كتاب : مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
المؤلف : محمد بن أحمد الخطيب الشربيني
فَصْلٌ إذَا نَذَرَ مُدَّةً مُتَتَابِعَةً لَزِمَهُ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّتَابُعُ بِلَا شَرْطٍ ، وَأَنَّهُ لَوْ نَذَرَ يَوْمًا لَمْ يَجُزْ تَفْرِيقُ سَاعَاتِهِ ، وَأَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ مُدَّةً كَأُسْبُوعٍ وَتَعَرَّضَ لِلتَّتَابُعِ وَفَاتَتْهُ لَزِمَهُ التَّتَابُعُ فِي الْقَضَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْقَضَاءِ .
( فَصْلٌ ) فِي حُكْمِ الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ ( إذَا نَذَرَ مُدَّةً مُتَتَابِعَةً ) كَقَوْلِهِ : لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ ( لَزِمَهُ ) التَّتَابُعُ فِيهَا إنْ صَرَّحَ بِهِ لَفْظًا لِأَنَّهُ وَصْفٌ مَقْصُودٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُبَادَرَةِ إلَى الْبَاقِي عَقِبَ الْإِتْيَانِ بِبَعْضِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ اعْتِكَافُ اللَّيَالِي الْمُتَخَلِّلَةِ بَيْنَهَا إلَّا أَنْ يَنْوِيَهَا فَتَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْأَيَّامِ ، وَلَوْ نَذَرَ بِلَفْظِهِ التَّفْرِيقَ لَمْ يَلْزَمْهُ وَجَازَ لَهُ التَّتَابُعُ عَلَى الْأَصَحِّ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا نَذَرَ فِي الصَّوْمِ التَّتَابُعَ أَوْ التَّفْرِيقَ لَزِمَهُ فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الصَّوْمَ يَجِبُ فِيهِ التَّفْرِيقُ فِي حَالَةٍ ، وَهِيَ صَوْمُ التَّمَتُّعِ فَكَانَ مَطْلُوبًا فِيهِ التَّفْرِيقُ ، بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ لَمْ يُطْلَبْ فِيهِ التَّفْرِيقُ أَصْلًا ، وَقَوْلُ الْغَزَالِيِّ إنَّهُ لَوْ نَوَى أَيَّامًا مُعَيَّنَةً كَسَبْعَةِ أَيَّامٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَوَّلُهَا غَدٌ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ التَّفْرِيقُ إنَّمَا يَأْتِي عَلَى طَرِيقَتِهِ مِنْ أَنَّ النِّيَّةَ تُؤَثِّرُ كَاللَّفْظِ ، وَسَيَأْتِي أَنَّهَا لَا تُؤَثِّرُ عَلَى الْأَصَحِّ ( وَالصَّحِيحُ ) وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالْمَذْهَبِ ( أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّتَابُعُ بِلَا شَرْطٍ ) لَكِنْ يُسَنُّ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْأُسْبُوعِ مَثَلًا يَصْدُقُ عَلَى الْمُتَتَابِعِ وَالْمُتَفَرِّقِ فَلَا يَجِبُ أَحَدُهُمَا بِخُصُوصِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ ، وَالثَّانِي : يَجِبُ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا شَهْرًا فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَتَابِعًا ، وَفُرِّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْيَمِينِ الْهِجْرَانُ وَلَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ التَّتَابُعِ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُشْتَرَطُ التَّابِعُ لَا يَجِبُ ، وَإِنْ نَوَاهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا قَالَاهُ تَبَعًا لِلْبَغَوِيِّ كَأَصْلِ النَّذْرِ وَإِنْ اخْتَارَ السُّبْكِيُّ اللُّزُومَ وَصَوَّبَهُ الْإِسْنَوِيُّ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ إذَا نَوَى اعْتِكَافَ اللَّيَالِي الْمُتَخَلِّلَةِ فِي هَذِهِ
الْأَيَّامِ أَنَّهَا تَلْزَمُهُ كَمَا مَرَّ مَعَ أَنَّ فِيهِ وَقْتًا زَائِدًا فَوُجُوبُ التَّتَابُعِ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ وَصْفٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّ التَّتَابُعَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الزَّمَنِ الْمَذْكُورِ بِخِلَافِ اللَّيَالِي بِالنِّسْبَةِ لِلْأَيَّامِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إيجَابِ الْجِنْسِ بِنِيَّةِ التَّتَابُعِ إيجَابُ غَيْرِهِ بِهَا وَحُكْمُ الْأَيَّامِ مَعَ نَذْرِ اللَّيَالِي كَحُكْمِ اللَّيَالِي مَعَ نَذْرِ الْأَيَّامِ فِيمَا مَرَّ .
( وَ ) الصَّحِيحُ ، وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالْأَصَحِّ ( أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ يَوْمًا لَمْ يَجُزْ تَفْرِيقُ سَاعَاتِهِ ) مِنْ أَيَّامٍ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ لَفْظِ الْيَوْمِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا .
قَالَ الْخَلِيلُ : الْيَوْمُ اسْمٌ لِمَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَغُرُوبِ الشَّمْسِ .
وَالثَّانِي : يَجُوزُ تَنْزِيلًا لِلسَّاعَاتِ مِنْ الْيَوْمِ مَنْزِلَةَ الْأَيَّامِ مِنْ الشَّهْرِ .
وَمَحِلُّ الْخِلَافِ مَا لَمْ يُعَيِّنْ يَوْمًا فَإِنْ عَيَّنَهُ لَمْ يَجُزْ التَّفْرِيقُ قَطْعًا ، وَلَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ وَقْتَ الظُّهْرِ مَثَلًا ، وَخَرَجَ بَعْدَ الْغُرُوبِ ثُمَّ عَادَ قَبْلَ الْفَجْرِ ، وَمَكَثَ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَعَلَى الْخِلَافِ ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِاللَّيْلِ أَجْزَأَهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لِحُصُولِ التَّتَابُعِ بِالْبَيْتُوتَةِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَإِنْ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : إنَّهُ لَا يُجْزِئُ وَقَالَ الشَّيْخَانِ : إنَّهُ الْأَوْجُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِيَوْمٍ مُتَوَاصِلِ السَّاعَاتِ ، وَاللَّيْلَةُ لَيْسَتْ مِنْ الْيَوْمِ ، وَلَوْ نَذَرَ يَوْمًا أَوَّلُهُ مِنْ أَثْنَاءِ يَوْمٍ أَوَّلُهُ وَقْتُ الظُّهْرِ مَثَلًا امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لَيْلًا بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ ، وَاسْتَشْكَلَا مَنْعَ خُرُوجِهِ لَيْلًا بِأَنَّ اللَّيْلَةَ لَمْ يَلْتَزِمْهَا ، قَالَا : وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجْعَلَ فَائِدَةَ تَقْيِيدِهِ فِي هَذِهِ الْقَطْعَ بِجَوَازِ التَّفْرِيقِ لَا غَيْرُ ( وَ ) الصَّحِيحُ وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالْأَصَحِّ ( أَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ مُدَّةً كَأُسْبُوعٍ ) عَيَّنَهُ ( وَتَعَرَّضَ لِلتَّتَابُعِ ) فِيهَا لَفْظًا (
وَفَاتَتْهُ لَزِمَهُ التَّتَابُعُ فِي الْقَضَاءِ ) بِهِ لِالْتِزَامِهِ إيَّاهُ ، وَالثَّانِي : لَا يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّ التَّتَابُعَ يَقَعُ ضَرُورَةً فَلَا أَثَرَ لِتَصْرِيحِهِ بِهِ ، وَلَوْ لَمْ يُعَيِّنْ الْأُسْبُوعَ لَمْ يُتَصَوَّرْ فِيهِ فَوَاتٌ لِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي ( وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ ) أَيْ التَّتَابُعِ ( لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْقَضَاءِ ) جَزْمًا لِأَنَّ التَّتَابُعَ فِيهِ لَمْ يَقَعْ مَقْصُودًا ، بَلْ مِنْ ضَرُورَةِ تَعَيُّنِ الْوَقْتِ فَأَشْبَهَ التَّتَابُعَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ مَثَلًا دَخَلَتْ لَيَالِيُهُ ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْجَمِيعِ إلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَهَا لَفْظًا .
أَمَّا لَوْ اسْتَثْنَاهَا بِقَلْبِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤَثِّرْ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ الِاعْتِكَافُ بِنِيَّتِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ إذَا نَوَى دُخُولَهَا بِقَلْبِهِ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ كَمَا مَرَّ .
أُجِيبَ بِأَنَّ فِي ذَلِكَ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، وَبِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ النِّيَّةِ هُنَاكَ مَا قَدْ يُرَادُ مِنْ اللَّفْظِ ، وَهَذَا إخْرَاجُ مَا شَمِلَهُ اللَّفْظُ ، وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ فَفَاتَهُ فَقَضَاهُ لَيْلًا أَجْزَأَهُ ، بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْمُطْلَقِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ بِصِفَتِهِ الْمُلْتَزِمَةِ بِخِلَافِهِ فِي الْمُعَيَّنِ كَنَظِيرِهِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْقِسْمَيْنِ ، حَكَاهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَأَقَرَّهُ ، وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمِ قُدُومِ زَيْدٍ فَقَدِمَ لَيْلًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ وُجُودِ الصِّفَةِ ، وَقِيَاسُ نَظِيرِهِ فِي الصَّوْمِ نَدْبُ اعْتِكَافِ يَوْمِ شُكْرٍ لِلَّهِ كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا ، فَإِنْ قَدِمَ نَهَارًا أَجْزَأَهُ الْبَقِيَّةُ مِنْهُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا مَضَى مِنْهُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ إنَّمَا ثَبَتَ مِنْ حِينِ الْقُدُومِ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ .
لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَقْضِيَ يَوْمًا كَامِلًا كَمَا نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْمُزَنِيِّ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي ، وَإِنْ صَحَّحَ فِي الْمَجْمُوعِ فِي
مَوْضِعٍ آخَرَ لُزُومَ قَضَائِهِ ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ أَصْلِ الرَّوْضَةِ فِي بَابِ النَّذْرِ وَمَحِلُّ ذَلِكَ إذَا قَدِمَ حَيًّا مُخْتَارًا ، فَلَوْ قَدِمَ بِهِ مَيِّتًا أَوْ قَدِمَ مُكْرَهًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَهُ الصَّيْمَرِيُّ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا قَدِمَ مُكْرَهًا فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ لِلنَّاذِرِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ اعْتِكَافَهُ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى حُضُورِ غَائِبِهِ عِنْدَهُ وَقَدْ وُجِدَ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالْقُدُومِ ، وَقُدُومُ الْمُكْرَهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا ، وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَخِيرَ دَخَلَتْ لَيَالِيُهُ حَتَّى اللَّيْلَةُ الْأُولَى وَيُجْزِئُهُ وَإِنْ نَقَصَ الشَّهْرُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ يَقَعُ عَلَى مَا بَعْدَ الْعِشْرِينَ إلَى آخِرِ الشَّهْرِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : عَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ وَكَانَ نَاقِصًا لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ جَرَّدَ الْقَصْدَ إلَيْهَا فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ بَعْدَهُ يَوْمًا وَيُسَنُّ فِي هَذِهِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا قَبْلَ الْعَشْرِ لِاحْتِمَالِ نُقْصَانِ الشَّهْرِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْيَوْمُ دَاخِلًا فِي نَذْرِهِ لِكَوْنِهِ أَوَّلَ الْعَشَرَةِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ ، فَلَوْ فَعَلَ هَذَا ثُمَّ بَانَ النَّقْصُ قَطَعَ الْبَغَوِيّ بِإِجْزَائِهِ عَنْ قَضَاءِ يَوْمٍ ، وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْخِلَافُ فِيمَنْ تَيَقَّنَ طُهْرًا وَشَكَّ فِي ضِدِّهِ فَتَوَضَّأَ مُحْتَاطًا فَبَانَ مُحْدِثًا : أَيْ فَلَا يُجْزِئُهُ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ .
وَإِذَا ذَكَرَ التَّتَابُعَ وَشَرَطَ الْخُرُوجَ لِعَارِضٍ صَحَّ الشَّرْطُ فِي الْأَظْهَرِ ، وَالزَّمَانُ الْمَصْرُوفُ إلَيْهِ لَا يَجِبُ تَدَارُكُهُ إنْ عَيَّنَ الْمُدَّةَ كَهَذَا الشَّهْرِ ، وَإِلَّا فَيَجِبُ ، وَيَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ بِالْخُرُوجِ بِلَا عُذْرٍ .
( وَإِذَا ذَكَرَ ) النَّاذِرُ ( التَّتَابُعَ ) فِي نَذْرِهِ لَفْظًا ( وَشَرَطَ الْخُرُوجَ لِعَارِضٍ ) مُبَاحٍ مَقْصُودٌ غَيْرِ مُنَافٍ لِلِاعْتِكَافِ ( صَحَّ الشَّرْطُ فِي الْأَظْهَرِ ) وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ إنَّمَا لَزِمَ بِالْتِزَامِهِ فَيَجِبُ بِحَسَبِ مَا الْتَزَمَهُ ، فَإِنْ شَرْطَهُ لِخَاصٍّ مِنْ الْأَغْرَاضِ كَعِيَادَةِ الْمَرْضَى خَرَجَ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَهَمَّ مِنْهُ ، أَوْ عَامٍّ كَشُغْلٍ يَعْرِضُ لَهُ خَرَجَ لِكُلِّ مُهِمٍّ دِينِيٍّ كَالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ أَوْ دُنْيَوِيٍّ مُبَاحٍ كَلِقَاءِ السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَاقْتِضَاءِ الْغَرِيمِ ، وَالثَّانِي : يَلْغُو الشَّرْطُ لِمُخَالَفَتِهِ لِمُقْتَضَى التَّتَابُعِ ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ : شَرَطَ الْخُرُوجَ لِعَارِضٍ مَا لَوْ شَرَطَ قَطْعَ الِاعْتِكَافِ لَهُ فَإِنَّهُ وَإِنْ صَحَّ لَكِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ عِنْدَ زَوَالِ الْعَارِضِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَرَطَ الْخُرُوجَ لِلْعَارِضِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْعَوْدُ ، وَبِقَوْلِهِ : لِعَارِضٍ مَا لَوْ قَالَ : إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِي ، فَإِنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ عَلَى الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِمُجَرَّدِ الْخِيَرَةِ وَذَلِكَ يُنَاقِضُ الِالْتِزَامَ ، وَكَذَا النَّذْرُ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ هُوَ الْأَشْبَهُ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يُصَرِّحَا فِي الرَّوْضَةِ ، وَأَصْلِهَا بِتَرْجِيحٍ ، وَبِقَوْلِي : مُبَاحٍ مَا لَوْ شَرَطَهُ لِعَارِضٍ مُحَرَّمٍ كَسَرِقَةٍ ، وَبِمَقْصُودٍ مَا لَوْ شَرَطَهُ لِغَيْرِ مَقْصُودٍ كَنُزْهَةٍ ، وَبِغَيْرِ مُنَافٍ لِلِاعْتِكَافِ مَا لَوْ شَرَطَهُ لِمُنَافٍ لَهُ كَالْجِمَاعِ كَأَنْ قَالَ : إنْ اخْتَرْت جَامَعْت أَوْ إنْ اتَّفَقَ لِي جِمَاعٌ جَامَعْت فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي الْمُحْرِمِ وَالْجِمَاعِ وَمِثْلُهُمَا الْبَقِيَّةُ .
وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا ذُكِرَ مَا فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْإِجْحَافِ ( وَالزَّمَانُ الْمَصْرُوفُ إلَيْهِ ) أَيْ الْعَارِضُ الْمَذْكُورُ ( لَا يَجِبُ تَدَارُكُهُ إنْ عَيَّنَ الْمُدَّةَ كَهَذَا الشَّهْرِ ) لِأَنَّ الْمَنْذُورَ مِنْ الشَّهْرِ إنَّمَا هُوَ اعْتِكَافُ مَا عَدَا الْعَارِضَ (
وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يُعَيِّنْ مُدَّةً كَشَهْرٍ مُطْلَقٍ ( فَيَجِبُ ) تَدَارُكُهُ أَيْ الزَّمَنِ الْمَصْرُوفِ لِلْعَارِضِ لِتَتِمَّ الْمُدَّةُ الْمُلْتَزَمَةُ ، وَتَكُونُ فَائِدَةُ الشَّرْطِ تَنْزِيلَ ذَلِكَ الْعَارِضِ مَنْزِلَةَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ فِي أَنَّ التَّتَابُعَ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ ( وَيَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ ) أَيْضًا ( بِالْخُرُوجِ ) مِنْ الْمَسْجِدِ بِكُلِّ بَدَنِهِ أَوْ بِمَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ مِنْ الرِّجْلَيْنِ أَوْ الْيَدَيْنِ أَوْ الرَّأْسِ قَائِمًا أَوْ مُنْحَنِيًا أَوْ مِنْ الْعَجُزِ قَاعِدًا أَوْ مِنْ الْجَنْبِ مُضْطَجِعًا ( بِلَا عُذْرٍ ) مِنْ الْأَعْذَارِ الْآتِيَةِ ، وَإِنْ قَلَّ زَمَنُهُ لِمُنَافَاتِهِ اللُّبْثَ ؛ لِأَنَّهُ فِي مُدَّةِ الْخُرُوجِ الْمَذْكُورِ غَيْرُ مُعْتَكِفٍ ، وَهَذَا فِي الْعَامِدِ الْعَالِمِ بِالتَّحْرِيمِ الْمُخْتَارِ .
وَلَا يَضُرُّ إخْرَاجُ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ وَلَا الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ ، وَلَا يَجِبُ فِعْلُهَا فِي غَيْرِ دَارِهِ ، وَلَا يَضُرُّ بُعْدُهَا إلَّا أَنْ يَفْحُشَ فَيَضُرَّ فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَا يَضُرُّ ) فِي تَتَابُعِ الِاعْتِكَافِ ( إخْرَاجُ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ ) مِنْ الْمَسْجِدِ كَرَأْسِهِ أَوْ يَدِهِ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خَارِجًا ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يُدْنِي رَأْسَهُ إلَى عَائِشَةَ فَتُرَجِّلُهُ } ( 1 ) أَيْ تُسَرِّحُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ ، وَلَوْ أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِمَا لَمْ يَضُرَّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْخُرُوجِ ، فَإِنْ أَخْرَجَهُمَا وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِمَا ضَرَّ ، وَإِنْ كَانَ رَأْسُهُ دَاخِلًا ( وَلَا ) يَضُرُّ ( الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ ) بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ ، وَلَوْ كَثُرَ لِعَارِضٍ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الضَّرُورَةُ ، وَإِذَا خَرَجَ لَا يُكَلَّفُ الْإِسْرَاعُ بَلْ يَمْشِي عَلَى سَجِيَّتِهِ .
فَلَوْ تَأَنَّى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بَطَلَ كَمَا فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْبَحْرِ .
وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بَعْدَ قَضَائِهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ تَبَعًا لَهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ لَهُ مُنْفَرِدًا إنْ كَانَ تَجْدِيدًا ، وَكَذَا عَنْ حَدَثٍ عَلَى الْأَصَحِّ إذَا أَمْكَنَهُ فِي الْمَسْجِدِ .
تَنْبِيهٌ : اقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ قَدْ يُوهِمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ لِغَيْرِهَا وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ يَجُوزُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ كَرُعَافٍ ، وَكَذَا الْأَكْلُ عَلَى الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ فِي الْمَسْجِدِ يُسْتَحْيَا مِنْهُ وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْأَكْلُ فِيهِ كَمَا مَرَّ بِخِلَافِ الشُّرْبِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِيهِ .
وَيُؤْخَذُ مِنْ الْعِلَّةِ أَنَّ الْكَلَامَ فِي مَسْجِدٍ مَطْرُوقٍ بِخِلَافِ الْمُخْتَصِّ لِمَنْفَعَتِهَا وَلَوْ مُسْتَعَارَةً وَالْمَهْجُورِ وَبِهِ صَرَّحَ الْأَذْرَعِيُّ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، فَإِنْ خَرَجَ لِلشُّرْبِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ فِي الْمَسْجِدِ ، أَوْ لِتَجْدِيدِ وُضُوءٍ انْقَطَعَ تَتَابُعُهُ ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّ الْوُضُوءَ الْمَنْدُوبَ لِغُسْلِ الِاحْتِلَامِ مُغْتَفَرٌ كَالتَّثْلِيثِ فِي الْوُضُوءِ الْوَاجِبِ ( وَلَا يَجِبُ فِعْلُهَا فِي غَيْرِ دَارِهِ ) الْمُسْتَحِقِّ
لِمَنْفَعَتِهَا وَلَوْ مُسْتَعَارَةً كَسِقَايَةِ الْمَسْجِدِ ، وَدَارِ صَدِيقٍ لَهُ بِجِوَارِ الْمَسْجِدِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَخَرْمِ الْمُرُوءَةِ ، وَتَزِيدُ دَارُ الصَّدِيقِ بِالْمِنَّةِ بِهَا .
نَعَمْ مَنْ لَا يَحْتَشِمُ مِنْ السِّقَايَةِ يُكَلَّفُهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ ، وَكَذَا إنْ كَانَتْ السِّقَايَةُ مَصُونَةً مُخْتَصَّةً بِالْمَسْجِدِ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ( وَلَا يَضُرُّ بُعْدُهَا ) أَيْ دَارِهِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ الْمَسْجِدِ مُرَاعَاةً لِمَا سَبَقَ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالْمِنَّةِ ( إلَّا أَنْ يَفْحُشَ ) الْبُعْدُ ، وَضَابِطُهُ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ أَنْ يَذْهَبَ أَكْثَرُ الْوَقْتِ فِي التَّرَدُّدِ إلَيْهَا مَعَ وُجُودِ مَكَان لَائِقٍ بِطَرِيقِهِ ، أَوْ يَكُونَ لَهُ دَارٌ أُخْرَى أَقْرَبُ مِنْهَا ( فَيَضُرَّ فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ فِي عَوْدِهِ إلَيْهَا إلَى الْبَوْلِ فَيُمْضِي يَوْمَهُ فِي الذَّهَابِ وَالْإِيَابِ ، وَلِاغْتِنَائِهِ بِالْأَقْرَبِ مِنْ دَارَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي طَرِيقِهِ مَكَانًا أَوْ وَجَدَهُ وَلَمْ يَلِقْ بِهِ أَنْ يَدْخُلَهُ لَمْ يَضُرَّ فُحْشُ الْبُعْدِ .
وَالثَّانِي : لَا يَضُرُّ هُنَا الْفُحْشُ مُطْلَقًا لِمَا سَبَقَ مِنْ مَشَقَّةِ الدُّخُولِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ فِي غَيْرِ دَارِهِ ، وَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ لِنَوْمٍ وَلَا لِغُسْلِ جُمُعَةٍ أَوْ عِيدٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْخُوَارِزْمِيُّ .
وَلَوْ عَادَ مَرِيضًا فِي طَرِيقِهِ لَمْ يَضُرَّ مَا لَمْ يُطِلْ وُقُوفَهُ أَوْ يَعْدِلْ عَنْ طَرِيقِهِ ، وَلَا يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ بِمَرَضٍ ، يُحْوِجُ إلَى الْخُرُوجِ .
( وَلَوْ عَادَ مَرِيضًا ) أَوْ زَارَ قَادِمًا ( فِي طَرِيقِهِ ) لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ ( لَمْ يَضُرَّ مَا لَمْ يَطُلْ وُقُوفُهُ ) بِأَنْ لَمْ يَقِفْ أَصْلًا ، أَوْ وَقَفَ وَقْفَةً يَسِيرَةً ، كَأَنْ اقْتَصَرَ عَلَى السَّلَامِ وَالسُّؤَالِ ( أَوْ ) لَمْ ( يَعْدِلْ عَنْ طَرِيقِهِ ) بِأَنْ كَانَ الْمَرِيضُ أَوْ الْقَادِمُ فِيهَا لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا : " إنِّي كُنْت أَدْخُلُ الْبَيْتَ لِلْحَاجَةِ - أَيْ التَّبَرُّزِ - وَالْمَرِيضُ فِيهِ فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إلَّا وَأَنَا مَارَّةٌ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مَرْفُوعًا عَنْهَا { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَمُرُّ بِالْمَرِيضِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فَيَمُرُّ كَمَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْهُ وَلَا يُعَرِّجُ } فَإِنْ طَالَ وُقُوفُهُ عُرْفًا أَوْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِ وَإِنْ قَلَّ ضَرَّ ، وَلَوْ صَلَّى فِي طَرِيقِهِ عَلَى جِنَازَةٍ فَإِنْ لَمْ يَنْتَظِرْ وَلَمْ يَعْدِلْ إلَيْهَا عَنْ طَرِيقِهِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا ( وَلَا يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ ب ) خُرُوجِهِ ل ( مَرَضٍ يُحْوِجُ إلَى الْخُرُوجِ ) أَيْ إذَا خَرَجَ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ كَالْخُرُوجِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ ، وَفِي قَوْلٍ إنَّهُ يَنْقَطِعُ لِأَنَّ الْمَرَضَ لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ وَلَا غَالِبٍ بِخِلَافِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ الْمُحَرَّرِ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ وَأَهْمَلَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَالْمُحْوِجُ إلَى الْخُرُوجِ هُوَ الَّذِي يَشُقُّ الْمُقَامُ مَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ لِحَاجَةِ فَرْشٍ وَخَادِمٍ وَتَرَدُّدِ طَبِيبٍ ، أَوْ بِأَنْ يُخَافَ مِنْهُ تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ كَإِسْهَالٍ وَإِدْرَارِ بَوْلٍ ، بِخِلَافِ مَرَضٍ لَا يُحْوِجُ إلَى الْخُرُوجِ كَصُدَاعٍ وَحُمَّى خَفِيفَةٍ فَيَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ بِالْخُرُوجِ لَهُ ، وَفِي مَعْنَى الْمَرَضِ الْمَذْكُورِ الْخَوْفُ مِنْ لِصٍّ أَوْ حَرِيقٍ .
وَلَا بِحَيْضٍ إنْ طَالَتْ مُدَّةُ الِاعْتِكَافِ ، فَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ تَخْلُو عَنْهُ انْقَطَعَ فِي الْأَظْهَرِ .
( وَلَا ) يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ ( بِحَيْضٍ إنْ طَالَتْ مُدَّةُ الِاعْتِكَافِ ) بِأَنْ كَانَتْ لَا تَخْلُو عَنْهُ غَالِبًا كَشَهْرٍ كَمَا مَثَّلَ بِهِ الرُّويَانِيُّ ، وَمَثَّلَ فِي الْمَجْمُوعِ بِأَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَاسْتَشْكَلَهُ الْإِسْنَوِيُّ بِأَنَّ الثَّلَاثَةَ وَالْعِشْرِينَ تَخْلُو عَنْ الْحَيْضِ غَالِبًا ، لِأَنَّ غَالِبَ الْحَيْضِ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الشَّهْرَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ فِيهِ إلَّا طُهْرٌ وَاحِدٌ وَحَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ ا هـ .
وَيُمْكِنُ حَمْلُ عِبَارَةِ الْمَجْمُوعِ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فَتُبْنَى عَلَى مَا سَبَقَ إذَا طَهُرَتْ لِأَنَّهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا ( فَإِنْ كَانَتْ ) مُدَّةُ الِاعْتِكَافِ ( بِحَيْثُ تَخْلُو عَنْهُ ) أَيْ الْحَيْضِ ( انْقَطَعَ ) التَّتَابُعُ ( فِي الْأَظْهَرِ ) لِإِمْكَانِ الْمُوَالَاةِ بِشُرُوعِهَا عَقِبَ الطُّهْرِ .
وَالثَّانِي : لَا يَنْقَطِعُ لِأَنَّ جِنْسَ الْحَيْضِ مِمَّا يَتَكَرَّرُ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي التَّتَابُعِ كَقَضَاءِ الْحَاجَةِ ، وَالنِّفَاسُ كَالْحَيْضِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي الْمَجْمُوعِ .
وَلَا بِالْخُرُوجِ نَاسِيًا عَلَى الْمَذْهَبِ .
( وَلَا ) يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ ( بِالْخُرُوجِ ) مِنْ الْمَسْجِدِ ( نَاسِيًا ) لِاعْتِكَافِهِ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) الْمَقْطُوعِ بِهِ كَمَا صَحَّحَهُ فِي الْمَجْمُوعِ إنْ تَذَكَّرَ عَنْ قُرْبٍ كَمَا لَا يَبْطُلُ الصَّوْمُ بِالْأَكْلِ نَاسِيًا ، وَقِيلَ : يَنْقَطِعُ لِأَنَّ مُشَاهَدَةَ مَكَانِ الِاعْتِكَافِ مُذَّكِّرَةٌ لَهُ فَيَبْعُدُ مَعَهَا النِّسْيَانُ بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنْ طَالَ فَهُوَ كَالْأَكْلِ الْكَثِيرِ نَاسِيًا وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِيهِ ، وَأَنَّ الرَّاجِحَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ ، وَالْجَاهِلُ الَّذِي يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ كَالنَّاسِي .
وَلَوْ حُمِلَ وَأُخْرِجَ مُكْرَهًا لَمْ يَضُرَّ .
وَكَذَا لَوْ أُكْرِهَ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ فِي الْأَظْهَرِ إنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنْ كَانَ بِحَقٍّ وَهُوَ مُمَاطِلٌ بِهِ أَوْ اعْتَكَفَ الْعَبْدُ أَوْ الزَّوْجَةُ بِغَيْرِ إذْنٍ فَأُكْرِهَ عَلَى الْخُرُوجِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ لِتَقْصِيرِهِ .
وَفِي مَعْنَى الْإِكْرَاهِ خَوْفُهُ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ خَوْفُ غَرِيمٍ لَهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ وَلَا بَيِّنَةَ فَلَا يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ لِعُذْرِهِ ، وَلَوْ خَرَجَ لِأَدَاءِ شَهَادَةٍ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ تَحَمُّلُهَا وَأَدَاؤُهَا لَمْ يَنْقَطِعْ تَتَابُعُهُ لِاضْطِرَارِهِ إلَى الْخُرُوجِ وَإِلَى سَبَبِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا أَوْ تَعَيَّنَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ فَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْ الْخُرُوجِ وَإِلَّا فَتَحَمُّلُهُ لَهَا إنَّمَا يَكُونُ لِلْأَدَاءِ فَهُوَ بِاخْتِيَارِهِ ، وَمَحَلُّ هَذَا كَمَا قَالَ شَيْخُنَا : إذَا تَحَمَّلَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الِاعْتِكَافِ وَإِلَّا فَلَا يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ كَمَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ الدَّهْرِ فَفَوَّتَهُ لِصَوْمِ كَفَّارَةٍ لَزِمَتْهُ قَبْلَ النَّذْرِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ ، وَلَوْ خَرَجَ لِإِقَامَةِ حَدٍّ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يَنْقَطِعْ تَتَابُعُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ ، وَلَوْ خَرَجَتْ الْمُعْتَكِفَةُ لِقَضَاءِ عِدَّةٍ لَا بِسَبَبِهَا وَلَا فِي مُدَّةٍ أَذِنَ زَوْجُهَا لَهَا فِي الِاعْتِكَافِ لَمْ
يَنْقَطِعْ التَّتَابُعُ وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَارَةً لِلنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يُبَاشِرُ لِلْعِدَّةِ بِخِلَافِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ إنَّمَا يَكُونُ لِلْأَدَاءِ كَمَا مَرَّ ، فَإِنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ بِسَبَبِهَا كَأَنْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِمَشِيئَتِهَا فَقَالَتْ وَهِيَ مُعْتَكِفَةٌ : شِئْت ، أَوْ قَدَّرَ زَوْجُهَا مُدَّةً لِاعْتِكَافِهَا فَخَرَجَتْ قَبْلَ تَمَامِهَا فَإِنَّ تَتَابُعَهَا يَنْقَطِعُ .
وَلَا بِخُرُوجِ الْمُؤَذِّنِ الرَّاتِبِ إلَى مَنَارَةٍ مُنْفَصِلَةٍ عَنْ الْمَسْجِدِ لِلْأَذَانِ فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَا ) يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ ( بِخُرُوجِ الْمُؤَذِّنِ الرَّاتِبِ إلَى مَنَارَةٍ ) بِفَتْحِ الْمِيمِ لِلْمَسْجِدِ ( مُنْفَصِلَةٍ عَنْ الْمَسْجِدِ ) قَرِيبَةٍ مِنْهُ ( لِلْأَذَانِ فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ لَهُ مَعْدُودَةٌ مِنْ تَوَابِعِهِ ، وَقَدْ اعْتَادَ الرَّاتِبُ صُعُودَهَا ، وَأَلِفَ النَّاسُ صَوْتَهُ فَيُعْذَرُ فِيهِ ، وَيُجْعَلُ زَمَنُ الْأَذَانِ كَالْمُسْتَثْنَى مِنْ اعْتِكَافِهِ .
وَالثَّانِي : يَنْقَطِعُ مُطْلَقًا لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا بِسَطْحِ الْمَسْجِدِ فَيُؤَذِّنُ عَلَيْهِ .
وَالثَّالِثُ : يَجُوزُ لِلرَّاتِبِ وَغَيْرُهُ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ لِلْمَسْجِدِ مَعْدُودَةٌ مِنْ تَوَابِعِهِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ خَرَجَ غَيْرُ الرَّاتِبِ لِلْأَذَانِ ، أَوْ خَرَجَ الرَّاتِبُ لِغَيْرِهِ أَوْ لَهُ لَكِنْ إلَى مَنَارَةٍ لَيْسَتْ لِلْمَسْجِدِ أَوْ لَهُ لَكِنْ بَعِيدَةٌ عَنْهُ انْقَطَعَ التَّتَابُعُ ، وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِالْمُنْفَصِلَةِ عَنْ مَنَارَةٍ بَابُهَا فِي الْمَسْجِدِ ، أَوْ فِي رَحْبَتِهِ فَلَا يَضُرُّ صُعُودُهَا مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ سَمْتِ الْبِنَاءِ وَتَرْبِيعِهِ ، وَتَكُونُ حِينَئِذٍ فِي حُكْمِ الْمَسْجِدِ كَمَنَارَةٍ مَبْنِيَّةٍ فِي الْمَسْجِدِ مَالَتْ إلَى الشَّارِعِ فَيَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَكِفُ فِي هَوَاءِ الشَّارِعِ ، وَلَوْ اُتُّخِذَ لِلْمَسْجِدِ جَنَاحٌ إلَى شَارِعٍ فَاعْتَكَفَ فِيهِ إنْسَانٌ لَمْ يَصِحَّ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ خِلَافًا لِلزَّرْكَشِيِّ فِي قَوْلِهِ بِالصِّحَّةِ ، وَقَضِيَّةُ التَّعْلِيلِ أَنَّهَا لَوْ بُنِيَتْ لِغَيْرِهِ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ لَهَا قَرِيبَةً كَانَتْ أَوْ بَعِيدَةً وَهُوَ كَذَلِكَ .
نَعَمْ إنْ بُنِيَتْ لِمَسْجِدٍ مُتَّصِلٍ بِمَسْجِدِ الِاعْتِكَافِ جَازَ لَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهَا تَبَعًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَسَاجِدَ الْمُتَّصِلَةَ حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ ، وَخَرَجَ بِالْقَرِيبَةِ الْبَعِيدَةُ فَيَقْطَعُ الْخُرُوجُ لَهَا التَّتَابُعَ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِحَدِّ الْبَعِيدَةِ ، وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنْ تَكُونَ خَارِجَةً عَنْ جِوَارِ الْمَسْجِدِ وَجَارِهِ أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ .
وَقَالَ بَعْضٌ آخَرُ : يُحْتَمَلُ ضَبْطُ الْبَعِيدَةِ بِمَا جَاوَزَ حَرِيمَ الْمَسْجِدِ ا هـ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَرْجِعَ ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ .
وَيَجِبُ قَضَاءُ أَوْقَاتِ الْخُرُوجِ بِالْأَعْذَارِ إلَّا وَقْتَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ .
( وَيَجِبُ قَضَاءُ أَوْقَاتِ الْخُرُوجِ ) مِنْ الْمَسْجِدِ مِنْ نَذْرِ اعْتِكَافٍ مُتَتَابِعٍ ( بِالْأَعْذَارِ ) السَّابِقَةِ الَّتِي لَا يَنْقَطِعُ بِهَا التَّتَابُعُ كَوَقْتِ أَكْلٍ وَحَيْضٍ وَنِفَاسٍ وَاغْتِسَالِ جَنَابَةٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَكِفٍ فِيهَا ( إلَّا وَقْتَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ ) وَنَحْوِهَا مِمَّا يُطْلَبُ لَهُ الْخُرُوجُ وَلَمْ يَطُلْ زَمَنُهُ عَادَةً كَغُسْلِ جَنَابَةٍ وَأَذَانٍ رَاتِبٍ وَأَكْلٍ فَلَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ مُعْتَكَفٌ فِيهَا ، وَلِذَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : اقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى اسْتِثْنَاءِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ تَبِعَ فِيهِ الرَّافِعِيَّ ، وَلَمْ أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِذَلِكَ بَعْدَ الْفَحْصِ الشَّدِيدِ ، بِخِلَافِ مَا يَطُولُ زَمَنُهُ كَمَرَضٍ وَعِدَّةٍ ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الزَّمَنَ الْمَصْرُوفَ إلَى مَا شُرِطَ مِنْ عَارِضٍ فِي مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا يَجِبُ تَدَارُكُهُ .
.
خَاتِمَةٌ : لَوْ أَحْرَمَ الْمُعْتَكِفُ بِالْحَجِّ وَخَشِيَ فَوْتَهُ قَطَعَ الِاعْتِكَافَ وَلَمْ يَبْنِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْحَجِّ عَلَى اعْتِكَافِهِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ لَمْ يَخْشَ فَوْتَهُ أَتَمَّ اعْتِكَافَهُ ثُمَّ خَرَجَ لِحَجِّهِ ، وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ فَبَانَ أَنَّهُ انْقَضَى قَبْلَ نَذْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، لِأَنَّ اعْتِكَافَ شَهْرٍ قَدْ مَضَى مُحَالٌ ، وَهَلْ الْأَفْضَلُ لِلْمُتَطَوِّعِ الْخُرُوجُ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ ، أَوْ دَوَامُ الِاعْتِكَافِ ؟ قَالَ الْأَصْحَابُ : هُمَا سَوَاءٌ .
وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : إنَّ الْخُرُوجَ لَهَا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ لِذَلِكَ وَكَانَ اعْتِكَافُهُ تَطَوُّعًا .
وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ التَّسْوِيَةِ فِي عِيَادَةِ الْأَجَانِبِ .
أَمَّا ذُو الرَّحِمِ وَالْأَقَارِبُ وَالْأَصْدِقَاءُ وَالْجِيرَانُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخُرُوجَ لِعِيَادَتِهِمْ أَفْضَلُ ، لَا سِيَّمَا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ ، وَعِبَارَةُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ مُصَرِّحَةٌ بِذَلِكَ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ .
كِتَابُ الْحَجِّ هُوَ فَرْضٌ وَكَذَا الْعُمْرَةُ فِي الْأَظْهَرِ .
( كِتَابُ الْحَجِّ ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِهِ لُغَةً : الْقَصْدُ كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ .
وَقَالَ الْخَلِيلُ : كَثْرَةُ الْقَصْدِ إلَى مَنْ يُعَظَّمُ .
وَشَرْعًا : قَصْدُ الْكَعْبَةِ لِلنَّاسِكِ الْآتِي بَيَانُهُ كَمَا قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ .
وَقَالَ فِي الْكِفَايَةِ : هُوَ قَصْدُ الْأَفْعَالِ الْآتِيَةِ ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ صَلَاةِ النَّفْلِ عَنْ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَالِ وَالْبَدَنِ .
وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ : الْحَجُّ يَجْمَعُ مَعَانِيَ الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا ، فَمَنْ حَجَّ فَكَأَنَّمَا صَامَ وَصَلَّى وَاعْتَكَفَ وَزَكَّى وَرَابَطَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَغَزَا ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّا دُعِينَا إلَيْهِ وَنَحْنُ فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ كَالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ ، وَلَكِنْ تَقَدَّمَ أَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنْهُ ، وَهُوَ مِنْ الشَّرَائِعِ الْقَدِيمَةِ .
رُوِيَ " أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا حَجَّ قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ : إنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا يَطُوفُونَ قَبْلَك بِهَذَا الْبَيْتِ بِسَبْعَةِ آلَافِ سَنَةٍ " .
وَقَالَ صَاحِبُ التَّعْجِيزِ : إنَّ أَوَّلَ مَنْ حَجَّ آدَم عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِنَّهُ حَجَّ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ الْهِنْدِ مَاشِيًا ، وَقِيلَ : مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا حَجَّهُ .
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ نَبِيًّا بَعْدَ إبْرَاهِيمَ إلَّا وَقَدْ حَجَّ الْبَيْتَ ، وَادَّعَى بَعْضُ مَنْ أَلَّفَ فِي الْمَنَاسِكِ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ إلَّا عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَ ( هُوَ فَرْضٌ ) أَيْ مَفْرُوضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [ آلَ عِمْرَانَ ] الْآيَةَ ، وَلِحَدِيثِ { بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ } ، وَلِحَدِيثِ { حُجُّوا قَبْلَ أَنْ لَا تَحُجُّوا ، قَالُوا : كَيْفَ نَحُجُّ قَبْلَ أَنْ لَا نَحُجَّ ؟ قَالَ أَنْ تَقْعُدَ الْعَرَبُ عَلَى بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ يَمْنَعُونَ النَّاسَ السَّبِيلَ } وَهُوَ إجْمَاعٌ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ إنْ لَمْ يَخَفْ عَلَيْهِ .
وَاخْتَلَفُوا مَتَى فُرِضَ ؟ فَقِيلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ ، حَكَاهُ فِي
النِّهَايَةِ ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ، وَعَلَى هَذَا قِيلَ فُرِضَ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ ، وَجَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي ، وَقِيلَ السَّنَةِ السَّادِسَةِ ، وَصَحَّحَاهُ فِي كِتَابِ السِّيَرِ ، وَنَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْأَصْحَابِ ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ ، وَقِيلَ فِي الثَّامِنَةِ حَكَاهُ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ : وَقِيلَ فِي التَّاسِعَةِ حَكَاهُ فِي الرَّوْضَةِ ، وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ .
وَقِيلَ فِي الْعَاشِرَةِ : قَالَ بَعْضُهُمْ : وَهُوَ غَلَطٌ ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ يَحُجُّ كُلَّ سَنَةٍ ، وَلَا يَجِبُ بِأَصْلِ الشَّرْعِ إلَّا مَرَّةً لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَهِيَ حَجَّةُ الْوَدَاعِ ، وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ { أَحَجُّنَا هَذَا لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ قَالَ : لَا بَلْ لِلْأَبَدِ } وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَيْهَقِيّ الْأَمْرُ بِالْحَجِّ فِي كُلِّ خَمْسَةِ أَعْوَامٍ فَمَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَجَّ حَجَّةً أَدَّى فَرْضَهُ ، وَمَنْ حَجَّ ثَانِيَةً دَايَنَ رَبَّهُ ، وَمَنْ حَجَّ ثَلَاثَ حِجَجٍ حَرَّمَ اللَّهُ شَعْرَهُ وَبَشَرَهُ عَلَى النَّارِ } قِيلَ : إنَّ رَجُلًا قُتِلَ وَأُوقِدَ عَلَيْهِ النَّارُ طُولَ اللَّيْلِ فَلَمْ تَعْمَلْ فِيهِ وَبَقِيَ أَبْيَضَ الْبَدَنِ فَسَأَلُوا سَعْدُونَ الْخَوْلَانِيَّ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : لَعَلَّهُ حَجَّ ثَلَاثَ حِجَجٍ ، قَالُوا : نَعَمْ .
وَقَدْ يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْ مَرَّةٍ لِعَارِضٍ : كَنَذْرٍ وَقَضَاءٍ عِنْدَ إفْسَادِ التَّطَوُّعِ ( وَكَذَا الْعُمْرَةُ ) فَرْضٌ ( فِي الْأَظْهَرِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [ الْبَقَرَةَ ] أَيْ ائْتُوا بِهِمَا تَامَّيْنِ ، وَلِخَبَرِ ابْنِ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِمَا بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ : هَلْ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ : الْحَجُّ
وَالْعُمْرَةُ } وَأَمَّا خَبَرُ التِّرْمِذِيِّ عَنْ جَابِرٍ { سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ ؟ قَالَ : لَا وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَك } فَضَعِيفٌ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : اتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى ضَعْفِهِ ، وَلَا يُغْتَرُّ بِقَوْلِ التِّرْمِذِيِّ فِيهِ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ : إنَّهُ بَاطِلٌ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ عَدَمُ وُجُوبِهَا مُطْلَقًا لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً عَلَى السَّائِلِ لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ ، قَالَ : وَقَوْلُهُ : أَنْ تَعْتَمِرَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ .
وَالْعُمْرَةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ مَعَ ضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِهَا وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ ، لُغَةً : الزِّيَارَةُ ، وَقِيلَ الْقَصْدُ إلَى مَكَان عَامِرٍ ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ عُمْرَةً ، وَقِيلَ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُفْعَلُ فِي الْعُمْرِ كُلِّهِ ، وَشَرْعًا : قَصْدُ الْكَعْبَةِ لِلنُّسُكِ الْآتِي بَيَانُهُ ، وَلَا يُغْنِي عَنْهَا الْحَجُّ وَإِنْ اشْتَمَلَ عَلَيْهَا ، وَيُفَارِقُ الْغُسْلَ حَيْثُ يُغْنِي عَنْ الْوُضُوءِ بِأَنَّ الْغُسْلَ أَصْلٌ فَأَغْنَى عَنْ بَدَلِهِ ، وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ أَصْلَانِ .
فَائِدَةٌ : النُّسُكُ إمَّا فَرْضُ عَيْنٍ ، وَهُوَ عَلَى مَنْ لَمْ يَحُجَّ بِالشُّرُوطِ الْآتِيَةِ .
وَإِمَّا فَرْضُ كِفَايَةٍ ، وَهُوَ إحْيَاءُ الْكَعْبَةِ كُلَّ سَنَةٍ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ .
وَإِمَّا تَطَوُّعٌ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الْأَرِقَّاءِ وَالصِّبْيَانِ ، إذْ فَرْضُ الْكِفَايَةِ لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِمْ لَكِنْ لَوْ تَطَوَّعَ مِنْهُمْ مَنْ يَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ الْمُخَاطَبِينَ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قِيَاسًا عَلَى الْجِهَادِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ .
وَيُسَنُّ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ أَوْ الْعُمْرَةُ أَنْ لَا يُؤَخِّرَ ذَلِكَ عَنْ سَنَةِ الْإِمْكَانِ مُبَادَرَةً إلَى بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ وَمُسَارَعَةً إلَى الطَّاعَاتِ .
قَالَ تَعَالَى : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } [ الْبَقَرَةَ ] وَإِنْ أَخَّرَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ وَفَعَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ لَمْ يَأْثَمْ ؛
لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَهُ إلَى السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ بِلَا مَانِعٍ ، وَقِيسَ بِهِ الْعُمْرَةُ ، لَكِنَّ التَّأْخِيرَ إنَّمَا يَجُوزُ بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي الصَّلَاةِ ، وَأَنْ لَا يَتَضَيَّقَ بِنَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ أَوْ خَوْفِ عَضْبٍ ، فَلَوْ خَشِيَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ أَوْ الْعُمْرَةُ الْعَضْبَ حَرُمَ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ إنَّمَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ بِشَرْطِ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ السَّلَامَةُ إلَى وَقْتِ فِعْلِهِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ قَالَ الْمُتَوَلِّي : وَمِثْلُهُ مَنْ خَشِيَ هَلَاكَ مَالِهِ .
وَشَرْطُ صِحَّتِهِ : الْإِسْلَامُ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُحْرِمَ عَنْ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ وَالْمَجْنُونِ ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ مُبَاشَرَتُهُ مِنْ الْمُسْلِمِ الْمُمَيِّزِ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِالْمُبَاشَرَةِ إذَا بَاشَرَهُ الْمُكَلَّفُ الْحُرُّ ، فَيُجْزِئُ حَجُّ الْفَقِيرِ دُونَ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ .
( وَشَرْطُ صِحَّتِهِ ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ( الْإِسْلَامُ ) فَقَطْ فَلَا يَصِحُّ مِنْ كَافِرٍ أَصْلِيٍّ أَوْ مُرْتَدٍّ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِلْعِبَادَةِ ، وَلَوْ ارْتَدَّ فِي أَثْنَاءِ نُسُكِهِ بَطَلَ فِي الْأَصَحِّ فَلَا يَمْضِي فِي فَاسِدِهِ ، وَعِبَارَةُ الْكِتَابِ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي نَفْيِ اشْتِرَاطِ مَا عَدَا الْإِسْلَامَ ، وَلِذَلِكَ قَيَّدْتُهُ بِفَقَطْ مَعَ أَنَّ الْمُحَرَّرَ قَدْ صَرَّحَ بِهِ ، فَقَالَ : وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْحَجِّ لِلشَّخْصِ إلَّا الْإِسْلَامُ ، وَقَوْلُ الْأَذْرَعِيِّ : مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ أَيْضًا الْوَقْتُ وَالنِّيَّةُ مَمْنُوعٌ فِي النِّيَّةِ ، فَإِنَّ النِّيَّةَ مِنْ الْأَرْكَانِ .
وَأَمَّا الْوَقْتُ أَيْ اتِّسَاعُهُ فَفِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ مَا ذُكِرَ تَكْلِيفٌ ( فَلِلْوَلِيِّ ) فِي الْمَالِ وَلَوْ وَصِيًّا وَقَيِّمًا بِنَفْسِهِ وَبِمَأْذُونِهِ وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ الْوَلِيُّ نُسُكَهُ أَوْ أَحْرَمَ بِهِ ( أَنْ يُحْرِمَ عَنْ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ ) لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ فَرَفَعَتْ امْرَأَةٌ إلَيْهِ صَبِيًّا ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِهَذَا حَجٌّ ؟ قَالَ : نَعَمْ وَلَك أَجْرٌ } وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد { فَأَخَذَتْ بِعَضُدِ صَبِيٍّ وَرَفَعَتْهُ مِنْ مِحَفَّتِهَا } وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي يُحْمَلُ بِعَضُدِهِ وَيَخْرُجُ مِنْ الْمِحَفَّةِ لَا تَمْيِيزَ لَهُ ( وَ ) أَنْ يُحْرِمَ عَنْ ( الْمَجْنُونِ ) قِيَاسًا عَلَى الصَّبِيِّ خِلَافًا لِلْكَثِيرِ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِالْمَنْعِ وَإِنْ نَقَلَهُ الْأَذْرَعِيُّ عَنْ الْجُمْهُورِ وَاخْتَارَهُ ، وَفَرَّقَ بِأَنَّ الصَّبِيَّ مِنْ نَوْعِ مَنْ يَصِحُّ عِبَادَتُهُ فَيَنْوِي الْوَلِيُّ بِقَلْبِهِ جَعْلَ كُلٍّ مِنْهُمَا مُحْرِمًا أَوْ يَقُولُ أَحْرَمْت عَنْهُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُهُمَا وَلَا مُوَاجَهَتُهُمَا بِالْإِحْرَامِ وَلَا يَصِيرُ الْوَلِيُّ بِذَلِكَ مُحْرِمًا .
وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُحْرِمَ عَنْ الْمُمَيِّزِ أَيْضًا وَإِنْ أَفْهَمَتْ عِبَارَتُهُ
خِلَافَهُ ، فَلَوْ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ : وَلَوْ لَمْ يُمَيِّزْ أَوْ مَيَّزَ كَانَ أَوْلَى ، وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْإِحْرَامِ ، وَلَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ كَمَا سَيَأْتِي .
وَالْمُرَادُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ : الْجِنْسُ الصَّادِقُ بِالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَأَفْهَمَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْوَلِيِّ كَالْجَدِّ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ الْإِحْرَامُ عَمَّنْ ذُكِرَ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَأَجَابُوا عَمَّا يُوهِمُهُ الْحَدِيثُ السَّابِقُ مِنْ جَوَازِ إحْرَامِ الْأُمِّ عَنْهُ بِاحْتِمَالِ أَنَّهَا كَانَتْ وَصِيَّةً أَوْ أَنَّ الْأَجْرَ الْحَاصِلَ لَهَا إنَّمَا هُوَ أَجْرُ الْحَمْلِ وَالنَّفَقَةِ ، إذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهَا الَّتِي أَحْرَمَتْ بِهِ أَوْ أَنَّ الْوَلِيَّ أَذِنَ لَهَا فَإِنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْذَنَ لِمَنْ يُحْرِمُ عَنْ الصَّبِيِّ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِهِ الْوَلِيُّ ثُمَّ أَعْطَاهُ لِمَنْ يُحْضِرُهُ الْحَجَّ صَحَّ بِلَا خِلَافٍ ، وَحَيْثُ صَارَ الصَّبِيُّ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ مُحْرِمًا فَعَلَ الْوَلِيُّ الْمَذْكُورَ بِهِ وَكَذَا بِالْمَجْنُونِ مَا لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ ، وَلَا يَكْفِي فِيهِ فِعْلُ الْوَلِيِّ فَقَطْ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِصْحَابِهِ مَعَهُ فَيَطُوفُ بِهِ وَيَسْعَى وَلَكِنْ يَرْكَعُ عَنْهُ رَكْعَتَيْ الْإِحْرَامِ وَالطَّوَافِ ، فَإِنْ أَرْكَبَهُ الْوَلِيُّ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ فَلْيَكُنْ سَائِقًا أَوْ قَائِدًا لِلدَّابَّةِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَالْمُتَّجَهُ الْجَزْمُ بِوُجُوبِ طَهَارَةِ الْخَبَثِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الطَّوَافِ ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا مَرَّ فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ ، لَكِنْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ وَالصَّبِيُّ مُتَوَضِّئَيْنِ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ مُتَوَضِّئًا دُونَ الْوَلِيِّ لَمْ يُجْزِهِ ، أَوْ بِالْعَكْسِ فَوَجْهَانِ وَكَأَنَّهُ اغْتَفَرَ صِحَّةَ وُضُوءِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ لِلضَّرُورَةِ كَمَا اغْتَفَرَ صِحَّةَ
طُهْرِ الْمَجْنُونَةِ الَّتِي انْقَطَعَ حَيْضُهَا لِتَحِلَّ لِحَلِيلِهَا الْمُسْلِمِ .
وَيُؤْخَذُ مِنْ التَّشْبِيهِ أَنَّ الْوَلِيَّ يَنْوِي عَنْهُ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ، وَيَحْضُرُ الْوَلِيُّ مِنْ ذِكْرِ الْمَوَاقِفِ وُجُوبًا فِي الْوَاجِبَةِ وَنَدْبًا فِي الْمَنْدُوبَةِ ، فَإِنْ قَدَرَ مَنْ ذُكِرَ عَلَى الرَّمْيِ رَمَى وُجُوبًا ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ تَنَاوُلِ الْأَحْجَارِ نَاوَلَهَا لَهُ وَلِيُّهُ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الرَّمْيِ اُسْتُحِبَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَضَعَ الْحَجَرَ فِي يَدِهِ ثُمَّ يَرْمِيَ بِهِ بَعْدَ رَمْيِهِ عَنْ نَفْسِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَمَى عَنْ نَفْسِهِ وَقَعَ الرَّمْيُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنْ نَوَى بِهِ الصَّبِيَّ ، وَلَوْ فَرَّطَ الصَّبِيُّ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ كَانَ وُجُوبُ الدَّمِ فِي مَالِ الْوَلِيِّ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَنْعُهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ، فَإِنْ ارْتَكَبَ مِنْهَا شَيْئًا وَهُوَ مُمَيِّزٌ وَتَعَمَّدَ فِعْلَ ذَلِكَ فَالْفِدْيَةُ فِي مَالِ الْوَلِيِّ فِي الْأَظْهَرِ .
أَمَّا غَيْرُ الْمُمَيِّزِ فَلَا فِدْيَةَ فِي ارْتِكَابِهِ مَحْظُورًا عَلَى أَحَدٍ ، وَالنَّفَقَةُ الزَّائِدَةُ بِسَبَبِ السَّفَرِ فِي مَالِ الْوَلِيِّ فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّهُ الْمُوَرِّطُ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَبِلَ لِلْمُمَيِّزِ نِكَاحًا ، إذْ الْمَنْكُوحَةُ قَدْ تَفُوتُ وَالنُّسُكُ ، يُمْكِنُ تَأْخِيرُهُ إلَى الْبُلُوغِ ، وَفَارَقَ ذَلِكَ أُجْرَةَ تَعْلِيمِهِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ حَيْثُ وَجَبَتْ فِي مَالِ الصَّبِيِّ بِأَنَّ مَصْلَحَةَ التَّعْلِيمِ كَالضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَفْعَلْهَا الْوَلِيُّ فِي الصِّغَرِ احْتَاجَ الصَّبِيُّ إلَى اسْتِدْرَاكِهَا بَعْدَ بُلُوغِهِ بِخِلَافِ الْحَجِّ ، وَبِأَنَّ مُؤْنَةَ التَّعْلِيمِ يَسِيرَةٌ غَالِبًا ، وَإِذَا جَامَعَ الصَّبِيُّ فِي حَجِّهِ فَسَدَ وَقَضَى وَلَوْ فِي الصِّبَا كَالْبَالِغِ الْمُتَطَوِّعِ بِجَامِعِ صِحَّةِ إحْرَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَيُعْتَبَرُ فِيهِ لِفَسَادِ حَجِّهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْبَالِغِ مِنْ كَوْنِهِ عَامِدًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ مُخْتَارًا مُجَامِعًا قَبْلَ التَّحَلُّلَيْنِ .
قَالَ الْأَصْحَابُ : وَيُكْتَبُ لِلصَّبِيِّ ثَوَابُ مَا
عَمِلَ مِنْ الطَّاعَاتِ وَلَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ مَعْصِيَةٌ بِالْإِجْمَاعِ .
تَنْبِيهٌ : تَقْيِيدُ الْمُصَنِّفِ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ يُفْهِمُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ عَنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَسَكَتَ الشَّيْخَانِ عَنْ الْإِحْرَامِ عَنْ الْعَبْدِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ : إنْ كَانَ بَالِغًا فَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ ، وَمَفْهُومُهُ الْجَوَازُ فِي الصَّغِيرِ .
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ كَتَزْوِيجِهِ ا هـ .
وَظَاهِرُهُ عَدَمُ الصِّحَّةِ .
وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ : رَأَيْتُ فِي الْأُمِّ الْجَزْمَ بِالصِّحَّةِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالصَّغِيرِ ، ثُمَّ سَاقَ كَلَامَ الْأُمِّ : وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِهَا عَلَى الصَّغِيرِ فَيَتَوَافَقُ الْكَلَامَانِ .
وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ ( وَإِنَّمَا تَصِحُّ مُبَاشَرَتُهُ مِنْ الْمُسْلِمِ الْمُمَيِّزِ ) وَلَوْ صَغِيرًا وَرَقِيقًا كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ .
وَيُشْتَرَطُ إذْنُ الْوَلِيِّ لِلصَّغِيرِ الْحُرِّ وَإِذْنُ السَّيِّدِ لِلصَّغِيرِ الرَّقِيقِ ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنَا لَهُمَا وَاسْتَقَلَّا بِالْإِحْرَامِ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَقِيلَ : يَصِحُّ وَلَكِنْ لَهُمَا تَحْلِيلُهُمَا ، فَلَا تَصِحُّ مُبَاشَرَةُ مَجْنُونٍ وَصَبِيٍّ غَيْرِ مُمَيِّزٍ ( وَإِنَّمَا يَقَعُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ) وَعُمْرَتِهِ ( بِالْمُبَاشَرَةِ ) أَوْ النِّيَابَةِ ( إذَا بَاشَرَهُ ) الْمُسْلِمُ ( الْمُكَلَّفُ ) أَيْ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ ( الْحُرُّ ) وَإِنْ لَمْ يُكَلَّفْ بِالْحَجِّ ، وَالْمُرَادُ الْمُكَلَّفُ فِي الْجُمْلَةِ لَا بِالْحَجِّ ، وَلِهَذَا قَالَ ( فَيُجْزِئُ حَجُّ الْفَقِيرِ ) وَكُلُّ عَاجِزٍ إذَا جَمَعَ الْحُرِّيَّةَ وَالتَّكْلِيفَ كَمَا لَوْ تَكَلَّفَ الْمَرِيضُ حُضُورَ الْجُمُعَةِ ، أَوْ الْغَنِيُّ خَطَرَ الطَّرِيقِ وَحَجَّ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : بِالْمُبَاشَرَةِ تَقْيِيدٌ مُضِرٌّ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي وُقُوعِ الْحَجِّ عَنْ فَرْضِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي بَاشَرَهُ مُكَلَّفٌ سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَجُّ لِلْمُبَاشِرِ أَمْ كَانَ نَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ كَمَا قَدَّرْته فِي كَلَامِهِ كَالْمَيِّتِ وَالْمَعْضُوبِ ، وَلَوْ تَكَلَّفَ
الْفَقِيرُ الْحَجَّ وَأَفْسَدَهُ ثُمَّ قَضَاهُ كَفَاهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَلَوْ تَكَلَّفَ وَأَحْرَمَ بِنَفْلٍ وَقَعَ عَنْ فَرْضِهِ أَيْضًا ، فَلَوْ أَفْسَدَهُ ثُمَّ قَضَاهُ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ ( دُونَ ) حَجِّ ( الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ ) إذَا كَمَّلَا بَعْدَهُ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ ثُمَّ عَتَقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى } رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحَجَّ وَظِيفَةُ الْعُمُرِ لَا يَتَكَرَّرُ فَاعْتُبِرَ وُقُوعُهُ فِي حَالِ الْكَمَالِ ، فَإِنْ كَمَّلَا قَبْلَ الْوُقُوفِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ وَأَدْرَكَا بَعْدَ الْكَمَالِ زَمَنًا يُعْتَدُّ بِمِثْلِهِ فِي الْوُقُوفِ أَوْ بَعْدَهُ وَعَادَا قَبْلَ فَوَاتِ الْوُقُوفِ أَجْزَأَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا أَدْرَكَا مُعْظَمَ الْعِبَادَةِ ، فَصَارَ كَإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ وَأَعَادَ السَّعْيَ مِنْهُمَا مَنْ كَانَ قَدْ سَعَى بَعْدَ الْقُدُومِ لِوُقُوعِهِ فِي حَالِ النُّقْصَانِ ، وَيُخَالِفُ الْإِحْرَامَ فَإِنَّهُ مُسْتَدَامٌ بَعْدَ الْكَمَالِ .
وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ عَنْ فَرْضِهِ أَيْضًا إذَا تَقَدَّمَ الطَّوَافُ أَوْ الْحَلْقُ وَأَعَادَهُ بَعْدَ إعَادَةِ الْوُقُوفِ وَظَاهِرٌ أَنَّهُ تَجِبُ إعَادَتُهُ لِتَبَيُّنِ وُقُوعِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ ، وَلَوْ كَمَّلَ مَنْ ذُكِرَ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ كَانَ كَكَمَالِهِ قَبْلَهُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ : أَيْ وَأَتَى بِمَا مَضَى قَبْلَ كَمَالِهِ ، بَلْ يَنْبَغِي أَنَّهُ لَوْ كَمَّلَ بَعْدَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ أَنَّهُ يَكْفِي كَمَا لَوْ أَعَادَ الْوُقُوفَ بَعْدَ الْكَمَالِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ ، وَالطَّوَافُ فِي الْعُمْرَةِ كَالْوُقُوفِ فِي الْحَجِّ ا هـ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَيَنْبَغِي إذَا كَانَ عَوْدُهُ بَعْدَ الطَّوَافِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَتُهُ ثَانِيًا كَالسَّعْيِ ، وَلَمْ أَرَ الْمَسْأَلَةَ مُصَرَّحًا بِهَا ا هـ .
وَهُوَ حَسَنٌ ، وَوُقُوعُ الْكَمَالِ فِي أَثْنَاءِ الْعُمْرَةِ
عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ أَيْضًا ، وَالطَّوَافُ فِيهَا كَالْوُقُوفِ فِي الْحَجِّ ، وَلَا دَمَ عَلَى مَنْ ذُكِرَ بِإِتْيَانِهِ بِالْإِحْرَامِ بَعْدَ الْكَمَالِ وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إلَى الْمِيقَاتِ كَامِلًا لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ وَلَا إسَاءَةَ عَلَيْهِ ، وَحَيْثُ أَجْزَأَ مَنْ ذَكَرَ مَا أَتَى بِهِ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَعُمْرَتِهِ وَقَعَ إحْرَامُهُ أَوَّلًا تَطَوُّعًا وَانْقَلَبَ بَعْدَ الْكَمَالِ فَرْضًا عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْمَجْمُوعِ فِي الصَّبِيِّ وَالرَّقِيقِ وَالْمَجْنُونِ إذَا حَجَّ عَنْهُ وَلِيُّهُ ثُمَّ أَفَاقَ كَبُلُوغِ الصَّبِيِّ فِيمَا ذُكِرَ كَمَا فِي الْكِفَايَةِ ، وَجَزَمَ بِهِ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ فِي عِبَارَةِ الرَّوْضَةِ مَا يُوهِمُ اشْتِرَاطَ الْإِفَاقَةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ .
وَشَرْطُ وُجُوبِهِ : الْإِسْلَامُ وَالتَّكْلِيفُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ .
( وَشَرْطُ ) أَيْ وَشُرُوطُ ( وُجُوبِهِ ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ( الْإِسْلَامُ ، وَالتَّكْلِيفُ ، وَالْحُرِّيَّةُ ، وَالِاسْتِطَاعَةُ ) بِالْإِجْمَاعِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } [ آلَ عِمْرَانَ ] فَلَا يَجِبُ عَلَى كَافِرٍ أَصْلِيٍّ وُجُوبُ مُطَالَبَةٍ بِهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ وَهُوَ مُعْسِرٌ بَعْدَ اسْتِطَاعَتِهِ فِي الْكُفْرِ فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ لَهَا ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ فَإِنَّ النُّسُكَ يَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّتِهِ بِاسْتِطَاعَتِهِ فِي الرِّدَّةِ ، وَلَا عَلَى غَيْرِ مُكَلَّفٍ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ ، وَلَا عَلَى مَنْ فِيهِ رِقٌّ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ مُسْتَحَقَّةٌ فَلَيْسَ مُسْتَطِيعًا ، وَلَا عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ لِمَفْهُومِ الْآيَةِ .
وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا خَمْسَ مَرَاتِبَ : الصِّحَّةُ الْمُطْلَقَةُ ، وَصِحَّةُ الْمُبَاشَرَةِ ، وَالْوُقُوعُ عَنْ النَّذْرِ ، وَالْوُقُوعُ عَنْ فَرْضِ الْإِسْلَامِ ، وَالْوُجُوبُ ، فَيُشْتَرَطُ مَعَ الْوَقْتِ الْإِسْلَامُ وَحْدَهُ لِلصِّحَّةِ ، وَمَعَ التَّمْيِيزِ لِلْمُبَاشَرَةِ ، وَمَعَ التَّكْلِيفِ لِلنَّذْرِ ، وَمَعَ الْحُرِّيَّةِ لِوُقُوعِهِ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَعُمْرَتِهِ ، وَمَعَ الِاسْتِطَاعَةِ لِلْوُجُوبِ .
وَهِيَ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : اسْتِطَاعَةُ مُبَاشَرَةٍ ، وَلَهَا شُرُوطٌ أَحَدُهَا : وُجُودُ الزَّادِ وَأَوْعِيَتِهِ وَمُؤْنَةِ ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ ، وَقِيلَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِبَلَدِهِ أَهْلٌ وَعَشِيرَةٌ لَمْ تُشْتَرَطْ نَفَقَةُ الْإِيَابِ ، فَلَوْ كَانَ يَكْتَسِبُ كُلَّ يَوْمٍ مَا يَفِي بِزَادِهِ وَسَفَرُهُ طَوِيلٌ لَمْ يُكَلَّفْ الْحَجَّ ، وَإِنْ قَصُرَ وَهُوَ يَكْتَسِبُ فِي يَوْمٍ كِفَايَةَ أَيَّامٍ كُلِّفَ
( وَهِيَ ) أَيْ الِاسْتِطَاعَةُ ( نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : اسْتِطَاعَةُ مُبَاشَرَةٍ ) لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ بِنَفْسِهِ ( وَلَهَا شُرُوطٌ ) سَبْعَةٌ ، وَغَالِبُهَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَتْنِ ، وَلَكِنَّ الْمُصَنِّفَ عَدَّهَا أَرْبَعَةً ، فَقَالَ : ( أَحَدُهَا : وُجُودُ الزَّادِ ) الَّذِي يَكْفِيهِ ( وَأَوْعِيَتِهِ ) حَتَّى السُّفْرَةِ ( وَمُؤْنَةِ ) أَيْ كُلْفَةِ ( ذَهَابِهِ ) لِمَكَّةَ ( وَإِيَابِهِ ) أَيْ رُجُوعِهِ مِنْهَا إلَى بَلَدِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا أَهْلٌ وَعَشِيرَةٌ ( وَقِيلَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِبَلَدِهِ ) بِهَاءِ الضَّمِيرِ ( أَهْلٌ ) مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ كَالزَّوْجَةِ وَالْقَرِيبِ ( وَعَشِيرَةٌ ) أَيْ أَقَارِبُ وَلَوْ كَانُوا مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ - أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ( لَمْ تُشْتَرَطْ ) فِي حَقِّهِ ( نَفَقَةُ الْإِيَابِ ) لِأَنَّ الْبِلَادَ كُلَّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ ، وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ لِمَا فِي الْغُرْبَةِ مِنْ الْوَحْشَةِ ، وَالْوَجْهَانِ جَارِيَانِ أَيْضًا فِي الرَّاحِلَةِ لِلرُّجُوعِ .
تَنْبِيهٌ : يَدْخُلُ فِي الْمُؤْنَةِ الزَّادُ وَأَوْعِيَتُهُ ، فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْمُؤْنَةِ أَغْنَى عَنْهُمَا فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ ، وَلَوْ قَالَ : أَهْلٌ أَوْ عَشِيرَةٌ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ لَأَغْنَى عَمَّا قَدَّرْته وَكَانَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ وُجُودَ أَحَدِهِمَا كَافٍ فِي الْجَزْمِ بِاشْتِرَاطِ نَفَقَةِ الْإِيَابِ وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بِبَلَدِهِ مَسْكَنٌ ، وَمَا إذَا كَانَ لَهُ فِي الْحِجَازِ حِرْفَةٌ تَقُومُ بِمُؤْنَتِهِ وَإِلَّا اُشْتُرِطَتْ نَفَقَةُ الْإِيَابِ بِلَا خِلَافٍ ، وَلَوْ عَبَّرَ بِمُؤْنَةِ الْإِيَابِ لَكَانَ أَوْلَى لِيَشْمَلَ الصُّوَرَ الَّتِي زِدْتهَا وَنَحْوَهَا .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْمَعَارِفِ وَالْأَصْدِقَاءِ لِتَيَسُّرِ اسْتِبْدَالِهِمْ ( فَلَوْ ) لَمْ يَجِدْ مَا ذُكِرَ ، وَلَكِنْ ( كَانَ يَكْتَسِبُ كُلَّ يَوْمٍ ) فِي سَفَرِهِ ( مَا يَفِي بِزَادِهِ ) وَبَاقِي مُؤَنِهِ ( وَسَفَرُهُ طَوِيلٌ ) مَرْحَلَتَانِ فَأَكْثَرُ ( لَمْ يُكَلَّفْ الْحَجَّ ) وَلَوْ كَانَ يَكْسِبُ فِي يَوْمٍ كِفَايَةَ أَيَّامٍ ؛
لِأَنَّهُ قَدْ يَنْقَطِعُ عَنْ الْكَسْبِ لِعَارِضٍ وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ الِانْقِطَاعِ ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ تَعَبِ السَّفَرِ وَالْكَسْبِ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ ( وَإِنْ قَصُرَ ) السَّفَرُ كَأَنْ كَانَ بِمَكَّةَ ، أَوْ عَلَى دُونِ مَرْحَلَتَيْنِ مِنْهَا ( وَهُوَ يَكْتَسِبُ فِي يَوْمٍ كِفَايَةَ أَيَّامٍ ) أَيْ أَيَّامِ الْحَجِّ ( كُلِّفَ ) الْحَجَّ بِأَنْ يَخْرُجَ لَهُ لِقِلَّةِ الْمَشَقَّةِ حِينَئِذٍ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يَكْسِبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَا يَفِي بِهِ فَقَطْ فَلَا يُكَلَّفُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْقَطِعُ عَنْ كَسْبِهِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ ، وَقَدَّرَ فِي الْمَجْمُوعِ أَيَّامَ الْحَجِّ بِمَا بَيْنَ زَوَالِ سَابِعِ ذِي الْحَجَّةِ وَزَوَالِ ثَالِثَ عَشَرَهُ ، وَهُوَ فِي حَقِّ مَنْ يَنْفِرُ النَّفْرَ الْأَوَّلَ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ زَادًا وَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ كُرِهَ لَهُ اعْتِمَادًا عَلَى السُّؤَالِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ وَإِلَّا مُنِعَ بِنَاءً عَلَى تَحْرِيمِ الْمَسْأَلَةِ لِلْمُكْتَسِبِ كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، وَلَوْ كَانَ يَقْدِرُ فِي الْحَضَرِ عَلَى أَنْ يَكْتَسِبَ فِي يَوْمٍ مَا يَكْفِيهِ لِذَلِكَ الْيَوْمِ وَلِلْحَجِّ فَهَلْ يَلْزَمُهُ الِاكْتِسَابُ ؟ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ تَفَقُّهًا : إذَا كَانَ السَّفَرُ قَصِيرًا لَزِمَهُ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا أَلْزَمُوهُ بِهِ فِي السَّفَرِ فَفِي الْحَضَرِ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ طَوِيلًا فَكَذَلِكَ لِانْتِفَاءِ الْمَحْذُورِ ا هـ .
وَالْمُتَّجَهُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ خِلَافَهُ فِي الطَّوِيلِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِبْ الِاكْتِسَابُ لِإِيفَاءِ حَقِّ الْآدَمِيِّ فَلَا يُجَابُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ لِإِيفَائِهِ أَوْلَى .
وَالْوَاجِبُ فِي الْقَصِيرِ إنَّمَا هُوَ الْحَجُّ لَا الِاكْتِسَابُ ، فَقَدْ نَقَلَ الْخُوَارِزْمِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ اكْتِسَابَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي السَّفَرِ بَيْنَ الْقَصِيرِ وَالطَّوِيلِ .
الثَّانِي وُجُودُ الرَّاحِلَةِ لِمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَرْحَلَتَانِ ، فَإِنْ لَحِقَهُ بِالرَّاحِلَةِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ اُشْتُرِطَ وُجُودُ مَحْمِلٍ ، وَاشْتُرِطَ شَرِيكٌ يَجْلِسُ فِي الشِّقِّ الْآخَرِ ، وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا دُونَ مَرْحَلَتَيْنِ ، وَهُوَ قَوِيٌّ عَلَى الْمَشْيِ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ ، فَإِنْ ضَعُفَ فَكَالْبَعِيدِ ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَاضِلَيْنِ عَنْ دَيْنِهِ وَمُؤْنَةِ مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ ، وَالْأَصَحُّ اشْتِرَاطُ كَوْنِهِ فَاضِلًا عَنْ مَسْكَنِهِ وَعَبْدٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِخِدْمَتِهِ ، وَأَنَّهُ يَلْزَمُهُ صَرْفُ مَالِ تِجَارَتِهِ إلَيْهِمَا .
( الثَّانِي ) مِنْ شُرُوطِ الِاسْتِطَاعَةِ ( وُجُودُ الرَّاحِلَةِ ) الصَّالِحَةِ لِمِثْلِهِ بِشِرَاءٍ أَوْ اسْتِئْجَارٍ بِثَمَنِ أَوْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ( لِمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَرْحَلَتَانِ ) فَأَكْثَرُ قَدَرَ عَلَى الْمَشْيِ أَمْ لَا ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِلْقَادِرِ عَلَى الْمَشْيِ الْحَجُّ خُرُوجًا مِنْ خِلَافٍ أَوْجَبَهُ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي اسْتِحْبَابِ الْمَشْيِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ .
قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَإِنْ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ : لَا يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ الْخُرُوجُ مَاشِيَةً لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ ، وَرُبَّمَا تَظْهَرُ لِلرِّجَالِ إذَا كَانَتْ مَاشِيَةً ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لِوَلِيِّهَا مَنْعُهَا كَمَا قَالَهُ فِي التَّقْرِيبِ ، وَالرُّكُوبُ لِوَاجِدِ الرَّاحِلَةِ أَفْضَلُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ خِلَافًا لِلرَّافِعِيِّ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يَرْكَبَ عَلَى قَتَبٍ أَوْ رَحْلٍ لَا مَحْمِلٍ وَهَوْدَجٍ .
وَالرَّاحِلَةُ - وَالْهَاءُ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ - هِيَ النَّاقَةُ الَّتِي تَصْلُحُ لَأَنْ تَرْحَلَ ، وَمُرَادُ الْفُقَهَاءِ بِهَا كُلُّ مَا يُرْكَبُ مِنْ الْإِبِلِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى .
قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ : وَفِي مَعْنَى الرَّاحِلَةِ كُلُّ دَابَّةٍ اُعْتِيدَ الْحَمْلُ عَلَيْهَا فِي طَرِيقِهِ مِنْ بِرْذَوْنٍ أَوْ بَغْلٍ ، أَوْ حِمَارٍ ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرُوا مَسَافَةَ الْقَصْرِ هُنَا مِنْ مَبْدَأِ سَفَرِهِ إلَى مَكَّةَ لَا إلَى الْحَرَمِ عَكْسَ مَا اعْتَبَرُوهُ فِي حَاضِرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْمُتَمَتِّعِ رِعَايَةً لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ فِيهِمَا ( فَإِنْ لَحِقَهُ بِالرَّاحِلَةِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ ) وَضَبَطَهَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ بِمَا يُوَازِي ضَرَرُهُ الضَّرَرَ الَّذِي بَيْنَ الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ ، وَعَبَّرَ غَيْرُهُ بِمَا يَخْشَى مِنْهُ الْمَرَضَ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ بِأَنْ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا فِيمَا أَظُنُّ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَفِيهِ وَقْفَةٌ لِلْمُتَأَمِّلِ أَوْ كَانَ أُنْثَى وَإِنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهَا وَمِثْلُهَا الْخُنْثَى (
اُشْتُرِطَ وُجُودُ مَحْمِلٍ ) بِفَتْحِ مِيمِهِ الْأُولَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ بِخَطِّ مُؤَلِّفِهِ ، وَقِيلَ عَكْسُهُ ، وَهُوَ الْخَشَبَةُ الَّتِي يَرْكَبُ فِيهَا بِبَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ بِعِوَضِ مِثْلٍ دَفْعًا لِلضَّرَرِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ ، وَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لِلْأُنْثَى وَأَحْوَطُ لِلْخُنْثَى .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَيَحْسُنُ الضَّبْطُ فِي حَقِّ الْأُنْثَى بِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهَا أَوْ عَادَةُ أَمْثَالِهَا فِي سَفَرِهَا الدُّنْيَوِيِّ وَغَايَةُ الرِّفْقِ أَنْ يَسْلُكَ بِالْعِبَادَةِ مَسْلَكَ الْعَادَةِ ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ نِسَاءِ الْأَعْرَابِ وَالْأَكْرَادِ وَالتُّرْكُمَانِ كَالرِّجَالِ فَإِنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهُنَّ تَرْكَبُ الْخَيْلَ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ بِلَا مَشَقَّةٍ ا هـ .
وَمَعَ هَذَا فَالسَّتْرُ مِنْهَا مَطْلُوبٌ ، فَإِنْ لَحِقَ مَنْ ذُكِرَ فِي رُكُوبِ الْمَحْمِلِ الْمَشَقَّةُ الْمَذْكُورَةُ اُعْتُبِرَ فِي حَقِّهِ الْكَنِيسَةُ ، وَهِيَ أَعْوَادٌ مُرْتَفِعَةٌ فِي جَوَانِبِ الْمَحْمِلِ يَكُونُ عَلَيْهَا سِتْرٌ دَافِعٌ لِلْحَرِّ وَالْبَرْدِ ( وَاشْتُرِطَ شَرِيكٌ ) أَيْضًا مَعَ وُجُودِ الْمَحْمِلِ ( يَجْلِسُ فِي الشِّقِّ الْآخَرِ ) لِتَعَذُّرِ رُكُوبِ شِقٍّ لَا يُعَادِلُهُ شَيْءٌ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ النُّسُكُ ، وَإِنْ وَجَدَ مُؤْنَةَ الْمَحْمِلِ بِتَمَامِهِ أَوْ كَانَتْ الْعَادَةُ جَارِيَةً فِي مِثْلِهِ بِالْمُعَادَلَةِ بِالْأَثْقَالِ ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَإِنْ خَالَفَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ لِمَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ .
وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ لِمُرِيدِ النُّسُكِ رَفِيقٌ مُوَافِقٌ ، رَاغِبٌ فِي الْخَيْرِ كَارِهٌ لِلشَّرِّ ، إنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ ، وَيَحْمِلُ كُلٌّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَيَرَى لَهُ عَلَيْهِ فَضْلًا وَحُرْمَةً ، وَإِنْ رَأَى رَفِيقًا عَالِمًا دَيِّنًا كَانَ ذَاكَ هُوَ الْفَضْلُ الْعَظِيمُ .
وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : " ابْتَغِ الرَّفِيقَ قَبْلَ الطَّرِيقِ ، فَإِنْ عَرَضَ لَكَ أَمْرٌ نَصَرَك ، وَإِنْ احْتَجْت إلَيْهِ رَفَدَك " ( وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ) أَيْ مَكَّةَ ( دُونَ مَرْحَلَتَيْنِ ، وَهُوَ قَوِيٌّ عَلَى الْمَشْيِ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ
) لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ وُجُودُ الرَّاحِلَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ، وَأَشْعَرَ تَعْبِيرُهُ بِالْمَشْيِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْحَبْوُ أَوْ الزَّحْفُ وَإِنْ أَطَاقَهُمَا وَهُوَ كَذَلِكَ ( فَإِنْ ضَعُفَ ) عَنْ الْمَشْيِ بِأَنْ عَجَزَ أَوْ لَحِقَهُ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ ( فَكَالْبَعِيدِ ) عَنْ مَكَّةَ فَيُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ وُجُودُ الرَّاحِلَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ؛ ( وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ ) مَا ذُكِرَ مِنْ ( الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ) مَعَ الْمَحْمِلِ وَالشَّرِيكِ ( فَاضِلِينَ عَنْ دَيْنِهِ ) حَالًّا كَانَ أَوْ مُؤَجَّلًا ، سَوَاءٌ كَانَ لِآدَمِيٍّ أَمْ لِلَّهِ تَعَالَى كَنَذْرٍ وَكَفَّارَةٍ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ مَالٌ فَإِنْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُهُ فِي الْحَالِ فَكَالْحَاصِلِ عِنْدَهُ وَإِلَّا فَكَالْمَعْدُومِ ( وَ ) عَنْ ( مُؤْنَةِ ) أَيْ كُلْفَةِ ( مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ ) لِئَلَّا يُضَيَّعُوا .
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ } وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فَاضِلًا عَنْ دَسْتِ ثَوْبٍ يَلِيقُ بِهِ ، وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ .
تَنْبِيهٌ : تَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ بِالْمُؤْنَةِ يَشْمَلُ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ وَالْخِدْمَةَ وَالسُّكْنَى وَإِعْفَافَ الْأَبِ ، وَكَذَا أُجْرَةُ الطَّبِيبِ وَثَمَنُ الْأَدْوِيَةِ حَيْثُ احْتَاجَ إلَيْهَا الْقَرِيبُ وَالْمَمْلُوكُ ، فَهِيَ أَوْلَى مِنْ تَعْبِيرِ الْمُحَرَّرِ بِالنَّفَقَةِ ، وَلَكِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ : مَنْ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى النَّفَقَةِ فَلَا تَجِبُ عَلَى قَرِيبِهِ دُونَ الْمُؤْنَةِ فَتَجِبُ وَكَلَامُ الشَّيْخَيْنِ قَدْ يُوهِمُ جَوَازَ الْحَجِّ عِنْدَ فَقْدِ مُؤْنَةِ مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ ؛ لِأَنَّهُمَا جَعَلَا ذَلِكَ شَرْطًا لِلْوُجُوبِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَتْرُكَ لَهُمْ نَفَقَةَ الذَّهَابِ وَالْإِيَابِ وَإِلَّا فَيَكُونُ مُضَيِّعًا لَهُمْ .
قَالَهُ فِي الِاسْتِذْكَارِ وَغَيْرِهِ ( وَالْأَصَحُّ اشْتِرَاطُ كَوْنِهِ ) أَيْ مَا سَبَقَ
جَمِيعِهِ ( فَاضِلًا ) أَيْضًا ( عَنْ مَسْكَنِهِ ) اللَّائِقِ بِهِ الْمُسْتَغْرِقِ لِحَاجَتِهِ ( وَ ) عَنْ ( عَبْدٍ ) يَلِيقُ بِهِ وَ ( يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِخِدْمَتِهِ ) لِمَنْصِبٍ أَوْ عَجْزٍ كَمَا يُبْقَيَانِ فِي الْكَفَّارَةِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ مَعَهُ تَقْدِيرٌ صَرَفَهُ إلَيْهِمَا مُكِّنَ مِنْهُ .
وَالثَّانِي : لَا يُشْتَرَطُ بَلْ يُبَاعَانِ قِيَاسًا عَلَى الدَّيْنِ ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا كَانَتْ الدَّارُ مُسْتَغْرِقَةً لِحَاجَتِهِ وَكَانَتْ سُكْنَى مِثْلِهِ وَالْعَبْدُ يَلِيقُ بِهِ كَمَا قَرَّرْت بِهِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ .
فَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ بَيْعُ بَعْضِ الدَّارِ وَلَوْ غَيْرَ نَفِيسَةٍ وَوَفَى ثَمَنُهُ بِمُؤْنَةِ الْحَجِّ ، أَوْ كَانَا نَفِيسَيْنِ لَا يَلِيقَانِ بِمِثْلِهِ وَلَوْ أَبْدَلَهُمَا لَوَفَى التَّفَاوُتُ بِمُؤْنَةِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ جَزْمًا وَلَوْ كَانَا مَأْلُوفَيْنِ ، بِخِلَافِهِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَلْزَمُهُ بَيْعُهُمَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِأَنَّ لَهَا بَدَلًا ، وَالْأَمَةُ كَالْعَبْدِ وَلَوْ كَانَتْ لِلتَّمَتُّعِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَكَلَامُهُمْ يَشْمَلُ الْمَرْأَةَ الْمَكْفِيَّةَ بِإِسْكَانِ الزَّوْجِ وَإِخْدَامِهِ وَهُوَ مُتَّجَهٌ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَدْ تَنْقَطِعُ فَتَحْتَاجُ إلَيْهِمَا ، وَكَذَا الْمَسْكَنُ لِلْمُتَفَقِّهَةِ السَّاكِنِينَ بِبُيُوتِ الْمَدَارِسِ وَالصُّوفِيَّةِ بِالرُّبُطِ وَنَحْوِهِمَا ا هـ .
وَالْأَوْجَهُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْعِمَادِ مِنْ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُسْتَطِيعُونَ لِاسْتِغْنَائِهِمْ فِي الْحَالِ فَإِنَّهُ الْمُعْتَبَرُ ، وَلِهَذَا تَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى مَنْ كَانَ غَنِيًّا لَيْلَةَ الْعِيدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يَكْفِيهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ .
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا تَكَلَّمُوا عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّدَقَةِ بِمَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ هُنَاكَ : إنَّ الْمُرَادَ بِالْحَاجَةِ حَاجَةُ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْغَزَالِيِّ فِي الْإِحْيَاءِ ، فَلَمْ يَعْتَبِرُوا حَاجَتَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ مَا ذُكِرَ فَاضِلًا أَيْضًا عَنْ كُتُبِ الْعَالِمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ
تَصْنِيفٍ وَاحِدٍ نُسْخَتَانِ فَيَبِيعَ إحْدَاهُمَا ، وَحُكْمُ خَيْلِ الْجُنْدِيِّ وَسِلَاحِهِ كَكُتُبِ الْفَقِيهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْأُسْتَاذِ ، وَهَذَانِ يَجْرِيَانِ فِي الْفِطْرَةِ ، وَالْحَاجَةُ إلَى النِّكَاحِ لَا تَمْنَعُ الْوُجُوبَ ، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ لِخَائِفِ الْعَنَتِ تَقْدِيمُ النِّكَاحِ وَلِغَيْرِهِ تَقْدِيمُ النُّسُكِ ( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّهُ يَلْزَمُهُ صَرْفُ مَالِ تِجَارَتِهِ إلَيْهِمَا ) أَيْ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا وَيَلْزَمُ مَنْ لَهُ مُسْتَغِلَّاتٌ يَحْصُلُ مِنْهَا نَفَقَتُهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَيَصْرِفَهَا لِمَا ذُكِرَ فِي الْأَصَحِّ كَمَا يَلْزَمُهُ صَرْفُ مَا ذُكِرَ فِي دَيْنِهِ ، وَيُخَالِفُ الْمَسْكَنَ وَالْخَادِمَ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِمَا فِي الْحَالِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ إنَّمَا يُتَّخَذُ ذَخِيرَةً لِلْمُسْتَقْبَلِ .
وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ مَا ذُكِرَ لِئَلَّا يَلْتَحِقَ بِالْمَسَاكِينِ ، وَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ كَسْبٌ أَوْ لَا ، وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : فِيهِ بُعْدٌ .
قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ : مَنْ اسْتَطَاعَ الْحَجَّ وَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى أَفْلَسَ فَعَلَيْهِ الْخُرُوجُ إلَى الْحَجِّ ، وَإِنْ عَجَزَ بِالْإِفْلَاسِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْتَسِبَ قَدْرَ الزَّادِ ، فَإِنْ عَجَزَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ الزَّكَاةَ وَالصَّدَقَةَ وَيَحُجَّ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَمَاتَ مَاتَ عَاصِيًا .
الثَّالِثُ أَمْنُ الطَّرِيقِ فَلَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ سَبُعًا أَوْ عَدُوًّا أَوْ رَصَدِيًّا وَلَا طَرِيقَ سِوَاهُ لَمْ يَجِبْ الْحَجُّ ، وَالْأَظْهَرُ وُجُوبُ رُكُوبِ الْبَحْرِ إنْ غَلَبَتْ السَّلَامَةُ ، وَأَنَّهُ يَلْزَمُهُ أُجْرَةُ الْبَذْرَقَةِ ، وَيُشْتَرَطُ وُجُودُ الْمَاءِ وَالزَّادِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُعْتَادِ حَمْلُهُ مِنْهَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ ، وَهُوَ الْقَدْرُ اللَّائِق بِهِ ، فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَعَلَفِ الدَّابَّةِ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ وَفِي الْمَرْأَةِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا زَوْجٌ ، أَوْ مَحْرَمٌ أَوْ نِسْوَةٌ ثِقَاتٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ مَحْرَمٍ لِإِحْدَاهُنَّ ، وَأَنَّهُ يَلْزَمُهَا أُجْرَةُ الْمَحْرَمِ إذَا لَمْ يَخْرُجْ إلَّا بِهَا .
تَنْبِيهٌ وَيُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ النُّسُكِ وُجُودُ الْمَاءِ وَالزَّادِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُعْتَادِ حَمْلُهُ مِنْهَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ ( الثَّالِثُ ) مِنْ شُرُوطِ الِاسْتِطَاعَةِ ( أَمْنُ الطَّرِيقِ ) وَلَوْ ظَنًّا فِي كُلِّ مَكَان بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ ( فَلَوْ خَافَ ) فِي طَرِيقِهِ ( عَلَى نَفْسِهِ ) أَوْ عُضْوِهِ أَوْ نَفْسٍ مُحْتَرَمَةٍ مَعَهُ أَوْ عُضْوِهَا ( أَوْ مَالِهِ ) وَلَوْ يَسِيرًا ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ تَقْيِيدُهُ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلنَّفَقَةِ وَالْمُؤَنِ ، أَمَّا إذَا أَرَادَ اسْتِصْحَابَ مَالٍ خَطِيرٍ لِلتِّجَارَةِ وَكَانَ الْخَوْفُ لِأَجْلِهِ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ ( سَبُعًا أَوْ عَدُوًّا أَوْ رَصَدِيًّا ) بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِهَا ، وَهُوَ مَنْ يَرْصُدُ - أَيْ يَرْقُبُ مَنْ يَمُرُّ لِيَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا ( وَلَا طَرِيقَ ) لَهُ ( سِوَاهُ لَمْ يَجِبْ الْحَجُّ ) عَلَيْهِ لِحُصُولِ الضُّرِّ ، وَالْمُرَادُ بِالْأَمْنِ الْأَمْنُ الْعَامُّ حَتَّى لَوْ كَانَ الْخَوْفُ فِي حَقِّهِ وَحْدَهُ قُضِيَ مِنْ تَرِكَتِهِ كَمَا نَقَلَهُ الْبُلْقِينِيُّ عَنْ النَّصِّ ، وَجَزَمَ فِي الْكِفَايَةِ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْخَوْفُ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ وَالنَّفْرِ الْقَلِيلِ لَمْ يُمْنَعْ الْوُجُوبُ ، وَلَا فَرْقَ فِي الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ لَكِنْ إنْ كَانُوا كُفَّارًا وَأَطَاقَ الْخَائِفُونَ مُقَاوَمَتَهُمْ سُنَّ لَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا لِلنُّسُكِ وَيُقَاتِلُوهُمْ لِيَنَالُوا ثَوَابَ النُّسُكِ وَالْجِهَادِ ، وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ لَمْ يُسَنَّ لَهُمْ الْخُرُوجُ وَالْقِتَالُ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ الْكُفَّارُ مِثْلَيْنَا أَوْ أَقَلَّ لِمَ لَا يَجِبُ قِتَالُهُمْ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي بَابِ السِّيَرِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ انْصِرَافُنَا عَنْهُمْ حِينَئِذٍ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ وَهَذَا بِخِلَافِهِ .
وَيُكْرَهُ بَذْلُ الْمَالِ لِلرَّصَدِيِّ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّحْرِيضِ عَلَى التَّعَرُّضِ لِلنَّاسِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا .
فَإِنْ قِيلَ قَدْ قَيَّدُوا تَخْصِيصَ الْكَرَاهَةِ فِي بَابِ الْإِحْصَارِ بِالْكُفَّارِ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّ مَحَلَّهَا هُنَاكَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ، وَبَذْلُ الْمَالِ عَلَى الْمُحْرِمِ أَسْهَلُ مِنْ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَهَذَا قَبْلَهُ فَلَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ لِارْتِكَابِ الذُّلِّ وَعَارِضُ الْكَرَاهَةِ هُنَاكَ اسْتِمْرَارُ الْبَقَاءِ عَلَى الْإِحْرَامِ .
نَعَمْ إنْ كَانَ الْمُعْطِي هُوَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ وَجَبَ الْحَجُّ كَمَا نَقَلَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ عَنْ الْإِمَامِ .
قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : وَسَكَتَ عَنْ الْأَجْنَبِيِّ ، وَالْقِيَاسُ عَدَمُ الْوُجُوبِ لِلْمِنَّةِ ا هـ .
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ خِلَافًا لِابْنِ الْعِمَادِ .
أَمَّا إذَا كَانَ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ آمِنٌ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ سُلُوكُهُ وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ مِنْ الْأَوَّلِ ( وَالْأَظْهَرُ ) وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالْمَذْهَبِ ( وُجُوبُ رُكُوبِ الْبَحْرِ ) بِسُكُونِ الْحَاءِ ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا لِمَنْ لَا طَرِيقَ لَهُ غَيْرُهُ وَلَوْ امْرَأَةً ( إنْ غَلَبَتْ السَّلَامَةُ ) فِي رُكُوبِهِ كَسُلُوكِ طَرِيقِ الْبَرِّ عِنْدَ غَلَبَةِ السَّلَامَةِ ، فَإِنْ غَلَبَ الْهَلَاكُ أَوْ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ لَمْ يَجِبْ ، بَلْ يَحْرُمُ فِي الْأَوَّلِ قَطْعًا ، وَفِي الثَّانِي عَلَى الصَّحِيحِ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ ، وَالثَّانِي : لَا يَجِبُ مُطْلَقًا لِمَا فِيهِ مِنْ الْخَوْفِ وَالْخَطَرِ وَتَعَسُّرِ دَفْعِ عَوَارِضِهِ .
وَالثَّالِثُ : يَجِبُ مُطْلَقًا لِإِطْلَاقِ الْأَدِلَّةِ ، وَقِيلَ : يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ وَإِذَا لَمْ نُوجِبْ رُكُوبَهُ وَجَوَّزْنَاهُ اُسْتُحِبَّ لِلرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَإِذَا لَمْ نُجَوِّزْهُ فَرَكِبَهُ لِعَارِضٍ فَإِنْ كَانَ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا قَطَعَهُ فَلَهُ الرُّجُوعُ إلَى وَطَنِهِ ، أَوْ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ أَقَلَّ أَوْ تَسَاوَيَا فَلَا رُجُوعَ لَهُ بَلْ يَلْزَمُهُ التَّمَادِي لِقُرْبِهِ مِنْ مَقْصِدِهِ فِي الْأَوَّلِ وَاسْتِوَاءِ الْجِهَتَيْنِ فِي حَقِّهِ فِي الثَّانِي ، وَهَذَا بِخِلَافِ جَوَازِ تَحَلُّلِ الْمُحْرِمِ إذَا أَحَاطَ بِهِ الْعَدُوُّ ؛ لِأَنَّ الْمُحْصَرَ مَحْبُوسٌ وَعَلَيْهِ فِي مُصَابَرَةِ الْإِحْرَامِ مَشَقَّةٌ بِخِلَافِ رَاكِبِ
الْبَحْرِ .
نَعَمْ إنْ كَانَ مُحْرِمًا كَانَ كَالْمُحْصَرِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الذَّهَابِ وَمَنْعِهِ مِنْ الِانْصِرَافِ مَعَ أَنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَنْ خَشِيَ الْعَضْبَ أَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَضَاقَ وَقْتُهُ أَوْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ تِلْكَ السَّنَةَ ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ اسْتِقْرَارُ الْوُجُوبِ ، هَذَا إنْ وَجَدَ بَعْدَ الْحَجِّ طَرِيقًا آخَرَ فِي الْبَرِّ وَإِلَّا فَلَهُ الرُّجُوعُ لِئَلَّا يَتَحَمَّلَ زِيَادَةَ الْخَطَرِ بِرُكُوبِ الْبَحْرِ فِي رُجُوعِهِ ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْكَثْرَةِ وَالتَّسَاوِي الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ النَّظَرُ إلَى الْمَسَافَةِ وَهُوَ صَحِيحٌ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي الْخَوْفِ فِي جَمِيعِ الْمَسَافَةِ .
أَمَّا لَوْ اخْتَلَفَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْمَوْضِعِ الْمَخُوفِ وَغَيْرِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ أَمَامَهُ أَقَلُّ مَسَافَةً لَكِنَّهُ أَخْوَفُ أَوْ هُوَ الْمَخُوفُ لَا يَلْزَمُهُ التَّمَادِي وَإِنْ كَانَ أَطْوَلَ مَسَافَةً وَلَكِنَّهُ سَلِيمٌ وَخَلَفَ الْمَخُوفَ وَرَاءَهُ لَزِمَهُ ذَلِكَ ا هـ .
وَهُوَ بَحْثٌ حَسَنٌ ، وَلَا خَطَرَ فِي الْأَنْهَارِ الْعَظِيمَةِ كَجَيْحُونٍ وَسَيْحُونٍ وَالدِّجْلَةِ فَيَجِبُ رُكُوبُهَا مُطْلَقًا إذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا ؛ لِأَنَّ الْمُقَامَ فِيهَا لَا يَطُولُ ، وَالْخَطَرُ فِيهَا لَا يَعْظُمُ لِأَنَّ جَانِبَهَا قَرِيبٌ يُمْكِنُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ سَرِيعًا بِخِلَافِ الْبَحْرِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَكَانَ التَّصْوِيرُ فِيمَا إذَا كَانَ يَقْطَعُهَا عَرْضًا .
أَمَّا لَوْ كَانَ السَّيْرُ فِيهَا طُولًا فَهِيَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ كَالْبَحْرِ وَأَخْطَرَ ا هـ .
وَهُوَ كَمَا قَالَ خُصُوصًا أَيَّامَ زِيَادَةِ النِّيلِ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الْحَجَّ ] ( وَ ) الْأَظْهَرُ ( أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أُجْرَةُ الْبَذْرَقَةِ ) وَهِيَ بِمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَذَالٍ سَاكِنَةٍ مُعْجَمَةٍ وَمُهْمَلَةٍ عَجَمِيَّةٍ مُعَرَّبَةٍ الْخِفَارَةُ لِأَنَّهَا أُهْبَةٌ مِنْ أُهَبِ الطَّرِيقِ مَأْخُوذَةٌ بِحَقٍّ فَكَانَتْ كَأُجْرَةِ الدَّلِيلِ
إذَا لَمْ يُعْرَفْ الطَّرِيقُ إلَّا بِهِ ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ إذَا وَجَدَ مَنْ يَأْخُذُ مِنْهُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَيَخْفِرُهُ بِحَيْثُ يَأْمَنُ مَعَهُ فِي غَالِبِ الظَّنِّ وَجَبَ اسْتِئْجَارُهُ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا عَنْ الْإِمَامِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ .
وَقَالَ السُّبْكِيُّ إنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الدَّلِيلِ وَإِنْ كَانَتْ عِبَارَةُ الْأَكْثَرِينَ مُشْعِرَةً بِخِلَافِهِ .
وَالثَّانِي وَأَجَابَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْقَاضِي وَجَزَمَ بِهِ فِي التَّنْبِيهِ ، وَأَقَرَّهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَصْحِيحِهِ ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ النَّصِّ : لَا تَلْزَمُهُ لِأَنَّهَا خُسْرَانٌ لِدَفْعِ الظَّالِمِ فَأَشْبَهَ التَّسْلِيمَ إلَى الظَّالِمِ فَلَا يَجِبُ الْحَجُّ مَعَ طَلَبِهَا ، وَمَعَ هَذَا فَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ .
تَنْبِيهٌ : تَبِعَ الْمُصَنِّفُ الْمُحَرَّرَ فِي حِكَايَةِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَلَكِنَّ الَّذِي فِي الْمَجْمُوعِ وَالرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا وَجْهَانِ ( وَيُشْتَرَطُ ) فِي وُجُوبِ النُّسُكِ ( وُجُودُ الْمَاءِ وَالزَّادِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُعْتَادِ حَمْلُهُ مِنْهَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ ) فَإِنْ لَمْ يُوجَدَا أَوْ أَحَدُهُمَا ، كَأَنْ كَانَ عَامَ جَدْبٍ وَخَلَا بَعْضُ الْمَنَازِلِ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ انْقَطَعَتْ الْمِيَاهُ أَوْ وَجَدَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ لَمْ يَلْزَمْهُ النُّسُكُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَحْمِلْ ذَلِكَ مَعَهُ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَإِنْ حَمَلَهُ عَظُمَتْ الْمُؤْنَةُ إلَّا أَنْ تَكُونَ زِيَادَةً يَسِيرَةً فَتُغْتَفَرَ ، وَلَا يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ فِي شِرَاءِ الْمَاءِ لِلطَّهَارَةِ ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَهَا بَدَلٌ ، بِخِلَافِ الْحَجِّ قَالَهُ الدَّمِيرِيُّ ( وَهُوَ ) أَيْ ثَمَنُ الْمِثْلِ ( الْقَدْرُ اللَّائِقُ بِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ ) وَإِنْ غَلَتْ الْأَسْعَارُ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَيَجِبُ حَمْلُ الْمَاءِ وَالزَّادِ بِقَدْرِ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ كَحَمْلِ الزَّادِ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَّةَ وَحَمْلِ الْمَاءِ مِنْ مَرْحَلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَكَانَ هَذَا عَادَةَ طَرِيقِ الْعِرَاقِ وَإِلَّا
فَعَادَةُ الشَّامِ حَمْلُهُ غَالِبًا بِمَفَازَةِ تَبُوكَ ، وَهِيَ ضِعْفُ ذَلِكَ ا هـ .
وَكَذَا عَادَةُ أَهْلِ مِصْرَ حَمْلُهُ إلَى الْعَقَبَةِ وَالضَّابِطُ الْعُرْفُ ، وَالظَّاهِرُ اخْتِلَافُهُ بِاخْتِلَافِ النَّوَاحِي ( وَ ) وُجُودُ ( عَلَفِ الدَّابَّةِ ) بِفَتْحِ اللَّامِ ( فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ ) لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ تَعْظُمُ بِحَمْلِهِ لِكَثْرَتِهِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَيَنْبَغِي اعْتِبَارُ الْعَادَةِ كَالْمَاءِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ : وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ وَإِلَّا لَمَا لَزِمَ آفَاقِيًّا الْحَجُّ أَصْلًا ، فَإِنْ عَدِمَ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ ، وَلَوْ جَهِلَ الْمَانِعَ وَثَمَّ أَصْلٌ اُسْتُصْحِبَ وَإِلَّا وَجَبَ الْخُرُوجُ ، وَيَتَبَيَّنُ لُزُومُ الْخُرُوجِ بِتَبَيُّنِ عَدَمِ الْمَانِعِ ، فَلَوْ ظَنَّ كَوْنَ الطَّرِيقِ فِيهِ مَانِعٌ فَتَرَكَ الْخُرُوجَ ثُمَّ بَانَ أَنْ لَا مَانِعَ لَزِمَهُ النُّسُكُ ، وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا كَمَا فِي التَّنْبِيهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ السَّيْرِ الْمُعْتَادِ لِأَدَاءِ النُّسُكِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْأَئِمَّةِ وَإِنْ اعْتَرَضَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ لَاسْتِقْرَارِهِ لَا لِوُجُوبِهِ ، فَقَدْ صَوَّبَ الْمُصَنِّفُ مَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ : إنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا يَشْهَدُ لَهُ ، وَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ رِفْقَةٍ يَخْرُجُ مَعَهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ بَلَدِهِ الْخُرُوجَ فِيهِ ، وَأَنْ يَسِيرُوا السَّيْرَ الْمُعْتَادَ ، فَإِنْ خَرَجُوا قَبْلَهُ أَوْ أَخَّرُوا الْخُرُوجَ بِحَيْثُ لَا يَصِلُونَ إلَى مَكَّةَ إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ مَرْحَلَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، أَوْ كَانُوا يَسِيرُونَ فَوْقَ الْعَادَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْخُرُوجُ ، هَذَا إنْ احْتَاجَ إلَى الرُّفْقَةِ لِدَفْعِ الْخَوْفِ ، فَإِنْ أَمِنَ الطَّرِيقَ بِحَيْثُ لَا يَخَافُ الْوَاحِدُ فِيهَا لَزِمَهُ ، وَلَا حَاجَةَ لِلرُّفْقَةِ ، وَلَا نَظَرَ إلَى الْوَحْشَةِ بِخِلَافِهَا فِيمَا مَرَّ فِي التَّيَمُّمِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بَدَلَ لِمَا هُنَا بِخِلَافِهِ ثَمَّ ( وَ )
يُشْتَرَطُ ( فِي ) وُجُوبِ نُسُكِ ( الْمَرْأَةِ ) زَائِدًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الرَّجُلِ ( أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا زَوْجٌ أَوْ مَحْرَمٌ ) لَهَا بِنَسَبٍ أَوْ غَيْرِهِ ( أَوْ نِسْوَةٌ ) : بِكَسْرِ النُّونِ وَضَمِّهَا جَمْعُ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهَا ( ثِقَاتٌ ) لِأَنَّ سَفَرَهَا وَحْدَهَا حَرَامٌ وَإِنْ كَانَتْ فِي قَافِلَةٍ لِخَوْفِ اسْتِمَالَتِهَا وَخَدِيعَتِهَا ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ يَوْمَيْنِ إلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ } وَفِي رِوَايَةٍ فِيهِمَا : { لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ } لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي الزَّوْجِ وَالْمَحْرَمِ كَوْنَهُمَا ثِقَتَيْنِ كَمَا قَالُوا نِسْوَةٌ ثِقَاتٌ ، وَهُوَ فِي الزَّوْجِ وَاضِحٌ .
وَأَمَّا فِي الْمَحْرَمِ فَيُشْبِهُ كَمَا فِي الْمُهِمَّاتِ أَنَّ الْوَازِعَ الطَّبِيعِيَّ أَقْوَى مِنْ الشَّرْعِيِّ ، وَكَالْمَحْرَمِ عَبْدُهَا الْأَمِينُ وَالْمَمْسُوحُ .
وَشَرَطَ الْعَبَّادِيُّ فِي الْمَحْرَمِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا ، وَيُقَاسُ بِهِ غَيْرُهُ ، وَيَنْبَغِي مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ بِالصَّبِيِّ ، إذْ لَا يَحْصُلُ لَهَا مَعَهُ الْأَمْنُ عَلَى نَفْسِهَا إلَّا فِي مُرَاهِقٍ ذِي وَجَاهَةٍ بِحَيْثُ يَحْصُلُ مَعَهُ الْأَمْنُ لِاحْتِرَامِهِ ، وَأَفْهَمَ تَقْيِيدُهُ فِي النِّسْوَةِ الثِّقَاتِ أَنَّهُ لَا يَكْفِي غَيْرُ الثِّقَاتِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي غَيْرِ الْمَحَارِمِ لِعَدَمِ الْأَمْنِ ، وَأَنَّهُ يُعْتَبَرُ بُلُوغُهُنَّ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِخَطَرِ السَّفَرِ إلَّا أَنْ يَكُنَّ مُرَاهِقَاتٍ فَيَظْهَرَ الِاكْتِفَاءُ بِهِنَّ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَأَنَّهُ يُعْتَبَرُ ثَلَاثٌ غَيْرُهَا .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَهُوَ بَعِيدٌ لَا مَعْنَى لَهُ ، بَلْ الْمُتَّجَهُ الِاكْتِفَاءُ بِأَقَلِّ الْجَمْعِ ، وَهُوَ ثَلَاثٌ .
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : قَضِيَّةُ كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ الِاكْتِفَاءُ بِالْمَرْأَتَيْنِ لِأَنَّهُنَّ يَصِرْنَ ثَلَاثًا ، وَلَا شَكَّ فِيهِ عِنْدَ مَنْ يَكْتَفِي بِاجْتِمَاعِ نِسْوَةٍ لَا مَحْرَمَ لِإِحْدَاهُنَّ كَمَا هُوَ الْأَصَحُّ ا هـ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ لِانْقِطَاعِ الْأَطْمَاعِ عَنْهُنَّ عِنْدَ
اجْتِمَاعِهِنَّ ، وَلَا يَجِبُ الْخُرُوجُ مَعَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ .
تَنْبِيهٌ : مَا جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ مِنْ اشْتِرَاطِ النِّسْوَةِ هُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ .
أَمَّا الْجَوَازُ فَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ لِأَدَاءِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ مَعَ الْمَرْأَةِ الثِّقَةِ عَلَى الصَّحِيحِ فِي شَرْحَيْ الْمُهَذَّبِ وَمُسْلِمٍ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ فَافْهَمْهُ فَإِنَّهُمَا مَسْأَلَتَانِ : إحْدَاهُمَا : شَرْطُ وُجُوبِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَالثَّانِيَةُ : شَرْطُ جَوَازِ الْخُرُوجِ لِأَدَائِهَا وَقَدْ اشْتَبَهَتَا عَلَى كَثِيرٍ حَتَّى تَوَهَّمُوا اخْتِلَافَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي ذَلِكَ ، وَكَذَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ وَحْدَهَا إذَا أَمِنَتْ ، وَعَلَيْهِ حَمَلَ مَا دَلَّ مِنْ الْأَخْبَارِ عَلَى جَوَازِ السَّفَرِ وَحْدَهَا .
أَمَّا حَجُّ التَّطَوُّعِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَسْفَارِ الَّتِي لَا تَجِبُ فَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ إلَيْهِ مَعَ امْرَأَةٍ بَلْ وَلَا مَعَ النِّسْوَةِ الْخُلَّصِ كَمَا قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَصَحَّحَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ، لَكِنْ لَوْ تَطَوَّعَتْ بِحَجٍّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ فَمَاتَ فَلَهَا إتْمَامُهُ قَالَهُ الرُّويَانِيُّ ، وَلَهَا الْهِجْرَةُ مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ وَحْدَهَا .
وَيُشْتَرَطُ فِي الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ مَحْرَمٌ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ النِّسَاءِ لَا أَجْنَبِيَّاتٍ ، كَذَا نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ فِي بَابِ الْأَحْدَاثِ عَنْ أَبِي الْفُتُوحِ وَأَقَرَّهُ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَمَا قَالَهُ فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ لَا يَسْتَقِيمُ فَإِنَّ الصَّحِيحَ الْمَشْهُورَ جَوَازُ خَلْوَةِ الرَّجُلِ بِنِسْوَةٍ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ هُوَ قُبَيْلَ هَذَا بِقَلِيلٍ عَلَى الصَّوَابِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالْأَمْرَدُ الْجَمِيلُ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ ، يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ فِي حَقِّهِ مَا يَأْمَنُ مَعَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَرِيبٍ وَنَحْوِهِ وَلَمْ أَرَ فِيهِ نَقْلًا ا هـ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ ( وَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ مَحْرَمٍ ) أَوْ زَوْجٍ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ( لِإِحْدَاهُنَّ ) لِمَا مَرَّ .
وَالثَّانِي : يُشْتَرَطُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنُوبُهُنَّ أَمْرٌ فَيَسْتَعِنَّ بِهِ ( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّهُ
يَلْزَمُهَا أُجْرَةُ الْمَحْرَمِ إذَا لَمْ يَخْرُجْ ) مَعَهَا ( إلَّا بِهَا ) إذَا كَانَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ كَأُجْرَةِ الْبَذْرَقَةِ وَأَوْلَى بِاللُّزُومِ ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إلَى الْتِزَامِ هَذِهِ الْمُؤْنَةِ مَعْنِيٌّ فِيهَا فَأَشْبَهَ مُؤْنَةَ الْحَمْلِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ ، وَأُجْرَةُ الزَّوْجِ كَالْمَحْرَمِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَاوِي الصَّغِيرِ ، وَفِي أُجْرَةِ النِّسْوَةِ نَظَرٌ لِلْإِسْنَوِيِّ ، وَالْمُتَّجَهُ إلْحَاقُهُنَّ بِالْمَحْرَمِ ، وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ حَجُّ التَّطَوُّعِ إلَّا بِإِذْنِ الزَّوْجِ ، وَكَذَا السَّفَرُ لِلْفَرْضِ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَوْ امْتَنَعَ مَحْرَمُهَا مِنْ الْخُرُوجِ بِالْأُجْرَةِ لَمْ يُجْبَرْ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ حَدِّ الزِّنَا .
نَعَمْ لَوْ كَانَ عَبْدُهَا مَحْرَمًا لَهَا كَانَ لَهَا إجْبَارُهُ ، وَكَذَا لَا يُجْبَرُ الزَّوْجُ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : نَعَمْ إنْ كَانَ قَدْ أَفْسَدَ حَجَّهَا وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْجَاجُ بِهَا لَزِمَهُ ذَلِكَ بِلَا أَجْرٍ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا فَائِدَةُ لُزُومِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ فَائِدَةَ ذَلِكَ التَّعْصِيَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَنْهَا مِنْ تَرِكَتِهَا ، أَوْ تَكُونُ نَذَرَتْ الْحَجَّ فِي سَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ ، أَوْ خَشِيَتْ الْعَضْبَ ، فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ الْمَرْأَةُ عَلَيْهَا لَمْ يَلْزَمْهَا النُّسُكُ .
، الرَّابِعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ بِلَا مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ وَعَلَى الْأَعْمَى الْحَجُّ إنْ وَجَدَ قَائِدًا ، وَهُوَ كَالْمَحْرَمِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ ، وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ كَغَيْرِهِ لَكِنْ لَا يُدْفَعُ الْمَالُ إلَيْهِ ، بَلْ يَخْرُجُ مَعَهُ الْوَلِيُّ أَوْ يَنْصِبُ شَخْصًا لَهُ :
( الرَّابِعُ ) مِنْ شُرُوطِ الِاسْتِطَاعَةِ ( أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ ) أَوْ فِي مَحْمِلٍ وَنَحْوِهِ ( بِلَا مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ ) فَمَنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهَا أَصْلًا أَوْ ثَبَتَ فِي مَحْمِلٍ عَلَيْهَا لَكِنْ بِمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ لِكِبَرٍ وَغَيْرِهِ انْتَفَى عَنْهُ اسْتِطَاعَةُ الْمُبَاشَرَةِ ، وَلَا تَضُرُّ مَشَقَّةٌ تُحْتَمَلُ فِي الْعَادَةِ ( وَعَلَى الْأَعْمَى الْحَجُّ ) وَالْعُمْرَةُ ( إنْ وَجَدَ ) مَعَ مَا مَرَّ ( قَائِدًا ) يَقُودُهُ وَيَهْدِيهِ عِنْدَ نُزُولِهِ وَيُرَكِّبُهُ عِنْدَ رُكُوبِهِ ( وَهُوَ ) فِي حَقِّهِ ( كَالْمَحْرَمِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ ) فَيَأْتِي فِيهِ مَا مَرَّ ، وَلَوْ أَمْكَنَ مَقْطُوعُ الْأَطْرَافِ الثُّبُوتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ لَزِمَهُ بِشَرْطِ وُجُودِ مُعِينٍ لَهُ ، وَالْمُرَادُ بِالرَّاحِلَةِ هُنَا الْبَعِيرُ بِمَحْمِلٍ أَوْ غَيْرِهِ خِلَافُ الرَّاحِلَةِ فِيمَا سَبَقَ فَإِنَّهَا الْبَعِيرُ الْخَالِي عَنْ الْمَحْمِلِ ( وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ كَغَيْرِهِ ) فِي وُجُوبِ النُّسُكِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ فَيَصِحُّ إحْرَامُهُ وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ ( لَكِنْ لَا يُدْفَعُ الْمَالُ إلَيْهِ ) لِئَلَّا يُبَذِّرَهُ ( بَلْ يَخْرُجُ مَعَهُ الْوَلِيُّ ) بِنَفْسِهِ إنْ شَاءَ لِيُنْفِقَ عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقِ بِالْمَعْرُوفِ ( أَوْ يَنْصِبُ شَخْصًا لَهُ ) ثِقَةً يَنُوبُ عَنْ الْوَلِيِّ وَلَوْ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ إنْ لَمْ يَجِدْ مُتَبَرِّعًا كَافِيًا لِيُنْفِقَ عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أُجْرَتَهُ كَأُجْرَةِ مَنْ يَخْرُجُ مَعَ الْمَرْأَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي إذَا قَصُرَتْ مُدَّةُ السَّفَرِ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ النَّفَقَةُ ، لِقَوْلِهِمْ فِي الْوَصَايَا وَغَيْرِهَا : إنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ نَفَقَةَ أُسْبُوعٍ فَأُسْبُوعٍ إذَا كَانَ لَا يُتْلِفُهَا .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْوَلِيَّ فِي الْحَضَرِ يُرَاقِبُهُ ، فَإِنْ أَتْلَفَهَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ السَّفَرِ فَرُبَّمَا أَتْلَفَ وَلَا يَجِدُ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ فَيُضَيَّعُ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ : هَذَا إذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، فَإِنْ تَبَرَّعَ الْوَلِيُّ بِالْإِنْفَاقِ
عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ السَّفِيهُ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ فَلَا مَنْعَ مِنْهُ .
تَنْبِيهٌ : يُشْتَرَطُ أَنْ تُوجَدَ هَذِهِ الْمُعْتَبَرَاتُ فِي إيجَابِ الْحَجِّ فِي الْوَقْتِ ، فَلَوْ اسْتَطَاعَ فِي رَمَضَانَ مَثَلًا ثُمَّ افْتَقَرَ فِي شَوَّالٍ فَلَا اسْتِطَاعَةَ ، وَكَذَا لَوْ افْتَقَرَ بَعْدَ حَجِّهِمْ وَقَبْلَ رُجُوعِ مَنْ يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ الذَّهَابُ وَالْإِيَابُ .
النَّوْعُ الثَّانِي : اسْتِطَاعَةُ تَحْصِيلِهِ بِغَيْرِهِ ، فَمَنْ مَاتَ وَفِي ذِمَّتِهِ حَجٌّ وَجَبَ الْإِحْجَاجُ عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ ، وَالْمَعْضُوبُ الْعَاجِزُ عَنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ وَإِنْ وَجَدَ أُجْرَةَ مَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ لَزِمَهُ وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهَا فَاضِلَةً عَنْ الْحَاجَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَنْ حَجَّ بِنَفْسِهِ ، لَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ نَفَقَةُ الْعِيَالِ ذَهَابًا وَإِيَابًا ، وَلَوْ بَذَلَ وَلَدُهُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ مَالًا لِلْأُجْرَةِ لَمْ يَجِبْ قَبُولُهُ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَوْ بَذَلَ الْوَلَدُ الطَّاعَةَ وَجَبَ قَبُولُهُ ، وَكَذَا الْأَجْنَبِيُّ فِي الْأَصَحِّ .
( النَّوْعُ الثَّانِي : اسْتِطَاعَةُ تَحْصِيلِهِ ) أَيْ الْحَجِّ لَا بِالْمُبَاشَرَةِ بَلْ ( بِغَيْرِهِ ، فَمَنْ مَاتَ وَفِي ذِمَّتِهِ حَجٌّ ) وَاجِبٌ مُسْتَقِرٌّ بِأَنْ تَمَكَّنَ بَعْدَ اسْتِطَاعَتِهِ مِنْ فِعْلِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ ، وَذَلِكَ بَعْدَ انْتِصَافِ لَيْلَةِ النَّحْرِ وَمُضِيِّ إمْكَانِ الرَّمْيِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ إنْ دَخَلَ الْحَاجُّ بَعْدَ الْوُقُوفِ ثُمَّ مَاتَ أَثِمَ وَلَوْ شَابًّا ، وَإِنْ لَمْ تَرْجِعْ الْقَافِلَةُ ( وَجَبَ الْإِحْجَاجُ عَنْهُ ) وَلَوْ كَانَ قَضَاءً أَوْ نَذْرًا مُسْتَأْجَرًا عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ وَزَادَ عَلَى الْمُحَرَّرِ قَوْلَهُ ( مِنْ تَرِكَتِهِ ) وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ كَمَا يَقْضِي مِنْهَا دَيْنَهُ لِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا { أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا ، أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّك دَيْنٌ أَكُنْت قَاضِيَتَهُ ؟ قَالَتْ نَعَمْ .
قَالَ : اقْضُوا دَيْنَ اللَّهِ فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ } وَلَفْظُ النَّسَائِيّ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ ؟ قَالَ : أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ أَكُنْت قَاضِيَهُ ؟ قَالَ نَعَمْ .
قَالَ : فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ } فَشَبَّهَ الْحَجَّ بِالدَّيْنِ الَّذِي لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْحُكْمِ ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا جَوَّزَ لَهُ التَّأْخِيرَ لَا التَّفْوِيتَ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَأْثَمْ إذَا مَاتَ أَثْنَاءَ وَقْتِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتٍ يَسَعُهَا ؛ لِأَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا مَعْلُومٌ فَلَا تَقْصِيرَ مَا لَمْ يُؤَخِّرْهُ عَنْهُ وَالْإِبَاحَةُ فِي الْحَجِّ بِشَرْطِ الْمُبَادَرَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ ، وَإِذَا مَاتَ قَبْلَ فِعْلِهِ أَشْعَرَ الْحَالُ بِالتَّقْصِيرِ ، وَاعْتِبَارُ إمْكَانِ الرَّمْيِ نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ التَّهْذِيبِ وَأَقَرَّهُ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَلَا بُدَّ مِنْ زَمَنٍ يَسَعُ الْحَلْقَ أَوْ
التَّقْصِيرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ رُكْنٌ ، وَيُعْتَبَرُ الْأَمْنُ فِي السَّيْرِ إلَى مَكَّةَ لِلطَّوَافِ لَيْلًا ا هـ .
وَلَوْ تَمَكَّنَ مِنْ الْحَجِّ سِنِينَ فَلَمْ يَحُجَّ ثُمَّ مَاتَ أَوْ عَضَبَ فَعِصْيَانُهُ مِنْ السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ سِنِي الْإِمْكَانِ لِجَوَازِ التَّأْخِيرِ إلَيْهَا فَيَتَبَيَّنُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ عَضْبِهِ فِسْقُهُ فِي السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ بَلْ وَفِيمَا بَعْدَهَا فِي الْمَعْضُوبِ إلَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَلَا يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَيَنْقُضُ مَا شَهِدَ بِهِ فِي السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ بَلْ وَفِيمَا بَعْدَهَا فِي الْمَعْضُوبِ إلَى مَا ذُكِرَ كَمَا فِي نَقْضِ الْحُكْمِ بِشُهُودٍ بَانَ فِسْقُهُمْ ، فَإِنْ حَجَّ عَنْهُ الْوَارِثُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِاسْتِئْجَارٍ سَقَطَ الْحَجُّ عَنْ الْمَيِّتِ ، وَلَوْ فَعَلَهُ أَجْنَبِيٌّ جَازَ وَلَوْ بِلَا إذْنٍ كَمَا لَهُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ بِلَا إذْنٍ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي الْمَجْمُوعِ ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إذْنٍ كَمَا مَرَّ ، لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ ، بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنْ لَمْ يَخْلُفْ تَرِكَةً لَمْ يَجِبْ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ لَا عَلَى الْوَارِثِ وَلَا فِي بَيْتِ الْمَالِ ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْأَدَاءِ بَعْدَ الْوُجُوبِ كَأَنْ مَاتَ أَوْ جُنَّ أَوْ تَلِفَ مَالُهُ قَبْلَ حَجِّ النَّاسِ لَمْ يَقْضِ مِنْ تَرِكَتِهِ عَلَى الْأَصَحِّ وَالْعُمْرَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَالْحَجِّ .
فَإِنْ قِيلَ : يُسْتَثْنَى مِنْ الصَّوَابِ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَوَقَعَ عَنْهُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ خَرَجَ بِقَوْلِهِ : مِنْ تَرِكَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ لَا تَرِكَةَ لَهُ عَلَى الْأَظْهَرِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ زَوَالُ مِلْكِهِ بِالرِّدَّةِ ( وَالْمَعْضُوبُ ) بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ مِنْ الْعَضْبِ ، وَهُوَ الْقَطْعُ كَأَنَّهُ قُطِعَ عَنْ كَمَالِ الْحَرَكَةِ ، وَبِصَادٍ مُهْمَلَةٍ كَأَنَّهُ قُطِعَ عَصَبُهُ ، وَوَصَفَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( الْعَاجِزُ عَنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ ) حَالًا أَوْ مَآلًا ؛ لِكِبَرٍ أَوْ زَمَانَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ فِي مَعْنَى التَّفْسِيرِ لِلْمَعْضُوبِ
وَلَيْسَتْ خَبَرًا لَهُ بَلْ الْخَبَرُ جُمْلَتَا الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فِي قَوْلِهِ ( وَإِنْ وَجَدَ أُجْرَةَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ ) أَيْ مِثْلِ مُبَاشَرَتِهِ .
أَيْ فَمَا دُونَهَا ( لَزِمَهُ ) الْحَجُّ بِهَا لِأَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ بِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ كَمَا تَكُونُ بِالنَّفْسِ تَكُونُ بِبَذْلِ الْمَالِ وَطَاعَةِ الرِّجَالِ ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِمَنْ لَا يُحْسِنُ الْبِنَاءَ : إنَّك مُسْتَطِيعٌ بِنَاءَ دَارِك إذَا كَانَ مَعَهُ مَا يَفِي بِبِنَائِهَا ، وَإِذَا صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ لِلْآيَةِ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ ؟ قَالَ نَعَمْ } وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ .
نَعَمْ إنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ لَزِمَهُ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ لِقِلَّةِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِ نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَأَقَرَّهُ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَلَك أَنْ تَقُولَ : إنَّهُ قَدْ لَا يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِهِ فَيُضْطَرُّ إلَى الِاسْتِنَابَةِ ا هـ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا أُجْرَةَ مَاشٍ .
قِيلَ : لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْجَارُ إذَا كَانَ السَّفَرُ طَوِيلًا كَمَا لَا يُكَلَّفُ الْخُرُوجَ مَاشِيًا ، وَالْأَصَحُّ اللُّزُومُ ، لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ فِي مَشْيِ غَيْرِهِ إلَّا إذَا كَانَ أَصْلًا أَوْ فَرْعًا كَمَا يَأْخُذُ مِمَّا سَيَأْتِي فِي الْمُطَاعِ ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ قَدْ يُفْهِمُ أَنَّ الْمَعْضُوبَ لَوْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فَحَجَّ عَنْهُ ثُمَّ شُفِيَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ وَالْأَصَحُّ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ ، وَلَا يَقَعُ الْحَجُّ عَنْهُ عَلَى الْأَظْهَرِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجِيرُ الْأُجْرَةَ كَمَا رَجَّحَاهُ هُنَا وَإِنْ رَجَّحَا قَبْلَهُ بِيَسِيرٍ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ ، فَقَدْ قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : إنَّ الْمَذْكُورَ هُنَا هُوَ الصَّوَابُ ( وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهَا ) أَيْ الْأُجْرَةِ
السَّابِقَةِ ( فَاضِلَةً عَنْ الْحَاجَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَنْ حَجَّ بِنَفْسِهِ ) وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا ( لَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ نَفَقَةُ الْعِيَالِ ) وَلَا غَيْرُهَا مِنْ مُؤَنِهِمْ ( ذَهَابًا وَإِيَابًا ) لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُفَارِقْ أَهْلَهُ يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُ نَفَقَتِهِمْ وَنَفَقَتُهُ كَنَفَقَتِهِمْ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ الْبَنْدَنِيجِيِّ وَأَقَرَّهُ .
نَعَمْ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْأُجْرَةِ فَاضِلَةً عَنْ مُؤْنَتِهِمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَعَنْ مُؤْنَتِهِ يَوْمَ الِاسْتِئْجَارِ ، وَلَوْ عَبَّرَ بِالْمُؤْنَةِ بَدَلَ النَّفَقَةِ لَكَانَ أَوْلَى لِيَشْمَلَ مَا زِدْته ( وَلَوْ ) وَجَدَ دُونَ الْأُجْرَةِ وَرَضِيَ بِهِ أَجِيرٌ لَزِمَهُ الِاسْتِئْجَارُ لِأَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ ، وَالْمِنَّةُ فِيهِ لَيْسَتْ كَالْمِنَّةِ فِي الْمَالِ ، فَلَوْ لَمْ يَجِدْ أُجْرَةً وَ ( بَذَلَ ) بِالْمُعْجَمَةِ أَيْ أَعْطَى لَهُ ( وَلَدُهُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ مَالًا لِلْأُجْرَةِ لَمْ يَجِبْ قَبُولُهُ فِي الْأَصَحِّ ) لِمَا فِي قَبُولِ الْمَالِ مِنْ الْمِنَّةِ ، وَالثَّانِي : يَجِبُ كَبَذْلِ الطَّاعَةِ ، وَالْخِلَافُ فِي الْأَجْنَبِيِّ مُرَتَّبٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي الِابْنِ ، وَأَوْلَى بِأَنْ لَا يَجِبَ قَالَهُ فِي الْبَيَانِ ، وَالْأَبُ كَالِابْنِ فِي أَصَحِّ احْتِمَالَيْنِ لِلْإِمَامِ ، وَالِاحْتِمَالُ الْآخَرُ أَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ كَانَ الْوَلَدُ الْمُطِيعُ عَاجِزًا عَنْ الْحَجِّ أَيْضًا وَقَدَرَ عَلَى أَنْ يَسْتَأْجِرَ لَهُ مَنْ يَحُجَّ وَبَذَلَ لَهُ ذَلِكَ وَجَبَ الْحَجُّ عَلَى الْمَبْذُولِ لَهُ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْبَنْدَنِيجِيِّ وَجَمَاعَةٍ ، وَفِي الْمَجْمُوعِ عَنْ تَصْحِيحِ الْمُتَوَلِّي لَوْ اسْتَأْجَرَ الْمُطِيعُ إنْسَانًا لِلْحَجِّ عَنْ الْمُطَاعِ الْمَعْضُوبِ ، فَالْمَذْهَبُ لُزُومُهُ إنْ كَانَ الْمُطِيعُ وَلَدًا لِتَمَكُّنِهِ .
فَإِنْ كَانَ الْمُطِيعُ أَجْنَبِيًّا فَفِيهِ وَجْهَانِ ا هـ .
وَمُقْتَضَى كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ لُزُومُهُ ، وَكَلَامِ الْبَغَوِيِّ عَدَمُ لُزُومِهِ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا اعْتَمَدَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِيهِ ، وَكَالْوَلَدِ فِي
هَذَا الْوَالِدُ ( وَلَوْ بَذَلَ الْوَلَدُ ) وَإِنْ سَفَلَ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى ( الطَّاعَةَ ) فِي النُّسُكِ بِنَفْسِهِ ( وَجَبَ قَبُولُهُ ) وَهُوَ الْإِذْنُ لَهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمِنَّةَ فِي ذَلِكَ لَيْسَتْ كَالْمِنَّةِ فِي الْمَالِ لِحُصُولِ الِاسْتِطَاعَةِ ، فَإِنْ امْتَنَعَ لَمْ يَأْذَنْ الْحَاكِمُ عَنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ ، لِأَنَّ الْحَجَّ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّرَاخِي ( وَكَذَا الْأَجْنَبِيُّ ) لَوْ بَذَلَ الطَّاعَةَ يَجِبُ قَبُولُهُ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِمَا ذُكِرَ ، وَالْأَبُ وَالْأُمُّ فِي بَذْلِ الطَّاعَةِ كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَمَحَلُّ اللُّزُومِ إذَا وَثِقَ بِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ حَجٌّ وَلَوْ نَذْرًا ، وَكَانُوا مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُمْ فَرْضُ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَكُونُوا مَعْضُوبِينَ ، وَلَوْ تَوَسَّمَ الطَّاعَةَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَزِمَهُ أَمْرُهُ كَمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْأَنْوَارِ وَغَيْرِهِ وَلَا يَلْزَمُ الْوَلَدَ طَاعَتُهُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ بِخِلَافِ إعْفَافِهِ ، لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ هُنَا عَلَى الْوَالِدِ بِامْتِنَاعِ وَلَدِهِ مِنْ الْحَجِّ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلشَّرْعِ ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ لَا يَأْثَمُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِخِلَافِهِ ثَمَّ فَإِنَّهُ لَحِقَ الْوَالِدَ وَضَرَرُهُ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالنَّفَقَةِ قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَلَوْ كَانَ الِابْنُ وَإِنْ سَفَلَ أَوْ الْأَبُ وَإِنْ عَلَا مَاشِيًا أَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا ، وَمِنْ الْأَجْنَبِيِّ مُعَوَّلًا عَلَى الْكَسْبِ أَوْ السُّؤَالِ وَلَوْ رَاكِبًا ، أَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَغْرُورًا بِنَفْسِهِ بِأَنْ كَانَ يَرْكَبُ مَفَازَةً لَيْسَ فِيهَا كَسْبٌ وَلَا سُؤَالٌ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولٌ فِي ذَلِكَ لِمَشَقَّةِ مَشْيِ مَنْ ذُكِرَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَشْيِ الْأَجْنَبِيِّ وَالْكَسْبُ قَدْ يَنْقَطِعُ وَالسَّائِلُ قَدْ يَرُدُّ وَالتَّغْرِيرُ بِالنَّفْسِ حَرَامٌ ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْمَشْيِ وَالْمُكْتَسِبَ فِي يَوْمٍ كِفَايَةَ أَيَّامٍ لَا يُعْذَرُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ ، فَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وُجُوبُ الْقَبُولُ فِي الْمَكِّيِّ وَنَحْوِهِ ، وَلَوْ رَجَعَ الْمُطِيعُ وَلَوْ بَعْدَ الْإِذْنِ لَهُ عَنْ طَاعَتِهِ
قَبْلَ إحْرَامِهِ جَازَ ، لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِشَيْءٍ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الشُّرُوعُ ، أَوْ بَعْدَهُ فَلَا لِانْتِفَاءِ ذَلِكَ .
وَإِذَا رَجَعَ فِي الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ أَهْلُ بَلَدِهِ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُطَاعِ ، وَلَوْ امْتَنَعَ الْمَعْضُوبُ مِنْ الِاسْتِئْجَارِ لِمَنْ يَحُجُّ عَنْهُ أَوْ مِنْ اسْتِنَابَةِ الْمُطِيعِ لَمْ يُلْزِمْهُ الْحَاكِمُ بِذَلِكَ وَلَمْ يَنُبْ عَنْهُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِئْجَارُ وَالِاسْتِنَابَةُ وَاجِبَيْنِ عَلَى الْفَوْرِ فِي حَقِّ مَنْ عَضَبَ مُطْلَقًا فِي الْإِنَابَةِ وَبَعْدَ يَسَارِهِ فِي الِاسْتِئْجَارِ ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي كَمَا مَرَّ ، وَلِأَنَّهُ لَا حَقَّ فِيهِ لِلْغَيْرِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَلَوْ مَاتَ الْمُطِيعُ أَوْ رَجَعَ عَنْ الطَّاعَةِ أَوْ مَاتَ الْمُطَاعُ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ إمْكَانِ الْحَجِّ اسْتَقَرَّ الْوُجُوبُ فِي ذِمَّةِ الْمُطَاعِ وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ أَوْ مُطِيعٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْمَالِ وَلَا بِطَاعَةِ الْمُطِيعِ ثُمَّ عَلِمَ بِذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ اعْتِبَارًا بِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَتَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ وَعُمْرَتِهِ كَمَا فِي النِّيَابَةِ عَنْ الْمَيِّتِ إذَا أَوْصَى بِذَلِكَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِالنَّفَقَةِ وَهِيَ قَدْرُ الْكِفَايَةِ كَمَا يَجُوزُ بِالْإِجَارَةِ وَالْجَعَالَةِ ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ بِهَا لَمْ يَصِحَّ لِجَهَالَةِ الْعِوَضِ ، وَلَوْ قَالَ الْمَعْضُوبُ : مَنْ يَحُجُّ عَنِّي فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، فَمَنْ حَجَّ عَنْهُ مِمَّنْ سَمِعَهُ أَوْ سَمِعَ مَنْ أَخْبَرَهُ عَنْهَا اسْتَحَقَّهَا ، وَإِنْ أَحْرَمَ عَنْهُ اثْنَانِ مُرَتَّبًا اسْتَحَقَّهَا الْأَوَّلُ ، فَإِنْ أَحْرَمَا مَعًا أَوْ جُهِلَ السَّابِقُ مِنْهُمَا مَعَ جَهْلِ سَبْقِهِ أَوْ بِدُونِهِ وَقَعَ حَجُّهُمَا عَنْهُمَا وَلَا شَيْءَ لَهُمَا عَلَى الْقَائِلِ إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، وَلَوْ عَلِمَ سَبْقَ أَحَدِهِمَا ثُمَّ نَسِيَ فَقِيَاسُ نَظَائِرِهِ تَرْجِيحُ الْوَقْفِ ، وَلَوْ كَانَ الْعِوَضُ مَجْهُولًا كَأَنْ قَالَ : مَنْ حَجَّ عَنِّي فَلَهُ ثَوْبٌ وَقَعَ الْحَجُّ عَنْهُ
بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ .
خَاتِمَةٌ : الِاسْتِئْجَارُ فِيمَا ذُكِرَ ضَرْبَانِ : اسْتِئْجَارُ عَيْنٍ ، وَاسْتِئْجَارُ ذِمَّةٍ ، فَالْأَوَّلُ كَاسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحُجَّ عَنِّي أَوْ عَنْ مَيِّتِي هَذِهِ السَّنَةَ ، فَإِنْ عَيَّنَ غَيْرَ السَّنَةِ الْأُولَى لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ وَإِنْ أَطْلَقَ صَحَّ ، وَحُمِلَ عَلَى السَّنَةِ الْحَاضِرَةِ فَإِنْ كَانَ لَا يَصِلُ إلَى مَكَّةَ إلَّا لِسَنَتَيْنِ فَأَكْثَرَ ، فَالْأُولَى مِنْ سِنِي إمْكَانِ الْوُصُولِ ، وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ قُدْرَةُ الْأَجِيرِ عَلَى الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ وَاتِّسَاعُ الْمُدَّةِ لَهُ ، وَالْمَكِّيُّ وَنَحْوُهُ يُسْتَأْجَرُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَالضَّرْبُ الثَّانِي كَقَوْلِهِ : أَلْزَمْت ذِمَّتَك تَحْصِيلَ حَجَّةٍ ، وَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ فِي هَذَا الضَّرْبِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ ، فَإِنْ أَطْلَقَ حُمِلَ عَلَى الْحَاضِرَةِ فَيَبْطُلُ إنْ ضَاقَ الْوَقْتُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ قُدْرَتُهُ عَلَى السَّفَرِ لِإِمْكَانِ الِاسْتِنَابَةِ فِي إجَارَةِ الذِّمَّةِ ، وَلَوْ قَالَ أَلْزَمْت ذِمَّتَك لِتَحُجَّ عَنِّي بِنَفْسِك صَحَّ وَتَكُونُ إجَارَةَ عَيْنٍ ، وَيُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْعَاقِدِينَ أَعْمَالَ الْحَجِّ وَلَا يَجِبُ ذِكْرُ الْمِيقَاتِ ، وَيُحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى الْمِيقَاتِ الشَّرْعِيِّ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ لِلْقِرَانِ فَالدَّمُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ، فَإِنْ شَرَطَهُ عَلَى الْأَجِيرِ بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ لِلْقِرَانِ مُعْسِرًا فَالصَّوْمُ الَّذِي هُوَ بَدَلُ الدَّمِ عَلَى الْأَجِيرِ : لِأَنَّ بَعْضَهُ وَهُوَ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ فِي الْحَجِّ وَاَلَّذِي فِي الْحَجِّ مِنْهُمَا هُوَ الْأَجِيرُ ، وَجِمَاعُ الْأَجِيرِ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ وَتَنْفَسِخُ بِهِ إجَارَةُ الْعَيْنِ لَا إجَارَةُ الذِّمَّةِ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِزَمَانٍ ، وَيَنْقَلِبُ فِيهِمَا الْحَجُّ لِلْأَجِيرِ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ الْمَطْلُوبَ لَا يَحْصُلُ بِالْحَجِّ الْفَاسِدِ فَانْقَلَبَ لَهُ كَمُطِيعِ الْمَعْضُوبِ إذَا جَامَعَ فَسَدَ حَجُّهُ وَانْقَلَبَ لَهُ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ فِي فَاسِدِهِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَعَلَيْهِ فِي إجَارَةِ الذِّمَّةِ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَ
الْقَضَاءِ عَنْ نَفْسِهِ بِحَجٍّ آخَرَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي عَامٍ آخَرَ أَوْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ أَوْ فِي غَيْرِهِ ، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ عَلَى التَّرَاخِي لِتَأَخُّرِ الْمَقْصُودِ ، وَيَسْقُطُ فَرْضُ مَنْ حَجَّ أَوْ اعْتَمَرَ بِمَالٍ حَرَامٍ كَمَغْصُوبٍ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا كَمَا فِي الصَّلَاةِ فِي مَغْصُوبٍ أَوْ ثَوْبِ حَرِيرٍ .
بَابُ الْمَوَاقِيتِ وَقْتُ إحْرَامِ الْحَجِّ : شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، وَفِي لَيْلَةِ النَّحْرِ وَجْهٌ :
( بَابُ الْمَوَاقِيتِ ) لِلنُّسُكِ زَمَانًا وَمَكَانًا : جَمْعُ مِيقَاتٍ ، وَالْمِيقَاتُ فِي اللُّغَةِ الْحَدُّ ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَهُنَا زَمَانُ الْعِبَادَةِ وَمَكَانُهَا ، وَقَدْ بَدَأَ بِالزَّمَانِ فَقَالَ : ( وَقْتُ إحْرَامِ الْحَجِّ ) لِمَكِّيٍّ أَوْ غَيْرِهِ ( شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ ) بِفَتْحِ الْقَافِ أَفْصَحُ مِنْ كَسْرِهَا ، وَجَمْعُهُ ذَوَاتُ الْقَعْدَةِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِقُعُودِهِمْ عَنْ الْقِتَالِ فِيهِ ( وَعَشْرُ لَيَالٍ ) بِالْأَيَّامِ بَيْنَهَا وَهِيَ تِسْعَةٌ ( مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ) بِكَسْرِ الْحَاءِ أَفْصَحُ مِنْ فَتْحِهَا وَجَمْعُهُ ذَوَاتُ الْحِجَّةِ .
سُمِّيَ بِذَلِكَ لِوُقُوعِ الْحَجِّ فِيهِ .
وَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَوْله تَعَالَى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } الْبَقَرَةَ بِذَلِكَ : أَيْ وَقْتُ الْإِحْرَامِ بِهِ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ إذْ فِعْلُهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَشْهُرٍ ، وَأَطْلَقَ الْأَشْهُرَ عَلَى شَهْرَيْنِ وَبَعْضِ شَهْرٍ تَنْزِيلًا لِلْبَعْضِ مَنْزِلَةَ الْكُلِّ ، أَوْ إطْلَاقًا لِلْجَمِيعِ عَلَى مَا فَوْقَ الْوَاحِدِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } [ النُّورَ ] أَيْ عَائِشَةُ وَصَفْوَانُ ( وَفِي لَيْلَةِ النَّحْرِ ) وَهِيَ الْعَاشِرَةُ ( وَجْهٌ ) أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ وَقْتِهِ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ تَبَعٌ لِلْأَيَّامِ ، وَيَوْمُ النَّحْرِ لَا يَصِحُّ فِيهِ الْإِحْرَامُ فَكَذَا لَيْلَتُهُ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ إذَا ضَاقَ زَمَنُ الْوُقُوفِ عَنْ إدْرَاكِهِ ، وَبِهِ صَرَّحَ الرُّويَانِيُّ قَالَ : وَهَذَا بِخِلَافِ نَظِيرِهِ فِي الْجُمُعَةِ لِبَقَاءِ الْحَجِّ حَجًّا بِفَوَاتِ الْوُقُوفِ بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ .
فَلَوْ أَحْرَمَ بِهِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ انْعَقَدَ عُمْرَةً عَلَى الصَّحِيحِ ، وَجَمِيعُ السَّنَةِ وَقْتٌ لِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ .
( فَلَوْ أَحْرَمَ بِهِ ) أَيْ الْحَجِّ حَلَالٌ ( فِي غَيْرِ وَقْتِهِ ) كَأَنْ أَحْرَمَ بِهِ فِي رَمَضَانَ أَوْ أَحْرَمَ مُطْلَقًا ( انْعَقَدَ ) إحْرَامُهُ بِذَلِكَ ( عُمْرَةً ) مُجْزِئَةً عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ ( عَلَى الصَّحِيحِ ) وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالْمَذْهَبِ ، سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا أَوْ جَاهِلًا ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ شَدِيدُ التَّعَلُّقِ وَاللُّزُومِ ، فَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ الْوَقْتَ مَا أَحْرَمَ بِهِ انْصَرَفَ إلَى مَا يَقْبَلُهُ وَهُوَ الْعُمْرَةُ ، وَلِأَنَّهُ إذَا بَطَلَ قَصْدُ الْحَجِّ فِيمَا إذَا نَوَاهُ بَقِيَ مُطْلَقُ الْإِحْرَامِ ، وَالْعُمْرَةُ تَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ كَمَا مَرَّ ، وَالثَّانِي : لَا يَنْعَقِدُ عُمْرَةً بَلْ يَتَحَلَّلُ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُجْزِئًا عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ كَمَا لَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَتَحَلَّلَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّمَانَيْنِ لَيْسَ وَقْتًا لِلْحَجِّ ، وَخَرَجَ بِحَلَالٍ مَا لَوْ كَانَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجٍّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ ، فَإِنَّ إحْرَامَهُ لَمْ يَنْعَقِدْ حَجًّا لِكَوْنِهِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ ، وَلَا عُمْرَةً لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْعُمْرَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِالصَّحِيحِ دُونَ الْمَذْهَبِ مَعَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ ذَاتُ طُرُقِ إشَارَةً إلَى ضَعْفِ الْخِلَافِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ شَكَّ هَلْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَهُوَ عُمْرَةٌ ، أَوْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ ثُمَّ شَكَّ هَلْ كَانَ إحْرَامُهُ فِي أَشْهُرِهِ أَوْ قَبْلَهَا .
قَالَ الصَّيْمَرِيُّ : كَانَ حَجًّا ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ إحْرَامَهُ الْآنَ وَشَكَّ فِي تَقَدُّمِهِ قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ : وَالْمِيقَاتُ الزَّمَانِيُّ لِلْعُمْرَةِ جَمِيعُ السَّنَةِ كَمَا قَالَ ( وَجَمِيعُ السَّنَةِ وَقْتٌ لِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ ) وَجَمِيعُ أَفْعَالِهَا ، فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اعْتَمَرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ : أَيْ فِي ثَلَاثِ أَعْوَامٍ ، وَأَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ } كَمَا
رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَإِنْ أَنْكَرَتْهُ عَلَيْهِ عَائِشَةُ ، وَأَنَّهُ قَالَ { عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً } وَفِي رِوَايَةٍ لَهَا " حَجَّةً مَعِي " .
وَرُوِيَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي رَمَضَانَ وَفِي شَوَّالٍ فَدَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى عَدَمِ التَّأْقِيتِ ، وَقَدْ يَمْتَنِعُ الْإِحْرَامُ بِهَا فِي أَوْقَاتٍ مِنْهَا ، مَا لَوْ كَانَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَمِنْهَا مَا لَوْ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ فَإِنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْحَجِّ ، وَمِنْهَا مَا إذَا أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ نَفْرِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِالرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ : فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ التَّشَاغُلِ بِعَمَلِهَا .
قَالَ الْجُوَيْنِيُّ : وَلَيْسَ لَنَا مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ حَلَالٌ ، وَلَا يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ إلَّا هَذَا ، وَاعْتَرَضَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِهَا وَهُوَ مُجَامِعٌ لَا تَنْعَقِدُ عَلَى الصَّحِيحِ .
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا امْتِنَاعُ حَجَّتَيْنِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ وَهُوَ إجْمَاعٌ كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ .
وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَيْضًا صِحَّةُ إحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ إذَا قَصَدَ تَرْكَ الرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
أَمَّا إحْرَامُهُ بِهَا بَعْدَ نَفْرِهِ فَصَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ وَقْتُ الرَّمْيِ بَعْدَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ بَاقِيًا لِأَنَّ بِالنَّفْرِ خَرَجَ مِنْ الْحَجِّ وَصَارَ كَمَا لَوْ مَضَى وَقْتُ الرَّمْيِ .
نَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ نَصِّ الْأُمِّ .
وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : لَا خِلَافَ فِيهِ ، وَيُسَنُّ الْإِكْثَارُ مِنْهَا وَلَوْ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ فَلَا تُكْرَهُ فِي وَقْتٍ وَلَا يُكْرَهُ تَكْرَارُهَا { فَقَدْ أَعْمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ فِي عَامٍ مَرَّتَيْنِ ، وَاعْتَمَرَتْ فِي عَامٍ مَرَّتَيْنِ بَعْدَ وَفَاتِهِ } وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثَ عُمَرَ .
قَالَ فِي الْكِفَايَةِ : وَفِعْلُهَا فِي يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَيَوْمِ النَّحْرِ لَيْسَ بِفَاضِلٍ كَفَضْلِهِ فِي غَيْرِهِمَا لِأَنَّ الْأَفْضَلَ فِعْلُ الْحَجِّ فِيهِمَا .
وَحَكَى الطَّبَرِيُّ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ فِي الطَّوَافِ وَالِاعْتِمَارِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ ؟ ثَالِثُهُمَا : إنْ اُسْتُغْرِقَ زَمَنُ
الِاعْتِمَارِ بِالطَّوَافِ فَالطَّوَافُ أَفْضَلُ وَإِلَّا فَالِاعْتِمَارُ .
وَالْمِيقَاتُ الْمَكَانِيُّ لِلْحَجِّ فِي حَقِّ مَنْ بِمَكَّةَ نَفْسُ مَكَّةَ ، وَقِيلَ كُلُّ الْحَرَمِ ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَمِيقَاتُ الْمُتَوَجِّهِ مِنْ الْمَدِينَةِ ذُو الْحُلَيْفَةِ ، وَمِنْ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ الْجُحْفَةُ ، وَمِنْ تِهَامَةِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ ، وَمِنْ نَجْدِ الْيَمَنِ وَنَجْدِ الْحِجَازِ قَرْنٌ ، وَمِنْ الْمَشْرِقِ ذَاتُ عِرْقٍ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الْمَكَانِيِّ فَقَالَ : ( وَالْمِيقَاتُ الْمَكَانِيُّ لِلْحَجِّ ) وَلَوْ بِقِرَانٍ ( فِي حَقِّ مَنْ بِمَكَّةَ ) مِنْ أَهْلِهَا وَغَيْرِهِمْ ( نَفْسُ مَكَّةَ ) لِلْخَبَرِ الْآتِي ( وَقِيلَ : كُلُّ الْحَرَمِ ) لِأَنَّ مَكَّةَ وَسَائِرَ الْحَرَمِ فِي الْحُرْمَةِ سَوَاءٌ ، فَلَوْ أَحْرَمَ بَعْدَ فِرَاقِهِ بُنْيَانَ مَكَّةَ وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى مَكَّةَ إلَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ كَانَ مُسِيئًا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ( وَأَمَّا غَيْرُهُ ) وَهُوَ مَنْ لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ إذَا أَرَادَ الْحَجَّ أَخْذًا مِمَّا سَيَأْتِي ( فَمِيقَاتُ الْمُتَوَجِّهِ مِنْ الْمَدِينَةِ ذُو الْحُلَيْفَةِ ) تَصْغِيرُ الْحَلْفَةِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ ، وَأَحَدُ الْحَلْفَاءِ مِثْلُ قَضْبَةٍ وَقَضْبَاءَ ، وَهُوَ النَّبَاتُ الْمَعْرُوفُ .
قَالَ الشَّيْخَانِ : وَهُوَ عَلَى نَحْوِ عَشْرِ مَرَاحِلَ مِنْ مَكَّةَ ، فَهِيَ أَبْعَدُ الْمَوَاقِيتِ مِنْ مَكَّةَ .
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ : وَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ ، وَصَحَّحَهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ ، وَقِيلَ سَبْعَةٌ .
قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : وَالصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ الْمُشَاهَدُ أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ تَزِيدُ قَلِيلًا ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الْآنَ بِأَبْيَارِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَالْأَفْضَلُ كَمَا قَالَ السُّبْكِيُّ لِمَنْ هَذَا مِيقَاتُهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الَّذِي أَحْرَمَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَ ) الْمُتَوَجِّهِ ( مِنْ الشَّامِ ) بِالْهَمْزِ وَالْقَصْرِ وَيَجُوزُ تَرْكُ الْهَمْزِ ، وَالْمَدِّ مَعَ فَتْحِ الشِّينِ ضَعِيفٌ .
وَأَوَّلُهُ كَمَا فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ نَابُلُسُ وَآخِرُهُ الْعَرِيشُ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : وَحَدُّهُ طُولًا مِنْ الْعَرِيشِ إلَى الْفُرَاتِ ، وَعَرْضًا مِنْ جَبَلِ طَيِّئٍ مِنْ نَحْوِ الْقِبْلَةِ إلَى بَحْرِ الرُّومِ ، وَمَا سَامَتْ ذَلِكَ مِنْ الْبِلَادِ ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ عَلَى الْمَشْهُورِ ( وَ ) مِنْ ( مِصْرَ ) وَهِيَ الْمَدِينَةُ الْمَعْرُوفَةُ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ وَتُصْرَفُ وَلَا تُصْرَفُ وَهُوَ الْفَصِيحُ ، وَحَدُّهَا طُولًا مِنْ بَرْقَةَ الَّتِي فِي جَنُوبِ الْبَحْرِ الرُّومِيِّ
إلَى أَيْلَةَ ، وَمَسَافَةُ ذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَعَرْضُهُ مِنْ مَدِينَةِ أُسْوَانَ وَمَا سَامَتَهَا مِنْ الصَّعِيدِ الْأَعْلَى إلَى رَشِيدٍ وَمَا حَاذَاهَا مِنْ مَسَاقِطِ النِّيلِ فِي الْبَحْرِ الرُّومِيِّ ، وَمَسَافَةُ ذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا سُمِّيَتْ بِاسْمِ مَنْ سَكَنَهَا أَوَّلًا ، وَهُوَ مُضَرُ بْنُ قَيْصَرَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ ( وَ ) مِنْ ( الْمَغْرِبِ الْجُحْفَةُ ) وَهِيَ قَرْيَةٌ كَبِيرَةٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : عَلَى نَحْوِ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ مِنْ مَكَّةَ .
وَقَالَ الرَّافِعِيُّ : عَلَى خَمْسِينَ فَرْسَخًا مِنْ مَكَّةَ وَبَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ بَعِيدٌ ، وَالْمَعْرُوفُ الْمُشَاهَدُ مَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ السَّيْلَ نَزَلَ عَلَيْهَا فَأَجْحَفَهَا ، وَهِيَ الْآنَ خَرَابٌ ، وَيُقَالُ لَهَا مَهْيَعَةٌ بِوَزْنِ مَرْتَبَةٍ ، وَمَهْيَعَةٌ بِوَزْنِ مَعِيشَةٍ ( وَمِنْ تِهَامَةِ الْيَمَنِ ) بِكَسْرِ التَّاءِ اسْمٌ لِكُلِّ مَنْ نَزَلَ عَنْ نَجْدٍ مِنْ بِلَادِ الْحِجَازِ وَالْيَمَنُ إقْلِيمٌ مَعْرُوفٌ ( يَلَمْلَمُ ) وَيُقَالُ لَهُ أَلَمْلَمُ وَهُوَ أَصْلُهُ قُلِبَتْ الْهَمْزَةُ يَاءً ، وَيَرَمْرَمُ بِرَاءَيْنِ وَهُوَ مَوْضِعٌ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ ( وَمِنْ نَجْدِ الْيَمَنِ وَنَجْدِ الْحِجَازِ قَرْنٌ ) بِسُكُونِ الرَّاءِ ، وَيُقَالُ لَهُ قَرْنُ الْمَنَازِلِ وَقَرْنُ الثَّعَالِبِ ، وَهُوَ جَبَلٌ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ ، وَوَهِمَ الْجَوْهَرِيُّ فِي تَحْرِيكِ الرَّاءِ وَفِي قَوْلِهِ : أُوَيْسًا الْقَرَنِيَّ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَنْسُوبٌ إلَى قَرْنٍ قَبِيلَةٍ مِنْ مُرَادٍ كَمَا ثَبَتَ فِي مُسْلِمٍ ، وَنَجْدٌ فِي الْأَصْلِ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ وَيُسَمَّى الْمُنْخَفِضُ غَوْرًا ، وَإِذَا أُطْلِقَ نَجْدٌ فَالْمُرَادُ نَجْدُ الْحِجَازِ ( وَمِنْ الْمَشْرِقِ ) الْعِرَاقُ وَغَيْرُهُ ( ذَاتُ عِرْقٍ ) وَهِيَ قَرْيَةٌ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ وَقَدْ خَرِبَتْ وَالْعَقِيقُ ، وَهُوَ وَادٍ فَوْقَ ذَاتِ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ، وَخُرَاسَانُ أَفْضَلُ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ ، وَلِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ { أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ لَكِنْ رَدَّهُ فِي الْمَجْمُوعِ فَفِيهِ ضَعْفٌ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِاحْتِمَالِ صِحَّتِهِ .
وَالْأَصْلُ فِي الْمَوَاقِيتِ خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ ، وَقَالَ : هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ } وَخَبَرُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلِأَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ الْجُحْفَةَ } .
وَخَبَرُ النَّسَائِيّ وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ الْجُحْفَةَ ، وَلِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ } .
وَقِيلَ : إنَّ ذَاتَ عِرْقٍ إنَّمَا كَانَ بِاجْتِهَادِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَاَلَّذِي فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ عَنْ مَيْلِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ بِالنَّصِّ .
وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : إنَّهُ الصَّحِيحُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ ، وَاَلَّذِي فِي شَرْحِ الْمُسْنَدِ لِلرَّافِعِيِّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ بِاجْتِهَادِ عُمَرَ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ .
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : إنَّهُ الصَّحِيحُ ، وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ، وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ الْأَجِيرُ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ مِيقَاتِ الْمَيِّتِ أَوْ الْمُسْتَأْجِرِ الَّذِي يَحُجُّ عَنْهُ ، فَإِنْ مَرَّ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ أَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعٍ بِإِزَائِهِ إذَا كَانَ أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ مِنْ مَكَّةَ .
حَكَاهُ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْفُورَانِيِّ وَأَقَرَّهُ .
فَائِدَةٌ :
قَالَ بَعْضُهُمْ : سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ : فِي أَيْ سَنَةٍ أَقَّتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوَاقِيتَ الْإِحْرَامِ قَالَ : عَامَ حَجَّ .
وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَوَّلِ الْمِيقَاتِ وَيَجُوزُ مِنْ آخِرِهِ ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا لَا يَنْتَهِي إلَى مِيقَاتٍ فَإِنْ حَاذَى مِيقَاتًا أَحْرَمَ مِنْ مُحَاذَاتِهِ أَوْ مِيقَاتَيْنِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحْرِمُ مِنْ مُحَاذَاةِ أَبْعَدِهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يُحَاذِ أَحْرَمَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ ، وَمِنْ مَسْكَنِهِ ، بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمِيقَاتِ فَمِيقَاتُهُ مَسْكَنُهُ .
( وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَوَّلِ الْمِيقَاتِ ) وَهُوَ الطَّرَفُ الْأَبْعَدُ مِنْ مَكَّةَ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْإِحْرَامِ مِنْ وَسَطِهِ وَمِنْ آخِرِهِ لِيَقْطَعَ الْبَاقِيَ مُحْرِمًا ، نَعَمْ يُسْتَثْنَى ذُو الْحُلَيْفَةِ كَمَا مَرَّ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَهَذَا حَقٌّ إنْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَسْجِدَ هُوَ الْمَسْجِدُ الْمَوْجُودُ آثَارُهُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هُوَ ا هـ .
( وَيَجُوزُ مِنْ آخِرِهِ ) لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِ ، وَالْعِبْرَةُ بِالْبُقْعَةِ لَا بِمَا بُنِيَ وَلَوْ قَرِيبًا مِنْهَا ( وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا ) فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ ( لَا يَنْتَهِي إلَى مِيقَاتٍ ) مِمَّا ذُكِرَ ( فَإِنْ حَاذَى ) بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ : أَيْ سَامَتْ ( مِيقَاتًا ) مِنْهَا بِمُفْرَدِهِ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً لَا مِنْ ظَهْرِهِ أَوْ وَجْهِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَرَاءَهُ وَالثَّانِي أَمَامَهُ ( أَحْرَمَ مِنْ مُحَاذَاتِهِ ) لِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ أَتَوْا عُمَرَ فَقَالُوا : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا وَهُوَ جَوْرٌ - أَيْ مَائِلٌ - عَنْ طَرِيقِنَا ، وَإِنَّا إنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا ، قَالَ : فَانْظُرُوا حُذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ فَحَدَّ لَهُمْ عُمَرُ ذَاتَ عِرْقٍ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَوْضِعُ الْمُحَاذَاةِ اجْتَهَدَ ، وَيُسَنُّ لَهُ أَنْ يَسْتَظْهِرَ خِلَافًا لِلْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ حَيْثُ أَوْجَبَهُ ( أَوْ ) حَاذَى ( مِيقَاتَيْنِ ) طَرِيقُهُ بَيْنَهُمَا ، أَوْ كَانَا مَعًا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ ( فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحْرِمُ مِنْ مُحَاذَاةِ ) أَقْرَبِهِمَا إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَبْعَدَ إلَى مَكَّةَ ، إذْ لَوْ كَانَ أَمَامَهُ مِيقَاتٌ فَإِنَّهُ مِيقَاتُهُ وَإِنْ حَاذَى مِيقَاتًا أَبْعَدَ فَكَذَا مَا هُوَ بِقُرْبِهِ ، فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ إلَيْهِ أَحْرَمَ مِنْ مُحَاذَاةِ ( أَبْعَدِهِمَا ) مِنْ مَكَّةَ وَإِنْ حَاذَى الْأَقْرَبَ إلَيْهَا أَوَّلًا كَأَنْ كَانَ الْأَبْعَدُ مُنْحَرِفًا أَوْ وَعْرًا .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا اسْتَوَيَا
فِي الْقُرْبِ إلَيْهِ فَكِلَاهُمَا مِيقَاتٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مِيقَاتَهُ الْأَبْعَدُ إلَى مَكَّةَ وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِيمَا لَوْ جَاوَزَهُمَا مُرِيدًا لِلنُّسُكِ وَلَمْ يَعْرِفْ مَوْضِعَ الْمُحَاذَاةِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْأَبْعَدِ ، أَوْ إلَى مِثْلِ مَسَافَتِهِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ لَا إنْ رَجَعَ إلَى الْآخَرِ ، فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ إلَيْهَا وَإِلَيْهِ أَحْرَمَ مِنْ مُحَاذَاتِهِمَا إنْ لَمْ يُحَاذِ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ وَإِلَّا فَمِنْ مُحَاذَاةِ الْأَوَّلِ ، وَلَا يَنْتَظِرُ مُحَاذَاةَ الْآخَرِ ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَارِّ عَلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ أَنْ يُؤَخِّرَ إحْرَامَهُ إلَى الْجُحْفَةِ .
قَالَ : وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يُتَخَيَّرُ إنْ شَاءَ أَحْرَمَ مِنْ الْمَوْضِعِ الْمُحَاذِي لِأَبْعَدِهِمَا وَإِنْ شَاءَ لِأَقْرَبِهِمَا .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمُرَّ عَلَى مِيقَاتٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فَتَرَكَهُ وَقَدْ أَحْرَمَ مُحَاذِيًا الْمِيقَاتَ ( وَإِنْ لَمْ يُحَاذِ ) مِيقَاتًا مِمَّا سَبَقَ ( أَحْرَمَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ ) إذْ لَا مِيقَاتَ أَقَلُّ مَسَافَةً مِنْ هَذَا الْقَدْرِ ، وَالْمُرَادُ تَقَدُّمُ الْمُحَاذَاةِ فِي عِلْمِهِ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا قَالَهُ شَارِحُ التَّعْجِيزِ ؛ لِأَنَّ الْمَوَاقِيتَ تَعُمُّ جِهَاتِ مَكَّةَ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُحَاذِيَ أَحَدَهُمَا ( وَمِنْ مَسْكَنِهِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمِيقَاتِ فَمِيقَاتُهُ ) لِلنُّسُكِ ( مَسْكَنُهُ ) قَرْيَةً كَانَتْ أَوْ حِلَّةً أَوْ مَنْزِلًا مُنْفَرِدًا فَلَا يُجَاوِزُهُ حَتَّى يُحْرِمَ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ إلَى الْمِيقَاتِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَبَرِ السَّابِقِ : { فَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ } .
وَمَنْ بَلَغَ مِيقَاتًا غَيْرَ مُرِيدٍ نُسُكًا ثُمَّ أَرَادَهُ فَمِيقَاتُهُ مَوْضِعُهُ ، وَإِنْ بَلَغَهُ مُرِيدًا لَمْ تَجُزْ مُجَاوَزَتُهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَهُ الْعَوْدُ لِيُحْرِمَ مِنْهُ إلَّا إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ ، أَوْ كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا ، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ لَزِمَهُ دَمٌ .
( وَمَنْ بَلَغَ ) يَعْنِي جَاوَزَ ( مِيقَاتًا ) مِنْ الْمَوَاقِيتِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا أَوْ مَوْضِعًا جَعَلْنَاهُ مِيقَاتًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِيقَاتًا أَصْلِيًّا ( غَيْرَ مُرِيدٍ نُسُكًا ثُمَّ أَرَادَهُ فَمِيقَاتُهُ مَوْضِعُهُ ) وَلَا يُكَلَّفُ الْعَوْدَ إلَى الْمِيقَاتِ لِلْخَبَرِ السَّابِقِ ( وَإِنْ بَلَغَهُ ) أَيْ وَصَلَ إلَيْهِ ( مُرِيدًا ) نُسُكًا ( لَمْ تَجُزْ مُجَاوَزَتُهُ ) إلَى جِهَةِ الْحَرَمِ ( بِغَيْرِ إحْرَامٍ ) بِالْإِجْمَاعِ ، وَيَجُوزُ إلَى جِهَةِ الْيَمْنَةِ أَوْ الْيَسْرَةِ ، وَيُحْرِمُ مِنْ مِثْلِ مِيقَاتِ بَلَدِهِ أَوْ أَبْعَدَ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ( فَإِنْ ) خَالَفَ وَ ( فَعَلَ ) مَا مُنِعَ مِنْهُ بِأَنْ جَاوَزَهُ إلَى جِهَةِ الْحَرَمِ ( لَزِمَهُ الْعَوْدُ لِيُحْرِمَ مِنْهُ ) لِأَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَتَرَكَهُ وَقَدْ أَمْكَنَهُ تَدَارُكَهُ فَيَأْتِي بِهِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : لِيُحْرِمَ مِنْهُ يَقْتَضِي تَعَيُّنَهُ حَتَّى لَا يَقُومَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ لَوْ عَادَ إلَى مِثْلِ مَسَافَتِهِ مِنْ مِيقَاتٍ آخَرَ جَازَ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْمُفْسِدَ لَمَّا أَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْقَضَاءَ مِنْ الْمِيقَاتِ الَّذِي أَحْرَمَ مِنْهُ فِي الْأَدَاءِ قَالُوا : إنَّهُ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ وَالْإِحْرَامُ مِنْ مِثْلِ مَسَافَتِهِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ حَتَّى ادَّعَى فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ عَدَمَ الْخِلَافِ فِيهِ ، وَيَقْتَضِي أَيْضًا وُجُوبَ تَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ إلَى الْعَوْدِ وَلَيْسَ مُرَادًا أَيْضًا ؛ لِأَنَّا إذَا قُلْنَا إنَّ الْعَوْدَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ مُسْقِطٌ لِلدَّمِ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا سَيَأْتِي كَانَ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ ثُمَّ يَعُودَ إلَى الْمِيقَاتِ مُحْرِمًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَطْعُ الْمَسَافَةِ مُحْرِمًا كَالْمَكِّيِّ إذَا أَرَادَ الِاعْتِمَارَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ مَكَّةَ ثُمَّ يَخْرُجَ إلَى الْحِلِّ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَيَقْتَضِي أَيْضًا عَدَمَ وُجُوبِ الْعَوْدِ إذَا أَحْرَمَ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْعِلَّةَ فِي عَوْدَةِ إنْشَاءِ الْإِحْرَامِ ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ وَلَيْسَ مُرَادًا أَيْضًا ، بَلْ يَجِبُ
عَلَيْهِ الْعَوْدُ وَلَوْ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ، وَلَا فَرْقَ فِيمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ جَاوَزَ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا عَالِمًا أَوْ جَاهِلًا ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَاتِ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ فِيهَا بَيْنَ الْعَمْدِ وَغَيْرِهِ كَنِيَّةِ الصَّلَاةِ ، لَكِنْ لَا إثْمَ عَلَى النَّاسِي وَالْجَاهِلِ ، وَصُورَةُ السَّهْوِ لَا تَدْخُلُ فِي عِبَارَتِهِ ، لِأَنَّ السَّاهِيَ عَنْ الْإِحْرَامِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ ، وَرُبَّمَا يُتَصَوَّرُ بِمَنْ أَنْشَأَ سَفَرَهُ مِنْ بَلَدِهِ قَاصِدًا لَهُ وَقَصْدُهُ مُسْتَمِرٌّ فَسَهَا عَنْهُ حِينَ الْمُجَاوَزَةِ .
ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ لُزُومِ الْعَوْدِ قَوْلَهُ ( إلَّا إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ ) عَنْ الْعَوْدِ إلَى الْمِيقَاتِ ( أَوْ كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا ) أَوْ كَانَ مَعْذُورًا لِمَرَضٍ شَاقٍّ أَوْ خَافَ الِانْقِطَاعَ عَنْ رُفْقَةٍ فَلَا يَلْزَمُهُ الْعَوْدُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بَلْ يُرِيقُ دَمًا .
تَنْبِيهٌ : لَوْ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ : إلَّا لِعُذْرٍ كَضِيقِ الْوَقْتِ وَخَوْفِ الطَّرِيقِ لَكَانَ أَخَصْرَ وَأَشْمَلَ ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ تَحْرِيمُ الْعَوْدِ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ عَادَ لَفَاتَ الْحَجُّ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْعَوْدُ إذَا كَانَ مَاشِيًا وَلَمْ يَتَضَرَّرْ بِالْمَشْيِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَفِيهِ نَظَرٌ ، وَيَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ إنْ كَانَ عَلَى دُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ لَزِمَهُ وَإِلَّا فَلَا كَمَا قُلْنَا فِي الْحَجِّ مَاشِيًا ا هـ .
قَالَ ابْنُ الْعِمَادِ : وَالْمُتَّجَهُ لُزُومِ الْعَوْدِ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ لِمَا تَعَدَّى فِيهِ فَأَشْبَهَ وُجُوبَ قَضَاءِ الْحَجِّ الْفَاسِدِ وَإِنْ بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ ا هـ وَهَذَا ظَاهِرٌ إنْ كَانَ قَدْ تَعَدَّى بِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَعْلِيلِهِ ، وَإِلَّا فَالْمُتَّجَهُ كَلَامُ الْإِسْنَوِيِّ ( فَإِنْ لَمْ يَعُدْ ) لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ ( لَزِمَهُ دَمٌ ) بِتَرْكِهِ الْإِحْرَامَ مِنْ الْمِيقَاتِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ " مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا أَوْ تَرَكَهُ فَلِيُهْرِقْ دَمًا " رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ
صَحِيحٍ .
وَشَرْطُ لُزُومِهِ أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ مُطْلَقًا أَوْ بِحَجٍّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُحْرِمْ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ لُزُومَهُ إنَّمَا هُوَ لِنُقْصَانِ النُّسُكِ لَا بَدَلَ لَهُ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي سَنَةٍ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ إحْرَامَ هَذِهِ السَّنَةِ لَا يَصْلُحُ لِإِحْرَامِ غَيْرِهَا ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ كَأَصْلِهِ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَحْرَمَ دُونَهُ يَكُونُ كَالْمُسْلِمِ وَهُوَ كَذَلِكَ خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ كَلَامِهِ مَا لَوْ مَرَّ الصَّبِيُّ أَوْ الْعَبْدُ بِالْمِيقَاتِ غَيْرَ مُحْرِمٍ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ ثُمَّ بَلَغَ أَوْ عَتَقَ قَبْلَ الْوُقُوفِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ فِي الْعَبْدِ وَابْنُ قَاسِمٍ فِيهِمَا فِي شَرْحَيْهِمَا عَلَى الْكَاتِبِ .
وَإِنْ أَحْرَمَ ثُمَّ عَادَ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ عَادَ قَبْلَ تَلَبُّسِهِ بِنُسُكٍ سَقَطَ الدَّمُ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ ، وَفِي قَوْلٍ مِنْ الْمِيقَاتِ .
قُلْت : الْمِيقَاتُ أَظْهَرُ ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَإِنْ أَحْرَمَ ) مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ( ثُمَّ عَادَ ) إلَيْهِ ( فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ عَادَ قَبْلَ تَلَبُّسِهِ بِنُسُكٍ سَقَطَ الدَّمُ ) عَنْهُ لِأَنَّهُ قَطَعَ الْمَسَافَةَ مِنْ الْمِيقَاتِ مُحْرِمًا وَأَدَّى الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا بَعْدَهُ فَكَانَ كَمَا لَوْ أَحْرَمَ مِنْهُ ، سَوَاءٌ أَكَانَ دَخَلَ مَكَّةَ أَمْ لَا ، وَقِيلَ لَا يَسْقُطُ إذَا عَادَ بَعْدَ وُصُولِهِ إلَيْهَا وَقِيلَ إلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ ، وَفِي قَوْلٍ لَا يَسْقُطُ مُطْلَقًا ( وَإِلَّا ) بِأَنْ عَادَ بَعْدَ تَلَبُّسِهِ بِنُسُكٍ وَلَوْ طَوَافَ قُدُومٍ ( فَلَا ) يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ لِتَأَدِّي النُّسُكِ بِإِحْرَامٍ نَاقِصٍ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِهِمَا يَقْتَضِي أَنَّ الدَّمَ وُجُوبٌ ثُمَّ سَقَطَ بِالْعَوْدِ وَهُوَ وَجْهٌ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَصُحِّحَ أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ أَصْلًا لِأَنَّ وُجُوبَهُ تَعَلَّقَ بِفَوَاتِ الْعَوْدِ وَلَمْ يَفُتْ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَحَيْثُ سَقَطَ الدَّمُ بِالْعَوْدِ لَمْ تَكُنْ الْمُجَاوَزَةُ حَرَامًا كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمَحَامِلِيُّ وَالرُّويَانِيُّ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ الْمُجَاوَزَةُ بِنِيَّةِ الْعَوْدِ كَمَا قَالَهُ الْمَحَامِلِيُّ ( وَالْأَفْضَلُ ) لِمَنْ فَوْقَ الْمِيقَاتِ ( أَنْ يُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ ) لِأَنَّهُ أَكْثَرُ عَمَلًا إلَّا الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ فَإِنَّ الْأَفْضَلَ لَهُمَا أَنْ يُحْرِمَا مِنْ الْمِيقَاتِ عَلَى النَّصِّ ( وَفِي قَوْلٍ ) الْأَفْضَلُ الْإِحْرَامُ ( مِنْ الْمِيقَاتِ ) تَأَسِّيًا بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( قُلْت : الْمِيقَاتُ ) أَيْ الْإِحْرَامُ مِنْهُ إنْ لَمْ يَلْتَزِمْ بِالنَّذْرِ الْإِحْرَامَ مِمَّا قَبْلَهُ ( أَظْهَرُ ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَكَذَا فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي .
وَلِأَنَّ فِي مُصَابَرَةٍ بِالْإِحْرَامِ بِالتَّقَدُّمِ عُسْرًا وَتَغْرِيرًا بِالْعِبَادَةِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا ، وَإِنَّمَا جَازَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ الْمَكَانِيِّ
دُونَ الزَّمَانِيِّ ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْعِبَادَةِ بِالْوَقْتِ أَشَدُّ مِنْهُ بِالْمَكَانِ ، وَلِأَنَّ الْمَكَانِيَّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ بِخِلَافِ الزَّمَانِيِّ .
أَمَّا إذَا الْتَزَمَ بِالنَّذْرِ الْإِحْرَامَ مِمَّا قَبْلَهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ كَمَا قَالَهُ فِي الْمُهَذَّبِ ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِهِ ، وَاسْتَشْكَلَ لُزُومُهُ عَلَى الْمُصَنِّفِ مَعَ تَصْحِيحِهِ أَفْضَلِيَّةَ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ ، وَسَيَأْتِي نَظِيرُ ذَلِكَ فِي النَّذْرِ فِيمَا لَوْ نَذَرَ الْحَجَّ مَاشِيًا وَنَذْكُرُ مَا فِيهِ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ صُوَرٌ : مِنْهَا الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ فَالْأَفْضَلُ لَهُمَا الْمِيقَاتُ كَمَا مَرَّ ، وَمِنْهَا مَا لَوْ شَكَّ فِي الْمِيقَاتِ لِخَرَابِ مَكَانِهِ ، فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَسْتَظْهِرَ نَدْبًا ، وَقِيلَ وُجُوبًا ، وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ النَّذْرِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
وَمِيقَاتُ الْعُمْرَةِ لِمَنْ هُوَ خَارِجَ الْحَرَمِ مِيقَاتُ الْحَجِّ ، وَمَنْ بِالْحَرَمِ ، يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ إلَى أَدْنَى الْحِلِّ وَلَوْ بِخُطْوَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ وَأَتَى بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ أَجْزَأَتْهُ فِي الْأَظْهَرِ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ .
( وَمِيقَاتُ الْعُمْرَةِ ) الْمَكَانِيُّ ( لِمَنْ هُوَ خَارِجَ الْحَرَمِ مِيقَاتُ الْحَجِّ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ " مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ " ( وَمَنْ ) هُوَ ( بِالْحَرَمِ ) مَكِّيٌّ أَوْ غَيْرُهُ ( يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ إلَى أَدْنَى الْحِلِّ وَلَوْ بِخُطْوَةٍ ) أَوْ أَقَلَّ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ مِنْ جِهَاتِ الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَرْسَلَ عَائِشَةَ بَعْدَ قَضَاءِ الْحَجِّ إلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ } ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْخُرُوجُ وَاجِبًا لَمَا أَمَرَهَا لِضِيقِ الْوَقْتِ بِرَحِيلِ الْحَاجِّ ، وَسَبَبُهُ أَنْ يَجْمَعَ فِي إحْرَامِهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى قَوْلِهِ : إلَى أَدْنَى الْحِلِّ أَوْ زَادَ بَدَلَ " وَلَوْ بِخُطْوَةٍ " بِقَلِيلٍ كَانَ أَوْلَى لِيَشْمَلَ مَا قَدَّرْته وَلِمَنْ بِمَكَّةَ الْقِرَانُ تَغْلِيبًا لِلْحَجِّ ( فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ ) إلَى أَدْنَى الْحِلِّ ( وَأَتَى بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ) بَعْدَ إحْرَامِهِ بِهَا فِي الْحَرَمِ انْعَقَدَتْ عُمْرَتُهُ جَزْمًا ، وَ ( أَجْزَأَتْهُ ) هَذِهِ الْعُمْرَةُ عَنْ عُمْرَتِهِ ( فِي الْأَظْهَرِ ) لِانْعِقَادِ إحْرَامِهِ وَإِتْيَانِهِ بَعْدَهُ بِالْوَاجِبَاتِ ( وَ ) لَكِنْ ( عَلَيْهِ دَمٌ ) لِتَرْكِهِ الْإِحْرَامَ مِنْ الْمِيقَاتِ ، وَالثَّانِي : لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ كَالْحَجِّ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْحِلِّ وَهُوَ عَرَفَةُ .
فَلَوْ خَرَجَ إلَى الْحِلِّ بَعْدَ إحْرَامِهِ سَقَطَ الدَّمُ عَلَى الْمَذْهَبِ .
( فَلَوْ خَرَجَ ) عَلَى الْأَوَّلِ ( إلَى ) أَدْنَى ( الْحِلِّ بَعْدَ إحْرَامِهِ ) وَقَبْلَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ ( سَقَطَ الدَّمُ عَلَى الْمَذْهَبِ ) كَمَا لَوْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ مُحْرِمًا ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي الْقَطْعُ بِالسُّقُوطِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ انْتَهَى إلَى الْمِيقَاتِ عَلَى قَصْدِ النُّسُكِ ثُمَّ جَاوَزَهُ فَكَانَ مُسِيئًا حَقِيقَةً ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ هَهُنَا ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ ، وَالْمُرَادُ بِالسُّقُوطِ عَدَمُ الْوُجُوبِ كَمَا مَرَّ .
وَأَفْضَلُ بِقَاعِ الْحِلِّ الْجِعْرَانَةُ ، ثُمَّ التَّنْعِيمُ ثُمَّ الْحُدَيْبِيَةُ .
( وَأَفْضَلُ بِقَاعِ الْحِلِّ ) لِمَنْ يُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ ( الْجِعْرَانَةُ ) لِإِحْرَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ ، وَهِيَ بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ أَفْصَحُ مِنْ كَسْرِ الْعَيْنِ وَتَثْقِيلِ الرَّاءِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى الثَّانِي ، ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَهِيَ فِي طَرِيقِ الطَّائِفِ عَلَى سِتَّةِ فَرَاسِخَ مِنْ مَكَّةَ .
فَائِدَةٌ : قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : أَحْرَمَ مِنْهَا ثَلَاثُمِائَةِ نَبِيٍّ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( ثُمَّ التَّنْعِيمُ ) لِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ بِالِاعْتِمَارِ مِنْهُ ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي عِنْدَ الْمَسَاجِدِ الْمَعْرُوفَةِ بِمَسَاجِدِ عَائِشَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ فَرْسَخٌ ، فَهُوَ أَقْرَبُ أَطْرَافِ الْحِلِّ إلَى مَكَّةَ ، سُمِّيَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عَلَى يَمِينِهِ جَبَلًا يُقَالُ لَهُ نُعَيْمٌ ، وَعَلَى شِمَالِهِ جَبَلًا يُقَالُ لَهُ نَاعِمٌ ، وَالْوَادِي نُعْمَانُ ( ثُمَّ الْحُدَيْبِيَةُ ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَّ بِالِاعْتِمَارِ مِنْهَا فَصَدَّهُ الْكُفَّارُ فَقَدَّمَ فِعْلَهُ ثُمَّ أَمْرَهُ ثُمَّ هَمَّهُ ، كَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ : إنَّهُ هَمَّ بِالِاعْتِمَارِ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَالصَّوَابُ أَنَّهُ كَانَ أَحْرَمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ إلَّا أَنَّهُ هَمَّ بِالدُّخُولِ إلَى مَكَّةَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ - وَهِيَ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ أَفْصَحُ مِنْ تَثْقِيلِهَا - وَهِيَ اسْمٌ لِبِئْرٍ هُنَاكَ بَيْنَ طَرِيقِ جُدَّةَ وَطَرِيقِ الْمَدِينَةِ بَيْنَ جَبَلَيْنِ عَلَى سِتَّةِ فَرَاسِخَ مِنْ مَكَّةَ .
فَإِنْ قِيلَ لِمَ أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ بِالْإِحْرَامِ مِنْ التَّنْعِيمِ مَعَ أَنَّ الْجِعْرَانَةَ أَفْضَلُ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ .
وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ التَّفْضِيلَ لَيْسَ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ .
خَاتِمَةٌ : يُسَنُّ لِمَنْ أَحْرَمَ مِنْ بَلَدِهِ أَوْ مِنْ مَكَّةَ أَنْ يَخْرُجَ عَقِبَ إحْرَامِهِ وَلَا
يَمْكُثُ بَعْدَهُ ، نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ النَّصِّ .
وَيُسَنُّ لِمَنْ لَمْ يُحْرِمْ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَمِ بَطْنَ وَادٍ ثُمَّ يُحْرِمَ كَمَا فِي التَّتِمَّةِ وَغَيْرِهَا ، وَحَكَاهُ فِي الْإِبَانَةِ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ .
بَابُ الْإِحْرَامِ يَنْعَقِدُ مُعَيَّنًا بِأَنْ يَنْوِيَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً أَوْ كِلَيْهِمَا ، وَمُطْلَقًا بِأَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى نَفْسِ الْإِحْرَامِ ، وَالتَّعْيِينُ أَفْضَلُ وَفِي قَوْلٍ الْإِطْلَاقُ فَإِنْ أَحْرَمَ مُطْلَقًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ صَرَفَهُ بِالنِّيَّةِ إلَى مَا شَاءَ مِنْ النُّسُكَيْنِ أَوْ إلَيْهِمَا ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالْأَعْمَالِ .
( بَابُ الْإِحْرَامِ ) وَهُوَ كَمَا قَالَ الْأَزْهَرِيُّ : الدُّخُولُ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ فِيهِمَا أَوْ فِيمَا يَصْلُحُ لَهُمَا وَلِأَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمُطْلَقُ ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى نِيَّةِ الدُّخُولِ فِيمَا ذُكِرَ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ بَعْدَ هَذَا : أَرْكَانُ الْحَجِّ خَمْسَةٌ : الْإِحْرَامُ .
فَالْمُرَادُ هُنَا هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الدُّخُولُ فِيمَا ذُكِرَ .
أَيْ بِالنِّيَّةِ .
وَكَانَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ يَسْتَشْكِلُ حَقِيقَةَ الْإِحْرَامِ .
فَإِنْ قِيلَ لَهُ : إنَّهُ النِّيَّةُ اعْتَرَضَ بِأَنَّهَا شَرْطٌ فِيهِ ، وَشَرْطُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ .
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ : أَقَمْت عَشْرَ سِنِينَ لَا أَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْإِحْرَامِ ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ إمَّا لِاقْتِضَائِهِ دُخُولَ الْحَرَمِ مِنْ قَوْلِهِمْ : أَحْرَمَ إذَا دَخَلَ الْحَرَمَ ، كَأَنْجَدَ إذَا دَخَلَ نَجْدًا ، أَوْ لِاقْتِضَائِهِ تَحْرِيمَ الْأَنْوَاعِ الْآتِيَةِ ( يَنْعَقِدُ ) الْإِحْرَامُ ( مُعَيَّنًا بِأَنْ يَنْوِيَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً أَوْ كِلَيْهِمَا ) بِالْإِجْمَاعِ .
وَلِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيَفْعَلْ ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ } وَلَوْ نَوَى حَجَّتَيْنِ أَوْ نِصْفَ حَجَّةٍ انْعَقَدَ حَجَّةً أَوْ عُمْرَتَيْنِ أَوْ نِصْفَ عُمْرَةٍ انْعَقَدَ عُمْرَةً قِيَاسًا عَلَى الطَّلَاقِ فِي مَسْأَلَتَيْ النِّصْفِ وَإِلْغَاءً لِلْإِضَافَةِ إلَى ثِنْتَيْنِ فِي مَسْأَلَتَيْ الْحَجَّتَيْنِ وَالْعُمْرَتَيْنِ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ فَصَحَّ فِي وَاحِدَةٍ كَمَا لَوْ نَوَى بِتَيَمُّمٍ فَرِيضَتَيْنِ لَا يَسْتَبِيحُ إلَّا وَاحِدَةً كَمَا مَرَّ فِي بَابِهِ ، وَفَارَقَ عَدَمَ الِانْعِقَادِ فِي نَظِيرِهِمَا مِنْ الصَّلَاةِ بِأَنَّ الْإِحْرَامَ يُحَافِظُ عَلَيْهِ مَا أَمْكَنَ ، وَلِهَذَا لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ انْعَقَدَ عُمْرَةً كَمَا مَرَّ ( وَ ) يَنْعَقِدُ أَيْضًا (
مُطْلَقًا ) وَذَلِكَ ( بِأَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى نَفْسِ الْإِحْرَامِ ) بِأَنْ يَنْوِيَ الدُّخُولَ فِي النُّسُكِ الصَّالِحِ لِلْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ أَوْ يَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ : أَحْرَمْت .
رَوَى الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مُهِلِّينَ يَنْتَظِرُونَ الْقَضَاءَ - أَيْ نُزُولَ الْوَحْيِ ، فَأَمَرَ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ أَنْ يَجْعَلَ إحْرَامَهُ عُمْرَةً ، وَمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَجْعَلَهُ حَجًّا } ، وَيُفَارِقُ الصَّلَاةَ حَيْثُ لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِهَا مُطْلَقًا بِأَنَّ التَّعْيِينَ لَيْسَ شَرْطًا فِي انْعِقَادِ النُّسُكِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَحْرَمَ بِنُسُكِ نَفْلٍ وَعَلَيْهِ نُسُكُ فَرْضٍ انْصَرَفَ إلَى الْفَرْضِ ، وَلَوْ قَيَّدَ الْإِحْرَامَ بِزَمَنٍ كَيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ انْعَقَدَ مُطْلَقًا كَمَا فِي الطَّلَاقِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَإِنْ قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : يَنْبَغِي فِي هَذَا أَوْ فِي مَسْأَلَتَيْ النِّصْفِ عَدَمُ الِانْعِقَادِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْعِبَادَاتِ وَالنِّيَّةُ الْجَازِمَةُ شَرْطٌ فِيهَا ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَلَبَةِ وَالسِّرَايَةِ وَيَقْبَلُ الْأَخْطَارَ وَيَدْخُلُهُ التَّعْلِيقُ ( وَالتَّعْيِينُ أَفْضَلُ ) مِنْ الْإِطْلَاقِ ، وَحُكِيَ هَذَا عَنْ نَصِّ الْأُمِّ لِيُعْرَفَ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْخَلَاصِ ( وَفِي قَوْلٍ الْإِطْلَاقُ ) أَفْضَلُ مِنْ التَّعْيِينِ ، وَحُكِيَ هَذَا عَنْ نَصِّ الْإِمْلَاءِ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا حَصَلَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ صَرْفِهِ إلَى مَا لَا يُخَافُ فَوْتُهُ ( فَإِنْ أَحْرَمَ ) إحْرَامًا ( مُطْلَقًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ صَرَفَهُ بِالنِّيَّةِ ) لَا بِاللَّفْظِ فَقَطْ ( إلَى مَا شَاءَ مِنْ النُّسُكَيْنِ أَوْ إلَيْهِمَا ) مَعًا إنْ صَلَحَ الْوَقْتُ لَهُمَا ( ثُمَّ اشْتَغَلَ ) بَعْدَ الصَّرْفِ ( بِالْأَعْمَالِ ) فَلَا يُجْزِئُ الْعَمَلُ قَبْلَهُ كَمَا أَشْعَرَ بِهِ التَّعْبِيرُ بِثُمَّ ، لَكِنْ لَوْ طَافَ ثُمَّ صَرَفَهُ لِلْحَجِّ وَقَعَ طَوَافُهُ عَنْ الْقُدُومِ وَإِنْ كَانَ مِنْ
سُنَنِ الْحَجِّ ، وَلَوْ سَعَى بَعْدَهُ احْتَمَلَ الْإِجْزَاءَ لِوُقُوعِهِ تَبَعًا وَاحْتُمِلَ خِلَافُهُ ، وَهُوَ الْأَوْجَهُ لِأَنَّهُ رُكْنٌ فَيُحْتَاطُ لَهُ وَإِنْ وَقَعَ تَبَعًا ، فَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ بِأَنْ فَاتَ وَقْتُ الْحَجِّ صَرَفَهُ لِلْعُمْرَةِ كَمَا قَالَهُ الرُّويَانِيُّ .
وَعَنْ الْقَاضِي حُسَيْنٍ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَيَّنَ عُمْرَةً كَمَا لَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ وَعَلَيْهِ التَّعَيُّنُ ، فَإِنْ عَيَّنَ عُمْرَةً مَضَى أَوْ حَجًّا كَانَ كَمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ ، وَلَوْ ضَاقَ الْوَقْتُ فَالْمُتَّجَهُ كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّ لَهُ صَرْفَهُ إلَى مَا شَاءَ ، وَيَكُونُ عِنْدَ صَرْفِهِ إلَى الْحَجِّ كَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَلَوْ أَحْرَمَ مُطْلَقًا ثُمَّ أَفْسَدَهُ قَبْلَ التَّعْيِينِ فَأَيَّهُمَا عَيَّنَهُ كَانَ مُفْسِدًا لَهُ .
وَإِنْ أَطْلَقَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ فَالْأَصَحُّ انْعِقَادُهُ عُمْرَةً فَلَا يَصْرِفُهُ إلَى الْحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ .
( وَإِنْ أَطْلَقَ ) الْإِحْرَامَ ( فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ ) أَيْ الْحَجِّ ( فَالْأَصَحُّ ) وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالصَّحِيحِ ( انْعِقَادُهُ عُمْرَةً فَلَا يَصْرِفُهُ إلَى الْحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ ) أَيْ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَا يَقْبَلُ غَيْرَ الْعُمْرَةِ ، وَالثَّانِي يَنْعَقِدُ مُبْهَمًا فَلَهُ صَرْفُهُ إلَى عُمْرَةٍ ، وَبَعْدَ دُخُولِ أَشْهُرِ الْحَجِّ إلَى النُّسُكَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا ، فَإِنْ صَرَفَهُ إلَى الْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ كَانَ كَإِحْرَامِهِ بِهِ قَبْلَهَا فَيَنْعَقِدُ عُمْرَةً عَلَى الصَّحِيحِ .
وَلَهُ أَنْ يُحْرِمَ كَإِحْرَامِ زَيْدٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَيْدٌ مُحْرِمًا انْعَدَّ إحْرَامُهُ مُطْلَقًا ، وَقِيلَ إنْ عَلِمَ عَدَمَ إحْرَامِ زَيْدٍ لَمْ يَنْعَقِدْ ، وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ مُحْرِمًا انْعَقَدَ إحْرَامُهُ كَإِحْرَامِهِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ إحْرَامِهِ بِمَوْتِهِ جَعَلَ نَفْسَهُ قَارِنًا وَعَمِلَ أَعْمَالَ النُّسُكَيْنِ .
( وَلَهُ ) أَيْ لِعَمْرٍو مَثَلًا ( أَنْ يُحْرِمَ كَإِحْرَامِ زَيْدٍ ) كَأَنْ يَقُولَ : أَحْرَمْت بِمَا أَحْرَمَ بِهِ زَيْدٌ أَوْ كَإِحْرَامِهِ ؛ لِأَنَّ أَبَا مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَهَلَّ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَخْبَرَهُ قَالَ لَهُ : أَحْسَنْت طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَحِلَّ ، وَكَذَا فَعَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَيْدٌ مُحْرِمًا ) أَوْ كَانَ كَافِرًا بِأَنْ أَتَى بِصُورَةِ الْإِحْرَامِ ، أَوْ مُحْرِمًا إحْرَامًا فَاسِدًا ( انْعَقَدَ إحْرَامُهُ مُطْلَقًا ) لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِحْرَامَ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ ، فَإِذَا بَطَلَتْ بَقِيَ أَصْلُ الْإِحْرَامِ وَلَغَتْ إضَافَتُهُ لِزَيْدٍ ( وَقِيلَ إنْ عَلِمَ عَدَمَ إحْرَامِ زَيْدٍ لَمْ يَنْعَقِدْ ) إحْرَامُهُ كَمَا لَوْ عَلَّقَ ، فَقَالَ إنْ كَانَ مُحْرِمًا فَقَدْ أَحْرَمْت فَلَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا ، وَفَرَّقَ الْأَصَحَّ بِأَنَّ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ تَعْلِيقُ أَصْلِ الْإِحْرَامِ فَلَيْسَ جَازِمًا بِهِ بِخِلَافِ الْمَقِيسِ فَإِنَّهُ جَازِمٌ بِالْإِحْرَامِ فِيهِ ( وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ مُحْرِمًا ) بِإِحْرَامٍ صَحِيحٍ ( انْعَقَدَ إحْرَامُهُ كَإِحْرَامِهِ ) مِنْ تَعْيِينٍ أَوْ إطْلَاقٍ وَيَتَخَيَّرُ فِي الْمُطْلَقِ كَمَا يَتَخَيَّرُ زَيْدٌ ، وَلَا يَلْزَمُهُ صَرْفُهُ إلَى مَا يَصْرِفُهُ زَيْدٌ ، وَلَوْ عَيَّنَ زَيْدٌ قَبْلَ إحْرَامِ عَمْرٍو حَجًّا انْعَقَدَ إحْرَامُ عَمْرٍو مُطْلَقًا ، وَكَذَا لَوْ أَحْرَمَ زَيْدٌ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ فَيَنْعَقِدُ لِعَمْرٍو عُمْرَةً لَا قِرَانًا ، وَلَا يَلْزَمُهُ إدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ بِهِ التَّشْبِيهَ فِي الْحَالِ فِي الصُّورَتَيْنِ ، فَيَكُونَ فِي الْأُولَى حَاجًّا وَفِي الثَّانِيَةِ قَارِنًا ، وَلَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ صَرْفِهِ فِي الْأُولَى وَقَبْلَ إدْخَالِ الْحَجِّ فِي الثَّانِيَةِ وَقَصَدَ التَّشْبِيهَ بِهِ فِي حَالِ تَلَبُّسِهِ بِإِحْرَامِهِ الْحَاضِرِ وَالْآتِي ، فَفِي الرَّوْضَةِ عَنْ الْبَغَوِيِّ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَصِحُّ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ .
قَالَ
الْأَذْرَعِيُّ : وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّعْلِيقِ بِمُسْتَقْبَلٍ ، إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ جَازِمٌ فِي الْحَالِ ، وَيُغْتَفَرُ ذَلِكَ فِي الْكَيْفِيَّةِ دُونَ الْأَصْلِ ، فَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا لَمْ يَخْطُرْ بِهِ التَّشْبِيهُ بِإِحْرَامِ زَيْدٍ فِي الْحَالِ وَلَا فِي أَوَّلِهِ ، فَإِنْ خَطَرَ لَهُ التَّشْبِيهُ بِأَوَّلِهِ أَوْ بِالْحَالِ فَالِاعْتِبَارُ بِمَا خَطَرَ لَهُ قَطْعًا ، وَلَوْ أَخْبَرَهُ زَيْدٌ بِمَا أَحْرَمَ وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ خِلَافُهُ عَمِلَ بِمَا أَخْبَرَهُ عَلَى الْأَصَحِّ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ ، وَلَوْ عَلَّقَ إحْرَامَهُ عَلَى إحْرَامِ زَيْدٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، كَأَنْ قَالَ إذَا أَوْ نَحْوَهَا كَمَتَى ، أَوْ إنْ أَحْرَمَ زَيْدٌ فَأَنَا مُحْرِمٌ لَمْ يَنْعَقِدْ إحْرَامُهُ مُطْلَقًا ، كَمَا لَوْ قَالَ : إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنَا مُحْرِمٌ لَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَعْلَقُ بِالْأَخْطَارِ ، أَوْ قَالَ : إنْ كَانَ زَيْدٌ مُحْرِمًا فَأَنَا مُحْرِمٌ وَكَانَ زَيْدٌ مُحْرِمًا انْعَقَدَ إحْرَامُهُ وَإِلَّا فَلَا تَبَعًا لَهُ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَيَجُوزُ أَنْ يَصِحَّ فِي الْأُولَى كَهَذِهِ إلَّا أَنَّ تِلْكَ تَعْلِيقٌ بِمُسْتَقْبَلٍ ، وَهَذِهِ تَعْلِيقٌ بِحَاضِرٍ ، وَمَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ مِنْ الْعُقُودِ يَقْبَلُهُمَا جَمِيعًا .
وَأُجِيبَ ، بِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِحَاضِرٍ أَقَلُّ غَرَرًا لِوُجُودِهِ فِي الْوَاقِعِ فَكَانَ قَرِيبًا مِنْ أَحْرَمْت ، كَإِحْرَامِ زَيْدٍ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ الْمُعَلَّقِ بِمُسْتَقْبَلٍ ( فَإِنْ تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ إحْرَامِهِ ) وَعَبَّرَ فِي الْحَاوِي الصَّغِيرِ بِتَعَسَّرَ ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ التَّعَذُّرُ ، وَسَوَاءٌ عُلِمَ أَنَّهُ أَحْرَمَ أَمْ جُهِلَ حَالُهُ ( بِمَوْتِهِ ) أَوْ جُنُونِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَغَيْبَةٍ بَعِيدَةٍ ( جَعَلَ ) عَمْرٌو ( نَفْسَهُ قَارِنًا ) بِأَنْ يَنْوِيَ الْقِرَانَ وَلَمْ يَجْتَهِدْ وَكَذَا إنْ نَسِيَ الْمُحْرِمُ مَا أَحْرَمَ بِهِ ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَلَبَّسَ بِالْإِحْرَامِ يَقِينًا فَلَا يَتَحَلَّلُ إلَّا بِيَقِينِ الْإِتْيَانِ بِالْمَشْرُوعِ
فِيهِ كَمَا لَوْ شَكَّ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ لَا يَجْتَهِدُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَانِي وَالْقِبْلَةِ أَنَّ أَدَاءَ الْعِبَادَةِ ثَمَّ لَا يَحْصُلُ بِيَقِينٍ إلَّا بَعْدَ فِعْلٍ مَحْظُورٍ وَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ ، أَوْ يَسْتَعْمِلَ نَجِسًا فَلِذَلِكَ جَازَ التَّحَرِّي ، وَهُنَا يَحْصُلُ الْأَدَاءُ بِيَقِينٍ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ مَحْظُورٍ ( وَعَمِلَ أَعْمَالَ النُّسُكَيْنِ ) لِيَتَحَقَّقَ الْخُرُوجُ عَمَّا شَرَعَ فِيهِ فَتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ مِنْ الْحَجِّ بَعْدَ إتْيَانِهِ بِأَعْمَالِهِ ، لِأَنَّهُ إمَّا مُحْرِمٌ بِهِ أَوْ مُدْخِلٌ لَهُ عَلَى الْعُمْرَةِ ، وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْ الْعُمْرَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ، وَيَمْتَنِعُ إدْخَالُهَا عَلَيْهِ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ .
إذْ الْحَاصِلُ لَهُ الْحَجُّ فَقَطْ ، وَاحْتِمَالُ حُصُولِ الْعُمْرَةِ لَا يُوجِبُهُ إذْ لَا وُجُوبَ بِالشَّكِّ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ ، وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى نِيَّةِ الْحَجِّ وَأَتَى بِأَعْمَالِهِ أَجْزَأَهُ عَنْ الْحَجِّ فَقَطْ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ أَيْضًا ، فَالْوَاجِبُ لِتَحْصِيلِ الْحَجِّ نِيَّتُهُ أَوْ نِيَّةُ الْقِرَانِ ، وَهِيَ أَوْلَى لِتَحْصُلَ الْبَرَاءَةُ مِنْ الْعُمْرَةِ أَيْضًا عَلَى وَجْهٍ ، أَوْ اقْتَصَرَ عَلَى أَعْمَالِ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ حَصَلَ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ لَا الْبَرَاءَةُ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُمَا لِشَكِّهِ فِيمَا أَتَى بِهِ أَوْ اقْتَصَرَ عَلَى عَمَلِ الْعُمْرَةِ لَمْ يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ أَيْضًا .
وَإِنْ نَوَاهَا ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِحَجٍّ وَلَمْ يُتِمَّ أَعْمَالَهُ مَعَ أَنَّ وَقْتَهُ بَاقٍ ، وَلَوْ أَحْرَمَ كَإِحْرَامِ زَيْدٍ وَبَكْرٍ صَارَ مِثْلَهُمَا فِي إحْرَامِهِمَا إنْ اتَّفَقَا فِيمَا أَحْرَمَا بِهِ وَإِلَّا صَارَ قَارِنًا فَيَأْتِي بِمَا يَأْتِيَانِ بِهِ .
نَعَمْ إنْ كَانَ إحْرَامُهُمَا فَاسِدًا انْعَقَدَ إحْرَامُهُ مُطْلَقًا كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ ، أَوْ أَحْرَمَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ فَالْقِيَاسُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا إنَّ إحْرَامَهُ يَنْعَقِدُ صَحِيحًا فِي الصَّحِيحِ ، وَمُطْلَقًا فِي الْفَاسِدِ .
فَصْلٌ الْمُحْرِمُ يَنْوِي وَيُلَبِّي فَإِنْ لَبَّى بِلَا نِيَّةٍ لَمْ يَنْعَقِدْ إحْرَامُهُ ، وَإِنْ نَوَى وَلَمْ يُلَبِّ انْعَقَدَ عَلَى الصَّحِيحِ .
( فَصْلٌ ) فِي رُكْنِ الْإِحْرَامِ وَمَا يُطْلَبُ لِلْمُحْرِمِ مِنْ الْأُمُورِ الْآتِيَةِ ( الْمُحْرِمُ ) أَيْ مُرِيدُ الْإِحْرَامِ ( يَنْوِي ) بِقَلْبِهِ حَتْمًا دُخُولَهُ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ فِيهِمَا ، وَلَا تَجِبُ نِيَّةُ الْفَرْضِيَّةِ جَزْمًا كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى النَّفَلَ لَوَقَعَ عَنْ الْفَرْضِ كَمَا مَرَّ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِيجَابِ ( وَيُلَبِّي ) مَعَ نِيَّةِ الْإِحْرَامِ بَعْدَ التَّلَفُّظِ بِهَا فَيَنْوِي بِقَلْبِهِ وَيَقُولُ بِلِسَانِهِ : نَوَيْت الْحَجَّ مَثَلًا وَأَحْرَمْت بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ إلَخْ ، وَلَا يُسَنُّ ذِكْرُ مَا أَحْرَمَ بِهِ فِي غَيْرِ التَّلْبِيَةِ الْأُولَى ، لِأَنَّ إخْفَاءَ الْعِبَادَةِ أَفْضَلُ وَلَوْ نَوَى بِقَلْبِهِ نُسُكًا وَنَطَقَ لِسَانُهُ بِغَيْرِهِ انْعَقَدَ مَا نَوَاهُ بِقَلْبِهِ ، وَيُسَنُّ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ، وَأَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ أَحْرَمَ لَكَ شَعْرِي وَبَشَرِي وَلَحْمِي وَدَمِي ( فَإِنْ لَبَّى بِلَا نِيَّةٍ لَمْ يَنْعَقِدْ إحْرَامُهُ ) عَلَى الْأَصَحِّ لِخَبَرِ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } ، وَقِيلَ : يَنْعَقِدُ وَتَقُومُ التَّلْبِيَةُ مَقَامَ النِّيَّةِ ( وَإِنْ نَوَى وَلَمْ يُلَبِّ انْعَقَدَ عَلَى الصَّحِيحِ ) كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ ، وَالثَّانِي : لَا يَنْعَقِدُ لِإِطْبَاقِ الْأُمَّةِ عَلَيْهَا عِنْدَ الْإِحْرَامِ كَالصَّلَاةِ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَالتَّكْبِيرِ .
وَيُسَنُّ الْغُسْلُ لِلْإِحْرَامِ ، فَإِنْ عَجَزَ تَيَمَّمَ ، وَلِدُخُولِ مَكَّةَ ، وَلِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَبِمُزْدَلِفَةَ غَدَاةَ النَّحْرِ ، وَفِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِلرَّمْيِ .
( وَيُسَنُّ الْغُسْلُ ) لِأَحَدِ أُمُورٍ سَبْعَةٍ : أَحَدُهُمَا : ( لِلْإِحْرَامِ ) أَيْ عِنْدَ إرَادَتِهِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ بِهِمَا أَوْ مُطْلَقًا مِنْ رَجُلٍ أَوْ صَبِيٍّ أَوْ امْرَأَةٍ حَائِضٍ أَوْ نُفَسَاءَ لِلِاتِّبَاعِ .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ .
وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ ؛ لِأَنَّهُ غُسْلٌ لِمُسْتَقْبَلٍ كَغُسْلِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ ، وَيُكْرَهُ تَرْكُهُ وَإِحْرَامُهُ جُنُبًا ، وَغَيْرُ الْمُمَيِّزِ يُغَسِّلُهُ وَلِيُّهُ ؛ لِأَنَّ حِكْمَةَ هَذَا الْغُسْلِ التَّنْظِيفُ ، وَلِهَذَا سُنَّ لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ خَبَرَ { أَنَّ الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ تَغْتَسِلُ وَتُحْرِمُ وَتَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفَ بِالْبَيْتِ } .
قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ؟ وَإِذَا اغْتَسَلَتَا نَوَتَا ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُؤَخِّرَا الْإِحْرَامَ حَتَّى يَطْهُرَا إنْ أَمْكَنَ التَّأْخِيرُ بِأَنْ أَمْكَنَهُمَا الْمُقَامُ بِالْمِيقَاتِ لِيَقَعَ إحْرَامُهُمَا فِي أَكْمَلِ أَحْوَالِهِمَا ، وَيُنْدَبُ أَيْضًا لِمُرِيدِ الْإِحْرَامِ أَنْ يَتَنَظَّفَ بِإِزَالَةِ الشُّعُورِ الْمَطْلُوبِ إزَالَتُهَا كَشَعْرِ الْإِبِطِ وَالْعَانَةِ وَالْأَظْفَارِ وَالْأَوْسَاخِ ، وَغَسْلُ الرَّأْسِ بِسِدْرٍ وَنَحْوِهِ ، وَالْقِيَاسُ كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ تَقْدِيمُ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى الْغُسْلِ كَمَا فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ ، وَيُنْدَبُ أَيْضًا أَنْ يُلَبِّدَ الذَّكَرُ شَعْرَهُ بِصَمْغٍ وَنَحْوِهِ لِئَلَّا يَتَوَلَّدَ فِيهِ الْقَمْلُ ، وَلَا يَتَشَعَّثُ فِي مُدَّةِ الْإِحْرَامِ ، وَيَكُونُ التَّلْبِيدُ بَعْدَ الْغُسْلِ ( فَإِنْ عَجَزَ ) مُرِيدُ الْإِحْرَامِ عَنْ الْغُسْلِ لِفَقْدِ مَاءٍ أَوْ عَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ ( تَيَمَّمَ ) ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ يُرَادُ لِلْقُرْبَةِ وَالنَّظَافَةِ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ أَحَدُهُمَا بَقِيَ الْآخَرُ ؛ وَلِأَنَّهُ يَنُوبُ عَنْ الْغُسْلِ الْوَاجِبِ فَعَنْ الْمَنْدُوبِ أَوْلَى ، وَلَوْ وَجَدَ مَاءً لَا يَكْفِيهِ لِلْغُسْلِ وَيَكْفِيهِ لِلْوُضُوءِ تَوَضَّأَ بِهِ وَتَيَمَّمَ عَنْ الْغُسْلِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُقْرِي ، وَلَوْ وَجَدَ مَاءً لَا يَكْفِي الْوُضُوءَ أَيْضًا
اسْتَعْمَلَهُ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ ، وَهَلْ يَكْفِيهِ تَيَمُّمٌ وَاحِدٌ عَنْ الْغُسْلِ وَبَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ أَوْ يَتَيَمَّمُ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ ثَانِيًا عَنْ الْغُسْلِ ؟ الْأَوْجَهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الثَّانِي إنْ لَمْ يَنْوِ بِمَا اسْتَعْمَلَهُ مِنْ الْغُسْلِ وَإِلَّا فَالْأَوَّلُ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ التَّيَمُّمَ عَقِبَ جَمِيعِ الْأَغْسَالِ الْآتِيَةِ لَكَانَ أَوْلَى لِشُمُولِ الْحُكْمِ لِكُلِّهَا .
وَقَوْلُهُ : فَإِنْ عَجَزَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْمُحَرَّرِ : فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ يَتَنَاوَلُ الْفِقْدَانَ وَالْمَرَضَ وَالْجِرَاحَةَ وَالْبَرْدَ وَنَحْوَ ذَلِكَ ( وَ ) الْغُسْلُ الثَّانِي لِدُخُولِ الْحَرَمِ ، وَالْغُسْلُ الثَّالِثُ : ( لِدُخُولِ مَكَّةَ ) وَلَوْ حَلَالًا لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الْمُحْرِمِ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْحَلَالِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ هَذَا مِنْ أَغْسَالِ الْحَجِّ إلَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَقَعُ فِيهِ ، وَلَوْ فَاتَ لَمْ يَبْعُدْ نَدْبُ قَضَائِهِ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَكَذَا بَقِيَّةُ الْأَغْسَالِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ ، مَا لَوْ أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ بِعُمْرَةٍ مِنْ قَرِيبٍ كَالتَّنْعِيمِ وَاغْتَسَلَ لَمْ يُنْدَبْ لَهُ الْغُسْلُ لِدُخُولِ مَكَّةَ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَيَظْهَرُ مِثْلُهُ كَمَا قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْحَجِّ إذَا أَحْرَمَ بِهِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ لِكَوْنِهِ لَمْ يَخْطِرْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا هُنَاكَ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : أَوْ لِكَوْنِهِ مُقِيمًا هُنَاكَ ( وَ ) الْغُسْلُ الرَّابِعُ بَعْدَ الزَّوَالِ ( لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ) وَالْأَفْضَلُ كَوْنُهُ بِنَمِرَةَ ، وَيَحْصُلُ أَصْلُ السُّنَّةِ فِي غَيْرِهَا وَقَبْلَ الزَّوَالِ بَعْدَ الْفَجْرِ ، لَكِنْ تَقْرِيبُهُ لِلزَّوَالِ أَفْضَلُ كَتَقْرِيبِهِ مِنْ ذَهَابِهِ فِي غُسْلِ الْجُمُعَةِ ، وَسُمِّيَتْ عَرَفَةَ قِيلَ لِأَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ تَعَارَفَا ثَمَّ ، وَقِيلَ : لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَرَّفَ فِيهَا إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنَاسِكَهُ ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ ( وَ )
الْغُسْلُ الْخَامِسُ بَعْدَ نِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ لِلْوُقُوفِ ( بِمُزْدَلِفَةَ ) عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ( غَدَاةَ ) يَوْمِ ( النَّحْرِ ) أَيْ بَعْدَ فَجْرِهِ ( وَ ) الْغُسْلُ السَّادِسُ ( فِي ) كُلِّ يَوْمٍ مِنْ ( أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ) الثَّلَاثَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ ( لِلرَّمْيِ ) أَيْ رَمْيِ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ لِآثَارٍ وَرَدَتْ فِيهَا ؛ وَلِأَنَّهَا مَوَاضِعُ اجْتِمَاعٍ فَأَشْبَهَ غُسْلَ الْجُمُعَةِ ، وَلَوْ قَدَّمَ الْغُسْلَ عَلَى الزَّوَالِ حَصَلَ أَصْلُ السُّنَّةِ نَظِيرَ غُسْلِ الْجُمُعَةِ ، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ .
وَالْغُسْلُ السَّابِعُ لِدُخُولِ الْمَدِينَةِ ، وَلَا يُسَنُّ الْغُسْلُ لِلْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ لِقُرْبِهِ مِنْ غُسْلِ عَرَفَةَ ، وَلَا لِرَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ اكْتِفَاءً بِغُسْلِ الْعِيدِ ، وَلَا لِطَوَافِ الْقُدُومِ لِقُرْبِهِ مِنْ غُسْلِ الدُّخُولِ ، وَلَا لِلْحَلْقِ وَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَطَوَافِ الْوَدَاعِ كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الرَّافِعِيِّ ، وَكَذَا الْمُصَنِّفُ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ وَإِنْ جَزَمَ فِي مَنَاسِكِهِ الْكُبْرَى بِاسْتِحْبَابِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ .
وَأَنْ يُطَيِّبَ بَدَنَهُ لِلْإِحْرَامِ ، وَكَذَا ثَوْبُهُ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَا بَأْسَ بِاسْتِدَامَتِهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ، وَلَا بِطِيبٍ لَهُ جُرْمٌ ، لَكِنْ لَوْ نَزَعَ ثَوْبَهُ الْمُطَيَّبَ ثُمَّ لَبِسَهُ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ فِي الْأَصَحِّ .
( وَ ) يُسَنُّ ( أَنْ يُطَيِّبَ ) مُرِيدُ الْإِحْرَامِ ( بَدَنَهُ لِلْإِحْرَامِ ) رَجُلًا كَانَ أَوْ خُنْثَى أَوْ امْرَأَةً شَابَّةً أَوْ عَجُوزًا خَلِيَّةً أَوْ مُتَزَوِّجَةً اقْتِدَاءً بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ .
وَقِيلَ لَا يُسَنُّ لِلْمَرْأَةِ كَذَهَابِهَا إلَى الْجُمُعَةِ ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ زَمَانَ الْجُمُعَةِ وَمَكَانَهَا ضَيِّقٌ وَلَا يُمْكِنُهَا تَجَنُّبُ الرِّجَالِ بِخِلَافِ الْإِحْرَامِ .
نَعَمْ الْمُحِدَّةُ لَا تَتَطَيَّبُ ( وَكَذَا ثَوْبُهُ ) مِنْ إزَارِ الْإِحْرَامِ وَرِدَائِهِ يُسَنُّ تَطْيِيبُهُ ( فِي الْأَصَحِّ ) كَالْبَدَنِ ، وَالثَّانِي : الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ يُنْزَعُ وَيُلْبَسُ ، وَتَبِعَ الْمُصَنِّفُ الْمُحَرَّرَ فِي اسْتِحْبَابِ تَطْيِيبِ الثَّوْبِ ، وَصُحِّحَ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ مُبَاحٌ وَقَالَ : لَا يُنْدَبُ جَزْمًا ، وَصَحَّحَ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا الْجَوَازَ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ ( وَلَا بَأْسَ بِاسْتِدَامَتِهِ ) أَيْ الطِّيبِ فِي الثَّوْبِ ( بَعْدَ الْإِحْرَامِ ) كَالْبَدَنِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا { كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ } وَالْوَبِيصُ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَ الْوَاوِ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ : هُوَ الْبَرِيقُ ، وَالْمَفْرِقُ وَسَطُ الرَّأْسِ ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ جَوَازِ الِاسْتِدَامَةِ مَا إذَا لَزِمَهَا الْإِحْدَادُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ( وَلَا بِطِيبٍ لَهُ جُرْمٌ ) لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ ( لَكِنْ لَوْ نَزَعَ ثَوْبَهُ الْمُطَيَّبَ ) أَيْ الَّذِي رَائِحَةُ الطِّيبِ فِيهِ مَوْجُودَةٌ ( ثُمَّ لَبِسَهُ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ فِي الْأَصَحِّ ) كَمَا لَوْ ابْتَدَأَ لُبْسَ الثَّوْبِ الْمُطَيَّبِ أَوْ أَخَذَ الطِّيبَ مِنْ بَدَنِهِ ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ ، وَالثَّانِي : لَا ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الثَّوْبِ أَنْ يُخْلَعَ وَيُلْبَسَ فَجُعِلَ عَفْوًا فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَائِحَةُ الطِّيبِ فِيهِ مَوْجُودَةً فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ أَلْقَى عَلَيْهِ مَاءً ظَهَرَتْ رَائِحَتُهُ امْتَنَعَ
لُبْسُهُ بَعْدَ نَزْعِهِ وَإِلَّا فَلَا ، وَلَوْ مَسَّهُ بِيَدِهِ عَمْدًا لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ وَيَكُونُ مُسْتَعْمِلًا لِلطِّيبِ ابْتِدَاءً جَزَمَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَلَا عِبْرَةَ بِانْتِقَالِ الطِّيبِ بِإِسَالَةِ الْعَرَقِ ، وَلَوْ تَعَطَّرَ ثَوْبُهُ مِنْ بَدَنِهِ لَمْ يَضُرَّ جَزْمًا .
وَأَنْ تُخَضِّبَ الْمَرْأَةُ لِلْإِحْرَامِ يَدَيْهَا .
( وَ ) يُسَنُّ ( أَنْ تُخَضِّبَ الْمَرْأَةُ ) غَيْرُ الْمُحِدَّةِ ( لِلْإِحْرَامِ يَدَيْهَا ) أَيْ كُلَّ يَدٍ مِنْهَا إلَى الْكُوعِ فَقَطْ بِالْحِنَّاءِ خَلِيَّةً كَانَتْ أَوْ مُزَوَّجَةً ، شَابَّةً أَوْ عَجُوزًا ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ ، وَلِأَنَّهُمَا قَدْ يَنْكَشِفَانِ وَتَمْسَحُ وَجْهَهَا بِشَيْءٍ مِنْهُ لِأَنَّهَا تُؤْمَرُ بِكَشْفِهِ فَتَسْتَتِرُ بَشَرَتُهُ بِلَوْنِ الْحِنَّاءِ ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ بِالْحِنَّاءِ تَعْمِيمًا دُونَ التَّطْرِيفِ وَالتَّنْقِيشِ وَالتَّسْوِيدِ .
أَمَّا بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَيُكْرَهُ لَهَا ذَلِكَ مَا فِيهِ مِنْ الزِّينَةِ وَإِزَالَةِ الشَّعَثِ ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ عَلَى الْمَذْهَبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ عَلَى الْمَشْهُورِ ، وَخَرَجَ بِالْمَرْأَةِ الرَّجُلُ وَالْخُنْثَى فَيَحْرُمُ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ إلَّا لِضَرُورَةٍ ، وَبِغَيْرِ الْمُحِدَّةِ الْمُحِدَّةُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا أَيْضًا ، وَيُنْدَبُ لِغَيْرِ الْمُحْرِمَةِ أَيْضًا وَإِنْ أَفْهَمَتْ عِبَارَتُهُ اخْتِصَاصَ النَّدْبِ بِالْمُحْرِمَةِ لَكِنَّهُ لِلْمُحْرِمَةِ آكَدُ .
نَعَمْ يُكْرَهُ لِلْخَلِيَّةِ مِنْ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ .
وَيَتَجَرَّدُ الرَّجُلُ لِإِحْرَامِهِ عَنْ مَخِيطِ الثِّيَابِ وَيَلْبَسُ إزَارًا وَرِدَاءً أَبْيَضَيْنِ وَنَعْلَيْنِ
( وَيَتَجَرَّدُ الرَّجُلُ ) وُجُوبًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ كَالرَّافِعِيِّ ( لِإِحْرَامِهِ عَنْ مَخِيطِ الثِّيَابِ ) لِيَنْتَفِيَ عَنْهُ لُبْسُهُ فِي الْإِحْرَامِ الَّذِي هُوَ مُحْرِمٌ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي ، لَكِنْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ فِي مَنَاسِكِهِ بِسُنِّيَّتِهِ ، وَاسْتَحْسَنَهُ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ تَبَعًا لِلْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَاقْتَضَاهُ كَلَامُ الْمَتْنِ كَالْمُحَرَّرِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِ وَهُوَ الْإِحْرَامُ لَمْ يُوجَدْ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ : إنْ وَطِئْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا ، وَإِنَّمَا يَجِبُ النَّزْعُ عَقِبَهُ ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخَانِ فِي الصَّيْدِ عَدَمَ وُجُوبِ إزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ مَعَ أَنَّ الْمُدْرَكَ فِيهِمَا وَاحِدٌ .
وَأُجِيبَ مِنْ جِهَةِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْوَطْءَ يَقَعُ فِي النِّكَاحِ فَلَا يَحْرُمُ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ النَّزْعُ عَقِبَهُ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ الْمَعْصِيَةِ ، وَلِأَنَّ مُوجِبَهُ لَيْسَ الْوَطْءَ بَلْ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ إلْحَاقُ الْإِحْرَامِ بِالْوَطْءِ .
وَأَمَّا الصَّيْدُ فَيَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ بِالْإِحْرَامِ كَمَا سَيَأْتِي بِخِلَافِ نَزْعِ الثَّوْبِ لَا يَحْصُلُ بِهِ فَيَجِبُ قَبْلَهُ كَمَا يَجِبُ السَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا عَلَى بَعِيدِ الدَّارِ ، وَقَوْلُ الْإِسْنَوِيِّ وَاقْتَضَاهُ كَلَامُ الْمَتْنِ بِنَاءً عَلَى أَنْ يَتَجَرَّدَ بِالنَّصْبِ ، وَقَدْ ضَبَطَهُ الْمُصَنِّفُ بِالرَّفْعِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَقَدْ رَأَيْت فِي الْأَصْلِ قَابِلَتَهُ عَلَى خَطِّ الْمُصَنِّفِ : وَيَتَجَرَّدُ مَضْبُوطًا بِضَمِّ الدَّالِ : أَيْ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فَلَا يُعْطَفُ عَلَى السُّنَنِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : مَخِيطٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ ، وَأَوْلَى مِنْهُ مُحِيطٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ لِشُمُولِهِ اللِّبْدَ وَالْمَنْسُوجَ وَلَوْ حَذَفَ لَفْظَ الثِّيَابِ كَانَ أَوْلَى فَإِنَّهُ يَجِبُ نَزْعُ الْخُفِّ وَالنَّعْلِ ( وَ ) يُسَنُّ أَنْ يَكُونَ النَّزْعُ قَبْلَ الطِّيبِ ، وَأَنْ ( يَلْبَسَ ) الرَّجُلُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ (
إزَارًا وَرِدَاءً ) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ ( أَبْيَضَيْنِ ) لِخَبَرِ { الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضَ } ، وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَا جَدِيدَيْنِ وَإِلَّا فَمَغْسُولَيْنِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالْأَحْوَطُ أَنْ يَغْسِلَ الْجَدِيدَ الْمَقْصُورَ لِنَشْرِ الْقَصَّارِينَ لَهُ عَلَى الْأَرْضِ ، وَقَدْ اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَصَى الْجِمَارِ احْتِيَاطًا ، وَهَذَا أَوْلَى بِهِ ، وَقَضِيَّةُ تَعْلِيلِهِ أَنَّ غَيْرَ الْمَقْصُورِ كَذَلِكَ : أَيْ إذَا تُوُهِّمَتْ نَجَاسَتُهُ لَا مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَيُكْرَهُ الْمَصْبُوغُ وَلَوْ بِنِيلَةٍ أَوْ مَغْرَةٍ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ أَشْعَثُ أَغْبَرُ فَلَا يُنَاسِبُهُ الْمَصْبُوغُ أَيْ بِغَيْرِ الزَّعْفَرَانِ لِمَا مَرَّ فِي بَابِ اللِّبَاسِ أَنَّ لُبْسَهُ حَرَامٌ عَلَى الرَّجُلِ ، وَقَيَّدَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ كَرَاهَةَ الْمَصْبُوغِ بِمَا صُبِغَ بَعْدَ النَّسْجِ ، وَأَمَّا قَبْلَهُ فَلَا كَرَاهَةَ وَلَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ ( وَ ) يُسَنُّ أَنْ يَلْبَسَ ( نَعْلَيْنِ ) لِخَبَرِ { لِيُحْرِمْ أَحَدُكُمْ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ } رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَخَرَجَ بِالرَّجُلِ الْمَرْأَةُ وَالْخُنْثَى إذْ لَا نَزْعَ عَلَيْهِمَا فِي غَيْرِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ .
وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ .
( وَ ) أَنْ ( يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ) لِلْإِحْرَامِ قَبْلَهُ لِمَا رَوَى الشَّيْخَانِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَحْرَمَ } ، وَيُحْرِمَانِ فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ فِي غَيْرِ حَرَمِ مَكَّةَ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ ، وَيُسَنُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَفِي الثَّانِيَةِ الْإِخْلَاصَ ، وَلَوْ كَانَ إحْرَامُهُ فِي وَقْتِ فَرِيضَةٍ فَصَلَّاهَا أَغْنَتْ عَنْهَا كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَإِنْ قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : فِيهِ نَظَرٌ ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُمَا سُنَّةٌ مَقْصُودَةٌ فَلَا تَنْدَرِجُ كَسُنَّةِ الصُّبْحِ وَغَيْرِهَا ، وَمِثْلُ الْفَرِيضَةِ الرَّاتِبَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِحْرَامُ بَعْدَ صَلَاةٍ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا فِي مَسْجِدِ الْمِيقَاتِ إنْ كَانَ ثَمَّ مَسْجِدٌ ، وَلَا فَرْقَ فِي صَلَاتِهِمَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَغَيْرِهِ .
ثُمَّ الْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ إذَا انْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَوْ تَوَجَّهَ لِطَرِيقِهِ مَاشِيًا ، وَفِي قَوْلٍ يُحْرِمُ عَقِبَ الصَّلَاةِ .
( ثُمَّ الْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ ) الشَّخْصُ إنْ كَانَ رَاكِبًا ( إذَا انْبَعَثَتْ ) أَيْ اسْتَوَتْ ( بِهِ رَاحِلَتُهُ ) أَيْ دَابَّتُهُ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ قَائِمَةً إلَى طَرِيقِ مَكَّةَ لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ ( أَوْ ) يُحْرِمَ إذَا ( تَوَجَّهَ لِطَرِيقِهِ ) حَالَ كَوْنِهِ ( مَاشِيًا ) لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَهْلَلْنَا - أَيْ أَرَدْنَا أَنْ نُهِلَّ - أَنْ نُحْرِمَ إذَا تَوَجَّهْنَا } ، وَعِبَارَةُ التَّنْبِيهِ إذَا بَدَأَ بِالسَّيْرِ أَحْرَمَ ، وَهِيَ أَخَصْرُ مِنْ الْعِبَارَتَيْنِ وَأَشْمَلُ ( وَفِي قَوْلٍ يُحْرِمُ عَقِبَ الصَّلَاةِ ) جَالِسًا لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : إنَّهُ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَنْ يُحْرِمُ مِنْ مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا .
نَعَمْ الْإِمَامُ يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَخْطُبَ يَوْمَ السَّابِعِ بِمَكَّةَ ، وَأَنْ يُحْرِمَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ فَيَتَقَدَّمَ إحْرَامُهُ مَسِيرَهُ بِيَوْمٍ ؛ لِأَنَّ مَسِيرَهُ لِلنُّسُكِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَإِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ كَلَامُ غَيْرِهِ يُنَازِعُهُ ، وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ غَرِيبٌ وَمُحْتَمَلٌ .
وَيُسْتَحَبُّ إكْثَارُ التَّلْبِيَةِ وَرَفْعُ صَوْتِهِ بِهَا فِي دَوَامِ إحْرَامِهِ ، وَخَاصَّةً عِنْدَ تَغَايُرِ الْأَحْوَالِ كَرُكُوبٍ وَنُزُولٍ وَصُعُودٍ وَهُبُوطٍ وَاخْتِلَاطِ رُفْقَةٍ .
( وَيُسْتَحَبُّ ) لِلْمُحْرِمِ ( إكْثَارُ التَّلْبِيَةِ ) مِنْ لَبَّ ، وَأَلَبَّ بِالْمَكَانِ : أَقَامَ بِهِ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ طَاهِرٍ وَحَائِضٍ وَجُنُبٍ لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ؛ وَلِأَنَّهُ شِعَارُ النُّسُكِ ( وَرَفْعُ صَوْتِهِ ) أَيْ الذَّكَرِ ( بِهَا ) رَفْعًا لَا يَضُرُّ نَفْسَهُ ( فِي دَوَامِ إحْرَامِهِ ) هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِإِكْثَارُ وَرَفْعُ - أَيْ مَا دَامَ مُحْرِمًا - فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إشَارَةٌ إلَى مَا فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَأَقَرَّهُ اسْتِثْنَاءُ التَّلْبِيَةِ الْمُقَارِنَةِ لِلْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ لَا يَجْهَرُ بِهَا .
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَخْفِضُ صَوْتُهَا بِحَيْثُ تَقْتَصِرُ عَلَى سَمَاعِ نَفْسِهَا فَإِنْ رَفَعَتْ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ ، وَيُسَنُّ لِلْمُلَبِّي فِي التَّلْبِيَةِ إدْخَالُ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ ( وَخَاصَّةً ) هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مَخْتُومٌ بِالتَّاءِ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ ، وَهُوَ خُصُوصًا أَيْ يَتَأَكَّدُ ، وَقَوْلُهُ ( عِنْدَ تَغَايُرِ الْأَحْوَالِ ) مَزِيدٌ عَلَى الْمُحَرَّرِ قُصِدَ بِهِ إفَادَةُ ضَابِطٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ : مِنْهَا قَوْلُهُ ( كَرُكُوبٍ وَنُزُولٍ وَصُعُودٍ وَهُبُوطٍ ) بِضَمِّ أَوَّلِهِمَا بِخَطِّهِ مَصْدَرٌ ، وَيَجُوزُ فَتْحُهُ اسْمُ مَكَان يَصْعَدُ فِيهِ وَيَهْبِطُ ( وَاخْتِلَاطِ رُفْقَةٍ ) بِتَثْلِيثِ الرَّاءِ كَمَا مَرَّ فِي التَّيَمُّمِ اسْمٌ لِجَمَاعَةٍ يُرْفَقُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ ، وَأَشَارَ بِالْكَافِ فِي كَرُكُوبٍ إلَى عَدَمِ الْحَصْرِ فِيمَا ذُكِرَ ، فَتَتَأَكَّدُ فِي أُمُورٍ أُخَرَ كَإِقْبَالِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَفَرَاغٍ مِنْ صَلَاةٍ وَعِنْدَ نَوْمٍ أَوْ يَقَظَةٍ مِنْهُ ، وَعِنْدَ سَمَاعِ رَعْدٍ أَوْ هَيَجَانِ رِيحٍ ، قَائِمًا وَقَاعِدًا ، وَمُضْطَجِعًا وَمُسْتَلْقِيًا ، رَاكِبًا وَمَاشِيًا ، وَيَتَأَكَّدُ الِاسْتِحْبَابُ فِي
الْمَسَاجِدِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ وَوَقْتِ السَّحَرِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَغَيْرِهِمْ فِي أَصْلِ الِاسْتِحْبَابِ ، وَتُكْرَهُ التَّلْبِيَةُ فِي مَوَاضِعِ النَّجَاسَاتِ كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَذْكَارِ تَنْزِيهًا لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَلَا تُسْتَحَبُّ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ ، وَفِي الْقَدِيمِ تُسْتَحَبُّ فِيهِ بِلَا جَهْرٍ ، وَلَفْظُهَا : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ ، وَإِذَا رَأَى مَا يُعْجِبُهُ قَالَ : لَبَّيْكَ إنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ ، وَإِذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى الْجَنَّةَ وَرِضْوَانَهُ وَاسْتَعَاذَ بِهِ مِنْ النَّارِ .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ تَغَايُرِ الْأَحْوَالِ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ ( وَلَا تُسْتَحَبُّ ) التَّلْبِيَةُ ( فِي طَوَافِ الْقُدُومِ ) لِأَنَّهُ جَاءَ فِيهِ أَدْعِيَةٌ وَأَذْكَارٌ خَاصَّةٌ فَصَارَ كَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَالْوَدَاعِ ، وَلَا تُسْتَحَبُّ فِي السَّعْيِ بَعْدَهُ أَيْضًا وَلَا فِي الطَّوَافِ الْمُتَطَوِّعِ بِهِ لِمَا ذُكِرَ ( وَفِي الْقَدِيمِ تُسْتَحَبُّ فِيهِ ) وَفِي السَّعْيِ بَعْدَهُ وَفِي الْمُتَطَوِّعِ بِهِ فِي أَثْنَاءِ الْإِحْرَامِ .
لَكِنْ ( بِلَا جَهْرٍ ) فِي ذَلِكَ لِإِطْلَاقِ الْأَدِلَّةِ .
وَأَمَّا طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَالْوَدَاعِ فَلَا تُسْتَحَبُّ فِيهِمَا قَطْعًا ( وَلَفْظُهَا : لَبَّيْكَ ) وَمَعْنَاهَا أَنَا مُقِيمٌ فِي طَاعَتِكَ .
مَأْخُوذٌ مِنْ لَبَّ بِالْمَكَانِ لَبًّا وَأَلَبَّ بِهِ إلْبَابًا إذَا أَقَامَ بِهِ ، وَزَادَ الْأَزْهَرِيُّ إقَامَةً بَعْدَ إقَامَةٍ وَإِجَابَةً بَعْدَ إجَابَةٍ ، وَهُوَ مُثَنَّى مُضَافٌ أُرِيدَ بِهِ التَّكْثِيرُ سَقَطَتْ نُونُهُ لِلْإِضَافَةِ ( اللَّهُمَّ ) أَصْلُهُ يَا اللَّهُ حُذِفَ حَرْفُ النِّدَاءِ وَعُوِّضَ عَنْهُ الْمِيمُ ( لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ ) أَرَادَ بِنَفْيِ الشَّرِيكِ مُخَالَفَةَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ : لَا شَرِيكَ لَكَ إلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ ( إنَّ الْحَمْدَ ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَهُوَ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا عَلَى التَّعْلِيلِ أَيْ لِأَنَّ الْحَمْدَ ( وَالنِّعْمَةَ لَكَ ) بِنَصَبِ النِّعْمَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ ، وَيَجُوزُ رَفْعُهَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَإِنْ شِئْت جَعَلْت خَبَرَ إنَّ مَحْذُوفًا - أَيْ إنَّ الْحَمْدَ لَكَ وَالنِّعْمَةَ مُسْتَقِرَّةٌ لَكَ ( وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ ) وَذَلِكَ لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ .
وَيُسَنُّ أَنْ يَقِفَ وَقْفَةً لَطِيفَةً عِنْدَ قَوْلِهِ : وَالْمُلْكَ .
ثُمَّ يَبْتَدِئَ بِلَا شَرِيكٍ لَهُ ، وَأَنْ يُكَرِّرَ التَّلْبِيَةَ ثَلَاثًا إذَا لَبَّى ، وَالْقَصْدُ بِلَبَّيْكَ الْإِجَابَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } [ الْحَجُّ ] فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : قَامَ إبْرَاهِيمُ عَلَى مَقَامِهِ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا رَبَّكُمْ ، فَمَنْ حَجَّ الْيَوْمَ فَهُوَ مِمَّنْ أَجَابَ إبْرَاهِيمَ حِينَئِذٍ ، وَيُسَنُّ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَلَا يَنْقُصَ عَنْهَا ، وَلَا تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَزِيدُ فِي تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك وَالرَّغْبَاءُ إلَيْكَ وَالْعَمَلُ .
زَادَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ بِيَدَيْكَ لَبَّيْكَ وَهُوَ مَا أَوْرَدَهُ الرَّافِعِيُّ ( وَإِذَا رَأَى مَا يُعْجِبُهُ ) أَوْ يَكْرَهُهُ وَتَرَكَهُ الْمُصَنِّفُ اكْتِفَاءً بِذِكْرِ مُقَابِلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ } [ النَّحْلَ ] أَيْ وَالْبَرْدَ ( قَالَ ) نَدْبًا ( لَبَّيْكَ إنَّ الْعَيْشَ ) أَيْ الْحَيَاةَ الْمَطْلُوبَةَ الدَّائِمَةَ الْهَنِيَّةَ ( عَيْشُ ) أَيْ حَيَاةُ الدَّارِ ( الْآخِرَةِ ) قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ وَرَأَى جَمْعَ الْمُسْلِمِينَ .
رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا .
وَقَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَشَدِّ أَحْوَالِهِ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ .
رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا .
وَمَنْ لَا يُحْسِنُ التَّلْبِيَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ يُلَبِّي بِلُغَتِهِ .
وَهَلْ يَجُوزُ لِلْقَادِرِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُلَبِّيَ بِالْعَجَمِيَّةِ ؟ وَجْهَانِ بَنَاهُمَا الْمُتَوَلِّي عَلَى الْخِلَافِ فِي نَظِيرِهِ مِنْ تَسْبِيحَاتِ الصَّلَاةِ وَمُقْتَضَاهُ عَدَمُ الْجَوَازِ ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ هُنَا الْجَوَازُ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ مُفْسِدٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ بِخِلَافِ التَّلْبِيَةِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْبِنَاءِ الِاتِّحَادُ فِي التَّرْجِيحِ ( وَإِذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ صَلَّى ) وَسَلَّمَ ( عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) عَقِبَ فَرَاغِهِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [ الشَّرْحَ : ] أَيْ لَا أُذْكَرُ إلَّا وَتُذْكَرُ مَعِي لِطَلَبِي وَتَقُولُ ذَلِكَ بِصَوْتٍ أَخْفَضَ مِنْ صَوْتِ التَّلْبِيَةِ لِيَتَمَيَّزَ عَنْهُ .
قَالَ الزَّعْفَرَانِيُّ : وَيُصَلِّي عَلَى آلِهِ ( وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى ) بَعْدَ ذَلِكَ ( الْجَنَّةَ وَرِضْوَانَهُ وَاسْتَعَاذَ بِهِ مِنْ النَّارِ ) كَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
لَكِنْ قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ وَالْجُمْهُورُ ضَعَّفُوهُ ، وَيُسَنُّ أَنْ يَدْعُوَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا أَحَبَّ دِينًا وَدُنْيَا .
قَالَ الزَّعْفَرَانِيُّ : فَيَقُولُ : اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لَك وَلِرَسُولِك وَآمَنُوا بِكَ ، وَوَثِقُوا بِوَعْدِك ، وَوَفَوْا بِعَهْدِك ، وَاتَّبَعُوا أَمْرَك ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ وَفْدِك الَّذِينَ رَضِيت وَارْتَضَيْت ، اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِي أَدَاءَ مَا نَوَيْت وَتَقَبَّلْ مِنِّي يَا كَرِيمُ .
خَاتِمَةٌ : يُسَنُّ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِي التَّلْبِيَةِ إلَّا بِرَدِّ سَلَامٍ فَإِنَّهُ مَنْدُوبٌ وَتَأْخِيرُهُ عَنْهَا أَحَبُّ ، وَقَدْ يَجِبُ الْكَلَامُ فِي أَثْنَائِهَا لِعَارِضٍ كَأَنْ رَأَى أَعْمَى يَقَعُ بِبِئْرٍ ، وَيُكْرَهُ التَّسْلِيمُ عَلَيْهِ فِي أَثْنَائِهَا لِأَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَقْطَعَهَا .
بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ الْأَفْضَلُ دُخُولُهَا قَبْلَ الْوُقُوفِ ، وَأَنْ يَغْتَسِلَ دَاخِلُهَا مِنْ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ بِذِي طَوًى وَيَدْخُلَهَا مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ ، وَيَقُولَ إذَا أَبْصَرَ الْبَيْتَ : اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً وَزِدْ مِنْ شَرَفِهِ وَعِظَمِهِ مِمَّنْ حَجَّهُ أَوْ اعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا وَبِرًّا ، اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ ، فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ ثُمَّ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ
( بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ ) زَادَهَا اللَّهُ شَرَفًا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ يُقَالُ : مَكَّةُ بِالْمِيمِ وَبَكَّةَ بِالْبَاءِ لُغَتَانِ ، وَقِيلَ بِالْمِيمِ اسْمٌ لِلْحَرَمِ كُلِّهِ ، وَبِالْبَاءِ اسْمٌ لِلْمَسْجِدِ وَقِيلَ بِالْمِيمِ الْبَلَدُ ، وَبِالْبَاءِ الْبَيْتُ مَعَ الْمَطَافِ ، وَقِيلَ بِدُونِهِ ، وَلَهَا أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ تَقْرُبُ مِنْ ثَلَاثِينَ اسْمًا ذَكَرَهَا الدَّمِيرِيُّ وَغَيْرُهُ قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَلَا نَعْلَمُ بَلَدًا أَكْثَرَ اسْمًا مِنْ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لِكَوْنِهِمَا أَفْضَلَ الْأَرْضِ ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ الصِّفَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّسْمِيَةِ وَكَثْرَةِ الْأَسْمَاءِ تَدُلُّ عَلَى شَرَفِ الْمُسَمَّى .
وَلِهَذَا كَثُرَتْ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قِيلَ : إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَلْفَ اسْمٍ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ .
وَمَكَّةُ أَفْضَلُ الْأَرْضِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِمَالِكٍ فِي تَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ ، وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْأَرْضِ ، وَالْخِلَافُ فِيمَا سِوَاهُ ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ مَكَّةَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ { سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي سُوقِ مَكَّةَ يَقُولُ : وَاَللَّهِ إنَّك لَخَيْرُ الْأَرْضِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَيَّ وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْت مِنْك مَا خَرَجْت } رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
قَالَ الْبَكْرِيُّ : وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ .
وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُونِي مِنْ أَحَبِّ الْبِلَادِ إلَيَّ فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِلَادِ إلَيْك } فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي نَكَارَتِهِ وَضَعْفِهِ ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْتِحْبَابِ الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ ، فَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْإِيضَاحِ : الْمُخْتَارُ اسْتِحْبَابُهُ إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى
ظَنِّهِ الْوُقُوعُ فِي الْأُمُورِ الْمَحْذُورَةِ وَ ( الْأَفْضَلُ ) لِلْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ وَلَوْ قَارِنًا ( دُخُولُهَا قَبْلَ الْوُقُوفِ ) بِعَرَفَةَ إذَا لَمْ يَخْشَ فَوْتَهُ لِلِاتِّبَاعِ ، وَلِكَثْرَةِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ السُّنَنِ الْآتِيَةِ ( وَأَنْ يَغْتَسِلَ دَاخِلُهَا ) بِالرَّفْعِ فَاعِلُ يَغْتَسِلَ الْجَائِيُّ ( مِنْ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ ) وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ ( بِذِي طُوًى ) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَطَوًى بِالْقَصْرِ وَتَثْلِيثِ الطَّاءِ وَالْفَتْحُ أَجْوَدُ : وَادٍ بِمَكَّةَ بَيْنَ الثَّنِيَّتَيْنِ وَأَقْرَبُ إلَى السُّفْلَى ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى بِئْرٍ مَطْوِيَّةٍ بِالْحِجَارَةِ .
يَعْنِي مَبْنِيَّةً بِهَا ، وَالطَّيُّ الْبِنَاءُ ، وَيَجُوزُ فِيهَا الصَّرْفُ وَعَدَمُهُ عَلَى إرَادَةِ الْمَكَانِ أَوْ الْبُقْعَةِ ، وَلَا فَرْقَ فِي الدَّاخِلِ بَيْنَ كَوْنِهِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : وَعِبَارَةُ الرَّوْضَةِ تَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِالْحَاجِّ ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ مُقْتَضَى حَدِيثِ ، الصَّحِيحَيْنِ اسْتِحْبَابُهُ لِمُحْرِمٍ وَحَلَالٍ وَالرَّاجِحُ مَا فِي الْمَجْمُوعِ .
أَمَّا الْغُسْلُ لِدُخُولِ مَكَّةَ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ مُطْلَقًا ، وَإِنَّمَا أَعَادَهُ لِبَيَانِ مَحِلِّهِ وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْ ذِي طُوًى ، وَأَمَّا الْجَائِيُّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ كَالْيَمَنِ فَيَغْتَسِلُ مِنْ نَحْوِ تِلْكَ الْمَسَافَةِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ .
قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ : وَلَوْ قِيلَ بِاسْتِحْبَابِهِ لِكُلِّ حَاجٍّ وَمُعْتَمِرٍ لَمْ يَبْعُدْ ا هـ .
وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ ، وَإِطْلَاقُهُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَغَيْرِهِ ( وَ ) أَنْ ( يَدْخُلَهَا مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْمَدِّ وَالتَّنْوِينِ ، وَهِيَ الثَّنِيَّةُ الْعُلْيَا ، وَهِيَ مَوْضِعٌ بِأَعْلَى مَكَّةَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِطَرِيقِهِ كَمَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ وَصَوَّبَهُ لِمَا قَالَهُ الْجُوَيْنِيُّ إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَجَ إلَيْهِ قَصْدًا ، وَحَكَى
الرَّافِعِيُّ عَنْ الْأَصْحَابِ تَخْصِيصَهُ بِالْآتِي مِنْ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ لِلْمَشَقَّةِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْغُسْلِ ، وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَلَعَلَّ الْفَرْقَ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي كَدَاءٍ مِنْ الْحِكْمَةِ الْآتِيَةِ غَيْرُ حَاصِلَةٍ بِسُلُوكِ غَيْرِهَا ، وَفِي الْغُسْلِ مِنْ قَصْدِ النَّظَافَةِ حَاصِلٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ، وَأَنْ يَخْرُجَ مِنْ ثَنِيَّةِ كُدًى بِضَمِّ الْكَافِ وَالْقَصْرِ وَالتَّنْوِينِ وَهِيَ الثَّنِيَّةُ السُّفْلَى عِنْدَ جَبَلِ قُعَيْقِعَانَ ؛ { لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْخُلُ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا وَيَخْرُجُ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى } ، وَالثَّنِيَّةُ الطَّرِيقُ الضَّيِّقُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ وَخُصَّتْ الْعُلْيَا بِالدُّخُولِ لِقَصْدِ الدَّاخِلِ مَوْضِعًا عَالِي الْمِقْدَارِ ، وَالْخَارِجُ عَكْسُهُ ، وَلِأَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ قَالَ : { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ } إبْرَاهِيمَ كَانَ عَلَى الْعُلْيَا كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَضِيَّتُهُ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ ، وَيُسَنُّ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ إذَا دَخَلَ الْحَرَمَ أَنْ يَسْتَحْضِرَ فِي قَلْبِهِ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ الْخُشُوعِ بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ وَيَتَذَكَّرُ جَلَالَةَ الْحَرَمِ وَمَزِيَّتَهُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَأَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ هَذَا حَرَمُكَ وَأَمْنُك ، فَحَرِّمْنِي عَلَى النَّارِ .
وَأَمِّنِّي مِنْ عَذَابِك يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَك ، وَاجْعَلْنِي مِنْ أَوْلِيَائِك وَأَهْلِ طَاعَتِك ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ نَهَارًا وَمَاشِيًا إنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ ، وَأَنْ يَكُونَ حَافِيًا إنْ لَمْ تَلْحَقْهُ مَشَقَّةٌ وَلَمْ يَخَفْ نَجَاسَةَ رِجْلَهُ ، وَدُخُولُهُ أَوَّلُ النَّهَارِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ أَنْ يَكُونَ دُخُولُ الْمَرْأَةِ فِي
نَحْوِ هَوْدَجٍ لَيْلًا أَفْضَلُ ، وَأَنْ يَكُونَ دُخُولُهُ بِخُشُوعٍ مُتَضَرِّعًا .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَيَكُونُ مِنْ دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ الْبَلَدُ بَلَدُكَ وَالْبَيْتُ بَيْتُك جِئْتُ أَطْلُبُ رَحْمَتَك وَأَؤُمُّ طَاعَتَك مُتَّبِعًا لِأَمْرِك رَاضِيًا بِقَدَرِك مُسْلِمًا لِأَمْرِك .
أَسْأَلُك مَسْأَلَةَ الْمُضْطَرِّ إلَيْك الْمُشْفِقِ مِنْ عَذَابِك أَنْ تَسْتَقْبِلَنِي بِعَفْوِك ، وَأَنْ تَتَجَاوَزَ عَنِّي بِرَحْمَتِك ، وَأَنْ تُدْخِلَنِي جَنَّتَك ( وَ ) أَنْ ( يَقُولَ ) دَاخِلُهَا ( إذَا أَبْصَرَ الْبَيْتَ ) أَيْ الْكَعْبَةَ وَالدَّاخِلُ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا يَرَى الْبَيْتَ مِنْ رَأْسِ الرَّدْمِ قَبْلَ دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ أَوْ وَصَلَ مَحِلَّ رُؤْيَتِهِ وَلَمْ يَرَهُ لِعَمًى أَوْ ظُلْمَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ رَافِعًا يَدَيْهِ ( اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا ) هُوَ التَّرَفُّعُ وَالْإِعْلَاءُ ( وَتَعْظِيمًا ) هُوَ التَّبْجِيلُ ( وَتَكْرِيمًا ) هُوَ التَّفْضِيلُ ( وَمَهَابَةً ) هِيَ التَّوْقِيرُ وَالْإِجْلَالُ ( وَزِدْ مِنْ شَرَفِهِ وَعِظَمِهِ مِمَّنْ حَجَّهُ أَوْ اعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا وَبِرًّا ) هُوَ الِاتِّسَاعُ فِي الْإِحْسَانِ وَالزِّيَادَةُ فِيهِ ، وَذَلِكَ لِلِاتِّبَاعِ ، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ : وَكَرِّمْهُ بَدَلَ وَعَظِّمْهُ ( اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ ) أَيْ ذُو السَّلَامَةِ مِنْ النَّقَائِصِ ( وَمِنْكَ السَّلَامُ ) أَيْ ابْتَدَأَ مِنْكَ ، وَمَنْ أَكْرَمْتَهُ بِالسَّلَامِ فَقَدْ سَلِمَ ( فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ ) أَيْ سَلِّمْنَا بِتَحِيَّتِك مِنْ جَمِيعِ الْآفَاتِ ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ بِإِسْنَادٍ لَيْسَ بِقَوِيٍّ : وَيُسَنُّ أَنْ يَدْعُوَ بِمَا أَحَبَّ مِنْ الْمُهِمَّاتِ وَأَهَمُّهَا الْمَغْفِرَةُ ( ثُمَّ يَدْخُلُ ) عَقِبَ ذَلِكَ ( الْمَسْجِدَ ) الْحَرَامَ ( مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ ) أَحَدِ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِهِ لِلِاتِّبَاعِ ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ
، وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ بَابَ الْكَعْبَةِ وَالْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فِي جِهَةِ ذَلِكَ الْبَابِ ، وَهِيَ أَشْرَفُ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوَاعِدِهِ ، وَشَيْبَةُ اسْمُ رَجُلٍ مِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِ وَلَدِهِ ، وَهُوَ ابْنُ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ الْحَجَبِيُّ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الدُّخُولَ مِنْ هَذَا الْبَابِ إنَّمَا يُسَنُّ لِمَنْ أَتَى مِنْ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ فَإِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ : وَيَدْخُلُهَا مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ قَالَ الرَّافِعِيُّ أَطْبَقُوا عَلَى اسْتِحْبَابِ الدُّخُولِ مِنْهُ لِكُلِّ قَادِمٍ سَوَاءٌ أَكَانَ فِي طَرِيقِهِ أَمْ لَا بِخِلَافِ الدُّخُولِ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا ، فَإِنْ فِيهِ الْخِلَافَ الْمَارَّ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الدَّوَرَانَ حَوْلَ الْمَسْجِدِ لَا يَشُقُّ بِخِلَافِهِ حَوْلَ الْبَلَدِ ، وَيُسَنُّ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَابِ بَنِي مَخْزُومٍ إلَى الصَّفَا ، وَهُوَ الْمُسَمَّى الْآنَ بِبَابِ الصَّفَا ، وَمِنْ بَابِ بَنِي سَهْمٍ إذَا خَرَجَ إلَى بَلَدِهِ ، وَهُوَ الْمُسَمَّى الْيَوْمَ بِبَابِ الْعُمْرَةِ .
وَيَبْتَدِئُ بِطَوَافِ الْقُدُومِ ، وَيَخْتَصُّ طَوَافُ الْقُدُومِ بِحَاجٍّ دَخَلَ مَكَّةَ قَبْلَ الْوُقُوفِ .
( وَيَبْتَدِئُ ) نَدْبًا أَوَّلَ دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ قَبْلَ تَغْيِيرِ ثِيَابِهِ وَاكْتِرَاءِ مَنْزِلِهِ وَنَحْوِهِمَا ( بِطَوَافِ الْقُدُومِ ) لِلِاتِّبَاعِ ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الطَّوَافَ تَحِيَّةُ الْبَيْتِ لَا الْمَسْجِدِ فَلِذَلِكَ يُبْدَأُ بِهِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا لَوْ خَافَ فَوْتَ مَكْتُوبَةٍ أَوْ سُنَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ أَوْ وَجَدَ جَمَاعَةً قَائِمَةً أَوْ تَذَكَّرَ فَائِتَةً مَكْتُوبَةً ، فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ ذَلِكَ عَلَى الطَّوَافِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْأَصْحَابِ ، وَلَوْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ قَطَعَهُ وَصَلَّى ؛ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ يَفُوتُ وَالطَّوَافُ لَا يَفُوتُ ، وَلَوْ حَضَرَتْ جِنَازَةٌ قَطَعَهُ إنْ كَانَ نَفْلًا نَصَّ عَلَيْهِ ، وَفِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ مَنْ لَهُ عُذْرٌ يَبْدَأُ بِإِزَالَتِهِ ، وَلَوْ قَدِمَتْ امْرَأَةٌ نَهَارًا وَهِيَ ذَاتُ جَمَالٍ أَوْ شَرَفٍ .
وَهِيَ الَّتِي لَا تَبْرُزُ لِلرِّجَالِ سُنَّ لَهَا أَنْ تُؤَخِّرَهُ إلَى اللَّيْلِ ، وَقَيَّدَهُ بَعْضٌ بِمَا إذَا أَمِنَتْ الْحَيْضَ الَّذِي يَطُولُ زَمَنُهُ ، وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ حَسَنٌ ، وَالْخُنْثَى كَالْأُنْثَى كَمَا قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَلَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ مُنِعَ النَّاسُ مِنْ الطَّوَافِ صَلَّى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الطَّوَافَ عَلَيْهَا فِيمَا مَرَّ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ إتْيَانِ الْمَسْجِدِ الْبَيْتَ وَتَحِيَّتُهُ الطَّوَافُ ، وَلِأَنَّهَا تَحْصُلُ بِرَكْعَتَيْهِ غَالِبًا ، وَلَوْ أَخَّرَ طَوَافَ الْقُدُومِ فَفِي فَوَاتِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْإِمَامُ ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا يَفُوتُ وَهُوَ كَذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَفُوتُ بِالْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا تَفُوتُ بِهِ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ ، نَعَمْ يَفُوتُ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَا بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ ( وَيَخْتَصُّ طَوَافُ الْقُدُومِ ) فِي الْمُحْرِمِ ( بِحَاجٍّ دَخَلَ مَكَّةَ قَبْلَ الْوُقُوفِ ) مُفْرِدًا كَانَ أَوْ قَارِنًا ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَالْمُعْتَمِرَ قَدْ
دَخَلَ وَقْتُ طَوَافِهِمَا الْمَفْرُوضِ ، فَلَا يَصِحُّ قَبْلَ أَدَائِهِ أَنْ يَتَطَوَّعَا بِطَوَافٍ قِيَاسًا عَلَى أَصْلِ النُّسُكِ ، وَبِهَذَا فَارَقَ مَا نَحْنُ فِيهِ الصَّلَاةَ حَيْثُ أَمَرَ بِالتَّحِيَّةِ قَبْلَ الْفَرْضِ .
أَمَّا الْحَلَالُ فَيُسَنُّ طَوَافُ الْقُدُومِ لَهُ وَإِنْ أَوْهَمَتْ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ خِلَافَهُ وَكَمَا يُسَمَّى طَوَافَ الْقُدُومِ يُسَمَّى طَوَافَ الْقَادِمِ وَطَوَافَ الْوُرُودِ وَالْوَارِدِ وَالتَّحِيَّةِ .
فَائِدَةٌ : قَالَ ابْنُ أَسْبَاطٍ : بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ وَزَمْزَمَ قُبُورُ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ نَبِيًّا ، وَإِنَّ قَبْرَ هُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ وَإِسْمَاعِيلَ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ .
تَنْبِيهٌ : قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ : اُعْتُرِضَ عَلَى تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ مَقْلُوبٌ وَصَوَابُهُ وَيَخْتَصُّ حَاجٌّ دَخَلَ مَكَّةَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِطَوَافِ الْقُدُومِ فَإِنَّ الْبَاءَ تَدْخُلُ عَلَى الْمَقْصُورِ ا هـ لَكِنَّ هَذَا أَكْثَرِيٌّ لَا كُلِّيٌّ فَالتَّعْبِيرُ بِالصَّوَابِ خَطَأٌ .
وَمَنْ قَصَدَ مَكَّةَ لَا لِنُسُكٍ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، وَفِي قَوْلٍ يَجِبُ ، إلَّا أَنْ يَتَكَرَّرَ دُخُولُهُ كَحَطَّابٍ وَصَيَّادٍ .
( وَمَنْ قَصَدَ مَكَّةَ ) أَوْ الْحَرَمَ ( لَا لِنُسُكٍ اُسْتُحِبَّ ) لَهُ ( أَنْ يُحْرِمَ بِحَجٍّ ) إنْ كَانَ فِي أَشْهُرِهِ وَيُمْكِنُهُ إدْرَاكَهُ ( أَوْ عُمْرَةٍ ) قِيَاسًا عَلَى التَّحِيَّةِ وَهَذَا مَا فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْأَكْثَرِينَ وَعَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ ( وَفِي قَوْلٍ يَجِبُ ) وَهُوَ مَنْصُوصُ الْأُمِّ وَجَعَلَهُ فِي الْبَيَانِ الْأَشْهَرَ ، وَصَحَّحَهُ جَمْعٌ مِنْهُمْ الْمُصَنِّفُ فِي نُكَتِ التَّنْبِيهِ ، وَيَدُلُّ لِلْأَوَّلِ حَدِيثُ الْمَوَاقِيتِ السَّابِقُ هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ، فَلَوْ وَجَبَ بِمُجَرَّدِ الدُّخُولِ لَمَا عَلَّقَهُ عَلَى الْإِرَادَةِ ( إلَّا أَنْ يَتَكَرَّرَ دُخُولُهُ كَحَطَّابٍ وَصَيَّادٍ ) فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا جَزْمًا لِلْمَشَقَّةِ بِالتَّكْرِيرِ ، وَعَلَى الْوُجُوبِ لَا دَمَ عَلَيْهِ وَلَا قَضَاءَ بِتَرْكِ الْإِحْرَامِ .
تَنْبِيهٌ : مَا ذُكِرَ مِنْ الْحَصْرِ غَيْرُ مُرَادٍ بَلْ يُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا مِنْ الْحِلِّ ، وَأَنْ لَا يَدْخُلَ لِقِتَالٍ مُبَاحٍ وَلَا خَائِفًا مِنْ ظَالِمٍ أَوْ غَرِيمٍ يَحْبِسُهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ لَا يُمْكِنُهُ مَعَهُ الظُّهُورُ لِأَدَاءِ النُّسُكِ وَأَنْ يَكُونَ حُرًّا فَالرَّقِيقُ لَا إحْرَامَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ عَلَى الْأَصَحِّ وَقَصَدَ الْحَرَمَ كَقَصْدِ مَكَّةَ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ كَمَا نَبَّهْت عَلَيْهِ وَإِنْ أَوْهَمَتْ عِبَارَتُهُ خِلَافَهُ .
فَصْلٌ لِلطَّوَافِ بِأَنْوَاعِهِ وَاجِبَاتٌ وَسُنَنٌ : أَمَّا الْوَاجِبَاتُ فَيُشْتَرَطُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَطَهَارَةُ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ ، فَلَوْ أَحْدَثَ فِيهِ تَوَضَّأَ وَبَنَى ، وَفِي قَوْلٍ يَسْتَأْنِفُ ، وَأَنْ يَجْعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ ، وَمُبْتَدِئًا بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مُحَاذِيًا لَهُ فِي مُرُورِهِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ فَلَوْ بَدَأَ بِغَيْرِ الْحَجَرِ لَمْ يُحْسَبْ ، فَإِذَا انْتَهَى إلَيْهِ ابْتَدَأَ مِنْهُ ، وَلَوْ مَشَى عَلَى الشَّاذَرْوَانِ أَوْ مَسَّ الْجِدَارَ فِي مُوَازَاتِهِ أَوْ دَخَلَ مِنْ إحْدَى فَتْحَتَيْ الْحِجْرِ وَخَرَجَ مِنْ الْأُخْرَى لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْمَسِّ وَجْهٌ ، وَأَنْ يَطُوفَ سَبْعًا وَدَاخِلَ الْمَسْجِدِ .
( فَصْلٌ ) فِيمَا يُطْلَبُ فِي الطَّوَافِ مِنْ وَاجِبَاتٍ وَسُنَنٍ ( لِلطَّوَافِ بِأَنْوَاعِهِ ) مِنْ قُدُومٍ وَرُكْنٍ وَوَدَاعٍ وَمَا يَتَحَلَّلُ بِهِ فِي الْفَوَاتِ وَطَوَافِ نَذْرٍ وَتَطَوُّعٍ ( وَاجِبَاتٌ ) لَا بُدَّ مِنْهَا فِيهِ شُرُوطًا كَانَتْ أَوْ أَرْكَانًا فَلَا يَصِحُّ بِدُونِهَا وَلَوْ كَانَ نَفْلًا ( وَسُنَنٌ ) يَصِحُّ بِدُونِهَا ( أَمَّا الْوَاجِبُ ) فِي الطَّوَافِ فَثَمَانِيَةٌ : أَحَدُهَا مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( فَيُشْتَرَطُ ) لَهُ ( سَتْرُ الْعَوْرَةِ ) كَسَتْرِهَا فِي الصَّلَاةِ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا طَافَ عَارِيًّا وَأَجْزَأَهُ كَمَا لَوْ صَلَّى كَذَلِكَ ( وَ ) ثَانِيهَا ( طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ ) فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْمَكَانِ ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْخَبَرُ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { لَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ } قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَمِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى غَلَبَةُ النَّجَاسَةِ فِي الْمَطَافِ ، وَقَدْ اخْتَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي أَصْحَابِنَا الْعَفْوَ عَنْهَا ، قَالَ : وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي دَمِ الْبَرَاغِيثِ وَالْقَمْلِ وَالْبَقِّ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا مَرَّ ، وَكَمَا فِي كَثْرَةِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ ، وَكَمَا فِي طِينِ الشَّارِعِ الْمُتَيَقَّنِ نَجَاسَتُهُ ا هـ .
وَقَالَ الرَّافِعِيُّ : لَمْ أَرَ لِلْأَئِمَّةِ تَشْبِيهُ مَكَانِ الطَّوَافِ بِالطَّرِيقِ فِي حَقِّ الْمُنْتَقِلِ وَهُوَ تَشْبِيهٌ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَقَدْ عَدَّ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنْ الْبِدَعِ غَسْلَ بَعْضِ النَّاسِ الْمَطَافَ ، قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَالْقِيَاسُ مَنْعُ الْمُتَيَمِّمِ وَالْمُتَنَجِّسِ الْعَاجِزَيْنِ عَنْ الْمَاءِ مِنْ طَوَافِ الرُّكْنِ لِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ فَلَا فَائِدَةَ فِي فِعْلِهِ ، وَإِنَّمَا فُعِلَتْ الصَّلَاةُ كَذَلِكَ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ ، وَالطَّوَافُ لَا آخِرَ لِوَقْتِهِ .
قَالَ شَيْخُنَا : وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فَاقِدَ الطَّهُورَيْنِ إذَا صَلَّى ثُمَّ قَدَرَ عَلَى التَّيَمُّمِ بَعْدَ الْوَقْتِ لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ فِي الْحَضَرِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ ( فَلَوْ أَحْدَثَ فِيهِ ) عَمْدًا (
تَوَضَّأَ ) وَأَوْلَى مِنْهُ تَطَهَّرَ لِيَشْمَلَ الْغُسْلَ ( وَبَنَى ) مِنْ مَوْضِعِ الْحَدَثِ سَوَاءٌ أَكَانَ عِنْدَ الرُّكْنِ أَمْ لَا ( وَفِي قَوْلٍ يَسْتَأْنِفُ ) كَمَا فِي الصَّلَاةِ ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ الطَّوَافَ يُحْتَمَلُ فِيهِ مَا لَا يُحْتَمَلُ فِيهَا ، فَإِنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَخِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْعَمْدِ وَأَوْلَى بِالْبِنَاءِ إنْ قَصُرَ الْفَصْلُ ، وَكَذَا إنْ طَالَ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَوْ تَنَجَّسَ ثَوْبُهُ أَوْ بَدَنُهُ أَوْ مَطَافُهُ بِمَا لَا يُعْفَى عَنْهُ أَوْ انْكَشَفَ شَيْءٌ مِنْ عَوْرَتِهِ كَأَنْ بَدَا شَيْءٌ مِنْ شَعْرِ رَأْسِ الْحُرَّةِ أَوْ ظُفْرٍ مِنْ رِجْلِهَا لَمْ يَصِحَّ الْمَفْعُولُ بَعْدُ ، فَإِنْ زَالَ الْمَانِعُ بَنَى عَلَى مَا مَضَى كَالْمُحْدِثِ ، سَوَاءٌ أَطَالَ الْفَصْلُ أَمْ قَصُرَ كَمَا مَرَّ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْوِلَاءِ فِيهِ كَالْوُضُوءِ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِبَادَةٌ يَجُوزُ أَنْ يَتَخَلَّلَهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ .
لَكِنْ يُسَنُّ الِاسْتِئْنَافُ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ ، وَلَوْ نَامَ فِي الطَّوَافِ عَلَى هَيْئَةٍ لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ لَمْ يَنْقَطِعْ طَوَافُهُ ( وَ ) ثَالِثُهَا ( أَنْ يَجْعَلَ ) الطَّائِفُ ، ( الْبَيْتَ ) فِي طَوَافِهِ ( عَنْ يَسَارِهِ ) مَارًّا تِلْقَاءَ وَجْهِهِ إلَى جِهَةِ الْبَابِ لِلِاتِّبَاعِ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مَعَ خَبَرِ { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } .
فَإِنْ جَعَلَهُ عَنْ يَمِينِهِ وَمَشَى أَمَامَهُ أَوْ اسْتَقْبَلَهُ أَوْ اسْتَدْبَرَهُ وَطَافَ مُعْتَرِضًا أَوْ جَعَلَهُ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ وَمَشَى الْقَهْقَرَى لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ لِمُنَابَذَتِهِ لِمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ ، وَلَوْ طَافَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ عَلَى وَجْهِهِ مَعَ مُرَاعَاةِ كَوْنِ الْبَيْتِ عَنْ يَسَارِهِ صَحَّ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِهِمْ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ طَافَ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ إلَى أَسْفَلَ وَرِجْلَاهُ إلَى فَوْقُ فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ زَادَ الْمُصَنِّفُ مَا زِدْته لَكَانَ أَوْلَى لِيُخْرِجَ هَذِهِ الصُّوَرَ الْمَذْكُورَةَ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِسْنَوِيُّ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ
تَنْقَسِمُ إلَى اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ قِسْمًا .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَأَكْثَرُ ذَلِكَ مِمَّا يَمُجُّهُ السَّمْعُ وَلَا يَقْبَلُ تَجْوِيزَهُ الذِّهْنُ وَكَانَ السُّكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى ، وَيُسْتَثْنَى ، مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ اسْتِقْبَالُ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِي ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ كَمَا سَيَأْتِي ( وَ ) رَابِعُهَا كَوْنُهُ ( مُبْتَدِئًا ) فِي ذَلِكَ ( بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ( مُحَاذِيًا ) بِالْمُعْجَمَةِ ( لَهُ ) أَيْ الْحَجَرِ أَوْ بَعْضِهِ ( فِي مُرُورِهِ ) عَلَيْهِ ابْتِدَاءً ( بِجَمِيعِ بَدَنِهِ ) بِأَنْ لَا يَتَقَدَّمَ جُزْءٌ مِنْ بَدَنِهِ عَلَى جُزْءٍ مِنْ الْحَجَرِ ، وَالْمُرَادُ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ جَمِيعُ الشِّقِّ الْأَيْسَرِ ، وَاكْتَفَى بِمُحَاذَاةِ جُزْءٍ مِنْ الْحَجَرِ كَمَا اكْتَفَى بِمُحَاذَاةِ جَمِيعِ بَدَنِهِ بِجُزْءٍ مِنْ الْكَعْبَةِ فِي الصَّلَاةِ ، وَصِفَةُ الْمُحَاذَاةِ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْبَيْتَ وَيَقِفَ عَلَى جَانِبِ الْحَجَرِ الَّذِي لِجِهَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ بِحَيْثُ يَصِيرُ جَمِيعُ الْحَجَرِ عَنْ يَمِينِهِ وَمَنْكِبُهُ الْأَيْمَنُ عِنْدَ طَرَفِهِ .
ثُمَّ يَنْوِيَ الطَّوَافَ وَيَمُرَّ مُسْتَقْبِلًا إلَى جِهَةِ يَمِينِهِ حَتَّى يُجَاوِزَ الْحَجَرَ ، فَإِذَا جَاوَزَهُ انْفَتَلَ وَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ ، وَهَذَا خَاصٌّ بِالطَّوْفَةِ الْأُولَى فَلَيْسَ لَنَا حَالَةٌ يَجُوزُ اسْتِقْبَالُ الْبَيْتِ فِيهَا فِي الطَّوَافِ إلَّا هَذِهِ ، فَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ كَمَا مَرَّ وَهَذَا مَنْدُوبٌ ، فَلَوْ جَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ ابْتَدَأَ .
مِنْ غَيْرِ اسْتِقْبَالٍ صَحَّ وَفَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُحَاذَاةَ الْوَاجِبَةَ تَتَعَلَّقُ بِالرُّكْنِ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ لَا بِالْحَجَرِ نَفْسِهِ حَتَّى لَوْ فُرِضَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ نُحِّيَ عَنْ مَكَانِهِ وَجَبَتْ مُحَاذَاةُ الرُّكْنِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ ، وَيُسَنُّ حِينَئِذٍ اسْتِلَامُ مَحَلِّهِ وَتَقْبِيلُهُ وَالسُّجُودُ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي ( فَلَوْ بَدَأَ ) فِي طَوَافِهِ ( بِغَيْرِ الْحَجَرِ ) كَأَنْ ابْتَدَأَ بِالْبَابِ ( لَمْ
يُحْسَبْ ) مَا طَافَهُ ( فَإِذَا انْتَهَى إلَيْهِ ) أَيْ الْحَجَرِ ( ابْتَدَأَ مِنْهُ ) وَحُسِبَ لَهُ الطَّوَافُ مِنْ حِينَئِذٍ كَمَا لَوْ قَدَّمَ الْمُتَوَضِّئُ عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ غَسْلَ عُضْوٍ آخَرَ ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْوَجْهَ أَوَّلَ وُضُوئِهِ ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ النِّيَّةَ إذَا كَانَتْ وَاجِبَةً لَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْضَارِهَا عِنْدَ مُحَاذَاةِ الْحَجَرِ ، وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا خُرُوجُ جَمِيعِ بَدَنِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَيْتِ كَمَا نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( وَلَوْ مَشَى عَلَى الشَّاذَرْوَانِ ) وَهُوَ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْخَارِجُ عَنْ عُرْضِ جِدَارِ الْبَيْتِ مُرْتَفِعًا عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ قَدْرَ ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ تَرَكَتْهُ قُرَيْشٌ لِضِيقِ النَّفَقَةِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي مَنَاسِكِهِ وَغَيْرُهُ عَنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ : وَالشَّاذَرْوَانُ ظَاهِرٌ فِي جَوَانِبِ الْبَيْتِ ، لَكِنْ لَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ : أَيْ وَكَأَنَّهُمْ تَرَكُوا رَفْعَهُ لِتَهْوِينِ الْإِسْلَامِ ، وَقَدْ أُحْدِثَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ عِنْدَهُ شَاذَرْوَانُ قَالَ : وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَفَطَّنَ لِدَقِيقَةٍ ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ قَبَّلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فَرَأْسُهُ فِي حَالِ التَّقْبِيلِ فِي جُزْءٍ مِنْ الْبَيْتِ ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُقِرَّ قَدَمَيْهِ فِي مَحَلِّهِمَا حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ التَّقْبِيلِ وَيَعْتَدِلَ قَائِمًا ( أَوْ ) أَدْخَلَ جُزْءًا مِنْ بَدَنِهِ فِي جُزْءٍ مِنْ الْبَيْتِ كَأَنْ ( مَسَّ الْجِدَارَ ) الْكَائِنَ ( فِي مُوَازَاتِهِ ) أَيْ الشَّاذَرْوَانِ ، أَوْ أَدْخَلَ جُزْءًا مِنْهُ فِي هَوَاءِ الشَّاذَرْوَانِ ، أَوْ هَوَاءِ غَيْرِهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَيْتِ ( أَوْ دَخَلَ مِنْ إحْدَى فَتْحَتَيْ الْحِجْرِ ) بِكَسْرِ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ الْمَحُوطِ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ بِجِدَارٍ قَصِيرٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كُلِّ الرُّكْنَيْنِ فَتْحَةٌ ( وَخَرَجَ مِنْ ) الْفَتْحَةِ ( الْأُخْرَى ) أَوْ خَلَّفَ مِنْهُ قَدْرَ الَّذِي مِنْ الْبَيْتِ وَهُوَ سِتَّةُ أَذْرُعٍ وَاقْتَحَمَ الْجِدَارَ وَخَرَجَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ ( لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ ) فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ .
أَمَّا فِي غَيْرِ الْحِجْرِ
فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [ الْحَجَّ ] وَإِنَّمَا يَكُونُ طَائِفًا بِهِ إذَا كَانَ خَارِجًا عَنْهُ وَإِلَّا فَهُوَ طَائِفٌ فِيهِ .
وَأَمَّا الْحِجْرُ فَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا طَافَ خَارِجَهُ .
وَقَالَ { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا { سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْجَدْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ ؟ قَالَ نَعَمْ ، قُلْت : فَمَا بَالُهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ ؟ قَالَ : إنَّ قَوْمَك قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ .
قُلْت : فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا ؟ قَالَ : فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُك لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مِنْ شَاءُوا ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَك حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجِدَارَ فِي الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالْأَرْضِ لَفَعَلْت } وَظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّ الْحِجْرَ جَمِيعَهُ مِنْ الْبَيْتِ .
قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ : وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ مِنْ الْأَصْحَابِ وَظَاهِرُ نَصِّ الْمُخْتَصَرِ ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ الَّذِي هُوَ مِنْ الْبَيْتِ قَدْرُ سِتَّةِ أَذْرُعٍ تَتَّصِلُ بِالْبَيْتِ ، وَقِيلَ : سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ ، وَلَفْظُ الْمُخْتَصَرِ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجِبُ الطَّوَافُ خَارِجَهُ لِمَا مَرَّ لِأَنَّ الْحَجَّ بَابُ اتِّبَاعٍ ، وَعُلِمَ مِنْ مَنْعِ مُرُورِ بَعْضِ الْبَدَنِ عَلَى الشَّاذَرْوَانِ أَنَّ مُرُورَ بَعْضِ ثِيَابِهِ لَا يَضُرُّ وَهُوَ كَذَلِكَ ( وَفِي مَسْأَلَةِ الْمَسِّ وَجْهٌ ) بِصِحَّةِ الطَّوَافِ ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ بَدَنِهِ خَارِجٌ فَيُصَدَّقُ أَنَّهُ طَائِفٌ بِالْبَيْتِ وَذَهَبَ إلَيْهِ الْفُورَانِيُّ ( وَ ) خَامِسُهَا ( أَنْ يَطُوفَ ) بِالْبَيْتِ ( سَبْعًا ) مِنْ الطَّوَفَاتِ وَلَوْ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا لِلِاتِّبَاعِ ، فَلَوْ تَرَكَ مِنْ السَّبْعِ شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ لَمْ يُجْزِهِ ، فَلَوْ شَكَّ فِي الْعَدَدِ أَخَذَ بِالْأَقَلِّ كَعَدَدِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ ، فَلَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ
طَافَ سَبْعًا فَأَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِأَنَّهُ سِتًّا اُسْتُحِبَّ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ .
قَالَهُ فِي الْأَنْوَارِ وَجَزَمَ بِهِ السُّبْكِيُّ بِخِلَافِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ زِيَادَةَ الرَّكَعَاتِ مُبْطِلَةٌ بِخِلَافِ الطَّوَافِ وَلَا بُدَّ أَنْ يُحَاذِيَ شَيْئًا مِنْ الْحِجْرِ بَعْدَ الطَّوْفَةِ السَّابِعَةِ مِمَّا حَاذَاهُ أَوَّلًا ( وَ ) سَادِسُهَا كَوْنُهُ ( دَاخِلَ الْمَسْجِدِ ) لِلِاتِّبَاعِ أَيْضًا فَلَا يَصِحُّ حَوْلَهُ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَيَصِحُّ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ وَإِنْ وَسِعَ وَحَالَ حَائِلٌ بَيْنَ الطَّائِفِ وَالْبَيْتِ كَالسِّقَايَةِ وَالسَّوَارِي .
نَعَمْ لَوْ زِيدَ فِيهِ حَتَّى بَلَغَ الْحِلَّ فَطَافَ فِيهِ فِي الْحِلِّ لَمْ يَصِحَّ كَمَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْمُهِمَّاتِ ، وَيَصِحُّ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ أَعْلَى مِنْ الْبَيْتِ كَالصَّلَاةِ عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ مَعَ ارْتِفَاعِهِ عَنْ الْبَيْتِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَإِنْ فَرَّقَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الصَّلَاةِ جِهَةُ بِنَائِهَا فَإِذَا عَلَا كَانَ مُسْتَقْبِلًا ، وَالْمَقْصُودُ فِي الطَّوَافِ نَفْسُ بِنَائِهَا ، فَإِذَا عَلَا لَمْ يَكُنْ طَائِفًا بِهِ .
وَسَابِعُهَا : نِيَّةُ الطَّوَافِ إنْ اسْتَقَلَّ بِأَنْ لَمْ يَشْمَلْهُ نُسُكٌ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ كَالطَّوَافِ الْمَنْذُورِ وَالْمُتَطَوَّعِ بِهِ .
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : وَطَوَافُ الْوَدَاعِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نِيَّةٍ لِأَنَّهُ يَقَعُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَنَاسِكِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي خِلَافُ الَّذِي شَمِلَهُ نُسُكٌ وَهُوَ طَوَافُ الرُّكْنِ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ وَطَوَافُ الْقُدُومِ فَلَا يُحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى نِيَّةٍ لِشُمُولِ نِيَّةِ النُّسُكِ لَهُ .
وَثَامِنُهَا : عَدَمُ صَرْفِهِ لِغَيْرِهِ كَطَلَبِ غَرِيمٍ كَمَا فِي الصَّلَاةِ فَإِنْ صَرَفَهُ انْقَطَعَ لَا إنْ نَامَ فِيهِ عَلَى هَيْئَةٍ لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ .
.
وَأَمَّا السُّنَنُ فَأَنْ يَطُوفَ مَاشِيًا
( وَأَمَّا السُّنَنُ ) الْمَطْلُوبَةُ لِلطَّائِفِ فَثَمَانِيَةٌ : أَحَدُهَا مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( فَأَنْ يَطُوفَ مَاشِيًا ) وَلَوْ امْرَأَةً لِلِاتِّبَاعِ .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ لَا مَحْمُولًا عَلَى آدَمِيٍّ أَوْ بَهِيمَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لِمُنَافَاةِ الْخُشُوعِ ، وَلِأَنَّ الْبَهِيمَةَ قَدْ تُؤْذِي النَّاسَ وَتُلَوِّثُ الْمَسْجِدَ .
نَعَمْ إنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ فَلَا بَأْسَ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَدِمَتْ مَرِيضَةً فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : طُوفِي وَرَاءَ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ } وَفِيهِمَا { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ رَاكِبًا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِيَظْهَرَ فَيُسْتَفْتَى } فَلِمَنْ اُحْتِيجَ إلَى ظُهُورِهِ لِلْفَتْوَى أَنْ يَتَأَسَّى بِهِ ، فَلَوْ رَكِبَ بَهِيمَةً بِلَا عُذْرٍ لَمْ يُكْرَهُ وَكَانَ خِلَافَ الْأَوْلَى كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْجُمْهُورِ ، هَذَا عِنْدَ أَمْنِ التَّلْوِيثِ ، وَإِلَّا حَرُمَ إدْخَالُهَا الْمَسْجِدَ ، وَقَوْلُ الْإِمَامِ : وَفِي الْقَلْبِ مِنْ إدْخَالِ الْبَهِيمَةِ شَيْءٌ : أَيْ الَّتِي لَا يُؤْمَنُ تَلْوِيثُهَا الْمَسْجِدَ ، فَإِنْ أَمْكَنَ الِاسْتِيثَاقُ فَذَاكَ أَيْ خِلَافُ الْأُولَى وَإِلَّا فَإِدْخَالُهَا مَكْرُوهٌ مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ لِمَا سَيَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ أَنَّ إدْخَالَ الْبَهَائِمِ الَّتِي لَا يُؤْمَنُ تَلْوِيثُهَا الْمَسْجِدَ حَرَامٌ ، وَمَا فَرَّقَ بِهِ مِنْ أَنَّ إدْخَالَ الْبَهِيمَةِ إنَّمَا هُوَ لِحَاجَةِ إقَامَةِ السُّنَّةِ كَمَا فَعَلَهُ إطْلَاقُهُ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُخَفْ تَلْوِيثُهَا ، وَلَا يُقَاسُ ذَلِكَ عَلَى إدْخَالِ الصِّبْيَانِ الْمُحْرِمِينَ الْمَسْجِدَ ، لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرُورِيٌّ ، وَأَيْضًا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ عِنْدَ الْخَوْفِ بِالتَّحَفُّظِ وَنَحْوِهِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْبَهِيمَةُ ، وَنَقَلَ الْإِسْنَوِيُّ الْكَرَاهَةَ عِنْدَ أَمْنِ التَّلْوِيثِ عَنْ جَزْمِ الرَّافِعِيِّ وَالنَّوَوِيِّ فِي مَجْمُوعِهِ فِي الْفَصْلِ الْمَعْقُودِ لِأَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ .
وَقَالَ : إنَّ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ مُخَالِفٌ لِمَا فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ
وَلِنَصِّ الشَّافِعِيِّ وَمَا رُدَّ بِهِ عَلَى الْإِسْنَوِيِّ مِنْ عَدَمِ الْكَرَاهَةِ بِأَنَّ مَنْ حَفِظَ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ مَمْنُوعٌ ، إذْ الْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي ، وَالْإِسْنَوِيُّ مُثْبِتُ الْكَرَاهَةِ ، وَغَيْرُهُ نَافٍ لَهَا .
وَقَالَ الْأُشْمُونِيُّ فِي بَسْطِ الْأَنْوَارِ : قُلْت نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى كَرَاهَةِ الرُّكُوبِ بِلَا عُذْرٍ وَجَزَمَ بِهَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ .
وَقَالَ مِنْ " زِيَادَتِهِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ : إدْخَالُ الصِّبْيَانِ فِي الْمَسْجِدِ حَرَامٌ إنْ غَلَبَ تَنْجِيسُهُمْ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ فَمَكْرُوهٌ .
قَالَ أَعْنِي الْأُشْمُونِيَّ : وَأَقَلُّ مَرَاتِبِ الْبَهَائِمِ أَنْ تَكُونَ كَالصِّبْيَانِ فِي ذَلِكَ .
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إنَّهُ الْمَذْهَبُ بِلَا شَكٍّ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَتَرْكُ الْكَرَاهَةِ هُنَا كَمَا مَرَّ أَوْلَى لِلْحَاجَةِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ ، بِخِلَافِ إدْخَالِهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ ، فَيُكْرَهُ عِنْدَ الْأَمْنِ كَمَا مَرَّ أَيْضًا .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَحُكْمُ طَوَافِ الْمَحْمُولِ عَلَى أَكْتَافِ الرِّجَالِ كَالرَّاكِبِ فِيمَا ذُكِرَ ، وَإِذَا كَانَ مَعْذُورًا فَطَوَافُهُ مَحْمُولًا أَوْلَى مِنْهُ رَاكِبًا صِيَانَةً لِلْمَسْجِدِ مِنْ الدَّابَّةِ ، وَرُكُوبُ الْإِبِلِ أَيْسَرُ حَالًا مِنْ رُكُوبِ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ .
ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَفِيهِ : وَلَوْ طَافَ زَحْفًا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمَشْيِ صَحَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ حَافِيًا فِي طَوَافِهِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ أَيْ عِنْدَ عَدَمِ الْعُذْرِ .
قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ : وَأُحِبُّ لَوْ كَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَافِيًا أَنْ يُقَصِّرَ فِي الْمَشْيِ لِتَكْثُرَ خُطَاهُ رَجَاءَ كَثْرَةِ الْأَجْرِ لَهُ .
وَيَسْتَلِمَ الْحَجَرَ أَوَّلَ طَوَافِهِ وَيُقَبِّلَهُ ، وَيَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَجَزَ اسْتَلَمَ ، فَإِنْ عَجَزَ أَشَارَ بِيَدِهِ ، وَيُرَاعَى ذَلِكَ فِي كُلِّ طَوْفَةٍ ، وَلَا يُقَبِّلُ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ وَلَا يَسْتَلِمُهُمَا ، وَيَسْتَلِمُ الْيَمَانِيَّ وَلَا يُقَبِّلُهُ .
( وَ ) ثَانِيهَا أَنْ ( يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ ) الْأَسْوَدَ بَعْدَ اسْتِقْبَالِهِ : أَيْ يَلْمَسَهُ بِيَدِهِ ( أَوَّلَ طَوَافِهِ ) وَيُسَنُّ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ الْيُمْنَى ( وَيُقَبِّلَهُ ) لِلِاتِّبَاعِ .
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ .
فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الِاسْتِلَامِ بِالْيَدِ اسْتَلَمَ بِخَشَبَةٍ وَنَحْوِهَا ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْيَدِ وَغَيْرِهَا ، فَإِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ مَا يَسْتَلِمُهُ بِهِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَيُسَنُّ أَنْ يُخَفِّفَ الْقُبْلَةَ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ لَهَا صَوْتٌ ، وَلَا يُسَنُّ لِلْمَرْأَةِ اسْتِلَامٌ وَلَا تَقْبِيلٌ ، وَلَا قُرْبٌ مِنْ الْبَيْتِ إلَّا عِنْدَ خُلُوِّ الْمَطَافِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا وَإِنْ خَصَّهُ فِي الْكِفَايَةِ بِاللَّيْلِ ، وَالْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ ( وَيَضَعُ ) بَعْدَ ذَلِكَ ( جَبْهَتَهُ عَلَيْهِ ) لِلِاتِّبَاعِ .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ .
وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ التَّقْبِيلُ وَالسُّجُودُ ثَلَاثًا كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْأَصْحَابِ ، وَهَذَا الْحُكْمُ إنَّمَا هُوَ لِلرُّكْنِ حَتَّى لَوْ نُحِّيَ الْحَجَرُ أَوْ وُضِعَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْكَعْبَةِ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَقَبَّلَهُ وَسَجَدَ عَلَيْهِ .
حَكَاهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الدَّارِمِيِّ وَسَكَتَ عَلَيْهِ ( فَإِنْ عَجَزَ ) عَنْ تَقْبِيلِهِ وَوَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَيْهِ لِزَحْمَةٍ مَثَلًا ( اسْتَلَمَ ) بِيَدِهِ لِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا عُمَرُ إنَّك رَجُلٌ قَوِيٌّ لَا تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ فَتُؤْذِيَ الضَّعِيفَ إنْ وَجَدْت خَلْوَةً وَإِلَّا فَهَلِّلْ وَكَبِّرْ } .
وَقَالَ فِي الْبُوَيْطِيِّ : وَلَوْ كَانَ الزِّحَامُ كَثِيرًا مَضَى وَكَبَّرَ وَلَمْ يَسْتَلِمْ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : كَذَا أَطْلَقُوهُ .
وَقَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : إلَّا فِي أَوَّلِ الطَّوَافِ وَآخِرِهِ ، فَأُحِبُّ لَهُ الِاسْتِلَامَ وَلَوْ مَعَ الزِّحَامِ ، وَهَذَا مَا تَوَقَّى التَّأَذِّي وَالْإِيذَاءَ كَمَا أَفْهَمَهُ كَلَامُ الْإِسْنَوِيِّ وَهُوَ ظَاهِرٌ
، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ اسْتِلَامِهِ بِيَدِهِ اسْتَلَمَهُ بِنَحْوِ عَصًا ، ثُمَّ يُقَبِّلُ مَا اسْتَلَمَهُ بِهِ مِنْ يَدٍ أَوْ نَحْوِ الْعَصَا لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } .
وَلِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ نَافِعٍ قَالَ { رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِيَدِهِ ثُمَّ يُقَبِّلُ يَدَهُ وَيَقُولُ : مَا تَرَكْته مُنْذُ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ } مَعَ أَنَّ ظَاهِرَهُ مَعَ أَخْبَارٍ أُخَرَ أَنَّهُ يُقَبِّلُ يَدَهُ بَعْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ بِهَا مَعَ تَقْبِيلِ الْحَجَرِ إذَا لَمْ يَتَعَذَّرْ ، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي مَنْسَكِهِ ، وَهُوَ قَضِيَّةُ إطْلَاقِ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ ، لَكِنْ خَصَّهُ الشَّيْخَانِ ، وَمُخْتَصَرُ كَلَامِهِمَا يَتَعَذَّرُ تَقْبِيلُهُ كَمَا تَقَرَّرَ وَنَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْأَصْحَابِ ( فَإِنْ عَجَزَ ) عَنْ اسْتِلَامِهِ بِيَدِهِ أَوْ غَيْرِهَا ( أَشَارَ ) إلَيْهِ ( بِيَدِهِ ) أَوْ بِشَيْءٍ فِيهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ { طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ عِنْدَهُ وَكَبَّرَ } وَلَا يُنْدَبُ أَنْ يُشِيرَ إلَى الْقِبْلَةِ بِالْفَمِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ بِيَدِهِ وَإِنْ كَانَ يُوهِمُ أَنَّهُ لَا يُشِيرُ بِمَا فِيهَا مَعَ أَنَّهُ يُشِيرُ بِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِلَامَ وَالْإِشَارَةَ إنَّمَا يَكُونَانِ بِالْيَدِ الْيُمْنَى ، فَإِنْ عَجَزَ فَبِالْيُسْرَى .
قَالَ شَيْخُنَا : عَلَى الْأَقْرَبِ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ ( وَيُرَاعَى ذَلِكَ ) أَيْ الِاسْتِلَامُ وَمَا بَعْدَهُ ( فِي كُلِّ طَوْفَةٍ ) مِنْ الطَّوَفَاتِ السَّبْعِ لِمَا فِي أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَدَعُ أَنْ يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَالْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فِي كُلِّ طَوْفَةٍ
} وَهُوَ فِي الْأَوْتَارِ آكَدُ لِحَدِيثِ { إنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ } وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَلِمًا فِي افْتِتَاحِهِ وَاخْتِتَامِهِ وَهُوَ أَكْثَرُ عَدَدًا ( وَلَا يُقَبِّلُ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ ) وَهُمَا اللَّذَانِ عِنْدَهُمَا الْحِجْرُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ ( وَلَا يَسْتَلِمُهُمَا ) بِيَدِهِ وَلَا بِشَيْءٍ فِيهَا : أَيْ لَا يُسَنُّ ذَلِكَ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَسْتَلِمُ إلَّا الْحَجَرَ وَالرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ } ( وَيَسْتَلِمُ ) الرُّكْنَ ( الْيَمَانِيَّ ) نَدْبًا فِي كُلِّ طَوْفَةٍ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ ( وَلَا يُقَبِّلُهُ ) لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ ، وَلَكِنْ يُقَبِّلُ بَعْدَ اسْتِلَامِهِ مَا اسْتَلَمَهُ بِهِ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ اسْتِلَامِهِ أَشَارَ إلَيْهِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ خِلَافًا لِابْنِ أَبِي الصَّيْفِ الْيَمَنِيِّ ؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْهُ لِتَرَتُّبِهَا عَلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَكَذَا هُنَا ، وَمُقْتَضَى الْقِيَاسُ أَنَّهُ يُقَبِّلُ مَا أَشَارَ بِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا أَفْتَى بِهِ شَيْخِي .
وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ تَقْبِيلِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ إنَّمَا هُوَ نَفْيُ كَوْنِهِ سُنَّةً ، فَلَوْ قَبَّلَهُنَّ أَوْ غَيْرَهُنَّ مِنْ الْبَيْتِ لَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا وَلَا خِلَافَ الْأَوْلَى ، بَلْ يَكُونُ حَسَنًا ، كَمَا نَقَلَهُ فِي الِاسْتِقْصَاءِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ .
قَالَ : وَأَيَّ الْبَيْتِ قَبَّلَ فَحَسَنٌ غَيْرَ أَنَّا نُؤْمَرُ بِالِاتِّبَاعِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : فَتَفَطَّنْ لَهُ فَإِنَّهُ أَمْرٌ مُهِمٌّ .
فَائِدَةٌ : السَّبَبُ فِي اخْتِلَافِ الْأَرْكَانِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ أَنَّ الرُّكْنَ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ فِيهِ فَضِيلَتَانِ : كَوْنُ الْحَجَرِ فِيهِ ، وَكَوْنُهُ عَلَى قَوَاعِدِ سَيِّدِنَا إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَالْيَمَانِيُّ فِيهِ فَضِيلَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهُوَ كَوْنُهُ عَلَى قَوَاعِدِ سَيِّدِنَا إبْرَاهِيمَ .
وَأَمَّا الشَّامِيَّانِ فَلَيْسَ لَهُمَا شَيْءٌ مِنْ الْفَضِيلَتَيْنِ .
وَأَنْ يَقُولَ أَوَّلَ طَوَافِهِ : بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُمَّ إيمَانًا بِكَ وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِك وَوَفَاءً بِعَهْدِك وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّك مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلْيَقُلْ قُبَالَةَ الْبَابِ : اللَّهُمَّ إنَّ الْبَيْتَ بَيْتُك ، وَالْحَرَمُ حَرَمُك ، وَالْأَمْنُ أَمْنُك ، وَهَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ النَّارِ ، وَبَيْنَ الْيَمَانِيَّيْنِ : اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَلْيَدْعُ بِمَا شَاءَ ، وَمَأْثُورُ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِ مَأْثُورِهِ .
( وَ ) ثَالِثُهُمَا : الدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ ، فَيُسَنُّ ( أَنْ يَقُولَ أَوَّلَ طَوَافِهِ ) وَكَذَا فِي كُلِّ طَوْفَةٍ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ، لَكِنَّ الْأَوْلَى آكَدُ ( بِسْمِ اللَّهِ ) أَطُوفُ ( وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ) وَاسْتَحَبَّ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ رَفْعَ الْيَدَيْنِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ ( اللَّهُمَّ ) أَطُوفُ ( إيمَانًا بِكَ ، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِك ، وَوَفَاءً ) أَيْ تَمَامًا ( بِعَهْدِك ) وَهُوَ الْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ ( وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّك مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ ، وَإِيمَانًا وَمَا بَعْدَهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ ، وَالتَّقْدِيرُ أَفْعَلُهُ إيمَانًا بِكَ إلَخْ .
فَائِدَةٌ : قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ مِنْ صُلْبِهِ ، وَقَالَ : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } [ الْأَعْرَافَ ] ، فَأَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ بِذَلِكَ عَهْدٌ وَيُدْرَجَ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ( وَلْيَقُلْ ) نَدْبًا ( قُبَالَةَ الْبَابِ ) بِضَمِّ الْقَافِ أَيْ فِي الْجِهَةِ الَّتِي تُقَابِلُهُ ( اللَّهُمَّ إنَّ الْبَيْتَ بَيْتُك ، وَالْحَرَمُ حَرَمُك ، وَالْأَمْنُ أَمْنُك ، وَهَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ النَّارِ ) هَذَا الدُّعَاءُ مِنْ زَوَائِدِ الْمِنْهَاجِ ، وَأَصْلُهُ عَلَى الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ ، وَقَالَ : يُشِيرُ إلَى مَقَامِ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الْأَنْوَارِ وَشَيْخُنَا فِي شَرْحِ الرَّوْضِ .
وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : يَعْنِي بِالْعَائِذِ نَفْسَهُ : أَيْ هَذَا الْمُلْتَجِئُ الْمُسْتَعِيذُ بِكَ مِنْ النَّارِ ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُشِيرُ بِهِ إلَى مَقَامِ إبْرَاهِيمَ ، وَأَنَّ الْعَائِذَ هُوَ إبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَطٌ فَاحِشٌ وَقَعَ لِبَعْضِ عَوَامِّ مَكَّةَ ، وَعِنْدَ الِانْتِهَاءِ إلَى الرُّكْنِ الْعِرَاقِيِّ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الشَّكِّ وَالشِّرْكِ ، وَالنِّفَاقِ وَالشِّقَاقِ ، وَسُوءِ
الْأَخْلَاقِ ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ ، وَعِنْدَ الِانْتِهَاءِ إلَى تَحْتِ الْمِيزَابِ : اللَّهُمَّ أَظِلَّنِي فِي ظِلِّك يَوْمَ لَا ظِلِّ إلَّا ظِلُّك وَاسْقِنِي بِكَأْسِ نَبِيِّك مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَابًا هَنِيئًا لَا أَظْمَأُ بَعْدَهُ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ، وَبَيْنَ الرُّكْنِ الشَّامِيِّ وَالْيَمَانِيِّ : اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا ، وَذَنْبًا مَغْفُورًا ، وَسَعْيًا مَشْكُورًا ، وَعَمَلًا مَقْبُولًا ، وَتِجَارَةً لَنْ تَبُورَ يَا عَزِيزُ يَا غَفُورُ - أَيْ وَاجْعَلْ ذَنْبِي ذَنْبًا مَغْفُورًا وَقِسْ بِهِ الْبَاقِيَ ، وَالْمُنَاسِبُ لِلْمُعْتَمِرِ أَنْ يَقُولَ : عُمْرَةٌ مَبْرُورَةٌ وَيُحْتَمَلُ اسْتِحْبَابُ التَّعْبِيرِ بِالْحَجِّ مُرَاعَاةً لِلْخَبَرِ ، وَيَقْصِدُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ وَهُوَ الْقَصْدُ ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الْإِسْنَوِيُّ فِي الدُّعَاءِ الْآتِي فِي الرَّمَلِ ، وَمَحَلُّ الدُّعَاءِ بِهَذَا إذَا كَانَ فِي ضِمْنِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَإِلَّا فَيَدْعُو بِمَا أَحَبَّ ( وَبَيْنَ الْيَمَانِيَّيْنِ : اللَّهُمَّ ) وَفِي الْمَجْمُوعِ - رَبَّنَا ( آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ) قِيلَ هِيَ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ ، وَقِيلَ الْعِلْمُ ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ ( وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ) قِيلَ هِيَ الْجَنَّةُ ، وَقِيلَ الْعَفْوُ ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ ( وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : وَهَذَا أَحَبُّ مَا يُقَالُ فِي الطَّوَافِ إلَيَّ وَأُحِبُّ أَنْ يُقَالَ فِي كُلِّهِ - أَيْ الطَّوَافِ - ( وَلْيَدْعُ بِمَا شَاءَ ) فِي جَمِيعِ طَوَافِهِ فَهُوَ سُنَّةٌ مَأْثُورًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمَأْثُورُ أَفْضَلَ كَمَا قَالَ ( وَمَأْثُورُ الدُّعَاءِ ) بِالْمُثَلَّثَةِ : أَيْ الْمَنْقُولِ مِنْ الدُّعَاءِ فِي الطَّوَافِ ( أَفْضَلُ ) مِنْ غَيْرِهِ ، وَ ( مِنْ الْقِرَاءَةِ ) فِيهِ لِلِاتِّبَاعِ ( وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِ مَأْثُورِهِ ) لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ ذِكْرٍ ، وَالْقُرْآنُ أَفْضَلُ الذِّكْرِ كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ النَّصِّ ، وَفِي الْحَدِيثِ : يَقُولُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : {
مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ ، وَفَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَيُسَنُّ الْإِسْرَارُ بِالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ لِأَنَّهُ أَجْمَعُ لِلْخُشُوعِ ، وَيُرَاعَى ذَلِكَ أَيْضًا فِي كُلِّ طَوْفَةٍ اغْتِنَامًا لِلثَّوَابِ ، وَهُوَ فِي الْأُولَى ، ثُمَّ فِي الْأَوْتَارِ آكَدُ .
وَأَنْ يَرْمُلَ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى : بِأَنْ يُسْرِعَ مَشْيَهُ مُقَارِبًا خُطَاهُ وَيَمْشِي فِي الْبَاقِي ، وَيَخْتَصُّ الرَّمَلُ بِطَوَافٍ يَعْقُبُهُ سَعْيٌ وَفِي قَوْلٍ بِطَوَافِ الْقُدُومِ ، وَلْيَقُلْ فِيهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا ، وَذَنْبًا مَغْفُورًا ، وَسَعْيًا مَشْكُورًا .
( وَ ) رَابِعُهَا ( أَنْ يَرْمُلَ ) الذَّكَرُ الْمَاشِي وَلَوْ صَبِيًّا ( فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى ) كُلِّهَا مُسْتَوْعِبًا بِهِ الْبَيْتَ لَا كَمَا يُفْهِمُهُ كَلَامُهُ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِالرَّمَلِ فِي بَعْضِهَا ، وَالْمُخْتَارُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ تَسْمِيَةُ الطَّوَافِ بِالْأَشْوَاطِ ، وَقِيسَ بِهِ الرَّمَلُ ( بِأَنْ يُسْرِعَ ) الطَّائِفُ ( مَشْيَهُ مُقَارِبًا خُطَاهُ ) لَا عَدْوَ فِيهِ وَلَا وَثْبَ ( وَيَمْشِي فِي الْبَاقِي ) مِنْ طَوَافِهِ عَلَى هِينَتِهِ لِمَا رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ خَبَّ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا } .
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْهُ قَالَ : { رَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ وَمَشَى أَرْبَعًا } فَإِنْ طَافَ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا حَرَّكَ الدَّابَّةَ وَرَمَلَ بِهِ الْحَامِلُ .
وَيُكْرَهُ تَرْكُ الرَّمَلِ بِلَا عُذْرٍ ، وَلَوْ تَرَكَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَقْضِهِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِيَةِ ؛ لِأَنَّ هَيْئَتَهَا السُّكُونُ فَلَا يُغَيَّرُ كَمَا لَوْ تَرَكَ الْجَهْرَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَلَا يَقْضِي بَعْدَهُمَا لِتَفْوِيتِ سُنَّةِ الْإِسْرَارِ .
تَنْبِيهٌ : كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى هِينَتِهِ كَمَا زِدْته تَبَعًا لِلْمُحَرَّرِ ، فَإِنَّ الْإِسْرَاعَ فِي الْمَشْيِ لَيْسَ قَسِيمَةَ الْمَشْي بَلْ التَّأَنِّي فِيهِ .
وَالْحِكْمَةُ فِي اسْتِحْبَابِ الرَّمَلِ مَعَ زَوَالِ الْمَعْنَى الَّذِي شُرِعَ السَّعْيُ لِأَجْلِهِ ، وَهُوَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : إنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ غَدًا قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمْ الْحُمَّى ، فَلَقُوا مِنْهَا شِدَّةً فَجَلَسُوا مِمَّا يَلِي الْحَجَرَ ، فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ ، وَأَنْ يَمْشُوا أَرْبَعًا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ لِيَرَى
الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى قَدْ وَهَنَتْهُمْ ، هَؤُلَاءِ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا } ؛ لِأَنَّ فَاعِلَهُ يَسْتَحْضِرُ بِهِ سَبَبَ ذَلِكَ ، وَهُوَ ظُهُورُ أَمْرِهِمْ ، فَيَتَذَكَّرُ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إعْزَازِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ .
وَيُكْرَهُ تَرْكُهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ النَّصِّ ، وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْإِسْرَاعِ فِيهِ وَلْيَدْعُ بِمَا شَاءَ ( وَيَخْتَصُّ الرَّمَلُ ) وَيُسَمَّى خَبَبًا ( بِطَوَافٍ يَعْقُبُهُ سَعْيٌ ) مَشْرُوعٌ بِأَنْ يَكُونَ بَعْدَ طَوَافِ قُدُومٍ أَوْ رُكْنٍ ( وَفِي قَوْلٍ ) يَخْتَصُّ ( بِطَوَافِ الْقُدُومِ ) لِأَنَّ { مَا رَمَلَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لِلْقُدُومِ وَسَعَى عَقِبَهُ } ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ لَا يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ ، وَكَذَا مَنْ سَعَى عَقِبَ طَوَافِهِ لِلْقُدُومِ لَا يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ إنْ لَمْ يُرِدْ السَّعْيَ عَقِبَهُ ، وَكَذَا إنْ أَرَادَهُ فِي الْأَظْهَرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ مِنْهُ ، وَإِنْ طَافَ لِلْقُدُومِ وَلَمْ يَسْعَ عَقِبَهُ ثُمَّ طَافَ لِلْإِفَاضَةِ رَمَلَ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ، وَالْحَاجُّ مِنْ مَكَّةَ يَرْمُلُ فِي طَوَافِهِ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ، وَإِذَا طَافَ لِلْقُدُومِ وَسَعَى عَقِبَهُ وَلَمْ يَرْمُلْ فِيهِ لَا يَقْضِيهِ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ ، وَلَوْ طَافَ وَرَمَلَ وَلَمْ يَسْعَ رَمَلَ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ لِبَقَاءِ السَّعْيِ عَلَيْهِ ( وَلْيَقُلْ فِيهِ ) أَيْ فِي رَمَلِهِ ( اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ ) أَيْ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ الْعَمَلِ ( حَجًّا مَبْرُورًا ) وَهُوَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ مَعْصِيَةٌ مَأْخُوذٌ مِنْ الْبِرِّ ، وَهُوَ الطَّاعَةُ ، وَقِيلَ هُوَ الْمُتَقَبَّلُ ( وَذَنْبًا مَغْفُورًا ) أَيْ اجْعَلْ ذَنْبِي ذَنْبًا مَغْفُورًا ( وَسَعْيًا مَشْكُورًا ) وَالسَّعْيُ هُوَ الْعَمَلُ وَالْمَشْكُورُ الْمُتَقَبَّلُ ، وَقِيلَ الَّذِي يُشْكَرُ عَلَيْهِ لِلِاتِّبَاعِ كَمَا قَالَهُ " الرَّافِعِيُّ ، هَذَا إذَا كَانَ حَجًّا .
فَأَمَّا الْمُعْتَمِرُ فَيَأْتِي فِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي دُعَاءِ الْمَطَافِ ، وَسَكَتَ الشَّيْخَانِ عَمَّا
يَقُولُهُ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ ، وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَقُولَ فِيهَا : رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ ، وَتَجَاوَزَ عَمَّا تَعْلَمُ ، إنَّكَ أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ ، اللَّهُمَّ - { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } - .
وَأَنْ يَضْطَبِعَ فِي جَمِيعِ كُلِّ طَوَافٍ يَرْمُلُ فِيهِ ، وَكَذَا فِي السَّعْيِ عَلَى الصَّحِيحِ وَهُوَ جَعْلُ وَسَطِ رِدَائِهِ تَحْتَ مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ وَطَرَفَيْهِ عَلَى الْأَيْسَرِ ، وَلَا تَرْمُلُ الْمَرْأَةُ وَلَا تَضْطَبِعُ
( وَ ) خَامِسُهَا ( أَنْ يَضْطَبِعَ ) الذَّكَرُ وَلَوْ صَبِيًّا ( فِي جَمِيعِ كُلِّ طَوَافٍ يَرْمُلُ فِيهِ ) وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ( وَكَذَا ) يَضْطَبِعُ ( فِي السَّعْيِ عَلَى الصَّحِيحِ ) قِيَاسًا عَلَى الطَّوَافِ بِجَامِعِ قَصْدِ مَسَافَةٍ مَأْمُورٍ بِتَكْرِيرِهَا ، وَسَوَاءٌ اضْطَبَعَ فِي الطَّوَافِ قَبْلَهُ أَمْ لَا ، وَالثَّانِي لَا لِعَدَمِ وُرُودِهِ ، وَكَلَامُهُ قَدْ يُفْهِمُ عَدَمَ اسْتِحْبَابِهِ فِي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِكَرَاهَةِ الِاضْطِبَاعِ فِي الصَّلَاةِ فَيُزِيلُهُ عِنْدَ إرَادَتِهَا وَيُعِيدُهُ عِنْدَ إرَادَةِ السَّعْيِ .
وَلَا يُسَنُّ فِي طَوَافٍ لَا يُسَنُّ فِيهِ رَمَلٌ ( وَهُوَ جَعْلُ وَسَطِ رِدَائِهِ ) بِفَتْحِ السِّينِ فِي الْأَفْصَحِ ( تَحْتَ مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ ) وَيَكْشِفَهُ ( وَ ) جَعْلُ ( طَرَفَيْهِ عَلَى الْأَيْسَرِ ) كَدَأْبِ أَهْلِ الشَّطَارَةِ ، وَالِاضْطِبَاعُ افْتِعَالٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الضَّبُعِ بِإِسْكَانِ الْبَاءِ ، وَهُوَ الْعَضُدُ ( وَلَا تَرْمُلُ الْمَرْأَةُ وَلَا تَضْطَبِعُ ) أَيْ لَا يُطْلَبُ مِنْهَا ذَلِكَ ، لِأَنَّ بِالرَّمَلِ تَتَبَيَّنَ أَعْطَافُهَا ، وَبِالِاضْطِبَاعِ يَنْكَشِفُ مَا هُوَ عَوْرَةٌ مِنْهَا .
وَالْمَعْنَى السَّابِقُ ، وَهُوَ كَوْنُهُ دَأْبَ أَهْلِ الشَّطَارَةِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ كَمَا قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى التَّشَبُّهِ بِالرِّجَالِ بَلْ بِأَهْلِ الشَّطَارَةِ مِنْهُمْ ، وَالتَّشْبِيهُ بِهِمْ حَرَامٌ ، وَمِثْلُهَا الْخُنْثَى .
وَأَنْ يَقْرُبَ مِنْ الْبَيْتِ ، فَلَوْ فَاتَ الرَّمَلُ بِالْقُرْبِ لِزَحْمَةٍ فَالرَّمَلُ مَعَ بُعْدٍ أَوْلَى إلَّا أَنْ يَخَافَ صَدْمَ النِّسَاءِ فَالْقُرْبُ بِلَا رَمَلٍ أَوْلَى ، وَأَنْ يُوَالِيَ طَوَافَهُ .
( وَ ) سَادِسُهَا ( أَنْ يَقْرُبَ مِنْ الْبَيْتِ ) لِشَرَفِهِ ، وَلِأَنَّهُ أَيْسَرُ فِي الِاسْتِلَامِ وَالتَّقْبِيلِ ، وَالْأَوْلَى - كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ - أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ ثَلَاثَ خَطَوَاتٍ لِيَأْمَنَ مُرُورَ بَعْضِ جَسَدِهِ عَلَى الشَّاذَرْوَانِ .
نَعَمْ إنْ تَأَذَّى أَوْ أَذَى غَيْرَهُ بِنَحْوِ زَحْمَةٍ فَالْبُعْدُ أَوْلَى ، وَهَذَا كُلُّهُ خَاصٌّ بِالرِّجَالِ .
أَمَّا الْمَرْأَةُ وَالْخُنْثَى فَيَكُونَانِ فِي حَاشِيَةِ الْمَطَافِ فَإِنْ طَافَا خَالِيَيْنِ فَكَالرَّجُلِ فِي اسْتِحْبَابِ الْقُرْبِ ( فَلَوْ فَاتَ الرَّمَلُ بِالْقُرْبِ ) مِنْ الْبَيْتِ ( لِزَحْمَةٍ ) أَوْ نَحْوِهَا وَلَمْ يَرْجُ فُرْجَةً مَعَ الْقُرْبِ يَرْمُلُ فِيهَا لَوْ انْتَظَرَ ( فَالرَّمَلُ مَعَ بُعْدٍ ) عَنْهُ ( أَوْلَى ) لِأَنَّ الْقُرْبَ فَضِيلَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَوْضِعِ الْعِبَادَةِ ، وَالرَّمَلُ فَضِيلَةٌ تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْعِبَادَةِ ، وَالْمُتَعَلِّقَةُ بِنَفْسِ الْعِبَادَةِ أَوْلَى بِالْمُحَافَظَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ بِالْجَمَاعَةِ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ مِنْ الِانْفِرَادِ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرَ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثِ كَمَا مَرَّ ، فَإِنْ رَجَاهَا وَقَفَ لِيَرْمُلَ فِيهَا ( إلَّا أَنْ يَخَافَ صَدْمَ النِّسَاءِ ) بِأَنْ كُنَّ فِي حَاشِيَةِ الْمَطَافِ ( فَالْقُرْبُ بِلَا رَمَلٍ أَوْلَى ) مِنْ الْبُعْدِ مَعَ الرَّمَلِ مُحَافَظَةً عَلَى الطَّهَارَةِ ، وَلَوْ خَافَ مَعَ الْقُرْبِ أَيْضًا لَمْسَهُنَّ فَتَرْكُ الرَّمَلِ أَوْلَى .
وَيُسَنُّ أَنْ يَتَحَرَّك فِي مَشْيِهِ وَيَرَى مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَهُ لَرَمَلَ كَمَا فِي الْعَدْوِ فِي السَّعْيِ ( وَ ) سَابِعُهَا ( أَنْ يُوَالِيَ ) الطَّائِفُ ( طَوَافَهُ ) اتِّبَاعًا وَخُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ ، وَيَجُوزُ الْكَلَامُ فِيهِ وَلَا يَبْطُلُ بِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ فِيهِ النُّطْقَ } وَلَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ إلَّا فِي خَيْرٍ كَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ ، وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ ، وَتَعْلِيمِ جَاهِلٍ ، وَجَوَابِ مُسْتَفْتٍ .
وَيُكْرَهُ أَنْ يُبْصَقَ فِيهِ ، وَأَنْ يَجْعَلَ يَدَيْهِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ مُكْتَنِفًا ، وَأَنْ يَضَعَ
يَدَهُ عَلَى فَمِهِ إلَّا فِي حَالَةِ التَّثَاؤُبِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ ، وَأَنْ يُشَبِّكَ أَصَابِعَهُ أَوْ يُفَرْقِعَهَا ، وَأَنْ يَكُونَ حَاقِنًا أَوْ حَاقِبًا أَوْ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ تَتُوقُ إلَيْهِ نَفْسُهُ ، وَأَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُنْتَقِبَةً وَيُكْرَهُ فِيهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَكَرَاهَةُ الشُّرْبِ أَخَفُّ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي طَوَافِهِ خَاشِعًا خَاضِعًا ، حَاضِرَ الْقَلْبِ ، مُلَازِمًا لِلْأَدَبِ بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ مُسْتَحْضِرًا فِي قَلْبِهِ عَظَمَةَ مَنْ هُوَ طَائِفٌ بِبَيْتِهِ ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَصُونَ نَظَرَهُ عَمَّا لَا يَحِلُّ نَظَرُهُ إلَيْهِ ، وَقَلْبَهُ عَنْ احْتِقَارِ مَنْ يَرَاهُ مِنْ الضُّعَفَاءِ وَالْمَرْضَى ، وَيُعَلِّمَ السَّائِلَ بِرِفْقٍ ، وَهَلْ الْأَفْضَلُ التَّطَوُّعُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالطَّوَافِ أَوْ الصَّلَاةِ ؟ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الطَّوَافُ أَفْضَلُ ، وَظَاهِرُ قَوْلِ غَيْرِهِ أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الصَّلَاةُ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَالطَّوَافُ لِلْغُرَبَاءِ .
وَأَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ ، يَقْرَأُ فِي الْأُولَى قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، وَفِي الثَّانِيَةِ الْإِخْلَاصَ ، وَيَجْهَرُ لَيْلًا ، وَفِي قَوْلٍ تَجِبُ الْمُوَالَاةُ وَالصَّلَاةُ ، وَلَوْ حَمَلَ الْحَلَالُ مُحْرِمًا وَطَافَ بِهِ حُسِبَ لِلْمَحْمُولِ ، وَكَذَا لَوْ حَمَلَهُ مُحْرِمٌ قَدْ طَافَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِلَّا فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ قَصْدَهُ لِلْمَحْمُولِ فَلَهُ ، وَإِنْ قَصَدَهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لَهُمَا فَلِلْحَامِلِ فَقَطْ .
( وَ ) ثَامِنُهَا ( أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ رَكْعَتَيْنِ ) وَتُجْزِئُ عَنْهُمَا الْفَرِيضَةُ وَالرَّاتِبَةُ كَمَا فِي تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَفِعْلُهُمَا ( خَلْفَ الْمَقَامِ ) الَّذِي لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ لِلِاتِّبَاعِ ثُمَّ فِي الْحِجْرِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : تَحْتَ الْمِيزَابِ ، ثُمَّ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، ثُمَّ فِي الْحَرَمِ حَيْثُ شَاءَ مِنْ الْأَمْكِنَةِ مَتَى شَاءَ مِنْ الْأَزْمِنَةِ ، وَلَا يَفُوتَانِ إلَّا بِمَوْتِهِ ، وَمَالَ الْإِسْنَوِيُّ إلَى أَنَّ فِعْلَهُمَا فِي الْكَعْبَةِ أَوْلَى مِنْهُ خَلْفَ الْمَقَامِ ، وَالْأَفْضَلُ مَا فِي الْمَتْنِ ، لِأَنَّ الْبَابَ بَابُ اتِّبَاعٍ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّاهُمَا خَلْفَ الْمَقَامِ ، وَقَالَ خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } .
وَقَالَ فِي التَّوَسُّطِ : وَلَا أَحْسَبُ فِي أَفْضَلِيَّةِ فِعْلِهِمَا خَلْفَ الْمَقَامِ خِلَافًا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ وَهُوَ إجْمَاعٌ مُتَوَارَثٌ لَا يُشَكُّ فِيهِ ، بَلْ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُمَا إلَّا خَلْفَ الْمَقَامِ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَغَيْرِهِ ، وَبَحَثَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ الْمَسْجِدِ بَيْتَ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا ثُمَّ بَاقِيَ مَكَّةَ ثُمَّ الْحَرَمَ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ يُخَالِفُهُ .
قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ : وَيُسَنُّ لَهُ إذَا أَخَّرَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ إرَاقَةُ دَمٍ أَيْ كَدَمِ التَّمَتُّعِ ، وَقَيَّدَهُ ابْنُ الْمُقْرِي بِمَا إذَا صَلَّاهُمَا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ لِتَأَخُّرِهِمَا إلَيْهِ عَنْ الْحَرَمِ ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ التَّقْيِيدِ ، وَيُصَلِّيهِمَا الْأَجِيرُ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَالْوَلِيُّ عَنْ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ ، وَلَوْ وَالَى بَيْنَ أَسَابِيعَ طَوَافَيْنِ ، أَوْ أَكْثَرَ ، ثُمَّ وَالَى بَيْنَ رَكَعَاتِهَا لِكُلِّ طَوَافٍ رَكْعَتَيْهِ جَازَ بِلَا كَرَاهَةٍ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْأَصْحَابِ ، وَالْأَفْضَلُ خِلَافُهُ بِأَنْ يُصَلِّيَ عَقِبَ كُلِّ طَوَافٍ رَكْعَتَيْهِ ، وَلَوْ صَلَّى لِلْجَمِيعِ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُكْرَهْ ( يَقْرَأُ فِي الْأُولَى ) مِنْهُمَا سُورَةَ ( { قُلْ
يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ، وَ ) يَقْرَأُ ( فِي الثَّانِيَةِ ) سُورَةَ ( الْإِخْلَاصِ ) لِلِاتِّبَاعِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلِمَا فِي قِرَاءَتِهِمَا مِنْ الْإِخْلَاصِ الْمُنَاسِبِ لِمَا هُنَا لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ ( وَيَجْهَرُ ) فِيهِمَا ( لَيْلًا ) مَعَ مَا أُلْحِقَ بِهِ مِنْ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ ، وَسَكَتَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ لِلْعِلْمِ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى ذِكْرُهُ .
وَيُسَنُّ فِيمَا فِي ذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى الْكُسُوفِ وَغَيْرِهِ ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ شِعَارِ النُّسُكِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ صَحَّحَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي النَّوَافِلِ الْمَفْعُولَةِ لَيْلًا أَنْ يَتَوَسَّطَ فِيهَا بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مَحَلُّهُ فِي النَّافِلَةِ الْمُطْلَقَةِ كَمَا مَرَّ ( وَفِي قَوْلٍ تَجِبُ الْمُوَالَاةُ ) بَيْنَ أَشْوَاطِهِ وَأَبْعَاضِهَا ( وَ ) تَجِبُ ( الصَّلَاةُ ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَتَى بِالْأَمْرَيْنِ وَقَالَ : خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ .
أَمَّا الْمُوَالَاةُ : فَلِمَا مَرَّ فِي الْوُضُوءِ فَإِنَّ الْخِلَافَ هُنَا هُوَ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِي التَّفْرِيقِ الْكَثِيرِ بِلَا عُذْرٍ ، فَإِنْ فَرَّقَ يَسِيرًا أَوْ كَثِيرًا بِعُذْرٍ لَمْ يَضُرَّ جَزْمًا كَالْوُضُوءِ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَالْكَثِيرُ هُوَ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ بِتَرْكِهِ تَرْكُ الطَّوَافِ : إمَّا بِالْإِضْرَابِ عَنْهُ ، أَوْ بِظَنٍّ أَنَّهُ أَتَمَّهُ .
وَمِنْ الْعُذْرِ إقَامَةُ الْمَكْتُوبَةِ لَا صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالرَّوَاتِبِ بَلْ يُكْرَهُ قَطْعُ الطَّوَافِ الْوَاجِبِ لَهُمَا .
وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلِخَبَرِ " هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا ؟ قَالَ : لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ " وَالْقَوْلَانِ فِي وُجُوبِ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ إذَا كَانَ فَرْضًا ، فَإِنْ كَانَ نَفْلًا فَسُنَّةٌ قَطْعًا ، وَقِيلَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَصَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ ، وَلَا بُعْدَ فِي اشْتِرَاطِ فَرْضٍ فِي نَفْلٍ كَالطَّهَارَةِ وَالسِّتْرِ فِي
النَّافِلَةِ ، وَعَلَى الْوُجُوبِ يَصِحُّ الطَّوَافُ بِدُونِهِمَا ، إذْ لَيْسَا بِشَرْطٍ وَلَا رُكْنٍ لَهُ ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ سُنَنِ الطَّوَافِ إذَا دَخَلَ تَحْتَ نُسُكِ النِّيَّةِ ، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ طَوَافُ إفَاضَةٍ أَوْ نَذْرٍ لَمْ يَتَعَيَّنْ زَمَنُهُ وَدَخَلَ وَقْتَ مَا عَلَيْهِ فَنَوَى غَيْرُهُ عَنْ غَيْرِهِ أَوْ عَنْ نَفْسِهِ تَطَوُّعًا أَوْ قُدُومًا أَوْ وَدَاعًا وَقَعَ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ أَوْ النَّذْرِ كَمَا فِي وَاجِبِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، فَقَوْلُهُمْ : إنَّ الطَّوَافَ يَقْبَلُ الصَّرْفَ : أَيْ إذَا صَرَفَهُ لِغَيْرِ طَوَافٍ آخَرَ كَطَلَبِ غَرِيمٍ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ .
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْخِصَالِ أَنَّ سُنَنَ الطَّوَافِ تَصِلُ إلَى نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ خَصْلَةً وَفِيمَا ذَكَرْته لَكَ كِفَايَةٌ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ الْمُتَّبِعِينَ وَلَا يَجْعَلَنَا مِنْ الْمُبْتَدِعِينَ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُحْرِمِ أَنْ يَطُوفَ بِنَفْسِهِ ( وَ ) لِهَذَا ( لَوْ حَمَلَ الْحَلَالُ مُحْرِمًا ) لِمَرَضٍ أَوْ صِغَرٍ أَوَّلًا لَمْ يَطُفْ الْمُحْرِمُ عَنْ نَفْسِهِ لِإِحْرَامِهِ وَلَمْ يَصْرِفْهُ عَنْ نَفْسِهِ ( وَطَافَ بِهِ ) وَلَمْ يَنْوِهِ لِنَفْسِهِ أَوْ لَهُمَا ( حُسِبَ ) الطَّوَافُ ( لِلْمَحْمُولِ ) عَنْ الطَّوَافِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ إحْرَامُهُ كَرَاكِبِ بَهِيمَةٍ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : حُسِبَ لِلْمَحْمُولِ بِشَرْطِهِ - أَيْ بِشَرْطِ الطَّوَافِ فِي حَقِّ الْمَحْمُولِ مِنْ طَهَارَةٍ ، وَسَتْرِ عَوْرَةٍ ، وَدُخُولِ وَقْتٍ ، وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَإِلَّا وَقَعَ لِلْحَامِلِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ طَافَ عَنْ نَفْسِهِ لِإِحْرَامِهِ ، فَكَمَا لَوْ حَمَلَ حَلَالًا ، وَسَيَأْتِي أَوْ صَرَفَهُ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَقَعْ عَنْهُ كَمَا قَالَهُ السُّبْكِيُّ ، وَإِنْ نَوَاهُ الْحَامِلُ لِنَفْسِهِ أَوْ لَهُمَا وَقَعَ لَهُ عَمَلًا بِنِيَّتِهِ فِي حَقِّهِ .
( وَكَذَا ) يُحْسَبُ لِلْمَحْمُولِ أَيْضًا ( لَوْ حَمَلَهُ مُحْرِمٌ قَدْ طَافَ عَنْ نَفْسِهِ ) لِإِحْرَامِهِ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ طَوَافِهِ كَمَا بَحَثَهُ الْإِسْنَوِيُّ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ
الْمُحْرِمُ الْحَامِلُ طَافَ عَنْ نَفْسِهِ وَدَخَلَ وَقْتُ طَوَافِهِ ( فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ قَصْدَهُ لِلْمَحْمُولِ فَلَهُ ) خَاصَّةً تَنْزِيلًا لِلْحَامِلِ مَنْزِلَةَ الدَّابَّةِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقَعْ لِلْحَامِلِ ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَهُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِنَا يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُصْرَفَ الطَّوَافُ إلَى غَرَضٍ آخَرَ وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا مَرَّ ، وَالثَّانِي : لِلْحَامِلِ خَاصَّةً كَمَا إذَا أَحْرَمَ عَنْ غَيْرِهِ وَعَلَيْهِ فَرْضُهُ ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِنَا لَا يَضُرُّ الصَّارِفَ ، وَالثَّالِثُ : يَقَعُ لَهُمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ دَارَ وَالْآخَرَ قَدْ دِيرَ بِهِ ( وَإِنْ قَصَدَهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لَهُمَا ) أَوْ أَطْلَقَ ( فَلِلْحَامِلِ فَقَطْ ) وَإِنْ قَصَدَ مَحْمُولَهُ نَفْسَهُ ؛ لِأَنَّهُ الطَّائِفُ وَلَمْ يَصْرِفْهُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَمَنْ هُنَا يُؤْخَذُ أَنَّهُ لَوْ حَمَلَ حَلَالٌ حَلَالًا وَنَوَيَا وَقَعَ لِلْحَامِلِ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَيُقَاسُ بِالْمُحْرِمَيْنِ الْحَلَالَانِ النَّاوِيَانِ ، فَيَقَعُ لِلْحَامِلِ مِنْهُمَا عَلَى الْأَصَحِّ وَسَوَاءٌ فِي الصَّغِيرِ حَمَلَهُ وَلِيُّهُ الَّذِي أَحْرَمَ عَنْهُ أَمْ غَيْرُهُ .
لَكِنْ يَنْبَغِي كَمَا قَالَ شَيْخُنَا فِي حَمْلِ غَيْرِ الْوَلِيِّ أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ لِأَنَّ الصَّغِيرَ إذَا طَافَ رَاكِبًا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَلِيُّهُ سَائِقًا أَوْ قَائِدًا كَمَا قَالَهُ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَمَحَلُّهُ فِي غَيْرِ الْمُمَيِّزِ ، فَلَوْ لَمْ يَحْمِلْهُ بَلْ جَعَلَهُ فِي شَيْءٍ مَوْضُوعٍ عَلَى الْأَرْضِ وَجَذَبَهُ ، فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِطَوَافِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِطَوَافِ الْآخَرِ لِانْفِصَالِهِ عَنْهُ وَنَظِيرُهُ لَوْ كَانَ بِسَفِينَةٍ وَهُوَ يَجْذِبُهَا .
تَنْبِيهٌ : قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَمَا صَحَّحَهُ فِي الْمِنْهَاجِ تَبَعًا لِأَصْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ مَا إذَا نَوَاهُمَا نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَالْإِمْلَاءِ عَلَى خِلَافِهِ إلَّا أَنَّ نَصَّ الْأُمِّ فِي وُقُوعِهِ لِلْمَحْمُولِ ، وَنَصَّ الْإِمْلَاءِ فِي وُقُوعِهِ لَهُمَا كَذَا نَقَلَهُ فِي الْبَحْرِ فَالنَّصَّانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى نَفْيِ مَا
ذُكِرَ ، وَنَصُّ الْأُمِّ أَقْوَى عِنْدَ الْأَصْحَابِ ، وَهُوَ هُنَا بِخُصُوصِهِ أَظْهَرُ مِنْ نَصِّ الْإِمْلَاءِ فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِهِ ، وَاعْتَرَضَهُ الْأَذْرَعِيُّ بِأَنَّ مَا نَقَلَهُ عَنْ الْبَحْرِ مِنْ نَقْلِهِ عَنْ الْإِمْلَاءِ مِنْ وُقُوعِهِ لَهُمَا غَلَطٌ بَلْ الَّذِي فِيهِ فِي عِدَّةِ نُسَخٍ عَنْ الْإِمْلَاءِ وُقُوعُهُ لِلْحَامِلِ دُونَ الْمَحْمُولِ ، وَرَجَّحَهُ الْأَصْحَابُ لِمُوَافَقَتِهِ لِلْقِيَاسِ ، فَإِنَّهُ لَوْ نَوَى الْحَجَّ لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَقَعَ لَهُ فَكَذَا رُكْنُهُ قَالَ : وَالْبَاعِثُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ حُبُّ التَّغْلِيظِ ، وَالرَّجُلُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ثِقَةٌ ، وَلَكِنَّهُ كَثِيرُ الْوَهْمِ فِي الْفَهْمِ وَالنَّقْلِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ ، فَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُ ا هـ .
وَتَصْوِيرُ الْمُصَنِّفِ الْمَسْأَلَةَ بِمَا إذَا كَانَ الْمَحْمُولُ وَاحِدًا جَرَى عَلَى الْغَالِبِ ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ الْمَحْمُولُ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ لَمْ يَخْتَلِفْ الْحُكْمُ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْكَافِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي أَحْكَامِ الْمَحْمُولِ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَفِيهِ نَظَرٌ .
قَالَ ابْنُ يُونُسَ : وَإِنْ حَمَلَهُ فِي الْوُقُوفِ أَجْزَأَ فِيهِمَا .
يَعْنِي مُطْلَقًا ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ ثَمَّ السُّكُونُ أَيْ الْحُضُورُ ، وَقَدْ وُجِدَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَهُنَا الْفِعْلُ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا ، وَلَوْ طَافَ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ مُعْتَقِدًا أَنَّ إحْرَامَهُ عُمْرَةٌ فَبَانَ حَجًّا وَقَعَ عَنْهُ كَمَا لَوْ طَافَ عَنْ غَيْرِهِ وَعَلَيْهِ طَوَافٌ .
فَصْلٌ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بَعْدَ الطَّوَافِ وَصَلَاتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَابِ الصَّفَا لِلسَّعْيِ ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالصَّفَا ، وَأَنْ يَسْعَى سَبْعًا ، ذَهَابُهُ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ مَرَّةٌ ، وَعَوْدُهُ مِنْهَا إلَيْهِ ؛ أُخْرَى ، وَأَنْ يَسْعَى بَعْدَ طَوَافِ رُكْنٍ أَوْ قُدُومٍ بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَهُمَا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ ، وَمَنْ سَعَى بَعْدَ قُدُومٍ لَمْ يُعِدْهُ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْقَى عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَدْرَ قَامَةٍ ، فَإِذَا رَقَى قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ، اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَانَا ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، ثُمَّ يَدْعُو بِمَا شَاءَ دِينًا وَدُنْيَا .
قُلْت : وَيُعِيدُ الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ ثَانِيًا وَثَالِثًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَأَنْ يَمْشِيَ أَوَّلَ السَّعْيِ وَآخِرَهُ : وَيَعْدُوَ فِي الْوَسَطِ ، وَمَوْضِعُ النَّوْعَيْنِ مَعْرُوفٌ .
( فَصْلٌ ) فِيمَا يُخْتَمُ بِهِ الطَّوَافُ وَبَيَانُ كَيْفِيَّةَ السَّعْيِ ، وَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ ثُمَّ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ يَعُودُ نَدْبًا ، وَ ( يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ ) الْأَسْوَدَ بِشَرْطِهِ فِي الْأُنْثَى وَالْخُنْثَى ( بَعْدَ الطَّوَافِ ) بِأَنْ يَخْتِمَهُ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ ( وَ ) قَوْلُهُ بَعْدَ ( صَلَاتِهِ ) مَزِيدٌ عَلَى الْمُحَرَّرِ لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَلِيَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِ مَا ابْتَدَأَ بِهِ ، وَاقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى الِاسْتِلَامِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُسَنُّ تَقْبِيلُ الْحَجَرِ وَلَا السُّجُودُ عَلَيْهِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَعَلَّ سَبَبَهُ الْمُبَادَرَةُ إلَى السَّعْيِ ا هـ .
وَصَرَّحَ أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ الذَّخَائِرِ بِأَنَّهُ يُقَبِّلُهُ : أَيْ وَيَسْجُدُ عَلَيْهِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا اقْتَصَرُوا عَلَى ذِكْرِ الِاسْتِلَامِ اكْتِفَاءً بِمَا بَيَّنُوهُ فِي أَوَّلِ الطَّوَافِ ا هـ .
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ أَنَّهُ يَأْتِي الْمُلْتَزَمَ وَالْمِيزَابَ بَعْدَ اسْتِلَامِهِ وَيَدْعُو شَاذٌّ ( ثُمَّ يَخْرُجُ ) نَدْبًا ( مِنْ بَابِ الصَّفَا ) وَهُوَ الْبَابُ الْمُقَابِلُ لِمَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ ( لِلسَّعْيِ ) بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ( وَشَرْطُهُ ) أَيْ شُرُوطُهُ ثَلَاثَةٌ : أَحَدُهَا ( أَنْ يَبْدَأَ بِالصَّفَا ) بِالْقَصْرِ .
جَمْعُ صَفَاةٍ ، وَهِيَ الْحَجَرُ الصُّلْبُ ، وَالْمُرَادُ طَرَفُ جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ ، وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ وَالْخَامِسَةِ وَالسَّابِعَةِ ، وَأَنْ يَبْدَأَ بِالْمَرْوَةِ وَيَخْتِمَ بِالصَّفَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَالرَّابِعَةِ وَالسَّادِسَةِ ، فَلَوْ عَكَسَ لَمْ تُحْسَبْ الْمَرَّةُ الْأُولَى ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ بِالصَّفَا وَقَالَ { ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ } رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ .
لَكِنْ بِلَفْظِ " أَبْدَأُ " عَلَى الْخَبَرِ لَا
الْأَمْرِ ، وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ بِلَفْظِ " نَبْدَأُ " بِالنُّونِ .
عُلِمَ مِنْ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ التَّرْتِيبُ ، فَلَوْ تَرَكَ الْخَامِسَةَ جَعَلَ السَّابِعَةَ خَامِسَةً ، وَأَتَى بِالسَّادِسَةِ وَالسَّابِعَةِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ مَرَّاتِهِ كَالطَّوَافِ بَلْ أَوْلَى ( وَ ) وَثَانِيهَا ( أَنْ يَسْعَى سَبْعًا ) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ ( ذَهَابُهُ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ ) بِفَتْحِ الْمِيمِ ، وَأَصْلُهَا الْحَجَرُ الرَّخْوُ ، وَهِيَ فِي طَرَفِ جَبَلِ قُعَيْقِعَانَ ( مَرَّةٌ ) بِالرَّفْعِ خَبَرُ ذَهَابِهِ ( وَعَوْدُهُ مِنْهَا إلَيْهِ ) مَرَّةٌ ( أُخْرَى ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَدَأَ بِالصَّفَا وَخَتَمَ بِالْمَرْوَةِ } كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَقِيلَ : إنَّ الذَّهَابَ وَالْإِيَابَ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ كَمَسْحِ الرَّأْسِ ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْخَتْمُ بِالصَّفَا وَهُوَ خِلَافُ الْوَارِدِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِيعَابِ الْمَسَافَةِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِأَنْ يُلْصِقَ عَقِبَهُ بِأَصْلِ مَا يَذْهَبُ مِنْهُ وَرُءُوسَ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ بِمَا يَذْهَبُ إلَيْهِ ، الرَّاكِبُ يُلْصِقُ حَافِرَ دَابَّتِهِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ، وَبَعْضُ الدَّرَجِ مُحْدَثٌ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يُخَلِّفَهَا وَرَاءَهُ فَلَا يَصِحَّ سَعْيُهُ حِينَئِذٍ ، بَلْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصْعَدَ الدَّرَجَةَ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ سَعْيُ الرَّاكِبِ حَتَّى يَصْعَدَ عَلَى ذَلِكَ ، فَلَوْ عَدَلَ عَنْ مَوْضِعِ السَّعْيِ إلَى طَرِيقٍ آخَرَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ وَابْتَدَأَ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ مِنْ الصَّفَا لَمْ تُحْسَبْ لَهُ تِلْكَ الْمَرَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ وَزِيَادَةِ الرَّوْضَةِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : وَالْمَرْوَةُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّفَا ؛ لِأَنَّهَا مُرُورُ الْحَاجِّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَالصَّفَا مُرُورُهُ ثَلَاثًا ، وَالْبُدَاءَةُ بِالصَّفَا وَسِيلَةٌ إلَى اسْتِقْبَالِهَا .
قَالَ : وَالطَّوَافُ أَفْضَلُ أَرْكَانِ الْحَجِّ حَتَّى الْوُقُوفِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَفِيهِ نَظَرٌ بَلْ أَفْضَلُهَا الْوُقُوفُ لِخَبَرِ { الْحَجُّ
عَرَفَةَ } وَلِهَذَا لَا يَفُوتُ الْحَجُّ إلَّا بِفَوَاتِهِ ، وَلَمْ يَرِدْ غُفْرَانُ الذُّنُوبِ فِي شَيْءٍ مَا وَرَدَ فِي الْوُقُوفِ ، فَالصَّوَابُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَرْكَانِ ا هـ .
وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ لِتَصْرِيحِ الْأَصْحَابِ بِأَنَّ الطَّوَافَ قُرْبَةٌ فِي نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْوُقُوفِ ( وَ ) ثَالِثُهَا ( أَنْ يَسْعَى بَعْدَ طَوَافِ رُكْنٍ أَوْ ) طَوَافِ ( قُدُومٍ ) لِأَنَّهُ الْوَارِدُ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ .
وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ : بَعْدَ طَوَافِ رُكْنٍ أَوْ قُدُومِ طَوَافِ الْوَدَاعِ وَطَوَافِ النَّفْلِ .
أَمَّا طَوَافُ الْوَدَاعِ فَلِعَدَمِ تَصَوُّرِ وُقُوعِ السَّعْيِ بَعْدَهُ كَمَا قَالَهُ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ لِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ السَّعْيُ لَمْ يَكُنْ الْمَأْتِيُّ بِهِ طَوَافَ وَدَاعٍ .
نَعَمْ إنْ بَلَغَ قَبْلَ سَعْيِهِ مَسَافَةَ الْقَصْرِ ، فَقَالَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ قَائِلٌ اُعْتُدَّ بِهِ نَدْبًا ، وَقَائِلٌ وُجُوبًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ مَنْ يُرِيدُ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا .
وَالْأَوْجَهُ الْمُوَافِقُ لِلْمَنْقُولِ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا خِلَافُ ذَلِكَ ، إذْ الْمُرَادُ طَوَافُ الْوَدَاعِ الْمَشْرُوعُ بَعْدَ فَرَاغِ الْمَنَاسِكِ كَمَا هُوَ صَرِيحُ كَلَامِ الشَّيْخِ لَا كُلُّ وَدَاعٍ .
وَأَمَّا طَوَافُ النَّفْلِ فِيمَا إذَا أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ ثُمَّ تَنَفَّلَ بِالطَّوَافِ وَأَرَادَ السَّعْيَ بَعْدُ فَصَرَّحَ فِي الْمَجْمُوعِ بِعَدَمِ إجْزَائِهِ ( بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَهُمْ ) أَيْ السَّعْيِ وَطَوَافِ الْقُدُومِ ( الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ ) وَإِنْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ طَوِيلٌ ، فَإِنْ وَقَفَ بِهَا لَمْ يُجْزِهِ السَّعْيُ إلَّا بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ لِدُخُولِ وَقْتِ طَوَافِ الْفَرْضِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْعَى الْآنَ لِفَوَاتِ التَّبَعِيَّةِ بِتَخَلُّلِ الْوُقُوفِ فَالْحَيْثِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ قَيْدٌ فِي الْقُدُومِ فَقَطْ ( وَمَنْ سَعَى بَعْدَ ) طَوَافِ ( قُدُومٍ لَمْ يُعِدْهُ ) أَيْ لَمْ تُسَنَّ لَهُ إعَادَتُهُ بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ كَمَا
قَالَهُ فِي الْمُحَرَّرِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرِدْ ، وَلِأَنَّ السَّعْيَ لَيْسَ قُرْبَةً فِي نَفْسِهِ كَالْوُقُوفِ ، بِخِلَافِ الطَّوَافِ فَإِنَّهُ عِبَادَةٌ يُتَقَرَّبُ بِهَا وَحْدَهَا ، فَإِنْ أَعَادَهُ فَخِلَافُ الْأَوْلَى ، وَقِيلَ : مَكْرُوهٌ ، وَقِيلَ تُسْتَحَبُّ الْإِعَادَةُ .
نَعَمْ يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ بِعَرَفَةَ إعَادَتُهُ ، وَعِتْقُ الْعَبْدِ كَبُلُوغِ الصَّبِيِّ .
وَيُسَنُّ لِلْقَارِنِ طَوَافَانِ وَسَعْيَانِ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُمَا عَلَيْهِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ بَحْثًا وَهُوَ حَسَنٌ ، وَهَلْ الْأَفْضَلُ السَّعْيُ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ أَوْ بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ ؟ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي مَنَاسِكِهِ الْكُبْرَى الْأَوَّلُ ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي مُخْتَصَرِهَا ( وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْقَى ) الذَّكَرُ ( عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَدْرَ قَامَةٍ ) لِإِنْسَانٍ مُعْتَدِلٍ ، وَأَنْ يُشَاهِدَ الْبَيْتَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَقَى عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
قِيلَ : إنَّ الْكَعْبَةَ كَانَتْ تُرَى فَحَالَتْ الْأَبْنِيَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَرْوَةِ ، وَالْيَوْمَ لَا نَرَى الْكَعْبَةَ إلَّا عَلَى الصَّفَا مِنْ بَابٍ ، بَلْ الْمَرْوَةُ الْآنَ لَيْسَ بِهَا مَا يُرْقَى عَلَيْهِ إلَّا مَصْطَبَةٌ فَيُسَنُّ رُقِيُّهَا .
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا تَرْقَى كَمَا فِي التَّنْبِيهِ : أَيْ لَا يُسَنُّ لَهَا ذَلِكَ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مُفْرَدَاتِ التَّنْبِيهِ ، وَلَا ذِكْرَ لَهَا فِي الْمُهَذَّبِ وَلَا شَرْحِهِ وَلَا الرَّوْضَةِ وَالشَّرْحَيْنِ .
قَالَ : وَالْقِيَاسُ أَنَّ الْخُنْثَى كَذَلِكَ .
قَالَ وَلَوْ فُصِلَ فِيهِمَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَا بِخَلْوَةٍ أَوْ بِحَضْرَةِ مَحَارِمَ ، وَأَنْ لَا يَكُونَا كَمَا قِيلَ بِهِ فِي جَهْرِ الصَّلَاةِ لَمْ يُعِدْ ا هـ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُطْلَبُ الرُّقِيُّ مِنْهُمَا مُطْلَقًا ( فَإِذَا رَقِيَ ) بِكَسْرِ الْقَافِ فِي الْمَاضِي وَفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ ، أَوْ أَلْصَقَ أَصَابِعَهُ بِلَا رُقِيٍّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ ، وَ ( قَالَ )