كتاب : مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
المؤلف : محمد بن أحمد الخطيب الشربيني
فَائِدَةٌ : قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ : لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلِّمَ أَوْ يَحْلِقَ أَوْ يَسْتَحِدَّ أَوْ يُخْرِجَ دَمًا أَوْ يُبِينَ مِنْ نَفْسِهِ جُزْءًا وَهُوَ جُنُبٌ ، إذْ يُرَدُّ إلَيْهِ سَائِرُ أَجْزَائِهِ فِي الْآخِرَةِ فَيَعُودُ جُنُبًا ، وَيُقَالُ : إنَّ كُلَّ شَعْرَةٍ تُطَالِبُ بِجَنَابَتِهَا .
فَرْعٌ : يَجُوزُ أَنْ يَنْكَشِفَ لِلْغُسْلِ فِي خَلْوَةٍ أَوْ بِحَضْرَةِ مَنْ يَجُوزُ لَهُ نَظَرُهُ إلَى عَوْرَتِهِ ، وَالسَّتْرُ أَفْضَلُ { لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ احْفَظْ عَوْرَتَكَ إلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ .
قَالَ : أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا ؟ قَالَ : اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ } ( 1 ) .
فَإِنْ قِيلَ : اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُحْجَبُ عَنْهُ شَيْءٌ فَمَا فَائِدَةٌ السَّتْرِ لَهُ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنْ يُرَى مُتَأَدِّبًا بَيْنَ يَدَيْ خَالِقِهِ وَرَازِقِهِ
وَمَنْ بِهِ نَجَسٌ يَغْسِلُهُ ثُمَّ يَغْتَسِلُ ، وَلَا تَكْفِي لَهُمَا غَسْلَةٌ ، وَكَذَا فِي الْوُضُوءِ .
قُلْتُ : الْأَصَحُّ تَكْفِيهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَمَنْ بِهِ ) أَيْ بِبَدَنِهِ شَيْءٌ ( نَجِسٌ يَغْسِلُهُ ثُمَّ يَغْتَسِلُ ) ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّطْهِيرِ وَالنَّجَسُ بِفَتْحِ الْجِيمِ : النَّجَاسَةُ ( وَلَا تَكْفِي لَهُمَا غَسْلَةٌ ) وَاحِدَةٌ ( وَكَذَا فِي الْوُضُوءِ ) لِأَنَّهُمَا وَاجِبَانِ مُخْتَلِفَا الْجِنْسِ فَلَا يَتَدَاخَلَانِ ، وَعَلَى هَذَا تَقْدِيمُ إزَالَتِهِ شَرْطٌ لَا رُكْنٌ ( قُلْتُ : الْأَصَحُّ تَكْفِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) كَمَا لَوْ اغْتَسَلَ مِنْ جَنَابَةٍ وَحَيْضٍ ، وَلِأَنَّ وَاجِبَهُمَا غَسْلُ الْعُضْوِ وَقَدْ حَصَلَ وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا كَانَ النَّجَسُ حُكْمِيًّا كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ وَيَرْفَعُهُمَا الْمَاءُ مَعًا ، وَلِلسَّابِعَةِ فِي الْمُغَلَّطَةِ حُكْمُ هَذِهِ الْغَسْلَةِ فَإِنْ كَانَ النَّجَسُ عَيْنًا ، وَلَمْ تَزُلْ بَقِيَ الْحَدَثُ ، أَمَّا غَيْرُ السَّابِعَةِ فِي النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ فَلَا يَرْتَفِعُ حَدَثُ ذَلِكَ الْمَحَلِّ لِبَقَاءِ نَجَاسَتِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ جَزَمَ فِي الرَّوْضَةِ وَالْمِنْهَاجِ تَبَعًا لِلرَّافِعِيِّ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ بِأَنَّ أَقَلَّ الْغُسْلِ اسْتِيعَابُ بَدَنِهِ بِالْمَاءِ بَعْدَ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ مَعَ أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالْغَسْلَةِ فِي الْمَيِّتِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تَجِبُ فِي غُسْلِهِ .
أَجَابَ الشَّارِحُ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ بِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الْحَيِّ ، وَتُرِكَ الِاسْتِدْرَاكُ عَلَيْهِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِمَّا قَدَّمَهُ .
وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ مَا ذَكَرَاهُ فِي الْجَنَائِزِ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي اشْتِرَاطِ تَقَدُّمِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ بَعْدُ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ ، فَهِيَ بِمَعْنَى مَعَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } - : أَيْ مَعَ ذَلِكَ زَنِيمٍ : أَيْ دَعِيٍّ فِي قُرَيْشٍ ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ اسْتِيعَابُ بَدَنِهِ مَعَ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْوَقْفِ فِي قَوْلِهِ : وَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ أَنَّهُ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْكُلِّ ، وَهَذَا الْجَوَابُ أَظْهَرُ ، وَقِيلَ : يُفَرَّقُ
بَيْنَ غُسْلِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ بِأَنَّ هَذَا آخِرُ أَحْوَالِهِ فَاحْتِيطَ لَهُ فَيُرَاعَى فِي حَقِّهِ الْأَكْمَلُ كَمَا يَجِبُ تَكْفِينُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ ؛ لِأَنَّهَا حَقُّهُ ، حَتَّى لَوْ اتَّفَقَ الْوَرَثَةُ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَمْ يُجَابُوا إلَى ذَلِكَ كَمَا صَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ مَعَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ جَزَمَ بِمَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي صِفَةِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ مِنْ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ
وَمَنْ اغْتَسَلَ لِجَنَابَةٍ وَجُمُعَةٍ حَصَلَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا حَصَلَ فَقَطْ .
( وَمَنْ اغْتَسَلَ لِجَنَابَةٍ ) أَوْ نَحْوِهَا كَحَيْضٍ ( وَ ) نَحْوِ ( جُمُعَةٍ ) كَعِيدٍ بِأَنْ نَوَاهُمَا ( حَصَلَا ) أَيْ غُسْلُهُمَا كَمَا لَوْ نَوَى الْفَرْضَ وَتَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ ، وَقِيلَ : لَا يَحْصُلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ ، بِخِلَافِ التَّحِيَّةِ لِحُصُولِهَا ضِمْنًا ، فَعَلَى الْأَوَّلِ الْأَكْمَلُ أَنْ يَغْتَسِلَ لِلْجَنَابَةِ ثُمَّ لِلْجُمُعَةِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْأَصْحَابِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ اجْتَمَعَ جُمَعَةٌ وَكُسُوفٌ وَقَدَّمَ الْكُسُوفَ ثُمَّ خَطَبَ وَنَوَى بِخُطْبَتِهِ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ وَالْكُسُوفِ لَمْ يَصِحَّ لِلتَّشْرِيكِ بَيْنَ فَرْضٍ وَنَفْلٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ فِي مَعْنَى الصَّلَاةِ ، وَلِهَذَا اُشْتُرِطَ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الصَّلَاةِ ، فَالتَّشْرِيكُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْكُسُوفِ كَالتَّشْرِيكِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَسُنَّتِهِ ، بِخِلَافِ مَا هُنَا فَإِنَّ مَبْنَى الطَّهَارَاتِ عَلَى التَّدَاخُلِ ( أَوْ لِأَحَدِهِمَا حَصَلَ ) غُسْلُهُ ( فَقَطْ ) اعْتِبَارًا بِمَا نَوَاهُ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَنْدَرِجْ النَّفَلُ فِي الْفَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ فَأَشْبَهَ سُنَّةَ الظُّهْرِ مَعَ فَرْضِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ نَوَى بِصَلَاتِهِ الْفَرْضَ دُونَ التَّحِيَّةِ حَصَلَتْ التَّحِيَّةُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا ، أَوْ نَوَى رَفْعَ الْجَنَابَةِ حَصَلَ الْوُضُوءُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْقَصْدَ ثَمَّ إشْغَالُ الْبُقْعَةِ بِصَلَاةٍ وَقَدْ حَصَلَ ، وَلَيْسَ الْقَصْدُ هُنَا النَّظَافَةَ فَقَطْ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ الْمَاءِ .
وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ فَرْضَانِ كَغُسْلَيْ جَنَابَةٍ وَحَيْضٍ كَفَاهُ الْغُسْلُ لِأَحَدِهِمَا ، وَكَذَا لَوْ سُنَّ فِي حَقِّهِ سُنَّتَانِ كَغُسْلَيْ عِيدٍ وَجُمُعَةٍ ، وَلَا يَضُرُّ التَّشْرِيكُ بِخِلَافِ نَحْوِ الظُّهْرِ مَعَ سُنَّتِهِ ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الطَّهَارَاتِ عَلَى التَّدَاخُلِ كَمَا مَرَّ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ
قُلْتُ : وَلَوْ أَحْدَثَ ثُمَّ أَجْنَبَ أَوْ عَكْسُهُ كَفَى الْغُسْلُ عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قُلْتُ : وَلَوْ أَحْدَثَ ثُمَّ أَجْنَبَ أَوْ عَكْسُهُ ) أَيْ أَجْنَبَ ثُمَّ أَحْدَثَ أَوْ أَجْنَبَ وَأَحْدَثَ مَعًا ( كَفَى الْغُسْلُ ) سَوَاءٌ أَنَوَى الْوُضُوءَ مَعَهُ أَمْ لَا غَسَلَ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ مُرَتِّبًا أَمْ لَا ( عَلَى الْمَذْهَبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِانْدِرَاجِ الْوُضُوءِ فِي الْغُسْلِ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : أَمَّا أَنَا فَأُحْثِيَ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ فَإِذَا أَنَا قَدْ طَهُرْتُ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ .
وَلَمْ يَفْصِلْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تَتَجَرَّدُ عَنْ الْحَدَثِ فَتَدَاخَلَتَا كَالْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ .
وَقَدْ نَبَّهَ الرَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْجَنَابَةِ ، وَأَنَّ الْأَصْغَرَ يَضْمَحِلُّ مَعَهُ أَوْ لَا يَبْقَى لَهُ حُكْمٌ .
وَلِهَذَا عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِكَفَى .
وَالثَّانِي لَا يَكْفِي وَإِنْ نَوَى مَعَهُ الْوُضُوءَ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْوُضُوءِ مَعَهُ .
وَالثَّالِثُ : إنْ نَوَى مَعَ الْغُسْلِ الْوُضُوءَ كَفَى ، وَإِلَّا فَلَا ، وَقِيلَ : إنْ كَانَ سَبَبُ اجْتِمَاعِهِمَا هُوَ الْجِمَاعَ كَفَى وَإِلَّا فَلَا ، وَفِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ طَرِيقٌ قَاطِعٌ بِالِاكْتِفَاءِ لِتَقَدُّمِ الْأَكْبَرِ فِيهَا فَلَا يُؤَثِّرُ بَعْدَهُ الْأَصْغَرُ ، فَقَوْلُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ إنَّمَا يَأْتِي عَلَى اصْطِلَاحِهِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهَا ذَاتُ طُرُقٍ ، وَأَمَّا الْأُولَى فَفِيهَا أَوْجُهٌ لَا طُرُقٌ .
وَأَجَابَ الشَّارِحُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ بِقَوْلِهِ : فَالطَّرِيقَانِ فِي مَجْمُوعِ الصُّورَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ الثَّانِيَةُ لَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا : أَيْ لَا فِي جَمِيعِهِمَا فَيَكْفِي فِي صِدْقِ كَوْنِهِ فِي الْمَجْمُوعِ كَوْنُهُ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ بِخِلَافِ كَوْنِهِ فِي الْجَمِيعِ .
تَتِمَّةٌ : لَوْ أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ غُسْلِهِ جَازَ أَنْ يُتِمَّهُ وَلَا يَمْنَعُ الْحَدَثُ صِحَّتَهُ ، لَكِنْ لَا يُصَلِّي بِهِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ كَمَا فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ وَهُوَ مَحْمُولٌ كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ عَلَى مَا إذَا أَحْدَثَ بَعْدَ فَرَاغِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ ، أَمَّا قَبْلَ الْفَرَاغِ فَيَأْتِي بِبَقِيَّةِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ مُرَتَّبَةً وَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِهِ .
خَاتِمَةٌ : يُبَاحُ لِلرِّجَالِ دُخُولُ الْحَمَّامِ وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ غَضُّ الْبَصَرِ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُمْ وَصَوْنُ عَوْرَتِهِمْ عَنْ الْكَشْفِ بِحَضْرَةِ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا أَوْ فِي غَيْرِ وَقْتِ الِاغْتِسَالِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ ، وَنَهْيُهُمْ الْغَيْرَ عَنْ كَشْفِ عَوْرَتِهِ ، وَإِنْ ظَنُّوا أَنَّهُ لَا يَنْتَهِي ، وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ الرَّجُلَ إذَا دَخَلَ الْحَمَّامَ عَارِيًّا لَعَنَهُ مَلَكَاهُ } .
رَوَاهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى : { كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ دُخُولُ الْحَمَّامِ إلَّا بِمِئْزَرٍ } وَأَمَّا النِّسَاءُ فَيُكْرَهُ لَهُنَّ بِلَا عُذْرٍ لِخَبَرِ { مَا مِنْ امْرَأَةٍ تَخْلَعُ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِهَا إلَّا هَتَكَتْ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا يُقَالُ لَهَا الْحَمَّامَاتُ فَلَا يَدْخُلْهَا الرِّجَالُ إلَّا بِالْإِزَارِ وَامْنَعُوهَا النِّسَاءَ إلَّا مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ } وَلِأَنَّ أَمْرَهُنَّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي السَّتْرِ وَلِمَا فِي خُرُوجِهِنَّ وَاجْتِمَاعِهِنَّ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالشَّرِّ .
قَالَ شَيْخُنَا : وَالْخَنَاثَى كَالنِّسَاءِ فِيمَا يَظْهَرُ ، وَيَجِبُ أَنْ لَا يَزِيدَ فِي الْمَاءِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَلَا الْعَادَةِ ، وَآدَابُهُ أَنْ يَقْصِدَ التَّطْهِيرَ وَالتَّنْظِيفَ لَا التَّرَفُّهَ وَالتَّنْعِيمَ ، وَأَنْ يُسَلِّمَ الْأُجْرَةَ قَبْلَ دُخُولِهِ وَأَنْ يُسَمِّيَ لِلدُّخُولِ ثُمَّ يَتَعَوَّذَ كَمَا فِي دُخُولِ الْخَلَاءِ ، وَكَذَا فِي تَقْدِيمِ رِجْلِهِ الْيُسْرَى دُخُولًا وَالْيُمْنَى خُرُوجًا ، وَأَنْ يَتَذَكَّرَ بِحَرَارَتِهِ حَرَارَةَ نَارِ جَهَنَّمَ لِشِبْهِهِ بِهَا ، وَأَنْ لَا يَدْخُلَهُ إذَا رَأَى فِيهِ عُرْيَانًا ، وَأَنْ لَا يُعَجِّلَ بِدُخُولِ الْبَيْتِ الْحَارِّ
حَتَّى يَعْرَقَ فِي الْأَوَّلِ وَأَنْ لَا يُكْثِرَ الْكَلَامَ ، وَأَنْ يَدْخُلَ وَقْتَ الْخَلْوَةِ أَوْ يَتَكَلَّفَ إخْلَاءَ الْحَمَّامِ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا أَهْلُ الدِّينِ فَالنَّظَرُ إلَى الْأَبْدَانِ مَكْشُوفَةً فِيهِ شَوْبٌ مِنْ قِلَّةِ الْحَيَاءِ ، وَأَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ - تَعَالَى - وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْهُ ، فَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ يَوْمُ الْحَمَّامِ يَوْمُ إثْمٍ ، وَيُكْرَهُ دُخُولُهُ قُبَيْلَ الْغُرُوبِ وَبَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ لِأَنَّهُ وَقْتُ انْتِشَارِ الشَّيَاطِينِ وَلِلصَّائِمِ وَمِنْ جِهَةِ الطِّبِّ صَبُّ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَى الرَّأْسِ وَشُرْبُهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْهُ ، وَلَا بَأْسَ بِدَلْكِ غَيْرِهِ إلَّا عَوْرَةً أَوْ مَظِنَّةَ شَهْوَةٍ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَلَا بَأْسَ بِقَوْلِهِ لِغَيْرِهِ : عَافَاكَ اللَّهُ ، وَلَا بِالْمُصَافَحَةِ ، وَيُسَنُّ لِمَنْ يُخَالِطُ النَّاسَ التَّنَظُّفُ بِالسِّوَاكِ وَإِزَالَةُ شَعْرٍ وَرِيحٍ كَرِيهَةٍ وَحُسْنُ الْأَدَبِ مَعَهُمْ
بَابُ النَّجَاسَةِ هِيَ : كُلُّ مُسْكِرٍ مَائِعٍ .
( بَابُ النَّجَاسَةِ ) وَفِي الْبَابِ إزَالَتُهَا وَلَوْ ذَكَرَهُ فِي التَّرْجَمَةِ أَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ كَمَا فِي التَّنْبِيهِ لَكَانَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ اللَّائِقُ بِكِتَابِ الطَّهَارَةِ ، وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ النَّجَاسَةِ فَتُذْكَرُ تَبَعًا ، وَهِيَ لُغَةً كُلُّ مَا يُسْتَقْذَرْ ، وَشَرْعًا مُسْتَقْذَرٌ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ حَيْثُ لَا مُرَخِّصَ ، وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ بِكُلِّ عَيْنٍ حَرُمَ تَنَاوُلُهَا مُطْلَقًا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ مَعَ سُهُولَةِ تَمْيِيزِهَا وَإِمْكَانِ تَنَاوُلِهَا لَا لِحُرْمَتِهَا وَلَا لِاسْتِقْذَارِهَا وَلَا لِضَرَرِهَا فِي بَدَنٍ أَوْ عَقْلٍ ، فَاحْتُرِزَ بِمُطْلَقًا عَمَّا يُبَاحُ قَلِيلُهُ كَبَعْضِ النَّبَاتَاتِ السُّمِّيَّةِ ، الِاخْتِيَارِ عَنْ حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَيُبَاحُ فِيهَا تَنَاوُلُ النَّجَاسَةِ ، وَبِسُهُولَةِ تَمْيِيزِهَا عَنْ دُودِ الْفَاكِهَةِ وَنَحْوِهَا فَيُبَاحُ تَنَاوُلُهُ مَعَهَا ، وَهَذَانِ الْقَيْدَانِ لِلْإِدْخَالِ لَا لِلْإِخْرَاجِ ، وَبِإِمْكَانِ تَنَاوُلِهَا عَنْ الْأَشْيَاءِ الصُّلْبَةِ كَالْحَجَرِ ، وَبِالْبَقِيَّةِ عَنْ الْآدَمِيِّ وَعَنْ الْمُخَاطِ وَنَحْوِهِ وَعَنْ الْحَشِيشَةِ الْمُسْكِرَةِ وَالسُّمِّ الَّذِي يَضُرُّ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ وَالتُّرَابِ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْرُمْ تَنَاوُلُهَا لِنَجَاسَتِهَا ، بَلْ لِحُرْمَةِ الْآدَمِيِّ وَاسْتِقْذَارِ الْمُخَاطِ وَنَحْوِهِ وَضَرَرِ الْبَقِيَّةِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِخْرَاجَ بِعَدَمِ الِاسْتِقْذَارِ مُضِرٌّ ، فَإِنَّهُ ، وَإِنْ أَخْرَجَ الْمُخَاطَ وَنَحْوَهُ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ غَالِبَ النَّجَاسَاتِ مِنْ الْعَذِرَةِ وَالْبَوْلِ وَالْقَيْءِ وَالْقَيْحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهَا مُسْتَقْذَرَةٌ ، وَحَرُمَتْ لِاسْتِقْذَارِهَا وَكُلُّهَا نَجِسَةٌ ، وَعَرَّفَهَا الْمُصَنِّفُ كَأَصْلِهِ بِالْعَدِّ فَقَالَ ( هِيَ كُلُّ مُسْكِرٍ مَائِعٍ ) لَكِنَّ ظَاهِرَهُ حَصْرُهَا فِيمَا عَدَّهُ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ؛ لِأَنَّ مِنْهَا أَشْيَاء لَمْ يَذْكُرْهَا وَسَأُنَبِّهُ عَلَى بَعْضِهَا ، فَلَوْ ذَكَرَ لَهَا ضَابِطًا إجْمَالِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ لَكَانَ أَوْلَى ، بَلْ قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ فِيمَا
ذَكَرَهُ تَجَوُّزٌ ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَكَيْفَ تُفَسَّرُ بِالْأَعْيَانِ ، بَلْ مَا ذُكِرَ حَدٌّ لِلنَّجِسِ لَا لِلنَّجَاسَةِ ا هـ .
وَشَمِلَتْ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ الْخَمْرَ وَهِيَ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ وَلَوْ مُحْتَرَمَةً وَبِبَاطِنِ عُنْقُودٍ وَمُثَلَّثَةً وَهِيَ الْمَغْلِيُّ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ حَتَّى صَارَ عَلَى الثُّلُثِ ، وَالنَّبِيذَ : وَهُوَ الْمُتَّخَذُ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ أَوْ نَحْوِهِ .
أَمَّا الْخَمْرُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ } وَالرِّجْسُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ هُوَ النَّجَسُ صَدَّ عَمَّا عَدَاهَا الْإِجْمَاعُ فَبَقِيَتْ هِيَ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى نَجَاسَتِهَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ بِالْإِجْمَاعِ ، وَحَمَلَ عَلَى إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، فَفِي الْمَجْمُوعِ عَنْ رَبِيعَةَ شَيْخِ مَالِكٍ أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى طَهَارَتِهَا ، وَنَقَلَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ الْحَسَنِ وَاللَّيْثِ ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى نَجَاسَتِهَا بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ طَاهِرَةً لَفَاتَ الِامْتِنَانُ بِكَوْنِ شَرَابِ الْآخِرَةِ طَهُورًا .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا } أَيْ طَاهِرًا ، وَعَبَّرَ بِطَهُورًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي طَهَارَتِهِ بِخِلَافِ خَمْرِ الدُّنْيَا .
وَأَمَّا النَّبِيذُ فَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْخَمْرِ مَعَ التَّنْفِيرِ عَنْ الْمُسْكِرِ ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَدَلِيلُنَا مَا ذُكِرَ .
وَالْخَمْرُ الْمُحْتَرَمَةُ قَالَا فِي الْغَصْبِ هِيَ مَا عُصِرَتْ لَا بِقَصْدِ الْخَمْرِيَّةِ ، وَفِي الرَّهْنِ : مَا عُصِرَتْ بِقَصْدِ الْخَلِيَّةِ ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ وَأَعَمُّ .
وَالْخَمْرُ مُؤَنَّثَةٌ وَتَذْكِيرُهَا لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ وَتَلْحَقُهَا التَّاءُ عَلَى قِلَّةٍ ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْمَائِعِ مِنْ زِيَادَتِهِ ذُكِرَ بِغَيْرِ تَمْيِيزٍ ، وَخَرَجَ بِهِ الْبَنْجُ وَنَحْوُهُ مِنْ الْحَشِيشِ الْمُسْكِرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا : قَالَهُ فِي الدَّقَائِقِ ، فَإِنْ قِيلَ : كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يُقَيِّدَهَا بِالْأَصَالَةِ لِئَلَّا يَرِدَ عَلَيْهِ الْخَمْرُ إذَا جَمَدَتْ وَالْحَشِيشَةُ
إذَا أُذِيبَتْ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْخَمْرَ مَائِعَةٌ فِي الْأَصْلِ ، وَقَدْ حُكِمَ بِنَجَاسَتِهَا وَهِيَ مَائِعَةٌ وَلَمْ يَحْدُثْ مَا يُطَهِّرُهَا بِخِلَافِ الْحَشِيشِ الْمُذَابِ .
فَائِدَةٌ : قَالَ بَعْضُ الْمُتَعَنِّتِينَ : إنَّ الْكَشْكَ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّهُ يَتَخَمَّرْ كَالْبُوظَةِ ، ثُمَّ قَالَ : وَهَلْ يَكُونُ جَفَافُهُ كَالتَّخَلُّلِ ( 1 ) فِي الْخَمْرِ فَيَطْهُرُ أَوْ يَكُونُ كَالْخَمْرِ الْمَعْقُودَةِ فَلَا يَطْهُرُ ؟ قَالَ شَيْخِي : لَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ فَإِنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ صَارَ مُسْكِرًا لَكَانَ طَاهِرًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَائِعٍ ا هـ .
وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْبُوظَةَ طَاهِرَةٌ وَهُوَ كَذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ مُسْكِرُ الْجِنْسِ لِئَلَّا تَرِدَ عَلَيْهِ الْقَطْرَةُ مِنْ الْخَمْرِ مَثَلًا .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ سَيَذْكُرُ فِي بَابِ الْأَشْرِبَةِ أَنَّ مَا أَسْكَرَهُ كَثِيرُهُ حَرُمَ قَلِيلُهُ وَحُدَّ شَارِبُهُ ، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ نَجَاسَةُ الْقَلِيلِ كَالْكَثِيرِ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِيمَا ذُكِرَ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْأَعْيَانَ جَمَادٌ وَحَيَوَانٌ ، فَالْجَمَادُ كُلُّهُ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ ، وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ .
قَالَ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الِانْتِفَاعُ أَوْ يَكْمُلُ بِالطَّهَارَةِ إلَّا مَا نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى نَجَاسَتِهِ : وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ بِقَوْلِهِ : كُلُّ مُسْكِرٍ مَائِعٍ .
وَكَلْبٍ ، وَخِنْزِيرٍ ، وَفَرْعِهِمَا ، وَمَيْتَةِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ ، وَالسَّمَكِ ، وَالْجَرَادِ ،
وَكَذَا الْحَيَوَانُ كُلُّهُ طَاهِرٌ لِمَا مَرَّ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ أَيْضًا ، وَقَدْ نَبَّهَ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( وَكَلْبٍ ) وَلَوْ مُعَلَّمًا لِخَبَرِ مُسْلِمٍ { طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ } وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ الطَّهَارَةَ إمَّا لِحَدَثٍ أَوْ خَبَثٍ أَوْ تَكْرِمَةً وَلَا حَدَثَ عَلَى الْإِنَاءِ وَلَا تَكْرِمَةَ فَتَعَيَّنَتْ طَهَارَةُ الْخَبَثِ فَثَبَتَتْ نَجَاسَةُ فَمِهِ : وَهُوَ أَطْيَبُ أَجْزَائِهِ ، بَلْ هُوَ أَطْيَبُ الْحَيَوَانِ نَكْهَةً لِكَثْرَةِ مَا يَلْهَثُ فَبَقِيَّتُهُ أَوْلَى ، وَفِي الْحَدِيثِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُعِيَ إلَى دَارِ قَوْمٍ فَأَجَابَ ، ثُمَّ دُعِيَ إلَى دَارٍ أُخْرَى فَلَمْ يُجِبْ ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : إنَّ فِي دَارِ فُلَانٍ كَلْبًا ، قِيلَ لَهُ : وَإِنَّ فِي دَارِ فُلَانٍ هِرَّةً فَقَالَ : إنَّ الْهِرَّةَ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ } رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِمُ فَأَفْهَمَ أَنَّ الْكَلْبَ نَجِسٌ ، وَأَدْخَلَ شَيْخُنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَوْ تَكْرِمَةً لِأَجْلِ دُخُولِ غُسْلِ الْمَيِّتِ .
وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ وَلَيْسَتْ فِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّ غُسْلَهُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِمْ مَمْنُوعٌ ، بَلْ قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ غُسْلُ الْمَيِّتِ تَنْظِيفًا وَإِكْرَامًا ( وَخِنْزِيرٍ ) ؛ لِأَنَّهُ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْكَلْبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْتَنَى بِحَالٍ ، وَنُقِضَ هَذَا التَّعْلِيلُ بِالْحَشَرَاتِ وَنَحْوِهَا ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُصَنِّفُ : لَيْسَ لَنَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى نَجَاسَتِهِ ، لَكِنْ ادَّعَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَعُورِضَ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ ، وَرِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ طَاهِرٌ ، وَيُرَدُّ النَّقْضُ بِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَى قَتْلِهِ بِلَا ضَرَرٍ فِيهِ وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِحَمْلِ شَيْءٍ عَلَيْهِ وَلَا كَذَلِكَ الْحَشَرَاتُ فِيهِمَا .
وَقَالَ تَعَالَى : { أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } وَالْمُرَادُ
جُمْلَتُهُ ؛ لِأَنَّ لَحْمَهُ دَخَلَ فِي عُمُومِ الْمَيْتَةِ ( وَفَرْعِهِمَا ) أَيْ فَرْعِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعَ الْآخَرِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ وَلَوْ آدَمِيًّا كَالْمُتَوَلِّدِ مَثَلًا بَيْنَ ذِئْبٍ وَكَلْبَةٍ تَغْلِيبًا لِلنَّجَاسَةِ وَلِتَوَلُّدِهِ مِنْهَا ، وَالْفَرْعُ يَتْبَعُ الْأَبَ فِي النَّسَبِ ، وَالْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ، وَأَشْرَفَهُمَا فِي الدِّينِ وَإِيجَابِ الْبَدَلِ وَتَقْرِيرِ الْجِزْيَةِ ، وَأَخَفَّهُمَا فِي عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَأَخَسَّهُمَا فِي النَّجَاسَةِ وَتَحْرِيمِ الذَّبِيحَةِ وَالْمُنَاكَحَةِ ( وَمَيْتَةِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ وَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ ) وَإِنْ لَمْ يَسِلْ دَمُهَا لِحُرْمَةِ تَنَاوُلِهَا .
قَالَ تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } وَتَحْرِيمُ مَا لَيْسَ بِمُحْتَرَمٍ وَلَا مُسْتَقْذَرٍ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهِ .
وَالْمَيْتَةُ مَا زَالَتْ حَيَاتُهُ لَا بِذَكَاةٍ شَرْعِيَّةٍ كَذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ وَالْمُحْرِمِ بِضَمِّ الْمِيمِ ، وَمَا ذُبِحَ بِالْعَظْمِ ، وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ إذَا ذُبِحَ ، وَدَخَلَ الْجَنِينُ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ ، وَصَيْدٌ لَمْ تُدْرَكْ ذَكَاتُهُ ، وَالْبَعِيرُ النَّادُّ وَالْمُتَرَدِّي إذَا مَاتَا بِالسَّهْمِ وَدَخَلَ فِي نَجَاسَةِ الْمَيْتَةِ جَمِيعُ أَجْزَائِهَا مِنْ عَظْمٍ وَشَعْرٍ وَصُوفٍ وَوَبَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ ، وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ دُودُ نَحْوِ : خَلٍّ وَتُفَّاحٍ فَإِنَّهَا نَجِسَةٌ ، لَكِنْ لَا تُنَجِّسُهُ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهَا ، وَيَجُوزُ أَكْلُهُ مَعَهُ لِعُسْرِ تَمْيِيزِهِ .
أَمَّا الْآدَمِيُّ فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ عَلَى الْأَظْهَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } وَقَضِيَّةُ التَّكْرِيمِ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِنَجَاسَتِهِ بِالْمَوْتِ وَسَوَاءٌ الْمُسْلِمُ وَغَيْرُهُ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } فَالْمُرَادُ بِهِ نَجَاسَةُ الِاعْتِقَادِ أَوْ اجْتِنَابُهُمْ كَالنَّجَسِ لَا نَجَاسَةُ الْأَبَدَانِ وَأَمَّا خَبَرُ الْحَاكِمِ { لَا تُنَجِّسُوا مَوْتَاكُمْ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ لَا
يَنْجُسَ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا } ( 1 ) فَجَرَى عَلَى الْغَالِبِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَنَجَّسَ بِالْمَوْتِ لَكَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ كَسَائِرِ الْمَيْتَاتِ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُؤْمَرْ بِغُسْلِهِ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : وَلَوْ كَانَ طَاهِرًا لَمْ يُؤْمَرْ بِغُسْلِهِ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ الطَّاهِرَةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ عُهِدَ غَسْلُ الطَّاهِرِ بِدَلِيلِ الْمُحْدِثِ بِخِلَافِ نَجِسِ الْعَيْنِ .
الْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ يَنْجُسُ ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ فِي الْحَيَاةِ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْمَيْتَاتِ ، وَرُدَّ بِمَا تَقَدَّمَ ، وَالْخِلَافُ فِي غَيْرِ مَيْتَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَلْحَقَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ بِهِمْ الشُّهَدَاءَ ، وَأَمَّا مَيْتَةُ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ فَلِلْإِجْمَاعِ عَلَى طَهَارَتِهِمَا .
{ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ : السَّمَكُ وَالْجَرَادُ وَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ } ( 1 ) { وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَحْرِ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } ( 2 ) وَالْمُرَادُ بِالسَّمَكِ كُلُّ مَا أُكِلَ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ ، وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ سَمَكًا كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي بَابِ الْأَطْعِمَةِ ، وَالْجَرَادُ اسْمُ جِنْسٍ وَاحِدَتُهُ جَرَادَةٌ تُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى
وَدَمٍ ، وَقَيْحٍ ، وَقَيْءٍ ، وَرَوْثٍ ، وَبَوْلٍ ، وَمَذْيٍ ، وَوَدْيٍ ، وَكَذَا مَنِيُّ غَيْرِ الْآدَمِيِّ فِي الْأَصَحِّ .
قُلْتُ : الْأَصَحُّ طَهَارَةُ مَنِيِّ غَيْرِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَفَرْعِ أَحَدِهِمَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلَبَنُ مَا لَا يُؤْكَلُ غَيْرَ الْآدَمِيِّ
( وَ ) الْمُسْتَحِيلُ فِي بَاطِنِ الْحَيَوَانِ نَجِسٌ وَهُوَ ( دَمٌ ) وَلَوْ تَحَلَّبَ مِنْ كَبِدٍ أَوْ طِحَالٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ } أَيْ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } وَلِخَبَرِ { اغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي } وَأَمَّا الدَّمُ الْبَاقِي عَلَى اللَّحْمِ وَعِظَامِهِ فَقِيلَ إنَّهُ طَاهِرٌ ، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَجَرَى عَلَيْهِ السُّبْكِيُّ ، وَيَدُلُّ لَهُ مِنْ السُّنَّةِ { قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : كُنَّا نَطْبُخُ الْبُرْمَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلُوهَا الصُّفْرَةُ مِنْ الدَّمِ فَنَأْكُلُ وَلَا يُنْكِرُهُ } وَظَاهِرُ كَلَامِ الْحَلِيمِيِّ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُ نَجِسٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ مَسْفُوحٌ وَإِنْ لَمْ يَسِلْ لِقِلَّتِهِ وَلَا يُنَافِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ السُّنَّةِ ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْمَنِيُّ إذَا خَرَجَ دَمًا ؛ لِأَنَّهُ مَنِيٌّ وَإِنْ كَانَ أَحْمَرَ وَالصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ لَيْسَتَا بِدَمٍ وَهُمَا نَجِسَانِ ( وَقَيْحٍ ) ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ مُسْتَحِيلٌ لَا يُخَالِطُهُ دَمٌ ، وَصَدِيدٍ : وَهُوَ مَاءٌ رَقِيقٌ يُخَالِطُهُ دَمٌ ، وَمَاءِ قُرُوحٍ وَنِفَاطَاتٍ إنْ تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ ( وَقَيْءٍ ) وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ ، وَهُوَ الْخَارِجُ مِنْ الْمَعِدَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْفَضَلَاتِ الْمُسْتَحِيلَةِ كَالْبَوْلِ .
وَقِيلَ : غَيْرُ الْمُتَغَيِّرِ مُتَنَجِّسٌ لَا نَجِسٌ ، وَمَالَ إلَيْهِ الْأَذْرَعِيُّ .
أَمَّا الرَّاجِعُ مِنْ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى الْمَعِدَةِ فَلَيْسَ بِنَجِسٍ ، وَالْبَلْغَمُ الصَّاعِدُ مِنْ الْمَعِدَةِ نَجِسٌ بِخِلَافِ النَّازِلِ مِنْ الرَّأْسِ أَوْ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ وَالصَّدْرِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ ، وَالْمَاءُ السَّائِلُ مِنْ فَمِ النَّائِمِ إنْ كَانَ مِنْ الْمَعِدَةِ كَأَنْ خَرَجَ مُنْتِنًا بِصُفْرَةٍ فَنَجِسٌ ، لَا إنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهَا أَوْ شُكَّ فِي أَنَّهُ
مِنْهَا أَوْ لَا فَإِنَّهُ طَاهِرٌ .
وَقِيلَ : إنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا فَنَجِسٌ وَإِلَّا فَطَاهِرٌ ، فَإِنْ اُبْتُلِيَ بِهِ شَخْصٌ لِكَثْرَتِهِ مِنْهُ .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : فَالظَّاهِرُ الْعَفْوُ ، وَالْجِرَّةُ نَجِسَةٌ وَهِيَ بِكَسْرِ الْجِيمِ مَا يُخْرِجُهُ الْبَعِيرُ أَوْ غَيْرُهُ لِلِاجْتِرَارِ ، وَكَذَا الْمِرَّةُ وَهِيَ بِكَسْرِ الْمِيمِ مَا فِي الْمَرَارَةِ ، وَالزُّبَّادُ طَاهِرٌ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : لِأَنَّهُ إمَّا لَبَنُ سِنَّوْرٍ بَحْرِيٍّ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَوْ عِرْقُ سِنَّوْرٍ بَرِّيٍّ كَمَا سَمِعْتُهُ مِنْ ثِقَاتٍ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهَذَا ، لَكِنْ يَغْلِبُ اخْتِلَاطُهُ بِمَا يَتَسَاقَطُ مِنْ شَعْرِهِ فَلْيُحْتَرَزْ عَمَّا وُجِدَ فِيهِ ، فَإِنَّ الْأَصَحَّ مَنْعُ أَكْلِ الْبَرِّيِّ ، وَيَنْبَغِي الْعَفْوُ عَنْ قَلِيلِ شَعْرِهِ كَمَا بَحَثَهُ صَاحِبُ الْعُبَابِ وَلْيُحْتَرَزْ أَيْضًا أَنْ يُصِيبَ النَّجَاسَةَ الَّتِي عَلَى دُبُرِهِ فَإِنَّ الْعِرْقَ الْمَذْكُورَ مِنْ نَقْرَتَيْنِ عِنْدَ دُبُرِهِ لَا مِنْ سَائِرِ جَسَدِهِ كَمَا أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ مَنْ أَثِقُ بِهِ .
وَأَمَّا الْمِسْكُ فَهُوَ أَطْيَبُ الطِّيبِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَفَأْرَتُهُ طَاهِرَةٌ ، وَهِيَ خُرَّاجٌ بِجَانِبِ سُرَّةِ الظَّبْيَةِ كَالسِّلْعَةِ فَتَحْتَكُّ حَتَّى تُلْقِيَهَا .
وَقِيلَ إنَّهَا فِي جَوْفِهَا كَالْإِنْفَحَةِ تُلْقِيهَا كَالْمَشِيمَةِ ، وَلَوْ انْفَصَلَ كُلٌّ مِنْ الْمِسْكِ وَالْفَأْرَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَنَجِسٌ كَاللَّبَنِ وَالشَّعْرِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَنْبَرِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَخْرَجٌ مِنْ بَطْنِ دُوَيْبَّةٍ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ يَنْبُتُ فِي الْبَحْرِ وَيَلْفِظُهُ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ( وَرَوْثٍ ) بِالْمُثَلَّثَةِ وَلَوْ مِنْ سَمَكٍ وَجَرَادٍ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جِيءَ لَهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ لِيَسْتَنْجِيَ بِهَا أَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَدَّ الرَّوْثَةَ ، وَقَالَ : هَذَا رِكْسٌ } وَالرِّكْسُ النَّجَسُ ، وَالْعَذِرَةُ وَالرَّوْثُ : قِيلَ مُتَرَادِفَانِ .
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي
دَقَائِقِهِ الْعَذِرَةُ مُخْتَصَّةٌ بِفَضْلَةِ الْآدَمِيِّ ، وَالرَّوْثُ أَعَمُّ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَقَدْ يُمْنَعُ بَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِغَيْرِ الْآدَمِيِّ ، ثُمَّ نَقَلَ عَنْ صَاحِبِ الْمُحْكَمِ وَابْنِ الْأَثِيرِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِذِي الْحَافِرِ .
قَالَ : وَعَلَيْهِ فَاسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لَهُ فِي سَائِرِ الْبَهَائِمِ تَوَسُّعٌ ( وَبَوْلٍ ) لِلْأَمْرِ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ فِي الْمَسْجِدِ .
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ .
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْقَبْرَيْنِ { أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَنْزِهُ مِنْ الْبَوْلِ } ( 1 ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَقِيسَ بِهِ سَائِرُ الْأَبْوَالِ .
وَأَمَّا أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُرَنِيِّينَ بِشُرْبِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ ( 2 ) فَكَانَ لِلتَّدَاوِي ، وَالتَّدَاوِي بِالنَّجِسِ جَائِزٌ عِنْدَ فَقْدِ الطَّاهِرِ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَهُ .
وَأَمَّا { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا } فَمَحْمُولٌ عَلَى الْخَمْرِ ( وَمَذْيٍ ) وَهُوَ بِالْمُعْجَمَةِ مَاءٌ أَبْيَضُ رَقِيقٌ يَخْرُجُ بِلَا شَهْوَةٍ قَوِيَّةٍ عِنْدَ ثَوَرَانِهَا لِلْأَمْرِ بِغَسْلِ الذَّكَرِ مِنْهُ فِي خَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ فِي قِصَّةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ( وَوَدْيٍ ) وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ مَاءٌ أَبْيَضُ كَدِرٌ ثَخِينٌ يَخْرُجُ عَقِبَ الْبَوْلِ أَوْ عِنْدَ حَمْلِ شَيْءٍ ثَقِيلٍ قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَهُ وَإِجْمَاعًا ، وَهَذِهِ الْفَضَلَاتُ - مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَاهِرَةٌ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ ، وَأَفْتَى بِهِ شَيْخِي خِلَافًا لِمَا فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ وَالتَّحْقِيقِ مِنْ النَّجَاسَةِ ؛ { ؛ لِأَنَّ بَرَكَةَ الْحَبَشِيَّةَ شَرِبَتْ بَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَنْ تَلِجَ النَّارَ بَطْنُكِ } صَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيُّ : دَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ أَبَا طَيْبَةَ شَرِبَهُ وَفَعَلَ مِثْلَ
ذَلِكَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ غُلَامٌ حِينَ أَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَ حِجَامَتِهِ لِيَدْفِنَهُ فَشَرِبَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ خَالَطَ دَمُهُ دَمِي لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ } .
وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي حَصَاةٍ تَخْرُجُ عَقِبَ الْبَوْلِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ ، وَتُسَمَّى عِنْدَ الْعَامَّةِ بِالْحَصِيَّةِ هَلْ هِيَ نَجِسَةٌ أَوْ مُتَنَجِّسَةٌ تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ ؟ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ فِيهَا مَا قَالَ بَعْضُهُمْ : وَهُوَ إنْ أَخْبَرَ طَبِيبٌ عَدْلٌ بِأَنَّهَا مُنْعَقِدَةٌ مِنْ الْبَوْلِ فَهِيَ نَجِسَةٌ وَإِلَّا فَمُتَنَجِّسَةٌ ( وَكَذَا مَنِيُّ غَيْرِ الْآدَمِيِّ ) وَنَحْوِ الْكَلْبِ ( فِي الْأَصَحِّ ) كَسَائِرِ الْمُسْتَحِيلَاتِ .
أَمَّا مَنِيُّ نَحْوِ الْكَلْبِ فَنَجِسٌ بِلَا خِلَافٍ .
وَأَمَّا مَنِيُّ الْآدَمِيِّ فَطَاهِرٌ عَلَى الْأَظْهَرِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا { أَنَّهَا كَانَتْ تَحُكُّ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ كُنْتُ أَحُكُّهُ مِنْ ثَوْبِهِ ، وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ رَوَاهَا ابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَأْتِي عَلَى الْقَوْلِ بِنَجَاسَةِ فَضَلَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِطَهَارَتِهَا فَلَا يَنْهَضُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الْخَصْمِ فَلَعَلَّهُ يَقُولُ بِهِ ، وَالثَّانِي : أَنَّهُ نَجِسٌ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ فِي الْبَاطِنِ فَأَشْبَهَ الدَّمَ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ نَجِسٌ بِنَاءً عَلَى نَجَاسَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِهَا ، وَأُلْحِقَ مَنِيُّ الْخُنْثَى بِمَنِيِّ الْمَرْأَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَلَوْ بَالَ الرَّجُلُ ، وَلَمْ يَغْسِلْ ذَكَرَهُ تَنَجَّسَ مَنِيُّهُ وَإِنْ اسْتَنْجَى بِالْحَجَرِ بِمُلَاقَاةِ الْمَنْفَذِ لَا أَنَّ مَجْرَاهُمَا وَاحِدٌ كَمَا قِيلَ ، فَقَدْ حَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَنَّهُ قَدْ شُقَّ ذَكَرٌ بِالرُّومِ فَوُجِدَ مُخْتَلِفًا ، وَلَوْ ثَبَتَ اتِّحَادُهُمَا لَمْ تَلْزَمْ النَّجَاسَةُ ؛ لِأَنَّ
تَلَاقِيهِمَا فِي الْبَاطِنِ لَا يُؤَثِّرُ ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ تَلَاقِيهِمَا فِي الظَّاهِرِ ، وَلَوْ اسْتَنْجَتْ الْمَرْأَةُ بِالْأَحْجَارِ ثُمَّ جَامَعَهَا الرَّجُلُ فَمَنِيُّهُمَا مُتَنَجِّسٌ ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يُنَجِّسُ ذَكَرَهُ ، وَيَنْجُسُ دُودُ مَيْتَةٍ وَحَبُّ رَوْثٍ وَقَيْءٍ فِيهِ قُوَّةُ الْإِنْبَاتِ وَإِلَّا فَنَجِسُ الْعَيْنِ كَمَا عُرِفَ مِمَّا مَرَّ ( قُلْتُ : الْأَصَحُّ طَهَارَةُ مَنِيِّ غَيْرِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَفَرْعِ أَحَدِهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ فَأَشْبَهَ مَنِيَّ الْآدَمِيِّ .
وَيُسْتَحَبُّ غَسْلُ الْمَنِيِّ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ وَخُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ طَاهِرٌ مِنْ الْمَأْكُولِ ، نَجِسٌ مِنْ غَيْرِهِ كَلَبَنِهِ .
وَالْبَيْضُ الْمَأْخُوذُ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ مَأْكُولٍ طَاهِرٌ ، وَكَذَا الْمَأْخُوذُ مِنْ مَيْتَةٍ إنْ تَصَلَّبَ ، وَبَزْرِ الْقَزِّ وَهُوَ الْبَيْضُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ دُودُ الْقَزِّ ، وَلَوْ اسْتَحَالَتْ الْبَيْضَةُ دَمًا فَهِيَ طَاهِرَةٌ عَلَى مَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَنْقِيحِهِ هُنَا وَصَحَّحَ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ مِنْهُ ، وَفِي التَّحْقِيقِ وَغَيْرِهِ أَنَّهَا نَجِسَةٌ .
قَالَ شَيْخُنَا : وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى الْقَوْلِ بِنَجَاسَةِ مَنِيِّ غَيْرِ الْآدَمِيِّ .
وَأَمَّا عَلَى غَيْرِهِ فَالْأَوْجَهُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَسْتَحِلَّ حَيَوَانًا ، وَالْأَوَّلُ عَلَى خِلَافِهِ .
فَائِدَةٌ : يُقَالُ مَذِرَتْ الْبَيْضَةُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ إذَا فَسَدَتْ .
وَفِي الْحَدِيثِ شَرُّ النِّسَاءِ { الْمَذِرَةُ الْوَذِرَةُ } ( 1 ) أَيْ الْفَاسِدَةُ الَّتِي لَا تَسْتَحِي عِنْدَ الْجِمَاعِ ( وَلَبَنُ مَا لَا يُؤْكَلُ غَيْرَ ) لَبَنِ ( الْآدَمِيِّ ) كَلَبَنِ الْأَتَانِ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ فِي الْبَاطِنِ كَالدَّمِ .
أَمَّا لَبَنُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَلَبَنِ الْفَرَسِ وَإِنْ وَلَدَتْ بَغْلًا فَطَاهِرٌ .
قَالَ تَعَالَى : { لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } وَكَذَا لَبَنُ الْآدَمِيِّ ، إذْ لَا يَلِيقُ بِكَرَامَتِهِ أَنْ يَكُونَ مَنْشَؤُهُ نَجِسًا ،
وَكَلَامُهُمْ شَامِلٌ لِلَبَنِ الْمَيْتَةِ ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْمَجْمُوعِ نَقْلًا عَنْ الرُّويَانِيِّ قَالَ : لِأَنَّهُ فِي إنَاءٍ طَاهِرٍ ، وَلَبَنُ الذَّكَرِ وَالصَّغِيرَةِ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ الْمُوَافِقُ لِتَعْبِيرِ الصَّيْمَرِيِّ بِقَوْلِهِ : أَلْبَانُ الْآدَمِيِّينَ وَالْآدَمِيَّاتِ لَمْ يَخْتَلِفْ الْمَذْهَبُ فِي طَهَارَتِهَا وَجَوَازِ بَيْعِهَا .
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ : إنَّهُ الصَّوَابُ ، وَقَوْلُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَابْنِ الصَّبَّاغِ : لَبَنُ الْمَيْتَةِ وَالذَّكَرِ نَجِسٌ مُفَرَّعٌ عَلَى نَجَاسَةِ مَيْتَةِ الْآدَمِيِّ كَمَا أَفَادَهُ الرُّويَانِيُّ ، وَلَوْ خَرَجَ اللَّبَنُ عَلَى لَوْنِ الدَّمِ فَالْقِيَاسُ طَهَارَتُهُ كَمَا لَوْ خَرَجَ الْمَنِيُّ عَلَى هَيْئَةِ الدَّمِ هَذَا إذَا كَانَتْ خَوَاصُّ اللَّبَنِ مَوْجُودَةً فِيهِ كَمَا قَالَهُ فِي الْخَادِمِ ، وَالْإِنْفَحَةُ : وَهِيَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَتَخْفِيفِ الْحَاءِ عَلَى الْأَفْصَحِ لَبَنٌ فِي جَوْفِ نَحْوِ سَخْلَةٍ فِي جِلْدَةٍ تُسَمَّى إنْفَحَةً أَيْضًا إنْ أُخِذَتْ مِنْ حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ بَعْدَ ذَبْحِهِ لَمْ يُطْعَمْ غَيْرَ اللَّبَنِ طَاهِرَةٌ لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا فِي عَمَلِ الْجُبْنِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أُخِذَتْ مِنْ مَيِّتٍ أَوْ مِنْ مَذْبُوحٍ أَكَلَ غَيْرَ اللَّبَنِ عَلَى الْأَصْلِ فِي الْمُسْتَحِيلَاتِ فِي الْبَاطِنِ ، وَقَوْلُ الزَّرْكَشِيّ : أَوْ أَكَلَ لَبَنًا نَجِسًا : كَلَبَنِ أَتَانٍ مُخَالِفٌ لِكَلَامِهِمْ .
قَالَ شَيْخِي : لِأَنَّ الْبَاطِنَ يُحِيلُ مَا يَدْخُلُهُ بِمُجَرَّدِ وُصُولِهِ إلَيْهِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ النَّجِسِ وَغَيْرِهِ ، وَهَلْ يُقَالُ : إنَّ الْبَهِيمَةَ إذَا طَعِمَتْ شَيْئًا لِلتَّدَاوِي لَا يَضُرُّ ذَلِكَ فِي طَهَارَةِ الْإِنْفَحَةِ كَمَا قَالُوا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يُطْعَمْ غَيْرَ اللَّبَنِ إنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ فِي إجْزَاءِ الرَّشِّ مِنْ بَوْلِهِ أَوْ لَا .
الظَّاهِرُ الثَّانِي لِأَنَّهَا تَصِيرُ بِذَلِكَ كَرِشًا لَا إنْفَحَةً ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُقَيِّدْ سِنَّهَا بِالْحَوْلَيْنِ كَالصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ فِيهِ عَلَى التَّغَذِّي وَعَدَمِهِ ، وَشُرْبُهُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ يُسَمَّى تَغَذِّيًا ،
وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِيهَا مَا يُسَمَّى إنْفَحَةً ، وَهِيَ مَا دَامَتْ تَشْرَبُ اللَّبَنَ لَا تَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ
وَالْجُزْءُ الْمُنْفَصِلُ مِنْ الْحَيِّ كَمَيْتَتِهِ إلَّا شَعْرَ الْمَأْكُولِ فَطَاهِرٌ ، وَلَيْسَتْ الْعَلَقَةُ وَالْمُضْغَةُ ، وَرُطُوبَةُ الْفَرْجِ بِنَجَسٍ فِي الْأَصَحِّ .
( وَالْجُزْءُ الْمُنْفَصِلُ مِنْ ) الْحَيَوَانِ ( الْحَيِّ ) وَمَشِيمَتِهِ ( كَمَيْتَتِهِ ) أَيْ ذَلِكَ الْحَيِّ : إنْ طَاهِرًا فَطَاهِرٌ ، وَإِنْ نَجِسًا فَنَجِسٌ ، لِخَبَرِ { مَا قُطِعَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيْتَةٌ } رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، فَالْمُنْفَصِلُ مِنْ الْآدَمِيِّ أَوْ السَّمَكِ أَوْ الْجَرَادِ طَاهِرٌ ، وَمِنْ غَيْرِهَا نَجِسٌ ، وَسَوَاءٌ فِي الْمَشِيمَةِ وَهِيَ غِلَافُ الْوَلَدِ ، مَشِيمَةُ الْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِ .
أَمَّا الْمُنْفَصِلُ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَيْتَتِهِ بِلَا شَكٍّ ( إلَّا شَعْرَ ) أَوْ صُوفَ أَوْ رِيشَ أَوْ وَبَرَ ( الْمَأْكُولِ فَطَاهِرٌ ) بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ نُتِفَ مِنْهَا أَوْ اُنْتُتِفَ .
قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلَى حِينٍ } ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أُخِذَ بَعْدَ التَّذْكِيَةِ أَوْ فِي الْحَيَاةِ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ وَذَلِكَ مُخَصِّصٌ لِلْخَبَرِ السَّابِقِ .
أَمَّا الْمُنْفَصِلُ مِنْ غَيْرِ الْمَأْكُولِ كَالْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ فَنَجِسٌ وَلَوْ شَكَكْنَا فِيمَا ذُكِرَ هَلْ انْفَصَلَ مِنْ طَاهِرٍ أَوْ مِنْ نَجِسٍ حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ وَشَكَكْنَا فِي النَّجَاسَةِ وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ رَأَيْنَا قِطْعَةَ لَحْمٍ وَشَكَكْنَا هَلْ هِيَ مِنْ مُذَكَّاةٍ أَوْ لَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّذْكِيَةِ ، وَالشَّعْرُ عَلَى الْعُضْوِ الْمُبَانِ نَجِسٌ إنْ كَانَ الْعُضْوُ نَجِسًا تَبَعًا لَهُ ، وَشَعْرُ الْمَأْكُولِ الْمُنْتَتَفُ الطَّالِعُ بِأُصُولِهِ مِنْ الْجِلْدِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ طَاهِرٌ ، فَإِنْ انْفَصَلَ أَصْلُهُ مَعَ شَيْءٍ مِمَّا نَبَتَ فِيهِ مِنْ الْجِلْدِ وَفِيهِمَا رُطُوبَةٌ .
قَالَ شَيْخِي : فَهُوَ مُتَنَجِّسٌ يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ ( وَلَيْسَتْ الْعَلَقَةُ ) وَهِيَ الدَّمُ الْغَلِيظُ الْمُسْتَحِيلُ مِنْ الدَّمِ فِي الرَّحِمِ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا تَعْلَقُ لِرُطُوبَتِهَا بِمَا تَمُرُّ عَلَيْهِ ( وَالْمُضْغَةُ ) وَهِيَ الْعَلَقَةُ تَسْتَحِيلُ فَتَصِيرُ قِطْعَةَ لَحْمٍ .
وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا صَغِيرَةٌ بِقَدْرِ مَا
يُمْضَغُ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ ( وَرُطُوبَةُ الْفَرْجِ ) مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ وَلَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ ( بِنَجَسٍ ) بِفَتْحِ الْجِيمِ ( فِي الْأَصَحِّ ) بَلْ طَاهِرَةٌ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَيْنِ أَصْلُ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ كَالْمَنِيِّ ، وَالثَّالِثَ كَعِرْقِهِ ، وَالْقَائِلُ بِالنَّجَاسَةِ يُلْحِقُ الْأُولَى بِالدَّمِ وَالثَّانِيَةَ بِالْمَيْتَةِ ، وَيَقُولُ الثَّالِثَةُ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ يَنْجُسُ بِهَا ذَكَرُ الْمُجَامِعِ وَالْبَيْضُ الْخَارِجُ مِنْ الْمَحَلِّ ، فَيَجِبُ غَسْلُ الذَّكَرِ وَغَسْلُ الْبَيْضِ ، وَلَا يَجِبُ غَسْلُ الْوَلَدِ إجْمَاعًا .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَرُطُوبَةُ الْفَرْجِ مَاءٌ أَبْيَضُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْمَذْيِ وَالْعِرْقِ .
وَأَمَّا الرُّطُوبَةُ الْخَارِجَةُ مِنْ بَاطِنِ الْفَرْجِ فَنَجِسَةٌ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ اللَّاصِقَةِ لِقِلَّتِهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا ، وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ قَيَّدَهَا فِي الْأَنْوَارِ بِاللَّاصِقَةِ ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ ، وَالشَّارِحُ قَيَّدَ الثَّلَاثَةَ بِكَوْنِهَا مِنْ الْآدَمِيِّ لِيُفِيدَ بِهِ مَعَ قَوْلِهِ آخِرَ الْمَقَالَةِ ، وَالثَّلَاثَةُ مِنْ غَيْرِ الْآدَمِيِّ أَوْلَى بِالنَّجَاسَةِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الثَّلَاثَةِ جَارٍ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ الْآدَمِيِّ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ ، وَأَنَّ مُقَابِلَ الْأَصَحِّ فِي الثَّلَاثَةِ مِنْ غَيْرِ الْآدَمِيِّ أَقْوَى مِنْ مُقَابِلِهِ فِيهَا مِنْ الْآدَمِيِّ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُخْتَلِفٌ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ فَلَا يُخَالِفُ مَا قَرَّرْتُهُ ، بَلْ كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ عَلَى اصْطِلَاحِهِ أَنْ يُعَبِّرَ فِي رُطُوبَةِ الْفَرْجِ بِالْأَظْهَرِ ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِيهَا قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ .
فُرُوعٌ : دُخَانُ النَّجَاسَةِ نَجِسٌ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ وَعَنْ يَسِيرِهِ عُرْفًا مِنْ شَعْرٍ نَجِسٍ مِنْ غَيْرِ نَحْوِ كَلْبٍ ، وَيُعْفَى عَنْ كَثِيرِهِ مِنْ مَرْكُوبٍ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ .
أَمَّا شَعْرُ نَحْوِ الْكَلْبِ فَلَا يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ ، وَيُعْفَى عَنْ رَوْثِ سَمَكٍ فَلَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ فَإِنْ غَيَّرَهُ نَجَّسَهُ ، وَبُخَارُ النَّجَاسَةِ إنْ تَصَاعَدَ بِوَاسِطَةِ نَارٍ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ تَفْصِلُهَا النَّارُ بِقُوَّتِهَا فَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ وَإِلَّا بِأَنْ كَانَ كَالْبُخَارِ الْخَارِجِ مِنْ نَجَاسَةِ الْكَنِيفِ فَطَاهِرٌ كَالرِّيحِ الْخَارِجِ مِنْ الدُّبُرِ كَالْجُشَاءِ ، وَبِهَذَا جَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ كَلَامَيْ مَنْ أَطْلَقَ الطَّهَارَةَ كَبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَبَيْنَ مَنْ أَطْلَقَ النَّجَاسَةَ .
وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ : إذَا خَرَجَ مِنْ الْإِنْسَانِ رِيحٌ وَكَانَتْ ثِيَابُهُ مَبْلُولَةً تَنَجَّسَتْ وَإِنْ كَانَتْ يَابِسَةً فَلَا .
قَالَ : وَكَذَلِكَ دُخَانُ كُلِّ نَجَاسَةٍ أَصَابَ شَيْئًا رَطْبًا كَمَا إذَا دَخَلَ اصْطَبْلًا رَاثَتْ فِيهِ دَوَابُّ وَتَصَاعَدَ دُخَانُهُ فَإِنْ أَصَابَ رَطْبًا نَجَّسَهُ ا هـ .
وَالْأَوْجَهُ الْجَمْعُ ، وَلِمَا يَغْلِبُ تَرَشُّحُهُ كَالدَّمْعِ وَالْعَرَقِ وَالْمُخَاطِ وَاللُّعَابِ حُكْمُ حَيَوَانِهِ طَهَارَةً وَنَجَاسَةً لِخَبَرِ مُسْلِمٍ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ فَرَسًا مَعْرُورًا وَرَكَضَهُ وَلَمْ يَجْتَنِبْ عَرَقَهُ } ( 1 ) وَيُقَاسُ بِهِ غَيْرُهُ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ ، وَالزَّرْعُ النَّابِتُ عَلَى نَجَاسَةٍ طَاهِرُ الْعَيْنِ وَيَطْهُرُ ظَاهِرُهُ بِالْغَسْلِ وَإِذَا سَنْبَلَ فَحَبُّهُ طَاهِرٌ بِلَا غَسْلٍ وَكَذَا الْقِثَّاءُ وَنَحْوُهَا وَأَغْصَانُ شَجَرَةٍ سُقِيَتْ بِمَاءٍ نَجِسٍ وَثَمَرُهَا
وَلَا يَطْهُرُ نَجِسُ الْعَيْنِ إلَّا خَمْرٌ تَخَلَّلَتْ وَكَذَا إنْ نُقِلَتْ مِنْ شَمْسٍ إلَى ظِلٍّ وَعَكْسِهِ فِي الْأَصَحِّ ، فَإِنْ خُلِّلَتْ بِطَرْحِ شَيْءٍ فَلَا وَجِلْدٌ نَجُسَ بِالْمَوْتِ فَيَطْهُرُ بِدَبْغِهِ ظَاهِرُهُ وَكَذَا بَاطِنُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ .
وَالدَّبْغُ نَزْعُ فُضُولِهِ بِحِرِّيفٍ لَا شَمْسٍ وَتُرَابٍ ، وَلَا يَجِبُ الْمَاءُ فِي أَثْنَائِهِ فِي الْأَصَحِّ ، وَالْمَدْبُوغُ كَثَوْبٍ نَجِسٍ .
( وَلَا يَطْهُرُ نَجِسُ الْعَيْنِ ) بِغَسْلٍ وَلَا بِاسْتِحَالَةٍ كَالْكَلْبِ إذَا وَقَعَ فِي مَلَّاحَةٍ فَصَارَ مِلْحًا ، أَوْ احْتَرَقَ فَصَارَ رَمَادًا .
أَمَّا الْمُتَنَجِّسُ فَسَيَأْتِي ( إلَّا ) شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا ( خَمْرٌ ) وَلَوْ غَيْرَ مُحْتَرَمَةِ ( تَخَلَّلَتْ ) بِنَفْسِهَا فَتَطْهُرُ ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ النَّجَاسَةِ وَالتَّحْرِيمِ الْإِسْكَارُ وَقَدْ زَالَ ، وَلِأَنَّ الْعَصِيرَ غَالِبًا لَا يَتَخَلَّلُ إلَّا بَعْدَ التَّخَمُّرِ ، فَلَوْ لَمْ نَقُلْ بِالطَّهَارَةِ لَتَعَذَّرَ إيجَادُ حِلِّ الْخَلِّ وَهُوَ حَلَالٌ إجْمَاعًا وَيَطْهُرُ دَنُّهَا مَعَهَا ، وَإِنْ غَلَتْ حَتَّى ارْتَفَعَتْ وَتَنَجَّسَ بِهَا مَا فَوْقَهَا مِنْهُ وَيُشْرَبُ مِنْهَا لِلضَّرُورَةِ ( وَكَذَا إنْ نُقِلَتْ مِنْ شَمْسٍ إلَى ظِلٍّ وَعَكْسِهِ ) وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ التَّخَلُّلِ أَوْ فَتْحِ رَأْسِ الدَّنِّ لِزَوَالِ الشِّدَّةِ مِنْ غَيْرِ نَجَاسَةِ خِلْقَتِهَا تَطْهُرُ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِمَا مَرَّ ، وَالثَّانِي لَا تَطْهُرُ لِمَا سَيَأْتِي ( فَإِنْ خُلِّلَتْ بِطَرْحِ شَيْءِ ) فِيهَا كَالْبَصَلِ وَالْخُبْزِ الْحَارِّ وَلَوْ قَبْلَ التَّخَمُّرِ ( فَلَا ) تَطْهُرُ لِتَنَجُّسِ الْمَطْرُوحِ بِهَا فَيُنَجِّسُهَا بَعْدَ انْقِلَابِهَا خَلًّا ، وَقِيلَ لِاسْتِعْجَالِهِ بِالْمُعَالَجَةِ الْمُحَرَّمَةِ فَعُوقِبَ بِضِدِّ قَصْدِهِ ، وَيَنْبَنِي عَلَى الْعِلَّتَيْنِ الْخِلَافُ فِي مَسْأَلَةِ النَّقْلِ الْمَذْكُورَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ عَبَّرَ بِالْوُقُوعِ بَدَلَ الطَّرْحِ لَكَانَ أَوْلَى لِئَلَّا يَرِدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ وَقَعَ فِيهَا شَيْءٌ بِغَيْرِ طَرْحٍ كَإِلْقَاءِ رِيحٍ فَإِنَّهَا لَا تَطْهُرُ مَعَهُ عَلَى الْأَصَحِّ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْخِلَافِ الْقَائِلِ بِالْمُعَالَجَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ فِيمَا ذَكَرَ كَذَلِكَ .
نَعَمْ لَوْ عَصَرَ الْعِنَبَ وَوَقَعَ مِنْهُ بَعْضُ حَبَّاتٍ فِي عَصِيرِهِ لَمْ يُمْكِنْ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا يَنْبَغِي أَنَّهَا لَا تَضُرُّ ، وَلَوْ نَزَعَ الْعَيْنَ الطَّاهِرَةَ مِنْهَا قَبْلَ التَّخَلُّلِ لَمْ يَضُرَّ لِفَقْدِ الْعِلَّةِ بِخِلَافِ الْعَيْنِ النَّجِسَةِ ؛ لِأَنَّ النَّجِسَ يَقْبَلُ التَّنْجِيسَ فَلَا
يَطْهُرُ بِالتَّخَلُّلِ ، وَلَوْ ارْتَفَعَتْ بِلَا غَلَيَانٍ بَلْ بِفِعْلِ فَاعِلٍ لَمْ يَطْهُرْ الدَّنُّ ، إذْ لَا ضَرُورَةَ ، وَلَا الْخَلُّ ؛ لِاتِّصَالِهَا بِالْمُرْتَفِعِ النَّجِسِ ، فَلَوْ غَمَرَ الْمُرْتَفِعَ بِخَمْرٍ طَهُرَتْ بِالتَّخَلُّلِ وَلَوْ بَعْدَ جَفَافِهِ خِلَافًا لِلْبَغَوِيِّ فِي تَقْيِيدِهِ بِقَبْلِ الْجَفَافِ ، وَلَوْ نُقِلَتْ مِنْ دَنٍّ إلَى آخَرَ طَهُرَتْ بِالتَّخَلُّلِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أُخْرِجَتْ مِنْهُ ثُمَّ صُبَّ فِيهِ عَصِيرٌ فَتَخَمَّرَ ثُمَّ تَخَلَّلَ .
وَالْخَمْرُ هِيَ الْمُشْتَدَّةُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ كَمَا مَرَّ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا أَنَّ النَّبِيذَ وَهُوَ الْمُتَّخَذُ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ كَالتَّمْرِ لَا يَطْهُرُ بِالتَّخَلُّلِ ، وَبِهِ صَرَّحَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ لِتَنَجُّسِ الْمَاءِ بِهِ حَالَةَ الِاشْتِدَادِ فَيُنَجِّسُهُ بَعْدَ الِانْقِلَابِ خَلًّا .
وَقَالَ الْبَغَوِيّ : يَطْهُرُ ، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مِنْ ضَرُورَتِهِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي بَابِ الرِّبَا مِنْ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ خَلَّ تَمْرٍ بِخَلِّ عِنَبٍ أَوْ خَلَّ زَبِيبٍ بِخَلِّ رُطَبٍ صَحَّ ، وَلَوْ اخْتَلَطَ عَصِيرٌ بِخَلٍّ مَغْلُوبٍ ضَرَّ ؛ لِأَنَّهُ لِقِلَّةِ الْخَلِّ فِيهِ يَتَخَمَّرُ فَيَتَنَجَّسُ بِهِ بَعْدَ تَخَلُّلِهِ أَوْ بِخَلٍّ غَالِبٍ فَلَا يَضُرُّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وَالظَّاهِرَ عَدَمُ التَّخَمُّرِ ، وَأَمَّا الْمُسَاوِي فَيَنْبَغِي إلْحَاقُهُ بِالْخَلِّ الْغَالِبِ لِمَا ذُكِرَ .
فَائِدَةٌ : قَالَ الْحَلِيمِيُّ : قَدْ يَصِيرُ الْعَصِيرُ خَلًّا مِنْ غَيْرِ تَخَمُّرٍ فِي ثَلَاثِ صُوَرٍ : إحْدَاهَا أَنْ يُصَبَّ فِي الدَّنِّ الْمُعْتَقِ بِالْخَلِّ .
ثَانِيهَا : أَنْ يُصَبَّ الْخَلُّ فِي الْعَصِيرِ ، فَيَصِيرَ بِمُخَالَطَتِهِ خَلًّا مِنْ غَيْرِ تَخَمُّرٍ ، لَكِنَّ مَحِلَّهُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَصِيرُ غَالِبًا .
ثَالِثُهَا : إذَا تَجَرَّدَتْ حَبَّاتُ الْعِنَبِ مِنْ عَنَاقِيدِهِ وَيَمْلَأُ مِنْهَا الدَّنَّ وَيُطَيِّنُ رَأْسَهُ ، وَيَجُوزُ إمْسَاكُ ظُرُوفِ الْخَمْرِ وَالِانْتِفَاعُ بِهَا وَاسْتِعْمَالُهَا إذَا غُسِلَتْ وَإِمْسَاكُ
الْمُحْتَرَمَةِ لِتَصِيرَ خَلًّا ، وَغَيْرُ الْمُحْتَرَمَةِ يَجِبُ إرَاقَتُهَا ، فَلَوْ لَمْ يُرِقْهَا فَتَخَلَّلَتْ طَهُرَتْ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا مَرَّ ( وَ ) ثَانِيهِمَا ( جِلْدٌ نَجُسَ بِالْمَوْتِ ) وَلَوْ مِنْ غَيْرِ مَأْكُولٍ ( فَيَطْهُرُ بِدَبْغِهِ ) يَعْنِي بِانْدِبَاغِهِ وَلَوْ بِإِلْقَاءِ الدَّابِغِ عَلَيْهِ بِنَحْوِ رِيحٍ أَوْ إلْقَائِهِ عَلَى الدَّابِغِ كَذَلِكَ ( ظَاهِرُهُ ) وَهُوَ مَا لَاقَى الدَّابِغَ { لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَفِيهِ وَفِي الْبُخَارِيِّ { هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ } ( 1 ) ، ( وَكَذَا بَاطِنُهُ ) وَهُوَ مَا لَمْ يُلَاقِ الدَّابِغَ ( عَلَى الْمَشْهُورِ ) لِظَاهِرِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ .
وَالثَّانِي : يَقُولُ آلَةُ الدَّبْغِ لَا تَصِلُ إلَى الْبَاطِنِ ، وَدُفِعَ بِأَنَّهَا تَصِلُ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْمَاءِ أَوْ رُطُوبَةِ الْجِلْدِ ، فَعَلَى الثَّانِي لَا يُصَلِّي فِيهِ وَلَا يُبَاعُ وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّيْءِ الرَّطْبِ .
وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ كَالثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ كَمَا سَيَأْتِي ، وَخَرَجَ بِالْجِلْدِ الشَّعْرُ لِعَدَمِ تَأَثُّرِهِ بِالدَّبْغِ ، وَيُؤْخَذُ مِمَّا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالدَّبْغِ بَاطِنُ الْجِلْدِ أَنَّهُ لَوْ نَتَفَ الشَّعْرَ بَعْدَ الدَّبْغِ صَارَ مَوْضِعُهُ مُتَنَجِّسًا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ وَهُوَ كَذَلِكَ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ فَيَطْهُرُ تَبَعًا .
وَاسْتَشْكَلَهُ الزَّرْكَشِيُّ بِأَنَّ مَا لَا يَتَأَثَّرُ بِالدَّبْغِ كَيْفَ يَطْهُرُ قَلِيلُهُ .
وَأَجَابَ بِأَنَّ قَوْلَهُ يَطْهُرُ أَيْ يُعْطَى حُكْمَ الطَّاهِرِ ا هـ .
وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ : وَيُعْفَى ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ .
وَبَعْضُهُمْ وَجَّهَ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ يَطْهُرُ تَبَعًا لِلْمَشَقَّةِ ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ : الَّذِي أَخْتَارُهُ وَأُفْتِي بِهِ أَنَّ الشَّعْرَ يَطْهُرُ مُطْلَقًا لِخَبَرٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ا هـ .
وَيَنْجُسُ بِالْمَوْتِ جِلْدُ نَحْوِ الْكَلْبِ فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ ؛ لِأَنَّ الْحَيَاةَ فِي إفَادَةِ الطَّهَارَةِ
أَبْلَغُ ، مِنْ الدَّبْغِ ، وَالْحَيَاةُ لَا تُفِيدُ طَهَارَتَهُ ( وَالدَّبْغُ نَزْعُ فُضُولِهِ ) وَهِيَ مَائِيَّتُهُ وَرُطُوبَاتُهُ الَّتِي يُفْسِدُهُ بَقَاؤُهَا وَيُطَيِّبُهُ نَزْعُهَا بِحَيْثُ لَوْ نُقِعَ فِي الْمَاءِ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ النَّتْنُ وَالْفَسَادُ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ ( بِحِرِّيفٍ ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَا يُحَرِّفُ الْفَمَ : أَيْ يَلْذَعُ اللِّسَانَ بِحَرَافَتِهِ .
قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ كَالْقُرْطِ وَالْعَفْصِ وَقُشُورِ الرُّمَّانِ ، وَالشَّثِّ بِالْمُثَلَّثَةِ : وَهُوَ شَجَرٌ مُرُّ الطَّعْمِ طَيِّبُ الرِّيحِ يُدْبَغُ بِهِ ، وَالشَّبِّ بِالْمُوَحَّدَةِ مِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ مَعْرُوفٌ يُشْبِهُ الزَّاجَ يُدْبَغُ بِهِ أَيْضًا ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الطَّاهِرِ كَمَا مَرَّ وَالنَّجِسِ : كَذَرْقِ الطُّيُورِ ( لَا شَمْسٍ وَتُرَابٍ ) وَتَجْمِيدٍ وَتَمْلِيحٍ مِمَّا لَا يَنْزِعُ الْفُضُولَ وَإِنْ جَفَّ الْجِلْدُ وَطَابَتْ رَائِحَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْفَضَلَاتِ لَمْ تَزُلْ ، وَإِنَّمَا جَمَدَتْ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ نُقِعَ فِي الْمَاءِ عَادَتْ إلَيْهِ الْعُفُونَةُ .
( وَلَا يَجِبُ الْمَاءُ فِي أَثْنَائِهِ ) أَيْ الدَّبْغِ ( فِي الْأَصَحِّ ) تَغْلِيبًا لِمَعْنَى الْإِحَالَةِ ، وَلِحَدِيثِ مُسْلِمٍ : { إذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ } وَالثَّانِي : يَجِبُ تَغْلِيبًا لِمَعْنَى الْإِزَالَةِ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { يُطَهِّرُهَا : أَيْ الْإِهَابَ الْمَاءُ وَالْقَرَظُ } وَحَمَلَهُ الْأَوَّلُ عَلَى النَّدْبِ ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الدِّبَاغَ إحَالَةٌ فَلَا يُشْتَرَطُ وَهُوَ الْأَصَحُّ ، أَوْ إزَالَةٌ فَيُشْتَرَطُ ( وَ ) يَصِيرُ ( الْمَدْبُوغُ ) وَالْمُنْدَبِغُ ( كَثَوْبٍ نَجِسٍ ) أَيْ مُتَنَجِّسٍ لِمُلَاقَاتِهِ لِلْأَدْوِيَةِ النَّجِسَةِ أَوْ الَّتِي تَنَجَّسَتْ بِهِ قَبْلَ طُهْرِ عَيْنِهِ فَيَجِبُ غَسْلُهُ لِذَلِكَ ، وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ الدِّبَاغِ فَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَجِسَ الْعَيْنِ ، وَعَلَى هَذَا هَلْ يَطْهُرُ بِمُجَرَّدِ نَقْعِهِ فِي الْمَاءِ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْأَدْوِيَةِ ثَانِيًا ؟
وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ الثَّانِي ، وَالْمُرَادُ نَقْعُهُ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ ، وَإِذَا لَمْ نُوجِبْهُ فَيُصَلِّي فِيهِ بَعْدَ غَسْلِهِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَغْسِلْهُ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ ، وَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { إنَّمَا حَرُمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا } ( 1 ) فَإِنْ قِيلَ : يَرِدُ عَلَى حَصْرِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمِسْكُ وَاللَّبَنُ وَالْمَنِيُّ ، فَإِنَّهَا كَانَتْ دَمًا نَجِسَ الْعَيْنِ وَصَارَتْ طَاهِرَةً .
أُجِيبَ بِأَنَّ أَصْلَهَا لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالنَّجَاسَةِ مَا دَامَ فِي الْجَوْفِ وَمَا لَمْ يَتَّصِلْ بِخَارِجٍ ، وَيَطْهُرُ كُلُّ نَجِسٍ اسْتَحَالَ حَيَوَانًا : كَدَمِ بَيْضَةٍ اسْتَحَالَ فَرْخًا عَلَى الْقَوْلِ بِنَجَاسَتِهِ وَلَوْ كَانَ دُودَ كَلْبٍ ؛ لِأَنَّ لِلْحَيَاةِ أَثَرًا بَيِّنًا فِي دَفْعِ النَّجَاسَةِ ، وَلِهَذَا تَطْرَأُ بِزَوَالِهَا وَلِأَنَّ الدُّودَ مُتَوَلِّدٌ فِيهِ لَا مِنْهُ ، وَلَوْ صَارَ الزِّبْلُ الْمُخْتَلِطُ بِالتُّرَابِ عَلَى هَيْئَةِ التُّرَابِ لِطُولِ الزَّمَانِ لَمْ يَطْهُرْ .
وَمَا نَجُسَ بِمُلَاقَاةِ شَيْءٍ مِنْ كَلْبٍ غُسِلَ سَبْعًا إحْدَاهُنَّ بِتُرَابٍ
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ النَّجَاسَةَ إمَّا مُغَلَّظَةٌ ، أَوْ مُخَفَّفَةٌ ، أَوْ مُتَوَسِّطَةٌ ، وَقَدْ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فَبَدَأَ بِأَوَّلِهَا فَقَالَ ( وَمَا نَجُسَ ) مِنْ جَامِدٍ وَلَوْ بَعْضًا مِنْ صَيْدٍ أَوْ غَيْرِهِ ( بِمُلَاقَاةِ شَيْءٍ مِنْ كَلْبٍ ) سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ لُعَابُهُ وَبَوْلُهُ وَسَائِرُ رُطُوبَاتِهِ وَأَجْزَائِهِ الْجَافَّةِ إذَا لَاقَتْ رَطْبًا ( غُسِلَ سَبْعًا إحْدَاهُنَّ ) فِي غَيْرِ أَرْضٍ تُرَابِيَّةٍ ( بِتُرَابٍ ) طَهُورٍ يَعُمُّ مَحَلَّ النَّجَاسَةِ بِأَنْ يَكُونَ قِدْرًا يُكَدِّرُ الْمَاءَ وَيَصِلُ بِوَاسِطَتِهِ إلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْمَحَلِّ ، وَلَا بُدَّ مِنْ مَزْجِهِ بِالْمَاءِ إمَّا قَبْلَ وَضْعِهِمَا عَلَى الْمَحَلِّ أَوْ بَعْدَهُ بِأَنْ يُوضَعَا وَلَوْ مُرَتَّبَيْنِ ثُمَّ يُمْزَجَا قَبْلَ الْغَسْلِ وَإِنْ كَانَ الْمَحَلُّ رَطْبًا إذْ الطَّهُورُ الْوَارِدُ عَلَى الْمَحَلِّ بَاقٍ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ خِلَافًا لِلْإِسْنَوِيِّ فِي اشْتِرَاطِ الْمَزْجِ قَبْلَ الْوَضْعِ عَلَى الْمَحَلِّ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ : " وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ " : أَيْ بِأَنْ يُصَاحِبَ السَّابِعَةَ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد " السَّابِعَةُ بِالتُّرَابِ " .
وَفِي رِوَايَةٍ صَحَّحَهَا التِّرْمِذِيُّ " أُولَاهُنَّ أَوْ أُخْرَاهُنَّ بِالتُّرَابِ " : وَبَيْنَ رِوَايَتَيْ مُسْلِمٍ تَعَارُضٌ فِي مَحَلِّ التُّرَابِ فَيَتَسَاقَطَانِ فِي تَعْيِينِ مَحَلِّهِ ، وَيُكْتَفَى بِوُجُودِهِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ السَّبْعِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيّ " إحْدَاهُنَّ بِالْبَطْحَاءِ " ، فَنَصَّ عَلَى اللُّعَابِ وَأَلْحَقَ بِهِ مَا سِوَاهُ ؛ لِأَنَّ لُعَابَهُ أَشْرَفُ فَضَلَاتِهِ ، وَإِذَا ثَبَتَتْ نَجَاسَتُهُ فَغَيْرُهُ مِنْ بَوْلٍ وَرَوْثٍ وَعَرَقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْلَى ، وَفِي وَجْهٍ أَنَّ غَيْرَ لُعَابِهِ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ اقْتِصَارًا عَلَى مَحَلِّ النَّصِّ لِخُرُوجِهِ عَنْ الْقِيَاسِ ، وَإِذَا لَمْ تَزُلْ النَّجَاسَةُ إلَّا بِسِتِّ
غَسَلَاتٍ مَثَلًا حُسِبَتْ وَاحِدَةٌ كَمَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ خِلَافًا لِمَا صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّهَا سِتٌّ وَإِنْ قَوَّاهُ الْإِسْنَوِيُّ ، وَلَوْ أَكَلَ لَحْمَ نَحْوِ كَلْبٍ لَمْ يَجِبْ تَسْبِيعُ مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ كَمَا نَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ النَّصِّ .
وَالْأَظْهَرُ تَعَيُّنُ التُّرَابِ ، وَ أَنَّ الْخِنْزِيرَ كَكَلْبٍ .
فَرْعٌ : حَمَّامٌ غُسِلَ دَاخِلَهُ كَلْبٌ وَلَمْ يُعْهَدْ تَطْهِيرُهُ وَاسْتَمَرَّ النَّاسُ عَلَى دُخُولِهِ وَالِاغْتِسَالِ فِيهِ مُدَّةً طَوِيلَةً وَانْتَشَرَتْ النَّجَاسَةُ إلَى حُصْرِ الْحَمَّامِ وَفُوَطِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَمَا تُيُقِّنَ إصَابَةُ شَيْءٍ لَهُ مِنْ ذَلِكَ فَنَجِسٌ وَإِلَّا فَطَاهِرٌ ؛ لِأَنَّا لَا نُنَجِّسُ بِالشَّكِّ ، وَيَطْهُرُ الْحَمَّامُ بِمُرُورِ الْمَاءِ عَلَيْهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ .
إحْدَاهُنَّ بِطَفْلٍ مِمَّا يُغْتَسَلُ بِهِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الطَّفْلَ يَحْصُلُ بِهِ التَّتْرِيبُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ وَلَوْ مَضَتْ مُدَّةٌ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَوْ بِوَاسِطَةِ الطِّينِ الَّذِي فِي نِعَالٍ دَاخِلِيَّةٍ لَمْ يُحْكَمْ بِنَجَاسَتِهِ كَمَا فِي الْهِرَّةِ إذَا أَكَلَتْ نَجَاسَةً ثُمَّ غَابَتْ غَيْبَةً يُحْتَمَلُ فِيهَا طَهَارَةُ فَمِهَا ( وَالْأَظْهَرُ تَعَيُّنُ التُّرَابِ ) وَلَوْ غُبَارَ رَمْلٍ وَإِنْ أَفْسَدَ الثَّوْبَ جَمْعًا بَيْنَ نَوْعَيْ الطَّهُورِ فَلَا يَكْفِي غَيْرُهُ كَأُشْنَانٍ وَصَابُونٍ .
وَالثَّانِي : لَا يَتَعَيَّنُ وَيَقُومُ مَا ذُكِرَ وَنَحْوُهُ مَقَامَهُ ، وَجَرَى عَلَيْهِ صَاحِبُ التَّنْبِيهِ .
وَالثَّالِثُ : يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ فَقْدِهِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا يَقُومُ عِنْدَ وُجُودِهِ ، وَقِيلَ يَقُومُ مَقَامَهُ فِيمَا يُفْسِدُهُ التُّرَابُ كَالثِّيَابِ دُونَ مَا لَا يُفْسِدُهُ ( وَ ) الْأَظْهَرُ ( أَنَّ الْخِنْزِيرَ كَكَلْبٍ ) وَكَذَا مَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْكَلْبِ كَمَا مَرَّ ، وَلِلْمُتَوَلِّدِ حُكْمُ أَصْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ أَخَسَّهُمَا فِي النَّجَاسَةِ كَمَا سَلَفَ .
وَالثَّانِي : يَكْفِي لِذَلِكَ الْغَسْلُ مَرَّةً مِنْ غَيْرِ تُرَابٍ كَغَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ ؛ لِأَنَّ الْوَارِدَ فِي الْكَلْبِ وَمَا ذُكِرَ لَا يُسَمَّى كَلْبًا ، وَيُسَنُّ جَعْلُ التُّرَابِ فِي غَيْرِ الْأَخِيرَةِ وَالْأُولَى أَوْلَى لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى تَتْرِيبِ مَا يَتَرَشَّشُ مِنْ جَمِيعِ الْغَسَلَاتِ .
وَلَا يَكْفِي تُرَابٌ نَجِسٌ ، وَلَا مَمْزُوجٌ بِمَائِعٍ فِي الْأَصَحِّ .
فُرُوعٌ : لَوْ تَعَدَّدَ نَحْوُ الْكَلْبِ وَوَلَغَ فِي الْإِنَاءِ أَوْ وَلَغَ فِيهِ وَاحِدٌ مِرَارًا كَفَى لَهُ سَبْعُ مَرَّاتٍ إحْدَاهَا بِالتُّرَابِ ، وَقِيلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ سَبْعٌ وَقِيلَ إنْ تَكَرَّرَ مِنْ وَاحِدٍ كَفَى سَبْعٌ وَإِلَّا فَلِكُلٍّ سَبْعٌ ، وَلَوْ لَاقَى مَحَلَّ التَّنَجُّسِ مِمَّا ذُكِرَ نَجِسٌ آخَرُ كَفَى لَهُ ذَلِكَ ، وَلَوْ انْغَمَسَ الْإِنَاءُ الْمُتَنَجِّسُ مِنْهُ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ رَاكِدٍ حُسِبَ مَرَّةً وَإِنْ مَكَثَ ، فَإِنْ حُرِّكَ فِيهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ شَيْءٌ بِأَنْ حُرِّكَ دَاخِلَ الْمَاءِ حُسِبَتْ سَبْعًا ، أَوْ فِي جَارٍ وَجَرَى عَلَى الْمَحَلِّ سَبْعَ جَرْيَاتٍ حُسِبَتْ سَبْعًا ، وَلَوْ كَانَ فِي إنَاءٍ مَاءٌ كَثِيرٌ فَوَلَغَ فِيهِ نَحْوُ الْكَلْبِ وَلَمْ يَنْقُصْ بِوُلُوغِهِ عَنْ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ الْمَاءُ وَلَا الْإِنَاءُ إنْ لَمْ يَكُنْ أَصَابَ جِرْمَهُ الَّذِي لَمْ يَصِلْهُ الْمَاءُ مَعَ رُطُوبَةِ أَحَدِهِمَا .
قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ .
وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ مَا وَصَلَهُ الْمَاءُ مِمَّا هُوَ فِيهِ لَمْ يَنْجُسْ وَتَكُونُ كَثْرَةُ الْمَاءِ مَانِعَةً مِنْ تَنَجُّسِهِ ، وَبِهِ صَرَّحَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ ، وَهُوَ مُقَيِّدٌ لِمَفْهُومِ قَوْلِ التَّحْقِيقِ لَمْ يَنْجُسْ الْإِنَاءُ إنْ لَمْ يُصِبْ جِرْمَهُ ، وَلَوْ وَلَغَ فِي إنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ ثُمَّ كُوثِرَ حَتَّى بَلَغَ قُلَّتَيْنِ طَهُرَ الْمَاءُ دُونَ الْإِنَاءِ كَمَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيّ فِي تَهْذِيبِهِ عَنْ ابْنِ الْحَدَّادِ ، وَأَقَرَّهُ وَجَزَمَ بِهِ جَمْعٌ ، وَصَحَّحَ الْإِمَامُ طَهَارَتَهُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ إلَى حَالَةٍ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا حَالَةَ الْوُلُوغِ لَمْ يَنْجُسْ ، وَتَبِعَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالدَّمِيرِيُّ ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ ، وَهَلْ تَجِبُ إرَاقَةُ الْمَاءِ الَّذِي تَنَجَّسَ بِوُلُوغِهِ أَوْ تُنْدَبُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الثَّانِي ، وَحَدِيثُ الْأَمْرِ بِإِرَاقَتِهِ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ أَرَادَ اسْتِعْمَالَ الْإِنَاءِ أَوْ أَدْخَلَ رَأْسَهُ فِي إنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ ، فَإِنْ خَرَجَ فَمُهُ جَافًّا لَمْ يُحْكَمْ بِنَجَاسَتِهِ ، أَوْ رَطْبًا فَكَذَا فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ
عَمَلًا بِالْأَصْلِ ، وَرُطُوبَتُهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا مِنْ لُعَابِهِ ( وَلَا يَكْفِي تُرَابٌ ) مُسْتَعْمَلٌ فِي حَدَثٍ أَوْ خَبَثٍ وَلَا ( نَجِسٌ ) فِي الْأَصَحِّ كَمَا لَا يَكْفِي ذَلِكَ فِي التَّيَمُّمِ ، وَلِأَنَّ النَّجِسَ لَا يُزِيلُ نَجَاسَةً .
وَالثَّانِي : يَكْفِي كَالدِّبَاغِ بِالشَّيْءِ النَّجِسِ ، وَالْمُسْتَعْمَلُ أَوْلَى مِنْهُ ( وَلَا ) يَكْفِي ( مَمْزُوجٌ بِمَائِعٍ ) كَخَلٍّ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِتَنْصِيصِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ يَغْسِلُهُ سَبْعًا ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْمَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْخَلُّ فِي غَيْرِ مَرَّةِ التُّرَابِ .
نَعَمْ لَوْ مُزِجَ التُّرَابُ بِالْمَاءِ بَعْدَ مَزْجِهِ بِغَيْرِهِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ الْمَاءُ بِذَلِكَ تَغَيُّرًا فَاحِشًا كَفَى ، وَالثَّانِي : يَكْفِي التُّرَابُ الْمَمْزُوجُ بِالْمَائِعِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تِلْكَ الْغَسْلَةِ إنَّمَا هُوَ التُّرَابُ وَلَا يَجِبُ تَتْرِيبُ أَرْضٍ تُرَابِيَّةٍ إذْ لَا مَعْنَى لِتَتْرِيبِ التُّرَابِ فَيَكْفِي تَسْبِيعُهَا بِمَاءٍ وَحْدَهُ ، وَلَوْ أَصَابَ ثَوْبًا مَثَلًا مِنْهَا شَيْءٌ قَبْلَ تَمَامِ السَّبْعِ هَلْ يَجِبُ تَتْرِيبُهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَجِبْ فِي الْأَرْضِ لِلْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ ؟ أَوْ لَا يَجِبُ قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ أَصَابَهُ مِنْ غَيْرِ الْأَرْضِ بَعْدَ تَتْرِيبِهِ اخْتَلَفَ فِيهِ إفْتَاءُ شَيْخِي فَأَفْتَى أَوَّلًا بِالثَّانِي وَثَانِيًا بِالْأَوَّلِ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ ، وَمَا أَفْتَى بِهِ أَوَّلًا هُوَ الظَّاهِرُ وَإِنْ كُنْت مَشَيْت عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ ثَانِيًا فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُنْتَقَلِ عَنْهُ حُكْمُ الْمُنْتَفِلِ .
وَمَا تَنَجَّسَ بِبَوْلِ صَبِيٍّ لَمْ يَطْعَمْ غَيْرَ لَبَنٍ نُضِحَ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ النَّجَاسَةِ وَهِيَ الْمُخَفَّفَةُ فَقَالَ : ( وَمَا تَنَجَّسَ ) مِنْ جَامِدٍ ( بِبَوْلِ صَبِيٍّ لَمْ يَطْعَمْ ) بِفَتْحِ الْيَاءِ : أَيْ يَتَنَاوَلُ قَبْلَ مُضِيِّ حَوْلَيْنِ ( غَيْرَ لَبَنٍ ) لِلتَّغَذِّي ( نُضِحَ ) بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ ، وَقِيلَ مُعْجَمَةٌ أَيْضًا وَلَوْ كَانَ اللَّبَنُ مِنْ غَيْرِ آدَمِيٍّ أَوْ مِنْ غَيْرِ طَاهِرٍ خِلَافًا لِلْأَذْرَعِيِّ فِي الْأُولَى مِنْ التَّخْصِيصِ بِلَبَنِ الْمُرْضِعِ ، وَلِلزَّرْكَشِيِّ فِي الثَّانِيَةِ مِنْ أَنَّهُ يُغْسَلُ مِنْ النَّجِسِ وَالْمُتَنَجِّسِ قِيَاسًا مِنْهُ عَلَى لَبَنِ الْإِنْفَحَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ بِأَنْ يَرُشَّ عَلَيْهِ مَاءً يَعُمُّهُ وَيَغْلِبُهُ بِلَا سَيَلَانٍ بِخِلَافِ الصَّبِيَّةِ وَالْخُنْثَى لَا بُدَّ فِي بَوْلِهِمَا مِنْ الْغَسْلِ عَلَى الْأَصْلِ وَيَتَحَقَّقُ بِالسَّيَلَانِ ، وَذَلِكَ لِخَبَرِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ أُمِّ قَيْسٍ { أَنَّهَا جَاءَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِجْرِهِ فَبَالَ عَلَيْهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ } ( 1 ) وَلِخَبَرِ التِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ { يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ } ( 2 ) وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الِائْتِلَافِ بِحَمْلِ الصَّبِيِّ أَكْثَرَ فَخُفِّفَ فِي بَوْلِهِ ، وَبِأَنَّ بَوْلَهُ أَرَقُّ مِنْ بَوْلِهَا فَلَا يَلْصَقُ بِالْمَحَلِّ لُصُوقَ بَوْلِهَا بِهِ وَأُلْحِقَ بِهَا الْخُنْثَى ، وَبِأَنَّ بَوْلَ الصَّبِيِّ مِنْ مَاءٍ وَطِينٍ وَبَوْلَهَا مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ ؛ لِأَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ الْقَصِيرِ .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ الشَّافِعِيِّ .
وَقِيلَ : لَمَّا كَانَ بُلُوغُ الْغُلَامِ بِمَائِعٍ طَاهِرٍ ، وَهُوَ الْمَنِيُّ وَبُلُوغُهَا بِمَائِعٍ كَذَلِكَ وَبِنَجِسٍ ، وَهُوَ الْحَيْضُ جَازَ أَنْ يَفْتَرِقَا فِي حُكْمِ طَهَارَةِ الْبَوْلِ .
قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَنَظَرَ بَعْضُهُمْ فِي الْفَرْقِ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْمَخْلُوقَ مِنْ تُرَابٍ هُوَ آدَم وَمِنْ ضِلْعٍ هِيَ حَوَّاءُ .
وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُمَا
فَالْكُلُّ مَخْلُوقٌ مِنْ نُطْفَةٍ وَمُتَغَذٍّ بِدَمِ الْحَيْضِ فَكَيْفَ يُقَالُ يُرْجَعُ إلَى الْأَصْلِ ، وَخَرَجَ بِقَيْدِ التَّغَذِّي تَحْنِيكُهُ بِنَحْوِ تَمْرٍ وَتَنَاوُلُهُ نَحْوَ سَفُوفٍ لِإِصْلَاحٍ فَلَا يَمْنَعَانِ النَّضْحَ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ، وَبِقَبْلِ مُضِيِّ الْحَوْلَيْنِ مَا بَعْدَهُمَا ، إذْ اللَّبَنُ حِينَئِذٍ كَالطَّعَامِ كَمَا نُقِلَ عَنْ النَّصِّ ، وَلَا بُدَّ مَعَ النَّضْحِ مِنْ إزَالَةِ أَوْصَافِهِ كَبَقِيَّةِ النَّجَاسَاتِ ، وَإِنَّمَا سَكَتُوا عَنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ سُهُولَةُ زَوَالِهَا خِلَافًا لِلزَّرْكَشِيِّ مِنْ أَنَّ بَقَاءَ اللَّوْنِ وَالرِّيحِ لَا يَضُرُّ .
وَمَا تَنَجَّسَ بِغَيْرِهِمَا إنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنٌ كَفَى جَرْيُ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَتْ وَجَبَ إزَالَةُ الطَّعْمِ ، وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ عَسُرَ زَوَالُهُ ، وَفِي الرِّيحِ قَوْلٌ قُلْتُ : فَإِنْ بَقِيَا مَعًا ضَرَّا عَلَى الصَّحِيحِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَيُشْتَرَطُ وُرُودُ الْمَاءِ ، لَا الْعَصْرُ فِي الْأَصَحِّ ، وَالْأَظْهَرُ طَهَارَةُ غُسَالَةٍ تَنْفَصِلُ بِلَا تَغَيُّرٍ وَقَدْ طَهُرَ الْمَحَلُّ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ النَّجَاسَةِ ، وَهِيَ الْمُتَوَسِّطَةُ فَقَالَ ( وَمَا تَنَجَّسَ بِغَيْرِهِمَا ) أَيْ الْكَلْبِ وَنَحْوِهِ وَبَوْلِ الصَّبِيِّ الْمَذْكُورِ ( إنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنٌ ) أَيْ عَيْنِيَّةٌ بِأَنْ كَانَتْ حُكْمِيَّةً ، وَهُوَ مَا تَيَقَّنَ وُجُودُهَا وَلَا يُدْرَكُ لَهَا طَعْمٌ وَلَا لَوْنٌ وَلَا رِيحٌ ( كَفَى جَرْيُ الْمَاءِ ) عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ إذْ لَيْسَ ثَمَّ مَا يُزَالُ ، وَالْمُرَادُ بِالْجَرْيِ وُصُولُ الْمَاءِ إلَى الْمَحَلِّ بِحَيْثُ يَسِيلُ عَلَيْهِ زَائِدًا عَلَى النَّضْحِ ، وَلَوْ عَبَّرَ بِمَا قَدَّرْتُهُ لَكَانَ أَوْلَى وَأَقْرَبَ إلَى مُرَادِهِ ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْعَيْنِ نَفْيُ الْأَثَرِ ( وَإِنْ كَانَتْ ) عَيْنِيَّةً ( وَجَبَ ) بَعْدَ زَوَالِ عَيْنِهَا ( إزَالَةُ الطَّعْمِ ) وَإِنْ عَسُرَ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهُ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ ، وَوَجَبَ مُحَاوَلَةُ إزَالَةِ غَيْرِهِ ( وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنٍ ) كَلَوْنِ الدَّمِ ( أَوْ رِيحٍ ) كَرَائِحَةِ الْخَمْرِ ( عَسُرَ زَوَالُهُ ) فَيَطْهُرُ لِلْمَشَقَّةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَهُلَ فَيَضُرُّ بَقَاؤُهُ لِدَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ ( وَفِي الرِّيحِ قَوْلٌ ) أَنَّهُ يَضُرُّ بَقَاؤُهَا كَسَهْلِ الزَّوَالِ .
قَالَ فِي الْبَسِيطِ : هَذَا فِي رَائِحَةٍ تُدْرَكُ عِنْدَ شَمِّ الثَّوْبِ دُونَ مَا يُدْرَكُ فِي الْهَوَاءِ ، وَفِي اللَّوْنِ وَجْهٌ كَذَلِكَ فَتُرْتَكَبُ الْمَشَقَّةُ فِي زَوَالِهِمَا ( قُلْتُ : فَإِنْ بَقِيَا ) بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ ( مَعًا ضَرَّا عَلَى الصَّحِيحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِمَا عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ .
وَالثَّانِي لَا يَضُرُّ لِاغْتِفَارِهِمَا مُنْفَرِدَيْنِ فَكَذَا مُجْتَمِعَيْنِ ، وَالْعُسْرُ مِنْ زَوَالِ رِيحِ الْمُغَلَّظَةِ أَوْ لَوْنِهَا كَغَيْرِهَا كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ عُمُومِ كَلَامِهِمْ وَإِنْ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : يَنْبَغِي خِلَافُهُ وَلَا تَجِبُ الِاسْتِعَانَةُ فِي زَوَالِ الْأَثَرِ بِغَيْرِ الْمَاءِ كَصَابُونٍ وَحَتٍّ بِالْمُثَنَّاةِ وَقَرْصٍ بِالْمُهْمَلَةِ ، بَلْ تُسَنُّ إلَّا إذَا تَعَيَّنَتْ بِأَنْ لَمْ يَزُلْ إلَّا بِهَا ، وَعَلَى هَذَا حَمَلَ الزَّرْكَشِيُّ مَا صَحَّحَهُ
الْمُصَنِّفُ فِي التَّحْقِيقِ وَالتَّنْقِيحِ مِنْ إطْلَاقِ وُجُوبِ الِاسْتِعَانَةِ .
فَرْعٌ : مَاءٌ نُقِلَ مِنْ الْبَحْرِ فَوُضِعَ فِي زِيرٍ فَوُجِدَ فِيهِ طَعْمُ زِبْلٍ أَوْ لَوْنُهُ أَوْ رَائِحَتُهُ حُكِمَ بِنَجَاسَتِهِ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ فِي تَعْلِيقِهِ ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ : وَلَا يُحَدُّ بِرِيحِ الْخَمْرِ لِوُضُوحِ الْفَرْقِ وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قُرْبِهِ جِيفَةً لَمْ يُحْكَمْ بِنَجَاسَتِهِ ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ لَوْ رَأَى فِي فِرَاشِهِ أَوْ ثَوْبِهِ مَنِيًّا ، فَإِنَّهُ إنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْغَسْلُ وَإِلَّا وَجَبَ ( وَيُشْتَرَطُ وُرُودُ الْمَاءِ ) عَلَى الْمَحَلِّ إنْ كَانَ قَلِيلًا فِي الْأَصَحِّ لِئَلَّا يَتَنَجَّسَ الْمَاءُ لَوْ عُكِسَ لَمَا عُلِمَ مِمَّا سَلَفَ أَنَّهُ يَنْجُسُ بِمُجَرَّدِ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ .
وَالثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ : لَا يُشْتَرَطُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَصَدَ بِالْغَمْسِ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ طَهُرَ كَمَا لَوْ كَانَ الْمَاءُ وَارِدًا بِخِلَافِ مَا إذَا أَلْقَتْهُ الرِّيحُ ( لَا الْعَصْرُ ) لَهُ ( فِي الْأَصَحِّ ) أَيْ فِيمَا يُمْكِنُ عَصْرُهُ إذْ الْبَلَلُ بَعْضُ الْمُنْفَصِلِ ، وَقَدْ فُرِضَ طُهْرُهُ ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي الْمُحَرَّرِ عَلَى أَنَّ الْغُسَالَةَ طَاهِرَةٌ أَوْ نَجِسَةٌ إنْ طَهَّرْنَاهَا لَمْ يَجِبْ وَإِلَّا وَجَبَ .
أَمَّا مَا لَا يُمْكِنُ عَصْرُهُ فَلَا يُشْتَرَطُ بِلَا خِلَافٍ ، وَيُسَنُّ عَصْرُ مَا يُمْكِنُ عَصْرُهُ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ ( وَالْأَظْهَرُ طَهَارَةُ غُسَالَةٍ ) قَلِيلَةٍ ( تَنْفَصِلُ بِلَا تَغَيُّرٍ وَقَدْ طَهُرَ الْمَحَلُّ ) ؛ لِأَنَّ الْبَلَلَ الْبَاقِيَ عَلَى الْمَحَلِّ هُوَ بَعْضُ الْمُنْفَصِلِ ، فَلَوْ كَانَ الْمُنْفَصِلُ نَجِسًا لَكَانَ الْمَحَلُّ كَذَلِكَ فَيَكُونُ الْمُنْفَصِلُ طَاهِرًا لَا طَهُورًا ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي خَبَثٍ .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا نَجِسَةٌ لِانْتِقَالِ الْمَنْعِ إلَيْهَا ، فَإِنْ انْفَصَلَتْ مُتَغَيِّرَةً أَوْ غَيْرَ مُتَغَيِّرَةٍ ، وَلَمْ يَطْهُرْ الْمَحَلُّ فَنَجِسَةٌ قَطْعًا ،
وَزِيَادَةُ وَزْنِهَا بَعْدَ اعْتِبَارِ مَا يَأْخُذُهُ الْمَحَلُّ مِنْ الْمَاءِ وَيُعْطِيهِ مِنْ الْوَسَخِ الطَّاهِرِ كَالتَّغَيُّرِ ، وَيُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ الْمَحَلِّ فِيمَا إذَا انْفَصَلَتْ مُتَغَيِّرَةً أَوْ زَائِدَةَ الْوَزْنِ ؛ لِأَنَّ الْبَلَلَ الْبَاقِيَ عَلَى الْمَحَلِّ هُوَ بَعْضُ مَا انْفَصَلَ كَمَا مَرَّ .
أَمَّا الْكَثِيرَةُ فَطَاهِرَةٌ مَا لَمْ تَتَغَيَّرْ ، وَإِنْ لَمْ يَطْهُرْ الْمَحَلُّ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ فِي بَابِ الطَّهَارَةِ .
وَيَطْهُرُ بِالْغَسْلِ مَصْبُوغٌ بِمُتَنَجِّسٍ انْفَصَلَ عَنْهُ ، وَلَمْ يَزِدْ الْمَصْبُوغُ وَزْنًا بَعْدَ الْغَسْلِ عَلَى وَزْنِهِ قَبْلَ الصَّبْغِ وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ لِعُسْرِ زَوَالِهِ ، فَإِنْ زَادَ وَزْنُهُ ضَرَّ ، فَإِنْ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهُ لِتَعَقُّدِهِ بِهِ لَمْ يَطْهُرْ لِبَقَاءِ النَّجَاسَةِ فِيهِ ، وَالصَّقِيلُ مِنْ سَيْفٍ وَسِكِّينٍ وَنَحْوِهِمَا كَغَيْرِهِ فَلَا يَكْفِي مَسْحُهُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ ، وَلَوْ صُبَّ عَلَى مَوْضِعٍ نَحْوُ بَوْلٍ أَوْ خَمْرٍ مِنْ أَرْضِ مَاءٍ غَمَرَهُ طَهُرَ وَلَوْ لَمْ يُغْمَرْ .
أَمَّا إذَا صُبَّ عَلَى نَفْسٍ نَحْوُ الْبَوْلِ فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ ؛ لِمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ أَنَّ شَرْطَ طَهَارَةِ الْغُسَالَةِ أَنْ لَا يَزِيدَ وَزْنُهَا ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا يَزِيدُ وَزْنُهُ ، وَاللَّبِنُ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ إنْ خَالَطَ نَجَاسَةً جَامِدَةً كَالرَّوْثِ لَمْ يَطْهُرْ ، وَإِنْ طُبِخَ بِأَنْ صَارَ آجُرًّا لِعَيْنِ النَّجَاسَةِ ، وَإِنْ خَالَطَهُ غَيْرُهَا كَالْبَوْلِ طَهُرَ ظَاهِرُهُ بِالْغَسْلِ ، وَكَذَا بَاطِنُهُ إنْ نُقِعَ فِي الْمَاءِ ، وَلَوْ مَطْبُوخًا إنْ كَانَ رَخْوًا يَصِلُهُ الْمَاءُ كَالْعَجِينِ ، أَوْ مَدْقُوقًا بِحَيْثُ يَصِيرُ تُرَابًا وَلَوْ سُقِيَتْ سِكِّينٌ أَوْ طُبِخَ لَحْمٌ بِمَاءٍ نَجِسٍ كَفَى غَسْلُهُمَا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى سَقْيِ السِّكِّينِ وَإِغْلَاءِ اللَّحْمِ بِالْمَاءِ وَلَا إلَى عَصْرِهِ عَلَى الْأَصَحِّ ، فَإِنْ قِيلَ : لِمَ اكْتَفَى بِغَسْلِ ظَاهِرِ السِّكِّينِ ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ فِي الْآجُرِّ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَكْتَفِ بِالْمَاءِ فِي الْآجُرِّ ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ مُتَأَتٍّ مِنْ غَيْرِ مُلَابَسَةٍ لَهُ فَلَا حَاجَةَ لِلْحُكْمِ بِطَهَارَةِ بَاطِنِهِ مِنْ غَيْرِ إيصَالِ الْمَاءِ إلَيْهِ بِخِلَافِ السِّكِّينِ .
وَيَطْهُرُ الزِّئْبَقُ الْمُتَنَجِّسُ بِغَسْلِ ظَاهِرِهِ إنْ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ تَنَجُّسِهِ وَغَسْلِهِ تَقَطُّعٌ وَإِلَّا لَمْ يَطْهُرْ كَالدُّهْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْمَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَقَطَّعُ عِنْدَ إصَابَةِ النَّجَاسَةِ وَلَا يَنْجُسُ إلَّا بِتَوَسُّطِ رُطُوبَةٍ ؛ لِأَنَّهُ جَافٌّ .
فَلَوْ وَقَعَ فِيهِ فَأْرَةٌ فَمَاتَتْ وَلَا رُطُوبَةَ لَمْ يَنْجُسْ .
قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ : وَيَكْفِي غَسْلُ مَوْضِعِ نَجَاسَةٍ وَقَعَتْ عَلَى ثَوْبٍ وَلَوْ عَقِبَ عَصْرِهِ وَلَا يَجِبُ غَسْلُ جَمِيعِهِ ، وَكَذَا لَوْ صَبَّ مَاءً عَلَى مَكَانِهَا وَانْتَشَرَ حَوْلَهَا فَلَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ مَحَلِّ الِانْتِشَارِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْوَارِدَ عَلَى النَّجَاسَةِ طَهُورٌ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ ، وَلَمْ يَنْفَصِلْ لِقُوَّتِهِ لِكَوْنِهِ فَاعِلًا ، فَإِنْ تَغَيَّرَ تَنَجَّسَ كَمَا مَرَّ ، وَإِذَا كَانَ طَهُورًا فِيمَا ذُكِرَ فَإِذَا أَدَارَهُ فِي الْإِنَاءِ طَهُرَ
وَلَوْ نَجُسَ مَائِعٌ تَعَذَّرَ تَطْهِيرُهُ ، وَقِيلَ يَطْهُرُ الدُّهْنُ بِغَسْلِهِ .
( وَلَوْ نَجُسَ مَائِعٌ ) غَيْرُ الْمَاءِ وَلَوْ دُهْنًا ( تَعَذَّرَ تَطْهِيرُهُ ) إذْ لَا يَأْتِي الْمَاءُ عَلَى كُلِّهِ ؛ لِأَنَّهُ بِطَبْعِهِ يَمْنَعُ إصَابَةَ الْمَاءِ ( وَقِيلَ يَطْهُرُ الدُّهْنُ بِغَسْلِهِ ) قِيَاسًا عَلَى الثَّوْبِ النَّجِسِ .
وَكَيْفِيَّةُ تَطْهِيرِهِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ أَنْ يَصُبَّ الْمَاءَ عَلَيْهِ وَيُكَاثِرَهُ ثُمَّ يُحَرِّكَهُ بِخَشَبَةٍ وَنَحْوِهَا بِحَيْثُ يَظُنُّ وُصُولَهُ لِجَمِيعِهِ ثُمَّ يُتْرَكَ لِيَعْلُوَ ثُمَّ يَثْقُبُ أَسْفَلَهُ ، فَإِذَا خَرَجَ الْمَاءُ سُدَّ .
قَالَ فِي الْكِفَايَةِ : وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا تَنَجَّسَ الدُّهْنُ بِمَا لَا دُهْنِيَّةَ فِيهِ كَالْبَوْلِ ، فَإِنْ تَنَجَّسَ بِمَا لَهُ دُهْنِيَّةٌ كَوَدَكِ الْمَيْتَةِ بِلَا خِلَافٍ ، وَدَلِيلُ الْأَوَّلِ خَبَرُ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ ، فَقَالَ : إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا ، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ } ( 1 ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْخَطَّابِيِّ " فَأَرِيقُوهُ " فَلَوْ أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ شَرْعًا لَمْ يَقُلْ فِيهِ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ، وَالْجَامِدُ هُوَ الَّذِي إذَا أُخِذَ مِنْهُ قِطْعَةٌ لَا يَتَرَادُّ مِنْ الْبَاقِي مَا يَمْلَأَ مَحَلَّهَا عَنْ قُرْبٍ ، وَالْمَائِعُ بِخِلَافِهِ ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ .
خَاتِمَةٌ : يُنْدَبُ أَنْ يَغْسِلَ غَسْلَتَيْنِ بَعْدَ الْغَسْلَةِ الْمُزِيلَةِ لِعَيْنِ النَّجَاسَةِ لِتُكْمَلَ الثَّلَاثُ ، فَإِنَّ الْمُزِيلَةَ لِلنَّجَاسَةِ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ كَمَا مَرَّ فِي غَسَلَاتِ الْكَلْبِ لِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّكِّ فِي النَّجَاسَةِ فِي حَدِيثِ " إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ " فَعِنْدَ تَحَقُّقِهَا أَوْلَى ، وَشَمِلَ ذَلِكَ الْمُغَلَّظَةَ ، وَبِهِ صَرَّحَ صَاحِبُ الشَّامِلِ الصَّغِيرِ فَيُنْدَبُ مَرَّتَانِ بَعْدَ طُهْرِهَا .
وَقَالَ الْجِيلِيُّ فِي بَحْرِ الْفَتَاوَى فِي نَشْرِ الْحَاوِي : لَا يُنْدَبُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُكَبَّرَ لَا يُكَبَّرُ كَمَا أَنَّ الْمُصَغَّرَ لَا يُصَغَّرُ : أَيْ فَتُثَلَّثُ النَّجَاسَةُ الْمُخَفَّفَةُ دُونَ
الْمُغَلَّظَةِ ، وَهَذَا أَوْجَهُ ، وَعُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا يُشْتَرَطُ فِي إزَالَتِهَا نِيَّةٌ بِخِلَافِ طَهَارَةِ الْحَدَثِ ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ ، وَهَذَا مِنْ بَابِ التُّرُوكِ كَتَرْكِ الزِّنَا وَالْغَصْبِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ فِي الصَّوْمِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التُّرُوكِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَقْصُودًا لِقَمِعِ الشَّهْوَةِ وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى اُلْتُحِقَ بِالْفِعْلِ ، وَيَجِبُ أَنْ يُبَادِرَ بِغَسْلِ الْمُتَنَجِّسِ عَاصٍ بِالتَّنْجِيسِ كَأَنْ اسْتَعْمَلَ النَّجَاسَةَ فِي بَدَنِهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ خُرُوجًا مِنْ الْمَعْصِيَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا بِهِ فَلِنَحْوِ الصَّلَاةِ ، وَيُنْدَبُ أَنْ يُعَجِّلَ بِهِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُغَلَّظَةِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ يَنْبَغِي وُجُوبُ الْمُبَادَرَةِ بِالْمُغَلَّظَةِ مُطْلَقًا .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَالْعَاصِي بِالْجَنَابَةِ يُحْتَمَلُ إلْحَاقُهُ بِالْعَاصِي بِالتَّنْجِيسِ وَالْمُتَّجَهُ خِلَافُهُ ؛ لِأَنَّ الَّذِي عَصَى بِهِ هُنَا مُتَلَبِّسٌ بِهِ بِخِلَافِهِ ثَمَّ ، وَإِذَا غَسَلَ فَمَهُ الْمُتَنَجِّسَ فَلْيُبَالِغْ فِي الْغَرْغَرَةِ لِيَغْسِلَ كُلَّ مَا فِي حَدِّ الظَّاهِرِ ، وَلَا يَبْلَعُ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا قَبْلَ غَسْلِهِ لِئَلَّا يَكُونَ آكِلًا لِلنَّجَاسَةِ نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ وَأَقَرَّهُ ، وَيَغْسِلُ مِنْ رَشَاشِ غَسَلَاتِ الْكُلِّيَّةِ سِتًّا إنْ أَصَابَتْهُ فِي الْأُولَى وَإِلَّا فَبِالْبَاقِي مِنْ السَّبْعِ ، وَالْمُرَادُ بِغَسَلَاتِ النَّجَاسَةِ مَا اُسْتُعْمِلَ فِي وَاجِبِ الْإِزَالَةِ .
أَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَنْدُوبِهَا فَطَهُورٌ ، وَمَا غُسِلَ بِهِ نَجَاسَةٌ مَعْفُوٌّ عَنْهَا كَقَلِيلِ الدَّمِ فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ النَّقِيبِ إنَّهُ كَغُسَالَةِ الْوَاجِبِ .
بَابُ التَّيَمُّمِ يَتَيَمَّمُ الْمُحْدِثُ وَالْجُنُبُ لِأَسْبَابٍ : أَحَدُهَا : فَقْدُ الْمَاءِ فَإِنْ تَيَقَّنَ الْمُسَافِرُ فَقْدَهُ تَيَمَّمَ بِلَا طَلَبٍ ، وَإِنْ تَوَهَّمَهُ طَلَبَهُ مِنْ رَحْلِهِ وَرُفْقَتِهِ ، وَنَظَرَ حَوَالَيْهِ إنْ كَانَ بِمُسْتَوٍ ، فَإِنْ احْتَاجَ إلَى تَرَدُّدٍ تَرَدَّدَ قَدْرَ نَظَرِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تَيَمَّمَ فَلَوْ مَكَثَ مَوْضِعَهُ فَالْأَصَحُّ وُجُوبُ الطَّلَبِ لِمَا يَطْرَأُ .
( بَابُ التَّيَمُّمِ ) هُوَ لُغَةً : الْقَصْدُ يُقَالُ : تَيَمَّمْتُ فُلَانًا وَيَمَّمَتْهُ وَتَأَمَّمْتُهُ وَأَمَمْتُهُ : أَيْ قَصَدْتُهُ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } وَقَوْلُ الشَّاعِرِ : [ الْوَافِرُ ] فَمَا أَدْرِي إذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي أَأَلْخَيْرُ الَّذِي أَنَا أَبْتَغِيهِ أَمْ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي وَشَرْعًا : إيصَالُ التُّرَابِ إلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بَدَلًا عَنْ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ أَوْ عُضْوٍ مِنْهُمَا بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ ، وَخُصَّتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةُ ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ فُرِضَ سَنَةَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ ، وَهُوَ رُخْصَةٌ ، وَقِيلَ عَزِيمَةٌ ، وَبِهِ جَزَمَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ قَالَ : وَالرُّخْصَةُ إنَّمَا هِيَ إسْقَاطُ الْقَضَاءِ ، وَقِيلَ إنْ تَيَمَّمَ لِفَقْدِ الْمَاءِ فَعَزِيمَةٌ أَوْ لِعُذْرٍ فَرُخْصَةٌ ، وَمَنْ فَوَائِدِ الْخِلَافِ مَا لَوْ تَيَمَّمَ فِي سَفَرِ مَعْصِيَةٍ لِفَقْدِ الْمَاءِ ، فَإِنْ قُلْنَا : رُخْصَةٌ وَجَبَ الْقَضَاءُ ، وَإِلَّا فَلَا قَالَهُ فِي الْكِفَايَةِ .
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَدَثُ أَكْبَرَ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } أَيْ تُرَابًا طَهُورًا ، وَقِيلَ تُرَابًا حَلَالًا ، وَخَبَرُ مُسْلِمٍ { جُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا } ( 1 ) وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَخْبَارِ الْآتِي بَعْضُهَا فِي الْبَابِ ( يَتَيَمَّمُ الْمُحْدِثُ وَالْجُنُبُ ) وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ وَمَنْ وَلَدَتْ وَلَدًا جَافًّا ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى ثُمَّ رَأَى رَجُلًا مُعْتَزِلًا لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ ، فَقَالَ : يَا فُلَانُ ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ ؟ ، فَقَالَ : أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ ، فَقَالَ : عَلَيْك بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ } ( 2 ) وَفِيهِمَا عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ : { أَجْنَبْتُ
فَلَمْ أَجِدْ الْمَاءَ فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ : إنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً ، ثُمَّ نَفَضَهُمَا ، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ } ( 3 ) قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَمَعْنَى تَمَعَّكْتُ تَدَلَّكْتُ ، وَفِي رِوَايَةٍ تَمَرَّغْتُ ، وَهُوَ بِمَعْنَى تَدَلَّكْت ا هـ .
قَالَ شَيْخُنَا : وَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ تَمَعَّكْتُ بِتَمَرَّغْت إذْ هُوَ مَعْنَاهُ لُغَةً ، وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ " فَتَمَرَّغْت فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ " وَخَرَجَ بِالْمُحْدِثِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ الْمُتَنَجِّسُ فَلَا يَتَيَمَّمُ لِلنَّجَاسَةِ ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ رُخْصَةٌ فَلَا يَتَجَاوَزُ مَحَلَّ وُرُودِهَا ، وَلَوْ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْمُحْدِثِ كَمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي الْحَاوِي لَكَانَ أَوْلَى لِيَشْمَلَ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ .
قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ : وَقَدْ يُقَالُ : ذِكْرُهُ الْجُنُبَ بَعْدَ الْمُحْدِثِ مِنْ عَطْفِ الْأَخَصِّ عَلَى الْأَعَمِّ ا هـ .
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَمَحَلُّ النَّصِّ وَإِلَّا فَالْمَأْمُورُ بِغُسْلٍ مَسْنُونٍ كَغُسْلِ جُمُعَةٍ وَعِيدٍ يَتَيَمَّمُ أَيْضًا كَمَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَالْقِيَاسُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِوُضُوءٍ مَسْنُونٍ يَتَيَمَّمُ أَيْضًا كَمَا فِي نَظِيرِهِ مِنْ الْغُسْلِ وَكَذَا الْمَيِّتُ يَتَيَمَّمُ كَمَا سَيَأْتِي ( لِأَسْبَابٍ ) جَمْعُ سَبَبٍ يَعْنِي لِوَاحِدٍ مِنْ أَسْبَابٍ .
وَالسَّبَبُ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى غَيْرِهِ ، وَالْمُبِيحُ لِلتَّيَمُّمِ فِي الْحَقِيقَةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ، وَلِلْعَجْزِ أَسْبَابٌ ، وَلَوْ عَبَّرَ بِمَا قَدَّرْتُهُ كَانَ أَوْلَى لَكِنَّ هَذَا ظَاهِرٌ ، وَلَكِنِّي ذَكَرْتُهُ تَشْحِينًا لِلذِّهْنِ ( أَحَدُهَا : فَقْدُ الْمَاءِ ) حِسًّا أَوْ شَرْعًا لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ ، فَمِنْ الْفَقْدِ الشَّرْعِيِّ خَوْفُ طَرِيقِهِ إلَى الْمَاءِ أَوْ
بُعْدُهُ عَنْهُ أَوْ الِاحْتِيَاجُ إلَى ثَمَنِهِ كَمَا سَيَأْتِي أَوْ وَجَدَ مَاءً مُسَبَّلًا لِلشُّرْبِ حَتَّى قَالُوا : إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكْتَحِلَ مِنْهُ بِقَطْرَةٍ وَلَا أَنْ يَجْعَلَ مِنْهُ فِي دَوَاةٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَحْ إلَّا لِشَيْءٍ مَخْصُوصٍ كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ بِتُرَابِ غَيْرِهِ .
قَالَ الدَّمِيرِيُّ : وَهُوَ مُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنَّهُ إذَا مَرَّ بِأَرَاضِي الْقُرَى الْمَوْقُوفَةِ أَوْ الْمَمْلُوكَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ بِتُرَابِهَا ، وَفِيهِ بُعْدٌ ، وَالْمُسَامَحَةُ بِذَلِكَ مَجْزُومٌ بِهَا عُرْفًا ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَشُكَّ فِي جَوَازِهِ بِهَا ا هـ .
وَهَذَا مِنْ الْحَلَالِ الْمُسْتَفَادِ بِقَرِينَةِ الْحَالِ ، فَقَدْ قَالَ الْأَصْحَابُ : إنَّهُ يَجُوزُ الْمُرُورُ بِمِلْكِ غَيْرِهِ إذَا لَمْ يَصِرْ طَرِيقًا لِلنَّاسِ ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي الصُّلْحِ - تَحْرِيرُ ذَلِكَ ( فَإِنْ تَيَقَّنَ الْمُسَافِرُ ) أَوْ الْمُقِيمُ فَالتَّعْبِيرُ بِالْمُسَافِرِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ ( فَقْدَهُ ) أَيْ الْمَاءِ حَوْلَهُ ( تَيَمَّمَ بِلَا طَلَبٍ ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَيَجُوزُ إسْكَانُهَا ؛ لِأَنَّ طَلَبَ مَا عُلِمَ عَدَمُهُ عَبَثٌ كَمَا إذَا كَانَ فِي بَعْضِ رِمَالِ الْبَوَادِي ، وَقِيلَ : لَا بُدَّ مِنْ الطَّلَبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ لَمْ يَطْلُبْ لَمْ يَجِدْ ( وَإِنْ تَوَهَّمَهُ ) قَالَ الشَّارِحُ : أَيْ وَقَعَ فِي وَهْمِهِ : أَيْ ذِهْنِهِ : أَيْ جُوِّزَ ذَلِكَ ا هـ .
يَعْنِي تَجْوِيزًا رَاجِحًا وَهُوَ الظَّنُّ ، أَوْ مَرْجُوحًا وَهُوَ الْوَهْمُ ، أَوْ مُسْتَوِيًا وَهُوَ الشَّكُّ ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْوَهْمِ هُنَا الثَّانِي ، بَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يُطْلَبُ عِنْدَ الشَّكِّ وَالظَّنِّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَإِنَّمَا حَوَّلَ الشَّارِعُ ذَلِكَ لِيُصَيِّرَهُ مَنْطُوقًا ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ كَبِيرُ أَمْرٍ ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا } [ الْإِسْرَاءُ ] وَيُفْهَمُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ الضَّرْبِ وَنَحْوِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ( طَلَبَهُ ) بَعْدَ دُخُولِ
الْوَقْتِ وُجُوبًا مِمَّا تَوَهَّمَهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ ضَرُورَةٌ وَلَا ضَرُورَةَ مَعَ الْإِمْكَانِ وَلَهُ طَلَبُهُ بِوَكِيلِهِ الْمَوْثُوقِ بِهِ حَتَّى لَوْ أَرْسَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا ثِقَةً يَطْلُبُ لَهُمْ كَفَاهُمْ ، وَلَوْ أَذِنَ قَبْلَ الْوَقْتِ لِيَطْلُبَ لَهُ بَعْدَ الْوَقْتِ كَفَى أَيْضًا ، وَلَوْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ أَنَّ الْمَاءَ بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يَعْتَمِدْهُ ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ مَاءٌ اعْتَمَدَهُ ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ هُوَ الْأَصْلُ بِخِلَافِ الْوِجْدَانِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَمَّا طَلَبُ غَيْرِهِ لَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَوْ بِإِذْنِهِ لِيَطْلُبَ لَهُ قَبْلَ الْوَقْتِ أَوْ أَذِنَ لَهُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَأَطْلَقَ ، فَطَلَبَ لَهُ قَبْلَ الْوَقْتِ أَوْ شَاكًّا فِيهِ لَمْ يَكْفِ جَزْمًا ، فَإِنْ طَلَبَ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْإِطْلَاقِ فِي الْوَقْتِ يَنْبَغِي أَنْ يَكْفِيَ كَنَظِيرِهِ فِي الْمُحْرِمِ يُوَكِّلُ رَجُلًا لِيَعْقِدَ لَهُ النِّكَاحَ ، ثُمَّ رَأَيْتُ شَيْخَنَا نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ ( مِنْ رَحْلِهِ ) بِأَنْ يُفَتِّشَ فِيهِ إنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْعَدَمَ فِيهِ ، وَهُوَ مَنْزِلُ الشَّخْصِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى مَا يَسْتَصْحِبُهُ الشَّخْصُ مِنْ أَثَاثٍ ، وَيُجْمَعُ فِي الْكَثْرَةِ عَلَى رِحَالٍ ، وَفِي الْقِلَّةِ عَلَى أَرْحُلٍ ( وَرُفْقَتِهِ ) بِتَثْلِيثِ الرَّاءِ ؛ سُمُّوا بِذَلِكَ لِارْتِفَاقِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ، وَهُمْ الْجَمَاعَةُ يَنْزِلُونَ جُمْلَةً وَيَرْحَلُونَ جُمْلَةً ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ الْمَنْسُوبُونَ إلَيْهِ ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ بَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يُنَادِيَ نِدَاءً عَامًّا فِيهِمْ بِنَفْسِهِ أَوْ مَأْذُونِهِ كَمَا مَرَّ بِأَنْ يَقُولَ : مَنْ مَعَهُ مَاءٌ يَبِيعُهُ أَوْ يَجُودُ بِهِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ وَيَسْتَوْعِبُهُمْ إذَا كَثُرُوا إلَّا أَنْ يَضِيقَ الْوَقْتُ عَنْ تِلْكَ الصَّلَاةِ ، وَقِيلَ : يَسْتَوْعِبُهُمْ ، وَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ ، وَقِيلَ : إلَّا أَنْ يَضِيقَ الْوَقْتُ عَنْ رَكْعَةٍ ( وَنَظَرَ حَوَالَيْهِ ) مِنْ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ إنْ لَمْ يَجِدْهُ فِيمَا ذُكِرَ إلَى
الْحَدِّ الْآتِي ( إنْ كَانَ بِمُسْتَوٍ ) مِنْ الْأَرْضِ ، وَيَخُصُّ مَوْضِعَ الْخُضْرَةِ وَاجْتِمَاعَ الطُّيُورِ بِمَزِيدِ احْتِيَاطٍ وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ ، وَقِيلَ يَمْشِي قَدْرَ غَلْوَةِ سَهْمٍ .
( فَإِنْ احْتَاجَ إلَى تَرَدُّدٍ ) بِأَنْ كَانَ ثَمَّ وَهْدَةٌ أَوْ جَبَلٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ ( تَرَدَّدَ ) إنْ أَمِنَ نَفْسًا وَمَالًا وَعُضْوًا وَاخْتِصَاصًا مُحْتَرَمَاتٍ وَانْقِطَاعًا عَنْ رُفْقَةٍ وَلَمْ يَضِقْ الْوَقْتُ عَنْ تِلْكَ الصَّلَاةِ إلَى حَدٍّ تُسْمَعُ اسْتِغَاثَتُهُ بِأَنْ يَسْمَعَهَا رُفْقَتُهُ لَوْ اسْتَغَاثَ بِهِمْ مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ تَشَاغُلِهِمْ بِأَشْغَالِهِمْ وَتَفَاوُضِهِمْ فِي أَقْوَالِهِمْ ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ ( قَدْرَ نَظَرِهِ ) أَيْ فِي الْمُسْتَوَى ، وَالشَّرْحِ الصَّغِيرِ بِغَلْوَةِ سَهْمٍ : أَيْ غَايَةَ رَمْيِهِ ، وَهَذَا يُسَمَّى حَدَّ الْغَوْثِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَدُورَ الْحَدُّ الْمَذْكُورُ لِأَنَّ ذَلِكَ أَكْثَرُ ضَرَرًا عَلَيْهِ مِنْ إتْيَانِ الْمَاءِ فِي الْمَوْضِعِ الْبَعِيدِ ، بَلْ الْمُرَادُ أَنْ يَصْعَدَ جَبَلًا أَوْ نَحْوَهُ بِقُرْبِهِ ثُمَّ يَنْظُرَ حَوَالَيْهِ ا هـ .
وَيُقَالُ : حَوْلَيْهِ بِلَا أَلِفٍ وَحَوْلَ وَحَوَالَهُ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُ مَنْ عَبَّرَ بِالتَّرَدُّدِ إلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ سَوَاءٌ أَكَثُرَ الْمَالُ أَمْ قَلَّ أَوْ ضَاقَ وَقْتُ الصَّلَاةِ بِأَنْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ مَا يَسَعُهَا لَمْ يَجِبْ التَّرَدُّدُ لِلضَّرَرِ وَلِلْوَحْشَةِ فِي انْقِطَاعِهِ وَإِخْرَاجِ بَعْضِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا بِخِلَافِ وَاجِدِ الْمَاءِ لَوْ خَافَ فَوَاتَ الْوَقْتِ لَوْ تَوَضَّأَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ وَلَا يَتَيَمَّمُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَاقِدٍ لِلْمَاءِ ( فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ) مَاءً بَعْدَ الْبَحْثِ الْمَذْكُورِ ( تَيَمَّمَ ) لِحُصُولِ الْفَقْدِ وَلَا يَضُرُّ تَأْخِيرُ التَّيَمُّمِ عَنْ الطَّلَبِ إذَا كَانَا فِي الْوَقْتِ وَلَمْ يَحْدُثْ سَبَبٌ يُحْتَمَلُ مَعَهُ وُجُودُ الْمَاءِ ( فَلَوْ ) طَلَبَ كَمَا مَرَّ وَ ( مَكَثَ ) بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا ( مَوْضِعَهُ ) وَلَمْ يَتَيَقَّنْ
الْعَدَمَ وَلَمْ يَحْدُثْ مَا يُحْتَمَلُ مَعَهُ وُجُودُ مَاءٍ ( فَالْأَصَحُّ وُجُوبُ الطَّلَبِ لِمَا يَطْرَأُ ) مِمَّا يُحْوِجُ إلَى تَيَمُّمٍ مُسْتَأْنَفٍ كَحَدَثٍ وَفَرِيضَةٍ أُخْرَى ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَطَّلِعُ عَلَى بِئْرٍ خَفِيَتْ عَلَيْهِ أَوْ يَجِدُ مَنْ يَدُلُّهُ عَلَيْهِ وَقِيَاسًا عَلَى إعَادَةِ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ ، وَلَكِنْ يَكُونُ طَلَبُهُ هَذَا أَخَفَّ مِنْ الْأَوَّلِ .
وَالثَّانِي لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ مَاءٌ لَظَفِرَ بِهِ بِالطَّلَبِ الْأَوَّلِ ، فَلَوْ تَيَقَّنَ الْعَدَمَ فِي مَوْضِعٍ بِالطَّلَبِ وَلَمْ يَحْدُثْ مَا يُحْتَمَلُ مَعَهُ وُجُودُ مَاءٍ لَمْ يَجِبْ الطَّلَبُ مِنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ ، فَإِنْ انْتَقَلَ إلَى مَكَان آخَرَ أَوْ حَدَثَ مَا يُحْتَمَلُ مَعَهُ وُجُودُ مَاءٍ كَطُلُوعِ رَكْبٍ وَإِطْبَاقِ غَمَامَةٍ وَجَبَ الطَّلَبُ قَطْعًا ، وَقَوْلُهُ فَلَوْ مَكَثَ مَوْضِعَهُ مَزِيدٌ عَلَى الْمُحَرَّرِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ
فَلَوْ عَلِمَ مَاءً يَصِلُهُ الْمُسَافِرُ لِحَاجَتِهِ وَجَبَ قَصْدُهُ إنْ لَمْ يَخَفْ ضَرَرَ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ ، فَإِنْ كَانَ فَوْقَ ذَلِكَ تَيَمَّمَ .
( فَلَوْ عَلِمَ ) مُسَافِرٌ بِمَحَلٍّ ( مَاءً ) فِي حَدِّ الْقُرْبِ وَهُوَ مَا ( يَصِلُهُ الْمُسَافِرُ لِحَاجَتِهِ ) كَاحْتِطَابٍ وَاحْتِشَاشٍ مَعَ اعْتِبَارِ الْوَسَطِ الْمُعْتَدِلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوُعُورَةِ وَالسُّهُولَةِ وَالصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ وَهَذَا فَوْقَ حَدِّ الْغَوْثِ الَّذِي يَقْصِدُهُ عِنْدَ التَّوَهُّمِ .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى : لَعَلَّهُ يَقْرُبُ مِنْ نِصْفِ فَرْسَخٍ ( وَجَبَ قَصْدُهُ ) أَيْ طَلَبُهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَسْعَى إلَيْهِ لِأَشْغَالِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَلِلْعِبَادَةِ أَوْلَى هَذَا ( إنْ لَمْ يَخَفْ ضَرَرَ نَفْسٍ ) أَوْ عُضْوٍ ( أَوْ مَالٍ ) لَا يَجِبُ بَذْلُهُ فِي تَحْصِيلِ الْمَاءِ ثَمَنًا أَوْ أُجْرَةً أَوْ انْقِطَاعَهُ عَنْ رُفْقَةٍ يَتَضَرَّرُ بِتَخَلُّفِهِ عَنْهُمْ ، وَكَذَا إنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ عَلَى الْأَصَحِّ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْوَحْشَةِ أَوْ خُرُوجِ الْوَقْتِ ( فَإِنْ ) خَافَ مَا ذُكِرَ أَوْ ( كَانَ ) الْمَاءُ بِمَحَلٍّ ( فَوْقَ ذَلِكَ ) الْمَحَلِّ الْمُتَقَدِّمِ ، وَهَذَا يُسَمَّى حَدَّ الْبَعْدِ ( تَيَمَّمَ ) وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالضَّرَرِ ، وَلَوْ كَانَ فِي سَفِينَةٍ وَخَافَ لَوْ اسْتَقَى مِنْ الْبَحْرِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ ، بِخِلَافِ مَنْ مَعَهُ مَاءٌ وَلَوْ تَوَضَّأَ بِهِ خَرَجَ الْوَقْتُ فَإِنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ كَمَا مَرَّ ، وَخَرَجَ بِالْمَالِ الِاخْتِصَاصَاتُ وَبِمَا لَا يَجِبُ بَذْلُهُ إلَخْ مَا وَجَبَ بَذْلُهُ فَلَا يُمْنَعُ الطَّلَبُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا مَرَّ فِي تَوَهُّمِ الْمَاءِ لِتَيَقُّنِ وُجُودِ الْمَاءِ هُنَا ، وَبِهَذَا جَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ مَا وَقَعَ فِي الْمَجْمُوعِ مِنْ إيجَابِ الطَّلَبِ مَعَ الْخَوْفِ عَلَى الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ فِي مَوْضِعٍ ، وَمِنْ الْمَنْعِ فِي آخَرَ ، وَلَوْ انْتَهَى إلَى الْمَنْزِلِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ ، وَالْمَاءُ فِي حَدِّ الْقُرْبِ ، وَلَوْ قَصَدَهُ خَرَجَ الْوَقْتُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَصْدُهُ خِلَافًا لِلرَّافِعِيِّ فِي وُجُوبِهِ ، أَمَّا الْمُقِيمُ فَلَا يَتَيَمَّمُ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى إلَى الْمَاءِ ، وَإِنْ فَاتَ بِهِ
الْوَقْتُ .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ أَيْ لِتَيَمُّمِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ، فَلَا يَرِدُ جَوَازُ التَّيَمُّمِ لِلْبَرْدِ مَعَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ .
وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ طُولِ الْمَسَافَةِ وَقِصَرِهَا وَهُوَ كَذَلِكَ : أَيْ حَيْثُ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْقُوتِ ، وَأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ فِيهَا إذَا خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ لَوْ سَعَى إلَى الْمَاءِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ مَنُوطٌ بِمَحَلٍّ يَغْلِبُ فِيهِ وُجُودُ الْمَاءِ كَمَا سَيَأْتِي
وَلَوْ تَيَقَّنَهُ آخِرَ الْوَقْتِ فَانْتِظَارُهُ أَفْضَلُ .
( وَلَوْ تَيَقَّنَهُ ) أَيْ وُجُودَ الْمَاءِ ( آخِرَ الْوَقْتِ ) مَعَ جَوَازِ تَيَمُّمِهِ فِي أَثْنَائِهِ ( فَانْتِظَارُهُ أَفْضَلُ ) مِنْ تَعْجِيلِ التَّيَمُّمِ ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ هُوَ الْأَصْلُ وَالْأَكْمَلُ ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ بِهِ وَلَوْ آخِرَ الْوَقْتِ أَفْضَلُ مِنْهَا بِالتَّيَمُّمِ أَوَّلَهُ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَتَيَقَّنَ وُجُودَهُ فِي مَنْزِلِهِ أَيْ بِأَنْ يَأْتِيَ لَهُ الْمَاءُ وَهُوَ فِيهِ أَوْ لَا خِلَافًا لِلْمَاوَرْدِيِّ فِي وُجُوبِ التَّأْخِيرِ فِيمَا إذَا تَيَقَّنَ وُجُودَهُ فِي مَنْزِلٍ .
وَقَدْ يَكُونُ التَّعْجِيلُ أَفْضَلَ لِعَوَارِضَ كَأَنْ كَانَ يُصَلِّي أَوَّلَ الْوَقْتِ بِسُتْرَةٍ ، وَلَوْ أَخَّرَ لَمْ يُصَلِّ بِهَا ، أَوْ كَانَ يُصَلِّي فِي أَوَّلِهِ فِي جَمَاعَةٍ وَلَوْ أَخَّرَ صَلَّى مُنْفَرِدًا أَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَلَوْ أَخَّرَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ ، فَالتَّعْجِيلُ بِالتَّيَمُّمِ فِي ذَلِكَ أَفْضَلُ .
أَوْ ظَنَّهُ فَتَعْجِيلُ التَّيَمُّمِ أَفْضَلُ فِي الْأَظْهَرِ .
فَإِنْ شَكَّ فِي وُجُودِهِ آخِرَ الْوَقْتِ ( أَوْ ظَنَّهُ ) بِأَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ وُجُودُهُ آخِرَهُ ( فَتَعْجِيلُ التَّيَمُّمِ أَفْضَلُ ) عَلَى الْمَذْهَبِ فِي الْأَوْلَى ، وَ ( فِي الْأَظْهَرِ ) فِي الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّ فَضِيلَةَ التَّقْدِيمِ مُحَقَّقَةٌ بِخِلَافِ فَضِيلَةِ الْوُضُوءِ .
وَالثَّانِي : التَّأْخِيرُ أَفْضَلُ لِمَا مَرَّ ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا اقْتَصَرَ عَلَى صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ ، فَإِنْ صَلَّى أَوَّلَ الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ وَبِالْوُضُوءِ فِي أَثْنَائِهِ فَهُوَ النِّهَايَةُ فِي إحْرَازِ الْفَضِيلَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ لَا تُسْتَحَبُّ إعَادَتُهَا بِالْوُضُوءِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَحَلَّهُ فِيمَنْ لَا يَرْجُو الْمَاءَ بَعْدُ بِقَرِينَةِ سِيَاقِ كَلَامِهِمْ ، أَمَّا إذَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ الْفَقْدُ أَوْ تَيَقَّنَهُ آخِرَ الْوَقْتِ فَالتَّعْجِيلُ أَفْضَلُ جَزْمًا .
وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ مَا لَوْ صَلَّى أَوَّلَ الْوَقْتِ مُنْفَرِدًا ، وَآخِرَ الْوَقْتِ فِي جَمَاعَةٍ .
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ : يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إنْ فَحُشَ التَّأْخِيرُ فَالتَّقْدِيمُ أَفْضَلُ ، وَإِنْ خَفَّ فَالتَّأْخِيرُ أَفْضَلُ ا هـ .
وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ ، وَلِلْمُسَافِرِ الْقَصْرُ وَإِنْ تَيَقَّنَ الْإِقَامَةَ آخِرَ الْوَقْتِ لِوُجُودِ السَّبَبِ حِينَ الْفِعْلِ .
وَلَا يَنْتَظِرُ مُزَاحِمٌ عَلَى بِئْرٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَقِيَ مِنْهَا إلَّا وَاحِدٌ وَاحِدٌ ، وَقَدْ تَنَاوَبَهَا جَمْعٌ ، أَوْ ثَوْبٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَلْبَسهُ إلَّا وَاحِدٌ وَاحِدٌ ، وَقَدْ تَنَاوَبَهُ عُرَاةٌ ، أَوْ مَقَامٌ لَا يَسَعُ إلَّا قَائِمًا وَاحِدًا ، وَقَدْ تَنَاوَبَهُ جَمْعٌ لِلصَّلَاةِ فِيهِ ، وَعُلِمَ أَنَّ نَوْبَتُهُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ ، بَلْ يُصَلِّي فِيهِ مُتَيَمِّمًا أَوْ عَارِيًّا أَوْ قَاعِدًا وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لِعَجْزِهِ فِي الْحَالِ ، وَجِنْسُ عُذْرِهِ غَيْرُ نَادِرٍ ، وَيَنْتَظِرُ نَوْبَتَهُ إذَا تَوَقَّعَ انْتِهَاءَهَا إلَيْهِ فِي الْوَقْتِ
وَإِدْرَاكُ الْجَمَاعَةِ أَوْلَى مِنْ تَثْلِيثِ الْوُضُوءِ وَسَائِرِ آدَابِهِ ، فَإِذَا خَافَ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ بِسَلَامِ الْإِمَامِ لَوْ أَكْمَلَ الْوُضُوءَ بِآدَابِهِ ، فَإِدْرَاكُهَا أَوْلَى مِنْ إكْمَالِهِ ، وَإِدْرَاكُ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ لَا غَيْرِهَا مِنْ الرَّكَعَاتِ أَوْلَى مِنْ إدْرَاكِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِالذَّهَابِ إلَيْهِ حَتَّى تَفُوتَهُ الرَّكْعَةُ الْأَخِيرَةُ لِأَنَّهُ لَا يُدْرِكُ الْجَمَاعَةَ حِينَئِذٍ اتِّفَاقًا ، وَلَوْ ضَاقَ الْوَقْتُ أَوْ الْمَاءُ عَنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ وَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى فَرَائِضِهِ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ ، وَلَا يَلْزَمُ الْبَدْوِيَّ النَّقْلَةُ لِلتَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ عَنْ التَّيَمُّمِ
وَلَوْ وَجَدَ مَاءً لَا يَكْفِيهِ فَالْأَظْهَرُ وُجُوبُ اسْتِعْمَالِهِ ، وَيَكُونُ قَبْلَ التَّيَمُّمِ .
( وَلَوْ وَجَدَ مَاءً ) صَالِحًا لِلْغُسْلِ ( لَا يَكْفِيهِ فَالْأَظْهَرُ وُجُوبُ اسْتِعْمَالِهِ ) فِي بَعْضِ أَعْضَائِهِ مُرَتَّبًا إنْ كَانَ حَدَثُهُ أَصْغَرَ ، أَوْ مُطْلَقًا إنْ كَانَ غَيْرَهُ كَمَا يَفْعَلُ مَنْ يَغْسِلُ كُلَّ بَدَنِهِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَلِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى غَسْلِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ وُجُوبُهُ بِالْعَجْزِ عَنْ الْبَاقِي كَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مَعْدُومًا أَوْ جَرِيحًا .
وَالثَّانِي يَقْتَصِرُ عَلَى التَّيَمُّمِ كَمَا لَوْ وَجَدَ بَعْضَ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعْتَاقُهُ وَيَعْدِلُ إلَى الصَّوْمِ ، وَفُرِّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ بَعْضَ الرَّقَبَةِ لَا يُسَمَّى رَقَبَةً ، وَبَعْضَ الْمَاءِ يُسَمَّى مَاءً ، ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْمَاءَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَجِدَ مَا يُسَمَّى مَاءً ( وَيَكُونُ ) اسْتِعْمَالُهُ ( قَبْلَ التَّيَمُّمِ ) عَنْ الْبَاقِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } وَهَذَا وَاجِدٌ مَاءً ، أَمَّا إذَا لَمْ يَجِدْ تُرَابًا فَالْأَظْهَرُ الْقَطْعُ بِاسْتِعْمَالِهِ .
أَمَّا مَا لَا يَصْلُحُ لِلْغُسْلِ كَثَلْجٍ أَوْ بَرَدٍ لَا يَذُوبُ فَالْأَصَحُّ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ مَسْحُ الرَّأْسِ بِهِ ، إذْ لَا يُمْكِنُ هَهُنَا تَقْدِيمُ مَسْحِ الرَّأْسِ ، فَتَقْرَأُ مَاءً فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ مَهْمُوزَةً مُنَوَّنَةً لَا مَوْصُولَةً لِئَلَّا يَرِدَ عَلَيْهِ ذَلِكَ .
وَلَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا تُرَابًا لَا يَكْفِيهِ ، فَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِوُجُوبِ اسْتِعْمَالِهِ ، وَمَنْ بِهِ نَجَاسَةٌ وَوَجَدَ مَا يَغْسِلُ بِهِ بَعْضَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْ وَجَدَ مَاءً وَعَلَيْهِ حَدَثٌ أَصْغَرُ أَوْ أَكْبَرُ ، وَعَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ ، وَلَا يَكْفِي إلَّا لِأَحَدِهِمَا تَعَيَّنَ لِلنَّجَاسَةِ لِأَنَّ إزَالَتَهَا لَا بَدَلَ لَهَا ، بِخِلَافِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ .
وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الرَّوْضَةِ ، وَأَفْتَى بِهِ الْبَغَوِيّ .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ : مَحَلُّ تَعْيِينِهِ لَهَا فِي الْمُسَافِرِ .
أَمَّا الْمُقِيمُ فَلَا ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْإِعَادَةِ ، لَكِنَّ النَّجَاسَةَ أَوْلَى ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ الْمُصَنِّفُ فِي تَحْقِيقِهِ وَمَجْمُوعِهِ ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ ، وَيَجِبُ غَسْلُ النَّجَاسَةِ قَبْلَ التَّيَمُّمِ ، فَلَوْ تَيَمَّمَ قَبْلَ إزَالَتِهَا لَمْ يَصِحَّ كَمَا صَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَالتَّحْقِيقِ فِي بَابِ الِاسْتِنْجَاءِ ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لِلْإِبَاحَةِ وَلَا إبَاحَةَ مَعَ الْمَانِعِ فَأَشْبَهَ التَّيَمُّمَ قَبْلَ الْوَقْتِ ، وَصَحَّحَ فِي الرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ هُنَا الْجَوَازَ ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ فَإِنَّهُ هُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْأُمِّ كَمَا فِي الشَّامِلِ وَالْبَيَانِ وَالذَّخَائِرِ وَالْأَقْيَسُ كَمَا فِي الْبَحْرِ
وَيَجِبُ شِرَاؤُهُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ إلَّا أَنْ يَحْتَاجَ إلَيْهِ لِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ ، أَوْ مُؤْنَةِ سَفَرِهِ ، أَوْ نَفَقَةِ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ .
( وَيَجِبُ ) فِي الْوَقْتِ ( شِرَاؤُهُ ) أَيْ الْمَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكْفِهِ ، وَكَذَا التُّرَابُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَّاطِيُّ ( 1 ) ( بِثَمَنِ مِثْلِهِ ) وَهُوَ عَلَى الْأَصَحِّ مَا تَنْتَهِي إلَيْهِ الرَّغَبَاتُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَالْأَقْرَبُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ الْحَالَةُ الَّتِي يَنْتَهِي فِيهَا الْأَمْرُ إلَى سَدِّ الرَّمَقِ ، فَإِنَّ الشَّرْبَةَ قَدْ تُشْتَرَى حِينَئِذٍ بِدَنَانِيرَ : أَيْ وَيَبْعُدُ فِي الرُّخْصِ إيجَابُ ذَلِكَ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَهُوَ الْحَقُّ ، وَقِيلَ : يُعْتَبَرُ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ ، وَقِيلَ : يُعْتَبَرُ بِقَدْرِ أُجْرَةِ نَقْلِهِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ الشَّخْصُ .
هَذَا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ بِنَقْدٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شِرَاؤُهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ قَلَّتْ ، لَكِنْ إنْ بِيعَ فِيهِ لِأَجَلٍ بِزِيَادَةٍ لَائِقَةٍ بِذَلِكَ الْأَجَلِ وَكَانَ مُوسِرًا وَالْأَجَلُ مُمْتَدٌّ إلَى مَوْضِعِ مَالِهِ وَجَبَ الشِّرَاءُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ ، وَيُنْدَبُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ إذَا زَادَ عَلَى ثَمَنِ مِثْلِهِ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ ، وَآلَاتُ الِاسْتِقَاءِ كَالدَّلْوِ وَالرَّشَّاشِ إذَا بِيعَتْ أَوْ أُجِّرَتْ يَجِبُ تَحْصِيلُهَا إذَا لَمْ تَزِدْ عَنْ ثَمَنِ مِثْلِهَا فِي الْبَيْعِ وَأُجْرَةُ مِثْلِهَا فِي الْإِجَارَةِ ( إلَّا أَنْ يَحْتَاجَ إلَيْهِ ) أَيْ الثَّمَنِ ( لِدَيْنٍ ) عَلَيْهِ وَلَوْ مُؤَجَّلًا كَمَا قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ .
وَقَوْلُهُ : ( مُسْتَغْرِقٍ ) لَا حَاجَةَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَا يَفْضُلُ عَنْ الدَّيْنِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فِيهِ وَلَكِنَّهُ ذَكَرَهُ زِيَادَةَ إيضَاحٍ ( أَوْ مُؤْنَةِ سَفَرِهِ ) مُبَاحًا كَانَ أَوْ طَاعَةً ذَهَابًا وَإِيَابًا ، وَالْمُؤْنَةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ ( أَوْ نَفَقَةِ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ ) سَوَاءٌ أَكَانَ آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَهُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَحْتَاجَهُ فِي الْحَالِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَا بَيْنَ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَمْلُوكٍ وَزَوْجَةٍ وَرَقِيقٍ وَنَحْوِهِمْ مِمَّا يَخَافُ
انْقِطَاعَهُمْ إنْ لَمْ يَكُونُوا مَعَهُ ، وَكَالنَّفَقَةِ سَائِرُ الْمُؤَنِ حَتَّى الْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ كَمَا صَرَّحَ بِهِمَا ابْنُ كَجٍّ فِي التَّجْرِيدِ ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ كَمَا مَرَّ ، إذْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ دَيْنِ غَيْرِهِ ، وَدَخَلَ فِي نَفَقَةِ الْحَيَوَانِ نَفْسُهُ وَرَقِيقُهُ وَدَوَابُّهُ سَوَاءٌ فِيهِ الْكَافِرُ وَالْمُسْلِمُ ، وَخَرَجَ بِالْمُحْتَرَمِ الْحَرْبِيُّ وَالْمُرْتَدُّ وَالزَّانِي الْمُحْصَنُ ، وَتَارِكُ الصَّلَاةِ ، وَالْكَلْبُ الَّذِي لَا نَفْعَ فِيهِ ، وَوَقَعَ لِلْمُصَنِّفِ فِيهِ - إذَا لَمْ يَكُنْ عَقُورًا - تَنَاقُضٌ .
قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ قَتْلِهِ ، فَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي فِي الْأَطْعِمَةِ ، وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - هُنَاكَ .
فُرُوعٌ : لَوْ احْتَاجَ وَاجِدُ ثَمَنِ الْمَاءِ إلَى شِرَاءِ سُتْرَةٍ لِلصَّلَاةِ قَدَّمَهَا لِدَوَامِ النَّفْعِ بِهَا ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْعَطَشِ وَيَحْتَاجُ إلَى ثَمَنِهِ فِي شَيْءٍ مِمَّا سَبَقَ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ، وَلَوْ وَجَدَ ثَوْبًا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ الْمَاءِ بِشَدِّهِ فِي الدَّلْوِ ، وَلَوْ مَعَ شَقِّهِ أَوْ بِإِدْلَائِهِ فِي الْبِئْرِ وَعَصْرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَجَبَ إنْ لَمْ يَزِدْ نُقْصَانُهُ عَلَى الْأَكْثَرِ مِنْ ثَمَنِ الْمَاءِ وَأُجْرَةِ مِثْلِ الْحَبْلِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلَوْ عَدِمَ الْمَاءَ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ حَفَرَ مَحَلَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ بِحَفْرٍ قَرِيبٍ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ وَجَبَ الْحَفْرُ وَإِلَّا فَلَا .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَلَوْ كَانَ مَالِكُهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمَنْزِلِ الثَّانِي ، وَثَمَّ مَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ فَهَلْ يُقَدَّمُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّهُ الْمَالِكُ أَوْ الثَّانِي لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِ فِي الْحَالِ ؟ وَجْهَانِ ، وَالرَّاجِحُ الثَّانِي كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي فِي الْأَطْعِمَةِ ا هـ .
وَهَلْ تُذْبَحُ قَهْرًا شَاةُ الْغَيْرِ الَّتِي لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهَا لِكَلْبِهِ الْمُحْتَرَمِ الْمُحْتَاجِ إلَى الْإِطْعَامِ ؟ وَجْهَانِ .
نُقِلَ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْقَاضِي هُنَا أَحَدُهُمَا ، وَعَلَى نَقْلِهِ عَنْ الْقَاضِي اقْتَصَرَ فِي الْأَطْعِمَةِ ، نَعَمْ كَالْمَاءِ فَيَلْزَمُ مَالِكَهَا بَذْلُهَا لَهُ .
وَالثَّانِي لَا ؛ لِأَنَّ لِلشَّاةِ حُرْمَةً ؛ لِأَنَّهَا ذَاتُ رُوحٍ ، وَالْأَوْجَهُ الْأَوَّلُ
وَلَوْ وُهِبَ لَهُ مَاءٌ أَوْ أُعِيرَ دَلْوٌ وَجَبَ الْقَبُولُ فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَوْ وُهِبَ لَهُ مَاءٌ ) أَوْ أَقْرَضَهُ ( أَوْ أُعِيرَ دَلْوٌ ) أَوْ نَحْوُهُ مِنْ آلَاتِ الِاسْتِقَاءِ فِي الْوَقْتِ ( وَجَبَ ) عَلَيْهِ ( الْقَبُولُ فِي الْأَصَحِّ ) إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ تَحْصِيلُهَا بِشِرَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسَامَحَةَ بِذَلِكَ غَالِبَةٌ فَلَا تَعْظُمُ فِيهِ الْمِنَّةُ ، فَلَوْ خَالَفَ وَصَلَّى مُتَيَمِّمًا أَثِمَ ، وَلَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِتَلَفٍ أَوْ غَيْرِهِ حَالَةَ تَيَمُّمِهِ فَلَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ .
وَالثَّانِي : لَا يَجِبُ قَبُولُ الْمَاءِ لِلْمِنَّةِ كَالثَّمَنِ وَلَا قَبُولُ الْعَارِيَّةِ إذَا زَادَتْ قِيمَةُ الْمُسْتَعَارِ عَلَى ثَمَنِ الْمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتْلَفُ أَيْ فِي غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ فَيَضْمَنُ زِيَادَةً عَلَى ثَمَنِ الْمَاءِ ، أَمَّا تَلَفُهُ فِي الْمَأْذُونِ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ فِيهِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَجِبُ عَلَيْهِ سُؤَالُ الْهِبَةِ وَالْعَارِيَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ إذَا لَمْ يَحْتَجْ وَاهِبُ الْمَاءِ وَالْمُعِيرُ إلَيْهِ وَضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ طَلَبِ الْمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُعَدُّ وَاجِدًا لِلْمَاءِ وَلَا تَعْظُمُ فِيهِ الْمِنَّةُ ، وَبِهَذَا فَارَقَ عَدَمَ وُجُوبِ اتِّهَابِ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ ، فَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهِ الْوَاهِبُ لِعَطَشٍ حَالًا أَوْ مَآلًا وَلِغَيْرِهِ حَالًا ، أَوْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ لَمْ يَجِبْ اتِّهَابُهُ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُمْ ، وَنَقَلَهُ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ وَأَقَرَّهُ .
وَفِي الْمَجْمُوعِ : أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى مَالِكِ الْمَاءِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بَذْلُهُ لِطَهَارَةِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ قَرْضٍ فِي الْأَصَحِّ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ وَجَبَ عَلَيْهِ قَبُولُ قَرْضِ الْمَاءِ ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَبُولُ ثَمَنِهِ وَهُوَ مُوسِرٌ بِهِ بِمَالِ غَائِبٍ كَمَا سَيَأْتِي .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يُطَالَبُ بِالْمَاءِ عِنْدَ الْوَجْدَانِ ، وَحِينَئِذٍ يَهُونُ الْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ كَذَا وَجَّهَهُ الرَّافِعِيُّ .
فَإِنْ قِيلَ : إنْ أُرِيدَ وِجْدَانُ الْمَاءِ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَتْلَفَ الْمَاءَ فِي
مَفَازَةٍ وَلَقِيَهُ بِبَلَدٍ أَنَّ الْوَاجِبَ قِيمَتُهُ فِي الْمَفَازَةِ ، وَإِنْ أُرِيدَ قِيمَتُهُ فَقِيمَتُهُ وَثَمَنُهُ الَّذِي يُقْرِضُهُ إيَّاهُ سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى فَإِذَنْ لَا فَرْقَ .
أُجِيبَ بِأَنَّا إنَّمَا أَوْجَبْنَا عَلَى الْمُتْلِفِ ذَلِكَ لِتَعَدِّيهِ .
وَأَمَّا الْمُقْتَرِضُ فَلَمْ يَأْخُذَهُ إلَّا بِرِضًا مِنْ مَالِكِهِ ، فَيَرُدُّ مِثْلَهُ مُطْلَقًا ، سَوَاءٌ أَرَادَ فِي الْبَلَدِ أَمْ فِي الْمَفَازَةِ وَفَاءً بِقَاعِدَةِ الْقَرْضِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ رَدُّ الْمِثْلِ ، وَلِهَذَا يَقُولُ فِي عَقْدِ الْقَرْضِ : أَقْرَضْتُكَ هَذَا أَوْ خُذْهُ بِمِثْلِهِ ، وَالْمَالِكُ قَدْ دَخَلَ عَلَى ذَلِكَ وَوَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ ، وَمَعَ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ فَلَا يَغْلُظُ عَلَى الْمُقْتَرِضِ فِيمَا هُوَ عَقْدُ إرْفَاقٍ ، وَأَيْضًا لَوْ قُلْنَا : إنَّهُ يَلْزَمُ الْمُقْتَرِضَ رَدُّ الْقِيمَةِ حَيْثُ تَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ الْمِثْلِ لَدَخَلَ ذَلِكَ فِي نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْقَرْضِ الَّذِي يَجُرُّ مَنْفَعَةً
وَلَوْ وُهِبَ ثَمَنُهُ فَلَا ، وَلَوْ نَسِيَهُ فِي رَحْلِهِ أَوْ أَضَلَّهُ فِيهِ فَلَمْ يَجِدْهُ بَعْدَ الطَّلَبِ فَتَيَمَّمَ قَضَى فِي الْأَظْهَرِ .
( وَلَوْ وُهِبَ ثَمَنُهُ ) أَيْ الْمَاءِ ، أَوْ ثَمَنُ آلَةِ الِاسْتِقَاءِ ، أَوْ أُقْرِضَ ثَمَنَ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِمَالٍ غَائِبٍ ( فَلَا ) يَجِبُ قَبُولُهُ بِالْإِجْمَاعِ لِعِظَمِ الْمِنَّةِ وَلَوْ مِنْ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ ( وَلَوْ نَسِيَهُ ) أَيْ الْمَاءَ ( فِي رَحْلِهِ أَوْ أَضَلَّهُ فِيهِ فَلَمْ يَجِدْهُ بَعْدَ ) إمْعَانُ ( الطَّلَبِ ) وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فَقْدُهُ ، هَذَا تَفْسِيرُ إضْلَالِهِ ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ لَا يُقَالُ فِيهِ ذَلِكَ ، وَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فَقْدُهُ ( فَتَيَمَّمَ ) فِي الْحَالَيْنِ وَصَلَّى ثُمَّ تَذَكَّرَهُ فِي النِّسْيَانِ وَوَجَدَهُ فِي الْإِضْلَالِ ( قَضَى فِي الْأَظْهَرِ ) لِأَنَّهُ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى وَاجِدٌ لِلْمَاءِ وَلَكِنَّهُ قَصَّرَ فِي الْوُقُوفِ عَلَيْهِ فَيَقْضِي كَمَا لَوْ نَسِيَ سَتْرَ الْعَوْرَةِ .
وَفِي الثَّانِيَةِ عُذْرٌ نَادِرٌ لَا يَدُومُ .
وَالثَّانِي : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ فِي الْأُولَى عُذْرٌ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَالَ بَيْنَهُمَا سَبُعٌ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّطْ فِي الثَّانِيَةِ فِي الطَّلَبِ ، وَلَوْ نَسِيَ ثَمَنَ الْمَاءِ أَوْ بِئْرًا أَوْ آلَةَ الِاسْتِقَاءِ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ
وَلَوْ أَضَلَّ رَحْلَهُ فِي رِحَالٍ فَلَا يَقْضِي .
( وَلَوْ أَضَلَّ رَحْلَهُ فِي رِحَالٍ ) بِسَبَبِ ظُلْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ وَجَدَهُ ، وَفِيهِ الْمَاءُ فَإِنْ لَمْ يُمْعِنْ فِي الطَّلَبِ قَضَى لِتَقْصِيرِهِ ، وَإِنْ أَمْعَنَ فِيهِ ( فَلَا يَقْضِي ) إذْ لَا مَاءَ مَعَهُ حَالَ التَّيَمُّمِ ، وَفَارَقَ إضْلَالَهُ فِي رَحْلِهِ بِأَنَّ مُخَيَّمَ الرُّفْقَةِ أَوْسَعُ غَالِبًا مِنْ مُخَيَّمِهِ فَلَا يُعَدُّ مُقَصِّرًا ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا : إنَّ مُخَيَّمَهُ إنْ اتَّسَعَ كَمَا فِي مُخَيَّمِ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ يَكُونُ كَمُخَيَّمِ الرُّفْقَةِ ، وَلَوْ أَدْرَجَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِبِئْرٍ خَفِيَّةٍ هُنَاكَ فَلَا إعَادَةَ ، وَكَانَ الْأَوْلَى تَأْخِيرَ هَاتِينِ الْمَسْأَلَتَيْنِ إلَى آخِرِ الْبَابِ عِنْدَ ذِكْرِهِ مَا يُقْضَى مِنْ الصَّلَاةِ ، فَإِنَّ الْكَلَامَ الْآنَ فِي الْأَسْبَابِ الْمُبِيحَةِ ، وَلَوْ تَيَمَّمَ لِإِضْلَالِهِ عَنْ الْقَافِلَةِ ، أَوْ عَنْ الْمَاءِ ، أَوْ لِغَصْبِ مَائِهِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ
.
فُرُوعٌ : لَوْ أَتْلَفَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ لِغَرَضٍ كَتَبَرُّدٍ وَتَنَظُّفٍ وَتَحَيُّرِ مُجْتَهِدٍ لَمْ يَعْصِ لِلْعُذْرِ ، أَوْ أَتْلَفَهُ عَبَثًا فِي الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ عَصَى لِتَفْرِيطِهِ بِإِتْلَافِ مَا تَعَيَّنَ لِلطَّهَارَةِ ، وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ إذَا تَيَمَّمَ فِي الْحَالَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ تَيَمَّمَ وَهُوَ فَاقِدٌ لِلْمَاءِ .
أَمَّا إذَا أَتْلَفَهُ قَبْلَ الْوَقْتِ فَلَا يَعْصِي مِنْ حَيْثُ إتْلَافُ مَاءِ الطَّهَارَةِ ، وَإِنْ كَانَ يَعْصِي مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إضَاعَةُ مَالٍ وَلَا إعَادَةَ أَيْضًا لِمَا مَرَّ ، وَلَوْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ فِي الْوَقْتِ بِلَا حَاجَةٍ لَهُ وَلَا لِلْمُشْتَرِي أَوْ الْمُتَّهِبِ كَعَطَشٍ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِهِ شَرْعًا لِتَعَيُّنِهِ لِلطُّهْرِ ، وَبِهَذَا فَارَقَ صِحَّةَ هِبَةِ مَنْ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ أَوْ دُيُونٌ فَوَهَبَ مَا يَمْلِكُهُ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ فَلَا يَصِحُّ تَيَمُّمُهُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ لِبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ اسْتِرْدَادِهِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى وَقَضَى تِلْكَ الصَّلَاةَ الَّتِي فُوِّتَ الْمَاءُ فِي وَقْتِهَا لِتَقْصِيرِهِ دُونَ مَا سِوَاهَا ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْمَاءَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا ، وَلَا يَقْضِي تِلْكَ الصَّلَاةَ بِتَيَمُّمٍ فِي الْوَقْتِ بَلْ يُؤَخِّرُ الْقَضَاءَ إلَى وُجُودِ الْمَاءِ أَوْ حَالَةَ يَسْقُطُ الْفَرْضُ فِيهَا بِالتَّيَمُّمِ ، وَلَوْ تَلِفَ الْمَاءُ فِي يَدِ الْمُتَّهِبِ أَوَالْمُشْتَرِي ثُمَّ تَيَمَّمَ وَصَلَّى لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لِمَا سَلَفَ ، وَيَضْمَنُ الْمَاءَ الْمُشْتَرِي دُونَ الْمُتَّهِبِ ؛ لِأَنَّ فَاسِدَ كُلِّ عَقْدٍ كَصَحِيحِهِ فِي الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ ، وَلَوْ مَرَّ بِمَاءٍ فِي الْوَقْتِ وَبَعُدَ عَنْهُ بِحَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ طَلَبُهُ ، ثُمَّ تَيَمَّمَ وَصَلَّى أَجْزَأَهُ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ .
وَلَوْ عَطِشُوا وَلِمَيِّتٍ مَاءٌ شَرِبُوهُ وَيَمَّمُوهُ وَضَمِنُوهُ لِلْوَارِثِ بِقِيمَتِهِ لَا بِمِثْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا إذَا كَانُوا بِبَرِيَّةٍ لِلْمَاءِ فِيهَا قِيمَةٌ ثُمَّ رَجَعُوا إلَى وَطَنِهِمْ وَلَا قِيمَةَ لَهُ فِيهِ ، وَأَرَادَ الْوَارِثُ تَغْرِيمَهُمْ إذْ لَوْ رَدُّوا الْمَاءَ لَكَانَ إسْقَاطًا لِلضَّمَانِ ، فَإِنْ فَرَضَ الْغُرْمَ بِمَكَانَ الشُّرْبِ أَوْ مَكَان آخَرَ لِلْمَاءِ فِيهِ قِيمَةٌ وَلَوْ دُونَ قِيمَتِهِ بِمَكَانِ الشُّرْبِ أَوْ زَمَانِهِ غَرِمَ مِثْلَهُ كَسَائِرِ الْمِثْلِيَّاتِ ،
وَلَوْ أَوْصَى بِصَرْفِ مَاءٍ لِأَوْلَى النَّاسِ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْعَطْشَانِ الْمُحْتَرَمِ حِفْظًا لِمُهْجَتِهِ ، ثُمَّ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خَاتِمَةُ أَمْرِهِ ، فَإِنْ مَاتَ اثْنَانِ وَوُجِدَ الْمَاءُ قَبْلَ مَوْتِهِمَا قُدِّمَ الْأَوَّلُ لِسَبْقِهِ ، فَإِنْ مَاتَا مَعًا أَوْ جُهِلَ السَّابِقُ أَوْ وُجِدَ الْمَاءُ بَعْدَهُمَا قُدِّمَ الْأَفْضَلُ لِأَفْضَلِيَّتِهِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ بِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى الرَّحْمَةِ لَا بِالْحُرِّيَّةِ وَالنَّسَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَإِنْ اسْتَوَيَا أَقُرِعَ بَيْنَهُمَا وَلَا يُشْتَرَطُ قَبُولُ الْوَارِثِ لَهُ كَالْكَفَنِ الْمُتَطَوَّعِ بِهِ ثُمَّ الْمُتَنَجِّسِ ؛ لِأَنَّ طُهْرَهُ لَا بَدَلَ لَهُ ثُمَّ الْحَائِضِ أَوْ النُّفَسَاءِ لِعَدَمِ خُلُوِّهِمَا عَنْ النَّجِسِ غَالِبًا وَلِغِلَظِ حَدَثِهِمَا ، فَإِنْ اجْتَمَعَا قُدِّمَ أَفْضَلُهُمَا ، فَإِنْ اسْتَوَيَا أَقُرِعَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ الْجُنُبِ ؛ لِأَنَّ حَدَثَهُ أَغْلَظُ مِنْ حَدَثِ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ ، نَعَمْ إنْ كَفَى الْمُحْدِثَ دُونَهُ فَالْمُحْدِثُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يَرْتَفِعُ بِهِ حَدَثُهُ بِكَمَالِهِ دُونَ الْجُنُبِ ، فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا فَرَّقَ فِي النَّجَاسَةِ بَيْنَ الْمُغَلَّظَةِ وَغَيْرِهَا فَيُقَدَّمُ مَنْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ مُغَلَّظَةٌ عَلَى غَيْرِهَا كَمَا تُقَدَّمُ الْحَائِضُ عَلَى الْجُنُبِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَانِعَ النَّجَاسَةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ ، وَمَانِعُ الْحَيْضِ يَزِيدُ عَلَى مَانِعِ الْجَنَابَةِ
الثَّانِي : أَنْ يُحْتَاجَ إلَيْهِ لِعَطَشِ مُحْتَرَمٍ وَلَوْ مَآلًا .
( الثَّانِي ) مِنْ أَسْبَابِ التَّيَمُّمِ ( أَنْ يُحْتَاجَ ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ ( إلَيْهِ ) أَيْ الْمَاءِ ( لِعَطَشِ ) حَيَوَانٍ ( مُحْتَرَمٍ ) مِنْ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ ( وَلَوْ ) كَانَتْ حَاجَتُهُ لِذَلِكَ ( مَآلًا ) أَيْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ صَوْنًا لِلرُّوحِ أَوْ غَيْرِهَا عَنْ التَّلَفِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا بَدَلَ لَهُ ، بِخِلَافِ طَهَارَةِ الْحَدَثِ ، وَالْعَطَشُ الْمُبِيحُ لِلتَّيَمُّمِ مُعْتَبَرٌ بِالْخَوْفِ الْمُعْتَبَرِ فِي السَّبَبِ الْآتِي فَيَجِبُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَنْ يَتَيَمَّمَ مَعَ وُجُودِهِ ، وَلَوْ تَزَوَّدُوا لِلْمَاءِ وَسَارُوا عَلَى الْعَادَةِ ، وَلَمْ يَمُتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَجَبَ الْقَضَاءُ كَمَا فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيّ ، لَا إنْ مَاتَ مِنْهُمْ مَنْ لَوْ بَقِيَ لَمْ يَفْضُلْ مِنْ الْمَاءِ شَيْءٌ ، وَلَا إنْ جَدُّوا فِي السَّيْرِ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ بِحَيْثُ لَوْ مَشَوْا عَلَى الْعَادَةِ لَمْ يَفْضُلْ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْمَاءَ فِي الطَّهَارَةِ ثُمَّ يَشْرَبَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ النَّفْسَ تَعَافَهُ ، وَلَا أَنْ يَشْرَبَ الْمُسْتَعْمَلَ النَّجِسَ مِنْ الْمَاءَيْنِ وَيَتَطَهَّرَ بِالطَّاهِرِ ، بَلْ لَا يَجُوزُ لَهُ شُرْبُ النَّجِسِ كَمَا صَحَّحَهُ فِي الْمَجْمُوعِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ ، بِخِلَافِ الدَّابَّةِ ، فَإِنَّهُ يُكَلَّفُ لَهَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَعَافُهُ ، وَخَرَجَ بِالْمُحْتَرَمِ غَيْرُهُ كَمَا مَرَّ .
قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ فِي فَتَاوِيهِ : قَوْلُ الْفُقَهَاءِ : إنَّ حَاجَةَ الْعَطَشِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْوُضُوءِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثَالًا ، وَيُلْحَقُ بِهِ حَاجَةُ الْبَدَنِ لِغَيْرِ الشُّرْبِ كَالِاحْتِيَاجِ لِلْمَاءِ لِعَجْنِ دَقِيقٍ وَلَتِّ سُوَيْقٍ وَطَبْخِ طَعَامٍ بِلَحْمٍ وَغَيْرِهِ ا هـ .
وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ وَلَا يَدَّخِرُهُ أَيْ الْمَاءَ لِطَبْخٍ وَبَلِّ كَعْكٍ وَفَتِيتٍ ا هـ .
وَيَجِبُ أَنْ يُقَدِّمَ شِرَاءَ الْمَاءِ لِعَطَشِ بَهِيمَتِهِ الْمُحْتَرَمَةِ عَلَى شِرَائِهِ لِطُهْرِهِ وَإِنْ وَجَدَ مَنْ يَبِيعُهُ الْمَاءَ لِعَطَشِ بَهِيمَتِهِ لَزِمَهُ شِرَاؤُهُ ، فَلَوْ امْتَنَعَ الْبَائِعُ
مِنْ بَيْعِهِ إلَّا بِزِيَادَةٍ عَلَى الْقِيمَةِ فَاشْتَرَاهُ الْعَطْشَانُ كَارِهًا لَزِمَهُ الزَّائِدُ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَلِلْعَطْشَانِ أَخْذُهُ مِنْ مَالِكِهِ قَهْرًا إنْ امْتَنَعَ مِنْ بَذْلِهِ بَيْعًا وَغَيْرَهُ لَا أَخْذُهُ مِنْ مَالِكٍ عَطْشَانَ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ أَحَقُّ بِبَقَاءِ مُهْجَتِهِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَإِذَا عَطِشَ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ وَمَعَهُ مَاءٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ حَتَّى يَتُوبَ
الثَّالِثُ : مَرَضٌ يَخَافُ مَعَهُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى مَنْفَعَةِ عُضْوٍ وَكَذَا بُطْءُ الْبُرْءِ أَوْ الشَّيْنُ الْفَاحِشُ فِي عُضْوٍ ظَاهِرٍ فِي الْأَظْهَرِ ، وَشِدَّةُ الْبَرْدِ كَمَرَضٍ وَإِذَا امْتَنَعَ اسْتِعْمَالُهُ فِي عُضْوٍ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَاتِرٌ وَجَبَ التَّيَمُّمُ ، وَكَذَا غَسْلُ الصَّحِيحِ عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَلَا تَرْتِيبَ بَيْنَهُمَا لِلْجُنُبِ ، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَالْأَصَحُّ اشْتِرَاطُ التَّيَمُّمِ وَقْتَ غَسْلِ الْعَلِيلِ ، فَإِنْ جُرِحَ عُضْوَاهُ فَتَيَمُّمَانِ .
( الثَّالِثُ ) مِنْ أَسْبَابِ التَّيَمُّمِ ( مَرَضٌ يَخَافُ مَعَهُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ ) أَيْ الْمَاءِ ( عَلَى مَنْفَعَةِ عُضْوٍ ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا أَنْ تَذْهَبَ كَالْعَمَى وَالْخَرَسِ ، أَوْ تَنْقُصَ : كَضَعْفِ الْبَصَرِ أَوْ الشَّمِّ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى } الْآيَةَ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَزَلَتْ فِي الْمَرِيضِ يَتَأَذَّى بِالْوُضُوءِ ، وَفِي الرَّجُلِ إذَا كَانَتْ بِهِ جِرَاحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ الْقُرُوحِ وَالْجُدَرِيِّ فَيَجْنُبُ فَيَخَافُ إنْ اغْتَسَلَ أَنْ يَمُوتَ فَيَتَيَمَّمُ ، إسْنَادُهُ حَسَنٌ ، وَالْأَصَحُّ وَقْفُهُ عَلَيْهِ ، وَفُهِمَ مِنْ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ خَوْفَ فَوْتِ النَّفْسِ وَالْعُضْوِ كَذَلِكَ مِنْ بَابِ أَوْلَى ، وَصَرَّحَ بِهِمَا فِي الْمُحَرَّرِ ، وَلَوْ كَانَ مَرَضُهُ يَسِيرًا أَوْ لَمْ يَكُنْ بِهِ مَرَضٌ فَخَافَ حُدُوثَ مَرَضٍ مَخُوفٍ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ تَيَمَّمَ عَلَى الْمَذْهَبِ ، أَوْ يَخَافُ شِدَّةُ الضَّنَا .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : هَذَا إنْ لَمْ يَعْصِ بِالْمَرَضِ ، فَإِنْ عَصَى بِهِ لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ حَتَّى يَتُوبَ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ " مَرَضٌ " لَيْسَ وُجُودُ الْمَرَضِ شَرْطًا ، بَلْ الشَّرْطُ أَنْ يَخَافَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مَا ذُكِرَ كَمَا تَقَرَّرَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْخَوْفَ إنَّمَا يَحْصُلُ مَعَ الْمَرَضِ ، وَمَعَ هَذَا لَوْ قَالَ أَنْ يَخَافَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ ، كَذَا كَانَ أَوْلَى ( وَكَذَا بُطْءُ الْبُرْءِ ) بِفَتْحِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا : أَيْ طُولَ مُدَّتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَزِدْ الْأَلَمُ ، وَكَذَا زِيَادَةُ الْعِلَّةِ : وَهُوَ إفْرَاطُ الْأَلَمِ وَكَثْرَةُ الْمِقْدَارِ ، وَإِنْ لَمْ تَطُلْ الْمُدَّةُ ( أَوْ الشَّيْنُ الْفَاحِشُ ) كَسَوَادٍ كَثِيرٍ ( فِي عُضْوٍ ظَاهِرٍ فِي الْأَظْهَرِ ) فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ فَوْقَ ثَمَنِ الْمِثْلِ ، وَلِأَنَّهُ يُشَوِّهُ الْخِلْقَةَ وَيُدَوِّمُ ضَرَرَهُ ، وَالْمُرَادُ بِالظَّاهِرِ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ مَا يَبْدُو عِنْدَ الْمِهْنَةِ غَالِبًا كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ .
وَقِيلَ : مَا لَا يُعَدُّ كَشْفُهُ هَتْكًا لِلْمُرُوءَةِ .
وَقِيلَ مَا عَدَا
الْعَوْرَةَ .
وَالشَّيْنُ : الْأَثَرُ الْمُسْتَكْرَهُ مِنْ تَغَيُّرِ لَوْنٍ وَنُحُولٍ وَاسْتِحْشَافٍ وَثُغْرَةٍ تَبْقَى وَلَحْمَةٍ تَزِيدُ : قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي أَثْنَاءِ الدِّيَاتِ .
وَالثَّانِي لَا يَتَيَمَّمُ لِذَلِكَ لِانْتِفَاءِ التَّلَفِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا تَفْسِيرُ الْمَرَضِ فِي الْآيَةِ بِاَلَّذِي يُخَافُ مَعَهُ التَّلَفُ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ إنَّمَا يَتَيَمَّمُ إنْ أَخْبَرَهُ بِكَوْنِهِ يَحْصُلُ مِنْهُ ذَلِكَ وَبِكَوْنِهِ مَخُوفًا فِيمَا تَقَدَّمَ طَبِيبٌ مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ ، وَلَوْ عَبْدًا أَوْ امْرَأَةً أَوْ عَرَفَ هُوَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ ، وَإِلَّا فَلَا يَتَيَمَّمُ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي التَّحْقِيقِ ، وَنَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ السِّنْجِيِّ ( 1 ) وَأَقَرَّهُ ، هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَجَزَمَ الْبَغَوِيّ بِأَنَّهُ يَتَيَمَّمُ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَيَدُلُّ لَهُ مَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي الْأَطْعِمَةِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُضْطَرَّ إذَا خَافَ مِنْ الطَّعَامِ الْمُحْضَرِ إلَيْهِ أَنَّهُ مَسْمُومٌ جَازَ لَهُ تَرْكُهُ وَالِانْتِقَالُ إلَى الْمَيْتَةِ ا هـ .
وَفَرَّقَ شَيْخِي بِأَنَّ ذِمَّتَهُ هُنَا اشْتَغَلَتْ بِالطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ فَلَا تَبْرَأُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَا كَذَلِكَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ ، وَخَرَجَ بِالْفَاحِشِ الْيَسِيرُ كَقَلِيلِ سَوَادٍ أَوْ أَثَرِ جُدَرِيٍّ ، وَبِالظَّاهِرِ الْفَاحِشُ فِي الْبَاطِنِ فَلَا أَثَرَ لِخَوْفِ ذَلِكَ .
وَاسْتَشْكَلَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّ الْمُتَطَهِّرَ قَدْ يَكُونُ رَقِيقًا فَتَنْقُصُ قِيمَتُهُ نَقْصًا فَاحِشًا فَكَيْفَ لَا يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ مَعَ إبَاحَتِهِ فِيمَا لَوْ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِ الْمَاءِ إلَّا بِزِيَادَةٍ يَسِيرَةٍ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ حُرًّا فَإِنَّ الْفَلَسَ مَثَلًا أَهْوَنُ عَلَى النُّفُوسِ مِنْ أَثَرِ الْجُدَرِيِّ عَلَى الْوَجْهِ وَمِنْ الشَّيْنِ الْفَاحِشِ فِي الْبَاطِنِ لَا سِيَّمَا الشَّابَّةُ الْمَقْصُودَةُ لِلِاسْتِمْتَاعِ .
.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْخُسْرَانَ فِي الزِّيَادَةِ مُحَقَّقٌ بِخِلَافِهِ فِي نَقْصِ الرَّقِيقِ ، وَلِذَا وَجَبَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ
الْمُشَمَّسِ إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ يَخْشَى مِنْهُ الْبَرَصَ ؛ لِأَنَّ حُصُولَ الْبَرَصِ غَيْرُ مُحَقَّقٌ وَبِأَنَّ تَفْوِيتَ الْمَاءِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ إذَا كَانَ سَبَبُهُ تَحْصِيلَ الْمَاءِ لَا اسْتِعْمَالَهُ وَلَا لِأَثَرِ نَقْصِ الثَّوْبِ بِبَلِّهِ بِالِاسْتِعْمَالِ وَلَا قَائِلَ بِهِ .
وَأَمَّا الشَّيْنُ فَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ إذَا كَانَ سَبَبُهُ الِاسْتِعْمَالَ ، وَالضَّرَرُ الْمُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَوْقَ الضَّرَرِ الْمُعْتَبَرِ فِي التَّحْصِيلِ ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ لَوْ خَافَ خُرُوجَ الْوَقْتِ بِطَلَبِ الْمَاءِ تَيَمَّمَ ، وَلَوْ خَافَ خُرُوجَهُ بِالِاسْتِعْمَالِ لَا يَتَيَمَّمُ ( وَشِدَّةُ الْبَرْدِ ) فِي إبَاحَةِ التَّيَمُّمِ ( كَمَرَضٍ ) إذَا خِيفَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَعْجُوزِ عَنْ تَسْخِينِهِ أَوْ عَمَّا يُدَثِّرُ بِهِ الْأَعْضَاءَ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهِ مَا تَقَدَّمَ ؛ { لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ تَيَمَّمَ عَنْ جَنَابَةٍ لِخَوْفِ الْهَلَاكِ مِنْ الْبَرْدِ وَأَقَرَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ } ( 1 ) .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ ( وَإِذَا امْتَنَعَ اسْتِعْمَالُهُ ) أَيْ الْمَاءِ وُجُوبُهُ ( فِي عُضْوٍ ) مِنْ مَحَلِّ الطَّهَارَةِ لِنَحْوِ مَرَضٍ أَوْ جُرْحٍ ( إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَاتِرٌ وَجَبَ التَّيَمُّمُ ) جَزْمًا لِئَلَّا يَبْقَى مَوْضِعُ الْعِلَّةِ بِلَا طَهَارَةٍ فَيُمِرُّ التُّرَابَ مَا أَمْكَنَ عَلَى مَوْضِعِ الْعِلَّةِ إنْ كَانَ بِمَحَلِّ التَّيَمُّمِ ، وَعُرِّفَ التَّيَمُّمُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ إشَارَةً لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّهُ يُمِرُّ التُّرَابَ عَلَى الْمَحَلِّ الْمَعْجُوزِ عَنْهُ ( وَكَذَا ) يَجِبُ ( غَسْلُ الصَّحِيحِ ) بِقَدْرِ الْإِمْكَانَ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي رِوَايَةٍ لَهُمَا { أَنَّهُ غَسَلَ مَعَاطِفَهُ وَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ } .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : مَعْنَاهُ أَنَّهُ غَسَلَ مَا أَمْكَنَهُ وَتَوَضَّأَ وَتَيَمَّمَ لِلْبَاقِي ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي فِي وُجُوبِ غَسْلِهِ الْقَوْلَانِ
فِيمَنْ وَجَدَ مِنْ الْمَاءِ مَا لَا يَكْفِيهِ ، ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَذَكَرَ فِي الدَّقَائِقِ أَنَّهُ عَدَلَ عَنْ قَوْلِ الْمُحَرَّرِ وَغَسَلَ الصَّحِيحَ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ إلَى مَا فِي الْمِنْهَاجِ ؛ لِأَنَّهُ الصَّوَابُ ، فَإِنَّ التَّيَمُّمَ وَاجِبٌ قَطْعًا ، زَادَ فِي الرَّوْضَةِ لِئَلَّا يَبْقَى مَوْضِعَ الْكَسْرِ بِلَا طُهْرٍ .
وَقَالَ : لَمْ أَرَ خِلَافًا فِي وُجُوبِ التَّيَمُّمِ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَيَتَلَطَّفُ فِي غَسْلِ الصَّحِيحِ الْمُجَاوِرِ لِلْعَلِيلِ فَيُوضَعُ خِرْقَةٌ مَبْلُولَةٌ بِقُرْبِهِ وَيَتَحَامَلُ عَلَيْهَا لِيَغْسِلَ بِالْمُتَقَاطِرِ مِنْهَا مَا حَوَالَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسِيلَ إلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ اسْتَعَانَ وَلَوْ بِأُجْرَةٍ ، فَإِنَّ تَعَذَّرَ فَفِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ يَقْضِي ، وَفُهِمَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَسْحُ مَوْضِعِ الْعِلَّةِ بِالْمَاءِ وَإِنْ لَمْ يَخَفْ مِنْهُ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْأَئِمَّةِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إنَّمَا هُوَ الْغَسْلُ .
قَالَ : وَفِيهِ نَصٌّ بِالْوُجُوبِ ا هـ .
فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَحَبَّ لِذَلِكَ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَضْعُ سَاتِرٍ عَلَى الْعَلِيلِ لِيَمْسَحَ عَلَى السَّاتِرِ ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ رُخْصَةٌ فَلَا يَلِيقُ بِهَا وُجُوبُ ذَلِكَ ( وَلَا تَرْتِيبَ بَيْنَهُمَا ) أَيْ التَّيَمُّمِ وَغَسْلِ الصَّحِيحِ ( لِلْجُنُبِ ) وَنَحْوِهِ كَالْحَائِضِ ، وَكَذَا الْأَغْسَالُ الْمَسْنُونَةُ ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَنْ غَسْلِ الْعَلِيلِ وَالْمُبْدَلُ لَا يَجِبُ فِيهِ التَّرْتِيبُ ، فَكَذَا بَدَلُهُ ، وَلَوْ قَالَ : لَا تَرْتِيبَ بَيْنَهُمَا لِلْمُغْتَسَلِ لَشَمَلَ مَا قَدَّرْتُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا وَجَبَ تَقْدِيمُ غَسْلِ الصَّحِيحِ كَوُجُودِ مَا لَا يَكْفِيهِ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْعَاجِزَ هُنَاكَ أُبِيحَ لَهُ التَّيَمُّمُ لِفَقْدِ الْمَاءِ فَلَا يَجُوزُ مَعَ وُجُودِهِ ، وَهُنَا أُبِيحَ لِلْعِلَّةِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ ، بَلْ النَّصُّ هَهُنَا أَنْ يُنْدَبَ أَنْ يَبْدَأَ بِالتَّيَمُّمِ لِيُزِيلَ الْمَاءُ أَثَرَ التُّرَابِ ( فَإِنْ كَانَ ) مَنْ بِهِ الْعِلَّةُ ( مُحْدِثًا ) حَدَثًا
أَصْغَرَ ( فَالْأَصَحُّ اشْتِرَاطُ التَّيَمُّمِ وَقْتَ غَسْلِ الْعَلِيلِ ) أَيْ الْعُضْوِ الْعَلِيلِ لِاعْتِبَارِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْ الْعُضْوِ الْمَعْلُولِ إلَّا بَعْدَ كَمَالِ طَهَارَتِهِ أَصْلًا وَبَدَلًا ، وَيُقَدِّمُ مَا شَاءَ مِنْ الْغَسْلِ وَالتَّيَمُّمِ فِي الْعُضْوِ الْوَاحِدِ ، وَيُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ التَّيَمُّمِ عَلَى غَسْلِهِ هُنَا أَيْضًا كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ .
وَالثَّانِي : يَجِبُ تَقْدِيمُ غَسْلِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا لِمَا مَرَّ فِي الْجُنُبِ .
وَالثَّالِثُ : يَتَخَيَّرُ كَالْجُنُبِ ( فَإِنْ جُرِحَ عُضْوَاهُ ) أَيْ الْمُحْدِثِ أَوْ اُمْتُنِعَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِيهِمَا لِغَيْرِ جِرَاحَةٍ ( فَتَيَمُّمَانِ ) يَجِبَانِ بِنَاءً عَلَى الْأَصَحِّ ، وَهُوَ اشْتِرَاطُ التَّيَمُّمِ وَقْتَ غَسْلِ الْعَلِيلِ لِتَعَدُّدِ الْعَلِيلِ ، وَكُلٌّ مِنْ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ كَوُضُوءٍ وَاحِدٍ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدَةٍ كَعُضْوٍ ، فَإِنْ كَانَ فِي أَعْضَائِهِ الْأَرْبَعَةِ جِرَاحَةٌ ، وَلَمْ تَعُمَّهَا فَلَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثِ تَيَمُّمَاتٍ : الْأَوَّلُ لِلْوَجْهِ .
وَالثَّانِي : لِلْيَدَيْنِ .
وَالثَّالِثُ : لِلرِّجْلَيْنِ ، وَالرَّأْسُ يَكْفِي فِيهِ مَسْحُ مَا قَلَّ مِنْهُ كَمَا مَرَّ ، فَإِنْ عَمَّتْ الرَّأْسَ فَأَرْبَعَةٌ ، وَإِنْ عَمَّتْ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا فَتَيَمُّمٌ وَاحِدٌ عَنْ الْجَمِيعِ لِسُقُوطِ التَّرْتِيبِ بِسُقُوطِ الْغَسْلِ قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ .
فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَتْ الْجِرَاحَةُ فِي وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ وَغَسَلَ صَحِيحَ الْوَجْهِ أَوَّلًا جَازَ تَوَالِي تَيَمُّمَيْهِمَا فَلِمَ لَا يَكْفِيهِ تَيَمُّمٌ وَاحِدٌ كَمَنْ عَمَّتْ الْجِرَاحَةُ أَعْضَاءَهُ ؟ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّيَمُّمَ هُنَا فِي طُهْرٍ تَحَتَّمَ فِيهِ التَّرْتِيبُ ، فَلَوْ كَفَاهُ تَيَمُّمٌ وَاحِدٌ حَصَلَ تَطْهِيرُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ عَنْ الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا لِسُقُوطِ التَّرْتِيبِ بِسُقُوطِ الْغَسْلِ ا هـ .
فِيهِ كَلَامٌ ذَكَرْتُهُ مَعَ الْجَوَابِ عَنْهُ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ
أَنَّ الْجِرَاحَ لَوْ عَمَّتْ الْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ كَفَاهُمَا تَيَمُّمٌ وَاحِدٌ ، وَكَذَا لَوْ عَمَّتْهُمَا الرَّأْسُ وَهُوَ ظَاهِرٌ لِسُقُوطِ التَّرْتِيبِ بِسُقُوطِ الْغَسْلِ
فَإِنْ كَانَ كَجَبِيرَةٍ لَا يُمْكِنُ نَزْعُهَا غَسَلَ الصَّحِيحَ وَتَيَمَّمَ كَمَا سَبَقَ ، وَيَجِبُ مَعَ ذَلِكَ مَسْحُ كُلِّ جَبِيرَتِهِ بِمَاءٍ ، وَقِيلَ بَعْضِهَا .
( فَإِنْ كَانَ ) عَلَى الْعُضْوِ الَّذِي امْتَنَعَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِيهِ سَاتِرٌ ( كَجَبِيرَةٍ لَا يُمْكِنُ نَزْعُهَا ) لِخَوْفِ مَحْذُورٍ مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَكَذَا اللَّصُوقُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالشُّقُوقُ الَّتِي فِي الرِّجْلِ إذَا احْتَاجَ إلَى تَقْطِيرِ شَيْءٍ فِيهَا يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ .
وَالْجَبِيرَةُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْجِبَارَةُ بِكَسْرِهَا خَشْبٌ أَوْ قَصَبٌ يُسَوَّى وَيُشَدُّ عَلَى مَوْضِعِ الْكَسْرِ أَوْ الْخَلْعِ لِيَنْجَبِرَ .
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْجَبِيرَةُ مَا كَانَ عَلَى كَسْرٍ ، وَاللَّصُوقُ مَا كَانَ عَلَى جَرْحٍ ، وَمِنْهُ عِصَابَةُ الْفَصْدِ ، وَنَحْوِهَا .
وَلِهَذَا عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِالسَّاتِرِ لِعُمُومِهِ وَمَثَّلَ بِالْجَبِيرَةِ ، وَإِذَا عَسُرَ عَلَيْهِ نَزْعُ مَا ذُكِرَ ( غَسَلَ الصَّحِيحَ ) عَلَى الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ ضَرُورَةٌ فَاعْتُبِرَ الْإِتْيَانُ فِيهَا بِأَقْصَى الْمُمْكِنِ ( وَتَيَمَّمَ ) لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادٍ كُلُّ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ عَنْ جَابِرٍ فِي الْمَشْجُوجِ الَّذِي احْتَلَمَ ، وَاغْتَسَلَ فَدَخَلَ الْمَاءُ شَجَّتَهُ فَمَاتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ عَلَى رَأْسِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ } ( 1 ) ( كَمَا سَبَقَ ) فِي مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فِي الْمُحْدِثِ وَتَعَدُّدِ التَّيَمُّمِ عِنْدَ تَعَدُّدِ الْعِلَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا مَرَّ ، وَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ النَّزْعُ بِلَا خَوْفٍ وَجَبَ ، وَهُوَ كَذَلِكَ قَطْعًا ، وَنُقِلَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ عَدَمُ الْوُجُوبِ ، وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ كَمَا سَبَقَ الْجَزْمُ بِوُجُوبِ التَّيَمُّمِ كَالْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا وَلَيْسَ مُرَادًا فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ صَرَّحَ بِحِكَايَتِهِمَا التَّنْبِيهُ : أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ ( وَيَجِبُ مَعَ ذَلِكَ مَسْحُ كُلِّ جَبِيرَتِهِ ) الَّتِي يَضُرُّ نَزْعُهَا ( بِمَاءٍ ) اسْتِعْمَالًا لِلْمَاءِ مَا أَمْكَنَ بِخِلَافِ التُّرَابِ لَا يَجِبُ مَسْحُهَا بِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي مَحَلِّهِ ؛
لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ ، فَلَا يُؤَثِّرُ مِنْ وَرَاءِ الْحَائِلِ وَلَا يُقَدَّرُ الْمَسْحُ بِمُدَّةٍ ، بَلْ لَهُ الِاسْتِدَامَةُ إلَى الِانْدِمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرَدْ فِيهِ تَوْقِيتٌ وَلِأَنَّ السَّاتِرَ لَا يُنْزَعُ لِلْجَنَابَةِ بِخِلَافِ الْخُفِّ فِيهِمَا ، وَالتَّيَمُّمُ الْمُتَقَدِّمُ بَدَلٌ عَنْ غَسْلِ الْعُضْوِ الْعَلِيلِ ، وَمَسْحُ السَّاتِرِ بَدَلٌ عَنْ غَسْلِ مَا تَحْتَ أَطْرَافِهِ مِنْ الصَّحِيحِ كَمَا فِي التَّحْقِيقِ وَغَيْرِهِ ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ الرَّافِعِيِّ إنَّهُ بَدَلٌ عَمَّا تَحْتَ الْجَبِيرَةِ ، وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ السَّاتِرُ بِقَدْرِ الْعِلَّةِ فَقَطْ أَوْ بِأَزْيَدَ وَغَسَلَ الزَّائِدَ كُلَّهُ لَا يَجِبُ الْمَسْحُ وَهُوَ كَذَلِكَ ، فَإِطْلَاقُهُمْ وُجُوبَ الْمَسْحِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ مِنْ أَنَّ السَّاتِرَ يَأْخُذُ زِيَادَةً عَلَى مَحَلِّ الْعِلَّةِ وَلَا يُغْسَلُ ( وَقِيلَ ) : يَكْفِي مَسْحُ ( بَعْضِهَا ) كَالْخُفِّ وَالرَّأْسِ وَيَمْسَحُ الْجُنُبُ وَنَحْوُهُ مَتَى شَاءَ ، وَالْمُحْدِثُ وَقْتَ غَسْلِ عَلِيلِهِ ، وَيُشْتَرَطُ فِي السَّاتِرِ لِيَكْتَفِيَ بِمَا ذُكِرَ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ الصَّحِيحِ إلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلِاسْتِمْسَاكِ وَلَوْ قَدَرَ عَلَى غَسْلِهِ بِالتَّلَطُّفِ الْمُتَقَدِّمِ وَجَبَ لِخَبَرِ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ أَمَسَّ مَا حَوَالَيْ الْجُرْحِ مَاءً بِلَا إفَاضَةٍ كَمَا فِي التَّحْقِيقِ وَغَيْرِهِ ، وَالْفَصْدُ كَالْجُرْحِ الَّذِي يَخَافُ مِنْ غَسْلِهِ مَا مَرَّ فَيَتَيَمَّمُ لَهُ إنْ خَافَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ وَعِصَابَتَهُ كَاللَّصُوقِ وَلِمَا بَيْنَ حَبَّاتِ الْجُدَرِيِّ حُكْمُ الْعُضْوِ الْجَرِيحِ إنْ خَافَ مِنْ غَسْلِهِ مَا مَرَّ ، فَإِذَا ظَهَرَ دَمُ الْفَصَادَةِ مِنْ اللَّصُوقِ وَشَقَّ عَلَيْهِ نَزْعُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ مَسْحُهُ ، وَيُعْفَى عَنْ هَذَا الدَّمِ الْمُخْتَلَطِ بِالْمَاءِ تَقْدِيمًا لِمَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ عَلَى دَفْعِ مَفْسَدَةِ الْحَرَامِ .
قَالَ شَيْخِي : كَوُجُوبِ تَنَحْنُحِ مُصَلِّي الْفَرْضِ حَيْثُ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ الْوَاجِبَةُ
فَإِذَا تَيَمَّمَ لِفَرْضٍ ثَانٍ وَلَمْ يُحْدِثْ لَمْ يُعِدْ الْجُنُبُ غُسْلًا ، وَيُعِيدُ الْمُحْدِثُ مَا بَعْدَ عَلِيلِهِ ، وَقِيلَ : يَسْتَأْنِفَانِ ، وَقِيلَ الْمُحْدِثُ كَجُنُبٍ ، قُلْتُ : هَذَا الثَّالِثُ أَصَحُّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَإِذَا تَيَمَّمَ ) الَّذِي غَسَلَ الصَّحِيحَ وَتَيَمَّمَ عَنْ الْبَاقِي وَأَدَّى فَرِيضَةً ( لِفَرْضٍ ثَانٍ ) وَثَالِثٍ وَهَكَذَا ( وَلَمْ يُحْدِثْ ) بَعْدَ طَهَارَتِهِ الْأُولَى ( لَمْ يُعِدْ الْجُنُبُ ) وَنَحْوُهُ ( غَسْلًا ) لِمَا غَسَلَهُ وَلَا مَسْحًا لِمَا مَسَحَهُ ( وَيُعِيدُ الْمُحْدِثُ ) غَسْلَ ( مَا بَعْدَ عَلِيلِهِ ) ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَنْ غَسْلِ الْعَلِيلِ ، وَلَا تَرْتِيبَ فِي حَقِّ الْجُنُبِ بَيْنَ غَسْلِ الْعَلِيلِ وَبَيْنَ مَا بَعْدَهُ ، بِخِلَافِ الْمُحْدِثِ فَإِذَا وَجَبَ إعَادَةُ تَطْهِيرِ عُضْوٍ خَرَجَ ذَلِكَ الْعُضْوُ عَنْ أَنْ تَكُونَ طَهَارَتُهُ تَامَّةً ، فَإِذَا أَتَمَّهَا أَعَادَ مَا بَعْدَهَا كَمَا لَوْ نَسِيَ مِنْهُ لَمْعَةً ( وَقِيلَ يَسْتَأْنِفَانِ ) أَيْ الْجُنُبُ وَنَحْوُهُ الْغُسْلَ ، وَالْمُحْدِثُ الْوُضُوءَ ، وَهَذَا مُخْرَجٌ مِنْ الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الِاسْتِئْنَافِ عَلَى مَاسِحِ الْخُفِّ إذَا نَزَعَهُ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طَهَارَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَصْلٍ وَبَدَلٍ ، فَإِذَا بَطَلَ الْبَدَلُ بَطَلَ الْأَصْلُ ، وَاسْتَغْرَبَ فِي الْمَجْمُوعِ هَذَا الْوَجْهَ فَقَالَ : اتَّفَقَتْ الطُّرُقُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ اسْتِئْنَافِ الْغُسْلِ .
وَقَالَ الرَّافِعِيُّ : فِيهِ خِلَافٌ كَالْوُضُوءِ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ ( وَقِيلَ الْمُحْدِثُ كَجُنُبٍ ) فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ غَسْلِ مَا بَعْدَ عَلِيلِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَوْ بَطَلَتْ طَهَارَةُ الْعَلِيلِ ، وَطَهَارَةُ الْعَلِيلِ بَاقِيَةٌ إذْ يَتَنَفَّلُ بِهَا ، وَإِنَّمَا يُعِيدُ التَّيَمُّمَ لِضَعْفِهِ عَنْ أَدَاءِ فَرْضٍ ثَانٍ بِخِلَافِ مَنْ نَسِيَ لَمْعَةً ، فَإِنَّ طَهَارَةَ ذَلِكَ الْعُضْوِ لَمْ تَحْصُلْ ( قُلْتُ : هَذَا الثَّالِثُ أَصَحُّ ) لِمَا قُلْنَاهُ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) فَيُعِيدُ كُلٌّ مِنْهُمَا التَّيَمُّمَ فَقَطْ .
وَهَلْ إذَا كَانَ التَّيَمُّمُ الْأَوَّلُ مُتَعَدِّدًا هَلْ يُعِيدُهُ كَذَلِكَ حَتَّى لَوْ تَيَمَّمَ فِي الْأَوَّلِ أَرْبَعَ تَيَمُّمَاتٍ يُعِيدُهَا كُلَّهَا أَوْ لَا ؟ .
اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي ذَلِكَ ، وَاَلَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ كَمَا قَالَهُ شَيْخِي أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ تَيَمُّمًا وَاحِدًا .
قَالَ : وَاَلَّذِي قَالَ بِالتَّعَدُّدِ إنَّمَا يَأْتِي عَلَى طَرِيقَةِ الرَّافِعِيِّ لِأَجْلِ التَّرْتِيبِ ، خَرَجَ بِقَوْلِهِ وَلَمْ يُحْدِثْ مَا إذَا أَحْدَثَ فَإِنَّهُ يُعِيدُ جَمِيعَ مَا مَرَّ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَلَوْ أَجْنَبَ صَاحِبُ الْجَبِيرَةِ اغْتَسَلَ وَتَيَمَّمَ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَزْعُهَا بِخِلَافِ الْخُفِّ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي إيجَابِ النَّزْعِ مَشَقَّةً ، وَلَوْ اغْتَسَلَ الْجُنُبُ وَتَيَمَّمَ عَنْ جِرَاحَةٍ فِي غَيْرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ ثُمَّ أَحْدَثَ بَعْدَ أَدَاءِ فَرِيضَةٍ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ طَوَافٍ لَمْ يَبْطُلْ تَيَمُّمُهُ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ عَنْ غَيْرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحَدَثُ فَيَتَوَضَّأُ ، وَيُصَلِّي بِوُضُوئِهِ مَا شَاءَ مِنْ النَّوَافِلِ وَلَوْ بَرَأَ بِتَثْلِيثِ الرَّاءِ وَهُوَ عَلَى طَهَارَةٍ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ لِزَوَالِ عِلَّتِهِ ، وَوَجَبَ غَسْلُ مَوْضِعِ الْعُذْرِ ، جُنُبًا كَانَ أَوْ مُحْدِثًا ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُحْدِثِ أَنْ يَغْسِلَ مَا بَعْدَ مَوْضِعِ الْعُذْرِ رِعَايَةً لِلتَّرْتِيبِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ إعَادَةُ تَطْهِيرِ عُضْوٍ لِبُطْلَانِهِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ تَامَّ الطُّهْرِ ، فَإِذَا أَتَمَّهُ وَجَبَ إعَادَةُ مَا بَعْدَهُ كَمَا لَوْ أَغْفَلَ لَمْعَةً بِخِلَافِ نَحْوِ الْجُنُبِ وَلَا يَسْتَأْنِفَانِ الطَّهَارَةَ ، وَبُطْلَانُ بَعْضِهَا لَا يَقْتَضِي بُطْلَانَ كُلِّهَا وَلَوْ تَوَهَّمَ الْبُرْءَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا فَرَفَعَ السَّاتِرَ فَبَانَ خِلَافَهُ لَمْ يَبْطُلْ تَيَمُّمُهُ بِخِلَافِ تَوَهُّمِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُهُ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنْ لَا مَاءَ ؛ لِأَنَّ تَوَهُّمَهُ يُوجِبُ الطَّالِبَ ، وَتَوَهُّمُ الْبُرْءِ لَا يُوجِبُ الْبَحْثَ عَنْهُ .
فَإِنْ قِيلَ : قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : لَوْ سَقَطَتْ جَبِيرَتُهُ فِي الصَّلَاةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ لَمْ يَبْرَأَ كَانْخِلَاعِ الْخُفِّ فَيَشْكُلُ عَلَى مَا هُنَا .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَا هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْ الصَّحِيحِ مَا يَجِبُ غَسْلُهُ بِأَنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلًا بِأَنْ يَكُونَ اللُّصُوقِ عَلَى قَدْرِ الْجِرَاحَةِ ، وَأَنْ يَكُونَ الْعَلِيلُ بِحَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُمِرَّ التُّرَابَ عَلَيْهِ ، وَمَا هُنَاكَ عَلَى مَا إذَا ظَهَرَ مِنْهُ ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ عَلَى عُضْوِهِ جَبِيرَتَانِ فَرَفَعَ إحْدَاهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ رَفْعُ الْأُخْرَى بِخِلَافِ
الْخُفَّيْنِ ؛ لِأَنَّ لُبْسَهُمَا جَمِيعًا شَرْطٌ بِخِلَافِ الْجَبِيرَتَيْنِ .
ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ .
فَصْلٌ يَتَيَمَّمُ بِكُلِّ تُرَابٍ طَاهِرٍ حَتَّى مَا يُدَاوَى بِهِ ، وَبِرَمْلٍ فِيهِ غُبَارٌ لَا بِمَعْدِنِ وَسِحَاقَةِ خَزَفٍ وَمُخْتَلِطٍ بِدَقِيقٍ وَنَحْوِهِ .
وَقِيلَ : إنْ قَلَّ الْخَلِيطُ جَازَ ، وَلَا بِمُسْتَعْمَلٍ عَلَى الصَّحِيحِ .
فَصْلٌ فِي بَيَانِ أَرْكَانِ التَّيَمُّمِ ، وَكَيْفِيَّتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَيَأْتِي ( يَتَيَمَّمُ بِكُلِّ تُرَابٍ ) وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ ، وَقِيلَ : جَمْعٌ وَاحِدَتُهُ تُرَابَةٌ .
وَمِنْ فَوَائِدِ الْخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ بِعَدَدِ التُّرَابِ ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَقَعُ طَلْقَةٌ ، وَعَلَى الثَّانِي يَقَعُ ثَلَاثٌ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي مَحَلِّهِ ( طَاهِرٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } [ الْمَائِدَةُ ] .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ التُّرَابُ الطَّاهِرُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُرَابٌ لَهُ غُبَارٌ ، وَقَوْلُهُ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } [ الْمَائِدَةُ ] فَإِنَّ الْإِتْيَانَ بِمِنْ الدَّالَّةِ عَلَى التَّبْعِيضِ يَقْتَضِي أَنْ يَمْسَحَ بِشَيْءٍ يَحْصُلُ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بَعْضُهُ .
وَأَجَابَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ مِمَّنْ لَا يَشْتَرِطُ التُّرَابَ بِأَنْ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ ، وَضَعَّفَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعَرَبِ لَا يَفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ : مَسَحَ بِرَأْسِهِ مِنْ الدُّهْنِ وَمِنْ الْمَاءِ وَمِنْ التُّرَابِ إلَّا مَعْنَى التَّبْعِيضِ ، وَالْإِذْعَانِ لِلْحَقِّ أَحَقُّ مِنْ الْمِرَاءِ ا هـ .
وَيَدُلُّ لَهُ مِنْ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُبَيِّنَةٌ لِلرِّوَايَةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي فِيهَا { وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } .
وَاسْمُ التُّرَابِ يَدْخُلُ فِيهِ الْأَصْفَرُ وَالْأَعْفَرُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَالْأَبْيَضُ ( حَتَّى مَا ) يُؤْكَلُ سَفَهًا ، وَهُوَ الْخُرَاسَانِيُّ أَوْ ( يُدَاوَى بِهِ ) كَالطِّينِ الْإِرْمَنِي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ إذَا سُحِقَ لِوُقُوعِ اسْمِ التُّرَابِ عَلَيْهِ ، وَالْبَطْحَاءِ وَهُوَ تُرَابٌ بِمَسِيلِ الْمَاءِ فِيهِ دِقَاقُ حَصًى ، وَالسَّبِخُ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ : وَهُوَ مَا لَا يَنْبُتُ إذَا لَمْ يَعْلُهُ الْمِلْحُ ، فَإِنْ عَلَاهُ لَمْ
يَصِحَّ التَّيَمُّمُ بِهِ ، وَالتُّرَابُ الَّذِي خَرَجَتْ بِهِ أَرْضُهُ مِنْ مَدَرٍ ؛ لِأَنَّهُ تُرَابٌ ، لَا مِنْ خَشَبٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّاهُ وَإِنْ أَشْبَهَهُ ، وَلَا أَثَرَ لِلُعَابِهَا الْمُخْتَلَطِ بِالتُّرَابِ ، وَلَا أَثَرَ لِتَغَيُّرِ طِينٍ أَسْوَدَ وَلَوْ شُوِيَ وَتَسَوَّدَ ؛ لِأَنَّ اسْمَ التُّرَابِ لَا يَبْطُلُ بِمُجَرَّدِ الشَّيْءِ إلَّا مَا صَارَ رَمَادًا ، وَإِنْ انْتَقَضَ مِنْ نَحْوِ كَلْبِ تُرَابٍ ، وَلَمْ يُعْلَمْ تَرَطُّبُهُ عِنْدَ الْتِصَاقِهِ بِهِ بِمَاءٍ أَوْ عَرَقٍ أَوْ غَيْرِهِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ حَقِيقَةً وَأَصَالَةً ، بِخِلَافِ مَا إذَا عُلِمَ ذَلِكَ ( وَبِرَمْلٍ ) لَا يَلْصَقُ بِالْعُضْوِ وَلَوْ كَانَ نَاعِمًا ( فِيهِ غُبَارٌ ) مِنْهُ وَلَوْ بِسَحْقِهِ لِأَنَّهُ مِنْ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ وَالتُّرَابُ جِنْسٌ لَهُ ، فَلَا يَصِحُّ بِرَمْلٍ وَلَوْ نَاعِمًا لَا غُبَارَ فِيهِ أَوْ فِيهِ غُبَارٌ ، لَكِنَّ الرَّمْلَ يَلْصَقُ بِالْعُضْوِ لِمَنْعِهِ وُصُولَ التُّرَابِ إلَى الْعُضْوِ كَمَا سَيَأْتِي فِي التُّرَابِ الْمُخْتَلِطِ بِغَيْرِهِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا شَرْطٌ آخَرُ فِي التُّرَابِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ جَرْشًا أَوْ نَدِيًا لَا يَرْتَفِعُ لَهُ غُبَارٌ لَمْ يَكْفِ ( لَا بِمَعْدِنِ ) بِكَسْرِ الدَّالِ كَنَفْطٍ وَكِبْرِيتٍ وَنُورَةٍ ( وَسِحَاقَةِ خَزَفٍ ) وَهُوَ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الطِّينِ وَيُشْوَى كَالْكِيزَانِ ، إذْ لَا يُسَمَّى ذَلِكَ تُرَابًا .
وَمِثْلُهُ سِحَاقَةُ نَحْوِ آجُرٍّ ، وَلَا بِتُرَابٍ مُتَنَجِّسٍ كَمَقْبَرَةٍ تُيُقِّنَ نَبْشُهَا لِاخْتِلَاطِهَا بِصَدِيدِ الْمَوْتَى ( وَ ) لَا بِتُرَابٍ ( مُخْتَلِطٍ بِدَقِيقٍ وَنَحْوِهِ ) كَزَعْفَرَانٍ وَجِصٍّ لِمَنْعِهِ وُصُولَ التُّرَابِ إلَى الْعُضْوِ ، بِخِلَافِ الْمُخْتَلِطِ بِرَمْلٍ لَا يَلْصِقُ بِالْعُضْوِ كَمَا مَرَّ ، وَلَوْ عُجِنَ التُّرَابُ بِنَحْوِ خَلٍّ فَتَغَيَّرَ بِهِ ثُمَّ جَفَّ صَحَّ التَّيَمُّمُ بِهِ ( وَقِيلَ إنْ قَلَّ الْخَلِيطُ جَازَ ) كَالْمَاءِ الْقَلِيلِ إذَا اخْتَلَطَ بِمَائِعٍ ، وَفُرِّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي عَلِقَ بِهِ نَحْوُ الدَّقِيقِ لَا يَصِلُ إلَيْهِ التُّرَابُ
لِكَثَافَتِهِ ، بِخِلَافِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ لَطِيفٌ فَيَجْرِي عَلَى الْمَحَلِّ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْخَلِيطُ .
وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، فَقَالَ الْإِمَامُ : الْكَثِيرُ مَا يَظْهَرُ فِي التُّرَابِ ، وَالْقَلِيلُ مَا لَا يَظْهَرُ .
وَقَالَ الرُّويَانِيُّ وَجَمَاعَةٌ : تُعْتَبَرُ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ كَمَا فِي الْمَاءِ ، وَجَرَى عَلَى هَذَا الْمُصَنِّفُ فِي الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا ( وَلَا ب ) تُرَابٍ ( مُسْتَعْمَلٍ عَلَى الصَّحِيحِ ) وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ ؛ لِأَنَّهُ أُدِّيَ بِهِ فَرْضٌ ، فَلَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهُ ثَانِيًا كَالْمَاءِ .
وَالثَّانِي : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ ، فَلَا يَتَأَثَّرُ بِالِاسْتِعْمَالِ ، بِخِلَافِ الْمَاءِ وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ ، فِي طَهَارَةِ دَائِمِ الْحَدَثِ ، فَإِنَّ حَدَثَهُ لَا يَرْتَفِعُ عَلَى الصَّحِيحِ
وَهُوَ مَا بَقِيَ بِعُضْوِهِ ، وَكَذَا مَا تَنَاثَرَ فِي الْأَصَحِّ .
( وَهُوَ ) أَيْ التُّرَابُ الْمُسْتَعْمَلُ ( مَا بَقِيَ بِعُضْوِهِ ) حَالَ التَّيَمُّمِ ( وَكَذَا مَا تَنَاثَرَ ) بِالْمُثَلَّثَةِ بَعْدَ مَسِّهِ الْعُضْوَ حَالَةَ التَّيَمُّمِ ( فِي الْأَصَحِّ ) الْمَقْطُوعِ بِهِ كَالْمُتَقَاطِرِ مِنْ الْمَاءِ .
وَالثَّانِي لَا يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ كَثِيفٌ إذَا عَلِقَ مِنْهُ شَيْءٌ بِالْمَحَلِّ مَنَعَ غَيْرَهُ أَنْ يَلْصَقَ بِهِ وَإِذَا لَمْ يَلْصَقْ بِهِ فَلَا يُؤَثِّرُ ، بِخِلَافِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ رَقِيقٌ يُلَاقِي جَمِيعَ الْمَحَلِّ ، وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ جِدًّا أَوْ غَلَطٌ فَكَانَ التَّعْبِيرُ بِالصَّحِيحِ أَوْلَى .
أَمَّا مَا تَنَاثَرَ ، وَلَمْ يَمَسَّ الْعُضْوَ بَلْ لَاقَى مَا لَصَقَ بِالْعُضْوِ فَلَيْسَ بِمُسْتَعْمَلٍ قَطْعًا كَالْبَاقِي بِالْأَرْضِ ، وَقَوْلُ الرَّافِعِيِّ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْمُتَنَاثِرِ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ إذَا انْفَصَلَ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَأَعْرَضَ الْمُتَيَمِّمُ عَنْهُ مُرَادُهُ - كَمَا قَالَ شَيْخِي - أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْ الْمَاسِحَةِ وَالْمَمْسُوحَةِ لَا مَا فَهِمَهُ الْإِسْنَوِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ مِنْ الْهَوَاءِ قَبْلَ إعْرَاضِهِ عَنْهُ أَنَّهُ يَكْفِي .
وَعَلِمَ مَنْ حَصَرَ الْمُسْتَعْمَلَ فِيمَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ الْجَمَاعَةُ أَوْ الْوَاحِدُ مَرَّاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ تُرَابٍ يَسِيرٍ فِي خِرْقَةٍ وَنَحْوِهَا كَمَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ مَرَّاتٍ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ
وَيُشْتَرَطُ قَصْدُهُ فَلَوْ سَفَتْهُ رِيحٌ عَلَيْهِ فَرَدَّدَهُ ، وَنَوَى لَمْ يُجْزِئْ
( وَيُشْتَرَطُ قَصْدُهُ ) أَيْ التُّرَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } [ الْمَائِدَةُ ] أَيْ اقْصِدُوا ، فَالْآيَةُ آمِرَةٌ بِالتَّيَمُّمِ : وَهُوَ الْقَصْدُ ، وَالنَّقْلُ طَرِيقُهُ ( فَلَوْ سَفَتْهُ رِيحٌ عَلَيْهِ ) أَيْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ ( فَرَدَّدَهُ ) عَلَيْهِ ( وَنَوَى لِمَا يُجْزِئُ ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَإِنْ قَصَدَ بِوُقُوفِهِ فِي مَهَبِّ الرِّيحِ التَّيَمُّمَ لِانْتِفَاءِ الْقَصْدِ مِنْ جِهَتِهِ بِانْتِفَاءِ النَّقْلِ الْمُحَقِّقِ لَهُ ، وَالْقَصْدُ الْمَذْكُورُ لَا يَكْفِي هُنَا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَرَزَ لِلْمَطَرِ فِي الطُّهْرِ بِالْمَاءِ فَانْغَسَلَتْ أَعْضَاؤُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِيهِ الْغُسْلُ ، وَاسْمُهُ مُطْلَقٌ وَلَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ
وَلَوْ يُمِّمَ بِإِذْنِهِ جَازَ ، وَقِيلَ يُشْتَرَطُ عُذْرٌ .
( وَلَوْ يُمِّمَ بِإِذْنِهِ ) بِأَنْ نَقَلَ الْمَأْذُونُ التُّرَابَ إلَى الْعُضْوِ وَرَدَّدَهُ عَلَيْهِ ( جَازَ ) عَلَى النَّصِّ كَالْوُضُوءِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ الْآذِنِ عِنْدَ النَّقْلِ وَعِنْدَ مَسْحِ الْوَجْهِ كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْمُتَيَمِّمَ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ جَزْمًا كَمَا لَوْ يَمَّمَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَتَعَرُّضِهِ لِلرِّيحِ ( وَقِيلَ يُشْتَرَطُ ) لِجَوَازِ أَنْ يُيَمِّمَهُ غَيْرُهُ بِإِذْنِهِ ( عُذْرٌ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ التُّرَابَ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلَ بِإِقَامَةِ فِعْلِ مَأْذُونِهِ مَقَامَ فِعْلِهِ ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ مَعَ الْقُدْرَةِ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ بَلْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الدَّمِيرِيُّ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ ، وَلَوْ بِأُجْرَةٍ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا
وَأَرْكَانُهُ : نَقْلُ التُّرَابِ فَلَوْ نَقَلَ مِنْ وَجْهٍ إلَى يَدٍ أَوْ عَكَسَ كَفَى فِي الْأَصَحِّ .
( وَأَرْكَانُهُ ) أَيْ التَّيَمُّمِ هُنَا خَمْسَةٌ ، وَرُكْنُ الشَّيْءِ جَانِبُهُ الْأَقْوَى ، وَعَدَّهَا فِي الرَّوْضَةِ سَبْعَةً فَجَعَلَ التُّرَابَ وَالْقَصْدَ رُكْنَيْنِ وَأَسْقَطَ فِي الْمَجْمُوعِ التُّرَابَ وَعَدَّهَا سِتَّةً وَجَعَلَ التُّرَابَ شَرْطًا ، وَالْأَوْلَى مَا فِي الْكِتَابِ ، إذْ لَوْ حَسُنَ عَدُّ التُّرَابِ رُكْنًا لَحَسُنَ عَدُّ الْمَاءِ رُكْنًا فِي الطُّهْرِ بِهِ .
وَأَمَّا الْقَصْدُ فَدَاخِلٌ فِي النَّقْلِ الْوَاجِبِ قَرْنُ النِّيَّةِ بِهِ .
الرُّكْنُ الْأَوَّلُ ( نَقْلُ التُّرَابِ ) إلَى الْعُضْوِ الْمَمْسُوحِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَأْذُونِهِ كَمَا مَرَّ ، فَلَوْ كَانَ عَلَى الْعُضْوِ تُرَابٌ فَرَدَّدَهُ عَلَيْهِ مِنْ جَانِبٍ إلَى جَانِبٍ لَمْ يَكْفِ ، وَإِنَّمَا صَرَّحَ بِالْقَصْدِ مَعَ أَنَّ النَّقْلَ الْمَقْرُونَ بِالنِّيَّةِ مُتَضَمِّنٌ لَهُ رِعَايَةً لِلَفْظِ الْآيَةِ ( فَلَوْ ) تَلَقَّى التُّرَابَ مِنْ الرِّيحِ بِكُمِّهِ أَوْ يَدِهِ وَمَسَحَ بِهِ وَجْهَهُ أَوْ تَمَعَّكَ فِي التُّرَابِ وَلَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَجْزَأَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الْحَدَثَ بَعْدَ الضَّرْبِ وَقَبْلَ مَسْحِ الْوَجْهِ يَضُرُّ ، وَكَذَا الضَّرْبُ قَبْلَ الْوَقْتِ أَوْ مَعَ الشَّكِّ فِي دُخُولِهِ مَعَ أَنَّ الْمَسْحَ بِالضَّرْبِ الْمَذْكُورِ لَا يَتَقَاعَدُ عَنْ التَّمَعُّكِ وَالضَّرْبِ بِمَا عَلَى الْكُمِّ أَوْ الْيَدِ ، فَيَنْبَغِي جَوَازُهُ فِي ذَلِكَ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ تَجْدِيدِ النِّيَّةِ كَمَا لَوْ كَانَ التُّرَابُ عَلَى يَدَيْهِ ابْتِدَاءً ، وَالْمَنْعُ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ عَدَمِ تَجْدِيدِهَا لِبُطْلَانِهَا وَبُطْلَانِ النَّقْلِ الَّذِي قَارَنَتْهُ وَلَوْ ( نَقَلَ ) التُّرَابَ ( مِنْ وَجْهٍ إلَى يَدٍ ) بِأَنْ حَدَثَ عَلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ تُرَابٍ مَسَحَهُ عَنْهُ تُرَابٌ ( أَوْ عَكَسَ ) أَيْ نَقَلَهُ مِنْ يَدٍ إلَى وَجْهٍ أَوْ نَقَلَهُ مِنْ يَدٍ إلَى أُخْرَى أَوْ مِنْ عُضْوٍ وَرَدَّهُ إلَيْهِ وَمَسَحَهُ بِهِ ( كَفَى فِي الْأَصَحِّ ) لِوُجُودِ مُسَمَّى النَّقْلِ .
وَالثَّانِي : لَا يَكْفِي لِأَنَّهُ مَنْقُولٌ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ ، فَهُوَ كَالنَّقْلِ مِنْ بَعْضِ الْعُضْوِ إلَى بَعْضِهِ بِالتَّرْدِيدِ ، وَدُفِعَ بِأَنَّهُ بِالِانْفِصَالِ
انْقَطَعَ حُكْمُ ذَلِكَ الْعُضْوِ عَنْهُ بِخِلَافِ تَرْدِيدِهِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ مَسَحَ بِمَا سَفَّتْهُ الرِّيحُ عَلَى كُمِّهِ مَثَلًا كَفَى لِوُجُودِ النَّقْلِ
و نِيَّةُ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ لَا رَفْعِ حَدَثٍ وَلَوْ نَوَى فَرْضَ التَّيَمُّمِ لَمْ يَكْفِ فِي الْأَصَحِّ ، وَيَجِبُ قَرْنُهَا بِالنَّقْلِ ، وَكَذَا اسْتِدَامَتُهَا إلَى مَسْحِ شَيْءٍ مِنْ الْوَجْهِ عَلَى الصَّحِيحِ ، فَإِنْ نَوَى فَرْضًا وَنَفْلًا أُبِيحَا أَوْ فَرْضًا فَلَهُ النَّفَلُ عَلَى الْمَذْهَبِ ، أَوْ نَفْلًا أَوْ الصَّلَاةُ تَنَفَّلَ لَا الْفَرْضُ عَلَى الْمَذْهَبِ .
( وَ ) الرُّكْنُ الثَّانِي : ( نِيَّةُ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ ) وَنَحْوِهَا مِمَّا تَفْتَقِرُ اسْتِبَاحَتُهُ إلَى طَهَارَةٍ كَطَوَافٍ وَحَمْلِ مُصْحَفٍ وَسُجُودِ تِلَاوَةٍ ، إذْ الْكَلَامُ الْآنَ فِي صِحَّةِ التَّيَمُّمِ .
وَأَمَّا مَا يُسْتَبَاحُ بِهِ فَسَيَأْتِي ، وَلَوْ تَيَمَّمَ بِنِيَّةِ الِاسْتِبَاحَةِ ظَانًّا أَنَّ حَدَثَهُ أَصْغَرُ فَبَانَ أَكْبَرَ أَوْ عَكْسُهُ صَحَّ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُمَا وَاحِدٌ وَإِنْ تَعَمَّدَ لَمْ يَصِحَّ فِي الْأَصَحِّ لِتَلَاعُبِهِ ، فَلَوْ أَجْنَبَ فِي سَفَرِهِ ، وَنَسِيَ وَكَانَ يَتَيَمَّمُ وَقْتًا وَيَتَوَضَّأُ وَقْتًا أَعَادَ صَلَاةَ الْوُضُوءِ فَقَطْ لِمَا ذُكِرَ ، وَلَوْ نَوَى الظُّهْرَ مَقْصُورَةً عِنْدَ جَوَازِهِ فَلَهُ الْإِتْمَامُ أَوْ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ لِعِصْيَانِهِ ، قَالَهُ الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ ( لَا ) نِيَّةَ ( رَفْعِ حَدَثٍ ) أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ أَوْ الطَّهَارَةِ عَنْ أَحَدِهِمَا فَلَا يَكْفِي ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْحَدَثُ الَّذِي يَنْوِي رَفْعَهُ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ الصَّلَاةِ ، نَحْوِهَا ، وَهَذَا يَرْفَعُهُ التَّيَمُّمُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَدَثَ مَنَعَ مُتَعَلِّقُهُ كُلَّ صَلَاةِ فَرِيضَةً كَانَتْ أَوْ نَافِلَةً ، وَكُلَّ طَوَافٍ فَرْضًا كَانَ أَوْ نَفْلًا وَغَيْرَ ذَلِكَ ، وَهَذَا الْمَنْعُ الْعَامُّ لَا يَرْفَعُهُ التَّيَمُّمُ ، وَإِنَّمَا يَرْتَفِعُ بِهِ مَنْعٌ خَاصٌّ ، وَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ فَرِيضَةٍ فَقَطْ أَوْ وَنَوَافِلَ أَوْ نَوَافِلَ فَقَطْ ، وَالْخَاصُّ غَيْرُ الْعَامِّ .
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ نَوَى الْحَدَثَ الْخَاصَّ صَحَّ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا قَالَهُ شَيْخِي ( وَلَوْ نَوَى فَرْضَ التَّيَمُّمِ ) أَوْ فَرْضَ الطَّهَارَةِ أَوْ التَّيَمُّمَ الْمَفْرُوضَ أَوْ الطَّهَارَةَ عَنْ الْحَدَثِ أَوْ الْجَنَابَةِ ( لَمْ يَكْفِ فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَيْسَ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُؤْتَى بِهِ عَنْ ضَرُورَةٍ فَلَا يُجْعَلُ مَقْصُودًا بِخِلَافِ الْوُضُوءِ ؛ وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ .
وَالثَّانِي يَكْفِي كَالْوُضُوءِ ، وَفُرِّقَ الْأَوَّلُ بِمَا تَقَدَّمَ ،
وَلَوْ نَوَى التَّيَمُّمَ لَمْ يَكْفِ جَزْمًا ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ لَوْ تَيَمَّمَ عَنْ غُسْلٍ مَسْنُونٍ كَغُسْلِ الْجُمُعَةِ أَنَّهُ يَكْفِيهِ نِيَّةُ التَّيَمُّمِ بَدَلَ الْغُسْلِ ( وَيَجِبُ قَرْنُهَا ) أَيْ النِّيَّةِ ( بِالنَّقْلِ ) الْحَاصِلِ بِالضَّرْبِ إلَى الْوَجْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْأَرْكَانِ ( وَكَذَا ) يَجِبُ ( اسْتِدَامَتُهَا إلَى مَسْحِ شَيْءٍ مِنْ الْوَجْهِ عَلَى الصَّحِيحِ ) فَلَوْ عَزَبَتْ قَبْلَ الْمَسْحِ لَمْ يَكْفِ ؛ لِأَنَّ النَّقْلَ وَإِنْ كَانَ رُكْنًا فَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَالْمُتَّجَهُ الِاكْتِفَاءُ بِاسْتِحْضَارِهَا عِنْدَهُمَا ، وَإِنْ عَزَبَتْ بَيْنَهُمَا ، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِكَلَامٍ لِأَبِي خَلَفٍ الطَّبَرِيِّ ( 1 ) ، وَتَعْلِيلُ الرَّافِعِيِّ يُفْهِمُهُ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَالتَّعْبِيرُ بِالِاسْتِدَامَةِ كَمَا قَالَ شَيْخِي جَرَى عَلَى الْغَالِبِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الزَّمَنَ يَسِيرُ لَا تَعْزُبُ فِيهِ النِّيَّةُ غَالِبًا ، بَلْ لَوْ لَمْ يَنْوِ إلَّا عِنْدَ إرَادَةِ مَسْحِ الْوَجْهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ أَخْذًا مِنْ الْفَرْقِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلُ الْأَصْحَابِ يَجِبُ قَرْنُهَا بِالنَّقْلِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ النَّقْلُ الْمُعْتَدُّ بِهِ وَهَذَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ ، فَإِنَّ النَّقْلَ الْمُعْتَدَّ بِهِ الْآنَ هُوَ النَّقْلُ مِنْ الْيَدَيْنِ إلَى الْوَجْهِ وَقَدْ اقْتَرَنَتْ النِّيَّةُ بِهِ .
وَالثَّانِي : لَا تَجِبُ الِاسْتِدَامَةُ كَمَا لَوْ قَارَنَتْ نِيَّةُ الْوُضُوءِ أَوَّلَ غَسْلِ الْوَجْهِ ثُمَّ انْقَطَعَتْ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِمَا مَرَّ ، وَلَوْ نَقَلَ التُّرَابَ قَبْلَ الْوَقْتِ وَتَيَمَّمَ بَعْدَهُ لَمْ يُجْزِهِ ، وَلَوْ يَمَّمَهُ غَيْرُهُ بِإِذْنِهِ وَنَوَى الْآذِنُ عِنْدَ ضَرْبِ الْمَأْذُونِ لَهُ ، وَأَحْدَثَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْمَسْحِ لَمْ يَضُرَّ ، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي فَتَاوِيهِ ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ لَيْسَ بِنَاقِلٍ فَلَا يَبْطُلُ بِحَدَثِهِ ، وَالْمَأْمُورَ لَيْسَ بِنَاقِلٍ لِنَفْسِهِ حَتَّى يَبْطُلَ بِحَدَثِهِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَإِنْ قَالَ الرَّافِعِيُّ : يَنْبَغِي أَنْ يَبْطُلَ بِحَدَثِ الْآمِرِ كَمَا فِي تَعْلِيقِ
الْقَاضِي حُسَيْنِ ، وَلَوْ تَقَدَّمَتْ النِّيَّةُ عَلَى الْمَفْرُوضَاتِ وَقَارَنَتْ شَيْئًا مِنْ السُّنَنِ كَالتَّسْمِيَةِ وَالسِّوَاكِ فَكَمَا سَبَقَ فِي الْوُضُوءِ ، وَلَوْ ضَرَبَ يَدَهُ عَلَى بَشَرَةِ امْرَأَةٍ تُنْقَضُ وَعَلَيْهَا تُرَابٌ ، فَإِنْ مَنَعَ الْتِقَاءَ الْبَشَرَتَيْنِ صَحَّ تَيَمُّمُهُ وَإِلَّا فَلَا .
ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُبَاحُ لَهُ بِنِيَّتِهِ ، فَقَالَ : ( فَإِنْ نَوَى فَرْضًا وَنَفْلًا ) أَيْ اسْتِبَاحَتَهُمَا ( أُبِيحَا ) لَهُ عَمَلًا بِنِيَّتِهِ ، وَعُلِمَ مِنْ تَنْكِيرِهِ الْفَرْضَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ التَّعْيِينِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ، فَإِذَا أَطْلَقَ صَلَّى أَيَّ فَرْضٍ شَاءَ ، وَإِنْ عَيَّنَ فَرْضًا جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ غَيْرَهُ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا فِي الْوَقْتِ أَوْ غَيْرِهِ ، وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ الْفَرْضَ الْمَنْوِيَّ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ ، فَإِنْ عَيَّنَ فَرْضًا وَأَخْطَأَ فِي التَّعْيِينِ كَمَنْ نَوَى فَائِتَةً وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ أَوْ ظُهْرًا ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ عَصْرٌ لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الِاسْتِبَاحَةِ وَاجِبَةٌ فِي التَّيَمُّمِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ التَّعْيِينُ ، فَإِذَا عَيَّنَ وَأَخْطَأَ لَمْ يَصِحَّ كَمَا فِي تَعْيِينِ الْإِمَامِ ، وَالْمَيِّتُ فِي الصَّلَاةِ بِخِلَافِ مِثْلِهِ فِي الْوُضُوءِ لِعَدَمِ وُجُوبِ نِيَّةِ الِاسْتِبَاحَةِ فِيهِ فَلَا يَضُرُّ الْخَطَأُ فِيهَا كَمَا لَوْ عَيَّنَ الْمُصَلِّي الْيَوْمَ وَأَخْطَأَ وَلِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَيَسْتَبِيحُ مَا شَاءَ ، وَالتَّيَمُّمُ يُبِيحُ وَلَا يَرْفَعُ ، فَنِيَّتُهُ صَادَفَتْ اسْتِبَاحَةَ مَا لَا يُسْتَبَاحُ ( أَوْ ) نَوَى ( فَرْضًا فَلَهُ النَّفَلُ ) مَعَهُ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) ؛ لِأَنَّ النَّوَافِلَ تَابِعَةٌ ، وَإِذَا صَلُحَتْ طَهَارَتُهُ لِلْأَصْلِ فَلِلتَّابِعِ أَوْلَى كَمَا إذَا أَعْتَقَ الْأُمَّ يُعْتَقُ الْحَمْلُ ، وَعَبَّرَ بِالْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّ النَّوَافِلَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْفَرْضِ فِيهَا قَوْلَانِ ، وَالْمُتَأَخِّرَةُ تَجُوزُ قَطْعًا ، وَقِيلَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ : وَيَتَلَخَّصُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : لَهُ النَّفَلُ مُطْلَقًا ، وَالثَّانِي : لَا مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَنْوِهَا .
وَالثَّالِثُ : لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْفَرْضِ لَا قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّ التَّابِعَ لَا يُقَدَّمُ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَلَوْ قِيلَ يَسْتَبِيحُ النَّافِلَةَ التَّابِعَةَ لِتِلْكَ الْفَرِيضَةِ دُونَ مَا عَدَاهَا لَمْ يَبْعُدْ ، وَلَكِنْ لَمْ أَرَ مَنْ قَالَ بِهِ ، وَمَنْ ظَنَّ أَوْ شَكَّ هَلْ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ فَتَيَمَّمَ لَهَا ثُمَّ ذَكَرَهَا لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْفَائِتَةِ بِالتَّذَكُّرِ كَمَا سَيَأْتِي ( أَوْ ) نَوَى ( نَفْلًا ) مِنْ الصَّلَوَاتِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْفَرْضِ ( أَوْ ) نَوَى ( الصَّلَاةَ ) وَأَطْلَقَ ( تَنَفَّلَ ) أَيْ لَهُ فِعْلُ النَّفْلِ الْمَنْوِيِّ وَغَيْرِهِ ( لَا الْفَرْضُ عَلَى الْمَذْهَبِ ) فِيهِمَا .
أَمَّا فِي الْأُولَى : فَلِأَنَّ الْفَرْضَ أَصْلٌ ، وَالنَّفَلُ تَابِعٌ فَلَا يُجْعَلُ الْمَتْبُوعُ تَابِعًا .
وَالثَّانِي : يَسْتَبِيحُ الْفَرْضَ قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ ، وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ : فَقِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ تُحْرِمُ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَنْعَقِدُ نَفْلًا ، وَالثَّانِي : يَسْتَبِيحُ الْفَرْضَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ اسْمُ جِنْسٍ يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ فَيَسْتَبِيحُهُمَا كَمَا لَوْ نَوَاهُمَا .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَهُوَ الْمُتَّجَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِأَلْ لِلْعُمُومِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ : لَهُ فِعْلُ الْفَرْضِ فِي الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى ، وَالْأَقْوَالُ تَحَصَّلَتْ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ، وَطَرِيقَةٌ قَاطِعَةٌ فِي الثَّانِيَةِ بِالْجَوَازِ ، وَقَطَعَ بَعْضُهُمْ فِي الْأُولَى بِعَدَمِهِ ، فَسَاغَ لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يُعَبِّرَ بِالْمَذْهَبِ .
وَالرَّافِعِيُّ حَكَى الْخِلَافَ فِي الثَّانِيَةِ وَجْهَيْنِ وَتَبِعَهُ فِي الرَّوْضَةِ ، وَلَوْ نَوَى بِتَيَمُّمِهِ حَمْلَ الْمُصْحَفِ أَوْ سُجُودَ التِّلَاوَةِ أَوْ الشُّكْرَ أَوْ نَوَى نَحْوُ الْجُنُبِ الِاعْتِكَافَ أَوْ الْقُرْآنَ أَوْ الْحَائِضُ اسْتِبَاحَةَ الْوَطْءِ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ كَنِيَّةِ النَّفْلِ فِي أَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ بِهِ الْفَرْضَ وَلَا يَسْتَبِيحُ النَّفَلَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ النَّافِلَةَ آكَدُ مِنْ ذَلِكَ ،
وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى إذَا تَيَمَّمَ لِوَاحِدٍ مِنْهَا جَازَ لَهُ فِعْلُ الْبَقِيَّةِ وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَلَوْ نَوَى بِتَيَمُّمِهِ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كَالتَّيَمُّمِ لِلنَّفْلِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ كَالتَّيَمُّمِ لِلْفَرْضِ .
وَالثَّالِثُ حَكَاهُ فِي الْمَجْمُوعِ : التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَوْ لَا ، فَعَلَى الصَّحِيحِ يَسْتَبِيحُ مَعَهَا النَّفَلَ لَا الْفَرْضَ وَيَسْتَبِيحُهَا بِالتَّيَمُّمِ لِلنَّفْلِ ، وَلَوْ نَوَى فَرِيضَتَيْنِ فَائِتَتَيْنِ أَوْ فَائِتَةً وَمُؤَدَّاةً ، أَوْ مَنْذُورَتَيْنِ أَوْ مَنْذُورَةً وَفَرِيضَةً أُخْرَى صَحَّ تَيَمُّمُهُ لِوَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ مَنْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ فَرْضَيْنِ فَقَدْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ فَرْضٍ
وَمَسْحُ وَجْهِهِ
( وَ ) الرُّكْنُ الثَّالِثُ ( مَسْحُ وَجْهِهِ ) حَتَّى ظَاهِرِ مُسْتَرْسِلِ لِحْيَتِهِ وَالْمُقْبِلِ مِنْ أَنْفِهِ عَلَى شَفَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } [ الْمَائِدَةُ ]
ثُمَّ يَدَيْهِ مَعَ مِرْفَقَيْهِ .
وَالرُّكْنُ الرَّابِعُ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( ثُمَّ ) مَسَحَ ( يَدَيْهِ مَعَ مِرْفَقَيْهِ ) عَلَى وَجْهِ الِاسْتِيعَابِ لِلْآيَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ طَهَارَةَ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْوُضُوءِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ ، ثُمَّ أَسْقَطَ مِنْهَا عُضْوَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ فِي آخِرِ الْآيَةِ ، فَبَقِيَ الْعُضْوَانِ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى مَا ذُكِرَا فِي الْوُضُوءِ ، إذْ لَوْ اخْتَلَفَا لَبَيَّنَهُمَا كَذَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَالْقَدِيمُ يَكْفِي مَسْحُهُمَا إلَى الْكُوعَيْنِ ، وَرَجَّحَهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَالتَّنْقِيحِ .
وَقَالَ فِي الْكِفَايَةِ : إنَّهُ الَّذِي يَتَعَيَّنُ تَرْجِيحُهُ ا هـ .
وَهَذَا مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ ، وَإِلَّا فَالْمُرَجَّحُ فِي الْمَذْهَبِ مَا فِي الْمَتْنِ .
وَلَا يَجِبُ إيصَالَهُ مَنْبَتَ الشَّعْرِ الْخَفِيفِ ، وَلَا تَرْتِيبَ فِي نَقْلِهِ فِي الْأَصَحِّ فَلَوْ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ وَمَسَحَ بِيَمِينِهِ وَجْهَهُ وَبِيَسَارِهِ يَمِينَهُ جَازَ .
وَالرُّكْنُ الْخَامِسُ : التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ثَمَّ ، وَلِمَا مَرَّ فِي الْوُضُوءِ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ التَّيَمُّمِ عَنْ حَدَثٍ أَكْبَرَ أَوْ أَصْغَرَ أَوْ غُسْلٍ مَسْنُونٍ أَوْ وُضُوءٍ مُجَدَّدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُطْلَبُ لَهُ التَّيَمُّمُ .
فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَمْ يَجِبْ التَّرْتِيبُ فِي الْغُسْلِ وَوَجَبَ فِي التَّيَمُّمِ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ عَنْهُ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْغُسْلَ لِمَا وَجَبَ فِيهِ تَعْمِيمُ جَمِيعِ الْبَدَنِ صَارَ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ ، وَالتَّيَمُّمُ يَجِبُ فِي عُضْوَيْنِ فَقَطْ فَأَشْبَهَ الْوُضُوءَ ( وَلَا يَجِبُ إيصَالَهُ ) أَيْ التُّرَابِ ( مَنْبَتَ الشَّعْرِ الْخَفِيفِ ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْعُسْرِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ ، بَلْ لَا يُسْتَحَبُّ كَمَا فِي الْكِفَايَةِ فَالْكَثِيفُ أَوْلَى ( وَلَا تَرْتِيبَ ) وَاجِبٌ ( فِي نَقْلِهِ ) أَيْ التُّرَابِ إلَى الْعُضْوَيْنِ ( فِي الْأَصَحِّ ) بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ ( فَلَوْ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ ) التُّرَابَ دَفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ ضَرَبَ الْيَمِينَ قَبْلَ الْيَسَارِ ( وَمَسَحَ بِيَمِينِهِ وَجْهَهُ وَبِيَسَارِهِ يَمِينَهُ ) أَوْ عَكَسَ ( جَازَ ) ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ الْأَصْلِيَّ الْمَسْحُ وَالنَّقْلُ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ .
وَالثَّانِي : يُشْتَرَطُ كَمَا فِي الْمَسْحِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الِاشْتِرَاطِ فِي الْمَسْحِ الِاشْتِرَاطُ فِي وَسِيلَتِهِ .
وَيُشْتَرَطُ قَصْدُ التُّرَابِ لِعُضْوٍ مُعَيَّنٍ يَمْسَحُهُ : أَيْ أَوْ يُطْلِقُ ، فَلَوْ أَخَذَ التُّرَابَ لِيَمْسَحَ بِهِ وَجْهَهُ فَتَذَكَّرَ أَنَّهُ مَسَحَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْسَحَ بِذَلِكَ التُّرَابِ يَدَيْهِ ، وَكَذَا لَوْ أَخَذَهُ لِيَدَيْهِ ظَانًّا أَنَّهُ مَسَحَ الْوَجْهَ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ لَمْ يَمْسَحْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْسَحَ بِهِ وَجْهَهُ ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ .
وَتُنْدَبُ التَّسْمِيَةُ وَمَسْحُ وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ بِضَرْبَتَيْنِ .
قُلْتُ : الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ وُجُوبُ ضَرْبَتَيْنِ ، وَإِنْ أَمْكَنَ بِضَرْبَةٍ بِخِرْقَةٍ وَنَحْوِهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَيُقَدِّمُ يَمِينَهُ وَأَعْلَى وَجْهِهِ .
ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَرْكَانِ التَّيَمُّمِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ بَعْضِ سُنَنِهِ ، فَقَالَ ( وَتُنْدَبُ ) لِلْمُتَيَمِّمِ وَلَوْ مُحْدِثًا حَدَثًا أَكْبَرَ ( التَّسْمِيَةُ ) أَوَّلَهُ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ ( وَمَسْحُ وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ بِضَرْبَتَيْنِ ) لِوُرُودِهِمَا فِي الْأَخْبَارِ مَعَ الِاكْتِفَاءِ بِالضَّرْبَةِ إذَا حَصَلَ بِهَا التَّعْمِيمُ لِحَدِيثِ عَمَّارٍ السَّابِقِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إنَّمَا هُوَ إيصَالُ التُّرَابِ وَقَدْ حَصَلَ ( قُلْتُ : الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ وُجُوبُ ضَرْبَتَيْنِ ، وَإِنْ أَمْكَنَ بِضَرْبَةٍ بِخِرْقَةٍ وَنَحْوِهَا ) بِأَنْ يَأْخُذَ خِرْقَةً كَبِيرَةً فَيَضْرِبَهَا ثُمَّ يَمْسَحَ بِبَعْضِهَا وَجْهَهُ وَبِبَعْضِهَا يَدَيْهِ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِخَبَرِ الْحَاكِمِ { التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَيَمَّمَ بِضَرْبَتَيْنِ مَسَحَ بِإِحْدَاهُمَا وَجْهَهُ وَبِأُخْرَى ذِرَاعَيْهِ } لَكِنَّ الْأَوَّلَ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ .
وَالثَّانِي فِيهِ رَاوٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ .
وَمَعَ هَذَا صَحَّحَ وُجُوبَ الضَّرْبَتَيْنِ ، وَقَالَ : إنَّهُ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَيْ لِأَنَّ الِاسْتِيعَابَ غَالِبًا لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهِمَا فَأَشْبَهَا الْأَحْجَارَ الثَّلَاثَةَ فِي الِاسْتِنْجَاءِ ، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ جَائِزَةٌ بِالِاتِّفَاقِ ، بَلْ قِيلَ : يُسْتَحَبُّ ثَلَاثُ ضَرَبَاتٍ لِكُلِّ عُضْوٍ ضَرْبَةٌ ، فَلَوْ جَازَ أَيْضًا النُّقْصَانُ لَمْ يَبْقَ لِلتَّقْيِيدِ بِالْعَدَدِ .
فَائِدَةٌ : فَإِنْ قِيلَ فِي حَدِيثِ عَمَّارٍ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : إنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً ثُمَّ نَفَضَهُمَا ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ } رَوَاهُ الشَّيْخَانِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ صُورَةِ الضَّرْبِ لِلتَّعْلِيمِ ، لَا بَيَانُ جَمِيعِ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّيَمُّمُ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَلَا يَخْفَى
ضَعْفُهُ ، وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ كَمَا قَالَهُ الْمَحَامِلِيُّ وَابْنُ الْمُقْرِي عَلَى مَرَّتَيْنِ : أَيْ إنْ حَصَلَ الِاسْتِيعَابُ بِهِمَا وَإِلَّا لَمْ تُكْرَهْ بَلْ تَجِبُ ، وَظَاهِرُ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ بِنَحْوِ خِرْقَةٍ ضَرْبَةً وَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إلَّا جُزْءًا مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا كَأُصْبُعٍ ، ثُمَّ ضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى وَمَسَحَ بِهَا ذَلِكَ الْجُزْءَ أَنَّهُ يَكْفِي لِوُجُودِ الضَّرْبَتَيْنِ ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ يُخَالِفُهُ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ الضَّرْبُ ، فَلَوْ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى تُرَابٍ نَاعِمٍ وَعَلِقَ بِهِمَا غُبَارٌ كَفَى ، فَسَقَطَ مَا قِيلَ إنَّهُ يُشْكِلُ عَلَى وُجُوبِ ضَرْبَتَيْنِ تَصْحِيحُ جَوَازِ التَّمَعُّك بِالتُّرَابِ ( وَيُقَدِّمُ ) نَدْبًا ( يَمِينَهُ ) عَلَى يَسَارِهِ ( وَأَعْلَى وَجْهِهِ ) عَلَى أَسْفَلِهِ كَمَا فِي الْوُضُوءِ ، وَقِيلَ : يَبْدَأُ بِأَسْفَلِهِ ثُمَّ يَسْتَعْلِي وَفَارَقَ الْوُضُوءَ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَنْحَدِرُ بِطَبْعِهِ فَيَعُمُّ الْوَجْهَ ، وَالتُّرَابُ لَا يَجْرِي إلَّا بِإِمْرَارِهِ بِالْيَدِ ، فَيَبْدَأُ بِأَسْفَلِ وَجْهِهِ لِيُقِلَّ مَا يَحْصُلُ فِي أَعْلَاهُ مِنْ الْغُبَارِ ، فَيَكُونُ أَسْلَمَ لِعَيْنَيْهِ .
وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : ظَاهِرُ عِبَارَةِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا اسْتِحْبَابَ فِي الْبُدَاءَةِ بِشَيْءٍ مِنْ الْوَجْهِ دُونَ شَيْءٍ ا هـ
وَيُخَفِّفُ الْغُبَارَ .
وَمُوَالَاةُ التَّيَمُّمِ كَالْوُضُوءِ .
قُلْتُ : وَكَذَا الْغُسْلُ ، وَيُنْدَبُ تَفْرِيقُ أَصَابِعِهِ أَوَّلًا ، وَيَجِبُ نَزْعُ خَاتَمِهِ فِي الثَّانِيَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَسْقَطَ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْمُحَرَّرِ ذِكْرَ كَيْفِيَّةِ التَّيَمُّمِ الْمَشْهُورَةِ مِنْ غَيْرِ تَنْبِيهٍ عَلَيْهَا فِي الدَّقَائِقِ ، وَهِيَ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ مُسْتَحَبَّةٌ ، وَإِنْ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : إنَّهَا غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ حَفِظَ شَيْئًا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ .
وَصُورَتُهَا : أَنْ يَضَعَ بُطُونَ أَصَابِعِ الْيُسْرَى سِوَى الْإِبْهَامِ عَلَى ظَهْرِ أَصَابِعِ الْيُمْنَى سِوَى الْإِبْهَامِ بِحَيْثُ لَا تَخْرُجُ أَنَامِلُ الْيُمْنَى عَنْ مُسَبَّحَةِ الْيُسْرَى وَلَا مُسَبَّحَةُ الْيُمْنَى عَنْ أَنَامِلِ الْيُسْرَى وَيُمِرُّهَا عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُمْنَى ، فَإِذَا بَلَغَ الْكُوعَ ضَمَّ أَطْرَافَ أَصَابِعِهِ إلَى حَرْفِ الذِّرَاعِ وَيُمِرُّهَا إلَى الْمِرْفَقِ ثُمَّ يُدِيرُ بَطْنَ كَفِّهِ إلَى بَطْنِ الذِّرَاعِ فَيُمِرُّهَا عَلَيْهِ رَافِعًا إبْهَامَهُ ، فَإِذَا بَلَغَ الْكُوعَ أَمَرَّ إبْهَامَ الْيُسْرَى عَلَى إبْهَامِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَفْعَلُ بِالْيُسْرَى كَذَلِكَ ثُمَّ يَمْسَحُ إحْدَى الرَّاحَتَيْنِ بِالْأُخْرَى ، وَيُمِرُّ التُّرَابُ عَلَى الْعُضْوِ كَالْوُضُوءِ وَخُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ ( وَيُخَفِّفُ الْغُبَارَ ) مِنْ كَفَّيْهِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا إنْ كَانَ كَثِيرًا بِالنَّفْضِ أَوْ النَّفْخِ بِحَيْثُ يَبْقَى قَدْرُ الْحَاجَةِ لِخَبَرِ عَمَّارٍ وَغَيْرِهِ ، وَلِئَلَّا تَتَشَوَّهَ بِهِ خِلْقَتُهُ .
أَمَّا مَسْحُ التُّرَابِ مِنْ أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ فَالْأَحَبُّ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الصَّلَاةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ( وَمُوَالَاةُ التَّيَمُّمِ كَالْوُضُوءِ ) فَيَأْتِي فِيهِ الْقَوْلَانِ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ ، وَإِذَا اعْتَبَرْنَا هُنَاكَ الْجَفَافَ اعْتَبَرْنَاهُ هُنَا أَيْضًا بِتَقْدِيرِهِ مَاءً ، وَتُسَنُّ الْمُوَالَاةُ أَيْضًا بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالصَّلَاةِ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهَا ، وَتَجِبُ الْمُوَلَّاةُ بِقِسْمَيْهَا فِي تَيَمُّمٍ دَائِمِ الْحَدَثِ كَمَا تَجِبُ فِي وُضُوئِهِ تَخْفِيفًا لِلْمَانِعِ ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ يَتَكَرَّرُ ، وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ
بِالْمُوَالَاةِ ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ دَاخِلَةٌ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّهُ شَبَّهَ التَّيَمُّمَ بِالْوُضُوءِ ( قُلْتُ : وَكَذَا الْغُسْلُ ) أَيْ تُسَنُّ مُوَالَاتُهُ كَالْوُضُوءِ ( وَيُنْدَبُ ) أَنْ لَا يَرْفَعَ الْيَدَ الْمَاسِحَةَ عَنْ عُضْوٍ قَبْلَ تَمَامِهِ مَسْحًا خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بِالْمَاسِحَةِ يَصِيرُ بِالْفَصْلِ مُسْتَعْمَلًا ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ هُوَ الْبَاقِي بِالْمَمْسُوحَةِ .
وَأَمَّا الْبَاقِي بِالْمَاسِحَةِ فَفِي حُكْمِ التُّرَابِ الَّذِي تُضْرَبُ عَلَيْهِ الْيَدُ مَرَّتَيْنِ ، وَيُسَنُّ ( تَفْرِيقُ أَصَابِعِهِ أَوَّلًا ) أَيْ أَوَّلَ الضَّرْبِ فِي الضَّرْبَتَيْنِ .
أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِزِيَادَةِ إثَارَةِ الْغُبَارِ بِاخْتِلَافِ مَوَاقِعِ الْأَصَابِعِ إذَا تَفَرَّقَتْ .
وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلْيَسْتَغْنِ بِالْوَاصِلِ عَنْ الْمَسْحِ بِمَا عَلَى الْكَفِّ .
فَإِنْ قِيلَ : يَلْزَمُ عَلَى التَّفْرِيقِ فِي الْأُولَى عَدَمُ صِحَّةِ تَيَمُّمِهِ بِمَنْعِ الْغُبَارِ الْحَاصِلِ فِيهَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ وُصُولُ الْغُبَارِ فِي الثَّانِيَةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى التَّفْرِيقِ فِي الْأُولَى أَجْزَأَهُ لِعَدَمِ وُجُوبِ تَرْتِيبِ النَّقْلِ كَمَا مَرَّ ، فَحُصُولِ التُّرَابِ الثَّانِي إنْ لَمْ يُزِدْ الْأَوَّلَ قُوَّةً لَمْ يُنْقِصْهُ ، وَأَيْضًا الْغُبَارُ عَلَى الْمَحَلِّ لَا يَمْنَعُ الْمَسْحَ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ غَشِيَهُ غُبَارُ السَّفَرِ لَا يُكَلَّفُ نَفْضُهُ لِلتَّيَمُّمِ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ ، وَقَوْلُ الْبَغَوِيِّ يُكَلَّفُ نَفْضُ التُّرَابِ مَحْمُولٌ عَلَى تُرَابٍ يَمْنَعُ وُصُولَ التُّرَابِ إلَى الْمَحَلِّ كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا ، وَيُنْدَبُ تَخْلِيلُ أَصَابِعِهِ بَعْدَ مَسْحِ الْيَدَيْنِ احْتِيَاطًا ، وَيَجِبُ إنْ لَمْ يُفَرِّقْ أَصَابِعَهُ فِي الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّ مَا وَصَلَ إلَيْهِ قَبْلَ مَسْحِ الْوَجْهِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ فِي حُصُولِ الْمَسْحِ ، وَيُنْدَبُ مَسْحُ إحْدَى الرَّاحَتَيْنِ بِالْأُخْرَى كَمَا مَرَّ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ مَسْحِ الذِّرَاعَيْنِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ ؛ لِأَنَّ فَرْضَهُمَا تَأَدَّى بِضَرْبِهِمَا بَعْدَ مَسْحِ
الْوَجْهِ ، وَإِنَّمَا جَازَ مَسْحُ الذِّرَاعَيْنِ بِتُرَابِهِمَا لِعَدَمِ انْفِصَالِهِ وَلِلْحَاجَةِ إذْ لَا يُمْكِنُ مَسْحُ الذِّرَاعِ بِكَفِّهَا فَصَارَ كَنَقْلِ الْمَاءِ مِنْ بَعْضِ الْعُضْوِ إلَى بَعْضِهِ كَمَا قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ .
قَالَ شَيْخُنَا : وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِنَقْلِ الْمَاءِ تَقَاذُفَهُ الَّذِي يَغْلِبُ كَمَا عَبَّرَ بِهِ الرَّافِعِيُّ وَهُوَ مُرَادُهُ بِلَا شَكٍّ ( وَيَجِبُ نَزْعُ خَاتَمِهِ فِي الثَّانِيَةِ ) لِيَصِلَ التُّرَابُ إلَى مَحَلِّهِ ، وَلَا يَكْفِي تَحْرِيكُهُ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) وَهَذَا بِخِلَافِ الْوُضُوءِ ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ كَثِيفٌ لَا يَسْرِي إلَى مَا تَحْتَ الْخَاتَمِ بِخِلَافِ الْمَاءِ ، وَافْهَمْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْأُولَى ، وَهُوَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ ؛ لِيَكُونَ مَسْحُ جَمِيعِ الْوَجْهِ بِالْيَدِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ ، وَإِيجَابُ النَّزْعِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ الْمَسْحِ لَا عِنْدَ النَّقْلِ ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ عِبَارَتِهِ الثَّانِي ، وَإِيجَابُهُ لَيْسَ لِعَيْنِهِ ، بَلْ لِإِيصَالِ التُّرَابِ إلَى مَا تَحْتَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى غَالِبًا إلَّا بِالنَّزْعِ ، فَإِنْ فُرِضَ وُصُولُهُ إلَى مَا تَحْتَهُ لِوُسْعِهِ مَثَلًا لَمْ يَجِبْ نَزْعُهُ ، وَالْخَاتَمُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا .
قَالَ تَعَالَى : { وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } [ الْأَحْزَابَ ] قُرِئَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا ، وَيُقَالُ فِيهِ خَاتَامٌ وَخَيْتَامٌ وَخَتَمٌ بِفَتْحِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ، وَخِتَامٌ عَلَى وَزْنِ كِتَابٍ ، وَيُسَنُّ عَدَمُ تَكْرَارِ الْمَسْحِ ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ فِيهِ تَخْفِيفُ التُّرَابِ ، وَأَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ عَقِبَهُ ، وَأَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ كَالْوُضُوءِ فِيهِمَا ، وَلَوْ مَسَحَ وَجْهَهُ بِيَدِهِ النَّجِسَةِ لَمْ يَجُزْ كَالْمَسْحِ عَلَيْهَا كَمَا لَا يَصِحُّ غَسْلُهَا عَنْ الْحَدَثِ مَعَ بَقَاءِ النَّجَاسَةِ ، وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ لِإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ وَلَا إبَاحَةَ مَعَ الْمَانِعِ فَأَشْبَهَ التَّيَمُّمَ قَبْلَ الْوَقْتِ ، وَتَقَدَّمَ فِي آدَابِ الْخَلَاءِ وُجُوبُ تَقْدِيمِ الِاسْتِنْجَاءِ عَلَى التَّيَمُّمِ ، وَيَجِبُ أَيْضًا تَقْدِيمُ إزَالَةِ
نَجِسٍ بِبَاقِي الْبَدَنِ كَمَا صَحَّحَهُ فِي التَّحْقِيقِ فِي بَابِ الِاسْتِنْجَاءِ ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فَإِنَّهُ الْمَنْصُوصُ فِي الْأُمِّ .
وَلَوْ تَنَجَّسَ بَدَنُهُ بَعْدَ أَنْ تَيَمَّمَ لَمْ يَبْطُلْ تَيَمُّمُهُ .
وَيَصِحُّ تَيَمُّمُ الْعُرْيَانِ وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى السُّتْرَةِ وَالتَّيَمُّمُ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ .
قَالَ فِي التَّحْقِيقِ كَتَيَمُّمِ مَنْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ ، وَنَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا عَنْ الرُّويَانِيِّ ، وَقَضِيَّتُهُ عَدَمُ الصِّحَّةِ ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّحَّةِ مَعَ الْعُرْيِ بِأَنَّ السِّتْرَ أَخَفُّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ مَعَ الْعُرْيِ بِلَا إعَادَةٍ بِخِلَافِهَا مَعَ عَدَمِ مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ هَذَا ، وَالْأَوْجَهُ الصِّحَّةُ كَصِحَّتِهِ قَبْلَ السِّتْرِ ، وَيُفَارِقُ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ أَنَّهُ أَخَفُّ مِنْهَا ، وَلِهَذَا تَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لِأَرْبَعِ جِهَاتٍ بِالِاجْتِهَادِ بِلَا إعَادَةٍ بِخِلَافِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ ، وَالتَّشْبِيهُ الْمَذْكُورُ لَا يَسْتَلْزِمُ اتِّحَادَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ فِي التَّرْجِيحِ .
وَمَنْ تَيَمَّمَ لِفَقْدِ مَاءٍ فَوَجَدَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ بَطَلَ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِمَانِعٍ كَعَطَشٍ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي أَحْكَامِ التَّيَمُّمِ ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ : أَحَدُهَا : مَا يُبْطِلُهُ غَيْرُ الْحَدَثِ الْمُبْطِلِ لَهُ ، وَقَدْ بَدَأَ بِهِ فَقَالَ ( وَمَنْ تَيَمَّمَ لِفَقْدِ مَاءٍ فَوَجَدَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ بَطَلَ ) تَيَمُّمُهُ وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَلِخَبَرِ أَبِي ذَرٍّ { التُّرَابُ كَافِيكَ ، وَلَوْ لَمْ تَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ حِجَجٍ فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَك } رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ ( 1 ) وَلِأَنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ فِي الْمَقْصُودِ فَصَارَ كَمَا لَوْ رَآهُ فِي أَثْنَاءِ التَّيَمُّمِ وَوُجُودِ ثَمَنِ الْمَاءِ عِنْدَ إمْكَانِ شِرَائِهِ كَوُجُودِ الْمَاءِ ، وَكَذَا تَوَهُّمُ الْمَاءِ ، وَإِنْ زَالَ سَرِيعًا لِوُجُوبِ طَلَبِهِ بِخِلَافِ تَوَهُّمِهِ السُّتْرَةَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ طَلَبُهَا ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَدَمُ وِجْدَانِهَا بِالطَّلَبِ لِلْبُخْلِ بِهَا ، وَمِمَّا يُبْطِلُهُ أَيْضًا الرِّدَّةُ كَمَا مَرَّ فِي الْوُضُوءِ ، وَمِنْ التَّوَهُّمِ رُؤْيَةُ سَرَابٍ وَهُوَ مَا يُرَى نِصْفَ النَّهَارِ كَأَنَّهُ مَاءٌ أَوْ رُؤْيَةُ غَمَامَةٍ مُطْبِقَةٍ بِقُرْبِهِ أَوْ رُؤْيَةُ رَكْبٍ طَلَعَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُتَوَهَّمُ مَعَهُ الْمَاءُ ، فَلَوْ سَمِعَ قَائِلًا يَقُولُ : عِنْدِي مَاءٌ لِغَائِبٍ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ لِعِلْمِهِ بِالْمَاءِ قَبْلَ الْمَانِعِ ، أَوْ يَقُولُ عِنْدِي لِغَائِبٍ مَاءٌ لَمْ يَبْطُلْ تَيَمُّمُهُ لِمُقَارَنَةِ الْمَانِعِ وُجُودَ الْمَاءِ ، وَلَوْ قَالَ : عِنْدِي لِحَاضِرٍ مَاءٌ وَجَبَ طَلَبُهُ مِنْهُ ، وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ مَاءٌ وَلَمْ يَعْلَمْ السَّامِعُ غَيْبَتَهُ وَلَا حُضُورَهُ وَجَبَ السُّؤَالُ عَنْهُ أَيْ وَبَطَلَ تَيَمُّمُهُ فِي الصُّورَتَيْنِ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ وُجُوبَ الطَّلَبِ يُبْطِلُهُ ، وَلَوْ سَمِعَهُ يَقُولُ : عِنْدِي مَاءٌ وَرَدَ هَلْ يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ أَوْ لَا ؟ فِيهِ نَظَرٌ ، وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ ، ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ تَعَرَّضَ لَهُ وَجَزَمَ بِبُطْلَانِ التَّيَمُّمِ ، وَوُجُودُ مَا ذُكِرَ قَبْلَ تَمَامِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ كَوُجُودِهِ قَبْلَ
الشُّرُوعِ فِيهَا .
فَإِنْ قُلْت : هَلَّا كَانَ وُجُودُ الْمَاءِ كَوُجُودِ الْمُكَفِّرِ الرَّقَبَةَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّوْمِ ، وَكَحَيْضِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ فَرَاغِهَا مِنْ الْعِدَّةِ بِالْأَشْهُرِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الصَّوْمَ وَالْأَشْهُرَ مَقْصُودَانِ بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ .
أَمَّا بَعْدَ شُرُوعِهِ فِيهَا فَلَا بُطْلَانَ بِتَوَهُّمٍ أَوْ شَكٍّ أَوْ ظَنٍّ ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ التَّيَقُّنِ ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ لِفَقْدِ مَاءٍ عَمَّا إذَا تَيَمَّمَ لِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ ، وَلَا أَثَرَ لِوُجُودِهِ وَإِنَّمَا يُبْطِلُهُ وُجُودُ الْمَاءِ أَوْ تَوَهُّمُهُ ( إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِمَانِعٍ ) يَمْنَعُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ ( كَعَطَشٍ ) وَسَبُعٍ ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ ، وَالْحَالَةَ هَذِهِ كَالْعَدَمِ .
أَوْ فِي صَلَاةٍ لَا تَسْقُطُ بِهِ بَطَلَتْ عَلَى الْمَشْهُورِ ، وَإِنْ أَسْقَطَهَا فَلَا ، وَقِيلَ يَبْطُلُ النَّفَلُ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ قَطْعَهَا لِيَتَوَضَّأَ أَفْضَلُ .
( أَوْ ) إنْ وَجَدَهُ ( فِي صَلَاةٍ لَا تَسْقُطُ ) أَيْ لَا يَسْقُطُ قَضَاؤُهَا ( بِهِ ) أَيْ بِالتَّيَمُّمِ بِأَنْ صَلَّى فِي مَكَان يَغْلِبُ فِيهِ وُجُودُ الْمَاءِ ( بَطَلَتْ ) صَلَاتُهُ ( عَلَى الْمَشْهُورِ ) إذْ لَا فَائِدَةَ بِالِاشْتِغَالِ بِهَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إعَادَتِهَا ، وَالثَّانِي لَا تَبْطُلُ مُحَافَظَةً عَلَى حُرْمَتِهَا وَيُعِيدُهَا ، وَهُوَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ فَالْخِلَافُ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا وَجْهَانِ ، فَكَانَ التَّعْبِيرُ بِالصَّحِيحِ كَمَا فِي الشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ أَوْلَى ، وَلَوْ وَجْهُ الْبُطْلَانِ لِلتَّيَمُّمِ لَكَانَ أَوْلَى إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِهَا بُطْلَانُهُ بِخِلَافِ الْعَكْسِ مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي بُطْلَانِهِ لَا فِي بُطْلَانِهَا ( وَإِنْ أَسْقَطَهَا ) أَيْ أَسْقَطَ التَّيَمُّمُ قَضَاءَهَا ( فَلَا ) تَبْطُلُ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ شَرَعَ فِي الْمَقْصُودِ فَكَانَ كَمَا لَوْ وَجَدَ الْمُكَفِّرُ الرَّقَبَةَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ ، وَلِأَنَّ وُجُودَ الْمَاءِ لَيْسَ حَدَثًا .
لَكِنَّهُ مَانِعٌ مِنْ ابْتِدَاءِ التَّيَمُّمِ ، وَلَيْسَ كَالْمُصَلِّي بِالْخُفِّ يَتَخَرَّقُ فِيهَا ، إذْ لَا يَجُوزُ افْتِتَاحُهَا مَعَ تَخَرُّقِهِ بِحَالٍ وَلِتَقْصِيرِهِ بِعَدَمِ تَعَهُّدِهِ ، وَلَا كَالْمُعْتَدَّةِ بِالْأَشْهُرِ فَتَحِيضُ فِيهَا لِقُدْرَتِهَا عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْبَدَلِ بِخِلَافِ الْمُتَيَمِّمِ فِيهِمَا ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ صَلَاةِ الْفَرْضِ كَظُهْرٍ وَصَلَاةِ جِنَازَةٍ ، وَالنَّفَلِ كَعِيدٍ وَوِتْرٍ ( وَقِيلَ يَبْطُلُ النَّفَلُ ) لِقُصُورِ حُرْمَتِهِ عَنْ حُرْمَةِ الْفَرْضِ ، إذْ الْفَرْضُ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ بِخِلَافِ النَّفْلِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ ، كَمَا لَوْ قَلَّدَ الْأَعْمَى غَيْرَهُ فِي الْقِبْلَةِ ثُمَّ أَبْصَرَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ مَعَ أَنَّ الضَّرُورَةَ زَالَتْ فِيهِمَا .
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا قَدْ فَرَغَ مِنْ الْبَدَلِ ، وَهُوَ التَّيَمُّمُ بِخِلَافِهِ ثَمَّ فَإِنَّهُ مَا دَامَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مُقَلِّدٌ ، وَلَوْ رَأَى الْمُسَافِرُ الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ وَهُوَ قَاصِرٌ
ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ ، أَوْ نَوَى الْقَاصِرُ الْإِتْمَامَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِقَامَةِ فِي الْأُولَى وَلِحُدُوثِ مَا لَمْ يَسْتَبِحْهُ فِيهَا فِي الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِتْمَامَ كَافْتِتَاحِ صَلَاةٍ أُخْرَى وَانْدَفَعَ بِتَصْوِيرِ الْأُولَى بِالْقَصْرِ كَالثَّانِيَةِ مَا اسْتَشْكَلَهُ الْإِسْنَوِيُّ مِنْ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا سَيَأْتِي أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إنْ تَيَمَّمَ بِمَحَلٍّ يَغْلِبُ فِيهِ وُجُودُ الْمَاءِ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ ، أَوْ بِمَحَلٍّ يَغْلِبُ فِيهِ عَدَمُهُ فَلَا وَإِنْ نَوَاهَا فَلَا تَأْثِيرَ لِنِيَّتِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : هَاتَانِ الصُّورَتَانِ وَارِدَتَانِ عَلَى الْمُصَنِّفِ فَإِنَّهُ شَرَعَ فِيهِمَا فِي مَحَلٍّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِيهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ : أَسْقَطَهَا أَخْرَجَ الصُّورَتَيْنِ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ صَارَتْ مِمَّا لَا تَسْقُطُ بِالتَّيَمُّمِ ، وَخَرَجَ بِعِنْدَ رُؤْيَةُ الْمَاءِ مَا لَوْ تَأَخَّرَتْ رُؤْيَتُهُ عَنْ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ أَوْ الْإِتْمَامِ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَلَوْ قَارَنَتْ الرُّؤْيَةُ الْإِقَامَةَ أَوْ الْإِتْمَامَ هَلْ هِيَ كَالْمُتَقَدِّمَةِ فَتَضُرُّ أَوْ كَالْمُتَأَخِّرَةِ فَلَا تَضُرُّ ؟ مُقْتَضَى التَّعْبِيرِ بِعِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ كَمَا عَبَّرْت بِهِ تَبَعًا لِابْنِ الْمُقْرِي الْأَوَّلِ وَاعْتَمَدَهُ شَيْخِي ، وَمُقْتَضَى التَّعْبِيرِ بِبَعْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ الثَّانِي وَاعْتَمَدَهُ شَيْخُنَا ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ الْمُقَارَنَةِ الْمَانِعِ ، وَشِفَاءِ الْمَرِيضِ مِنْ مَرَضِهِ فِي الصَّلَاةِ : كَوِجْدَانِ الْمُسَافِرِ الْمَاءَ فِيهَا فَيَنْظُرُ إنْ كَانَتْ مِمَّا تَسْقُطُ بِالتَّيَمُّمِ لَمْ تَبْطُلْ ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا تَسْقُطُ بِالتَّيَمُّمِ كَأَنْ تَيَمَّمَ وَقَدْ وَضَعَ الْجَبِيرَةَ عَلَى حَدَثٍ بَطَلَتْ ( وَالْأَصَحُّ إنْ قَطَعَهَا ) أَيْ الْفَرِيضَةَ الَّتِي تَسْقُطُ بِالتَّيَمُّمِ ( لِيَتَوَضَّأَ ) وَيُصَلِّيَ بَدَلَهَا ( أَفْضَلُ ) مِنْ إتْمَامِهَا فَرْضًا كَانَتْ الصَّلَاةُ أَوْ نَفْلًا كَوُجُودِ الْمُكَفِّرِ
الرَّقَبَةَ فِي أَثْنَاءِ الصَّوْمِ ، وَلِيَخْرُجَ مِنْ خِلَافِ مَنْ حَرَّمَ إتْمَامَهَا إلَّا إذَا ضَاقَ وَقْتُ الْفَرِيضَةِ فَيَحْرُمُ قَطْعُهَا كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي التَّحْقِيقِ ، وَنَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْإِمَامِ ، وَقَالَ إنَّهُ مُتَعَيَّنٌ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا يُخَالِفُهُ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الرَّوْضَةِ أَنَّهُ وَجْهٌ ضَعِيفٌ ، وَالثَّانِي الْإِتْمَامُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ فِيهِ إبْطَالٌ لِلْعَمَلِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [ مُحَمَّدُ ] وَقِيلَ الْأَفْضَلُ أَنْ يَقْلِبَ فَرْضَهُ نَفْلًا وَيُسَلِّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ .
أَمَّا النَّفَلُ فَقَطْعُهُ لِيَتَوَضَّأَ أَفْضَلُ جَزْمًا .
فُرُوعٌ : لَوْ يُمِّمَ مَيِّتٌ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ثُمَّ وُجِدَ الْمَاءُ وَجَبَ غُسْلُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَمْ بَعْدَهَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ .
ثُمَّ قَالَ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجِبَ وَمَا قَالَهُ مَحَلُّهُ فِي الْحَضَرِ .
أَمَّا فِي السَّفَرِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَالْحَيِّ جَزَمَ بِهِ ابْنُ سُرَاقَةَ فِي تَلْقِينِهِ ، لَكِنَّهُ فَرَضَهُ فِي الْوِجْدَانِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، فَعُلِمَ أَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ كَغَيْرِهَا وَأَنَّ تَيَمُّمَ الْمَيِّتِ كَتَيَمُّمِ الْحَيِّ .
وَلَوْ رَأَى الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالتَّيَمُّمِ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ بِسَلَامِهِ مِنْهَا ، وَإِنْ عَلِمَ تَلَفَهُ قَبْلَ سَلَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ ضَعُفَ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ وَكَانَ مُقْتَضَاهُ بُطْلَانَ الصَّلَاةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا لَكِنْ خَالَفْنَاهُ لِحُرْمَتِهَا ، وَيُسَلِّمُ الثَّانِيَةَ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الصَّلَاةِ كَمَا بَحَثَهُ الْمُصَنِّفُ تَبَعًا لِلرُّويَانِيِّ وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ وَالِدُ الرُّويَانِيِّ
، وَلَوْ رَأَتْ حَائِضٌ تَيَمَّمَتْ لِفَقْدِ الْمَاءِ - الْمَاءَ وَهُوَ يُجَامِعُهَا حَرُمَ عَلَيْهَا تَمْكِينُهُ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ وَوَجَبَ النَّزْعُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ لِبُطْلَانِ طُهْرِهَا ، وَلَوْ رَآهُ هُوَ دُونَهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ النَّزْعُ لِبَقَاءِ طُهْرِهَا خِلَافًا لِمَا فِي الْأَنْوَارِ مِنْ وُجُوبِ النَّزْعِ .
وَلَوْ رَأَى الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَةٍ قَدْ تَيَمَّمَ لَهَا بَطَلَ تَيَمُّمَهُ بِالرُّؤْيَةِ سَوَاءٌ أَنَوَى قِرَاءَةَ قَدْرٍ مَعْلُومٍ أَمْ لَا لِبُعْدِ ارْتِبَاطِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ .
قَالَهُ الرُّويَانِيُّ .
وَأَنَّ الْمُتَنَفِّلَ لَا يُجَاوِزُ رَكْعَتَيْنِ إلَّا مَنْ نَوَى عَدَدًا فَيُتِمُّهُ .
( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّ الْمُتَنَفِّلَ ) الْوَاجِدَ لِلْمَاءِ فِي صَلَاتِهِ الَّذِي لَمْ يَنْوِ قَدْرًا ( لَا يُجَاوِزُ رَكْعَتَيْنِ ) بَلْ يُسَلِّمُ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ الْأَحَبُّ وَالْمَعْهُودُ فِي النَّفْلِ .
هَذَا إذَا رَأَى الْمَاءَ قَبْلَ قِيَامِهِ لِلثَّالِثَةِ فَمَا فَوْقَهَا وَإِلَّا أَتَمَّ مَا هُوَ فِيهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ ، وَقِيلَ : لَهُ أَنْ يَزِيدَ مَا شَاءَ كَمَا لَهُ تَطْوِيلُ الْأَرْكَانِ ، وَقِيلَ يَقْتَصِرُ عَلَى رَكْعَةٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَمْلَ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ عَلَيْهَا ( إلَّا مَنْ نَوَى ) شَيْئًا ( عَدَدًا ) أَوْ رَكْعَةً ( فَيُتِمُّهُ ) لِانْعِقَادِ نِيَّتِهِ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ الْمَكْتُوبَةَ الْمُقَدَّرَةَ وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ كَافْتِتَاحِ نَافِلَةٍ بِدَلِيلِ افْتِقَارِهَا إلَى قَصْدٍ جَدِيدٍ ، وَلَوْ عَبَّرَ بِمَا قَدَّرْته لِيَشْمَلَ الرَّكْعَةَ لَكَانَ أَوْلَى فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا كَمَا مَرَّ ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَيْسَ بِعَدَدٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَبْدَأُ الْعَدَدِ ، وَلَوْ رَأَى الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ .
قَالَ الْفُورَانِيُّ : إنْ قُلْنَا يَجُوزُ تَفْرِيقُهُ : أَيْ وَهُوَ الْأَصَحُّ تَوَضَّأَ وَإِلَّا فَكَالصَّلَاةِ .
وَلَا يُصَلِّي بِتَيَمُّمٍ غَيْرَ فَرْضٍ ، وَيَتَنَفَّلُ مَا شَاءَ ، وَالنَّذْرُ كَفَرْضٍ فِي الْأَظْهَرِ ، وَالْأَصَحُّ صِحَّةُ جَنَائِزَ مَعَ فَرْضٍ
ثُمَّ شَرَعَ فِي الْحُكْمِ الثَّانِي وَهُوَ مَا يُسْتَبَاحُ بِالتَّيَمُّمِ فَقَالَ ( وَلَا يُصَلِّي بِتَيَمُّمٍ غَيْرَ فَرْضٍ ) ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ كَانَ لِكُلِّ فَرْضٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ } [ الْمَائِدَةُ ] وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنْهُ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ { بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ الْفَتْحِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ } فَبَقِيَ التَّيَمُّمُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، وَلِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : " يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ " .
وَلِأَنَّهُ طَهَارَةٌ ضَرُورَةً ، وَمِثْلُ فَرْضِ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ فَرْضُ الطَّوَافِ ، وَخُطْبَةُ الْجُمُعَةِ ، فَيَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ بَيْنَ طَوَافَيْنِ مَفْرُوضَيْنِ وَبَيْنَ طَوَافِ فَرْضٍ وَفَرْضِ صَلَاةٍ ، وَبَيْنَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَخُطْبَتِهَا عَلَى مَا رَجَّحَاهُ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ وَإِنْ كَانَتْ فَرْضَ كِفَايَةٍ أُلْحِقَتْ بِفَرْضِ الْعَيْنِ ، إذْ قِيلَ إنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ ، فَإِنْ قِيلَ : لِمَ جَمَعَ بَيْنَ خُطْبَتَيْ الْجُمُعَةِ بِتَيَمُّمٍ ، وَهُمَا فَرْضَانِ ؟ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ ، وَلَوْ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ : وَلَا يَفْعَلُ بِتَيَمُّمٍ غَيْرَ فَرْضٍ كَانَ أَوْلَى لِيَعُمَّ الطَّوَافَيْنِ وَالطَّوَافَ وَالصَّلَاةَ كَمَا تَقَرَّرَ ، وَالصَّبِيُّ لَا يُؤَدِّي بِتَيَمُّمِهِ غَيْرَ فَرْضٍ كَالْبَالِغِ ؛ لِأَنَّ مَا يُؤَدِّيهِ كَالْفَرْضِ فِي النِّيَّةِ وَغَيْرِهَا .
نَعَمْ لَوْ تَيَمَّمَ لِلْفَرْضِ ثُمَّ بَلَغَ لَمْ يُصَلِّ بِهِ الْفَرْضَ ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ نَفْلٌ كَمَا صَحَّحَهُ فِي التَّحْقِيقِ وَنَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ جُعِلَ كَالْبَالِغِ فِي أَنَّهُ لَا يَجْمَعُ بِتَيَمُّمٍ فَرْضَيْنِ وَلَا يُصَلِّي بِهِ الْفَرْضَ إذَا بَلَغَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ فِي أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ لِلْفَرْضِ الثَّانِي وَيَتَيَمَّمُ إذَا بَلَغَ ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الِاحْتِيَاطِ ، وَخَرَجَ بِمَا ذُكِرَ تَمْكِينُ
الْحَائِضِ مِنْ الْوَطْءِ مِرَارًا ، وَجَمْعُهَا بَيْنَ فَرْضٍ آخَرَ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُمَا جَائِزَانِ ، وَقَوْلُ الدَّمِيرِيِّ : وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِ الْمُتَيَمِّمُ لِلْجَنَابَةِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ الْمَاءِ إذَا تَجَرَّدَتْ جَنَابَتُهُ عَنْ الْحَدَثِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِتَيَمُّمِهِ فَرَائِضَ ضَعِيفٌ تَبِعَ فِيهِ صَاحِبَ الْحَاوِي الصَّغِيرِ وَنَقَلَهُ عَنْ صَاحِبِ الْمِصْبَاحِ وَهُوَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ ؛ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ مَانِعَةٌ ( وَيَتَنَفَّلُ ) مَعَ الْفَرِيضَةِ وَبِدُونِهَا بِتَيَمُّمٍ ( مَا شَاءَ ) ؛ لِأَنَّ النَّوَافِلَ تَكْثُرُ فَيُؤَدِّي إيجَابُ التَّيَمُّمِ لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْهَا إلَى التَّرْكِ أَوْ إلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ فَخُفِّفَ فِي أَمْرِهَا كَمَا خُفِّفَ بِتَرْكِ الْقِيَامِ فِيهَا مَعَ الْقُدْرَةِ ، وَبِتَرْكِ الْقِبْلَةِ فِي السَّفَرِ ، وَلَوْ نَذَرَ إتْمَامَ كُلِّ صَلَاةٍ دَخَلَ فِيهَا فَلَهُ جَمْعُهَا مَعَ فَرْضٍ ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهَا نَفْلٌ ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ ، وَلَوْ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ مُنْفَرِدًا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ أَرَادَ إعَادَتَهَا جَمَاعَةً بِهِ جَازَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَفَّافُ ؛ لِأَنَّ فَرْضَهُ الْأُولَى عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَحَلِّهِ ثُمَّ كُلُّ صَلَاةٍ أَوْجَبْنَاهَا فِي الْوَقْتِ وَأَوْجَبْنَا إعَادَتَهَا كَمَرْبُوطٍ عَلَى خَشَبَةٍ فَفَرْضُهُ الثَّانِيَةُ ، وَلَهُ أَنْ يُعِيدَهَا بِتَيَمُّمِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ الْأُولَى وَإِنْ وَقَعَتْ نَفْلًا فَالْإِتْيَانُ بِهَا فَرْضٌ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ جَمَعَهُمَا بِتَيَمُّمٍ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فَرْضٌ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا كَالْمَنْسِيَّةِ مِنْ خَمْسٍ يَجُوزُ جَمْعُهَا بِتَيَمُّمٍ ، وَإِنْ كَانَتْ فُرُوضًا ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ بِالذَّاتِ وَاحِدَةٌ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ تَيَمَّمَ لِلْجُمُعَةِ وَلَزِمَهُ إعَادَةُ الظُّهْرِ كَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهُ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ لِمَا ذُكِرَ ( وَالنَّذْرُ ) بِالْمُعْجَمَةِ ( كَفَرْضٍ ) عَيْنِيٍّ ( فِي الْأَظْهَرِ ) لِتَعَيُّنِهِ عَلَى النَّاذِرِ فَأَشْبَهَ الْمَكْتُوبَةَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْمَعَهُ مَعَ فَرْضٍ آخَرَ مُؤَدَّاةً كَانَتْ أَوْ مَقْضِيَّةً بِتَيَمُّمٍ
وَاحِدٍ ، وَالثَّانِي : لَا لِأَنَّهُ وَاجِبٌ لِعَارِضٍ فَلَا يَلْحَقُ بِالْفَرْضِ الْأَصْلِيِّ فَلَهُ مَا ذُكِرَ ، وَلَوْ تَعَيَّنَ عَلَى ذِي حَدَثٍ أَكْبَرَ تَعَلُّمُ فَاتِحَةٍ أَوْ حَمْلُ مُصْحَفٍ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ : كَحَائِضٍ انْقَطَعَ حَيْضُهَا ، وَأَرَادَ الزَّوْجُ وَطَأْهَا وَتَيَمَّمَ مَنْ ذُكِرَ لِفَرِيضَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ ذَلِكَ مَعَهَا خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَنَّهُ كَالْمَنْذُورِ ( وَالْأَصَحُّ صِحَّةُ جَنَائِزَ ) أَوْ جِنَازَتَيْنِ أَوْ جِنَازَةٍ كَمَا فُهِمَ بِالْأُولَى ( مَعَ فَرْضٍ ) بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ ، وَإِنْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ بِأَنْ لَمْ يَحْضُرْ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ فَرَائِضِ الْأَعْيَانِ ، فَهِيَ كَالنَّفْلِ فِي جَوَازِ التَّرْكِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ الْقِيَامُ فِيهَا مَعَ الْقُدْرَةِ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ قِوَامُهَا لِعَدَمِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِيهَا فَتَرْكُهُ يَمْحَقُ صُورَتَهَا ، وَالثَّانِي : لَا تَصِحُّ ؛ لِأَنَّهَا فَرْضٌ فِي الْجُمْلَةِ ، وَالْفَرْضُ بِالْفَرْضِ أَشْبَهُ ، وَالثَّالِثُ إنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ صَحَّتْ كَالنَّفْلِ ، وَإِنْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ فَلَا كَالْفَرْضِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ مَعَ فَرْضِ أَنَّهُ مُرَادُهُ إذَا تَيَمَّمَ لِفَرْضٍ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ ذَلِكَ الْفَرْضَ وَيُصَلِّيَ مَعَهُ أَيْضًا عَلَى جَنَائِزَ ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا تَيَمَّمَ لِنَافِلَةٍ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ الْجِنَازَةَ لِأَنَّهَا كَالنَّفْلِ كَمَا مَرَّ ، وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَصَّلَ تَفْصِيلًا غَرِيبًا فَقَالَ : صَلَاةُ الْجِنَازَةِ رُتْبَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ : أَيْ فَيُصَلِّي بِتَيَمُّمِ الْفَرِيضَةِ الْجِنَازَةَ وَبِتَيَمُّمِ الْجِنَازَةِ النَّافِلَةَ وَلَا يُصَلِّي بِتَيَمُّمِ النَّافِلَةِ الْجِنَازَةَ وَلَا بِتَيَمُّمِ الْجِنَازَةِ الْفَرِيضَةَ وَهُوَ مَمْنُوعٌ فِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ صَحِيحٌ فِي الْبَاقِي .
وَأَنَّ مَنْ نَسِيَ إحْدَى الْخَمْسِ كَفَاهُ تَيَمُّمٌ لَهُنَّ .
( وَ ) الْأَصَحُّ وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالصَّحِيحِ ( أَنَّ مَنْ نَسِيَ إحْدَى الْخَمْسِ ) وَلَمْ يَعْلَمْ عَيْنَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الْخَمْسَ لِتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ بِيَقِينٍ ، وَإِذَا أَرَادَ صَلَاتَهُنَّ بِالتَّيَمُّمِ ( كَفَاهُ تَيَمُّمٌ لَهُنَّ ) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِنَّ وَاحِدَةٌ وَالْبَاقِي وَسِيلَةٌ ، وَلَوْ قَدَّمَ لَهُنَّ عَلَى تَيَمُّمٍ لَكَانَ أَوْلَى لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ إنَّمَا يَكْفِيهِ تَيَمُّمٌ إذَا نَوَى بِهِ الْخَمْسَ ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ إنَّمَا يَتَيَمَّمُ تَيَمُّمًا وَاحِدًا لِلْمَنْسِيَّةِ وَيُصَلِّي بِهِ الْخَمْسَ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ السُّبْكِيُّ وَهُوَ ظَاهِرٌ إنْ عَلِقَ لَهُنَّ بِتَيَمُّمٍ ، فَإِنْ عُلِّقَ بِكَفَاهُ وَهُوَ أَوْلَى زَالَ التَّوَهُّمَ ، وَالثَّانِي : يَجِبُ خَمْسُ تَيَمُّمَاتٍ لِوُجُوبِ الْخَمْسِ ، وَلَوْ تَرَدَّدَ هَلْ تَرَكَ طَوَافَ فَرْضٍ أَوْ صَلَاةٍ مِنْ الْخَمْسِ صَلَّى الْخَمْسَ وَطَافَ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ لِمَا مَرَّ ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الْخَمْسِ أَنَّ ذِمَّتَهُ لَا تَبْرَأُ إلَّا بِالْجَمِيعِ ، وَأَغْرَبَ الْمُزَنِيّ فَقَالَ : يَنْوِي الْفَائِتَةَ وَيُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ يَجْهَرُ فِي الْأُولَيَيْنِ وَيَقْعُدُ فِي الثَّالِثَةِ وَالْأَخِيرَةِ ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ آتِيًا بِمَا عَلَيْهِ بِيَقِينٍ وَيُعْذَرُ فِي زِيَادَةِ الْقُعُودِ وَتَرَدُّدِ النِّيَّةِ لِلضَّرُورَةِ ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ لِأَجْلِ ذَلِكَ ا هـ .
وَإِنَّمَا قَالَ يَجْهَرُ فِي الْأُولَيَيْنِ ؛ لِأَنَّ غَالِبَ الصَّلَوَاتِ جَهْرِيَّةٌ ، وَغَلَّطَهُ الْأَصْحَابُ فِي ذَلِكَ .
وَإِنْ نَسِيَ مُخْتَلِفَتَيْنِ صَلَّى كُلَّ صَلَاةٍ بِتَيَمُّمٍ ، وَإِنْ شَاءَ تَيَمَّمَ مَرَّتَيْنِ وَصَلَّى بِالْأَوَّلِ أَرْبَعًا وَلَاءً ، وَبِالثَّانِي أَرْبَعًا لَيْسَ مِنْهَا الَّتِي بَدَأَ بِهَا .
( وَإِنْ نَسِيَ ) مِنْهُنَّ صَلَاتَيْنِ وَعَلِمَ كَوْنَهُمَا ( مُخْتَلِفَتَيْنِ ) كَصُبْحٍ وَظُهْرٍ سَوَاءٌ أَعَلِمَ أَنَّهُمَا مِنْ يَوْمٍ أَوْ مِنْ يَوْمَيْنِ فَإِنْ شَاءَ ( صَلَّى كُلَّ صَلَاةٍ ) مِنْهُنَّ ( بِتَيَمُّمٍ ) فَيُصَلِّي الْخَمْسَ بِخَمْسِ تَيَمُّمَاتٍ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ ابْنِ الْقَاصِّ ( وَإِنْ شَاءَ تَيَمَّمَ مَرَّتَيْنِ وَصَلَّى بِالْأَوَّلِ ) مِنْ التَّيَمُّمَيْنِ ( أَرْبَعًا ) وَقَوْلُهُ ( وَلَاءً ) كَالصُّبْحِ وَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ مِثَالٌ لَا شَرْطٌ ، وَقَوْلُهُ ( وَبِالثَّانِي ) مِنْ التَّيَمُّمَيْنِ ( أَرْبَعًا لَيْسَ مِنْهَا الَّتِي بَدَأَ بِهَا ) شَرْطٌ كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَيَبْرَأُ بِيَقِينٍ ؛ لِأَنَّ الْمَنْسِيَّتَيْنِ .
إمَّا الصُّبْحُ وَالظُّهْرُ أَوْ إحْدَاهُمَا مَعَ إحْدَى الثَّلَاثِ أَوْ هُمَا مِنْ الثَّلَاثِ ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ صَلَّى كُلًّا مِنْهُمَا بِتَيَمُّمِ .
أَمَّا إذَا كَانَ مِنْهَا الَّتِي بَدَأَ بِهَا كَأَنْ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالصُّبْحَ فَلَا يَبْرَأُ بِيَقِينٍ لِجَوَازِ كَوْنِ الْمَنْسِيَّتَيْنِ الْعِشَاءَ وَوَاحِدَةً غَيْرَ الصُّبْحِ ، فَبِالتَّيَمُّمِ الْأَوَّلِ تَصِحُّ تِلْكَ الْوَاحِدَةُ دُونَ الْعِشَاءِ ، وَبِالثَّانِي لَمْ يُصَلِّ الْعِشَاءَ ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ ابْنِ الْحَدَّادِ وَاسْتَحْسَنَهَا الْأَصْحَابُ وَفَرَّعُوا عَلَيْهَا مَا زَادَ مِنْ الْمَنْسِيِّ ، وَفِي ضَبْطِهَا ثَلَاثُ عِبَارَاتٍ .
الْأُولَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ كَالْحَاوِي الصَّغِيرِ ، وَهِيَ أَنْ يُصَلِّيَ بِكُلِّ تَيَمُّمٍ عَدَدًا غَيْرَ الْمَنْسِيِّ وَزِيَادَةَ صَلَاةٍ .
وَبَيَانُهُ فِي مِثَالِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ غَيْرَ الْمَنْسِيِّ ثَلَاثَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَنْسِيَّ ثِنْتَانِ وَيَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَاحِدَةً وَيُصَلِّي بِكُلِّ تَيَمُّمٍ أَرْبَعًا .
الثَّانِيَةُ : مَا فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ ، وَهُوَ أَنْ يَضْرِبَ الْمَنْسِيَّ فِي الْمَنْسِيِّ فِيهِ ، وَتَزِيدَ عَلَى الْحَاصِلِ قَدْرَ الْمَنْسِيِّ ثُمَّ تَضْرِبَ الْمَنْسِيَّ فِي نَفْسِهِ وَتُسْقِطَ الْحَاصِلَ مِنْ الْجُمْلَةِ فَالْبَاقِي عَدَدُ الصَّلَوَاتِ ، وَبَيَانُهُ فِي مِثَالِ الْمُصَنِّفِ أَنْ
تَضْرِبَ اثْنَيْنِ فِي خَمْسَةٍ يَحْصُل عَشْرَةٌ تَزِيدُ عَلَى الْحَاصِلِ اثْنَيْنِ ثُمَّ تَضْرِبَهُمَا فِيهِمَا يَحْصُلُ أَرْبَعَةٌ تُسْقِطُهَا مِنْ الِاثْنَيْ عَشَرَ يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ .
الثَّالِثَةُ : مَا فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ ، وَهِيَ أَنْ يَتَيَمَّمَ بِعَدَدِ الْمَنْسِيِّ وَتَزِيدَ عَلَى قَدْرِ الْمَنْسِيِّ فِيهِ عَدَدًا لَا يَنْقُصُ عَمَّا يَبْقَى مِنْ الْمَنْسِيِّ فِيهِ بَعْدَ إسْقَاطِ الْمَنْسِيِّ وَيَنْقَسِمُ صَحِيحًا عَلَى الْمَنْسِيِّ ، وَبَيَانُهُ فِي مِثَالِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمَنْسِيَّ صَلَاتَانِ ، وَالْمَنْسِيَّ فِيهِ خَمْسٌ تَزِيدُ عَلَيْهَا ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْقُصُ عَمَّا يَبْقَى مِنْ الْخَمْسَةِ بَعْدَ إسْقَاطِ الِاثْنَيْنِ بَلْ تُسَاوِيهِ ، وَعَلَى الْعِبَارَاتِ كُلِّهَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَتْرُكَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مَا بَدَأَ بِهِ فِي الْمَرَّةِ قَبْلَهَا كَمَا عُرِفَ .
أَوْ مُتَّفِقَتَيْنِ صَلَّى الْخَمْسَ مَرَّتَيْنِ بِتَيَمُّمَيْنِ
( أَوْ ) نَسِيَ صَلَاتَيْنِ وَعَلِمَ كَوْنَهُمَا ( مُتَّفِقَتَيْنِ ) وَلَمْ يَعْلَمْ عَيْنَهُمَا كَظُهْرَيْنِ ( صَلَّى الْخَمْسَ مَرَّتَيْنِ بِتَيَمُّمَيْنِ ) فَيُصَلِّي بِكُلِّ تَيَمُّمٍ الْخَمْسَ لِيَخْرُجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ وَلَا يَكُونَانِ ذَلِكَ إلَّا مِنْ يَوْمَيْنِ ، وَقِيلَ لَا بُدّ مِنْ عَشْرِ تَيَمُّمَاتٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ تَيَمُّمٌ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ اتِّفَاقَهُمَا وَلَا اخْتِلَافَهُمَا أَخَذَ بِالِاتِّفَاقِ احْتِيَاطًا وَلَا يَكْفِيهِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ ثَمَانِ صَلَوَاتٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ صُبْحَانِ أَوْ عِشَاءَانِ ، وَقِسْ مَا زَادَ مِنْ الْمَنْسِيِّ عَلَى صَلَاتَيْنِ عَلَى ذَلِكَ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ بِعَدَدِ الْمَنْسِيِّ وَيُصَلِّي بِكُلِّ تَيَمُّمٍ الْخَمْسَ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ تَذَكَّرَ الْمَنْسِيَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَجِبْ إعَادَتُهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرُّويَانِيُّ وَرَجَّحَهُ فِي الْمَجْمُوعِ مِنْ احْتِمَالَيْنِ : ثَانِيهِمَا : تَخْرِيجُهُ عَلَى مَا لَوْ ظَنَّ حَدَثًا فَتَوَضَّأَ لَهُ ثُمَّ تَيَقَّنَهُ وَمُقْتَضَاهُ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ .
وَلَا يَتَيَمَّمُ لِفَرْضٍ قَبْلَ وَقْتِ فِعْلِهِ .
( وَلَا يَتَيَمَّمُ لِفَرْضٍ قَبْلَ ) دُخُولِ ( وَقْتِ فِعْلِهِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ } [ الْمَائِدَةُ ] الْآيَةَ ، وَالْقِيَامُ إلَيْهَا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ ، خَرَجَ الْوُضُوءُ بِدَلِيلٍ فَبَقِيَ التَّيَمُّمُ ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ ضَرُورَةً فَلَا تُبَاحُ إلَّا عِنْدَ وَقْتِ الضَّرُورَةِ ، وَهُوَ قَبْلَ الْوَقْتِ غَيْرَ مَضْرُورٍ إلَيْهَا وَلَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ بِدُخُولِهِ يَقِينًا أَوْ ظَنًّا ، فَلَوْ تَيَمَّمَ شَاكًّا فِيهِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ صَادَفَ الْوَقْتَ كَمَا فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ ، وَيُشْتَرَطُ أَخْذُ التُّرَابِ الْمَقْرُونِ بِالنِّيَّةِ فِي الْوَقْتِ أَيْضًا ، فَلَوْ أَخَذَهُ قَبْلَهُ ثُمَّ مَسَحَ بِهِ بَعْدَهُ لَمْ يَصِحَّ ، وَشَمَلَ إطْلَاقُ الْفَرْضِ الْفَائِتَةَ وَوَقْتَهَا بِالتَّذَكُّرِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { مَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إذَا ذَكَرَهَا } وَلَوْ تَذَكَّرَ فَائِتَةً فَتَيَمَّمَ لَهَا ثُمَّ صَلَّى بِهِ حَاضِرَةً أَوْ عَكْسَهُ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ قَدْ صَحَّ لِمَا قَصَدَهُ فَصَحَّ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ غَيْرَهُ .
وَالْمَنْذُورَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَالْجِنَازَةُ وَيَدْخُلُ وَقْتُهَا بِانْقِضَاءِ طُهْرِ الْمَيِّتِ مِنْ غُسْلٍ أَوْ تَيَمُّمٍ وَإِنْ لَمْ يُكَفَّنْ ، لَكِنْ يُكْرَهُ التَّيَمُّمُ لَهَا قَبْلَ التَّكْفِينِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْمَجْمُوعِ ، وَلَوْ مَاتَ شَخْصٌ بَعْدَ أَنْ تَيَمَّمَ لِجِنَازَةٍ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ لِمَا مَرَّ ، وَيَدْخُلُ فِي الْوَقْتِ مَا تُجْمَعُ فِيهِ الثَّانِيَةُ مِنْ وَقْتِ الْأُولَى ، فَلَوْ تَيَمَّمَ لِلظُّهْرِ فَصَلَّاهَا ثُمَّ تَيَمَّمَ لِلْعَصْرِ لِيَجْمَعَهَا مَعَهَا صَحَّ ، فَإِنْ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَهَا بَطَلَ الْجَمْعُ لِزَوَالِ التَّبَعِيَّةِ .
قَالَ ابْنُ الْمُقْرِي تَبَعًا لِأَصْلِهِ ، وَبَطَلَ التَّيَمُّمُ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ قَبْلَ الْوَقْتِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الرَّافِعِيُّ ، بَلْ كَلَامُهُ يَقْتَضِي بَقَاءَهُ ، وَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ حَتَّى لَوْ صَلَّى بِهِ فَرِيضَةً غَيْرَهَا وَنَافِلَةً صَحَّ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَهُوَ الصَّوَابُ ، وَالْأَوْلَى مَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ إنَّمَا صَحَّ تَبَعًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَقَدْ زَالَتْ التَّبَعِيَّةُ بِانْحِلَالِ رَابِطَةِ الْجَمْعِ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ يَسْتَبِيحُ بِالتَّيَمُّمِ غَيْرَ مَا نَوَاهُ دُونَ مَا نَوَاهُ وَهُوَ بَعِيدٌ ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الْعَصْرِ ، وَلَكِنْ بَطَلَ الْجَمْعُ لِطُولِ الْفَصْلِ مَثَلًا أَنَّهُ يَبْطُلُ ، وَلَوْ تَيَمَّمَ مُرِيدُ تَأَخُّرِ الظُّهْرِ لِلْعَصْرِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ صَحَّ ، أَوْ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ صَحَّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُهَا بِالْأَصَالَةِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَيَمَّمَ فِيهِ لِلْعَصْرِ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا لَمْ يَدْخُلْ ، وَلَوْ نَوَى مَقْصُورَةً ثُمَّ أَرَادَ تَامَّةً أَوْ نَوَى الصُّبْحَ ثُمَّ أَرَادَ الظُّهْرَ مَثَلًا جَازَ كَمَا فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيّ ، وَلَوْ تَيَمَّمَ لِمُؤَدَّاةٍ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا وَصَلَّاهَا بِهِ فِي آخِرِهِ أَوْ بَعْدَهُ جَازَ ، وَلَوْ تَيَمَّمَ غَيْرُ الْخَطِيبِ لِلْجُمُعَةِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَقَبْلَ الْخُطْبَةِ .
قَالَ الدَّمِيرِيُّ : قَضِيَّةُ إطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ : وَلَا يَتَيَمَّمُ لِفَرْضٍ قَبْلَ وَقْتِ فِعْلِهِ ، وَمُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ يَصِحُّ تَيَمُّمُهُ قَبْلَ السَّتْرِ وَقَبْلَ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ الصِّحَّةُ وَهُوَ الظَّاهِرُ ، وَكَذَا لَوْ تَيَمَّمَ الْخَطِيبُ أَوْ غَيْرُهُ قَبْلَ تَمَامِ الْأَرْبَعِينَ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ التَّيَمُّمُ قَبْلَ زَوَالِ النَّجَاسَةِ عَنْ الْبَدَنِ لِلتَّضَمُّخِ بِهَا مَعَ كَوْنِ التَّيَمُّمِ طَهَارَةً ضَعِيفَةً لَا لِكَوْنِ زَوَالِهَا شَرْطًا لِلصَّلَاةِ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ التَّيَمُّمُ قَبْلَ زَوَالِهَا عَنْ الثَّوْبِ وَالْمَكَانِ .
وَكَذَا النَّفَلُ الْمُؤَقَّتُ فِي الْأَصَحِّ .
( وَكَذَا النَّفَلُ الْمُؤَقَّتُ ) كَالرَّوَاتِبِ مَعَ الْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا لَا يَتَيَمَّمُ لَهُ قَبْلَ وَقْتِهِ ( فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ لِمَا ذُكِرَ فِي الْفَرْضِ ، وَأَوْقَاتُ النَّفَلِ الْمُؤَقَّتِ مَعْرُوفَةٌ فِي أَبْوَابِهَا ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ إنْ صُلِّيَتْ جَمَاعَةً فَوَقْتُهَا بِالِاجْتِمَاعِ وَإِلَّا فَمَنْ أَرَادَ صَلَاتَهَا تَيَمَّمَ لَهَا عِنْدَ إرَادَةِ فِعْلِهَا ، وَوَقْتُ التَّحِيَّةِ بِدُخُولِ الْمَسْجِدِ .
وَالثَّانِي : يَصِحُّ ذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ أَوْسَعُ ، وَلِهَذَا جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ نَوَافِلَ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْأَصَحِّ يَقْتَضِي قُوَّةَ الْخِلَافِ ، وَاَلَّذِي رَجَّحَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ طَرِيقَةُ الْقَطْعِ بِالْمَنْعِ ، فَقَالَ عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَقِيلَ وَجْهَانِ .
وَاحْتُرِزَ بِالْمُؤَقَّتِ عَنْ النَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ فَيَتَيَمَّمُ لَهَا مَتَى شَاءَ إلَّا فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ فَلَا يَصِحُّ تَيَمُّمُهُ لَهَا .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا فِيمَا إذَا تَيَمَّمَ فِي وَقْتِهَا لِيُصَلِّيَ فِي وَقْتِهَا ، فَلَوْ تَيَمَّمَ فِيهِ لِيُصَلِّيَ مُطْلَقًا ، أَوْ فِي غَيْرِهِ فَلَا يَنْبَغِي مَنْعُهُ ، وَهُوَ مُرَادُهُمْ بِلَا شَكٍّ ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا قَالَهُ شَيْخُنَا : إنَّهُ لَوْ تَيَمَّمَ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْكَرَاهَةِ لِيُصَلِّيَ بِهِ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ .
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَلَك أَنْ تَقُولَ أَيُّ وَقْتٍ شَاءَ فَهُوَ وَقْتُ الْمُطْلَقَةُ ، فَسَاوَتْ الْمُؤَقَّتَةَ إذْ لَمْ يَتَيَمَّمْ أَيْضًا إلَّا فِي وَقْتِهَا .
وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا لَزِمَهُ فِي الْجَدِيدِ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ .
وَيُعِيدَ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الْحُكْمِ الثَّالِثِ ، وَهُوَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ ، فَقَالَ ( وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا ) بِأَنْ فَقَدَهُمَا حِسًّا كَأَنْ حُبِسَ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، أَوْ شَرْعًا كَأَنْ وَجَدَ مَا هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِنَحْوِ عَطَشٍ ؛ أَوْ وَجَدَ تُرَابًا نَدِيًّا وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَجْفِيفِهِ بِنَحْوِ نَارٍ ( لَزِمَهُ فِي الْجَدِيدِ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ ) الْمُؤَدِّيَ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ .
وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَا رَجَا أَحَدَ الطَّهُورَيْنِ حَتَّى يُضَيِّقَ الْوَقْتُ ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ تُوصَفُ بِالصِّحَّةِ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : تَبْطُلُ بِالْحَدَثِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِهِمَا ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهَا تَبْطُلُ بِالْحَدَثِ وَلَوْ سَبَقَهُ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ( وَيُعِيدُ ) إذَا وَجَدَ أَحَدَهُمَا ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعُذْرَ نَادِرٌ وَلَا دَوَامَ لَهُ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ نَقْلًا عَنْ الْأَصْحَابِ وَإِنَّمَا يُعِيدُ بِالتَّيَمُّمِ فِي مَحَلٍّ يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ ، إذْ لَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ بِهِ فِي مَحَلٍّ لَا يَسْقُطُ بِهِ ، وَجَزَمَ بِهِ فِي التَّحْقِيقِ وَإِنْ كَانَ فِي نُكَتِهِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ ، وَلَوْ رَأَى أَحَدَ الطَّهُورَيْنِ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الصَّلَاةِ بَطَلَتْ ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي التُّرَابِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلٍّ يُغْنِي التَّيَمُّمُ فِيهِ عَنْ الْقَضَاءِ أَوْ لَا خِلَافًا لِلزَّرْكَشِيِّ فِي الشِّقِّ الثَّانِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } [ الْمَائِدَةَ ] وَلَمْ يُقَيِّدْ بِكَوْنِهِ يُسْقِطُ الْقَضَاءَ .
قَالَ فِي الْعُبَابِ : قَالَ بَعْضُهُمْ : وَيُنْدَبُ لَهُ التَّيَمُّمُ عَلَى نَحْوِ الصَّخْرِ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ يُجَوِّزُهُ أَيْ التَّيَمُّمَ ، ثُمَّ يَقْضِي بِالْمَاءِ أَوْ بِالتَّيَمُّمِ إنْ سَقَطَ فَرْضُهُ بِهِ .
وَمَنْ فَوَّتَ صَلَاةً عَمْدًا وَفَقَدَ الطَّهُورَيْنِ حَرُمَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا حِينَئِذٍ لِلتَّسَلْسُلِ ا هـ .
وَمُقَابِلُ الْجَدِيدِ أَقْوَالٌ : أَحَدُهَا : تَجِبُ الصَّلَاةُ بِلَا إعَادَةٍ ، وَطُرِدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ
صَلَاةٍ وَجَبَتْ فِي الْوَقْتِ مَعَ خَلَلٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَجْمُوعِ .
قَالَ لِأَنَّهُ أَدَّى وَظِيفَةَ الْوَقْتِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ .
ثَانِيهَا : يُنْدَبُ لَهُ الْفِعْلُ وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ .
ثَالِثُهَا : يُنْدَبُ لَهُ الْفِعْلُ وَلَا إعَادَةَ .
رَابِعُهَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِعْلُهَا ، فَفِي مُسْلِمٍ { لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ } ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الطَّهَارَةِ ، فَأَشْبَهَ الْحَائِضَ ، وَمَنْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ يَخَافُ مِنْ غَسْلِهَا شَيْئًا مِمَّا مَرَّ فِي مُبِيحَاتِ التَّيَمُّمِ أَوْ حُبِسَ عَلَيْهَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ وَيُومِئَ بِالسُّجُودِ فِيمَا إذَا حُبِسَ عَلَيْهَا بِحَيْثُ لَوْ سَجَدَ لَسَجَدَ عَلَيْهَا بِأَنْ يَنْحَنِيَ لَهُ بِحَيْثُ لَوْ زَادَ لَأَصَابَهَا ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ وَالتَّحْقِيقِ ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى كَلَامِ أَصْلِ الرَّوْضَةِ وَضْعَ جَبْهَتِهِ عَلَى الْأَرْضِ ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ ، وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ : وَهُمْ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا ، وَمَنْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ يَخَافُ مِنْ غَسْلِهَا ، وَمَنْ حُبِسَ عَلَيْهَا يُصَلُّونَ الْفَرِيضَةَ فَقَطْ لِأَجْلِ حُرْمَةِ الْوَقْتِ وَلَا يُصَلُّونَ النَّافِلَةَ ، إذْ لَا ضَرُورَةَ إلَيْهَا ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ كَالنَّفْلِ فِي أَنَّهَا تُؤَدَّى مَعَ مَكْتُوبَةٍ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ .
وَقِيَاسُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُصَلُّونَهَا وَهُوَ الظَّاهِرُ ، وَجَرَى عَلَيْهِ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ فِي فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ وَنَقَلَهُ فِي بَابِهَا عَنْ مُقْتَضَى كَلَامِ الْقَفَّالِ .
قَالَ فِي الْعُبَابِ : قَالَ الْجُرْجَانِيِّ : وَلَا يَتَنَفَّلُ الْعَارِي وَفِيهِ نَظَرٌ ا هـ .
وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يَتَنَفَّلُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّهُ يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ وَإِنْ خَالَفَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي ذَلِكَ .
وَعُلِمَ مِنْ مَنْعِ هَؤُلَاءِ صَلَاةَ النَّافِلَةِ مَنْعُهُمْ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ وَحَمْلِهِ وَالْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ
لِمَنْ بِهِ حَدَثٌ أَكْبَرُ ، وَلَا يَقْرَأُ مَنْ بِهِ حَدَثٌ أَكْبَرُ فِي الصَّلَاةِ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَيُمْنَعُ مِنْ قِرَاءَتِهَا أَيْضًا عِنْدَ الرَّافِعِيِّ كَمَا يُمْنَعُ مِنْ الْقِرَاءَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ ، وَالْمُرَادُ بِالْإِعَادَةِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْقَضَاءُ كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ لَا الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ ، وَهُوَ أَنَّ الْإِعَادَةَ حَقِيقَةٌ : مَا وَقَعَ فِي الْوَقْتِ .
وَالْقَضَاءُ : مَا وَقَعَ خَارِجَهُ ، وَهَذِهِ لَا تُعَادُ فِي الْوَقْتِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّيهَا إلَّا عِنْدَ ضِيقِهِ .
وَيَقْضِي الْمُقِيمُ الْمُتَيَمِّمُ لِفَقْدِ الْمَاءِ لَا الْمُسَافِرُ إلَّا الْعَاصِي بِسَفَرِهِ فِي الْأَصَحِّ .
( وَيَقْضِي الْمُقِيمُ الْمُتَيَمِّمُ ) وُجُوبًا ( لِفَقْدِ الْمَاءِ ) لِنُدُورِ الْفَقْدِ وَعَدَمِ دَوَامِهِ ، وَفِي قَوْلٍ لَا يَقْضِي ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَقْدُورِ ، وَفِي قَوْلٍ لَا تَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ فِي الْحَالِ بَلْ يَصْبِرُ حَتَّى يَجِدَهُ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ إذَا كَانَ حَدَثُهُ أَكْبَرَ هَلْ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ أَوْ لَا كَفَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ بِجَامِعِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ الْأَوَّلُ ، وَظَاهِرُ الْقَاضِي وَصَاحِبِ الْكَافِي الثَّانِي ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ ( لَا الْمُسَافِرُ ) الْمُتَيَمِّمُ لِفَقْدِهِ وَإِنْ قَصُرَ سَفَرُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ لِعُمُومِ الْفَقْدِ فِيهِ ( إلَّا الْعَاصِي بِسَفَرِهِ ) كَآبِقٍ وَنَاشِزَةٍ ، وَمَنْ سَافَرَ لِيُتْعِبَ نَفْسَهُ أَوْ دَابَّتَهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ وَيَقْضِي ( فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الرُّخْصَةِ .
وَالثَّانِي : لَا يَقْضِي ؛ لِأَنَّهُ لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ صَارَ عَزِيمَةً ، وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ : لَا يَسْتَبِيحُ التَّيَمُّمَ أَصْلًا ، وَيُقَالُ : إنْ تُبْتَ اسْتَبَحْتَ وَإِلَّا أَثِمْتَ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ ، وَكَالْعَاصِي بِسَفَرِهِ الْعَاصِي بِإِقَامَتِهِ فَيَقْضِي ، وَالْجُمُعَةُ لَا تُقْضَى فَيُصَلِّيهَا وَيَقْضِي الظُّهْرَ كَمَا قَالَهُ الدَّمِيرِيُّ .
تَنْبِيهٌ : مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْقَضَاءِ فِي الْإِقَامَةِ وَعَدَمِهِ فِي السَّفَرِ جَرْيٌ عَلَى الْغَالِبِ ، فَلَوْ أَقَامَ فِي مَفَازَةٍ وَطَالَتْ إقَامَتُهُ وَصَلَاتُهُ بِالتَّيَمُّمِ فَلَا قَضَاءَ ، وَلَوْ دَخَلَ الْمُسَافِرُ فِي طَرِيقِهِ قَرْيَةً وَعَدِمَ الْمَاءَ وَصَلَّى بِالتَّيَمُّمِ وَجَبَ الْقَضَاءُ ، وَلَوْ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ : أَيْ الْوُجُودُ وَالْعَدَمُ ، فَالظَّاهِرُ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْ لَا قَضَاءَ .
فَائِدَةٌ : لَوْ تَيَمَّمَ فِي مَوْضِعٍ يَغْلِبُ فِيهِ وُجُودُ الْمَاءِ وَصَلَّى فِي آخَرَ يَنْدُرُ فِيهِ أَوْ عَكْسُهُ : هَلْ الْعِبْرَةُ بِمَوْضِعِ الصَّلَاةِ أَوْ التَّيَمُّمِ ؟ لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ ، وَقَدْ أَفْتَانِي شَيْخِي بِالْأَوَّلِ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِعِبَارَاتِ كُتُبٍ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا يَطُولُ الْكَلَامُ بِذَكَرِهَا ، فَاسْتَفِدْهُ فَإِنَّهَا مَسْأَلَةٌ نَفِيسَةٌ .
وَمَنْ تَيَمَّمَ لِبَرْدٍ قَضَى فِي الْأَظْهَرِ .
( وَمَنْ تَيَمَّمَ لِبَرْدٍ ) فِي السَّفَرِ وَصَلَّى بِهِ ( قَضَى فِي الْأَظْهَرِ ) ؛ لِأَنَّ الْبَرْدَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا نَادِرًا فَالْعَجْزُ عَمَّا يُسَخِّنُ بِهِ الْمَاءَ وَعَنْ ثِيَابٍ يَتَدَفَّأُ بِهَا نَادِرٌ لَا يَدُومُ إذَا وَقَعَ .
وَالثَّانِي : لَا يَقْضِي لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ السَّابِقِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ ، وَيُوَافِقُهُ الْمُخْتَارُ الْمَارُّ عَنْ الْمُصَنِّفِ ؛ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى التَّرَاخِي وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ جَائِزٌ ، وَبِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ كَوْنُهُ عَالِمًا بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ فَلَمْ يَحْتَجْ لِبَيَانٍ .
أَمَّا إذَا تَيَمَّمَ الْمُقِيمُ لِلْبَرْدِ فَالْمَشْهُورُ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ الْقَطْعُ بِالْوُجُوبِ .
وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : إنَّ الْجُمْهُورَ قَطَعُوا بِهِ فِي كُلِّ الطُّرُقِ .
أَوْ لِمَرَضٍ يَمْنَعُ الْمَاءَ مُطْلَقًا ، أَوْ فِي عُضْوٍ وَلَا سَاتِرَ فَلَا إلَّا أَنْ يَكُونَ بِجُرْحِهِ دَمٌ كَثِيرٌ .
( أَوْ ) تَيَمَّمَ ( لِمَرَضٍ يَمْنَعُ الْمَاءَ مُطْلَقًا ) أَيْ فِي جَمِيعِ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ ( أَوْ ) يَمْنَعُهُ ( فِي عُضْوٍ ) مِنْ أَعْضَائِهَا ( وَلَا سَاتِرَ ) عَلَى ذَلِكَ الْعُضْوِ مِنْ لُصُوقٍ أَوْ نَحْوِهِ ( فَلَا ) قَضَاءَ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ حَاضِرًا أَمْ مُسَافِرًا ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ عُذْرٌ عَامٌّ تَشُقُّ مَعَهُ الْإِعَادَةُ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الْحَجُّ ] ، وَالْمُرَادُ بِالْمَرَضِ هُنَا أَعَمُّ مِنْ الْجُرْحِ وَغَيْرِهِ ( إلَّا أَنْ يَكُونَ بِجُرْحِهِ دَمٌ كَثِيرٌ ) بِحَيْثُ لَا يُعْفَى عَنْهُ وَيَخَافُ مِنْ غَسْلِهِ مَحْذُورًا مِمَّا مَرَّ ، فَيُصَلِّي مَعَهُ وَيَقْضِي لِعَدَمِ الْعَفْوِ عَنْ الْكَثِيرِ فِيمَا رَجَّحَهُ الرَّافِعِيُّ كَمَا سَيَأْتِي فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ إزَالَتِهِ بِمَاءٍ مُسَخَّنٍ وَنَحْوِهِ نَادِرٌ لَا يَدُومُ ، وَزَادَ الْمُصَنِّفُ لَفْظَةَ كَثِيرٍ .
وَقَالَ فِي الدَّقَائِقِ : لَا بُدَّ مِنْهَا .
قَالَ الشَّارِحُ : أَيْ فِي مُرَادِ الرَّافِعِيِّ لِلْعَفْوِ عَنْ الْقَلِيلِ فِي مَحَلِّهِ ، وَمَا سَيَأْتِي لَهُ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ مِنْ تَشْبِيهِهِ بِدَمِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَا يُعْفَى عَنْهُ فِي الْأَصَحِّ مَحْمُولٌ بِقَرِينَةِ التَّشْبِيهِ عَلَى الْمُنْتَقِلِ عَنْ مَحِلِّهِ .
وَرَجَّحَ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ الْعَفْوَ عَنْ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ .
وَقَالَ شَيْخُنَا : إنَّمَا لَمْ يُعْفَ عَنْ الْكَثِيرِ هُنَا ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ ضَرُورَةً فَلَمْ يُغْتَفَرْ فِيهِ الدَّمُ الْكَثِيرُ كَمَا لَمْ يُغْتَفَرْ فِيهِ جَوَازُ تَأْخِيرِ الِاسْتِنْجَاءِ عَنْهُ بِخِلَافِ الطُّهْرِ بِالْمَاءِ ، وَيُمْكِنُ أَيْضًا حَمْلُ مَا هُنَا عَلَى كَثِيرٍ جَاوَزَ مَحِلَّهُ أَوْ حَصَلَ بِفِعْلِهِ ، فَلَا يُخَالِفُ مَا فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ جَعَلَ الْأَصَحَّ عَدَمَ الْعَفْوِ أَخْذًا مِمَّا صَحَّحَهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَالتَّحْقِيقِ ثُمَّ مِنْ عَدَمِ الْعَفْوِ خِلَافًا لِمَا صَحَّحَهُ فِي الْمِنْهَاجِ وَالرَّوْضَةِ ا هـ .
.
وَمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ الشَّارِحُ أَوْجَهُ ، وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُ مَحِلِّ الْعَفْوِ عَنْ الْكَثِيرِ
فِي مَحِلِّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَاحْتُرِزَ عَنْ الْيَسِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ .
نَعَمْ إنْ كَانَ عَلَى مَوْضِعِ التَّيَمُّمِ وَكَانَ كَثِيفًا يَمْنَعُ وُصُولَ التُّرَابِ إلَى الْمَحِلِّ فَإِنَّهُ يَضُرُّ ، وَيَجِبُ حِينَئِذٍ الْقَضَاءُ لَا لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ بَلْ لِنُقْصَانِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْجَبِيرَةِ إذَا كَانَتْ فِي مَحَلِّ التَّيَمُّمِ .
وَإِنْ كَانَ سَاتِرٌ لَمْ يَقْضِ فِي الْأَظْهَرِ إنْ وَضَعَ عَلَى طُهْرٍ ، فَإِنْ وُضِعَ عَلَى حَدَثٍ وَجَبَ نَزْعُهُ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ قَضَى عَلَى الْمَشْهُورِ .
( وَإِنْ كَانَ ) بِالْأَعْضَاءِ أَوْ بَعْضِهَا ( سَاتِرٌ ) كَجَبِيرَةٍ ( لَمْ يَقْضِ فِي الْأَظْهَرِ إنْ وَضَعَ ) السَّاتِرَ ( عَلَى طُهْرٍ ) ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى مِنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ لِلضَّرُورَةِ هُنَا .
وَالثَّانِي : يَقْضِي ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ نَادِرٌ غَيْرُ دَائِمٍ .
هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْجَبِيرَةُ عَلَى مَحِلِّ التَّيَمُّمِ وَإِلَّا وَجَبَ الْقَضَاءُ .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : بِلَا خِلَافٍ لِنَقْصِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ جَمِيعًا وَنَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ كَالرَّافِعِيِّ عَنْ جَمَاعَةٍ .
ثُمَّ قَالَ : وَإِطْلَاقُ الْجُمْهُورِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ ا هـ .
وَمَا فِي الرَّوْضَةِ أَوْجَهُ لِمَا ذُكِرَ ( فَإِنْ وُضِعَ ) السَّاتِرُ ( عَلَى حَدَثٍ ) سَوَاءٌ أَكَانَ فِي أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ أَمْ فِي غَيْرِهَا مِنْ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ ( وَجَبَ نَزْعُهُ ) إنْ أَمْكَنَ بِلَا ضَرَرٍ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ ؛ لِأَنَّهُ مَسَحَ عَلَى سَاتِرٍ ، فَاشْتُرِطَ فِيهِ الْوَضْعُ عَلَى طُهْرٍ كَالْخُفِّ .
وَقِيلَ : لَا يَجِبُ لِلضَّرُورَةِ ، وَالْمُرَادُ طَهَارَةُ ذَلِكَ الْمَحِلِّ فَقَطْ ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلُهُمْ كَالْخُفِّ ، إذْ الْمُشَبَّهُ قَدْ لَا يُعْطَى حُكْمَ الْمُشَبَّهِ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّ الْجَبِيرَةَ وُضِعَتْ لِلضَّرُورَةِ ، وَيَجِبُ اسْتِيعَابُهَا بِالْمَسْحِ ، وَإِذَا نَزَعَ إحْدَى الْجَبِيرَتَيْنِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَزْعُ الْأُخْرَى بِخِلَافِ الْخُفِّ فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ يُوهِمُ تَخْصِيصُ وُجُوبِ النَّزْعِ بِالْوَضْعِ عَلَى حَدَثِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ نَزْعُهُ إذَا وُضِعَ عَلَى طُهْرٍ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي نَزْعِهِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ يَجِبُ نَزْعُهُ أَيْضًا ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ عِنْدَ تَعَذُّرِ النَّزْعِ فِي الْقَضَاءِ وَعَدَمِهِ كَمَا نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( فَإِنْ تَعَذَّرَ ) نَزْعُهُ وَمَسَحَ وَصَلَّى ( قَضَى عَلَى الْمَشْهُورِ ) لِفَوَاتِ شَرْطِ الْوَضْعِ عَلَى طَهَارَةٍ ، فَانْتَفَى تَشْبِيهُهُ حِينَئِذٍ بِالْخُفِّ .
وَالثَّانِي لَا يَقْضِي لِلْعُذْرِ ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى الْجَدِيدِ .
أَمَّا عَلَى الْقَدِيمِ الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فَلَا قَضَاءَ كَمَا سَبَقَ .
وَكَانَ
يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ : عَلَى الْمَذْهَبِ فَإِنَّ الْأَصَحَّ الْقَطْعُ بِالْقَضَاءِ .
قَالَ الشَّارِحُ : لَكِنَّهُ اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ بِتَعْبِيرِهِ بِالْمَشْهُورِ الْمُشْعِرِ بِضَعْفٍ عَنْ تَعْبِيرِ الْمُحَرَّرِ كَالشَّرْحِ بِأَصَحِّ الطَّرِيقَيْنِ : أَيْ لِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِهِ فِي اصْطِلَاحِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُقَابِلَهُ ضَعِيفٌ ، فَيُغْنِي ذَلِكَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا عَلَيْهِ الْفَتْوَى وَأَنَّ فِيهِ خِلَافًا وَأَنَّهُ ضَعِيفٌ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَسْتَغْنِ بِذَلِكَ فِي إفَادَةِ كَوْنِ الْخِلَافِ طَرِيقَيْنِ ، فَالِاعْتِذَارُ بِمَا ذُكِرَ ضَعِيفٌ .
خَاتِمَةٌ : لَوْ تَيَمَّمَ عَنْ حَدَثٍ أَكْبَرَ ثُمَّ أَحْدَثَ حَدَثًا أَصْغَرَ انْتَقَضَ طُهْرُهُ الْأَصْغَرُ لَا الْأَكْبَرُ ، كَمَا لَوْ أَحْدَثَ بَعْدَ غُسْلِهِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ وَيَسْتَمِرُّ تَيَمُّمُهُ عَنْ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ بِلَا مَانِعٍ ، فَلَوْ وَجَدَ خَابِيَةَ مَاءٍ مُسْبَلٍ تَيَمَّمَ ، وَلَا يَجُوزُ الطُّهْرُ مِنْهَا لِأَنَّهَا إنَّمَا وُضِعَتْ لِلشُّرْبِ ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُسْبَلٌ لِلشُّرْبِ نَظَرًا لِلْغَالِبِ وَلَمْ يَقْضِ صَلَاتَهُ كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ بِحَضْرَةِ مَاءٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِعَطَشٍ وَصَلَّى بِهِ ، وَلَوْ غَسَلَ نَحْوُ جُنُبٍ جَمِيعَ بَدَنِهِ إلَّا رِجْلَيْهِ ثُمَّ فَقَدْ الْمَاءَ وَأَحْدَثَ حَدَثًا أَصْغَرَ وَتَيَمَّمَ لَهُ ثُمَّ وَجَدَ كَافِيًا لِرِجْلَيْهِ فَقَطْ تَعَيَّنَ لَهُمَا وَلَا يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ ، وَلَوْ تَيَمَّمَ أَوَّلًا لِتَمَامِ غُسْلِهِ ثُمَّ أَحْدَثَ وَتَيَمَّمَ لَهُ ثُمَّ وَجَدَ كَافِيَهُمَا بَطَلَ تَيَمُّمُهُ الْأَوَّلُ وَلِلرَّجُلِ جِمَاعُ أَهْلِهِ وَإِنْ عَلِمَ عَدَمَ الْمَاءِ وَقْتَ الصَّلَاةِ فَيَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي بِلَا إعَادَةٍ ، وَلَوْ مَنَعَ شَخْصٌ تَرْتِيبَ الْوُضُوءِ وَجَبَ عَلَيْهِ عَكْسُ التَّرْتِيبِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ بَعْضِ الْوُضُوءِ ، فَيَحْصُلُ لَهُ غَسْلُ الْوَجْهِ وَيَتَيَمَّمُ لِلْبَاقِي لِعَجْزِهِ عَنْ الْمَاءِ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَنْ غُصِبَ مَاؤُهُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الصَّلَاةِ مُحْدِثًا فَإِنَّهُ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ ثَمَّ عَنْ وُضُوئِهِ بِبَدَلٍ ، بِخِلَافِهِ هُنَا .
قَالَ فِي الْعُبَابِ : وَلَوْ رَعَفَ فِي الصَّلَاةِ وَوَجَدَ مَاءً يَكْفِي الدَّمَ فَقَطْ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ ا هـ .
وَفِيهِ نَظَرٌ ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْبُطْلَانِ .
بَابُ الْحَيْضِ أَقَلُّ سِنِّهِ تِسْعُ سِنِينَ .
بَابُ الْحَيْضِ .
وَمَا يُذْكَرُ مَعَهُ مِنْ الِاسْتِحَاضَةِ وَالنِّفَاسِ .
وَتُرْجِمَ الْبَابُ بِالْحَيْضِ ؛ لِأَنَّهُ مَعَ أَحْكَامِهِ أَغْلَبُ ، وَهُوَ لُغَةً : السَّيَلَانُ : تَقُولُ الْعَرَبُ : حَاضَتْ الشَّجَرَةُ إذَا سَالَ صَمْغُهَا ، وَحَاضَ الْوَادِي إذَا سَالَ .
وَشَرْعًا دَمُ جِبِلَّةٍ أَيْ تَقْتَضِيهِ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ يَخْرُجُ مِنْ أَقْصَى رَحِمِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ بُلُوغِهَا عَلَى سَبِيلِ الصِّحَّةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ .
قَالَ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ الْحَيَوَانِ : وَاَلَّذِي يَحِيضُ مِنْ الْحَيَوَانِ أَرْبَعَةٌ : الْآدَمِيَّاتُ ، وَالْأَرْنَبُ ، وَالضَّبُعُ ، وَالْخُفَّاشُ ، وَزَادَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ أَرْبَعَةً أُخْرَى ، وَهِيَ النَّاقَةُ ، وَالْكَلْبَةُ ، وَالْوَزَغَةُ ، وَالْحِجْرُ : أَيْ الْأُنْثَى مِنْ الْخَيْلِ .
وَلَهُ عَشَرَةُ أَسْمَاءٍ : حَيْضٌ ، وَطَمْثٌ بِالْمُثَلَّثَةِ ، وَضَحِكٌ ، وَإِكْبَارٌ وَإِعْصَارٌ ، وَدِرَاسٌ ، وَعِرَاكٌ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ ، وَفِرَاكٌ بِالْفَاءِ ، وَطَمْسٌ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ ، وَنِفَاسٌ .
وَالِاسْتِحَاضَةُ دَمُ عِلَّةٍ يَسِيلُ مِنْ عِرْقٍ مِنْ أَدْنَى الرَّحِمِ يُقَالُ لَهُ الْعَاذِلُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ ، وَيُقَالُ بِمُهْمَلَةٍ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ ، وَفِي الصِّحَاحِ بِمُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ ، وَسَوَاءٌ أَخَرَجَ أَثَرُ حَيْضٍ أَمْ لَا .
وَاخْتُلِفَ فِي الدَّمِ الَّذِي تَرَاهُ الصَّغِيرَةُ وَالْآيِسَةُ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ اسْتِحَاضَةٌ وَدَمُ فَسَادٍ ، وَقِيلَ : لَا تُطْلَقُ الِاسْتِحَاضَةُ إلَّا عَلَى دَمٍ وَقَعَ بَعْدَ حَيْضٍ ، وَالنِّفَاسُ هُوَ الدَّمُ الْخَارِجُ بَعْدَ فَرَاغِ الرَّحِمِ مِنْ الْحَمْلِ ، فَخَرَجَ بِمَا ذُكِرَ دَمُ الطَّلْقِ ، وَالْخَارِجُ مَعَ الْوَلَدِ فَلَيْسَا بِحَيْضٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ آثَارِ الْوِلَادَةِ ، وَلَا نِفَاسَ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى خُرُوجِ الْوَلَدِ بَلْ ذَلِكَ دَمُ فَسَادٍ .
نَعَمْ الْمُتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنْ حَيْضِهَا الْمُتَقَدِّمِ حَيْضٌ .
وَالْأَصْلُ فِي الْحَيْضِ آيَةُ { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ } [ الْبَقَرَةُ ] أَيْ الْحَيْضِ ، وَخَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا
قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَيْضِ : { هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ } ( 1 ) ، وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ بَعْضِهِمْ : أَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ أَوَّلُ مَنْ وَقَعَ الْحَيْضُ فِيهِمْ ثُمَّ أَبْطَلَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، وَقِيلَ : أَوَّلُ مَنْ حَاضَتْ أُمُّنَا حَوَّاءُ بِالْمَدِّ لَمَّا كَسَرَتْ شَجَرَةَ الْحِنْطَةِ وَأَدْمَتْهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لِأُدْمِيَنَّكِ كَمَا أَدْمَيْتِ هَذِهِ الشَّجَرَةَ } .
وَقَدَّمَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْحَيْضِ مَعْرِفَةَ سِنِّهِ وَقَدْرِهِ وَقَدْرِ الطُّهْرِ ، وَقَدْ شَرَعَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ ، فَقَالَ ( أَقَلُّ سِنِّهِ ) كَلَبَنِ الرَّضَاعِ ( تِسْعُ سِنِينَ ) قَمَرِيَّةٍ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ وَلَوْ بِالْبِلَادِ الْبَارِدَةِ لِلْوُجُودِ ؛ لِأَنَّ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ وَلَا ضَابِطَ لَهُ شَرْعِيٌّ وَلَا لُغَوِيٌّ يُتْبَعُ فِيهِ الْوُجُودُ كَالْقَبْضِ وَالْحِرْزِ .
قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : أَعْجَلُ مَنْ سَمِعْتُ مِنْ النِّسَاءِ تَحِيضُ نِسَاءُ تِهَامَةَ يَحِضْنَ لِتِسْعِ سِنِينَ : أَيْ تَقْرِيبًا لَا تَحْدِيدًا فَيُسَامَحُ قَبْلَ تَمَامِهَا بِمَا لَا يَسَعُ حَيْضًا وَطُهْرًا دُونَ مَا يَسَعُهُمَا ، وَقِيلَ أَقَلُّهُ أَوَّلُهُ التَّاسِعَةُ ، وَقِيلَ مُضِيُّ نِصْفِهَا ، وَلَوْ رَأَتْ الدَّمَ أَيَّامًا بَعْضُهَا قَبْلَ زَمَنِ الْإِمْكَانِ ، وَبَعْضُهَا فِيهِ جُعِلَ الثَّانِي حَيْضًا إنْ وُجِدَتْ شُرُوطُهُ الْآتِيَةُ .
وَأَقَلُّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ، وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ بِلَيَالِيِهَا ، وَأَقَلُّ طُهْرٍ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ .
( وَأَقَلُّهُ ) زَمَنًا ( يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ) أَيْ مِقْدَارُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ .
قَالَ الشَّارِحُ : مُتَّصِلًا كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مَسْأَلَةٍ تَأْتِي آخِرَ الْبَابِ : يَعْنِي أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ مِقْدَارُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَلَى الِاتِّصَالِ : وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي زَمَانِ الْأَقَلِّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ يَتَوَالَى فِيهِمَا الدَّمُ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ نَقَاءٍ كَمَا يُوهِمُهُ لَفْظُ الِاتِّصَالِ ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهَا إذَا رَأَتْ دِمَاءً يَنْقُصُ كُلٌّ مِنْهَا عَنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إلَّا أَنَّهَا إذَا اجْتَمَعَتْ كَانَتْ مِقْدَارَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَلَى الِاتِّصَالِ كَفَى ذَلِكَ فِي حُصُولِ أَقَلِّ الْحَيْضِ ، وَالْمَسْأَلَةُ الْآتِيَةُ هِيَ قَوْلُهُ وَالنَّقَاءُ بَيْنَ أَقَلِّ الْحَيْضِ حَيْضٌ ، وَهُمَا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ سَاعَةً ، وَهَذَا مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ وَنَصَّ فِي مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّ أَقَلَّهُ قَدْرُ يَوْمٍ فَقَطْ وَقِيلَ دَفْعَةٌ كَالنِّفَاسِ ، وَهُوَ غَرِيبٌ ( وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ ) يَوْمًا ( بِلَيَالِيِهَا ) وَإِنْ لَمْ تَتَّصِلْ الدِّمَاءُ ، وَالْمُرَادُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ دَمُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ بِلَيْلَتِهِ كَأَنْ رَأَتْ الدَّمَ أَوَّلَ النَّهَارِ لِلِاسْتِقْرَاءِ ، وَأَمَّا خَبَرُ { أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ } فَضَعِيفٌ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ( وَأَقَلُّ طُهْرٍ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ ) زَمَنًا ( خَمْسَةَ عَشَرَ ) يَوْمًا ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ غَالِبًا لَا يَخْلُو عَنْ حَيْضٍ وَطُهْرٍ ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّ الطُّهْرِ كَذَلِكَ ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ الطُّهْرُ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ، سَوَاءٌ أَتَقَدَّمَ الْحَيْضُ عَلَى النَّفَسِ أَمْ تَأَخَّرَ عَنْهُ ، وَكَانَ طُرُّوهُ بَعْدَ بُلُوغِ النِّفَاسِ أَكْثَرَهُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ .
أَمَّا إذَا طَرَأَ قَبْلَ بُلُوغِ النِّفَاسِ أَكْثَرُهُ .
فَلَا يَكُونُ حَيْضًا إلَّا إذَا فَصَلَ بَيْنَهُمَا خَمْسَةَ
عَشَرَ يَوْمًا ، وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ غَالِبِ الْحَيْضِ ، وَذَكَرَ غَالِبَ النِّفَاسِ كَمَا سَيَأْتِي .
وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ
وَغَالِبُ الْحَيْضِ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ وَبَاقِي الشَّهْرِ غَالِبُ الطُّهْرِ لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا : تَحَيَّضِي فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوَ سَبْعَةً كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ وَيَطْهُرْنَ مِيقَاتَ حَيْضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ } أَيْ الْتَزِمِي الْحَيْضَ وَأَحْكَامَهُ فِيمَا أَعْلَمَكِ اللَّهُ مِنْ عَادَةِ النِّسَاءِ مِنْ سِتَّةٍ أَوْ سَبْعَةٍ ، وَالْمُرَادُ غَالِبُهُنَّ لِاسْتِحَالَةِ اتِّفَاقِ الْكُلِّ عَادَةً ( وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ ) أَيْ الطُّهْرِ بِالْإِجْمَاعِ فَقَدْ لَا تَحِيضُ الْمَرْأَةُ فِي عُمْرِهَا إلَّا مَرَّةً وَقَدْ لَا تَحِيضُ أَصْلًا .
حَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ : أَنَّ امْرَأَةً فِي زَمَنِهِ كَانَتْ تَحِيضُ كُلَّ سَنَةٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَكَانَ نِفَاسُهَا أَرْبَعِينَ ، وَأَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ : أَنَّ وَالِدَتِي كَانَتْ لَا تَحِيضُ أَصْلًا ، وَأَنَّ أُخْتِي مِنْهَا كَانَتْ تَحِيضُ فِي كُلِّ سَنَتَيْنِ مَرَّةً وَنِفَاسُهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ مَوْتِهِمَا ، وَلَوْ اطَّرَدَتْ عَادَةُ امْرَأَةٍ بِأَنْ تَحِيضَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ لَمْ يُتْبَعْ ذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّ بَحْثَ الْأَوَّلِينَ أَتَمُّ ، وَاحْتِمَالُ عُرُوضِ دَمٍ فَاسِدٍ لِلْمَرْأَةِ أَقْرَبُ مِنْ خَرْقِ الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ .
وَيَحْرُمُ بِهِ مَا حَرُمَ بِالْجَنَابَةِ ، وَعُبُورُ الْمَسْجِدِ إنْ خَافَتْ تَلْوِيثَهُ ، وَالصَّوْمُ ، وَيَجِبُ قَضَاؤُهُ ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ ، وَمَا بَيْنَ سُرَّتِهَا وَرُكْبَتِهَا ، وَقِيلَ : لَا يَحْرُمُ غَيْرُ الْوَطْءِ ، فَإِذَا انْقَطَعَ لَمْ يَحِلَّ قَبْلَ الْغُسْلِ غَيْرُ الصَّوْمِ ، وَالطَّلَاقِ
ثُمَّ شَرَعَ فِي أَحْكَامِ الْحَيْضِ فَقَالَ : ( وَيَحْرُمُ بِهِ ) أَيْ بِالْحَيْضِ ( مَا حَرُمَ بِالْجَنَابَةِ ) مِنْ صَلَاةٍ وَغَيْرِهَا ؛ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَغْلَظُ مِنْهَا أَنَّهُ يَحْرُمُ بِهِ مَا يَحْرُمُ بِهَا ( وَ ) أَشْيَاءُ أُخَرُ : أَحَدُهَا ( عُبُورُ الْمَسْجِدِ إنْ خَافَتْ تَلْوِيثَهُ ) صِيَانَةً لِلْمَسْجِدِ عَنْ النَّجَاسَةِ ، فَإِنْ أَمِنَتْهُ جَازَ لَهَا الْعُبُورُ كَالْجُنُبِ لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ، وَلَا خُصُوصِيَّةَ لِلْحَائِضِ بِهَذَا ، بَلْ كُلُّ مَنْ بِهِ نَجَاسَةٌ يُخَافُ تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ مِنْهَا مِثْلُهَا كَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ وَاسْتِحَاضَةٌ وَمَنْ بِنَعْلِهِ نَجَاسَةٌ رَطْبَةٌ ، فَإِنْ أَرَادَ الدُّخُولَ بِهِ فَلْيُدَلِّكْهُ قَبْلَ دُخُولِهِ ( وَ ) ثَانِيهَا ( الصَّوْمُ ) لِلْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَعَدَمِ صِحَّتِهِ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَكَوْنُ الصَّوْمِ لَا يَصِحُّ مِنْهَا لَا يُدْرَكُ مَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ مَشْرُوطَةً فِيهِ وَهَلْ وَجَبَ عَلَيْهَا ثُمَّ سَقَطَ أَوْ لَمْ يَجِبْ أَصْلًا ؟ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ : وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الثَّانِي .
قَالَ فِي الْبَسِيطِ : وَلَيْسَ لِهَذَا الْخِلَافِ فَائِدَةٌ فِقْهِيَّةٌ وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : يَظْهَرُ هَذَا وَشِبْهُهُ فِي الْأَيْمَانِ وَالتَّعَالِيقِ بِأَنْ يَقُولَ : مَتَى وَجَبَ عَلَيْكِ صَوْمٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَأَظْهَرَ غَيْرُهُ فَوَائِدَ أُخَرَ عَلَى ضَعِيفٍ ( وَيَجِبُ قَضَاؤُهُ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ ) لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا { كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ : أَيْ الْحَيْضُ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ ، وَفِيهِ مِنْ الْمَعْنَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَكْثُرُ فَيَشُقُّ قَضَاؤُهَا بِخِلَافِ الصَّوْمِ ، وَقَدْ أَعَادَ الْمُصَنِّفُ مَسْأَلَةَ الصَّلَاةِ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ ، وَهَلْ يَحْرُمُ قَضَاؤُهَا أَوْ يُكْرَهُ ؟ فِيهِ خِلَافٌ ذَكَرَهُ فِي الْمُهِمَّاتِ ، فَنَقَلَ فِيهَا عَنْ ابْنِ الصَّلَاحِ وَالْمُصَنِّفُ عَنْ الْبَيْضَاوِيِّ ( 1 ) أَنَّهُ
يَحْرُمُ ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا نَهَتْ السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ مَحَلُّهُ فِيمَا أُمِرَ بِفِعْلِهِ ، وَعَنْ ابْنِ الصَّلَاحِ وَالرُّويَانِيِّ وَالْعِجْلِيِّ : أَنَّهُ مَكْرُوهٌ ، بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فَيُسَنُّ لَهُمَا الْقَضَاءُ ا هـ .
وَالْأَوْجَهُ كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا : عَدَمُ التَّحْرِيمِ ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ نَهْيُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ مُنْتَقِضٌ بِقَضَاءِ الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ ، وَعَلَى هَذَا هَلْ تَنْعَقِدُ صَلَاتُهَا أَوْ لَا ؟ فِيهِ نَظَرٌ ، وَالْأَوْجَهُ عَدَمُ الِانْعِقَادِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الصَّلَاةِ إذَا لَمْ تَكُنْ مَطْلُوبَةً عَدَمُ الِانْعِقَادِ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهَا فِي الصَّوْمِ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا حَالَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ كَمَا مَرَّ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْهُ ، وَالْمَنْعُ وَالْوُجُوبُ لَا يَجْتَمِعَانِ ، وَثَالِثُهَا : الطَّلَاقُ مِنْ مَمْسُوسَةٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطَّلَاقُ ] أَيْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَشْرَعْنَ فِيهِ فِي الْعِدَّةِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ تَضَرُّرُهَا بِطُولِ الْمُدَّةِ فَإِنَّ زَمَنَ الْحَيْضِ لَا يُحْسَبُ مِنْ الْعِدَّةِ ، فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا لَمْ يَحْرُمْ طَلَاقُهَا ؛ لِأَنَّ عِدَّتَهَا إنَّمَا تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ .
وَرَابِعُهَا : الطَّهَارَةُ لِرَفْعِ الْحَدَثِ فَتَحْرُمُ عَلَيْهَا إذَا قَصَدَتْ التَّعَبُّدَ بِهَا مَعَ عِلْمِهَا بِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ لِتَلَاعُبِهَا .
أَمَّا الطَّهَارَةُ الْمَقْصُودَةُ لِلتَّنْظِيفِ كَأَغْسَالِ الْحَجِّ ، فَإِنَّهَا تَأْتِي بِهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَ ) خَامِسُهَا : أَنَّهُ يَحْرُمُ الْوَطْءُ فِي فَرْجِهَا وَلَوْ بِحَائِلٍ وَالْمُبَاشَرَةُ بِ ( مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا وَرُكْبَتِهَا ) وَلَوْ بِلَا شَهْوَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } [ الْبَقَرَةُ ]
وَلِخَبَرِ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَمَّا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ ، وَهِيَ حَائِضٌ ، فَقَالَ : مَا فَوْقَ الْإِزَارِ } ( 1 ) وَخَصَّ بِمَفْهُومِهِ عُمُومَ خَبَرِ مُسْلِمٍ { اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ } ( 2 ) وَلِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِمَا تَحْتَ الْإِزَارِ يَدْعُو إلَى الْجِمَاعِ فَحُرِّمَ لِخَبَرِ { مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ } ( 3 ) ( وَقِيلَ : لَا يَحْرُمُ غَيْرُ الْوَطْءِ ) وَاخْتَارَهُ فِي التَّحْقِيقِ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ السَّابِقِ بِجَعْلِهِ مُخَصَّصًا لِمَفْهُومِ خَبَرِ أَبِي دَاوُد .
قَالَ شَيْخُنَا : وَمَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ أَوْجَهُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ رِعَايَةِ الْأَحْوَطِ لِلْخَبَرِ السَّابِقِ ، وَخَرَجَ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ هُمَا وَبَاقِي الْجَسَدِ فَلَا يَحْرُمُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِمَا ، وَعَبَّرْتُ بِالْمُبَاشَرَةِ تَبَعًا لِلتَّحْقِيقِ وَالْمَجْمُوعِ لِيَخْرُجَ الِاسْتِمْتَاعُ بِالنَّظَرِ ، وَلَوْ بِشَهْوَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ إذْ لَيْسَ هُوَ أَعْظَمَ مِنْ تَقْبِيلِهَا فِي وَجْهِهَا بِشَهْوَةٍ ، وَعَبَّرَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحَيْنِ وَالْمُحَرَّرِ وَتَبِعَهُ فِي الرَّوْضَةِ بِالِاسْتِمْتَاعِ ، وَهُوَ يَشْمَلُ النَّظَرَ وَاللَّمْسَ بِشَهْوَةٍ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : فَبَيْنَ التَّعْبِيرِ بِالِاسْتِمْتَاعِ وَالْمُبَاشَرَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ أَيْ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ لَا تَكُونُ إلَّا بِاللَّمْسِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِشَهْوَةٍ أَمْ لَا ، وَالِاسْتِمْتَاعُ يَكُونُ بِاللَّمْسِ وَالنَّظَرِ وَلَا يَكُونُ إلَّا بِشَهْوَةٍ .
قَالَ : وَسَكَتُوا عَنْ مُبَاشَرَةِ الْمَرْأَةِ لِلزَّوْجِ ، وَالْقِيَاسُ أَنَّ مَسَّهَا لِلذَّكَرِ وَنَحْوِهِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ تَمَتُّعَاتِهِ بِهَا فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ ا هـ .
وَالصَّوَابُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي نَظْمِ الْقِيَاسِ : أَنْ نَقُولَ كُلُّ مَا مَنَعْنَاهُ مِنْهُ نَمْنَعُهَا أَنْ تَلْمِسَهُ بِهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَلْمِسَ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ سَائِرَ بَدَنِهَا إلَّا مَا بَيْنَ
سُرَّتِهَا وَرُكْبَتِهَا ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ تَمْكِينُهَا مِنْ لَمْسِهِ بِمَا بَيْنَهُمَا ، وَوَطْءُ الْحَائِضِ فِي الْفَرْجِ كَبِيرَةٌ مِنْ الْعَامِدِ الْعَالِمِ بِالتَّحْرِيمِ الْمُخْتَارِ ، يُكَفِّرُ مُسْتَحِلُّهُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْأَصْحَابِ وَغَيْرِهِمْ ، بِخِلَافِ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي وَالْمُكْرَهِ لِخَبَرِ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } ( 4 ) وَهُوَ حَسَنٌ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَيُسَنُّ لِلْوَاطِئِ الْمُتَعَمِّدِ الْمُخْتَارِ الْعَالِمِ بِالتَّحْرِيمِ فِي أَوَّلِ الدَّمِ وَقُوَّتِهِ التَّصَدُّقُ بِمِثْقَالٍ إسْلَامِيٍّ مِنْ الذَّهَبِ الْخَالِصِ ، وَفِي آخِرِ الدَّمِ وَضَعْفِهِ بِنِصْفِ مِثْقَالٍ لِخَبَرِ { إذَا وَاقَعَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ وَهِيَ حَائِضٌ إنْ كَانَ دَمًا أَحْمَرَ فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِينَارٍ ، وَإِنْ كَانَ أَصْفَرَ فَلْيَتَصَدَّقْ بِنِصْفِ دِينَارٍ } ( 1 ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ .
وَيُقَاسُ النِّفَاسُ عَلَى الْحَيْضِ ، وَلَا فَرْقَ فِي الْوَاطِئِ بَيْنَ الزَّوْجِ وَغَيْرِهِ ، فَغَيْرُ الزَّوْجِ مَقِيسٌ عَلَى الزَّوْجِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ ، وَالْوَطْءُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ إلَى الطُّهْرِ كَالْوَطْءِ فِي آخِرِ الدَّمِ ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَيَكْفِي التَّصَدُّقُ وَلَوْ عَلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ لِأَنَّهُ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ لِلْأَذَى إذْ لَا يَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ كَاللِّوَاطِ وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْمُتَحَيِّرَةُ فَلَا كَفَّارَةَ بِوَطْئِهَا وَإِنْ حَرُمَ ، وَلَوْ أَخْبَرَتْهُ بِحَيْضِهَا ، وَلَمْ يُمْكِنْ صِدْقُهَا لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهَا ، وَإِنْ أَمْكَنَ وَصَدَّقَهَا حَرُمَ وَطْؤُهَا وَإِنْ كَذَّبَهَا فَلَا لِأَنَّهَا رُبَّمَا عَانَدَتْهُ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّحْرِيمِ بِخِلَافِ مَا لَوْ عَلَّقَ بِهِ طَلَاقَهَا وَأَخْبَرَتْهُ بِهِ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ وَإِنْ كَذَّبَهَا لِتَقْصِيرِهِ بِتَعْلِيقِهِ بِمَا لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا ، وَلَا يُكْرَهُ طَبْخُهَا وَلَا اسْتِعْمَالُ مَا مَسَّتْهُ مِنْ مَاءٍ أَوْ عَجِينٍ أَوْ نَحْوِهِ ( فَإِذَا انْقَطَعَ ) دَمُ الْحَيْضِ
وَمِثْلُهُ النِّفَاسِ لِزَمَنِ إمْكَانِهِ ارْتَفَعَ عَنْهَا سُقُوطُ الصَّلَاةِ وَ ( لَمْ يَحِلَّ ) مِمَّا حَرُمَ بِهِ ( قَبْلَ الْغُسْلِ ) أَوْ التَّيَمُّمِ ( غَيْرُ الصَّوْمِ ) لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ بِالْحَيْضِ لَا بِالْحَدَثِ بِدَلِيلِ صِحَّتِهِ مِنْ الْجُنُبِ وَقَدْ زَالَ ( وَ ) غَيْرُ ( الطَّلَاقِ ) الْمَزِيدُ عَلَى الْمُحَرَّرِ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلتَّحْرِيمِ ، وَهُوَ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ وَغَيْرُ الطُّهْرِ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِهِ وَغَيْرُ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ إذَا فَقَدَتْ الطَّهُورَيْنِ ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَهُوَ بَاقٍ إلَى أَنْ تَطْهُرَ بِمَاءٍ أَوْ تَيَمُّمٍ .
أَمَّا مَا عَدَا الِاسْتِمْتَاعَ فَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْحَدَثِ ، وَالْحَدَثُ بَاقٍ .
وَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } [ الْبَقَرَةُ ] وَقَدْ قُرِئَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ فِي السَّبْعِ .
أَمَّا قِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ فَصَرِيحَةٌ فِيمَا ذُكِرَ .
وَأَمَّا التَّخْفِيفُ ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَيْضًا الِاغْتِسَالَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ لِقَرِينَةِ قَوْلِهِ : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } [ الْبَقَرَةُ ] فَوَاضِحٌ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ انْقِطَاعَ الْحَيْضِ ، فَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَهُ شَرْطًا آخَرَ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } [ الْبَقَرَةُ ] فَلَا بُدَّ مِنْهُمَا مَعًا .
فَائِدَةٌ : حَكَى الْغَزَالِيُّ أَنَّ الْوَطْءَ قَبْلَ الْغُسْلِ يُورِثُ الْجُذَامَ فِي الْوَلَدِ .
وَالِاسْتِحَاضَةُ حَدَثٌ دَائِمٌ كَسَلَسٍ ، فَلَا تَمْنَعُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ ، فَتَغْسِلُ الْمُسْتَحَاضَةُ فَرْجَهَا وَتَعْصِبُهُ ، وَتَتَوَضَّأُ وَقْتَ الصَّلَاةِ ، وَتُبَادِرُ بِهَا فَلَوْ أَخَّرَتْ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ كَسَتْرٍ وَانْتِظَارِ جَمَاعَةٍ لَمْ يَضُرَّ ، وَإِلَّا فَيَضُرُّ عَلَى الصَّحِيحِ .
وَيَجِبُ الْوُضُوءُ لِكُلِّ فَرْضٍ ، وَكَذَا تَجْدِيدُ الْعِصَابَةِ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَوْ انْقَطَعَ دَمُهَا بَعْدَ الْوُضُوءِ ، وَلَمْ تَعْتَدْ انْقِطَاعَهُ وَعَوْدَهُ أَوْ اعْتَادَتْ وَوَسِعَ زَمَنُ الِانْقِطَاعِ وُضُوءًا وَالصَّلَاةُ وَجَبَ الْوُضُوءُ .
ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَحْكَامِ الْحَيْضِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الِاسْتِحَاضَةِ وَحُكْمِهَا فَقَالَ ( وَالِاسْتِحَاضَةُ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ تَعْرِيفُهَا وَيَأْتِي فِيهَا مَزِيدُ بَيَانٍ ، فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ : ( حَدَثٌ دَائِمٌ ) لَيْسَ حَدَّ الِاسْتِحَاضَةِ وَإِلَّا لَزِمَ كَوْنُ سَلَسِ الْبَوْلِ اسْتِحَاضَةً ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِحُكْمِهَا الْإِجْمَالِيِّ أَيْ حُكْمُ الدَّمِ الْخَارِجِ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ حُكْمُ الْحَدَثِ الدَّائِمِ ، وَقَوْلُهُ ( كَسَلَسٍ ) بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ سَلَسِ الْبَوْلِ وَالْمَذْيِ وَالْغَائِطِ وَالرِّيحِ هُوَ لِلتَّشْبِيهِ لَا لِلتَّمْثِيلِ .
أُجِيبَ بِعَدَمِ لُزُومِ مَا ذُكِرَ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَكَمَ عَلَى الِاسْتِحَاضَةِ بِأَنَّهَا حَدَثٌ دَائِمٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ سَلَسَ الْبَوْلِ وَنَحْوَهُ اسْتِحَاضَةٌ ، وَقَوْلُهُ : كَسَلَسٍ مِثَالٌ لِلْحَدَثِ الدَّائِمِ ( فَلَا تَمْنَعُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ ) وَغَيْرَهُمَا مِمَّا يَمْنَعُهُ الْحَيْضُ كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ ؛ لِلضَّرُورَةِ ، وَلِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْنَةَ بِهِمَا وَكَانَتْ مُسْتَحَاضَةً كَمَا صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِهَا التَّفْصِيلِيِّ فَقَالَ : ( فَتَغْسِلُ الْمُسْتَحَاضَةُ فَرْجَهَا ) قَبْلَ الْوُضُوءِ أَوْ التَّيَمُّمِ إنْ كَانَتْ تَتَيَمَّمُ ( وَ ) بَعْدَ ذَلِكَ ( تَعْصِبُهُ ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ الْمَكْسُورَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ بِأَنْ تَشُدَّهُ بَعْدَ غَسْلِهِ بِخِرْقَةٍ مَشْقُوقَةِ الطَّرَفَيْنِ تُخْرِجُ أَحَدَهُمَا مِنْ أَمَامِهَا وَالْأُخْرَى مِنْ خَلْفِهَا وَتَرْبِطُهُمَا بِخِرْقَةٍ تَشُدُّهَا عَلَى وَسَطِهَا كَالتِّكَّةِ : فَإِنْ احْتَاجَتْ فِي رَفْعِ الدَّمِ أَوْ تَقْلِيلِهِ إلَى حَشْوٍ بِنَحْوِ قُطْنٍ .
وَهِيَ مُفْطِرَةٌ وَلَمْ تَتَأَذَّ بِهِ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَحْشُوَ قَبْلَ الشَّدِّ وَالتَّلَجُّمِ ، وَتَكْتَفِي بِهِ إنْ لَمْ تَحْتَجْ إلَيْهِمَا .
أَمَّا إذَا كَانَتْ صَائِمَةً أَوْ تَأَذَّتْ بِاجْتِمَاعِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَشْوُ ، بَلْ يَلْزَمُ الصَّائِمَةَ تَرْكُهُ إذَا كَانَ صَوْمُهَا فَرْضًا ،
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ حَافِظُوا هُنَا عَلَى مَصْلَحَةِ الصَّوْمِ لَا عَلَى مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ عَكَسَ مَا فَعَلُوا فِيمَنْ ابْتَلَعَ بَعْضَ خَيْطٍ قَبْلَ الْفَجْرِ وَطَلَعَ الْفَجْرُ وَطَرَفُهُ خَارِجٌ فَهَلَّا سَوَّوْا بَيْنَهُمَا ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الِاسْتِحَاضَةَ عِلَّةٌ مُزْمِنَةٌ فَالظَّاهِرُ دَوَامُهَا ، فَلَوْ رَاعَيْنَا الصَّلَاةَ هُنَا لَتَعَذَّرَ قَضَاءُ الصَّوْمِ لِلْحَشْوِ ، وَلِأَنَّ الْمَحْذُورَ هُنَا لَا يَنْتَفِي بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّ الْحَشْوَ تَنْجُسُ وَهِيَ حَامِلَتُهُ بِخِلَافِهِ ثَمَّ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ تَعَيُّنُ غَسْلِ فَرْجِهَا .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : لَكِنَّ قَضِيَّةَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ إجْزَاءُ الْحَجَرِ فِي الْأَظْهَرِ ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي التَّنْقِيحِ هُنَاكَ .
قَالَ : وَلَعَلَّ مُرَادَهُمْ هُنَا مَا إذَا تَفَاحَشَ بِحَيْثُ لَا يُجْزِئُ الْحَجَرُ فِي مِثْلِهِ مِنْ الْمُعْتَادِ ( وَ ) بَعْدَ ذَلِكَ ( تَتَوَضَّأُ ) وَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِهِ أَوْ بِبَدَلِهِ عَقِبَ الِاحْتِيَاطِ ، وَلِذَلِكَ قِيلَ : لَوْ عَبَّرَ بِالْفَاءِ لَكَانَ أَوْلَى وَيَكُونُ ذَلِكَ ( وَقْتَ الصَّلَاةِ ) لِأَنَّهُ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَلَا تَصِحُّ قَبْلَ الْوَقْتِ كَالتَّيَمُّمِ ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْأَوْقَاتِ فِي بَابِهِ فَيَجِيءُ هُنَا جَمِيعُ مَا سَبَقَ ثَمَّ .
قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ : فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ النَّوَافِلُ الْمُؤَقَّتَةُ فَلَا تَتَوَضَّأُ لَهَا قَبْلَ وَقْتِهَا وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَيْهَا أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ نَوَافِلَ بِوُضُوءٍ كَمَا قِيلَ لِمَا سَيَأْتِي أَنَّهُ يَجِبُ الْوُضُوءُ لِكُلِّ فَرْضٍ ( وَ ) بَعْدَ مَا ذُكِرَ ( تُبَادِرُ بِهَا ) أَيْ بِالصَّلَاةِ وُجُوبًا تَقْلِيلًا لِلْحَدَثِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ مِنْهَا وَهِيَ مُسْتَغْنِيَةٌ عَنْهُ بِالْمُبَادَرَةِ بِخِلَافِ الْمُتَيَمِّمِ السَّلِيمِ لِانْتِفَاءِ مَا ذُكِرَ .
أَمَّا غَيْرُ السَّلِيمِ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا هُنَا ( فَلَوْ أَخَّرَتْ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ كَسَتْرٍ ) لِعَوْرَةٍ وَأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ( وَانْتِظَارِ جَمَاعَةٍ ) وَاجْتِهَادٍ فِي قِبْلَةٍ وَذَهَابٍ إلَى
مَسْجِدٍ وَتَحْصِيلِ سُتْرَةٍ ( لَمْ يَضُرَّ ) لِأَنَّهَا لَا تُعَدُّ بِذَلِكَ مُقَصِّرَةً .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَصِحُّ التَّمْثِيلُ بِأَذَانِ الْمَرْأَةِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لَهَا ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِجَابَةِ وَبِأَنَّ تَأْخِيرَهَا لِلْأَذَانِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَذَانَهَا ، وَلَوْ اعْتَادَتْ الِانْقِطَاعَ بِقَدْرِ مَا يَسَعُ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ ا هـ .
فَانْقَطَعَ وَجَبَ عَلَيْهَا الْمُبَادَرَةُ وَلَا يَجُوزُ لَهَا التَّأْخِيرُ لِجَمَاعَةٍ وَلَا لِغَيْرِهَا ( وَإِلَّا ) بِأَنْ أَخَّرَتْ لَا لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ كَأَكْلٍ وَشُرْبٍ وَغَزْلٍ وَحَدِيثٍ ( فَيَضُرُّ ) التَّأْخِيرُ ( عَلَى الصَّحِيحِ ) فَيَبْطُلُ وُضُوءُهَا فَتَجِبُ إعَادَتُهُ وَإِعَادَةُ الِاحْتِيَاطِ لِتَكَرُّرِ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ مَعَ اسْتِغْنَائِهَا عَنْ احْتِمَالِ ذَلِكَ بِقُدْرَتِهَا عَلَى الْمُبَادَرَةِ ، وَالثَّانِي : لَا يَضُرُّ كَالْمُتَيَمِّمِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَحَيْثُ أَوْجَبْنَا الْمُبَادَرَةَ .
قَالَ الْإِمَامُ : ذَهَبَ ذَاهِبُونَ مِنْ أَئِمَّتِنَا إلَى الْمُبَالَغَةِ وَاغْتَفَرَ آخَرُونَ الْفَصْلَ الْيَسِيرَ ، وَضَبَطَهُ بِقَدْرِ مَا بَيْنَ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ ا هـ .
وَيَنْبَغِي اعْتِمَادُ الثَّانِي ، وَخُرُوجُ الدَّمِ بِلَا تَقْصِيرٍ مِنْهَا لَا يَضُرُّ .
فَإِنْ كَانَ خُرُوجُهُ لِتَقْصِيرٍ فِي الشَّدِّ وَنَحْوِهِ كَالْحَشْوِ بَطَلَ وُضُوءُهَا وَكَذَا صَلَاتُهَا إنْ كَانَتْ فِي صَلَاةٍ ، وَيَبْطُلُ أَيْضًا وُضُوءُهَا بِالشِّفَاءِ وَإِنْ اتَّصَلَ بِآخِرِهِ ( وَيَجِبُ الْوُضُوءُ لِكُلِّ فَرْضٍ ) وَلَوْ مَنْذُورًا كَالْمُتَيَمِّمِ لِبَقَاءِ الْحَدَثِ ، وَإِنَّمَا جُوِّزَتْ الْفَرِيضَةُ الْوَاحِدَةُ لِلضَّرُورَةِ ، وَخَرَجَ بِالْفَرْضِ النَّفَلُ فَلَهَا أَنْ تَتَنَفَّلَ مَا شَاءَتْ بِوُضُوءٍ ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ حُكْمُهَا حُكْمُ النَّافِلَةِ ( وَكَذَا ) يَجِبُ لِكُلِّ فَرْضٍ ( تَجْدِيدُ الْعِصَابَةِ ) وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ غَسْلٍ وَحَشْوٍ ( فِي الْأَصَحِّ ) قِيَاسًا عَلَى تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ ، وَالثَّانِي : لَا يَجِبُ تَجْدِيدُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْأَمْرِ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ مَعَ اسْتِمْرَارِهَا ،