَاهُ ذِمِّيٌّ ) وَحَمَلَهُ كَمَا قَالَ الْبَغَوِيّ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ مُسْتَأْمَنٌ كَمَا قَالَهُ الدَّارِمِيُّ ( لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ وَلَا فِي أَوْلَادِهِ فَكَيْفَ يُؤَثِّرُ فِي مَسْبِيِّهِ ؛ وَلِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الدَّارِ إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ وَلَا نَسَبُهُ .
نَعَمْ هُوَ عَلَى دِينِ سَابِيهِ كَمَا ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَالثَّانِي يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِلدَّارِ .
تَنْبِيهٌ : اُسْتُشْكِلَ حِكَايَةُ الْمُصَنِّفِ الْخِلَافَ بِأَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا انْفَرَدَ بِأَخْذِهِ بِأَنْ سَرَقَهُ وَقُلْنَا يَخْتَصُّ بِهِ
وَلَا يُخَمَّسُ فَيَنْبَغِي الْقَطْعُ بِالْأَصَحِّ ، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ غَنِيمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَيَدُ الذِّمِّيِّ نَائِبَةٌ عَنْهُمْ ، فَيَنْبَغِي الْقَطْعُ بِإِسْلَامِهِ .
وَجَوَّزَ ابْنُ الرِّفْعَةِ جَرَيَانَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِتَعَارُضِ يَدِهِ وَحَقِّهِمْ ، وَلَوْ سَبَاهُ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ وَلَوْ سَبَى الذِّمِّيُّ الصَّبِيَّ أَوْ الْمَجْنُونَ وَبَاعَهُ لِمُسْلِمٍ ، أَوْ بَاعَهُ الْمُسْلِمُ الَّذِي سَبَاهُ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ فِي جَيْشٍ وَاحِدٍ وَلَوْ دُونَ أَبَوَيْهِ مِنْ مُسْلِمٍ لَمْ يَتْبَعْ الْمُشْتَرِيَ لِفَوَاتِ وَقْتِ التَّبَعِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَثْبُتُ ابْتِدَاءً ، وَلَوْ بَلَغَ الْمَحْكُومُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِلسَّابِي وَوَصَفَ كُفْرًا كَانَ كَالْمَحْكُومِ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَحَدِ أُصُولِهِ .
وَلَوْ جَنَى اللَّقِيطُ الْمَحْكُومُ بِإِسْلَامِهِ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ فَمُوجَبُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ ، إذْ لَيْسَ لَهُ عَاقِلَةٌ خَاصَّةٌ أَوْ عَمْدًا وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ اُقْتُصَّ مِنْهُ وَإِلَّا فَالدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ فِي مَالِهِ كَضَمَانِ مَالٍ أَتْلَفَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالٌ فَفِي ذِمَّتِهِ ، وَإِنْ قَتَلَ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحُرِّيَّةِ تُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَأَرْشُ طَرَفِهِ لَهُ ، وَإِنْ قُتِلَ عَمْدًا فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَعْفُوَ عَلَى مَالٍ لَا مَجَّانًا ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ يَقْتَصَّ لَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقَبْلَ الْإِفْصَاحِ بِالْإِسْلَامِ ، بَلْ تَجِبُ دِيَتُهُ كَمَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ وَصَوَّبَهُ فِي الْمُهِمَّاتِ ، وَيَقْتَصُّ لِنَفْسِهِ فِي الطَّرَفِ إنْ أَفْصَحَ بِالْإِسْلَامِ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَيُحْبَسُ قَاطِعُهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَهُ إلَى الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ ، وَيَأْخُذُ الْوَلِيُّ وَلَوْ حَاكِمًا لَا وَصِيًّا الْأَرْشَ لِمَجْنُونٍ فَقِيرٍ لَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِصَبِيٍّ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ ، فَلَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَأَرَادَ رَدَّ الْأَرْشِ لِيُقْتَصَّ مِنْهُ مُنِعَ .
وَلَا يَصِحُّ إسْلَامُ صَبِيٍّ مُمَيِّزٍ اسْتِقْلَالًا عَلَى الصَّحِيحِ .
وَلَمَّا فَرَغَ الْمُصَنِّفُ مِنْ إسْلَامِ التَّبَعِيَّةِ شَرَعَ فِي إسْلَامِ الْمُبَاشَرَةِ فَقَالَ ( وَلَا يَصِحُّ إسْلَامُ صَبِيٍّ مُمَيِّزٍ اسْتِقْلَالًا عَلَى الصَّحِيحِ ) الْمَنْصُوصِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْمُمَيِّزِ وَالْمَجْنُونَ وَهُمَا لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُمَا اتِّفَاقًا كَمَا سَيَأْتِي ؛ وَلِأَنَّ نُطْقَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ إمَّا خَبَرٌ وَإِمَّا إنْشَاءٌ ، فَإِنْ كَانَ خَبَرًا فَخَبَرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ ، وَإِنْ كَانَ إنْشَاءً فَهُوَ كَعُقُودِهِ وَهِيَ بَاطِلَةٌ .
وَالثَّانِي يَصِحُّ إسْلَامُهُ حَتَّى يَرِثَ مِنْ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَأَجَابَهُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ غَيْرَ مُكَلَّفٍ بِهِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ .
قَالَ الْمَرْعَشِيُّ وَهُوَ الَّذِي أَعْرِفُهُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ عَنْ قِصَّةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِأَنَّهُ كَانَ بَالِغًا عِنْدَ إسْلَامِهِ كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَلَا كَلَامَ ، وَعَلَى عَدَمِ تَقْدِيرِهِ فَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ أَنَّ الْأَحْكَامَ إنَّمَا صَارَتْ مُعَلَّقَةً بِالْبُلُوغِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ وَهُوَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ إنَّمَا أُنِيطَتْ بِخَمْسَةَ عَشَرَ عَامَ الْخَنْدَقِ ، فَقَدْ تَكُونُ مَنُوطَةً قَبْلَ ذَلِكَ بِسِنِّ التَّمْيِيزِ وَالْقِيَاسُ عَلَى الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُتَنَفَّلُ بِهِ ، وَعَلَى هَذَا يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبَوَيْهِ الْكَافِرَيْنِ لِئَلَّا يَفْتِنُوهُ ، وَهَذِهِ الْحَيْلُولَةُ مُسْتَحَبَّةٌ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ هُنَا فَيُتَلَطَّفُ بِوَالِدَيْهِ لِيُؤْخَذَ مِنْهُمَا ، فَإِنْ أَبَيَا فَلَا حَيْلُولَةَ ، وَقِيلَ إنَّهَا وَاجِبَةٌ ، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ
احْتِيَاطًا لِلْإِسْلَامِ وَلَا نَمْنَعُهُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعِبَادَاتِ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَيَدْخُلُ بِإِسْلَامِهِ الْجَنَّةَ إذَا أَسَرَّهُ كَمَا أَظْهَرَهُ ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِصِحَّةِ إسْلَامِهِ بَاطِنًا لَا ظَاهِرًا أَيْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخِرَةِ دُونَ الدُّنْيَا ، فَإِنْ بَلَغَ ثُمَّ وَصَفَ الْكُفْرَ هُدِّدَ وَطُولِبَ بِالْإِسْلَامِ ، فَإِنْ أَصَرَّ رُدَّ إلَيْهِمَا ، وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِالْمُمَيِّزِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ فَلَا يَصِحُّ إسْلَامُهُمَا قَطْعًا وَأَنَّهُ يَصِحُّ إسْلَامُ الْمُكَلَّفِ بِالنُّطْقِ لِلنَّاطِقِ ، وَالْإِشَارَةِ لِلْعَاجِزِ عَنْ النُّطْقِ قَطْعًا ، وَكَالْمُكَلَّفِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ ، وَفِي أَطْفَالِ الْكُفَّارِ إذَا مَاتُوا وَلَمْ يَتَلَفَّظُوا بِالْإِسْلَامِ خِلَافٌ مُنْتَشِرٌ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا ، فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ ، وَلَا يُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ ، وَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْآخِرَةِ لِمَا مَرَّ .
.
فَصْلٌ : إذَا لَمْ يُقِرَّ اللَّقِيطُ بِرِقٍّ فَهُوَ حُرٌّ إلَّا أَنْ يُقِيمَ أَحَدٌ بَيِّنَةً بِرِقِّهِ .
( فَصْلٌ ) : فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِرِقِّ اللَّقِيطِ وَحُرِّيَّتِهِ وَاسْتِلْحَاقِهِ ( إذَا لَمْ يُقِرَّ اللَّقِيطُ بِرِقٍّ فَهُوَ حُرٌّ ) ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي النَّاسِ الْحُرِّيَّةُ ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِيهِ الْإِجْمَاعَ ، لَكِنْ قَالَ الشَّافِعِيُّ لَوْ قَذَفَهُ قَاذِفٌ لَمْ أَحُدَّهُ حَتَّى أَسْأَلَهُ ، فَإِنْ قَالَ أَنَا حُرٌّ حَدَدْتُ قَاذِفَهُ .
وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ : لَوْ وُجِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَا مُسْلِمٌ فِيهِ وَلَا ذِمِّيَّ فَهُوَ رَقِيقٌ كَسَائِرِ صِبْيَانِهِمْ وَنِسَائِهِمْ ، وَيُحْمَلُ كَلَامُهُمْ عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ .
قَالَ : وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ انْتَهَى ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَعْنَى ، وَعَلَى هَذَا فَتُسْتَثْنَى هَاتَانِ الصُّورَتَانِ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مُضَافَتَيْنِ إلَى قَوْلِهِ ( إلَّا أَنْ يُقِيمَ أَحَدٌ بَيِّنَةً بِرِقِّهِ ) وَتَتَعَرَّضَ لِسَبَبِ الْمِلْكِ كَمَا سَيَأْتِي فَيُعْمَلَ بِهَا .
وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ لِشَخْصٍ فَصَدَّقَهُ قُبِلَ إنْ لَمْ يَسْبِقْ إقْرَارٌ بِحُرِّيَّةٍ ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَسْبِقَ تَصَرُّفٌ يَقْتَضِي نُفُوذُهُ حُرِّيَّةً كَبَيْعٍ وَنِكَاحٍ بَلْ يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي أَصْلِ الرِّقِّ وَأَحْكَامِهِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لَا الْمَاضِيَةِ الْمُضِرَّةِ بِغَيْرِهِ فِي الْأَظْهَرِ .
( وَإِنْ أَقَرَّ ) اللَّقِيطُ الْمُكَلَّفُ ( بِهِ ) أَيْ الرِّقِّ ( لِشَخْصٍ فَصَدَّقَهُ قُبِلَ إنْ لَمْ يَسْبِقْ ) مِنْهُ ( إقْرَارٌ بِحُرِّيَّةٍ ) كَسَائِرِ الْأَقَارِيرِ ، وَخَرَجَ بِصِدْقِهِ مَا لَوْ كَذَّبَهُ فَإِنَّ الرِّقَّ لَا يَثْبُتُ وَلَوْ صَدَّقَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَبِلَمْ يَسْبِقْ مَا لَوْ سَبَقَ إقْرَارُهُ بِحُرِّيَّةٍ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بَعْدَهُ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْأَحْرَارِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهَا .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ أَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ الرَّجْعَةَ ثُمَّ أَقَرَّتْ بِهَا فَإِنَّهَا تُقْبَلُ ، فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ ؟ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّ دَعْوَاهَا الرَّجْعَةَ مُسْتَنِدَةٌ إلَى أَصْلٍ وَهُوَ عَدَمُ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَجَعَلَ الشَّارِعُ الْقَوْلَ قَوْلَهَا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إثْبَاتًا وَقَدْ اعْتَرَفَتْ بِالْخِيَانَةِ ، وَإِقْرَارُ اللَّقِيطِ مُخَالِفٌ لِلْأَصْلِ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ وَقَدْ تَأَكَّدَ بِالْإِقْرَارِ بِالْحُرِّيَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ يَرِدُ عَلَى الْمُصَنِّفِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِالرِّقِّ لِزَيْدٍ فَكَذَّبَهُ فَأَقَرَّ بِهِ لِعَمْرٍو فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ وَلَوْ صَدَّقَهُ عَمْرٌو ، وَهَذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ إقْرَارٌ بِحُرِّيَّةٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّ إقْرَارَهُ الْأَوَّلَ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ ، فَإِذَا كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا لَهُ أَيْضًا فَصَارَ حُرَّ الْأَصْلِ وَالْحُرِّيَّةُ مَظِنَّةُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْعِبَادِ فَلَا سَبِيلَ إلَى إبْطَالِهَا بِالْإِقْرَارِ الثَّانِي .
تَنْبِيهٌ : سَكَتُوا عَنْ اعْتِبَارِ الرُّشْدِ هُنَا فِي الْمُقِرِّ ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ اعْتِبَارُهُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَقَارِيرِ ، فَلَا يُقْبَلُ اعْتِرَافُ الْجَوَارِي بِالرِّقِّ كَمَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِنَّ السَّفَهُ وَعَدَمُ الْمَعْرِفَةِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي غَالِبِ الْعَبِيدِ ، لَا سِيَّمَا مَنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْبُلُوغِ ( وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ) فِي
صِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالرِّقِّ ( أَنْ لَا يَسْبِقَ ) مِنْهُ ( تَصَرُّفٌ يَقْتَضِي نُفُوذُهُ ) بِمُعْجَمَةٍ بِخَطِّهِ ( حُرِّيَّةً كَبَيْعٍ وَنِكَاحٍ ) وَغَيْرِهِمَا ، ( بَلْ ) بَعْدَ التَّصَرُّفِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَذْكُورَاتِ ( يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي أَصْلِ الرِّقِّ وَ ) فِي ( أَحْكَامِهِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ) مُطْلَقًا فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ .
أَمَّا فِيمَا لَهُ فَقِيَاسًا عَلَى إقْرَارِ الْمَرْأَةِ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ عَلَى الْجَدِيدِ وَإِنْ تَضَمَّنَ ثُبُوتَ حَقٍّ لَهَا .
وَأَمَّا فِيمَا عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحَقٍّ عَلَيْهِ فَيُؤَاخَذُ بِهِ كَسَائِرِ الْأَقَارِيرِ ، وَفِي قَوْلٍ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِي لَا يُقْبَلُ فَتَبْقَى أَحْكَامُ الْحُرِّيَّةِ ( لَا ) الْأَحْكَامُ ( الْمَاضِيَةُ الْمُضِرَّةُ بِغَيْرِهِ ) ؛ فَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا ( فِي الْأَظْهَرِ ) كَمَا لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ عَلَى الْغَيْرِ بِدَيْنٍ وَنَحْوِهِ .
وَالثَّانِي يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَيَصِيرُ كَقِيَامِ الْبَيِّنَةِ .
فَلَوْ لَزِمَهُ دَيْنٌ فَأَقَرَّ بِرِقٍّ وَفِي يَدِهِ مَالٌ قُضِيَ مِنْهُ .
وَفَرَّعَ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْأَظْهَرِ قَوْلَهُ ( فَلَوْ لَزِمَهُ ) أَيْ اللَّقِيطَ ( دَيْنٌ فَأَقَرَّ بِرِقٍّ ) أَوْ ادَّعَى شَخْصٌ رِقَّهُ ( وَفِي يَدِهِ مَالٌ قُضِيَ ) الدَّيْنُ ( مِنْهُ ) وَلَا يُجْعَلُ لِلْمُقَرِّ لَهُ إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ الدَّيْنِ ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ اُتُّبِعَ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَلَا يُقْضَى مِنْهُ عَلَى الثَّانِي ، بَلْ الْمَالُ لِلْمُقَرِّ لَهُ وَيَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمُقِرِّ .
أَمَّا الْأَحْكَامُ الْمَاضِيَةُ الْمُضِرَّةُ بِهِ فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا جَزْمًا .
تَنْبِيهٌ : لَوْ نَكَحَ ثُمَّ أَقَرَّ بِالرِّقِّ فَإِنْ كَانَ أُنْثَى لَمْ يَنْفَسِخْ النِّكَاحُ بَلْ يَسْتَمِرُّ وَيَصِيرُ كَالْمُسْتَوْفَى الْمَقْبُوضِ ؛ لِأَنَّ انْفِسَاخَهُ يَضُرُّ الزَّوْجَ فِيمَا مَضَى سَوَاءٌ أَكَانَ الزَّوْجُ مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ أَمْ لَا كَالْحُرِّ إذَا وَجَدَ الطَّوْلَ بَعْدَ نِكَاحِ الْأَمَةِ ، لَكِنْ لِلزَّوْجِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ إنْ شُرِطَتْ الْحُرِّيَّةُ فِيهِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ ، فَإِنْ فَسَخَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا لَزِمَهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمَهْرِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ مِنْهُمَا يَضُرُّ الزَّوْجَ ، وَإِنْ أَجَازَ لَزِمَهُ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي لَزِمَهُ بِزَعَمِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ سَلَّمَهُ إلَيْهَا أَجْزَأَهُ ، فَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ يَزْعُمُ فَسَادَ النِّكَاحِ وَتُسَلَّمُ إلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمَ الْحَرَائِرِ ، وَيُسَافِرُ بِهَا زَوْجُهَا بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا ، وَأَوْلَادُهَا قَبْلَ إقْرَارِهَا بِالرِّقِّ أَحْرَارٌ لِظَنِّهِ حُرِّيَّتَهَا وَلَا يَلْزَمُ قِيمَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي إلْزَامِهِ ، وَبَعْدَهُ أَرِقَّاءُ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا عَالِمًا بِرِقِّهَا ، وَيُلْغَزُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيُقَالُ لَنَا : حُرٌّ تَزَوَّجَ حُرَّةً فَأَوْلَدَهَا حُرًّا ثُمَّ رَقِيقًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ ، وَإِذَا طَلُقَتْ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ ؛ لِأَنَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ حَقُّ الزَّوْجِ ، وَلَهُ الرَّجْعَةُ فِيهَا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ ، وَتَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ كَالْأَمَةِ لِعَدَمِ تَضَرُّرِ الزَّوْجِ بِنُقْصَانِ الْعِدَّةِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ بِالرِّقِّ ذَكَرًا انْفَسَخَ نِكَاحُهُ ، إذْ لَا ضَرَرَ عَلَى الزَّوْجَةِ وَلَزِمَهُ الْمُسَمَّى إنْ دَخَلَ بِهَا ، وَنِصْفُهُ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ ذَلِكَ يَضُرُّهَا ، وَحِينَئِذٍ يُؤَدِّيهِ مِمَّا فِي يَدِهِ أَوْ مِنْ كَسْبِهِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ بَقِيَ فِي ذِمَّتِهِ إلَى أَنْ يَعْتِقَ ، وَلَوْ جَنَى عَلَى غَيْرِهِ عَمْدًا ثُمَّ أَقَرَّ بِالرِّقِّ اُقْتُصَّ
مِنْهُ حُرًّا كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوْ رَقِيقًا ، وَإِنْ جَنَى خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ قَضَى الْأَرْشَ مِمَّا بِيَدِهِ .
فَإِنْ قِيلَ الْأَرْشُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا فِي يَدِ الْجَانِي حُرًّا كَانَ أَوْ رَقِيقًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ الرِّقَّ لَمَّا أَوْجَبَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ اقْتَضَى التَّعَلُّقَ بِمَا فِي يَدِهِ كَالْحُرِّ إذَا حُجِرَ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ تَعَلَّقَ الْأَرْشُ بِرَقَبَتِهِ ، وَإِنْ أَقَرَّ بِالرِّقِّ بَعْدَمَا قُطِعَتْ يَدُهُ مَثَلًا عَمْدًا اُقْتُصَّ مِنْ الرَّقِيقِ دُونَ الْحُرِّ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ فِيمَا يَضُرُّهُ أَوْ بَعْدَمَا قُطِعَتْ خَطَأً وَجَبَ الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفَيْ الْقِيمَةِ وَالدِّيَةِ لِأَنَّ قَبُولَ قَوْلِهِ فِي الزَّائِدِ يَضُرُّ بِالْجَانِي .