كتاب : مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
المؤلف : محمد بن أحمد الخطيب الشربيني
عَنْهُ الْهَوَامَّ ( وَيُلَفُّ عَلَيْهِ ) بَعْدَ ذَلِكَ ( اللَّفَائِفُ ) بِأَنْ يُثْنِيَ الطَّرَفَ الْأَيْسَرَ ثُمَّ الْأَيْمَنَ كَمَا يَفْعَلُ الْحَيُّ بِالْقَبَاءِ ، وَيَجْمَعَ الْفَاضِلَ عِنْدَ رَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ ، وَيَكُونُ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِهِ أَكْثَرَ ( وَتُشَدُّ ) عَلَيْهِ اللَّفَائِفُ بِشِدَادٍ لِئَلَّا تَنْتَشِرَ عِنْدَ الْحَمْلِ إلَّا إنْ كَانَ مُحْرِمًا كَمَا فِي تَحْرِيرِ الْجُرْجَانِيِّ ؛ لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِعَقْدِ الْإِزَارِ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَلَا أَنْ يُكْرَى لِلْمَيِّتِ مِنْ الثِّيَابِ مَا فِيهِ زِينَةٌ كَمَا فِي فَتَاوَى ابْنِ الصَّلَاحِ ( فَإِذَا وُضِعَ ) الْمَيِّتُ ( فِي قَبْرِهِ نُزِعَ الشِّدَادُ ) لِزَوَالِ الْمُقْتَضِي ؛ لِأَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ فِي الْقَبْرِ شَيْءٌ مَعْقُودٌ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ ( وَلَا يُلْبَسُ الْمُحْرِمُ الذَّكَرُ مَخِيطًا ) وَلَا مَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ لُبْسُهُ ( وَلَا يُسْتَرُ رَأْسُهُ وَلَا وَجْهُ الْمُحْرِمَةِ ) أَيْ يَحْرُمُ ذَلِكَ إبْقَاءً لِأَثَرِ الْإِحْرَامِ ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ ، أَمَّا بَعْدَهُ فَلَا .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَلَوْ نُبِشَ الْقَبْرُ وَأُخِذَ كَفَنُهُ فَفِي التَّتِمَّةِ يَجِبُ تَكْفِينُهُ ثَانِيًا سَوَاءٌ أَكَانَ كُفِّنَ مِنْ مَالِهِ أَمْ مِنْ مَالِ مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ أَمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى الْحَاجَةُ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ ، وَفِي الْحَاوِي إذَا كُفِّنَ مِنْ مَالِهِ وَقُسِّمَتْ التَّرِكَةُ ثُمَّ سُرِقَ كَفَنُهُ اُسْتُحِبَّ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُكَفِّنُوهُ ثَانِيًا وَلَا يَلْزَمُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُمْ ثَانِيًا لَلَزِمَهُمْ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى ا هـ .
وَهَذَا أَوْجَهُ وَلَا يُسَنُّ أَنْ يُعِدَّ لِنَفْسِهِ كَفَنًا لِئَلَّا يُحَاسَبَ عَلَى اتِّخَاذِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ حِلٍّ أَوْ أَثَرِ ذِي صَلَاحٍ فَحَسَنٌ ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِعْلُهُ ، لَكِنْ لَا يَجِبُ تَكْفِينُهُ فِيهِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ .
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ
: إنَّهُ الْمُتَّجَهُ ، بَلْ لِلْوَارِثِ إبْدَالُهُ وَإِنْ اقْتَضَى كَلَامُ الرَّافِعِيِّ الْمَنْعَ ، وَلَا يُكْرَهُ أَنْ يُعِدَّ لِنَفْسِهِ قَبْرًا يُدْفَنُ فِيهِ .
قَالَ الْعَبَّادِيُّ : وَلَا يَصِيرُ أَحَقَّ بِهِ مَا دَامَ حَيًّا .
.
وَحَمْلُ الْجِنَازَةِ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ التَّرْبِيعِ فِي الْأَصَحِّ ، وَهُوَ أَنْ يَضَعَ الْخَشَبَتَيْنِ الْمُقَدَّمَتَيْنِ عَلَى عَاتِقِهِ وَرَأْسَهُ بَيْنَهُمَا ، وَيَحْمِلُ الْمُؤَخَّرَتَيْنِ رَجُلَانِ ، وَالتَّرْبِيعُ أَنْ يَتَقَدَّمَ رَجُلَانِ وَيَتَأَخَّرَ آخَرَانِ ، وَالْمَشْيُ أَمَامَهَا بِقُرْبِهَا أَفْضَلُ ، وَيُسْرَعُ بِهَا إنْ لَمْ يُخَفْ تَغَيُّرُهُ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي كَيْفِيَّةِ حَمْلِ الْمَيِّتِ وَلَيْسَ فِي حَمْلِهِ دَنَاءَةٌ وَلَا سُقُوطُ مُرُوءَةٍ بَلْ هُوَ بِرٌّ وَإِكْرَامٌ لِلْمَيِّتِ فَقَدْ فَعَلَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَقَالَ ( وَحَمْلُ الْجِنَازَةِ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ التَّرْبِيعِ فِي الْأَصَحِّ ) لِحَمْلِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَحَمْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ رَوَاهُمَا الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ الْأَوَّلُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَالثَّانِي بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ ، وَالثَّانِي التَّرْبِيعُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُ أَصْوَنُ لِلْمَيِّتِ ، بَلْ حُكِيَ وُجُوبُهُ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ إزْرَاءٌ بِالْمَيِّتِ ، وَالثَّالِثُ هُمَا سَوَاءٌ لِحُصُولِ الْمَقْصُود بِكُلٍّ مِنْهُمَا ، هَذَا إذَا أَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَى كَيْفِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُحْمَلَ تَارَّةً بِهَيْئَةِ الْحَمْلِ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ ، وَتَارَةً بِهَيْئَةِ التَّرْبِيعِ ، ثُمَّ بَيَّنَ حَمْلَهَا بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ بِقَوْلِهِ ( وَهُوَ أَنْ يَضَعَ الْخَشَبَتَيْنِ الْمُقَدَّمَتَيْنِ ) أَيْ الْعَمُودَيْنِ ( عَلَى عَاتِقِهِ ) وَهُوَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ ، وَقِيلَ مُؤَنَّثٌ ( وَرَأْسَهُ بَيْنَهُمَا ، وَيَحْمِلُ ) الْخَشَبَتَيْنِ ( الْمُؤَخَّرَتَيْنِ رَجُلَانِ ) أَحَدُهُمَا مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ وَالْآخَرُ مِنْ الْأَيْسَرِ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُؤَخَّرَتَانِ لِرَجُلَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَوْ تَوَسَّطَهُمَا كَانَ وَجْهُهُ إلَى الْمَيِّتِ فَلَا يَنْظُرُ إلَى الطَّرِيقِ وَإِنْ وُضِعَ الْمَيِّتُ عَلَى رَأْسِهِ لَمْ يَكُنْ حَامِلًا بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ وَيُؤَدِّي إلَى ارْتِفَاعِ مُؤَخِّرَةِ النَّعْشِ وَتَنَكُّسِ الْمَيِّتِ عَلَى رَأْسِهِ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْحَمْلِ أَعَانَهُ اثْنَانِ بِالْعَمُودَيْنِ وَيَأْخُذُ اثْنَانِ بِالْمُؤَخَّرَتَيْنِ فِي حَالَتَيْ الْعَجْزِ وَعَدَمِهِ ، فَحَامِلُوهُ بِلَا عَجْزٍ ثَلَاثَةٌ وَبِهِ خَمْسَةٌ فَإِنْ عَجَزُوا فَسَبْعَةٌ أَوْ أَكْثَرُ وِتْرًا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ أَخْذًا مِنْ كَلَامِهِمْ ، ثُمَّ بَيَّنَ حَمْلَهَا عَلَى هَيْئَةِ
التَّرْبِيعِ فَقَالَ ( وَالتَّرْبِيعُ أَنْ يَتَقَدَّمَ رَجُلَانِ ) يَضَعُ أَحَدُهُمَا الْعَمُودَ الْأَيْمَنَ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ وَالْآخَرُ عَكْسُهُ ( وَيَتَأَخَّرَ آخَرَانِ ) يَحْمِلَانِ كَذَلِكَ فَيَكُونُ الْحَامِلُونَ أَرْبَعَةً ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ الْكَيْفِيَّةُ بِالتَّرْبِيعِ ، فَإِنْ عَجَزَ الْأَرْبَعَةُ عَنْهَا حَمَلَهَا سِتَّةٌ أَوْ ثَمَانِيَةٌ وَمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ يَحْمِلُ مِنْ جَوَانِبِ السَّرِيرِ أَوْ يُزَادُ أَعْمِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ تَحْتَ الْجِنَازَةِ كَمَا فُعِلَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ كَانَ جَسِيمًا .
وَأَمَّا الصَّغِيرُ فَإِنْ حَمَلَهُ وَاحِدٌ جَازَ إذْ لَا إزْرَاءَ فِيهِ .
وَمَنْ أَرَادَ التَّبَرُّكَ بِالْحَمْلِ بِالْهَيْئَةِ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ بَدَأَ بِحَمْلِ الْعَمُودَيْنِ مِنْ مُقَدَّمِهَا عَلَى كَتِفَيْهِ ، ثُمَّ بِالْأَيْسَرِ مِنْ مُؤَخَّرِهَا ثُمَّ يَتَقَدَّمُ لِئَلَّا يَمْشِيَ خَلْفَهَا فَيَأْخُذَ الْأَيْمَنَ الْمُؤَخَّرَ ، أَوْ بِهَيْئَةِ التَّرْبِيعِ بَدَأَ بِالْعَمُودِ الْأَيْسَرِ مِنْ مُقَدَّمِهَا عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ الْأَيْسَرِ مِنْ مُؤَخَّرِهَا كَذَلِكَ ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ لِئَلَّا يَمْشِيَ خَلْفَهَا فَيَبْدَأَ بِالْأَيْمَنِ مِنْ مُقَدَّمِهَا عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ ثُمَّ مِنْ مُؤَخَّرِهَا كَذَلِكَ أَوْ بِالْهَيْئَتَيْنِ فِيمَا أَتَى بِهِ فِي الثَّانِيَةِ وَيَحْمِلُ الْمُقَدَّمُ عَلَى كَتِفَيْهِ مُؤَخَّرًا أَوْ مُقَدَّمًا كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُهُمْ ( وَالْمَشْيُ ) لِلْمُشَيِّعِ لَهَا وَكَوْنُهُ ( أَمَامَهَا ) أَفْضَلُ لِلِاتِّبَاعِ ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ؛ وَلِأَنَّهُ شَفِيعٌ وَحَقُّ الشَّفِيعِ أَنْ يَتَقَدَّمَ .
وَأَمَّا خَبَرُ { امْشُوا خَلْفَ الْجِنَازَةِ } فَضَعِيفٌ وَكَوْنُهُ ( بِقُرْبِهَا ) وَهُوَ مِنْ زِيَادَتِهِ عَلَى الْمُحَرَّرِ بِحَيْثُ يَرَاهَا إذَا الْتَفَتَ إلَيْهَا ( أَفْضَلُ ) مِنْهُ بَعِيدًا بِأَنْ لَا يَرَاهَا لِكَثْرَةِ الْمَاشِينَ مَعَهَا .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : فَإِنْ بَعُدَ عَنْهَا فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُنْسَبُ إلَيْهَا بِأَنْ يَكُونَ التَّابِعُونَ كَثِيرِينَ حَصَلَتْ الْفَضِيلَةُ وَإِلَّا فَلَا ، وَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي
أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي اسْتِحْبَابِ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ بَيْنَ الرَّاكِبِ وَالْمَاشِي ، وَهُوَ مَا صَرَّحَا بِهِ فِي الشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ وَنَسَبَهُ فِي الْمَجْمُوعِ إلَى الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ ، وَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي شَرْحِ الْمُسْنَدِ مِنْ أَنَّ الرَّاكِبَ يَكُونُ خَلْفَهَا بِالِاتِّفَاقِ تَبِعَ فِيهِ الْخَطَّابِيَّ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَهُوَ خَطَأٌ وَلَوْ مَشَى خَلْفَهَا حَصَلَ لَهُ فَضِيلَةُ أَصْلِ الْمُتَابَعَةِ وَفَاتَهُ كَمَالُهَا ، وَلَوْ تَقَدَّمَ إلَى الْمَقْبَرَةِ لَمْ يُكْرَهْ ، ثُمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَامَ حَتَّى تُوضَعُ الْجِنَازَةُ وَإِنْ شَاءَ قَعَدَ ، وَيُكْرَهُ رُكُوبُهُ فِي ذَهَابِهِ مَعَهَا لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نَاسًا رُكَّابًا فِي جِنَازَةٍ فَقَالَ : أَلَا تَسْتَحْيُونَ إنَّ مَلَائِكَةَ اللَّهِ عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَأَنْتُمْ عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ } هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ .
أَمَّا مَنْ بِهِ عُذْرٌ كَمَرَضٍ فَلَا ، وَلَا كَرَاهَةَ فِي الرُّكُوبِ فِي الْعَوْدِ ( وَيُسْرَعُ بِهَا ) نَدْبًا لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا عَلَيْهِ وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ } هَذَا ( إنْ لَمْ يُخَفْ تَغَيُّرُهُ ) أَيْ الْمَيِّتِ بِالْإِسْرَاعِ وَإِلَّا فَيُتَأَنَّى بِهِ ، وَالْإِسْرَاعُ فَوْقَ الْمَشْيِ الْمُعْتَادِ وَدُونَ الْخَبَبِ لِئَلَّا تَنْقَطِعَ الضُّعَفَاءُ ، فَإِنْ خِيفَ تَغَيُّرُهُ بِالتَّأَنِّي زِيدَ فِي الْإِسْرَاعِ ، وَيُكْرَهُ الْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ إذَا مَرَّتْ بِهِ وَلَمْ يُرِدْ الذَّهَابَ مَعَهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي خِلَافًا لِمَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُتَوَلِّي مِنْ الِاسْتِحْبَابِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ .
قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ : يُسْتَحَبُّ لِمَنْ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ أَنْ يَدْعُوَ لَهَا وَيُثْنِيَ عَلَيْهَا إنْ كَانَتْ أَهْلًا لِذَلِكَ ، وَأَنْ يَقُولَ : سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ، سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ رَأَى جِنَازَةً فَقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، هَذَا مَا وَعَدَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، اللَّهُمَّ زِدْنَا إيمَانًا وَتَسْلِيمًا كُتِبَ لَهُ عِشْرُونَ حَسَنَةً } .
.
فَصْلٌ لِصَلَاتِهِ أَرْكَانٌ : أَحَدُهَا النِّيَّةُ ، وَوَقْتُهَا كَغَيْرِهَا ، وَتَكْفِي نِيَّةُ الْفَرْضِ ، وَقِيلَ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ فَرْضِ كِفَايَةٍ ، وَلَا يَجِبُ تَعْيِينُ الْمَيِّتِ ، فَإِنْ عَيَّنَ وَأَخْطَأَ بَطَلَتْ ، وَإِنْ حَضَرَ مَوْتَى نَوَاهُمْ .
الثَّانِي : أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ ، فَإِنْ خَمَّسَ لَمْ تَبْطُلْ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَوْ خَمَّسَ إمَامُهُ لَمْ يُتَابِعْهُ فِي الْأَصَحِّ ، بَلْ يُسَلِّمُ أَوْ يَنْتَظِرُهُ لِيُسَلِّمَ مَعَهُ ، الثَّالِثُ : السَّلَامُ كَغَيْرِهَا .
الرَّابِعُ : قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ بَعْدَ الْأُولَى .
قُلْتُ : تُجْزِئُ الْفَاتِحَةُ بَعْدَ غَيْرِ الْأُولَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، الْخَامِسُ : الصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الثَّانِيَةِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْآلِ لَا تَجِبُ ، السَّادِسُ : الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ بَعْدَ الثَّالِثَةِ .
السَّابِعُ : الْقِيَامُ عَلَى الْمَذْهَبِ إنْ قَدَرَ ، وَيُسَنُّ رَفْعُ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَاتِ وَإِسْرَارُ الْقِرَاءَةِ ، وَقِيلَ يَجْهَرُ لَيْلًا ، وَالْأَصَحُّ نَدْبُ التَّعَوُّذِ دُونَ الِافْتِتَاحِ ، وَيَقُولُ فِي الثَّالِثَةِ : اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ إلَى آخِرِهِ ، وَيُقَدِّمُ عَلَيْهِ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا : اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ ، وَيَقُولُ فِي الطِّفْلِ مَعَ هَذَا الثَّانِي : اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ فَرَطًا لِأَبَوَيْهِ وَسَلَفًا وَذُخْرًا وَعِظَةً وَاعْتِبَارًا وَشَفِيعًا ، وَثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا ، وَأَفْرِغْ الصَّبْرَ عَلَى قُلُوبِهِمَا ، وَيَقُولُ فِي الرَّابِعَةُ ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ ، وَلَوْ تَخَلَّفَ الْمُقْتَدِي بِلَا عُذْرٍ فَلَمْ يُكَبِّرْ حَتَّى كَبَّرَ إمَامُهُ أُخْرَى بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، وَيُكَبِّرُ الْمَسْبُوقُ وَيَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ فِي غَيْرِهَا ، وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ أُخْرَى قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي
الْفَاتِحَةِ كَبَّرَ مَعَهُ وَسَقَطَتْ الْقِرَاءَةُ ، وَإِنْ كَبَّرَهَا وَهُوَ فِي الْفَاتِحَةِ تَرَكَهَا وَتَابَعَهُ فِي الْأَصَحِّ ، وَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ تَدَارَكَ الْمَسْبُوقُ بَاقِي التَّكْبِيرَاتِ بِأَذْكَارِهَا وَفِي قَوْلٍ لَا تُشْتَرَطُ الْأَذْكَارُ .
[ فَصْلٌ ] فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ غَيْرِ الشَّهِيدِ ، وَهِيَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا قَالَهُ الْفَاكِهَانِيُّ الْمَالِكِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ .
قَالَ : وَكَذَا الْإِيصَاءُ بِالثُّلُثِ ( لِصَلَاتِهِ أَرْكَانٌ ) سَبْعَةٌ ( أَحَدُهَا النِّيَّةُ ) كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ ( وَوَقْتُهَا كَغَيْرِهَا ) أَيْ كَوَقْتِ نِيَّةِ غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ فِي وُجُوبِ قَرْنِ النِّيَّةِ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ( وَتَكْفِي ) فِيهَا ( نِيَّةُ ) مُطْلَقِ ( الْفَرْضِ ) مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْكِفَايَةِ كَمَا تَكْفِي النِّيَّةُ فِي إحْدَى الْخَمْسِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِفَرْضِ الْعَيْنِ ( وَقِيلَ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ فَرْضِ كِفَايَةٍ ) لِيَتَمَيَّزَ عَنْ فَرْضِ الْعَيْنِ ، وَلَعَلَّ هَذَا الْوَجْهَ فِيمَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ التَّعْلِيلِ ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ نِيَّةَ الْفَرْضِيَّةِ لَا بُدَّ مِنْهَا كَمَا فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَفِي الْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ ( وَلَا يَجِبُ تَعْيِينُ الْمَيِّتِ ) الْحَاضِرِ بِاسْمِهِ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَلَا مَعْرِفَتِهِ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ .
وَأَمَّا تَعْيِينُهُ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ كَأُصَلِّي عَلَى هَذَا ، أَوْ الْحَاضِرِ ، أَوْ عَلَى مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ الْإِمَامُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ .
أَمَّا الْغَائِبُ فَيَجِبُ تَعْيِينُهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِالْقَلْبِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عُجَيْلٍ الْيَمَنِيُّ وَعُزِيَ إلَى الْبَسِيطِ ( فَإِنْ عَيَّنَ ) الْمَيِّتَ الْحَاضِرَ أَوْ الْغَائِبَ كَأَنْ صَلَّى عَلَى زَيْدٍ أَوْ الْكَبِيرِ أَوْ الذَّكَرِ مِنْ أَوْلَادِهِ ( وَأَخْطَأَ ) فَبَانَ عَمْرًا أَوْ الصَّغِيرَ أَوْ الْأُنْثَى ( بَطَلَتْ ) أَيْ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ إذَا لَمْ يُشِرْ إلَى الْمُعَيَّنِ ، فَإِنْ أَشَارَ إلَيْهِ صَحَّتْ فِي الْأَصَحِّ كَمَا فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ تَغْلِيبًا لِلْإِشَارَةِ ( وَإِنْ حَضَرَ مَوْتَى نَوَاهُمْ ) أَيْ نَوَى الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ عَدَدَهُمْ .
قَالَ الرُّويَانِيُّ :
فَلَوْ صَلَّى عَلَى بَعْضِهِمْ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ ، ثُمَّ صَلَّى عَلَى الْبَاقِي كَذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ .
قَالَ : وَلَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُمْ عَشَرَةٌ فَبَانُوا أَحَدَ عَشَرَ أَعَادَ الصَّلَاةَ عَلَى الْجَمِيع ؛ لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ وَهُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ ، وَلَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُمْ أَحَدَ عَشَرَ فَبَانُوا عَشَرَةً فَالْأَظْهَرُ الصِّحَّةُ .
وَلَوْ أَحْرَمَ الْإِمَامُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ ثُمَّ حَضَرَتْ أُخْرَى وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ تُرِكَتْ حَتَّى يَفْرُغَ ثُمَّ يُصَلِّيَ عَلَى الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِهَا أَوَّلًا ، ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَلَوْ صَلَّى عَلَى حَيٍّ وَمَيِّتٍ صَحَّتْ عَلَى الْمَيِّتِ إنْ جَهِلَ الْحَالَ وَإِلَّا فَلَا ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ ، وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ كَمَا سَيَأْتِي ( الثَّانِي ) مِنْ الْأَرْكَانِ ( أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ ) بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ لِلِاتِّبَاعِ ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ .
وَبِالْإِجْمَاعِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ( فَإِنْ خَمَّسَ ) عَمْدًا ( لَمْ تَبْطُلْ ) صَلَاتُهُ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِثُبُوتِهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، لَكِنْ الْأَرْبَعُ أَوْلَى لِتَقَرُّرِ الْأَمْرِ عَلَيْهَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ ؛ وَلِأَنَّهَا ذِكْرٌ وَزِيَادَةُ الذِّكْرِ لَا تَضُرُّ ، وَالثَّانِي تَبْطُلُ كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ أَوْ رُكْنٍ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، وَأَجْرَى جَمَاعَةٌ الْخِلَافَ فِي الزَّائِدِ عَلَى الْأَرْبَعِ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ لِمَا مَرَّ مِنْ التَّعْلِيلِ ، وَتَشْبِيهُ التَّكْبِيرَةِ بِالرَّكْعَةِ فِيمَا يَأْتِي مَحَلُّهُ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ فِي الْمُتَابَعَةِ فَقَطْ لِتَأَكُّدِهَا .
نَعَمْ لَوْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ عَمْدًا مُعْتَقِدًا بِهِ الْبُطْلَانَ بَطَلَتْ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَذْرَعِيُّ .
أَمَّا إذَا كَانَ سَاهِيًا فَلَا تَبْطُلُ جَزْمًا ، وَلَا سُجُودَ لِسَهْوٍ فِيهَا ، إذْ لَا مَدْخَلَ لِلسُّجُودِ فِيهَا ( وَلَوْ خَمَّسَ ) أَيْ كَبَّرَ ( إمَامُهُ ) فِي صَلَاةٍ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ ، وَقُلْنَا لَا تَبْطُلُ ( لَمْ يُتَابِعْهُ ) الْمَأْمُومُ أَيْ
لَا تُسَنُّ لَهُ مُتَابَعَتُهُ فِي الزَّائِدِ ( فِي الْأَصَحِّ ) وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالْأَظْهَرِ ، وَفِي الْمَجْمُوعِ بِالْمَذْهَبِ لِعَدَمِ سَنِّهِ لِلْإِمَامِ ( بَلْ يُسَلِّمُ أَوْ يَنْتَظِرُهُ لِيُسَلِّمَ مَعَهُ ) وَهُوَ أَوْلَى لِتَأَكُّدِ الْمُتَابَعَةِ ، وَالثَّانِي يُتَابِعُهُ لِمَا ذَكَرَ ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْبُطْلَانِ فَارَقَهُ جَزْمًا ، وَمَا قَرَّرْتُ بِهِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ هُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ السُّبْكِيُّ وَهُوَ الظَّاهِرُ ، وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ : الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي الْوُجُوبِ لِأَجْلِ الْمُتَابَعَةِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فِي الِاسْتِحْبَابِ وَقَوْلُ الزَّرْكَشِيّ الصَّوَابُ أَنَّهُ فِي الْجَوَازِ قَالَ شَيْخُنَا مَمْنُوعٌ ( الثَّالِثُ ) مِنْ الْأَرْكَانِ ( السَّلَامُ ) بَعْدَ التَّكْبِيرَاتِ وَهُوَ فِيهَا ( كَغَيْرِهَا ) أَيْ كَسَلَامِ غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ فِي كَيْفِيَّتِهِ وَتَعَدُّدِهِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ سَنِّ زِيَادَةِ وَبَرَكَاتُهُ ، وَهُوَ كَذَلِكَ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ : يُسَنُّ ذَلِكَ وَأَنَّهُ يَلْتَفِتُ فِي السَّلَامِ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَة يَجْعَلُهَا تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَإِنْ قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ إنَّهُ الْأَشْهَرُ ( الرَّابِعُ ) مِنْ الْأَرْكَانِ ( قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ ) كَغَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ ، وَلِعُمُومِ خَبَرِ { لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } وَلِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ " قَرَأَ بِهَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ، وَقَالَ : لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ " وَفِي رِوَايَةٍ " قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَجَهَرَ بِهَا ، وَقَالَ : إنَّمَا جَهَرْتُ بِهَا لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ " وَمَحَلُّهَا ( بَعْدَ ) التَّكْبِيرَةِ ( الْأُولَى ) وَقَبْلَ الثَّانِيَةِ لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَصَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التِّبْيَانِ .
( قُلْتُ : تُجْزِئُ الْفَاتِحَةُ بَعْدَ غَيْرِ الْأُولَى ) مِنْ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) وَهَذَا مَا جَزَمَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَفِي الْمَجْمُوعِ يَجُوزُ أَنْ
يَجْمَعَ فِي التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الثَّالِثَةِ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ ، وَيَجُوزُ إخْلَاءُ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى مِنْ الْقِرَاءَةِ ا هـ .
وَلَا يُشْتَرَطُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْفَاتِحَةِ وَبَيْنَ الرُّكْنِ الَّذِي قُرِئَتْ الْفَاتِحَةُ فِيهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَ بَعْضَهَا فِي رُكْنٍ وَبَعْضَهَا آخَرَ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْمَجْمُوعِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْخَصْلَةَ لَمْ تَثْبُتْ ، وَكَالْفَاتِحَةِ فِيمَا ذُكِرَ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهَا بَدَلُهَا ( الْخَامِسُ ) مِنْ الْأَرْكَانِ ( الصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) لِلِاتِّبَاعِ كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَمَحَلُّهَا ( بَعْدَ ) التَّكْبِيرَةِ ( الثَّانِيَةِ ) وَقَبْلَ الثَّالِثَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ نَقْلًا عَنْ تَصْرِيحِ السَّرَخْسِيِّ لِفِعْلِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فَلَا يُجْزِئُ فِي غَيْرِهَا ، وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الْفَاتِحَةَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْأُولَى .
وَأَقَلُّهَا : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ ( وَالصَّحِيحُ ) وَبِهِ قَطَعَ فِي الْمَجْمُوعِ ( أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْآلِ لَا تَجِبُ ) فِيهَا كَغَيْرِهَا وَأَوْلَى لِبِنَائِهَا عَلَى التَّخْفِيفِ ، بَلْ تُسَنُّ كَالدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ عَقِبَهَا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَجِبُ تَرْتِيبٌ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالْحَمْدِ لَكِنَّهُ أَوْلَى كَمَا فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ .
( السَّادِسُ ) مِنْ الْأَرْكَانِ ( الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ ) بِخُصُوصِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنْ الصَّلَاةِ ، وَمَا قَبْلَهُ مُقَدِّمَةٌ لَهُ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَاجَهْ { إذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ } فَلَا يَكْفِي الدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ .
وَقِيلَ : يَكْفِي وَيَنْدَرِجُ فِيهِمْ .
وَقِيلَ : لَا يَجِبُ الدُّعَاءُ
مُطْلَقًا ، وَعَلَى الْأَوَّلِ الْوَاجِبُ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ : كَاللَّهُمَّ ارْحَمْهُ وَاَللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ .
وَأَمَّا الْأَكْمَل فَسَيَأْتِي .
وَقَوْلُ الْأَذْرَعِيِّ : الْأَشْبَهُ أَنَّ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ لَا يَجِبُ الدُّعَاءُ لَهُ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ قَالَ الْغَزِّيُّ : بَاطِلٌ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ ( بَعْدَ ) التَّكْبِيرَةِ ( الثَّالِثَةِ ) وَقِيلَ : الرَّابِعَةِ وَلَا يُجْزِئُ فِي غَيْرِهَا بِلَا خِلَافٍ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَلَيْسَ لِتَخْصِيصِ ذَلِكَ إلَّا مُجَرَّدُ الِاتِّبَاعِ ا هـ .
وَلَا يَجِبُ بَعْدَ الرَّابِعَة ذِكْرٌ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِهِمْ .
وَلَكِنْ يُنْدَبُ كَمَا سَيَأْتِي ( السَّابِعُ ) مِنْ الْأَرْكَانِ ( الْقِيَامُ عَلَى الْمَذْهَبِ إنْ قَدَرَ ) عَلَيْهِ كَغَيْرِهَا مِنْ الْفَرَائِضِ .
وَقِيلَ : يَجُوزُ الْقُعُودُ مَعَ الْقُدْرَةِ كَالنَّوَافِلِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَرَائِضِ الْأَعْيَانِ وَقِيلَ : إنْ تَعَيَّنَتْ وَجَبَ الْقِيَامُ ، وَإِلَّا فَلَا ( وَيُسَنُّ رَفْعُ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَاتِ ) فِيهَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَوَضْعُهُمَا بَعْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ تَحْتَ صَدْرِهِ كَغَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ ( وَإِسْرَارُ الْقِرَاءَةِ ) لِلْفَاتِحَةِ وَلَوْ لَيْلًا لِقَوْلِ أَبِي أُمَامَةَ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ : مِنْ السُّنَّةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَنْ يُكَبِّرَ ، ثُمَّ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ مَخَافَتَهُ .
ثُمَّ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يُخْلِصَ الدُّعَاءَ لِلْمَيِّتِ وَيُسَلِّمَ .
رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ، وَكَثَالِثَةِ الْمَغْرِبِ بِجَامِعِ عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ السُّورَةِ .
وَمَا تَقَدَّمَ فِي خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّهُ جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ .
أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ خَبَرَ أَبِي أُمَامَةَ أَصَحُّ مِنْهُ ، وَقَوْلُهُ فِيهِ : إنَّمَا جَهَرْتُ لِتَعْلَمُوا أَنَّهُ سُنَّةٌ قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : يَعْنِي لِتَعْلَمُوا أَنَّ الْقِرَاءَةَ مَأْمُورٌ بِهَا ( وَقِيلَ يَجْهَرُ لَيْلًا ) أَيْ بِالْفَاتِحَةِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةُ لَيْلٍ .
أَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالدُّعَاءُ فَيُنْدَبُ الْإِسْرَارُ بِهِمَا اتِّفَاقًا ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ وَالسَّلَامِ فَتَقْيِيدُ الْمُصَنِّفِ الْقِرَاءَةَ : أَيْ الْفَاتِحَةَ لِأَجْلِ الْخِلَافِ ( وَالْأَصَحُّ نَدْبُ التَّعَوُّذِ ) ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ لِلْقِرَاءَةِ فَاسْتُحِبَّ كَالتَّأْمِينِ ؛ وَلِأَنَّهُ قَصِيرٌ ، وَيُسَرُّ بِهِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ( دُونَ الِافْتِتَاحِ ) لِطُولِهِ وَالثَّانِي يُسْتَحَبَّانِ كَالتَّأْمِينِ .
وَالثَّالِث : لَا يُسْتَحَبَّانِ لِطُولِهِمَا ، بِخِلَافِ التَّأْمِينِ ، وَقِرَاءَةُ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ لَا تُسَنُّ كَدُعَاءِ الِافْتِتَاحِ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ وَلَوْ صَلَّى عَلَى قَبْرٍ أَوْ غَائِبٍ ؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّخْفِيفِ كَمَا قَالَهُ شَيْخِي ( وَيَقُولُ ) نَدْبًا ( فِي الثَّالِثَةِ : اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ إلَى آخِرِهِ ) الْمَذْكُورَ فِي الْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ بَاقِيَهُ اسْتِغْنَاءً بِشُهْرَتِهِ ، وَلَكِنْ نَذْكُرُ تَتِمَّتَهُ تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ ، وَهِيَ : خَرَجَ مِنْ رَوْحِ الدُّنْيَا وَسَعَتِهَا بِفَتْحِ أَوَّلِهِمَا أَيْ نَسِيمِ رِيحِهَا وَاتِّسَاعِهَا ، وَمَحْبُوبِهِ وَأَحِبَّائِهِ فِيهَا : أَيْ مَا يُحِبُّهُ وَمَنْ يُحِبُّهُ ، إلَى ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَمَا هُوَ لَاقِيهِ كَأَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ : اللَّهُمَّ إنَّهُ نَزَلَ بِكَ : أَيْ هُوَ ضَيْفُكَ وَأَنْتَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ ، وَضَيْفُ الْكِرَامِ لَا يُضَامُ ، وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ ، وَأَصْبَحَ فَقِيرًا إلَى رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ ، وَقَدْ جِئْنَاكَ رَاغِبِينَ إلَيْكَ شُفَعَاءَ لَهُ : اللَّهُمَّ إنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إحْسَانِهِ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ وَلَقِّهِ أَيْ أَعْطِهِ بِرَحْمَتِكَ رِضَاكَ ، وَقِه فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَهُ ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَجَافِ الْأَرْضَ عَنْ جَنْبَيْهِ ، وَلَقِّهِ بِرَحْمَتِكَ الْأَمْنَ مِنْ عَذَابِكَ حَتَّى تَبْعَثَهُ إلَى جَنَّتِكَ يَا أَرْحَمَ
الرَّاحِمِينَ .
جَمَعَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الْأَخْبَارِ ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْأَصْحَابُ ، وَوُجِدَ فِي نُسْخَةٍ مِنْ الرَّوْضَةِ وَمَحْبُوبِهَا ، وَكَذَا هُوَ فِي الْمَجْمُوعِ وَالْمَشْهُورُ فِي قَوْلِهِ : وَمَحْبُوبِهِ وَأَحِبَّائِهِ بِالْجَرِّ ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ بِجَعْلِ الْوَاوِ لِلْحَالِ .
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ { : صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِنَازَةٍ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ ، وَاعْفُ عَنْهُ وَعَافِهِ ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ ، وَاغْسِلْهُ بِمَاءٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ ، وَنَقِّهِ مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ ، وَقِه فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ } قَالَ عَوْفٌ : فَتَمَنَّيْتُ أَنْ لَوْ كُنْتُ أَنَا الْمَيِّتُ ، هَذَا فِي الْبَالِغِ الذَّكَرِ ، فَإِنْ كَانَ أُنْثَى عَبَّرَ بِالْأَمَةِ وَأَنَّثَ مَا يَعُودُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ ذَكَّرَ بِقَصْدِ الشَّخْصِ لَمْ يَضُرَّ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ ، وَإِنْ كَانَ خُنْثَى قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : فَالْمُتَّجَهُ التَّعْبِيرُ بِالْمَمْلُوكِ وَنَحْوِهِ ، قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ أَبٌ بِأَنْ كَانَ وَلَدَ زِنًا ، فَالْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ فِيهِ وَابْنُ أَمَتِكَ ا هـ .
وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ الْمَيِّتَ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى أَنْ يُعَبِّرَ بِالْمَمْلُوكِ وَنَحْوِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِالضَّمَائِرِ مُذَكَّرَةً عَلَى إرَادَةِ الشَّخْصِ أَوْ الْمَيِّتِ وَمُؤَنَّثَةً عَلَى إرَادَةِ لَفْظِ الْجِنَازَةِ وَأَنَّهُ لَوْ صَلَّى عَلَى جَمْعٍ مَعًا يَأْتِي فِيهِ بِمَا يُنَاسِبُهُ .
وَأَمَّا الصَّغِيرُ فَسَيَأْتِي مَا يُقَالُ فِيهِ ( وَيُقَدِّمُ ) نَدْبًا ( عَلَيْهِ ) أَيْ الدُّعَاءِ السَّابِقِ { ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا : اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى
الْإِيمَانِ } ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا .
وَزَادَ غَيْرُ التِّرْمِذِيِّ { اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ } وَقُدِّمَ هَذَا لِثُبُوتِ لَفْظِهِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، وَتَضَمُّنِهِ الدُّعَاءَ لِلْمَيِّتِ بِخِلَافِ ذَلِكَ ، فَإِنَّ بَعْضَهُ مَرْوِيٌّ بِالْمَعْنَى وَبَعْضَهُ بِاللَّفْظِ ، وَتَبِعَ الْمُصَنِّفَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الدُّعَاءَيْنِ الْمُحَرَّرُ وَالشَّرْحُ الصَّغِيرُ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ فِي الرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ ( وَيَقُولُ ) نَدْبًا ( فِي ) الْمَيِّتِ ( الطِّفْلِ ) أَوْ الطِّفْلَةِ ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا مَنْ لَمْ يَبْلُغْ ( مَعَ هَذَا ) الدُّعَاءِ ( الثَّانِي ) فِي كَلَامِهِ ( اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ ) أَيْ الْمَيِّتَ بِقِسْمَيْهِ ( فَرَطًا لِأَبَوَيْهِ ) أَيْ سَابِقًا مُهَيِّئًا مَصَالِحَهُمَا فِي الْآخِرَةِ ( وَسَلَفًا وَذُخْرًا ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ ، وَفِي الْقَامُوسِ ذَخَرَهُ : كَمَنَعَهُ ذُخْرًا بِالضَّمِّ : ادَّخَرَهُ وَاخْتَارَهُ وَاتَّخَذَهُ ( وَعِظَةً ) هُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ أَيْ مَوْعِظَةً ، أَوْ اسْمُ الْفَاعِلِ : أَيْ وَاعِظًا ( وَاعْتِبَارًا وَشَفِيعًا ، وَثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا ، وَأَفْرِغْ الصَّبْرَ عَلَى قُلُوبِهِمَا ) ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِلْحَالِ ، وَزَادَ فِي الْمَجْمُوعِ وَالرَّوْضَةِ وَأَصْلُهَا عَلَى هَذَا وَلَا تَفْتِنْهُمَا بَعْدَهُ وَلَا تَحْرِمْهُمَا أَجْرَهُ ، وَيُؤَنَّثُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَيِّتُ أُنْثَى ، وَيَأْتِي فِي الْخُنْثَى مَا مَرَّ ، وَيَشْهَدُ لِلدُّعَاءِ لَهُمَا مَا فِي خَبَرِ الْمُغِيرَةِ { وَالسَّقْطُ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْعَى لِوَالِدَيْهِ بِالْعَافِيَةِ وَالرَّحْمَةِ } فَيَكْفِي هَذَا الدُّعَاءُ لِلطِّفْلِ وَلَا يُنَافِي قَوْلَهُمْ : إنَّهُ لَا بُدَّ فِي الدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ أَنْ يُخَصَّ بِهِ كَمَا مَرَّ لِثُبُوتِ النَّصِّ فِي هَذَا بِخُصُوصِهِ .
وَلَكِنْ لَوْ دَعَا لَهُ بِخُصُوصِهِ كَفَى ، فَإِنْ تَرَدَّدَ فِي بُلُوغِ الْمُرَاهِقِ فَالْأَحْوَطُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ وَيُخَصِّصَهُ بِالدُّعَاءِ بَعْدَ الثَّالِثَةِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَسَوَاءٌ فِيمَا قَالُوهُ مَاتَ فِي
حَيَاةِ أَبَوَيْهِ أَمْ لَا .
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ : مَحَلُّهُ فِي الْأَبَوَيْنِ الْحَيَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا كَذَلِكَ أَتَى بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَهَذَا أَوْلَى .
قَالَ : وَهَذَا أَوْلَى .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : فَلَوْ جُهِلَ إسْلَامُهُمَا فَكَالْمُسْلِمِينَ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ وَالدَّارِ ا هـ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُعَلِّقَهُ عَلَى إيمَانِهِمَا خُصُوصًا فِي نَاحِيَةٍ يَكْثُرُ فِيهَا الْكُفَّارُ ، وَلَوْ عُلِمَ كُفْرُهُمَا كَتَبَعِيَّةِ الصِّغَارِ لِلسَّابِي حَرُمَ الدُّعَاءُ لَهُمَا بِالْمَغْفِرَةِ وَالشَّفَاعَةِ وَنَحْوِهِمَا ، وَلَوْ عَلِمَ إسْلَامَ أَحَدِهِمَا وَكُفْرَ الْآخَرِ أَوْ شَكَّ فِيهِ لَمْ يَخْفَ الْحُكْمُ مِمَّا مَرَّ ( وَيَقُولُ ) نَدْبًا ( فِي ) التَّكْبِيرَةِ ( الرَّابِعَةِ ) أَيْ بَعْدَهَا ( اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَضَمِّهَا ( أَجْرَهُ ) أَيْ أَجْرَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، أَوْ أَجْرَ الْمُصِيبَةِ بِهِ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُصِيبَةِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ ( وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ ) أَيْ بِالِابْتِلَاءِ بِالْمَعَاصِي ، وَزَادَ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الشَّيْخُ فِي التَّنْبِيهِ : وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ ، وَيُسَنُّ أَنْ يُطَوِّلَ الدُّعَاءَ بَعْدَ الرَّابِعَةِ لِثُبُوتِهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ .
رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ .
نَعَمْ لَوْ خَشِيَ تَغَيُّرَ الْمَيِّتِ أَوْ انْفِجَارَهُ لَوْ أَتَى بِالسُّنَنِ فَالْقِيَاسُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَرْكَانِ ( وَلَوْ تَخَلَّفَ الْمُقْتَدِي ) عَنْ إمَامِهِ بِالتَّكْبِيرِ ( بِلَا عُذْرٍ فَلَمْ يُكَبِّرْ حَتَّى كَبَّرَ إمَامُهُ ) تَكْبِيرَةً ( أُخْرَى ) أَوْ شَرَعَ فِيهَا ( بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ) ؛ لِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ لَا تَظْهَرُ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ إلَّا بِالتَّكْبِيرَاتِ فَيَكُونُ التَّخَلُّفُ بِهَا فَاحِشًا كَالتَّخَلُّفِ بِالرَّكْعَةِ ، وَأَفْهَمَ قَوْلُهُ حَتَّى كَبَّرَ أَنَّهُ لَوْ تَخَلَّفَ عَنْ الرَّابِعَةِ حَتَّى سَلَّمَ الْإِمَامُ أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ وَهُوَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهَا ذِكْرٌ فَلَيْسَتْ كَالرَّكْعَةِ
بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا خِلَافًا لِمَا صَرَّحَ بِهِ فِي التَّمْيِيزِ مِنْ الْبُطْلَانِ .
فَإِنْ كَانَ ثَمَّ عُذْرٌ كَبُطْءِ قِرَاءَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْطُلُ بِتَخَلُّفِهِ بِتَكْبِيرَةٍ فَقَطْ بَلْ بِتَكْبِيرَتَيْنِ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُمْ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّقَدُّمَ كَالتَّخَلُّفِ بَلْ أَوْلَى كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي تَرْتِيبِ الْأَرْكَانِ وَإِنْ كَانَ بَحْثُ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ ( وَيُكَبِّرُ الْمَسْبُوقُ وَيَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ فِي غَيْرِهَا ) كَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدُّعَاءِ ؛ لِأَنَّ مَا أَدْرَكَهُ أَوَّلُ صَلَاتِهِ فَيُرَاعَى تَرْتِيبُهَا ( وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ أُخْرَى قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الْفَاتِحَةِ ) بِأَنْ كَبَّرَ عَقِبَ تَكْبِيرِهِ ( كَبَّرَ مَعَهُ وَسَقَطَتْ الْقِرَاءَةُ ) كَمَا لَوْ رَكَعَ الْإِمَامُ عَقِبَ تَكْبِيرِ الْمَسْبُوقِ فَإِنَّهُ يَرْكَعُ مَعَهُ وَيَتَحَمَّلُهَا عَنْهُ ( وَإِنْ كَبَّرَهَا وَهُوَ ) أَيْ الْمَأْمُومُ ( فِي ) أَثْنَاءِ ( الْفَاتِحَةِ تَرَكَهَا وَتَابَعَهُ ) أَيْ الْإِمَامَ فِي التَّكْبِيرِ ( فِي الْأَصَحِّ ) وَتَحَمَّلَ عَنْهُ بَاقِيَهَا كَمَا إذَا رَكَعَ الْإِمَامُ وَالْمَسْبُوقُ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ ، وَلَا يَشْكُلُ هَذَا بِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الْفَاتِحَةَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْأُولَى ؛ لِأَنَّ الْأَكْمَل قِرَاءَتُهَا فِيهَا فَيَتَحَمَّلُهَا عَنْهُ الْإِمَامُ وَلَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ عَقِبَ تَكْبِيرَةِ الْمَسْبُوقِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْقِرَاءَةُ وَتَقَدَّمَ فِي نَظِيرِ الثَّانِيَةِ ، ثُمَّ إنَّهُ إنْ اشْتَغَلَ بِافْتِتَاحٍ أَوْ تَعَوُّذٍ تَخَلَّفَ وَقَرَأَ بِقَدْرِهِ ، وَإِلَّا تَابَعَهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الشَّيْخَانِ هُنَا .
قَالَ فِي الْكِفَايَةِ : وَلَا شَكَّ فِي جَرَيَانِهِ هُنَا بِنَاءً عَلَى نَدْبِ التَّعَوُّذِ : أَيْ عَلَى الْأَصَحِّ وَالِافْتِتَاحِ : أَيْ عَلَى الْمَرْجُوحِ وَبِهِ صَرَّحَ الْفُورَانِيُّ ( وَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ تَدَارَكَ الْمَسْبُوقُ ) حَتْمًا ( بَاقِيَ التَّكْبِيرَاتِ بِأَذْكَارِهَا ) وُجُوبًا فِي الْوَاجِبِ وَنَدْبًا فِي الْمَنْدُوبِ كَمَا يَأْتِي فِي الرَّكَعَاتِ
بِالْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهَا ( وَفِي قَوْلٍ لَا تُشْتَرَطُ الْأَذْكَارُ ) بَلْ يَأْتِي بِبَاقِي التَّكْبِيرَاتِ نَسَقًا ؛ لِأَنَّ الْجِنَازَةَ تُرْفَعُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ ، فَلَيْسَ الْوَقْتُ وَقْتَ تَطْوِيلٍ .
قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ : وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا رُفِعَتْ الْجِنَازَةُ فَإِنْ اتَّفَقَ ، بَقَاؤُهَا لِسَبَبٍ مَا أَوْ كَانَتْ عَلَى غَائِبٍ فَلَا وَجْهَ لِلْخِلَافِ بَلْ يَأْتِي بِالْأَذْكَارِ قَطْعًا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَكَأَنَّهُ مِنْ تَفَقُّهِهِ ، وَإِطْلَاقُ الْأَصْحَابِ يُفْهِمُ عَدَمَ الْفَرْقِ ا هـ .
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يُسَنُّ إبْقَاءُ الْجِنَازَةِ حَتَّى يُتِمَّ الْمُقْتَدُونَ صَلَاتَهُمْ ، فَلَوْ رُفِعَتْ قَبْلَهُ لَمْ يَضُرَّ وَإِنْ بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ ، إذْ يُغْتَفَرُ فِي الدَّوَامِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا لَوْ أَحْرَمَ الْإِمَامُ فِي سَرِيرٍ وَحَمَلَهُ إنْسَانٌ وَمَشَى بِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ كَمَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ وَهُوَ يُصَلِّي فِي سَفِينَةٍ سَائِرَةٍ ، وَلَوْ أَحْرَمَ عَلَى جِنَازَةٍ يَمْشِي بِهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ فَأَقَلُّ وَهُوَ مُحَاذٍ لَهَا كَالْمَأْمُومِ مَعَ الْإِمَامِ جَازَ وَإِنْ بَعُدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا مَرَّ .
وَيُشْتَرَطُ شُرُوطُ الصَّلَاةِ لَا الْجَمَاعَةِ ، وَيَسْقُطُ فَرْضُهَا بِوَاحِدٍ ، وَقِيلَ يَجِبُ اثْنَانِ ، وَقِيلَ ثَلَاثَةٌ وَقِيلَ أَرْبَعَةٌ ، وَلَا يَسْقُطُ بِالنِّسَاءِ وَهُنَاكَ رِجَالٌ فِي الْأَصَحِّ ، وَيُصَلَّى عَلَى الْغَائِبِ عَنْ الْبَلَدِ ، وَيَجِبُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الدَّفْنِ ، وَتَصِحُّ بَعْدَهُ ، وَالْأَصَحُّ تَخْصِيصُ الصِّحَّةِ بِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ فَرْضِهَا وَقْتَ الْمَوْتِ ، وَلَا يُصَلَّى عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالٍ .
( وَيُشْتَرَطُ ) فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ( شُرُوطُ ) غَيْرِهَا مِنْ ( الصَّلَاةِ ) كَسَتْرٍ وَطَهَارَةٍ وَاسْتِقْبَالٍ لِتَسْمِيَتِهَا صَلَاةً ، فَهِيَ كَغَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ ، وَلَهَا شُرُوطٌ أُخَرُ تَأْتِي كَتَقَدُّمِ غُسْلِ الْمَيِّتِ ( لَا الْجَمَاعَةِ ) فَلَا تُشْتَرَطُ فِيهَا كَالْمَكْتُوبَةِ بَلْ تُسَنُّ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ { مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جِنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَا يُشْرِكُونَ بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَّا شَفَّعَهُمْ اللَّهُ فِيهِ } وَإِنَّمَا صَلَّتْ الصَّحَابَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُرَادَى كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ لِعِظَمِ أَمْرِهِ وَتَنَافُسِهِمْ فِي أَنْ لَا يَتَوَلَّى الْإِمَامَةَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَحَدٌ ، وَقَالَ غَيْرُهُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَعَيَّنَ إمَامٌ يَؤُمُّ الْقَوْمَ ، فَلَوْ تَقَدَّمَ وَاحِدٌ فِي الصَّلَاةِ لَصَارَ مُقَدَّمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَتَعَيَّنَ لِلْخِلَافَةِ ، وَمَعْنَى صَلَّوْا فُرَادَى .
قَالَ فِي الدَّقَائِقِ : أَيْ جَمَاعَاتٍ بَعْدَ جَمَاعَاتٍ .
فَائِدَةٌ : قِيلَ حُصِرَ الْمُصَلُّونَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُمْ ثَلَاثُونَ أَلْفًا ، وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ سِتُّونَ أَلْفًا ؛ لِأَنَّ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مَلَكَيْنِ ، وَمَا وَقَعَ فِي الْإِحْيَاءِ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ عَنْ عِشْرِينَ أَلْفًا مِنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يَحْفَظْ الْقُرْآنَ مِنْهُمْ إلَّا سِتَّةٌ اُخْتُلِفَ فِي اثْنَيْنِ مِنْهُمْ .
قَالَ الدَّمِيرِيُّ : لَعَلَّهُ أَرَادَ عِشْرِينَ مِنْ الْمَدِينَةِ ، وَإِلَّا فَقَدْ رَوَى أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيّ أَنَّهُ مَاتَ عَنْ مِائَةِ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا كُلُّهُمْ لَهُ صُحْبَةٌ ، وَرَوَى عَنْهُ وَسَمِعَ مِنْهُ ( وَيَسْقُطُ فَرْضُهَا بِوَاحِدٍ ) لِحُصُولِ الْفَرْضِ بِصَلَاتِهِ وَلَوْ صَبِيًّا مُمَيِّزًا عَلَى الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ لَا تُشْتَرَطُ فِيهَا كَمَا مَرَّ ، فَكَذَا الْعَدَدُ كَغَيْرِهَا ( وَقِيلَ يَجِبُ ) لِسُقُوطِ فَرْضِهَا ( اثْنَانِ ) أَيْ فِعْلُهُمَا ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمَاعَةِ اثْنَانِ ( وَقِيلَ ثَلَاثَةٌ ) لِخَبَرِ
الدَّارَقُطْنِيّ { صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ ، وَهَذَا مَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ وَصَحَّحَهُ آخَرُونَ ( وَقِيلَ ) يَجِبُ ( أَرْبَعَةٌ ) قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ بِنَاءً عَلَى مُعْتَقَدِهِ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ فِيهِ عَنْ أَرْبَعَةٍ ؛ لِأَنَّ فِي أَقَلَّ مِنْهَا ازْدِرَاءً بِالْمَيِّتِ فَالصَّلَاةُ أَوْلَى ، وَالْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ قَوْلَانِ ، وَالثَّانِي وَالرَّابِعُ وَجْهَانِ .
وَالصِّبْيَانُ الْمُمَيِّزُونَ كَالْبَالِغِينَ عَلَى اخْتِلَافِ الْوُجُوهِ ، وَفَارِقُ ذَلِكَ عَدَمُ سُقُوطِ الْفَرْضِ بِالصَّبِيِّ فِي رَدِّ السَّلَامِ بِأَنَّ السَّلَامَ شُرِعَ فِي الْأَصْلِ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا آمِنٌ مِنْ الْآخَرِ بِخِلَافِ صَلَاتِهِ ، وَعَلَى كُلِّ وَجْهٍ فَلَا تُشْتَرَطُ الْجَمَاعَةُ فَيُصَلُّونَ فُرَادَى إنْ شَاءُوا .
وَفِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْأَصْحَابِ : لَوْ صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ عَدَدٌ زَائِدٌ عَلَى الْمَشْرُوطِ وَقَعَتْ صَلَاةُ الْجَمِيعِ فَرْضَ كِفَايَةٍ ( وَلَا يَسْقُطُ ) فَرْضُ صَلَاتِهَا ( بِالنِّسَاءِ وَهُنَاكَ رِجَالٌ ) أَوْ رَجُلٌ أَوْ صَبِيٌّ مُمَيِّزٌ ( فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِهَانَةً بِالْمَيِّتِ ؛ وَلِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الذَّكَرِ بِالْعِبَادَةِ أَكْمَلُ ، فَيَكُونُ دُعَاؤُهُ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ ، وَلَوْ عَبَّرَ وَهُنَاكَ ذَكَرٌ مُمَيِّزٌ ؛ لَشَمِلَ مَا ذَكَرَ وَكَانَ أَخْصَرَ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِوُجُودِ الذَّكَرِ وُجُودُهُ فِي مَحَلِّ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ لَا وُجُودُهُ مُطْلَقًا وَلَا فِي دُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ ، وَالثَّانِي : يَسْقُطُ بِهِنَّ الْفَرْضُ لِصِحَّةِ صَلَاتِهِنَّ وَجَمَاعَتِهِنَّ .
أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ذَكَرٌ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِنَّ وَيَسْقُطُ بِهِنَّ الْفَرْضُ .
قَالَ فِي الْعُدَّةِ : وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُنَّ الْجَمَاعَةُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَيَنْبَغِي أَنْ تُسَنَّ لَهُنَّ الْجَمَاعَةُ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا فِي غَيْرِهَا مِنْ
الصَّلَوَاتِ ، وَقِيلَ : تُسَنُّ لَهُنَّ فِي جَمَاعَةِ الْمَرْأَةِ ، وَالْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ ، فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ لَا يَسْقُطُ بِالْمَرْأَةِ وَهُنَاكَ صَبِيٌّ مُمَيِّزٌ مَعَ أَنَّهَا الْمُخَاطَبَةُ بِهِ دُونَهُ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الشَّخْصَ قَدْ يُخَاطَبُ بِشَيْءٍ وَيَتَوَقَّفُ فِعْلُهُ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ لَا سِيَّمَا فِيمَا يَسْقُطُ عَنْهُ الشَّيْءُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِنَّ تَقْدِيمُهُ وَلَا تُجْزِئُ صَلَاتُهُنَّ مَعَ وُجُودِهِ فَإِنْ امْتَنَعَ أَجْبَرْنَهُ كَالْوَلِيِّ .
قَالَهُ شَيْخِي .
وَقَالَ ابْنُ الْمُقْرِي فِي شَرْحِ إرْشَادِهِ : إنَّ صَلَاتَهُنَّ تُجْزِئُ مَعَ وُجُودِهِ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إنْ امْتَنَعَ أَجْزَأَتْ صَلَاتُهُنَّ وَإِلَّا فَلَا ، وَقَضِيَّةُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ أَنَّهُ لَوْ اجْتَمَعَ مَعَهَا سَقَطَ الْفَرْضُ بِصَلَاةِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي صَلَاتِهِ دُونَ صَلَاتِهَا لِاحْتِمَالِ ذُكُورَتِهِ ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمُقْرِي فِي شَرْحِ إرْشَادِهِ ، وَإِنْ صَلَّى سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ وَعَنْ النِّسَاءِ ، وَإِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ النِّسَاءِ .
وَأَمَّا عَنْ الْخُنْثَى فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ يَأْبَى ذَلِكَ ا هـ .
وَالظَّاهِرُ الِاكْتِفَاءُ كَمَا أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ ؛ لِأَنَّ ذُكُورَتَهُ غَيْرُ مُحَقَّقَةٍ ( وَيُصَلَّى عَلَى الْغَائِبِ عَنْ الْبَلَدِ ) وَإِنْ قَرُبَتْ الْمَسَافَةُ وَلَمْ يَكُنْ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَخْبَرَ النَّاسَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ بِمَوْتِ النَّجَاشِيِّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَهُوَ بِالْحَبَشَةِ } ( 1 ) .
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ .
وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ .
قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ : لَكِنَّهَا لَا تُسْقِطُ الْفَرْضَ عَنْ الْحَاضِرِينَ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَوَجْهُهُ أَنَّ فِيهِ ازْدِرَاءً وَتَهَاوُنًا بِالْمَيِّتِ ، لَكِنَّ الْأَقْرَبَ السُّقُوطُ لِحُصُولِ الْفَرْضِ ، وَظَاهِرٌ أَنَّ مَحَلَّهُ إذَا عَلِمَ الْحَاضِرُونَ وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَظُنَّ أَنَّهُ قَدْ غُسِّلَ وَإِلَّا
لَمْ تَصِحَّ .
نَعَمْ إنْ عَلَّقَ النِّيَّةَ عَلَى غُسْلِهِ بِأَنْ نَوَى الصَّلَاةَ إنْ كَانَ غُسِّلَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ كَمَا هُوَ أَحَدُ احْتِمَالَيْنِ لِلْأَذْرَعِيِّ .
أَمَّا الْحَاضِرُ بِالْبَلَدِ فَلَا يُصَلِّي عَلَيْهِ إلَّا مَنْ حَضَرَ وَإِنْ كَبُرَتْ الْبَلَدُ لِتَيَسُّرِ حُضُورِهِ وَشَبَّهُوهُ بِالْقَضَاءِ عَلَى مَنْ بِالْبَلَدِ مَعَ إمْكَانِ حُضُورِهِ ، وَلَوْ تَعَذَّرَ عَلَى مَنْ فِي الْبَلَدِ الْحُضُورُ لِحَبْسٍ أَوْ مَرَضٍ لَمْ يُبْعَدْ الْجَوَازُ كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ أَبِي الدَّمِ فِي الْمَحْبُوسِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ خَارِجَ السُّورِ قَرِيبًا مِنْهُ فَهُوَ كَدَاخِلِهِ .
نَقَلَهُ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْوَافِي وَأَقَرَّهُ : أَيْ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمَقَابِرَ تُجْعَلُ خَارِجَ السُّورِ ، وَلَوْ صَلَّى عَلَى الْأَمْوَاتِ الَّذِينَ مَاتُوا فِي يَوْمِهِ أَوْ سَنَتِهِ وَغُسِّلُوا فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَلَمْ يَعْرِفْ عَيْنَهُمْ جَازَ ، بَلْ يُسَنُّ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْغَائِبِ جَائِزَةٌ وَتَعْيِينَهُمْ غَيْرُ شَرْطٍ ( وَيَجِبُ تَقْدِيمُهَا ) أَيْ الصَّلَاةِ ( عَلَى الدَّفْنِ ) وَتَأْخِيرُهَا عَنْ الْغُسْلِ أَوْ التَّيَمُّمِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ، فَإِنْ دُفِنَ مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ أَثِمَ كُلُّ مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ فَرْضُ الصَّلَاةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عُذْرٌ ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْقَبْرِ وَلَا يُنْبَشُ لِذَلِكَ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ ( وَتَصِحُّ بَعْدَهُ ) أَيْ الدَّفْنِ لِلِاتِّبَاعِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُتَقَدَّمَ عَلَى الْقَبْرِ كَمَا سَيَأْتِي فِي زِيَادَةِ الْمُصَنِّفِ ، وَيَسْقُطُ الْفَرْضُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَإِلَى مَتَى يُصَلَّى عَلَيْهِ ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ .
أَحَدُهَا أَبَدًا ، فَعَلَى هَذَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى قُبُورِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَى الْيَوْمِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَقَدْ اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى تَضْعِيفِ هَذَا الْوَجْهِ .
ثَانِيهَا إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ دُونَ مَا بَعْدَهَا ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
ثَالِثُهَا : إلَى شَهْرٍ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ .
رَابِعُهَا مَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْقَبْرِ فَإِنْ انْمَحَقَتْ أَجْزَاؤُهُ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ شُكَّ فِي الِانْمِحَاقِ فَالْأَصْلُ الْبَقَاءُ .
خَامِسُهَا : يَخْتَصُّ بِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ يَوْمَ مَوْتِهِ وَصَحَّحَهُ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ فَيَدْخُلُ الْمُمَيِّزُ عَلَى هَذَا دُونَ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ ( وَالْأَصَحُّ تَخْصِيصُ الصِّحَّةِ ) أَيْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ ( بِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ فَرْضِهَا وَقْتَ الْمَوْتِ ) دُونَ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي فَرْضًا خُوطِبَ بِهِ .
وَأَمَّا غَيْرُهُ فَمُتَطَوِّعٌ ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ لَا يُتَطَوَّعُ بِهَا .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِصُورَتِهَا مِنْ غَيْرِ جِنَازَةٍ بِخِلَافِ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَأْتِي بِصُورَتِهَا ابْتِدَاءً بِلَا سَبَبٍ .
ثُمَّ قَالَ : لَكِنْ مَا قَالُوهُ يُنْقَضُ بِصَلَاةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فَإِنَّهَا لَهُنَّ نَافِلَةٌ وَهِيَ صَحِيحَةٌ وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ : مَعْنَاهُ أَنَّهَا لَا تُفْعَلُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى : أَيْ مَنْ صَلَّاهَا لَا يُعِيدُهَا : أَيْ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ سَيَأْتِي أَنَّهُ لَوْ أَعَادَهَا وَقَعَتْ لَهُ نَافِلَةً ، وَكَأَنَّ هَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِمْ : إنَّ الصَّلَاةَ إذَا لَمْ تَكُنْ مَطْلُوبَةً لَا تَنْعَقِدُ .
أَمَّا لَوْ صَلَّى عَلَيْهَا مَنْ لَمْ يُصَلِّ أَوَّلًا فَإِنَّهَا تَقَعُ لَهُ فَرْضًا ، وَمَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ اعْتِبَارِ أَهْلِيَّةِ الْفَرْضِ .
قَالَ فِي الْعَزِيزِ : إنَّهُ الْأَظْهَرُ وَنَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْجُمْهُورِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ مَنْعُ الْكَافِرِ وَالْحَائِضِ يَوْمَئِذٍ ، وَصَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ ، وَرَأَى الْإِمَامُ إلْحَاقَهُمَا بِالْمُحْدِثِ وَتَبِعَهُ فِي الْوَسِيطِ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَاعْتِبَارُ الْمَوْتِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ أَوْ أَفَاقَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْغُسْلِ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ وَالصَّوَابُ خِلَافُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ غَيْرُهُ لَزِمَتْهُ الصَّلَاةُ اتِّفَاقًا ،
وَكَذَا لَوْ كَانَ ثَمَّ غَيْرُهُ فَتَرَكَ الْجَمِيعُ فَإِنَّهُمْ يَأْثَمُونَ ، بَلْ لَوْ زَالَ الْمَانِعُ بَعْدَ الْغُسْلِ أَوْ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَأَدْرَكَ زَمَنًا تُمْكِنُ فِيهِ الصَّلَاةُ كَانَ كَذَلِكَ ا هـ .
وَهَذَا كَلَامٌ مَتِينٌ ، فَيَنْبَغِي الضَّبْطُ بِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ فَرْضِهَا وَقْتَ الدَّفْنِ لِئَلَّا يُرَدَّ مَا قِيلَ ( وَلَا يُصَلَّى عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالٍ ) وَاسْتَدَلَّ لَهُ الرَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَا أَكْرَمُ عَلَى رَبِّي أَنْ يَتْرُكَنِي فِي قَبْرِي بَعْدَ ثَلَاثٍ } .
قَالَ الدَّمِيرِيُّ : وَهَذَا الْحَدِيث بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ ، لَكِنْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْأَنْبِيَاءُ لَا يُتْرَكُونَ فِي قُبُورِهِمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً لَكِنَّهُمْ يُصَلُّونَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يُنْفَخَ فِي الصُّورِ } ا هـ .
وَكَذَا لَا يُصَلَّى عَلَى قَبْرِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا نَظَرٌ ؛ وَلِأَنَّا لَمْ نَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْفَرْضِ وَقْتَ مَوْتِهِمْ ، وَقِيلَ : يَجُوزُ فُرَادَى لَا جَمَاعَةً .
.
فَرْعٌ : الْجَدِيدُ أَنَّ الْوَلِيَّ أَوْلَى بِإِمَامَتِهَا مِنْ الْوَالِي ، فَيُقَدَّمُ الْأَبُ ، ثُمَّ الْجَدُّ وَإِنْ عَلَا ، ثُمَّ الِابْنُ ، ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ سَفَلَ ، ثُمَّ الْأَخُ ، وَالْأَظْهَرُ ، تَقْدِيمُ الْأَخِ لِأَبَوَيْنِ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ ، ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ لِأَبَوَيْنِ ، ثُمَّ لِأَبٍ ، ثُمَّ الْعَصَبَةُ عَلَى تَرْتِيبِ الْإِرْثِ ، ثُمَّ ذَوُو الْأَرْحَامِ ، وَلَوْ اجْتَمَعَا فِي دَرَجَةٍ فَالْأَسَنُّ الْعَدْلُ أَوْلَى عَلَى النَّصِّ ، وَيُقَدَّمُ الْحُرُّ الْبَعِيدُ عَلَى الْعَبْدِ الْقَرِيبِ ، وَيَقِفُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ وَعَجُزِهَا وَتَجُوزُ عَلَى الْجَنَائِزِ صَلَاةٌ .
( فَرْعٌ ) : فِي بَيَانِ الْأَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ .
قَالَ الشَّارِحُ : زَادَ التَّرْجَمَةَ بِهِ لِطُولِ الْفَصْلِ قَبْلَهُ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ كَمَا نَقَصَ تَرْجَمَةَ التَّعْزِيَةِ بِفَصْلٍ لِقِصَرِ الْفَصْلِ قَبْلَهُ ا هـ .
وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ : إنَّ تَرْجَمَةَ الْمُصَنِّفِ بِالْفَرْعِ قَدْ تَسْتَشْكِلُ ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ ، وَهُوَ بَيَانُ أَوْلَوِيَّةِ الْوَلِيِّ لَيْسَ فَرْعًا عَمَّا قَبْلَهُ عَنْ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ لَيْسَ مُتَفَرِّعًا عَلَى الصَّلَاةِ ( الْجَدِيدُ أَنَّ الْوَلِيَّ ) أَيْ الْقَرِيبَ الذَّكَرَ ( أَوْلَى ) أَيْ أَحَقُّ ( بِإِمَامَتِهَا ) أَيْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ ( مِنْ الْوَالِي ) وَإِنْ أَوْصَى الْمَيِّتُ لِغَيْرِ الْوَلِيِّ ؛ لِأَنَّهَا حَقُّهُ ، فَلَا تُنَفَّذُ وَصِيَّتُهُ بِإِسْقَاطِهَا كَالْإِرْثِ ، وَمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَصَّى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ عُمَرُ فَصَلَّى وَأَنَّ عُمَرَ وَصَّى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ صُهَيْبٌ فَصَلَّى وَوَقَعَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُمْ أَجَازُوا الْوَصِيَّةَ ، وَالْقَدِيمُ أَنَّ الْوَالِيَ أَوْلَى ، ثُمَّ إمَامَ الْمَسْجِدِ ثُمَّ الْوَلِيَّ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ، وَالْفَرْقُ عَلَى الْجَدِيدِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ هُوَ الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ ، وَدُعَاءُ الْقَرِيبِ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ لِتَأَلُّمِهِ وَانْكِسَارِ قَلْبِهِ ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْمُعِينِ : إذَا لَمْ يَخَفْ الْفِتْنَةَ مِنْ الْوَالِي وَإِلَّا قُدِّمَ قَطْعًا ، وَلَوْ غَابَ الْوَلِيُّ الْأَقْرَبُ قُدِّمَ الْوَلِيُّ الْأَبْعَدُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ غَيْبَتُهُ قَرِيبَةً أَمْ بَعِيدَةً .
قَالَهُ الْبَغَوِيّ ( فَيُقَدَّمُ الْأَبُ ) أَوْ نَائِبُهُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُقْرِي ، وَكَغَيْرِ الْأَبِ أَيْضًا نَائِبُهُ ( ثُمَّ الْجَدُّ ) أَبُو الْأَبِ ( وَإِنْ عَلَا ) ؛ لِأَنَّ الْأُصُولَ أَكْثَرُ شَفَقَةً مِنْ الْفُرُوعِ ( ثُمَّ الِابْنُ ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ سَفَلَ ) بِتَثْلِيثِ الْفَاءِ .
وَخَالَفَ ذَلِكَ تَرْتِيبَ
الْإِرْثِ بِأَنَّ مُعْظَمَ الْغَرَضِ الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ ، فَقُدِّمَ الْأَشْفَقُ ؛ لِأَنَّ دُعَاءَهُ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ ( ثُمَّ الْأَخُ ) تَقْدِيمًا لِلْأَشْفَقِ فَالْأَشْفَقِ ( وَالْأَظْهَرُ تَقْدِيمُ الْأَخِ لِأَبَوَيْنِ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ ) ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَشْفَقُ لِزِيَادَةِ قُرْبِهِ ، وَالثَّانِي هُمَا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْأُمُومَةَ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي إمَامَةِ الرِّجَالِ فَلَا يُرَجَّحُ بِهَا .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّهَا صَالِحَةٌ لِلتَّرْجِيحِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا دَخْلٌ فِي إمَامَةِ الرِّجَالِ ، إذْ لَهَا دَخْلٌ فِي الصَّلَاةِ فِي الْجُمْلَةِ ؛ لِأَنَّهَا تُصَلِّي مَأْمُومَةً وَمُنْفَرِدَةً وَإِمَامَةً لِلنِّسَاءِ عِنْدَ فَقْدِ الرِّجَالِ فَقُدِّمَ بِهَا ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَكَانَ الْأَوْلَى التَّعْبِيرَ بِالْمَذْهَبِ ، فَإِنَّ الْأَصَحَّ الْقَطْعُ بِالْأَوَّلِ ( ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ لِأَبَوَيْنِ ثُمَّ لِأَبٍ ثُمَّ الْعَصَبَةُ ) النِّسْبِيَّةُ : أَيْ بَقِيَّتُهُمْ ( عَلَى تَرْتِيبِ الْإِرْثِ ) فَيُقَدَّمُ عَمٌّ شَقِيقٌ ، ثُمَّ لِأَبٍ ، ثُمَّ ابْنُ عَمٍّ شَقِيقٍ ، ثُمَّ لِأَبٍ ، ثُمَّ بَعْدَ عَمِّ النَّسَبِ عَصَبَةُ الْوَلَاءِ ، فَيُقَدَّمُ الْمُعْتِقُ ثُمَّ عَصَبَتُهُ ، فَتُقَدَّمُ عَصَبَاتُهُ النِّسْبِيَّةُ ، ثُمَّ مُعْتِقُهُ ، ثُمَّ عَصَبَاتُهُ السَّبَبِيَّةُ وَهَكَذَا ثُمَّ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ عِنْدَ انْتِظَامِ بَيْتِ الْمَالِ ( ثُمَّ ذَوُو الْأَرْحَامِ ) يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ ، فَيُقَدَّمُ أَبُو الْأُمِّ ، ثُمَّ الْأَخُ لِلْأُمِّ ، ثُمَّ الْخَالُ ، ثُمَّ الْعَمُّ لِلْأُمِّ ، وَالْأَخُ لِلْأُمِّ هُنَا مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ ، بِخِلَافِهِ فِي الْإِرْثِ ، وَالْقِيَاسُ هُنَا أَنْ لَا يُقَدَّمَ الْقَاتِلُ كَمَا سَبَقَ فِي الْغُسْلِ ، وَنَقَلَهُ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْأَصْحَابِ وَأَشْعَرَ سُكُوتُ الْمُصَنِّفِ عَنْ الزَّوْجِ بِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ ، بِخِلَافِ الْغُسْلِ وَالتَّكْفِينِ وَالدَّفْنِ وَلَا لِلْمَرْأَةِ أَيْضًا ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ إذَا وُجِدَ مَعَ الزَّوْجِ غَيْرُ الْأَجَانِبِ
وَمَعَ الْمَرْأَةِ ذَكَرٌ ، وَإِلَّا فَالزَّوْجُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَجَانِبِ ، وَالْمَرْأَةُ تُصَلِّي وَتُقَدَّمُ بِتَرْتِيبِ الذَّكَرِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَفِي تَقْدِيمِ السَّيِّدِ عَلَى أَقَارِبِ الرَّقِيقِ الْأَحْرَارِ نَظَرٌ يَلْتَفِتُ إلَى أَنَّ الرِّقَّ هَلْ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ أَمْ لَا ا هـ .
وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْأَقَارِبَ مُقَدَّمُونَ ( وَلَوْ اجْتَمَعَا ) أَيْ وَلِيَّانِ ( فِي دَرَجَةٍ ) كَابْنَيْنِ أَوْ أَخَوَيْنِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا صَالِحٌ لِلْإِمَامَةِ ( فَالْأَسَنُّ ) فِي الْإِسْلَامِ ( الْعَدْلُ أَوْلَى ) مِنْ الْأَفْقَهِ وَنَحْوِهِ ( عَلَى النَّصِّ ) فِي الْمُخْتَصَرِ ، وَنَصَّ فِي بَاقِي الصَّلَوَاتِ عَلَى أَنَّ الْأَفْقَهَ أَوْلَى مِنْ الْأَسَنِّ ، وَفِي قَوْلٍ مُخَرَّجٍ : أَنَّ الْأَفْقَهَ وَالْأَقْرَأَ مُقَدَّمَانِ عَلَيْهِ كَغَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ ، وَالْأَصَحُّ تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ الدُّعَاءُ ، وَدُعَاءُ الْأَسَنِّ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ .
وَأَمَّا سَائِرُ الصَّلَوَاتِ فَمُحْتَاجَةٌ إلَى الْفِقْهِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ الْحَوَادِثِ فِيهَا ، أَمَّا غَيْرُ الْعَدْلِ مِنْ فَاسِقٍ وَمُبْتَدِعٍ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْإِمَامَةِ ، وَلَوْ اسْتَوَى اثْنَانِ فِي السِّنِّ الْمُعْتَبَرِ قُدِّمَ أَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ عَلَى مَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي بَابِهِ ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْمُسْتَوِيَيْنِ زَوْجًا قُدِّمَ وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَسَنَّ مِنْهُ كَمَا اقْتَضَاهُ نَصُّ الْبُوَيْطِيِّ ، فَقَوْلُهُمْ : لَا مَدْخَلَ لِلزَّوْجِ مَعَ الْأَقَارِبِ فِي الصَّلَاةِ إذَا لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِي الْقَرَابَةِ ، فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الصِّفَاتِ كُلِّهَا وَتَنَازَعَا أُقْرِعَ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ، وَلَوْ صَلَّى غَيْرُ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ صَحَّ ، وَلَوْ اسْتَنَابَ أَفْضَلُ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الدَّرَجَةِ اُعْتُبِرَ رِضَا الْآخَرِ فِي أَقْيَسِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْعُدَّةِ .
وَهَذَا شَيْءٌ يُبَاشِرُهُ بِنَفْسِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْأَقْرَبِ إذَا كَانَ أَهْلًا فَلَهُ الِاسْتِنَابَةُ ، وَلَا اعْتِرَاضَ
لِلْأَبْعَدِ قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ ( وَيُقَدَّمُ الْحُرُّ الْبَعِيدُ ) كَعَمٍّ حُرٍّ ( عَلَى الْعَبْدِ الْقَرِيبِ ) كَأَخٍ رَقِيقٍ وَلَوْ أَفْقَهَ وَأَسَنَّ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ وِلَايَةٌ ، وَالْحُرُّ أَكْمَلُ فَهُوَ بِهَا أَلْيَقُ ، وَقِيلَ الْعَبْدُ أَوْلَى لِقُرْبِهِ ، وَقِيلَ : هُمَا سَوَاءٌ لِتَعَارُضِ الْمَعْنَيَيْنِ ، وَيُقَدَّمُ الرَّقِيقُ الْقَرِيبُ عَلَى الْحُرِّ الْأَجْنَبِيِّ وَالرَّقِيقُ الْبَالِغُ عَلَى الْحُرِّ الصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ فَهُوَ أَحْرَصُ عَلَى تَكْمِيلِ الصَّلَاةِ ؛ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ مُجْمَعٌ عَلَى جَوَازِهَا ، بِخِلَافِهَا خَلْفَ الصَّبِيِّ ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ ( وَيَقِفُ ) الْمُصَلِّي نَدْبًا مِنْ إمَامٍ وَمُنْفَرِدٍ ( عِنْدَ رَأْسِ ) الذَّكَرِ ( الرَّجُلِ ) أَوْ الصَّغِيرِ ( وَعَجُزِهَا ) أَيْ الْأُنْثَى ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الْجِيمِ أَلْيَاهَا لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ ، وَمِثْلُهَا الْخُنْثَى كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ .
وَحِكْمَةُ الْمُخَالَفَةِ الْمُبَالَغَةُ فِي سَتْرِ الْأُنْثَى وَالِاحْتِيَاطُ فِي الْخُنْثَى .
أَمَّا الْمَأْمُومُ فَيَقِفُ فِي الصَّفِّ حَيْثُ كَانَ .
فَائِدَةٌ : الْعَجِيزَةُ إنَّمَا تُقَالُ فِي الْمَرْأَةِ ، وَغَيْرُهَا يُقَالُ فِيهِ عَجُزٌ كَمَا يُقَالُ فِيهَا أَيْضًا .
قَالَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْيَمَنِ : وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَأْتِيَ هَذَا التَّفْصِيلُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ ا هـ .
وَهُوَ حَسَنٌ عَمَلًا بِالسُّنَّةِ فِي الْأَصْلِ وَإِنْ اسْتَبْعَدَهُ الزَّرْكَشِيُّ ( وَتَجُوزُ عَلَى الْجَنَائِزِ صَلَاةٌ ) وَاحِدَةٌ بِرِضَا أَوْلِيَائِهَا ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا الدُّعَاءُ ، وَالْجَمْعُ فِيهِ مُمْكِنٌ ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ ذُكُورًا أَمْ إنَاثًا ؛ أَمْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا ؛ لِأَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَاتَتْ هِيَ وَوَلَدُهَا زَيْدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فَصَلَّى عَلَيْهِمَا دُفْعَةً وَاحِدَةً ، وَجَعَلَ الْغُلَامَ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ ، وَفِي الْقَوْمِ جَمَاعَةٌ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، فَقَالُوا : هَذَا هُوَ
السُّنَّةُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ كَمَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ .
وَصَلَّى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَلَى تِسْعِ جَنَائِزَ : رِجَالٍ وَنِسَاءٍ ، فَجَعَلَ الرِّجَالَ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ ، وَالنِّسَاءَ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ .
ثُمَّ إنْ حَضَرَتْ الْجَنَائِزُ دُفْعَةً أُقْرِعَ بَيْنَ الْأَوْلِيَاءِ ، وَقُدِّمَ إلَى الْإِمَامِ الرَّجُلُ ثُمَّ الصَّبِيُّ ثُمَّ الْخُنْثَى ثُمَّ الْمَرْأَةُ ، فَإِنْ كَانُوا رِجَالًا أَوْ نِسَاءً جُعِلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ وَاحِدًا خَلْفَ وَاحِدٍ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ لِيُحَاذِيَ الْجَمِيع ، وَقُدِّمَ إلَيْهِ أَفْضَلُهُمْ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْوَرَعُ وَالْخِصَالُ الَّتِي تُرَغِّبُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَتَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ كَوْنُهُ أَقْرَبَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِالْحُرِّيَّةِ لِانْقِطَاعِ الرِّقِّ بِالْمَوْتِ أَوْ مَرْتَبَةِ قِدَمِ وَلِيٍّ السَّابِقَةِ ذَكَرًا كَانَ مَيِّتُهُ أَوْ أُنْثَى ، وَقُدِّمَ إلَيْهِ الْأَسْبَقُ مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَأَخِّرُ أَفْضَلَ ، ثُمَّ إنْ سَبَقَ رَجُلٌ أَوْ صَبِيٌّ اسْتَمَرَّ أَوْ أُنْثَى ثُمَّ حَضَرَ رَجُلٌ أَوْ صَبِيٌّ أُخِّرَتْ عَنْهُ ، وَمِثْلُهَا الْخُنْثَى ، وَلَوْ حَضَرَ خَنَاثَى مَعًا أَوْ مُرَتَّبِينَ جُعِلُوا صَفًّا عَنْ يَمِينِهِ وَرَأْسُ كُلِّ وَاحِدٍ عِنْدَ رِجْلِ الْآخَرِ لِئَلَّا يَتَقَدَّمَ أُنْثَى عَلَى ذَكَرٍ ، وَقَوْلُهُ : وَتَجُوزُ يُفْهِمُ أَنَّ الْأَفْضَل إفْرَادُ كُلِّ جِنَازَةٍ بِصَلَاةٍ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَرْجَى قَبُولًا ، وَلَيْسَ تَأْخِيرًا كَثِيرًا ، وَإِنْ قَالَ الْمُتَوَلِّي : إنَّ الْأَفْضَلَ الْجَمْعُ تَعْجِيلًا لِلدَّفْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ .
نَعَمْ إنْ خَشِيَ تَغَيُّرًا أَوْ انْفِجَارًا بِالتَّأْخِيرِ فَالْأَفْضَلُ الْجَمْعُ .
وَتَحْرُمُ عَلَى الْكَافِرِ ، وَلَا يَجِبُ غُسْلُهُ ، وَالْأَصَحُّ وُجُوبُ تَكْفِينِ الذِّمِّيِّ وَدَفْنِهِ
( وَتَحْرُمُ ) الصَّلَاةُ ( عَلَى الْكَافِرِ ) حَرْبِيًّا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا } [ التَّوْبَةَ ] ؛ وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَجُوزُ الدُّعَاءُ لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } [ النِّسَاءَ ] ( وَلَا يَجِبُ غُسْلُهُ ) عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّهُ كَرَامَةٌ وَتَطْهِيرٌ ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهِمَا لَكِنَّهُ يَجُوزُ { ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عَلِيًّا فَغَسَّلَ وَالِدَهُ وَكَفَّنَهُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ ، وَسَوَاءٌ فِي الْجَوَازِ الْقَرِيبُ وَغَيْرُهُ وَالْمُسْلِمُ وَغَيْرُهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ : لَيْسَ لِلْمُسْلِمِ غُسْلُهُ ( وَالْأَصَحُّ وُجُوبُ تَكْفِينِ الذِّمِّيِّ وَدَفْنِهِ ) مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، فَإِنْ فُقِدَ فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَلَا مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ وَفَاءً بِذِمَّتِهِ كَمَا يَجِبُ أَنْ يُطْعَمَ وَيُكْسَى فِي حَيَاتِهِ إذَا عَجَزَ .
أَمَّا إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ فَهُوَ فِي تَرِكَتِهِ أَوْ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ فَعَلَيْهِ .
وَالثَّانِي : لَا ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ قَدْ انْتَهَتْ بِالْمَوْتِ ، وَخَرَجَ بِالذِّمِّيِّ الْحَرْبِيُّ فَلَا يَجِبُ تَكْفِينُهُ قَطْعًا وَلَا دَفْنُهُ عَلَى الْأَصَحِّ ، بَلْ يَجُوزُ إغْرَاءُ الْكِلَابِ عَلَيْهِ ، إذْ لَا حُرْمَةَ لَهُ ، وَالْأَوْلَى دَفْنُهُ لِئَلَّا يَتَأَذَّى النَّاسُ بِرَائِحَتِهِ ، وَالْمُرْتَدُّ كَالْحَرْبِيِّ ، وَالْمُعَاهَدُ كَالذِّمِّيِّ وَفَاءً بِعَهْدِهِ وَإِنْ أَشْعَرَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ كَالْحَرْبِيِّ .
وَلَوْ وُجِدَ عُضْوُ مُسْلِمٍ عُلِمَ مَوْتُهُ صُلِّيَ عَلَيْهِ
( وَلَوْ وُجِدَ عُضْوُ مُسْلِمٍ عُلِمَ مَوْتُهُ ) بِغَيْرِ شَهَادَةٍ ، وَلَوْ كَانَ الْجُزْءُ ظُفْرًا أَوْ شَعْرًا ( صُلِّيَ عَلَيْهِ ) بِقَصْدِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ غُسْلِهِ وُجُوبًا كَالْمَيِّتِ الْحَاضِرِ ؛ لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ صَلَاةٌ عَلَى غَائِبٍ .
نَعَمْ مَنْ صَلَّى عَلَى هَذَا الْمَيِّتِ دُونَ هَذَا الْعُضْوِ نَوَى الصَّلَاةَ عَلَى الْعُضْوِ وَحْدَهُ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ شُهْبَةَ .
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ : مَحَلُّ نِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجُمْلَةِ إذَا عُلِمَ أَنَّهَا قَدْ غُسِّلَتْ ، فَإِنْ لَمْ تُغَسَّلْ نَوَى الصَّلَاةَ عَلَى الْعُضْوِ فَقَطْ ا هـ .
فَإِنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ نَوَى الصَّلَاةَ عَلَيْهَا إنْ كَانَتْ قَدْ غُسِّلَتْ ، وَلَا يَضُرُّ التَّعْلِيقُ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يَقْدَحُ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ غَيْبَةٌ بَاقِيَةٌ ، فَقَدْ صَلَّى الصَّحَابَةُ عَلَى يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ ، وَقَدْ أَلْقَاهَا طَائِرٌ نَسْرٌ فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ وَعَرَفُوهَا بِخَاتَمِهِ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بَلَاغًا .
وَيُشْتَرَطُ انْفِصَالُهُ مِنْ مَيِّتٍ لِيَخْرُجَ الْمُنْفَصِلُ مِنْ حَيٍّ كَمَا سَيَأْتِي كَأُذُنِهِ الْمُلْتَصِقَةِ إذَا وُجِدَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ .
نَعَمْ إنْ أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَمَاتَ فِي الْحَالِ فَحُكْمُ الْكُلِّ وَاحِدٌ يَجِبُ غُسْلُهُ وَتَكْفِينُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَدَفْنُهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ بَعْدَ مُدَّةٍ ، سَوَاءٌ انْدَمَلَتْ جِرَاحَتُهُ أَمْ لَا ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ الْجُزْءِ الشَّعْرَةُ الْوَاحِدَةُ فَلَا تُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا حُرْمَةَ لَهَا كَمَا نَقَلَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ صَاحِبِ الْعُدَّةِ وَأَقَرَّهُ ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : الْأَوْجَهُ أَنَّهَا كَغَيْرِهَا ، وَيَجِبُ مُوَارَاةُ ذَلِكَ الْجُزْءِ بِخِرْقَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْعَوْرَةِ ، وَلَوْ قُلْنَا : الْوَاجِبُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَقَطْ ؛ لِأَنَّ سَتْرَ جَمِيعِ الْبَدَنِ حَقٌّ لِلْمَيِّتِ كَمَا مَرَّ .
فَمَنْ قَالَ : إنَّمَا يَجِبُ سَتْرُهُ إذَا كَانَ مِنْ الْعَوْرَةِ غَفْلَةٌ مِنْهُ بَلْ الْقَائِلُ بِأَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ إنَّمَا
يَقُولُ بِهِ إذَا أَوْصَى بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ فَقَطْ ، وَهُنَا لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ وَصِيَّتَهُ بِذَلِكَ لَا تُنَفَّذُ ، وَيَجِبُ دَفْنُهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ كَالْمَيِّتِ الْحَاضِرِ .
أَمَّا مَا انْفَصَلَ مِنْ حَيٍّ أَوْ شَكَكْنَا فِي مَوْتِهِ كَيَدِ سَارِقٍ وَظُفْرٍ وَشَعْرٍ وَعَلَقَةٍ وَدَمٍ فَصْدٍ وَنَحْوِهِ فَيُسَنُّ دَفْنُهُ إكْرَامًا لِصَاحِبِهَا .
وَيُسَنُّ لَفُّ الْيَدِ وَنَحْوهَا بِخِرْقَةٍ أَيْضًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ كَالصَّرِيحِ فِي وُجُوبِ هَذِهِ الصَّلَاةِ .
قَالَ : وَهُوَ ظَاهِرٌ إذَا لَمْ يُصَلَّ عَلَى الْمَيِّتِ وَإِلَّا فَهَلْ نَقُولُ تَجِبُ تَكْرِمَةً لَهُ كَالْجُمْلَةِ أَوْ لَا ؟ فِيهِ احْتِمَالٌ يُعْرَفُ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي النِّيَّةِ ا .
هـ ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهَا لَا تَجِبُ وَهُوَ ظَاهِرٌ إنْ كَانَ قَدْ صَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَ غُسْلِ الْعُضْوِ وَإِلَّا فَتَجِبُ لِزَوَالِ الضَّرُورَةِ الْمُجَوِّزَةِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِدُونِ غَسْلِ الْعُضْوِ بِوِجْدَانِنَا لَهُ ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ الْكَافِي لَوْ قُطِعَ رَأْسُ إنْسَانٍ بِبَلَدٍ وَحُمِلَ إلَى بَلَدٍ آخَرَ صُلِّيَ عَلَيْهِ حَيْثُ هُوَ وَعَلَى الْجُثَّةِ حَيْثُ هِيَ ، وَلَا يُكْتَفَى بِالصَّلَاةِ عَلَى أَحَدِهِمَا ، وَلَوْ جُهِلَ كَوْنُ الْعُضْوِ مِنْ مُسْلِمٍ صُلِّيَ عَلَيْهِ أَيْضًا إنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَمَا لَوْ وُجِدَ فِيهَا مَيِّتٌ جُهِلَ إسْلَامُهُ .
وَالسِّقْطُ إنْ اسْتَهَلَّ أَوْ بَكَى كَكَبِيرٍ ، وَإِلَّا فَإِنْ ظَهَرَتْ أَمَارَةُ الْحَيَاةِ كَاخْتِلَاجٍ صُلِّيَ عَلَيْهِ فِي الْأَظْهَرِ ، وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ وَلَمْ يَبْلُغْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ ، وَكَذَا إنْ بَلَغَهَا فِي الْأَظْهَرِ .
( وَالسِّقْطُ ) بِتَثْلِيثِ السِّينِ مِنْ السُّقُوطِ ( إنْ ) عُلِمَتْ حَيَاتُهُ بِأَنْ ( اسْتَهَلَّ ) أَيْ صَاحَ ( أَوْ بَكَى ) وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْبُكَاءِ ، وَهُوَ بِالْقَصْرِ الدَّمْعُ ، وَبِالْمَدِّ رَفْعُ الصَّوْتِ ، فَإِذَا مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ فَحُكْمُهُ ( كَكَبِيرٍ ) فَيُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ لِتَيَقُّنِ مَوْتِهِ بَعْدَ حَيَاتِهِ ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ أَوْ لَمْ يَبْكِ ( فَإِنْ ظَهَرَتْ أَمَارَةُ الْحَيَاةِ كَاخْتِلَاجٍ ) أَوْ تَحَرُّكٍ ( صُلِّيَ عَلَيْهِ فِي الْأَظْهَرِ ) لِاحْتِمَالِ الْحَيَاةِ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا وَلِلِاحْتِيَاطِ .
وَالثَّانِي : لَا لِعَدَمِ تَيَقُّنِهَا ، وَقَطَعَ فِي الْمَجْمُوعِ بِالْأَوَّلِ ، وَيَجِبُ دَفْنُهُ قَطْعًا وَكَذَا غُسْلُهُ ، وَقِيلَ فِيهِ الْقَوْلَانِ ( وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ ) أَمَارَةُ الْحَيَاةِ ( وَلَمْ يَبْلُغْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) أَيْ لَمْ يَظْهَرْ خَلْقُهُ ( لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ ) قَطْعًا لِعَدَمِ الْأَمَارَةِ ، وَلَا يُغَسَّلُ عَلَى الْمَذْهَبِ بَلْ يُسَنُّ سَتْرُهُ بِخِرْقَةٍ وَدَفْنُهُ ( وَكَذَا إنْ بَلَغَهَا ) أَيْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ؛ أَيْ مِائَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا حَدَّ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ عَادَةً : أَيْ وَظَهَرَ خَلْقُهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ وُجُوبًا وَلَا جَوَازًا ( فِي الْأَظْهَرِ ) لِعَدَمِ ظُهُورِ حَيَاتِهِ ، وَيَجِبُ غُسْلُهُ وَتَكْفِينُهُ وَدَفْنُهُ ، وَفَارَقَ الصَّلَاةَ غَيْرُهَا بِأَنَّهُ أَوْسَعُ بَابًا مِنْهَا بِدَلِيلِ أَنَّ الذِّمِّيَّ يُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُدْفَنُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، فَالْعِبْرَةُ فِيمَا ذُكِرَ بِظُهُورِ خَلْقِ الْآدَمِيِّ وَعَدَمِ ظُهُورِهِ كَمَا تَقَرَّرَ ، فَالتَّعْبِيرُ بِبُلُوغِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَدَمِ بُلُوغِهَا جَرَى عَلَى الْغَالِبِ مِنْ ظُهُورِ خَلْقِ الْآدَمِيِّ عِنْدَهَا ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِزَمَنِ إمْكَانِ نَفْخِ الرُّوحِ وَعَدَمِهِ وَبَعْضُهُمْ بِالتَّخْطِيطِ وَعَدَمِهِ ، وَكُلُّهَا وَإِنْ تَقَارَبَتْ فَالْعِبْرَةُ بِمَا ذُكِرَ .
فَائِدَةٌ : السِّقْطُ هُوَ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ تَمَامَ أَشْهُرِهِ ، أَمَّا مَنْ بَلَغَهَا فَيُصَلَّى عَلَيْهِ مُطْلَقًا كَمَا
أَفْتَى بِهِ شَيْخِي وَفَعَلَهُ .
وَلَا يُغَسَّلُ الشَّهِيدُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَهُوَ مَنْ مَاتَ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ بِسَبَبِهِ ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَائِهِ أَوْ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ فَغَيْرُ شَهِيدٍ فِي الْأَظْهَرِ ، وَكَذَا فِي الْقِتَالِ لَا بِسَبَبِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَلَوْ اُسْتُشْهِدَ جُنُبٌ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ ، وَأَنَّهُ تُزَالُ نَجَاسَتُهُ غَيْرَ الدَّمِ .
( وَلَا يُغَسَّلُ الشَّهِيدُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ) أَيْ يَحْرُمَانِ ؛ لِأَنَّهُ حَيٌّ بِنَصِّ الْقُرْآنِ ، وَلِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ } .
قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : جَاءَتْ الْأَحَادِيث مِنْ وُجُوهٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَنَّهُ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ .
وَأَمَّا حَدِيثُ { أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِمْ عَشَرَةً عَشَرَةً ، وَفِي كُلِّ عَشَرَةٍ حَمْزَةُ حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعِينَ صَلَاةً } فَضَعِيفٌ وَخَطَأٌ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : يَنْبَغِي لِمَنْ رَوَاهُ أَنْ يَسْتَحِيَ عَلَى نَفْسِهِ ا هـ .
وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فَصَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ } .
وَلِلْبُخَارِيِّ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَلِلْأَمْوَاتِ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ دَعَا لَهُمْ كَالدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } [ التَّوْبَةَ ] أَيْ اُدْعُ لَهُمْ ، وَالْإِجْمَاعُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا ؛ لِأَنَّ عِنْدَنَا لَا يُصَلَّى عَلَى الشَّهِيدِ وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ .
وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ إبْقَاءُ أَثَرِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ وَالتَّعْظِيمُ لَهُمْ بِاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ دُعَاءِ الْقَوْمِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ أَفْضَلُ مِنْ الشُّهَدَاءِ مَعَ أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ فَضِيلَةٌ تُكْتَسَبُ فَرُغِّبَ فِيهَا وَلَا كَذَلِكَ النُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ ( وَهُوَ ) أَيْ الشَّهِيدُ الَّذِي يَحْرُمُ عَلَيْهِ غُسْلُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ ، ضَابِطُهُ أَنَّهُ كُلُّ ( مَنْ مَاتَ ) وَلَوْ امْرَأَةً أَوْ رَقِيقًا أَوْ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا ( فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ ) أَوْ الْكَافِرِ الْوَاحِدِ ، سَوَاءٌ أَكَانُوا حَرْبِيِّينَ أَمْ مُرْتَدِّينَ أَمْ أَهْلَ ذِمَّةٍ ، قَصَدُوا قَطْعَ الطَّرِيقِ عَلَيْنَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ( بِسَبَبِهِ ) أَيْ
الْقِتَالِ سَوَاءٌ قَتَلَهُ كَافِرٌ ، أَمْ أَصَابَهُ سِلَاحُ مُسْلِمٍ خَطَأً ، أَمْ عَادَ إلَيْهِ سِلَاحُهُ ، أَمْ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ أَوْ وَهْدَةٍ ، أَمْ رَفَسَتْهُ دَابَّتُهُ فَمَاتَ ، أَمْ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ بَاغٍ اسْتَعَانَ بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ كَمَا شَمِلَهُ قِتَالُ الْكُفَّارِ ، أَمْ قَتَلَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَرْبِ حَالَ انْهِزَامِهِمْ انْهِزَامًا كُلِّيًّا بِأَنْ تَبِعَهُمْ فَكَرُّوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَإِنْ لَمْ تَشْمَلْهُ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ أَوْ اتِّبَاعُهُ لَهُمْ لِاسْتِئْصَالِهِمْ ، فَكَأَنَّهُ قُتِلَ فِي حَالِ الْقِتَالِ ، أَمْ قَتَلَهُ الْكُفَّارُ صَبْرًا ، أَمْ انْكَشَفَتْ الْحَرْبُ عَنْهُ وَلَمْ يُعْلَمْ سَبَبُ قَتْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَثَرُ دَمٍ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَوْتَهُ بِسَبَبِ الْقِتَالِ كَمَا جَزَمَا بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْ الْأَصْلِ وَالْغَالِبِ ، إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ الشَّهَادَةِ ، وَالْغَالِبُ أَنَّ مَنْ يَمُوتُ بِالْمُعْتَرَكِ أَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْقِتَالِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ السَّبَبَ الظَّاهِرَ يُعْمَلُ بِهِ وَيُتْرَكُ الْأَصْلُ كَمَا إذَا رَأَيْنَا ظَبْيَةً تَبُولُ فِي الْمَاءِ وَرَأَيْنَاهُ مُتَغَيِّرًا فَإِنَّا نَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَةُ الْمَاءِ ( فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَائِهِ ) أَيْ الْقِتَالِ بِجِرَاحَةٍ فِيهِ يُقْطَعُ بِمَوْتِهِ مِنْهَا وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَغَيْرُ شَهِيدٍ فِي الْأَظْهَرِ ، سَوَاءٌ أَطَالَ الزَّمَانُ أَمْ قَصُرَ ؛ لِأَنَّهُ عَاشَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ ، وَالثَّانِي أَنَّهُ يَلْحَقُ بِالْمَيِّتِ فِي الْقِتَالِ .
أَمَّا لَوْ انْقَضَى الْقِتَالُ وَحَرَكَةُ الْمَجْرُوحِ فِيهِ حَرَكَةُ مَذْبُوحٍ فَشَهِيدٌ قَطْعًا أَوْ تُوُقِّعَتْ حَيَاتُهُ فَلَيْسَ بِشَهِيدٍ قَطْعًا ( أَوْ ) مَاتَ عَادِلٌ ( فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ ) لَهُ ( فَغَيْرُ شَهِيدٍ فِي الْأَظْهَرِ ) ؛ لِأَنَّهُ قَتِيلُ مُسْلِمٍ ، فَأَشْبَهَ الْمَقْتُولَ فِي غَيْرِ الْقِتَالِ ، وَقَدْ غَسَّلَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ابْنَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا أَحَدٌ .
نَعَمْ لَوْ اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ بِكُفَّارٍ فَقَتَلَ كَافِرٌ مُسْلِمًا فَهُوَ شَهِيدٌ كَمَا قَالَهُ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ ، وَالثَّانِي وَصَحَّحَهُ السُّبْكِيُّ أَنَّهُ شَهِيدٌ ؛ لِأَنَّهُ كَالْمَقْتُولِ فِي مَعْرَكَةِ الْكُفَّارِ ؛ وَلِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَمْ يُغَسِّلْ مَنْ قُتِلَ مَعَهُ .
أَمَّا إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ فَلَيْسَ بِشَهِيدٍ جَزْمًا ، فَقَوْلُهُ فِي الْأَظْهَرِ رَاجِعٌ لِلْمَسْأَلَتَيْنِ كَمَا تَقَرَّرَ ( وَكَذَا ) لَوْ مَاتَ ( فِي الْقِتَالِ لَا بِسَبَبِهِ ) أَيْ الْقِتَالِ كَمَوْتِهِ بِمَرَضٍ أَوْ فَجْأَةٍ أَوْ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا فَغَيْرُ شَهِيدٍ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، خَالَفْنَا فِيمَا إذَا مَاتَ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْقِتَالِ تَرْغِيبًا لِلنَّاسِ فِيهِ ، فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ ، وَقِيلَ : إنَّهُ شَهِيدٌ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ فِي مَعْرَكَةِ الْكُفَّارِ .
فَائِدَةٌ : الشُّهَدَاءُ كَمَا قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ ثَلَاثَةٌ .
الْأَوَّلُ : شَهِيدٌ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَفِي حُكْمِ الْآخِرَةِ بِمَعْنَى أَنَّ لَهُ ثَوَابًا خَاصًّا ، وَهُوَ مَنْ قُتِلَ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ بِسَبَبِهِ ، وَقَدْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِمَعَانٍ : مِنْهَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَرَسُولَهُ شَهِدَا لَهُ بِالْجَنَّةِ ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يُبْعَثُ وَلَهُ شَاهِدٌ بِقَتْلِهِ وَهُوَ دَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُبْعَثُ وَجُرْحُهُ يَتَفَجَّرُ دَمًا ، وَمِنْهَا أَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَةِ يَشْهَدُونَهُ فَيَقْبِضُونَ رُوحَهُ .
وَالثَّانِي : شَهِيدٌ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا فَقَطْ ، وَهُوَ مَنْ قُتِلَ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ بِسَبَبِهِ ، وَقَدْ غَلَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ ، أَوْ قُتِلَ مُدْبِرًا ، أَوْ قَاتَلَ رِيَاءً أَوْ نَحْوَهُ .
وَالثَّالِثُ : شَهِيدٌ فِي حُكْمِ الْآخِرَةِ فَقَطْ كَالْمَقْتُولِ ظُلْمًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ ، وَالْمَبْطُونِ إذَا مَاتَ بِالْبَطْنِ ،
وَالْمَطْعُونِ إذَا مَاتَ بِالطَّاعُونِ ، وَالْغَرِيقِ إذَا مَاتَ بِالْغَرَقِ ، وَالْغَرِيبِ إذَا مَاتَ فِي الْغُرْبَةِ ، وَطَالِبِ الْعِلْمِ إذَا مَاتَ عَلَى طَلَبِهِ ، أَوْ مَاتَ عِشْقًا أَوْ بِالطَّلْقِ أَوْ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنْ الْغَرِيبِ الْعَاصِيَ بِغُرْبَتِهِ كَالْآبِقِ وَالنَّاشِزَةِ ، وَمِنْ الْغَرِيقِ الْعَاصِيَ بِرُكُوبِهِ الْبَحْرَ كَأَنَّهُ كَانَ الْغَالِبُ فِيهِ عَدَمَ السَّلَامَةِ أَوْ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ أَوْ رَكِبَهُ لِشُرْبِ خَمْرٍ ، وَمِنْ الْمَيِّتَةِ بِالطَّلْقِ الْحَامِلَ بِزِنًا ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِيمَا عَدَا الْأَخِيرَةَ ، وَفِي الْأَخِيرَةِ أَيْضًا أَنَّ مَا ذُكِرَ لَا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ .
نَعَمْ الْمَيِّتُ عِشْقًا شَرْطُهُ الْعِفَّةُ وَالْكِتْمَانُ لِخَبَرِ { مَنْ عَشِقَ وَعَفَّ وَكَتَمَ فَمَاتَ مَاتَ شَهِيدًا } ( 1 ) وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ وَقْفَهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ .
قَالَ شَيْخُنَا : وَيَجِبُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَنْ يُتَصَوَّرُ إبَاحَةُ نِكَاحِهَا لَهُ شَرْعًا وَيَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إلَيْهَا كَزَوْجَةِ الْمَلِكِ وَإِلَّا فَعِشْقُ الْمُرْدِ مَعْصِيَةٌ ، فَكَيْفَ تَحْصُلُ بِهَا دَرَجَةُ الشَّهَادَةِ ا هـ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ لِمَا مَرَّ أَنَّ شَرْطَهُ الْعِفَّةُ وَالْكِتْمَانُ ( وَلَوْ اُسْتُشْهِدَ جُنُبٌ ) أَوْ نَحْوُهُ كَحَائِضٍ ( فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ ) كَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِبِ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ جُنُبٌ وَلَمْ يُغَسِّلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : { رَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ تُغَسِّلُهُ } رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحَيْهِمَا ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَسْقُطْ إلَّا بِفِعْلِنَا ؛ وَلِأَنَّهُ طُهْرٌ عَنْ حَدَثٍ فَسَقَطَ بِالشَّهَادَةِ كَغُسْلِ الْمَيِّتِ فَيَحْرُمُ ، إذْ لَا قَائِلَ بِغَيْرِ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : يَحْرُمُ غُسْلُهُ ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةُ حَدَثٍ فَلَمْ تُجْزِ كَغُسْلِ الْمَيِّتِ .
وَالثَّانِي : يُغَسَّلُ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي غُسْلٍ وَجَبَ بِالْمَوْتِ ، وَهَذَا الْغُسْلُ
كَانَ وَاجِبًا قَبْلَهُ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ سَقَطَ بِهِ كَغُسْلِ الْمَوْتِ كَمَا مَرَّ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّهُ ) أَيْ الشَّهِيدَ ( تُزَالُ ) حَتْمًا ( نَجَاسَتُهُ ) بِغُسْلِهَا ( غَيْرَ الدَّمِ ) الْمُتَعَلِّقِ بِالشَّهَادَةِ ، وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إلَى زَوَالِ دَمِهَا ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَثَرِ الشَّهَادَةِ ، بِخِلَافِ دَمِهَا الْخَالِي عَنْ النَّجَاسَةِ فَتَحْرُمُ إزَالَتُهُ ؛ لِأَنَّا نُهِينَا عَنْ غُسْلِ الشَّهِيدِ ؛ وَلِأَنَّهُ أَثَرُ عِبَادَةٍ ، وَإِنَّمَا لَمْ تَحْرُمْ إزَالَةُ الْخُلُوفِ مِنْ الصَّائِمِ مَعَ أَنَّهُ أَثَرُ عِبَادَةٍ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفَوِّتُ عَلَى نَفْسِهِ بِخِلَافِهِ هُنَا حَتَّى لَوْ فُرِضَ أَنَّ غَيْرَهُ أَزَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ حَرُمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ ، وَقَدْ مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ فِي بَابِ الْوُضُوءِ وَالثَّانِي : لَا تَزَالُ لِإِطْلَاقِ النَّهْيِ عَنْ غُسْلِ الشَّهِيدِ .
وَالثَّالِث : إنْ أَدَّى غُسْلُهَا إلَى إزَالَةِ أَثَرِ الشَّهَادَةِ لَمْ تُزَلْ وَإِلَّا أُزِيلَتْ .
وَيُكَفَّنُ فِي ثِيَابِهِ الْمُلَطَّخَةِ بِالدَّمِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَوْبُهُ سَابِغًا تُمِّمَ .
( وَيُكَفَّنُ ) الشَّهِيدُ نَدْبًا ( فِي ثِيَابِهِ الْمُلَطَّخَةِ بِالدَّمِ ) لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : رُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فِي صَدْرِهِ أَوْ حَلْقِهِ فَمَاتَ فَأُدْرِجَ فِي ثِيَابِهِ كَمَا هُوَ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ ثِيَابُهُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا وَاعْتِيدَ لُبْسُهَا غَالِبًا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُلَطَّخَةً بِالدَّمِ .
لَكِنْ الْمُلَطَّخَةُ بِالدَّمِ أَوْلَى ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ ، فَالتَّقْيِيدُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَأَصْلِهِ بِالْمُلَطَّخَةِ لِبَيَانِ الْأَكْمَلِ ، وَعُلِمَ بِالتَّقْيِيدِ بِنَدْبًا أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَكْفِينُهُ فِيهَا كَسَائِرِ الْمَوْتَى ، وَفَارَقَ الْغُسْلَ بِإِبْقَاءِ أَثَرِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْبَدَنِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِإِكْرَامِهِ وَالْإِشْعَارِ بِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ الدُّعَاءِ ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَوْبُهُ سَابِغًا ) أَيْ سَاتِرًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ ( تُمِّمَ ) وُجُوبًا ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْمَيِّتِ كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا .
وَقَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ : تُمِّمَ نَدْبًا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ مَمْنُوعٌ لِمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ ، وَلَوْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ نَزْعَهَا وَتَكْفِينَهُ فِي غَيْرِهَا جَازَ ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَيْهَا أَثَرُ شَهَادَةٍ أَمْ لَا إذْ لَا يَجِبُ تَكْفِينُهُ فِيهَا كَسَائِرِ الْمَوْتَى وَلَوْ طَلَبَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ النَّزْعَ وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ .
.
أُجِيبَ الْمُمْتَنِعُ فِي أَحَدِ احْتِمَالَيْنِ يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ ، وَيُنْدَبُ نَزْعُ آلَةِ الْحَرْبِ عَنْهُ كَدِرْعٍ وَخُفٍّ وَكُلِّ مَا لَا يُعْتَادُ لُبْسُهُ غَالِبًا كَجِلْدٍ وَفَرْوَةٍ وَجُبَّةٍ مَحْشُوَّةٍ ، وَفِي أَبِي دَاوُد فِي قَتْلَى أُحُدٍ الْأَمْرُ بِنَزْعِ الْحَدِيدِ وَالْجُلُودِ وَدَفْنُهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ .
.
فَصْلٌ أَقَلُّ الْقَبْرِ حُفْرَةٌ تَمْنَعُ الرَّائِحَةَ وَالسَّبُعَ ، وَيُنْدَبُ أَنْ يُوَسَّعَ وَيُعَمَّقَ ، قَدْرَ قَامَةٍ وَبَسْطَةٍ ، وَاللَّحْدُ أَفْضَلُ مِنْ الشَّقِّ إنْ صَلُبَتْ الْأَرْضُ ، وَيُوضَعُ رَأْسُهُ عِنْدَ رِجْلِ الْقَبْرِ ، وَيُسَلُّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ بِرِفْقٍ وَيُدْخِلُهُ الْقَبْرَ الرِّجَالُ ، وَأَوْلَاهُمْ الْأَحَقُّ بِالصَّلَاةِ .
قُلْتُ : إلَّا أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً مُزَوَّجَةً فَأَوْلَاهُمْ الزَّوْجُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَيَكُونُونَ وِتْرًا ، وَيُوضَعُ فِي اللَّحْدِ عَلَى يَمِينِهِ لِلْقِبْلَةِ وَيُسْنَدُ وَجْهُهُ إلَى جِدَارِهِ وَظَهْرُهُ بِلَبِنَةٍ وَنَحْوِهَا ، وَيُسَدُّ فَتْحُ اللَّحْدِ بِلَبِنٍ ، وَيَحْثُو مَنْ دَنَا ثَلَاثَ حَثَيَاتِ تُرَابٍ ثُمَّ يُهَالُ بِالْمَسَاحِي ، وَيُرْفَعُ الْقَبْرُ شِبْرًا فَقَطْ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ تَسْطِيحَهُ أَوْلَى مِنْ تَسْنِيمِهِ ، وَلَا يُدْفَنُ اثْنَانِ فِي قَبْرٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ فَيُقَدَّمُ أَفْضَلُهُمَا ، وَلَا يُجْلَسُ عَلَى الْقَبْرِ ، وَلَا يُوطَأُ ، وَيَقْرُبُ زَائِرُهُ كَقُرْبِهِ مِنْهُ حَيًّا .
( فَصْلٌ ) فِي دَفْنِ الْمَيِّتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ( أَقَلُّ الْقَبْرِ حُفْرَةٌ تَمْنَعُ ) بَعْدَ رَدْمِهَا ( الرَّائِحَةَ ) أَنْ تَظْهَرَ مِنْهُ فَتُؤْذِيَ الْحَيَّ ( وَ ) تَمْنَعُ ( السَّبُعَ ) عَنْ نَبْشِ تِلْكَ الْحُفْرَةِ لِأَكْلِ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي وُجُوبِ الدَّفْنِ عَدَمُ انْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ بِانْتِشَارِ رَائِحَتِهِ وَاسْتِقْذَارِ جِيفَتِهِ ، وَأَكْلِ السِّبَاعِ لَهُ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ ذَلِكَ قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِهِمَا إنْ كَانَا مُتَلَازِمَيْنِ بَيَانُ فَائِدَةِ الدَّفْنِ ، وَإِلَّا فَبَيَانُ وُجُوبِ رِعَايَتِهِمَا فَلَا يَكْفِي أَحَدُهُمَا ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّهُمَا لَيْسَا بِمُتَلَازِمَيْنِ كَالْفَسَاقِيِ الَّتِي لَا تَكْتُمُ رَائِحَةً مَعَ مَنْعِهَا الْوَحْشَ فَلَا يَكْفِي الدَّفْنُ فِيهَا ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ : فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْفَسَاقِيِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى هَيْئَةِ الدَّفْنِ الْمَعْهُودِ شَرْعًا .
قَالَ : وَقَدْ أَطْلَقُوا تَحْرِيمَ إدْخَالِ مَيِّتٍ عَلَى مَيِّتٍ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الْأَوَّلِ وَظُهُورِ رَائِحَتِهِ فَيَجِبُ إنْكَارُ ذَلِكَ ، وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ : إنَّهُ لَا يَكْفِي الدَّفْنُ فِيمَا يُصْنَعُ الْآنَ بِبِلَادِ مِصْرَ وَالشَّامِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ عَقْدِ أَزَجَّ وَاسِعٍ أَوْ مُقْتَصِدٍ شَبَهِ بَيْتٍ لِمُخَالَفَتِهِ الْخَبَرَ وَإِجْمَاعَ السَّلَفِ ، وَحَقِيقَتُهُ بَيْتٌ تَحْتَ الْأَرْضِ فَهُوَ كَوَضْعِهِ فِي غَارٍ وَنَحْوِهِ وَيُسَدُّ بَابُهُ ا هـ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَفْنٍ كَمَا أَشَارَ إلَى ذَلِكَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُمَا ، وَاحْتُرِزَ بِالْحَفْرِ عَمَّا إذَا وُضِعَ الْمَيِّتُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَوُضِعَ عَلَيْهِ أَحْجَارٌ كَثِيرَةٌ أَوْ تُرَابٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَكْتُمُ رَائِحَتَهُ وَيَحْرُسُهُ عَنْ أَكْلِ السِّبَاعِ ، فَلَا يَكْفِي ذَلِكَ إلَّا إنْ تَعَذَّرَ الْحَفْرُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَفْنٍ ( وَيُنْدَبُ أَنْ يُوَسَّعَ ) بِأَنْ يُزَادَ فِي طُولِهِ وَعَرْضِهِ ( وَيُعَمَّقَ ) بِأَنْ يُزَادَ فِي نُزُولِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
قَتْلَى أُحُدٍ { احْفِرُوا وَأَوْسِعُوا وَأَعْمِقُوا } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَعِبَارَةُ الْمَجْمُوعِ كَالْجُمْهُورِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَسَّعَ الْقَبْرُ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ وَرَأْسِهِ : أَيْ فَقَطْ ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ ، وَالْمَعْنَى يُسَاعِدُهُ لِيَصُونَهُ مِمَّا يَلِي ظَهْرَهُ مِنْ الِانْقِلَابِ وَمِمَّا يَلِي صَدْرَهُ مِنْ الِانْكِبَابِ .
فَائِدَةٌ : التَّعْمِيقُ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ ، وَحَكَى غَيْرُهُ الْإِعْجَامَ ، وَقُرِئَ بِهِ شَاذًّا { مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } [ الْحَجَّ ] ( قَدْرَ قَامَةٍ وَبَسْطَةٍ ) مِنْ رَجُلٍ مُعْتَدِلٍ لَهُمَا بِأَنْ يَقُومَ بَاسِطًا يَدَيْهِ مَرْفُوعَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَصَّى بِذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ ؛ وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ مَنْعِ ظُهُورِ الرَّائِحَةِ وَنَبْشِ السَّبُعِ ، وَهُمَا أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَنِصْفٌ كَمَا صَوَّبَهُ الْمُصَنِّفُ خِلَافًا لِلرَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ : إنَّهُمَا ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ وَنِصْفٌ تَبَعًا لِلْمَحَامِلِيِّ ( وَاللَّحْدُ ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّهَا وَسُكُونِ الْحَاءِ فِيهِمَا أَصْلُهُ الْمَيْلُ ، وَالْمُرَادُ أَنْ يُحْفَرَ فِي أَسْفَلِ جَانِبِ الْقَبْرِ الْقِبْلِيِّ مَائِلًا عَنْ الِاسْتِوَاءِ قَدْرَ مَا يَسَعُ الْمَيِّتَ وَيَسْتُرُهُ ( أَفْضَلُ مِنْ الشَّقِّ ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ بِخَطِّ الْمُصَنِّفِ ، وَهُوَ أَنْ يُحْفَرَ قَعْرُ الْقَبْرِ كَالنَّهْرِ أَوْ يُبْنَى جَانِبَاهُ بِلَبِنٍ أَوْ غَيْرِهِ غَيْرَ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ ، وَيُجْعَلَ بَيْنَهُمَا شَقٌّ يُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ ، وَيُسَقَّفُ عَلَيْهِ بِلَبِنٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ حِجَارَةٍ وَهِيَ أَوْلَى ، وَيُرْفَعَ السَّقْفُ قَلِيلًا بِحَيْثُ لَا يَمَسُّ الْمَيِّتَ ( إنْ صَلُبَتْ الْأَرْضُ ) لِقَوْلِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : { الْحَدُوا لِي لَحْدًا وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا كَمَا فُعِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ ( 1 ) .
أَمَّا فِي الرِّخْوَةِ فَالشَّقُّ أَفْضَلُ خَشْيَةَ الِانْهِيَارِ ( وَيُوضَعُ ) نَدْبًا (
رَأْسُهُ ) أَيْ الْمَيِّتِ ( عِنْدَ رِجْلِ الْقَبْرِ ) أَيْ مُؤَخَّرِهِ الَّذِي سَيَصِيرُ عِنْدَ سُفْلِهِ رِجْلُ الْمَيِّتِ ( وَيُسَلُّ ) الْمَيِّتُ ( مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ) سَلًّا ( بِرِفْقٍ ) لَا بِعُنْفٍ لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الْخِطْمِيَّ الصَّحَابِيَّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { صَلَّى عَلَى جِنَازَةِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْقَبْرَ مِنْ قِبَلِ رِجْلِ الْقَبْرِ ، وَقَالَ هَذَا مِنْ السُّنَّةِ } ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنْ السُّنَّةِ كَذَا ، حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ ، وَلِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُلَّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ سَلًّا } .
وَمَا قِيلَ : إنَّهُ أُدْخِلَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ فَضَعِيفٌ كَمَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ وَإِنْ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إدْخَالُهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ ؛ لِأَنَّ شَقَّ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاصِقٌ بِالْجِدَارِ وَلَحْدَهُ تَحْتَ الْجِدَارِ فَلَا مَوْضِع هُنَاكَ يُوضَعُ فِيهِ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ ( وَيُدْخِلُهُ الْقَبْرَ الرِّجَالُ ) إذَا وُجِدُوا ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أُنْثَى لِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَبَا طَلْحَةَ أَنْ يَنْزِلَ فِي قَبْرِ ابْنَتِهِ أُمِّ كُلْثُومٍ } وَوَقَعَ فِي الْمَجْمُوعِ تَبَعًا لِرَاوِي الْخَبَرِ أَنَّهَا رُقَيَّةُ ، وَرَّدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْأَوْسَطِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْهَدْ مَوْتَ رُقَيَّةَ وَلَا دَفْنَهَا أَيْ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِبَدْرٍ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ لَهَا مَحَارِمُ مِنْ النِّسَاءِ كَفَاطِمَةَ وَغَيْرِهَا ؛ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى قُوَّةٍ ، وَالرِّجَالُ أَحْرَى بِذَلِكَ بِخِلَافِ النِّسَاءِ لِضَعْفِهِنَّ عَنْ ذَلِكَ غَالِبًا ، وَيُخْشَى مِنْ مُبَاشَرَتِهِنَّ هَتْكُ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ وَانْكِشَافُهُنَّ .
نَعَمْ يُنْدَبُ لَهُنَّ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ أَنْ يَلِينَ حَمْلَ الْمَرْأَةِ مِنْ مُغْتَسَلِهَا إلَى
النَّعْشِ وَتَسْلِيمَهَا إلَى مَنْ فِي الْقَبْرِ وَحَلُّ ثِيَابِهَا فِيهِ .
وَظَاهِرُ مَا فِي الْمُخْتَصَرِ وَكَلَامِ الشَّامِلِ وَالنِّهَايَةِ أَنَّ هَذَا وَاجِبٌ عَلَى الرِّجَالِ عِنْدَ وُجُودِهِمْ وَتَمَكُّنِهِمْ وَاسْتَظْهَرَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَهُوَ ظَاهِرٌ ( وَأَوْلَاهُمْ ) أَيْ الرِّجَالِ بِذَلِكَ ( الْأَحَقُّ بِالصَّلَاةِ ) عَلَيْهِ دَرَجَةً ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي الْغُسْلِ وَخَرَجَ بِدَرَجَةً الْأَوْلَى بِالصَّلَاةِ صِفَةً ؛ إذْ الْأَفْقَهُ أَوْلَى مِنْ الْأَسَنِّ وَالْأَقْرَبُ الْبَعِيدُ الْفَقِيهُ أَوْلَى مِنْ الْأَقْرَبِ غَيْرِ الْفَقِيهِ هُنَا عَكْسُ مَا فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالْمُرَادُ بِالْأَفْقَهِ الْأَعْلَمُ بِذَلِكَ الْبَابِ ( قُلْتُ ) كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ ( إلَّا أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً مُزَوَّجَةً فَأَوْلَاهُمْ ) أَيْ الرِّجَالِ بِإِدْخَالِهَا الْقَبْرَ ( الزَّوْجُ ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهَا ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) ؛ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى مَا لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَيَلِيهِ الْأَفْقَهُ ، ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنْ الْمَحَارِمِ ، ثُمَّ عَبْدُهَا ؛ لِأَنَّهُ كَالْمَحْرَمِ فِي النَّظَرِ وَنَحْوِهِ ، ثُمَّ الْمَمْسُوحُ ثُمَّ الْمَجْبُوبُ ثُمَّ الْخَصِيُّ لِضَعْفِ شَهْوَتِهِمْ ، وَرُتِّبُوا كَذَلِكَ لِتَفَاوُتِهِمْ فِيهَا ، ثُمَّ الْعَصَبَةُ الَّذِي لَا مَحْرَمِيَّةَ لَهُمْ كَبَنِي عَمٍّ وَمُعْتِقٍ وَعَصَبَتِهِ بِتَرْتِيبِهِمْ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ ذَوُو الرَّحِمِ الَّذِينَ لَا مَحْرَمِيَّةَ لَهُمْ كَذَلِكَ كَبَنِي خَالٍ وَبَنِي عَمَّةٍ ، ثُمَّ الْأَجْنَبِيُّ الصَّالِحُ لِخَبَرِ أَبِي طَلْحَةَ السَّابِقِ ، ثُمَّ الْأَفْضَلُ فَالْأَفْضَلُ ، ثُمَّ النِّسَاءُ بِتَرْتِيبِهِنَّ السَّابِقِ فِي الْغُسْلِ ، وَالْخَنَاثَى كَالنِّسَاءِ ، فَإِنْ اسْتَوَى اثْنَانِ فِي الدَّرَجَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَتَنَازَعَا أَقُرِعَ بَيْنَهُمَا .
وَالْأَوْجَهُ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ : أَنَّ السَّيِّدَ فِي الْأَمَةِ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ كَالزَّوْجِ .
وَأَمَّا غَيْرُهَا فَهَلْ يَكُونُ مَعَهَا كَالْأَجْنَبِيِّ أَوْ لَا ؟ الْأَقْرَبُ نَعَمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مَحْرَمِيَّةٌ .
وَأَمَّا
الْعَبْدُ فَهُوَ أَحَقُّ بِدَفْنِهِ مِنْ الْأَجَانِبِ حَتْمًا ، وَالْوَالِي لَا يُقَدَّمُ هُنَا عَلَى الْقَرِيبِ قَطْعًا ( وَيَكُونُونَ ) أَيْ الْمُدْخِلُونَ الْمَيِّتَ الْقَبْرَ ( وِتْرًا ) نَدْبًا وَاحِدًا فَأَكْثَرَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ كَمَا فُعِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ " أَنَّ الدَّافِنِينَ لَهُ كَانُوا ثَلَاثَةً " وَأَبُو دَاوُد " أَنَّهُمْ كَانُوا خَمْسَةً " ( وَيُوضَعُ فِي اللَّحْدِ ) أَوْ غَيْرِهِ ( عَلَى يَمِينِهِ ) نَدْبًا اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ ، وَكَمَا فِي الِاضْطِجَاعِ عِنْدَ النَّوْمِ ، وَيُوَجَّهُ ( لِلْقِبْلَةِ ) وُجُوبًا تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْمُصَلِّي ، وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْلِمٍ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا سَيَأْتِي ، فَلَوْ وُجِّهَ لِغَيْرِهَا نُبِشَ وَوُجِّهَ لِلْقِبْلَةِ وُجُوبًا إنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ ، وَإِلَّا فَلَا يُنْبَشُ ، أَوَّلُهَا عَلَى يَسَارِهِ كُرِهَ وَلَمْ يُنْبَشْ ، وَهُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ فِي مَجْمُوعِهِ بِقَوْلِهِ : إنَّهُ خِلَافُ الْأَفْضَلِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِمْ إنَّهُ كَالْمُصَلِّي أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةَ وَهُوَ كَذَلِكَ بَلْ يَجُوزُ اسْتِقْبَالُهُ وَاسْتِدْبَارُهُ .
نَعَمْ لَوْ مَاتَتْ ذِمِّيَّةٌ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ مُسْلِمٌ جُعِلَ ظَهْرُهَا إلَى الْقِبْلَةِ وُجُوبًا لِيَتَوَجَّهَ الْجَنِينُ إلَى الْقِبْلَةِ إذَا كَانَ يَجِبُ دَفْنُ الْجَنِينِ لَوْ كَانَ مُنْفَصِلًا ؛ لِأَنَّ وَجْهَ الْجَنِينِ عَلَى مَا ذَكَرُوا لِظَهْرِ الْأُمِّ ، وَتُدْفَنُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ بَيْنَ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ .
وَقِيلَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ .
وَقِيلَ فِي مَقَابِرِ الْكُفَّارِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ حَذَفَ الْمُصَنِّفُ لَفْظَةَ فِي اللَّحْدِ كَانَ أَوْلَى لِيَشْمَلَ مَا قَدَّرْتُهُ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْوَضْعِ عَلَى الْيَمِينِ وَالِاسْتِقْبَالِ ، وَالْمُعْتَمَدُ فِيهِمَا مَا تَقَرَّرَ ( وَيُسْنَدُ وَجْهُهُ ) نَدْبًا وَكَذَا رِجْلَاهُ ( إلَى جِدَارِهِ ) أَيْ الْقَبْرِ وَيُجْعَلُ فِي بَاقِي بَدَنِهِ كَالْمُتَجَافِي فَيَكُونُ كَالْقَوْسِ لِئَلَّا
يَنْكَبَّ ( وَ ) يُسْنَدُ ( ظَهْرُهُ بِلَبِنَةٍ وَنَحْوِهَا ) كَطِينٍ لِيَمْنَعَهُ مِنْ الِاسْتِلْقَاءِ عَلَى قَفَاهُ ، وَيُجْعَلُ تَحْتَ رَأْسِهِ لَبِنَةٌ أَوْ حَجَرٌ وَيُفْضِي بِخَدِّهِ الْأَيْمَنِ إلَيْهِ ، أَوْ إلَى التُّرَابِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : بِأَنْ يُنَحَّى الْكَفَنُ عَنْ خَدِّهِ وَيُوضَعُ عَلَى التُّرَابِ ( وَيُسَدُّ فَتْحُ اللَّحْدِ ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَذَا غَيْرُهُ ( بِلَبِنٍ ) وَهُوَ طُوبٌ لَمْ يُحْرَقْ وَنَحْوُهُ كَطِينٍ لِقَوْلِ سَعْدٍ فِيمَا مَرَّ : وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي صِيَانَةِ الْمَيِّتِ عَنْ النَّبْشِ ، وَنَقَلَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ اللَّبِنَاتِ الَّتِي وُضِعَتْ فِي قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعٌ ( وَيَحْثُو ) نَدْبًا بِيَدَيْهِ جَمِيعًا ( مَنْ دَنَا ) مِنْ الْقَبْرِ ( ثَلَاثَ حَثَيَاتِ تُرَابٍ ) مِنْ تُرَابِ الْقَبْرِ ، وَيَكُونُ الْحَثْيُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حَثَا مِنْ قِبَلِ رَأْسِ الْمَيِّتِ ثَلَاثًا } رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِي هَذَا الْفَرْضِ ، يُقَالُ حَثَى يَحْثِي حَثْيًا وَحَثَيَاتٍ ، وَحَثَا يَحْثُو حَثْوًا وَحَثَوَاتٍ وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ ، وَيُنْدَبُ أَنْ يَقُولَ مَعَ الْأُولَى { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ } وَمَعَ الثَّانِيَةِ { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } وَمَعَ الثَّالِثَةِ { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } [ طَه ] وَلَمْ يُبَيِّنْ الدُّنُوَّ وَكَأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الْعُرْفِ ، وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ : مِنْ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ .
وَعِبَارَةُ الرَّوْضَةِ : وَأَصْلُهَا كُلُّ مَنْ دَنَا .
وَقَالَ فِي الْكِفَايَةِ : إنَّهُ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ حَضَرَ الدَّفْنَ وَهُوَ شَامِلٌ الْعَبْدَ أَيْضًا ، وَهُوَ كَمَا قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ ظَاهِرٌ ( ثُمَّ يُهَالُ ) مِنْ الْإِهَالَةِ وَهِيَ الصَّبُّ : أَيْ يُصَبُّ التُّرَابُ عَلَى الْمَيِّتِ ( بِالْمَسَاحِي ) ؛ لِأَنَّهُ أَسْرَعُ إلَى تَكْمِيلِ الدَّفْنِ ، وَالْمَسَاحِي بِفَتْحِ الْمِيمِ جَمْعُ
مِسْحَاةٍ بِكَسْرِهَا ، وَهِيَ آلَةٌ تُمْسَحُ الْأَرْضُ بِهَا وَلَا تَكُونُ إلَّا مِنْ حَدِيدٍ بِخِلَافِ الْمِجْرَفَةِ .
قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ ، وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ ؛ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ السَّحْفِ أَوْ الْكَشْفِ ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا هِيَ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا وَإِنَّمَا كَانَتْ الْإِهَالَةُ بَعْدَ الْحَثْيِ ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ وُقُوعِ اللَّبِنَاتِ وَعَنْ تَأَذِّي الْحَاضِرِينَ بِالْغُبَارِ ( وَيُرْفَعُ ) نَدْبًا ( الْقَبْرُ شِبْرًا ) تَقْرِيبًا لِيُعْرَفَ فَيُزَارَ وَيُحْتَرَمَ ؛ وَلِأَنَّ قَبْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ نَحْوَ شِبْرٍ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ ( فَقَطْ ) فَلَا يُزَادُ عَلَى تُرَابِ الْقَبْرِ لِئَلَّا يُعَظَّمَ شَخْصُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَرْتَفِعْ بِتُرَابِهِ شِبْرًا فَالْأَوْجَهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنْ يُزَادَ ، هَذَا إذَا كَانَ بِدَارِنَا .
أَمَّا لَوْ مَاتَ مُسْلِمٌ بِدَارِ الْكُفَّارِ فَلَا يُرْفَعُ قَبْرُهُ بَلْ يُخْفَى لِئَلَّا يَتَعَرَّض لَهُ الْكُفَّارُ إذَا رَجَعَ الْمُسْلِمُونَ قَالَهُ الْمُتَوَلِّي وَأَقَرَّاهُ ، وَكَذَا إذَا كَانَ بِمَوْضِعٍ يُخَافُ نَبْشُهُ لِسَرِقَةِ كَفَنِهِ أَوْ لِعَدَاوَةٍ أَوْ نَحْوِهَا كَمَا قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ ، وَأَلْحَقَ الْأَذْرَعِيُّ بِذَلِكَ أَيْضًا مَا لَوْ مَاتَ بِبَلَدِ بِدْعَةٍ وَخُشِيَ عَلَيْهِ مِنْ نَبْشِهِ وَهَتْكِهِ وَالتَّمْثِيلِ بِهِ كَمَا صَنَعُوا بِبَعْضِ الصُّلَحَاءِ وَأَحْرَقُوهُ ( وَالصَّحِيحُ ) الْمَنْصُوصُ ( أَنَّ تَسْطِيحَهُ أَوْلَى مِنْ تَسْنِيمِهِ ) كَمَا فُعِلَ بِقَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرَيْ صَاحِبَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ، وَالثَّانِي تَسْنِيمُهُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ التَّسْطِيحَ شِعَارُ الرَّوَافِضِ فَيُتْرَكُ مُخَالَفَةً لَهُمْ وَصِيَانَةً لِلْمَيِّتِ وَأَهْلِهِ عَنْ الِاتِّهَامِ بِبِدْعَةٍ ، وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تُتْرَكُ لِمُوَافَقَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ فِيهَا ، إذْ لَوْ رُوعِيَ ذَلِكَ ، لَأَدَّى إلَى تَرْكِ سُنَنٍ كَثِيرَةٍ ( وَلَا يُدْفَنُ اثْنَانِ فِي قَبْرٍ ) ابْتِدَاءً بَلْ يُفْرَدُ كُلُّ مَيِّتٍ بِقَبْرٍ حَالَةَ
الِاخْتِيَارِ لِلِاتِّبَاعِ ، ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَقَالَ : إنَّهُ صَحِيحٌ ، وَعِبَارَةُ الرَّوْضَةِ : الْمُسْتَحَبُّ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ أَنْ يُدْفَنَ كُلُّ مَيِّتٍ فِي قَبْرٍ ا هـ .
فَلَوْ جُمِعَ اثْنَانِ فِي قَبْرٍ وَاتَّحَدَ الْجِنْسُ كَرَجُلَيْنِ وَامْرَأَتَيْنِ كُرِهَ عِنْدَ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَحَرُمَ عِنْدَ السَّرَخْسِيِّ ، وَنَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ فِي مَجْمُوعِهِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ : وَعِبَارَةُ الْأَكْثَرِينَ وَلَا يُدْفَنُ اثْنَانِ فِي قَبْرٍ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : لَكِنَّ الْأَصَحَّ الْكَرَاهَةُ أَوْ نَفْيُ الِاسْتِحْبَابِ .
أَمَّا التَّحْرِيمُ فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ا هـ .
وَسَيَأْتِي مَا يُقَوِّي التَّحْرِيمَ ( إلَّا لِضَرُورَةٍ ) كَأَنْ كَثُرُوا وَعَسُرَ إفْرَادُ كُلِّ مَيِّتٍ بِقَبْرٍ فَيُجْمَعُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَالْأَكْثَرِ فِي قَبْرٍ بِحَسَبِ الضَّرُورَةِ ، وَكَذَا فِي ثَوْبٍ ، وَذَلِكَ لِلِاتِّبَاعِ فِي قَتْلَى أُحُدٍ ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ( فَيُقَدَّمُ ) حِينَئِذٍ ( أَفْضَلُهُمَا ) وَهُوَ الْأَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ إلَى جِدَارِ الْقَبْرِ الْقِبْلِيِّ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْأَلُ فِي قَتْلَى أُحُدٍ عَنْ أَكْثَرِهِمْ قُرْآنًا فَيُقَدِّمُهُ إلَى اللَّحْدِ ، لَكِنْ لَا يُقَدَّمُ فَرْعٌ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ وَإِنْ عَلَا حَتَّى يُقَدَّمَ الْجَدُّ وَلَوْ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَكَذَا الْجَدَّةُ ، قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ ، فَيُقَدَّمُ الْأَبُ عَلَى الِابْنِ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ ، وَتُقَدَّمُ الْأُمُّ عَلَى الْبِنْتِ وَإِنْ كَانَتْ أَفْضَلَ .
أَمَّا الِابْنُ مَعَ الْأُمِّ فَيُقَدَّمُ لِفَضِيلَةِ الذُّكُورَةِ ، وَيُقَدَّمُ الرَّجُلُ عَلَى الصَّبِيِّ ، وَالصَّبِيُّ عَلَى الْخُنْثَى ، وَالْخُنْثَى عَلَى الْمَرْأَةِ ، وَلَا يُجْمَعُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فِي قَبْرٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ فَيَحْرُمُ عِنْدَ عَدَمِهَا كَمَا فِي الْحَيَاةِ .
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : وَمَحَلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مَحْرَمِيَّةٌ أَوْ زَوْجِيَّةٌ وَإِلَّا فَيَجُوزُ الْجَمْعُ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَهُوَ مُتَّجَهٌ ، وَاَلَّذِي فِي الْمَجْمُوعِ
أَنَّهُ لَا فَرْقَ فَقَالَ : إنَّهُ حَرَامٌ حَتَّى فِي الْأُمِّ مَعَ وَلَدِهَا ، وَهَذَا كَمَا قَالَ شَيْخِي هُوَ الظَّاهِرُ ، إذْ الْعِلَّةُ فِي مَنْعِ الْجَمْعِ الْإِيذَاءُ ؛ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَحْرَمِ وَغَيْرِهِ وَلَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ لَا ، وَالْخُنْثَى مَعَ الْخُنْثَى أَوْ غَيْرِهِ كَالْأُنْثَى مَعَ الذَّكَرِ ، وَالصَّغِيرُ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ كَالْمَحْرَمِ ، وَيُحْجَزُ بَيْنَ الْمَيِّتَيْنِ بِتُرَابٍ حَيْثُ جُمِعَ بَيْنَهُمَا نَدْبًا كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي فِي شَرْحِ إرْشَادِهِ ، وَلَوْ اتَّحَدَ الْجِنْسُ .
أَمَّا نَبْشُ الْقَبْرِ بَعْدَ دَفْنِ الْمَيِّتِ لِدَفْنِ ثَانٍ فِيهِ : أَيْ فِي لَحْدِهِ فَلَا يَجُوزُ مَا لَمْ يُبْلَ الْأَوَّلُ وَيَصِرْ تُرَابًا .
وَأَمَّا إذَا جُعِلَ فِي الْقَبْرِ فِي لَحْدٍ آخَرَ مِنْ جَانِبِ الْقَبْرِ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ مِنْ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ شَيْءٌ كَمَا يُفْعَلُ الْآنَ كَثِيرًا فَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْحُرْمَةِ وَلَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ ( وَلَا يُجْلَسُ عَلَى الْقَبْرِ ) الْمُحْتَرَمِ وَلَا يُتَّكَأُ عَلَيْهِ وَلَا يُسْتَنَدُ إلَيْهِ ( وَلَا يُوطَأُ ) عَلَيْهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ كَأَنْ لَا يَصِلَ إلَى مَيِّتِهِ أَوْ مَنْ يَزُورُهُ وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ أَوْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْحَفْرِ إلَّا بِوَطْئِهِ لِصِحَّةِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ ، وَالْمَشْهُورُ فِي ذَلِكَ الْكَرَاهَةُ وَهُوَ الْمَجْزُومُ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا .
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتَخْلُصَ إلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ } فَفُسِّرَ فِيهِ الْجُلُوسُ بِالْحَدَثِ وَهُوَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَجَرَى الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَفِي رِيَاضِ الصَّالِحِينَ عَلَى الْحُرْمَةِ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ ، وَالْمُعْتَمَدُ الْكَرَاهَةُ .
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُحْتَرَمِ كَقَبْرِ حَرْبِيٍّ وَمُرْتَدٍّ وَزِنْدِيقٍ
فَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ ، وَإِذَا مَضَتْ مُدَّةٌ يُتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ شَيْءٌ فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَلَا يُكْرَهُ الْمَشْيُ بَيْنَ الْمَقَابِرِ بِالنَّعْلِ عَلَى الْمَشْهُورِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ } وَمَا وَرَدَ مِنْ الْأَمْرِ بِإِلْقَاءِ السِّبْتِيَّتَيْنِ فِي أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيَّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ لِبَاسِ الْمُتَرَفِّهِينَ ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمَا نَجَاسَةٌ ، وَالنِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ بِكَسْرِ السِّينِ الْمَدْبُوغَةُ بِالْقَرَظِ ( وَيَقْرُبُ زَائِرُهُ ) مِنْهُ ( كَقُرْبِهِ مِنْهُ ) فِي زِيَارَتِهِ لَهُ ( حَيًّا ) أَيْ يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا احْتِرَامًا لَهُ .
نَعَمْ لَوْ كَانَ عَادَتُهُ مِنْهُ الْبُعْدَ وَقَدْ أَوْصَى بِالْقُرْبِ مِنْهُ قَرُبَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْحَيَاةِ قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ .
وَأَمَّا مَنْ كَانَ يُهَابُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لِكَوْنِهِ جَبَّارًا كَالْوُلَاةِ وَالظَّلَمَةِ فَلَا عِبْرَةَ بِذَلِكَ .
وَالتَّعْزِيَةُ سُنَّةٌ قَبْلَ دَفْنِهِ وَبَعْدَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَيُعَزَّى الْمُسْلِمُ بِالْمُسْلِمِ : أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ وَأَحْسَنَ عَزَاءَكَ وَغَفَرَ لِمَيِّتِكَ ، وَبِالْكَافِرِ أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ وَصَبَّرَكَ ، وَالْكَافِرُ بِالْمُسْلِمِ غَفَرَ اللَّهُ لِمَيِّتِكَ وَأَحْسَنَ عَزَاءَكَ .
( وَالتَّعْزِيَةُ ) لِأَهْلِ الْمَيِّتِ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ ذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ ( سُنَّةٌ ) فِي الْجُمْلَةِ مُؤَكَّدَةٌ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إلَّا كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } نَعَمْ الشَّابَّةُ لَا يُعَزِّيهَا أَجْنَبِيٌّ وَإِنَّمَا يُعَزِّيهَا مَحَارِمُهَا وَزَوْجُهَا ، وَكَذَا مَنْ أُلْحِقَ بِهِمْ فِي جَوَازِ النَّظَرِ كَمَا بَحَثَهُ شَيْخُنَا وَابْنُ خَيْرَانَ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّعْزِيَةُ بِالْمَمْلُوكِ ، بَلْ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : يُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَزَّى بِكُلِّ مَنْ يَحْصُلُ لَهُ عَلَيْهِ وَجْدٌ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ حَتَّى الزَّوْجَةُ وَالصَّدِيقُ ، وَتَعْبِيرُهُمْ بِالْأَهْلِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ ، وَتُنْدَبُ الْبُدَاءَةُ بِأَضْعَفِهِمْ عَنْ حَمْلِ الْمُصِيبَةِ ، وَخُرِّجَ بِقَوْلِنَا فِي الْجُمْلَةِ تَعْزِيَةُ الذِّمِّيِّ بِذِمِّيٍّ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ لَا مَنْدُوبَةٌ ، وَهِيَ لُغَةً التَّسْلِيَةُ عَمَّنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ ، وَاصْطِلَاحًا الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ وَالْحَمْلُ عَلَيْهِ بِوَعْدِ الْأَجْرِ ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ الْوِزْرِ بِالْجَزَعِ ، وَالدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ بِالْمَغْفِرَةِ ، وَلِلْمُصَابِ بِجَبْرِ الْمُصِيبَةِ ، وَتُسَنُّ ( قَبْلَ دَفْنِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ شِدَّةِ الْجَزَعِ وَالْحَزَنِ ( وَ ) لَكِنْ ( بَعْدَهُ ) أَوْلَى لِاشْتِغَالِهِمْ قَبْلَهُ بِتَجْهِيزِهِ إلَّا إنْ أَفْرَطَ حُزْنُهُمْ فَتَقْدِيمُهَا أَوْلَى لِيُصَبِّرَهُمْ ، وَغَايَتُهَا ( ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ) تَقْرِيبًا مِنْ الْمَوْتِ الْحَاضِرِ وَمِنْ الْقُدُومِ لِغَائِبٍ ، وَمِثْلُ الْغَائِبِ الْمَرِيضُ الْمَحْبُوسُ فَتُكْرَهُ التَّعْزِيَةُ بَعْدَهَا إذْ الْغَرَضُ مِنْهَا تَسْكِينُ قَلْبِ الْمُصَابِ ، وَالْغَالِبُ سُكُونُهُ فِيهَا فَلَا يُجَدِّدُ حُزْنَهُ ، وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ لَهَا بِأَنْ يَجْتَمِعَ أَهْلُ الْمَيِّتِ بِمَكَانٍ لِيَأْتِيَهُمْ النَّاسُ لِلتَّعْزِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْدَثٌ وَهُوَ بِدْعَةٌ ؛ وَلِأَنَّهُ يُجَدِّدُ الْحُزْنَ وَيُكَلِّفُ الْمُعَزِّيَ .
وَأَمَّا مَا ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهَا مِنْ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَهُ قَتْلُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْحُزْنُ } فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ جُلُوسَهُ كَانَ لِأَجْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ النَّاسُ لِيُعَزُّوهُ ( وَيُعَزَّى ) بِفَتْحِ الزَّايِ ( الْمُسْلِمُ ) أَيْ يُقَالُ فِي تَعْزِيَتِهِ ( بِالْمُسْلِمِ أَعْظَمَ ) أَيْ جَعَلَ ( اللَّهُ أَجْرَكَ ) عَظِيمًا ( وَأَحْسَنَ ) أَيْ جَعَلَ اللَّهُ ( عَزَاءَكَ ) بِالْمَدِّ حَسَنًا وَزَادَ عَلَى الْمُحَرَّرِ قَوْلَهُ ( وَغَفَرَ لِمَيِّتِكَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَائِقٌ بِالْحَالِ ، وَقُدِّمَ الدُّعَاءُ لِلْمُعَزِّي ؛ لِأَنَّهُ الْمُخَاطَبُ ، وَيُسَنُّ أَنْ يَبْدَأَ قَبْلَهُ بِمَا وَرَدَ مِنْ تَعْزِيَةِ الْخَضِرِ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْتِهِ : إنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ ، وَخَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ ، وَدَرَكًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ ، فَبِاَللَّهِ فَثِقُوا ، وَإِيَّاهُ فَارْجُوا ، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ ( وَ ) يُعَزَّى الْمُسْلِمُ أَيْ يُقَالُ فِي تَعْزِيَتِهِ ( بِالْكَافِرِ ) الذِّمِّيِّ ( أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ وَصَبَّرَكَ ) وَأَخْلَفَ عَلَيْكَ أَوْ جَبَرَ مُصِيبَتَكَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ اللَّائِقُ بِالْحَالِ .
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : إذَا اُحْتُمِلَ حُدُوثُ مِثْلِ الْمَيِّتِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ ، يُقَالُ أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِالْهَمْزِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ : رُدَّ عَلَيْكَ مِثْلُ مَا ذَهَبَ مِنْكَ وَإِلَّا خَلَّفَ عَلَيْكَ : أَيْ كَانَ اللَّهُ خَلِيفَةً عَلَيْكَ مِنْ فَقْدِهِ ، وَلَا يَقُولُ وَغَفَرَ لِمَيِّتِكَ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ حَرَامٌ ( وَ ) يُعَزَّى ( الْكَافِرُ ) الْمُحْتَرَمُ جَوَازًا إلَّا إنْ رُجِيَ إسْلَامُهُ فَنَدْبًا : أَيْ يُقَالُ فِي تَعْزِيَتِهِ ( بِالْمُسْلِمِ : غَفَرَ اللَّهُ لِمَيِّتِكَ وَأَحْسَنَ عَزَاءَكَ ) وَقُدِّمَ الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ فِي هَذَا ؛ لِأَنَّهُ لِمُسْلِمٍ وَالْحَيُّ كَافِرٌ ، وَلَا يُقَالُ أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ .
أَمَّا
الْكَافِرُ غَيْرُ الْمُحْتَرَمِ مِنْ حَرْبِيٍّ أَوْ مُرْتَدٍّ كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ فَلَا يُعَزَّى ، وَهَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ ؟ الظَّاهِرُ فِي الْمُهِمَّاتِ الْأُوَلُ ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الثَّانِي وَهُوَ الظَّاهِرُ .
هَذَا إنْ لَمْ يُرْجَ إسْلَامُهُ فَإِنْ رُجِيَ اُسْتُحِبَّتْ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ السُّبْكِيّ وَلَا يُعَزَّى بِهِ أَيْضًا ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ تَعْزِيَةَ الْكَافِرِ بِالْكَافِرِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ ، اقْتَضَاهُ كَلَامُ الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ ، بَلْ هِيَ جَائِزَةٌ إنْ لَمْ يُرْجَ إسْلَامُهُ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَضِيَّةُ كَلَامِ التَّنْبِيهِ اسْتِحْبَابَهَا مُطْلَقًا كَمَا نَبَّهْتُ عَلَى ذَلِكَ فِي شَرْحِهِ ، وَصِيغَتُهَا : أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَلَا نَقَصَ عَدَدُكَ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُنَا فِي الدُّنْيَا بِكَثْرَةِ الْجِزْيَةِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالْفِدَاءِ مِنْ النَّارِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَهُوَ مُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ بِدَوَامِ الْكُفْرِ فَالْمُخْتَارُ تَرْكُهُ ، وَمَنَعَهُ ابْنُ النَّقِيبِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْبَقَاءَ عَلَى الْكُفْرِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلِهِ بِتَكْثِيرِ الْجِزْيَةِ .
فَائِدَةٌ : سُئِلَ أَبُو بَكْرَةَ عَنْ مَوْتِ الْأَهْلِ فَقَالَ : مَوْتُ الْأَبِ قَصْمُ الظَّهْرِ ، وَمَوْتُ الْوَلَدِ صَدْعٌ فِي الْفُؤَادِ ، وَمَوْتُ الْأَخِ قَصُّ الْجَنَاحِ ، وَمَوْتُ الزَّوْجَةِ حُزْنُ سَاعَةٍ .
وَلِذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : مِنْ الْأَدَبِ أَنْ لَا يُعَزَّى الرَّجُلُ فِي زَوْجَتِهِ ، وَهَذَا مِنْ تَفَرُّدَاتِهِ .
وَلَمَّا عُزِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بِنْتِهِ رُقَيَّةَ قَالَ { الْحَمْدُ لِلَّهِ دَفْنُ الْبَنَاتِ مِنْ الْمَكْرُمَاتِ } رَوَاهُ الْعَسْكَرِيُّ فِي الْأَمْثَالِ .
وَيَجُوزُ الْبُكَاءُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ ، وَيَحْرُمُ النَّدْبُ بِتَعْدِيدِ شَمَائِلِهِ وَالنَّوْحِ وَالْجَزَعِ بِضَرْبِ صَدْرِهِ وَنَحْوِهِ .
( وَيَجُوزُ الْبُكَاءُ عَلَيْهِ ) أَيْ الْمَيِّتِ ( قَبْلَ الْمَوْتِ ) بِالْإِجْمَاعِ لَكِنَّ الْأَوْلَى عَدَمُهُ بِحَضْرَةِ الْمُحْتَضِرِ .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا : وَالْبُكَاءُ قَبْلَ الْمَوْتِ أَوْلَى مِنْهُ بَعْدَهُ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَمُقْتَضَاهُ طَلَبُ الْبُكَاءِ ، وَبِهِ صَرَّحَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فَقَالَ : يُسْتَحَبُّ إظْهَارًا لِكَرَاهَةِ فِرَاقِهِ ، وَعَدَمِ الرَّغْبَةِ فِي مَالِهِ ، وَنَقَلَهُ فِي الْمُهِمَّاتِ عَنْ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَنَظَرَ فِيهِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَسَفًا عَلَى مَا فَاتَ ( وَ ) يَجُوزُ ( بَعْدَهُ ) أَيْضًا وَلَوْ بَعْدَ الدَّفْنِ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَكَى عَلَى وَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ قَبْلَ مَوْتِهِ وَقَالَ : إنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ ، وَلَا نَقُولُ إلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا ، وَإِنَّا عَلَى فِرَاقِكَ يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ } ( 1 ) .
{ وَبَكَى عَلَى قَبْرِ بِنْتٍ لَهُ .
وَزَارَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ } .
رَوَى الْأَوَّلَ الشَّيْخَانِ وَالثَّانِيَ الْبُخَارِيُّ .
وَالثَّالِثَ مُسْلِمٌ .
وَالْبُكَاءُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ خِلَافُ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ أَسَفًا عَلَى مَا فَاتَ .
نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْجُمْهُورِ ، بَلْ نُقِلَ فِي الْأَذْكَارِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ ، وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَيَجُوزُ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ : إذَا كَانَ الْبُكَاءُ لِلرِّقَّةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَمَا يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يُكْرَهُ وَلَا يَكُونُ خِلَافَ الْأَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ لِلْجَزَعِ وَعَدَمِ التَّسْلِيمِ لِلْقَضَاءِ فَيُكْرَهُ أَوْ يَحْرُمُ ا هـ .
وَالثَّانِي أَظْهَرُ .
قَالَ الرُّويَانِيُّ : وَيُسْتَثْنَى مَا إذَا غَلَبَهُ الْبُكَاءُ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَمْلِكُهُ الْبَشَرُ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ قَالَ بَعْضُهُمْ : وَإِنْ كَانَ
لِمَحَبَّةٍ وَرِقَّةٍ كَالْبُكَاءِ عَلَى الطِّفْلِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَالصَّبْرُ أَجْمَلُ ، وَإِنْ كَانَ لِمَا فُقِدَ مِنْ عِلْمِهِ وَصَلَاحِهِ وَبَرَكَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ فَيَظْهَرُ اسْتِحْبَابُهُ ، أَوْ لِمَا فَاتَهُ مِنْ بِرِّهِ وَقِيَامِهِ بِمَصَالِحِ حَالِهِ فَيَظْهَرُ كَرَاهَتُهُ لِتَضَمُّنِهِ عَدَمَ الثِّقَةِ بِاَللَّهِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : هَذَا كُلُّهُ فِي الْبُكَاءِ بِصَوْتٍ .
أَمَّا بِمُجَرَّدِ دَمْعِ الْعَيْنِ فَلَا مَنْعَ مِنْهُ ا هـ .
وَلَفْظُ الْأَوَّلِ مَمْدُودٌ وَالثَّانِي مَقْصُورٌ .
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ : [ الْوَافِرُ ] بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لَهَا بُكَاهَا وَمَا يُغْنِي الْبُكَاءُ وَلَا الْعَوِيلُ وَوَهَمَ الْجَوْهَرِيُّ فِي نِسْبَتِهِ لِحَسَّانَ ( وَيَحْرُمُ النَّدْبُ بِتَعْدِيدِ شَمَائِلِهِ ) جَمْعُ شِمَالٍ كَهِلَالٍ ، وَهِيَ مَا اتَّصَفَ بِهِ الْمَيِّتُ مِنْ الطِّبَاعِ الْحَسَنَةِ ، كَقَوْلِهِمْ : وَاكَهْفَاهُ ، وَاجَبَلَاهْ .
لِحَدِيثِ { مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ بَاكِيهِمْ فَيَقُولُ : وَاجَبَلَاهْ ، وَاسَنَدَاهْ .
أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ إلَّا وُكِّلَ بِهِ مَلَكَانِ يَلْهَزَانِهِ ، أَهَكَذَا كُنْتَ ؟ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ .
هَذَا إذَا أَوْصَى بِذَلِكَ أَوْ كَانَ كَافِرًا كَمَا سَيَأْتِي ، وَاللَّهْزُ الدَّفْعُ فِي الصَّدْرِ بِالْيَدِ وَهِيَ مَقْبُوضَةٌ ( وَ ) يَحْرُمُ ( النَّوْحُ ) وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالنَّدْبِ .
قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَقَيَّدَهُ غَيْرُهُ بِالْكَلَامِ الْمُسْجَعِ ، وَلَيْسَ بِقَيْدٍ لِخَبَرِ { النَّائِحَةُ إذَا لَمْ تَتُبْ تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ } ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَالسِّرْبَالُ الْقَمِيصُ ( وَ ) يَحْرُمُ ( الْجَزَعُ بِضَرْبِ صَدْرِهِ وَنَحْوِهِ ) كَشَقِّ جَيْبٍ وَنَشْرِ شَعْرٍ وَتَسْوِيدِ وَجْهٍ وَإِلْقَاءِ رَمَادٍ عَلَى رَأْسٍ وَرَفْعِ صَوْتٍ بِإِفْرَاطٍ فِي الْبُكَاءِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ وَنَقَلَهُ فِي الْأَذْكَارِ عَنْ الْأَصْحَابِ ، لِخَبَرِ الشَّيْخَيْنِ { لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ } .
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا تَغْيِيرُ الزِّيِّ وَلُبْسُ غَيْرِ مَا
جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَالضَّابِطُ كُلُّ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُ إظْهَارَ جَزَعٍ يُنَافِي الِانْقِيَادَ وَالِاسْتِسْلَامَ لِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُحَرَّمٌ ، وَلَا يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يُوصِ بِهِ .
قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ فَاطِرُ ] بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِهِ كَقَوْلِ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ : [ الطَّوِيلُ ] إذَا مِتُّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَدِ وَعَلَيْهِ حَمَلَ الْجُمْهُورُ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ بِتَعْذِيبِ الْمَيِّتِ عَلَى ذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : ذَنْبُ الْمَيِّتِ فِيمَا إذَا أَوْصَى الْأَمْرُ بِذَلِكَ فَلَا يَخْتَلِفُ عَذَابُهُ بِامْتِثَالِهِمْ وَعَدَمِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الذَّنْبَ عَلَى السَّبَبِ يَعْظُمُ بِوُجُودِ الْمُسَبَّبِ وَشَاهِدُهُ خَبَرُ " مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً " وَالْأَصَحُّ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ أَنَّ مَا ذُكِرَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَافِرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الذُّنُوبِ .
قَالَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ : وَيُكْرَهُ إرْثَاءُ الْمَيِّتِ بِذِكْرِ أَيَّامِهِ وَفَضَائِلِهِ لِلنَّهْيِ عَنْ الْمَرَاثِي ، وَالْأَوْلَى الِاسْتِغْفَارُ لَهُ .
وَالْأَوْجَهُ حَمْلُ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ عَلَى مَا يَظْهَرُ فِيهِ تَبَرُّمٌ أَوْ عَلَى فِعْلِهِ مَعَ الِاجْتِمَاعِ لَهُ أَوْ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنْهُ أَوْ عَلَى مَا يُجَدِّدُ الْحُزْنَ دُونَ مَا عَدَا ذَلِكَ فَمَا زَالَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَفْعَلُونَهُ ، وَقَدْ قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ [ الْكَامِل ] : مَاذَا عَلَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدَ أَنْ لَا يَشُمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبُ لَوْ أَنَّهَا صُبَّتْ عَلَى الْأَيَّامِ عُدْنَ لَيَالِيَا .
قُلْتُ : هَذِهِ مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ : يُبَادِرُ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ وَوَصِيَّتِهِ .
( قُلْتُ هَذِهِ مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ ) : أَيْ مُتَفَرِّقَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَابِ زِدْتُهَا عَلَى الْمُحَرَّرِ ، وَالْفَطِنُ يَرُدُّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ مِنْهَا إلَى مَا يُنَاسِبُهَا مِمَّا تَقَدَّمَ ، وَإِنَّمَا جَمَعَهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَرَّقَهَا لَاحْتَاجَ أَنْ يَقُولَ فِي أَوَّلِ كُلٍّ مِنْهَا .
قُلْتُ : وَفِي آخِرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَيُؤَدِّي إلَى التَّطْوِيلِ الْمُنَافِي لِغَرَضِهِ مِنْ الِاخْتِصَارِ ( يُبَادَرُ ) نَدْبًا ( بِقَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ ) إنْ تَيَسَّرَ حَالًّا قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِتَجْهِيزِهِ مُسَارَعَةً إلَى فِكَاكِ نَفْسِهِ ، لِخَبَرِ { نَفْسُ الْمُؤْمِنِ أَيْ رُوحُهُ مُعَلَّقَةٌ : أَيْ مَحْبُوسَةٌ عَنْ مَقَامِهَا الْكَرِيمِ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ حَالًّا سَأَلَ وَلِيُّهُ غُرَمَاءَهُ أَنْ يُحَلِّلُوهُ وَيَحْتَالُوا بِهِ عَلَيْهِ : نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ وَاسْتَشْكَلَ فِي الْمَجْمُوعِ الْبَرَاءَةَ بِذَلِكَ ثُمَّ قَالَ : وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ مُبَرِّئًا لِلْمَيِّتِ لِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمُبَادَرَةَ تَجِبُ عِنْدَ طَلَبِ الْمُسْتَحِقِّ حَقَّهُ ، وَلَا مَعْنَى لِلتَّأْخِيرِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ التَّرِكَةِ ( وَ ) تَنْفِيذُ ( وَصِيَّتِهِ ) مُسَارَعَةً لِوُصُولِ الثَّوَابِ إلَيْهِ وَالْبِرِّ لِلْمُوصَى لَهُ ، وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ بَلْ وَاجِبٌ عِنْدَ طَلَبِ الْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنَ ، وَكَذَا عِنْدَ الْمُكْنَةِ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْفُقَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ ، أَوْ كَانَ قَدْ أَوْصَى بِتَعْجِيلِهَا .
وَيُكْرَهُ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ لَا لِفِتْنَةِ دِينٍ .
( وَيُكْرَهُ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ ) فِي بَدَنِهِ أَوْ ضِيقٍ فِي دُنْيَاهُ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ { لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ أَصَابَهُ ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي مَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي } ( لَا لِفِتْنَةِ دِينٍ ) فَلَا يُكْرَهُ حِينَئِذٍ كَمَا قَالَهُ فِي الْأَذْكَارِ وَالْمَجْمُوعِ ، وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِقَوْلِهِ : لَا بَأْسَ ، وَفِي فَتَاوَى الْمُصَنِّفِ غَيْرِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَمَنِّي الْمَوْتِ حِينَئِذٍ .
قَالَ : وَنَقَلَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِمَا ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ الْمَجْمُوعِ وَالْأَذْكَارِ عَلَيْهِ .
أَمَّا تَمَنِّيهِ لِغَرَضٍ أُخْرَوِيٍّ فَمَحْبُوبٌ كَتَمَنِّي الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَمْ يَتَمَنَّ نَبِيٌّ الْمَوْتَ غَيْرَ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَقَالَ غَيْرُهُ إنَّمَا تَمَنَّى الْوَفَاةَ عَلَى الْإِسْلَامِ لَا الْمَوْتَ .
وَيُسَنُّ التَّدَاوِي ، وَيُكْرَهُ إكْرَاهُهُ عَلَيْهِ .
( وَيُسَنُّ ) لِلْمَرِيضِ ( التَّدَاوِي ) لِخَبَرِ { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ الْهَرَمِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ { مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إلَّا وَأَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً جَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ وَعَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ فَعَلَيْكُمْ بِأَلْبَانِ الْبَقَرِ فَإِنَّهَا تَرُمُّ مِنْ كُلِّ الشَّجَرِ : أَيْ تَأْكُلُ } وَفِي رِوَايَةٍ { عَلَيْكُمْ بِالْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ فَإِنَّ فِيهَا شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ إلَّا السَّامَ } يُرِيدُ الْمَوْتَ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : فَإِنْ تُرِكَ التَّدَاوِي تَوَكُّلًا فَهُوَ أَفْضَلُ ، فَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ وَهُوَ رَأْسُ الْمُتَوَكِّلِينَ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ ، وَفِي فَتَاوَى ابْنِ الْبَرَزِيِّ أَنَّ مَنْ قَوِيَ تَوَكُّلُهُ فَالتَّرْكُ لَهُ أَوْلَى ، وَمَنْ ضَعُفَ يَقِينُهُ وَقَلَّ صَبْرُهُ فَالْمُدَاوَاةُ لَهُ أَفْضَلُ ، وَهُوَ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ حَسَنٌ ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ الْمَجْمُوعِ عَلَيْهِ ، وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا وَجَبَ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ وَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّا لَا نَقْطَعُ بِإِفَادَتِهِ بِخِلَافِهَا ، وَيَجُوزُ اسْتِيصَافِ الطَّبِيبِ الْكَافِرِ وَاعْتِمَادُ وَصْفِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ عَلَى دُخُولِ الْكَافِرِ الْحَرَمَ ( وَيُكْرَهُ إكْرَاهُهُ ) أَيْ الْمَرِيضِ ( عَلَيْهِ ) أَيْ التَّدَاوِي بِاسْتِعْمَالِ الدَّوَاءِ ، وَكَذَا إكْرَاهُهُ عَلَى الطَّعَامِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ { لَا تُكْرِهُوا مَرْضَاكُمْ عَلَى الطَّعَامِ فَإِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ } فَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ ضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَادَّعَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ حَسَنٌ .
وَيَجُوزُ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ وَنَحْوِهِمْ تَقْبِيلُ وَجْهِهِ .
( وَيَجُوزُ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ وَنَحْوِهِمْ ) كَأَصْدِقَائِهِ ( تَقْبِيلُ وَجْهِهِ ) لِمَا صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَ وَجْهَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ بَعْدَ مَوْتِهِ } ( 2 ) وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَبَّلَ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ ( 3 ) قَالَ السُّبْكِيُّ : وَيَنْبَغِي أَنْ يُنْدَبَ لِأَهْلِهِ وَنَحْوِهِمْ ، وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ وَلَا يَقْتَصِرُ الْجَوَازُ عَلَيْهِمْ ، وَفِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ ، وَلَا بَأْسَ بِتَقْبِيلِ وَجْهِ الْمَيِّتِ الصَّالِحِ فَقَيَّدَهُ بِالصَّالِحِ ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَهَ .
وَلَا بَأْسَ بِالْإِعْلَامِ بِمَوْتِهِ لِلصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا بِخِلَافِ نَعْيِ الْجَاهِلِيَّةِ .
( وَلَا بَأْسَ بِالْإِعْلَامِ ) وَهُوَ النِّدَاءُ ( بِمَوْتِهِ لِلصَّلَاةِ ) عَلَيْهِ ( وَغَيْرِهَا ) كَالمُحَالَلَةِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّرَحُّمِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ ، بَلْ يُسَنُّ ذَلِكَ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ { ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَخَرَجَ إلَى الْمُصَلَّى فَصَلَّى } ، وَقِيلَ يُسَنُّ فِي الْغَرِيبِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَقِيلَ يُكْرَهُ مُطْلَقًا ( بِخِلَافِ نَعْيِ الْجَاهِلِيَّةِ ) وَهُوَ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَبِكَسْرِهَا مَعَ تَشْدِيدِ الْيَاءِ مَصْدَرُ نَعَاهُ ، وَمَعْنَاهُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ النِّدَاءُ بِذِكْرِ مَفَاخِرِ الْمَيِّتِ وَمَآثِرِهِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لِلنَّهْيِ عَنْهُ كَمَا صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَالْمُرَادُ نَعْيُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا مُجَرَّدُ الْإِعْلَامِ بِالْمَوْتِ .
فَإِنْ قُصِدَ الْإِعْلَامُ بِمَوْتِهِ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يُكْرَهْ وَإِنْ قُصِدَ بِهِ الْإِخْبَارُ لِكَثْرَةِ الْمُصَلِّينَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ .
وَلَا يَنْظُرُ الْغَاسِلُ مِنْ بَدَنِهِ إلَّا قَدْرَ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ الْعَوْرَةِ .
( وَلَا يَنْظُرُ الْغَاسِلُ مِنْ بَدَنِهِ إلَّا قَدْرَ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ الْعَوْرَةِ ) كَأَنْ يُرِيدَ بِنَظَرِهِ مَعْرِفَةَ الْمَغْسُولِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَهَلْ اسْتَوْعَبَهُ بِالْغُسْلِ أَوْ لَا .
فَإِنْ نَظَرَ زَائِدًا عَلَى الْحَاجَةِ كُرِهَ كَمَا فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ وَجُزِمَ بِهِ فِي الْكِفَايَةِ ، وَإِنْ صُحِّحَ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ كَانَ يَكْرَهُ اطِّلَاعَ النَّاسِ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا رَأَى سَوَادًا وَنَحْوَهُ فَيَظُنُّهُ عَذَابًا فَيُسِيءُ بِهِ ظَنًّا .
أَمَّا الْعَوْرَةُ فَنَظَرُهَا حَرَامٌ ، وَيُسَنُّ أَنْ لَا يَمَسَّهُ بِيَدِهِ فَإِنْ مَسَّهُ أَوْ نَظَرَ إلَيْهِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَحْرُمَ ، وَقِيلَ يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَى شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ عَوْرَةً كَبَدَنِ الْمَرْأَةِ إلَّا لِضَرُورَةٍ .
وَأَمَّا غَيْرُ الْغَاسِلِ مِنْ مُعِينٍ وَغَيْرِهِ فَيُكْرَهُ لَهُ النَّظَرُ إلَى غَيْرِ الْعَوْرَةِ إلَّا لِضَرُورَةٍ .
وَمَنْ تَعَذَّرَ غُسْلُهُ يُمِّمَ .
( وَمَنْ تَعَذَّرَ غُسْلُهُ ) لِفَقْدِ الْمَاءِ أَوْ لِغَيْرِهِ كَأَنْ احْتَرَقَ أَوْ لُدِغَ ، وَلَوْ غُسِّلَ لَتَهَرَّى أَوْ خِيفَ عَلَى الْغَاسِلِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ التَّحَفُّظُ ( يُمِّمَ ) وُجُوبًا قِيَاسًا عَلَى غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَلَا يُغَسَّلُ مُحَافَظَةً عَلَى جُثَّتِهِ لِتُدْفَنَ بِحَالِهَا .
وَلَوْ وُجِدَ الْمَاءُ فِيمَا إذَا يُمِّمَ لِفَقْدِهِ قَبْلَ دَفْنِهِ وَجَبَ غُسْلُهُ ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى إعَادَةِ الصَّلَاةِ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ .
وَلَوْ كَانَ بِهِ قُرُوحٌ وَخِيفَ مِنْ غُسْلِهِ تَسَارُعُ الْبِلَى إلَيْهِ ، بَعْدَ دَفْنِهِ غُسِّلَ ؛ لِأَنَّ مَصِيرَ جَمِيعِهِ إلَى الْبِلَى .
وَيُغَسَّلُ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ وَالْمَيِّتُ بِلَا كَرَاهَةٍ ، وَإِذَا مَاتَا غُسِّلَا غُسْلًا وَاحِدًا فَقَطْ .
( وَيُغَسَّلُ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ ) وَالنُّفَسَاءُ ( وَالْمَيِّتُ بِلَا كَرَاهَةٍ ) ؛ لِأَنَّهُمَا طَاهِرَانِ كَغَيْرِهِمَا ( وَإِذَا مَاتَا غُسِّلَا غُسْلًا وَاحِدًا فَقَطْ ) ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمَا انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الشَّهِيدِ الْجُنُبِ ، وَانْفَرَدَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِإِيجَابِ غُسْلَيْنِ .
وَلْيَكُنْ الْغَاسِلُ أَمِينًا ، فَإِنْ رَأَى خَيْرًا ذَكَرَهُ أَوْ غَيْرَهُ حَرُمَ ذِكْرُهُ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ .
( وَلْيَكُنْ الْغَاسِلُ أَمِينًا ) نَدْبًا لِيُوثَقَ بِهِ فِي تَكْمِيلِ الْغُسْلِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَشْرُوعِ ، وَكَذَا مُعِينُ الْغَاسِلِ ، فَإِنْ غَسَّلَهُ فَاسِقٌ أَوْ كَافِرٌ وَقَعَ الْمُوقَعُ ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْغُسْلِ ( فَإِنْ رَأَى ) الْغَاسِلُ مِنْ بَدَنِ الْمَيِّتِ ( خَيْرًا ) كَاسْتِنَارَةِ وَجْهِهِ وَطِيبِ رَائِحَتِهِ ( ذَكَرَهُ ) نَدْبًا لِيَكُونَ أَدْعَى لِكَثْرَةِ الْمُصَلِّينَ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ ( أَوْ غَيْرَهُ ) كَأَنْ رَأَى سَوَادًا أَوْ تَغَيُّرَ رَائِحَةٍ أَوْ انْقِلَابَ صُورَةٍ ( حَرُمَ ذِكْرُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ غِيبَةٌ لِمَنْ لَا يَتَأَتَّى الِاسْتِحْلَالُ مِنْهُ ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ { اُذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِيهِمْ } ( 1 ) وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ { مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا وَكَتَمَ عَلَيْهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ أَرْبَعِينَ مَرَّةً } ( إلَّا لِمَصْلَحَةٍ ) كَأَنْ كَانَ مُبْتَدِعًا مُظْهِرًا لِبِدْعَتِهِ فَيَذْكُرُ ذَلِكَ لِيَنْزَجِرَ النَّاس عَنْهَا ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ ذَكَرَهُ فِي الْبَيَانِ بَحْثًا ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَقَالَ : إنَّهُ مُتَعَيَّنٌ ، وَيَنْبَغِي اطِّرَادُهُ فِي الْمُتَجَاهِرِ بِالْفِسْقِ وَالظَّالِمِ ، وَالْوَجْهُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : أَنْ يُقَالَ إذَا رَأَى مِنْ مُبْتَدِعٍ أَمَارَةَ خَيْرٍ كَتَمَهَا ، وَلَا يَبْعُدُ إيجَابُهُ لِئَلَّا يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى الْإِغْرَاءِ بِهَا ، وَيُسَنُّ كِتْمَانُهُ مِنْ الْمُتَجَاهِرِ بِالْفِسْقِ وَالظَّالِمِ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِذِكْرِهَا أَمْثَالُهُ ، وَلَا مَعْنَى لِلتَّفْصِيلِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ .
قَالَ الْغَزِّيُّ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْكِتَابِ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ عَائِدًا لِلْأَمْرَيْنِ ا هـ .
وَلَا بَأْسَ بِهِ .
غَرِيبَةٌ : حُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً بِالْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ مَالِكٍ غَسَّلَتْ امْرَأَةً فَالْتَصَقَتْ يَدُهَا عَلَى فَرْجِهَا فَتَحَيَّرَ النَّاسُ فِي أَمْرِهَا هَلْ تُقْطَعُ يَدُ الْغَاسِلَةِ أَوْ فَرْجُ الْمَيِّتَةِ ؟
فَاسْتُفْتِيَ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : سَلُوهَا مَا قَالَتْ لَمَّا وَضَعَتْ يَدَهَا عَلَيْهَا ؟ فَسَأَلُوهَا فَقَالَتْ : قُلْتُ طَالَمَا عَصَى هَذَا الْفَرْجُ رَبَّهُ ، فَقَالَ مَالِكٌ : هَذَا قَذْفٌ ، اجْلِدُوهَا ثَمَانِينَ تَتَخَلَّصْ يَدُهَا ، فَجَلَدُوهَا ذَلِكَ فَخَلَصَتْ يَدُهَا .
فَمِنْ ثُمَّ قِيلَ : لَا يُفْتَى وَمَالِكٌ بِالْمَدِينَةِ .
وَلَوْ تَنَازَعَ أَخَوَانِ أَوْ زَوْجَتَانِ أُقْرِعَ .
( وَلَوْ تَنَازَعَ أَخَوَانِ ) مَثَلًا ( أَوْ زَوْجَتَانِ ) فِي غُسْلِ مَيِّتٍ لَهُمَا ، وَلَا مُرَجِّحَ لِأَحَدِهِمَا ( أُقْرِعَ ) بَيْنَهُمَا حَتْمًا فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ غَسَّلَهُ ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ أَحَدِهِمَا تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ .
وَالْكَافِرُ أَحَقُّ بِقَرِيبِهِ الْكَافِرِ .
( وَالْكَافِرُ أَحَقُّ بِقَرِيبِهِ الْكَافِرِ ) فِي تَجْهِيزِهِ مِنْ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُ وَلِيُّهُ ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } [ الْأَنْفَالَ ] فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَوَلَّاهُ الْمُسْلِمُ .
وَيُكْرَهُ الْكَفَنُ الْمُعَصْفَرُ .
( وَيُكْرَهُ ) لِلْمَرْأَةِ ( الْكَفَنُ الْمُعَصْفَرُ ) وَالْمُزَعْفَرُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الزِّينَةِ .
وَأَمَّا الرَّجُلُ فَقَدْ مَرَّ فِي بَابِ اللِّبَاسِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ الْمُزَعْفَرُ دُونَ الْمُعَصْفَرِ عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ ، وَحِينَئِذٍ فَإِطْلَاقُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَرَاهَةُ الْمُعَصْفَرِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ صَحِيحٌ .
وَأَمَّا الْمُزَعْفَرُ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
وَأَمَّا الرَّجُلُ فَيَحْرُمُ كَمَا عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا مَضَى يُكَفَّنُ بِمَا لَهُ لُبْسُهُ حَيًّا .
وَالْمُغَالَاةُ فِيهِ ، وَالْمَغْسُولُ أَوْلَى مِنْ الْجَدِيدِ .
( وَ ) تُكْرَهُ ( الْمُغَالَاةُ فِيهِ ) أَيْ الْكَفَنِ بِارْتِفَاعِ ثَمَنِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُغَالُوا فِي الْكَفَنِ فَإِنَّهُ يُسْلَبُ سَلْبًا سَرِيعًا } ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَاحْتُرِزَ بِالْمُغَالَاةِ عَنْ تَحْسِينِهِ فِي بَيَاضِهِ وَنَظَافَتِهِ وَسُبُوغِهِ فَإِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ لِمَا فِي مُسْلِمٍ { إذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ } ( 2 ) أَيْ يَتَّخِذْهُ أَبْيَضَ نَظِيفًا سَابِغًا ، وَفِي كَامِلِ ابْنِ عَدِيٍّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { حَسِّنُوا أَكْفَانَ مَوْتَاكُمْ فَإِنَّهُمْ يَتَزَاوَرُونَ فِي قُبُورِهِمْ } ( وَ ) الْمَلْبُوسُ ( الْمَغْسُولُ ) بِأَنْ يُكَفَّنَ فِيهِ الْمَيِّتُ ( أَوْلَى مِنْ الْجَدِيدِ ) ؛ لِأَنَّهُ لِلصَّدِيدِ وَالْحَيُّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْصَى أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبِهِ الْخَلَقِ وَزِيَادَةَ ثَوْبَيْنِ ، وَقَالَ الْحَيُّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنْ الْمَيِّتِ إنَّمَا هُوَ لِلصَّدِيدِ ، وَقِيلَ : الْجَدِيدُ أَوْلَى لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ السَّابِقِ وَكُفِّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ سُحُولِيَّةٍ جُدُدٍ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَهُوَ الْأَصَحُّ مَذْهَبًا وَدَلِيلًا .
وَالصَّبِيُّ كَبَالِغٍ فِي تَكْفِينِهِ بِأَثْوَابٍ .
( وَ ) الصَّغِيرُ ( الصَّبِيُّ ) أَوْ الصَّبِيَّةُ أَوْ الْخُنْثَى ( كَبَالِغٍ فِي تَكْفِينِهِ بِأَثْوَابٍ ) ثَلَاثَةٍ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْبَالِغِ ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ بِأَثْوَابٍ إلَى أَنَّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَدَدِ لَا فِي جِنْسِ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ يَكُنْ بِمَا لَهُ لُبْسُهُ حَيًّا .
وَالْحَنُوطُ مُسْتَحَبٌّ ، وَقِيلَ وَاجِبٌ .
( وَالْحَنُوطُ ) بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيْ ذَرُّهُ كَمَا مَرَّ ( مُسْتَحَبٌّ ) لَا وَاجِبٌ كَمَا لَا يَجِبُ الطِّيبُ لِلْمُفْلِسِ وَإِنْ وَجَبَتْ كِسْوَتُهُ ( وَقِيلَ وَاجِبٌ ) كَالْكَفَنِ لِلْأَمْرِ بِهِ .
وَلَا يَحْمِلُ الْجِنَازَةَ إلَّا الرِّجَالُ وَإِنْ كَانَ أُنْثَى ، وَيَحْرُمُ حَمْلُهَا عَلَى هَيْئَةٍ مُزْرِيَةٍ وَهَيْئَةٍ يُخَافُ مِنْهَا سُقُوطُهَا وَيُنْدَبُ لِلْمَرْأَةِ مَا يَسْتُرُهَا كَتَابُوتٍ ، وَلَا يُكْرَهُ الرُّكُوبُ فِي الرُّجُوعِ مِنْهَا .
( وَلَا يَحْمِلُ الْجِنَازَةَ إلَّا الرِّجَالُ ) نَدْبًا ( وَإِنْ كَانَ ) الْمَيِّتُ ( أُنْثَى ) ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ يَضْعُفْنَ عَنْ الْحَمْلِ فَيُكْرَهُ لَهُنَّ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُنَّ تَعَيَّنَ عَلَيْهِنَّ ( وَيَحْرُمُ حَمْلُهَا عَلَى هَيْئَةٍ مُزْرِيَةٍ ) كَحَمْلِهَا فِي غِرَارَةٍ أَوْ قُفَّةٍ ، وَحَمْلِ الْكَبِيرِ عَلَى الْيَدِ أَوْ الْكَتِفِ مِنْ غَيْرِ نَعْشٍ بِخِلَافِ الصَّغِيرِ ( وَهَيْئَةٍ يُخَافُ مِنْهَا سُقُوطُهَا ) ؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيضٌ لِإِهَانَتِهِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَيُحْمَلُ عَلَى سَرِيرٍ أَوْ لَوْح أَوْ مَحْمَلٍ وَأَيُّ شَيْءٍ حُمِلَ عَلَيْهِ أَجْزَأَ ، وَإِنْ خِيفَ تَغَيُّرُهُ وَانْفِجَارُهُ قَبْلَ أَنْ يُهَيَّأَ لَهُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْأَيْدِي وَالرِّقَابِ لِلْحَاجَةِ حَتَّى يُوصَلَ إلَى الْقَبْرِ ( وَيُنْدَبُ لِلْمَرْأَةِ مَا يَسْتُرُهَا كَتَابُوتٍ ) وَهُوَ سَرِيرٌ فَوْقَهُ خَيْمَةٌ أَوْ قُبَّةٌ أَوْ مِكَبَّةٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا ، وَأَوَّلُ مَنْ فُعِلَ لَهُ ذَلِكَ زَيْنَبُ زَوْجَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ قَدْ رَأَتْهُ بِالْحَبَشَةِ لَمَّا هَاجَرَتْ وَأَوْصَتْ بِهِ ، وَمِثْلُهَا الْخُنْثَى ، ( وَلَا يُكْرَهُ الرُّكُوبُ ) أَيْ لَا بَأْسَ بِهِ ( فِي الرُّجُوعِ مِنْهَا ) ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَكِبَ فَرَسًا مَعْرُورًا لَمَّا رَجَعَ مِنْ جِنَازَةِ أَبِي الدَّحْدَاحِ } ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ .
وَأَمَّا فِي الذَّهَابُ فَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يُكْرَهُ إلَّا لِعُذْرٍ كَبُعْدِ الْمَكَانِ أَوْ ضَعْفٍ .
وَلَا بَأْسَ بِاتِّبَاعِ الْمُسْلِمِ جِنَازَةَ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ .
( وَلَا بَأْسَ بِاتِّبَاعِ الْمُسْلِمِ ) بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ ( جِنَازَةَ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ ) ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَمَرَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنْ يُوَارِيَ أَبَا طَالِبٍ } كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : كَذَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مُطْلَقِ الْقَرَابَةِ ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِمُؤْنَتِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ ا هـ .
وَقَدْ يُفْهِمُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ تَحْرِيمَ اتِّبَاعِ الْمُسْلِمِ جِنَازَةَ الْكَافِرِ غَيْرِ الْقَرِيبِ ، وَبِهِ صَرَّحَ الشَّاشِيُّ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَلَا يَبْعُدُ إلْحَاقُ الزَّوْجَةِ وَالْمَمْلُوكِ بِالْقَرِيبِ وَهَلْ يَلْحَقُ بِهِ الْجَارُ كَمَا فِي الْعِيَادَةِ ؟ فِيهِ نَظَرٌ ا هـ .
وَالظَّاهِرُ الْإِلْحَاقُ .
وَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ زِيَارَةُ قَبْرِ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ .
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } [ التَّوْبَةَ ] قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَهَذَا غَلَطٌ فَالْأَكْثَرُونَ قَطَعُوا بِالْجَوَازِ : أَيْ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا .
وَيُكْرَهُ اللَّغَطُ فِي الْجِنَازَةِ وَإِتْبَاعُهَا بِنَارٍ .
( وَيُكْرَهُ اللَّغَطُ ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَسُكُونِهَا ، وَهُوَ ارْتِفَاعُ الْأَصْوَاتِ ( فِي ) السَّيْرِ مَعَ ( الْجِنَازَةِ ) لِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَرِهُوا رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ الْجَنَائِزِ وَعِنْدَ الْقِتَالِ وَعِنْدَ الذِّكْرِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَالْمُخْتَارُ بَلْ الصَّوَابُ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ السُّكُوتِ فِي حَالِ السَّيْرِ مَعَ الْجِنَازَةِ ، وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِقِرَاءَةٍ وَلَا ذِكْرٍ وَلَا غَيْرِهِمَا ، بَلْ يَشْتَغِلُ بِالتَّفَكُّرِ فِي الْمَوْتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَمَا يَفْعَلُهُ جَهَلَةُ الْقُرَّاءِ بِالتَّمْطِيطِ وَإِخْرَاجِ الْكَلَامِ عَنْ مَوْضُوعِهِ فَحَرَامٌ يَجِبُ إنْكَارُهُ ، وَكَرِهَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ قَوْلَهُمْ : اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ ، وَسَمِعَ ابْنُ عُمَرَ قَائِلًا يَقُولُ : اسْتَغْفِرُوا لَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ فَقَالَ : لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ ( وَ ) يُكْرَهُ ( إتْبَاعُهَا ) بِسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ ( بِنَارٍ ) فِي مِجْمَرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ التَّفَاؤُلِ الْقَبِيحِ ، وَلِخَبَرِ أَبِي دَاوُد { لَا تَتَّبِعْ الْجِنَازَةَ بِصَوْتٍ وَلَا نَارٍ } ( 1 ) وَقَالَ الشَّيْخُ نَصْرٌ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ مَعَهَا الْمَجَامِرُ وَالنَّارُ ، فَإِنْ أَرَادَ التَّحْرِيمَ فَشَاذٌّ فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَفِعْلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَبْرِ مَكْرُوهٌ أَيْضًا كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ .
وَلَوْ اخْتَلَطَ مُسْلِمُونَ بِكَفَّارٍ وَجَبَ غُسْلُ الْجَمِيعِ وَالصَّلَاةُ ، فَإِنْ شَاءَ صَلَّى عَلَى الْجَمِيع بِقَصْدِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْأَفْضَلُ وَالْمَنْصُوصُ ، أَوْ عَلَى وَاحِدٍ فَوَاحِدٍ نَاوِيًا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مُسْلِمًا ، وَيَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ إنْ كَانَ مُسْلِمًا .
( وَلَوْ اخْتَلَطَ ) مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ كَمَا لَوْ اخْتَلَطَ ( مُسْلِمُونَ ) أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ( بِكَفَّارٍ ) وَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ أَوْ غَيْرُ شَهِيدٍ بِشَهِيدٍ أَوْ سِقْطٌ يُصَلَّى عَلَيْهِ بِسِقْطٍ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ( وَجَبَ ) لِلْخُرُوجِ عَنْ الْوَاجِبِ ( غُسْلُ الْجَمِيعِ ) وَتَكْفِينُهُمْ ( وَالصَّلَاةُ ) عَلَيْهِمْ وَدَفْنُهُمْ إذْ لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِذَلِكَ ، فَإِنْ قِيلَ : يُعَارَضُ ذَلِكَ بِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ مُحَرَّمَةٌ ، وَلَا يَتِمُّ تَرْكُ الْمُحَرَّمِ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ عَلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ( فَإِنْ شَاءَ صَلَّى عَلَى الْجَمِيعِ ) دُفْعَةً ( بِقَصْدِ الْمُسْلِمِينَ ) مِنْهُمْ فِي الْأُولَى وَغَيْرِ الشَّهِيدِ فِي الثَّانِيَةِ وَبِقَصْدِ السِّقْطِ الَّذِي يُصَلَّى عَلَيْهِ فِي الثَّالِثَةِ ( وَهُوَ الْأَفْضَلُ وَالْمَنْصُوصُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ صَلَاةٌ عَلَى غَيْرِ مَنْ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ وَالنِّيَّةُ جَازِمَةٌ ( أَوْ عَلَى وَاحِدٍ فَوَاحِدٍ نَاوِيًا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ ) مِمَّنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ كَأَنْ يَقُولَ فِي الْأُولَى إنْ كَانَ ( مُسْلِمًا ) وَفِي الثَّانِيَةِ إنْ كَانَ غَيْرَ شَهِيدٍ ، وَفِي الثَّالِثَةِ إنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُصَلَّى عَلَيْهِ ( وَيَقُولُ ) فِي الْأُولَى ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ إنْ كَانَ مُسْلِمًا ) وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ وَلَا الثَّالِثَةِ لِانْتِفَاءِ الْمَحْذُورِ وَهُوَ الدُّعَاءُ لِلْكَافِرِ بِالْمَغْفِرَةِ ، وَيُعْذَرُ فِي تَرَدُّدِ النِّيَّةِ لِلضَّرُورَةِ كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الْخَمْسِ ، وَهَذَا التَّخْيِيرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، لَكِنْ مَحَلُّهُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا إذَا لَمْ يَحْصُلُ بِالْإِفْرَادِ تَغَيُّرٌ أَوْ انْفِجَارٌ ، وَإِلَّا فَالْوَجْهُ تَعَيُّنُ الْجَمْعِ بِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ إلَى اجْتِمَاعِهِمْ يُؤَدِّي إلَى تَغَيُّرِ أَحَدِهِمْ تَعَيَّنَ إفْرَادُ كُلٍّ بِصَلَاةٍ وَيُدْفَنُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بَيْنَ مَقَابِرِ
الْمُسْلِمِينَ وَمَقَابِرِ الْكُفَّارِ .
وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ تَقَدُّمُ غُسْلِهِ ، وَتُكْرَهُ قَبْلَ تَكْفِينِهِ ، فَلَوْ مَاتَ بِهَدْمٍ وَنَحْوِهِ وَتَعَذَّرَ إخْرَاجُهُ وَغُسْلُهُ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ عَلَى الْجِنَازَةِ الْحَاضِرَةِ وَلَا الْقَبْرِ عَلَى الْمَذْهَبِ فِيهِمَا .
( وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ ) عَلَى الْجِنَازَةِ زَائِدًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ صَلَاتِهَا شَرْطَانِ أَشَارَ إلَى أَحَدِهِمَا بِقَوْلِهِ ( تَقَدُّمُ غُسْلِهِ ) أَوْ تَيَمُّمِهِ بِشَرْطِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْمَنْقُولُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ كَصَلَاةِ نَفْسِهِ ( وَتُكْرَهُ ) الصَّلَاةُ عَلَيْهِ ( قَبْلَ تَكْفِينِهِ ) كَمَا قَالَهُ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ أَيْضًا وَاسْتَشْكَلَ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ السَّابِقَيْنِ مَوْجُودَانِ فِيهِ ، قَالَ السُّبْكِيُّ : فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْغُسْلَ شَرْطٌ دُونَ التَّكْفِينِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ ا هـ .
وَرُبَّمَا يُقَالُ إنَّ تَرْكَ السَّتْرِ أَخَفُّ مِنْ تَرْكِ الطَّهَارَةِ بِدَلِيلِ لُزُومِ الْقَضَاءِ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ( فَلَوْ مَاتَ بِهَدْمٍ وَنَحْوِهِ ) كَأَنْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ أَوْ بَحْرٍ عَمِيقٍ ( وَتَعَذَّرَ إخْرَاجُهُ وَغُسْلُهُ ) وَتَيَمُّمُهُ ( لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ ) لِفَوَاتِ الشَّرْطِ كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَأَقَرَّاهُ .
وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ لَا خِلَافَ فِيهِ .
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَلَا وَجْهَ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَيْسُورَ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ ، لِمَا صَحَّ { وَاذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ الدُّعَاءُ وَالشَّفَاعَةُ لِلْمَيِّتِ وَجَزَمَ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ مَنْ تَعَذَّرَ غُسْلُهُ صُلِّيَ عَلَيْهِ .
قَالَ الدَّارِمِيُّ : وَإِلَّا لَزِمَ أَنَّ مَنْ أُحْرِقَ فَصَارَ رَمَادًا أَوْ أَكَلَهُ سَبُعٌ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ بِذَلِكَ ، وَبَسَطَ الْأَذْرَعِيُّ الْكَلَامَ فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَالْقَلْبُ إلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَمْيَلُ ، لَكِنَّ الَّذِي تَلَقَّيْنَاهُ عَنْ مَشَايِخِنَا مَا فِي الْمَتْنِ ، ثُمَّ أَشَارَ إلَى الشَّرْطِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ ( وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ عَلَى الْجِنَازَةِ الْحَاضِرَةِ ) إذَا صَلَّى عَلَيْهَا ( وَ ) أَنْ ( لَا ) يَتَقَدَّمَ عَلَى ( الْقَبْرِ ) إذَا صَلَّى
عَلَيْهِ ( عَلَى الْمَذْهَبِ فِيهِمَا ) اتِّبَاعًا لِمَا جَرَى عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ ؛ وَلِأَنَّ الْمَيِّتَ كَالْإِمَامِ ، وَالثَّانِي يَجُوزُ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِإِمَامٍ مَتْبُوعٍ حَتَّى يَتَعَيَّنَ تَقْدِيمُهُ بَلْ هُوَ كَعَبْدٍ جَاءَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ عِنْدَ مَوْلَاهُ ، وَاحْتُرِزَ بِالْحَاضِرَةِ عَنْ الْغَائِبَةِ عَنْ الْبَلَدِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي عَلَيْهَا كَمَا مَرَّ ، وَإِنْ كَانَتْ خَلْفَ ظَهْرِهِ .
تَنْبِيهٌ : إنَّمَا عَبَّرَ بِالْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا تَلَخَّصَ مِنْ كَلَامِهِ طَرِيقَيْنِ .
أَصَحُّهُمَا أَنَّهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَقَدُّمِ الْمَأْمُومِ عَلَى إمَامِهِ ، وَالثَّانِي الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ ، وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَجْمَعَهُمَا مَكَانٌ وَاحِدٌ ، كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ : وَأَنْ لَا يَزِيدَ مَا بَيْنَهُمَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ تَقْرِيبًا تَنْزِيلًا لِلْمَيِّتِ مَنْزِلَةَ الْإِمَامِ .
وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَيُسَنُّ جَعْلُ صُفُوفِهِمْ ثَلَاثَةً فَأَكْثَرَ .
( وَتَجُوزُ ) بِلَا كَرَاهَةٍ ، بَلْ يُسْتَحَبُّ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ( الصَّلَاةُ عَلَيْهِ ) أَيْ الْمَيِّتِ ( فِي الْمَسْجِدِ ) إنْ لَمْ يُخْشَ تَلْوِيثُهُ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَّى فِيهِ عَلَى سَهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ بَيْضَاءَ } كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ ( 1 ) فَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ لِذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّهُ أَشْرَفُ .
قَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ : وَأَمَّا .
حَدِيثُ { مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا شَيْءَ لَهُ } فَضَعِيفٌ صَرَّحَ بِضَعْفِهِ أَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَأَيْضًا الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ " فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ " أَمَّا إذَا خِيفَ مِنْهُ تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ فَلَا يَجُوزُ إدْخَالُهُ ( وَيُسَنُّ جَعْلُ صُفُوفِهِمْ ) أَيْ الْمُصَلِّينَ عَلَى الْمَيِّتِ ( ثَلَاثَةً فَأَكْثَرَ ) لِحَدِيثٍ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ { مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ فَقَدْ وَجَبَتْ : أَيْ حَصَلَتْ لَهُ الْمَغْفِرَةُ } وَفِي رِوَايَةٍ { فَقَدْ غُفِرَ لَهُ } وَفِي مُسْلِمٍ { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ فِيهِ إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ } وَهُنَا فَضِيلَةُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَفَضِيلَةُ غَيْرِهِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ لِلنَّصِّ عَلَى كَثْرَةِ الصُّفُوفِ هُنَا .
.
فَرْعٌ : قَالَ فِي الْبَحْرِ يَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ مَاتَ فِي وَقْتِ فَضِيلَةٍ كَيَوْمِ عَرَفَةَ وَالْعِيدِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَحُضُورِ دَفْنِهِ .
فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ مَنْ مَاتَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَدُفِنَ فِي يَوْمِهَا وُقِيَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ } .
وَإِذَا صُلِّيَ عَلَيْهِ فَحَضَرَ مَنْ لَمْ يُصَلِّ صَلَّى .
( وَإِذَا صُلِّيَ عَلَيْهِ ) أَيْ الْمَيِّتِ ( فَحَضَرَ مَنْ ) أَيْ شَخْصٌ ( لَمْ يُصَلِّ ) عَلَيْهِ ( صَلَّى ) عَلَيْهِ نَدْبًا ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَّى عَلَى قُبُورِ جَمَاعَةٍ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ إنَّمَا دُفِنُوا بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ ، وَتَقَعُ هَذِهِ الصَّلَاةُ فَرْضًا كَالْأُولَى سَوَاءٌ أَكَانَتْ قَبْلَ الدَّفْنِ أَمْ بَعْدَهُ فَيَنْوِي بِهَا الْفَرْضَ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَيُثَابُ ثَوَابَهُ .
وَمَنْ صَلَّى لَا يُعِيدُ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَلَا تُؤَخَّرُ لِزِيَادَةِ مُصَلِّينَ ، وَقَاتِلُ نَفْسِهِ كَغَيْرِهِ فِي الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ
( وَمَنْ صَلَّى ) عَلَى مَيِّتٍ مُنْفَرِدًا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ ( لَا يُعِيدُ ) هَا : أَيْ لَا يُسَنُّ لَهُ إعَادَتُهَا ( عَلَى الصَّحِيحِ ) ؛ لِأَنَّ الْجِنَازَةَ لَا يُتَنَفَّلُ بِهَا ، وَالثَّانِيَةُ تَقَعُ نَفْلًا ، نَعَمْ فَاقِدُ الطَّهُورَيْنِ إذَا صَلَّى ثُمَّ وَجَدَ مَاءً يَتَطَهَّرُ بِهِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ كَمَا أَفْتَى بِهِ الْقَفَّالُ ، وَالثَّانِي يُسَنُّ إعَادَتُهَا فِي جَمَاعَةٍ ، سَوَاءٌ أَصَلَّى مُنْفَرِدًا أَمْ فِي جَمَاعَةٍ كَغَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ .
وَالثَّالِثُ : إنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا ثُمَّ وَجَدَ جَمَاعَةً سُنَّ لَهُ الْإِعَادَةُ مَعَهُمْ لِحِيَازَةِ فَضِيلَتِهَا وَإِلَّا فَلَا .
وَالرَّابِعُ : تُكْرَهُ إعَادَتُهَا .
وَالْخَامِسُ : تَحْرُمُ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ صَلَّى ثَانِيًا وَقَعَتْ صَلَاتُهُ نَفْلًا عَلَى الصَّحِيحِ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَهَذِهِ خَارِجَةٌ عَنْ الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ إذَا لَمْ تَكُنْ مَطْلُوبَةً لَا تَنْعَقِدُ ، بَلْ قِيلَ إنَّ هَذِهِ تَقَعُ فَرْضًا كَصَلَاةِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ ، وَلَعَلَّ وَجْهَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ الدُّعَاءَ لِلْمَيِّتِ وَالشَّفَاعَةَ لَهُ صَحَّتْ دُونَ غَيْرِهَا .
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُصَلِّ فَتَقَعُ صَلَاتُهُ فَرْضًا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يُتَنَفَّلُ بِهَا كَمَا مَرَّ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ سَقَطَ الْفَرْضُ بِالْأُولَى فَلَا تَقَعُ الثَّانِيَةُ فَرْضًا .
.
أُجِيبَ بِأَنَّ السَّاقِطَ بِالْأُولَى عَنْ الْبَاقِينَ حَرَجُ الْفَرْضِ لَا هُوَ ، وَقَدْ يَكُونُ ابْتِدَاءُ الشَّيْءِ غَيْرَ فَرْضٍ وَبِالدُّخُولِ فِيهِ يَصِيرُ فَرْضًا كَحَجِّ التَّطَوُّعِ وَأَحَدِ خِصَالِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ ، وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ السُّبْكِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَقَالَ : فَرْضُ الْكِفَايَةِ إذَا لَمْ يَتِمَّ بِهِ الْمَقْصُودُ ، بَلْ تَتَجَدَّدُ مَصْلَحَتُهُ بِتَكَرُّرِ الْفَاعِلِينَ كَتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَحِفْظِ الْقُرْآنِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ إذْ مَقْصُودُهَا الشَّفَاعَةُ لَا يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ وَإِنْ سَقَطَ الْحَرَجُ ، وَلَيْسَ كُلُّ فَرْضٍ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ مُطْلَقًا .
( وَلَا تُؤَخَّرُ ) الصَّلَاةُ ( لِزِيَادَةِ مُصَلِّينَ ) لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ { أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ } وَلَا بَأْسَ بِانْتِظَارِ الْوَلِيِّ عَنْ قُرْبٍ مَا لَمْ يُخْشَ تَغَيُّرُ الْمَيِّتِ .
تَنْبِيهٌ : شَمِلَ كَلَامُهُ صُورَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا إذَا حَضَرَ جَمْعٌ قَلِيلٌ قَبْلَ الصَّلَاةِ لَا يُنْتَظَرُ غَيْرُهُمْ لِيَكْثُرُوا .
نَعَمْ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ : إذَا كَانُوا دُونَ أَرْبَعِينَ فَيُنْتَظَرُ كَمَالُهُمْ عَنْ قُرْبٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَدَدَ مَطْلُوبٌ فِيهَا ، وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ لِلْأَرْبَعِينَ .
قِيلَ : وَحِكْمَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ أَرْبَعُونَ إلَّا كَانَ لِلَّهِ فِيهِمْ وَلِيٌّ ، وَحُكْمُ الْمِائَةِ كَالْأَرْبَعِينَ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ إذَا صَلَّى عَلَيْهِ مَنْ يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ لَا تُنْتَظَرُ جَمَاعَةٌ أُخْرَى لِيُصَلُّوا عَلَيْهِ صَلَاةً أُخْرَى بَلْ يُصَلُّونَ عَلَى الْقَبْرِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّ الْإِسْرَاعَ بِالدَّفْنِ حَقٌّ لِلْمَيِّتِ ؛ وَالصَّلَاةَ لَا تَفُوتُ بِالدَّفْنِ .
( وَقَاتِلُ نَفْسِهِ ) حُكْمُهُ ( كَغَيْرِهِ فِي ) وُجُوبِ ( الْغُسْلِ ) لَهُ ( وَالصَّلَاةِ ) عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا وَإِنْ عَمِلَ الْكَبَائِرَ } رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ : هُوَ أَصَحُّ مَا فِي الْبَابِ إلَّا أَنَّ فِيهِ إرْسَالًا وَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ إذَا اعْتَضَدَ بِأَحَدِ أُمُورٍ : مِنْهَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ مَوْجُودٌ هُنَا .
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ عَلَى الَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ } فَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الزَّجْرِ عَنْ مِثْلِ فِعْلِهِ ، وَصَلَّتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ لِئَلَّا يَرْتَكِبَ النَّاسُ مَا ارْتَكَبَ .
وَأَجَابَ ابْنُ حِبَّانَ عَنْهُ فِي صَحِيحِهِ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ .
فَائِدَةٌ : رَوَى أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ مُنْذِرِ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ وَلَدًا لَهُ اعْتَلَّ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ ، فَقَالَ : إنْ مَاتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَاصِيًا .
وَلَوْ نَوَى الْإِمَامُ صَلَاةَ غَائِبٍ ، وَالْمَأْمُومُ صَلَاةَ حَاضِرٍ ، أَوْ عَكَسَ جَازَ .
( وَلَوْ نَوَى الْإِمَامُ صَلَاةَ غَائِبٍ ، وَ ) نَوَى ( الْمَأْمُومُ صَلَاةَ حَاضِرٍ أَوْ عَكَسَ ) كُلٌّ مِنْهُمَا ( جَازَ ) ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ نِيَّتِهِمَا لَا تَضُرُّ كَمَا لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ وَرَاءَ مُصَلِّي الْعَصْرِ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ نَوَى الْإِمَامُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا ، وَالْمَأْمُومُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا آخَرَ ، فَالْحَاصِلُ أَرْبَعُ مَسَائِلَ .
وَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَلَوْ نَوَى الْمَأْمُومُ الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِ مَنْ نَوَاهُ الْإِمَامُ لَشَمِلَ الْأَرْبَعَ .
وَالدَّفْنُ فِي الْمَقْبَرَةِ أَفْضَلُ .
( وَالدَّفْنُ فِي الْمَقْبَرَةِ أَفْضَلُ ) مِنْهُ بِغَيْرِهَا لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ دُعَاءِ الزُّوَّارِ وَالْمَارِّينَ ؛ وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْفِنُ أَهْلَهُ وَأَصْحَابَهُ بِالْبَقِيعِ ، وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ أَنَّ الدَّفْنَ بِالْبَيْتِ مَكْرُوهٌ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إلَّا أَنْ تَدْعُوَ إلَيْهِ حَاجَةٌ أَوْ مَصْلَحَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى لَا مَكْرُوهٌ .
وَأَمَّا دَفْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ ؛ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقْبِضْ نَبِيًّا إلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ ، وَاسْتَثْنَى الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ الشَّهِيدَ فَيُسَنُّ دَفْنُهُ حَيْثُ قُتِلَ لِحَدِيثٍ فِيهِ ، وَيُسَنُّ الدَّفْنُ فِي أَفْضَلِ مَقْبَرَةٍ بِالْبَلَدِ كَالْمَقْبَرَةِ الْمَشْهُورَةِ بِالصَّالِحِينَ .
وَلَوْ قَالَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ يُدْفَنُ فِي مِلْكِي أَوْ فِي أَرْضِ التَّرِكَةِ وَالْبَاقُونَ فِي الْمَقْبَرَةِ ، .
أُجِيبَ طَالِبُهَا فَإِنْ دَفَنَهُ بَعْضُ الْوَرَثَةِ فِي أَرْضِ نَفْسِهِ لَمْ يُنْقَلْ أَوْ فِي أَرْضِ التَّرِكَةِ فَلِلْبَاقِينَ لَا لِلْمُشْتَرِي نَقْلُهُ ، وَالْأَوْلَى تَرْكُهُ وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ جُهِلَ وَالدَّفْنُ لَهُ إنْ بَلَى الْمَيِّتُ أَوْ نُقِلَ مِنْهُ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي مَقْبَرَتَيْنِ وَلَمْ يُوصِ الْمَيِّتُ بِشَيْءٍ قَالَ ابْنُ الْأُسْتَاذِ : إنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا أُجِيبَ الْمُقَدَّمُ فِي الصَّلَاةِ وَالْغُسْلِ فَإِنْ اسْتَوَوْا أُقْرِعَ وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً أُجِيبَ الْقَرِيبُ دُونَ الزَّوْجِ ، وَهَذَا كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : مَحَلُّهُ عِنْدَ اسْتِوَاءِ التُّرْبَتَيْنِ وَإِلَّا فَيَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ إلَى مَا هُوَ أَصْلَحُ لِلْمَيِّتِ فَيُجَابُ الدَّاعِي إلَيْهِ كَمَا لَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَقْرَبَ أَوْ أَصْلَحَ أَوْ مُجَاوِرَةَ الْأَخْيَارِ وَالْأُخْرَى بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ ، بَلْ لَوْ اتَّفَقُوا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلَحِ مَنَعَهُمْ الْحَاكِمُ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْمَيِّتِ ، .
وَلَوْ تَنَازَعَ الْأَبُ وَالْأُمُّ فِي دَفْنِ وَلَدٍ فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا : أَنَا أَدْفِنُهُ فِي تُرْبَتِي .
فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إجَابَةُ الْأَبِ .
وَلَوْ كَانَتْ الْمَقْبَرَةُ مَغْصُوبَةً أَوْ اشْتَرَاهَا ظَالِمٌ بِمَالٍ خَبِيثٍ ثُمَّ سَبَلَهَا أَوْ كَانَ أَهْلُهَا أَهْلَ بِدْعَةٍ أَوْ فِسْقٍ أَوْ كَانَتْ تُرْبَتُهَا فَاسِدَةً لِمُلُوحَةٍ أَوْ نَحْوِهَا أَوْ كَانَ نَقْلُ الْمَيِّتِ إلَيْهَا يُؤَدِّي إلَى انْفِجَارِهِ فَالْأَفْضَلُ اجْتِنَابُهَا بَلْ يَجِبُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .
وَلَوْ مَاتَ شَخْصٌ فِي سَفِينَةٍ وَأَمْكَنَ مَنْ هُنَاكَ دَفْنُهُ لِكَوْنِهِمْ قُرْبَ الْبَرِّ وَلَا مَانِعَ لَزِمَهُمْ التَّأْخِيرَ لِيَدْفِنُوهُ فِيهِ وَإِلَّا جُعِلَ بَيْنَ لَوْحَتَيْنِ لِئَلَّا يَنْتَفِخَ وَأُلْقِيَ لِيَنْبِذَهُ الْبَحْرُ إلَى مَنْ لَعَلَّهُ يَدْفِنُهُ وَلَوْ ثُقِّلَ بِشَيْءٍ لِيَنْزِلَ إلَى الْقَرَارِ لَمْ يَأْثَمُوا .
وَإِذَا أَلْقَوْهُ بَيْنَ لَوْحَيْنِ أَوْ فِي الْبَحْرِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ غُسْلُهُ وَتَكْفِينُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ .
وَلَا يَجُوزُ دَفْنُ مُسْلِمٍ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ وَلَا عَكْسُهُ ، وَإِذَا اخْتَلَطُوا دُفِنُوا فِي مَقْبَرَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ كَمَا مَرَّ ، وَمَقْبَرَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا انْدَرَسَتْ جَازَ أَنْ تُجْعَلَ مَقْبَرَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَمَسْجِدًا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَذَلِكَ .
وَلَوْ حَفَرَ شَخْصٌ قَبْرًا فِي مَقْبَرَةٍ لَمْ يَكُنْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ مَيِّتٍ آخَرَ يَحْضُرُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِأَيِّ أَرْضٍ يَمُوتُ لَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُزَاحِمَ عَلَيْهِ .
وَيُكْرَهُ الْمَبِيتُ بِهَا .
( وَيُكْرَهُ الْمَبِيتُ بِهَا ) أَيْ الْمَقْبَرَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْوَحْشَةِ ، وَرُبَّمَا رَأَى مَا يُزِيلُ عَقْلَهُ ، وَفِي كَلَامِهِ مَا يُشْعِرُ بِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ فِي الْقَبْرِ الْمُفْرَدِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَفِيهِ احْتِمَالٌ وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِصَحْرَاءَ أَوْ فِي بَيْتٍ مَسْكُونٍ ا هـ .
وَالتَّفْرِقَةُ أَظْهَرُ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ التُّرَبِ مَسْكُونَةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْرَهَ فِيهَا ، وَيُؤْخَذُ مِنْ التَّعْلِيلِ أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا ، وَأَمَّا إذَا كَانُوا جَمَاعَةً كَمَا يَقَعُ الْآنَ كَثِيرًا فِي الْبَيَاتِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِقِرَاءَةِ قُرْآنٍ أَوْ زِيَارَةٍ فَلَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ .
وَيُنْدَبُ سَتْرُ الْقَبْرِ بِثَوْبٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلًا ، وَأَنْ يَقُولَ : بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
( وَيُنْدَبُ سَتْرُ الْقَبْرِ بِثَوْبٍ ) عِنْدَ إدْخَالِ الْمَيِّتِ فِيهِ ( وَإِنْ كَانَ ) الْمَيِّتُ ( رَجُلًا ) ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَتَرَ قَبْرَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ؛ وَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لِمَا عَسَاهُ أَنْ يَنْكَشِفَ مِمَّا كَانَ يَجِبُ سَتْرُهُ وَهُوَ لِلْأُنْثَى آكَدُ مِنْهُ لِغَيْرِهَا بَلْ قِيلَ يَخْتَصُّ السَّتْرُ بِهَا وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ وَلِلْخُنْثَى آكَدُ مِنْ الرَّجُلِ كَمَا فِي الْحَيَاةِ ( وَ ) يُنْدَبُ ( أَنْ يَقُولَ ) الَّذِي يُدْخِلُهُ الْقَبْرَ ( بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) لِلِاتِّبَاعِ كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ ، وَفِي رِوَايَةٍ سُنَّةِ بَدَلَ مِلَّةِ ، وَيُسَنُّ أَنْ يَزِيدَ مِنْ الدُّعَاءِ مَا يُنَاسِبُ الْحَالَ .
وَلَا يُفْرَشُ تَحْتَهُ شَيْءٌ وَلَا مِخَدَّةٌ .
( وَلَا يُفْرَشُ تَحْتَهُ ) فِي الْقَبْرِ ( شَيْءٌ ) مِنْ الْفِرَاشِ ( وَلَا ) يُوضَعُ تَحْتَ رَأْسِهِ ( مِخَدَّةٌ ) بِكَسْرِ الْمِيمِ جَمْعُهَا مَخَادُّ بِفَتْحِهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا آلَةً لِوَضْعِ الْخَدِّ عَلَيْهَا أَيْ يُكْرَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إضَاعَةُ مَالٍ ، بَلْ يُوضَعُ بَدَلَهَا حَجَرٌ أَوْ لَبِنَةٌ .
وَيُفْضِي بِخَدِّهِ إلَيْهِ أَوْ إلَى التُّرَابِ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ، وَفِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ لَمَّا اُحْتُضِرَ أَوْصَى أَنْ لَا يَجْعَلُوا فِي لَحْدِهِ شَيْئًا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التُّرَابِ .
وَأَوْصَى عُمَرُ أَنَّهُمْ إذَا نَزَّلُوهُ الْقَبْرَ يُفْضُوا بِخَدِّهِ إلَى الْأَرْضِ .
وَقَالَ الْبَغَوِيّ : لَا بَأْسَ أَنْ يُبْسَطَ تَحْتَ جَبِينِهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ فِي قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ صَادِرًا عَنْ جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ وَلَا بِرِضَاهُمْ وَإِنَّمَا فَعَلَهُ شُقْرَانُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَلْبَسَهَا أَحَدٌ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الِاسْتِيعَابِ أَنَّ تِلْكَ الْقَطِيفَةَ أُخْرِجَتْ قَبْلَ أَنْ يُهَالَ التُّرَابُ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ : وَلَا يُتَّخَذُ لَهُ فِرَاشٌ وَلَا مِخَدَّةٌ لَاسْتَغْنَى عَمَّا قَدَّرْتُهُ ؛ لِأَنَّ الْمِخَدَّةَ إنْ دَخَلَتْ فِيمَا يُفْرَشُ تَحْتَهُ فَقَدْ دَخَلَتْ فِي لَفْظِ الشَّيْءِ ، وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ وَهُوَ الصَّوَابُ لَمْ يَبْقَ لَهَا عَامِلٌ يَرْفَعُهَا .
وَيُكْرَهُ دَفْنُهُ فِي تَابُوتٍ إلَّا فِي أَرْضٍ نَدْيَةٍ أَوْ رِخْوَةٍ .
( وَيُكْرَهُ دَفْنُهُ فِي تَابُوتٍ ) بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ ( إلَّا فِي أَرْضٍ نَدْيَةٍ ) بِسُكُونِ الدَّالِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتِيَّةِ ( أَوْ رِخْوَةٍ ) وَهِيَ بِكَسْرِ الرَّاءِ أَفْصَحُ مِنْ فَتْحِهَا : ضِدُّ الشَّدِيدَةِ فَلَا يُكْرَهُ لِلْمَصْلَحَةِ وَلَا تُنَفَّذُ وَصِيَّتُهُ بِهِ إلَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا إذَا كَانَ فِي الْمَيِّتِ تَهْرِيَةٌ بِحَرِيقٍ أَوْ لَذْعٍ بِحَيْثُ لَا يَضْبُطُهُ إلَّا التَّابُوتُ أَوْ كَانَتْ امْرَأَةً لَا مَحْرَمَ لَهَا كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي لِئَلَّا يَمَسَّهَا الْأَجَانِبُ عِنْدَ الدَّفْنِ أَوْ غَيْرِهِ ، وَأَلْحَقَ فِي الْمُتَوَسِّطِ بِذَلِكَ دَفْنَهُ فِي أَرْضٍ مَسْبَعَةٍ بِحَيْثُ لَا يَصُونُهُ مِنْ نَبْشِهَا إلَّا التَّابُوتُ .
وَيَجُوزُ الدَّفْنُ لَيْلًا ، وَوَقْتَ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ مَا لَمْ يَتَحَرَّهُ ، وَغَيْرُهُمَا أَفْضَلُ .
( وَيَجُوزُ ) بِلَا كَرَاهَةٍ ( الدَّفْنُ لَيْلًا ) ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ وَفَاطِمَةَ وَالْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ مَا عَدَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ دُفِنُوا لَيْلًا ، وَقَدْ فَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ .
أَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إخْرَاجِ جَنَائِزِهِمْ نَهَارًا ، وَعَلَى الْإِمَامِ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ ( وَ ) كَذَا يَجُوزُ ( وَقْتَ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ ) بِلَا كَرَاهَةٍ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ لَهُ سَبَبًا مُتَقَدِّمًا أَوْ مُقَارِنًا ، وَهُوَ الْمَوْتُ ( مَا لَمْ يَتَحَرَّهُ ) فَإِنْ تَحَرَّاهُ كُرِهَ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ وَاقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّوْضَةِ ، وَإِنْ اقْتَضَى الْمَتْنُ عَدَمَ الْجَوَازِ ، وَجَرَى عَلَيْهِ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ مَنْهَجِهِ ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ ، وَعَلَى الْكَرَاهَةِ حُمِلَ خَبَرُ مُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ { ثَلَاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِنَّ ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا ، وَذَكَرَ وَقْتَ الِاسْتِوَاءِ ، وَالطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ } وَظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ تَحَرِّي الدَّفْنِ فِي الْوَقْتَيْنِ الْمُتَعَلِّقَيْنِ بِالْفِعْلِ ، وَهُمَا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ الْإِسْنَوِيُّ وَصَوَّبَ فِي الْخَادِمِ كَرَاهَةَ تَحَرِّي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا ، وَهُوَ الظَّاهِرُ ( وَغَيْرُهُمَا ) أَيْ اللَّيْلِ ، وَوَقْتِ الْكَرَاهَةِ ( أَفْضَلُ ) أَيْ فَاضِلٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخَافَ مِنْ تَأْخِيرِهِ إلَى غَيْرِهِمَا تَغَيُّرًا لِسُهُولَةِ الِاجْتِمَاعِ وَالْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَمَا ذَكَرَ مِنْ تَفْضِيلِ غَيْرِ أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ عَلَيْهَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَلَا فِي الْمَجْمُوعِ وَلَا يَتَّجِهُ صِحَّتُهُ ، فَإِنَّ الْمُبَادَرَةَ مُسْتَحَبَّةٌ ا هـ .
وَيَرُدُّ ذَلِكَ الشَّرْطُ
الْمُتَقَدِّمُ ، وَلَوْ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ وَالسُّنَّةُ غَيْرُهُمَا لَاسْتَغْنَى عَنْ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ .
.
فَرْعٌ : يَحْصُلُ مِنْ الْأَجْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ الْمَسْبُوقَةِ بِالْحُضُورِ مَعَهُ قِيرَاطٌ ، وَيَحْصُلُ مِنْهُ وَالْحُضُورُ مَعَهُ إلَى تَمَامِ الدَّفْنِ لَا لِلْمُوَارَاةِ فَقَطْ قِيرَاطَانِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ } وَفِي رِوَايَةٍ { حَتَّى يُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ .
قِيلَ وَمَا الْقِيرَاطَانِ : قَالَ : مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ } وَلِمُسْلِمٍ { أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ } وَعَلَى ذَلِكَ تُحْمَلُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ " حَتَّى يُوضَعُ فِي اللَّحْدِ " وَهَلْ ذَلِكَ بِقِيرَاطِ الصَّلَاةِ أَوْ بِدُونِهِ فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ قَرَارِيطَ ؟ فِيهِ احْتِمَالٌ ، لَكِنْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ التَّصْرِيحُ بِالْأَوَّلِ ، وَيَشْهَدُ لِلثَّانِي مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا { مَنْ شَيَّعَ جِنَازَةً حَتَّى يُقْضَى دَفْنُهَا كُتِبَ لَهُ ثَلَاثَةُ قَرَارِيطَ } وَبِمَا تَقَرَّرَ عُلِمَ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ حَضَرَ وَحْدَهُ وَمَكَثَ حَتَّى دُفِنَ لَمْ يَحْصُلُ لَهُ الْقِيرَاطُ الثَّانِي كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ لَكِنْ لَهُ أَجْرٌ فِي الْجُمْلَةِ ، وَلَوْ تَعَدَّدَتْ الْجَنَائِزُ وَاتَّحَدَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً : هَلْ يَتَعَدَّدُ الْقِيرَاطُ بِتَعَدُّدِهَا أَوْ لَا نَظَرًا لِاتِّحَادِ الصَّلَاةِ ؟ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : الظَّاهِرُ التَّعَدُّدُ وَبِهِ أَجَابَ قَاضِي حَمَاةَ الْبَارِزِيُّ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَيُكْرَهُ تَجْصِيصُ الْقَبْرِ وَالْبِنَاءُ وَالْكِتَابَةُ عَلَيْهِ .
( وَيُكْرَهُ تَجْصِيصُ الْقَبْرِ ) أَيْ تَبْيِيضُهُ بِالْجِصِّ ، وَهُوَ الْجِبْسُ وَقِيلَ الْجِيرُ ، وَالْمُرَادُ هُنَا هُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا ( وَالْبِنَاءُ ) عَلَيْهِ كَقُبَّةٍ أَوْ بَيْتٍ لِلنَّهْيِ عَنْهُمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، وَخَرَجَ بِتَجْصِيصِهِ تَطْيِيبُهُ ، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ .
وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : إنَّهُ الصَّحِيحُ وَإِنْ خَالَفَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ فِي ذَلِكَ فَجَعَلَاهُ كَالتَّجْصِيصِ ( وَالْكِتَابَةُ عَلَيْهِ ) سَوَاءٌ أَكُتِبَ اسْمُ صَاحِبِهِ أَوْ غَيْرِهِ فِي لَوْحٍ عِنْدَ رَأْسِهِ أَمْ فِي غَيْرِهِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : هَكَذَا أَطْلَقُوهُ ، وَالْقِيَاسُ الظَّاهِرُ تَحْرِيمُ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَبْرِ لِتَعَرُّضِهِ لِلدَّوْسِ عَلَيْهِ وَالنَّجَاسَةِ وَالتَّلْوِيثِ بِصَدِيدِ الْمَوْتَى عِنْدَ تَكْرَارِ النَّبْشِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ ا هـ .
لَكِنَّ هَذَا غَيْرُ مُحَقَّقٍ ، فَالْمُعْتَمَدُ إطْلَاقُ الْأَصْحَابِ .
وَيُكْرَهُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْقَبْرِ مِظَلَّةٌ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رَأَى قُبَّةً فَنَحَاهَا ، وَقَالَ : دَعُوهُ يُظِلُّهُ عَمَلُهُ ، وَفِي الْبُخَارِيِّ لَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ضَرَبَتْ امْرَأَتُهُ الْقُبَّةَ عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً ، ثُمَّ رُفِعَتْ فَسَمِعُوا صَائِحًا يَقُولُ : أَلَا هَلْ وَجَدُوا مَا فَقَدُوا ، فَأَجَابَهُ آخَرُ : بَلْ يَئِسُوا فَانْقَلَبُوا ، وَيُكْرَهُ تَقْبِيلُ التَّابُوتِ الَّذِي يُجْعَلُ عَلَى الْقَبْرِ كَمَا يُكْرَهُ تَقْبِيلُ الْقَبْرِ وَاسْتِلَامُهُ وَتَقْبِيلُ الْأَعْتَابِ عِنْدَ الدُّخُولِ لِزِيَارَةِ الْأَوْلِيَاءِ ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا النَّاسُ { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا } .
وَلَوْ بُنِيَ فِي مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلَةٍ هُدِمَ .
( وَلَوْ بُنِيَ ) عَلَيْهِ ( فِي مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلَةٍ ) وَهِيَ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ الْبَلَدِ بِالدَّفْنِ فِيهَا ( هُدِمَ ) الْبِنَاءُ ؛ لِأَنَّهُ يَضِيقُ عَلَى النَّاسِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَبْنِيَ قُبَّةً أَوْ بَيْتًا أَوْ مَسْجِدًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ، وَمِنْ الْمُسَبَّلِ - كَمَا قَالَ الدَّمِيرِيُّ وَغَيْرُهُ - قَرَافَةُ مِصْرَ فَإِنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ ذَكَرَ فِي تَارِيخِ مِصْرَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أَعْطَاهُ الْمُقَوْقَسُ فِيهَا مَالًا جَزِيلًا ، وَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ أَنَّهَا تُرْبَةُ الْجَنَّةِ فَكَاتَبَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ .
فَكَتَبَ إلَيْهِ إنِّي لَا أَعْرِفُ تُرْبَةَ الْجَنَّةِ إلَّا لِأَجْسَادِ الْمُؤْمِنِينَ فَاجْعَلُوهَا لِمَوْتَاكُمْ ، وَقَدْ أَفْتَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِهَدْمِ مَا بُنِيَ فِيهَا .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ الْبِنَاءَ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ مَكْرُوهٌ ، وَلَكِنْ يُهْدَمُ فَإِنَّهُ أَطْلَقَ فِي الْبِنَاءِ ، وَفَصَلَ فِي الْهَدْمِ بَيْنَ الْمُسَبَّلَةِ وَغَيْرِهَا إذْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِهِ فِي الْكَرَاهَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ لِفَسَادِهِ ؛ لِأَنَّ التَّجْصِيصَ وَالْكِتَابَةَ وَالْبِنَاءَ فِي غَيْرِ الْمُسَبَّلَةِ لَا حُرْمَةَ فِيهِ ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ ، وَلَكِنَّهُ صَرَّحَ فِي الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ بِتَحْرِيمِ الْبِنَاءِ فِيهَا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ، فَلَوْ صَرَّحَ بِهِ هُنَا كَانَ أَوْلَى .
فَإِنْ قِيلَ : يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ : هَدْمُ الْحُرْمَةِ .
أُجِيبَ بِالْمَنْعِ ، فَقَدْ قَالَ فِي الرَّوْضَةِ فِي آخِرِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ : إنَّ غَرْسَ الشَّجَرَةِ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ قَالَ : فَإِنْ غُرِسَتْ قُطِعَتْ ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ كَلَامَيْ الْمُصَنِّفِ بِحَمْلِ الْكَرَاهَةِ عَلَى مَا إذَا بَنَى عَلَى الْقَبْرِ خَاصَّةً بِحَيْثُ يَكُونُ الْبِنَاءُ وَاقِعًا فِي حَرِيمِ الْقَبْرِ ، وَالْحُرْمَةُ مَا عَلَى إذَا بَنَى عَلَى الْقَبْرِ قُبَّةً أَوْ بَيْتًا يَسْكُنُ فِيهِ : وَالْمُعْتَمَدُ الْحُرْمَةُ مُطْلَقًا .
وَيُنْدَبُ أَنْ يُرَشَّ الْقَبْرُ بِمَاءٍ ، وَيُوضَعُ عَلَيْهِ حَصًى ، وَعِنْدَ رَأْسِهِ حَجَرٌ أَوْ خَشَبَةٌ .
( وَيُنْدَبُ أَنْ يُرَشَّ الْقَبْرُ بِمَاءٍ ) ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ بِقَبْرِ وَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ وَتَفَاؤُلًا بِالرَّحْمَةِ وَتَبْرِيدًا لِمَضْجَعِ الْمَيِّتِ ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ حِفْظًا لِلتُّرَابِ أَنْ يَتَنَاثَرَ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ طَهُورًا بَارِدًا وَالظَّاهِرُ كَرَاهَتُهُ بِالنَّجِسِ أَوْ تَحْرِيمُهُ ا هـ .
وَاَلَّذِي يَنْبَغِي الْكَرَاهَةُ ، وَأَمَّا التَّحْرِيمُ فَفِي غَايَةِ الْبُعْدِ ، وَخَرَجَ بِالْمَاءِ مَاءُ الْوَرْدِ فَالرَّشُّ بِهِ مَكْرُوهٌ كَمَا فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ ؛ لِأَنَّهُ إضَاعَةُ مَالٍ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَلَوْ قِيلَ بِتَحْرِيمِهِ لَمْ يَبْعُدْ ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ : لَا بَأْسَ بِالْيَسِيرِ مِنْهُ إذَا قُصِدَ بِهِ حُضُورُ الْمَلَائِكَةِ ؛ لِأَنَّهَا تُحِبُّ الرَّائِحَةَ الطَّيِّبَةَ .
وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ مَانِعُ الْحُرْمَةِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ، وَيُكْرَهُ أَيْضًا أَنْ يُطْلَى بِالْخَلُوقِ ( وَيُوضَعُ عَلَيْهِ حَصًى ) لِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ مُرْسَلًا { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَهُ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ } .
وَرُوِيَ { أَنَّهُ رَأَى عَلَى قَبْرِهِ فُرْجَةً فَأَمَرَ بِهَا فَسُدَّتْ وَقَالَ : إنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ ، وَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا عَمِلَ شَيْئًا أَحَبَّ اللَّهُ مِنْهُ أَنْ يُتْقِنَهُ } وَيُسَنُّ أَيْضًا وَضْعُ الْجَرِيدِ الْأَخْضَرِ عَلَى الْقَبْرِ وَكَذَا الرَّيْحَانُ وَنَحْوُهُ مِنْ الشَّيْءِ الرَّطْبِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْغَيْرِ أَخْذُهُ مِنْ عَلَى الْقَبْرِ قَبْلَ يُبْسِهِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَمْ يُعْرِضْ عَنْهُ إلَّا عِنْدَ يُبْسِهِ لِزَوَالِ نَفْعِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَقْتَ رُطُوبَتِهِ وَهُوَ الِاسْتِغْفَارُ ( وَ ) أَنْ يُوضَعَ ( عِنْدَ رَأْسِهِ حَجَرٌ أَوْ خَشَبَةٌ ) أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ { ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ عِنْدَ رَأْسِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ صَخْرَةً وَقَالَ : أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي لِأَدْفِنَ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَعَنْ الْمَاوَرْدِيُّ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ عِنْدَ رِجْلَيْهِ أَيْضًا
.
وَجَمْعُ الْأَقَارِبِ فِي مَوْضِعٍ .
( وَ ) يُنْدَبُ ( جَمْعُ الْأَقَارِبِ ) لِلْمَيِّتِ ( فِي مَوْضِعٍ ) وَاحِدٍ مِنْ الْمَقْبَرَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ عَلَى الزَّائِرِ .
قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ : وَيُسَنُّ أَنْ يُقَدَّمَ الْأَبُ إلَى الْقِبْلَةِ ، ثُمَّ الْأَسَنُّ فَالْأَسَنُّ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ فِيمَا إذَا دُفِنُوا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ كَمَا قَالَهُ غَيْرُهُ ، وَيُتَّجَهُ كَمَا قَالَ الدَّمِيرِيُّ : إلْحَاقُ الزَّوْجَيْنِ وَالْعُتَقَاءِ وَالْأَصْدِقَاءِ بِالْأَقَارِبِ .
وَزِيَارَةُ الْقُبُورِ لِلرِّجَالِ ، وَتُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ ، وَقِيلَ تَحْرُمُ ، وَقِيلَ تُبَاحُ ، وَيُسَلِّمُ الزَّائِرُ وَيَقْرَأُ وَيَدْعُو .
( وَ ) يُنْدَبُ ( زِيَارَةُ الْقُبُورِ ) الَّتِي فِيهَا الْمُسْلِمُونَ ( لِلرِّجَالِ ) بِالْإِجْمَاعِ ، وَكَانَتْ زِيَارَتُهَا مَنْهِيًّا عَنْهَا ، ثُمَّ نُسِخَتْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا } ، وَلَا تَدْخُلُ النِّسَاءُ فِي ضَمِيرِ الرِّجَالِ عَلَى الْمُخْتَارِ ، { وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ إلَى الْبَقِيعِ ، فَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا بِكُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَاحِقُونَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ } وَرُوِيَ { فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْمَوْتَ } وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ أَوَّلًا لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ قَوَاعِدُ الْإِسْلَامِ وَاشْتَهَرَتْ أَمَرَهُمْ بِهَا ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ مَا حَاصِلُهُ : أَنَّهُ مَنْ كَانَ يُسْتَحَبُّ لَهُ زِيَارَتُهُ فِي حَيَاتِهِ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ صَاحِبٍ ، فَيُسَنُّ لَهُ زِيَارَتُهُ فِي الْمَوْتِ كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَيُسَنُّ لَهُ زِيَارَتُهُ إنْ قُصِدَ بِهَا تَذَكُّرُ الْمَوْتِ أَوْ التَّرَحُّمُ عَلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَهُوَ حَسَنٌ ، وَذَكَرَ فِي الْبَحْرِ نَحْوَهُ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالْأَشْبَهُ أَنَّ مَوْضِعَ النَّدْبِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ سَفَرٌ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ فَقَطْ ، بَلْ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ السَّفَرُ لِذَلِكَ ، وَاسْتُثْنِيَ قَبْرُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَعَلَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ جَوَازًا مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ : أَيْ فَيُكْرَهُ ، وَيُسَنُّ الْوُضُوءُ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي شَرْحِ الْفُرُوعِ .
أَمَّا قُبُورُ الْكُفَّارِ فَزِيَارَتُهَا مُبَاحَةٌ ، وَإِنْ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ بِحُرْمَتِهَا ( وَتُكْرَهُ ) زِيَارَتُهَا ( لِلنِّسَاءِ ) ؛ لِأَنَّهَا مَظِنَّةٌ لِطَلَبِ بُكَائِهِنَّ وَرَفْعِ أَصْوَاتِهِنَّ لِمَا فِيهِنَّ مِنْ رِقَّةِ الْقَلْبِ وَكَثْرَةِ الْجَزَعِ وَقِلَّةِ احْتِمَالِ الْمَصَائِبِ ،
وَإِنَّمَا لَمْ تَحْرُمْ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَرَّ بِامْرَأَةٍ عَلَى قَبْرٍ تَبْكِي عَلَى صَبِيٍّ لَهَا ، فَقَالَ لَهَا : اتَّقِ اللَّهَ وَاصْبِرِي } ( 1 ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَلَوْ كَانَتْ الزِّيَارَةُ حَرَامًا لَنَهَى عَنْهَا ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ { كَيْفَ أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ يَعْنِي إذَا زُرْتُ الْقُبُورَ ، قَالَ : قُولِي السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ ( وَقِيلَ تَحْرُمُ ) لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ } وَلَيْسَ هَذَا الْوَجْهُ فِي الرَّوْضَةِ ، وَبِهِ قَالَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَغَيْرُهُ ( وَقِيلَ تُبَاحُ ) جَزَمَ بِهِ فِي الْإِحْيَاءِ وَصَحَّحَهُ الرُّويَانِيُّ إذَا أُمِنَ الِافْتِتَانُ ، عَمَلًا بِالْأَصْلِ وَالْخَبَرِ فِيمَا إذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا بُكَاءٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، وَمَحَلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي غَيْرِ زِيَارَةِ قَبْرِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ .
أَمَّا زِيَارَتُهُ فَمِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، وَأَلْحَقَ الدَّمَنْهُورِيُّ بِهِ قُبُورَ بَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَإِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : لَمْ أَرَهُ لِلْمُتَقَدِّمِينَ .
قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ : فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ زِيَارَةُ قَبْرِ أَبَوَيْهَا وَإِخْوَتِهَا وَسَائِرِ أَقَارِبِهَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُمْ أَوْلَى بِالصِّلَةِ مِنْ الصَّالِحِينَ ا هـ .
وَالْأَوْلَى عَدَمُ إلْحَاقِهِمْ بِهِمْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَعْلِيلِ الْكَرَاهَةِ ( وَيُسَلِّمُ نَدْبًا ) ( الزَّائِرُ ) لِلْقُبُورِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُسْتَقْبِلًا وَجْهَهُ قَائِلًا مَا عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ إذَا خَرَجُوا لِلْمَقَابِرِ { السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِكُمْ لَاحِقُونَ أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ } ( 3 ) ، أَوْ { السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ } كَمَا رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ .
زَادَ أَبُو دَاوُد { اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ } لَكِنْ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ ، وَقَوْلُهُ : إنْ شَاءَ اللَّهُ لِلتَّبَرُّكِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْتِ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ ، أَوْ عَلَى الْإِسْلَامِ ، أَوْ إنْ بِمَعْنَى إذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَقَوْلُهُ دَارَ : أَيْ أَهْلَ دَارِ ، وَنَصْبُهُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَوْ النِّدَاءِ ، وَيَجُوزُ جَرُّهُ عَلَى الْبَدَلِ ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي : لَا يَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلْخِطَابِ ؛ بَلْ يَقُولُ : وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ ، فَقَدْ وَرَدَ { أَنَّ شَخْصًا قَالَ : عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : لَا تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلَامُ فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى } .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ هَذَا إخْبَارٌ عَنْ عَادَةِ الْعَرَبِ لَا تَعْلِيمٌ لَهُمْ ( وَيَقْرَأُ ) عِنْدَهُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا تَيَسَّرَ ، وَهُوَ سُنَّةٌ فِي الْمَقَابِرِ فَإِنَّ الثَّوَابَ لِلْحَاضِرِينَ وَالْمَيِّتُ كَحَاضِرٍ يُرْجَى لَهُ الرَّحْمَةُ ، وَفِي ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ كَلَامٌ يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْوَصَايَا ( وَيَدْعُو ) لَهُ عَقِبَ الْقِرَاءَةِ رَجَاءَ الْإِجَابَةِ ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ الْمَيِّتَ وَهُوَ عَقِبَ الْقِرَاءَةِ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ ، وَعِنْدَ الدُّعَاءِ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَإِنْ قَالَ الْخُرَاسَانِيُّونَ بِاسْتِحْبَابِ اسْتِقْبَالِ وَجْهِ الْمَيِّتِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ الزِّيَارَةِ ، وَأَنْ يُكْثِرَ الْوُقُوفَ عِنْدَ قُبُورِ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ .
وَيَحْرُمُ نَقْلُ الْمَيِّتِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ ، وَقِيلَ يُكْرَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِقُرْبِ مَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، نَصَّ عَلَيْهِ .
( وَيَحْرُمُ نَقْلُ الْمَيِّتِ ) قَبْلَ أَنْ يُدْفَنَ مِنْ بَلَدِ مَوْتِهِ ( إلَى بَلَدٍ آخَرَ ) لِيُدْفَنَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْخِيرِ دَفْنِهِ وَمِنْ التَّعْرِيضِ لِهَتْكِ حُرْمَتِهِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَتَعْبِيرُهُمْ بِالْبَلَدِ لَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ بِظَاهِرِهِ بَلْ الصَّحْرَاءُ كَذَلِكَ ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ مِنْهَا مَعَ الْبَلَدِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ : مِنْ بَلَدٍ لِبَلَدٍ ، مِنْ بَلَدٍ لِصَحْرَاءَ ، وَعَكْسُهُ ، وَمَنْ صَحْرَاءَ لِصَحْرَاءَ ، وَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ فِي الْبَلْدَتَيْنِ الْمُتَّصِلَتَيْنِ أَوْ الْمُتَقَارِبَتَيْنِ ، لَا سِيَّمَا وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِالدَّفْنِ خَارِجَ الْبَلَدِ ، وَلَعَلَّ الْعِبْرَةَ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ بِمَسَافَةِ مَقْبَرَتِهَا .
أَمَّا بَعْدَ دَفْنِهِ فَسَيَأْتِي قَرِيبًا فِي مَسْأَلَةِ نَبْشِهِ ( وَقِيلَ ) أَيْ قَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ ( يُكْرَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَلَى تَحْرِيمِهِ دَلِيلٌ ( إلَّا أَنْ يَكُونَ بِقُرْبِ مَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، نَصَّ عَلَيْهِ ) الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِفَضْلِهَا ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ عَائِدًا إلَى الْكَرَاهَةِ ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ الْحُرْمَةِ أَوْ عَائِدًا إلَيْهِمَا مَعًا .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَهُوَ أَوْلَى عَلَى قَاعِدَتِنَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَقِبَ الْجُمَلِ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقُرْبِ مَسَافَةٌ لَا يَتَغَيَّرُ فِيهَا الْمَيِّتُ قَبْلَ وُصُولِهِ ، وَالْمُرَادُ بِمَكَّةَ جَمِيعُ الْحَرَمِ لَا نَفْسُ الْبَلَدِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَيَنْبَغِي اسْتِثْنَاءُ الشَّهِيدِ لِخَبَرِ جَابِرٍ قَالَ { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُرَدُّوا إلَى مَصَارِعِهِمْ وَكَانُوا نُقِلُوا إلَى الْمَدِينَةِ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ا هـ .
وَتَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ : لَا يَبْعُدُ أَنْ تُلْحَقَ الْقَرْيَةُ الَّتِي فِيهَا صَالِحُونَ بِالْأَمَاكِنِ الثَّلَاثَةِ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِنَقْلِهِ مِنْ بَلَد مَوْتِهِ إلَى الْأَمَاكِنِ الثَّلَاثَةِ لَزِمَ تَنْفِيذُ
وَصِيَّتِهِ أَيْ عِنْدَ الْقُرْبِ وَأَمْنِ التَّغَيُّرِ لَا مُطْلَقًا كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، وَإِذَا جَازَ النَّقْلُ فَيَنْبَغِي كَمَا قَالَهُ ابْنُ شُهْبَةَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ فَرْضَ ذَلِكَ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْبَلَدِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَلَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنْهُمْ بِجَوَازِ النَّقْلِ ، وَلَوْ مَاتَ سُنِّيٌّ فِي بِلَادِ الْمُبْتَدِعَةِ نُقِلَ إنْ لَمْ يُمْكِنَ إخْفَاءُ قَبْرِهِ ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ أَمِيرُ الْجَيْشِ وَنَحْوُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَوْ دَفَنَّاهُ ثَمَّ لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِمْ ، وَلَوْ تَعَارَضَ الْقُرْبُ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْمَذْكُورَةِ وَدَفْنُهُ بَيْنَ أَهْلِهِ فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى .
وَنَبْشُهُ بَعْدَ دَفْنِهِ لِلنَّقْلِ وَغَيْرِهِ حَرَامٌ إلَّا لِضَرُورَةٍ : بِأَنْ دُفِنَ بِلَا غُسْلٍ أَوْ فِي أَرْضٍ ، أَوْ ثَوْبٍ مَغْصُوبَيْنِ ، أَوْ وَقَعَ فِيهِ مَالٌ ، أَوْ دُفِنَ ، لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ لَا لِلتَّكْفِينِ فِي الْأَصَحِّ .
( وَنَبْشُهُ بَعْدَ دَفْنِهِ ) وَقَبْلَ الْبِلَى عِنْدَ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِتِلْكَ الْأَرْضِ ( لِلنَّقْلِ وَغَيْرِهِ ) كَصَلَاةٍ عَلَيْهِ وَتَكْفِينِهِ ( حَرَامٌ ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ هَتْكًا لِحُرْمَتِهِ ( إلَّا لِضَرُورَةٍ : بِأَنْ دُفِنَ بِلَا غُسْلٍ ) وَلَا تَيَمُّمٍ بِشَرْطِهِ وَهُوَ مِمَّنْ يَجِبُ غُسْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فَاسْتَدْرَكَ عِنْدَ قُرْبِهِ فَيَجِبُ عَلَى الْمَشْهُورِ نَبْشُهُ وَغُسْلُهُ إنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِنَتْنٍ أَوْ تَقَطُّعٍ ، ثُمَّ يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَقِيلَ يُنْبَشُ مَا بَقِيَ مِنْهُ جُزْءٌ ، وَقِيلَ لَا يُنْبَشُ مُطْلَقًا ، بَلْ يُكْرَهُ لِلْهَتْكِ ، وَلَوْ قَالَ كَأَنْ دُفِنَ كَانَ أَوْلَى لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ الْحَصْرُ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ ، وَسَأُنَبِّهُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا تَرَكَهُ ( أَوْ ) دُفِنَ ( فِي أَرْضٍ أَوْ ) فِي ( ثَوْبٍ مَغْصُوبَيْنِ ) وَطَالَبَ بِهِمَا مَالِكُهُمَا فَيَجِبُ النَّبْشُ ، وَلَوْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ هَتْكُ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ لِيَصِلَ الْمُسْتَحِقُّ إلَى حَقِّهِ ، وَيُسَنُّ لِصَاحِبِهِمَا التَّرْكُ ، وَمَحَلُّ النَّبْشِ فِي الثَّوْبِ إذَا وُجِدَ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ الْمَيِّتُ وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ النَّبْشُ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّا إذَا لَمْ نَجِدْ إلَّا ثَوْبًا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِكِهِ قَهْرًا وَلَا يُدْفَنُ عُرْيَانًا وَهُوَ مَا فِي الْبَحْرِ وَغَيْرِهِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَالْكَفَنُ الْحَرِيرُ كَالْمَغْصُوبِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَفِيهِ نَظَرٌ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ فِيهِ بِعَدَمِ النَّبْشِ ا هـ .
وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ( أَوْ وَقَعَ فِيهِ ) أَيْ الْقَبْرِ ( مَالٌ ) وَإِنْ قَلَّ كَخَاتَمٍ ، فَيَجِبُ نَبْشُهُ وَإِنْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ فِيهِ إضَاعَةُ مَالٍ ، وَقَيَّدَهُ فِي الْمُهَذَّبِ بِطَلَبِ مَالِكِهِ ، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ اعْتِمَادُهُ قِيَاسًا عَلَى الْكَفَنِ ، وَالْفَرْقُ بِأَنَّ الْكَفَنَ ضَرُورِيٌّ لِلْمَيِّتِ لَا يُجْدِي .
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَلَمْ يُوَافِقُوهُ عَلَيْهِ فَقَدْ رُدَّ
بِمُوَافَقَةِ صَاحِبَيْ الِانْتِصَارِ وَالِاسْتِقْصَاءِ لَهُ .
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي وُجُوبِ النَّبْشِ أَوْ جَوَازِهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الْمُطْلِقِينَ عَلَى الْجَوَازِ ، وَكَلَامُ الْمُهَذَّبِ عَلَى الْوُجُوبِ عِنْدَ الطَّلَبِ ، فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِإِطْلَاقِهِمْ ا هـ .
وَلَوْ بَلَغَ مَالًا لِغَيْرِهِ وَطَلَبَهُ صَاحِبُهُ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَلَمْ يَضْمَنْ مِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ أَحَدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ نُبِشَ وَشُقَّ جَوْفُهُ وَأُخْرِجَ مِنْهُ وَرُدَّ لِصَاحِبِهِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَالتَّقْيِيدُ بِعَدَمِ الضَّمَانِ غَرِيبٌ ، وَالْمَشْهُورُ لِلْأَصْحَابِ إطْلَاقُ الشَّقِّ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ ، فَقَدْ حَكَى صَاحِبُ الْبَحْرِ الِاسْتِثْنَاءَ عَنْ الْأَصْحَابِ وَقَالَ لَا خِلَافَ فِيهِ ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْجَهُ إنْ ابْتَلَعَ مَالَ نَفْسِهِ فَلَا يُنْبَشُ وَلَا يُشَقُّ لِاسْتِهْلَاكِهِ مَالَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ( أَوْ دُفِنَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ ) فَيَجِبُ نَبْشُهُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ ، وَيُوَجَّهُ لِلْقِبْلَةِ اسْتِدْرَاكًا لِلْوَاجِبِ ، فَإِنْ تَغَيَّرَ لَمْ يُنْبَشْ ( لَا لِلتَّكْفِينِ فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ غَرَضَ التَّكْفِينِ السَّتْرُ ، وَقَدْ حَصَلَ بِالتُّرَابِ مَعَ مَا فِي النَّبْشِ مِنْ الْهَتْكِ .
وَالثَّانِي : يُنْبَشُ قِيَاسًا عَلَى الْغُسْلِ بِجَامِعِ الْوُجُوبِ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ مَرَّ أَنَّ صُوَرَ النَّبْشِ لَا تَنْحَصِرُ فِيمَا قَالَهُ ، وَقَدْ ذَكَرْتُ صُوَرًا زِيَادَةً عَلَيْهِ كَمَا عُلِمَ ، وَبَقِيَ صُوَرٌ أُخَرُ : مِنْهَا مَا لَوْ دُفِنَتْ امْرَأَةٌ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ تُرْجَى حَيَاتُهُ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ نُبِشَتْ وَشُقَّ جَوْفُهَا وَأُخْرِجَ تَدَارُكًا لِلْوَاجِبِ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ شَقُّ جَوْفِهَا قَبْلَ الدَّفْنِ ، وَإِنْ لَمْ تُرْجَ حَيَاتُهُ لَمْ تُنْبَشْ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ دُفِنَتْ تُرِكَتْ حَتَّى يَمُوتَ ثُمَّ تُدْفَنَ ، وَقَوْلُ التَّنْبِيهِ : تُرِكَ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى يَمُوتَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ فِي
شَرْحِهِ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ بُشِّرَ بِمَوْلُودٍ ، فَقَالَ : إنْ كَانَ ذَكَرًا فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ أُنْثَى فَأَمَتِي حُرَّةٌ ، فَمَاتَ الْمَوْلُودُ وَدُفِنَ وَلَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ فَيُنْبَشْ لِيَعْتِقَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِتْقَ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ قَالَ : إنْ وَلَدْت ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً أَوْ أُنْثَى فَطَلْقَتَيْنِ ، فَوَلَدَتْ مَيِّتًا فَدُفِنَ وَجُهِلَ حَالُهُ ، فَالْأَصَحُّ مِنْ زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ فِي الطَّلَاقِ نَبْشُهُ ، وَمِنْهَا مَا لَوْ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى مَيِّتٍ بَعْدَمَا دُفِنَ أَنَّهُ امْرَأَتُهُ وَطَلَبَ الْإِرْثَ وَادَّعَتْ امْرَأَةٌ أَنَّهُ زَوْجُهَا وَطَلَبَتْ الْإِرْثَ ، وَأَقَامَ كُلٌّ بَيِّنَةً فَيُنْبَشُ ، فَلَوْ نُبِشَ فَبَانَ خُنْثَى تَعَارَضَتْ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى الْأَصَحِّ وَيُوقَفُ الْمِيرَاثُ .
وَقَالَ الْعَبَّادِيُّ فِي الطَّبَقَاتِ : إنَّهُ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا .
وَمِنْهَا أَنْ يَلْحَقَهُ سَيْلٌ أَوْ نَدَاوَةٌ فَيُنْبَشَ لِيُنْقَلَ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَمِنْهَا مَا لَوْ قَالَ : إنْ رَزَقَنِي اللَّهُ وَلَدًا ذَكَرًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ حَالُهُ فَيُنْبَشَ لِقَطْعِ النِّزَاعِ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ شَهِدَا عَلَى شَخْصِهِ ثُمَّ دُفِنَ وَاشْتَدَّتْ الْحَاجَةُ وَلَمْ تَتَغَيَّرْ الصُّورَةُ فَيُنْبَشْ لِيُعْرَفَ ، ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الشَّهَادَاتِ ، وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ اخْتَلَفَتْ الْوَرَثَةُ فِي أَنَّ الْمَدْفُونَ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى لِيَعْلَمَ كُلٌّ مِنْ الْوَرَثَةِ قَدْرَ حِصَّتِهِ ، وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ ذَلِكَ فِي الْمُنَاسَخَاتِ وَغَيْرِهَا ، وَمِنْهَا مَا إذَا تَدَاعَيَا مَوْلُودًا وَدُفِنَ فَإِنَّهُ يُنْبَشُ لِيُلْحِقَهُ الْقَائِفُ بِأَحَدِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ دُفِنَ الْكَافِرُ فِي الْحَرَمِ فَيُنْبَشُ وَيُخْرَجُ .
أَمَّا بَعْدَ الْبِلَى عِنْدَ أَهْلِ الْخِبْرَةِ فَلَا يَحْرُمُ نَبْشُهُ بَلْ تَحْرُمُ عِمَارَتُهُ وَتَسْوِيَةُ التُّرَابِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ فِي مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلَةٍ لِئَلَّا يَمْتَنِعَ النَّاسُ مِنْ الدَّفْنِ فِيهِ لِظَنِّهِمْ بِذَلِكَ عَدَمَ الْبِلَى .
قَالَ الْمُوَفَّقُ حَمْزَةُ الْمَحْمُودِيُّ فِي
مُشْكَلِ الْوَسِيطِ أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُونُ صَحَابِيًّا أَوْ مَنْ اُشْتُهِرَتْ وِلَايَتُهُ فَلَا يَجُوزُ نَبْشُهُ عِنْدَ الِانْمِحَاقِ .
قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ : وَقَدْ يُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخَانِ فِي الْوَصَايَا أَنَّهُ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِعِمَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ الزِّيَارَةِ وَالتَّبَرُّكِ ، فَإِنْ قَضِيَّتَهُ جَوَازُ عِمَارَةِ قُبُورِ الصَّالِحِينَ مَعَ جَزْمِهِمَا هُنَا بِأَنَّهُ إذَا بَلَى الْمَيِّتُ لَمْ تَجُزْ عِمَارَةُ قَبْرِهِ وَتَسْوِيَةُ التُّرَابِ عَلَيْهِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ .
وَيُسَنُّ أَنْ يَقِفَ جَمَاعَةٌ بَعْدَ دَفْنِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ سَاعَةً يَسْأَلُونَ لَهُ التَّثْبِيتَ
( وَيُسَنُّ أَنْ يَقِفَ جَمَاعَةٌ بَعْدَ دَفْنِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ سَاعَةً يَسْأَلُونَ لَهُ التَّثْبِيتَ ) { ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ ؛ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ } ( 1 ) رَوَاهُ الْبَزَّارُ ، وَقَالَ الْحَاكِمُ : إنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ .
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : أَنَّهُ قَالَ : إذَا دَفَنْتُمُونِي فَأُقِيمُوا بَعْدَ ذَلِكَ حَوْلَ قَبْرِي سَاعَةً قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُفَرَّقُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَعْلَمُ مَاذَا أُرَاجِعُ رُسُلَ رَبِّي .
وَيُسَنُّ تَلْقِينُ الْمَيِّتِ الْمُكَلَّفِ بَعْدَ الدَّفْنِ ، فَيُقَالُ لَهُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ أَمَةِ اللَّهِ اُذْكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنْ دَارِ الدُّنْيَا شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ ، وَأَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا ، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ، وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِاَللَّهِ رَبًّا ، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا ، وَبِالْقُرْآنِ إمَامًا ، وَبِالْكَعْبَةِ قِبْلَةً ، وَبِالْمُؤْمِنِينَ إخْوَانًا .
لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِيهِ .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : وَالْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا ، لَكِنَّهُ اعْتَضَدَ بِشَوَاهِدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ، وَلَمْ تَزَلْ النَّاسُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ مِنْ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ فِي زَمَنِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } وَأَحْوَجُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إلَى التَّذْكِيرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَيَقْعُدُ الْمُلَقِّنُ عِنْدَ رَأْسِ الْقَبْرِ ، أَمَّا غَيْرُ الْمُكَلَّفِ وَهُوَ الطِّفْلُ وَنَحْوُهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ تَكْلِيفٌ فَلَا يُسَنُّ تَلْقِينُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْتَنُ فِي قَبْرِهِ .
وَلِجِيرَانِ أَهْلِهِ تَهْيِئَةُ طَعَامٍ يُشْبِعُهُمْ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ ، وَيُلَحُّ عَلَيْهِمْ فِي الْأَكْلِ .
( وَ ) يُسَنُّ ( لِجِيرَانِ أَهْلِهِ ) وَلِأَقَارِبِهِ الْأَبَاعِدِ وَإِنْ كَانَ الْأَهْلُ بِغَيْرِ بَلَدِ الْمَيِّتِ ( تَهْيِئَةُ طَعَامٍ يُشْبِعُهُمْ ) أَيْ أَهْلَهُ الْأَقَارِبَ ( يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا جَاءَ خَبَرُ قَتْلِ جَعْفَرٍ : اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَقَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ } حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ ، وَلِأَنَّهُ بِرٌّ وَمَعْرُوفٌ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ ؛ وَالتَّعْبِيرُ بِالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَاضِحٌ إذَا مَاتَ فِي أَوَائِلِ اللَّيْلِ ، فَلَوْ مَاتَ فِي أَوَاخِرِهِ فَقِيَاسُهُ أَنْ يُضَمَّ إلَى ذَلِكَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ أَيْضًا لَا سِيَّمَا إذَا تَأَخَّرَ الدَّفْنُ عَنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ ( وَيُلَحُّ عَلَيْهِمْ ) نَدْبًا ( فِي الْأَكْلِ ) مِنْهُ إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِئَلَّا يَضْعُفُوا ، فَرُبَّمَا تَرَكُوهُ اسْتِحْيَاءً أَوْ لِفَرْطِ الْحُزْنِ ، وَلَا بَأْسَ بِالْقَسَمِ إذَا عَرَفَ الْحَالِفُ أَنَّهُمْ يَبِرُّونَ قَسَمَهُ .
وَيَحْرُمُ تَهْيِئَتُهُ لِلنَّائِحَاتِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَيَحْرُمُ تَهْيِئَتُهُ لِلنَّائِحَاتِ ) وَالنَّادِبَاتِ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) ؛ لِأَنَّهَا إعَانَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ .
أَمَّا إصْلَاحُ أَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا وَجَمْعُ النَّاسِ عَلَيْهِ فَبِدْعَةٌ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ ، رَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ عَلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصُنْعَهُمْ الطَّعَامَ النِّيَاحَةَ .
.
خَاتِمَةٌ : صَحَّ أَنَّ الْمَيِّتَ يُبْعَثُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا ، فَقِيلَ الْمُرَادُ بِالثِّيَابِ الْعَمَلُ ، وَاسْتَعْمَلَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَلَى ظَاهِرِهِ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ دَعَا بِثِيَابٍ جُدُدٍ فَلَبِسَهَا ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا يَحْتَاجُ أَنْ يُجِيبَ عَنْ كَوْنِهِمْ يُحْشَرُونَ عُرَاةً بِأَنَّ الْبَعْثَ غَيْرُ الْحَشْرِ ، وَصَحَّ أَنَّ مَوْتَ الْفَجْأَةِ أَخْذَةُ أَسَفٍ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ اسْتَعَاذَ مِنْ مَوْتِ الْفَجْأَةِ ، وَرَوَى الْمُصَنِّفُ عَنْ أَبِي السَّكَنِ الْهَجَرِيِّ أَنَّ إبْرَاهِيمَ وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَاتُوا فَجْأَةً ، وَيُقَالُ إنَّهُ مَوْتُ الصَّالِحِينَ ، وَحَمَلَ الْجُمْهُورُ الْأَوَّلَ عَلَى مَنْ لَهُ تَعَلُّقَاتٌ يَحْتَاجُ إلَى الْإِيصَاءِ وَالتَّوْبَةِ .
أَمَّا الْمُتَيَقِّظُونَ الْمُسْتَعِدُّونَ فَإِنَّهُ تَخْفِيفٌ وَرِفْقٌ بِهِمْ ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ أَنَّ مَوْتَ الْفَجْأَةِ رَاحَةٌ لِلْمُؤْمِنِ وَأَخْذَةُ غَضَبٍ لِلْفَاجِرِ .
.
كِتَابُ الزَّكَاةِ
( كِتَابُ الزَّكَاةِ ) هِيَ لُغَةً النُّمُوُّ وَالْبَرَكَةُ وَزِيَادَةُ الْخَيْرِ ، يُقَالُ زَكَا الزَّرْعُ : إذَا نَمَا ، وَزَكَتْ النَّفَقَةُ إذَا بُورِكَ فِيهَا ، وَفُلَانٌ زَاكٍ : أَيْ كَثِيرُ الْخَيْرِ ، وَتُطْلَقُ عَلَى التَّطْهِيرِ .
قَالَ تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } أَيْ طَهَّرَهَا مِنْ الْأَدْنَاسِ ، وَتُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْمَدْحِ قَالَ تَعَالَى : { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ } أَيْ تَمْدَحُوهَا .
وَشَرْعًا اسْمٌ لِقَدْرٍ مَخْصُوصٍ مِنْ مَالٍ مَخْصُوصٍ يَجِبُ صَرْفُهُ لِأَصْنَافٍ مَخْصُوصَةٍ بِشَرَائِطَ سَتَأْتِي ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَنْمُو بِبَرَكَةِ إخْرَاجِهَا وَدُعَاءِ الْآخِذِ ؛ وَلِأَنَّهَا تُطَهِّرُ مُخْرِجَهَا مِنْ الْإِثْمِ وَتَمْدَحُهُ حِينَ تَشْهَدُ لَهُ بِصِحَّةِ الْإِيمَانِ .
وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِهَا قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قَوْله تَعَالَى : { وَآتُوا الزَّكَاةَ } ، وقَوْله تَعَالَى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وَأَخْبَارٌ كَخَبَرِ { بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ } وَهِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ لِهَذَا الْخَبَرِ يَكْفُرُ جَاحِدُهَا وَإِنْ أَتَى بِهَا ، وَيُقَاتَلُ الْمُمْتَنِعُ مِنْ أَدَائِهَا عَلَيْهَا ، وَتُؤْخَذُ مِنْهُ قَهْرًا كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَالْكَلَامُ فِي الزَّكَاةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا .
أَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهَا كَزَكَاةِ التُّجَّارِ وَالرِّكَازِ وَزَكَاةِ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ فِي الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَوْ الزَّكَاةِ فِي مَالِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ فَلَا يَكْفُرُ جَاحِدُهَا لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِهَا ، وَفُرِضَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ بَعْدَ زَكَاةِ الْفِطْرِ وَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ : الْأَوَّلُ النَّعَمُ ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ الْإِنْسِيَّةُ .
الثَّانِي : الْمُعَشَّرَاتُ ، وَهِيَ الْقُوتُ وَهُوَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُهُ .
الثَّالِثُ النَّقْدُ ، وَهُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَلَوْ غَيْرَ مَضْرُوبٍ فَيَشْمَلُ الْبُرَّ .
الرَّابِعُ التِّجَارَةُ .
الْخَامِسُ الْفِطْرَةُ وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ ثَمَانِيَةُ أَصْنَافٍ مِنْ أَجْنَاسِ
الْمَالِ الذَّهَبُ ، وَالْفِضَّةُ ، وَالْإِبِلُ ، وَالْبَقَرُ ، وَالْغَنَمُ الْإِنْسِيَّةُ ، وَالزَّرْعُ ، وَالنَّخْلُ ، وَالْكَرْمُ ، وَلِذَلِكَ وَجَبَتْ لِثَمَانِيَةِ أَصْنَافٍ مِنْ طَبَقَاتِ النَّاسِ .
.
كِتَابُ الزَّكَاةِ بَابُ زَكَاةِ الْحَيَوَانِ إنَّمَا تَجِبُ مِنْهُ فِي النَّعَمِ : وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ لَا الْخَيْلُ وَالرَّقِيقُ ، وَالْمُتَوَلَّدُ مِنْ غَنَمٍ وَظِبَاءٍ .
وَلَمَّا كَانَتْ الْأَنْعَامُ أَكْثَرَ أَمْوَالِ الْعَرَبِ بَدَأَ بِهَا اقْتِدَاءً بِكِتَابِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْآتِي : فَقَالَ : ( بَابُ زَكَاةِ الْحَيَوَانِ ) وَبَدَأَ مِنْهَا بِالْإِبِلِ لِلْبَدَاءَةِ بِهَا فِي خَبَرِ أَنَسٍ الْآتِي ، وَلِزَكَاةِ الْحَيَوَانِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ : الْأَوَّلُ : كَمَا قَالَ ( إنَّمَا تَجِبُ ) الزَّكَاةُ ( مِنْهُ ) أَيْ مِنْ الْحَيَوَانِ ( فِي النَّعَمِ ) بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ( وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ ) الْإِنْسِيَّةُ ، سُمِّيَتْ نَعَمًا لِكَثْرَةِ نِعَمِ اللَّهِ فِيهَا عَلَى خَلْقِهِ ؛ لِأَنَّهَا تُتَّخَذُ لِلنَّمَاءِ غَالِبًا لِكَثْرَةِ مَنَافِعِهَا ، وَالنَّعَمُ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ .
قَالَ تَعَالَى : { نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا } وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ { مِمَّا فِي بُطُونِهِ } وَجَمْعُهُ أَنْعَامٌ ، وَأَنْعَامٌ أَنَاعِمُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ حَذَفَ الْمُصَنِّفُ لَفْظَةَ النَّعَمِ كَانَ أَخَصْرَ وَأَسْلَمَ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ أَفَادَ بِذِكْرِهَا تَسْمِيَةَ الثَّلَاثِ نَعَمًا ( لَا الْخَيْلُ ) وَهُوَ مُؤَنَّثٌ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَفِي بَابِ الْأَطْعِمَةِ مِنْ التَّحْرِيرِ أَنَّ وَاحِدَهُ خَائِلٌ كَرَكْبٍ وَرَاكِبٍ .
قَالَ الْوَاحِدِيُّ : سُمِّيَتْ خَيْلًا لِاخْتِيَالِهَا فِي مَشْيِهَا ( وَلَا الرَّقِيقُ ) يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَغَيْرِهِ ، وَعَلَى الْوَاحِدِ وَالْأَكْثَرِ لِحَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ { لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ } أَيْ إذَا لَمْ يَكُونَا لِلتِّجَارَةِ كَمَا سَيَأْتِي ، وَأَوْجَبَهَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي إنَاثِ الْخَيْلِ ( وَ ) لَا ( الْمُتَوَلَّدُ مِنْ غَنَمٍ وَظِبَاءٍ ) بِالْمَدِّ جَمْعُ ظَبْيٍ وَهُوَ الْغَزَالُ ، وَكَذَا كُلُّ مُتَوَلَّدٍ بَيْنَ زَكَوِيٍّ وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمُتَوَلَّدِ مُطْلَقًا ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : إنْ الْإِنَاثُ غَنَمًا ، أَمَّا الْمُتَوَلَّدُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ النَّعَمِ وَمِنْ آخَرَ مِنْهَا كَالْمُتَوَلَّدِ بَيْنَ إبِلٍ
وَبَقَرٍ ، فَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ أَنَّهَا تَجِبُ فِيهِ ، وَقَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْمُهِمَّاتِ : يَنْبَغِي الْقَطْعُ بِهِ .
قَالَ : وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُزَكِّي زَكَاةَ أَخَفِّهِمَا ، فَالْمُتَوَلَّدُ بَيْنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ يُزَكِّي زَكَاةَ الْبَقَرِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ .
.
وَلَا شَيْءَ فِي الْإِبِلِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا فَفِيهَا شَاةٌ ، وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ ثَلَاثٌ ، وَعِشْرِينَ أَرْبَعٌ ، وَخَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ ، وَسِتٍّ وَثَلَاثِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَسِتٍّ وَأَرْبَعِينَ حِقَّةٌ ، وَإِحْدَى وَسِتِّينَ جَذَعَةٌ ، وَسِتٍّ وَسَبْعِينَ بِنْتَا لَبُونٍ ، وَإِحْدَى وَتِسْعِينَ حِقَّتَانِ ، وَمِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ ، ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَكُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ ، وَبِنْتُ الْمَخَاضِ لَهَا سَنَةٌ ، وَاللَّبُونِ سَنَتَانِ ، وَالْحِقَّةُ ثَلَاثٌ ، وَالْجَذَعَةُ أَرْبَعٌ ، وَالشَّاةُ جَذَعَةُ ضَأْنٍ لَهَا سَنَةٌ ، وَقِيلَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، أَوْ ثَنِيَّةُ مَعْزٍ لَهَا سَنَتَانِ ، وَقِيلَ سَنَةٌ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا ، وَلَا يَتَعَيَّنُ غَالِبُ غَنَمِ الْبَلَدِ ، وَأَنَّهُ يُجْزِئُ الذَّكَرُ ، وَكَذَا بَعِيرُ الزَّكَاةِ عَنْ دُونِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَإِنْ عَدِمَ بِنْتَ الْمَخَاضِ فَابْنُ لَبُونٍ ، وَالْمَعِيبَةُ كَمَعْدُومَةٍ ، وَلَا يُكَلَّفُ كَرِيمَةٌ لَكِنْ تُمْنَعُ ابْنُ لَبُونٍ فِي الْأَصَحِّ وَيُؤْخَذُ الْحِقُّ عَنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ لَا لَبُونٍ فِي الْأَصَحِّ .
الشَّرْطُ الثَّانِي ؛ النِّصَابُ كَمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ : ( وَلَا شَيْءَ فِي الْإِبِلِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا ) وَالْإِبِلُ بِكَسْرِ الْبَاءِ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ ، وَتُسَكَّنُ بَاؤُهُ لِلتَّخْفِيفِ ، وَيُجْمَعُ عَلَى آبَالٍ كَجَمَلٍ وَأَجْمَالٍ ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا ( فَفِيهَا شَاةٌ ) لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنْ الْإِبِلِ صَدَقَةٌ } وَإِنَّمَا وَجَبَتْ الشَّاةُ وَإِنْ كَانَ وُجُوبُهَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِلرِّفْقِ بِالْفَرِيقَيْنِ ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْبَعِيرِ يَضُرُّ بِالْمَالِكِ ، وَإِيجَابُ جُزْءٍ مِنْ بَعِيرٍ وَهُوَ الْخُمْسُ مُضِرٌّ بِهِ وَبِالْفُقَرَاءِ ( وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ ، وَ ) فِي ( خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلَاثٌ ) مِنْ الشِّيَاهِ ( وَ ) فِي ( عِشْرِينَ أَرْبَعٌ ) مِنْهَا ( وَ ) فِي ( خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ ، وَ ) فِي ( سِتٍّ وَثَلَاثِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَ ) فِي ( سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ حِقَّةٌ ، وَ ) فِي ( إحْدَى وَسِتِّينَ جَذَعَةٌ ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ ( وَ ) فِي ( سِتٍّ وَسَبْعِينَ بِنْتَا لَبُونٍ ، وَ ) فِي ( إحْدَى وَتِسْعِينَ حِقَّتَانِ ، وَ ) فِي ( مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ ، ثُمَّ ) يَسْتَمِرُّ ذَلِكَ إلَى مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ فَيَتَغَيَّرُ الْوَاجِبُ فِيهَا ، وَفِي كُلِّ عَشْرٍ بَعْدَهَا ، فَ ( فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَ ) فِي ( كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ ) لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وُجِّهَ إلَى الْبَحْرَيْنِ عَلَى الزَّكَاةِ : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَاَلَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ ، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا ، وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِهِ : فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى
، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ إلَى تِسْعِينَ فِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ ، فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَتِسْعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ } ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ يَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا فِي مَحَالِّهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، إذْ الصَّحِيحُ جَوَازُ تَفْرِيقِ الْحَدِيثِ إذَا لَمْ يَخْتَلَّ الْمَعْنَى ، قَوْلُهُ : فُرِضَ : أَيْ قُدِّرَ ، وَقَوْلُهُ : لَا يُعْطِهِ : أَيْ الزَّائِدَ بَلْ يُعْطِي الْوَاجِبَ فَقَطْ ، وَتَقْيِيدُ بِنْتِ الْمَخَاضِ وَاللَّبُونِ بِالْأُنْثَى ، وَابْنُ اللَّبُونِ بِالذَّكَرِ تَأْكِيدٌ كَمَا يُقَالُ : رَأَيْتُ بِعَيْنِي وَسَمِعْتُ بِأُذُنِي ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْ بَعْضَ الْوَاحِدَةِ كَالْوَاحِدَةِ لِبِنَاءِ الزَّكَاةِ عَلَى تَغَيُّرِ وَاجِبِهَا بِالْأَشْخَاصِ دُونَ الْأَشْقَاصِ ، وَفِي أَبِي دَاوُد التَّصْرِيحُ بِالْوَاحِدَةِ ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ فَهِيَ مُقَيَّدَةٌ لِخَبَرِ أَنَسٍ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ : ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ إلَخْ قَدْ يَقْتَضِي لَوْلَا مَا قَدَّرْتُهُ أَنَّ اسْتِقَامَةَ الْحِسَابِ بِذَلِكَ إنَّمَا تَكُونُ فِيمَا بَعْدُ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ يَتَغَيَّرُ الْوَاجِبُ بِزِيَادَةِ تِسْعٍ ، ثُمَّ بِزِيَادَةِ عَشْرٍ عَشْرٍ كَمَا قَرَّرْتُ بِهِ كَلَامَهُ ، وَلَوْ أَخْرَجَ بِنْتَيْ لَبُونٍ بَدَلًا عَنْ الْحِقَّةِ فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَأَخْرَجَ حِقَّتَيْنِ أَوْ بِنْتَيْ لَبُونٍ بَدَلًا عَنْ الْجَذَعَةِ فِي إحْدَى وَسِتِّينَ جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَخْرُجَانِ عَمَّا زَادَ ( وَبِنْتُ الْمَخَاضِ لَهَا سَنَةٌ ) وَبَلَغَتْ فِي
الثَّانِيَةِ ، سُمِّيَتْ بِهِ ؛ لِأَنَّ أُمَّهَا بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ وِلَادَتِهَا آنَ لَهَا أَنْ تَحْمِلَ مَرَّةً أُخْرَى فَتَصِيرَ مِنْ الْمَخَاضِ : أَيْ الْحَوَامِلِ ( وَ ) بِنْتُ ( اللَّبُونِ سَنَتَانِ ) وَطَعَنَتْ فِي الثَّالِثَةِ ، سُمِّيَتْ بِهِ ؛ لِأَنَّ أُمَّهَا آنَ لَهَا أَنْ تَلِدَ فَتَصِيرَ لَبُونًا ( وَالْحِقَّةُ ) لَهَا ( ثَلَاثٌ ) وَطَعَنَتْ فِي الرَّابِعَةِ سُمِّيَتْ بِهِ ؛ لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْ أَنْ تُرْكَبَ وَيُحْمَلَ عَلَيْهَا ؛ وَلِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْ أَنْ يَطْرُقَهَا الْفَحْلُ ، وَاسْتَحَقَّ الْفَحْلُ أَنْ يَطْرُقَ ( وَالْجَذَعَةُ ) لَهَا ( أَرْبَعٌ ) وَطَعَنَتْ فِي الْخَامِسَةِ ، سُمِّيَتْ بِهِ ؛ لِأَنَّهَا أَجْذَعَتْ مُقَدَّمَ أَسْنَانِهَا : أَيْ أَسْقَطَتْهُ ، وَقِيلَ : لِتَكَامُلِ أَسْنَانِهَا ، وَقِيلَ : لِأَنَّ أَسْنَانَهَا لَا تَسْقُطُ بَعْدَ ذَلِكَ ، قِيلَ وَهُوَ غَرِيبٌ ، وَهَذَا آخِرُ أَسْنَانِ الزَّكَاةِ ، وَتُعْتَبَرُ فِي الْجَمِيعِ الْأُنُوثَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ رِفْقِ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ ( وَالشَّاةُ ) الْوَاجِبَةُ فِيمَا دُونِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ ( جَذَعَةُ ضَأْنٍ لَهَا سَنَةٌ ) أَوْ أَجْذَعَتْ وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ لَهَا سَنَةٌ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الْأُضْحِيَّةِ ، وَنَزَّلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْبُلُوغِ بِالسِّنِّ وَالِاحْتِلَامِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ ( وَقِيلَ ) لَهَا ( سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، أَوْ ثَنِيَّةُ مَعْزٍ لَهَا سَنَتَانِ ، وَقِيلَ سَنَةٌ ) وَوَجْهُ عَدَمِ إجْزَاءِ مَا دُونَ هَذَيْنِ السِّنَّيْنِ الْإِجْمَاعُ ( وَالْأَصَحُّ ) وَفِي الرَّوْضَةِ الصَّحِيحُ ( أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا ) أَيْ الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ ( وَلَا يَتَعَيَّنُ غَالِبُ غَنَمِ الْبَلَدِ ) لِخَبَرِ { فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ } وَالشَّاةُ تُطْلَقُ عَلَى الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ إلَى غَنَمِ بَلَدٍ آخَرَ إلَّا بِمِثْلِهَا فِي الْقِيمَةِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهَا ، وَالثَّانِي : يَتَعَيَّنُ غَالِبُ غَنَمِ الْبَلَدِ كَمَا يَتَعَيَّنُ غَالِبُ قُوتِ الْبَلَدِ فِي الْكَفَّارَةِ ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُخْرَجِ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَتْ الْإِبِلُ مِرَاضًا .
وَظَاهِرُ
كَلَامِ الْمَجْمُوعِ كَوْنُهُ كَامِلًا وَجَزَمَ بِهِ غَيْرُهُ ، وَقِيلَ : يَكْفِي كَوْنُهُ لَائِقًا بِحَسَبِ التَّقْسِيطِ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ صَحِيحٌ فَرَّقَ دَرَاهِمَ بِقَدْرِ قِيمَتِهَا ( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّهُ يُجْزِئُ الذَّكَرُ ) أَيْ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ أَوْ الثَّنِيِّ مِنْ الْمَعْزِ كَالْأُضْحِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ الْإِبِلُ إنَاثًا لِصِدْقِ اسْمِ الشَّاةِ عَلَيْهِ ، وَالثَّانِي : لَا يُجْزِئُ مُطْلَقًا نَظَرًا إلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْأُنْثَى ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ ، وَالثَّالِثُ : يُجْزِئُ فِي الْإِبِلِ الذُّكُورُ دُونَ الْإِنَاثِ ( وَكَذَا ) الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُجْزِئُ ( بَعِيرُ الزَّكَاةِ عَنْ دُونِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ) أَيْ عِوَضًا عَنْ الشَّاةِ الْوَاحِدَةِ أَوْ الشِّيَاهِ الْمُتَعَدِّدَةِ وَإِنْ لَمْ يُسَاوِ قِيمَةَ الشَّاةِ ؛ لِأَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَعَمَّا دُونَهَا أَوْلَى ، وَالثَّانِي : لَا يُجْزِئُ بَلْ لَا بُدَّ فِي كُلِّ خَمْسٍ مِنْ حَيَوَانٍ ، وَالثَّالِثُ : لَا يُجْزِئُ النَّاقِصُ عَنْ قِيمَةِ شَاةٍ فِي خَمْسٍ وَشَاتَيْنِ فِي عَشْرٍ وَهَكَذَا .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : بَعِيرُ الزَّكَاةِ مِنْ زِيَادَتِهِ ، وَأَفَادَتْ إضَافَتُهُ إلَى الزَّكَاةِ اعْتِبَارَ كَوْنِهِ أُنْثَى بِنْتَ مَخَاضٍ فَمَا فَوْقَهَا كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ وَكَوْنُهُ مُجْزِئًا عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ، فَإِنْ لَمْ يُجْزِ عَنْهَا لَمْ يُقْبَلْ بَدَلُ الشَّاةِ ، وَهَلْ يَقَعُ الْبَعِيرُ الْمُخْرَجُ عَنْ خَمْسٍ كُلُّهُ فَرْضًا أَوْ خُمْسُهُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ، وَيَجْرِيَانِ فِيمَا إذَا ذَبَحَ الْمُتَمَتِّعُ بَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً بَدَلَ الشَّاةِ هَلْ تَقَعُ كُلُّهَا فَرْضًا أَوْ سُبْعُهَا ، وَفِيمَنْ مَسَحَ جَمِيعَ رَأْسِهِ فِي الْوُضُوءِ ، وَفِيمَنْ أَطَالَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ زِيَادَةٌ عَلَى الْقَدْرِ الْوَاجِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَصَحَّحَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّمْيِيزُ كَبَعِيرِ الزَّكَاةِ أَنَّ الْكُلَّ يَقَعُ فَرْضًا ، وَمَا أَمْكَنَ كَمَسْحِ الرَّأْسِ يَقَعُ الْبَعْضُ فَرْضًا وَالْبَاقِي نَفْلًا وَاعْتَمَدَهُ شَيْخِي وَهُوَ ظَاهِرٌ وَالْبَعِيرُ يُجْمَعُ عَلَى أَبْعِرَةٍ وَأَبَاعِرَ
وَبُعْرَانٍ ( فَإِنْ عَدِمَ بِنْتَ الْمَخَاضِ ) بِأَنْ لَمْ تَكُنْ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ الْوُجُوبِ ( فَابْنُ لَبُونٍ ) وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ قِيمَةً مِنْهَا ، أَوْ كَانَ خُنْثَى ، أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى شِرَاءِ بِنْتِ مَخَاضٍ ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد ، { فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ } .
وَقَوْلُهُ : ذَكَرٌ أَرَادَ بِهِ التَّأْكِيدَ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ الْغَلَطِ ، وَالْخُنْثَى أَوْلَى ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ الْخُنْثَى مَعَ وُجُودِ الْأُنْثَى لَمْ يُجْزِهِ لِاحْتِمَالِ ذُكُورَتِهِ ( وَ ) بِنْتُ الْمَخَاضِ ( الْمَعِيبَةُ ) وَالْمَغْصُوبَةُ الْعَاجِزُ عَنْ تَحْصِيلِهَا ، وَالْمَرْهُونَةُ بِمُؤَجَّلٍ أَوْ بِحَالٍ وَعَجَزَ عَنْ تَحْصِيلِهَا ( كَمَعْدُومَةٍ ) فَيُؤْخَذُ عَنْهَا مَا ذُكِرَ مَعَ وُجُودِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَعِيبَ غَيْرُ مُجْزِئٍ ، وَمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى تَحْصِيلِهِ ( وَلَا يُكَلَّفُ ) أَنْ يُخْرِجَ بِنْتَ مَخَاضٍ ( كَرِيمَةً ) إذَا كَانَتْ إبِلُهُ مَهَازِيلَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ : { إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ } رَوَاهُ الشَّيْخَانِ .
أَمَّا إذَا كَانَتْ إبِلُهُ كُلُّهَا كَرَائِمُ فَيَلْزَمُهُ إخْرَاجُ كَرِيمَةٍ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ إذْ لَا تَكْلِيفَ ( لَكِنْ تَمْنَعُ ) الْكَرِيمَةُ عِنْدَهُ ( ابْنَ لَبُونٍ فِي الْأَصَحِّ ) لِوُجُودِ بِنْتِ مَخَاضٍ مُجْزِئَةٍ فِي مَالِهِ .
وَالثَّانِي وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ يَجُوزُ إخْرَاجُهُ ؛ لِأَنَّ إخْرَاجَ الْكَرِيمَةِ لَا يَجِبُ فَهِيَ كَالْمَعْدُومَةِ ( وَيُؤْخَذُ الْحِقُّ ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ( عَنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ ) عِنْدَ فَقْدِهَا ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى مِنْ ابْنِ اللَّبُونِ ، وَقِيلَ لَا يُجْزِئُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الزَّكَوَاتِ ( لَا ) عَنْ بِنْتِ ( لَبُونٍ ) عِنْدَ فَقْدِهَا : أَيْ فَلَا يُجْزِئُ عَنْهَا ( فِي الْأَصَحِّ ) وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ كَمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ سِنِّ ابْنِ اللَّبُونِ عَلَى بِنْتِ الْمَخَاضِ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ بِقُوَّةِ وُرُودِ الْمَاءِ وَالشَّجَرِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ ، وَالتَّفَاوُتُ
بَيْنَ بِنْتِ اللَّبُونِ وَالْحِقِّ لَا يُوجِبُ اخْتِصَاصَ الْحِقِّ بِهَذِهِ الْقُوَّةِ ، بَلْ هِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهِمَا جَمِيعًا ، وَالثَّانِي يُجْزِئُ لِانْجِبَارِ فَضِيلَةِ الْأُنُوثَةِ بِزِيَادَةِ السِّنِّ كَابْنِ اللَّبُونِ عَنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِمَا تَقَدَّمَ وَلِوُرُودِ النَّصِّ ثَمَّ ، وَلَوْ عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِالصَّحِيحِ كَانَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ ضَعِيفٌ جِدًّا .
وَلَوْ اتَّفَقَ فَرْضَانِ كَمِائَتَيْ بَعِيرٍ فَالْمَذْهَبُ لَا يَتَعَيَّنُ أَرْبَعُ حِقَاقٍ ، بَلْ هُنَّ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ فَإِنْ وُجِدَ بِمَالِهِ أَحَدَهُمَا أُخِذَ ، وَإِلَّا فَلَهُ تَحْصِيلُ مَا شَاءَ ، وَقِيلَ يَجِبُ الْأَغْبَطُ لِلْفُقَرَاءِ ، وَإِنْ وَجَدَهُمَا فَالصَّحِيحُ تَعَيُّنُ الْأَغْبَطِ ، وَلَا يُجْزِئُ غَيْرُهُ إنْ دَلَّسَ أَوْ قَصَّرَ السَّاعِي ، وَإِلَّا فَيُجْزِئُ وَالْأَصَحُّ وُجُوبُ قَدْرِ التَّفَاوُتِ ، وَيَجُوزُ إخْرَاجُهُ دَرَاهِمَ ، وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ تَحْصِيلُ شِقْصٍ بِهِ .
( وَلَوْ اتَّفَقَ ) ( فَرْضَانِ ) فِي الْإِبِلِ ( كَمِائَتَيْ بَعِيرٍ ) فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ كَمَا قَالَ ( فَالْمَذْهَبُ لَا يَتَعَيَّنُ أَرْبَعُ حِقَاقٍ ، بَلْ هُنَّ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ ) ؛ لِأَنَّ الْمِائَتَيْنِ أَرْبَعُ خَمْسِينَاتٍ أَوْ خَمْسُ أَرْبَعِينَاتِ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ } أَيُّ السِّنِينَ وُجِدَتْ أُخِذَتْ ، هَذَا هُوَ الْجَدِيدُ ، وَفِي قَوْلٍ تَتَعَيَّنُ الْحِقَاقُ ، إذْ النَّظَرُ فِي زِيَادَةِ الْإِبِلِ إلَى زِيَادَةِ السِّنِّ مَهْمَا أَمْكَنَ ، وَقَطَعَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ بِالْجَدِيدِ ، وَحُمِلَ الْقَدِيمُ عَلَى مَا إذَا لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ إلَّا الْحِقَاقُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَمْسَةَ أَحْوَالٍ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُوجَدَ عِنْدَهُ كُلُّ الْوَاجِبِ بِكُلِّ الْحِسَابَيْنِ ، أَوْ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، أَوْ يُوجَدَ بَعْضُهُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا ، لَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنْهُمَا ، وَكُلُّهَا تُعْلَمُ مِنْ كَلَامِهِ ، وَقَدْ شَرَعَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ فَقَالَ ( فَإِنْ وَجَدَ ) عَلَى الْمَذْهَبِ الْجَدِيدِ ( بِمَالِهِ أَحَدَهُمَا ) تَامًّا مُجْزِئًا ( أُخِذَ ) مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمَفْقُودُ أَغْبَطَ وَأَمْكَنَ تَحْصِيلُهُ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ ، أَوْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ الْآخَرِ إذْ النَّاقِصُ وَالْمَعِيبُ كَالْمَعْدُومِ ، وَلَا يَجُوزُ الصُّعُودُ وَلَا النُّزُولُ مَعَ الْجُبْرَانِ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إلَيْهِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : أُخِذَ قَدْ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ حَصَّلَ الْمَفْقُودَ وَدَفَعَهُ لَا يُؤْخَذُ ، وَعِبَارَةُ الرَّوْضَةِ وَالْمُحَرَّرِ : لَا يُكَلَّفُ تَحْصِيلُ الْآخَرِ وَإِنْ أَغْبَطَ ، وَهِيَ تَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْآخَرُ وَدَفَعَهُ أَجْزَأَهُ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ أَغْبَطَ ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَقَاسَاهُ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِابْنِ لَبُونٍ لِفَقْدِ بِنْتِ مَخَاضٍ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَإِنْ صَرَّحَ جَمَاعَةٌ
بِخِلَافِهِ ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ يَتَعَيَّنُ فِيهِ ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ بِمَالِهِ أَحَدُهُمَا بِصِفَةِ الْإِجْزَاءِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْهُمَا ، أَوْ وُجِدَ بَعْضُ كُلٍّ مِنْهُمَا ، أَوْ بَعْضُ أَحَدِهِمَا ، أَوْ وُجِدَا أَوْ أَحَدُهُمَا لَا بِصِفَةِ الْإِجْزَاءِ ( فَلَهُ تَحْصِيلُ مَا شَاءَ ) مِنْ النَّوْعَيْنِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا مُتِمًّا بِشِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَوْ غَيْرَ أَغْبَطَ لِمَا فِي تَعْيِينِ الْأَغْبَطِ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي تَحْصِيلِهِ ( وَقِيلَ يَجِبُ ) تَحْصِيلُ ( الْأَغْبَطِ لِلْفُقَرَاءِ ) ؛ لِأَنَّ اسْتِوَاءَهُمَا فِي الْعَدَمِ كَاسْتِوَائِهِمَا فِي الْوُجُودِ ، وَعِنْدَ وُجُودِهِمَا يَجِبُ إخْرَاجُ الْأَغْبَطِ كَمَا سَيَأْتِي .
تَنْبِيهٌ : أَشَارَ بِقَوْلِهِ فَلَهُ إلَى جَوَازِ تَرْكِهِمَا مَعًا وَيَنْزِلُ أَوْ يَصْعَدُ مَعَ الْجُبْرَانِ ، فَإِنْ شَاءَ جَعَلَ الْحِقَاقَ أَصْلًا وَصَعَدَ إلَى أَرْبَعِ جِذَاعٍ فَأَخْرَجَهَا وَأَخَذَ أَرْبَعَ جُبْرَانَاتٍ ، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَ بَنَاتَ اللَّبُونِ أَصْلًا وَنَزَلَ إلَى خَمْسِ بَنَاتِ مَخَاضٍ فَأَخْرَجَهَا وَدَفَعَ مَعَهَا خَمْسَ جُبْرَانَاتٍ ، وَلَيْسَ لَهُ جَعْلُ بَنَاتِ اللَّبُونِ أَصْلًا وَيَصْعَدُ إلَى خَمْسِ جِذَاعٍ وَيَأْخُذُ عَشْرَ جُبْرَانَاتٍ ، وَلَا جَعْلُ الْحِقَاقِ أَصْلًا وَيَنْزِلُ إلَى أَرْبَعِ بَنَاتِ مَخَاضٍ وَيَدْفَعُ ثَمَانِ جُبْرَانَاتٍ لِكَثْرَةِ الْجُبْرَانِ مَعَ إمْكَانِ تَقْلِيلِهِ ، وَلَهُ فِيمَا إذَا وَجَدَ بَعْضَ كُلٍّ مِنْهُمَا كَثَلَاثِ حِقَاقٍ وَأَرْبَعِ بَنَاتِ لَبُونٍ أَنْ يَجْعَلَ الْحِقَاقَ أَصْلًا فَيَدْفَعَهَا مَعَ بِنْتِ لَبُونٍ وَجُبْرَانٍ ، أَوْ يَجْعَلَ بَنَاتَ اللَّبُونِ أَصْلًا فَيَدْفَعَهَا مَعَ حِقَّةٍ وَيَأْخُذَ جُبْرَانًا ، وَلَهُ دَفْعُ حِقَّةٍ مَعَ ثَلَاثِ بَنَاتِ لَبُونٍ ، وَثَلَاثُ جُبْرَانَاتٍ لِإِقَامَةِ الشَّرْعِ بِنْتُ اللَّبُونِ مَعَ الْجُبْرَانِ مَقَامَ حِقَّةٍ ، وَلَهُ فِيمَا إذَا وَجَدَ بَعْضَ أَحَدِهِمَا كَحِقَّةٍ دَفَعَهَا مَعَ ثَلَاثِ جِذَاعٍ وَأَخَذَ ثَلَاثَ جُبْرَانَاتٍ .
وَلَهُ دَفْعُ خَمْسِ بَنَاتِ مَخَاضٍ مَعَ دَفْعِ خَمْسِ جُبْرَانَاتٍ ( وَإِنْ وَجَدَهُمَا ) فِي مَالِهِ بِصِفَةِ الْإِجْزَاءِ (
فَالصَّحِيحُ ) الْمَنْصُوصُ ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ ( تَعَيُّنُ الْأَغْبَطِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فَرَضَهُ لَوْ انْفَرَدَ ، وَمَبْنَى الزَّكَاةِ عَلَى النَّظَرِ لِلْمُسْتَحِقِّينَ ، وَالْمُرَادُ بِالْأَغْبَطِ الْأَنْفَعُ لِلْمُسْتَحِقِّينَ بِزِيَادَةِ قِيمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا ، وَظَاهِرُ إطْلَاقِهِ كَأَصْلِهِ وَغَيْرِهِ تَعَيُّنُ الْأَغْبَطِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْكِرَامِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : الْقِيَاسُ جَعْلُهَا كَالْمَعْدُومَةِ حَتَّى يُخْرِجَ مِنْ غَيْرِ الْأَغْبَطِ .
وَالثَّانِي خَرَّجَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ : إنْ كَانَ يُخْرِجُ عَنْ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ فَيُعْتَبَرُ غَيْرُ الْأَغْبَطِ ، وَإِنْ أَخْرَجَ عَنْ نَفْسِهِ تَخَيَّرَ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ لَمْ يَكُونَا عِنْدَهُ ( وَلَا يُجْزِئُ ) عَلَى الْأَوَّلِ ( غَيْرُهُ ) أَيْ الْأَغْبَطِ ( إنْ دَلَّسَ ) الدَّافِعُ فِي إعْطَائِهِ بِأَنْ أَخْفَى الْأَغْبَطَ ( أَوْ قَصَّرَ السَّاعِي ) فِي أَخْذِهِ بِأَنْ عَلِمَ الْحَالَ أَوْ أَخَذَ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ وَنَظَرٍ أَنَّ الْأَغْبَطَ مَاذَا ؟ فَيَلْزَمُ الدَّافِعَ إخْرَاجُ الْأَغْبَطِ ، وَعَلَى السَّاعِي رَدُّ مَا أَخَذَهُ إنْ كَانَ بَاقِيًا وَقِيمَتِهِ إنْ كَانَ تَالِفًا ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُدَلِّسْ الدَّافِعُ وَلَمْ يُقَصِّرْ السَّاعِي ( فَيُجْزِئُ ) عَنْ الزَّكَاةِ : أَيْ فَيُحْسَبُ عَنْهَا لِلْمَشَقَّةِ الْحَاصِلَةِ فِي الرَّدِّ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَكْفِي كَمَا قَالَ ( وَالْأَصَحُّ ) مَعَ إجْزَائِهِ ( وُجُوبُ قَدْرِ التَّفَاوُتِ ) بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِيمَةِ الْأَغْبَطِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ الْفَرْضَ بِكَمَالِهِ فَوَجَبَ جَبْرُ نَقْصِهِ ، هَذَا إنْ اقْتَضَتْ الْغِبْطَةُ زِيَادَةً فِي الْقِيمَةِ وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ مَعَهُ شَيْءٌ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ ، وَالثَّانِي : لَا يَجِبُ بَلْ يُسَنُّ ؛ لِأَنَّ الْمُخْرَجَ مَحْسُوبٌ مِنْ الزَّكَاةِ فَلَا يَجِبُ مَعَهُ شَيْءٌ آخَرُ ، كَمَا إذَا أَدَّى اجْتِهَادُ السَّاعِي إلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ بِأَنْ كَانَ حَنِيفًا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ ( وَيَجُوزُ إخْرَاجُهُ دَرَاهِمَ ) مِنْ نَقْدِ
الْبَلَدِ أَوْ دَنَانِيرَ مِنْهُ ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْحِقَاقِ أَرْبَعَمِائَةٍ وَقِيمَةُ بَنَاتِ اللَّبُونِ أَرْبَعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ وَأَخَذَ الْحِقَاقَ ، فَالتَّفَاوُتُ خَمْسُونَ ، فَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ الْخَمْسِينَ أَوْ خَمْسَةَ أَتْسَاعِ بِنْتِ لَبُونٍ ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ خَمْسُونَ ؛ وَقِيمَةَ كُلِّ بِنْتِ لَبُونٍ تِسْعُونَ ، وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ دَفْعُ النَّقْدِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْوَاجِبِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ شِرَاءِ جُزْئِهِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْمُشَارَكَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْدِلُ إلَى غَيْرِ الْجِنْسِ لِلضَّرُورَةِ ( وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ تَحْصِيلُ شِقْصٍ بِهِ ) أَيْ بِقَدْرِ التَّفَاوُتِ ؛ لِأَنَّ الْعُدُولَ فِي الزَّكَاةِ إلَى غَيْرِ جِنْسِ الْوَاجِبِ مُمْتَنِعٌ عِنْدَنَا ، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مِنْ جِنْسِ الْأَغْبَطِ ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ ، وَقِيلَ : مِنْ جِنْسِ الْمُخْرَجِ لِئَلَّا يَتَبَعَّضَ الْوَاجِبُ عَلَى الْمَذْهَبِ .
فَرْعٌ : لَوْ بَلَغَتْ إبِلُهُ أَرْبَعَمِائَةٍ فَأَخْرَجَ أَرْبَعَ حِقَاقٍ وَخَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمَحْذُورَ فِي الْمِائَتَيْنِ إنَّمَا هُوَ التَّشْقِيصُ ، فَلَوْ أَخْرَجَ فِي صُورَةِ الْمِائَتَيْنِ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ وَحِقَّتَيْنِ ، أَوْ أَرْبَعَ بَنَاتِ لَبُونٍ وَحِقَّةً أَجْزَأَ .
وَمَنْ لَزِمَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ فَعَدِمَهَا وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ دَفَعَهَا وَأَخَذَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، أَوْ بِنْتُ لَبُونٍ فَعَدِمَهَا دَفَعَ بِنْتَ مَخَاضٍ مَعَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، أَوْ حِقَّةً وَأَخَذَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَالْخِيَارُ فِي الشَّاتَيْنِ وَالدَّرَاهِمِ لِدَافِعِهَا وَفِي الصُّعُودِ وَالنُّزُولِ لِلْمَالِكِ فِي الْأَصَحِّ إلَّا أَنْ تَكُونَ إبِلُهُ مَعِيبَةً ، وَلَهُ صُعُودُ دَرَجَتَيْنِ ، وَأَخْذُ جُبْرَانَيْنِ ، وَنُزُولُ دَرَجَتَيْنِ مَعَ جُبْرَانَيْنِ بِشَرْطِ تَعَذُّرِ دَرَجَةٍ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ جُبْرَانٍ مَعَ ثَنِيَّةٍ بَدَلَ جَذَعَةٍ عَلَى أَحْسَنِ الْوَجْهَيْنِ قُلْتُ : الْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْجَوَازُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَلَا تُجْزِئُ شَاةٌ وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، وَتُجْزِئُ شَاتَانِ وَعِشْرُونَ لِجُبْرَانَيْنِ .
( وَمَنْ لَزِمَهُ ) سِنٌّ مِنْ الْإِبِلِ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَلَهُ الصُّعُودُ إلَى الْأَعْلَى بِدَرَجَةٍ وَيَأْخُذُ جُبْرَانًا ، وَلَهُ الْهُبُوطُ وَيُعْطِيهِ ، وَالْجُبْرَانُ الْوَاحِدُ كَمَا سَيَأْتِي شَاتَانِ بِالصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا نَقْرَةً خَالِصَةً ، وَهِيَ الدَّرَاهِمُ الشَّرْعِيَّةُ حَيْثُ وَرَدَتْ كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخَانِ وَأَقَرَّاهُ ، وَعَلَى هَذَا فَمَنْ لَزِمَهُ ( بِنْتُ مَخَاضٍ فَعَدِمَهَا ) فِي مَالِهِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا ( وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ دَفَعَهَا وَأَخَذَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ ) لَزِمَهُ ( بِنْتُ لَبُونٍ فَعَدِمَهَا ) فِي مَالِهِ ( دَفَعَ بِنْتَ مَخَاضٍ مَعَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، أَوْ ) دَفَعَ ( حِقَّةً وَأَخَذَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ) كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ فِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ سِنٌّ وَلَيْسَ عِنْدَهُ وَلَا مَا نَزَّلَهُ الشَّارِعُ مَنْزِلَتَهُ فَلَهُ الصُّعُودُ إلَى أَعْلَى مِنْهُ وَأَخْذُ الْجُبْرَانِ وَلَهُ النُّزُولُ إلَى أَسْفَلَ مِنْهُ وَدَفْعُ الْجُبْرَانِ بِشَرْطِ كَوْنِ السِّنِّ الْمَنْزُولِ إلَيْهِ سِنَّ زَكَاةٍ ، فَلَيْسَ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِنْتُ مَخَاضٍ أَنْ يَعْدِلَ إلَى دُونِهَا عِنْدَ فَقْدِهَا وَيُعْطِي الْجُبْرَانَ ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الصُّعُودِ ، فَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ جَذَعَةٌ فَقَدَهَا قُبِلَ مِنْهُ الثَّنِيَّةُ وَلَهُ الْجُبْرَانُ كَمَا سَيَأْتِي أَمَّا مَنْ وَجَدَ الْوَاجِبَ فِي مَالِهِ فَلَيْسَ لَهُ نُزُولٌ مُطْلَقًا وَلَا صُعُودٌ إلَّا أَنْ يَطْلُبَ جُبْرَانًا ؛ لِأَنَّهُ زَادَ خَيْرًا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي ، وَيَمْتَنِعُ الصُّعُودُ عَنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ إلَى بِنْتِ اللَّبُونِ مَعَ جُبْرَانٍ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ ؛ لِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَتَهَا كَمَا مَرَّ ، وَلَوْ كَانَ فِي مَالِهِ السِّنُّ الْوَاجِبُ لَكِنَّهُ مَعِيبٌ أَوْ كَرِيمٌ لَمْ يَمْنَعْ وُجُودُهُ الصُّعُودَ وَالنُّزُولَ ، وَإِنْ كَانَ وُجُودُ بِنْتِ مَخَاضٍ كَرِيمَةٍ يَمْنَعُ الْعُدُولُ إلَى ابْنِ اللَّبُونِ فِي الْأَصَحِّ ، وَفَرَّقَ
الرُّويَانِيُّ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الذَّكَرَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي فَرَائِضِ الْإِبِلِ فَكَانَ الِانْتِقَالُ إلَيْهِ أَغْلَظَ مِنْ الصُّعُودِ وَالنُّزُولِ ( وَالْخِيَارُ فِي الشَّاتَيْنِ وَالدَّرَاهِمِ لِدَافِعِهَا ) سَوَاءٌ أَكَانَ مَالِكًا أَمْ سَاعِيًا لِظَاهِرِ خَبَرِ أَنَسٍ السَّابِقِ ، وَلَكِنْ يَلْزَمُ السَّاعِيَ الْعَمَلُ بِالْأَصْلَحِ لِلْمُسْتَحِقِّينَ ، وَيُسَنُّ لِرَبِّ الْمَالِ إذَا كَانَ هُوَ الدَّافِعُ اخْتِيَارُ الْأَنْفَعِ لَهُمْ .
وَأَمَّا وَلِيُّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ أَوْ نَائِبُ الْغَائِبِ فَيُحْتَاطُ لَهُ ( وَفِي الصُّعُودِ وَالنُّزُولِ ) الْخِيرَةُ فِيهِمَا ( لِلْمَالِكِ فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّهُمَا شُرِّعَا تَخْفِيفًا عَلَيْهِ حَتَّى لَا يُكَلَّفَ الشِّرَاءَ فَنَاسَبَ تَخْيِيرَهُ .
وَالثَّانِي أَنَّ الِاخْتِيَارَ إلَى السَّاعِي ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعِرَاقِيِّينَ لِيَأْخُذَ مَا هُوَ الْأَحَظُّ لِلْمُسْتَحِقِّينَ ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا دَفَعَ الْمَالِكُ غَيْرَ الْأَغْبَطِ ، فَإِنْ دَفَعَ الْأَغْبَطَ لَزِمَ السَّاعِيَ أَخْذُهُ قَطْعًا .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ الْأَصْلَحِ عَلَى الْأَوَّلِ وَالْخِيرَةُ إلَى الْمَالِكِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ يُطْلَبُ مِنْهُ ذَلِكَ ، فَإِنْ أَجَابَهُ فَذَاكَ ، وَإِلَّا أُخِذَ مِنْهُ مَا يَدْفَعُهُ لَهُ ( إلَّا أَنْ تَكُونَ إبِلُهُ مَعِيبَةً ) لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا خِيرَةَ لَهُ فِي الصُّعُودِ ؛ لِأَنَّ وَاجِبَهُ مَعِيبٌ ، وَالْجُبْرَانُ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ السَّلِيمَيْنِ ، وَهُوَ فَوْقَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْمَعِيبِينَ ، وَمَقْصُودُ الزَّكَاةِ إفَادَةُ الْمُسْتَحِقِّينَ لَا الِاسْتِفَادَةُ مِنْهُمْ .
نَعَمْ إنْ رَأَى السَّاعِي مَصْلَحَةً فِي ذَلِكَ جَازَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ ، وَهُوَ مُتَّجَهٌ : وَلَوْ أَرَادَ الْعُدُولَ إلَى سَلِيمَةٍ مَعَ أَخْذِ الْجُبْرَانِ فَمُقْتَضَى التَّعْلِيلِ السَّابِقِ الْجَوَازُ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ ، وَإِنْ اقْتَضَى إطْلَاقُ الْمَتْنِ الْمَنْعَ إذْ لَا وَجْهَ لَهُ .
أَمَّا هُبُوطُهُ مَعَ إعْطَاءِ الْجُبْرَانِ فَجَائِزٌ لِتَبَرُّعِهِ بِالزِّيَادَةِ ( وَلَهُ صُعُودُ
دَرَجَتَيْنِ وَأَخْذُ جُبْرَانَيْنِ ) كَمَا لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِنْتُ لَبُونٍ فَصَعَدَ إلَى الْجَذَعَةِ عِنْدَ فَقْدِ بِنْتِ اللَّبُونِ وَالْحِقَّةِ ( وَ ) لَهُ ( نُزُولُ دَرَجَتَيْنِ مَعَ ) دَفْعِ ( جُبْرَانَيْنِ ) كَمَا إذَا أَعْطَى بَدَلَ الْحِقَّةِ بِنْتَ مَخَاضٍ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ ( بِشَرْطِ تَعَذُّرِ دَرَجَةٍ ) قُرْبَى فِي تِلْكَ الْجِهَةِ ( فِي الْأَصَحِّ ) فَلَا يَصْعَدُ عَنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ إلَى الْحِقَّةِ أَوْ يَنْزِلُ عَنْ الْحِقَّةِ إلَى بِنْتِ الْمَخَاضِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ بِنْتِ اللَّبُونِ لِإِمْكَانِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْجُبْرَانِ الزَّائِدِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَعَدَ أَوْ نَزَلَ مَعَ إمْكَانِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ .
وَالثَّانِي : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ الْأَقْرَبَ لَيْسَ وَاجِبَهُ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ ، نَعَمْ لَوْ صَعَدَ وَرَضِيَ بِجُبْرَانٍ وَاحِدٍ جَازَ قَطْعًا ، وَحُكْمُ الصُّعُودِ وَالنُّزُولِ بِثَلَاثِ دَرَجَاتٍ كَدَرَجَتَيْنِ عَلَى مَا سَبَقَ كَأَنْ يُعْطِيَ عَنْ جَذَعَةٍ فَقَدَهَا وَالْحِقَّةِ وَبِنْتِ اللَّبُونِ بِنْتَ مَخَاضٍ وَثَلَاثَ جُبْرَانَاتٍ ، أَوْ يُعْطِيَ بَدَلَ بِنْتِ مَخَاضٍ عِنْدَ فَقْدِ مَا بَيْنَهُمَا وَيَأْخُذَ ثَلَاثَ جُبْرَانَاتٍ .
أَمَّا لَوْ كَانَتْ الْقُرْبَى فِي غَيْرِ جِهَةِ الْمُخْرَجَةِ كَأَنْ لَزِمَهُ بِنْتُ لَبُونٍ فَلَمْ يَجِدْهَا وَلَا حِقَّةً وَوَجَدَ بِنْتَ مَخَاضٍ فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إخْرَاجُ بِنْتِ مَخَاضٍ مَعَ جُبْرَانٍ ، بَلْ يَجُوزُ لَهُ إخْرَاجُ جَذَعَةٍ مَعَ أَخْذِ جُبْرَانَيْنِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ ؛ لِأَنَّ بِنْتَ الْمَخَاضِ وَإِنْ كَانَتْ أَقْرَبَ إلَى بِنْتِ اللَّبُونِ لَيْسَتْ فِي جِهَةِ الْجَذَعَةِ ( وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ جُبْرَانٍ مَعَ ثَنِيَّةٍ ) وَهِيَ الَّتِي تَمَّ لَهَا خَمْسُ سِنِينَ وَطَعَنَتْ فِي السَّادِسَةِ يَدْفَعُهَا ( بَدَلَ جَذَعَةٍ ) عَلَيْهِ عِنْدَ فَقْدِهَا ( عَلَى أَحْسَنِ الْوَجْهَيْنِ ) ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَسْنَانِ الزَّكَاةِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخْرَجَ عَنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ فَصِيلًا ، وَهُوَ مَا لَهُ دُونَ السَّنَةِ مَعَ الْجُبْرَانِ ، وَقَالَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ : إنَّهُ الْأَظْهَرُ ، وَلَمْ يُصَحِّحْ فِي
الْكَبِيرِ شَيْئًا ( قُلْتُ : الْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُور الْجَوَازُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِزِيَادَةِ السِّنِّ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَرَاتِبِ ؛ لِأَنَّهَا أَعْلَى مِنْهَا بِعَامٍ فَجَازَ كَالْجَذَعَةِ مَعَ الْحِقَّةِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ أَسْنَانِ الزَّكَاةِ عَنْهَا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ انْتِفَاءُ نِيَابَتِهَا .
أَمَّا إذَا دَفَعَهَا وَلَمْ يَطْلُبْ جُبْرَانًا فَجَائِزَةٌ قَطْعًا ؛ لِأَنَّهُ زَادَ خَيْرًا ( وَلَا تُجْزِئُ شَاةٌ وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ ) عَنْ جُبْرَانٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ بَيْنَ شَاتَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَلَا يَجُوزُ خَصْلَةٌ ثَالِثَةٌ كَمَا فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَ خَمْسَةً وَيَكْسُوَ خَمْسَةً ، نَعَمْ لَوْ كَانَ الْمَالِكُ هُوَ الْآخِذَ وَرَضِيَ بِالتَّبْعِيضِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ وَلَهُ إسْقَاطُهُ بِالْكُلِّيَّةِ ( وَتُجْزِئُ شَاتَانِ وَعِشْرُونَ ) دِرْهَمًا ( لِجُبْرَانَيْنِ ) كَمَا يَجُوزُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ فِي كَفَّارَةِ يَمِينٍ وَكِسْوَةُ عَشَرَةٍ فِي أُخْرَى ، وَلَوْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ جُبْرَانَاتٍ فَأَخْرَجَ عَنْ وَاحِدَةٍ شَاتَيْنِ وَعَنْ الْأُخْرَى عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَالْأُخْرَى شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا جَازَ .
وَلَا الْبَقَرِ حَتَّى تَبْلُغَ ثَلَاثِينَ فَفِيهَا تَبِيعٌ ابْنُ سَنَةٍ ، ثُمَّ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ ، وَكُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ ، لَهَا سَنَتَانِ ، وَلَا الْغَنَمِ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ فَشَاةٌ جَذَعَةُ ضَأْنٍ أَوْ ثَنِيَّةُ مَعْزٍ ، وَفِي مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ شَاتَانِ ، وَمِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ ثَلَاثٌ ، وَأَرْبَعِمِائَةٍ أَرْبَعٌ ، ثُمَّ فِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ .
( وَلَا ) شَيْءَ فِي ( الْبَقَرِ ) وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ وَاحِدُهُ بَقَرَةٌ وَبَاقُورٌ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، سُمِّيَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَبْقُرُ الْأَرْضَ أَيْ يَشُقُّهَا بِالْحِرَاثَةِ ( حَتَّى تَبْلُغَ ثَلَاثِينَ فَفِيهَا تَبِيعٌ ابْنُ سَنَةٍ ) وَدَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ ، سُمِّيَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي الْمَرْعَى ، وَقِيلَ : لِأَنَّ قَرْنَهُ يَتْبَعُ أُذُنَهُ : أَيْ يُسَاوِيهَا ، وَلَوْ أَخْرَجَ تَبِيعَةً أَجْزَأَتْهُ ؛ لِأَنَّهُ زَادَ خَيْرًا ( ثُمَّ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ ، وَ ) فِي ( كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ لَهَا سَنَتَانِ ) وَدَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَكَامُلِ أَسْنَانِهَا .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ { بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً مُسِنَّةً ، وَمِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا } وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ وَلَا جُبْرَانَ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لِعَدَمِ وُرُودِ ذَلِكَ ، فَفِي سِتِّينَ تَبِيعَانِ ، وَفِي سَبْعِينَ تَبِيعٌ وَمُسِنَّةٌ ، وَثَمَانِينَ مُسِنَّتَانِ وَفِي تِسْعِينَ ثَلَاثَةُ أَتْبِعَةٍ ، وَفِي مِائَةٍ وَعَشْرَةٍ مُسِنَّتَانِ وَتَبِيعٌ ، وَفِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ثَلَاثُ مُسِنَّاتٍ أَوْ أَرْبَعَةُ أَتْبِعَةٍ ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ بُلُوغِ الْإِبِلِ مِائَتَيْنِ فِي جَمِيعِ مَا مَرَّ مِنْ خِلَافٍ وَتَفْرِيعٍ إلَّا فِي الْجُبْرَانِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ ، وَتُسَمَّى الْمُسِنَّةُ ثَنِيَّةً ، وَلَوْ أَخْرَجَ عَنْهَا تَبِيعَيْنِ أَجْزَأَهُ عَلَى الْأَصَحِّ .
وَقَالَ الْبَغَوِيّ : لَا ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ لَا يَقُومُ مَقَامَ السِّنِّ كَمَا لَوْ أَخْرَجَ عَنْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ بِنْتَيْ مَخَاضٍ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ التَّبِيعَيْنِ يُجْزِئَانِ عَنْ سِتِّينَ ، فَعَنْ أَرْبَعِينَ أَوْلَى بِخِلَافِ بِنْتَيْ الْمَخَاضِ فَإِنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ فَرْضِ نِصَابٍ ، وَقَدْ تَلَخَّصَ أَنَّ الْفَرْضَ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ لَا يَتَغَيَّرُ إلَّا بِزِيَادَةِ عِشْرِينَ ثُمَّ يَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةِ كُلِّ
عَشَرَةٍ ، وَفِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَتَّفِقُ فَرْضَانِ ( وَلَا ) شَيْءَ فِي ( الْغَنَمِ ) هُوَ اسْمُ جِنْسٍ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ ( حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ ) شَاةً ( فَفِيهَا ) ( شَاةٌ جَذَعَةُ ضَأْنٍ ، أَوْ ثَنِيَّةُ مَعْزٍ ) وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُمَا ( وَفِي مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ شَاتَانِ وَ ) فِي ( مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ ثَلَاثٌ ) مِنْ الشِّيَاهِ ( وَ ) فِي ( أَرْبَعِمِائَةٍ أَرْبَعٌ ، ثُمَّ فِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٌ ) لِحَدِيثِ أَنَسٍ فِي ذَلِكَ .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَنَقَلَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ ، وَلَوْ تَفَرَّقَتْ مَاشِيَةُ الْمَالِكِ فِي أَمَاكِنَ فَهِيَ كَالَّتِي فِي مَكَان وَاحِدٍ حَتَّى لَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً فِي بَلَدَيْنِ لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ ، وَلَوْ مَلَكَ ثَمَانِينَ فِي بَلَدَيْنِ فِي كُلٍّ أَرْبَعُونَ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا شَاةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا خِلَافًا لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ عِنْدَهُ عِنْدَ التَّبَاعُدِ شَاتَانِ .
.
فَصْلٌ : إنْ اتَّحَدَ نَوْعُ الْمَاشِيَةِ أُخِذَ الْفَرْضُ مِنْهُ فَلَوْ أَخَذَ عَنْ ضَأْنٍ مَعْزًا أَوْ عَكْسَهُ جَازَ فِي الْأَصَحِّ بِشَرْطِ رِعَايَةِ الْقِيمَةِ .
( فَصْلٌ : إنْ اتَّحَدَ نَوْعُ الْمَاشِيَةِ ) كَأَنْ كَانَتْ إبِلُهُ كُلُّهَا مَهْرِيَّةً بِفَتْحِ الْمِيمِ نِسْبَةً إلَى أَبِي مَهِيرَةَ ، أَوْ مُجَيْدِيَّةً نِسْبَةً إلَى فَصْلٍ مِنْ الْإِبِلِ يُقَالُ لَهُ : مُجِيدٌ بِمِيمٍ مَضْمُومَةٍ وَجِيمٍ ، وَهِيَ دُونُ الْمُهْرِيَّةِ ، أَوْ أَرْحَبِيَّةً نِسْبَةً إلَى أَرْحَبَ بِالْمُهْمَلَتَيْنِ وَالْمُوَحَّدَةِ ، وَهِيَ قَبِيلَةٌ مِنْ هَمْدَانَ ، أَوْ بَقَرُهُ كُلُّهَا جَوَامِيسَ أَوْ عِرَابًا ، أَوْ غَنَمُهُ كُلُّهَا ضَأْنًا أَوْ مَعْزًا ، وَسُمِّيَتْ مَاشِيَةً لِرَعْيِهَا وَهِيَ تَمْشِي ( أَخَذَ الْفَرْضَ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّهُ الْمَالُ الْمُشْتَرَكُ ، فَتُؤْخَذُ الْمُهْرِيَّةُ مِنْ الْمُهْرِيَّةِ ، وَالْأَرْحَبِيَّةُ مِنْ الْأَرْحَبِيَّةِ ، وَالضَّأْنُ مِنْ الضَّأْنِ وَالْمَعْزُ مِنْ الْمَعْزِ .
نَعَمْ لَوْ اخْتَلَفَتْ الصِّفَةُ بِأَنْ تَفَاوَتَتْ فِي السِّنِّ مَعَ اتِّحَادِ النَّوْعِ ، وَلَا نَقْصَ ، فَعَامَّةُ الْأَصْحَابِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْبَيَانِ أَنَّ السَّاعِيَ يَخْتَارُ أَنْفَعَهَا كَمَا سَبَقَ فِي الْحَقَائِقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ ، وَقِيلَ يَأْخُذُ الْأَوْسَطَ ( فَلَوْ أَخَذَ ) السَّاعِي ( عَنْ ضَأْنٍ ) وَهُوَ جَمْعٌ مُفْرَدُهُ لِلذَّكَرِ ضَائِنٌ وَلِلْمُؤَنَّثِ ضَائِنَةٌ بِهَمْزَةٍ قَبْلَ النُّونِ ( مَعْزًا ) وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِهَا جَمْعٌ مُفْرَدُهُ لِلذَّكَرِ مَاعِزٌ ، وَلِلْمُؤَنَّثِ مَاعِزَةٌ ، وَالْمَعْزَاءُ بِمَعْنَى الْمَعْزِ ، وَهُوَ مُنَوَّنٌ مُنْصَرِفٌ إذْ أَلِفُهُ لِلْإِلْحَاقِ لَا لِلتَّأْنِيثِ ( أَوْ عَكْسَهُ جَازَ فِي الْأَصَحِّ بِشَرْطِ رِعَايَةِ الْقِيمَةِ ) كَأَنْ تُسَاوِيَ ثَنِيَّةُ الْمَعْزِ فِي الْقِيمَةِ جَذَعَةَ الضَّأْنِ ، وَعَكْسُهُ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ .
وَالثَّانِي الْمَنْعُ كَالْبَقَرِ عَنْ الْغَنَمِ ، وَالثَّالِثُ يُؤْخَذُ الضَّأْنُ عَنْ الْمَعْزِ ؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ بِخِلَافِ الْعَكْسِ ، وَقَوْلُهُمْ فِي تَوْجِيهِ الْأَوَّلِ كَالْمُهْرِيَّةِ مَعَ الْأَرْحَبِيَّةِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ إحْدَاهُمَا عَنْ الْأُخْرَى جَزْمًا حَيْثُ تَسَاوَيَا فِي الْقِيمَةِ ، وَقَوْلُ الشَّارِحِ : وَمَعْلُومٌ أَنَّ قِيمَةَ الْجَوَامِيسِ دُونَ قِيمَةِ
الْعِرَابِ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُهَا عَنْ الْعِرَابِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ ، وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ مَمْنُوعٌ ، بَلْ قَدْ تَزِيدُ قِيمَةُ الْجَوَامِيسِ عَلَيْهَا وَلَعَلَّ مَا ذُكِرَ كَانَ كَذَلِكَ فِي زَمَنِهِ .
وَإِنْ اخْتَلَفَ كَضَأْنٍ وَمَعْزٍ فَفِي قَوْلٍ يُؤْخَذُ مِنْ الْأَكْثَرِ فَإِنْ اسْتَوَيَا فَالْأَغْبَطُ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُخْرِجُ مَا شَاءَ مُقَسَّطًا عَلَيْهِمَا بِالْقِيمَةِ ، فَإِذَا كَانَ ثَلَاثُونَ عَنْزًا وَعَشْرُ نَعْجَاتٍ أَخَذَ عَنْزًا أَوْ نَعْجَةً بِقِيمَةِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ عَنْزٍ وَرُبْعِ نَعْجَةٍ .
( وَإِنْ اخْتَلَفَ ) النَّوْعُ ( كَضَأْنٍ وَمَعْزٍ ) مِنْ الْغَنَمِ ، وكالأرحبية ، وَالْمَهْرِيَّةِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْجَوَامِيسِ وَالْعَرَابِينِ مِنْ الْبَقَرِ ( فَفِي قَوْلٍ يُؤْخَذُ مِنْ الْأَكْثَرِ ) وَإِنْ كَانَ الْأَحَظُّ خِلَافَهُ اعْتِبَارًا بِالْغَلَبَةِ ( فَإِنْ اسْتَوَيَا فَالْأَغْبَطُ ) لِلْمُسْتَحِقِّينَ كَمَا فِي اجْتِمَاعِ الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ ، وَقِيلَ يَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ ( وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُخْرِجُ ) الْمَالِكُ ( مَا شَاءَ ) مِنْ النَّوْعَيْنِ ( مُقَسَّطًا عَلَيْهِمَا بِالْقِيمَةِ ) رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ ( فَإِذَا كَانَ ) أَيْ وُجِدَ ( ثَلَاثُونَ عَنْزًا ) وَهِيَ أُنْثَى الْمَعْزِ ( وَعَشْرُ نَعْجَاتٍ ) مِنْ الضَّأْنِ ( أَخَذَ ) السَّاعِي ( عَنْزًا أَوْ نَعْجَةً بِقِيمَةِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ عَنْزٍ وَرُبْعِ نَعْجَةٍ ) فَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ عَنْزٍ مُجْزِئَةً دِينَارًا وَنَعْجَةٍ مُجْزِئَةً دِينَارَيْنِ لَزِمَهُ عَنْزٌ أَوْ نَعْجَةٌ قِيمَتُهَا دِينَارٌ وَرُبْعٌ ، وَفِي عَكْسِ الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ نَعْجَةٌ أَوْ عَنْزٌ بِقِيمَةِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ نَعْجَةٍ وَرُبْعِ عَنْزٍ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِأَعْطَى دُونَ أَخَذَ لَكَانَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْخَيْرَ لِلْمَالِكِ .
.
وَلَا تُؤْخَذُ مَرِيضَةٌ ، وَلَا مَعِيبَةٌ إلَّا مِنْ مِثْلِهَا .
ثُمَّ شَرَعَ فِي أَسْبَابِ النَّقْصِ فِي الزَّكَاةِ وَهِيَ خَمْسَةٌ : الْمَرَضُ ، وَالْعَيْبُ ، وَالذُّكُورَةُ ، وَالصِّغَرُ وَرَدَاءَةُ النَّوْعِ .
فَقَالَ : ( وَلَا تُؤْخَذُ مَرِيضَةٌ وَلَا مَعِيبَةٌ ) مِمَّا تُرَدُّ بِهِ فِي الْبَيْعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } ( إلَّا مِنْ مِثْلِهَا ) بِأَنْ تَمَحَّضَتْ مَاشِيَتُهُ مِنْهَا ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخُنُوثَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي ابْنِ اللَّبُونِ وَإِنْ كَانَ عَيْبًا فِي الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقِّينَ شُرَكَاءُ فَكَانُوا كَسَائِرِ الشُّرَكَاءِ فَتَكْفِي مَرِيضَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ وَمَعِيبَةٌ مِنْ الْوَسَطِ ، فَإِنْ اخْتَلَفَ مَالُهُ نَقْصًا وَكَمَالًا وَاتَّحَدَ جِنْسًا أَخْرَجَ وَاحِدًا كَامِلًا أَوْ أَكْثَرَ بِرِعَايَةِ الْقِيمَةِ ، مِثَالُهُ أَرْبَعُونَ شَاةً نِصْفُهَا مِرَاضٌ أَوْ مَعِيبٌ ، وَقِيمَةُ كُلٍّ صَحِيحَةً دِينَارَانِ ، وَكُلٍّ مَرِيضَةً أَوْ مَعِيبَةً دِينَارٌ لَزِمَهُ صَحِيحَةٌ بِدِينَارٍ وَنِصْفِ دِينَارٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا صَحِيحَةٌ فَعَلَيْهِ صَحِيحَةٌ بِتِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ قِيمَةِ مَرِيضَةٍ أَوْ مَعِيبَةٍ وَبِجُزْءٍ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ قِيمَةِ صَحِيحَةٍ ، وَذَلِكَ دِينَارٌ وَرُبْعُ عُشْرِ دِينَارٍ ، وَعَلَى هَذَا فَقِسْ ، وَإِذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ مَاشِيَتِهِ دُونَ قَدْرِ الْوَاجِبِ كَأَنْ وَجَبَ شَاتَانِ فِي غَنَمٍ لَيْسَ فِيهَا إلَّا صَحِيحَةٌ أَجْزَأَهُ صَحِيحَةٌ بِالْقِسْطِ وَمَرِيضَةٌ .
وَلَا ذَكَرٌ إلَّا إذَا وَجَبَ ، وَكَذَا لَوْ تَمَخَّضَتْ ذُكُورًا فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَا ) يُؤْخَذُ ( ذَكَرٌ ) ؛ لِأَنَّ النَّصّ وَرَدَ فِي الْإِنَاثِ ( إلَّا إذَا وَجَبَ ) كَابْنِ اللَّبُونِ ، وَالْحِقِّ وَالذَّكَرِ مِنْ الشِّيَاهِ فِي الْإِبِلِ فِيمَا مَرَّ ، وَالتَّبِيعِ فِي الْبَقَرِ ( وَكَذَا لَوْ تَمَخَّضَتْ ) مَاشِيَتُهُ ( ذُكُورًا فِي الْأَصَحِّ ) كَمَا يَجُوزُ أَخْذُ الْمَرِيضَةِ وَالْمَعِيبَةِ مِنْ مِثْلِهَا .
فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ ابْنَ لَبُونٍ أَكْثَرَ قِيمَةً مِنْ ابْنِ لَبُونٍ يُؤْخَذُ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْهَا لِئَلَّا يُسَوِّيَ بَيْنَ النِّصَابَيْنِ ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّقْوِيمِ وَالنِّسْبَةِ ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْمَأْخُوذِ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا تَكُونُ قِيمَةُ الْمَأْخُوذِ فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا بِنِسْبَةِ زِيَادَةِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى ، وَهِيَ خُمُسَانِ وَخُمُسُ خُمُسٍ ، وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ إلَّا أُنْثَى لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْإِنَاثِ فِي الْحَدِيث .
وَعَلَى هَذَا لَا تُؤْخَذُ أُنْثَى كَانَتْ تُؤْخَذُ لَوْ تَمَخَّضَتْ إنَاثًا بَلْ تُؤْخَذُ أُنْثَى قِيمَتُهَا مَا تَقْتَضِي النِّسْبَةُ .
فَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا إنَاثًا أَلْفَيْنِ وَقِيمَةُ الْأُنْثَى الْمَأْخُوذَةِ عَنْهَا خَمْسِينَ وَقِيمَتُهَا ذُكُورًا أَلْفًا أَخَذَ عَنْهَا أُنْثَى قِيمَتُهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ .
أَمَّا الْغَنَمُ فَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِإِجْزَاءِ الذَّكَرِ ، وَقِيلَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ، وَالْمُنْقَسِمَةُ مِنْ الثَّلَاثِ إلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ لَا تُؤْخَذُ عَنْهَا إلَّا الْإِنَاثُ كَالْمُتَمَحِّضَةِ إنَاثًا ، وَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَأْخُوذَةِ كَوْنُهَا دُونَ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ مَحْضِ الْإِنَاثِ بِطَرِيقِ التَّقْسِيطِ .
فَإِنْ تَعَدَّدَ وَاجِبُهُ وَلَيْسَ لَهُ إلَّا أُنْثَى وَاحِدَةٌ أَخْرَجَهَا وَذَكَرًا مَعَهَا .
وَفِي الصِّغَارِ صَغِيرَةٌ فِي الْجَدِيدِ .
( وَ ) يُؤْخَذُ ( فِي الصِّغَارِ صَغِيرَةٌ مِنْ الْجَدِيدِ ) كَمَا تُؤْخَذُ الْمَرِيضَةُ مِنْ الْمِرَاضِ ، وَلِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ مَنَعُونِي عِنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَالْعِنَاقُ هِيَ الصَّغِيرَةُ مِنْ الْمَعْزِ مَا لَمْ تَبْلُغْ سَنَةً ، وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ بِمَوْتِ الْأُمَّهَاتِ عَنْهَا مِنْ الثَّلَاثِ فَيَبْنِي حَوْلَهَا عَلَى حَوْلِهَا كَمَا سَيَأْتِي أَوْ يَمْلِكُ نِصَابًا مِنْ صِغَارِ الْمَعْزِ ، وَيُتَمُّ لَهَا حَوْلٌ فَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ الْإِجْزَاءِ ؛ لِأَنَّ وَاجِبَهُ مَا لَهُ سَنَتَانِ .
وَالْقَدِيمُ لَا تُؤْخَذُ إلَّا الْكَبِيرَةُ لَكِنْ دُونَ الْكَبِيرَةِ الْمَأْخُوذَةُ مِنْ الْكِبَارِ فِي الْقِيمَةِ .
وَحَكَى الْخِلَافُ وَجْهَيْنِ أَيْضًا .
وَعَلَى الْأَوَّلِ يَجْتَهِدُ السَّاعِي فِي غَيْرِ الْغَنَمِ ، وَيَحْتَرِزُ عَنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَيَأْخُذُ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ فَصِيلًا فَوْقَ الْمَأْخُوذِ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ، وَفِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ فَوْقَ الْمَأْخُوذِ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ ، وَلَوْ تَبَعَّضَتْ مَاشِيَتُهُ إلَى صِغَارٍ وَكِبَارٍ فَقِيَاسُ مَا تَقَدَّمَ وُجُوبُ كَبِيرَةٍ فِي الْجَدِيدِ أَيْ بِالتَّقْسِيطِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَفِي الْقَدِيمِ يُؤْخَذُ كَبِيرَةٌ بِالْقِسْطِ فَحِينَئِذٍ يَتَّحِدُ الْقَوْلَانِ .
وَلَا رُبَّى ، وَأَكُولَةٌ وَحَامِلٌ ، وَخِيَارٌ ، إلَّا بِرِضَا الْمَالِكِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ إجْزَاءِ الصَّغِيرِ إذَا كَانَ مِنْ الْجِنْسِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ كَخَمْسَةِ أَبْعِرَةٍ صِغَارٍ أَخْرَجَ عَنْهَا شَاةً لَمْ يَجُزْ إلَّا مَا يُجْزِئُ فِي الْكِبَارِ ( وَلَا ) تُؤْخَذُ ( رُبَّى ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْقَصْرِ ، وَهِيَ الْحَدِيثَةُ الْعَهْدِ بِالنِّتَاجِ شَاةً كَانَتْ أَوْ نَاقَةً أَوْ بَقَرَةً ، وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا هَذَا الِاسْمُ .
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ : إلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ وِلَادَتِهَا ، وَالْجَوْهَرِيُّ إلَى شَهْرَيْنِ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا تُرَبِّي وَلَدَهَا ( وَ ) لَا تُؤْخَذُ ( أَكُولَةٌ ) وَهِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْكَافِ عَلَى التَّخْفِيفِ الْمُسَمَّنَةُ لِلْأَكْلِ كَمَا قَالَهُ فِي الْمُحَرَّرِ ( وَ ) لَا ( حَامِلٌ ، وَ ) لَا ( خِيَارٌ ) { لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ : إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ } وَلِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : وَلَا تُؤْخَذُ الْأَكُولَةُ وَلَا الرُّبَّى وَلَا الْمَاخِضُ : أَيْ الْحَامِلُ ، وَلَا فَحْلُ الْغَنَمِ .
نَعَمْ إنْ كَانَتْ مَاشِيَتُهُ كُلُّهَا كَذَلِكَ أَخَذَ مِنْهَا إلَّا الْحَوَامِلَ فَلَا يُطَالِبُ بِحَامِلٍ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ مَثَلًا فِيهَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ ، وَالْحَامِلُ شَاتَانِ كَذَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ وَاسْتَحْسَنَهُ ( إلَّا بِرِضَا الْمَالِكِ ) فِي الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْسِنٌ بِالزِّيَادَةِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } .
وَلَوْ اشْتَرَكَ أَهْلُ الزَّكَاةِ فِي مَاشِيَةٍ زَكَّيَا كَرَجُلٍ ، وَكَذَا لَوْ خَلَطَا مُجَاوَرَةً بِشَرْطِ أَنْ لَا تَتَمَيَّزَ ، فِي الْمَشْرَبِ وَالْمَسْرَحِ وَالْمُرَاحِ وَمَوْضِعِ الْحَلْبِ ، وَكَذَا الْفَحْلِ وَالرَّاعِي فِي الْأَصَحِّ
ثُمَّ شَرَعَ فِي زَكَاةِ الْخُلْطَةِ ، وَهِيَ نَوْعَانِ : الْأَوَّلُ خُلْطَةُ شَرِكَةٍ وَتُسَمَّى خُلْطَةَ أَعْيَانٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ مُشْتَرَكَةٌ ، وَخُلْطَةُ شُيُوعٍ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( وَلَوْ اشْتَرَكَ أَهْلُ الزَّكَاةِ ) كَاثْنَيْنِ ( فِي مَاشِيَةٍ ) مِنْ جِنْسٍ بِإِرْثٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَهِيَ نِصَابٌ أَوْ أَقَلُّ وَلِأَحَدِهِمَا نِصَابٌ فَأَكْثَرُ وَدَامَا عَلَى ذَلِكَ ( زَكَّيَا كَرَجُلٍ ) وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ خُلْطَةَ الْجِوَارِ تُفِيدُ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي ، فَخُلْطَةُ الْأَعْيَانِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَهَذِهِ الشَّرِكَةُ قَدْ تُفِيدُهُمَا تَخْفِيفًا كَالِاشْتِرَاكِ فِي ثَمَانِينَ عَلَى السَّوَاءِ ، أَوْ تَثْقِيلًا كَالِاشْتِرَاكِ فِي أَرْبَعِينَ أَوْ تَخْفِيفًا عَلَى أَحَدِهِمَا وَتَثْقِيلًا عَلَى الْآخَرِ كَأَنْ مَلَكَا سِتِّينَ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَاهَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا .
وَقَدْ لَا تُفِيدُ تَخْفِيفًا وَلَا تَثْقِيلًا كَمِائَتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ ، وَتَأْتِي الْأَقْسَامُ فِي خُلْطَةِ الْجِوَارِ أَيْضًا ، وَقَدْ شَرَعَ فِيهَا وَهِيَ النَّوْعُ الثَّانِي فَقَالَ ( وَكَذَا لَوْ خَلَطَا مُجَاوَرَةً ) وَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَبَرِ أَنَسٍ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ { لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ } نَهَى الْمَالِكَ عَنْ التَّفْرِيقِ وَعَنْ الْجَمْعِ خَشْيَةَ وُجُوبِهَا أَوْ كَثْرَتِهَا ، وَنَهَى السَّاعِيَ عَنْهَا خَشْيَةَ سُقُوطِهَا أَوْ قِلَّتِهَا ، وَالْخَبَرُ ظَاهِرٌ فِي خُلْطَةِ الْجِوَارِ ، وَمِثْلُهَا خُلْطَةُ الشُّيُوعِ ، بَلْ أَوْلَى ، وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ خُلْطَةَ جِوَارٍ ، وَخُلْطَةَ أَوْصَافٍ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : أَهْلُ الزَّكَاةِ قَيْدٌ فِي الْخُلْطَتَيْنِ ، فَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ مَوْقُوفًا أَوْ لِذِمِّيٍّ أَوْ مُكَاتَبٍ أَوْ لِبَيْتِ الْمَالِ لَمْ تُؤَثِّرْ الْخُلْطَةُ شَيْئًا ، بَلْ يُعْتَبَرُ نَصِيبُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ إنْ بَلَغَ نِصَابَ زَكَاةٍ زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِ وَإِلَّا فَلَا زَكَاةَ ، وَقَدْ أَهْمَلَ الْمُصَنِّفُ
ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ قَدَّرْتُهَا فِي كَلَامِهِ : الْأَوَّلُ : كَوْنُ الْمَالَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِد لَا غَنَمَ مَعَ بَقَرَةٍ .
الثَّانِي : كَوْنُ مَجْمُوعِ الْمَالَيْنِ نِصَابًا فَأَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ وَلِأَحَدِهِمَا نِصَابٌ فَأَكْثَرُ ، فَلَوْ مَلَكَ كُلٌّ مِنْهُمَا عِشْرِينَ مِنْ الْغَنَمِ ، فَخَلَطَا تِسْعَةَ عَشَرَ بِمِثْلِهَا وَتَرَكَا شَاتَيْنِ مُنْفَرِدَتَيْنِ فَلَا خُلْطَةَ وَلَا زَكَاةَ .
الثَّالِثُ : دَوَامُ الْخُلْطَةِ سَنَةً إنْ كَانَ الْمَالُ حَوْلِيًّا ، فَلَوْ مَلَكَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَرْبَعِينَ شَاةً فِي أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ وَخَلَطَا فِي أَوَّلِ صَفَرٍ ، فَالْجَدِيدُ أَنَّهُ لَا خُلْطَةَ فِي الْحَوْلِ ، بَلْ إذَا جَاءَ الْمُحَرَّمُ وَجَبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا شَاةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَوْلِيًّا اُشْتُرِطَ بَقَاؤُهَا إلَى زَهْوِ الثَّمَرِ وَاشْتِدَادِ الْحَبِّ فِي النَّبَاتِ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي شَرِكَةِ الْمُجَاوَرَةِ ( بِشَرْطِ أَنْ لَا تَتَمَيَّزَ ) مَاشِيَةُ أَحَدِهِمَا عَنْ مَاشِيَةِ الْآخَرِ ( فِي الْمَشْرَبِ ) وَهُوَ مَوْضِعُ شُرْبِ الْمَاشِيَةِ وَلَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي تُوقَفُ فِيهِ عِنْدَ إرَادَةِ سَقْيِهَا وَلَا فِي الَّذِي يُنَحَّى إلَيْهِ لِشُرْبِ غَيْرِهَا ( وَ ) لَا فِي ( الْمَسْرَحِ ) وَهُوَ الْمَوْضِع الَّذِي تَجْتَمِعُ فِيهِ ثُمَّ تُسَاقُ إلَى الْمَرْعَى ، وَلَا فِي الْمَرْعَى ، وَهُوَ الْمَوْضِع الَّذِي تَرْعَى فِيهِ ، وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا اتِّحَادُ الْمَمَرِّ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ( وَ ) لَا فِي ( الْمُرَاحِ ) وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ : مَأْوَاهَا لَيْلًا ( وَ ) لَا فِي ( مَوْضِع الْحَلَبِ ) وَهُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ يُقَالُ : لِلَبَنٍ وَلِلْمَصْدَرِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا ، وَحُكِيَ سُكُونُهَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَمَيَّزَ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ لَمْ يَصِيرَا كَمَالٍ وَاحِدٍ ، وَالْقَصْدُ بِالْخُلْطَةِ أَنْ يَصِيرَ الْمَالَانِ كَمَالٍ وَاحِدٍ لِتَخِفَّ الْمُؤْنَةُ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ : وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا إلَّا مَشْرَعٌ أَوْ مَرْعًى أَوْ مُرَاحٌ وَاحِدٌ بِالذَّاتِ ، بَلْ لَا بَأْسَ بِتَعَدُّدِهَا ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي
أَنْ لَا تَخْتَصَّ مَاشِيَةُ هَذَا بِمُرَاحٍ وَمَسْرَحٍ وَمَاشِيَةُ ذَاكَ بِمُرَاحٍ وَمَسْرَحٍ ( وَكَذَا ) يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ ( الْفَحْلِ وَالرَّاعِي فِي الْأَصَحِّ ) وَفِي الرَّوْضَةِ الْمَذْهَبُ ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ فِي الْفَحْلِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَصْحَابِ فِي الرَّاعِي ، وَيَجُوزُ تَعَدُّدُ الرُّعَاةِ قَطْعًا بِشَرْطِ أَنْ لَا تَنْفَرِدَ هَذِهِ عَنْ هَذِهِ بِرَاعٍ ، وَالثَّانِي : لَا يُشْتَرَطُ الِاتِّحَادُ فِي الرَّاعِي ؛ لِأَنَّ الِافْتِرَاقَ فِيهِ لَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْمَالِ ، وَالْمُرَادُ بِالِاتِّحَادِ أَنْ يَكُونَ الْفَحْلُ أَوْ الْفُحُولُ مُرْسَلَةً فِيهَا تَنْزُو عَلَى كُلٍّ مِنْ الْمَاشِيَتَيْنِ بِحَيْثُ لَا تَخْتَصُّ مَاشِيَةُ هَذَا بِفَحْلٍ عَنْ مَاشِيَةِ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا لِأَحَدِهِمَا أَوْ مُعَارًا لَهُ أَوْ لَهُمَا إلَّا إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعُ كَضَأْنٍ وَمَعْزٍ فَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُهُ قَطْعًا لِلضَّرُورَةِ ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ اُشْتُرِطَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْزَاءُ فِي مَكَان وَاحِدٍ كَالْحَلْبِ .
لَا نِيَّةِ الْخُلْطَةِ فِي الْأَصَحِّ
تَنْبِيهٌ : لَوْ افْتَرَقَتْ مَاشِيَتُهُمَا زَمَانًا طَوِيلًا وَلَوْ بِلَا قَصْدِ ضُرٍّ ، فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا وَلَمْ يَعْلَمَا بِهِ لَمْ يَضُرَّ ، فَإِنْ عَلِمَا بِهِ وَأَقَرَّاهُ أَوْ قَصَدَا ذَلِكَ أَوْ عَلِمَهُ أَحَدُهُمَا فَقَطْ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ ضَرَّ ، وَ ( لَا ) تُشْتَرَطُ ( نِيَّةُ الْخُلْطَةِ فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ خِفَّةَ الْمُؤْنَةِ بِاتِّحَادِ الْمَوَاقِفِ لَا تَخْتَلِفُ بِالْقَصْدِ وَعَدَمِهِ ، وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ الِاتِّحَادُ فِيمَا مَرَّ لِيَجْتَمِعَ الْمَالَانِ كَالْمَالِ الْوَاحِدِ وَلِتَخِفَّ الْمُؤْنَةُ عَلَى الْمُحْسِنِ بِالزَّكَاةِ ، وَالثَّانِي : تُشْتَرَطُ ؛ لِأَنَّ الْخُلْطَةَ مُغَيِّرَةٌ لِمِقْدَارِ الزَّكَاةِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَصْدِهِ دَفْعًا لِضَرَرِهِ فِي الزِّيَادَةِ وَضَرَرِ الْمُسْتَحِقِّينَ فِي النُّقْصَانِ .
تَنْبِيهَاتٌ : الْأَوَّلُ أَفْهَمَتْ عِبَارَتُهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الْحَالِبِ وَلَا الْإِنَاءِ الَّذِي يُحْلَبُ فِيهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ آلَةِ الْجَزِّ وَلَا خَلْطُ اللَّبَنِ عَلَى الْأَصَحِّ .
الثَّانِي : مَحَلُّ مَا تَقَدَّمَ إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلْخَلِيطَيْنِ حَالَةُ انْفِرَادٍ ، فَإِنْ انْعَقَدَ الْحَوْلُ عَلَى الِانْفِرَادِ ثُمَّ طَرَأَتْ الْخُلْطَةُ ، فَإِنْ اتَّفَقَ حَوْلَاهُمَا بِأَنْ مَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ أَرْبَعِينَ شَاةً .
ثُمَّ خَلَطَا فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ لَمْ تَثْبُتْ الْخُلْطَةُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عِنْدَ تَمَامِهَا شَاةٌ ، وَإِنْ اخْتَلَفَ حَوْلَاهُمَا بِأَنْ مَلَكَ هَذَا غُرَّةَ الْمُحَرَّمِ وَهَذَا غُرَّةَ صَفَرٍ وَخَلَطَا غُرَّةَ شَهْرِ رَبِيعٍ ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عِنْدَ انْقِضَاءِ حَوْلٍ شَاةٌ ، وَإِذَا طَرَأَ الِانْفِرَادُ عَلَى الْخُلْطَةِ ، فَمَنْ بَلَغَ مَالُهُ نِصَابًا زَكَّاهُ وَمَنْ لَا فَلَا .
الثَّالِثُ : أَهْمَلَ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ التَّرَاجُعِ إذْ يَجُوزُ لِلسَّاعِي الْأَخْذُ مِنْ مَالِ أَحَدِ الْخَلِيطَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَضْطَرَّ إلَيْهِ ، فَإِذَا أَخَذَ شَاةً مَثَلًا مِنْ أَحَدِهِمَا رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ قِيمَتِهَا لَا مِنْهَا ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مِثْلِيَّةٍ ، فَلَوْ خَلَطَا مِائَةً بِمِائَةٍ ، وَأَخَذَ السَّاعِي مِنْ أَحَدِهِمَا شَاتَيْنِ فَكَذَلِكَ ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ كُلٍّ شَاةً فَلَا تَرَاجُعَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهَا ، فَلَوْ كَانَ لِزَيْدٍ مِائَةٌ وَلِعَمْرٍو خَمْسُونَ وَأَخَذَ السَّاعِي الشَّاتَيْنِ مِنْ عَمْرٍو رَجَعَ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهَا أَوْ مِنْ زَيْدٍ رَجَعَ بِالثُّلُثِ ، وَإِنْ أَخَذَ مِنْ كُلِّ شَاةٍ رَجَعَ زَيْدٌ بِثُلُثِ قِيمَةِ شَاتِهِ وَعَمْرٌو بِثُلُثَيْ قِيمَتِهَا أَوْ وَإِذَا تَنَازَعَا فِي قِيمَةِ الْمَأْخُوذَةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْجُوعِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا ثَلَاثُونَ مِنْ الْبَقَرِ ، وَلِلْآخَرِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا فَوَاجِبُهُمَا تَبِيعٌ وَمُسِنَّةٌ عَلَى صَاحِبِ الثَّلَاثِينَ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهِمَا ، وَعَلَى صَاحِبِ الْأَرْبَعِينَ أَرْبَعَةُ